إعراب القرآن للنحاس

أبو جعفر النَّحَّاس

كلام الناشر

الجزء الأول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [كلام الناشر] أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحّاس (ت 338 هـ) اسمه ولقبه ونشأته: أبو جعفر، أحمد بن محمد بن إسماعيل، المصري النحوي، ابن النحّاس: العلّامة، إمام العربية. ولد في مصر، ونشأ فيها ثم ارتحل إلى بغداد فأخذ عن المبرّد، والأخفش علي ابن سليمان، ونفطويه، والزّجّاج وغيرهم. ثم عاد إلى مصر وتصدّر للتدريس، وكانت مصر خلال النصف الثاني من القرن الثالث والنصف الأول من الرابع للهجرة حلقة الوصل بين المغرب والمشرق، وقد قصده طلّاب المعرفة، كما قصدوا غيره، من المغرب وأخذوا عنهم صنوف علوم اللغة والقرآن، وعادوا بها إلى بلادهم. وبذلك انتقلت مصنّفات هؤلاء العلماء المصريين إلى هناك. نشأ ابن النحاس محبّا للعلم وكان لا يتوانى أن يسأل أهل العلم والفقه ويفاتشهم بما يشكل عليه في تصانيفه. [كتبه] وقد صنّف كتبا حسنة مفيدة منها: كتاب الأنوار. وكتاب الاشتقاق لأسماء الله عزّ وجلّ. وكتاب معاني القرآن. وكتاب اختلاف الكوفيين والبصريين سمّاه «المقنع» . وكتاب أخبار الشعراء. وكتاب أدب الكتّاب. وكتاب الناسخ والمنسوخ. وكتاب الكافي في النحو. وكتاب صناعة الكتاب. وكتاب إعراب القرآن.

أهمية كتاب «إعراب القرآن» لابن النحاس:

وكتاب شرح السبع الطّوال. وكتاب شرح أبيات سيبويه. وكتاب الاشتقاق. وكتاب معاني الشعر. وكتاب التفّاحة في النحو. وكتاب أدب الملوك. أهمية كتاب «إعراب القرآن» لابن النحّاس: أهمية هذا الكتاب أنه أول كتاب وصل إلينا بهذا العمق وهذه المادة العلمية الغزيرة. حيث حشد ابن النحّاس الكثير من أقاويل علماء اللغة التي أخذها عن مشايخه أو من الكتب التي كانت بين يديه لمن سبقه. وأهم الكتب التي اعتمدها: كتاب سيبويه، وكتاب العين، وكتاب المسائل الكبير للأخفش سعيد بن مسعدة، وكتاب معاني القرآن للزجاج، وكتاب ما ينصرف وما لا ينصرف للزجاج، وكتاب معاني القرآن للفرّاء، وكتاب المصادر في القرآن للفرّاء، والمقصور والممدود للفراء، وكتاب القراءات لأبي عبيد القاسم بن سلام، وكتاب القراءات لابن سعدان النحوي، وكتاب الغريب المصنّف لأبي عبيد. وقد اشتمل كتابه «إعراب القرآن» على آراء أعلام المذهب البصري في النحو واللغة والقراءات مثل: أبي عمرو بن العلاء، ويونس، وقطرب، والأخفش سعيد بن مسعدة، وأبي عبيدة، وأبي عمرو الجرمي، وابن الأعرابي، والمازني، وأبي حاتم السجستاني، والمبرّد ومحمد ابن الوليد ولّاد، وأبي إسحاق الزجاج بالإضافة إلى الخليل بن أحمد وأبي الخطّاب الأخفش وسيبويه. وكذلك عرض ابن النحاس آراء النحاة واللغويين الكوفيين فكان يعرض آراء هؤلاء إلى جانب آراء البصريين فيرجّح مرّة ويترك الآراء دون ترجيح أحيانا. ومن الكوفيين: الكسائي وثعلب والفراء ومحمد بن حبيب ومحمد بن سعدان وابن السكيت ونفطويه وابن رستم. أما الحفّاظ والمحدّثون من شيوخه فهم يؤلّفون جانبا من مصادر كتابه، ومن شيوخه: بكر بن سهل الدمياطي، وأبي بكر جعفر بن محمد الفريابي والنّسائي أحمد بن شعب، والطحاوي أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي، والحسن بن غليب المصري، وأبي الحسن أحمد بن سعيد الدمشقي وأبي القاسم عبد الله بن محمد البغوي، والطبري في تفسيره.

وفاته:

الشواهد الواردة في كتاب «إعراب القرآن» : اعتمد ابن النحاس الأنواع الثلاثة من الشواهد وهي: 1- الشعر (عدد الشواهد 602) وهي موزّعة على العصر الجاهلي والإسلامي والأموي. 2- الحديث النبوي (عدد الشواهد 167) . 3- الأمثال والأقوال الأخرى. وفاته: توفّي ابن النحاس يوم السبت لخمس خلون من ذي الحجة سنة 338 هـ أو 337 هـ ... وقد رويت حكاية محزنة لموته، وهي أنه كان جالسا على درج المقياس (وهو عمود من رخام قائم وسط بركة على شاطئ النيل له طريق يدخل إلى النيل يدخل الماء إذا زاد عليه وفي ذلك العمود خطوط يعرفون بوصول الماء إليها مقدار الزيادة) وكان النيل في أيام زيادته، وكان ابن النحاس يقطّع شيئا من الشعر عروضيا، فسمعه أحد العوام فظنّه يسحر النيل حتى لا يزيد فتغلو الأسعار فدفعه برجله فوقع في النيل فلم يعرف له خبر. مصادر ترجمته: النجوم الزاهرة 3/ 300. البداية والنهاية 11/ 222. إنباه الرواة 1/ 101. آداب اللغة 2/ 182. سير أعلام النبلاء 12/ 71 (دار الفكر) . المنتظم لابن الجوزي 6/ 364. بغية الوعاة 1/ 362. وفيات الأعيان 1/ 82.

لمحة تاريخية عن مباحث إعراب القرآن

لمحة تاريخية عن مباحث إعراب القرآن كان القرآن الكريم على الدوام دليل المسلمين وقبلتهم ومثابة اجتهادهم، لذلك ما انفكّوا يعكفون عليه حفظا ودرسا وتمثّلا، ولا ينون يصرفون جهدا كبيرا متّصلا لتبيان معانيه وأحكامه، وناسخه ومنسوخه، ووجوه قراءته، ودقائق بلاغته، وآيات إعجازه، وسوى ذلك من النواحي التي يشتمل عليها موضوع علوم القرآن ومباحثه القديمة المتجددة. ومن المباحث الأساسية في هذا المجال إعراب القرآن، ألفاظا وجملا. ولا يخفى ما لهذا المبحث من أهمية كبرى في الكشف عن معاني القرآن للارتباط الوثيق القائم بين المعنى والمبنى في اللغة العربية أو بالأحرى بين اللفظ وإعرابه بحيث يتلوّن المعنى بتلوّن الإعراب. وقد قيل: الإعراب فرع المعنى. ولعل ما يميز اللغة العربية عن معظم اللغات الأخرى هو هذا الارتباط الوثيق بين المعنى والإعراب، وبهذا الترتيب: فالنصّ العربي يفهم أولا، ثم يقرأ قراءة صحيحة أي معربة على الوجه الصحيح. والقارئ مهما بلغ من التمكّن في علم النحو، لا يستطيع أن يقرأ نصّا عربيّا لأول وهلة وعلى النحو الصحيح إن لم يكن متمثلا المعنى المراد أولا، خصوصا عند ما تغيب علامات الإعراب أو الشكل. هذا بخلاف ما يحصل بإزاء نص فرنسي مثلا، إذ يستطيع قراءته قراءة صحيحة حتى من دون أن يسبق له علم بالمعنى الموجود فيه. فالنص الفرنسي يقرأ ثم يفهم. من هنا يمكن القول إن اللغة العربية ما تزال لغة شفوية في المقام الأول. إن العلاقة بين «علم إعراب القرآن» وعلم النحو لا تحتاج إلى إيضاح. وبالتالي فقد اعتبر جمهور العلماء أن إعراب القرآن هو من علم النحو. ولكن العلاقة وثيقة أيضا بين إعراب القرآن وتفسيره، ولذلك ذهب البعض، ومنهم طاش كبري زادة في كتابه «مفتاح السعادة» ، إلى أنه من فروع علم التفسير. والحقيقة أن إعراب القرآن ضروري للتفسير ولا ينفصل عن علم القراءات. وعليه ثمّة علوم ثلاثة مترابطة هي: علم التفسير (التأويل) وعلم الإعراب وعلم القراءات. من هنا نلاحظ أن معظم كتب التفسير لا تخلو من إشارات إلى وجوه القراءة المختلفة وبالتالي إلى وجوه الإعراب.

وقد نشأ إعراب القرآن مع نشوء علم النحو وتطوّره، ثم أخذ يستقل شيئا فشيئا حتى صار غرضا قائما بذاته. علما أن مباحث النحو اعتمدت بشكل أساسي على شواهد القرآن الكريم، إلى شواهد الشعر الجاهلي وصدر الإسلام، لتقعيد قواعدها وتأييد مذاهبها. والعلماء الذين اشتغلوا بالكشف عن وجوه إعراب القرآن كانت لهم اتجاهات مختلفة: فبعضهم جمع بين أوجه القراءات والإعراب مثل الفرّاء في «معاني القرآن» وابن جنّي في «المحتسب» وابن فارس في «الحجة» . ومنهم من اقتصر على إعراب مشكله مثل مكّي، أو إعراب غريبه كابن الأنباري في كتابه «البيان في إعراب غريب القرآن» . ومنهم من انتقى فأعرب سورا وأجزاء كابن خالويه. ومنهم من اختار ظاهرة محددة مثل الألفاظ التي تقرأ بالتثليث (بالضمة والفتحة والكسرة) كما فعل أحمد ابن يوسف الرعيني الأندلسي في كتابه «تحفة الأقران في ما قرئ بالتثليث من القرآن» . ومنهم من أعربه كله كالعكبري. وأشهر من صنّف في إعراب القرآن والقراءات في بابين مستقلين أو في باب واحد هم على التوالي: 1- يحيى بن زياد الفرّاء المتوفى سنة 207 هـ: «إعراب القرآن» في أوجه القراءات والإعراب. 2- أبو مروان عبد الملك بن حبيب المالكي القرطبي المتوفى سنة 239 هـ: «إعراب القرآن» و «الواضحة في إعراب الفاتحة» . 3- أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني (248 هـ) : «إعراب القرآن» و «كتاب القراءات» . 4- أبو العباس محمد بن يزيد المبرّد (286 هـ) : «إعراب القرآن» و «احتجاج القرّاء» . 5- أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب (291 هـ) : «غريب القرآن» و «كتاب إعراب القرآن» و «كتاب القراءات» . 6- أبو البركات عبد الرحمن بن أبي سعيد الأنباري (328 هـ) : «البيان في إعراب غريب القرآن» . 7- أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي المصري، أبو جعفر النحّاس، (338 هـ) : «إعراب القرآن» ، وهو كتابنا هذا. 8- إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجّاج (311 هـ) : «إعراب القرآن» و «مختصر إعراب القرآن ومعانيه» .

9- الحسين بن أحمد، أبو عبد الله المعروف بابن خالويه (370 هـ) : «كتاب إعراب ثلاثين سورة من القرآن» من الطارق إلى آخر القرآن والفاتحة. 10- عثمان بن جنّي (392 هـ) : «المحتسب» في شرح الشواذ لابن مجاهد في القراءات. 11- أبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي (430 هـ) : «إعراب القرآن» . 12- مكّي بن أبي طالب القيسي القيرواني (437 هـ) : «مشكل إعراب القرآن» و «الكشف عن وجوه القراءات وعللها» و «الموجز» في القراءات. 13- يحيى بن علي بن محمد، الخطيب التبريزي (502 هـ) : «المخلص في إعراب القرآن» . 14- إسماعيل بن محمد بن الفضل الأصبهاني (535 هـ) : «إعراب القرآن» . 15- أبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبري (616 هـ) : «التبيان في إعراب القرآن» و «إعراب الشواذ في القرآن» . 16- عبد اللطيف بن يوسف البغدادي (629 هـ) : «الواضحة في إعراب الفاتحة» . 17- المنتجب بن أبي العز الهمداني (643 هـ) : «المفيد في إعراب القرآن المجيد» . 18- إبراهيم بن محمد السفاقسي (742 هـ) : «المجيد في إعراب القرآن المجيد» . 19- أحمد بن يوسف المعروف بابن السمين الحلبي (756 هـ) : «الدرّ المصون في علم الكتاب المكنون» في إعراب القرآن. 20- أحمد بن يوسف بن مالك الرعيني الأندلسي (777 هـ) : «تحفة الأقران في ما قرئ بالتثليث من القرآن» . 21- أحمد بن محمد، الشهير بنشانجي زادة (986 هـ) : «إعراب القرآن» إلى سورة الأعراف- حاشية على أنوار التنزيل للبيضاوي.

المصطلحات المستخدمة في الكتاب

المصطلحات المستخدمة في الكتاب 1- اسم ما لم يسمّ فاعله: النائب عن الفاعل 2- الإشمام: إشمام الحرف هو أن تشمّه الضمّة أو الكسرة، وهو أقلّ من روم الحركة لأنه لا يسمع وإنما يتبيّن بحركة الشّفة، ولا يعتدّ بها حركة لضعفها، والحرف الذي فيه الإشمام ساكن أو كالساكن. 3- الإمالة: هي أن تنحو بالفتحة نحو الكسرة وبالألف نحو الياء، أو هي إحدى الظواهر الخاصة بنطق الفتحة الطويلة نطقا يجعلها بين الفتحة الصريحة والكسرة الصريحة. 4- البيان والتفسير: التمييز 5- التبرئة: النفي للجنس. 6- الترجمة والتكرير: هو البدل عند البصريين. 7- الحذف: حين تتجاوز أصوات متماثلة أو متقاربة تميل بعض اللهجات إلى حذف أحدها طلبا للتخفيف، وقد يكون هذا الحذف في الحروف وقد يكون في الحركات التي هي في بنية الكلمة أو للإعراب. 8- حروف الخفض: حروف الجرّ. 9- حروف اللّين: هي حروف المدّ التي يمدّ بها الصوت، وهي الألف، والواو، والياء. 10- الرّوم: هو تضعيف الصوت بالحركة حتى يذهب بذلك معظم صوتها فيسمع لها صوتا خفيا يدركه الأعمى بحاسة السمع. 11- العماد: الفاصلة عند البصريين. 12- القطع: الحال. 13- المخالفة: هي ظاهرة صوتية تكون لميل بعض اللهجات العربية إلى السهولة بأن يجتمع صوتان متماثلان فيقلب أحدهما إلى صوت لين طويل. 14- المكنّى: الضمير.

15- المماثلة بين الحركات: الإتباع: هو تجاوز حركتين في كلمة أو كلمتين وتأثّر إحداهما بالأخرى. 16- المماثلة بين الحروف: الإدغام: هو ضرب من التأثير الذي يقع في الأصوات المتجاورة إذا كانت متماثلة أو متجانسة أو متقاربة فيختفي أحد الصوتين بالآخر. 17- النعت: وهو الصفة عند البصريين.

[1] شرح إعراب سورة أم القرآن

[1] شرح إعراب سورة أمّ القرآن بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحوي المعروف بالنحاس: هذا كتاب أذكر فيه إن شاء الله إعراب القرآن، والقراءات التي تحتاج أن يبيّن إعرابها والعلل فيها ولا أخليه من اختلاف النحويين وما يحتاج إليه من المعاني وما أجازه بعضهم ومنعه بعضهم وزيادات في المعاني وشرح لها، ومن الجموع واللغات، وسوق كلّ لغة إلى أصحابها ولعلّه يمرّ الشيء غير مشبع فيتوهّم متصفّحه أنّ ذلك لإغفال وإنما هو لأنّ له موضعا غير ذلك. ومذهبنا الإيجاز والمجيء بالنكتة في موضعها من غير إطالة، وقصدنا في هذا الكتاب الإعراب وما شاكله بعون الله وحسن توفيقه. قال أبو جعفر: حدّثنا أبو الحسن أحمد بن سعيد الدّمشقي «1» عن عبد الخالق عن أبي عبيد «2» قال: حدّثنا عبّاد بن عبّاد المهلّبي عن واصل «3» مولى أبي عيينة قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تعلّموا إعراب القرآن كما تتعلّمون حفظه. فمن ذلك: [سورة الفاتحة (1) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) (اسم) مخفوض بالباء الزائدة، وقال أبو إسحاق «4» : وكسرت الباء ليفرّق بين ما

_ (1) أبو الحسن أحمد بن سعيد الدمشقي: نزل بغداد وحدّث بها عن هشام بن عمار وطبقته وكان مؤدّبا لعبد الله بن المعتز. روى عن إسماعيل بن محمد الصفّار (ت 306 هـ) ترجمته في تاريخ بغداد 4/ 172. (2) أبو إسحاق الزّجاج، إبراهيم بن السري، بصريّ المذهب من أصحاب سيبويه وشيخ النحاس، له من التصانيف: معاني القرآن، الاشتقاق، خلق الإنسان، مختصر النحو، شرح أبيات سيبويه، القوافي، العروض، النوادر، وتفسير جامع المنطق، (ت 316 هـ) . ترجمته في: (بغية الوعاة 1/ 411، وتاريخ بغداد 6/ 91، وطبقات الزبيدي 21) . والقول في إعراب القرآن ومعانيه ص 12. (3) الفرّاء: أبو زكريا يحيى بن زياد: أخذ علمه عن الكسائي، وكان أعلم الكوفيين بعد الكسائي، كان يميل إلى الاعتزال ويسلك ألفاظ الفلاسفة. وكان زائد العصبية على سيبويه. صنّف: معاني القرآن، البهاء فيما تلحن به العامة، اللغات، المصادر في القرآن، الجمع والتثنية في القرآن، آلة الكتاب، النوادر، المقصور والممدود، فعل وأفعل، المذكر والمؤنث، الحدود وغير ذلك. (ت 207 هـ) . ترجمته في (بغية الوعاة 2/ 333، وطبقات الزبيدي 143) . (4) علي بن حمزة الكسائي: أحد القرّاء السبعة، وإمام الكوفيين في النحو، صنّف: معاني القرآن، القراءات، النوادر الكبير، الأوسط، الأصغر، العدد، المصادر، الحروف، أشعار المعاياة وغيرها، (ت 189 هـ) . ترجمته في (غاية النهاية 1/ 535، وبغية الوعاة 2/ 164) .

يخفض وهو حرف لا غير وبين ما يخفض وقد يكون اسما نحو الكاف، ويقال: لم صارت الباء تخفض؟ فالجواب عن هذا وعن جميع حروف الخفض أنّ هذه الحروف ليس لها معنى إلّا في الأسماء ولم تضارع الأفعال فتعمل عملها فأعطيت ما لا يكون إلّا في الأسماء وهو الخفض والبصريون القدماء يقولون: الجرّ، وموضع الباء وما بعدها عند الفرّاء «1» نصب بمعنى ابتدأت بسم الله الرّحمن الرّحيم أو أبدأ بسم الله الرّحمن الحريم، وعند البصريين رفع بمعنى ابتدائي بسم الله، وقال عليّ بن حمزة الكسائي «2» : الباء لا موضع لها من الإعراب والمرور واقع على مجهول إذا قلت: مررت بزيد. والألف في «اسم» «3» ألف وصل لأنّك تقول: سميّ فلهذا حذفت من اللفظ، وفي حذفها من الخط أربعة أقوال: قال الفراء «4» : لكثرة الاستعمال، وحكي لأنّ الباء لا تنفصل، وقال الأخفش سعيد «5» : حذفت لأنها ليست من اللفظ، والقول الرابع أن الأصل سم وسم أنشد أبو زيد «6» : [الرجز] 1- بسم الذي في كلّ سورة سمه «7» بالضمّ أيضا، فيكون الأصل سما ثم جئت بالباء فصار بسم ثم حذفت الكسرة فصار بسم، فعلى هذا القول لم يكن فيه ألف قطّ والأصل في اسم فعل لا يكون إلا ذلك لعلّة أوجبته وجمعه أسماء، وجمع أسماء أسامي. وأضفت اسما إلى الله جلّ

_ (1) أبو عبيد: القاسم بن سلّام الأنصار، أول من جمع القراءات في كتاب، أخذ عن ابن الأعرابي والكسائي والفرّاء وغيرهم. له من التصانيف: الغريب المنصف، غريب القرآن، غريب الحديث، معاني القرآن، المقصور والممدود، القراءات، المذكر والمؤنث ... وغيرها. (ت 224 هـ) . ترجمته في (طبقات الزبيدي 217، وبغية الوعاة 2/ 252) . (2) واصل مولى أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة البصري. روى عن الحسن ورجاء بن حيوة. ترجمته في تهذيب التهذيب 11/ 105. (3) انظر الإنصاف لابن الأنباري المسألة (1) . (4) انظر معاني الفرّاء: 1/ 2. (5) الأخفش: أبو الحسن سعيد بن مسعدة، قرأ النحو على سيبويه في البصرة وكان معتزليا، صنّف: الأوساط في النحو، معاني القرآن، المقاييس في النحو، الاشتقاق، المسائل، الكبير الصغير، العروض، القوافي، الأصوات وغيرها. (ت 211 أو 215 هـ) . ترجمته في: (بغية الوعاة 1/ 590، وطبقات الزبيدي 74، وإنباه الرواة 1/ 36) . (6) أبو زيد الأنصاري: سعيد بن أوس بن ثابت، روى القراءة عن أبي عمرو وأبي السمال (ت 215 هـ) ترجمته في غاية النهاية 1/ 305. (7) الشاهد في نوادر أبي زيد 166، ونوادر أبي مسحل: 1/ 95، والإنصاف 1/ 10، وأسرار العربية 8، واللسان (سا) .

وعزّ، والألف في الله جلّ وعزّ ألف وصل على قول من قال: الأصل لاه. ومن العرب من يقطعها فيقول: بسم الله، للزومها كألف القطع. الرَّحْمنِ نعت لله تعالى ولا يثنّى ولا يجمع لأنه لا يكون إلّا لله جلّ وعزّ، وأدغمت اللّام في الراء لقربها منها وكثرة لام التعريف. الرَّحِيمِ نعت أيضا، وجمعه رحماء. وهذه لغة أهل الحجاز وبني أسد وقيس وربيعة، وبنو تميم يقولون: رحيم ورغيف وبعير، ولك أن تشمّ «1» الكسر في الوقف وأن تسكّن، والإسكان في المكسور أجود والإشمام في المضموم أكثر. ويجوز النصب في الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ على المدح، والرفع على إضمار مبتدأ، ويجوز خفض الأول ورفع الثاني، ورفع أحدهما ونصب الآخر.

_ (1) إشمام الحرف: أن تشمّه الضمّة أو الكسرة، وهو أقلّ من روم الحركة لأنه لا يسمع وإنما يتبيّن بحركة الشفة ولا يعتدّ بها حركة لضعفها، والحرف الذي فيه الإشمام ساكن أو كالساكن. (تاج العروس شمم) .

[سورة الفاتحة (1) : آية 2]

[سورة الفاتحة (1) : آية 2] الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الْحَمْدُ لِلَّهِ رفع بالابتداء على قول البصريين «1» ، وقال الكسائي «2» : «الحمد» رفع بالضمير الذي في الصفة، والصفة اللام، جعل اللام بمنزلة الفعل. وقال الفراء «3» : «الحمد» رفع بالمحل وهو اللام. جعل اللام بمنزلة الاسم، لأنها لا تقوم بنفسها والكسائي يسمي حروف الخفض صفات، والفراء يسمّيها محال، والبصريون يسمّونها ظروفا. وقرأ ابن عيينة ورؤبة بن العجّاج «4» الْحَمْدُ لِلَّهِ على المصدر وهي لغة قيس والحارث بن سامة. والرفع أجود من جهة اللفظ والمعنى، فأما اللفظ: فلأنه اسم معرفة خبّرت عنه، وأما المعنى: فإنّك إذا رفعت أخبرت أنّ حمدك وحمد غيرك لله جلّ وعزّ، وإذا نصبت لم يعد حمد نفسك وحكى الفراء: الْحَمْدُ لِلَّهِ والحمد لله «5» . قال أبو جعفر: وسمعت عليّ بن سليمان «6» يقول: لا يجوز من هذين شيء عند البصريين. قال أبو جعفر: وهاتان لغتان معروفتان وقراءتان موجودتان في كل واحدة منهما علة، روى إسماعيل بن عياش «7» عن زريق عن الحسن «8» أنّه قرأ

_ (1) انظر الإنصاف مسألة (5) ، والبحر المحيط 1/ 131. (2) انظر الإنصاف مسألة (6) . [.....] (3) انظر الإنصاف مسألة (6) . (4) رؤبة بن العجاج التميمي الراجز من أعراب البصرة وكان رأسا في اللغة (ت 145 هـ) ، ترجمته في (السير 6/ 162، ولسان الميزان 2/ 264، ومعجم الأدباء 11/ 149) . (5) انظر معاني الفراء 1/ 3. (6) علي بن سليمان الأخفش الصغير، أبو الحسن، سمع ثعلبا، والمبرد (ت 215 هـ) وهو من شيوخ النحاس. ترجمته في طبقات الزبيدي 125. (7) إسماعيل بن عياش: أبو عتبة العنسي الحمصي، روى عن شرحبيل بن مسلم ومحمد بن زياد (ت 182 هـ) ترجمته في تذكرة الحفاظ 253. (8) الحسن، أبو سعيد، الحسن بن أبي سعيد بن أبي الحسن بن يسار البصري، إمام أهل البصرة، قرأ على حطان ابن عبد الله الرقاشي وعلى أبي العالية. (ت 110 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 1/ 235.

الْحَمْدُ لِلَّهِ «1» ، وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة الْحَمْدُ لِلَّهِ «2» وهذه لغة بعض بني ربيعة، والكسر لغة تميم. فأما اللغة في الكسر فإنّ هذه اللفظة تكثر في كلام الناس والضمّ ثقيل ولا سيّما إذا كانت بعده كسرة فأبدلوا من الضمة كسرة وجعلوها بمنزلة شيء واحد، والكسرة مع الكسرة أخفّ وكذلك الضمة مع الضمة فلهذا قيل: الْحَمْدُ لِلَّهِ. لِلَّهِ خفض باللام الزائدة. وزعم «3» سيبويه «4» أنّ أصل اللام الفتح يدلّك على ذلك أنك إذا أضمرت قلت: الحمد له فرددتها إلى أصلها إلّا أنها كسرت مع الظاهر للفرق بين لام الجر ولام التوكيد. رَبِّ مخفوض على النعت لله. الْعالَمِينَ خفض بالإضافة وعلامة الخفض الياء لأنها من جنس الكسرة، والنون عند سيبويه «5» كأنها عوض لما منع من الحركة والتنوين والنون عند أبي العباس «6» عوض من التنوين، وعند أبي إسحاق «7» عوض من الحركة وفتحت فرقا بينها وبين نون الاثنين، وقال الكسائي: يجوز رَبِّ الْعالَمِينَ كما تقول: الحمد لله ربّا وإلها أي على الحال، وقال أبو حاتم «8» : النصب بمعنى أحمد الله ربّ العالمين، وقال أبو إسحاق «9» : يجوز النصب على النداء المضاف، وقال أبو الحسن بن كيسان «10» : يبعد النصب على النداء المضاف لأنه يصير كلامين ولكن نصبه على المدح، ويجوز الرفع أي هو ربّ العالمين. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا في الكتاب المتقدم: أنه يقال على التكثير: ربّاه وربّه وربّته. وشرحه أن الأصل ربّبه ثم تبدل من الباء ياء كما يقال: قصّيت أظفاري وتقصّيت ثم تبدل من الياء تاء كما تبدل من الواو في تالله «11» .

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 1، والمحتسب لابن جني 1/ 37. (2) انظر مختصر ابن خالويه 1. (3) انظر الكتاب 2: 400. (4) سيبويه: عمرو بن قنبر، رأس مدرسة البصرة في النحو (ت 180 هـ) . ترجمته في طبقات الزبيدي 66. (5) انظر الكتاب. (6) أبو العباس: محمد بن يزيد المبرد، من تلاميذ أبي عثمان المازني، كان رأس نحاة البصرة (ت 285 هـ) . ترجمته في: طبقات الزبيدي 108. (7) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجّاج 7. (8) أبو حاتم: سهل بن محمد السجستاني، روى علم سيبويه عن الأخفش سعيد بالبصرة (ت 255 هـ أو 265 هـ) ترجمته في طبقات الزبيدي 100، ومراتب النحويين 80. [.....] (9) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 4. (10) أبو الحسن بن كيسان: محمد بن إبراهيم بن كيسان، أخذ عن المبرد وثعلب وحفظ المذهب البصري والكوفي في النحو، ولكنه كان إلى مذهب البصريين أميل. من تصانيفه: المهذّب في النحو، وغلط أدب الكاتب، واللامات، والبرهان، وغريب الحديث، وغيرها. (ت 299 هـ) . ترجمته في بغية الوعاة 1/ 18، ومعجم الأدباء 17/ 138، وتاريخ بغداد 1/ 335. (11) انظر الكتاب: 1/ 44، والمقتضب 1/ 246.

[سورة الفاتحة (1) : الآيات 3 إلى 4]

[سورة الفاتحة (1) : الآيات 3 الى 4] الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) ويجوز الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ على المدح، ويجوز رفعهما على إضمار مبتدأ، ويجوز رفع أحدهما ونصب الآخر، ويجوز خفض الأول ورفع الثاني ونصبه. وقرأ محمد بن السّميفع «1» اليمانيّ مالك يوم الدّين بنصب مالك. وفيه أربع لغات: مالك وملك وملك ومليك. كما قال لبيد: [الكامل] 2- فاقنع بما قسم المليك فإنّما ... قسم المعايش بيننا علّامها «2» وفيه من العربية خمسة وعشرون وجها «3» : يقال «ملك يوم الدين» على النعت، والرفع على إضمار مبتدأ، والنصب على المدح وعلى النداء وعلى الحال وعلى النعت وعلى قراءة من قرأ رَبِّ الْعالَمِينَ فهذه ستة أوجه، وفي «مالك» مثلها وفي «ملك» مثلها، وفي «مليك» مثلها. هذه أربعة وعشرون والخامس والعشرون روى عن أبي حيوة شريح بن يزيد «4» أنه قرأ ملك يوم الدّين «5» وقد روي عنه أنه قرأ ملك يوم الدين. قال أبو جعفر: جمع مالك وملّاك وملّك، وجمع ملك أملاك وملوك، وجمع ملك أملك وملوك فهذا على قول من قال: «ملك» لغة وليس بمسكّن من ملك، وجمع مليك ملكاء. يَوْمِ مخفوض بإضافة مالك إليه، والدِّينِ مخفوض بإضافة يوم إليه. وجمع يوم أيّام والأصل: أيوام أدغمت الواو في الياء ولا يستعمل منه فعل. وزعم سيبويه أنه لو استعمل منه فعل لقيل: يمت. وجمع الدين أديان وديون. [سورة الفاتحة (1) : آية 5] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) إِيَّاكَ «6» نصب بوقوع نَعْبُدُ عليه وقرأ الفضل بن عيسى الرّقاشي إِيَّاكَ فتح الهمزة، وقرأ عمرو بن فائد إِيَّاكَ مخفّفا والاسم من إيّاك عند الخليل «7»

_ (1) ابن السميفع اليماني: محمد بن عبد الرّحمن، له اختيار في القراءة ينسب إليه، شذّ فيه، قرأ على أبي حيوة. ترجمته في غاية النهاية 2/ 150. (2) البيت للبيد في ديوانه ص 320، ولسان العرب (خلق) ، وتاج العروس (خلق) ، وهو في الديوان: «قسم الخلائق بيننا» . (3) (مالك) : قراءة عاصم والكسائي وخلف ويعقوب، وهي قراءة العشرة إلا طلحة والزبير، وقرأ (ملك) باقي السبعة وزيد وأبو الدرداء وابن عمر والمسور وكثير من الصحابة، وقرأ (ملك) : أبو هريرة وعاصم الجحدري انظر البحر المحيط 1/ 133. (4) أبو حيوة: شريح بن يزيد هو صاحب قراءة شاذّة، ومقرئ الشام، روى القراءة عن الكسائي (ت 203 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 1/ 325. (5) انظر: إعراب ثلاثون سورة لابن خالويه 23. (6) انظر البحر المحيط 1/ 139، وهمع الهوامع 1/ 61، والكتاب 2/ 355، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 311. (7) الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي، عالم بالعربية، بصري (ت 170 هـ أو 175 هـ) ترجمته في: طبقات الزبيدي 43، وإنباه الرواة 1/ 341.

[سورة الفاتحة (1) : آية 6]

وسيبويه إيّا، والكاف موضع خفض وعند الكوفيين إيّاك اسم بكمالها، وزعم الخليل رحمه الله أنه اسم مضمر. قال أبو العباس: هذا خطأ لا يضاف المضمر ولكنه مبهم مثل «كلّ» أضيف إلى ما بعده. نَعْبُدُ فعل مستقبل وهو مرفوع عند الخليل وعند سيبويه لمضارعته الأسماء، وقال الكسائي: الفعل المستقبل مرفوع بالزوائد التي في أوله، وقال الفراء: هو مرفوع بسلامته من الجوازم والنواصب. وإِيَّاكَ منصوب بنستعين عطف جملة على جملة، وقرأ يحيى بن وثّاب «1» والأعمش نَسْتَعِينُ «2» بكسر النون وهذه لغة تميم وأسد وقيس وربيعة، فعل ذلك ليدلّ على أنه من استعون يستعين والأصل في «نستعين» نستعون قلبت حركة الواو على العين فلما انكسر ما قبل الواو صارت ياء والمصدر استعانة والأصل استعوان قلبت حركة الواو على العين فلما انفتح ما قبل الواو صارت ألفا، ولا يلتقي ساكنان فحذفت الألف الثانية لأنها زائدة وقيل الأولى لأن الثانية لمعنى ولزمت الهاء عوضا. [سورة الفاتحة (1) : آية 6] اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) إِنَّا هُدْنا دعاء وطلب في موضع جزم عند الفراء «3» ووقف عند البصريين ولذلك حذفت الياء والألف ألف وصل لأنّ أول المستقبل مفتوح، وكسرتها لأنه من يهدي، والنون والألف مفعول أول. والصِّراطَ مفعول ثان. وجمعه في القليل أصرطة وفي الكثير صرط قال الأخفش: أهل الحجاز يؤنثون الصراط وقرأ ابن عباس «4» السراط «5» بالسين وبعض قيس يقولها بين الصاد والزاي ولا يجوز أن يجعل زايا إلّا أن تكون ساكنة قال قطرب «6» : إذا كان بعد السين في نفس الكلمة طاء أو قاف أو خاء أو غين فلك أن تقلبها صادا. الْمُسْتَقِيمَ نعت للصراط. [سورة الفاتحة (1) : آية 7] صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) صِراطَ الَّذِينَ بدل. والَّذِينَ في موضع خفض بالإضافة وهو مبنيّ لئلا

_ (1) يحيى بن وثّاب الأسدي الكوفي، تابعي ثقة، روى عن ابن عباس وابن عمر (ت 103 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 2/ 380. (2) وهذه قراءة عبيد بن عمير الليثي وزرّ بن جيش والنخعي أيضا، انظر البحر المحيط 1/ 141. (3) انظر معاني القرآن للفراء 2/ 403، والإنصاف مسألة 214. (4) ابن عباس: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة. قرأ عليه مجاهد وسعيد ابن جبير (ت 98 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 1/ 425. [.....] (5) انظر الحجة لابن خالويه 38، والبحر المحيط 1/ 143. (6) قطرب: محمد بن المستنير، أخذ عن سيبويه وعيسى بن عمر (ت 206 هـ) . ترجمته في تاريخ بغداد 3/ 298، وطبقات النحويين 106.

يعرب الاسم من وسطه. أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ داخل في الصلة والهاء والميم يعود على الذين. وفي «عليهم» خمس لغات قرئ بها كلّها. قرأ ابن أبي إسحاق «1» أنعمت عليهمو «2» بضم الهاء وإثبات الواو، وهذا هو الأصل أن تثبت الواو كما تثبت الألف في التثنية. وقرأ الحسن أنعمت عليهمي «3» بكسر الهاء وإثبات الياء وكسر الهاء لأنه كره أن يجمع بين ياء وضمة، والهاء ليس بحاجز حصين وأبدل من الواو ياء لما كسر ما قبلها، وقرأ أهل المدينة عَلَيْهِمْ «4» بكسر الهاء وإسكان الميم، وهي لغة أهل نجد، وقرأ حمزة «5» وأهل الكوفة عَلَيْهِمْ بضم الهاء وإسكان الميم فحذفوا الواو لثقلها وإنّ المعنى لا يشكل إذ كان يقال في التثنية: عليهما، واللغة الخامسة قرأ بها الأعرج عليهمو بكسر الهاء والواو، وحكي لغتنا شاذّتان وهما ضمّ الهاء والميم بغير واو وكسرهما بغير ياء. وقال محمد بن يزيد: وهذا لا يجوز لأنه مستقبل فإن قيل: فلم قيل: منه فضمّت الهاء؟ فالجواب أن النون في «منه» ساكنة. قال أبو العباس: وناس من بني بكر بن وائل يقولون: عليكم فيكسرون الكاف كما يكسرون الهاء لأنها مهموسة مثلها وهي إضمار كما أنّ الهاء إضمار، وهذا غلط فاحش لأنها ليست مثلها في الخفاء. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ خفض على البدل من الذين وإن شئت نعتا. قال ابن كيسان: ويجوز أن يكون بدلا من الهاء والميم في عليهم، وروى الخليل رحمه الله عن عبد الله بن كثير «6» غَيْرِ الْمَغْضُوبِ «7» بالنصب قال الأخفش: هو نصب على الحال، وإن شئت على الاستثناء قال أبو العباس: هو استثناء ليس من الأول. قال الكوفيون: لا يكون استثناء لأن بعده «ولا» ، ولا تزاد «لا» في الاستثناء. قال أبو جعفر: وذا لا يلزم لأن فيه معنى النفي، وقال: «غير المغضوب عليهم» ولم يقل: المغضوبين لأنه لا ضمير فيه. قال ابن كيسان: هو موحّد في معنى جمع وكذلك كل فعل المفعول إذا لم يكن فيه خفض مرفوع، نحو المنظور إليهم والمرغوب فيهم، والْمَغْضُوبِ بإضافة غير إليه وعَلَيْهِمْ في موضع رفع لأنه اسم ما لم يسمّ فاعله.

_ (1) ابن أبي إسحاق: عبد الله بن زيد بن الحارث الحضرمي البصري، أحد الأئمة في القراءات والعربية. أخذ القراءة عن يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم. (ت 127 هـ) . ترجمته في: (بغية الوعاة 2/ 42، وغاية النهاية 1/ 410) . (2) انظر مختصر في شواذ القرآن 1، والمحتسب 1/ 44. والبحر المحيط 1/ 146. (3) انظر الحجة لابن خالويه 39، والحجة للفارسي 1/ 42. (4) حمزة بن حبيب أبو عمارة الكوفي، أحد القرّاء السبعة (ت 156 هـ) . ترجمته في (غاية النهاية 1/ 261) . (5) انظر معاني الفراء 1/ 5. (6) عبد الله بن كثير: أبو معبد عبد الله المكي الداري، إمام أهل مكة في القراءات وأحد السبعة (ت 120 هـ) ترجمته في غاية النهاية 1/ 443. (7) انظر الحجة للفارسي 1/ 105.

وَلَا زائدة عند البصريين وبمعنى غير عند الكوفيين «1» . والضَّالِّينَ عطف على «المغضوب عليهم» والكوفيون يقولون: نسق «2» ، وسيبويه «3» يقول: إشراك. والأصل في الضّالين: الضاللين ثم أدغمت اللام في اللام فاجتمع ساكنان وجاز ذلك لأن في الألف مدّة والثاني مدغم، إلّا أنّ أيّوب السّختياني «4» همز فقرأ وَلَا الضَّالِّينَ «5» .

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 8. (2) النّسق: العطف. (3) انظر الكتاب 3/ 41. (4) أيوب السختياني: هو فقيه أهل البصرة (ت 131 هـ) . ترجمته في شذرات الذهب 1/ 181. (5) انظر مختصر ابن خالويه 1، والمحتسب 1/ 46، والبحر المحيط 1/ 151. [.....]

[2] شرح إعراب سورة البقرة

[2] شرح إعراب سورة البقرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البقرة (2) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) من ذلك قوله عزّ وجلّ: الم ... مذهب الخليل وسيبويه «1» في «الم» وما أشبهها أنها لم تعرب لأنها بمنزلة حروف التهجّي فهي محكيّة ولو أعربت ذهب معنى الحكاية وكان قد أعرب بعض الاسم، وقال الفراء: «2» إنما لم تعرب لأنك لم ترد أن تخبر عنها بشيء، وقال أحمد بن يحيى «3» : لا يعجبني قول الخليل فيها لأنك إذا قلت: زاي فليست هذه الزاي التي في زيد لأنك قد زدت عليها. قال أبو جعفر: هذا الرّدّ لا يلزم لأنك لا تقدر أن تنطق بحرف واحد حتى تزيد عليه. قال ابن كيسان: «الم» في موضع نصب بمعنى اقرأ «الم» أو عليك «الم» ويجوز أن يكون موضعه رفعا بمعنى: هذا الم أو هو أو ذاك. ثم قال عزّ وجلّ: [سورة البقرة (2) : آية 2] ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) ذلِكَ فيه ستة أوجه: يكون بمعنى هذا ذلك الكتاب، فيكون خبر هذا ويكون بمعنى «الم ذلك» هذا قول الفراء «4» أي حروف المعجم ذلك الكتاب واجتزئ ببعضها من بعض، ويكون هذا رفعا بالابتداء والْكِتابُ خبره، والكوفيون يقولون: رفعنا هذا بهذا وهذا بهذا، ويكون «الكتاب» عطف البيان الذي يقوم مقام النعت وهُدىً

_ (1) انظر الكتاب 3/ 284. (2) انظر معاني الفراء 1/ 9. (3) أحمد بن يحيى ثعلب: إمام الكوفيين في النحو واللغة، حفظ كتب الفرّاء، ولازم ابن الأعرابي بضع عشرة سنة واعتمد عليه في اللغة، وعلى سلمة بن عاصم في النحو. صنّف: المصون في النحو، واختلاف النحويين، ومعاني القرآن، معاني الشعر، القراءات، التصغير، الوقف والابتداء، الهجاء، الأمالي، غريب القرآن، وغيره (ت 291 هـ) . ترجمته في: (بغية الوعاة 1/ 396، وطبقات الزبيدي 155) . (4) انظر معاني الفراء 1/ 10.

خبرا، ويكون لا رَيْبَ فِيهِ الخبر، والكوفيون يقولون: الهاء العائدة الخبر. والوجه السادس: أن يكون الخبر «لا ريب فيه» لأن معنى لا شكّ: حقّ، ويكون التمام على هذا لا ريب، ويقال: ذلك، ولغة تميم ذاك. ولم تعرب ذلك ولا هذا لأنها لا يثبتان على المسمّى. قال البصريون: اللّام في ذلك توكيد، وقال الكسائي والفراء: جيء باللّام في ذلك لئلا يتوهّم أنّ ذا مضاف إلى الكاف، وقيل: جيء باللّام بدلا من الهمزة ولذلك كسرت، وقال علي بن سليمان: جيء باللّام لتدل على شدة التراخي. قال أبو إسحاق «1» : كسرت فرقا بينها وبين لام الجرّ ولا موضع للكاف. والاسم عند البصريين «ذا» وعند الفراء «2» الذال. ثم قال الله جلّ وعزّ لا رَيْبَ فِيهِ نصب «ريب» لأن «لا» عند البصريين مضارعة لأنّ فنصبوا بها وأنّ «لا» لم تعمل إلّا في نكرة لأنها جواب نكرة فيها معنى «من» بنيت مع النكرة فصيّرا شيئا واحدا، وقال الكسائي: سبيل النكرة أن يتقدمها أخبارها فتقول: قام رجل، فلما تأخّر الخبر في التبرئة «3» نصبوا ولم ينوّنوا لأنه نصب ناقص، وقال الفراء: سبيل «لا» أن تأتي بمعنى غير، تقول: مررت بلا واحد ولا اثنين، فلما جئت بها بغير معنى «غير» وليس، نصبت بها ولم تنوّن لئلا يتوهّم أنك أقمت الصفة مقام الموصوف، وقيل: إنّما نصبت لأن المعنى: لا أجد ريبا، فلما حذفت الناصب حذفت التنوين، ويجوز لا رَيْبَ فِيهِ «4» تجعل «لا» بمعنى ليس. وأنشد سيبويه: [مجزوء الكامل] 3- من صدّ عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لابراح «5» فِيهِ هُدىً الهاء في موضع خفض بفي، وفي الهاء خمسة أوجه: أجودها «فيه هدى» ويليه فِيهِ هُدىً «6» بضم الهاء بغير واو، وهي قراءة الزهري «7» وسلّام أبي المنذر «8»

_ (1) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ص 28. (2) انظر الإنصاف مسألة 95، والبحر المحيط 1/ 154. (3) التبرئة: النفي للجنس. (4) انظر مختصر ابن خالويه 2، والبحر المحيط 1/ 160. (5) الشاهد لسعد بن مالك في الأشباه والنظائر 8/ 109، وخزانة الأدب 1/ 467، والدرر 2/ 112، وشرح أبيات سيبويه 2/ 8، وشرح التصريح 1/ 199، وشرح شواهد المغني ص 582، وشرح المفصل 1/ 109، والكتاب 1/ 58، والمقاصد النحوية 2/ 150، وبلا نسبة في الإنصاف ص 367، وأوضح المسالك 1/ 285، وشرح الأشموني 125، ومغني اللبيب ص 239، والمقتضب 4/ 360. (6) انظر مختصر ابن خالويه (2) ، والحجة للفارسي 1/ 142. (7) الزهري: أبو بكر محمد بن مسلم المدني، أحد الأئمة الكبار، تابعي، وردت عنه الرواية في حروف القرآن، قرأ على أنس (ت 124 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 2/ 262. (8) سلّام بن سليمان أبو المنذر المزنيّ، ثقة ومقرئ كبير، أخذ القراءة عن عاصم وأبي عمرو. وقرأ عليه يعقوب الحضرمي. (ت 171 هـ) ترجمته في غاية النهاية 1/ 309.

[سورة البقرة (2) : آية 3]

ويليه فيهي هدى بإثبات الياء وهي قراءة ابن كثير، ويجوز فيهو هدى بالواو ويجوز فِيهِ هُدىً مدغما والأصل «فيهو هدى» الاسم الهاء وزيدت الواو عند الخليل لأن الهاء خفيّة فقويت بحرف جلد متباعد منها وتبدل منها ياء لأن قبلها ياء أو يحذف لاجتماع الواو والياء عند سيبويه «1» ، ولاجتماع الساكنين عند أبي العباس، وكذا الياء، ويدغم لاجتماع هاءين وليس بجيد، لأنّ حروف الحلق ليست أصلا بالإدغام ويجتمع ساكنان، وقال سيبويه: إنّما زيدت الواو كما زيدت الألف في المؤنث. وفي «هدى» ستة أوجه: تكون في موضع رفع خبرا عن ذلك، وعلى إضمار مبتدأ وعلى أن تكون خبرا بعد خبر، وعلى أن تكون رفعا بالابتداء. قال أبو إسحاق: يكون المعنى فيه هدى ولا ريب. فهذه أربعة أوجه. في الرفع، ويكون على وجه خامس وهو أن يكون، على موضع لا ريب فيه أي حق هدى، ويكون نصبا على الحال من ذلك والكوفيون يقولون: قطع «2» ، ويكون حالا من الكتاب وتكون حالا من الهاء، قال الفرّاء: بعض بني أسد يؤنّث الهدى فيقول: هذه هدى حسنة، ولم يعرب لأنه مقصور والألف لا يحرّك. ثم قال جلّ وعزّ لِلْمُتَّقِينَ مخفوض باللّام الزائدة، ولغة أهل الحجاز: فلان موتق. وهذا هو الأصل والتّقيّة أصلها الوقيّة من وقيت أبدلت من الواو تاء لأنها أقرب الزوائد إليها وقد فعلوا ذلك من غير أن يكون ثمّ تاء، كما حدّثنا عليّ بن سليمان عن محمد بن يزيد عن المازني قال: سألت الأصمعي عن قول الشاعر: [الرجز] 4- فإن يكن أمسى البلى تيقوري «3» وقلت له: قال الخليل: هو فيعول من الوقار فأبدل من الواو تاء فقال: هذا قول الأشياخ والأصل للمتّقين بياءين مخفّفتين وحذفت الكسرة من الياء الأولى لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، ثم قال جلّ وعزّ: [سورة البقرة (2) : آية 3] الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) الَّذِينَ: في موضع خفض نعت للمتقين ويجوز أن يكون نصب بمعنى أعني، ورفعا من جهتين بالابتداء، والخبر أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وعلى إضمار «هم» . يُؤْمِنُونَ بالهمز لأن أصل آمن: أأمن كره الجمع بين همزتين فأبدلت من الثانية ألف

_ (1) انظر الكتاب 4/ 305. (2) انظر معاني الفراء 1/ 12. [.....] (3) الشاهد من أرجوزة للعجاج في ديوانه 1/ 340، ولسان العرب (هير) ، وشرح أبيات سيبويه 2/ 423، والكتاب 4/ 332، والتنبيه والإيضاح 2/ 229، وتهذيب اللغة 9/ 281، وكتاب المعين 5/ 207، وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب 1/ 146، وشرح المفصل 10/ 38، والمنصف 1/ 227، والمخصص 3/ 18، 7 182.

[سورة البقرة (2) : آية 4]

فلما قلت: يؤمنون فزالت إحدى الهمزتين همزت على الأصل، وإن خفّفت قلت: يؤمنون بغير همز. ويؤمنون مثل يكرمون الأصل فيه يؤكرمون لأن سبيل المستقبل أن يكون زائدا على الماضي حرفا إلّا أنه حذف منه الزائد لأن الضمّة تدلّ عليه ولو جئت به على الأصل لاجتمعت الهمزات. والمضمر في يؤمنون يعود على الذين، وهذيل تقول: الّذون في موضع الرفع، ومن العرب من يقول: الذي في الجمع كما قال: [الطويل] 5- أو إنّ الّذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد «1» بِالْغَيْبِ مخفوض بالباء الزائدة والباء متصل بيؤمنون وَيُقِيمُونَ معطوف على يؤمنون والأصل يقومون قلبت كسرة على القاف فانقلبت ياء، الصَّلاةَ منصوبة بيقيمون، وجمعها صلوات، وصلاءة، وصلاوة. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ «ما» في موضع خفض بمن وهي مصدر لا يحتاج إلى عائد، ويجوز أن يكون بمعنى الذي وتحذف العائد، والنون والألف رفع بالفعل والهاء والميم نصب به ومن متصلة بينفقون أي وينفقون مما رزقناهم. [سورة البقرة (2) : آية 4] وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ عطف على الذين الأولين بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ «ما» خفض بالباء والضمير الذي في أنزل يعود على «ما» وهو اسم ما لم يسمّ فاعله والكاف خفض بإلى والأصل الاك أبدل من الألف ياء للفرق بين الألفات المتمكّنة، والتي ليست بمتمكنة ويلزمها الإضافة، وأجاز الكسائي حذف الهمزة وأن يقرأ: وما أنزلّيك، وشبّهه بقوله لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي [الكهف: 38] قال ابن كيسان: ليس مثله لأنّ النون من لكن ساكنة واللام من أنزل متحركة. وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عطف. وقَبْلِكَ مخفوض بمن والكاف خفض بإضافة قبل إليها. وَبِالْآخِرَةِ خفض بالباء والباء متعلقة بيوقنون وهُمْ رفع بالابتداء ويُوقِنُونَ فعل مستقبل في موضع الخبر. [سورة البقرة (2) : آية 5] أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) أُولئِكَ ابتداء والخبر عَلى هُدىً وأهل نجد يقولون: ألّاك «2» ، وبعضهم

_ (1) الشاهد للأشهب بن رميلة في خزانة الأدب 6/ 7، وشرح شواهد المغني 2/ 517، والكتاب 1/ 187، ولسان العرب (فلج) ، والمؤتلف والمختلف ص 33، والمحتسب 1/ 185، والمقاصد النحوية 1/ 482، والمقتضب 4/ 146، والمنصف 1/ 67، وللأشهب أو لحريث بن مخفض في الدرر 1/ 148، وبلا نسبة في الأزهية ص 99، وخزانة الأدب 2/ 315، والدرر 5/ 131، ورصف المباني ص 342، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 537، وشرح المفصل 3/ 155، ومغني اللبيب 1/ 194. (2) انظر همع الهوامع 1/ 74.

[سورة البقرة (2) : آية 6]

يقول: ألا لك، و (هدى) خفض بعلى: مِنْ رَبِّهِمْ خفض بمن، والهاء والميم خفض بالإضافة ويقال: كيف قرأ أهل الكوفة (عليهم) ولم يقرءوا «من ربّهم» «ولا» «فيهم» ؟ والجواب أنّ «عليهم» الياء فيه منقلبة من ألف والأصل علاهم قال: [الرجز] 6- طارت علاهنّ فطر علاها «1» فأقرّت الهاء على ضمتها، وليس هذا في «فيهم» «ولا من ربّهم» وَأُولئِكَ رفع بالابتداء هُمُ ابتداء ثان الْمُفْلِحُونَ خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول، ويجوز أن يكون «هم» زيادة، يسميها البصريون فاصلة «2» ويسميها الكوفيون عمادا «3» والْمُفْلِحُونَ خبر أولئك. [سورة البقرة (2) : آية 6] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ الَّذِينَ: نصب بإن وعملت إنّ لأنها أشبهت الفعل في الإضمار ويقع بعدها اسمان وفيها معنى التحقيق. كَفَرُوا صلة «الذين» والمضمر يعود على الذين. قال محمد بن يزيد سَواءٌ عَلَيْهِمْ رفع بالابتداء: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ الخبر والجملة خبر «إنّ» أي أنهم تبالهوا حتى لم تغن فيهم النذارة والتقدير سواء عليهم الإنذار وتركه، أي سواء عليهم هذان، وجيء بالاستفهام من أجل التسوية. قال ابن كيسان: يجوز أن يكون سواء خبر إنّ وما بعده، يقوم مقام الفاعل، ويجوز أن يكون خبر إنّ «لا يؤمنون» أي إنّ الذين كفروا لا يؤمنون أَأَنْذَرْتَهُمْ «4» فيه ثمانية أوجه: أجودها عند الخليل وسيبويه «5» تخفيف الهمزة الثانية وتحقيق الأولى. وهي لغة قريش وسعد بن بكر وكنانة، وهي قراءة أهل المدينة وأبي عمرو والأعمش أَأَنْذَرْتَهُمْ «6» ، قال ابن كيسان: وروي عن ابن محيصن «7» أنّه قرأ بحذف الهمزة الأولى سواء عليهم أنذرتهم «8» فحذف لالتقاء

_ (1) الشاهد لرؤبة في ديوانه ص 168، وله أو لأبي النجم أو لبعض أهل اليمن في المقاصد النحوية 1/ 133، ولبعض أهل اليمن في خزانة الأدب 7/ 133، وشرح شواهد المغني 1/ 128 وبلا نسبة في لسان العرب (طير، وعلا، ونجا) وخزانة الأدب 4/ 105، والخصائص 2/ 269، وشرح شواهد الشافيه 355، وشرح المفصل 3/ 34، وقبله: «نادية وناديا أباها» . (2) انظر المقتضب 4/ 103. (3) انظر مجالس ثعلب 53. (4) انظر البحر المحيط 1/ 174. (5) انظر الكتاب 4/ 29. (6) انظر التيسير الداني ص 36، باب ذكر الهمزتين المتلاحقتين في كلمة. (7) ابن محيصن: محمد بن عبد الرّحمن السهمي، مولاهم، مقرئ أهل مكة مع ابن كثير، ثقة، عرض على مجاهد وابن جبير (ت 123 هـ) ترجمته في غاية النهاية 2/ 167. (8) انظر مختصر ابن خالويه (2) ، والمحتسب 1/ 50.

[سورة البقرة (2) : آية 7]

الهمزتين، وإن شئت قلت: لأن «أم» تدلّ على الاستفهام كما قال: [المتقارب] 7- تروح من الحيّ أم تبتكر ... وماذا يضرّك لو تنتظر «1» وروي عن ابن أبي إسحاق أنه قرأ أَأَنْذَرْتَهُمْ «2» حقّق الهمزتين وأدخل بينهما ألفا لئلا يجمع بينهما. قال أبو حاتم: ويجوز أن يدخل بينهما ألفا ويخفف الثانية وأبو عمرو ونافع يفعلان ذلك كثيرا، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي بتحقيق الهمزتين أَأَنْذَرْتَهُمْ وهو اختيار أبي عبيد، وذلك بعيد عند الخليل وسيبويه يشبهه الثقل بضننوا. قال سيبويه «3» : الهمزة بعد مخرجها وهي نبرة تخرج من الصدر باجتهاد، وهي أبعد الحروف مخرجا فثقلت لأنها كالتهوّع. فهذه خمسة أوجه، والسادس قاله الأخفش قال: يجوز أن تخفّف الأولى من الهمزتين وذلك رديء لأنهم إنّما يخفّفون بعد الاستثقال وبعد حصول الواحدة. قال أبو حاتم: ويجوز تخفيف الهمزتين جميعا. فهذه سبعة أوجه، والثامن يجوز في غير القرآن لأنه مخالف للسواد. قال الأخفش سعيد: تبدل من الهمزة هاء فتقول «هانذرتهم» كما يقال: إيّاك وهيّاك: وقال الأخفش: في قول الله عزّ وجلّ «هأنتم» إنّما هو أأنتم. والتاء في «أأنذرتهم» في موضع رفع وفتحتها فرقا بين المخاطب والمخاطب، والهاء والميم نصحب بوقوع الفعل عليهما «أم لم تنذرهم» جزم بلم وعلامة الجزم حذف الضمة من الراء، والهاء والميم نصب أيضا، لا يُؤْمِنُونَ فعل مستقبل ولا موضع للا من الإعراب. [سورة البقرة (2) : آية 7] خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) خَتَمَ اللَّهُ خَتَمَ: فعل ماض واسم الله جلّ وعزّ مرفوع بالفعل، عَلى قُلُوبِهِمْ مخفوض بعلى والهاء والميم خفض بالإضافة. وَعَلى سَمْعِهِمْ مثله. ولم لم يقل و «على أسماعهم» وقد قال «على قلوبهم» ففيه ثلاثة أجوبة: منها أن السمع مصدر فلم يجمع، وقيل: هو واحد يؤدي عن الجميع، وقيل: التقدير وعلى موضع سمعهم. وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ رفع بالابتداء، وعند الكوفيين بالصفة. وروى المفضّل «4» عن عاصم بن

_ (1) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 154، والأزهيّة ص 37، ولسان العرب (عبد) ، وبلا نسبة في رصف المعاني ص 45. (2) انظر الحجة للفارسي 1/ 205. (3) انظر الكتاب 4/ 29. [.....] (4) المفضّل الضبي الكوفي: مقرئ نحوي، أخباري موثّق، من أجلّة أصحاب عاصم (ت 168 هـ) ، ترجمته في معرفة القراء الكبار 18.

[سورة البقرة (2) : آية 8]

بهدلة وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ «1» بالنصب أضمر وجعل، وقرأ الحسن غشاوة «2» بضم العين، وقرأ أبو حيوة غشاوة «3» بفتح. قال أبو جعفر: وأجودها غِشاوَةٌ بكسر الغين كذلك تستعمل العرب في كل ما كان مشتملا على الشيء نحو عمامة وقلادة، روي عن الأعمش غشوة ردّه إلى أصل المصدر. قال ابن كيسان، وهو النحويّ، فكلما قلنا: قال ابن كيسان فإيّاه نعني: يجوز غشوة وغشوة فإن جمعت غشاوة تحذف الهاء قلت: غشاء، وحكى الفراء غشاوى مثل أداوى. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ رفع بالابتداء. عَظِيمٌ من نعته. [سورة البقرة (2) : آية 8] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) وَمِنَ النَّاسِ خفض بمن وفتحت النون وأنت تقول. من الناس، لأن قبل النون في «من» كسرة فحرّكوها بأخفّ الحركات في أكثر المواضع ورجعوا إلى الأصل في الأسماء التي فيها ألف الوصل، ويجوز في كل واحد منهما ما جاز في صاحبه و «الناس» اسم يجمع إنسانا وإنسانة والأصل عند سيبويه «4» أناس. قال الفراء: الأصل الأناس خففت الهمزة ثم أدغمت اللام في النون، قال الكسائي: هما لغتان ليست إحداهما أولى من الأخرى. يدلّ على ذلك أن العرب تصغّر ناسا نويسا ولو كان ذلك الأصل لقالوا: أنيس. وَما هُمْ على المعنى و «هم» اسم «ما» على لغة أهل الحجاز ومبتدأ على لغة بني تميم بِمُؤْمِنِينَ خفض بالباء، وهي توكيد عند البصريين وجواب لمن قال: إنّ زيدا لمنطلق عند الكوفيين. [سورة البقرة (2) : آية 9] يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) يُخادِعُونَ فعل مستقبل، وكذا وَما يَخْدَعُونَ ولا موضع لها من الإعراب إِلَّا أَنْفُسَهُمْ مفعول. وَما يَشْعُرُونَ مثل الأول. [سورة البقرة (2) : آية 10] فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ رفع بالابتداء فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً مفعولان، وبعض أهل الحجاز يميل «فزادهم» ليدلّ على أنه من زدت وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جمع «أليم» إلام وألماء مثل كريم وكرماء، ويقال: ألآم مثل أشراف. بِما كانُوا «ما» خفض بالباء يَكْذِبُونَ في موضع نصب على خبر كان.

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه (2) ، ومعاني القرآن للفراء 1/ 13. (2) انظر مختصر ابن خالويه (2) ، والبحر المحيط 1/ 177. (3) انظر البحر المحيط 1/ 177 وهي قراءة الأعمش أيضا. (4) انظر الكتاب 2/ 197.

[سورة البقرة (2) : آية 11]

[سورة البقرة (2) : آية 11] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) وَإِذا في موضع نصب على الظرف. قِيلَ لَهُمْ فعل ماض، ويجوز قِيلَ لَهُمْ بالإدغام. وجاز الجمع بين ساكنين لأن الياء حرف مدّ ولين والأصل: قول ألقيت حركة الواو على القاف فانكسر ما قبل الواو فقلبت ياء. قال الأخفش: ويجوز قيل بضم القاف وبالياء، ومذهب الكسائي إشمام القاف الضّم ليدلّ على أنّه لما لم يسمّ فاعله وهي لغة كثير من قيس، فأما هذيل وبنو دبير «1» من بني أسد وبنو فقعس فيقولون: قول بواو ساكنة «لهم» الهاء والميم خفض باللام «2» . لا تُفْسِدُوا جزم بلا وعلامة الجزم حذف النون. فِي الْأَرْضِ خفض بفي، وإن خفّفت الهمزة ألقيت حركتها على اللام وحذفتها ولم تحذف ألف الوصل لأن الحركة عارضة فقلت: الأرض، وحكى الكسائي أللرض لمّا خفّفت الهمزة فحذفها أبدل منها لاما. قال الفراء: لمّا خفّفت الهمزة تحركت اللام فكره حركتها لأنّ أصلها السكون زاد عليها لاما أخرى ليسلم السكون. قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ ابتداء وخبر، و «ما» عند سيبويه «3» كافّة لأنّ عن العمل، فأما ضمّ «نحن» ففيه أقوال للنحويين قال هشام «4» : الأصل نحن قلبت حركة الحاء على النون وأسكنت الحاء، وقال محمد بن يزيد: نحن مثل قبل وبعد لأنها متعلقة بالإخبار عن اثنين وأكثر قال أحمد بن يحيى: هي مثل حيت تحتاج إلى شيئين بعدها. قال أبو إسحاق الزجاج «5» : «نحن» للجماعة ومن علامة الجماعة الواو، والضمة من جنس الواو فلما اضطروا إلى حركة نحن لالتقاء الساكنين حرّكوها بما يكون للجماعة قال: ولهذا ضمّوا واو الجمع في قول أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة: 16] وقال عليّ بن سليمان: نحن يكون للمرفوع فحرّكوها بما يشبه الرفع. [سورة البقرة (2) : آية 12] أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ كسرت «إنّ» لأنها مبتدأة. قال عليّ بن سليمان: يجوز فتحها كما أجاز سيبويه «6» : حقا أنّك منطلق بمعنى «ألا» والهاء والميم اسم «إنّ» و «هم» مبتدأ و «المفسدون» خبر المبتدأ، والمبتدأ وخبره خبر «إنّ» ويجوز أن يكون «هم»

_ (1) بنو دبير: بطن من أسد من خزيمة من العدنانية (جمهرة أنساب العرب 195) . (2) انظر: البحر المحيط 1/ 191. (3) انظر الكتاب 3/ 149. (4) هشام بن معاوية الضرير يكنى أبا عبد الله، صاحب الكسائي. (ت 209 هـ) ترجمته في غاية النهاية 2/ 354. (5) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 51. (6) انظر الكتاب 3/ 140.

[سورة البقرة (2) : آية 13]

توكيدا للهاء والميم، ويجوز أن يكون فاصلة والكوفيون يقولون: عماد. [سورة البقرة (2) : آية 13] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا ألف قطع لأنك تقول: يؤمن كَما آمَنَ النَّاسُ الكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف أي إيمانا كإيمان الناس. قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ فيه أربعة أقوال أجودها أن تخفّف الهمزة الثانية فتقلبها واوا خالصة وتحقّق الأولى فتقول السّفهاء ولا «1» وهي قراءة أهل المدينة والمعروف من قراءة أبي عمرو، وإن شئت خفّفتهما جميعا فجعلت الأولى بين الهمزة والألف وجعلت الثانية واوا خالصة، وإن شئت خفّفت الأولى وحقّقت الثانية وإن شئت حقّقتها جميعا. [سورة البقرة (2) : آية 14] وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا الأصل لقيوا حذفت الضمّة من الياء لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، وقرأ محمد بن السّميفع اليمانيّ وإذا لاقوا الذين آمنوا «2» ، والأصل لاقيوا، فإن قيل: لم ضمّت الواو من «لاقوا» في الإدراج وحذفت من «لقوا» ؟ فالجواب أنّ قبل الواو التي في لقوا ضمّة تدلّ عليها فحذفت لالتقاء الساكنين وحرّكت في «لاقوا» لأن قبلها فتحة. الَّذِينَ في موضع نصب بالفعل آمَنُوا داخل في الصلة. قالُوا آمَنَّا جواب إذا. وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ فإن خفّفت الهمزة ألقيت حركتها على الواو وحذفتها كما يقرأ أهل المدينة، «شياطينهم» خفض بإلى وهو جمع مكسر فلذلك لم تحذف منه النون بالإضافة، والهاء والميم خفض بالإضافة. قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ الأصل إنّنا حذفت منه لاجتماع النونات «معكم» نصب بالاستقرار ومن أسكن العين جعل «مع» حرفا. إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ مبتدأ وخبر فإن خفّفت الهمزة فسيبويه «3» يجعلها بين الهمزة والواو وحجّته أنّ حركتها أولى بها، وزعم الأخفش أنه يجعلها ياء محضة فيقول: مستهزيون «4» قال الأخفش: أفعل في هذا كما فعلت في قوله: «السفهاء ولا» قال محمد بن يزيد ليس كما قال الأخفش لأن قوله: «السفهاء الا» لو جئت بها بين بين كنت تنحو بها نحو الألف، والألف لا يكون ما قبلها إلّا مفتوحا فاضطررت إلى قلبها

_ (1) انظر تيسير الداني ص 40. (2) انظر مختصر ابن خالويه (2) . (3) انظر الكتاب 4/ 24. [.....] (4) انظر مختصر ابن خالويه (2) .

[سورة البقرة (2) : آية 15]

واوا وليس كذا مستهزئون، ومن أبدل الهمزة قال: مستهزون وعلى هذا كتبت في المصحف. [سورة البقرة (2) : آية 15] اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «يستهزئ» : فعل مستقبل في موضع خبر الابتداء، والهاء والميم في موضع خفض بالباء. وَيَمُدُّهُمْ عطف على يستهزئ والهاء والميم في موضع نصب بالفعل فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ في موضع الحال. [سورة البقرة (2) : آية 16] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) أُولئِكَ مبتدأ، الَّذِينَ خبر. اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى في صلة الذين وفي ضم الواو أربعة أقوال، قول سيبويه «1» : أنّها ضمّت فرقا بينها وبين الواو الأصلية نحو وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى [الجن: 16] وقال الفراء: كان يجب أن يكون قبلها واو مضمومة لأنها واو جمع فلمّا حذفت الواو التي قبلها واحتاجوا إلى حركتها حرّكوها بحركة التي حذفت. قال ابن كيسان: الضمة في الواو أخفّ من غيرها لأنها من جنسها، قال أبو إسحاق «2» : هي واو جمع حرّكت بالضم كما فعل في نحن، وقرأ ابن أبي إسحاق ويحيى بن يعمر «3» اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ «4» بكسر الواو وعلى الأصل لالتقاء الساكنين: وروى أبو زيد الأنصاري عن قعنب أبي السّمال «5» العدويّ أنه قرأ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بفتح الواو «6» ولخفّة الفتحة وأنّ قبلها مفتوحا، وأجاز الكسائي اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بضم الواو «7» كما يقال: أُقِّتَتْ [المرسلات: 11] وأدؤر. قال أبو جعفر: وهذا غلط لأن همزة الواو إذا انضمّت إنّما يجوز فيها إذا انضمّت لغير علّة. فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ رفع بربحت. وَما كانُوا مُهْتَدِينَ «8» نصب على خبر كان، والفراء يقول: حال غير مستغنى عنها. قال ابن كيسان: يجوز تجارة وتجاير وضلالة وضلايل.

_ (1) انظر الكتاب 4/ 192، وهو قول الخليل. (2) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 52. (3) يحيى بن يعمر أبو سليمان العدواني البصري، تابعي فقيه أديب نحويّ أخذ النحو عن أبي الأسود، (ت 129 هـ) . ترجمته في (بغية الوعاة 2/ 345، وطبقات الزبيدي 21، وغاية النهاية 2/ 381) . (4) انظر مختصر ابن خالويه (2) ، والمحتسب 1/ 54. (5) قعنب بن أبي قعنب أبو السّمّال العدوي البصري، له اختيار في القراءة شاذ عن العامة، انظر غاية النهاية (2/ 27) . (6) انظر البحر المحيط 1/ 204. (7) انظر المحتسب 1/ 55، ومختصر ابن خالويه (2) . (8) انظر البحر المحيط 1/ 207.

[سورة البقرة (2) : آية 17]

[سورة البقرة (2) : آية 17] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) ابتداء. كَمَثَلِ الَّذِي خبره والكاف بمعنى مثل والَّذِي خفض بالإضافة. اسْتَوْقَدَ ناراً صلته. فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ «ما» : في موضع نصب بمعنى الذي وكذا إن كانت نكرة إلّا أنّ النعت يلزمها إذا كانت نكرة وإن كانت زائدة فلا موضع لها. وحَوْلَهُ: ظرف مكان والهاء في موضع خفض بإضافته إليها. ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وأذهب نورهم بمعنى واحد. وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ وقرأ أبو السّمال وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ «1» بإسكان اللام حذف الضمة لثقلها، ومن أثبتها فللفرق بين الاسم والنعت، ويقال: «ظلمات» بفتح اللام. قال البصريون: أبدل من الضمة فتحة لأنّها أخفّ، وقال الكسائي: ظلمات جمع الجمع جمع ظلم: لا يُبْصِرُونَ فعل مستقبل في موضع الحال. [سورة البقرة (2) : آية 18] صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) على إضمار مبتدأ أي هم صمّ: بُكْمٌ عُمْيٌ وفي قراءة عبد الله «2» وحفصة «3» صمّا بكما عميا «4» لأنّ المعنى وتركهم غير مبصرين صما بكما عميا، ويكون أيضا بمعنى أعني. [سورة البقرة (2) : آية 19] أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) الأصل عند البصريين «5» صيوب ثم أدغم مثل ميّت، وعند الكوفيين الأصل صويب ثم أدغم ولو كان كما قالوا لما جاز إدغامه كما لا يجوز إدغام طويل. وجمع صيّب صيايب والتقدير في العربية: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا أو كمثل صيب. فِيهِ ظُلُماتٌ ابتداء. وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ معطوف عليه. يَجْعَلُونَ مستأنف وإن شئت كان حالا من الهاء التي في «فيه» فإن قيل: كيف يكون حالا ولم يعد على الهاء شيء؟ فالجواب أنّ

_ (1) انظر المحتسب 1/ 56، ومختصر ابن خالويه (2) . (2) عبد الله بن مسعود بن الحارث الهذلي، أحد السابقين للإسلام والبدريين، عرض القرآن على النبي صلّى الله عليه وسلّم (ت 32 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 1/ 458. (3) حفصة بنت عمر بن الخطاب، جليلة، من أزواج الرسول صلّى الله عليه وسلّم. روى لها البخاري ومسلم في الصحيحين (ت 45 هـ) . ترجمتها في الإصابة تر (296) ج 4/ 273. (4) انظر مختصر ابن خالويه (2) ، ومعاني الفراء 1/ 6. (5) انظر الإنصاف مسألة 115، والبحر المحيط 1/ 218. [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 20]

التقدير في صواعقه مثل يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج: 20] . أَصابِعَهُمْ في واحد الأصابع خمس لغات يقال: إصبع بكسر الهمزة وفتح الباء، ويقال إصبع بفتح الهمزة وكسر الباء، ويقال: بفتحهما جميعا وبكسرهما جميعا وبضمّهما جميعا. وهي مؤنّثة وكذلك الأذن. وروي عن الحسن أنه قرأ من الصّواقع «1» وهي لغة تميم وبعض ربيعة. حَذَرَ الْمَوْتِ ويقال: حذار قال سيبويه «2» : هو منصوب لأنه موقوع له أي مفعول من أجله وحقيقته أنه مصدر، وأنشد سيبويه: [الطويل] 8- وأغفر عوراء الكريم ادّخاره ... وأعرض عن شتم اللّئيم تكرّما «3» وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ابتداء وخبره. [سورة البقرة (2) : آية 20] يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ ويجوز في غير القرآن يكاد أن يفعل كما قال: [الرجز] 9- قد كاد من طول البلى أن يمصحا «4» وفي «يخطف» سبعة أوجه القراءة الفصيحة يَخْطَفُ، وقرأ عليّ بن الحسين ويحيى بن وثّاب يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ «5» بكسر الطاء قال سعيد الأخفش: هي لغة. وقرأ الحسن «6» وقتادة «7» وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي «8» يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ بفتح الياء وكسر الخاء والطاء، وروي عن الحسن أنّه قرأ بفتح الخاء.

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 3. (2) انظر الكتاب 1/ 435، والبحر المحيط 1/ 223. (3) الشاهد لحاتم الطائي في ديوانه ص 224، والكتاب 1/ 435، وخزانة الأدب 3/ 123، وشراح أبيات سيبويه 1/ 45، وشرح شواهد المغني 2/ 952، وشرح المفصل 2/ 54، واللمع ص 141، والمقاصد النحوية 3/ 75 ونوادر أبي زيد ص 110، وبلا نسبة في أسرار العربية ص 187، وخزانة الأدب 3/ 115، وشرح ابن عقيل ص 296، والمقتضب 2/ 348. (4) الشاهد لرؤبة في ملحق ديوانه ص 172، والدرر 2/ 142، وشرح شواهد الإيضاح ص 99، وشرح المفصّل 7/ 121، وبلا نسبة في أدب الكاتب 419، وأسرار العربية ص 5، وتخليص الشواهد ص 329، والمقتضب 3/ 7 وهمع الهوامع 1/ 130، وديوان الأدب 2/ 198. (5) انظر مختصر ابن خالويه 3، والبحر المحيط 1/ 227، وهي قراءة مجاهد أيضا. (6) قراءة الحسن في البحر المحيط 1/ 227. (7) قتادة: ابن دعامة السدوسي، أحد الأئمة في حروف القرآن، (ت 117 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 2/ 25. (8) أبو رجاء العطاردي: عمران بن تيم البصري التابعي، أسلم في حياة الرسول وعرض القرآن على ابن عباس (ت 105 هـ) . ترجمته في (غاية النهاية 1/ 604) .

[سورة البقرة (2) : آية 21]

قال الفراء «1» : وقرأ بعض أهل المدينة بتسكين الخاء وتشديد الطاء، وقال الكسائي والأخفش والفراء: يجوز يَخْطَفُ بكسر الياء والخاء والطاء، فهذه ستة أوجه موافقة للسواد، والسابع حكاه عبد الوارث قال: رأيت في مصحف أبيّ «2» يكاد البرق يتخطّف أبصارهم زعم سيبويه والكسائي أنّ من قرأ يَخْطَفُ بكسر الخاء والطاء فالأصل عنده «يختطف» ثم أدغم التاء في الطاء فالتقى ساكنان وكسر الخاء لالتقاء الساكنين. قال سيبويه «3» : ومن فتحها ألقى حركة التاء عليها، قال الفراء «4» : هذا خطأ ويلزم من قاله أن يقول في يمدّ: يمدّ لأن الميم كانت ساكنة وأسكنت الدال بعدها وفي يعضّ يعضّ، قال الفراء «5» : وإنما الكسر لأن الألف في «اختطف» مكسورة. قال أبو جعفر: قال أصحاب سيبويه «6» : الذي قال الفراء لا يلزم لأنه لو قيل: يمدّ ويعضّ لأشكل بيفعل، ويفتعل لا يكون إلّا على جهة واحدة. قال الكسائي: من قال: يخطف كسر الياء لأن الألف في اختطف مكسورة. فأما ما حكاه الفراء «7» عن أهل المدينة من إسكان الخاء والإدغام فلا يعرف ولا يجوز لأنه جمع بين ساكنين. كُلَّما: منصوب لأنه ظرف وإذا كانت كلّما بمعنى إذا فهي موصولة. قال الفراء: يقال: أضاءك وضاءك ويجوز «لذهب بسمعهم» مدغما. وَأَبْصارِهِمْ عطف عليه إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اسم إنّ وخبرها. [سورة البقرة (2) : آية 21] يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) يا أَيُّهَا النَّاسُ ... يا أَيُّهَا يا: حرف النداء، وأيّ: نداء مفرد ضمّ لأنه في موضع المكنيّ، وكان يجب أن لا يعرب فكرهوا أن يخلوه من حركة لأنه قد كان متمكنا فاختاروا له الضمة لأن الفتحة تلحق المعرب في النداء والكسرة تلحق المضاف إليه، وأجاز أبو عثمان المازني «يا أيّها الناس» : على الموضع كما يقال: يا زيد الظّريف. وزعم الأخفش أن «الناس» في صلة أيّ و «هاء» للتنبيه إلا أنّها لا تفارق أيّا لأنها عوض من الإضافة. ولغة بعض بني مالك «8» من بني أسد «يا أيه الرجل» بضم

_ (1) انظر مختصر في شواذ القرآن 3، ومعاني القرآن للفراء 1: 18. (2) أبيّ بن كعب: من الخزرج، صحابي أنصاري، كان قبل الإسلام حبرا من أحبار اليهود، ولما أسلم كان من كتّاب الوحي، شهد بدرا وأحدا والخندق مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. اشترك في جمع القرآن بتكليف من عثمان بن عفّان، وله في الصحيحين وغيرهما (164 حديثا) (ت 21 هـ/ 642 م) . ترجمته في (طبقات ابن سعد 3، وغاية النهاية 1/ 31، وصفة الصفوة 1/ 188، وحلية الأولياء 1/ 250) . (3) انظر الكتاب 3/ 10. (4) انظر معاني الفراء 1/ 18. (5) انظر الكتاب 3/ 10. (6) أصحاب سيبويه: هم تلاميذه وأشهرهم الأخفش سعيد بن مسعدة، وقطرب محمد بن المستنير. [.....] (7) انظر معاني الفراء 1/ 18. (8) انظر البحر المحيط 1/ 231.

[سورة البقرة (2) : آية 22]

الهاء لما كانت الهاء لازمة حركتها حرّكها بحركة أيّ النَّاسُ تابع لأيّ كالنعت كما ينعت، لا يجوز نصبه عند أبي العباس لأنه لا يستغنى عنه فصار كما تقول: يا ناس، اعْبُدُوا ألف وصل لأنه من يعبد وضممتها والأصل الكسر لئلا تجمع بين كسرة وضمة. قال سيبويه «1» : ليس في الكلام «فعل» وحذف النون للجزم عند الكوفيين ولأنه لم يضارع عند البصريين، رَبَّكُمُ نصب باعبدوا. الَّذِي نعت له. خَلَقَكُمْ في الصلة والكاف والميم نصب بالفعل. وَالَّذِينَ عطف على الكاف والميم. مِنْ قَبْلِكُمْ في الصلة. لَعَلَّكُمْ الكاف والميم اسم لعلّ. تَتَّقُونَ فعل مستقبل علامة رفعه النون وهو في موضع خبر لعل. [سورة البقرة (2) : آية 22] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ... الَّذِي: نعت لربكم وإن شئت كان نعتا للذي خلقكم، وصلح أن يقال نعت للنعت لأن النعت هو المنعوت في المعنى، ويجوز أن يكون منصوبا بتتقون، ويجوز أن يكون بمعنى أعني، وأن يكون في موضع رفع على أنه خبر ابتداء محذوف ويجوز «جعل لكم» «2» مدغما لأن الحرفين مثلان قد كثرت الحركات، وترك الإدغام أجود لأنها من كلمتين. الْأَرْضَ فِراشاً مفعولان لجعل. وَالسَّماءَ بِناءً عطف، والسماء تكون جمعا لسماوة وسماءة، وتكون واحدة مؤنّثة مثل عناق وتذكيرها شاذّ، وجمعها سماوات وسماءات وأسم وسمايا، وَالسَّماءَ: المطر، مذكّر، وكذلك السقف في المستعمل، وجمعها أسمية وسميّ وسميّ «3» . «وبناء» يقصر على أنه جمع بنية ومصدر، ويقال: بنيّ جمع بنية وفي الممدود في الوقف خمس لغات: أجودها و «السماء بناء» بهمزة بين ألفين ويجوز تخفيف الهمزة حتى تضعف، ويجوز حذفها لقربها من الساكن وهي بين ساكنين فإذا حذفتها حذفت الألف بعدها فقلت: «بنا» لفظه كلفظ المقصور، ومن العرب من يزيد بعده في صورته مدّة، ومنهم من يعوض من الهمزة ياء فيقول: بنيت بنايا، والبصريون يقولون: هو مشبّه بخطايا، والفراء يقول: ردت الهمزة إلى أصلها لأن أصلها الياء. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً والأصل في ماء موه قلبت الواو ألفا لتحرّكها وتحرّك ما قبلها فقلت: ماه، فالتقى حرفان خفيّان فأبدلت من الهاء همزة لأنها أجلد وهي بالألف أشبه فقلت: ماء فالألف الأولى عين الفعل وبعدها الهمزة التي هي بدل من الهاء وبعد الهمزة ألف بدل من التنوين. قال أبو

_ (1) الكتاب: 4/ 368. (2) انظر البحر المحيط 1/ 237. (3) اللسان (سما) .

[سورة البقرة (2) : آية 23]

الحس عليّ: لا يجوز أن يكتب إلا بألفين عند البصريين وإن شئت بثلاث فإذا جمعوا أو صغّروا ردّوا إلى الأصل فقالوا: مويه وأمواه ومياه مثل: أجمال وجمال. فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ جمع ثمرة ويقال: ثمر مثل شجر، ويقال: ثمر مثل خشب، ويقال ثمر مثل بدن وثمار مثل إكام. رِزْقاً لَكُمْ مفعول. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً «تجعلوا» جزم بالنهي فلذلك حذفت منه النون «أندادا» مفعول أول و «لله» في موضع الثاني. وَأَنْتُمْ مبتدأ. تَعْلَمُونَ فعل مستقبل في موضع الخبر والجملة في موضع الحال. [سورة البقرة (2) : آية 23] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) وَإِنْ كُنْتُمْ في موضع جزم بالشرط. فِي رَيْبٍ خفض بفي مِمَّا نَزَّلْنا «ما» خفض بمن والعائد عليها محذوف لطول الاسم أي ما نزّلناه. عَلى عَبْدِنا خفض بعلى. فَأْتُوا جواب الشرط، وإن شئت قلت مجازاة. قال ابن كيسان: قصرت فأتوا لأنه من باب المجيء، وحكى الفراء في قراءته فتوا فيجوز فتوا. بِسُورَةٍ خفض الباء. مِنْ مِثْلِهِ خفض بمن. وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ نصب بالفعل، جمع شهيد. يقال: شاهد وشهيد مثل قادر وقدير. [سورة البقرة (2) : آية 24] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا يقال: كيف دخلت «إن» على «لم» ولا يدخل عامل على عامل؟ فالجواب أنّ «إن» هنا غير عاملة في اللفظ فدخلت على «لم» كما تدخل على الماضي لأنها لا تعمل في لم كما لا تعمل في الماضي فمعنى «إن لم تفعلوا» إن تركتم الفعل. قال الأخفش سعيد: إنّما جزموا بلم لأنها نفي فأشبهت «لا» في قولك: لا رجل في الدار، فحذفت بها الحركة كما حذفت التنوين من الأسماء، وقال غيره: جزمت بها لأنها أشبهت إن التي للشرط لأنها تردّ المستقبل إلى الماضي كما تردّ «إن» فتحتاج إلى جواب فأشبهت الابتداء، والابتداء يلحق به الأسماء الرفع وهو أولى بالأسماء فكذا حذف مع «إن» لأن أولى ما للأفعال السكون. وَلَنْ تَفْعَلُوا نصب بلن وعلامة نصبه حذف النون، واستوى النصب والجزم في الأفعال لأنهما فرعان وهما بمنزلة النصب والخفض في الأسماء وحكي عن الخليل رحمه الله: أن أصل «لن» «لا» . وإن ردّ عليه هذا سيبويه وقال: لو كان كذا لما جاز: زيدا لن أضرب «1» . قال أبو عبيدة «2» : من

_ (1) انظر الكتاب 1/ 190. (2) أبو عبيدة: معمر بن المثنى التيمي، من اللغويين البصريين (ت 210 هـ) . ترجمته في طبقات الزبيدي 192، ونزهة الألباء 84.

[سورة البقرة (2) : آية 25]

العرب من يجزم بلن كما يجزم بلم. فَاتَّقُوا النَّارَ جواب الشرط في الفاء وما بعدها ولغة تميم وأسد «فتقوا النّار» ، وحكي سيبويه «1» : تقى يتقي، النَّارَ مفعوله. الَّتِي من نعتها. وَقُودُهَا مبتدأ. النَّاسُ خبر وَالْحِجارَةُ عطف عليهم. أُعِدَّتْ فعل ماض والتاء علامة التأنيث أسكنت عند البصريين لأنها حرف جاء لمعنى، وعند الكوفيين أنك لمّا ضممت تاء المخاطب وفتحت تاء المخاطب المذكر وكسرت تاء المؤنث وبقيت هذه التاء كان ترك العلامة لها علامة، واسم ما لم يسمّ فاعله مضمر في أعدّت. لِلْكافِرِينَ خفض باللام الزائدة، وقرأ الحسن ومجاهد «2» وطلحة بن مصرّف «3» الَّتِي وَقُودُهَا «4» ، بضمّ الواو. وقال الكسائي والأخفش سعيد: الوقود بفتح الواو الحطب والوقود بضمها الفعل، قال أبو جعفر يجب على هذا أن لا يقرأ إلّا وقودها بفتح الواو لأنّ المعنى حطبها. إلا أنّ الأخفش قال: وحكي أنّ بعض العرب يجعل الوقود والوقود جميعا بمعنى الحطب والمصدر، وذهب إلى أن الأول أكثر قال: كما أنّ الوضوء الماء والوضوء المصدر. [سورة البقرة (2) : آية 25] وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) أَنَّ: في موضع نصب والمعنى بأن لهم. قال الكسائي وجماعة من البصريين: «أنّ» في موضع خفض بإضمار الباء. جَنَّاتٍ في موضع نصب اسم أنّ وكسرت التاء عند البصريين لأنه جمع مسلّم فوجب أن يستوي خفضه ونصبه كما كان في المذكر جائزا. تَجْرِي في موضع نصب نعت للجنات، ومرفوع لأنه فعل مستقبل، وحذفت الضمة من الياء لثقلها معها. الْأَنْهارُ مرفوع بتجري. كُلَّما ظرف. قالُوا هذَا مبتدأ. والَّذِينَ خبره، ويجوز أن يكون هذا هو الذي. رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ غاية «5» مبني على الضمّ لأنه قد حذف منه، وهو ظرف يدخله النصب والخفض في حال سلامته فلما اعتلّ بالحذف أعطي حركة لم تكن تلحقه، وقيل: أعطي الضمة لأنها غاية الحركات وَأُتُوا بِهِ فعلوا من أتيت مُتَشابِهاً على الحال. أَزْواجٌ مرفوع بالابتداء.

_ (1) انظر الكتاب 4/ 229، والبحر المحيط 1/ 249. (2) مجاهد بن جبر مولى عبد الله بن السائب القارئ الفقيه الزاهد روى عن ابن عباس (ت 102 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 2/ 41. (3) طلحة بن مصرف بن عمر الكوفي، تابعي، له اختيار في القراءة ينسب إليه، أخذ القراءة عرضا عن إبراهيم بن يزيد النخعي والأعمش (ت 112 هـ) ترجمته في غاية النهاية 1/ 343. (4) انظر مختصر ابن خالويه 4، وانظر البحر المحيط 1/ 249. (5) انظر الكتاب 3/ 317.

[سورة البقرة (2) : آية 26]

مُطَهَّرَةٌ نعت وواحد الأزواج زوج. قال الأصمعي، ولا تكاد العرب تقول: زوجة. قال أبو جعفر «1» : حكى الفراء أنه يقال: زوجة وأنشد: [الطويل] 10- إنّ الذي يمشي يحرش زوجتي ... كماش إلى أسد الشّرى يستبيلها «2» وَهُمْ مبتدأ، خالِدُونَ خبره والظرف ملغى، ويجوز في غير القرآن نصب خالدين على الحال. [سورة البقرة (2) : آية 26] إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) إِنَّ اللَّهَ اسم «إنّ» والجملة الخبر. لغة تميم وبكر بن وائل. لا يستحى بياء واحدة وهكذا قرأ ابن كثير وابن محيصن وشبل «3» وفيه قولان: قال الخليل: أسكنت الياء الأولى كما سكنت في «باع» وسكنت الثانية لأنها لام الفعل، قال سيبويه «4» وقال غيره: لمّا كسر وكانتا ياءين حذفوها وألقوا حركتها على الحاء. قال أبو جعفر: شرح قول الخليل أنّ الأصل استحيا فأعلّه من جهتين أعلّ الياء الأولى كما يقال: استباع، وأعلّ الثانية كما يقال: يرمي فحذف الأولى لئلا يلتقي ساكنان، وهذا بعيد جدا لأنهم يجتنبون الإعلال من جهتين. والقول الآخر هو قول سيبويه سمعت أبا إسحاق يقول: إذا قال سيبويه بعد قول الخليل: وقال غيره فإنما يعني نفسه ولا يسمّي نفسه بعد الخليل إجلالا منه له، وشرح قول سيبويه أنّ الأصل: استحيا كثر استعمالهم إيّاه فحذفوا الياء الأولى وألقوا حركتها على الحاء فأشبه افتعل نحو اقتضى فصرفوه تصريفه فقالوا: استحى يستحي. أَنْ يَضْرِبَ في موضع نصب أي من أن يضرب. مَثَلًا منصوب بيضرب. ما بَعُوضَةً في نصبها ثلاثة أوجه: تكون «ما» زائدة و «بعوضة» بدلا من مثل، ويجوز أن تكون «ما» في موضع نصب نكرة و «بعوضة» نعتا لما، وصلح أن تكون نعتا لأنها بمعنى قليل، والوجه الثالث قول الكسائي والفراء «5» قالا: التقدير: أن يضرب مثلا ما بين بعوضة حذفت «بين» وأعربت بعوضة بإعرابها

_ (1) انظر البحر المحيط 1/ 251. (2) الشاهد للفرزدق في ديوانه 61، ولسان العرب (زوج) و (بول) ، وإصلاح المنطق 331، وبلا نسبة في ديوان الأدب 3/ 308 والمذكّر والمؤنث للأنباري ص 375، والمذكر والمؤنث للفراء ص 95، وفي الديوان: «وإنّ الذي يسعى ليفسد زوجتي» [.....] (3) شبل بن عياد أبو داود المكي، مقرئ مكة، ثقة، هو أجلّ أصحاب ابن كثير (ت 160 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 1/ 323. (4) انظر الكتاب 4/ 540. (5) انظر معاني الفراء 1/ 22.

[سورة البقرة (2) : آية 27]

والفاء بمعنى «إلى» أي إلى ما فوقها، ومعنى ضربت له مثلا مثّلت له مثلا وهذه الأبنية على ضرب واحد أي على مثال واحد فَما فَوْقَها عطف على «ما» الأولى، وحكي أنه سمع رؤبة يقرأ إنّ الله لا يستحي أن يضرب مثلا مّا بعوضة «1» بالرفع وهذه لغة تميم، جعل «ما» بمعنى الذي ورفع بعوضة على إضمار ابتداء والحذف في «ما» أقبح منه في الذي لأن الذي إنّما له وجه واحد والاسم معه أطول. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا «الذين» : رفع بالابتداء وخبره ما بعد الفاء فلا بدّ من الفاء في جواب أَمَّا لأن فيها معنى الشرط أي مهما يكن من شيء فالأمر كذا. فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ «أنّ» في موضع نصب بيعلمون والهاء اسمها والحق خبرها. مِنْ رَبِّهِمْ خفض بمن. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ولغة تميم وبني عامر «أيما» يبدلون من إحدى الميمين ياء كراهية التضعيف وعلى هذا ينشد بيت عمر بن أبي ربيعة: [الطويل] 11- رأت رجلا أيما إذا الشّمس عارضت ... فيضحى وأيما بالعشيّ فيخصر «2» فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا إن شئت جعلت «ما» و «ذا» شيئا واحدا في موضع نصب بأراد. قال ابن كيسان: وهو أجود وإن شئت جعلت «ما» اسما تاما في موضع رفع بالابتداء و «ذا» بمعنى الذي هو خبر الابتداء، ويكون التقدير: ما الذي أراد الله بهذا مثلا. قال أحمد بن يحيى ثعلب: «مثلا» منصوب على القطع وقال ابن كيسان: هو منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال. يُضِلُّ فعل مستقبل. كَثِيراً مفعول به. وَيَهْدِي أسكنت الياء فيه استثقالا للجمع بينها وبين ياء وكسرة. وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ بوقوع الفعل عليهم، والتقدير وما يضلّ به أحدا إلّا الفاسقين، ولا يجوز أن تنصبهم على الاستثناء لأن الاستثناء لا يكون إلّا بعد تمام الكلام. [سورة البقرة (2) : آية 27] الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) الَّذِينَ: في موضع نصب على النعت للفاسقين وإن شئت جعلته في موضع رفع على أنه خبر ابتداء محذوف أي هم الذين. يَنْقُضُونَ فعل مستقبل والمضمر الذي فيه

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 4، والبحر المحيط 1/ 266. (2) الشاهد لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص 94، والأزهية ص 148، والأغاني 1/ 81، وخزانة الأدب 5/ 315، والدرر 5/ 108، وشرح شواهد المغني ص 174، والمحتسب 1/ 284، ومغني اللبيب 1/ 55، وبلا نسبة في تذكرة النحاة ص 120، والجنى الداني ص 527، ورصف المباني ص 99، وشرح الأشموني 3/ 608، وهمع الهوامع 2/ 67.

[سورة البقرة (2) : آية 28]

يعود على الذين. عَهْدَ اللَّهِ مفعول به. مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ خفضت بعدا بمن وميثاقه بعد إليه وهو بمعنى: إيثاقه. قال ابن كيسان: هو اسم يؤدي عن المصدر كما قال القطاميّ: [الوافر] 12- أكفرا بعد ردّ الموت عنّي ... وبعد عطائك المائة الرّتاعا «1» وَيَقْطَعُونَ عطف على ينقضون. ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ «ما» في موضع نصب بيقطعون. والمصدر قطيعة وقطعت الحبل قطعا وقطعت النهر قطوعا وقطعت الطّير قطاعا وقطاعا. إذا خرجت من بلد إلى بلد، وأصاب الناس قطعة إذا قلّت مياههم ورجل به قطع أي انبهار. وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ عطف على يقطعون. أُولئِكَ مبتدأ. هُمُ ابتداء ثان. الْخاسِرُونَ خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول، إن شئت كانت هم زائدة والخاسرون الخبر. [سورة البقرة (2) : آية 28] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ... كَيْفَ اسم في موضع نصب وهي مبنية على الفتح، وكان سبيلها أن تكون ساكنة لأن فيها موضع الاستفهام فأشبهت الحروف واختير لها الفتح من أجل الياء. تَكْفُرُونَ فعل مستقبل بِاللَّهِ خفض بالباء. وَكُنْتُمْ أَمْواتاً التقدير وقد كنتم أمواتا ثم حذفت قد. أَمْواتاً خبر كنتم فَأَحْياكُمْ الكاف والميم في موضع نصب بالفعل وكذا. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فعل مستقبل. [سورة البقرة (2) : آية 29] هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ابتداء وخبر. ما في موضع نصب. جَمِيعاً عند سيبويه» نصب على الحال. ثُمَّ اسْتَوى أهل الحجاز يفخّمون وأهل نجد يميلون ليدلّوا على أنه من ذوات الياء. إِلَى السَّماءِ خفض بإلى. فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ قال محمد بن الوليد: سبع منصوب على أنه بدل من الهاء والنون أي فسوّى سبع سموات، قال أبو جعفر: يجوز عندي أن يكون فسوّى منهن كما قال جلّ وعزّ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ

_ (1) الشاهد للقطامي في ديوانه 37، وتذكرة النحاة 456، وخزانة الأدب 8/ 136، وشرح التصريح 2/ 64، وشرح شواهد المغني 2/ 849، وشرح عمدة الحافظ 695، ومعاهد التنصيص 1/ 179، والمقاصد النحوية 3/ 505، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 411، وأوضح المسالك 3/ 211، والدرر 5/ 262، وشرح الأشموني 2/ 336، وشرح شذور الذهب 528 وشرح ابن عقيل 414. (2) انظر الكتاب: 1/ 445، والبحر المحيط 1/ 282.

[سورة البقرة (2) : آية 30]

[الأعراف: 155] أي من قومه. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ مبتدأ وخبر. [سورة البقرة (2) : آية 30] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ قال أبو عبيدة «1» : إِذْ اسم، وهو ظرف زمان ليس مما يزاد. قال أبو إسحاق «2» ذكر الله عزّ وجلّ خلق الناس وغيرهم فالتقدير: ابتدأ خلقهم «إذ قال ربّك» . لِلْمَلائِكَةِ خفض باللّام والهاء لتأنيث الجماعة. إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ الياء في موضع نصب جاعل خبر إنّ. والأصل إنني حذفت النون لاجتماع نونين فِي الْأَرْضِ خفض بفي. خَلِيفَةً نصب بجاعل، ولا يجوز حذف التنوين للفصل ولو وليه المفعول لجاز حذف التنوين. «خليفة» يكون بمعنى فاعل أي يخلف من كان قبله من الملائكة في الأرض أو من كان قبله من غير الملائكة كما روي ويجوز أن يكون «خليفة» بمعنى مفعول أي يخلف كما يقال ذبيحة بمعنى مفعولة. قالُوا أَتَجْعَلُ فقل مستقبل. فِيها مَنْ يُفْسِدُ في موضع نصب بتجعل والمفعول الثاني يقوم مقامه «فيها» «يفسد» على اللفظ، ويجوز في غير القرآن يفسدون على المعنى. وَيَسْفِكُ «3» عطف عليه، وروي عن الأعرج وَيَسْفِكُ الدِّماءَ «4» بالنصب يجعله جواب الاستفهام بالواو. وواحد الدماء دم ولا يكون اسم على حرفين إلا وقد حذف منه والمحذوف منه ياء وقد نطق به على الأصل قال الشاعر: [الوافر] 13- فلو أنّا على حجر ذبحنا ... جرى الدّميان بالخبر اليقين «5» وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ لا يجوز إدغام النون في النون لئلّا يلتقي ساكنان. قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ من حرّك الياء فقال «إنّي اعلم ما» كره أن يكون اسم على حرف واحد ساكنا، ومن أسكنها قال: قد اتّصلت بما قبلها (أعلم) فعل مستقبل، ويجوز أن يكون

_ (1) انظر مجاز القرآن 1/ 36، والبحر المحيط 1/ 284. (2) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 30. (3) هذه قراءة الجمهور، انظر البحر المحيط 1/ 290. (4) هذه قراءة ابن هرمز، انظر البحر المحيط 1/ 290. (5) الشاهد للمثقّب العبدي في ملحق ديوانه ص 283، والأزهية 141، والمقاصد النحوية 1/ 192، ولعلي بن بدال في أمالي الزجاجي ص 20 وخزانة الأدب 1/ 267، وشرح شواهد الشافية ص 112، وللمثقب أو لعلي بن بدال في خزانة الأدب 7/ 482، وبلا نسبة في الإنصاف 1/ 357، وجمهرة اللغة ص 286، ورصف المباني ص 242، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 395، وشرح الأشموني 3/ 669، وشرح شافية ابن الحاجب 2/ 64، وشرح شواهد الإيضاح ص 281، وشرح المفصل 4/ 151، والمقتضب 1/ 231، والمقرّب 2/ 44.

[سورة البقرة (2) : آية 31]

اسما بمعنى فاعل كما يقال: الله أكبر بمعنى كبير، وكما قال: [الطويل] 14- لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل ... على أيّنا تغدو المنيّة أوّل «1» ويجوز إدغام الميم في الميم، و «ما» في موضع نصب بأعلم إذا جعلته فعلا وإن جعلته اسما جاز أن يكون «ما» في موضع خفض بالإضافة وفي موضع نصب وتحذف التنوين لأنه لا ينصرف. [سورة البقرة (2) : آية 31] وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها آدَمَ والْأَسْماءَ مفعولان لعلّم. وآدم لا ينصرف في المعرفة بإجماع النحويين لأنه على أفعل وهو معرفة، ولا يمتنع شيء من الصرف عند البصريين إلّا بعلّتين فإن نكّرت آدم وليس بنعت لم يصرفه الخليل وسيبويه «2» وصرفه الأخفش سعيد لأنه إنّما منعه من الصرف لأنه كان نعتا وهو على وزن الفعل فإذا لم يكن نعتا صرفه. قال أبو إسحاق «3» : القول قول سيبويه لا يفرق بين النعت وغيره لأنه هو ذاك بعينه، وجمع آدم إذا كان صفة أدم فإن لم يكن نعتا فجمعه آدمون وأوادم وهكذا الباب كله. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا «عرضهم» في الكتاب الذي قبل هذا. فَقالَ أَنْبِئُونِي ألف قطع لأنها من أنبأ ينبئ فإن خفّفت الهمزة قلت أنبئوني بين بين فإن جعلتها مبدلة قلت أنبوني مثل أعطوني. بِأَسْماءِ هؤُلاءِ «بأسماء» : مخفوض بالباء و «هؤلاء» في موضع مخفوض بالإضافة إلّا أنه مبني على الكسر لالتقاء الساكنين وهو مبني مثل هذا وفيه وجوه إذا مددته وإن شئت خفّفت الهمزة الثانية وحققت الأولى. وهو أجود الوجوه عند الخليل وسيبويه. وهي قراءة نافع فقلت هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ولا يجوز غير هذا في قول من خفّف الثانية، والدليل على هذا أنّهم أجمعوا على القراءة في قوله جلّ وعزّ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 22] على وجه واحد عن نافع ولا فرق بينهما، وإن شئت خفّفت الأولى وحقّقت الثانية فقلت: هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ، وإن شئت حقّقتهما جميعا فقلت «هؤلاء ان» ، وإن شئت خفّفتهما، وإن شئت

_ (1) الشاهد لمعن بن أوس في ديوانه ص 39، وخزانة الأدب 8/ 244، وشرح التصريح 2/ 51، ولسان العرب (كبر) و (وجل) ، والمقاصد النحوية 3/ 493، وتاج العروس (وجل) ، بلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 140، وأوضح المسالك: 161، وجمهرة اللغة ص 493، وخزانة الأدب 6/ 505، وشرح الأشموني 2/ 322، وشرح شذور الذهب 133، وشرح قطر الندى ص 23، وشرح المفصل 4/ 87، والمقتضب 3/ 246، والمنصف 3/ 135. (2) انظر الكتاب 3/ 217، والبحر المحيط 1/ 295. [.....] (3) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 77.

[سورة البقرة (2) : آية 32]

خفّفت «1» الأولى فقلت «هؤلاء إن كنتم صادقين» وهو مذهب أبي عمرو بن العلاء في الهمزتين إذا اتفقتا. وتميم وبعض أسد وقيس يقصرون «هؤلا» فعلى لغتهم «هاؤلا إن كنتم» وقال الأعشى: [الخفيف] 15- هؤلا ثمّ هؤلا كلّا أعطيت ... نعالا محذوّة بمثال «2» ومن العرب من يقول: «هؤلا» فيحذف الألف والهمزة، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ: «كنتم» في موضع جزم بالشرط وما قبله في موضع جوابه عند سيبويه «3» ، وعند أبي العباس الجواب محذوف، والمعنى إن كنتم صادقين فأنبئوني. قال أبو عبيد: وزعم بعض المفسرين أنّ «إن» بمعنى «إذ» ، وهذا خطأ إنما هي «أن» المفتوحة التي تكون بمعنى «إذ» فأمّا هذه فهي بمعنى الشرط. [سورة البقرة (2) : آية 32] قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالُوا سُبْحانَكَ منصوب على المصدر عند الخليل. وسيبويه «4» ، يؤدي عن معنى نسبّحك سبحانك تسبيحا، وقال الكسائي: هو منصوب لأنه لم يوصف قال: ويكون منصوبا على أنه نداء مضاف. لا عِلْمَ لَنا مثل «لا ريب فيه» ويجوز لا عِلْمَ لَنا يجعل «لا» بمعنى ليس المعنى ليس. إِلَّا ما عَلَّمْتَنا «ما» في موضع رفع كما تقول «لا إلاه إلّا الله» وخبر التبرية كخبر الابتداء، ويجوز النصب إذا تمّ الكلام على أصل الاستثناء. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ «أنت» في موضع نصب توكيدا للكاف. وإن شئت كانت رفعا بالابتداء، والعليم: خبره، والجملة خبر إنّ، وإن شئت كانت فاصلة لا موضع لها، والكوفيون يقولون عماد الألف واللام في موضع رفع. الْحَكِيمُ من نعت العليم. [سورة البقرة (2) : آية 33] قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) قالَ يا آدَمُ نداء مفرد. أَنْبِئْهُمْ «5» : حذفت الضمة من الهمزة لأنه أمر وإن خفّفت الهمزة قلت: أنبيهم كما قلت: ذيب وبير وإن أبدلت منها قلت: أنبهم كما قال زهير: [الطويل]

_ (1) انظر تيسير القراءات للداني ص 62. (2) البيت للأعشى في ديوانه ص 61، وشرح المفصّل 3/ 137، والمقتضب 4/ 278. (3) انظر الكتاب 3/ 78، والبحر المحيط 1/ 296. (4) انظر الكتاب 1/ 413. (5) انظر البحر المحيط 1/ 298.

[سورة البقرة (2) : آية 34]

16- جريء متى يظلم يعاقب بظلمه ... سريعا وإن لا يبد بالظّلم يظلم «1» بِأَسْمائِهِمْ خفض بالباء. فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ وإن خففت جعلتها بين الهمزة والألف، وإن أبدلت قلت «أنباهم» بألف خالصة. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ الأصل: أقول ألقيت حركة الواو على القاف فانضمّت القاف وحذفت الواو لسكونها وسكون اللام وأسكنت اللام للجزم. إِنِّي كسرت الألف لأن ما بعد القول مبتدأ، وزعم سيبويه «2» أن من العرب من يجري القول مجرى الظن وهي حكاية أبي الخطاب فعلى هذا «أني أعلم» . قال الكسائي: رأيت العرب إذا لقيت الياء همزة، استحبوا الفتح فيقولون: «إنّي أعلم» ويجوز اعلم لأنه من علم. غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ نصب بأعلم وكذا ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ عطف عليه. [سورة البقرة (2) : آية 34] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ خفض باللّام الزائدة. اسْجُدُوا أمر فلذلك حذفت منه النون وضممت الهمزة إذا ابتدأتها لأنه من يسجد. وروي عن أبي جعفر أنه قرأ للملائكة اسجدوا «3» وهذا لحن لا يجوز، وأحسن ما قيل فيه ما روي عن محمد بن يزيد قال: أحسب أنّ أبا جعفر كان يخفض ثمّ يشمّ الضّمّة ليدلّ على أنّ الابتداء بالضم كما يقرأ وَغِيضَ الْماءُ [هود: 44] فيشير إلى الضّمة ليدلّ على أنه لما لم يسمّ فاعله لِآدَمَ في موضع خفض باللام إلّا أنه لا ينصرف، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ نصب على الاستثناء لا يجوز غيره عند البصريين لأنه موجب، وأجاز الكوفيون «4» الرفع. و «إبليس» اسم أعجمي فلذلك لم ينوّن، وزعم أبو عبيدة «5» أنّه عربي مشتقّ من أبلس إلّا أنه لم ينصرف لأنه لا نظير له. أَبى وَاسْتَكْبَرَ أبى يأبى إباء، وهذا حرف نادر جاء على فعل يفعل ليس فيه حرف من حروف الحلق. قال أبو إسحاق: سمعت إسماعيل بن إسحاق «6» يقول: القول فيه عندي أن الألف مضارعة لحروف الحلق. قال أبو جعفر:

_ (1) الشاهد في ديوانه ص 24، وخزانة الأدب 3/ 17، و 7/ 13، والدرر 1/ 165، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 739، وشرح شواهد الشافية ص 10، وشرح شواهد المغني 1/ 385، والممتع في التصريف 1/ 381، وبلا نسبة في شرح شافية ابن الحاجب 1/ 26، والمقرب 1/ 50، وهمع الهوامع 1/ 52. (2) انظر الكتاب 1/ 178. (3) انظر مختصر ابن خالويه 3، والمحتسب 1/ 71. (4) انظر الإنصاف مسألة 35، والبحر المحيط 1/ 303. (5) انظر اللسان (بلس) ، وتفسير الطبري 1/ 227. (6) إسماعيل بن إسحاق القاضي البصري الفقيه المالكي، صاحب قالون، صنّف في القراءات والحديث، وكان عالما في العربية (ت 282 هـ) . انظر: النشر لابن الجزري 1/ 34، وشذرات الذهب لابن العماد 2/ 177.

[سورة البقرة (2) : آية 35]

ولا أعلم أنّ أبا إسحاق روى عن إسماعيل نحوا غير هذا الحرف. وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ خفض بمن وفتحت النون لالتقاء الساكنين. [سورة البقرة (2) : آية 35] وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ «أنت» : توكيد المضمر، ويجوز في غير القرآن على بعد: قم وزيد. وَكُلا مِنْها حذفت النون لأنه أمر وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال فحذفها شاذ. قال سيبويه «1» : ومن العرب من يقول: أوكل فيتمّ. رَغَداً نعت لمصدر محذوف أي أكلا رغدا. قال ابن كيسان: ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال. حَيْثُ شِئْتُما «حيث» مبنية على الضم لأنها خالفت أخواتها من الظروف في أنها لا تضاف فأشبهت قبل وبعد إذا أفردتا فضمّت. وحكى سيبويه «2» : أنّ من العرب من يفتحها على كل حال. قال الكسائي «3» : الضّمّ لغة قيس وكنانة والفتح لغة بني تميم. قال الكسائي: وبنو أسد يخفضونها في موضع الخفض وينصبونها في موضع النصب. قال سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف: 182] ويضمّ ويفتح ويقال: حوث. وَلا تَقْرَبا نهي فلذلك حذفت النون. هذِهِ الشَّجَرَةَ في موضع نصب بتقربا والهاء في هذه بدل من ياء، الأصل هذي، ولا أعلم في العربية هاء تأنيث مكسورا ما قبلها إلّا هاء هذه، ومن العرب من يقول: هاتا هند ومنهم من يقول: هاتي هند. وحكى سيبويه، هذه هند بإسكان الهاء. الشَّجَرَةَ نعت لهذه. فَتَكُونا جواب النهي منصوب على إضمار «أن» عند الخليل وسيبويه «4» ، وزعم الجرميّ: أنّ الفاء هي الناصبة، ويجوز أن يكون «فتكونا» جزما عطفا على تقربا. [سورة البقرة (2) : آية 36] فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَأَزَلَّهُمَا من أزللته فزلّ، وفأزالها من أزلته فزال. الشَّيْطانُ رفع بفعله. وَقُلْنَا اهْبِطُوا حذفت الألف من اهبطوا لأنها ألف وصل وحذفت الألف من قلنا في اللفظ لسكونها وسكون الهاء بعدها. بَعْضُكُمْ مبتدأ. عَدُوٌّ خبره والجملة في موضع نصب على الحال، والتقدير وهذه حالكم وحذفت الواو لأن في الكلام عائدا كما يقال:

_ (1) انظر الكتاب 4/ 341. (2) انظر الكتاب 1/ 42. [.....] (3) انظر البحر المحيط 1/ 306. (4) انظر الكتاب 3/ 27، ومعاني الفراء 1/ 26، والبحر المحيط 1/ 310.

[سورة البقرة (2) : آية 37]

رأيتك السّماء تمطر عليك، ويقال: كيف قال «عدوّ» ولم يقل: أعداء؟ ففي هذا جوابان: أحدهما أنّ بعضا وكلّا يخبر عنهما بالواحد وذلك في القرآن قال الله جلّ وعزّ: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ [مريم: 95] وقال: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل: 87] والجواب الآخر أنّ عدوّا يفرد في موضع الجمع. قال الله جلّ وعزّ: وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ [الكهف: 50] بمعنى أعداء وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ مرفوع بالابتداء. وَمَتاعٌ عطف عليه. [سورة البقرة (2) : آية 37] فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) فَتَلَقَّى آدَمُ رفع بفعله. كَلِماتٍ نصب بالفعل، وقرأ الأعمش: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ مدغما. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «هو» : رفع بالابتداء و «التواب» خبره والجملة خبر إنّ، ويجوز أن يكون هو توكيدا للهاء، ويجوز أن يكون فاصلة، وحكى أبو حاتم: أنّ أبا عمرو وعيسى وطلحة قرءوا إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ مدغما وإنّ ذلك لا يجوز لأن بين الهاءين واوا في اللفظ لا في الخط. قال أبو جعفر: أجاز سيبويه أن تحذف هذه الواو وأنشد: [الوافر] 17- له زجل كأنّه صوت حاد ... إذا طلب الوسيقة أو زمير «1» فعلى هذا يجوز الإدغام. [سورة البقرة (2) : آية 38] قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً نصب على الحال، وزعم الفراء «2» أنه يقال: إنّما خوطب بهذا آدم صلّى الله عليه وسلّم وإبليس بعينه ويعني ذرّيته فكأنه خاطبهم كما قال: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] أي أتينا بما فينا، وقال غير الفراء: يكون مخاطبة لآدم عليه السلام وحواء والحية، ويجوز أن يكون لآدم وحواء لأن الاثنين جماعة، ويجوز أن يكون إبليس ضمّ إليهما في المخاطبة. فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ «ما» زائدة، والكوفيون يقولون صلة، والبصريون يقولون: فيها معنى التوكيد يَأْتِيَنَّكُمْ في موضع جزم بالشرط والنون مؤكدة وإذا دخلت «ما» شبهت بلام القسم فحسن المجيء بالنون وجواب الشرط الفاء

_ (1) الشاهد للشمّاخ في ديوانه ص 155، والخصائص 1/ 371، والدرر 1/ 181، وشرح أبيات سيبويه 1/ 437 والكتاب 1/ 59، ولسان العرب (ها) ، وبلا نسبة في الإنصاف 2/ 561، والأشباه والنظائر 2/ 379، وخزانة الأدب 2/ 388، 5/ 270، 271، ولسان العرب (زجل) ، والمقتضب 1/ 267، وهمع الهوامع 1/ 59. (2) انظر معاني الفراء 1/ 31.

[سورة البقرة (2) : آية 39]

في قوله: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ و «من» في موضع رفع و «تبع» في موضع جزم بالشرط فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ جوابه، وقال الكسائي في «فلا خوف عليهم» جواب الشرطين جميعا، وقرأ عاصم الجحدري وعيسى وابن أبي إسحاق فمن تبع هديّ «1» قال أبو زيد: هذه لغة هذيل يقولون: هديّ وعصيّ وأنشد النحويون: [الكامل] 18- سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم ... فتخرّموا ولكلّ جنب مصرع «2» قال أبو جعفر: العلّة في هذا عند الخليل وسيبويه «3» وهذا معنى قولهما- أنّ سبيل ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها فلما لم يجز أن تتحرك الألف جعل قبلها ياء عوضا من التغيير. وقرأ الحسن وعيسى وابن أبي إسحاق فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ والاختيار عند النحويين الرفع والتنوين لأن الثاني معرفة لا يكون فيه إلّا الرفع فاختاروا في الأول الرفع أيضا ليكون الكلام من وجه واحد. [سورة البقرة (2) : آية 39] وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) وَالَّذِينَ رفع بالابتداء. كَفَرُوا من صلته. وَكَذَّبُوا عطف على كفروا. بِآياتِنا خفض بالباء. أُولئِكَ مبتدأ. أَصْحابُ النَّارِ خبره والجملة خبر الذين. وَهُمْ فِيها خالِدُونَ ابتداء وخبر في موضع نصب على الحال. [سورة البقرة (2) : آية 40] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) يا بَنِي نداء مضاف علامة النصب فيه الياء وحذفت منه النون للإضافة، الواحد ابن والأصل فيه بني وقيل فيه بنو ولو لم يحذف منه لقيل بنا كما يقال: عصا فمن قال: المحذوف منه واو احتجّ بقولهم: البنوّة وهذا لا حجّة فيه لأنهم قد قالوا الفتوّة. قال أبو جعفر: سمعت أبا إسحاق يقول: المحذوف منه عندي ياء كأنه من بنيت. إِسْرائِيلَ «4» في موضع خفض إلّا أنه لا ينصرف لعجومته ويقال: إسرائل بغير ياء وبهمزة مكسورة ويقال اسراأل بهمزة مفتوحة، وتميم يقولون: اسرائين بالنون. اذْكُرُوا حذف النون منه لأنه أمر وحذفت الألف لأنها ألف وصل وضممتها في

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 5، والبحر المحيط 1/ 322. (2) الشاهد لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين 1/ 7، وإنباه الرواة 1/ 52، والدرر 5/ 51، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 700، وشرح شواهد المغني 1/ 262، وشرح قطر الندى ص 191، وشرح المفصّل 3/ 33، وكتاب اللامات ص 98، ولسان العرب (هوا) ، والمحتسب 1/ 76، والمقاصد النحوية 3/ 493، وهمع الهوامع 2/ 53، وبلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 199، وشرح الأشموني 2/ 331، وشرح ابن عقيل ص 408، والمقرب 1/ 217 وكتاب العين 1/ 299. (3) انظر الكتاب 3/ 458. (4) انظر البحر المحيط 1/ 315.

[سورة البقرة (2) : آية 41]

الابتداء لأنه من يذكر نِعْمَتِيَ الَّتِي بتحريك الياء أكثر في كلام العرب إذا لقيها ألف ولام فإن أسكنتها حذفتها لالتقاء الساكنين.. «التي» في موضع نصب نعت لنعمتي. أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ من صلتها. وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أمر أُوفِ بِعَهْدِكُمْ جواب الأمر مجزوم لأن فيه معنى المجازاة، وقرأ الزّهري أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «1» على التكثير، ويقال: وفي بالعهد أيضا، وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وقع الفعل على النون والياء وحذفت الياء لأنه رأس آية، وقرأ ابن أبي إسحاق «فارهبوني» بالياء وكذا فاتّقوني، «وإيّاي» منصوب بإضمار فعل وكذا الاختيار في الأمر والنهي والنفي والاستفهام. [سورة البقرة (2) : آية 41] وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَآمِنُوا عطف. بِما خفض بالباء. أَنْزَلْتُ صلته والعائد محذوف لطول الاسم أي بما أنزلته. مُصَدِّقاً على الحال. لِما خفض باللام. مَعَكُمْ صلة لما. وَلا تَكُونُوا جزم بلا فلذلك حذفت منه النون. أَوَّلَ خبر تكونوا، ولم ينوّنه لأنه مضاف ولو لم يكن مضافا جاز فيه التنوين على أنه اسم ليس بنعت، وجاز الضمّ بغير تنوين على أنه غاية، وجاز ترك التنوين على أنه نعت قال كافِرٍ ولم يقل: كافرين، فيه قولان: زعم الأخفش والفراء «2» أنه محمول على المعنى لأن المعنى أول من كفر به، وحكى سيبويه: هو أظرف الفتيان وأجمله لأنه قد كان يقول كأنه يقول: هو أظرف فتى وأجمله، والقول الآخر أنّ التقدير: ولا تكونوا أول فريق كافر به، والإمالة في كافر لغة تميم، وهي حسنة لأنه مخفوض والراء بمنزلة حرفين وليس فيه حرف مانع والحروف الموانع» الخاء والغين والقاف والصاد والضاد والطاء والظاء. قال أبو جعفر: وفي «أول» من العربية ما يلطف ونحن نشرحه إن شاء الله. «أول» عند سيبويه «4» مما لم ينطق منه بفعل وهو على أفعل عينه وفاؤه واو. وإنما لم ينطق منه بفعل عنده لئلا يعتل من جهتين وهذا مذهب البصريين، وقال الكوفيون: هو من وأل، ويجوز أن يكون من أال فإذا كان من وأل فالأصل فيه أوأل ثم خفّفت الهمزة فقلت: أول كما تخفّف همزة خطيئة فتقول: خطيّة وإن كان من أال فالأصل فيه: أاول ثم أبدلت من الألف واوا لأنه لا ينصرف. [سورة البقرة (2) : آية 42] وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَلا تَلْبِسُوا نهي فلذلك حذفت منه النون. الْحَقَّ مفعول. بِالْباطِلِ خفض

_ (1) انظر المحتسب 1/ 81، والبحر المحيط 1/ 330. (2) انظر معاني الفراء 1/ 32، والبحر المحيط 1/ 332. (3) الحروف الموانع: هي الحروف التي تمنع الإمالة. (4) انظر الكتاب 3/ 219.

[سورة البقرة (2) : آية 43]

بالباء. وَتَكْتُمُوا عطف على تَشْتَرُوا وإن شئت كان جوابا للنهي في موضع نصب على إضمار أن عند البصريين «1» ، والتقدير لا يكن منكم أن تشتروا وتكتموا، والكوفيون «2» يقولون: هو منصوب على الصّرف، وشرحه أنه صرف عن الأداة التي عملت فيما قبله ولم يستأنف فيرفع فلم يبق إلّا النّصب فشبّهت الواو والفاء بكي فنصبت بها كما قال: [الكامل] 19- لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم «3» وَأَنْتُمْ مبتدأ. تَعْلَمُونَ فعل مستقبل في موضع الخبر والجملة في موضع الحال. [سورة البقرة (2) : آية 43] وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) وَأَقِيمُوا أمر، وكذا وَآتُوا وَارْكَعُوا. [سورة البقرة (2) : آية 44] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) أَتَأْمُرُونَ فعل مستقبل. وَتَنْسَوْنَ عطف عليه. أَفَلا تَعْقِلُونَ مثله. [سورة البقرة (2) : آية 45] وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) وَاسْتَعِينُوا أمر. بِالصَّبْرِ خفض بالباء قال أبو جعفر: وقد ذكرنا فيه أقوالا في الكتاب الذي قبل هذا، وأصحّها أن يكون الصبر عن المعاصي ويكون وَالصَّلاةِ مثل قوله وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] ، يقال فلان صابر أي عن المعاصي فإذا صبّر عن المعاصي فقد صبّر على الطاعة وقال جلّ وعزّ: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10] ولا يقال لمن صبر على المصيبة: صابر إنّما يقال: صابر على كذا فإذا قلت: صابر مطلقا فهو على ما ذكرنا، وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ اسم «إنّ» وخبرها، ويجوز في غير القرآن وإنه، ويجوز وإنهما.

_ (1) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 90، والبحر المحيط 1/ 335. (2) انظر معاني الفراء 1/ 33. [.....] (3) الشاهد لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه، ص 44، والأزهية ص 234، وشرح التصريح 2/ 238، وشرح شذور الذهب ص 310، وهمع الهوامع 2/ 13، وللمتوكل الليثي في الأغاني 12/ 156، وحماسة البحتري ص 117، والعقد الفريد 2/ 311، والمؤتلف والمختلف ص 179، ولأبي الأسود أو للمتوكل في اللسان (عظظ) ، ولأحدهما أو للأخطل في شرح شواهد الإيضاح ص 252، ولأبي الأسود أو للأخطل أو للمتوكل الكناني في الدرر 4/ 86، والمقاصد النحوية 4/ 393، وللأخطل في الردّ على النحاة ص 127، وشرح المفصل 2447، ولحسان بن ثابت في شرح أبيات سيبويه 2/ 188، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 6/ 294، وأمالي ابن الحاجب 2/ 864، وأوضح المسالك 4/ 181، ورصف المباني 424.

[سورة البقرة (2) : آية 46]

[سورة البقرة (2) : آية 46] الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) الَّذِينَ في موضع خفض على النعت للخاشعين. يَظُنُّونَ فعل مستقبل، وفتحت «أنّ» بالظن واسمها الهاء والميم والخبر. مُلاقُوا والأصل ملاقون لأنه بمعنى تلاقون حذفت النون تخفيفا، وَأَنَّهُمْ عطف على الأول، ويجوز «وأنّهم» بقطعه مما قبله. [سورة البقرة (2) : آية 48] وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) يَوْماً منصوب باتّقوا، ويجوز في غير القرآن «يوم لا تجزي» على الإضافة. وفي الكلام حذف بين النحويين فيه اختلاف قال البصريون «1» : التقدير يوما لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا، ثم حذف «فيه» قال الكسائي «2» : هذا خطأ لا يجوز «فيه» ولو جاز هذا لجاز: الذي تكلمت زيد، بمعنى تكلمت فيه، قال: ولكن التقدير واتقوا يوما لا تجزيه نفس، ثم حذف الهاء، وقال الفراء «3» : يجوز أن تحذف «فيه» وأن تحذف الهاء، قال أبو جعفر: الذي قاله الكسائي لا يلزم لأن الظروف يحذف منها ولا يحذف من غيرها. تقول: تكلّمت في اليوم وكلمت وتكلّمت اليوم. هذا احتجاج البصريين. فأما الفراء فردّ على الكسائي بأن قال: فإذا قلت: كلّمت زيدا وتكلّمت في زيد، فالمعنيان مختلفان فلهذا لم يجز الحذف فينقلب المعنى والفائدة في الظروف واحدة، وهذه الجملة في موضع نصب عند البصريين على نعت لليوم، ولهذا وجب أن يعود عليه ضمير، وعند الكوفيين صلة، وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ ويجوز «تقبل» «4» بالتاء لأنّ الشفاعة مؤنّثة وإنّما حسن تذكيرها لأنها بمعنى التّشفّع كما قال: [الكامل] 20- إنّ السّماحة والمروءة ضمّنا ... قبرا بمرو على الطريق الواضح «5» وقال الأخفش: حسن التذكير لأنك قد فرقت. قال سيبويه «6» : وكلّما طال الكلام فهو أحسن وهو في الموات أكثر فرقوا بين الحيوان والموات كما فرّقوا بين الآدميّين

_ (1) انظر البحر المحيط 1/ 347، وإعراب القرآن ومعانيه للزجاج 94. (2) انظر معاني الفراء 1/ 32، والبحر المحيط 1/ 347. (3) انظر معاني الفراء 1/ 32. (4) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 95، والبحر المحيط 1/ 348، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو. (5) الشاهد لزياد الأعجم في ديوانه ص 54، والأغاني 15/ 308، وأمالي المرتضى 1/ 72، وسمط اللآلي ص 921، والشعر والشعراء 1/ 438، والمقاصد النحوية 2/ 502، وللصلتان العبدي في أمالي المرتضى 2/ 199، وبلا نسبة في الإنصاف 2/ 763، وشرح شذور الذهب ص 220. (6) انظر الكتاب 2/ 34.

[سورة البقرة (2) : آية 49]

وغيرهم في الجمع. شَفاعَةٌ اسم ما لم يسمّ فاعله وكذا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ابتداء وخبر. [سورة البقرة (2) : آية 49] وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ «إذ» في موضع نصب عطفا على «اذكروا نعمتي» . مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ قال الكسائي: إنّما يقال: آل فلان وآل فلانة، ولا يقال في البلدان لا يقال: هو من آل حمص ولا من آل المدينة، قال: إنّما يقال في الرئيس الأعظم نحو محمد عليه السلام أهل دينه وأتباعه، وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة، قال: وقد سمعناه في البلدان قالوا: أهل المدينة وآل المدينة، قال أبو الحسن بن كيسان: إذا جمعت آلا قلت: آلون فإن جمعت آلا الذي هو بمنزلة السراب قلت: أوآل مثل مال وأموال. قال أبو جعفر: الأصل في آل أهل ثم أبدل من الهاء ألف فإن صغّرت رددته إلى أصله فقلت أهيل. فِرْعَوْنَ في موضع خفض إلّا أنه لا ينصرف لعجمته. قال الأخفش: يَسُومُونَكُمْ في موضع رفع على الابتداء، وإن شئت كان في موضع نصب على الحال أي سائمين لكم. قرأ ابن محيصن يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ «1» والتشديد أبلغ لأن فيه معنى التكثير. وَيَسْتَحْيُونَ عطف. وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ رفع بالابتداء. عَظِيمٌ من نعته. [سورة البقرة (2) : آية 50] وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ فَرَقْنا في موضع نصب، وحكى الأخفش فَرَقْنا «2» ، الْبَحْرَ مفعول. [سورة البقرة (2) : آية 51] وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر «3» وشيبة وإذا وعدنا «4» بغير ألف وهو اختيار أبي عبيد وأنكر «واعدنا» قال: لأن المواعدة إنما تكون من البشر، فأما الله جلّ وعزّ فإنما هو المنفرد بالوعد والوعيد. على هذا وجدنا القرآن كقوله: وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ [إبراهيم: 22] وقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الفتح: 29] وقوله: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [الأنفال: 7] . قال أبو جعفر: قد ذكرنا قول أبي إسحاق «5» في الكتاب الذي قبل هذا. وكلام أبي عبيد

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه (5) ، والبحر المحيط 1/ 351. (2) انظر مختصر ابن خالويه (5) ، والمحتسب 1/ 82. (3) أبو جعفر: يزيد القعقاع المخزومي المدني أحد القراء العشرة، تابعي، عرض على ابن عباس وغيره، وروى القراءة عن نافع (ت 130 هـ) ترجمة في غاية النهاية 2/ 382. (4) انظر البحر المحيط 1/ 352. (5) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 100، والبحر المحيط 1/ 357.

[سورة البقرة (2) : آية 52]

هذا غلط بيّن لأنه أدخل بابا في باب وأنكر ما هو أحسن وأجود و «واعدنا» أحسن وهي قراءة مجاهد والأعرج وابن كثير ونافع والأعمش وحمزة والكسائي، وليس قوله سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة: 9] من هذا في شيء، لأن «واعدنا موسى» إنما هو من باب الموافاة وليس هو من الوعد والوعيد في شيء وإنما هو من قول: موعدك يوم الجمعة، وموعدك موضع كذا، والفصيح في هذا أن يقال: واعدته. مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مفعولان. قال الأخفش: التقدير وإذ واعدنا موسى تمام أربعين ليلة ثم حذف كما قال: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ بالإدغام، وإن شئت أظهرت لأن الذال مجهورة والتاء مهموسة فالإظهار حسن، وإنّما جاز الإدغام لأن الثاني بمنزلة المنفصل.. «العجل» : مفعول أول والمفعول الثاني محذوف. [سورة البقرة (2) : آية 52] ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) ثُمَّ عَفَوْنا «ثم» : تدلّ على أن الثاني بعد الأول ومع ذلك تراخ، وموضع النون والألف رفع بالفعل. [سورة البقرة (2) : آية 53] وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ آتَيْنا بمعنى أعطينا. مُوسَى الْكِتابَ مفعولان. وَالْفُرْقانَ عطف على الكتاب. قال الفراء: وقطرب «1» : يكون وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التّوراة، ومحمدا صلّى الله عليه وسلّم الفرقان. قال أبو جعفر: هذا خطأ في الإعراب والمعنى، أما الإعراب فإن المعطوف على الشيء مثله وعلى هذا القول يكون المعطوف على الشيء خلافه، وأما المعنى فقد قال فيه جلّ وعزّ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ [الأنبياء: 48] . قال أبو إسحاق «2» : يكون الفرقان هذا الكتاب أعيد ذكره وهذا أيضا بعيد إنما يجيء في الشعر كما قال: [الوافر] 21- وألفى قولها كذبا ومينا «3» وأحسن ما قيل في هذا قول مجاهد: فرقانا بين الحق والباطل الذي علّمه إيّاه. [سورة البقرة (2) : آية 54] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)

_ (1) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 101. (2) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 101. [.....] (3) الشاهد لعدي بن زيد في ذيل ديوانه ص 183، والأشباه والنظائر 3/ 213، وجمهرة اللغة 993، والدرر 6/ 73، وشرح شواهد المغني 2/ 776، والشعر والشعراء 1/ 233، ولسان العرب (مين) ، ومعاهد التنصيص 1/ 310، وبلا نسبة في مغني اللبيب 1/ 357، وهمع الهوامع 2/ 129، وصدره: «وقدّدت الأديم لراهشيه»

[سورة البقرة (2) : آية 55]

وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ حذفت الياء لأن النداء موضع حذف والكسرة تدلّ عليها وهي بمنزلة التنوين فحذفتها كما تحذف التنوين من المفرد، ويجوز في غير القرآن إثباتها ساكنة فتقول: «يا قومي» لأنها اسم وهي في موضع خفض، وإن شئت فتحتها، وإن شئت ألحقت معها هاء فقلت: يا قوميه. وإن شئت أبدلت منها ألفا لأنها أخفّ فقلت: يا قوما، وإن شئت قلت: يا قوم بمعنى يا أيّها القوم، وإن جعلتهم نكرة نصبت ونونت. إِنَّكُمْ كسرت إنّ لأنها بعد القول فهي مبتدأة، ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ استغني بالجمع القليل عن الكثير والكثير نفوس بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ مفعول أي بأن اتخذتم العجل والكاف والميم في موضع خفض بالإضافة وهما في التأويل في موضع رفع. فَتُوبُوا أمر. إِلى بارِئِكُمْ خفض بإلى، وروي عن أبي عمرو بإسكان الهمزة من بارِئِكُمْ «1» وروى عنه سيبويه باختلاس الحركة. قال أبو جعفر: أما إسكان الهمزة فزعم أبو العباس أنه لحن لا يجوز في كلام ولا شعر لأنها حرف الإعراب، وقد أجاز ذلك النحويون القدماء الأئمة وأنشدوا: [الرجز] 22- إذا اعوججن قلت صاحب قوم «2» ويجوز إِلى بارِئِكُمْ «3» تبدل من الهمزة ياء. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ: الهاء اسم «إنّ» وهو مبتدأ و «التواب» الخبر والجملة خبر إنّ، وإن شئت كانت «هو» زائدة، وإن شئت كانت توكيدا للهاء «والتواب» خبر «إن» و «الرّحيم» من نعته. [سورة البقرة (2) : آية 55] وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) وَإِذْ قُلْتُمْ معطوف. يا مُوسى نداء مفرد. جَهْرَةً مصدر في موضع الحال يقال: رأيت الأمير جهارا أو جهرة. أي غير مستتر بشيء ومنه: فلان يجاهر بالمعاصي أي لا يستتر من الناس. فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ رفع بفعلها. وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ في موضع الحال أي ناظرين. [سورة البقرة (2) : آية 56] ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ موضع النون والألف رفع بالفعل والكاف والميم نصب بالفعل.

_ (1) انظر: إملاء ما منّ به الرّحمن 1/ 37، والتيسير في القراءات للداني 63. (2) الشاهد بلا نسبة في معاني القرآن للفراء 2/ 12، وتفسير الطبري 22/ 146، وشرح شواهد للشنتمري 2/ 297، والكتاب 4/ 318. وتمامه «بالدّوّ أمثال السفين العوّم» . (3) انظر مختصر في شواذ القرآن 5، والبحر المحيط 1/ 364.

[سورة البقرة (2) : آية 57]

[سورة البقرة (2) : آية 57] وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) قال الأخفش سعيد: واحد الْغَمامَ غمامة كسحابة وسحاب. قال الفراء: يجوز غمائم. وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ نصب بوقوع الفعل عليه وَالسَّلْوى عطف ولا يتبيّن فيه الإعراب لأنه مقصور ووجب هذا في المقصور كلّه لأنّه لا يخلو من أن يكون في آخره ألف. قال الخليل: والألف حرف هوائي لا مستقر له فأشبه الحركة فاستحالت حركته، وقال الفراء: لو حرّكت الألف لصارت همزة. قال الأخفش: «المنّ» جمع لا واحد له مثل الخير والشر و «السلوى» لم يسمع له بواحد ولو قيل: على القياس لكان يقال: في واحدة سلوى كما يقال: سماني وشكاعى «1» في الواحد والجميع. كُلُوا أمر، مِنْ طَيِّباتِ خفض بمن، ما رَزَقْناكُمْ خفض بالإضافة. [سورة البقرة (2) : آية 58] وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا حذفت الألف من «قلنا» لسكونها وسكون الدال بعدها والألف التي يبتدأ بها قبل الدال ألف وصل لأنها من يدخل. فَكُلُوا عطف عليه. رَغَداً نعت لمصدر محذوف أي أكلا رغدا، ويجوز أن يكون في موضع الحال. وَادْخُلُوا عطف. سُجَّداً نصب على الحال. وَقُولُوا عطف، حِطَّةٌ على إضمار مبتدأ. قال الأخفش: وقرئت حِطَّةٌ نصبا على أنها بدل من الفعل. قال أبو جعفر: الحديث عن ابن عباس أنهم قيل لهم: «قولوا لا إله إلا الله» وفي حديث آخر عنه قيل لهم: «قولوا مغفرة» تفسير للنصب أي قولوا شيئا يحطّ عنكم ذنوبكم كما تقول: قل خيرا. وحديث ابن مسعود «قالوا حطة» تفسير على الرفع وهو أولى في اللغة والأئمة من القراء على الرفع، وإنما صار أولى في اللغة لما حكي عن العرب في معنى بدّل قال أحمد بن يحيى: يقال: بدّلت الشيء. أي غيّرته ولم أزل عينه وأبدلته أزلت عينه وشخصه كما قال أبو النجم: [الرجز] 23- عزل الأمير المبدل «2» وقال الله جلّ وعزّ: قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس: 15]

_ (1) شكاعي: نبت صغير. (2) الشاهد لأبي النجم في معاني الفراء 2/ 259، وتفسير الطبري 18/ 159، واللسان (بدل) . ومقاييس اللغة 1/ 210، وبلا نسبة في كتاب العين 1/ 357.

[سورة البقرة (2) : آية 59]

[سورة البقرة (2) : آية 59] فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا في موضع رفع بالفعل. قَوْلًا مفعول. غَيْرَ الَّذِي نعت له. وقرأ الأعمش يَفْسُقُونَ «1» بكسر السين يقال: فسق يفسق فهو فاسق عن الشيء إذا خرج عنه، فإذا قلت: فاسق ولم تقل عن كذا فمعناه خارج عن طاعة الله جلّ وعزّ. وفي نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ [البقرة: 58] كلام يغمض من العربية سنشرحه إن شاء الله فمن ذلك قول الخليل «2» رحمه الله: الأصل في جمع خطيئة أن تقول: خطاييء ثم قلب فقيل: خطاءي بهمزة بعدها ياء ثم تبدل من الياء ألفا بدلا لازما فتقول: خطاءى وقد كان هذا البدل يجوز في غير هذا القول: عذارى إلّا أنه زعم هاهنا تخفيفا فلمّا اجتمعت ألفان بينهما همزة والهمزة من جنس الألف صرت كأنك قد جمعت بين ثلاث ألفات فأبدلت من الهمزة ياء فقلت: خطايا. وأمّا سيبويه «3» فمذهبه أنّ الأصل خطايىء مثل الأول ثم وجب عنده أن تهمز الياء كما همزتها في مدائن فتقول: خطائىء ولا تجتمع همزتان في كلمة فأبدلت من الثانية ياء فقلت: خطاءي ثم عملت كما عملت في الأول. وقال الفراء: خطايا جمع خطيّة بلا همز كما تقول: هديّة وهدايا قال: ولو جمعت خطيئة مهموزة لقلت خطاءيء. وقال الكسائي: لو جمعتها مهموزة لأدغمت الهمزة في الهمزة كما قلت دوابّ وقرأ مجاهد تغفر لكم خطاياكم فأنّث على الجماعة وقرأ الحسن وعاصم الجحدري تغفر لكم خطيئتكم والبيّن «نَغْفِرْ لَكُمْ» لأن بعده وَسَنَزِيدُ بالنون وخطاياكم اتباعا للسواد وإنّه على بابه. [سورة البقرة (2) : آية 60] وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذِ اسْتَسْقى كسرت الذال لالتقاء الساكنين و «إذ» غير معربة لأنها بمنزلة «في» أنها اسم لا تتمّ إلّا بما بعدها. فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً «اثنتا» في موضع رفع «فانفجرت» وعلامة الرفع فيها الألف وأعربت دون نظائرها لأن التثنية معربة أبدا لصحة معناها. عَيْناً نصب على البيان وقرأ مجاهد وطلحة وعيسى اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً «4» وهذه لغة بني تميم وهذا من لغتهم نادر لأن سبيلهم التخفيف، ولغة أهل الحجاز

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه (5) . (2) انظر الإنصاف مسألة 116. (3) انظر الكتاب 4/ 33، والإتحاف 84. (4) انظر مختصر ابن خالويه (5) ، والبحر المحيط 1/ 391.

[سورة البقرة (2) : آية 61]

«عشرة» وسبيلهم التثقيل. وَلا تَعْثَوْا نهي فلذلك حذفت منه النون وهو من عثى يعثى. [سورة البقرة (2) : آية 61] وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) وَإِذْ قُلْتُمْ عطف. يا مُوسى نداء مفرد. لَنْ نَصْبِرَ نصب بلن. عَلى طَعامٍ خفض بعلى. واحِدٍ من نعته. فَادْعُ سؤال بمنزلة الأمر، فلذلك حذفت منه الواو ولغة بني عامر «فادع لنا» بكسر العين لالتقاء الساكنين. يُخْرِجْ لَنا جزم لأنه جواب الأمر، وفيه معنى المجازاة. مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ قال الأخفش «1» : «من» زائدة قال أبو جعفر: هذا خطأ على قول سيبويه «2» لأن «من» لا تزاد عنده في الواجب وإنّما دعا الأخفش إلى هذا أنه لم يجد مفعولا ليخرج فأراد أن يجعل ما مفعولا. والأولى أن يكون المفعول محذوفا دلّ عليه سائر الكلام والتقدير: يخرج لنا مما تنبت الأرض مأكولا. مِنْ بَقْلِها بدل بإعادة الحروف. وَقِثَّائِها عطف. وقرأ طلحة ويحيى بن وثّاب. وَقِثَّائِها «3» بضمّ القاف وتقول في جمعها: قثائيّ مثل علباء وعلابيّ. إلّا أنّ قثّاء من ذوات الهمزة يقال: أقثأت القوم. قال أبو جعفر: سمعت علي بن سليمان يقول: لا يصحّ عندي في أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى إلّا أن يكون من ذوات الهمز من قولهم: دنيء بيّن الدناءة، ثم أبدلت الهمزة. قال أبو جعفر: هذا الذي ذكرنا إنما يجوز في الشعر ولا يجوز في الكلام فكيف في كتاب الله جلّ وعزّ. قال أبو إسحاق «4» : هو من الدنو أي الذي هو أقرب من قولهم ثوب مقارب أي قليل الثمن. قال أبو جعفر: وأجود من هذين القولين أن يكون المعنى- والله أعلم- أتستبدلون الذي هو أقرب إليكم في الدنيا بالذي هو خير لكم يوم القيامة لأنهم إذا طلبوا غير ما أمروا بقبوله فقد استبدلوا الذي هو أقرب إليهم في الدنيا مما هو خير لهم لما لهم فيه من الثواب اهْبِطُوا مِصْراً نكرة. هذا أجود الوجوه لأنها في السواد بألف، وقد يجوز أن تصرف تجعل اسما للبلاد وإنما اخترنا الأول لأنه لا يكاد يقال مثل مصر بلاد ولا بلد وإنما

_ (1) انظر البحر المحيط 1/ 394. (2) انظر الكتاب 1/ 73. (3) انظر المحتسب 1/ 87، ومختصر ابن خالويه (6) . (4) انظر إعراب القرآن ومعانيه 112. [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 62]

يقال لها: بلدة. وإنما يستعمل بلاد في مثل بلاد الروم. وقال الكسائي: يجوز أن تصرف مصر وهي معرفة لخفّتها يريد أنها مثل هند. وهذا خطأ على قول الخليل وسيبويه والفراء «1» ، لأنك لو سمّيت امرأة بزيد لم تصرف، وقال الكسائي: يجوز أن تصرف مصر وهي معرفة لأن العرب تصرف كل ما لا ينصرف في الكلام إلا أفعل منك. فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ «ما» نصب بأنّ. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ اسم ما لم يسم فاعله. وَالْمَسْكَنَةُ عطف وقد ذكرنا الهمز في النبيئين «2» في الكتاب الذي قبل هذا. ذلِكَ بِما عَصَوْا قال الأخفش: أي بعصيانهم. وَكانُوا يَعْتَدُونَ عطف عليه. [سورة البقرة (2) : آية 62] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اسم «إنّ» (آمنوا) صلته. وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ عطف كلّه. مَنْ آمَنَ مبتدأ وآمن في موضع جزم بالشرط والفاء الجواب، وخبر المبتدأ. فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ والجملة خبر إنّ والعائد على الذين من الجملة محذوف أي من آمن منهم. وقرأ الحسن البصريّ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ «3» على التبرئة والرفع على الابتداء أجود، ويجوز أن تجعل «لا» بمعنى ليس، فأمّا وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فلا يكون إلّا بالابتداء لأن «لا» لا تعمل في معرفة. [سورة البقرة (2) : آية 63] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ قال الأخفش: أي واذكروا إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ أي فقلنا خذوا ما آتيناكم. [سورة البقرة (2) : آية 64] ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ رفع بالابتداء عند سيبويه «4» والخبر محذوف لا يجوز عنده إظهاره لأن العرب استغنت عن إظهاره بأنهم إذا أرادوا ذلك جاءوا بأنّ فإذا جاءوا بها لم يحذفوا الخبر، والتقدير فلولا فضل الله تدارككم. وَرَحْمَتُهُ عطف على فضل. لَكُنْتُمْ جواب لولا. مِنَ الْخاسِرِينَ خبر كنتم. [سورة البقرة (2) : آية 65] وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ في موضع نصب ولا يحتاج إلى مفعول ثان إذا كانت علمتم

_ (1) ومعاني الفراء 1/ 42. (2) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 113. (3) انظر البحر المحيط 1/ 405. (4) انظر الكتاب 2/ 128.

[سورة البقرة (2) : آية 66]

بمعنى عرفتم. حكى الأخفش: لقد علمت زيدا ولم أكن أعلمه. اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ صلة الذين فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خبر كان. خاسِئِينَ نعت. [سورة البقرة (2) : آية 66] فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) فَجَعَلْناها نَكالًا مفعول ثان. لِما بَيْنَ ظرف. وَما خَلْفَها عطف. وَمَوْعِظَةً عطف على «نكالا» . لِلْمُتَّقِينَ خفض باللام. [سورة البقرة (2) : آية 67] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ كسرت إنّ لأنها بعد القول وحكي عن أبي عمرو ويَأْمُرُكُمْ حذف الضمة من الراء لثقلها، قال أبو العباس: لا يجوز هذا لأن الراء حرف الإعراب وإنما الصحيح عن أبي عمرو أنه كان يختلس الحركة، أَنْ تَذْبَحُوا في موضع نصب بيأمركم أي بأن تذبحوا، بَقَرَةً نصب بتذبحوا قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً مفعولان، ويجوز تخفيف الهمزة تجعلها بين الواو والهمزة ويجوز حذف الضّمّة من الزاي كما تحذفها من عضد فتقول هُزُواً «1» كما قرأ أهل الكوفة، فأما جزء فليس مثل هزء لأنه على فعل من الأصل. قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ولغة تميم وأسد «عن» في موضع «أن» . [سورة البقرة (2) : آية 68] قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ حذفت الواو لأنه طلب، ولغة بني عامر «ادع لنا» بكسر العين لالتقاء الساكنين. يُبَيِّنْ لَنا تدغم النون في اللام، وإن شئت أظهرت فإذا كانت النون متحركة كان الاختيار الإظهار نحو وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ [الأنعام: 43] ، (يبيّن) : جزم لأنه جواب الأمر، ما هِيَ ابتداء وخبر. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ خبر إنّ. لا فارِضٌ قال الأخفش: لا يجوز نصب فارض لأنه نعت للبقرة كما تقول: مررت برجل لا قائم ولا جالس، ويجوز أن يكون التقدير ولا هي فارض، ويقال على هذا: مررت برجل لا قائم ولا جالس. وَلا بِكْرٌ عطف على فارض. عَوانٌ على إضمار مبتدأ. [سورة البقرة (2) : آية 69] قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) ما لَوْنُها ابتداء وخبره، ويجوز «ما لونها» على أن تكون ما زائدة وتنصبه

_ (1) انظر البحر المحيط 1/ 415.

[سورة البقرة (2) : آية 70]

بيبيّن. بَقَرَةٌ صَفْراءُ لم تنصرف صفراء لأنّ فيها ألف التأنيث وهي ملازمة فخالفت الهاء لأن ما فيه الهاء ينصرف في النكرة. فاقِعٌ نعت. لَوْنُها رفع بفاقع. [سورة البقرة (2) : آية 70] قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا ذكر البقر لأنه بمعنى الجميع. قال الأصمعي: الباقر جمع باقرة قال: ويجمع بقر على باقورة، وقرأ الحسن إنّ البقر تشّابه علينا «1» جعله فعلا مستقبلا وأنّثه والأصل تتشابه ثم أدغم التاء في الشين، وقرأ يحيى بن يعمر إن الباقر يشّابه علينا جعله فعلا مستقبلا وذكر الباقر وأدغم، ويجوز إنّ البقر تشابه علينا بتخفيف الشين وضم الهاء ولا يجوز يشابه علينا بتخفيف الشين وبالياء، وإنما جاز في التاء لأن الأصل تتشابه فحذفت لاجتماع التاءين. وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ خبر إنّ و «شاء» في موضع جزم بالشرط وجوابه عند سيبويه الجملة وعند أبي العباس محذوف. [سورة البقرة (2) : آية 71] قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) قال الأخفش: «لا ذلول» نعت ولا يجوز نصبه. قال أبو جعفر: يجوز أن يكون التقدير لا هي ذلول، وقد قرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي «2» لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وهو جائز على إضمار خبر النفي. تُثِيرُ الْأَرْضَ متصل بالأول على هذا المعنى أي لا تثير الأرض. وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ وزعم علي ابن سليمان أنه لا يجوز أن يكون تثير مستأنفا لأن بعده «ولا تسقي الحرث» فلو كان مستأنفا لما جمع بين الواو و «لا» . مُسَلَّمَةٌ أي هي مسلّمة ويجوز أن يكون «مسلّمة» نعتا أي إنها بقرة مسلمة من العرج وسائر العيوب ولا يقال: مسلمة من العمل لأنه لا يصلح سالمة مما هو خير لها. لا شِيَةَ فِيها الأصل وشية حذفت الواو كما حذفت من يشي والأصل يوشي. قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فيه أربعة أوجه «3» : الهمز كما قرأ الكوفيون قالُوا الْآنَ وتخفيف الهمزة مع حذف الواو لالتقاء الساكنين كما قرأ أهل المدينة قالُوا الْآنَ «4» وحكى الأخفش «5» وجهين آخرين: أحدهما إثبات الواو مع تخفيف الهمزة، قالوا لآن جئت بالحقّ أثبت الواو لأن اللام قد تحرّكت بحركة الهمزة ونظير هذا وأنه أهلك عادا لولا [النجم: 50]

_ (1) انظر تفسير الطبري 1/ 350. (2) أبو عبد الرّحمن السلميّ: عبد الله بن حبيب مقرئ الكوفة. إليه انتهت القراءة تجويدا وضبطا، أخذ القراءة عن علي بن أبي طالب وعثمان وابن مسعود (ت 74 هـ) . وترجمته في غاية النهاية 1/ 341. (3) انظر إملاء ما منّ به الرّحمن 1/ 43، 44، والبحر المحيط 1/ 422. (4) انظر البحر المحيط 1/ 422. (5) انظر إعراب القرآن ومعاوية للزجاج 122.

[سورة البقرة (2) : آية 72]

على قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وقال أبو جعفر: سمعت محمد بن الوليد يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: ما علمت أنّ أبا عمرو بن العلاء لحن في صميم العربية إلّا في حرفين أحدهما «عادا لولا» والآخر يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75] وإنّما صار لحنا لأنّه أدغم حرفا في حرف فأسكن الأول والثاني حكمه السكون وإنّما حركته عارضة فكأنه جمع بين ساكنين وحكى الأخفش قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فقطع الألف الأولى وهي ألف وصل كما يقال يا الله. قال أبو إسحاق «1» : الآن مبنيّ على الفتح وفيها الألف واللام لأن الألف واللام دخلت لغير عهد تقول: كنت إلى الآن هاهنا فالمعنى إلى هذا الوقت فبنيت كما بني هذا وفتحت النون لالتقاء الساكنين. فَذَبَحُوها الهاء والألف نصب بالفعل والاسم الهاء ولا تحذف الألف لخفّتها وللفرق بين المذكر والمؤنث، وَما كادُوا يَفْعَلُونَ فعل مستقبل وأجاز سيبويه «2» : كاد أن يفعل تشبيها بعسى. [سورة البقرة (2) : آية 72] وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً «إذ» ظرف معطوفة على ما قبلها. فَادَّارَأْتُمْ الأصل تدارأتم ثم أدغمت التاء في الدال ولم يجز أن تبتدئ بالمدغم لأنه ساكن فزدت ألف الوصل، وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ «ما» في موضع نصب بمخرج ويجوز حذف التنوين على الإضافة. [سورة البقرة (2) : آية 73] فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى موضع الكاف نصب لأنها نعت لمصدر محذوف ولا يجوز أن تدغم الياء في الياء من «يحيي» لئلا يلتقي ساكنان. [سورة البقرة (2) : آية 74] ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ تقول: قسا فإذا زدت التاء حذفت الألف لالتقاء الساكنين. قُلُوبُكُمْ مرفوعة بقست. فَهِيَ كَالْحِجارَةِ والكاف في موضع رفع على خبر هي. أَوْ أَشَدُّ عطف على الكاف ويجوز أن «أشدّ قسوة» تعطفه على الحجارة قَسْوَةً على البيان. وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ «ما» في موضع نصب لأنها اسم إنّ، واللّام للتوكيد

_ (1) انظر إعراب القرآن ومعانيه 122. (2) انظر الكتاب 3/ 10.

[سورة البقرة (2) : آية 75]

منه على لفظ «ما» ، وفي قراءة أبيّ منها على المعنى. قال أبو حاتم: يجوز لما تتفجّر منه الأنهار ولا يجوز لما تشّقّق لأنه إذا قال: تتفجّر أنّثه بتأنيث الأنهار، وهذا لا يكون في تشّقق. قال أبو جعفر: يجوز ما أنكره يحمل على المعنى لأن المعنى وإن منها لحجارة تشقق، وأمّا يشقق بالياء فمحمول على لفظ «ما» وأما الكسائي فيقول: هو مذكّر على تذكير البعض ومثله عنده: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ [النحل: 66] أي مما في بطون بعضه. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ في موضع نصب على لغة أهل الحجاز والباء توكيد. عَمَّا تَعْمَلُونَ أي عن عملكم ولا تحتاج إلى عائد إلّا أن تجعلها بمعنى الذي فتحذف العائد لطول الاسم أي عن الذي تعملونه. [سورة البقرة (2) : آية 75] أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) أَفَتَطْمَعُونَ فعل مستقبل. أَنْ في موضع نصب أي في أن. يُؤْمِنُوا نصب بأن فلذلك حذفت منه النون. وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ قال الخليل «1» : قد للتوقع «فريق» اسم كان والخبر. يَسْمَعُونَ ويجوز أن يكون الخبر منهم ويكون «يسمعون» نعتا لفريق وجمع «فريق» في أدنى العدد: أفرقة والكثير أفرقاء. قال سيبويه «2» : واعلم أنّ ناسا من ربيعة يقولون: «منهم» أتبعوها الكسرة ولم يكن المسكّن حاجزا حصينا عندهم. [سورة البقرة (2) : آية 76] وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) قال أبو جعفر: الأصل في لَقُوا لقيوا، وقد ذكرناه في أول السورة «3» ، والأصل في خَلا خلو قلبت الواو ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها. لِيُحَاجُّوكُمْ نصب بلام كي وإن شئت بإضمار أن وعلامة النصب حذف النون. قال يونس «4» : وناس من العرب يفتحون لام كي. قال الأخفش: لأن الفتح الأصل قال خلف الأحمر «5» : هي لغة بني العنبر.

_ (1) انظر الكتاب 4/ 345. (2) انظر الكتاب 4/ 311. [.....] (3) انظر تفسير الآية 14. (4) يونس بن حبيب أبو عبد الرّحمن الضبي، أخذ عن أبي عمرو، وكان النحو أغلب عليه (ت 183 هـ) . ترجمته في طبقات الزبيدي 48. (5) خلف الأحمر بن حيان بن محرز أبو محرز مولى بلال بن أبي بردة، أحد رواة الغريب (من الحديث) والشعر والعلماء به. توفي في حدود الثمانين ومائة. ترجمته في طبقات الزبيدي 177، ونزهة الألباء 53.

[سورة البقرة (2) : آية 78]

[سورة البقرة (2) : آية 78] وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ رفع بالابتداء، لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ في موضع نصب، إِلَّا أَمانِيَّ نصب لأنه استثناء ليس من الأول، ومثله ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ [النساء: 157] . وقرأ أبو جعفر إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ قال: هذا كما يقال في جمع مفتاح: مفاتح. قال أبو جعفر: الحذف في المعتلّ أكثر كما قال ذو الرمة: [الطويل] 24- وهل يرجع التّسليم أو يكشف العما ... ثلاث الأثافي والرّسوم البلاقع «1» وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ابتداء وخبر. [سورة البقرة (2) : آية 79] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) فَوَيْلٌ مبتدأ قال الأخفش: ويجوز نصبه على إضمار فعل أي ألزمه الله ويلا. [سورة البقرة (2) : آية 80] وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ روى سيبويه «2» عن بعض أصحاب الخليل قال: الأصل في لن «لا أن» . وحكى هشام عن الكسائي مثله وزعم سيبويه أنّ هذا خطأ وأنّ لن عاملة كأن واستدلّ على ذلك بقول العرب: زيدا لن أضرب. قُلْ أَتَّخَذْتُمْ مدغما، وقرأ عاصم أَتَّخَذْتُمْ بغير إدغام لأن الثاني بمنزلة المنفصل فحسن الإظهار. [سورة البقرة (2) : آية 81] بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) بَلى بمنزلة نعم إلّا أنها لا تقع إلّا بعد النفي، وزعم الكوفيون «3» أنها «بل» زيدت عليها الياء فبل يدلّ على ردّ الجحد والياء تدلّ على الإيجاب لما بعده، قالوا: ولو قال قائل: ألم تأخذ دينارا فقلت نعم لكان المعنى لا لم آخذ لأنك حقّقت النفي وما بعده، وإذا قلت: بلى صار المعنى قد أخذت. مَنْ في موضع رفع بالابتداء وهي شرط. فَأُولئِكَ ابتداء ثان. أَصْحابُ النَّارِ خبر الثاني والثاني خبره خبر الأول.

_ (1) الشاهد لذي الرمة في ديوانه ص 1274، والأشباه والنظائر 5/ 122، وإصلاح المنطق 303، وجواهر الأدب 317، والدرر 6/ 201، وشرح شواهد الإيضاح ص 308، وخزانة البغدادي 1/ 213، وشرح المفصّل 2/ 122، ولسان العرب (خمس) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 358، وتذكرة النحاة ص 344، وشرح الأشموني 1/ 87، والمقتضب 2/ 176، والمنصف 1/ 64، وهمع الهوامع 2/ 150. (2) انظر الكتاب 3/ 3. (3) انظر معاني الفراء 1/ 52.

[سورة البقرة (2) : آية 83]

[سورة البقرة (2) : آية 83] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ قد ذكرناه في الكتاب الذي قبل هذا. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مصدر. وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً مبني على فعل وحكى الأخفش وقولوا للناس حسنى «1» على فعلى. قال أبو جعفر: وهذا لا يجوز في العربية، لا يقال من هذا شيء إلّا بالألف واللام نحو الفضلى والكبرى والحسنى. هذا قول سيبويه، وقرأ عيسى بن عمر وقولوا للناس حسنا «2» بضمتين، وهذا مثل الحلم، وقرأ الكوفيون حسنا «3» أي قولا حسنا. قال الأخفش سعيد: حسن وحسن مثل بخل وبخل قال محمد بن يزيد: يقبح في العربية أن تقول: مررت بحسن على أن تقيم الصفة مقام الموصوف لأنه لا يعرف ما أردت. ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا منصوب على الاستثناء والمستثنى عند سيبويه «4» منصوب لأنه مشبّه بالمفعول وقال محمد بن يزيد: هو مفعول على الحقيقة المعنى استثنيت قليلا. وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ابتداء وخبر. [سورة البقرة (2) : آية 84] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ ويجوز إدغام القاف في الكاف لقرب إحداهما من الأخرى، لا تَسْفِكُونَ مثل لا تَعْبُدُونَ [البقرة: 83] وقرأ طلحة. تَسْفُكُونَ «5» بضم الفاء، دِماءَكُمْ جمع دم والأصل في دم فعل هذا البيّن وقيل أصله دمي على «فعل» إلّا أنّ الميم تحرّك في التثنية إذا ردّ إلى أصله ليدلّ ذلك على أنها كانت حرف الإعراب في الحذف. [سورة البقرة (2) : آية 85] ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) ثُمَّ أَنْتُمْ فتحت الميم من «ثم» لالتقاء الساكنين، ولا يجوز ضمّها ولا كسرها

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه (7) . (2) انظر البحر المحيط 1/ 453، ومختصر ابن خالويه (7) . (3) وهي قراءة حمزة والكسائي ويعقوب، انظر البحر المحيط 1/ 453. (4) انظر الكتاب 2/ 346. (5) انظر البحر المحيط 1/ 457، وهي قراءة شيب ابن أبي حمزة أيضا.

كما جاز في «ردّ» لأنها لا تتصرّف. وأَنْتُمْ في موضع رفع بالابتداء ولا يعرب المضمر وضممت التاء من أنتم لأنها كانت مفتوحة إذا خاطبت واحدا مذكرا ومكسورة إذا خاطبت واحدة مؤنّثة فلما ثنّيت وجمعت لم تبق إلّا الضّمة، هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ قال القتبي «1» : التقدير: يا هؤلاء. قال أبو جعفر: هذا خطأ على قول سيبويه «2» لا يجوز عنده: هذا أقبل، وقال أبو إسحاق «3» : «هؤلاء» بمعنى الذين، وتقتلون داخل في الصلة أي ثم أنتم الذين تقتلون، وسمعت عليّ بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: أخطأ من قال انّ «هذا» بمعنى «الذي» وإن كان قد أنشد: [الطويل] 25- عدس ما لعبّاد عليك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق «4» قال: فإنّ هذا بطلان المعاني قال أبو الحسن: هذا على بابه و «طليق» و «تحملين» خبر أيضا، قال أبو جعفر: يجوز أن يكون التقدير والله أعلم أعني هؤلاء و «تقتلون» : خبر «أنتم» ، «أنفسكم» : مفعوله، ولا يجيز الخليل وسيبويه أن يتصل المفعول في مثل هذا لا يجيزان: ضربتني ولا ضربتك. قال سيبويه: استغنوا عنه بضربت نفسي وضربت نفسك، وقال أبو العباس: لم يجز هذا لئلا يكون المخاطب فاعلا مفعولا في حال واحدة. تظّاهرون عليهم هذه قراءة أهل المدينة وأهل مكة تدغم التاء في الظاء لقربها منها، وقرأ الكوفيون تَظاهَرُونَ «5» حذفوا التاء الثانية لدلالة الأولى عليها، وقرأ قتادة تظّهرون قال أبو جعفر: وهذا بعيد وليس هو مثل قوله: يظّهّرون منكم من نسائهم [المجادلة: 2] لأن معنى هذا أن يقول لها: أنت عليّ كظهر أمّي، فالفعل في هذا من واحد، وقوله تظّاهرون الفعل فيه لا يكون إلّا من اثنين أو أكثر. وَإِنْ يَأْتُوكُمْ شرط فلذلك حذفت منه النون، «تفادوهم» جوابه «6» ، أُسارى على فعلى هو الباب

_ (1) القتبي: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276 هـ) ، ترجمته في طبقات الزبيدي 200. (2) انظر الكتاب 2/ 234. (3) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 137، ومعاني القرآن للفراء 2/ 177. [.....] (4) الشاهد ليزيد بن مفرّغ في ديوانه ص 170، وأدب الكاتب ص 417، والإنصاف 2/ 717، وتخليص الشواهد ص 150، وتذكرة النحاة ص 20، وجمهرة اللغة ص 645، والدرر 1/ 269، وشرح التصريح 1/ 139، وشرح شواهد المغني 2/ 859، وشرح المفصّل 4/ 79، والشعر والشعراء 1/ 371، ولسان العرب (حدس، وعدس) ، والمقاصد النحوية 1/ 442، وبلا نسبة في أمالي بن الحاجب ص 362، وأوضح المسالك 1/ 162، وخزانة الأدب 4/ 333، وشرح الأشموني 1/ 74، وشرح شذور الذهب ص 190، وشرح قطر الندى 106، وشرح المفصل 2/ 16، والمحتسب 2/ 94، ومغني اللبيب 2/ 462، وهمع الهوامع 1/ 84. (5) وهي قراءة عاصم وصخرة والكسائي، انظر البحر المحيط 1/ 459. (6) انظر تيسير الداني 64.

[سورة البقرة (2) : آية 86]

كما تقول: قتيل وقتلى وجريح وجرحى، ومن قال: أُسارى شبه بسكران وسكارى فكل واحد منهما مشبّه بصاحبه قال سيبويه «1» : وإنما قالوا: سكران وسكرى لأنها آفة تدخل على العقل. قال أبو حاتم: ولا يجوز أسارى. قال أبو إسحاق «2» : كما يقال: سكارى وفعالي هو الأصل وفعالي داخلة عليها، وحكي عن محمد بن يزيد أنه قال يقال: أسير وأسراء كظريف وظرفاء، أُسارى: في موضع نصب على الحال. وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ وإن شئت أسكنت الهاء لثقل الضمة «3» كما قال امرؤ القيس: [المديد] 26- فهو لا ينمي رميّته ... ماله؟ لا عدّ من نفره «4» وإن شئت أسكنت الهاء لثقل الضمّة وكذلك إن جئت بالفاء واللام، «وهو» في موضع رفع بالابتداء. وهو كناية عن الحديث، والجملة التي بعده خبر، وإن شئت كان «هو» كناية عن الإخراج وإخراجهم بدل من هو، وزعم الفراء «5» أنّ «هو» عماد وهذا عند البصريين خطأ لا معنى له لأن العماد لا يكون في أول الكلام. فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ابتداء وخبر. وقرأ الحسن ويوم القيامة تردّون إلى أشدّ العذاب «6» . [سورة البقرة (2) : آية 86] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) أُولئِكَ الَّذِينَ ابتداء وخبر. [سورة البقرة (2) : آية 87] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مفعولان وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ قال هارون: لغة أهل الحجاز الرّسل بضمتين مضافا كان أو غير مضاف ولغة تميم التخفيف مضافا أو غير مضاف وأخذ أبو عمرو من اللغتين جميعا فكان يخفّف إذا أضاف إلى حرفين ويثقّل

_ (1) انظر الكتاب 4/ 120. (2) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 136. (3) انظر تيسير 64. (4) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص 125، ولسان العرب (نفر) ، و (نمي) ، وتهذيب اللغة 15/ 518، وتاج العروس (نمي) ، وأساس البلاغة (نمي) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 5/ 480. (5) انظر معاني الفراء 1/ 51، والبحر المحيط 1/ 460. (6) انظر مختصر ابن خالويه 8.

[سورة البقرة (2) : آية 88]

إذا أضاف إلى حرف أو لم يضف. وقرأ ابن محيصن وآايدناه «1» ، وقرأ مجاهد وابن كثير بِرُوحِ الْقُدُسِ. أَفَكُلَّما ظرف. بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ حذفت الهاء لطول الاسم أي تهواه. فَفَرِيقاً منصوب بكذبتم وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ. [سورة البقرة (2) : آية 88] وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ ابتداء وخبر مشتقّ من قولهم أغلف أي على قلوبنا غطاء، ومثله وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت: 5] ، وكذا وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: 26] ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ [نوح: 7] وجوز أن يكون غلف جمع غلاف وحذفت الضمة لثقلها فأما غلف فهو جمع غلاف لا غير أي قلوبنا أوعية للعلم وقيل: أي قلوبنا لا تجلى بشيء كالغلف. [سورة البقرة (2) : آية 89] وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ نعت لكتاب، ويجوز في غير القرآن نصبه على الحال، وفي قراءة عبد الله منصوب في «آل عمران» «2» قال الأخفش سعيد: جواب لمّا محذوف لعلم السامع كما قال: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ [الإسراء: 7] أي فإذا جاء وعد الآخرة خلّيناكم وإياهم بذنوبكم ولم نحل بينكم وبينهم، ومثله وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ [يس: 45] أي وإذا قيل لهم هذا أعرضوا ودلّ عليه فإذا هم معرضون «3» ، وقال الفراء «4» : فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كأن الفاء جواب للمّا الأولى والثاني ولم تحتج الأولى إلى جواب. قال سيبويه «5» : وقال جلّ وعزّ: [سورة البقرة (2) : آية 90] بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا كأنه قال: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم ثم قال: «أن» على التفسير كأنه قيل له: ما هو؟ كما يقول العرب: بئسما له. يريدون:

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 8. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1/ 51 (آية 81- آل عمران) . (3) يشير إلى الآية 46 سورة يس: إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ. (4) انظر معاني الفراء 1/ 59. (5) انظر الكتاب 3/ 178. [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 91]

بئس الشيء له، وقال الكسائي: ما واشتروا اسم واحد في موضع رفع وقال الأخفش: هو مثل قولك: بئس رجلا زيد. والتقدير عنده بئس شيئا اشتروا به أنفسهم، ومثله إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ [البقرة: 271] ومثله إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [النساء: 58] ، وقال الفراء «1» : يجوز أن تكون «ما» مع بئس بمنزلة كلّما. قال أبو جعفر: أبين هذه الأقوال قول الأخفش ونظيره ما حكي عن العرب: بئسما تزويج ولا مهر، ودققته دقّا نعمّا. وقول سيبويه حسن يجعل «ما» وحدها اسما لإبهامها وسبيل بئس ونعم أن لا تدخلا على معرفة إلّا للجنس. فأما قول الكسائي فمردود من هذه الجهة، وقول الفراء: تكون «ما» مع بئس مثل كلّما لا يجوز لأنه يبقى الفعل بلا فاعل وإنّما تكون «ما» كافّة في الحروف نحو إنّما وربّما. قال الكسائي والفراء «2» : «أن يكفروا» إن شئت كانت «أن» في موضع خفض ردّا على الهاء في به قال الفراء: أي اشتروا أنفسهم بأن يكفروا بما أنزل الله. قال أبو جعفر: يقال «3» : بئس ونعم هذا الأصل ويقال: بئس ونعم على الاتباع، ويقال: بئس ونعم تقلب حركة الهمزة على الباء. بَغْياً مفعول من أجله وهو على الحقيقة مصدر. أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ في موضع نصب والمعنى لأن ينزل الله الفضل على نبيّه. [سورة البقرة (2) : آية 91] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَراءَهُ ظرف. وَهُوَ الْحَقُّ ابتداء وخبر. مُصَدِّقاً حال مؤكّدة عند سيبويه. لِما مَعَهُمْ «ما» في موضع خفض باللام ومعهم صلتها ومعهم منصوب بالاستقرار ومن أسكن جعله حرفا. قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ الأصل فلما و «ما» في موضع خفض باللّام وحذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر ولا ينبغي أن يوقف عليه لأنّه إن وقف عليه بلا هاء كان لحنا فإن وقف عليه بالهاء زيد في الشواذ. [سورة البقرة (2) : آية 93] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ضممت الميم لالتقاء الساكنين لأن أصلها الضم، وإن شئت كسرت على أصل التقاء الساكنين. وهو مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ، والمعنى: وسقوا في قلوبهم حبّ العجل.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 56، والبحر المحيط 1/ 472. (2) انظر معاني الفراء 1/ 56. (3) انظر الإنصاف مسألة 14.

[سورة البقرة (2) : آية 94]

[سورة البقرة (2) : آية 94] قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ شرط. الدَّارُ اسم كانت. والْآخِرَةُ من نعتها. خالِصَةً خبر كانت وإن شئت كان حالا وتكون عِنْدَ اللَّهِ في موضع الخبر. وقرأ ابن أبي إسحاق. فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ كسر الواو لالتقاء الساكنين. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا في قوله: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ [البقرة: 16] . [سورة البقرة (2) : آية 95] وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ نصب بلن فلذلك حذفت منه النون. أَبَداً ظرف زمان من طول العمر إلى الموت. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إن جعلت «ما» بمعنى الذي فالتقدير قدّمته وإن جعلتها مصدرا لم تحتج إلى عائد وأَيْدِيهِمْ في موضع رفع حذفت الضمة من الياء لثقلها مع الكسرة، وأجاز سيبويه ضمّها وكسرها في الشعر وأنشد لابن قيس الرقيات: [المنسرح] 27- لا بارك الله في الغوانيّ هل ... يصبحن إلّا لهنّ مطّلب «1» فإن كانت في موضع نصب حرّكتها لأن النصب خفيف، ويجوز إسكانها في الشعر. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ابتداء وخبر. [سورة البقرة (2) : آية 96] وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ مفعولان، وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا على حذف أي وأحرص ليعطف اسما على اسم ويجوز في العربية مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ بمعنى من الذين أشركوا قوم يودّ أحدهم إلا أنّ المعنى في الآية لا يحتمل هذا وإن كان جائزا في العربية أدغمت والأصل في يودّ: يودد. أدغمت لئلا يجمع بين حرفين من جنس واحد متحرّكين وقلبت حركة الدال على الواو ليدلّ ذلك على أنه يفعل، وحكى الكسائي: وددت بفتحها فيجوز على هذا «يودّ» بكسر الواو. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا

_ (1) الشاهد لعبيد الله بن قيس الرقيات في ديوانه ص 3، والأزهيّة ص 209، والدرر 1/ 168، وشرح أبيات سيبويه 1/ 569، وشرح شواهد المغني ص 62، وشرح المفصّل 10/ 101، ولسان العرب (غنا) ، والمقتضب 1/ 142، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 336، ورصف المباني ص 270، وما ينصرف وما لا ينصرف ص 115، والمحتسب 1/ 111، والمنصف 2/ 67، ومغني اللبيب 243، والمقتضب 3/ 354، وهمع الهوامع 1/ 53.

[سورة البقرة (2) : آية 97]

وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ في الكتاب الذي قبل هذا «1» . وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي بما يعمل هؤلاء الذين يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة ومن قرأ بما تعملون فالتقدير عنده قل لهم يا محمد: الله بصير بما تعملون. [سورة البقرة (2) : آية 97] قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فيه خمس لغات للعرب: لغة أهل الحجاز: جبريل «2» ولغة تميم وقيس جبرئيل «3» كما قرأ الكوفيون. ولغة بني أسد «جبرين» «4» بالنون، وقرأ الحسن وعبد الله بن كثير لِجِبْرِيلَ «5» بفتح الجيم بغير همز. قال أبو جعفر: لا يعرف في كلام العرب فعليل بفتح الفاء وفيه فعليل نحو دهليز وقطمير وبرطل وليس ينكر أن يأتي في كلام العجم ما ليس له نظير في كلام العرب ولا ينكر أن يكثر تغييره كما قالوا: إبراهيم وإبراهم وابراهم وابراهام. واللغة الخامسة جبرئل «6» ومن تأول الحديث «جبر عبد و «ال» الله «7» وجب عليه أن يقول: هذا جبرإل ورأيت جبرال، ومررت بجبرإل. وهذا لا يقال فوجب أن يكون معنى الحديث أنه مسمّى بهذا، والجمع في اللغات الأربع على التكسير جباريل. [سورة البقرة (2) : آية 98] مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وفي ميكائيل «8» أربع لغات: فلغة أهل الحجاز كراهة شديدة فلما رآه في السواد بياء ولام بعد الكاف قرأه (وميكايل) وذهب إلى أنّ الألف (ميكال) وبها قرأ أبو عمرو، وحاد عنها نافع لأنه كان يكره مخالفة الخط كراهة شديدة حذفت كما تحذف من الأسماء الأعجمية نحو إبراهيم إسماعيل فهذه حجّة بيّنة وحجة أبي عمرو وأنّ حروف المدّ واللّين يقلب بعضها إلى بعض كثيرا كما كتبوا ابن أبي طالب بالواو فأبدلوا من الياء واوا ولا يقال: إلّا ابن أبي طالب ويقال: ميكائل ويقال: ميكاأل كما يقال: إسرأل

_ (1) إشارة إلى كتابه معاني القرآن. (2) انظر البحر المحيط 1/ 485، وهي قراءة ابن عامر وأبو عمرو ونافع وحفص. (3) انظر البحر المحيط 1/ 485، وهي قراءة الأعمش وحمزة والكسائي وحماد بن أبي زياد عن أبي بكر عن عاصم. (4) انظر مختصر ابن خالويه 8. (5) انظر البحر المحيط 1/ 486، وهي قراءة ابن محيصن. (6) انظر المحتسب 1/ 97، وهي قراءة يحيى بن يعمر. (7) انظر المحتسب 1/ 97، والبحر المحيط 1/ 486، واللسان (جبر) . (8) انظر تيسير الداني 65، والبحر المحيط 1/ 486.

[سورة البقرة (2) : آية 99]

بهمزة مفتوحة وهما اسمان أعجميّان فلذلك لم ينصرفا. [سورة البقرة (2) : آية 99] وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ «آيات» : في موضع نصب وكسرت التاء عند البصريين ليستوي النصب والخفض في المؤنث لأنه جمع مسلّم كما استوى في المذكّر، وقول الكوفيين لأن التاء غير أصلية والأصل في آية آية ولا ينطق منها بفعل لئلّا تجتمع علّتان. وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ مرفوعون بفعلهم. والتقدير وما يكفر بها أحد إلّا الفاسقون لأنه لا بدّ قبل الإيجاب من النفي. [سورة البقرة (2) : آية 100] أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً قال الأخفش: الواو زائدة دخلت عليها ألف الاستفهام، ومذهب الكسائي أنها «أو» حركت الواو منها. كُلَّما ظرف. عَهْداً مصدر. بَلْ أَكْثَرُهُمْ ابتداء. لا يُؤْمِنُونَ فعل مستقبل في موضع الخبر. [سورة البقرة (2) : آية 101] وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مرفوع بفعله. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ نعت، ويجوز على الحال. نَبَذَ فَرِيقٌ جواب لمّا. مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ خبر ما لم يسمّ فاعله. كِتابَ اللَّهِ منصوب بنبذ. وَراءَ ظُهُورِهِمْ ظرف. كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ فعل مستقبل في موضع خبر كأن. [سورة البقرة (2) : آية 102] وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ هذه آية مشكلة وقد تقصّينا ما فيها من المعاني في الكتاب الذي قبل هذا. موضع «ما» نصب باتّبعوا وتتلو داخل في الصلة وحذفت منه الهاء لطول الاسم والأصل تتلوه الشياطين. «وسليمان» صلّى الله عليه وسلّم: لا ينصرف لأنه معرفة وفي آخره زائدتان فأشبه سكران، وَلكِنَّ الشَّياطِينَ نصب بلكنّ وإن خفّفت لكن رفعت ما بعدها بالابتداء. يُعَلِّمُونَ في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون في موضع

[سورة البقرة (2) : آية 103]

رفع على أنه خبر ثان. النَّاسَ السِّحْرَ مفعولان. بِبابِلَ لا ينصرف لأنه أعجمي معرفة. هارُوتَ وَمارُوتَ مثله والجمع هواريت مثل طواغيت، ويقال: هوارتة وهوار وموارتة وموار فاعلم ومثله جالوت وطالوت. وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ من زائدة للتوكيد والتقدير وما يعلمان أحدا. حَتَّى يَقُولا نصب بحتّى فلذلك حذفت منه النون ولغة هذيل وثقيف عتّى. فَلا تَكْفُرْ جزم بالنهي. فَيَتَعَلَّمُونَ أحسن ما قيل فيه أنه مستأنف، وقول الفراء «1» : أنه نسق على «يعلّمون» غلط لأنه لو كان كذا لوجب أن يكون فيتعلمون منهم، فقوله منهما يمنع أن يكون التقدير: «ولكن الشياطين كفروا يعلّمون الناس السحر فيتعلّمون» إلّا على قول من قال: الشياطين هاروت وماروت، وللفراء «2» قول آخر قال: يكون محمولا على المعنى لأن معنى (فلا تكفر) فلا تتعلّم السحر أي فيأتون فيتعلّمون، وقيل: التقدير يعلّمان الناس فيتعلّمون. مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ في موضع نصب بيفرّقون وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ «من» زائدة وقول أبي إسحاق إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ: إلّا بعلم الله غلط لأنه إنما يقال في العلم: إذن وقد أذنت به إذنا ولكن لمّا لم يحل فيما بينهم وبينه وخلّوا يفعلونه كان كأنّه إباحة مجازا. وَلَقَدْ عَلِمُوا لام توكيد. لَمَنِ اشْتَراهُ لام يمين وهي للتوكيد أيضا، وموضع «من» رفع بالابتداء، لأنه لا يعمل ما قبل اللام فيما بعدها ومن بمعنى الذي. قال الفراء: هي للمجازاة. قال أبو إسحاق: ليس هذا موضع شرط ومن بمعنى الذي كما تقول: لقد علمت لمن جاءك ما له عقل. ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ «من» زائدة، والتقدير ما له في الآخرة خلاق، ولا تزاد من في الواجب. [سورة البقرة (2) : آية 103] وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا موضع أنّ موضع رفع أي لو وقع إيمانهم، ولَوْلا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا لأنها بمنزلة حروف الشرط إذ كانت لا بدلها من جواب وأن يليها الفعل. قال محمد بن يزيد: وإنما لم يجاز بها لأن سبيل حروف المجازاة كلّها أن تقلب الماضي إلى معنى المستقبل فلمّا لم يكن هذا في «لو» لم يجز أن يجازى بها. قال الأخفش سعيد: ليس «للو» هنا جواب في اللفظ ولكن في المعنى، والمعنى لأثيبوا. [سورة البقرة (2) : آية 104] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا أمر فلذلك حذفت منه الياء، وأحسن ما

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 64، والبحر المحيط 1/ 500. (2) انظر البحر المحيط 1/ 500. [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 105]

قيل فيه قول مجاهد. قال: لا تقولوا اسمع منّا ونسمع منك ولكن قولوا فهمنا، انْظُرْنا بيّن لنا، أمر وأن يخاطبوه صلّى الله عليه وسلّم بالإجلال. وهذا حسن أي لا تقولوا كافينا في المقال كما قال: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: 63] وقرأ الحسن (راعنا) «1» منونا نصبه على أنه مصدر أو نصبه بالقول أي لا تقولوا رعونة. قال أبو جعفر: يقال لما نتأ من الجبل رعن والجبل أرعن وجيش أرعن أي متفرّق ورجل أرعن أي متفرق الحجج ليس عقله مجتمعا. [سورة البقرة (2) : آية 105] ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) «المشركين» : معطوف على أهل ويجوز في النحو «ولا المشركون» بعطفه على الذين، أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ «من» زائدة، والتقدير أن ينزّل عليكم خير اسم ما لم يسمّ فاعله. [سورة البقرة (2) : آية 106] ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ شرط والجواب. نَأْتِ وقوله أَوْ نُنْسِها عطف على ننسخ وحذفت الياء للجزم، ومن قرأ أو ننسأها «2» حذف للضمة من الهمزة للجزم. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ جزم بلم وحرف الاستفهام لا يغيّر عمل العامل، وفتحت أنّ لأنها في موضع اسم. [سورة البقرة (2) : آية 107] أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) «ملك» : رفع الابتداء، و (له) : الخبر والجملة خبر أنّ وملك مشتقّ من ملكت العجين أي أحكمت عجنه، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ويجوز رفع نصير عطفا على الموضع لأن المعنى وما لكم من دون الله وليّ ولا نصير. [سورة البقرة (2) : آية 108] أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) أَمْ تُرِيدُونَ أي أبل وحكى سيبويه إنّها لإبل أم شاء. أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ في موضع نصب بتريدون. كَما سُئِلَ مُوسى الكاف في موضع نصب نعت لمصدر أي

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 70، والبحر المحيط 1/ 508، وتفسير الطبري 1/ 472، وهي قراءة ابن أبي ليلى وأبي حياة وابن محيصن أيضا. (2) انظر التيسير في القراءات 65، والبحر المحيط 1/ 513.

[سورة البقرة (2) : آية 109]

سؤالا كما سئل موسى وإن خفّفت الهمزة وجعلتها بين الهمزة والياء فقلت: سئل، وقرأ الحسن سيل «1» وهذا على لغة من قال: سلت أسال ويجوز أن يكون على بدل الهمزة إلّا أنّ بدل الهمزة بعيد (موسى) اسم ما لم يسمّ فاعله لم يتبيّن فيه الإعراب لأنه مقصور ولم ينوّن لأنه لا ينصرف لعجمته. وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ جزم بالشرط كسرت اللام لالتقاء الساكنين واختير الكسر لأنه أخو الجزم، وقيل: لأن الضّم والفتح يكونان بغير تنوين إعرابا. وجواب الشرط فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. [سورة البقرة (2) : آية 109] وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَدَّ كَثِيرٌ رفع بودّ. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ خفض بمن، لَوْ يَرُدُّونَكُمْ فعل مستقبل. كُفَّاراً مفعول ثان وإن شئت كان حالا. حَسَداً مصدر وقال الفراء: هو كالمفسّر. فَاعْفُوا أمر والأصل فاعفوا وحذفت الضمة لثقلها ثم حذفت الواو لالتقاء الساكنين. [سورة البقرة (2) : آية 111] وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) أجاز الفراء «2» أن يكون هُوداً بمعنى يهودي وحذف منه الزائدة وأن يكون جمع هائد، والقول الثاني مذهب البصريين. قال الأخفش سعيد: إِلَّا مَنْ كانَ جعل كان واحدا على لفظ «من» ثم قال: هودا فجمع لأنّ معنى من جمع. تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ ابتداء وخبر ويجوز تلك أمانيهم. قُلْ هاتُوا والأصل هاتيوا حذفت الضمة لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين يقال في الواحد المذكر: هات يا هذا، مثل رام وفي المؤنث هاتي، مثل رامي. وإِنْ كُنْتُمْ شرط أي «إن كنتم صادقين فبيّنوا ما قلتم ببرهان» . [سورة البقرة (2) : آية 112] بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ على لفظ من ثم قال: فلهم على المعنى. [سورة البقرة (2) : آية 114] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) ابتداء وخبر أي وأي أحد أظلم. مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ أن في

_ (1) انظر البحر المحيط 1/ 516. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1/ 73، والبحر المحيط 1/ 520.

[سورة البقرة (2) : آية 115]

موضع نصب على البدل من مساجد، ويجوز أن يكون التقدير من أن يذكر وحروف الخفض تحذف مع أن لطول الكلام، وقيل: لأنّ المعنى في الفعل بعدها يتبيّن، وَسَعى معطوف على منع، أُولئِكَ مبتدأ والجملة خبر، خائِفِينَ حال، لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ رفع بابتداء وإن شئت على معنى وجب وكذا. [سورة البقرة (2) : آية 115] وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) فَأَيْنَما تُوَلُّوا شرط فلذلك حذفت النون و «أين» العاملة و «ما» زائدة وقرأ الحسن فَأَيْنَما تُوَلُّوا بفتح التاء واللام والأصل تتولّون. فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «ثمّ» في موضع نصب على الظرف ومعناها البعد إلّا أنّها مبنيّة على الفتح غير معربة لأنها مبهمة تكون بمنزلة هناك للبعد فإن أردت القرب قلت هنا. [سورة البقرة (2) : آية 116] وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) سُبْحانَهُ مصدر. بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ «ما» في موضع رفع بالابتداء، وإن شئت بالاستقرار. كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ابتداء وخبر، والتقدير كلّهم ثم حذفت الهاء والميم. [سورة البقرة (2) : آية 117] بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خبر ابتداء محذوف. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا رفع (فيكون) . [سورة البقرة (2) : آية 118] وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) مِثْلَ قَوْلِهِمْ مفعول وإن شئت كان نعتا لمصدر محذوف. [سورة البقرة (2) : آية 119] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) بَشِيراً نصب على الحال. وَنَذِيراً عطف عليه. قال الأخفش سعيد: ويجوز وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ بفتح التاء وضم اللام ويكون في موضع الحال تعطفه على «بشيرا ونذيرا» . [سورة البقرة (2) : آية 120] وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى المصدر رضوان ورضوان ومرضاة ورضى ورضى، وهو من ذوات الواو، ويقال: في التثنية: رضوان، وحكى الكسائي: رضيان وحكى

[سورة البقرة (2) : آية 121]

رضاءا ممدودا وكأنه مصدر راضى. حَتَّى تَتَّبِعَ نصب بحتّى وحتى بدل من أن وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ جمع هوى كما تقول: جمل وأجمال. [سورة البقرة (2) : آية 121] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) الَّذِينَ رفع بالابتداء. آتَيْناهُمُ الْكِتابَ صلته. يَتْلُونَهُ خبر الابتداء وإن شئت كان الخبر أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ. [سورة البقرة (2) : آية 122] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وقرأ الحسن نعمتي التي أنعمت عليكم بإسكان الياء ثم حذفها في الوصل لالتقاء الساكنين. وَأَنِّي في موضع نصب عطف على «نعمتي» . [سورة البقرة (2) : آية 124] وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) قرأ عبد الله وأبو رجاء والأعمش قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ قال الفراء: لأنّ ما نالك فقد نلته كما تقول: نلت خيرا ونالني خير، وحكي عن محمد بن يزيد أنه قال: المعنى يوجب نصب الظالمين. قال الله جلّ وعزّ لإبراهيم صلّى الله عليه وسلّم: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فعهد إليه بهذا فسأل إبراهيم فقال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فقال جلّ وعزّ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ لا أجعل إماما ظالما، وروي عن ابن عباس أنه قال: سأل إبراهيم أن يجعل من ذريته إمام فعلم الله عزّ وجلّ أنّ في ذريته من يعصي فقال: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. [سورة البقرة (2) : آية 125] وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً مفعولان والأصل مثوبة قلبت حركة الواو على الثاء فانقلبت الواو ألفا اتباعا لثاب يثوب. قال الأخفش: الهاء في «مثابة» للمبالغة لكثرة من يثوب إليه. وَأَمْناً يعطفه على مثابة. وَاتَّخِذُوا «1» معطوف على جعلنا. قال الأخفش: أي واذكروا إذ اتّخذوا معطوف على اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ، ومن قرأ وَاتَّخِذُوا «2» قطعه من الأول وجعله أمرا وعطف جملة على جملة. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا أنه قيل: الأولى

_ (1) انظر البحر المحيط 1/ 552، وهي قراءة نافع وابن عامر. (2) انظر البحر المحيط 1/ 552، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي والجمهور.

[سورة البقرة (2) : آية 126]

أن يكون «مقام إبراهيم» الذي يصلّي إليه الأئمة الساعة وإذا كان كذا كان الأولى وَاتَّخِذُوا لحديث حميد عن أنس: قال أبو جعفر: وذلك الحديث لم يروه عن أنس إلّا حميد إلّا من جهة فضعف. وليس يبعد «واتّخذوا» على الاختيار ثم يكون قد عمل به، على أن حمّاد بن سلمة قد روى عن هشام بن عروة عن أبيه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر، وعمر رضي الله عنهما صدرا من خلافته كانوا يصلّون بإزاء البيت ثم صلّى عمر إلى المقام. قال أبو جعفر: «مقام» من قام يقوم يكون مصدرا واسما للموضع، ومقام من أقام وتدخلهما الهاء للمبالغة. وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ في موضع خفض ولم ينصرفا لأنهما أعجميان وما لا ينصرف في موضع الخفض منصوب لأنه مشبّه بالفعل والفعل لا يخفض هذا قول البصريين، وقال الفراء: كان يجب أن يخفض بلا تنوين إلّا أنهم كرهوا أن يشبه المضاف في لغة من قال: مررت بغلام يا هذا: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ يجوز أن تكون أن في موضع نصب والتقدير بأن، ويجوز أن لا يكون لها موضع تكون تفسيرا لقول سيبويه تكون بمعنى أي، ويقول الكوفيون: تكون بمعنى القول. لِلطَّائِفِينَ خفض باللّام. وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ عطف. السُّجُودِ نعت. [سورة البقرة (2) : آية 126] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ نداء مضاف. اجْعَلْ هذا سؤال ولفظه الأمر إلّا أنّه استعظم أن يقال له أمر. وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مفعول. مَنْ آمَنَ بدل من أهل وهذا بدل البعض من الكل. قالَ وَمَنْ كَفَرَ «من» في موضع نصب، والتقدير وارزق من كفر ودلّ على الفعل المحذوف فأمتّعه، ويجوز أن تكون من للشرط، وتكون في موضع نصب ويضمر الفعل بعدها. ويجوز أن تكون في موضع رفع بالابتداء والخبر «فأمّتعه» . وفي قراءة أبيّ فنمتّعه قليلا ثمّ نضطره «1» ، وفي قراءة يحيى بن وثاب فأمتعه قليلا ثمّ اضطرّه «2» بكسر الهمزة ورفع الفعل على لغة من قال: أنت تضرب، وروي عن ابن محيصن أنه كان يدغم الضاد في الطاء. قال أبو جعفر: وذا لا يجوز لأن في الضاد تفشّيا فلا تدغم في شيء ولكن يجوز أن تدغم الطاء فيها كما قالوا: اضّجع «وفمن اضّرّ» . وحدثنا أحمد بن شعيب بن علي قال: أخبرني عمران بن بكار قال: حدّثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي قال: حدثنا شعيب بن إسحاق عن هارون عن حنظلة عن الحارث بن أبي ربيعة قال: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ «3» قال أبو جعفر: وهذا

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 78. (2) انظر البحر المحيط 1/ 555، وهي قراءة الجمهور. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1/ 78، والمحتسب 1/ 104، والبحر المحيط 1/ 555.

[سورة البقرة (2) : الآيات 127 إلى 128]

على السؤال والطلب والأصل اضطرره ثم أدغم ففتح لالتقاء الساكنين لخفّة الفتحة ويجوز الكسر. قال أبو جعفر: وهذه القراءة شاذة ونسق الكلام والتفسير جميعا يدلّان على غيرها، أمّا نسق الكلام فإنّ الله جلّ وعزّ خبّر عن إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً ثم جاء بقوله ولم يفصل بينه بقال، ثم قال فكان هذا جوابا من الله جلّ وعزّ ولم يقل- بعد: - قال إبراهيم. وأما التفسير فقد صحّ عن ابن عباس وسعيد بن جبير «1» ومجاهد ومحمد بن كعب وهذا لفظ ابن عباس دعا إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم لمن آمن دون الناس خاصة فأعلم الله جلّ وعزّ أنه يرزق من كفر كما يرزق من آمن وأنه يمتّعه قليلا ثمّ يضطرّه إلى عذاب النار. قال أبو جعفر: وقال الله جلّ وعزّ: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ [الإسراء: 20] وقال: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ [هود: 48] وقال أبو إسحاق: إنما علم إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم أنّ في ذرّيته كفارا فخصّ المؤمنين لأن الله جلّ وعزّ قال له: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] . [سورة البقرة (2) : الآيات 127 الى 128] وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) الْقَواعِدَ الواحدة قاعدة، والواحدة من قوله الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ [النور: 60] ، قاعد، وَإِسْماعِيلُ عطف على إبراهيم، رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا قال الأخفش: الذي قال «ربّنا تقبل منّا» إسماعيل، وغيره يقول: هما جميعا قالا. قال الفراء: وفي قراءة عبد الله ويقولان ربّنا تقبّل منّا وأرنا مناسكنا «2» ويبعد وأرنا «3» بإسكان الراء لأن الأصل: أرينا، حذفت الياء لأنه أمر وألقيت حركة الهمزة على الراء وحذفت الهمزة فإن حذفت الكسرة كان ذلك إجحافا، وليس هذا مثل فخذ لأن الكسرة في أرنا تدلّ على الهمزة وليست الكسرة في فخذ دالة على شيء، ولكن يجوز حذفها على بعد لأنها مستثقلة كما أنّ الكسرة في فخذ مستثقلة. قال الأخفش: واحد المناسك منسك مثل مسجد ويقال: منسك. قال أبو جعفر: يقال: نسك ينسك فكان يجب على هذا أن يقال: منسك إلا أنه ليس في كلام العرب مفعل. [سورة البقرة (2) : آية 129] رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) يَتْلُوا في موضع نصب لأنه نعت لرسول أي رسولا تاليا، ويجوز في غير

_ (1) سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الكوفي التابعي الجليل. عرض على ابن عباس وعرض عليه أبو عمرو (ت 95 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 1/ 305. (2) انظر المحتسب 1/ 108، ومعاني القرآن للفراء 1/ 78. (3) انظر تيسير الداني 66.

[سورة البقرة (2) : آية 130]

القرآن جزمه يكون جوابا للمسألة. وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ عطف عليه. [سورة البقرة (2) : آية 130] وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) وَمَنْ ابتداء وهو اسم تامّ في الاستفهام والمجازاة. يَرْغَبُ فعل مستقبل في موضع الخبر وهو تقرير وتوبيخ وقع فيه معنى النفي أي ما يرغب، عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وقول الفراء «1» : إنّ نَفْسَهُ مثل: ضقت به ذرعا محال عند البصريين لأنه جعل المعرفة منصوبة على التمييز. قال سيبويه «2» : وذكر الحال وإنّها مثل التمييز وهذا لا يكون إلّا نكرة، يعني ما كان منصوبا على الحال كما أنّ ذلك لا يكون إلّا نكرة يعني التمييز. قال أبو جعفر: فإن جئت بمعرفة زال معنى التمييز لأنك لا تبيّن بها ما كان من جنسها. قال الفراء «3» : ومثله: بطرت معيشتها ولا يجوز عنده: نفسه سفه زيد ولا معيشتها بطرت القرية، وقال الكسائي: وهو أحد قولي الأخفش: المعنى إلّا من سفه في نفسه ويجيزان التقديم. قال الأخفش: ومثله عُقْدَةَ النِّكاحِ أي على عقدة النكاح. قال أبو جعفر: وقد تقصّيناه في الكتاب الذي قبل هذا. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ يقال: كيف جاز تقديم في الآخرة وهو داخل في الصلة؟ فالجواب أنه ليس التقدير وإنه لمن الصالحين في الآخرة فتكون الصلة قد تقدمت ولأهل العربية فيه ثلاثة أقوال: منها أن يكون المعنى وإنه صالح في الآخرة ثم حذف، وقيل «في الآخرة» متعلّق بمصدر محذوف أي صلاحه في الآخرة، والقول الثالث أن الصالحين ليس بمعنى الذين صلحوا ولكنه اسم قائم بنفسه كما يقال: الرجل والغلام. الأصل في اصْطَفَيْناهُ اصتفيناه أبدل من التاء طاء لأن الطاء مطبقة كالصاد وهي من مخرج التاء ولم يجز أن تدغم الصاد لأنها لا تدغم إلّا في أختيها الزاي والسين لما فيهنّ من الصفير ولكن يجوز أن تدغم التاء فيها في غير القرآن فتقول: اصّفيناه قبل. [سورة البقرة (2) : آية 132] وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) وَوَصَّى فيه معنى التكثير وإذا كان كذلك بعدت القراءة به وأحسن من هذا أن يكون وصّى وأوصى بمعنى واحد مثل كرمنا وأكرمنا. إِبْراهِيمُ رفع بفعله. وَيَعْقُوبُ عطف عليه. يا بَنِيَّ نداء مضاف، وهذه ياء النفس لا يجوز هاهنا إلّا فتحها لأنها لو سكنت لالتقى ساكنان ومثله بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم: 22] إِنَّ اللَّهَ كسرت

_ (1) انظر معاني القرآن للفراء 1/ 79. (2) انظر الكتاب 2/ 110. [.....] (3) انظر معاني القرآن للفراء 1/ 79.

[سورة البقرة (2) : آية 133]

«إنّ» لأن أوصى وقال واحد، وقيل: على إضمار القول. فَلا تَمُوتُنَّ في موضع جزم بالنهي أكّد بالنون الثقيلة وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ابتداء وخبر في موضع الحال. [سورة البقرة (2) : آية 133] أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ خبر كان ولم يصرفه لأن فيه ألف التأنيث ودخلت لتأنيث الجماعة كما دخلت الهاء. إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ مفعول مقدّم وفي تقديمه فائدة على مذهب سيبويه «1» قال: لأنهم يقدمون الذي بيانه أهم عليهم وهم ببيانه أعنى وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم. ما تَعْبُدُونَ «ما» في موضع نصب بتعبدون. قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ في موضع خفض على البدل ولم تصرف لأنها أعجمية. قال الكسائي: إن شئت صرفت إسحاقا وجعلته من السحق وصرفت يعقوب وجعلته من الطير. قال أبو جعفر: ومن قرأ وإله أبيك «2» فله فيه وجهان: أحدهما أن يكون أفرد لأنه كره أن يجعل إسماعيل أبا لأنه عمّ. قال أبو جعفر: هذا لا يجب، لأن العرب تسمّي العم أبا، وأيضا فإنّ هذا بعيد لأنه يقدر وإله إسماعيل وإله إسحاق فيخرج وهو أبوه الأدنى من نسق إبراهيم ففي هذا من البعد ما لا خفاء به، وفيه وجه آخر على مذهب سيبويه يكون أبيك جمعا. حكى سيبويه «3» : أبون وأبين كما قال: [الوافر] 28- فقلنا أسلموا إنّا أخوكم «4» سيبويه والخليل يقولان: في جمع إبراهيم وإسماعيل براهيم وسماعيل وهذا قول الكوفيين، وحكوا أيضا براهمة وسماعلة والهاء بدل من الياء كما يقال: زنادقة، وحكوا براهم وسماعل. قال محمد بن يزيد: هذا غلط لأن الهمزة ليس هذا موضع زيادتها

_ (1) انظر الكتاب 1/ 68. (2) انظر المحتسب 1/ 112 (قراءة ابن عباس ويحيى ابن يعمر والحسن وعاصم الجحدري وأبي رجاء) ، ومختصر ابن خالويه 9 (يحيى بن يعمر) . (3) انظر الكتاب 2/ 447. (4) الشاهد للعباس بن مرداس في ديوانه ص 52، ولسان العرب (أخا) ، والمقتضب 2/ 174، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 4/ 285، وتذكرة النحاة ص 144، وجمهرة اللغة 1307، وخزانة الأدب 4/ 478، والخصائص 2/ 422، وعجزه: «فقد برئت من الإحن الصدور»

[سورة البقرة (2) : آية 134]

ولكن أقول: أباره وأسامع، ويجوز أباريه وأساميع وأجاز أحمد بن يحيى: براه كما يقال: في التصغير بريه وجمع إسحاق أساحيق، وحكى الكوفيون: أساحقة وأساحق وكذا يعقوب ويعاقيب ويعاقبة ويعاقب فأما إسرائيل فلا نعلم أحدا يجيز حذف الهمزة من أوله وإنما يقال: أساريل وحكى الكوفيون: أسارلة وأسارل. والباب في هذا كلّه أن يجمع مسلّما فيقال: إبراهيمون وإسحاقون وإسماعيلون ويعقوبون والمسلّم لا عمل فيه. إِلهاً واحِداً نصب على الحال، وإن شئت على البدل لأنه يجوز أن تبدل النكرة من المعرفة والمعرفة من النكرة. [سورة البقرة (2) : آية 134] تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) تِلْكَ مبتدأ، أُمَّةٌ خبره، قَدْ خَلَتْ نعت لأمة وإن شئت كان خبر المبتدأ ويكون أمة بدلا من تلك، لَها ما كَسَبَتْ «ما» في موضع رفع بالابتداء، وبالصفة على قول الكوفيين، وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ مثله. [سورة البقرة (2) : آية 135] وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) وَقالُوا كُونُوا هُوداً جمع هائد، ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى ذوى هود كما يقال: قوم عدل ورضى. تَهْتَدُوا جواب الأمر. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا «قل بل ملّة إبراهيم» في الكتاب الذي قبل هذا. قال أبو إسحاق «1» : حَنِيفاً منصوب على الحال. قال علي بن سليمان هذا خطأ لا يجوز: جاءني غلام هند مسرعة ولكنه منصوب على أعني، وقال غيره: المعنى بل نتبع إبراهيم في هذه الحال. [سورة البقرة (2) : آية 136] قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا في موضع خفض أي والذي أنزل إلينا واسم ما لم يسمّ فاعله مضمر في أنزل. [سورة البقرة (2) : آية 137] فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) فَسَيَكْفِيكَهُمُ الكاف والهاء والميم في موضع نصب مفعولان، ويجوز في غير القرآن فسيكفيك إياهم، وكذا الفعل إذا تعدّى إلى المفعول الأول قوي فجاز أن يأتي في الثاني منفصلا.

_ (1) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 181، والبحر المحيط 1/ 577.

[سورة البقرة (2) : آية 138]

[سورة البقرة (2) : آية 138] صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) صِبْغَةَ اللَّهِ قال الأخفش: أي دين الله، قال: وهي بدل من ملّة. قال أبو جعفر: وهو قول حسن لأن أمر الله جلّ وعزّ ونهيه ودلائله مخالطة للمعقول كما يخالط الصبغ الثوب. [سورة البقرة (2) : آية 139] قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ جاز اجتماع حرفين من جنس واحد متحركين لأن الثاني كالمنفصل، وقرأ ابن محيصن قل أتحاجّونّا «1» مدغما، وهذا جائز إلّا أنه مخالف للسواد وقد جمع أيضا بين ساكنين وجاز ذلك لأن الأول حرف مدّ ولين، ويجوز أن تدغم ويومأ إلى الفتحة كما قرئ لا تَأْمَنَّا [يوسف: 11] بإشمام الضمّة، ويجوز «أتحاجّونا» بحذف النون الثانية كما قرأ نافع فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الحجر: 54] . [سورة البقرة (2) : آية 140] أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) قالوا: قرأ الكسائي أَمْ تَقُولُونَ «2» بالتاء، وهي قراءة حسنة لأن الكلام متسق أي أتحاجوننا أم تقولون، والقراءة بالياء من كلامين وتكون «أم» بمعنى «بل» . قال الأخفش: كما تقول إنها لأبل أم شاء. وكسرت «إنّ» لأن الكلام محكيّ والأسباط من ولد يعقوب بمنزلة القبائل من ولد إسماعيل، هُوداً خبر كان وخبر «إنّ» في الجملة ويجوز في غير القرآن رفع هود على خبر «إنّ» وتكون كان ملغاة. تمّ الجزء الأول «3» من كتاب «إعراب القرآن» والحمد لله رب العالمين وصلى الله على النبي محمد وعلى آله الكرام الأبرار وسلم. قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل في قوله عزّ وجلّ: [سورة البقرة (2) : آية 142] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ جمع سفيه والنساء سفايه، ما وَلَّاهُمْ «ما» اسم تام في موضع رفع بالابتداء وولّاهم في موضع الخبر.

_ (1) انظر مختصر في شواذ القرآن 10، والبحر المحيط 1/ 585، وهي قراءة زيد بن ثابت والحسن والأعمش أيضا. (2) انظر البحر المحيط 1/ 586. (3) حسب تقسيم المؤلف.

[سورة البقرة (2) : آية 143]

[سورة البقرة (2) : آية 143] وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً مفعولان. قال القتبي «1» : إنما قيل للخير وسط لأن الغلوّ والتقصير مذمومان، وخير الأمور أوساطها. قال أبو إسحاق: العرب تشبّه القبيلة بالوادي والقاع وخير الوادي وسطه وكذا خير القبيلة وسطها، وقيل: سبيل الجليل والرئيس أن لا يكون طرفا وأن يكون متوسّطا فلهذا قيل للفاضل: وسط. لِتَكُونُوا لام كي أي لأن تكونوا، شُهَداءَ خبر ويكون عطفا. وقرأ الزهري إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ «2» «من» : في موضع رفع على هذه القراءة لأنها اسم ما لم يسمّ فاعله. وجمع قبلة في التكسير قبل وفي التسليم قبلات، ويجوز أن تبدل من الكسرة فتحة، ويجوز أن تحذف الكسرة. وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً الفراء يذهب إلى أنّ «إن» واللام بمعنى «ما» و «إلّا» ، والبصريون «3» يقولون: هي «إن» الثقيلة خفّفت فصلح الفعل بعدها ولزمتها اللام لئلّا تشبه «إن» التي بمعنى «ما» قال الأخفش: أي وإن كانت القبلة لكبيرة، لَرَؤُفٌ على وزن فعول والكوفيون يقرءون لَرَؤُفٌ «4» ، وحكى الكسائي أن لغة بني أسد لرأف على فعل. [سورة البقرة (2) : آية 144] قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ظرف مكان كما تقول: تلقاءه وجهته، وانتصب الظرف لأنه فضلة بمنزلة المفعول به، وأيضا فإن الفعل واقع فيه. [سورة البقرة (2) : آية 145] وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ لأنهم كفروا وقد تبيّنوا الحق

_ (1) انظر تفسير غريب القرآن 65. (2) انظر المحتسب 1/ 111، ومختصر ابن خالويه 10، والبحر المحيط 1/ 598. (3) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 187. (4) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 171 والبحر المحيط 1/ 601.

[سورة البقرة (2) : آية 146]

فليس تنفعهم الآيات. قال الأخفش: والفرّاء «1» : أجيبت «إن» بجواب «لو» لأن المعنى ولو أتيت الذين أوتوا الكتاب بكلّ آية، ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وكذا تجاب «لو» بجواب «إن» تقول: لو أحسنت أحسن إليك ومثله وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا [الروم: 51] أي لو أرسلنا ريحا. قال أبو جعفر: هذا القول خطأ على مذهب سيبويه «2» وهو الحق، لأن معنى «إن» خلاف معنى «لو» يعني أنّ معنى إن يجب بها الشيء لوجوب غيره تقول: إن أكرمتني أكرمتك ومعنى «لو» أنه يمتنع بها الشيء لامتناع غيره فلا تدخل واحدة منهما على الأخرى. والمعنى ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية لا يتبعون قبلتك. وقال سيبويه: المعنى ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا ليظلنّ. [سورة البقرة (2) : آية 146] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ابتداء، يَعْرِفُونَهُ في موضع أي يعرفون التحويل أو يعرفون النبي صلّى الله عليه وسلّم. [سورة البقرة (2) : آية 147] الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ رفع بالابتداء أو على إضمار ابتداء وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ الحق «3» منصوبا أي يعلمون الحق فأما الذي في «الأنبياء» الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 24] فلا نعلم أحدا قرأه إلّا منصوبا والفرق الذي بينهما أنّ الذي في سورة البقرة مبتدأ آية والذي في سورة الأنبياء ليس كذلك. [سورة البقرة (2) : آية 148] وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها الهاء والألف مفعول أول والمفعول الثاني محذوف أي هو مولّيها وجهه أو نفسه والمعنى هو مولّ نحوها وجهه والعرب تحذف من كلّ وبعض فيقولون كلّ منطلق: أي كل رجل والتقدير ولكلّ أمة وأهل ملة. اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أمر أي بادروا ما أمركم الله جلّ وعزّ به من استقبال شطر البيت الحرام. [سورة البقرة (2) : آية 150] وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 84. [.....] (2) انظر الكتاب 3/ 124. (3) انظر البحر المحيط 1/ 604، ومختصر ابن خالويه 10.

[سورة البقرة (2) : آية 151]

لِئَلَّا وإن شئت خفّفت الهمزة يَكُونَ نصب بأن، وإن شئت قلت: تكون لتأنيث الحجّة وهذا متعلّق بما تقدم من الاحتجاج عليهم. إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ في موضع نصب استثناء ليس من الأول كما تقول العرب: ما نفع إلّا ما ضرّ وما زاد إلّا ما نقص. وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ قال الأخفش: هو معطوف على لئلّا يكون أي ولأن أتمّ نعمتي عليكم. [سورة البقرة (2) : آية 151] كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ قال أبو جعفر: قد ذكرنا معناه والكاف في موضع نصب أي لعلّكم تهتدون اهتداء مثل ما أرسلنا، ويجوز أن يكون التقدير ولأتم نعمتي عليكم إيمانا مثل ما أرسلنا، ويجوز أن تكون الكاف في موضع نصب على الحال أي ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال ويجوز أن يكون التقدير: فاذكروني ذكرا مثل ما و «ما» في موضع خفض بالكاف وأرسلنا صلتها. يَتْلُوا فعل مستقبل والأصل فيه ضم الواو إلّا أن الضمّة مستثقلة وقبلها أيضا ضمة فحذفت وهو في موضع نصب نعت لرسول. وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ عطف عليه. [سورة البقرة (2) : آية 152] فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) فَاذْكُرُونِي أمر. أَذْكُرْكُمْ فيه معنى المجازاة فلذلك جزم. وَلا تَكْفُرُونِ نهي فلذلك حذفت منه النون وحذفت الياء لأنه رأس آية وإثباتها حسن في غير القرآن. [سورة البقرة (2) : آية 153] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) أي عن المعاصي، قال أبو جعفر: وقد ذكرناه. [سورة البقرة (2) : آية 154] وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ على إضمار مبتدأ، وكذلك، بَلْ أَحْياءٌ. [سورة البقرة (2) : آية 155] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ هذه الواو مفتوحة عند سيبويه «1» لالتقاء الساكنين وقال غيره: لمّا ضمّت إلى النون صارت بمنزلة خمسة عشر.

_ (1) انظر الكتاب 4/ 11، والبحر المحيط 1/ 623.

[سورة البقرة (2) : آية 156]

[سورة البقرة (2) : آية 156] الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ نعت للصابرين قالُوا إِنَّا لِلَّهِ قال الكسائي: إن شئت كسرت الألف لاستعمالها وكثرتها، وقال الفراء «1» : وإنما كسرت النون في «إنا لله» لكثرة استعمالهم إيّاها. قال أبو جعفر: أمّا قول الفراء فغلط قبيح لأنّ النون لا تكسر ولا يكون ما قبل الألف أبدا مكسورا ولا مضموما وأما قول الكسائي: فيجوز على أنه يريد أنّ الألف ممالة إلى الكسرة وأما على أن تكسر فمحال لأن الألف لا تحرّك البتة وإنّما أميلت الألف في «إنا لله» لكسرة اللام في لله ولو قلت: إنّا لزيد شاكرون، لم يجز إمالة الألف لأنها في حرف آخر وجاز ذلك في إنا لله لأنه لمّا كثر صار الشيئان بمنزلة شيء واحد، وإن شئت فخّمت. والأصل إنّنا حذفت إحدى النونين تخفيفا، وكذا وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. [سورة البقرة (2) : آية 157] أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) أُولئِكَ مبتدأ والخبر، عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ. وَرَحْمَةٌ عطف على صلوات. وَأُولئِكَ مبتدأ، هُمُ ابتداء ثان، والْمُهْتَدُونَ خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول، وإن شئت كانت «هم» زائدة توكيدا و «المهتدون» الخبر. [سورة البقرة (2) : آية 158] إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الصَّفا اسم «إنّ» والألف منقلبة من واو. وَالْمَرْوَةَ عطف على الصفا. مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ الخبر مشتق من شعرت به وهمز لأنه فعائل لا أصل للياء في الحركة فأبدل منها همزة. فَمَنْ في موضع رفع بالابتداء وحَجَّ في موضع جزم بالشرط، وجوابه وخبر الابتداء فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما «2» والأصل: يتطوّف ثم أدغمت التاء في الطاء، وحكي أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما «3» على التكثير، وروي عن ابن عباس أن يطّاف والأصل أيضا يتطاف «4» أدغمت التاء في الطاء. قال أبو جعفر: ولا نعلم أحدا قرأ: «أن يطوف بهما» . وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ فعل ماض في موضع جزم بالشرط وهذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وهي حسنة لأنه لا علّة فيها، وقراءة أهل الكوفة إلّا عاصما. وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً «5» والأصل يتطوع أدغمت التاء في الطاء. فَإِنَّ اللَّهَ اسم

_ (1) انظر معاني القرآن للفراء 1/ 94، والبحر المحيط 625. (2) هذه قراءة الجمهور. (3) انظر مختصر ابن خالويه 11. (4) انظر إملاء ما منّ به الرّحمن 70، والبحر المحيط 1/ 632. (5) انظر معاني الفراء 1/ 95، والبحر المحيط 1/ 632.

[سورة البقرة (2) : آية 159]

إنّ. شاكِرٌ خبره عَلِيمٌ نعت لشاكر، وإن شئت كان خبرا بعد خبر. [سورة البقرة (2) : آية 159] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِنَّ الَّذِينَ اسم «إنّ» وقرأ طلحة بن مصرف مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ بمعنى بيّنه الله. أُولئِكَ مبتدأ. يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ في موضع الخبر والجملة خبر «إنّ» ولعنه وطرده أي باعده من رحمته كما قال الشمّاخ: [الوافر] 29- ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مقام الذّئب كالرّجل اللّعين «1» قال أبو جعفر: وقد بيّنا معنى «وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ» لأن للقائل أن يقول: أهل دينهم لا يلعنونهم ومن أحسن ما قيل فيه أنّ أهل دينهم يلعنون على الحقيقة لأنهم يلعنون الظالمين وهم من الظالمين. [سورة البقرة (2) : آية 160] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا نصب بالاستثناء. [سورة البقرة (2) : آية 161] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اسم «إنّ» أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ الخبر، وقرأ الحسن أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعون «2» وهذا معطوف على الموضع كما تقول: عجبت من قيام زيد وعمرو لأن موضع «زيد» موضع رفع والمعنى من أن قام زيد والمعنى أولئك عليهم أن يلعنهم الله والملائكة والناس أجمعون. [سورة البقرة (2) : آية 162] خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) خالِدِينَ فِيها حال. [سورة البقرة (2) : آية 163] وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ابتداء وخبر. [سورة البقرة (2) : آية 164] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

_ (1) الشاهد للشمّاخ بن ضرار في ديوانه ص 321، وجمهرة اللغة ص 949، وخزانة الأدب 4/ 347، وشرح المفصّل 3/ 13، ولسان العرب (لعن) ، والمعاني الكبير 1/ 194، والمنصف 1/ 109، وبلا نسبة في مجالس ثعلب 2/ 543، والمحتسب 1/ 327. (2) انظر معاني الفراء 1/ 96، وتفسير الطبري 2/ 58.

[سورة البقرة (2) : آية 165]

(لَآياتٍ) في موضع نصب اسم إنّ. [سورة البقرة (2) : آية 165] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) مِنَ في موضع رفع بالابتداء ويَتَّخِذُ على اللفظ ويجوز في غير القرآن يتخذون، يُحِبُّونَهُمْ على المعنى، ويجوز في غير القرآن يحبّهم وهو في موضع نصب على الحال من المضمر الذي في يتّخذ، وإن شئت كان نعتا لأنداد، وإن شئت كان في موضع رفع نعتا لمن على أنّ من نكرة كما قال: [الكامل] 30- فكفى بنا فضلا على من غيرنا ... حبّ النّبيّ محمّد إيّانا «1» وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ ابتداء وخبر، كَحُبِّ اللَّهِ على البيان، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا بالياء قراءة أهل مكة وأهل الكوفة وأبي عمرو وهي اختيار أبي عبيد، وقرأ أهل المدينة وأهل الشام ولو ترى الذين «2» بالتاء وفي الآية إشكال وحذف زعم أبو عبيد أنه اختار القراءة بالياء لأنه يروى في التفسير أنّ المعنى لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا أن القوة لله. قال أبو جعفر: روي عن محمد بن يزيد أنه قال: هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد وليست عبارته فيه بالجيدة لأنه يقدّر «ولو يرى الذين ظلموا العذاب» وكأنه جعله مشكوكا فيه، وقد أوجبه الله عزّ وجلّ. ولكن التقدير وهو قول أبي الحسن الأخفش سعيد: ولو يرى الذين ظلموا أنّ القوة لله، ويرى بمعنى يعلم أي لو يعلمون حقيقة قوة الله، فيرى واقعة على «أن» ، وجواب «لو» محذوف أي لتبيّنوا ضرر اتخاذهم الآلهة، كما قال: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام: 27] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ [الأنعام: 30] ولم يأت للو جواب. قال الزهري وقتادة: الإضمار أشدّ للوعيد. قال أبو جعفر: ومن قرأ ولو ترى بالتاء كان «الذين» مفعولين

_ (1) الشاهد لكعب بن مالك في ديوانه ص 289، وخزانة الأدب 6/ 120، 123، 128، والدرر 3/ 7، وشرح أبيات سيبويه 1/ 535، ولبشير بن عبد الرّحمن في لسان العرب (منن) ، ولحسان بن ثابت في الأزهيّة ص 101، ولكعب أو لحسان أو لعبد الله بن سواحة في الدرر 1/ 302، ولكعب أو لحسان أو لبشير بن عبد الرّحمن في شرح شواهد المغني 1/ 337، والمقاصد النحوية 1/ 486، وللأنصاري في الكتاب 2/ 101، ولسان العرب (كفى) ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص 52، ورصف المباني ص 149، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 135، وشرح شواهد المغني 2/ 741، وشرح المفصّل 4/ 12، ومجالس ثعلب 1/ 330، والمقرب 1/ 203، وهمع الهوامع 1/ 92. (2) انظر البحر المحيط 1/ 645، وهي قراءة الحسن وقتادة وشيبة وأبي جعفر ويعقوب أيضا.

[سورة البقرة (2) : آية 166]

عنده وحذف أيضا جواب «لو» و «أن» في موضع نصب أي لأن القوة لله وأنشد سيبويه: [الطويل] 31- وأغفر عوراء الكريم ادّخاره ... وأعرض عن شتم اللّئيم تكرّما «1» أي لادّخاره، وأجاز الفراء «2» أن تكون «أنّ» في موضع نصب على إضمار الرؤية ومن كسر فقرأ إنّ القوة لله وإنّ الله جعلها استئنافا جَمِيعاً نصب على الحال. وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ عطف على أنّ الأولى. [سورة البقرة (2) : آية 166] إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا ضمّت الهمزة في اتبعوا اتباعا للتاء وضمّت التاء الثانية لتدل على أنه لما لم يسمّ فاعله، فإن قيل: سبيل ما لم يسم فاعله أن يضمّ أوله للدلالة فكيف ضمّ الثالث هذا للدلالة فالجواب أنّ سبيل فعل ما لم يسمّ فاعله أن يضمّ أول متحركاته فلما كانت التاء الأولى ساكنة اجتلبت لها الهمزة وحرّكت الثانية لأنها أول المتحركات. وَرَأَوُا الْعَذابَ ضمّت الواو لالتقاء الساكنين. [سورة البقرة (2) : آية 167] وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً «أن» في موضع رفع أي لو وقع ذلك فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ جواب التمني. كَما الكاف في موضع نصب أي تبرؤوا كما، ويجوز أن يكون نصبا على الحال. كَذلِكَ الكاف في موضع رفع أي الأمر كذلك، ويجوز أن تكون في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف أي رؤية كذلك يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ مفعولان حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ نصب على الحال. [سورة البقرة (2) : آية 168] يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً نعت لمفعول أي شيئا حلالا أو أكلا حلالا. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا (خطوات الشيطان) . [سورة البقرة (2) : آية 169] إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَأَنْ تَقُولُوا في موضع خفض عطفا على قوله بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ.

_ (1) مرّ الشاهد رقم (8) . (2) انظر معاني القرآن للفراء 1/ 97. [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 170]

[سورة البقرة (2) : آية 170] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا فتحت الواو لأنها واو عطف. [سورة البقرة (2) : آية 171] وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا مبتدأ، وخبره كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ قال أبو جعفر: وقد تقصينا معناه. بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً نصب بيسمع. وَنِداءً عطف عليه. صُمٌّ أي هم صمّ. [سورة البقرة (2) : آية 173] إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ نصب بحرّم، و «ما» كافة، ويجوز أن تجعلها بمعنى الذي وترفع الميتة والدم ولحم الخنزير. فَمَنِ اضْطُرَّ ضمّت النون لالتقاء الساكنين وأتبعت الضمة الضمة، ويجوز الكسر على أصل التقاء الساكنين، وقرأ أبو جعفر فَمَنِ اضْطُرَّ «1» بكسر الطاء لأنّ الأصل اضطرر فلمّا أدغم ألقى حركة الراء على الطاء ويجوز (فمن اضّرّ) لمّا لم يجز أن يدغم الضاد في الطاء أدغم الطاء في الضاد، ويجوز أن تقلب الضاد طاء من غير إدغام ثم تدغم الطاء في الطاء فتقول: فمن اطّر وهذا في غير القرآن، غَيْرَ باغٍ «غير» نصب على الحال، والأصل باغي استثقلت الحركة في الياء فسكنت والتنوين ساكن فحذفت الياء لسكونها وسكون التنوين وكانت أولى بالحذف لأن التنوين علامة وقبل الياء ما يدلّ عليها وكذا ولا عاد. [سورة البقرة (2) : آية 174] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) الَّذِينَ اسم «إنّ» ، والخبر أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ. [سورة البقرة (2) : آية 177] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) لَيْسَ الْبِرَّ اسم ليس، والخبر أَنْ تُوَلُّوا وقرأ الكوفيون لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا «2»

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 11. (2) انظر معاني الفراء 1/ 103، والبحر المحيط 2/ 3.

جعلوا «أن» في موضع رفع والأول بغير تقديم ولا تأخير، وفي قراءة أبيّ وابن مسعود ليس البرّ بأن تولّوا فلا يجوز في البرّ هاهنا إلّا الرفع. وَلكِنَّ الْبِرَّ وقرأ الكوفيون ولكن البرّ رفع بالابتداء. مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ الخبر، وفيه ثلاثة أقوال: يكون التقدير ولكن البرّ برّ من آمن بالله ثم حذف كما قالت الخنساء: [البسيط] 32- فإنما هي إقبال وإدبار «1» أي ذات إقبال، ويجوز أن يكون التقدير ولكن ذو البرّ من آمن بالله ويجوز أن يكون البرّ بمعنى البار والبرّ كما يقال: رجل عدل، وفي الآية إشكال من جهة الإعراب لأن بعد هذا وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فيه خمسة أقوال: يكون و «الموفون» رفعا عطفا على «من» ، و «الصابرين» على المدح أي وأعني الصابرين، ويكون و «الموفون» رفعا بمعنى، وهم الموفون مدحا للمضمرين و «الصابرين» عطفا على ذوي القربى، ويكون و «الموفون» رفعا على وهم الموفون و «الصابرين» بمعنى وأعني الصابرين فهذه ثلاثة أجوبة لا مطعن فيها من جهة الإعراب موجودة في كلام العرب وأنشد سيبويه «2» : [الكامل] 33- لا يبعدن قومي الّذين هم ... سمّ العداة وآفة الجزر النّازلين بكلّ معترك ... والطّيّبون معاقد الأزر وإن شئت قلت: النازلون والطيبين، وإن شئت رفعتهما جميعا، ويجوز نصبهما. قال الكسائي: يجوز أن يكون و «الموفون» نسقا «3» على «من» و «الصابرين» نسقا على «ذوي القربى» . قال أبو جعفر: وهذا القول خطأ وغلط بيّن لأنك إذا نصبت والصابرين ونسقته على ذوي القربى دخل في صلة «من» فقد نسقت على «من» من قبل أن تتمّ الصلة وفرقت بين الصلة والموصول بالمعطوف، والجواب الخامس: أن يكون

_ (1) الشاهد للخنساء في ديوانها ص 383، والأشباه والنظائر 1/ 198، وخزانة الأدب 1/ 431، وشرح أبيات سيبويه 1/ 282، والشعر والشعراء 1/ 354، والكتاب 1/ 337، ولسان العرب (رهط، وقبل، وسوا) ، والمقتضب 4/ 305، والمنصف 1/ 197، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 387، وشرح الأشموني 1/ 213، وشرح المفصّل 1/ 115، والمحتسب 2/ 43، وصدره: «ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت» (2) البيتان للخرنق بنت بدر بن هفان في ديوانها ص 43، والأشباه والنظائر 6/ 231، وأمالي المرتضى 1/ 205، والإنصاف 2/ 468، وأوضح المسالك 3/ 314، والحماسة البصرية 1/ 227، وخزانة الأدب 5/ 41، والدرر 6/ 14، وسمط اللآلي ص 548، وشرح أبيات سيبويه 2/ 16، وشرح التصريح 2/ 116، والكتاب 1/ 264، ولسان العرب (نضر) ، والمحتسب 2/ 198، والمقاصد النحوية 3/ 602، وأساس البلاغة (أزر) ، وبلا نسبة في رصف المباني ص 416، وشرح الأشموني 2/ 399. (3) النسق: العطف.

[سورة البقرة (2) : آية 178]

و «الموفون» عطفا على المضمر الذي في آمن «الصابرين» عطفا على «ذوي القربى» قال الكسائي: وفي قراءة عبد الله والموفين والصابرين قال أبو جعفر: يكونان منسوقين على ذوي القربى وعلى المدح. قال الفراء: وفي قراءة عبد الله في «النساء» والمقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة [النساء: 162] . [سورة البقرة (2) : آية 178] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ اسم ما لم يسمّ فاعله. فِي الْقَتْلى لم يتبيّن فيه الإعراب لأنّ فيه ألف التأنيث وجيء بها لتأنيث الجماعة. الْحُرُّ بِالْحُرِّ ابتداء وخبر. وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى نسق عليه. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ شرط والجواب فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وهو رفع بالابتداء، والتقدير فعليه اتباع بالمعروف ويجوز في غير القرآن فاتّباعا وأداء يجعلهما مصدرين. ذلِكَ تَخْفِيفٌ ابتداء وخبر. [سورة البقرة (2) : آية 179] وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ رفع بالابتداء. وقراءة أبيّ وأبي الجوزاء ولكم في القصص شاذة والظاهر دلّ على غيرها. قال الله عزّ وجلّ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى فدلّ بعض الكلام على بعض والتفسير على القصاص. روى سفيان الثوري «1» عن السدّيّ عن أبي مالك وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ قال: أن لا يقتل بعضكم بعضا ثم قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ حذف المفعول لعلم السامع. روى اللّيث عن ربيعة في قوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ محارمكم وما نهيت بعضكم فيه عن بعض. [سورة البقرة (2) : آية 180] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ في الكلام تقدير واو العطف المعنى وكتب عليكم، ومثله في بعض الأقوال لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 15، 16] أي ولا يصلاها. أَحَدَكُمُ مفعول والْمَوْتُ فاعل. إِنْ تَرَكَ خَيْراً شرط، وفي جوابه قولان: قال الأخفش سعيد: التقدير فالوصيّة ثم حذف الفاء كما قال: [البسيط]

_ (1) سفيان الثوري: أبو عبد الله الكوفي، الإمام الكبير، روى القراءة عرضا عن حمزة وروى عن عاصم (ت 161 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 1/ 308.

[سورة البقرة (2) : آية 181]

34- من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشّرّ بالشّرّ عند الله مثلان «1» والجواب الآخر أنّ الماضي يجوز أن يكون جوابه قبله وبعده فيكون التقدير الوصية للوالدين والأقربين إن ترك خيرا فإن حذفت الفاء فالوصية رفع بالابتداء وإن لم تقدر الفاء جاز أن ترفعها أيضا بالابتداء وأن ترفعها على أنها اسم ما لم يسمّ فاعله أي كتب عليكم الوصية. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا في الآية أقوالا منها أن تكون منسوخة بالفرض ومنها أن تكون على الندب على الوصية. قال أبو جعفر: والقول أنه لا يجوز أن يكون شيء من هذا على الندب إلّا بدليل وقد قيل: أنها منسوخة بالحديث «لا وصية لوارث» «2» . حَقًّا مصدر، ويجوز في غير القرآن «حقّ» بمعنى ذلك حق. [سورة البقرة (2) : آية 181] فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ بَدَّلَهُ شرط، وجوابه فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ و «ما» كافة لأنّ عن العمل وإِثْمُهُ رفع بالابتداء. عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ في موضع الخبر. [سورة البقرة (2) : آية 182] فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) فَمَنْ خافَ شرط، والأصل خوف وقلبت الواو ألفا لتحرّكها وتحرّك ما قبلها. وأهل الكوفة يميلون «خاف» ليدلّوا على الكسرة من فعلت. مِنْ مُوصٍ ومن موصّ والتخفيف أبين لأن أكثر النحويين يقول: موصّ للتكثير وقد يجوز أن يكون مثل كرّم وأكرم جَنَفاً من جنف يجنف إذا جاز والاسم منه جنف وجانف. فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ عطف على خاف والكناية عن الورثة ولم يجر لهم ذكر لأنه قد عرف المعنى وجواب الشرط فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. [سورة البقرة (2) : آية 183] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ اسم ما لم يسمّ فاعله. كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ

_ (1) الشاهد لكعب بن مالك في ديوانه ص 288، وشرح أبيات سيبويه 2/ 109، وله أو لعبد الرّحمن بن حسان في خزانة الأدب 9/ 49، وشرح شواهد المغني 1/ 178، ولعبد الرّحمن بن حسان في خزانة الأدب 2/ 365، ولسان العرب (بجل) ، والمقتضب 2/ 72، ومغني اللبيب 1/ 56، والمقاصد النحوية 4/ 433، ونوادر أبي زيد ص 31، ولحسان بن ثابت في الدرر 5/ 81، والكتاب 3/ 73، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 7/ 114، وأوضح المسالك 4/ 210، وخزانة الأدب 9/ 40، والخصائص 2/ 281، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 264، وشرح شواهد المغني 1/ 286، وشرح المفصّل 9/ 2، 3، والمحتسب 1/ 193، والمقرب 1/ 276، والمنصف 3/ 118، وهمع الهوامع 2/ 60. (2) أخرجه أحمد في مسنده 4/ 186، والترمذي في سننه 2120، 2121، والنسائي في سننه (الوصايا ب 5) ، وابن ماجة في سننه 2713، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 85.

[سورة البقرة (2) : آية 184]

الكاف في موضع نصب من ثلاث جهات: يجوز أن يكون نعتا لمصدر من كتب أي كتب عليكم الصّيام كتبا كما، ويجوز أن يكون التقدير كتب عليكم الصيام صوما كما، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال أي كتب عليكم الصيام مشبها كما كتب على الذين من قبلكم، ويجوز أن يكون في موضع رفع نعتا للصيام وما للصيام وما بيانه «الذين آمنوا» و «ما» في موضع خفض وصلتها كتب على الذين من قبلكم والضمير في كتب يعود على «ما» . [سورة البقرة (2) : آية 184] أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قال الأخفش: أَيَّاماً نصب بالصيام أي كتب عليكم أن تصوموا أياما معدودات، وقال الفراء «1» : هي نصب بكتب لأن فعل ما لم يسمّ فاعله إذا رفعت بعده اسما نصبت الآخر. وفي الآية شيء لطيف غامض من النحو يقال: لا يجيز النحويون: هذا صارف ظريف زيدا وكيف يجوز أن تنصب «أياما» بالصيام إذا كانت الكاف نعتا للصيام؟ فالجواب أنك إذا جعلت أياما مفعولة لم يجز هذا، وإن جعلتها ظرفا جاز لأن الظروف تعمل فيها المعاني، وزعم أحمد بن يحيى: أنّ ذلك لا يجوز البتّة وإن جعلت الكاف في موضع نصب بكتب لم يجز لأنك تفرق بين الصيام وبين ما عمل فيه بما لم يعمل فيه وإن جعلت الكاف في موضع نصب بالصيام ونصبت أياما بالصيام فلا اختلاف فيه إنّه جيد بالغ. مَعْدُوداتٍ نعت لأيام إلّا أن التاء كسرت عند البصريين لأنه جمع مسلّم، وعند الكوفيين لأنها غير أصلية. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً شرط بمن أي فمن كان منكم مريضا في هذه الأيام فَعِدَّةٌ رفع بالابتداء، والخبر عليه حذفت. قال الكسائي: ويجوز فعدّة أي فليصم عدّة. مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لم تنصرف «أخر» عند سيبويه «2» لأنها معدولة عن الألف واللام لأن سبيل فعل من هذا الباب أن يأتي بالألف واللام نحو الكبر والفضل. قال الكسائي: هي معدولة أخر كما تقول: حمراء وحمر فلذلك لم تنصرف، وقيل منعت من الصرف لأنها على وزن جمع. ويقال: إنما يقال يوم آخر ولا يقال: أخرى وأخر إنما هي جمع أخرى ففي هذا جوابان: أحدهما أنّ نعت الأيام يكون مؤنثا فلذلك نعتت بأخر، والجواب الآخر أن يكون أخر جمع أخرى كأنه أيام أخرى ثم كثرت فقيل أيام أخر. وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ

_ (1) انظر معاني القرآن للفراء 1/ 112، والبحر المحيط 2/ 46. (2) انظر الكتاب 3/ 315.

[سورة البقرة (2) : آية 185]

والأصل يطوقونه، وقد قرئ به فقلبت حركة الواو على الطاء فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وقرأ ابن عباس يطوّقونه «1» فصحّت الواو لأنه ليس قبلها كسرة، ويقرأ يطّوّقونه «2» والأصل يتطوّقونه ثم أدغمت التاء في الطاء. والقراءة المجمع عليها يُطِيقُونَهُ وأصحّ ما فيها أنّ الآية منسوخة كما ذكرناه. فأما يطيّقونه وتطّيّقونه فلا يجوز لأن الواو لا تقلب ياء إلا لعلّة. فدية طعام مساكين «3» هذه قراءة أهل المدينة وابن عامر «4» رواها عنه عبيد الله عن نافع، وقرأ أبو عمرو والكسائي وحمزة وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ «5» وهذا اختيار أبي عبيد وزعم أنه اختاره لأن معناه لكل يوم إطعام واحد منهم فالواحد مترجم عن الجميع وليس الجميع بمترجم عن الواحد. قال أبو جعفر: وهذا مردود من كلام أبي عبيد لأن هذا إنّما يعرف بالدلالة فقد علم أنّ معنى وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين أنّ لكلّ يوم مسكينا فالاختيار هذه القراءة ليرد جمعا على جمع. واختار أبو عبيد أن يقرأ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ قال: لأن الطعام هو الفدية. قال أبو جعفر: لا يجوز أن يكون الطعام نعتا لأنه جوهر ولكنه يجوز على البدل وأبين منه أن يقرأ فِدْيَةٌ طَعامُ بالإضافة لأن فدية مبهمة تقع للطعام وغيره فصار مثل قولك: هذا ثوب خزّ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ شرط وجوابه وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ابتداء وخبر أي فالصوم خير لكم. [سورة البقرة (2) : آية 185] شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) شَهْرُ رَمَضانَ حكيت فيه ستة أوجه: شَهْرُ رَمَضانَ قراءة العامة، وقرأ مجاهد وشهر ابن حوشب شَهْرُ رَمَضانَ بالنصب وحكي عن الحسن وأبي عمرو إدغام الراء في الراء وهذا لا يجوز لئلّا يجتمع ساكنان، والقراءة الرابعة: الإخفاء والوجه الخامس أن تقلب حركة الراء على الهاء فتضم الهاء، وهذا قول الكوفيين كما قال امرؤ القيس: [الطويل] 35- فمن كان ينسانا وحسن بلائنا ... فليس بناسينا على حالة بكر «6»

_ (1) انظر المحتسب 1/ 118. (2) انظر المحتسب 1/ 118، والبحر المحيط 2/ 42. (3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 176. (4) ابن عامر، عبد الله بن عامر اليحصبي، أحد القراء السبعة (ت 118 هـ) ترجمته في كتاب السبعة لابن مجاهد 86، وغاية النهاية 1/ 423. [.....] (5) وهذه قراءة الجمهور، انظر البحر المحيط 2/ 44. (6) الشاهد غير موجود في شعر امرئ القيس ولا في الشواهد النحوية.

ويجوز شَهْرُ رَمَضانَ «1» من جهتين: إحداهما على قراءة من نصب فقلب حركة الراء على الهاء، والأخرى على لغة من قال لحم ولحم ونهر ونهر «شهر رمضان» رفع بالابتداء وخبره الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ويجوز أن يكون شهر مرفوعا على إضمار ابتداء، والتقدير المفترض عليكم صومه شهر رمضان أو ذلك شهر رمضان أو الصوم أو الأيام. ورمضان لا ينصرف لأن النون فيه زائدة. ونصب شهر رمضان شاذّ وقد قيل فيه أقوال: قال الكسائي: المعنى كتب عليكم الصيام وأن تصوموا شهر رمضان. قال الفراء «2» : أي كتب عليكم الصيام أي أن تصوموا شهر رمضان. قال أبو جعفر: لا يجوز أن تنصب شهر رمضان تصوموا لأنه يدخل في الصلة ثم يفرق بين الصلة والموصول وكذا إن نصبته بالصيام، ولكن يجوز أن تنصبه على الإغراء أي الزموا شهر رمضان وصوموا شهر رمضان. وهذا بعيد أيضا لأنه لم يتقدّم ذكر الشهر فيغرى به. هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ في موضع نصب على الحال من القرآن والقرآن اسم ما لم يسمّ فاعله. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ يقال: ما الفائدة في هذا والحاضر والمسافر يشهدان الشهر؟ فالجواب أن الشهر ليس بمفعول وإنما هو ظرف زمان والتقدير فمن شهد منكم المصر في الشهر، وجواب آخر أن يكون التقدير فمن شهد منكم الشهر غير مسافر ولا مريض فَلْيَصُمْهُ وقرأ الحسن فَلْيَصُمْهُ وكان يكسر لام الأمر كانت مبتدأة أو كان قبلها شيء وهو الأصل ومن أسكن حذف الكسرة لأنها ثقيلة. وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ اسم «كان» فيها مضمر «ومريضا» خبره «أو على سفر» عطف أي أو مسافرا. فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ واليسر واليسر لغتان وكذا العسر والعسر. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ فيه خمسة أقوال. قال الأخفش: هو معطوف أي ويريد ولتكملوا العدة كما قال: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [الصف: 8] ، وقال غيره: يريد الله هذا التخفيف لتكملوا العدة، وقيل الواو مقحمة، وقال الفراء «3» : المعنى ولتكملوا العدّة فعل هذا. قال أبو جعفر: وهذا قول حسن ومثله وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: 75] أي وليكون من الموقنين فعلنا ذلك، والقول الخامس ذكره أبو إسحاق إبراهيم بن السري «4» قال: هو محمول على المعنى والتقدير فعل الله ذلك ليسهّل عليكم ولتكملوا العدة. قال: ومثله ما أنشد سيبويه «5» : [الكامل]

_ (1) وهذه قراءة مجاهد وشهر بن حوشب وهارون الأعور، انظر البحر المحيط 2/ 45. (2) انظر معاني الفراء 1/ 112. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1/ 113. (4) انظر إعراب القرآن ومعانيه 219. (5) البيتان للشمّاخ بن ضرار في ملحق ديوانه ص 427، وأساس البلاغة (معز) ، وشرح أبيات سيبويه 1/ 396، ولذي الرمة في ملحق ديوانه ص 1840، وبلا نسبة في أساس البلاغة (شجج) ، وتاج العروس (شجج) ، وخزانة الأدب 5/ 147، والكتاب 1/ 320، ولسان العرب (شجج) .

[سورة البقرة (2) : آية 186]

36- بادت وغيّر آيهنّ مع البلى ... إلّا رواكد جمرهنّ هباء ومشجّج أمّا سواء قذاله ... فبدا وغيّر ساره المعزاء لأن معنى: بادت إلّا رواكد بها رواكد فكأنه. قال: وبها مشجّج أو ثمّ مشجّج، وقرأ الحسن وقتادة والعاصمان والأعرج وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ واختار الكسائي وَلِتُكْمِلُوا لقوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] . قال أبو جعفر: هما لغتان بمعنى واحد كما قال: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق: 17] ولا يجوز ولتكملوا بإسكان اللام والفرق بين هذا وبين ما تقدم أن التقدير ولأن تكملوا العدة فلا يجوز حذف أن والكسرة. وَلِتُكَبِّرُوا عطف عليه. [سورة البقرة (2) : آية 186] وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) فَإِنِّي قَرِيبٌ خبر إنّ. أُجِيبُ خبر بعد خبر. حكى سيبويه «1» : «هذا حلو حامض» . ويجوز أن يكون نعتا ومستأنفا. فَلْيَسْتَجِيبُوا لام أمر وكذا وَلْيُؤْمِنُوا وجزمت لام الأمر لأنها تجعل الفعل مستقبلا لا غير فأشبهت إن التي للشرط، وقيل: لأنها لا تقع إلّا على الفعل. [سورة البقرة (2) : آية 187] أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ اسم ما لم يسمّ فاعله. قال أبو إسحاق «2» : «الرفث» كلمة جامعة لكلّ ما يريده الرجل من المرأة. هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ ابتداء وخبر وشدّدت النون من هنّ لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ فتحت أن بعلم. فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ قد ذكرناه وهو إباحة. وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ عطف عليه وكذا وَكُلُوا وَاشْرَبُوا فَلا تَقْرَبُوها جزم بالنهي والكلام في «لا» كالكلام في لام الأمر. قال الكسائي: فلا تقربوها قربانا.

_ (1) انظر الكتاب 2/ 79، قال: «كقولك: هذا حلو حامض» . (2) انظر إعراب القرآن ومعانيه 220.

[سورة البقرة (2) : آية 188]

[سورة البقرة (2) : آية 188] وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا عطف على تأكلوا، وفي قراءة أبيّ ولا تدلوا «1» ويجوز أن يكون ولا تدلوا جواب النهي بالواو كما قال: [الكامل] 37- لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم «2» بِها الهاء تعود على الأموال أي ترشوا بها أو تخاصموا من أجلها فكأنكم قد أدليتم بها ويجوز أن يكون الهاء تعود على الحجّة وإن لم يتقدم لها ذكر كما يقال: أدلى بحجته. «أموالكم» إضافة الجنس أي الأموال التي لكم. [سورة البقرة (2) : آية 189] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ وإن خفّفت الهمزة ألقيت حركتها على السين وحذفتها فقلت: يسلونك وأهلّه جمع هلال في القليل والكثير وكان يجب أن يقال في الكثير: هلل فاستثقلوا ذلك كما استثقلوه في كساء ورداء من المعتل قُلْ هِيَ مَواقِيتُ ابتداء وخبر، الواحد ميقات انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وهي ساكنة ولم تنصرف مواقيت عند البصريين لأنها جمع وهو جمع لا يجمع ولا نظير له في الواحد وقال الفراء «3» لم تنصرف لأنها غاية الجمع. لِلنَّاسِ خفض باللام. وَالْحَجِّ «4» عطف عليه هذه لغة أهل الحجاز، وأهل نجد يقولون الحجّ بكسر الحاء فالفتح على المصدر والكسر على أنه اسم والحجّة بفتح الحاء المرة الواحدة والحجّة عمل سنة ومنه ذو الحجّة ويقال للسنة أيضا حجّة كما قال زهير: [الطويل] 38- وقفت بها من بعد عشرين حجّة ... فلأيا عرفت الدّار بعد توهّم «5» وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ ولا يجوز نصب البرّ لأن الباء إنما تدخل في الخبر

_ (1) انظر معاني القرآن للفراء 1/ 115. (2) مرّ الشاهد رقم (19) . (3) انظر معاني القرآن للفراء 1/ 115. (4) انظر البحر المحيط 2/ 70. (5) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 7، ولسان العرب (وهم، ولأي) ، وبلا نسبة في المخصّص 3/ 30. [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 190]

ويقال: بيوت بالكسر وهي لغة رديئة لأنه يخالف الباب وجازت على أن تبدل من الضمة كسرة لمجاورتها الياء. وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى قال أبو جعفر: قد ذكرناه «1» والتقدير: من اتّقى ما نهي عنه. [سورة البقرة (2) : آية 190] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَلا تَعْتَدُوا لا تقتلوا من لم تؤمروا بقتله ويدخل في الأمر بهذا النساء والصبيان وقتل اثنين بواحد يقال: اعتدى إذا جاوز ما يجب. وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ابتداء وخبر. [سورة البقرة (2) : آية 191] وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نهي، وهو منسوخ وقرأ الكوفيون ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقتلوكم فيه» على قول العرب: قتلنا بني فلان إذا قتلوا بعضهم، ولا يجوز هذا حتى يعرف المعنى، وحكي عن محمد بن يزيد أنه قال: لا ينبغي أن تقرأ هذه القراءة لأنه يجب على من قرأها أن يكون المعنى لا تقتلوهم ولا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم. [سورة البقرة (2) : آية 193] وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ قال الأخفش سعيد: المعنى فإن انتهى بعضهم فلا عدوان إلّا على الظالمين منهم وقيل: فإن انتهوا للجماعة. [سورة البقرة (2) : آية 194] الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ ابتداء وخبر، والتقدير قتال الشهر الحرام بقتال الشهر الحرام. وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ ويجوز فتح الراء وإسكانها. [سورة البقرة (2) : آية 195] وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ الأصل بأيديكم فاستثقلت الحركة في الياء فسكنت. قال الأخفش: الباء زائدة وأبو العباس يذهب إلى أنها متعلقة بالمصدر. [سورة البقرة (2) : آية 196] وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)

_ (1) ذكره في إعراب الآية (24) . (2) انظر معاني الفراء 1/ 116.

[سورة البقرة (2) : آية 197]

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ والعمرة عطف على الحجّ وقراءة الشّعبي «1» وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ شاذة بعيدة لأن العمرة يجب أن يكون إعرابها كإعراب الحج كذا سبيل المعطوف فإن قيل: رفعها بالابتداء لم تكن في ذلك فائدة لأن العمرة لم تزل لله عزّ وجلّ، وأيضا فإنه تخرج العمرة من الإتمام، وقال من احتجّ للرفع إذا نصبت وجب أن تكون العمرة واجبة. قال أبو جعفر: وهذا الاحتجاج خطأ لأن هذا لا يجب به فرض وإنّما الفرض وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران: 97] ولو قال قائل: أتمم صلاة الفرض والتطوّع لما وجب من هذا أن يكون التطوع واجبا وإنما المعنى إذا دخلت في صلاة الفرض والتطوّع فأتممها. فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. قال أبو عمرو بن العلاء: واحد الهدي هدية، وقال الفراء: لا واحد له. قال «2» ابن السّكيت «3» : ويقال: هديّ، وحكى غيره: إنها لغة بني تميم قال زهير: [الوافر] 39- فلم أر معشرا أسروا هديّا ... ولم أر جار بيت يستباء «4» قال الأخفش: التقدير فعليه ما استيسر من الهدي. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أي فعليه صيام ثلاثة أيام وثبتت الهاء في ثلاثة فرقا بين المذكّر والمؤنث، وقيل: كان المذكر أولى بالهاء لأن الهاء تدخل في المذكر في الجمع القليل نحو قردة. وهذا قول الكوفيين، وقال بعض البصريين: كان المذكر أولى بالهاء لأن تأنيثه غير حقيقي فأنّث باللفظ والمؤنث تأنيثه حقيقي فأنّث بالمعنى والصيغة لأنها أوكد، وقال بعضهم: وقع بالمذكر التأنيث لأنه بمعنى جماعة. تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ابتداء وخبر، وتيك لغة. ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الأصل حاضرين حذفت النون للإضافة وحذفت الياء من اللفظ في الإدراج لسكونها وسكون اللام بعدها. [سورة البقرة (2) : آية 197] الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)

_ (1) الشّعبيّ: عامر بن شراحيل الكوفي، الإمام الحافظ، عرض على السلمي وعلقمة بن قيس. (ت 105 هـ) ترجمته في غاية النهاية 1/ 350. (2) انظر إصلاح المنطق لابن السّكّيت (275) . (3) ابن السكيت، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، أحد كبار اللغويين الكوفيين قتله المتوكل سنة 244 هـ. ترجمته في طبقات الزبيدي 221. (4) الشاهد لزهير في ديوانه ص 79، ولسان العرب (بوأ) ، و (هدى) ومقاييس اللغة 1/ 314، وكتاب العين 8/ 412، وتهذيب اللغة 6/ 380، وتاج العروس (بوأ) و (هدى) .

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ابتداء وخبر، والتقدير أشهر الحجّ أشهر معلومات، ويجوز «الحجّ أشهرا» على الظرف أي في أشهر وزعم الفراء «1» أنه لا يجوز النصب وعلّته أنّ أشهرا نكرة غير محصورات، وليس هذا سبيل الظروف، وكذا عنده: المسلمون جانب والكفار جانب فإن قلت جانب أرضهم وجانب بلادهم كان النصب هو الوجه. فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ «من» في موضع رفع بالابتداء وهي شرط، وخبر الابتداء محمول على المعنى أي فلا يكن فيه رفث فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ «2» على التبرية وقرأ يزيد بن القعقاع فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ جعل «لا» بمعنى «ليس» ، وإن شئت رفعت بالابتداء، وقال أبو عمرو: المعنى فلا يكن فيه رفث إلّا أنه نصب. وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وقطعه من الأول لأنّ معناه عنده أنه قد زال الشك في أنّ الحجّ في ذي الحجة، ويجوز «فلا رفث ولا فسوق» يعطفه على الموضع وأنشد النحويون: [السريع] 40- لا نسب اليوم ولا خلّة ... اتّسع الخرق على الرّاقع «3» ويجوز في الكلام: فلا رفث ولا فسوقا ولا جدالا في الحج عطفا على اللفظ على ما كان يجب في «لا» قال الفراء: ومثله: [الطويل] 41- فلا أب وابنا مثل مروان وابنه ... إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا «4» وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ شرط وجوابه. وَتَزَوَّدُوا أمر وهو إباحة. وَاتَّقُونِ أمر فلذلك حذفت منه النون. يا أُولِي الْأَلْبابِ نداء مضاف وواحد الألباب لبّ،

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 119، والبحر المحيط 2/ 93. (2) انظر معاني الفراء 1: 120، وهي أيضا قراءة مجاهد. (3) الشاهد لأنس بن العباس بن مرداس في تخليص الشواهد ص 405، والدرر 6/ 175، وشرح التصريح 1/ 241، وشرح شواهد المغني 2/ 601، ولسان العرب (قمر) و (عتق) ، والمقاصد النحوية 2/ 351، وله أو لسلامان بن قضاعة في شرح أبيات سيبويه 1/ 583، ولأبي عامر جدّ العباس بن مرداس في ذيل سمط اللآلي ص 37، وبلا نسبة في أمالي بن الحاجب 1/ 421، وأوضح المسالك 2/ 20، وشرح الأشموني 1/ 151، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 75، وشرح شذور الذهب ص 112، وشرح ابن عقيل ص 202، وشرح المفصّل 2/ 101، و 9/ 138، واللّمع في العربية ص 128، ومغني اللبيب 1/ 226، وهمع الهوامع 2/ 144. (4) الشاهد لرجل من عبد مناة بن كنانة في تخليص الشواهد ص 413، وخزانة الأدب 4/ 67، وشرح التصريح 1/ 243، وشرح شواهد الإيضاح ص 207، والمقاصد النحوية 2/ 355، وله أو للفرزدق في الدرر 6/ 172، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 419، 2/ 593، وأوضح المسالك 2/ 22، وجواهر الأدب ص 241، وشرح الأشموني 1/ 153، وشرح قطر الندى ص 168، وشرح المفصّل 2/ 101، والكتاب 2/ 294، واللامات ص 105، واللمع ص 130، والمقتضب 4/ 372، وهمع الهوامع 2/ 143.

[سورة البقرة (2) : آية 198]

ولبّ كلّ شيء: خالصه، فلذلك قيل للعقل لبّ. قال أبو جعفر: سمعت أبا إسحاق يقول: قال لي أحمد بن يحيى أتعرف في كلام العرب من المضاعف شيئا جاء على فعل؟ فقلت: نعم حكى سيبويه «1» عن يونس: لببت تلب فاستحسنه وقال: ما أعرف له نظيرا. [سورة البقرة (2) : آية 198] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ اسم ليس. أَنْ تَبْتَغُوا في موضع نصب أي في أن تبتغوا، وعلى قول الكسائي والخليل إنها في موضع خفض. فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ بالتنوين وكذا لو سمّيت امرأة بمسلمات لأن التنوين ليس فرقا بين ما ينصرف وما لا ينصرف فتحذفه وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين هذا الجيد، وحكى سيبويه «2» عن العرب حذف التنوين (من عرفات يا هذا) ، ورأيت عرفات يا هذا. بكسر التاء بغير تنوين. قال: لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين، وحكى الأخفش: والكوفيون فتح التاء. قال الأخفش: تجرى مجرى الهاء فيقال: من عرفات يا هذا. وأنشدوا: [الطويل] 42- تنوّرتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي «3» فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ ومشعر مفعل من شعرت به أي علمت به أي معلم من متعبّدات الله جلّ وعزّ وكان يجب أن يكون على مفعل بناء على يشعر إلّا أنه ليس في كلام العرب اسم على مفعل. وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ الكاف في موضع نصب أي ذكرا مثل هدايته إيّاكم أي جزاء على هدايته إياكم. وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ لام توكيد إلّا أنّها لازمة لئلّا تكون إن بمعنى ما. [سورة البقرة (2) : آية 200] فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ بالإظهار لأن الثاني بمنزلة المنفصل ويجوز (مناسكّم)

_ (1) انظر الكتاب 4/ 146. (2) انظر الكتاب 3/ 256. (3) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص 31، وخزانة الأدب 1/ 56، والدرر 1/ 82، ورصف المباني 345، وسرّ صناعة الإعراب ص 497، وشرح أبيات سيبويه 2/ 219، وشرح 1/ 83، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1359، وشرح المفصّل 1/ 47، والكتاب 3/ 255، والمقاصد النحوية 1/ 196، والمقتضب 3/ 333، وبلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 69، وشرح الأشموني 1/ 41، وشرح ابن عقيل ص 44 وشرح المفصّل 9/ 34.

[سورة البقرة (2) : آية 201]

بالإدغام أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ [النساء: 78 فلا يكون إلّا مدغما. فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ الكاف في موضع نصب أي ذكرا كذكركم، ويجوز أن يكون في موضع الحال. أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً «أشدّ» في موضع خفض عطفا على ذكركم، والمعنى أو (كأشدّ ذكرا. ولم ينصرف لأنه أفعل صفة، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أو اذكروه أشدّ ذكرا) ، ذِكْراً على البيان. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ في موضع رفع بالابتداء وإن شئت بالصفة. يَقُولُ رَبَّنا آتِنا صلة من وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ من زائدة للتوكيد. [سورة البقرة (2) : آية 201] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) والأصل في قِنا أوقنا حذفت الواو كما حذفت في يقي وحذفت من يقي لأنها بين ياء وكسرة مثل يعد. هذا قول البصريين، وقال الكوفيون «1» : حذفت فرقا بين اللازم والمتعدّي، وقال محمد بن يزيد: هذا خطأ لأن العرب تقول: ورم يرم فيحذفون الواو. [سورة البقرة (2) : آية 203] وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ قال الكوفيون: الألف والتاء لأقل العدد، وقال البصريون: هما للقليل والكثير. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا المعدودات والمعلومات وقول العلماء فيهما. ونشرح ذلك ها هنا. أصحّ ما قيل في المعدودات: أنها ثلاثة أيام: بعد يوم النحر، وقيل المعدودات والمعلومات واحد، وهذا غلط لقوله جل وعز: «فمن تعجّل في يومين» ، والتقدير في العربية فمن تعجل في يومين منها، والمعنى في أيام معدودات لذكر الله تعالى. وأصحّ ما قيل (فيه) في المعلومات قول ابن عمر رحمه الله وهو مذهب أهل المدينة: إنها يوم النحر ويومان بعده لأن الله عزّ وجلّ قال: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ [الحج: 28] فلا يجوز أن يكون هذا إلّا الأيام التي ينحر فيها ولا يخلو يوم النحر من أن يكون أولها أو أوسطها أو آخرها فلو كان آخرها أو أوسطها لكان النحر قبله، وهذا محال فوجب أن يكون أولها. فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ «من» رفع بالابتداء والخبر: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ويجوز في غير القرآن فلا إثم عليهم لأن معنى «من» جماعة كما قال عزّ وجلّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يونس: 42]

_ (1) انظر الإنصاف مسألة 112. [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 204]

وكذا وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى يقال: بأيّ شيء اللام متعلقة؟ فالجواب وفيه أجوبة يكون التقدير المغفرة لمن اتقى وهذا على تفسير ابن مسعود، وقال الأخفش: التقدير ذلك لمن اتّقى، وقيل التقدير السلامة لمن اتقى، وقيل، واذكروا يدلّ على الذكر فالمعنى الذكر لمن اتّقى. [سورة البقرة (2) : آية 204] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قيل «من» هاهنا مخصوص، وقال الحسن: الكاذب، وقيل: الظالم وقيل: المنافق وقرأ ابن محيصن وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ «1» بفتح الياء والهاء. وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ الفعل مثل منه لددت تلدّ وعلى قول أبي إسحاق «2» : خصام جمع خصم وقال غيره: وهو مصدر خاصم. [سورة البقرة (2) : آية 205] وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها منصوب بلام كي. وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ عطف عليه، وفي قراءة أبيّ. وليهلك الحرث وقرأ الحسن وقتادة ويهلك «3» بالرفع وفي رفعه أقوال: يكون معطوفا على يعجبك، وقال أبو حاتم: هو معطوف على سعى لأن معناه يسعى ويهلك، وقال أبو إسحاق: التقدير هو يهلك أي يقدر هذا، وروي عن ابن كثير أنه قرأ ويهلك الحرث والنسل «4» بفتح الياء وضم الكاف والحرث والنسل مرفوعان بيهلك. [سورة البقرة (2) : آية 207] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ مفعول من أجله. [سورة البقرة (2) : آية 208] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً في الكسائي: السّلم والسّلم واحد، وكذا هو عند أكثر البصريين إلّا أن أبا عمرو فرّق بينهما وقرأ هاهنا (ادخلوا في السّلم) «5»

_ (1) انظر البحر المحيط 2/ 122، وهي قراءة أبي حيوة أيضا. (2) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 239. (3) انظر البحر المحيط 2/ 123. (4) انظر البحر المحيط 2/ 123. (5) انظر التيسير 68.

[سورة البقرة (2) : آية 209]

وقال: هو في الإسلام وقرأ التي في «الأنفال» «1» والتي في «سورة محمد» «2» صلّى الله عليه وسلّم «السّلم» بفتح السين، وقال: هي بالفتح المسالمة وقال عاصم الجحدري: «السّلم» الإسلام و «السّلم» الصّلح والسّلم الاستسلام ومحمد بن يزيد ينكر هذه التفريقات وهي تكثر عن أبي عمرو واللّغة لا تأخذ هكذا وإنما تأخذ بالسماع لا بالقياس ويحتاج من فرق إلى دليل، وقد حكى البصريون: بنو فلان سلم وسلم بمعنى واحد ولو صح التفريق لكان المعنى واحدا لأنه إذا دخل في الإسلام فقد دخل في المسالمة. والصّلح والسّلم مؤنثة وقد تذكّر. كَافَّةً نصب على الحال وهو مشتق من قولهم: كففت أي منعت أي لا يمتنع منكم أحد ومنه قيل: مكفوف وكفّة الميزان وقيل: كفّ لأنه يمتنع بها. وَلا تَتَّبِعُوا نهي. خُطُواتِ الشَّيْطانِ مفعول وقد ذكرناه. [سورة البقرة (2) : آية 209] فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) فَإِنْ زَلَلْتُمْ المصدر زلا وزللا ومزلّة وزلّ في الطين زليلا. [سورة البقرة (2) : آية 210] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) وقرأ قتادة وأبو جعفر يزيد بن القعقاع في ظلال من الغمام وقرأ أبو جعفر وَالْمَلائِكَةُ «3» بالخفض وظلل جمع ظلّة في التكسير، وفي التسليم ظللات، وأنشد سيبويه: [الطويل] 43- إذا الوحش ضمّ الوحش في ظللاتها ... سواقط من حرّ وقد كان أظهرا «4» ويجوز ظللات وظلّات، وظلّال جمع ظلّ في الكثير، والقليل أظلال، ويجوز أن يكون ظلال جمع ظلّة وقيل: بل القليل أظلال، والكثير ظلال، وقيل: ظلال جمع ظلّة مثله قلّة وقلال كما قال: [الخفيف] 44- ممزوجة بماءه القلال «5» قال الأخفش سعيد: وَالْمَلائِكَةُ بالخفض بمعنى وفي الملائكة قال: والرفع أجود كما قال هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنعام: 158] وَجاءَ رَبُّكَ

_ (1) يشير إلى الآية 61: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ. (2) يشير إلى الآية 35: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ. (3) انظر معاني الفراء 1/ 124، والبحر المحيط 2/ 125. (4) الشاهد للنابغة الجعدي في ديوانه 74، وشرح شواهد الإيضاح ص 484، والكتاب 1/ 106، ولسان العرب (سقط) . (5) الشاهد للأعشى في ديوانه ص 55، ولسان العرب (أسفط) و (سفط) و (عتق) ، وتاج العروس (سنفط) و (عتق) ، والمخصّص 17/ 19 وروايته: وكأن الخمر العتيق من الإرفنط ممزوجة بماء زلال.

[سورة البقرة (2) : آية 211]

وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] قال الفراء «1» : وفي قراءة عبد الله هل ينظرون إلّا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام قال أبو إسحاق: التقدير في ظلل من الغمام ومن الملائكة. [سورة البقرة (2) : آية 211] سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ بتخفيف الهمزة فلما تحركت السين لم تحتج إلى ألف الوصل. كَمْ في موضع نصب لأنها مفعول ثان لآتيناهم، ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار عائد ولم يعرب وهي اسم لأنها بمنزلة الحروف لما وقع فيها معنى الاستفهام. قال سيبويه: فبعدت من المضارعة بعد «كم» و «إذ» من المتمكنة. مِنْ آيَةٍ إذا فرقت بين كم وبي الاسم كان الاختيار أن تأتي بمن فإن حذفتها نصبت في الاستفهام والخبر، ويجوز الخفض في الخبر كما قال: [الرمل] 45- كم بجود مقرف نال العلى ... وكريم بخله قد وضعه «2» [سورة البقرة (2) : آية 212] زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا اسم ما لم يسمّ فاعله، وقرأ مجاهد وحميد بن قيس «3» زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا «4» وهي قراءة شاذّة لأنه لم يتقدّم للفاعل ذكر. وَالَّذِينَ اتَّقَوْا ابتداء. فَوْقَهُمْ ظرف في موضع الخبر. [سورة البقرة (2) : آية 213] كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) كانَ النَّاسُ اسم كان. أُمَّةً خبرها. واحِدَةً نعت، قال أبو جعفر: قد ذكرنا

_ (1) انظر معاني القرآن للفراء 1/ 124. (2) الشاهد لأنس بن زنيم في ديوانه ص 113، وخزانة الأدب 6/ 471، والدرر 4/ 49، وشرح شواهد الشافية ص 53، والمقاصد النحوية 4/ 493، ولعبد الله بن كريز في الحماسة البصرية 2/ 10، وبلا نسبة في الإنصاف 1/ 303، والدرر 6/ 204، وشرح أبيات سيبويه 2/ 30، وشرح الأشموني 3/ 635، وشرح عمدة الحفاظ ص 534، وشرح المفصل 4: 132، والكتاب 2/ 168، والمقتضب 3/ 61، والمقرّب 1/ 313، وهمع الهوامع 1/ 255. (3) حميد بن قيس المكي الأعرج القارئ، ثقة، أخذ عرضا عن مجاهد (ت 224 هـ) ترجمته في غاية النهاية 1/ 265. (4) انظر معاني القرآن للفراء 1/ 131، والبحر المحيط 2/ 138 وهي قراءة أبي حيوة أيضا. [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 214]

قول أهل التفسير في المعنى، والتقدير في العربية: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين ودلّ على هذا الحذف وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي كان الناس على دين الحق فاختلفوا. فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أي «مبشّرين» من أطاع و «منذرين» من عصى وهما نصب على الحال. وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ الكتاب بمعنى الكتب. لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ نصب بإضمار أن وهو مجاز مثل هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية: 29] ، وقرأ عاصم الجحدري لِيَحْكُمَ شاذة لأنه قد تقدّم ذكر الكتاب. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ موضع الذين رفع بفعلهم والذين اختلفوا فيه هم المخاطبون. فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ قال أبو جعفر: قد ذكرنا قول أهل التفسير فيه وربما أعدنا الشيء مما تقدّم لنزيده شرحا أو لنختار منه قولا. فمن أحسن ما قيل فيه: إن المعنى فهدى الله الذين آمنوا بأن بيّن لهم الحقّ مما اختلفت فيه من كان قبلهم، فأمّا الحديث «في يوم الجمعة فهم لنا تبع» «1» فمعناه فعليهم أن يتّبعونا لأن هذه الشريعة ناسخة لشرائعهم. قال أبو إسحاق «2» : معنى بإذنه بعلمه. قال أبو جعفر: وهذا غلط وإنما ذلك الإذن والمعنى والله أعلم بأمره وإذا أذنت في الشيء فكأنك قد أمرت به أي فهدى الله الذين آمنوا بأن أمرهم بما يجب ن يستعملوه. [سورة البقرة (2) : آية 214] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْ تقوم مقام المفعولين: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ حذفت الياء للجزم وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ «3» هذه قراءة أهل الحرمين، وقرأ أهل الكوفة والحسن وابن أبي إسحاق وأبو عمرو حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ بالنصب وهو اختيار أبي عبيد وله في ذلك حجّتان: إحداهما عن أبي عمرو: قال: «زلزلوا» فعل ماض و «يقول» فعل مستقبل فلما اختلفا كان الوجه النصب، والحجة الأخرى حكاها عن الكسائي، قال: إذا تطاول الفعل الماضي صار بمنزلة المستقبل. قال أبو جعفر: أما الحجّة الأولى بأنّ «زلزلوا» ماض و «يقول» مستقبل فشيء ليس فيه علّة الرفع ولا النصب لأن حتّى ليست من حروف العطف في الأفعال ولا هي البتّة من عوامل الأفعال وكذا قال الخليل وسيبويه «4» : في نصبهم ما بعدها على إضمار «أن» إنما حذفوا أن لأنهم قد علموا أن حتى من عوامل الأسماء هذا معنى قولهما، وكأن هذه الحجة غلط وإنما تتكلم بها في

_ (1) أخرجه الطبري في تفسيره 2/ 338. (2) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 247، والبحر المحيط 2/ 147. (3) انظر التيسير 68. (4) انظر الكتاب 3/ 16، والإنصاف مسألة 83.

[سورة البقرة (2) : آية 215]

باب الفاء. وحجة الكسائي: بأن الفعل إذا تطاول صار بمنزلة المستقبل كلا حجّة، لأنه لم يذكر العلّة في النصب ولو كان الأول مستقبلا لكان السؤال بحاله. ومذهب سيبويه «1» في «حتّى» أن النصب فيما بعدها من جهتين، والرفع من جهتين: تقول: سرت حتّى أدخلها على أن السير والدخول جميعا قد مضيا أي سرت إلى أن أدخلها. وهذا غاية وعليه قراءة من قرأ بالنصب، والوجه الآخر في النصب في غير الآية سرت حتى أدخلها أي كي أدخلها، والوجهان في الرفع سرت حتّى أدخلهما أي سرت فأدخلها وقد مضيا جميعا أي كنت سرت فدخلت ولا تعمل حتّى ها هنا بإضمار أن لأن بعدها جملة كما قال الفرزدق: [الطويل] 46- فيا عجبا حتّى كليب تسبّني ... كأنّ أباها نهشل أو مجاشع «2» فعلى هذه القراءة بالرفع وهي أبين وأصحّ معنى أي وزلزلوا حتى الرسول يقول أي حتى هذه حاله، لأن القول إنما كان عن الزلزلة غير منقطع منها والنصب على الغاية ليس فيه هذا المعنى، والوجه الآخر في الرفع في غير الآية سرت حتى أدخلها على أن يكون السير قد مضى والدخول الآن، وحكى سيبويه مرض حتّى ما يرجونه ومثله: سرت حتّى أدخلها لا أمنع. مَتى نَصْرُ اللَّهِ رفع بالابتداء على قول سيبويه وعلى قول أبي العباس رفع بفعله أي متى يقع نصر الله. أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ اسم إنّ وخبرها ويجوز في غير القرآن إن نصر الله قريبا أي مكانا قريبا والقريب لا تثنّيه العرب ولا تجمعه ولا تؤنّثه في هذا المعنى قال عزّ وجلّ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] وقال الشاعر: [الطويل] 47- له الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم ... قريب ولا بسباسة ابنة يشكرا «3» فإن قلت: فلان قريب، ثنّيت وجمعت فقلت: قريبون وأقرباء أو قرباء. [سورة البقرة (2) : آية 215] يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ وإن خفّفت الهمزة ألقيت حركتها على السين ففتحتها وحذفت الهمزة فقلت: يسلونك. ماذا يُنْفِقُونَ «ما» في موضع رفع بالابتداء و «ذا»

_ (1) انظر الكتاب 3/ 16. (2) الشاهد للفرزدق في ديوانه 419، وخزانة الأدب 5/ 414، والدرر 4/ 112، وشرح شواهد المغني 1/ 12، وشرح المفصّل 8: 18 ومغني اللبيب 1/ 129، وبلا نسبة في رصف المباني ص 181، وشرح المفصل 8/ 62، والمقتضب 2/ 41، وهمع الهوامع 2/ 24. (3) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص 68، ولسان العرب (قرب) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 5/ 232.

[سورة البقرة (2) : آية 216]

الخبر وهو بمعنى الذي وحذفت الياء لطول الاسم أي ما الذي ينفقونه وإن شئت كانت «ما» في موضع نصب بينفقون و «ذا» مع «ما» بمنزلة شيء واحد. قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ «ما» في موضع نصب بأنفقتم وكذا وما تنفقوا وهو شرط والجواب: فَلِلْوالِدَيْنِ وكذا وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ. [سورة البقرة (2) : آية 216] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ اسم ما لم يسمّ فاعله. وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ابتداء وخبر. [سورة البقرة (2) : آية 217] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ وفي قراءة عبد الله عن قتال فيه وقراءة عكرمة «1» عن الشهر الحرام قتل فيه بغير ألف وكذا: قل قتل فيه كبير. وقرأ الأعرج ويسئلونك بالواو. عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قال أبو جعفر: الخفض عند البصريين على بدل الاشتمال، وقال الكسائي «2» : هو مخفوض على التكرير أي عن قتال فيه، وقال الفراء «3» : هو مخفوض على نيّة «عن» ، وقال أبو عبيدة «4» : هو مخفوض على الجوار. قال أبو جعفر: لا يجوز أن يعرب شيء على الجوار في كتاب الله عزّ وجلّ ولا في شيء من الكلام وإنما الجوار غلط وإنما وقع في شيء شاذّ وهو قولهم، هذا جحر ضبّ خرب. والدليل على أنه غلط قول العرب في التثنية: هذان جحرا ضبّ خربان، وإنما هذا بمنزلة الإقواء ولا يحمل شيء من كتاب الله عزّ وجلّ على هذا، ولا يكون إلّا بأفصح اللّغات وأصحّها، ولا يجوز إضمار «عن» ، والقول فيه أنه بدل، وأنشد سيبويه: [الطويل] 48- فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تهدّما «5»

_ (1) عكرمة مولى ابن عباس. وردت عنه الرواية في حروف القرآن، روى عن مولاه وابن عمر. عرض عليه عمرو بن العلاء (ت 105 هـ) ، ترجمته في غاية النهاية 1/ 515. (2) انظر البحر المحيط 2/ 154. (3) انظر معاني القرآن للفراء 1/ 141، والبحر المحيط: 2/ 154. (4) انظر مجاز القرآن 1/ 72. (5) الشاهد لعبدة بن الطبيب في ديوانه 88، والأغاني 14/ 78، 21/ 29، وخزانة الأدب 5/ 204، وديوان المعاني 2/ 175، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 792، وشرح المفصل 3/ 65، والشعر والشعراء 2/ 732، والكتاب 1/ 208، ولمرداس بن عبدة في الأغاني 14/ 86.

[سورة البقرة (2) : آية 218]

فأمّا قتال فيه بالرفع فغامض في العربية. والمعنى فيه يسألونك عن الشهر الحرام أجائز قتال فيه فقوله: «يسألونك» يدلّ على الاستفهام كما قال: [الطويل] 49- أصاح ترى برقا أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلّل «1» فالمعنى أترى برقا فحذف ألف الاستفهام لأن الألف التي في أصاح بدل منها وتدلّ عليها وإن كانت حرف النداء وكما قال «2» : [المتقارب] 50- تروح من الحيّ أم تبتكر والمعنى: أتروح فحذف الألف لأن أم تدلّ عليها. قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ابتداء وخبر. وَصَدٌّ ابتداء. عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ خفض بعن. وَكُفْرٌ بِهِ عطف على صدّ. وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ عطف على سبيل الله. وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ عطف على صدّ وخبر الابتداء. أكرم عند الله ووَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ابتداء وخبر أي أعظم إثما من القتال في الشهر الحرام، وقيل: في المسجد الحرام عطف على الشهر أي ويسألونك عن المسجد فقال تعالى وإخراج أهله منه أكبر عند الله وهذا لا وجه له لأن القوم لم يكونوا في شكّ من عظيم ما أتى المشركون إلى المسلمين في إخراجهم من منازلهم بمكة فيحتاجوا إلى المسألة عنه هل كان ذلك لهم، ومع ذلك فإنه قول خارج عن قول العلماء لأنهم أجمعوا أنها نزلت في سبب قتل ابن الحضرمي «3» . [سورة البقرة (2) : آية 218] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اسم إن. وَالَّذِينَ هاجَرُوا عطف عليه: أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ابتداء وخبر في موضع خبر إنّ. [سورة البقرة (2) : آية 219] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ هذه قراءة أهل الحرمين وأبي

_ (1) الشاهد للأسود بن يعفر في ديوانه ص 57، وشرح المفصّل 1/ 46، ولسان العرب (خلد) ، و (حجا) ، ونوادر أبي زيد ص 160، ولامرئ القيس في ديوانه ص 24، ولسان العرب (كلل) ، وبلا نسبة في الاشتقاق ص 244، وإصلاح المنطق ص 403، وأمالي ابن الحاجب ص 328، وجمهرة اللغة ص 442، 657، 1037. (2) مرّ الشاهد رقم (7) . [.....] (3) ابن الحضرميّ: هو عمرو بن الحضرمي وهو أول قتيل من المشركين (البحر المحيط 2/ 155) .

[سورة البقرة (2) : آية 220]

عمرو بن العلاء، وقرأ الكوفيون كثير «1» وإجماعهم على حُوباً كَبِيراً [النساء: 2] يدلّ على أن كبيرا أولى أيضا فكما يقال: إثم صغير كذا يقال: كبير ولو جاز كثير لقيل: إثم قليل وأجمع المسلمون على قولهم: كبائر وصغائر. وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ هكذا قرأ أهل الحرمين وأهل الكوفة، وقرأ أبو عمرو وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق قُلِ الْعَفْوَ بالرفع. قال أبو جعفر: إن جعلت «ذا» بمعنى الذي كان الاختيار الرفع وجاز النصب، وإن جعلت ما وذا شيئا واحدا كان الاختيار النصب وجاز الرفع، وحكى النحويون: ماذا تعلّمت أنحوا أم شعرا؟ بالنصب والرفع على أنهما جيدان حسنان إلا أن التفسير في الآية يدلّ على النصب. قال ابن عباس: الفضل، وقال: العفو ما يفضل عن أهلك فمعنى هذا ينفقون العفو، وقال الحسن: المعنى قل أنفقوا العفو، وقال أبو جعفر: وقد بيّنا لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في الدّنيا والآخرة. [سورة البقرة (2) : آية 220] فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ابتداء وخبر. وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ شرط وجوابه، والتقدير: فهم إخوانكم، ويجوز في غير القرآن فإخوانكم، والتقدير: فتخالطون إخوانكم. [سورة البقرة (2) : آية 221] وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ يقال: نكح ينكح إذا وطئ هذا الأصل ثم استعمل ذلك لمن تزوّج ويجوز ولا تنكحوا أي لا تزوّجوا بضم التاء ولا تنكحوا المشركين أي ولا تزوّجوهم، وكل من كفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فهو مشرك يدلّ على ذلك القرآن، وسنذكره إن شاء الله في موضعه. وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ ابتداء وخبر وكذا أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وكذا وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وكذا وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ في قراءة الحسن «2» ، وفي قراءة أبي العالية «3» وَالْمَغْفِرَةِ «4» عطفا على الجنة.

_ (1) انظر البحر المحيط 2/ 161 (وهي قراءة حمزة والكسائي) . (2) انظر البحر المحيط 2/ 176. (3) أبو العالية: رفيع بن مهران الرياحي، تابعي، عرض على أبيّ وابن عباس وعمر (ت 90 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 1/ 284. (4) انظر البحر المحيط 2/ 176.

[سورة البقرة (2) : الآيات 222 إلى 223]

[سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 223] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ محيض مصدر ومثله جاء مجيئا وقال مقيلا. قُلْ هُوَ أَذىً ابتداء وخبر، وأذى من ذوات الياء. يقال: أذيت به أذى وأذاني وهما آذياني. وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ لم تحذف النون للنصب لأنها علامة التأنيث وقد ذكرناه. فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ «حيث» في العربية للموضع فتأوّل قوم هذا على ما يجب في العربية أنه موضع بعينه وهو الفرج، وقال قوم: قد بيّن ذلك الموضع بقوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فإنّى شئتم وهو الذي أمر به. وأما قول مجاهد من حيث نهوا عنه في محيضهنّ فيدلّ على أنه جعل الأمر والنهي شيئا واحدا، وهذا مردود. «أنّى» ظرف وحقيقته: من أين شئتم، وقيل: كيف شئتم وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ أي الطاعة ثم حذف المفعول. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ حذفت النون للإضافة لأنه بمعنى المستقبل. وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعت سعيد بن جبير يحدّث عن ابن عباس قال سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يخطب يقول: «إنّكم ملاقو الله حفاة عراة مشاة غرلا» «1» ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ. [سورة البقرة (2) : آية 224] وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ نهي قال ابن عباس «2» : يحلف أن لا يصل ذا قرابته. أَنْ تَبَرُّوا في موضع نصب، وإن شئت في موضع خفض، وإن شئت في موضع رفع فالنصب على ثلاث تقديرات منها: في أن تبرّوا ثم حذف «في» فتعدّى الفعل، ومنها: كراهة أن تبرّوا ثم يحذف، ومنها: لئلا تبرّوا والخفض في جهة واحدة على قول الخليل والكسائي يكون في أن تبرّوا فأضمرت «في» وخفضت بها والرفع بالابتداء وحذفت الخبر، والتقدير أن تبرّوا وتتقوا وتصلحوا بين الناس أولى أو أمثل مثل طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ [محمد: 21] . [سورة البقرة (2) : آية 225] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ يقال: لغا يلغوا أو يلغى لغوا ولغي يلغى لغى إذا

_ (1) أخرجه الترمذي في سننه (القيامة 9/ 256) ، والقرطبي في تفسير 35/ 96. (2) انظر البحر المحيط 2/ 187.

[سورة البقرة (2) : آية 226]

أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام أو بما لا خير فيه أو بما لا يلغى إثمه. [سورة البقرة (2) : آية 226] لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ أي يحلفون والمصدر إيلاء وأليّة وألوة وإلوة. تَرَبُّصُ رفع بالابتداء أو بالصفة. أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أثبت الهاء لأنه عدد لمذكر وقد ذكرنا علّته «1» . [سورة البقرة (2) : آية 228] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ أثبت الهاء أيضا لأنه عدد لمذكر، الواحد قرء، والتقدير عند سيبويه «2» ثلاثة أقراء من قروء لأن قروءا للكثير عنده، وقد زعم بعضهم أن ثلاثة قروء لما كانت بالهاء دلت الهاء على أنها أطهار وليست لحيض، قال: ولو كانت حيضا لكانت ثلاثة قروء. وهذا القول خطأ قبيح لأن الشيء الواحد قد يكون له اسمان مذكر ومؤنث نحو دار ومنزل، وهذا بيّن كثير، وقد قال الله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قال إبراهيم النخعي: يعني الحيض وهذا من أصحّ قول، وهكذا كلام العرب، والتقدير: والمطلقات يتربّصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من القروء أي من الحيض، ومحال أن يكون هاهنا الطهر لأنه إنما خلق الله جلّ وعزّ في أرحامهن الحيض والولد، ولم يجر هاهنا للولد ذكر فوجب أن يكون الحيض ومن الدليل على أنّ القرء الحيضة في قول الله جلّ وعزّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ فقوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] والطلاق في الطهر. ولا يخلو قوله جلّ وعزّ لعدّتهنّ من أن يكون معناه قبل عدتهنّ أو بعدها أو معها ومحال أن يكون معها أو بعدها فلمّا وجب أن يكون قبلها وكان الطهر كلّه وقتا للطلاق وجب أن يكون بعده وليس بعده إلّا الحيض، والتقدير في العربية ليعتددن. وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ابتداء وخبر، وبعولة جمع بعل والهاء لتأنيث الجماعة. [سورة البقرة (2) : آية 229] الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) الطَّلاقُ مَرَّتانِ ابتداء وخبر، والتقدير عدد الطلاق الذي تملك معه الرجعة مرتان. فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ ابتداء والخبر محذوف أي فعليكم إمساك بمعروف ويجوز في

_ (1) انظر إعراب القرآن للزجاج 264، وإعراب الآية 196، البقرة. (2) انظر الكتاب 4/ 54.

غير القرآن فإمساكا على المصدر. وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً أن في موضع رفع بيحل. إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وقرأ أبو جعفر يزيد ابن القعقاع وحمزة. إِلَّا أَنْ يَخافا «1» بضم الياء وهو اختيار أبي عبيد قال: لقوله «فإن خفتم» فجعل الخوف لغيرهم ولم يقل: فإن خافا، وفي هذا حجّة لمن جعل الخلع إلى السلطان. قال أبو جعفر: أنا أنكر هذا الاختيار على أبي عبيد وما علمت في اختياره شيئا أبعد من هذا الحرف لأنه لا يوجب الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى ما اختاره فأما الإعراب فإنه يحتجّ له بأنّ عبد الله بن مسعود قرأ. إلّا أن تخافوا ألا يقيما حدود الله «2» فهذا في العربية إذا ردّ إلى ما لم يسمّ فاعله قيل إلّا أن يخاف أن لا يقيم حدود الله وأما اللفظ فإن كان على لفظ يخافا وجب أن يقال: فإن خيف وإن كان على لفظ فإن خفتم وجب أن يقال: إلّا أن تخافوا وأمّا المعنى فإنه يبعد أن يقال: لا يحلّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئا إلّا أن يخاف غيركم ولم يقل تعالى فلا جناح عليكم أن تأخذوا له منها فدية فيكون الخلع إلى السلطان، وقد صحّ عن عمر وعثمان وابن عمر أنهم أجازوا الخلع بغير السلطان. وقال القاسم بن محمد إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ ما يجب عليهما في العشرة والصحبة فأما فإن خفتم وقبله «إلا أن يخافا» فهذا مخاطبة الشريعة وهو من لطيف كلام العرب أي فإن كنتم كذا فإن خفتم ونظيره فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ [البقرة: 232] لأن الولي يعضل غيره ونظيره وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ [المجادلة: 3] وأَنْ يَخافا في موضع نصب استثناء ليس من الأول «ألا يقيما» في موضع نصب أي من أن لا يقيما وبأن لا يقيما وعلى أن لا، فلما حذف الحرف تعدّى الفعل وقول من قال: يخافا بمعنى يوقنا لا يعرف، ولكن يقع النشوز فيقع الخوف من الزيادة. أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أكثر العلماء وأهل النظر على أن هذا للمرأة خاصة لأنها التي لا تقيم حدود الله في نشوزها وهذا معروف في كلام العرب بيّن في المعقول ولو أن رجلا وامرأة اجتمعا فصلّى الرجل ولم تصلّ المرأة لقلت ما صلّيا وهذا لا يكون إلّا في النفي خاصة. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ يقال: إنما الجناح على الزوج فكيف قال عليهما؟ فالجواب أنه قد كان يجوز أن يحظر عليهما أن يفتدي منه فأطلق لها ذلك وأعلم أنه لا إثم عليهما جميعا، وقال الفراء «3» : قد يجوز أن يكون فلا جناح عليهما للزوج وحده مثل يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرّحمن: 22] . وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ في موضع جزم بالشرط فلذلك حذفت منه الألف، والجواب فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.

_ (1) انظر التيسير الداني 69. (2) انظر معاني القرآن للفراء 1/ 145، والبحر المحيط 2/ 206. (3) انظر معاني الفراء 1/ 147 والبحر المحيط 2/ 208.

[سورة البقرة (2) : آية 230]

[سورة البقرة (2) : آية 230] فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) فَإِنْ طَلَّقَها أي فإن طلقها الثالثة: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد الثالثة حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ وبيّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ النكاح ها هنا الجماع وكذلك أصله في اللغة. [سورة البقرة (2) : آية 231] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ في إذا معنى الشرط فلذلك تحتاج إلى جواب، والجواب فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً مفعول من أجله أي من أجل الضرار لِتَعْتَدُوا نصب بإضمار أن. وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً مفعولان. [سورة البقرة (2) : آية 232] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ ولم يقل: ذلكم لأنه محمول على معنى الجميع ولو كان ذلكم كان مثل ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ. [سورة البقرة (2) : آية 233] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالْوالِداتُ ابتداء. يُرْضِعْنَ في موضع الخبر وفعل المولود رضع يرضع فهو راضع حَوْلَيْنِ ظرف زمان ولا يجوز أن يكون الفعل في أحدهما. هذا قول سيبويه. وقرأ مجاهد وحميد بن قيس وابن محيصن لمن أراد أن تتمّ الرّضاعة «1» بفتح التاء الأولى ورفع الرضاعة بعدها. قال أبو جعفر: ويجوز لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ بالياء لأن الرّضاعة والرّضاع واحد ولا يعرف البصريون: الرضاعة إلا بفتح الراء والرضاع إلا بكسر الراء مثل القتال، وحكى الكوفيون كسر الراء مع الهاء وفتحها بغير هاء وقد قرأ أبو رجاء وكان فصيحا لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ «2» وقرأ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ بفتح

_ (1) هذه قراءة الحسن وأبي رجاء أيضا، انظر البحر المحيط 2/ 232. (2) هذه قراءة الجارود بن أبي سبرة أيضا، انظر مختصر ابن خالويه 14. [.....]

[سورة البقرة (2) : آية 234]

التاء. لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها في موضع جزم بالنهي وفتحت الراء لالتقاء الساكنين ويجوز كسرها وهي قراءة، وقرأ أبو عمرو لا تُضَارَّ «1» جعله خبرا بمعنى النهي وهذا مجاز والأول حقيقة. وروى أبان «2» عن عاصم لا تضارر والدة وهذه لغة أهل الحجاز. قال أحمد بن يحيى: يجوز أن يكون تقدير «لا تضارّ والدة» لا تضارر ثم أدغم. قال أبو جعفر: لا تضارّ والدة اسم ما لم يسمّ فاعله إذا كان التقدير لا تضارر وإن كان التقدير لا تضارر كانت رفعا بفعله. وَلا مَوْلُودٌ عطف عليها بالواو ولا توكيد. وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ رفع بالابتداء أو الصفة. وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ التقدير في العربية وإن أردتم أن تسترضعوا أجنبية لأولادكم وحذفت اللام لأنه يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف وأنشد سيبويه: [البسيط] 51- أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب «3» [سورة البقرة (2) : آية 234] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يقال أين خبر «الذين» ففيه أقوال قال الأخفش سعيد: التقدير: والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا يتربّصن بأنفسهنّ بعدهم أو بعد موتهم، ثم حذف هذا كما يحذف شيء كثير، وقال الكسائي: في التقدير يتربّص أزواجهم كما قال جلّ وعزّ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً ... لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً [التوبة: 107، 108] أي لا تقم في مسجدهم وقال الفراء «4» : إذا ذكرت أسماء ثم ذكرت أسماء مضافة إليها فيها معنى الخبر وكان الاعتماد في الخبر على الثاني أخبر عن الثاني وترك الأول. قال أبو إسحاق: هذا خطأ لا يجوز أن يبتدأ باسم ولا يحدّث عنه. قال أبو جعفر: ومن أحسن ما قيل فيها قول أبي العباس محمد بن يزيد قال: التقدير:

_ (1) انظر تيسير الداني 69. (2) أبان بن تغلب الربعي الكوفي النحوي، قرأ على عاصم (ت 141 هـ) ، ترجمته في (مشاهير علماء الأمصار لابن حبان 164، وغاية النهاية لابن الجزري 1/ 4) . (3) الشاهد لعمرو بن معدي كرب في ديوانه ص 63، وخزانة الأدب 9/ 124، والدرر 5/ 186، وشرح شواهد المغني ص 727، والكتاب 1/ 72، ومغني اللبيب ص 315، ولخفاف بن ندبة في ديوانه ص 126، وللعباس بن مرداس في ديوانه ص 131، ولأعشى طرود في المؤتلف والمختلف ص 17، وهو لأحد الأربعة السابقين أو لزرعة بن خفاف في خزانة الأدب 1/ 339، ولخفاف بن ندبة أو للعباس بن مرداس في شرح أبيات سيبويه 1/ 250، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 4/ 16، وشرح شذور الذهب 477، وشرح المفصّل 8/ 50 وكتاب اللامات ص 139، والمحتسب 1/ 51، والمقتضب 2/ 36. (4) انظر معاني الفراء 1/ 150.

[سورة البقرة (2) : آية 235]

والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا أزواجهم يتربّصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ثم حذف كما قال الشاعر: [الطويل] 52- وما الدّهر إلّا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح «1» وفيها قول رابع يكون التقدير وأزواج الذين يتوفّون منكم وقد ذكرنا وعشرا. [سورة البقرة (2) : آية 235] وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ خطبة وخطب واحد، والخطبة ما كان لها أول وآخر، وكذا ما كان على فعلة نحو الأكلة والضغطة. أَوْ أَكْنَنْتُمْ يقال: أكننت الشيء إذا أخفيته في نفسك، وكننته: صنته ومنه كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات: 49] هذه أفصح اللغات. وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا أي على سرّ حذف الحرف لأنه مما يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف، ويجوز أن يكون في موضع الحال. إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً استثناء ليس من الأول. وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ أي على عقدة النكاح ثم حذف «على» كما تقدّم «2» وحكى سيبويه «3» : ضرب فلان الظهر والبطن أي «على» ، قال سيبويه: والحذف في هذه الأشياء لا يقاس. قال أبو جعفر: ويجوز أن يكون المعنى ولا تعقدوا عقدة النكاح لأن معنى تعقدوا وتعزموا واحد ويقال: تعزموا. [سورة البقرة (2) : آية 236] لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ «4» ويقرأ قدره «5» وأجاز الفراء:

_ (1) الشاهد لتميم بن مقبل في ديوانه 24، وحماسة البحتري ص 123، والحيوان 3/ 48، وخزانة الأدب 5/ 55، والدرر 6/ 18، وشرح أبيات سيبويه 2/ 114، وشرح شواهد الإيضاح ص 634، والكتاب 2/ 365، ولسان العرب (كدح) ، ولعجير السلولي في سمط اللآلي ص 205، وبلا نسبة في خزانة الأدب 10/ 175، وشرح عمدة الحافظ ص 547، ولسان العرب (تور) ، والمحتسب 1/ 112، والمقتضب 2/ 138، وهمع الهوامع 2/ 120. (2) تقدّم ذكره في إعراب الآية 130. (3) انظر الكتاب 1/ 211. (4) هذه قراءة ابن كثير وأبي بكر (بسكون الدال) . انظر البحر المحيط 2/ 242. (5) بفتح الدال، قراءة حمزة والكسائي وابن عامر وحفص ويزيد وروح، انظر البحر المحيط 2/ 242.

[سورة البقرة (2) : آية 237]

قدره «1» قال أبو جعفر: حكى أكثر أهل اللغة أن قدرا أو قدرا بمعنى واحد، وقال بعضهم: القدر بالتسكين الوسع. يقال فلان ينفق على قدره أي على وسعه. وأكثر ما يستعمل القدر بالتحريك للشيء إذا كان مساويا للشيء. يقال: هذا على قدر هذا. فأما النصب فلأنّ معنى متّعوهنّ وأعطوهن واحد. مَتاعاً مصدر ويجوز أن يكون حالا أي قدره في هذه الحال. [سورة البقرة (2) : آية 237] وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ أي فعليكم، ويجوز النصب في غير القرآن أي فأدّوا نصف ما فرضتم ويقال: نصف ونصف بمعنى نصف. إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ في موضع نصب بأن وعلامة النصب فيه مطّرحة لأنه مبني وقد ذكرنا نظيره، إلّا أنا نزيده شرحا فقول سيبويه «2» : إنه إنما بني لما زادوا فيه ولأنه مضارع للماضي، والماضي مبنيّ فبني كما يبنى الماضي ومثّل هذا سيبويه بأن الأفعال أعربت لأنها مضارعة للأسماء والفعل بالفعل أولى من الفعل بالاسم، وهذا مما يستحسن من قول سيبويه. وقال الكوفيون «3» : كان سبيله أن يحذف منه النون ولكنها علامة فلو حذفت لذهب المعنى، وقال محمد بن يزيد: اعتلّ هذا الفعل من ثلاث جهات والشيء إذا اعتلّ من ثلاث جهات بني منها أنّه فعل وأنه لجمع وأنه لمؤنث. قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يسأل عن هذا فقال: هو غلط من قول أبي العباس: لأنا لو سمّينا امرأة بفرعون لم نبنه. أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ معطوف. وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ابتداء وخبر والأصل يعفوا وأسكنت الواو الأولى لثقل الحركة فيها ثم حذفت لالتقاء الساكنين. وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ قال طاوس: اصطناع المعروف. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا ضمة هذه الواو في اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ «4» . [سورة البقرة (2) : آية 238] حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى قد ذكرناه «5» ، ونزيده شرحا. قرأ الرّؤاسي «6» : حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى بالنصب أي والزموا الصلاة

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 153. (2) انظر الكتاب 1/ 45. (3) انظر معاني الفراء 1/ 154. (4) راجع إعراب الآية 16- البقرة. (5) يعني في معاني القرآن. [.....] (6) أبو جعفر الرؤاسي: محمد بن الحسن الكوفي النحوي، إمام مشهور، روى الحروف عن أبي عمرو، وله اختيار في القراءة، يروى عنه، واختيار في الوقوف، روى عنه الكسائي والفراء. ترجمته في غاية النهاية 2/ 116 ونزهة الألباء 50.

[سورة البقرة (2) : آية 239]

الوسطى وفي حرف ابن مسعود وعلى الصلاة الوسطى وروي عن ابن عباس والصلاة الوسطى صلاة العصر «1» . وهذه القراءة على التفسير لأنها زيادة في المصحف، والحديث المرويّ في القراءة والكتابة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر لا يوجب أن يكون الوسطى خلاف العصر كما أنّ قوله عزّ وجلّ: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرّحمن: 68] أن يكون النخل والرمان خلاف الفاكهة كما قال الشاعر: [الكامل] 53- النّازلون بكلّ معترك ... والطّيّبون معاقد الأزر «2» ليس الطّيّبون فيه خلاف النازلين، وحكى سيبويه: مررت بزيد أخيك وصديقك، والصديق هو الأخ. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا احتجاج من قال: إن الصلاة الوسطى العصر لأنها بين الصلاتين من صلاة النهار وصلاتين من صلاة الليل وأجود من هذا الاحتجاج أن يكون قيل لها: الوسطى لأنها بين صلاتين إحداهما أول ما فرض والأخرى الثالثة مما فرض وحجّة من قال إنها الصبح: أنها بين صلاتين من صلاة النهار وصلاتين من صلاة الليل وحجة من قال إنها الظهر: أنها في وسط النهار وقال قوم: هي العشاء الآخرة وقال قوم: هي المغرب لأنها بين صلاتين من النهار وصلاتين من الليل. وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ منصوب على الحال وقد بينا معناه. [سورة البقرة (2) : آية 239] فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) فَإِنْ خِفْتُمْ شرط، وجوابه ما قلنا فَرِجالًا نصب على الحال أي فصلّوا رجالا، والمعنى: فإن خفتم أن تقوموا لله قانتين فصلّوا مشاة أو ركبانا. قال أبو جعفر: يقال: راجل ورجلان ورجل بمعنى واحد وفي الجمع لغات يقال: رجّالة رجال مثل صاحب وصحاب كما قال: [الطويل] 54- وقال صح ابي: قد شأونك فاطلب «3» ويجوز أن يكون رجال جمع رجل بمعنى راجل، ويقال في الجمع: رجّال مثل

_ (1) انظر البحر المحيط 2/ 250. (2) مرّ الشاهد رقم (33) . (3) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص 50، ولسان العرب (صحب) (شأى) ، والتنبيه والإيضاح 1/ 102، وبلا نسبة في ديوان الأدب 1/ 454، وصدره: «فكان تدانينا وعقد عذاره»

[سورة البقرة (2) : آية 240]

كاتب وكتاب، ويقال: رجل مثل تاجر وتجر، ويقال: راجل ورجلة ورجلة اسم للجمع، وكذا رجال مخفّف ويقال: رجالي رجالي ورجلي جمع رجلان. فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي فقوموا لله قانتين. [سورة البقرة (2) : آية 240] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ الذين في موضع رفع إن شئت بالابتداء، والتقدير يوصون وصيّة. والمعنى ليوصوا وصيّة، وإن شئت كان الذين رفعا بإضمار فعل أي يوصّي الذين يتوفّون منكم وصيّة، وفي الرفع وجه ثالث أي وفيما فرض عليكم الذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا يوصون وصيّة لأزواجهم والذين مبنيّ على حال واحدة لأنه لا تتمّ إلّا بصلة ويقال: الّذون في موضع الرفع ومن قرأ وصية «1» بالرفع فتقديره والذين يتوفّون منكم عليهم وصيّة لأزواجهم، مَتاعاً مصدر عند الأخفش وعند أبي العباس أي ذوي متاع. غَيْرَ إِخْراجٍ في نصبه ثلاثة أوجه: قال الفراء «2» : أي من غير إخراج، وقال الأخفش: هو مصدر أي لا إخراجا ثم جعل: «غير» في موضع «لا» وقيل: هو حال أي غير ذوي إخراج، والمعنى يوصون بهنّ غير مخرجين لهنّ وهذا كلّه منسوخ بالربع والثمن [النساء: 12] وأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: 234] و «لا وصيّة لوارث» . فَإِنْ خَرَجْنَ شرط والجواب فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف. [سورة البقرة (2) : آية 241] وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا قال الأخفش: هو مصدر أي أحقّ ذلك حقا. قال أبو جعفر: عَلَى متعلّقة بالفعل المحذوف أي يحق ذلك على المتّقين حقا. [سورة البقرة (2) : آية 243] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ هذه ترى من رؤية القلب أي ألم تتنبّه على هذا وألم يأتك علمه والأصل الهمز فترك استخفافا. حَذَرَ الْمَوْتِ مفعول من أجله وهو مصدر. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ اسم إنّ وخبرها واللام زائدة للتوكيد.

_ (1) انظر البحر المحيط 2/ 254، (قرأ بها الحرميان والكسائي وأبو بكر، لكن باقي السبعة قرءوها بالنصب) . (2) انظر معاني الفراء 1/ 156.

[سورة البقرة (2) : آية 244]

وأصل ذي ذوى فاعلم وقد نطق القرآن به على الأصل قال الله عزّ وجلّ: ذَواتا أَفْنانٍ [الرّحمن: 48] . ومعنى لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ها هنا أنه أحيا هؤلاء بعد الموت وأراهم الآية العظمى. [سورة البقرة (2) : آية 244] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أمر، أي لا تهربوا كما هرب هؤلاء. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اسم «أنّ» وخبرها أي يسمع قولكم إن قلتم مثل ما قال هؤلاء ويعلم مرادكم به. [سورة البقرة (2) : آية 245] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ «من» رفع بالابتداء، وخبره «ذا» و «الذي» نعت لذا، وإن شئت بدل. يُقْرِضُ اللَّهَ اسم للمصدر وأصل قرضت قطعت، ومنه سمي المقراضان ومنه تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ [الكهف: 17] ، فمعنى أقرضت الرجل أعطيته قطعة من مالي. فيضاعفه له «1» عطف على يقرض وإن شئت كان مستأنفا وقرأ ابن أبي إسحاق والأعرج فَيُضاعِفَهُ لَهُ نصبا وقد روي أيضا هذا عن عاصم والنصب على جواب الاستفهام. وأَضْعافاً بمعنى المصدر. كَثِيرَةً من نعته. وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وإن شئت قلبت السين صادا لأن بعدها طاء. [سورة البقرة (2) : آية 246] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ قيل: الملأ الأشراف لأنهم مليئون بما يدخلون فيه. إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جزم لأنه جواب الطلب والطلب في لفظ الأمر، ويجوز نقاتل في سبيل الله ورفعا بمعنى نحن نقاتل أي فإنّا ممّن يقاتل، ومن قرأ بالياء يقاتل «2» فالوجه عنده الرفع لأنه نعت لملك. قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ قال أبو حاتم: ولا وجه لعسيتم، وقد قرأ الحسن به ونافع وطلحة «3» ابن مصرّف ولو كان

_ (1) هذه قراءة نافع وحمزة والكسائي بالألف ورفع الفاء، وقرأ عاصم بالألف ونصب الفاء، انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 185. والبحر المحيط 2/ 261. (2) قراءة الضحاك وابن أبي عيلة بالياء، انظر البحر المحيط 2/ 263. (3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 186.

[سورة البقرة (2) : آية 247]

كذا لقرئت «فعسي الله» . قال أبو جعفر: حكى يعقوب بن السّكيت وغيره أنّ «عسيت» لغة ولكنها لغة رديئة فإذا قال عسى الله ثم قال: فهل عسيتم استعمل اللغتين جميعا إلّا أنه ينبغي له أن يقرأ بأفصح اللغتين وهي فتح السين. إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ شرط. أَلَّا تُقاتِلُوا في موضع نصب. قال أبو إسحاق: أي هل عسيتم مقاتلة قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال الأخفش: أن زائدة. وقال الفراء «1» : هو محمول على المعنى، أي وما منعنا كما تقول: ما لك ألّا تصلي، أي ما منعك، وقيل: المعنى وأيّ شيء لنا في ألّا نقاتل في سبيل الله، وهذا أجودها. وأنزل في موضع نصب. وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا أي سبيت ذرارينا. تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ استثناء. [سورة البقرة (2) : آية 247] وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً «طالوت» مفعول، ولم ينصرف لأنه أعجمي وكذا داوود وجالوت، ولو سمّيت رجلا بطاووس وراقود لصرفت وإن كانا أعجميّين، والفرق بين هذا وبين الأول أنك تقول: الطاوس فتدخل فيه الألف واللام فتمكّن في العربية، ولا يكون هذا في ذاك. ملك السماوات نصب على الحال. قالُوا أَنَّى من أي جهة وهي في موضع نصب على الظرف الْمُلْكُ عَلَيْنا رفع اسم يكون. وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ابتداء وخبره. وَلَمْ يُؤْتَ جزم بلم فلذلك حذفت منه الألف. سَعَةً مِنَ الْمالِ خبر ما لم يسمّ فاعله. [سورة البقرة (2) : آية 248] وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ اسم «إن» وخبرها أي إتيان التابوت والآية في التابوت على ما روي أنه كان يسمع فيه أنين فإذا سمع ذلك ساروا نحوهم وإذا هدأ الأنين لم يسيروا ولم يسر التابوت. ولغة الأنصار التابوه بالهاء. وروي عن زيد بن ثابت «2» (التّبوت) . فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ رفع بالابتداء أو بالاستقرار فيجوز أن

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 163، والبحر المحيط 2/ 264. (2) زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي، صحابي، كان كاتب الوحي. كان رأسا بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض. كان أحد الذين جمعوا القرآن في عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الأنصار، وهو الذي كتبه في المصحف لأبي بكر ثم لعثمان (ت 45 هـ) ، ترجمته في غاية النهاية 1/ 296، وصفة الصفوة 1/ 294.

[سورة البقرة (2) : آية 249]

تكون السكينة شيئا فيه وكذا البقيّة، ويجوز أن يكون التابوت في نفسه سكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، والأصل في آل أهل. [سورة البقرة (2) : آية 249] فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) قرأ حميد بن قيس إنّ الله مبتليكم بنهر بإسكان الهاء. وهي لغة، إلّا أن الكوفيين يقولون: ما كان ثانيه أو ثالثه حرفا من حروف الحلق كان لك أن تسكّنه وأن تحرّكه نحو نهز وسمع ولحم فأما البصريون فيتبعون في هذا اللغة السماع من العرب ولا يتجاوزون ذلك. إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً «من» في موضع نصب بالاستثناء واختار أبو عبيد: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً «1» بضم الغين قال: لأنه لم يقل: غرف وإنما هو الماء بعينه. قال أبو جعفر: الفتح في هذا أولى لأن الغرفة بالضم هي ملء الشيء يقع للقليل والكثير والغرفة بالفتح المرة الواحدة وسياق الكلام يدلّ على القليل فالفتح أشبه. فأما قول أبي عبيد أنه اختاره لأنه لم يقل: غرف فمردود لأن غرف واغترف بمعنى احد. فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ استثناء. فَلَمَّا جاوَزَهُ الهاء تعود على النهر «وهو» توكيد «والذين» في موضع رفع عطف على المضمر في جاوزه ويقبح أن تعطف على المضمر المرفوع حتى تؤكّده لأنه لا علامة له فكأنك عطفت على بعض الفعل فإذا وكّد به والتوكيد هو الموكّد فكأنك جئت به منفصلا. قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ طاقة وطوق اسمان بمعنى الإطاقة. كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ لو حذفت من لكان الاختيار الخفض لأنه خبر. [سورة البقرة (2) : آية 251] فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ قيل: من ذلك منطق الطير وعمل الدروع. ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض «2» اسم «الله» تعالى في موضع رفع بالفعل لولا أن يدفع

_ (1) هذه قراءة الكوفيين وابن عامر، انظر تيسير الداني 69. (2) هذه قراءة نافع ويعقوب وسهل، انظر تيسير الداني 69، والبحر المحيط 2/ 269.

[سورة البقرة (2) : آية 252]

و (دفاع) مرفوع بالابتداء عند سيبويه «1» . «الناس» مفعولون. «بعضهم» بدل من الناس «ببعض» في موضع المفعول الثاني عند سيبويه «2» وهو عنده مثل قولك: ذهبت بزيد، فبزيد في موضع مفعول واختار أبو عبيد وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ وأنكر دفاع وقال: لأن الله تعالى لا يغالبه أحد. قال أبو جعفر: القراءة بدفاع حسنة جيدة وفيها قولان قال أبو حاتم: دافع ودفع واحد يذهب إلى أنه مثل طارقت النعل، وأجود من هذا وهو مذهب سيبويه لأن سيبويه قال: وعلى ذلك دفعت الناس بعضهم ببعض، ثم قال: ومثل ذلك ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض. قال أبو جعفر: هكذا قرأت على أبي إسحاق في كتاب سيبويه أن يكون «دفاع» مصدر دفع كما تقول: حسبت الشيء حسابا ولقيته لقاء وهذا أحسن فيكون دفاع ودفع مصدرين لدفع. [سورة البقرة (2) : آية 252] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ ابتداء. آياتُ اللَّهِ خبره، وإن شئت كانت بدلا والخبر. نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ خبر «إنّ» أي وإنك لمرسل. تم الجزء الثاني «3» من كتاب إعراب القرآن والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على النبي محمد وآله الكرام الأبرار وسلم [سورة البقرة (2) : آية 253] تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ تلك لتأنيث الجماعة وهي رفع بالابتداء. بِالرُّسُلِ نعت وخبر الابتداء الجملة. وعند الكوفيين «تلك» رفع بالعائد كما تقول: زيد كلّمت أباه. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ حذفت الهاء لطول الاسم، والمعنى من كلّمه الله ومن لموسى صلّى الله عليه وسلّم قال: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: 164] . وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ هاهنا على مذهب ابن عباس والشّعبيّ ومجاهد محمد صلّى الله عليه وسلّم «بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلّت لي

_ (1) انظر الكتاب 2/ 128. [.....] (2) انظر الكتاب 1/ 205. (3) حسب تقسيم المؤلف.

[سورة البقرة (2) : آية 254]

الغنائم وأعطيت الشفاعة» «1» . ومن ذلك القرآن وانشقاق القمر وتكليمه الشجرة وإطعامه خلقا عظيما من تميرات ودرور شاة أم معبد بعد جفاف. وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ مفعولان. وَلكِنِ اخْتَلَفُوا كسرت النون لالتقاء الساكنين ويجوز حذفها لالتقاء الساكنين في غير القرآن وأنشد سيبويه: [الطويل] 55- فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل «2» فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ «من» في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة. [سورة البقرة (2) : آية 254] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ: الجملة في موضع رفع نعت لليوم فإن شئت رفعت فقلت لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ تجعل «لا» بمعنى «ليس» أو بالابتداء وإن شئت نصبت على التّبرئة وقد ذكرناه قبل هذا «3» . وَالْكافِرُونَ ابتداء. هُمُ ابتداء ثان. الظَّالِمُونَ خبر الثاني وإن شئت كانت «هم» زائدة للفصل والظالمون خبر الكافرون. [سورة البقرة (2) : الآيات 255 الى 256] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ابتداء وخبر، وهو مرفوع محمول على المعنى أي ما إله إلّا هو، ويجوز لا إله إلّا هو، ويجوز في غير القرآن لا إله إلّا إيّاه نصب على الاستثناء.

_ (1) أخرجه أحمد في مسنده 4/ 116، 5/ 145، وابن عبد البر في التمهيد 5/ 218، والهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 65، وابن سعد في الطبقات الكبرى 1/ 127، وابن كثير في البداية والنهاية 2/ 154. (2) الشاهد للنجاشي الحارثي في ديوانه ص 111، والأزهية ص 296، وخزانة الأدب 10/ 418، وشرح أبيات سيبويه 1/ 195، وشرح التصريح 1/ 196، وشرح شواهد المغني 2/ 701، والكتاب 1/ 55، والمنصف 2/ 229، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 133، والإنصاف 2/ 684، وأوضح المسالك 1/ 671، وتخليص الشواهد ص 269، والجنى الداني ص 592، وخزانة الأدب 5/ 265، ورصف المباني ص 277، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 440، وشرح الأشموني 1/ 136، وشرح المفصل 9/ 142، واللامات 159، ولسان العرب (لكن) ، ومغني اللبيب 1/ 291، وهمع الهوامع 2/ 156، وتاج العروس (لكن) . (3) راجع إعراب آية (62) .

[سورة البقرة (2) : آية 257]

قال أبو ذرّ «1» : سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيّما أنزل إليك من القرآن أعظم فقال: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. وقال ابن عباس: أشرف آية في القرآن آية الكرسي. الْحَيُّ الْقَيُّومُ نعت لله عزّ وجلّ، وإن شئت كان بدلا من هو وإن شئت كان خبرا بعد خبر، وإن شئت على إضمار مبتدأ، ويجوز في غير القرآن النصب على المدح. وقد ذكرنا التفسير، والأصل فيه. لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ الأصل وسنة حذفت الواو كما حذفت من يسن ولا نوم الواو للعطف «ولا» توكيد. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ «من» رفع بالابتداء و «ذا» خبره والذين نعت لذا، وإن شئت بدل، ولا يجوز أن تكون «ذا» زائدة كما زيدت مع «ما» لأن «ما» مبهمة فزيدت «ذا» معها لشبهها بها: يقال: كرسيّ وكرسيّ. ويجوز لا إِكْراهُ فِي الدِّينِ «2» وقرأ أبو عبد الرّحمن قَدْ تَبَيَّنَ الرَّشَدُ مِنَ الْغَيِّ «3» وكذا يروى عن الحسن والشّعبي. يقال: رشد يرشد رشدا ورشد يرشد رشدا، إذا بلغ ما يحب وغوى ضدّه كما قال: [الطويل] 56- ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما «4» فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ جزم بالشرط والطاغوت مؤنث وقد ذكرنا معناها وما قيل فيها «5» . وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ عطف. فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى جواب. وجمع الوثقى الوثق مثل الفضلى والفضل. [سورة البقرة (2) : آية 257] اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) وَالَّذِينَ كَفَرُوا ابتداء. أَوْلِياؤُهُمُ ابتداء ثان وبِالطَّاغُوتِ خبره، والجملة خبر الأول. [سورة البقرة (2) : آية 258] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

_ (1) أبو ذرّ الغفاري: جندب بن جنادة، أحد السابقين الأولين، أسلم في أول المبعث خامس خمسة (ت 32 هـ) . ترجمته في تذكرة الحفاظ 17. (2) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 297 وفيه جواز رفع: لا إكراه. (3) انظر مختصر ابن خالويه 16، والبحر المحيط 2/ 292. (4) الشاهد للمرقّش الأصغر في ديوانه ص 565، ولسان العرب (غوى) ، وشرح اختيارات المفضل 1104، وتاج العروس (غوى) ، وبلا نسبة في كتاب العين 2/ 238، ومقاييس اللغة 4/ 192، والمخصص 6/ 170، وصدره: «فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره» (5) انظر التيسير 70، والإتحاف 161.

[سورة البقرة (2) : آية 259]

أَلَمْ تَرَ حذفت الياء للجزم، وقد ذكرنا الصلة أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ في موضع نصب أي لأن قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ الاسم «أن» فإذا قلت: أنا أو: أنه فالألف والهاء لبيان الحركة ولا يقال: أنا فعلت بإثبات الألف إلّا شاذا في الشعر على أنّ نافعا قد أثبت الألف فقرأ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ولا وجه له. فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ الذي في موضع رفع اسم ما لم يسمّ فاعله. يقال: بهت الرجل وبهت وبهت إذا انقطع وسكت متحيّرا. [سورة البقرة (2) : آية 259] أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ قيل: قرية لاجتماع الناس فيها من قولهم: قريت الماء أي جمعته. وَهِيَ خاوِيَةٌ ابتداء وخبر. فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ظرف. قالَ كَمْ لَبِثْتَ، وقرأ أهل الكوفة قالَ كَمْ لَبِثْتَ «1» أدغموا الثاء في التاء لقربها منها والإظهار أحسن. فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ أصحّ ما قيل فيه: أنّ معناه لم تغيّره السنون. من قرأ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ «2» بالهاء في الوصل، قال: أصل سنة: سنهة، وقال: سنيهة في التصغير كما قال: [الطويل] 57- ليست بسنهاء ولا رجبيّة «3» فحذف الضمة للجزم، ومن قرأ لم يتسنّ وانظر قال: في التصغير سنيّة وحذف الألف للجزم ويقف على الهاء فيقول: لم يتسنّه تكون الهاء لبيان الحركة، وقرأ طلحة بن مصرّف لم يسّنّ أدغم التاء في السين. وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها

_ (1) انظر البحر المحيط 2/ 303، وهذه قراءة السبعة عدا نافع وابن كثير فقد أظهروا الثاء. (2) هذه قراءة السبعة عدا حمزة والكسائي، فقد قرأ بحذف الهاء في الأصل، انظر البحر المحيط 2/ 303، والتيسير 70. (3) الشاهد لسويد بن الصامت في لسان العرب (سنه) (بسنهاء) ، و (عر) ، وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب 1/ 414، 2/ 547، ولسان العرب (رجب) ، (فرح) . وعجزه: «ولكن عرايا في السنين الجوائح»

[سورة البقرة (2) : آية 260]

وروي عن ابن عباس والحسن كَيْفَ نُنْشِزُها والمعنى واحد كما يقال: رجع ورجعته إلا أنّ المعنى المعروف في اللغة أنشر الله الموتى فنشروا وقيل: ننشرها مثل نشرت الثوب كما قال الأعشى: [السريع] 58- حتّى يقول النّاس ممّا رأوا ... يا عجبا للميّت النّاشر «1» [سورة البقرة (2) : آية 260] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ ويجوز في غير القرآن ربّي بإثبات الياء فمن حذف قال: النداء موضع حذف ومن أثبت قال: هي اسم فإذا حذفت كان الاختيار أن أقف بغير إشمام فأقول: ربّ فيشبه هذا المفرد. أَرِنِي قد ذكرناه «2» . كَيْفَ في موضع نصب أي بأي حال تحيي الموتى. وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي سألتك ليطمئن قلبي ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً. قال أبو إسحاق: المعنى ثم اجعل على كلّ جبل من كلّ واحد جزءا، وقرأ أبو جعفر وعاصم (جزءا) على فعل يَأْتِينَكَ سَعْياً نصب على الحال. [سورة البقرة (2) : آية 261] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ رفع بالابتداء. قال يعقوب الحضرمي «3» : وقرأ بعضهم فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ «4» على أنبتت مائة حبة وكذلك قرأ بعضهم وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ [الملك: 6] على وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ [الملك: 5] وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم. [سورة البقرة (2) : آية 263] قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ابتداء والخبر محذوف أي قول معروف أمثل وأولى، ويجوز أن يكون قول معروف خبر ابتداء محذوف أي الذي أمرتم به قول معروف. وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وهذا مشكل يبيّنه الإعراب، بِالْمَغْفِرَةِ رفع بالابتداء، والخبر:

_ (1) الشاهد في ديوان الأعشى ص 191، ولسان العرب (نشر) ، وتهذيب اللغة 11/ 338، ومقاييس اللغة 5/ 430، وتاج العروس (نشر) ، بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 734، والمخصص 9/ 92. [.....] (2) مرّ في إعراب الآية (128) . (3) يعقوب بن إسحاق الحضرمي: أحد القراء العشرة، وإمام أهل البصرة، سمع الحروف من الكسائي (ت 255 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 2/ 386. (4) انظر مختصر ابن خالويه (16) ، والبحر المحيط 2/ 317.

[سورة البقرة (2) : آية 264]

خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ والمعنى- والله أعلم- وفعل يؤدّي إلى المغفرة خير من صدقة يتبعها أذى وتقديره في العربية وفعل مغفرة ويجوز أن يكون مثل قولك: تفضّل الله عليك أكثر من الصدقة التي تمنّ بها أي غفران الله خير من صدقتكم هذه التي تمنّون بها. [سورة البقرة (2) : آية 264] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى العرب تقول لما يمنّ به: يد سوداء ولما يعطى عن غير مسألة: يد بيضاء ولما يعطى عن مسألة ولا يمنّ به: يد خضراء كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ الكاف في موضع نصب أي إبطالا كالذي ينفق ماله رئاء الناس فهي نعت للمصدر المحذوف، ويجوز أن تكون في موضع الحال. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ ابتداء وخبر، وقرأ سعيد بن المسيّب «1» والزّهري كَمَثَلِ صَفْوانٍ «2» بتحريك الفاء، وحكى قطرب مثل صفوان. قال الأخفش: صفوان جماعة صفوانة. قال: وقال بعضهم صفوان واحد مثل حجر. قال الكسائي: صفوان واحد وجمعه صفوان وصفيّ وصفيّ. قال أبو جعفر: صفوان وصفوان يجوز أن يكون جمعا وأن يكون واحدا إلّا أن الأولى أن يكون واحدا لقوله عليه تراب فأصابه وابل وأن كان يجوز تذكير الجمع إلّا أن الشيء لا يخرج عن بابه إلّا بدليل قاطع فأما ما حكاه الكسائي في الجمع فليس يصحّ على حقيقة النظر ولكن صفوان جمع صفا وصفا بمعنى صفوان ونظيره ورل ورلان وأخ وإخوان وكرى وكروان كما قال: [الوافر] 59- لنا يوم وللكروان يوم ... تطير البائسات وما نطير «3» والضعيف في العربية يقول: كروان جمع كروان وصفيّ جمع صفا مثل عصا وعصيّ. قال الكسائي: وهي الحجارة الملس التي لا تنبت شيئا. فَتَرَكَهُ صَلْداً قال الكسائي: يقال: صلد يصلد صلدا بتحريك اللام فهو صلد بالإسكان وهو كل ما لا ينبت شيئا ومنه جبين أصلد وأنشد الأصمعيّ: [الرجز] 60- براق أصلاد الجبين الأجله «4»

_ (1) سعيد بن المسيب المخزومي، عالم التابعين، وردت الرواية عنه في حروف القرآن. قرأ على ابن عباس، وروى عن عمر وعثمان (ت 94 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 1/ 308. (2) انظر مختصر ابن خالويه (16) والبحر المحيط 2/ 322. (3) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه ص 49، وخزانة الأدب 2/ 375 و 415. (4) الشاهد لرؤبة بن العجاج في ديوانه ص 165، ولسان العرب (صلد) و (غدن) و (بله) ، و (جله) ، وتاج العروس (صلد) و (غدن) و (جله) ، وتهذيب اللغة 6/ 311، 8/ 74، وجمهرة اللغة ص 494، ومقاييس اللغة 1/ 292، ومجمل اللغة 1/ 287، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 6/ 57، ومقاييس اللغة 4/ 414، ومجمل اللغة 3/ 88، والمخصص 12/ 290، وقبله: «لمّا رأتني خلق المموّه»

[سورة البقرة (2) : آية 265]

[سورة البقرة (2) : آية 265] وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ مفعول من أجله. وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ عطف عليه. كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ وقرأ ابن عباس وأبو إسحاق السّبيعي (بربوة) «1» بكسر الراء وقرأ الحسن وعاصم وابن عامر الشامي بِرَبْوَةٍ بفتح الراء. قال الأخفش: ويقال: برباوة وبرباوة وكلّه من الرابية وفعله ربا يربو. فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ. قال أبو إسحاق «2» : أي فالذي يصيبها طلّ. قال أبو جعفر: حكى أهل اللغة: وبلت وأوبلت وطلّت وأطلّت. [سورة البقرة (2) : آية 266] أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ يقال: «تكون» فعل مستقبل فكيف عطف عليه بالماضي وهو وَأَصابَهُ الْكِبَرُ ففيه جوابان: أحدهما أنّ التقدير و «قد أصابه الكبر» ، والجواب الآخر أنه محمول على المعنى لأن المعنى أيودّ أحدكم لو كانت له جنة فعلى هذا وأصابه الكبر. وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ وقال في موضع آخر ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النساء: 9] كما تقول: ظريف وظرفاء وظراف. [سورة البقرة (2) : آية 267] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ وفي قراءة عبد الله ولا تأمموا «3» وهما لغتان، وقرأ ابن كثير وَلا تَيَمَّمُوا والأصل تتيمّموا فأدغم التاء في التاء، ومن قرأ تَيَمَّمُوا حذف، وقرأ مسلم بن جندب «4» وَلا تَيَمَّمُوا. وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وقرأ قتادة

_ (1) انظر تفسير القرطبي 2/ 316، ومختصر ابن خالويه (16) . (2) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 305، والبحر المحيط 2/ 324. (3) هذه قراءة أبي صالح صاحب عكرمة، انظر مختصر ابن خالويه (17) . (4) مسلم بن جندب: أبو عبد الله الهذلي مولاهم، تابعي مشهور، عرض على عبد الله بن عياش وعرض عليه نافع (ت 130 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 2/ 297.

[سورة البقرة (2) : آية 268]

إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ «1» وقال: إلّا أن تغمض لكم فيه، وروي عنه إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ أي تأخذوه بنقصان فكيف تعطونه في الصدقة «أن» في موضع نصب والتقدير إلّا بأن. [سورة البقرة (2) : آية 268] الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ مفعولان ويقال: الفقر. وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ ويجوز في غير القرآن ويأمركم الفحشاء بحذف الباء وأنشد سيبويه: [البسيط] 61- أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب «2» [سورة البقرة (2) : آية 269] يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ شرط فلذلك خففت الألف والجواب فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. [سورة البقرة (2) : آية 270] وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ يكون التقدير وما أنفقتم من نفقة فإنّ الله يعلمها وما نذرتم من نذر فإنّ الله يعلمه ثم حذف، ويجوز أن يكون التقدير وما أنفقتم من نفقة فإنّ الله يعلمه وتعود الهاء على «ما» كما أنشد: [الطويل] 62- فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجته من جنوب وشمأل «3» ويكون أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ معطوفا عليه. [سورة البقرة (2) : آية 271] إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ هذه قراءة أبي عمرو وعاصم ونافع، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي فنعمّا هي «4» بفتح النون، وروي عن أبي عمرو ونافع بإسكان

_ (1) هذه قراءة الزهري، انظر المحتسب 1/ 138، ومختصر ابن خالويه (17) . (2) انظر المحتسب 1/ 139. (3) مرّ الشاهد رقم (51) . [.....] (4) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص 8 (لما نسجتها) ، والأضداد ص 93، وخزانة الأدب 11/ 6، والدرر 1/ 285، وشرح شواهد المغني 1/ 463، 2/ 743، وبلا نسبة في خزانة الأدب 9/ 27، ومغني اللبيب 1/ 331، والمنصف 3/ 25، وهمع الهوامع 1/ 88.

العين رواه قالون عن نافع، ويجوز في غير القرآن «فنعم ما هي» ولكنه في السواد متّصل فلزم الإدغام وحكى النحويون «1» في نعم أربع لغات يقال نعم الرجل زيد هذا الأصل ويقال: نعم الرجل فتكسر النون لكسرة العين، ويقال: نعم الرجل والأصل نعم حذفت الكسرة لأنها ثقيلة، ويقال: نعم الرجل وهذه أفصح اللغات. والأصل: فيها نعم، وهي تقع في كل مدح فخفّفت وقلبت كسرة العين على النون وأسكنت العين، فمن قرأ «فنعمّا هي» فله تقديران: أحدهما أن يكون جاء به على لغة من قال: نعم، والتقدير الآخر: أن يكون على اللغة الجيّدة فيكونا لأصل نعم ثم كسرت العين لالتقاء الساكنين فأما الذي حكي عن أبي عمرو ونافع من إسكان العين فمحال. حكي عن محمد بن يزيد أنه قال: أما إسكان العين والميم مشدّدة فلا يقدر أحد أن ينطق به وإنما يروم الجمع بين ساكنين ويحرّك ولا يأبه. قال أبو جعفر: ومن قرأ «فنعمّا هي» فله تقديران: أحدهما أن يكون على لغة من قال: نعم الرجل، والآخر أن يكون على لغة من قال: نعم الرجل، فكسر العين لالتقاء الساكنين، ويجب على من قرأ: فنعم أن يقول: بئس. وَإِنْ تُخْفُوها شرط فلذلك حذفت منه النون. وَتُؤْتُوهَا عطف عليه، والجواب فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ قرأ قتادة وابن أبي إسحاق وأبو عمرو ونكفّر عنكم من سيّئاتكم «2» وقرأ نافع والأعمش وحمزة والكسائي ونكفّر عنكم «3» إلا أنّ الحسين بن علي الجعفي «4» روى عن الأعمش ونكفّر عنكم بالنصب. قال أبو حاتم: قرأ الأعمش فهو خير لكم نكفّر عنكم بغير واو جزما، والصحيح عن عاصم أنه قرأ مرفوعا بالنون، وروى عنه حفص «5» أنه قرأ وَيُكَفِّرُ بالياء والرفع وكذلك روي عن الحسن وروي عنه بالياء والجزم «6» ، وقرأ عبد الله بن عباس «7» وتكفّر عنكم من سيّئاتكم بالتاء وكسر الفاء والجزم، وقرأ عكرمة «8» وتكفّر عنكم بالتاء وفتح الفاء والجزم. قال أبو جعفر: أجود القراءات ونكفر عنكم بالرفع هذا قول الخليل وسيبويه. قال سيبويه «9» : والرفع هاهنا الوجه وهو الجيد لأن الكلام الذي بعد الفاء جرى مجراه في غير الجزاء. وأجاز الجزم يحمله على المعنى لأن المعنى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء

_ (1) انظر تيسير الداني 71. (2) انظر الكتاب 2/ 180، والمقتضب 2/ 140، والإنصاف مسألة (714) . (3) انظر تيسير الداني 71. (4) انظر تيسير الداني 71. (5) الحسين بن علي الجعفي: مولاهم الكوفي، قرأ على حمزة، وهو أحد الذين خلفوه في القراءة، وروى القراءة أيضا عن أبي عمرو (ت 203) . ترجمته في غاية النهاية 1/ 247. (6) حفص بن سليمان بن المغيرة الأسدي الكوفي أخذ القراءة عرضا عن عاصم (ت 180 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 1/ 254. (7) انظر البحر المحيط 2/ 338. (8) انظر البحر المحيط 2/ 338. (9) انظر الكتاب 3/ 105.

[سورة البقرة (2) : آية 272]

يكن خيرا لكم ونكفّر عنكم والذي حكاه أبو حاتم عن الأعمش بغير واو جزما يكون على البدل كأنه في موضع الفاء والذي روي عن عاصم «وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ» بالياء والرفع يكون معناه يكفر الله. هذا قول أبي عبيد، وقال أبو حاتم معناه يكفّر الإعطاء، وقرأ ابن عباس «وتكفّر «يكون معناه وتكفّر الصدقات، وقراءة عكرمة وتكفّر عنكم أي أشياء من سيئاتكم فأما النصب ونكفّر فضعيف وهو على إضمار «أن» وجاز على بعد لأن الجزاء إنما يجب به الشيء لوجوب غيره فضارع الاستفهام. [سورة البقرة (2) : آية 272] لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ تكلّم جماعة في معنى يهدي ويضلّ فمن أجلّ ما روي في ذلك ما رواه سفيان عن خالد الحذّاء عن عبد الأعلى القرشي عن عبد الله بن الحارث عن عمر أنه قال في خطبته: «من يهده الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له» وكان الجاثليق حاضرا فأومأ بالإنكار فقال عمر: ما يقول؟ فقالوا يقول: إنّ الله لا يهدي ولا يضلّ، فقال له عمر: كذبت يا عدوّ الله بل الذي خلقك هو يضلك ويدخلك النار إن شاء الله، إن الله خلق أهل الجنة وما هم عاملون وخلق أهل النار وما هم عاملون فقال هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه فما برح الناس يختلفون في القدر. قال أبو عبيد: قال الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] . وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ «ما» الأولى في موضع نصب بتنفقوا والثانية لا موضع لها لأنها حرف والثالثة كالأولى. [سورة البقرة (2) : آية 273] لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ ويقال في هذا المعنى: سيمياء لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً مصدر في موضع الحال أي ملحفين. [سورة البقرة (2) : آية 274] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ رفع بالابتداء، والخبر: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ودخلت الفاء ولا يجوز: زيد فمنطلق لأن في الكلام معنى الجزاء أي من أجل

[سورة البقرة (2) : آية 275]

نفقتهم فلهم أجرهم وهكذا كلام العرب إذا قلت: السارق فاقطعه فمعناه من أجل سرقته فاقطعه ومعنى «بالليل والنهار» في الليل والنهار. [سورة البقرة (2) : آية 275] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا رفع بالابتداء، والخبر: لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ. فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ لأنه تأنيث غير حقيقي أي فمن جاءه وعظ كما قال: [الكامل] 63- إنّ السّماحة والمروءة ضمّنا «1» وقرأ الحسن فمن جاءته موعظة. [سورة البقرة (2) : آية 276] يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا الأصل في الربا الواو. قال سيبويه «2» : تثنيته ربوان. قال الكوفيون: تكتبه بالياء وتثنيته (تثنّيه) بالياء وقال أبو جعفر: سمعت أبا إسحاق يقول: ما رأيت خطأ أقبح من هذا ولا أشنع لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئون في التثنية وهم يقرءون وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ [الروم: 39] وقال محمد بن يزيد: كتب الربا في المصحف بالواو فرقا بينه وبين الزنا وكان الربا أولى بالواو لأنه من ربا يربو. [سورة البقرة (2) : آية 279] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ حكى أبو عبيد عن الأصمعي «فأذنوا» فكونوا على أذن من ذلك أي على علم. قال أبو جعفر: وهذا قول وجيز حسن حكى أهل اللغة أنه يقال: أذنت به أذنا إذا علمت به ومعنى فآذنوا على قراءة الأعمش، وحمزة وعاصم على حذف المفعول. [سورة البقرة (2) : آية 280] وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ «كان» بمعنى وقع. وأنشد سيبويه: [الطويل] 64- فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب «3»

_ (1) مرّ الشاهد رقم (20) . (2) انظر الكتاب 3/ 428. (3) الشاهد لمقاس العائذي في الأزهيّة ص 186، وشرح أبيات الكتاب 1/ 252، وشرح المفصّل 7/ 98، والكتاب 1/ 85، ولسان العرب (كون) ، وبلا نسبة في أسرار العربية 135، ولسان العرب (شهب) و (ظلم) ، والمقتضب 4/ 96.

فهذا أحسن ما قيل فيه لأنه يكون عاما لجميع الناس ويجوز أن يكون خبر كان محذوفا أي وإن كان ذو عسرة في الدين. وقال حجاج الوراق في مصحف عبد الله وإن كان ذا عسرة «1» . قال أبو جعفر: والتقدير: وإن كان المعامل ذا عسرة. فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ أي فالذي تعاملون به نظرة وقرأ الحسن وأبو رجاء فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ «2» حذف الكسرة لثقلها وقرأ مجاهد وعطاء فناظره على الأمر إِلى مَيْسَرَةٍ «3» بضم السين وكسر الراء وإثبات الهاء في الإدراج. وقال أبو إسحاق «4» : وقرئ (فناظرة إلى ميسرة) «5» وقرأ أهل المدينة (إلى ميسرة) «6» ويجوز (فنظرة إلى ميسرة) بالنصب على المصدر. قال أبو حاتم: ولا يجوز «فناظرة» إنما ذلك في «النمل» فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل: 35] لأنها امرأة تكلّمت بهذا لنفسها من نظرت تنظر فهي ناظرة فأمّا «فنظرة» في البقرة فمن التأخير من ذلك: أنظرتك بالدّين أي أخّرتك به وقالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر: 36] وأجاز ذلك أبو إسحاق وقال: هي من أسماء المصادر مثل لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الواقعة: 2] وأَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ [القيامة: 25] قال أبو جعفر «ميسرة» أفصح اللغات وهي لغة أهل نجد و «ميسرة» وإن كانت لغة أهل الحجاز فهي من الشواذ لا يوجد في كلام العرب مفعلة إلّا حروف معدودة شاذة ليس فيها شيء إلا يقال فيه مفعلة وأيضا فإن الهاء زائدة، وليس في كلام العرب مفعل البتّة وقراءة من قرأ إِلى مَيْسَرَةٍ «7» لحن لا يجوز. قال الأخفش سعيد: ولو قرءوا إلى ميسره لكان أشبه والذي قال الأخفش حسن يقال: جلست مجلسا ومفعل كثير. قال الأخفش: ويجوز إلى موسرة مثل مدخلة. وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ابتداء وخبر وفي قراءة عبد الله وأن تتصدّقوا وقرأ عيسى وطلحة وأن تصدقوا مخفّفا تتصدّقوا على الأصل وتصدّقوا تدغم التاء في الصاد لقربها منها ولا يجوز هذا في تتفكرون لبعد التاء من الفاء ومن خفّف حذف التاء للدلالة ولئلا يجمع بين ساكنين وتاءين.

_ (1) هذه قراءة عثمان وأبيّ أيضا، انظر مختصر ابن خالويه (17) ، والبحر المحيط 2/ 354. [.....] (2) هذه لغة تميم، انظر البحر المحيط 2/ 354. (3) انظر المحتسب 1/ 143. (4) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 316. (5) انظر البحر المحيط 2/ 354. (6) انظر تيسير الداني 71، والبحر المحيط 2/ 354. (7) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 316، والبحر المحيط 2/ 355، وهي قراءة عطاء ومجاهد.

[سورة البقرة (2) : آية 281]

[سورة البقرة (2) : آية 281] وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) وَاتَّقُوا يَوْماً مفعول. تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ من نعته. [سورة البقرة (2) : آية 282] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ قد ذكرنا كلّ ما فيه في كتابنا الأول «المعاني» . فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ أثبت اللام في الثاني وحذفها من الأول لأن الثاني غائب والأول للمخاطبين فإن شئت حذفت اللام في المخاطب لكثرة استعمالهم ذلك وهو أجود، وإن شئت أثبتّها على الأصل، فأمّا الغائب فزعم محمد بن يزيد أنه لا بدّ من اللام في الفعل إذا أمرته، وأجاز سيبويه والكوفيون حذفها وأنشدوا: [الوافر] 65- محمّد تفد نفسك كلّ نفس ... إذا ما خفت من قوم تبالا «1» وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ هذه لغة أهل الحجاز وبني أسد، وتميم يقولون: أمليت وجاء القرآن باللغتين جميعا. قال جلّ وعزّ فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] والأصل أمللت أبدل من اللام ياء لأنه أخفّ. فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ رفع بالابتداء «وامرأتان» عطف عليه والخبر محذوف أي فرجل وامرأتان يقومون مقامهما وإن شئت أضمرت المبتدأ أي فالذي يستشهد رجل وامرأتان ويجوز

_ (1) الشاهد لأبي طالب في شرح شذور الذهب ص 275، وله أو للأعشى في خزانة الأدب 9/ 11، وللأعشى أو لحسّان أو لمجهول في الدرر 5/ 61، وبلا نسبة في أسرار العربية ص 319، والإنصاف 2/ 530، والجنى الداني ص 113، ورصف المباني ص 256، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 391، وشرح الأشموني 3/ 575، وشرح شواهد المغني 1/ 597، وشرح المفصل 7/ 35، والكتاب 3/ 6، واللامات ص 96، ومغني اللبيب 1/ 224، والمقاصد النحوية 4/ 418، والمقتضب 2/ 132 والمقرّب 1/ 272، وهمع الهوامع 2/ 55.

النصب في غير القرآن أي فاستشهدوا وحكى سيبويه «1» : إن خنجرا فخنجرا أي فاتخذ خنجرا. أن تضلّ أحدهما فتذكّر إحداهما الأخرى هذه قراءة الحسن وأبي عمرو بن العلاء وعيسى وابن كثير وحميد بفتح «أن» ونصب «تذكر» وتخفيفه وقرأ أهل المدينة أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ بفتح «أن» ونصب «تذكر» وتشديده وقرأ أبان بن تغلب والأعمش وحمزة أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى بكسر «إن» ورفع تذكّر وتشديده. قال أبو جعفر: ويجوز تضلّ بفتح التاء والضاد ويجوز تضلّ بكسر التاء وفتح الضاد والقراءة الأولى حسنة لأن الفصيح أن يقال: أذكرتك وذاكرتك وعظتك قال جلّ وعزّ: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55] وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «رحم الله فلانا كأيّ من آية أذكرنيها» «2» وفي هذه القراءة على حسنها من النحو إشكال شديد. قال الفراء «3» : هو في مذهب الجزاء، وإن جزاء مقدم أصله التأخير أي استشهدوا امرأتين مكان الرجل كما تذكر الذاكرة الناسية إن نسيت فلما تقدّم الجزاء اتّصل بما قبله ففتحت أن فصار جوابه مردودا عليه قال: ومثله: إني ليعجبني أن يسأل السائل فيعطى. المعنى أنه يعجبه الإعطاء وإن سأل السائل. قال أبو جعفر: وهذا القول خطأ عند البصريين لأن «إن» المجازاة لو فتحت انقلب المعنى وقال سيبويه «4» : أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى انتصب لأنه أمر بالإشهاد لأن تذكر ومن أجل أن تذكر. قال: فإن قال إنسان: كيف جاز أن تقول أن تضلّ؟ ولم يعدّ هذا للإضلال والالتباس فإنما ذكر أن تضلّ لأنه سبب الإذكار كما يقول الرجل: أعددته أن يميل الحائط فأدعمه. وهو لا يطلب بإعداده ذلك ميلان الحائط ولكنه أخبر بعلّة الدعم وبسببه. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يحي عن أبي العباس محمد بن يزيد أن التقدير: ممن ترضون من الشهداء كراهة أن تضلّ إحداهما وكراهة أن تذكّر إحداهما الأخرى. قال أبو جعفر: وهذا القول غلط وأبو العباس يجلّ عن قول مثله لأن المعنى على خلافه وذلك أنه يصير المعنى كراهة أن تضلّ إحداهما وكراهة أن تذكّر إحداهما الأخرى وهذا محال، وأصحّ الأقوال قول سيبويه ومن قال «تضلّ» جاء به على لغة من قال: ضللت تضلّ وعلى هذا تقول: تضلّ بكسر التاء لتدلّ على أن الماضي فعلت. وَلا تَسْئَمُوا قال الأخفش: يقال: سئمت أسأم سآمة وسآما وسأما وسأما، أَنْ تَكْتُبُوهُ في موضع نصب بالفعل كما قال زهير: [الطويل]

_ (1) انظر الكتاب 1/ 319. (2) أخرجه القاضي عياض في الشفا 2/ 345، الزبيدي في إتحاف السادة المتقين 4/ 493، والمتقي الهندي في كنز العمال 2793، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار 1/ 280. (3) انظر معاني الفراء 1/ 184. (4) انظر الكتاب 3/ 59.

66- سئمت تكاليف الحياة ومن يعش «1» صَغِيراً أَوْ كَبِيراً على الحال: أعطيته دينه صغر أو كبر. ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ابتداء وخبر. وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ عطف عليه وكذا وَأَدْنى أَلَّا في موضع نصب أي من أن لا. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً «2» «أن» في موضع نصب استثناء ليس من الأول. قال الأخفش: أي إلّا أن تقع تجارة وقال غيره تُدِيرُونَها الخبر، وقرأ عاصم إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً أي إلّا أن تكون المداينة تجارة حاضرة. وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ أمر فزعم قوم أنه على الندب والتأديب وكذا قالوا في قوله: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ هذا قول الفراء وزعم أنّ مثله وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «3» [المائدة: 2] قال ومثله فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة: 10] . قال أبو جعفر: هذا قول خطأ عند جميع أهل اللغة وأهل النظر ولا يشبه هذا قوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ولا فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ لأن هذين إباحة بعد حظر ولا يجوز في اللغة أن يحمل الأمر على الندب إلّا بما تستعمله العرب من تقدّم الحظر أو ما أشبه ذلك فزعم قوم أنّ هذا مما رخّص في تركه بغير آية وعلى هذا فسّروا أَوْ نُنْسِها [البقرة: 106] قالوا: نطلق لكم تركها، وقيل الإباحة في ترك المكاتبة بالدّين فإن أمن بعضكم بعضا وقيل: المكاتبة واجبة كما أمر الله عزّ وجلّ إذا كان الدين إلى أجل وأمر الله بهذا حفظا لحقوق الناس وقال عبد الله بن عمر: المشاهدة واجبة في كل ما يباع قليل أو كثير كما قال الله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ يجوز أن يكون التقدير ولا يضارر وأن يكون التقدير ولا يضارر. قال أبو جعفر: ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا قال: لأن بعده وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ فالأولى أن تكون من شهد بغير الحقّ أو حرّف في الكتابة أن يقال له: فاسق، فهو أولى ممن سأل شاهدا وهو مشغول أن يشهد. قال المفضّل: وقرأ الأعمش وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ. قال أبو جعفر: كسر الراء لالتقاء الساكنين وكذلك معن فتح إلّا أن الفتح أخفّ وقرأ عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق ولا يضارر «4» بكسر الراء الأولى وقرأ ابن مسعود ولا يضارر بفتح الراء الأولى «5» وهاتان القراءتان على التفسير ولا

_ (1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 29، وكتاب العين 5/ 372، وأساس البلاغة (كلف) ، وتاج العروس (حمل) ، وعجزه: «ثمانين حولا لا أبا لك يسأم» (2) انظر البحر المحيط 2/ 369. (3) انظر معاني الفراء 1/ 183. [.....] (4) انظر البحر المحيط 2/ 370. (5) انظر البحر المحيط 2/ 370، وهي قراءة عكرمة أيضا.

[سورة البقرة (2) : آية 283]

يجوز أن تخالف التلاوة التي في المصحف. وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ أي فإن هذا الفعل ويجوز أن يكون التقدير فإن الضرار فسوق بكم كما قال: [الوافر] 67- إذا نهي السّفيه جرى إليه «1» [سورة البقرة (2) : آية 283] وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً وقرأ ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك «2» وأبو العالية ولم تجدوا كتابا وروي عن ابن عباس ولم تجدوا كتّابا «3» قال أبو جعفر: هذه القراءة شاذّة والعامة على خلافها وقلّ ما يخرج شيء عن قراءة العامة إلّا كان فيه مطعن نسق الكلام يدلّ على كاتب. قال تعالى قبل هذا وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وكتّاب يقضي جماعة. فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ هذه قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأهل الكوفة وأهل المدينة وقرأ ابن عباس فرهن «4» بضمتين وهي قراءة أبي عمرو وقرأ عاصم بن أبي النجود فرهن بإسكان الهاء وتروى عن أهل مكة. قال أبو جعفر: الباب في هذا رهان كما تقول: بغل وبغال وكبش وكباش و «رهن» سبيله أن يكون جمع رهان مثل كتاب وكتب، وقيل: هو جمع رهن مثل سقف، وليس هذا الباب و «رهن» بإسكان الهاء سبيله أن تكون الضمّة حذفت منه لثقلها وقيل: هو جمع رهن مثل سهم حشر أي دقيق وسهام حشر والأول أولى لأن الأول ليس بنعت وهذا نعت. فَلْيُؤَدِّ من الأداء مهموز ويجوز تخفيف همزه فتقلب الهمزة واوا ولا تقلب ألفا ولا تجعل بين بين لأن الألف لا يكون ما قبلها إلّا مفتوحا. الَّذِي اؤْتُمِنَ مهموز في الأصل لأنه من الأمانة ففاء الفعل همزة. والأصل في اؤتمن أأتمن كرهوا الجمع بين همزتين فلما زالت إحداهما همزت فإن خفّت الهمزة التقى ساكنان الياء التي في الذي والهمزة المخفّفة فحذفت فقلت: الذي تمن وإذا همزت فقد كان التقى ساكنان أيضا إلّا

_ (1) الشاهد لأبي قيس بن الأسلت الأنصاري في إعراب القرآن ص 902، والأشباه والنظائر 5/ 179، وأمالي المرتضى 1/ 203، والإنصاف 1/ 140، وخزانة الأدب 3/ 364، 4/ 226، والخصائص 3/ 49، والدرر 1/ 216، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 244، ومجالس ثعلب ص 75، والمحتسب 2/ 370، وهمع الهوامع 1/ 65، وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 176، وعجزه: «وخالف والسّفيه إلى خلاف» (2) الضّحاك بن قيس بن خالد الفهري القرشي، ولّاه معاوية على الكوفة سنة (65 هـ) . ترجمته في تهذيب ابن عساكر 7/ 4، وابن الأثير حوادث سنة (65 هـ) . (3) انظر معاني الفراء 1/ 189. (4) هذه قراءة مجاهد وابن كثير وابن عمرو أيضا، انظر معاني الفراء 1/ 188، والتيسير الداني 72.

[سورة البقرة (2) : آية 284]

أنك حذفت الياء لأن قبلها ما يدلّ عليها وإذا خفّفت الهمزة لم يجز أن تأتي بواو بعد كسرة والابتداء أؤتمن وقرأ أبو عبد الرّحمن ولا يكتموا الشهادة جعله نهيا لغيب. وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ فيه وجوه إن أنت رفعت آثما على أنه خبر «إن» و «قلبه» فاعل سدّ مسدّ الخبر، وإن شئت رفعت آثما على الابتداء وقلبه فاعل وهما في موضع خبر «إنّ» وإن شئت رفعت آثما على أنه خبر الابتداء ينوى به التأخير، وإن شئت كان قلبه بدلا من آثم كما تقول: هو قلب الآثم وإن شئت كان بدلا من المضمر الذي في آثم وأجاز أبو حاتم «فإنه آثم قلبه» قال: كما تقول: هو آثم قلب الإثم. قال: ومثله: أنت عربيّ قلبا على المصدر. قال: أبو جعفر: وقد خطّئ أبو حاتم في هذا لأن قلبه معرفة ولا يجوز ما قال في المعرفة، لا يقال: أنت عربيّ قلبه. [سورة البقرة (2) : آية 284] لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ شرط. أَوْ تُخْفُوهُ عطف عليه، يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ جواب الشرط، فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ «1» عطف على الجواب. قال سيبويه «2» : وبلغنا أنّ بعضهم قرأ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ «3» . قال أبو جعفر: هذه القراءة مروية عن ابن عباس والأعرج وهي عند البصريين على إضمار «أن» ، وحقيقته أنه عطف على المعنى والعطف على اللفظ أجود كما قال: [الطويل] 68- ومتى مايع منك كلاما ... يتكلّم فيجبك بعقل «4» وقرأ الحسن ويزيد بن القعقاع، وابن محيصن يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ «5» قطعه من الأول وروي عن طلحة بن مصرّف يحاسبكم به الله يغفر لمن يشاء «6» بغير فاء على البدل وأجود من الجزم لو كان بلا فاء الرفع حتى يكون في موضع الحال كما قال: [الطويل] 69- متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد «7»

_ (1) انظر البحر المحيط 2/ 376. (2) انظر الكتاب 3/ 105. (3) انظر البحر المحيط 2/ 376، وهي قراءة أبي حيوة أيضا. (4) لم أجده في الشواهد اللغوية. (5) انظر البحر المحيط 2/ 376. (6) انظر المحتسب 1/ 149، والبحر المحيط 2/ 361. (7) الشاهد للأعشى في ديوانه ص 51، وإصلاح المنطق ص 198، والأغاني 2/ 168، وخزانة الأدب 3/ 74، وشرح أبيات سيبويه 2/ 65، ولسان العرب (عشا) ومجالس ثعلب ص 467، والمقاصد النحوية 4/ 439، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 871، وخزانة الأدب 5/ 210، وشرح الأشموني 3/ 579، وشرح ابن عقيل ص 581، وشرح عمدة الحافظ ص 363، وشرح المفصل 2/ 66، وما ينصرف وما لا ينصرف ص 88، والمقتضب 2/ 65.

[سورة البقرة (2) : آية 285]

[سورة البقرة (2) : آية 285] آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ على اللفظ ويجوز في غير القرآن آمنوا على المعنى. وَقالُوا سَمِعْنا على حذف أي سمعنا سماع قابلين وقيل: سمع بمعنى قبل، كما يقال: سمع الله لمن حمده. غُفْرانَكَ مصدر، رَبَّنا نداء مضاف. [سورة البقرة (2) : آية 286] لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) لا تُؤاخِذْنا جزم لأنه طلب، وكذا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. ولفظه لفظ النهي. وَاعْفُ عَنَّا طلب أيضا ولفظه لفظ الأمر، ولذلك لم يعرب عند البصريين وجزم عند الكوفيين وكذا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وكذا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.

[3] شرح إعراب سورة آل عمران

[3] شرح إعراب سورة آل عمران بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس بمصر في قول الله عزّ وجلّ: [سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) الم اللَّهُ وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد «1» وعاصم بن أبي النجود وأبو جعفر الرؤاسي الم اللَّهُ «2» بقطع الألف. قال الأخفش سعيد: ويجوز الم اللَّهُ بكسر الميم لالتقاء الساكنين. قال أبو جعفر: القراءة الأولى قراءة العامة، وقد تكلّم فيها النحويون القدماء فمذهب سيبويه «3» أن الميم فتحت لالتقاء الساكنين واختاروا لها الفتح لئلا يجمعوا بين كسرة وياء وكسرة قبلها. قال سيبويه: ولو أردت الوصل لقلت: الم الله ففتحت الميم لالتقاء الساكنين كما فعلت بأين وكيف. قال الكسائي: حروف التهجّي إذا لقيتها ألف الوصل فحذفت ألف الوصل حرّكتها بحركة الألف فقلت: الم الله والم اذكروا والم اقتربت. وقال الفراء «4» : الأصل: الم الله كما قرأ الرؤاسي ألقيت حركة الهمزة على الميم، وقال أبو الحسن بن كيسان: الألف التي مع اللام بمنزلة «قد» وحكمها حكم ألف القطع لأنهما حرفان جاءا لمعنى وإنما وصلت لكثرة الاستعمال فلهذا ابتدئت بالفتح. قال أبو إسحاق «5» : الذي حكاه الأخفش من كسر الميم خطأ لا يجوز ولا تقوله العرب لثقله. الْحَيُّ الْقَيُّومُ وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه

_ (1) عمرو بن عبيد، أبو عثمان البصري، روى الحروف عن الحسن البصري، وهو رأس المعتزلة. وردت له رواية في حروف القرآن (ت 144 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 1/ 602. [.....] (2) انظر مختصر ابن خالويه 19 (3) انظر الكتاب 4: 265 (4) انظر معاني الفراء 1/ 9. (5) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 327.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 4 إلى 6]

القيّام وقال «1» خارجة «2» في مصحف عبد الله الحيّ القيّم «3» . قال أبو جعفر: القيّوم فيعول الأصل فيه قيووم ثم وقع الإدغام، والقيّام الفيعال الأصل فيه القيوام ثم أدغم وقيّم فيعل عند البصريين الأصل فيه قيوم ثم أدغم، وزعم الفراء «4» أنّه فعيل. قال ابن كيسان: لو كان كما قال لما أعلّ كما لم يعلّ سويق وما أشبهه. اسم الله عزّ وجلّ مرفوع بالابتداء، والخبر نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ والْحَيُّ الْقَيُّومُ نعت، وإن شئت كان الخبر لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ثم جيء بخبر بعد خبر. مُصَدِّقاً نصب على الحال، وعند الكوفيين على القطع قال أبو جعفر: وقد ذكرنا اشتقاق التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ في الكتاب الذي قبل هذا. [سورة آل عمران (3) : الآيات 4 الى 6] مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) مِنْ قَبْلُ غاية وقد ذكرناه «5» وهُدىً في موضع نصب على الحال ولم يتبيّن فيه الإعراب لأنه مقصور. إِنَّ الَّذِينَ اسم إنّ والصلة كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ والخبر لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ. وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ابتداء وخبر، وكذا هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ وروى العباس بن الفضل «6» عن أبي عمرو هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ. [سورة آل عمران (3) : آية 7] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) هذه الآية كلها مشكلة. وقد ذكرناها، وسنزيدها شرحا إن شاء الله. قال أبو جعفر: أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات أنّ المحكمات ما كان قائما بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره نحو وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: 4]

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 190، وهي قراءة إبراهيم النخعي والأعمش وابن مسعود وأصحاب عبد الله وزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبي رجاء أيضا. وانظر المحتسب 1/ 151. (2) خارجة بن مصعب أبو الحجاج الضبعي: أخذ القراءة عن نافع وأبي عمرو، وله شذوذ كثير عنهما لم يتابع عليه، وروى أيضا عن حمزة حروفا. (ت 168 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 1/ 268. (3) انظر مختصر ابن خالويه (19) ، والمحتسب 1/ 151، وهي قراءة علقمة بن قيس. (4) انظر الإنصاف مسألة 115. (5) انظر إعراب الآية (25) سورة البقرة. (6) العباس بن الفضل بن عمرو بن عبيد الأنصاري، قاضي الموصل، حاذق من أكابر أصحاب أبي عمرو (ت 186 هـ) ترجمته في غاية النهاية 1/ 353.

وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ [طه: 82] والمتشابهات نحو إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 53] يرجع فيه إلى قوله وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ [طه: 82] وإلى قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] فأما ترك صرف «أخر» فلأنها معدولة عن الألف واللام. وقد ذكرناه «1» . فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ «الذين» في موضع رفع بالابتداء والخبر فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ويقال زاغ يزيغ زيغا إذا ترك القصد، ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ مفعول من أجله أي ابتغاء الاختبار الذي فيه غلوّ وإفساد ذات البين ومنه فلان مفتون بفلانة أي قد غلا في حبّها. وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ عطف على الله جلّ وعزّ. هذا أحسن ما قيل فيه لأن الله جلّ وعزّ مدحهم بالرسوخ في العلم فكيف يمدحهم وهم جهّال. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا أكثر من هذا الاحتجاج فأما القراءة المرويّة عن ابن عباس وما يعلم تأويله إلّا الله ويقول الراسخون في العلم «2» فمخالفة لمصحفنا وإن صحّت فليس فيها حجة لمن قال الراسخون في العلم ويقول الراسخون في العلم آمنا بالله فأظهر ضمير الراسخين ليبيّن المعنى كما أنشد سيبويه: [الخفيف] 70- لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا «3» فإن قال قائل: قد أشكل على الراسخين في العلم بعض تفسيره حتى قال ابن عباس: لا أدري ما الأواه [التوبة: 114] وما غِسْلِينٍ [الحاقة: 36] فهذا لا يلزم لأن ابن عباس رحمه الله قد علم بعد ذلك وفسّر ما وقف عنه، وجواب أقطع من هذا إنما قال الله عزّ وجلّ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ولم يقل جلّ وعزّ: وكل راسخ فيجب هذا فإذا لم يعلمه أحدهم علمه الآخر. قال ابن كيسان: ويقال: الراصخون بالصاد لغة لأنّ بعدها خاء. يَقُولُونَ في موضع نصب على الحال من الراسخين كما قال: [مجزوء الكامل] 71- الرّيح تبكي شجوه ... والبرق يلمع في الغمامه «4» ويجوز أن يكون الراسخون في العلم تمام الكلام ويكون يقولون مستأنفا.

_ (1) انظر إعراب الآية 184- سورة البقرة. (2) انظر معاني الفراء 1/ 191. (3) الشاهد لعدي بن زيد في ديوانه 65، والأشباه والنظائر 8/ 30، وخزانة الأدب 1/ 378، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 36، 118، ولسوادة بن عدي في شرح أبيات سيبويه 1/ 125، وشرح شواهد المغني 2/ 176، والكتاب 1/ 106، ولسوادة أو لعدي في لسان العرب (نغص) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 153، وخزانة الأدب 6/ 90 و 11/ 366، والخصائص 3/ 53، ومغني اللبيب 2/ 500. (4) الشاهد ليزيد بن مفرغ الحميري في ديوانه ص 208. «الريح تبكي شجوها ... والبرق يضحك في الغمامه» وفي لسان العرب (درك) ، وفي تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 127، وغير منسوب في الأضداد لابن الأنباري 424. [.....]

[سورة آل عمران (3) : آية 8]

[سورة آل عمران (3) : آية 8] رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا جزم لأن لفظه لفظ النهي، ويجوز لا تزغ قلوبنا رفع بفعلها، ويجوز لا يزغ قلوبنا على تذكير الجميع. وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً لم تعرب لدن لأنها غير متمكّنة وفيها تسع لغات: لغة أهل الحجاز لدن ويقال: لدن بإسكان النون ولدن بكسرها. قال الفراء: بعض بني تميم يقول لد قال العجاج: [الرجز] 72- من لد شولا فإلى إتلائها «1» وحكى الكسائي لد يا هذا، وحكى أبو حاتم لد بإسكان الدال. قال الفراء: ربيعة تقول: من لدن يا هذا بإسكان الدال وكسر النون، وأسد يقولون: لدن بضم اللام والدال وإسكان النون، وحكى أبو حاتم لدن يا هذا بضم اللام وإسكان الدال، ويقال: لدي بمعنى لدن. [سورة آل عمران (3) : آية 9] رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ ويجوز جامع الناس بالتنوين والنصب وهو الأصل وحذف التنوين استخفافا، ويجوز جامع الناس بغير تنوين وبالنصب، وأنشد سيبويه: [المتقارب] 73- فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلّا قليلا «2» [سورة آل عمران (3) : آية 10] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وقرأ أبو عبد الرّحمن لن يغني عنهم أموالهم لأنه قد فرق وهو تأنيث غير حقيقي. قال أبو حاتم: بالتاء أجود مثل شَغَلَتْنا أَمْوالُنا [الفتح: 11] . وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرّف وَقُودُ بضم الواو ويجوز في العربية إذا ضم الواو أن يقول: أقود مثل أُقِّتَتْ [المرسلات: 11] .

_ (1) الرجز بلا نسبة في شرح المفصّل 4/ 101، و 8/ 35، والكتاب 1/ 322، ولسان العرب (لدن) ، ومغني اللبيب 2/ 422، والمقاصد النحوية 2/ 51، وهمع الهوامع 1/ 122، وهو غير موجود في ديوان العجاج. (2) الشاهد لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه 54، والأشباه والنظائر 6/ 206، وخزانة الأدب 11/ 374، والدرر 6/ 289، وشرح أبيات سيبويه 1/ 190، وشرح شواهد المغني 2/ 933، والكتاب 1/ 224، ولسان العرب (عتب) و (عسل) ، والمقتضب 2/ 313، والمنصف 2/ 231، وبلا نسبة في الإنصاف 2/ 659، ورصف المباني ص 49، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 534، وشرح المفصل 2/ 6، 9/ 34، ومجالس ثعلب ص 149، ومغني اللبيب 2/ 555، وهمع الهوامع 2/ 199.

[سورة آل عمران (3) : آية 11]

[سورة آل عمران (3) : آية 11] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قد ذكرنا موضع الكاف، وزعم الفراء «1» أن المعنى: كفرت العرب كفرا ككفر آل فرعون. قال أبو جعفر: لا يجوز أن تكون الكاف متعلّقة بكفروا لأن كفروا داخل في الصلة وكدأب خارج منها. قال أبو حاتم: وسمعت يعقوب يذكر «كدأب» «2» بفتح الهمزة وقال لي وأنا غليّم: على أيّ شيء يجوز «كدأب» فقلت: أظنّه من دئب يدأب دأبا فقيل ذلك منّي وتعجّب من جودة تقديري على صغري ولا أدري أيقال ذلك أم لا؟ قال أبو جعفر: هذا القول خطأ لا يقال البتّة: دئب، وإنما يقال: دأب يدأب، دؤبا ودأبا، هكذا حكى النحويون منهم الفراء، حكى في «كتاب المصادر» كما قال: [الطويل] 74- كدأبك من أمّ الحويرث قبلها ... وجارتها أمّ الرّباب بمأسل «3» فأما الدأب فإنه يجوز كما يقال: شعر وشعر ونهر ونهر لأن فيه حرفا من حروف الحلق. [سورة آل عمران (3) : آية 13] قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بمعنى إحداهما فئة وقرأ الحسن ومجاهد فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ بالخفض على البدل قال أحمد بن يحيى ويجوز النصب على الحال أي التقتا مختلفتين قال أبو إسحاق «4» : النصب بمعنى أعني. ترونهم مّثليهم «5» نصب على الحال، ومن قرأ ترونهم «6» فالنصب عنده على خبر ترى وقد ذكرنا المعنى. [سورة آل عمران (3) : آية 14] زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 191. (2) انظر البحر المحيط 2/ 407. (3) الشاهد لامرى القيس في ديوانه ص 9، وجمهرة اللغة ص 688، وخزانة الأدب 3/ 223، والمنصف 1/ 150، وتاج العروس (أسل) . (4) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 335. (5) انظر تيسير الداني 72. (6) انظر البحر المحيط 2/ 407، والمحتسب 1/ 154.

[سورة آل عمران (3) : آية 15]

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ اسم ما لم يسمّ فاعله، وحرّكت الهاء من الشهوات فرقا بين الاسم والنعت ويجوز إسكانها لأن بعدها واوا. قال ابن كيسان: قال بعضهم لا تكون الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ أقلّ من تسعة لأن معناها المجمّعة فالثلاثة قناطير فإذا جمعتها صارت مثل قولك: ثلاث ثلاثات. الذَّهَبِ مؤنثة، يقال: هي الذهب الحسنة، وجمعها ذهاب وذهوب ويجوز أن يكون جمع ذهبة وجمع فضة فضض، والخيل مؤنّثة. قال ابن كيسان: حدّثت عن أبي عبيدة أنه قال: واحد الخيل خائل مثل طائر وطير وقيل له: خائل لأنه يختال في مشيته قال ابن كيسان: إذا قلت: نعم لم تك إلّا للإبل فإذا قلت: أنعام وقعت للإبل وكلّ ما ترعى. لا يجوز أن تدغم الثاء من «الحرث» في الذال من «ذلك» كما فعلت في يَلْهَثْ ذلِكَ [الأعراف: 176] لأن الراء من الحرث ساكنة فلو أدغمت اجتمع ساكنان. [سورة آل عمران (3) : آية 15] قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ، لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي رفع بالابتداء أو بالصفة. قال أبو حاتم: ويجوز جنات «1» بالخفض على البدل من خير، سمعت يعقوب يذكر ذلك وغيره ويجوز بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ [الحج: 72] بالخفض. قال ابن كيسان: ويجوز «جنّات» بالخفض على البدل وبالنصب على إعادة الفعل ويكون للذين متعلقا بقوله: أَأُنَبِّئُكُمْ على قول الفراء «2» وتبيينا على قول الأخفش أي ملغاة. وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ عطف على جنات. [سورة آل عمران (3) : آية 16] الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) قال الَّذِينَ يَقُولُونَ في موضع خفض أي للذين اتقوا عند ربهم الذين يقولون، إن شئت كان رفعا أي هم الذين ونصبا على المدح أي أعني الذين. [سورة آل عمران (3) : آية 17] الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) الصَّابِرِينَ بدل من الذين إذا كان نصبا أو خفضا وإن كان رفعا كان الصابرين

_ (1) انظر البحر المحيط 2/ 417، وهي قراءة يعقوب. (2) انظر معاني الفراء 1/ 196.

[سورة آل عمران (3) : آية 18]

بمعنى أعني الصابرين. وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ عطف كلّه. بِالْأَسْحارِ واحدها سحر تقول: سير به سحر يا فتى، لا ينصرف لأنه معدول عن الألف واللام وهو معرفة ولا يجوز أن يرفع إذا كان معرفة لأن الظروف إنما ترفع هاهنا مجازا فإذا وقعت فيها علّة أقرّت على بابها نصبا فإن نكّرته جاز فيه الرفع وصرف. قال أبو إسحاق «1» : السحر من حيث يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر الثاني. [سورة آل عمران (3) : آية 18] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ قد ذكرنا فيه قراءات وفسّرنا إعرابها فأما قراءة أبي المهلب «2» شُهَداءَ لِلَّهِ «3» فهي نصب على الحال وروي عنه شُهَداءَ لِلَّهِ أي هم شهداء لله ويروى عنه شهداء الله ويروى عنه شهداء الله. قائِماً بِالْقِسْطِ نصب على الحال المؤكّدة وعند الكوفيين على القطع وفي قراءة عبد الله القائم بالقسط على النعت وفي قراءته «4» . [سورة آل عمران (3) : آية 19] إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وهذا بكسر «إنّ» لا غير. قال الأخفش: المعنى وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلّا من بعد ما جاءهم العلم. قال أبو إسحاق «5» : الذي هو أجود عندي أن يكون «بغيا» منصوبا بما دلّ عليه «وما اختلف الذين أوتوا الكتاب» أي اختلفوا بغيا بينهم. وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ شرط والجواب فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ويجوز رفع يكفر بجعل «من» بمعنى الذي. [سورة آل عمران (3) : آية 20] فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) وَمَنِ اتَّبَعَنِ حذفت الياء في السواد لأن الكسرة تدلّ عليها والنون عوض

_ (1) انظر إعراب القرآن ومعانيه 338. (2) أبو المهلّب: محارب بن دثار السدوسي الكوخي، عرض على أبيه عن عمر بن الخطاب، وروى عن جابر وابن عمر ترجمته في غاية النهاية 2/ 42. (3) انظر المحتسب 1/ 155. (4) انظر معاني الفراء 1/ 200. [.....] (5) انظر إعراب القرآن ومعانيه 340.

[سورة آل عمران (3) : آية 21]

وَإِنْ تَوَلَّوْا شرط والجواب فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ابتداء وخبر. [سورة آل عمران (3) : آية 21] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الذين اسم إن والخبر فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فإن قيل: كيف دخلت الفاء في خبر «إنّ» ولا يجوز: إن زيدا فمنطلق؟ فالجواب أنّ «الذي» إذا كان اسم «إن» وكان في صلته فعل كان في الكلام معنى المجازاة فجاز دخول الفاء، ولا يجوز ذا في ليت ولعلّ وكأنّ، لأنّ «إنّ» تأكيد. وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ وقرأ حمزة ويقاتلون الذين يأمرون بالقسط «1» وهو وجه بعيد جدّا لأنّ بعض الكلام معطوف على بعض والنسق واحد والتفسير يدلّ على «يقتلون» . قال أبو العالية: كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيّون يدعونهم إلى الله جلّ وعزّ فقتلوهم فقام أناس من المؤمنين بعدهم فأمروهم بالإسلام فقتلوهم فيهم نزلت هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ إلى آخرها وروى شعبة «2» عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة «3» عن عبد الله قال: كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم سبعين نبيّا ثم يقوم سوق بقتلهم من آخر النهار. [سورة آل عمران (3) : آية 22] أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) قرأ أبو السمّال العدوي أولئك الذين حبطت أعمالهم «4» وهي لغة شاذة. [سورة آل عمران (3) : آية 24] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا «ذلك» في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي أمرهم ذلك. [سورة آل عمران (3) : آية 25] فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) قال الكسائي لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ. أي في يوم. وقال البصريون: المعنى لحساب يوم واللام في موضعها. ويجوز في غير القرآن وأفيت مثل أُقِّتَتْ [المرسلات: 11] .

_ (1) انظر تيسير الداني 73. (2) شعبة بن الحجاج بن الورد، أبو بسطام الأزدي العتكي مولاهم نزيل البصرة ومحدّثها (ت 160 هـ) ترجمته في تذكرة الحفاظ 193. (3) انظر تفسير الطبري 1/ 51، وحلية الأولياء 4/ 20. (4) هذه قراءة أبي واقد وأبي الجراح، انظر مختصر ابن خالويه 19، والبحر المحيط 2/ 431.

[سورة آل عمران (3) : آية 26]

[سورة آل عمران (3) : آية 26] قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ الفراء «1» يذهب فيما يرى إلى أن الأصل في اللَّهُمَّ يا الله أمّنا منك بخير فلما كثر واختلط حذفوا منه وإن الضمّة التي في الهاء هي الضمة التي كانت في أمّنا لمّا حذفت انتقلت. قال أبو جعفر: هذا عند البصريين من الخطأ العظيم حتى قال بعضهم: هذا الحاد في اسم الله عزّ وجلّ. قال أبو جعفر: القول في هذا ما قاله الخليل وسيبويه «2» أن الأصل يا الله ثم جاءوا بحرفين عوضا من حرفين وهما الميمان عوضا من «يا» والدليل على هذا أنه ليس أحد من الفصحاء يقول «يا اللهمّ» لأنهم لا يجمعون بين الشيء وعوضه، والضمة التي في اللهمّ عندهما هي ضمّة المنادى المرفوع. فأمّا قول الفراء: إنّ الأصل يا الله أمّنا فلو كان كذا لوجب أن يقال: أؤمم وأن يدغم فيضم ويكسر وكان يجب أن تكون ألف وصل لا حكم لها، وكان يجب أن يقال: يا اللهمّ، وأيضا فكيف يصحّ المعنى أن يقال: يا الله أمّنا منك بخير. مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وهذا لا يقدّمه أحد بين يدي دعائه مالِكَ الْمُلْكِ منصوب عند سيبويه على أنه نداء ثان ولا يجوز أن يكون عنده صفة لقوله: «اللهمّ» من أجل الميم وخالفه محمد بن يزيد وإبراهيم بن السّريّ في هذا وقالا: يجوز أن يكون صفة كما يكون صفة إذا جئت بيا. تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ روى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير: أنّ وفد نجران أتوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقرأ عليهم سورة آل عمران وفسّر لهم من أولها إلى رأس الثمانين فقال: تؤتي الملك من تشاء «ملك النبوة» . قال ابن إسحاق: وكانوا نصارى فأعلم الله جلّ وعزّ بعنادهم وكفرهم وأنّ عيسى صلّى الله عليه وسلّم وإن كان الله جلّ وعزّ أعطاه آيات تدلّ على نبوّته من إحياء الموتى وغير ذلك فإن الله عزّ وجلّ منفرد بهذه الأشياء من قوله: [سورة آل عمران (3) : آية 27] تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) فلو كان عيسى إلها لكان هذا إليه فكان في ذلك اعتبار وآية بيّنة ثم حذّر الله جلّ وعزّ المؤمنين، وأمرهم ألّا يتخذوهم أولياء فقال: [سورة آل عمران (3) : آية 28] لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 203. (2) انظر الكتاب 2/ 198.

[سورة آل عمران (3) : آية 30]

لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ جزما على التي وكسرت الذّال لالتقاء الساكنين. قال الكسائي: ويجوز لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ بالرفع على الخبر كما يقال: ينبغي أن تفعل ذلك. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ شرط وجوابه أي فليس من أولياء الله مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً مصدر وكذا تقيّة والأصل الواو وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ قال أبو إسحاق: أي ويحذّركم الله إيّاه ثم استغنوا عن ذلك بذا وصار المستعمل. قال: وأما تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116] فمعناه تعلم ما عندي وما في حقيقتي ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك، وقال غيره: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي عقابه مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ، وقال تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي أي مغيّبي فجعلت النفس في موضع الإضمار لأنه فيها يكون وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ على الازدواج. [سورة آل عمران (3) : آية 30] يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً يَوْمَ نصب بتقدير: ويحذّركم الله نفسه يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا، ويجوز أن يكون التقدير: وإلى الله المصير يوم تجد كل نفس ما عَمِلَتْ مفعول. مُحْضَراً حال. وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ معطوف على «ما» الأولى ولو كانت «ما» منقطعة من الأولى على أن تكون شرطا وتعطف جملة على جملة لم يجز إلّا أن تجزم تودّ ولا نعلم أحدا قرأ به وإن كان جائزا في النحو. أَمَداً اسم أنّ. بَيْنَها ظرف. بَعِيداً من نعته. وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ابتداء وخبر. [سورة آل عمران (3) : آية 31] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ شرط. تُحِبُّونَ خبر كنتم. فَاتَّبِعُونِي أمر والفاء وما بعدها جواب الشرط. يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ جواب الأمر وفيه معنى المجازاة والمحبة من الله جلّ وعزّ الثناء والثواب وروي أنّ المسلمين قالوا: يا رسول الله إنّنا لنحبّ ربّنا فأنزل الله عزّ وجلّ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وعنه صلّى الله عليه وسلّم: «من أراد أن يحبّه الله فعليه بصدق الحديث وأداء الأمانة وأن لا يؤذي جاره» «1» وقرأ أبو رجاء العطارديّ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «2» بفتح الياء. قال الكسائي: يقال: يحبّ وتحبّ واحبّ، ويحبّ بكسر الياء وتحبّ ونحبّ وإحبّ قال: وهذه لغة بعض قيس يعني الكسر قال: والفتح لغة تميم

_ (1) ذكره القرطبي في تفسيره 4/ 61، والطبري في تفسيره 3/ 223. (2) انظر مختصر ابن خالويه 20، والبحر المحيط 2/ 448.

[سورة آل عمران (3) : آية 32]

وأسد وقيس وهي على لغة من قال: حبّ وهي لغة قد ماتت. قال الأخفش: لم تسمع حببت. قال الفراء: لم تسمع حببت إلّا في بيت أنشده الكسائي: [الطويل] 75- وأقسم لولا تمره ما حببته ... ولا كان أدنى من عبيد ومشرق» قال أبو جعفر: لا يجوز عند البصريين كسر الياء من يحب لثقل الكسرة في الياء فأما فتحها فمعروف يدلّ عليه محبوب. وَيَغْفِرْ لَكُمْ عطف على يحببكم وروى محبوب عن أبي عمرو بن العلاء أنه أدغم الراء من «يغفر» في اللام من «لكم» . قال أبو جعفر: لا يجيز الخليل وسيبويه «2» إدغام الراء في اللام لئلا يذهب التكرير وأبو عمرو أجلّ من أن يغلط في مثل هذا ولعلّه كان يخفي الحركة كما يفعل في أشياء كثيرة. [سورة آل عمران (3) : آية 32] قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) فَإِنْ تَوَلَّوْا شرط إلّا أنه ماض لا يعرب والتقدير فإن تولوا على كفرهم والجواب فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ. [سورة آل عمران (3) : آية 33] إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً قال الفراء «3» : أي إنّ الله اصطفى دينهم. قال أبو جعفر: هذا التقدير لا يحتاج إليه لأن المعنى اختارهم وروي عن ابن عباس أنه قال: أدم خلق من أديم الأرض. قال أبو جعفر: أديم الأرض وجهها فسمّي آدم لأنه خلق من وجه الأرض. قال أحمد بن يحيى من قال سمّي آدم من أديم الأرض فقد أخطأ في العربية لأنه يجب أن يصرفه لأنه فاعل مثل طابق قال: ولكنه مشتق من شيئين أحدهما أن يكون مشتقا من قولهم: أدمت فلانا بنفس أي خلطته فقيل آدم لأنه خلق من أخلاط قال: والقول عندي أنّ آدم أفعل من الأدمة في اللون. قال أبو جعفر: الذي أنكره أحمد بن يحيى قول أكثر النحويين وقد يجوز أن يكون آدم أفعل مشتقا من أديم الأرض وأن يكون فاعلا كما قال إلّا أنا نقدّره أفعل فلا ينصرف. ونوح اسم أعجمي إلّا أنه انصرف لأنه على ثلاثة أحرف وقد يجوز أن يشتقّ من ناح ينوح. ولم ينصرف عمران لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين. [سورة آل عمران (3) : آية 34] ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) ذُرِّيَّةً قال الأخفش: هي نصب على الحال، وقال الكوفيون: على القطع وقال

_ (1) يروى في صدر هذا البيت «والله لولا تمره» ، والشاهد لعيلان بن شجاع النهشلي في لسان العرب (حبب) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 410، وخزانة الأدب 9/ 429، وشرح شواهد المغني 2/ 780، وشرح المفصّل 7/ 138، والخصائص 2/ 220، ومغني اللبيب رقم (585) . (2) انظر الكتاب 4/ 584. (3) انظر معاني الفراء 1/ 207.

[سورة آل عمران (3) : آية 35]

أبو إسحاق «1» هي بدل. وذرّية مشتقة من الذرّ لكثرتها وفيها تقديران تكون فعليّة وتكون فعلولة أصلها ذرّورة فاستثقلوا التضعيف فأبدلوا من الراء الأخيرة ياء ثم أدغموا الواو في الياء فقالوا ذرّيّة ويقال: ذرّيّة. بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ابتداء وخبر. [سورة آل عمران (3) : آية 35] إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ قال أبو عبيدة «2» : «إذ» زائدة وقال محمد بن يزيد: التقدير أذكر إذ قال وقال أبو إسحاق «3» : المعنى: واصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً منصوب على الحال، وقيل: هو نعت لمفعول محذوف أي نذرت لك ما في بطني غلاما محرّرا أي يخدم الكنيسة. قال أبو جعفر: القول الأول أولى من جهة التفسير وسياق اللام والإعراب، فأمّا التفسير فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: حملت امرأة عمران بعد ما أسنّت فنذرت ما في بطنها محررا فقال لها عمران: ما صنعت ويحك فولدت أنثى فقبلها ربّها بقبول حسن وكان لا يحرّر إلّا الغلمان فتساهم عليها الأحبار بالأقلام التي يكتبون بها الوحي فكفلها زكرياء واتّخذ لها مرضعا فلما شبّت جعل لها محرابا لا يرتقى إليه إلّا بسلم فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في القيظ وفاكهة القيظ في الشتاء قال يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالت هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران: 37] فعند ذلك طمع زكرياء في الولد. قال: إنّ الذي يأتيها بهذا قادر على أن يرزقني ولدا، وقال الضحاك: كان أكثر من يجعل خادما للأحبار ينبّأ فلذلك كان لا يقبل إلّا الغلمان. فهذا التفسير، وسياق الكلام أنها قالت: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى أي وليست الأنثى مما يقبل فقال الله جلّ وعزّ فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ [آل عمران: 37] وأما الإعراب فإنّ إقامة النعت مقام المنعوت لا يجوز في مواضع ويجوز على المجاز في أخرى، وحذف اللام في مثل هذا لا يستعمل. [سورة آل عمران (3) : آية 36] فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى حال، وإن شئت بدل. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وقد ذكرنا أنه يقرأ بِما وَضَعَتْ «4» وهي قراءة بعيدة لأنها قد قالت: إنّي وضعتها أنثى وروي عن ابن عباس بِما وَضَعَتْ «5» بكسر التاء أي قيل لها هذا وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى الكاف

_ (1) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 351، والبحر المحيط 2/ 454. (2) انظر مجاز القرآن 1/ 90. [.....] (3) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 352. (4) انظر معاني الفراء 1/ 207، والبحر المحيط 2/ 456، وهي قراءة ابن عامر وأبي بكر ويعقوب. (5) انظر البحر المحيط 2/ 456.

[سورة آل عمران (3) : آية 37]

في موضع نصب على خبر ليس أو على الظرف. وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ مفعولان ولم تنصرف مريم لأنه اسم مؤنث معرفة وهو أيضا أعجميّ. وَذُرِّيَّتَها عطف على الهاء والألف. [سورة آل عمران (3) : آية 37] فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ مصدر تقبّل تقبّل إلّا أن معنى تقبّل وقبل واحد فالمعنى فقبلها ربّها بقبول حسن ونظيره «1» : [الرجز] 76- وقد تطوّيت انطواء الحضب «2» لأن معنى تطوّيت وانطويت واحد. قال أبو جعفر: الحضب الحيّة ومثله للقطامي: [الوافر] 77- وليس بأن تتّبعه اتّباعا «3» وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً ولم يقل: إنباتا لأنه لما قال: أنبتها دلّ على نبت كما قال: [الطويل] 78- فصرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا ... ورضت فذلّت صعبة أيّ إذلال «4» وإنما مصدر ذلّت ذلّ ولكنه قد دلّ على معنى أذللت، وقرأ مجاهد فَتَقَبَّلَها بإسكان اللام على الطلب والمسألة رَبُّها نداء مضاف وَأَنْبَتَها بإسكان التاء وَكَفَّلَها «5» بإسكان اللام زكرياء بالمدّ والنصب، وقرأ الكوفيّون وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا

_ (1) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص 32، وخزانة الأدب 9/ 187، وشرح شواهد المغني 1/ 341، ولسان العرب (روض) ، والمقتضب 1/ 74، وبلا نسبة في المحتسب 2/ 260. (2) الشاهد لرؤبة في ديوانه ص 16، ولسان العرب (حضب) ، والدرر 3/ 59، وشرح أبيات سيبويه 1/ 291، وشرح المفصّل 1/ 112، والكتاب 4/ 196، وتهذيب اللغة 4/ 220، وتاج العروس (حضب) ، وبلا نسبة في لسان العرب (طوى) ، وهمع الهوامع 1/ 187، والمخصص 8/ 110 و 10/ 182، وبعده: «بين قتادة ردهة وشقب» (3) الشاهد للقطامي في ديوانه ص 35، وشرح أبيات سيبويه 2/ 332، والشعر والشعراء 2/ 728، والكتاب 4/ 195، ولسان العرب (تبع) ، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص 630، والأشباه والنظائر 1/ 245، وجمهرة الأمثال 1/ 419، وشرح المفصّل 1/ 111، والمقتضب 3/ 205. وصدره: «وخير الأمر ما استقبلت منه» (4) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص 32، وخزانة الأدب 9/ 187، وشرح شواهد المغني 1/ 341، ولسان العرب (روض) ، والمقتضب 1/ 74، وبلا نسبة في المحتسب 2/ 260. (5) انظر القراءات المختلفة في البحر المحيط 2/ 460.

[سورة آل عمران (3) : آية 38]

أي وكفّلها الله زكرياء، وروى هارون بن موسى «1» عن عبد الله بن كثير وأبي عبد الله المدني «2» وكفلها زكريّاء بكسر الفاء. قال الأخفش سعيد: يقال: كفل يكفل وكفل يكفل ولم أسمع كفل وقد ذكرت. قال الفراء «3» : أهل الحجاز يمدّون زكريّاء ويقصرونه، وأهل نجد يحذفون منه الألف ويصرفونه فيقولون: زكريّ. قال الأخفش: فيه أربع لغات زكرياء بالمدّ وزكريّا بالقصر وزكريّ بتشديد الياء والصرف وزكر ورأيت زكريا. قال أبو حاتم: زكريّ بلا صرف لأنه أعجميّ. وهذا غلط لأن ما كانت فيه ياء مثل هذه انصرف، ولم ينصرف زكريّاء في المدّ والقصر لأن فيه ألف تأنيث والدليل على هذا أنه لا يصرف في النكرة وقال قوم: لم ينصرف لأنه أعجميّ. كُلَّما دَخَلَ منصوب بوجد أي كلّ دخوله أي كلّ وقت دخوله، وإن شئت أملت الألف من حساب لكسرة الحاء. [سورة آل عمران (3) : آية 38] هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) هُنالِكَ في موضع نصب لأنه ظرف يتضمّن المكان وأحوال الزمان وهو مبني لأنه بمنزلة ذلك وهنا بمنزلة هذا، وبنو تميم يقولون: هناك بمنزلة هنالك واللام مكسورة لالتقاء الساكنين، ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً على اللفظ. [سورة آل عمران (3) : آية 39] فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وقرأ عبد الله بن مسعود وابن عباس فناداه الملائكة «4» وهو اختيار أبي عبيد وروي عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم كان عبد الله يذكّر الملائكة في كلّ القرآن قال أبو عبيد: أنا اختار ذلك خلافا على المشركين لأنهم قالوا الملائكة بنات الله. قال أبو جعفر: هذا احتجاج لا يحصل منه شيء لأن العرب تقول: قالت الرجال وقال الرجال وكذا النساء وكيف يحتجّ عليهم بالقرآن ولو جاز أن يحتجّ عليهم بهذا لجاز أن يحتجّوا بقوله وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ [آل عمران: 42] ولكن الحجة عليهم في قوله جلّ وعزّ: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف: 19] أي فلم يشاهدوا خلقهم فكيف يقولون: إنهم إناث فقد علم أنّ هذا ظنّ وهوى، وأما فناداه فهو جائز على تذكير

_ (1) هارون بن موسى الأعور البصري الأزدي، صدوق، له قراءة معروفة، روى القراءة عن عاصم الجحدري وعاصم بن أبي النجود وعن أبي عمرو (ت 200 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 2/ 348. (2) أبو عبد الله المدني: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الصادق، قرأ على آبائه محمد الباقر فزين العابدين فالحسين فعلي. (ت 148 هـ) ، ترجمته في غاية النهاية 1/ 196. (3) انظر معاني الفراء 1/ 208. (4) انظر تيسير الداني 73.

[سورة آل عمران (3) : آية 40]

الجميع ونادته على تأنيث الجماعة. وَهُوَ قائِمٌ ابتداء وخبر. يُصَلِّي في موضع رفع، وإن شئت كان نصبا على أنه حال من المضمر. أَنَّ اللَّهَ وقرأ حمزة «1» والكسائي أَنَّ اللَّهَ أي قالت الملائكة: إن الله يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى هذه قراءة أهل المدينة وقرأ حمزة يُبَشِّرُكَ «2» وقرأ حميد بن قيس المكيّ الأعرج يُبَشِّرُكَ بضم الياء وإسكان الباء. قال الأخفش: هي ثلاث لغات بمعنى واحد وقال محمد بن يزيد: يقال: بشرته أي أخبرته بما أظهر في بشرته السرور وبشّرته على التكثير قال أبو إسحاق «3» يقال: بشرته أبشره وأبشره. قال الكسائي: سمعت غنيّا تقول: بشرته أبشره. قال الأخفش: يقال: بسرته فبشر وابشر أي سررته فسرّ ومنه وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ [فصلت: 30] . قال الفراء: لا يقال: من هذا إلّا أبشر «4» وحكي عن محمد بن يزيد بشّرته فأبشر مثل قرّرته فأقرّ وفطّرته فأفطر أي طاوعني بِيَحْيى لم ينصرف لأنه فعل مستقبل سمّي به وقيل: لأنه أعجمي، ومذهب الخليل وسيبويه أنك إن جمعته قلت يحيون بفتح الياء في كل حال، وقال الكوفيون: إن كان عربيا فتحت الياء وإن كان أعجميا ضممتها لأنه لا يعرف أصلها مُصَدِّقاً حال. بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ عيسى صلّى الله عليه وسلّم قيل: فرض عليه أن يتّبعه. وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا عطف. مِنَ الصَّالِحِينَ. قال أبو إسحاق «5» : الصالح الذي يؤدّي لله جلّ وعزّ ما افترض عليه وإلى الناس حقوقهم. [سورة آل عمران (3) : آية 40] قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وبلغت الكبر واحد. وَامْرَأَتِي عاقِرٌ ابتداء وخبر في موضع الحال، وعاقر بلا هاء على النسب ولو كان على الفعل لقيل: عقرت فهي عقيرة كأنّ بها عقرا يمنعها من الولادة. قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ الكاف في موضع نصب أي يفعل ما يشاء مثل ذلك. [سورة آل عمران (3) : آية 41] قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً اجْعَلْ بمعنى صيّر فلذلك وجب أن يتعدّى إلى مفعولين

_ (1) انظر البحر المحيط 2/ 465. (2) انظر تيسير الداني 73، والبحر المحيط 2/ 465. [.....] (3) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 356. (4) انظر معاني الفراء 1/ 212. (5) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 358.

[سورة آل عمران (3) : آية 42]

و «لي» في موضع الثاني وإذا كان بمعنى خلق لم يتعدّ إلّا إلى واحد نحو قوله: خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [الأنبياء: 33] . قالَ آيَتُكَ ابتداء. أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ خبره ويجوز رفع تكلّم بمعنى أنك لا تكلّم الناس مثل أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا [طه: 89] والكوفيون يقولون: الرفع على أن تكون «لا» بمعنى ليس. ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ظرف وقد ذكرنا قول قتادة أن زكريّاء عوقب بمنع الكلام حين سأل وهذا قول مرغوب عنه لأن الله عزّ وجلّ لم يخبرنا أن زكرياء أذنب ولا أنه نهاه عن هذا، والقول فيه أن المعنى اجعل لي علامة تدلّ على كون الولد إذ كان ذلك مغيّبا عنّي. قال الأخفش: إِلَّا رَمْزاً استثناء ليس من الأول. قال الكسائي يقال: رمز يرمز ويرمز، وقرأ علقمة بن قيس «1» إِلَّا رَمْزاً «2» وقرأ الأعمش إِلَّا رَمْزاً «3» وهما اسمان والمسكّن المصدر. وَسَبِّحْ أمر أي نزّه الله جلّ وعزّ عمّا يقول المشركون وقيل: سبّح أي صلّ ومنه فرغ فلان من سبحته. بِالْعَشِيِّ قيل: هو جمع وقيل: هو واحد والأولى أن يكون واحدا للمستقبل. قال الأصمعي: يقال: أنا آتيك عشيّ غد وأنا آتيك عشيّة اليوم وأتيته عشيّة أمس وعشيّ أمس. [سورة آل عمران (3) : آية 42] وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ الطاء مبدلة من تاء لأن الطاء بالصاد أشبه. [سورة آل عمران (3) : آية 43] يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي أمر فلذلك حذفت منه النون. وَاسْجُدِي عطف عليه يقال: سجد إذا تطامن وذلّ، وركع إذا انحنى، ومنه يقال: ركع الشيخ مع الراكعين يجوز أن يكون معناه اركعي مع الذين يصلّون في جماعة ويجوز أن يكون معناه كوني مع الراكعين وإن لم تصلّي معهم. [سورة آل عمران (3) : آية 44] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) ذلِكَ في موضع رفع أي الأمر ذلك فهو خبر الأمر ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء وخبره مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ «إذ» في موضع نصب أي: وما كنت لديهم ذلك الوقت أَقْلامَهُمْ جمع قلم من قلمه إذا قطعه

_ (1) علقمة بن قيس النخعي الفقيه، خال إبراهيم النخعي، عرض على ابن مسعود وسمع عليا وعمر وعائشة (ت 62 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 1/ 516. (2) انظر مختصر ابن خالويه 20، والمحتسب 1/ 161 والبحر المحيط 2/ 472، وهي قراءة يحيى بن وثاب أيضا. (3) انظر مختصر ابن خالويه 20، والبحر المحيط 2/ 472.

[سورة آل عمران (3) : آية 45]

وقد ذكرنا أنه قيل: أقلامهم سهامهم «1» وأجود من هذا القول: أي أقلامهم التي يكتبون بها الوحي جمعوها فرموا بها في نهر لينظروا أيّها يستقبل جري الماء فيكون صاحبه الذي يكفل مريم أي يضمن القيام بأمرها. فأما أن تكون الأقلام القداح فبعيد لأن هذه هي الأزلام التي نهى الله عزّ وجلّ عنها إلّا أنه يجوز أن يكونوا فعلوا ذلك على غير الجهة التي كانت الجاهلية تفعلها. أَيُّهُمْ ابتداء وهو متعلق بفعل محذوف أي ينظرون أيّهم يكفل مريم وحكى سيبويه «2» : اذهب فانظر زيد أبو من هو؟ وإن نصبت انقلب المعنى. [سورة آل عمران (3) : آية 45] إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ متعلّقة بيختصمون ويجوز أن تكون متعلقة بقوله «وما كنت لديهم» ، بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ ولم يقل: اسمها لأن معنى كلمة ولد قال إبراهيم النخعيّ «3» المسيح الصدّيق. قال أبو عبيد: هو في لغتهم مسيحا، وقيل: إنما سمّي المسيح لأنه مسح بدهن كانت الأنبياء تتمسّح به طيّب الرائحة فإذا مسّح به علم أنه نبيّ. «عيسى» «4» اسم أعجميّ فلذلك لم ينصرف وإن جعلته عربيا لم ينصرف في معرفة ولا نكرة لأن فيه ألف التأنيث، ويكون مشتقا من عاسه يعوسه إذا ساسه وقام عليه، ويجوز أن يكون مشتقا من العيس ومن العيس. قال الأخفش وَجِيهاً منصوب على الحال، وقال الفراء «5» : هو منصوب على القطع. قال أبو إسحاق «6» : النصب على القطع كلمة محال لأن المعنى أنه بشّر بعيسى في هذه الحال ولم يبيّن معنى القطع فإن كان القطع معنى فلم يبيّنه ما هو؟ وإن كان لفظا فلم يبيّن ما العامل؟ وإن كان يريد أنّ الألف واللام قطعتا منه فهذا محال لأن الحال لا تكون إلّا نكرة والألف واللام بمعهود فكيف يقطع منه ما لم يكن فيه قطّ. قال الأخفش وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عطف على وجيه أي ومقرّبا وجمع وجيه وجهاء ووجاه. [سورة آل عمران (3) : آية 46] وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قال الأخفش: وَيُكَلِّمُ.

_ (1) انظر إعراب الآية 35. (2) انظر الكتاب 1/ 294. (3) إبراهيم النخعي: بن يزيد بن قيس بن الأسود الكوفي، قرأ على علقمة بن قيس، وقرأ عليه سليمان الأعمش (ت 96 هـ) . انظر غاية النهاية 1/ 29. (4) انظر تاج العروس (عيس) . (5) انظر معاني الفراء 1/ 213. (6) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 362.

[سورة آل عمران (3) : آية 47]

عطف على «وجيها» . قال الأخفش والفراء «1» وَكَهْلًا معطوف على وجيها. قال أبو إسحاق «2» : وكهلا بمعنى ويكلّم الناس كهلا. وروى ابن جريج «3» عن مجاهد قال: الكهل الحليم. قال أبو جعفر: هذا لا يعرف في اللغة وإنما الكهل عند أهل اللغة من ناهز الأربعين وقال بعضهم: يقال له: حدث إلى ستّ عشرة سنة ثم شابّ إلى اثنتين وثلاثين سنة ثم يكتهل في ثلاث وثلاثين. قال الأخفش: وَمِنَ الصَّالِحِينَ عطف على وجيها. [سورة آل عمران (3) : آية 47] قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ عطف على «يقول» ، ويجوز أن يكون منقطعا أي فهو يكون. وقد تكلم العلماء في معناه فقيل: هو بمنزلة الموجود المخاطب لأنه لا بدّ أن يكون ما أراد جلّ وعزّ فعلى هذا خوطب وقيل: أخبر الله جلّ وعزّ بسرعة ما يريد أنه على هذا وقيل: علامته لما يريد كما كان نفخ عيسى عليه السلام في الطائر علامة لخلق الله جلّ وعزّ إيّاه. وقيل: أي يخرجه من العدم إلى الوجود فخوطب العباد على ما يعرفون. وقيل له أي من أجله كما تقول: أنا أكرم فلانا لك أي من أجلك. [سورة آل عمران (3) : آية 48] وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ونعلّمه بالنون يردّونه على قوله نُوحِيهِ [آل عمران: 44] والياء أولى لقوله وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فالياء أقرب. قال الأخفش وَيُعَلِّمُهُ في موضع نصب عطفا على «وجيها» . [سورة آل عمران (3) : آية 49] وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ في نصبه قولان أحدهما أنّ التقدير ويجعله رسولا والآخر ويكلمهم رسولا. أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ أي بأني فإنّ في موضع نصب

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 213. (2) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 363. [.....] (3) ابن جريج: عبد الملك بن عبد العزيز القرشي، روى القراءة عن ابن كثير (ت 150 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 1/ 469.

[سورة آل عمران (3) : آية 50]

أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بدل منها ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل من آية ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي هي أنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير. فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ هذه قراءة أبي عمرو وأهل الكوفة وقرأ يزيد بن القعقاع كهيئة الطّائر فأنفخ فيه فيكون طائرا وقرأ نافع كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائرا «1» والقراءتان الأوليان أبين والتقدير في هذه فانفخ في الواحد منها أو منه لأن الطير يذكّر ويؤنث فيكون الواحد طائرا، وطائر وطير مثل تاجر وتجر. وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ أي بالذي تأكلونه ويجوز أن يكون ما والفعل مصدرا. وَما تَدَّخِرُونَ وقرأ مجاهد والزهريّ وأيوب السختيانيّ وما تذخرون «2» بالذال معجمة مخفّفا. قال الفراء: أصلها الذال يعني تذخرون من ذخرت فالأصل تذتخرون فثقل على اللسان الجمع بين الذال والتاء فأدغموا وكرهوا أن تذهب التاء في الذال فيذهب معنى الافتعال فجاءوا بحرف عدل بينهما وهو الدال فقالوا: تدّخرون. قال أبو جعفر: هذا القول غلط بيّن لأنهم لو أدغموا على ما قال لوجب أن يدغموا الذال في التاء وكذا باب الإدغام أن يدغم الأول في الثاني فكيف تذهب التاء والصواب في هذا مذهب الخليل وسيبويه أنّ الذال حرف مجهور يمنع النفس أن يجري والتاء حرف مهموس يجري معه النفس فأبدلوا من مخرج التاء حرفا مجهورا أشبه الذال في جهرها فصار تذدخرون ثم أدغمت الذال في الدال فصار تدّخرون: قال الخليل وسيبويه: وإن شئت أدغمت الدال في الذال فقلت تذّخرون وليس هذا بالوجه. [سورة آل عمران (3) : آية 50] وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أي وجئتكم مصدّقا. قال أحمد بن يحيى: لا يجوز أن يكون معطوفا على «وجيها» لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون لما بين يديه. وَلِأُحِلَّ لَكُمْ فيه حذف ليتعلق به لام كي، أي ولأحلّ لكم جئتكم وقد ذكرنا معناه ونزيده شرحا قيل إنّما أحلّ لهم عيسى عليه السلام ما حرّم عليهم بذنوبهم ولم يكن في التوراة نحو أكل الشحوم وكلّ ذي ظفر وقيل: إنّما أحلّ لهم عيسى عليه السلام أشياء حرمتها عليهم الأحبار لم تكن محرمة عليهم في التوراة. [سورة آل عمران (3) : آية 51] إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ بكسر «إن» على الابتداء وحكى أبو حاتم عن الأخفش:

_ (1) انظر تيسير الداني 74. (2) انظر معاني الفراء 1/ 215، والبحر المحيط 2/ 490.

[سورة آل عمران (3) : آية 52]

«أنّ» بالفتح على البدل من آية ورده أبو حاتم وزعم أنه لا وجه له قال: لأن الآية العلامة التي لم يكونوا رأوها فكيف يكون قولا. قال أبو جعفر: ليس هكذا روى من يضبط عن الأخفش ولا كذا في كتبه والرواية عنه الصحيحة أنه قال: وحكى بعضهم «أنّ الله» بفتح «أن» على معنى وجئتكم بأن الله ربّي وربّكم وهذا قول حسن. [سورة آل عمران (3) : آية 52] فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قال الفراء: أرادوا قتله. قال أبو جعفر: يقال: أحسست وأحست مثل ظللت وظلت، وحكي حسيت بمعنى علمت وعرفت. قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قال الأخفش: واحد الأنصار نصير مثل شريف وأشراف وناصر مثل صاحب وأصحاب وقال محمد بن يزيد: العرب تقول في واحد الأنصار نصر شبّهوا فعلا بفعل. وَاشْهَدْ بِأَنَّا الأصل بأننا حذفت النون تخفيفا وكذا إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران: 55] والماكر الذي يحتال لمن يكيده والمكر من الله جلّ وعزّ مجازاة وعدل فعلى هذا وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمران: 54] . [سورة آل عمران (3) : آية 55] إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) إِنِّي مُتَوَفِّيكَ الأصل متوفيك حذفت الضمّة استثقالا وهو خبر «إنّ» . وَرافِعُكَ عطف عليه وكذا وَمُطَهِّرُكَ وكذا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ ويجوز وجاعل الذين اتبعوك وهو الأصل وقد قيل: إن التمام عند قوله ومطهّرك من الذين كفروا وهو قول حسن يدلّ عليه الحديث والنظر فأما الحديث فحدّثنا جعفر بن محمد الفريابي قال: حدّثنا إبراهيم بن العلاء الزبيديّ قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: حدّثنا مروان بن جناح عن يونس بن ميسرة بن حلبس عن معاوية بن أبي سفيان قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن في المسجد نتحدّث فقال: «أإنكم لتتحدثون أني من آخركم موتا قلنا: نعم يا رسول الله قال: إني من أولكم موتا» «1» وذكر الحديث، وقال في آخره وتلا إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ يا محمد. فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. قال أبو جعفر: وأما من جهة النظر فإن القرآن منزّل على النبي صلّى الله عليه وسلّم فكل ما كان فيه من المخاطبة فهي له إلّا أن يقع دليل، وعلى هذا قوله جلّ

_ (1) انظر تفسير الطبري 19/ 387.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 56 إلى 57]

وعزّ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج: 27] يجب أن يكون للنبي صلّى الله عليه وسلّم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 56 الى 57] فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ابتداء، وخبره فَأُعَذِّبُهُمْ ويجوز أن يكون الذين في موضع نصب بإضمار فعل وكذا. وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وحكى سيبويه وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فصلت: 17] بالنصب وحدّثنا أحمد بن محمد بن خالد قال: حدّثنا خلف بن هشام قال: حدّثنا الخفّاف عن إسماعيل عن الحسن أنه قرأ وأما الذين آمنوا وعملوا الصّالحات فنوفّيهم أجورهم «1» . قال أبو جعفر: والمعنى واحد أي فيوفيهم الله أجورهم. [سورة آل عمران (3) : آية 58] ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ ذلِكَ في موضع رفع بالابتداء وخبره نَتْلُوهُ ويجوز أن يكون في موضع رفع بإضمار مبتدأ أي الأمر ذلك ويجوز أن يكون في موضع نصب بإضمار فعل. قال أبو إسحاق «2» : يجوز أن يكون ذلك بمعنى الذي ونتلوه صلته، والخبر مِنَ الْآياتِ. [سورة آل عمران (3) : آية 59] إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) كَمَثَلِ آدَمَ تمّ الكلام ثم قال خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي فكان والمستقبل يكون في موضع الماضي إذا عرف المعنى. [سورة آل عمران (3) : آية 60] الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) قال الفراء: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ مرفوع بإضمار هو. [سورة آل عمران (3) : آية 61] فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ شرط والجواب الفاء وما بعدها. قال ابن عباس: هم أهل نجران السيّد والعاقب وأبو الحارث. تَعالَوْا أمر فيه معنى التحريض وبيان الحجّة. نَدْعُ جواب الأمر مجزوم. ثُمَّ نَبْتَهِلْ عطف عليه وحكى أبو عبيدة «3» بهله الله

_ (1) انظر الحجّة لابن خالويه 85، والبحر المحيط 2/ 499. (2) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 371. (3) انظر مجاز القرآن 1/ 96، والبحر المحيط 2/ 502.

[سورة آل عمران (3) : آية 62]

يبهله بهلة أي لعنه ونبتهل ندعو باللعنة فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ عطف. [سورة آل عمران (3) : آية 62] إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ هو زائدة فاصلة عند البصريين ويجوز أن تكون مبتدأة والْقَصَصُ خبرها والجملة خبر إنّ. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ ويجوز النصب على الاستثناء. [سورة آل عمران (3) : آية 63] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ شرط وجوابه وتولّوا فعل ماض لا يتبيّن فيه الجزم ويجوز أن يكون مستقبلا ويكون الأصل تتولّوا. [سورة آل عمران (3) : آية 64] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ وقرأ قعنب كلمة «1» ألقى حركة اللام على الكاف كما يقال: كبد قال أبو العالية: الكلمة لا إله إلّا الله. سَواءٍ نعت لكلمة وقرأ الحسن «2» سَواءٍ بالنصب أي استوت استواء: قال قتادة: السواء العدل. قال الفراء: ويقال في معنى العدل سوى وسوى. قال: وفي قراءة عبد الله إلى كلمة عدل بيننا وبينكم «3» . أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ على البدل من كلمة وإن شئت كان التقدير هي أن لا نعبد إلّا الله وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً قال الكسائي والفراء: ويجوز وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً بالجزم على التوهّم إنّه ليس في أول الكلام «أن» قال أبو جعفر التوهّم لا يحصل منه شيء ولكن مذهب سيبويه أنه يجوز في «نعبد» وما بعده الجزم على أن تكون أن مفسّرة بمعنى أي كما قال عزّ وجلّ: أَنِ امْشُوا [ص: 6] وتكون «لا» جازمة ويجوز على هذا أن يرفع نعبد وما بعده ويكون خبرا ويجوز الرفع بمعنى أنّه لا نعبد، ومثله أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا [طه: 89] ومعنى وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ لا نعبد عيسى لأنه بشر مثلنا ولا نقبل من الرهبان تحريمهم علينا ما لم يحرّمه الله جلّ وعزّ علينا فنكون قد اتّخذناهم أربابا. [سورة آل عمران (3) : آية 65] يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ الأصل «لما» حذفت الألف لأن حرف

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 21. (2) انظر البحر المحيط 2/ 506. (3) انظر معاني الفراء 1/ 220.

[سورة آل عمران (3) : آية 66]

الجر عوض منها وللفرق بين الاستفهام والخبر ولم يجز الحذف في الخبر لأن الألف متوسطة. [سورة آل عمران (3) : آية 66] ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ قال أبو عمرو بن العلاء الأصل أأنتم فأبدل من الهمزة الأولى هاء لأنها أختها. قال أبو جعفر: وهذا قول حسن وللفراء «1» في هذا الاسم إذا دخلت عليها الهاء مذهب وسنذكره بعد هذا. قال الحسن والضحّاك قال كعب بن الأشرف اليهوديّ وأصحابه ونفر من النصارى: إبراهيم منّا فأنزل الله جلّ وعزّ ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً [آل عمران: 67] يعني بالحنيف الحاجّ فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: زعمتم أنّ إبراهيم كان منكم وقد كان إبراهيم يحجّ. قال أبو جعفر: الحنيف في اللغة: إقبال صدر القدم على الأخرى من خلقة لا تزول فمعنى الحنيف عند العرب المائل إلى الإسلام على الحقيقة فأما إخباره جلّ وعزّ عن إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم أنه كان مسلما فبيّن، ويعلم أنه كان مسلما وجمع الأنبياء والصالحين بأن يعرف ما الإسلام وما الإيمان؟ وهو أصل من أصول الدين لا يسع جهله ومعرفته من اللغة. قال أبو جعفر: معنى مسلم في اللغة: متذلّل لأمر الله منطاع له، ومعنى مؤمن: مصدّق بما جاء من عند الله قابل له عامل به في كلّ الأوقات، فهذا ما لا يدفع أنه دين كل نبيّ وملك وصالح. [سورة آل عمران (3) : آية 68] إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ اسم «إنّ» وخبرها وَهذَا النَّبِيُّ معطوف على الذين، ويجوز و «هذا النبيّ» بالنصب تعطفه على الهاء. [سورة آل عمران (3) : آية 69] وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ يقال: أهذا عذر لهم ففيه جوابان: جملتهما أنه لا عذر لهم فقيل: معنى لا يشعرون لا يعلمون بصحّة الإسلام وواجب عليهم أن يعلموا لأنّ البراهين ظاهرة والحجج باهرة وجواب آخر أنهم لا يشعرون بأنهم لا يصلون إلى إضلال المؤمنين. [سورة آل عمران (3) : آية 71] يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) ويجوز «وتكتموا الحق» على جواب الاستفهام.

_ (1) انظر إعراب الآية 119 آل عمران.

[سورة آل عمران (3) : آية 72]

[سورة آل عمران (3) : آية 72] وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ على الظرف وكذا آخِرَهُ ومذهب قتادة أنهم فعلوا هذا ليشكّكوا المسلمين وروي عن ابن عباس قال: نظر اليهود إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي الصبح إلى بيت المقدس قبلتهم فأعجبهم ذلك ثم حوّلت القبلة في صلاة الظهر إلى الكعبة فقالت اليهود: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار يعنون صلاة الصبح حين صلّى إلى بيت المقدس وَاكْفُرُوا آخِرَهُ يعنون صلاة الظهر حين صلّى إلى الكعبة. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى قبلتكم. [سورة آل عمران (3) : آية 73] وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قال أبو جعفر: هذه الآية من أشكل ما في السورة وقد ذكرناه، والإعراب يبيّنها. فيها أقوال: فمن قال: إنّ في الكلام تقديما وتأخيرا فإنّ المعنى: ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلّا من اتّبع دينكم وجعل اللام زائدة فهو عنده استثناء ليس من الأول وإلّا لم يجز التقديم ومن قال: المعنى على غير تقديم ولا تأخير جعل اللام أيضا زائدة أو متعلقة بمصدر أي لا تجعلوا تصديقكم إلّا لمن اتّبع دينكم بأن يؤتى أحد من العلم برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم مثل ما أوتيتم وتقدير ثالث أي كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. وقال الفراء «1» : يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله إلّا لمن تبع دينكم ثم قال لمحمد صلّى الله عليه وسلّم قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أي إنّ البيان بيان الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أي بيّن أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وصلحت أحد لأن «أن» بمعنى «لا» مثل يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] أي أن لا تضلّوا قال أبو جعفر: في قوله قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ قولان: أحدهما أنّ الهدى إلى الخير والدلالة على الله بيد الله جلّ وعزّ يؤتيه أنبياءه فلا تنكروا أن يؤتى أحد سواكم مثل ما أوتيتم، فإن أنكروا ذلك فقل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والقول الآخر: قل إنّ الهدى هدى الله الذي أتاه المؤمنين من التصديق بمحمد صلّى الله عليه وسلّم لا غيره أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من البراهين والحجج والأخبار بما في كتبهم أو يحاجّوكم عند ربكم. قال الأخفش: أي ولا يؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولا تصدقوا أن يحاجّوكم يذهب إلى أنه معطوف وقال الفراء «2» : «أو» بمعنى حتّى وإلّا أن.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 222. (2) انظر معاني الفراء 1/ 223، والبحر المحيط 2/ 518.

[سورة آل عمران (3) : آية 75]

[سورة آل عمران (3) : آية 75] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ وقرأ أبو الأشهب «1» من إن تيمنه «2» «من» في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة والشرط وجوابه من صلتها عند البصريين وعند الكوفيين بإضمار القول وتيمنه، على لغة من قال: تستعين «3» وفي يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ خمسة أوجه قرئ منها بأربعة: أجودها قراءة نافع والكسائي يؤدّهي إليك «4» بياء في الإدراج، وقرأ يزيد بن القعقاع يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ «5» بكسر الهاء بغير ياء وقرأ أبو المنذر سلّام يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ بضم الهاء بغير واو كذا قرأ أخواته نحو نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى [النساء: 115] و «عليه» و «إليه» قال أبو عبيد: واتّفق أبو عمرو والأعمش وحمزة على وقف الهاء فقرءوه يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ «6» . قال أبو جعفر: والوجه الخامس يؤدّهو إليك بواو في الإدراج فهذا الأصل لأن الهاء خفيّة فزعم الخليل: أنها أبدلت بحرف جلد وهو الواو. وقال غيره: اختير لها الواو لأن الواو من الشفة والهاء بعيدة المخرج. وقال سيبويه «7» : الواو في المذكّر بمنزلة الألف في المؤنّث وتبدل منها ياء لأن الياء أخفّ إذا كانت قبلها كسرة أو ياء وتحذف الياء وتبقى الكسرة لأن الياء قد كانت تحذف والفعل مرفوع فأثبتت بحالها، ومن قال «يؤدّه إليك» فحجّته أنه حذف الواو وأبقى الضمة كما كان مرفوعا أيضا فأما إسكان الهاء فلا يجوز إلا في الشعر عند بعض النحويين وبعضهم يجيزه وأبو عمرو أجلّ من أن يجوز عليه مثل هذا والصحيح عنه أنه كان يكسر الهاء وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش إِلَّا ما دُمْتَ بكسر الدال من دمت تدام مثل خفت تخاف لغة أزد السراة وحكى الأخفش: دمت تدوم شاذا. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ أي فعلهم ذلك وأمرهم ذلك بأنّهم قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي طريق ظلم. [سورة آل عمران (3) : آية 76] بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) قال الله جلّ وعزّ: بَلى.

_ (1) أبو الأشهب العطاردي البصري، جعفر بن حيان، قرأ على رجاء العطاردي، وقرأ عليه يعقوب ابن إسحاق (ت 115 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 1/ 192. [.....] (2) هذه قراءة يحيى بن وثاب وابن مسعود، انظر مختصر ابن خالويه 21، والبحر المحيط 2/ 523. (3) هذه لغة تميم وأسد وقيس وربيعة، انظر إعراب آية 5- أم القرآن. (4) انظر الحجة لابن خالويه 86، وتيسير الداني 74. (5) هذه قراءة الجمهور، انظر البحر المحيط 2/ 524. (6) هذه قراءة عاصم أيضا، انظر معاني الفراء 1/ 223، وتيسير الداني 74. (7) انظر الكتاب 4/ 305.

[سورة آل عمران (3) : آية 77]

أي بلى عليهم سبيل العذاب بكذبهم واستحلالهم. قال أبو إسحاق «1» : وتمّ الكلام ثم قال مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى. قال أبو جعفر: مَنْ رفع بالابتداء وهو شرط وأَوْفى في موضع جزم وَاتَّقى معطوف عليه أي واتقى الله فلم يكذب ولم يستحلّ ما حرّم عليه فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي يحبّ أولئك. [سورة آل عمران (3) : آية 77] إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) الَّذِينَ اسم. وأُولئِكَ ابتداء وما بعده خبره والجملة خبر «إن» . وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ قد ذكرنا معناه ونشرحه بزيادة. يكون المعنى: لا يسمعهم الله كلامه بلا سفير كما كلّم الله موسى صلّى الله عليه وسلّم فهذا معناه لا يكلّمهم على الحقيقة ويكلّمهم مجازا بأن يأمر الملائكة أن تحاسبهم كما قال فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92، 93] وكذا أَيْنَ شُرَكائِيَ [النحل: 27] فإذا قالت لهم الملائكة يقول الله لكم كذا فقد كلّمهم مجازا وقيل معنى لا يكلّمهم يغضب عليهم وقيل: المعنى على المجاز أي ولا يكلمهم كلام راض عنهم ولكن كلام موبّخ لهم ومقرّر وموقّف. ووَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ برحمته ولا يؤتيهم خيرا كما يقال: فلان لا ينظر إلى ولده. [سورة آل عمران (3) : آية 78] وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً اسم «إنّ» واللام توكيد. يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ وقرأ أبو جعفر وشبية يلوّون ألسنتهم على التكثير وقرأ حميد بن قيس يلون ألسنتهم «2» وتقديره يلوون ثم همز الواو لانضمامها وخفّف الهمزة وألقى حركتها على ما قبلها. ألسنة جمع لسان في لغة من ذكّر ومن أنّث قال: ألسن. [سورة آل عمران (3) : آية 79] ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ نصب بأن. ثُمَّ يَقُولَ عطف عليه وروى محبوب عن أبي عمرو ثم يقول بالرفع. والنصب أجود. وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ حذف القول والتقدير: ولكن يقول وقال علي بن سليمان: المعنى ولكن ليقل ودخلت الواو على لكن وهما حرفا عطف على قول قوم لضعف لكن. قال ابن كيسان: الواو هي العاطفة ولكن

_ (1) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 382. (2) انظر مختصر في شواذ القرآن (21) .

[سورة آل عمران (3) : آية 80]

للتحقيق. بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ قراءة أبي عمرو وأهل المدينة «1» وقرأ ابن عباس وأهل الكوفة تُعَلِّمُونَ بضم التاء وتشديد اللّام وقرأ مجاهد تعلمون «2» بفتح التاء وتشديد اللام أي تتعلّمون ويدرسون فخولف أبو عبيد في هذا الاختيار لأن شعبة روى عن عاصم عن زيد «3» «4» عن عبد الله بن مسعود وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ، قال حكماء علماء وقال الضحاك: لا ينبغي لأحد أن يدع حفظ القرآن جهده فإن الله جلّ وعزّ يقول: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ أي فقهاء علماء فقيل: يبعد أن يقال: كونوا حكماء علماء بتعليمكم والحسن: كونوا حكماء علماء بعلمكم. [سورة آل عمران (3) : آية 80] وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) قال سيبويه: وَلا يَأْمُرَكُمْ «5» فجاءت منقطعة من الأول لأنه أراد ولا يأمركم الله، وقال الأخفش: أي وهو لا يأمركم وهذه قراءة أبي عمرو والكسائي وأهل الحرمين وأما رواية اليزيدي عن أبي عمرو أنه أسكن الراء فغلط «6» . قال سيبويه: وقرأ بعضهم وَلا يَأْمُرَكُمْ «7» على قوله: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ [آل عمران: 79] . قال أبو جعفر: النصب قراءة ابن أبي إسحاق وحمزة وعاصم. أَنْ تَتَّخِذُوا أي بأن تتخذوا. الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً وهذا موجود في النصارى يعظّمون الملائكة والأنبياء حتى يجعلوهم أربابا، ويروون عن سليمان صلّى الله عليه وسلّم أنه قال ربّي لربّي: اجلس عن يميني. يعنون قال الله جلّ وعزّ للمسيح صلّى الله عليه وسلّم. [سورة آل عمران (3) : آية 81] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) أي واذكر. قال سيبويه «8» : سألت الخليل في قوله جلّ وعزّ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ

_ (1) انظر تيسير الداني 74. (2) انظر مختصر في شواذ القرآن 21. (3) انظر الكتاب 3/ 58. (4) زرّ بن حبيش الأسدي الكوفي، عرض على ابن مسعود وعثمان وعلي، وعرض عليه عاصم والأعمش (ت 82 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 1/ 294. (5) انظر تيسير الداني 74. (6) انظر تيسير الداني 74. [.....] (7) قراءة عاصم وحمزة وابن عامر، انظر تيسير الداني 74. (8) انظر الكتاب 3/ 122.

[سورة آل عمران (3) : آية 82]

فقال: «ما» بمعنى الذي. قال أبو جعفر: التقدير على قول الخليل للذي آتيتكموه ثم حذف الهاء لطول الاسم فالذي رفع بالابتداء، وخبره مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ و «من» لبيان الجنس وقال الأخفش: هي زائدة ويجوز أن يكون الخبر لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وقال الكسائي: «ما» للشرط فعلى قوله موضعها نصب بآتيتكم وقرأ أهل الكوفة لَما آتَيْتُكُمْ بكسر «1» اللام، وقال الفراء: أي أخذ الميثاق للذي آتاهم من كتاب وحكمة وجعل لنؤمنن به من أخذ الميثاق كما تقول: أخذت ميثاقك لتفعلنّ. قال أبو جعفر: ولأبي عبيدة في هذا قول حسن، قال: المعنى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتؤمننّ به لما آتيتكم من ذكره في التوراة وقيل: في الكلام حذف والمعنى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتعلمنّ الناس لما جاءكم من كتاب وحكمة ولتأخذنّ على الناس أن يؤمنوا ودل على هذا الحذف وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي. [سورة آل عمران (3) : آية 82] فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ شرط والمعنى فمن تولى عن الإيمان بعد أخذ الميثاق والجواب فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. [سورة آل عمران (3) : آية 83] أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ «2» نصبت «غير» يبغون. وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وإن شئت أدغمت الميم في الميم وقد ذكرنا في معناه، قولين: أولهما أن يكون المعنى وله خضع وذلّ من في السموات والأرض كما تقول: أسلم فلان نفسه للموت، فالمعنى أن الله جلّ وعزّ خلق الخلق على ما أراد فمنهم الحسن والقبيح والطويل والقصير والصحيح والمريض وكلهم منقادون اضطرارا فالصحيح منقاد. طائع محبّ لذلك والمريض منقاد خاضع وإن كان كارها وطَوْعاً وَكَرْهاً مصدر في موضع الحال أي طائعين مكرهين. [سورة آل عمران (3) : آية 84] قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ فيه ثلاثة أجوبة يكون قل بمعنى قولوا لأنّ المخاطبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم مخاطبة لأمّته ويكون المعنى قل لهم قولوا آمنا بالله ويكون المراد الأمّة ونظيره يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: 1] .

_ (1) هذه قراءة يحيى بن وثاب، انظر معاني الفراء 1/ 225، والبحر المحيط 2/ 532. (2) هذه قراءة السبعة عدا أبي عمرو وحفص فقراءتهما بالياء، انظر تيسير الداني 75.

[سورة آل عمران (3) : آية 85]

[سورة آل عمران (3) : آية 85] وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) وَمَنْ يَبْتَغِ «1» شرط فلذلك حذفت منه الياء والجواب فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وزعم أبو حاتم: أنّ أبا عمرو والأعمش قرءا وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً مدغما. قال أبو جعفر: وهذا ليس بالجيّد من أجل الكسرة التي في الغين. وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ قال هشام: أي وهو خاسر في الآخرة من الخاسرين ولولا هذا لفرقت بين الصلة والموصول وقال المازني: الألف واللام مثلهما في الرجل وقال محمد بن يزيد: الظرف متعلّق بمصدر محذوف. [سورة آل عمران (3) : آية 86] كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ حذفت الضمة من الياء لثقلها وحذفت الياء من اللفظ لالتقاء الساكنين وثبتت في الخطّ لأنّ الكتب على الوقف. [سورة آل عمران (3) : آية 90] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ اسم «إنّ» والخبر لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وقد ذكرنا في معناه أقوالا. وقد قيل أيضا فيه: إن المعنى إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم عند الموت. قال أبو جعفر: وهذا القول حسن كما قال عزّ وجلّ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء: 18] وقيل: لن تقبل توبتهم التي كانوا عليها قبل أن يكفروا لأنّ الكفر قد أحبطها. قال أبو جعفر: حدّثنا عليّ بن سليمان قال: حدّثنا أبو سعيد السّكريّ قال: حدّثنا محمد بن حبيب قال: حدّثنا محمد بن المستنير وهو قطرب في قول الله جلّ وعزّ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وقد قال الله جلّ وعزّ في موضع آخر وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [الشورى: 25] فهذه الآية في قوم من أهل مكة قالوا: نتربّص بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ريب المنون فإن بدا لنا الرجعة رجعنا إلى قومنا فأنزل الله جلّ وعزّ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ أي لن تقبل توبتهم وهم مقيمون على الكفر فسمّاها توبة غير مقبولة لأنه لم يصح من القوم عزم والله جلّ وعزّ يقبل التوبة كلّها إذا صحّ العزم. [سورة آل عمران (3) : آية 91] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ اسم «إنّ» والخبر فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ

_ (1) انظر البحر المحيط 2/ 540.

[سورة آل عمران (3) : آية 92]

ذَهَباً منصوب على البيان. قال الفراء «1» : يجوز رفعه على الاستئناف كأنه يريد هو ذهب. وقال أحمد بن يحيى: يجوز الرفع على التبيين لملء. تم الجزء الثالث «2» من كتاب إعراب القرآن الحمد لله رب العالمين وصلوات على محمد الأمين وعلى آله أجمعين [سورة آل عمران (3) : آية 92] لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) لَنْ تَنالُوا نصب بلن وعلامة النصب حذف النون وكذا حَتَّى تُنْفِقُوا. [سورة آل عمران (3) : آية 93] كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) كُلُّ الطَّعامِ ابتداء والخبر كانَ حِلًّا يقال: حلّ وحلال وحرم وحرام. إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ استثناء. [سورة آل عمران (3) : آية 95] قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) قال علي بن سليمان: حَنِيفاً بمعنى أعني. [سورة آل عمران (3) : آية 96] إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ اسم «إنّ» والخبر لَلَّذِي بِبَكَّةَ واللّام توكيد. مُبارَكاً على الحال ويجوز في غير القرآن مبارك على أن يكون خبرا ثانيا وعلى البدل من الذي وعلى إضمار مبتدأ. وَهُدىً لِلْعالَمِينَ عطف عليه ويكون بمعنى «وهو هدى للعالمين» والمعنى إنّ أول بيت وضع للناس مباركا وهدى للعالمين للّذي ببدكة كما روي عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عنه: أهو أول بيت وضع للناس؟ فقال: لا قد كان نوح صلّى الله عليه وسلّم وقومه في البيوت من قبل إبراهيم عليه السّلام ولكنّه أول بيت وضعت فيه البركة ويجوز في غير القرآن مبارك بالخفض نعتا لبيت. [سورة آل عمران (3) : آية 97] فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 226، والبحر المحيط 2/ 543. (2) حسب تقسيم المؤلف.

[سورة آل عمران (3) : آية 98]

فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ رفع بالابتداء أو بالصفة، مقام إبراهيم: في رفعه ثلاثة أوجه: قال الأخفش: أي منها مقام إبراهيم وحكي عن محمد بن يزيد قال: «مقام» بدل من آيات والقول الثالث بمعنى هي مقام إبراهيم وقول الأخفش معروف في كلام العرب كما قال زهير: [البسيط] 79- لها متاع وأعوان غدون لها ... قتب وغرب إذا ما أفرغ انسحقا «1» وقول أبي العباس إنّ مقاما بمعنى مقامات لأنه مصدر قال الله جلّ وعزّ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [البقرة: 7] وقال جرير: [البسيط] 80- إنّ العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا «2» ويقوّي هذا الحديث المرويّ «الحجّ كلّه مقام إبراهيم» «3» . وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً يجوز أن يكون معطوفا على مقام أي وفيه آيات من دخله كان آمنا لأن ذلك من الآيات كان الناس يتخطّفون حوالى الحرم فإذا قصده ملك هلك. ويجوز أن يكون مَنْ رفعا بالابتداء والخبر كانَ آمِناً. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا مَنْ في موضع خفض على بدل البعض من الكلّ هذا قول أكثر النحويين وأجاز الكسائي أن تكون «من» في موضع رفع، واسْتَطاعَ شرط والجواب محذوف أي من استطاع إليه سبيلا فعليه الحج. [سورة آل عمران (3) : آية 98] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ وقبل هذا وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران: 70] فالله شهيد عليهم وهم يشهدون على أنفسهم بالكفر بآيات الله وقد ظهرت البراهين. [سورة آل عمران (3) : آية 99] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً أي تبغون لها وحذف اللام مثل وَإِذا كالُوهُمْ [المطففين: 3] أي قالوا لهم يقال: بغيت له كذا وأبغيته أي أعنته

_ (1) الشاهد لزهير في ديوانه ص 39، وبلا نسبة في لسان العرب (سحق) ، وتهذيب اللغة 4/ 25، وفي الديوان (لها أداة) . (2) الشاهد لجرير في ديوانه ص 163، وشرح شواهد المغني 2/ 712، والمقاصد النحوية 3/ 364، والمقتضب 2/ 173، وبلا نسبة في شرح المفصل 5/ 9. (3) أخرجه القرطبي في تفسيره 4/ 140.

[سورة آل عمران (3) : آية 100]

عليه. وَأَنْتُمْ شُهَداءُ قيل: هذا للذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وقيل «شهداء» أي عالمون أنها سبيل الله. [سورة آل عمران (3) : آية 100] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً شرط فلذلك حذفت منه النون والجواب يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. [سورة آل عمران (3) : آية 101] وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ كَيْفَ في موضع نصب وفتحت الفاء عند الخليل وسيبويه لالتقاء الساكنين واختير لها الفتح لأن قبل الفاء ياء فثقل أن يجمعوا بين ياء وكسرة. وقال الكوفيون: إذا التقى ساكنان في حرف واحد فتح أحدهما وإذا كانا في حرفين كسر. وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ ابتداء وخبر في موضع الحال. وَفِيكُمْ رَسُولُهُ رفع بالابتداء وإن شئت بالصفة على قول الكسائي: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ شرط والجواب فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. [سورة آل عمران (3) : آية 102] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ مصدر والأصل في تقاة تقية قلبت الياء ألفا والتاء منقلبة من واو لأنّه من وقى ويجوز أن تأتي بالواو فتقول: وقاة وإن شئت أبدلت من الواو همزة فقلت: أقاة مثل: «أقّتت» وقد ذكرنا وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «1» . [سورة آل عمران (3) : آية 103] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ يقال: اعتصمت بفلان واعتصمت فلانا والمعنى واعتصموا بالقرآن من الكفر والباطل. جَمِيعاً على الحال عند سيبويه. وَلا تَفَرَّقُوا نهي فلذلك حذفت منه النون والأصل تتفرقوا وقرئ وَلا تَفَرَّقُوا بإدغام التاء في التاء. فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً خبر أصبح ويقال: أخوان مثل حملان والأصل في أخ أخو والدليل على هذا قولهم في التثنية أخوان وكان يجب أن يقال: مررت باخا كما يقال: مررت بعصا إلا أنه حذف منه لتشبيهه بغيره وقد حكى هشام: «مكره أخاك لا بطل» «2» .

_ (1) انظر إعراب الآية (132 سورة البقرة) . (2) المثل رواه الميداني في مجمع الأمثال 2/ 318.

[سورة آل عمران (3) : آية 104]

وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ الأصل في شفا شفو ولهذا يكتب بالألف ولا يمال. فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها الهاء تعود على النار لأنها المقصود أو على الحفرة أي فأنقذكم منها بالنبي صلّى الله عليه وسلّم. [سورة آل عمران (3) : آية 104] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلْتَكُنْ «1» أمر، والأصل ولتكن حذفت الكسرة لثقلها وحذفت الضمة من النون للجزم وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. أُمَّةٌ اسم تكن. يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ في موضع النعت وما بعده عطف عليه. [سورة آل عمران (3) : آية 105] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا الكاف في موضع نصب على الظرف وهي في موضع الخبر. قال جابر بن عبد الله «2» كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ اليهود والنصارى «3» ، جاءهم مذكّر على الجميع وجاءتهم على الجماعة. [سورة آل عمران (3) : آية 106] يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ويجوز تبيضّ وتسودّ بكسر التاء لأنك تقول: ابيضّت فتكسر التاء كما تكسر الألف ويجوز تبياضّ «4» وقد قرئ به ويجوز كسر التاء فيه أيضا، ويجوز يوم يبيّض وجوه على تذكير الجميع «5» ويجوز «أجوه» مثل «أقّتت» فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ رفع بالابتداء وقد ذكرناه. [سورة آل عمران (3) : آية 107] وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ابتداء والخبر فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ تكون «هم» زائدة وتكون مبتدأة ويجوز نصب خالدين على الحال في غير القرآن. [سورة آل عمران (3) : آية 108] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ ابتداء وخبر أي تلك المذكورة حجج الله جلّ وعزّ ودلائله ويجوز

_ (1) وهي قراءة الجمهور، انظر البحر المحيط 3/ 23. (2) جابر بن عبد الله بن عمرو، أبو عبد الله الأنصاري الفقيه، كان آخر من شهد بيعة العقبة في السبعين من الأنصار (ت 78 هـ) . ترجمته في تذكرة الحفاظ 43. [.....] (3) وهذا قول الحسن أيضا، انظر البحر المحيط 3/ 24. (4) هذه قراءة الزهري، انظر مختصر ابن خالويه 22. (5) انظر معاني الفراء 1/ 228.

[سورة آل عمران (3) : آية 110]

أن تكون آيات الله بدلا من تلك ولا تكون نعتا، لا ينعت المبهم بالمضاف. [سورة آل عمران (3) : آية 110] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ يجوز أن تكون كنتم زائدة أي أنتم خير أمّة وأنشد سيبويه: [الوافر] 81- وجيران لنا كانوا كرام «1» ويجوز أن يكون المعنى كنتم في اللوح المحفوظ خير أمة وروى سفيان عن ميسرة الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال: تجرّون الناس في السلاسل إلى الإسلام، فالتقدير على هذا: كنتم خير أمة، وعلى قول مجاهد: كنتم خير أمة إذ كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وقيل: إنّما صارت أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم خير أمة لأن المسلمين منهم أكثروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى، وقيل هذا لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خير الناس قرني الذين بعثت فيهم» «2» . [سورة آل عمران (3) : آية 111] لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) لَنْ يَضُرُّوكُمْ نصب بلن وتمّ الكلام. إِلَّا أَذىً استثناء ليس من الأول. وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ شرط وجوابه وتم الكلام. ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ مستأنف فلذلك ثبتت فيه النون. [سورة آل عمران (3) : آية 112] ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا تم الكلام. إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ استثناء ليس من الأول أي لكنهم يعتصمون بحبل الله من الله وهو العهد.

_ (1) الشاهد للفرزدق في ديوانه 290، والأزهيّة ص 188، وتخليص الشواهد 252، وخزانة الأدب 9/ 217، وشرح الأشموني 1/ 117، وشرح التصريح 1/ 192، وشرح شواهد المغني 2/ 693، والكتاب 2/ 155، ولسان العرب (كنن) ، والمقاصد النحوية 2/ 42، والمقتضب 4/ 116، وبلا نسبة في أسرار العربية ص 136، والأشباه والنظائر 1/ 165، وأوضح المسالك 1/ 258، وشرح ابن عقيل 146، والصاحبي في فقه اللغة 161، ولسان العرب (كون) ، ومغني اللبيب 1/ 287، وصدره: «فكيف إذا رأيت ديار قوم» (2) أخرجه أحمد في مسنده 4/ 276، والهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 19.

[سورة آل عمران (3) : آية 113]

[سورة آل عمران (3) : آية 113] لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) لَيْسُوا سَواءً تم الكلام. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ ابتداء إلّا أنّ للفراء «1» فيه قولا زعم أنه يرفع أمة بسواء وتقديره ليس تستوي أمة من أهل الكتاب قائمة يتلون آيات الله وأمة كافرة. قال أبو جعفر: وهذا القول خطأ من جهات: إحداها أنه يرفع أمة بسواء فلا يعود على اسم ليس شيء يرفع بما ليس جاريا على الفعل ويضمر ما لا يحتاج إليه لأنه قد تقدم ذكر الكافرين فليس لاضمار هذا وجه، وقال أبو عبيدة «2» : هذا مثل قولهم: أكلوني البراغيث، وهذا غلط لأنه قد تقدّم ذكرهم وأكلوني البراغيث لم يتقدّم لهن ذكر، قال ابن عباس: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ من آمن مع النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال الأخفش: التقدير من أهل الكتاب ذو أمة أي ذو طريقة حسنة وأنشد: [الطويل] 82- وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائع «3» آناءَ اللَّيْلِ ظرف زمان. [سورة آل عمران (3) : آية 114] يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون في موضع نعت لأمة، ويجوز أن يكون مستأنفا وما بعده، عطف عليه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اسم «إنّ» والخبر لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ابتداء وخبر، وكذا هُمْ فِيها خالِدُونَ وكذاثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ والتقدير كمثل مهلك ريح. قال ابن عباس: الصرّ البرد الشديد.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 230، والبحر المحيط 3/ 36. (2) انظر مجاز القرآن 1/ 101. (3) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 35، ولسان العرب (أمم) ، ومقاييس اللغة 1/ 28، وكتاب العين 8/ 428، وتهذيب اللغة 15/ 635، وبلا نسبة في جمهرة اللغة 247، ومجمل اللغة 1/ 152. وصدره: «حلفت فلم أترك لنفسك ريبة»

[سورة آل عمران (3) : آية 118]

[سورة آل عمران (3) : آية 118] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ قال الضحاك «1» : هم الكفار والمنافقون. قال أبو جعفر: فيه قولان أحدهما مِنْ دُونِكُمْ من سواكم. قال الفراء «2» : وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ [الأنبياء: 82] أي سوى ذلك، والقول الآخر: لا تتّخذوا بطانة من دونكم في الستر وحسن المذهب وهذا يدلّ على أنه يجب على أهل السّنّة مجانبة أهل الأهواء وترك مخالطتهم لأنهم لا يتقون في التلبيس عليهم قال الله جلّ وعزّ: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ إلى آخر الآية. [سورة آل عمران (3) : آية 119] ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ زعم الفراء «3» أنّ العرب إذا جاءت باسم مكنّى فأرادت التقريب فرقت بين «ها» وبين الاسم المشار إليه بالاسم المكنّى يقول الرجل للرجل: أين أنت؟ فيقول: ها أنا ذا، ولا يجوز هذا عنده إلّا في التقريب والمضمر. وقال أبو إسحاق: هو جائز في المضمر والمظهر إلّا أنه في المضمر أكثر. قال أبو عمرو بن العلاء: ها أنتم الأصل فيه أاأنتم بهمزتين بينهما ألف كما قال ذو الرمّة: [الطويل] 83- أاأنت أم أمّ سالم «4» ثم ثقل فأبدلوا من الهمزة هاء. ها أَنْتُمْ رفع بالابتداء. وأُولاءِ الخبر تُحِبُّونَهُمْ في موضع نصب على الحال وكسرت أولاء لالتقاء الساكنين ويجوز أن يكون أولاء بمعنى الذين وتحبّونهم صلة. وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ عطف والكتاب بمعنى الكتب.

_ (1) وهذا قول ابن عباس وقتادة والسدي والربيع، انظر البحر المحيط 3/ 41. (2) انظر معاني الفراء 2/ 209. (3) انظر معاني الفراء 1/ 231. (4) تمام البيت: فيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النّقا ءاأنت أم أم سالم والشاهد لذي الرمة في ديوانه ص 767، وأدب الكاتب ص 224، والأزهيّة ص 36، والأغاني 17/ 309، والخصائص 2/ 458، والدرر 3/ 17، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 723، وشرح أبيات سيبويه 2/ 257، وشرح شواهد الشافية 347، وشرح المفصل 1/ 94، ولسان العرب (جلل) ، واللمع 193، والمقتضب 1/ 163.

[سورة آل عمران (3) : آية 120]

[سورة آل عمران (3) : آية 120] إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ شرط. تَسُؤْهُمْ مجازاة وكذا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً «1» حذفت الياء لالتقاء الساكنين لأنك لما حذفت الضمة من الراء بقيت الراء ساكنة والياء ساكنة فحذفت الياء وكانت أولى بالحذف لأن قبلها ما يدلّ عليها وحكى الكسائي أنه سمع ضاره يضوره وأجاز لا يَضُرُّكُمْ «2» وزعم أن في قراءة أبي ابن كعب لا يضرركم فهذه ثلاثة أوجه، وقرأ الكوفيون لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً بضم الراء وتشديدها. وفيه ثلاثة أوجه، والثلاثة ضعاف منها أن يكون في موضع جزم وضمّ لالتقاء الساكنين واختاروا الضمة وفيه ثلاثة أوجه لضمة الضاد، وهذا بعيد لأنه يشبه المرفوع والضم ثقيل وزعم الكسائي والفراء «3» أنّ ذلك على إضمار الفاء كما قال: [البسيط] 84- من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشرّ بالشرّ عند الله مثلان «4» وتقدير ثالث يكون لا يضرّكم أن تصبروا وأنشد سيبويه: [الرجز] 85- إنّك إن يصرع أخوك تصرع «5» وزعم الفراء أنه على التقديم والتأخير. وروى المفضّل الضبيّ عن عاصم لا يَضُرُّكُمْ «6» بفتح الراء لالتقاء الساكنين لخفّة الفتح. والوجه السادس لا يَضُرُّكُمْ بكسر الراء لالتقاء الساكنين. [سورة آل عمران (3) : آية 121] وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ قال ابن عباس: هذا في يوم أحد.

_ (1) قراءة السبعة عدا ابن عامر والكوفيين، انظر تيسير الداني 75، والحجة لابن خالويه 88. (2) انظر معاني الفراء 1/ 232، والبحر المحيط 3/ 46. [.....] (3) انظر معاني الفراء 1/ 232، والبحر المحيط 3/ 46. (4) مرّ الشاهد رقم (34) . (5) الشاهد لجرير بن عبد الله البجلي في الكتاب 3/ 76، وشرح أبيات سيبويه 2/ 121، ولسان العرب (بجل) ، وله أو لعمرو بن خثارم العجلي في خزانة الأدب 8/ 20، وشرح شواهد المغني 2/ 897، والمقاصد النحوية 4/ 430، ولعمرو بن خثارم البجلي في الدرر 1/ 277، وبلا نسبة في جواهر الأدب 202، والإنصاف 2/ 623، ورصف المباني 104، وشرح الأشموني 3/ 586 وشرح التصريح 2/ 249، وشرح عمدة الحافظ 354، وشرح المفصل 8/ 158، ومغني اللبيب 2/ 553، وقبله: «يا أقرع بن حابس يا أقرع» (6) انظر مختصر ابن خالويه 22.

[سورة آل عمران (3) : آية 122]

إِذْ في موضع نصب أي اذكر. وحكى الفراء: وإذي بالياء، وفي قراءة ابن مسعود تبوّى للمؤمنين «1» والمعنى واحد أي تتّخذ للمؤمنين مقاعد ومنازل ولم ينصرف مقاعد لأن هذا الجمع لا نظير له في الواحد ولهذا لم يجمع. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ابتداء وخبر أي سميع لما قالوا عليم بما يخفون. [سورة آل عمران (3) : آية 122] إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) إِذْ في موضع نصب بتبوّئ، والمصدر همّا ومهمة وهمّة وهمما. أَنْ تَفْشَلا نصب بأن فلذلك حذفت منه النون. وَاللَّهُ وَلِيُّهُما ابتداء وخبر. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وإن شئت كسرت اللام الأولى وهو الأصل ومعنى توكّلت على الله، تقوّيت به وتحفّظت. [سورة آل عمران (3) : آية 123] وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ جمع ذليل وجمع فعيل إذا كان نعتا على فعلاء فكرهوا أن يقولوا: ذللاء لثقله فقالوا: أذلّة جعلوه بمنزلة الاسم نحو رغيف وأرغفة. [سورة آل عمران (3) : آية 124] إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ وإن شئت أدغمت اللام في اللام وجاز الجمع بين ساكنين لأن أحدهما حرف مدّ ولين. [سورة آل عمران (3) : آية 125] بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) بَلى تم الكلام. وإِنْ تَصْبِرُوا شرط. وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ نسق. هذا نعت لفورهم. يُمْدِدْكُمْ جواب. بِخَمْسَةِ آلافٍ دخلت الهاء لأن الألف مذكّر. [سورة آل عمران (3) : آية 126] وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ لام كي أي ولتطمئنّ قلوبكم به جعله وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 233، والبحر المحيط 3/ 49.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 127 إلى 128]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 127 الى 128] لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بالقتل أي ليقطع طرفا نصركم ويجوز أن يكون متعلقا بيمددكم. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا أَوْ يَكْبِتَهُمْ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. [سورة آل عمران (3) : آية 130] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مصدر في موضع الحال. مُضاعَفَةً نعته. [سورة آل عمران (3) : آية 133] وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) وفي مصاحف أهل الكوفة وَسارِعُوا عطف جملة على جملة وفي مصاحف أهل المدينة بغير واو لأنه قد عرف المعنى. وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ابتداء وخبر في موضع خفض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. [سورة آل عمران (3) : آية 134] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ نعت للمتّقين وإن شئت كان على إضمار مبتدأ وإن شئت أضمرت أعني. قال عبيد بن عمير «1» : السرّاء والضرّاء الرّخاء والشدة. وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ عطف، وإن جعلت الأول في موضع رفع كان هذا منصوبا على أعني مثل يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء: 162] وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ عطف قال أبو العالية: أي عن المماليك. [سورة آل عمران (3) : آية 135] وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً نسق. وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ أي ليس أحد يغفر المعصية ولا يزيل عقوبتها إلّا الله جلّ وعزّ. وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ قيل: أي وهم يعلمون أنّي أعاقب على الإصرار وقيل: وهو قول حسن وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها وليس على الإنسان إذا لم يذكر ذنبه ولم يعلمه أن يتوب منه بعينه ولكن يعتقد أنّه كلّما ذكر ذنبا تاب منه.

_ (1) وهذا قول الضحاك أيضا، انظر البحر المحيط 3/ 62.

[سورة آل عمران (3) : آية 136]

[سورة آل عمران (3) : آية 136] أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ابتداءان. وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ نسق. خالِدِينَ على الحال. [سورة آل عمران (3) : آية 137] قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ السنّة في كلام العرب الطريق المستقيم وفلان على السنّة أي على الطريق المستقيم لا يميل إلى شيء من الأهواء. [سورة آل عمران (3) : آية 139] وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَلا تَهِنُوا نهي، والأصل: توهنوا حذفت الواو لأن بعدها كسرة فأتبعت يوهن. وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ابتداء وخبر وحذفت الواو لالتقاء الساكنين لأن الفتحة تدلّ عليها. [سورة آل عمران (3) : آية 140] إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ وقرأ الكوفيون قَرْحٌ «1» وقرأ محمد اليماني قَرْحٌ «2» بفتح الراء. قال الفراء «3» : كأن القرح ألم الجراح وكأن القرح الجراح بعينها، وقال الكسائي والأخفش: هما واحد. قال أبو جعفر: هذا مثل فقر وفقر فأمّا القرح فهو مصدر قرح يقرح قرحا. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ قيل: هذا في الحرب تكون مرّة للمؤمنين لينصر الله دينه وتكون مرّة للكافرين إذا عصى المؤمنون ليبتليهم الله وليمحّص ذنوبهم. وقيل: معنى نداولها بين الناس من فرح وغمّ وصحّة وسقم لنكد الدنيا وفضل الآخرة عليها. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وحذف الفعل أي وليعلم الله الّذين آمنوا داولها. وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ أي ليقتل قوم فيكونوا شهداء يوم القيامة على الناس بأعمالهم فقيل لهذا شهيد. قيل: إنّما سمّي شهيدا لأنه مشهود له بالجنّة. [سورة آل عمران (3) : آية 141] وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا نسق أيضا وفي معناه ثلاثة أقوال قيل: يمحّص يختبر،

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 234، والبحر المحيط 3/ 68، وهذه قراءة أبي بكر والأعمش أيضا. (2) انظر المحتسب 1/ 166، والبحر المحيط 3/ 68، وهذه قراءة أبي السمال وابن السميفع. (3) انظر معاني الفراء 1/ 235.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 142 إلى 143]

وقال الفراء: أي وليمحّص الله ذنوب الذين آمنوا، والقول الثالث أي يمحّص يخلص وهذا أعرفها. قال الخليل رحمه الله يقال: محص الحبل يمحص محصا إذا انقلع وبره منه اللهمّ محّص عنّا ذنوبنا أي خلّصنا من عقوبتنا. وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ أي يستأصلهم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 143] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ «أن» وصلتها يقومان مقام المفعولين. وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ أي علم شهادة والمعنى ولم تجاهدوا فيعلم ذلك منكم وفرق سيبويه بين لم ولمّا «1» ، فزعم أنّ لم يفعل نفي فعل وأنّ لمّا يفعل نفي قد فعل. وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ جواب النفي، وهو عند الخليل «2» منصوب بإضمار أن، وقال الكوفيون: هو منصوب على الصرف، فيقال لهم ليس يخلو الصرف من أن يكون شيئا لغير علّة أو لعلة فلعلّة نصب ولا معنى لذكر الصرف. وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «3» فهذا على النسق، وقرأ مجاهد وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ أَنْ في موضع نصب على البدل من الموت وقَبْلِ غاية. [سورة آل عمران (3) : آية 144] وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ابتداء وخبر وبطل عمل ما روي عن ابن عباس أنه قرأ قد خلت من قبله رسل بغير ألف ولام. أَفَإِنْ ماتَ شرط. أَوْ قُتِلَ عطف عليه والجواب انْقَلَبْتُمْ وكلّه استفهام ولم تدخل ألف الاستفهام في انقلبتم لأنها قد دخلت في الشرط، والشرط وجوابه بمنزلة شيء واحد وكذا المبتدأ وخبره تقول: أزيد منطلق؟ ولا تقول: أزيد أمنطلق. [سورة آل عمران (3) : آية 145] وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ «أن» في موضع اسم كان. قال أبو إسحاق «4» : المعنى وما كان لنفس لتموت إلا بإذن الله. قال أبو جعفر: لنفس تبيين

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 235، والإنصاف مسألة 75. (2) انظر معاني الفراء 1/ 235، ومختصر ابن خالويه 22. (3) انظر مصحف عبد الله، والبحر المحيط 3/ 74. (4) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 420.

[سورة آل عمران (3) : آية 146]

ولولا ذلك لكنت قد فرقت بين الصلة والموصول. كِتاباً مُؤَجَّلًا مصدر ودل بهذه الآية على أن كلّ إنسان مقتول أو غير مقتول قد بلغ أجله وأن الخلق لا بدّ أن يبلغوا آجالهم آجالا واحدة كتبها الله عليهم لأن معنى مؤجّلا إلى أجل. [سورة آل عمران (3) : آية 146] وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ «1» قال الخليل وسيبويه «2» : هي أيّ دخلت عليها كاف التشبيه فصار في الكلام معنى كم فالوقف على قوله وكأيّن وقرأ أبو جعفر وابن كثير وكاإن وهو مخفّف من ذاك وهو كثير في كلام العرب. وقرأ الحسن وعكرمة وأبو رجاء ربيّون «3» بضم الراء. قال أبو جعفر: وقد ذكر سيبويه مثل هذا وقد ذكرنا معنى الآية: وقرأ أبو السمّال العدوي فما وهنوا لما أصابهم «4» بإسكان الهاء وهذا على لغة من قال: وهن. حكى أبو حاتم: وهن يهن مثل ورم يرم ويجوز ما ضَعُفُوا بإسكان العين بحذف الضمة والكسرة لثقلها وحكى الكسائي وَما ضَعُفُوا بفتح العين ولا يجوز حذف الفتحة لخفتها. [سورة آل عمران (3) : آية 147] وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) وقرأ الحسن وَما كانَ قَوْلَهُمْ جعله اسم «كان» ومن نصب جعله خبر كان وجعل اسمها أَنْ قالُوا لأنه موجب. [سورة آل عمران (3) : آية 150] بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) وأجاز الفراء «5» بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ بمعنى أطيعوا الله مولاكم. [سورة آل عمران (3) : آية 151] سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) سَنُلْقِي فعل مستقبل وحذفت الضمة من الياء لثقلها وقرأ أبو جعفر والأعرج

_ (1) هذه قراءة نافع وأبي عمر وابن كثير، أما قراءة الباقين فبالألف وفتح القاف والتاء. انظر تيسير الداني 75. [.....] (2) انظر البحر المحيط 3/ 77. (3) هذه قراءة علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس أيضا، انظر مختصر ابن خالويه 22، والمحتسب 1/ 173. (4) انظر البحر المحيط 3/ 78، ومختصر ابن خالويه 22. (5) انظر معاني الفراء 1/ 237.

[سورة آل عمران (3) : آية 152]

وعيسى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وهما لغتان. مَثْوَى الظَّالِمِينَ رفع بئس. [سورة آل عمران (3) : آية 152] وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) ويجوز وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ مدغما وكذا إِذْ تَحُسُّونَهُمْ. وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة أي منكم من يريد الغنيمة بقتاله ومنكم من يريد الآخرة بقتال. ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ في هذه الآية غموض في العربية وذاك أن قوله جلّ وعزّ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ليس بمخاطبة للذين عصوا وإنما هو مخاطبة للمؤمنين، وذلك أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أمرهم أن ينصرفوا إلى ناحية الجبل ليتحرّزوا إذ كان ليس فيهم فضل للقتال. وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ للعاصين خاصة وهم الرماة وهذا في يوم أحد كانت الغلبة بدئا للمؤمنين حتى قتلوا صاحب راية المشركين فذلك قول الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ فلمّا عصى الرماة النبي صلّى الله عليه وسلّم وشغلوا بالغنيمة صارت الهزيمة عليهم ثم عفا الله عنهم ونظير هذا من المضمر فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [التوبة: 40] أي على أبي بكر الصدّيق قلق حتّى تبين له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسكن وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها [التوبة: 40] للنبي صلّى الله عليه وسلّم. [سورة آل عمران (3) : آية 153] إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وقرأ الحسن ولا تلون «1» بواو واحدة وقد ذكرنا نظيره «2» ، وروى أبو يوسف الأعشى عن أبي بكر بن عيّاش عن عاصم ولا تلوون بضم التاء وهي لغة شاذة. فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ لمّا صاح صائح يوم أحد قتل محمد صلّى الله عليه وسلّم زال غمّهم بما أصابهم من القتل والجراح لغلط ما وقعوا فيه، وقيل: وقفهم الله جلّ وعزّ على ذنبهم فشغلوا بذلك عما أصابهم وقيل فأثابكم أن غمّ الكفار كما غموكم لكيلا تحزنوا بما أصابكم دونهم. [سورة آل عمران (3) : آية 154] ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 23، والبحر المحيط 3/ 89. (2) انظر إعراب الآية 78- آل عمران.

[سورة آل عمران (3) : آية 155]

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً «أمنة» منصوبة بأنزل ونعاس بدل منها، ويجوز أن يكون «أمنة» مفعولا من أجله ونعاسا بأنزل يغشى للنعاس وتغشى للأمنة. وَطائِفَةٌ ابتداء والخبر قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، ويجوز أن يكون الخبر يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ والواو بمعنى إذ والجملة في موضع الحال، ويجوز في العربية وطائفة بالنصب على إضمار أهمّت. ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ مصدر أي يظنّون ظنّا مثل ظنّ الجاهلية وأقيم النعت مقام المنعوت والمضاف مقام المضاف إليه. يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ «من» الأولى للتبعيض والثانية زائدة. قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ اسم إنّ وكلّه توكيد، وقال الأخفش: بدل. وقرأ أبو عمرو وابن أبي ليلى «1» وعيسى قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ «2» رفع بالابتداء «ولله» الخبر والجملة خبر «إنّ» . قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وقرأ الكوفيون في بيوتكم بكسر الباء أبدل من الضمة كسر لمجاورتها الياء. لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ «3» وقرأ أبو حيوة لَبَرَزَ «4» والمعنى: لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم في اللوح المحفوظ القتل إلى مضاجعهم، وقيل: كتب بمعنى فرض. وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وحذف الفعل الذي مع لام كي والمعنى: وليبتلي الله ما في صدوركم فرض عليكم القتال والحرب ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم وليمحّص عنكم سيّئاتكم. [سورة آل عمران (3) : آية 155] إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) الَّذِينَ اسم «إنّ» والخبر إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا أي استدعى زللهم بأن ذكّرهم خطاياهم فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا، وقيل: ببعض ما كسبوا بانهزامهم. [سورة آل عمران (3) : آية 156] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)

_ (1) ابن أبي ليلى: عبد الرّحمن الأنصاري الكوفي، تابعي كبير، عرض على علي بن أبي طالب (ت 82 هـ) ترجمته في غاية النهاية 1/ 376. (2) انظر تيسير الداني 75. (3) هذه قراءة الجمهور، انظر البحر المحيط 3/ 97. (4) انظر مختصر ابن خالويه 23، والبحر المحيط 3/ 97.

[سورة آل عمران (3) : آية 157]

غُزًّى جمع غاز مثل صائم وصوّم، ويقال: غزّاء كما يقال: صوّام، ويقال: غزاة وغزيّ كما قال: [الكامل] 86- قل للقوافل والغزيّ إذا غزوا «1» وروي عن الزهري أنه قرأ غُزًّى بالتخفيف لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ فيه قولان أحدهما أنّ المعنى أنّ الله جلّ وعزّ جعل ظنّهم أن إخوانهم لو قعدوا عندهم ولم يخرجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ما قتلوا، والقول الآخر أنهم لما قالوا هذا لم يلتفت المؤمنون إلى قولهم فكان ذلك حسرة. وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ أي يقدر على أن يحيي من خرج إلى القتال ويميت من أقام في أهله. [سورة آل عمران (3) : آية 157] وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ قال عيسى أهل الحجاز يقولون: متّم وسفلى مضر يقولون: متّم بضم الميم. قال أبو جعفر: قول سيبويه «2» إنه شاذ جاء على متّ يموت ومثله عنده فضل يفضل وأما الكوفيون فقالوا من قال: متّ قال: يمات مثل خفت تخاف ومن قال: متّ قال يموت، وهذا قول حسن وجواب «أو» لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وهو محمول على المعنى لأن معنى ولئن قتلتم في سبيل الله أو متّم ليغفرنّ لكم. [سورة آل عمران (3) : آية 158] وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ فوعظهم بهذا أي لا تفرّوا من القتال ومما أمرتكم به وفرّوا من عقاب الله فإنكم إليه تحشرون لا يملك لكم أحد ضرّا ولا نفعا غيره. [سورة آل عمران (3) : آية 159] فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ «ما» زائدة وخفضت رَحْمَةٍ بالباء ويجوز أن تكون «ما»

_ (1) الشاهد لزياد الأعجم في ديوانه ص 53، ولسان العرب (غزا) ، وتهذيب اللغة 8/ 163، وذيل الأمالي 2/ 8، والحماسة البصرية 1/ 206، وخزانة الأدب 10/ 4، وللصلتان العبدي في أمالي المرتضى 2/ 199، وبلا نسبة في كتاب العين 4/ 434، وعجزه: «والباكرين وللمجدّ الرّائح» (2) انظر الكتاب 4/ 486.

[سورة آل عمران (3) : آية 160]

اسما نكرة خفضا بالباء ورحمة نعتا لما ويجوز فبما رحمة أي فبالذي هو رحمة أي لطف من الله جلّ وعزّ. لِنْتَ لَهُمْ كما قال: [الكامل] 87- فكفى بنا فضلا على من غيرنا «1» وغير أيضا وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا على فعل- الأصل فظظ. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ والمصدر مشاورة وشوار فأما مشورة وشورى فمن الثلاثي. فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وقرأ جابر بن زيد أبو الشعثاء وأبو نهيك فَإِذا عَزَمْتَ أي فتوكّل على الله أي لا تتّكل على عدّتك وتقوّ بالله، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ. [سورة آل عمران (3) : آية 160] إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ شرط والجواب في الفاء وما بعدها وكذا وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي فليثقوا بالله وليرضوا بجميع ما فعله. هذا معنى التوكل. [سورة آل عمران (3) : آية 161] وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ «2» قد ذكرناه «3» وذكرنا قراءة ابن عباس يَغُلَّ «4» وَمَنْ يَغْلُلْ شرط. يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ جوابه أي ومن يغلل بما غلّه يوم القيامة يحمله على رؤوس الأشهاد عقوبة له وفي هذا موعظة لكل من فعل معصية مستترا بها وتمّ الكلام ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ عطف جملة على جملة. [سورة آل عمران (3) : آية 163] هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ ابتداء وخبر يكون «هم» لمن اتّبع رضوان الله ودخل الجنة أي هم متفاضلون ويجوز أن يكون «هم» لمن اتّبع رضوان الله ولمن باء بسخطه، ويكون المعنى لكل واحد منهم حظّه من عمله.

_ (1) مرّ الشاهد (30) . (2) هذه قراءة السبعة عدا ابن كثير وأبي عمر وعاصم فقد قرءوا بفتح الياء وضمّ العين. انظر تيسير الداني 76. [.....] (3) انظر معاني ابن النحاس ورقة (55 ب) . (4) انظر معاني الفراء 1/ 246.

[سورة آل عمران (3) : آية 164]

[سورة آل عمران (3) : آية 164] لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) إِذْ ظرف والمعنى في المنّة فيه أقوال منها أن يكون معنى من أنفسهم أنه بشر مثلهم فلما أظهر البراهين وهو بشر مثلهم علم أنّ ذلك من عند الله جل وعز، وقيل: من أنفسهم منهم، فشرفوا به فكانت تلك المنة، وقيل: من أنفسهم أي يعرفونه بالصدق والأمانة فأما قول من قال معناه «من العرب» فذلك أجدر أن يصدقوه إذ لم يكن من غيرهم فخطأ لأنه لا حجة لهم في ذلك لو كان من غيرهم كما أنه لا حجة لغيرهم في ذلك. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ في موضع نصب نعت لرسول. [سورة آل عمران (3) : آية 165] أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها المصيبة التي قد أصابتهم يوم أحد أصابوا مثليهما يوم بدر، وقيل: أصابوا مثليها يوم بدر ويوم أحد جميعا [سورة آل عمران (3) : آية 166] وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) فَبِإِذْنِ اللَّهِ قيل: بعلمه ولا يعرف في هذا إلّا الإذن ولكن يكون فبإذن الله فبتخليته بينكم وبينهم وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ. [سورة آل عمران (3) : آية 167] وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وحذف الفعل أي خلّى بينكم وبينهم والمنافقون عبد الله بن أبيّ وأصحابه وانهزموا يوم أحد إلى المدينة فلما وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ فأكذبهم الله جلّ وعزّ فقال: قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ. [سورة آل عمران (3) : آية 168] الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ في موضع نصب على النعت للذين نافقوا أو على أعني يجوز أن يكون رفعا على إضمار مبتدأ. قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ أي فكما لا تقدرون أن تدفعوا عن أنفسكم الموت كذا لا تقدرون أن تمنعوا من القتل من كتب الله جلّ وعزّ عليه أن يقتل.

[سورة آل عمران (3) : آية 169]

[سورة آل عمران (3) : آية 169] وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً مفعولان. بَلْ أَحْياءٌ أي بل هم أحياء. [سورة آل عمران (3) : آية 170] فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) فَرِحِينَ نصب على الحال ويجوز في غير القرآن رفعه يكون نعتا لأحياء. وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ قيل: لم يلحقوا بهم في الفضل وقيل: هم في الدنيا. أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بدل من «الذين» وهو بدل الاشتمال ويجوز أن يكون المعنى بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. [سورة آل عمران (3) : آية 172] الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ابتداء والخبر لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ويجوز أن يكون الذين بدلا من المؤمنين وبدلا من الذين لم يلحقوا بهم. [سورة آل عمران (3) : آية 173] الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ بدل من الذين قبله. وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ابتداء وخبر أي كافينا الله. يقال: أحسبه إذا كافأه. وَنِعْمَ الْوَكِيلُ مرفوع بنعم أي نعم القيّم والحافظ الله والناصر لمن نصره. [سورة آل عمران (3) : آية 175] إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وقد ذكرنا إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ. [سورة آل عمران (3) : آية 176] وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ هذه أفصح اللغتين وقال: «يحزنك» . ويقال: إنّ هؤلاء قوم أسلموا ثم ارتدّوا خوفا من المشركين فاغتمّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله جلّ وعزّ وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً أي لن يضرّوا أولياء الله حين تركوا نصرهم إذ كان الله جلّ وعزّ ناصرهم. [سورة آل عمران (3) : آية 177] إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ مجاز جعل- مما استبدلوا به من الكفر وتركوه من الإسلام بمنزلة البيع والشراء.

[سورة آل عمران (3) : آية 179]

[سورة آل عمران (3) : آية 179] ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ لام النفي وأن مضمرة إلّا أنها لا تظهر. ومن أحسن ما قيل في الآية أن المعنى ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمنين بالمنافقين حتى يميّز بينهما بالمحنة والتكليف فتعرفوا المؤمن من المنافق والخبيث المنافق والطيب المؤمن. وقيل: المعنى ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الإقرار فقط حتى يفرض عليهم الفرائض، وقيل: هذا خطاب للمنافقين خاصة أي ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من عداوة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ أي ما كان ليعيّن لكم المنافقين حتّى تعرفوهم ولكن يظهر ذلك بالتكليف والمحنة وقيل: ما كان الله ليعلمكم ما يكون منهم وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فيطلعه على ما يشاء من ذلك. [سورة آل عمران (3) : آية 180] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) قرأ هل المدينة وأكثر القراء: وَلا يَحْسَبَنَّ بالياء في الموضعين جميعا وقرأ حمزة بالتاء «1» فيهما، وزعم أبو حاتم: أنه لحن لا يجوز وتابعه على ذلك جماعة، وقرأ يحيى بن وثاب أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ [آل عمران: 178] بكسر «إن» فيهما جميعا. قال أبو حاتم: وسمعت الأخفش يذكر كسر «إن» يحتجّ به لأهل القدر لأنه كان منهم ويجعله على التقديم والتأخير أي ولا يحسبنّ الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم. قال: ورأيت في مصحف في المسجد الجامع قد زادوا فيه حرفا فصار: إنّما نملي لهم ليزدادوا إيمانا، فنظر إليه يعقوب القارئ فتبيّن اللحق فحكّه. قال أبو جعفر: التقدير على قراءة نافع أنّ «أنّ» تنوب عن المفعولين، وأما قراءة حمزة فزعم الكسائي والفراء «2» أنّها جائزة على التكرير أي ولا تحسبنّ الذين كفروا لا تحسبنّ إنما نملي لهم. قال أبو إسحاق «3» : «أنّ» بدل من الذين أي ولا يحسبن أنما نملي لهم خير لأنفسهم أي إملاءنا للذين كفروا خيرا لأنفسهم كما قال: [الطويل] 88- فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تهدّما «4»

_ (1) انظر تيسير الداني 77. (2) انظر معاني الفراء 1/ 248، والبحر المحيط 3/ 129. (3) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 441. (4) مرّ الشاهد رقم (48) .

[سورة آل عمران (3) : آية 181]

قال أبو جعفر: قراءة يحيى بن وثاب بكسر إن فيهما جميعا حسنة كما تقول: حسبت عمرا أبوه خارج. فأما وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ على قراءة نافع فالذين في موضع رفع والمفعول الأول محذوف. قال الخليل وسيبويه والكسائي والفراء «1» والمعنى: البخل هو خيرا لهم، «وهو» زائدة، عماد عند الكوفيين وفاصلة عند البصريين ومثل هذا المضمر قول الشاعر: [الوافر] 89- إذا نهي السّفيه جرى إليه ... وخالف والسفيه إلى خلاف «2» لمّا أن قال السفيه دلّ على السفل فأضمره ولما قال جلّ وعزّ: يبخلون دلّ على البخل ونظيره قول العرب: «من كذب كان شرا له» «3» فأما قراءة حمزة ولا تحسبنّ الذين يبخلون فبعيدة جدا وجوازها أن يكون التقدير: ولا تحسبنّ الذين يبخلون مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ويجوز في العربية وهو خير لهم ابتداء وخبر. بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ابتداء وخبر وكذا وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وكذا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، البخل والبخل في اللغة أن يمنع الإنسان الحق الواجب عليه فأما من منع ما لا يجب عليه فليس ببخيل لأنه لا يذمّ بذلك، وأهل الحجاز يقولون: يبخلون وقد بخلوا. وسائر العرب يقولون: بخلوا يبخلون وبعض بني عامر يقولون: يجدبي أي يجتبي فيبدلون من التاء دالا إذا كان قبلها جيم ويقولون يجدلون أي يجتلدون. [سورة آل عمران (3) : آية 181] لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ وإن شئت أدغمت الدال في السين لقربها منها قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ كسرت إن لأنها حكاية وبعض العرب يفتح. قال أهل التفسير: لما أنزل الله جلّ وعزّ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة: 245] قال قوم من اليهود إن الله فقير يقترض منا وإنما قالوا هذا تمويها على ضعفائهم لا إنهم يعتقدون هذا لأنهم أهل كتاب ولكنهم كفروا بهذا القول لأنهم أرادوا تشكيك المؤمنين وتكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم أي إنه فقير على قول محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه اقترض منا. سَنَكْتُبُ ما قالُوا نصب بسنكتب وقرأ الأعمش وحمزة سيكتب ما قالوا «4» فما هاهنا اسم ما لم يسمّ فاعله واعتبر حمزة بقراءة ابن مسعود ويقال ذوقوا عذاب الحريق. وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أي ونكتب قتلهم أي رضاهم بالقتل وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي نوبّخهم بهذا.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 248. (2) مرّ الشاهد رقم (67) . (3) انظر الكتاب 2/ 412. (4) انظر معاني الفراء 1/ 249، وتيسير الداني 77.

[سورة آل عمران (3) : آية 182]

[سورة آل عمران (3) : آية 182] ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ حذفت الضمة من الياء لثقلها. [سورة آل عمران (3) : آية 183] الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا في موضع خفض بدلا من الذين في قوله لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا [آية: 181] أَلَّا نُؤْمِنَ في موضع نصب. قال الملهم صاحب الأخفش من أدغم بغنّة كتب أن لا منفصلا ومن أدغم بغير غنّة كتب ألّا متصلا وقيل بل يكتب منفصلا لأنها «أن» دخلت عليها «لا» وقيل: من نصب الفعل كتبها متصلة ومن رفع كتبها منفصلة حَتَّى يَأْتِيَنا نصب بحتى. وقرأ عيسى بن عمر بِقُرْبانٍ «1» بضم الراء. إن جمعت قربانا قلت: قرابين وقرابنة. قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي على تذكير الجميع أي جاء أوائلكم وإذا جاء أوائلهم فقد جاءهم. بِالْبَيِّناتِ بالآيات المعجزات وَبِالَّذِي قُلْتُمْ بالقربان. فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إن كنتم صادقين إن الله جلّ وعزّ عهد إليكم ألّا تؤمنوا حتى تؤتوا بقربان تأكله النار. [سورة آل عمران (3) : آية 184] فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) فَإِنْ كَذَّبُوكَ شرط فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جوابه فهذا تعزية له صلّى الله عليه وسلّم. [سورة آل عمران (3) : آية 185] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ابتداء وخبر. وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ «ما» كافة ولا يجوز أن تكون بمعنى الذي ولو كان ذلك لقلت: أجوركم فرفعت على خبر «إن» وفرقت بين الصلة والموصول. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ابتداء وخبر أي أنها فانية فهي بمنزلة ما يغر ويخدع. [سورة آل عمران (3) : آية 186] لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ لا ما قسم فإن قيل: لم ثبتت الواو في «لتبلونّ» وحذفت من «لتسمعنّ» ؟ فالجواب أنّ الواو في لتبلونّ قبلها فتحة فحركت

_ (1) انظر المحتسب 1/ 177، والبحر المحيط 3/ 138.

[سورة آل عمران (3) : آية 187]

لالتقاء الساكنين ولم يجز حذفها لأنه ليس قبلها ما يدلّ عليها وحذفت في ولتسمعنّ لأن قبلها ما يدلّ عليها ولا يجوز همز الواو في لتبلونّ لأن حركتها عارضة. [سورة آل عمران (3) : آية 187] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ على حكاية الخطاب، وقرأ أبو عمرو وعاصم بالياء «1» لأنهم غيب والهاء كناية عن أهل الكتاب، وقيل: عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أي عن أمره. [سورة آل عمران (3) : آية 188] لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وروى الحسين بن علي الجعفي عن الأعمش بما آتوا «2» أي أعطوا. قيل: يراد بهذا اليهود وفي قراءة أبيّ بما فعلوا «3» ، وقال ابن زيد: هم المنافقون كانوا يقولون للنبي صلّى الله عليه وسلّم: نخرج ونحارب معك ثم يتخلّفون ويعتذرون ويفرحون بما فعلوا لأنهم يرون أنهم قد تمّت لهم الحيلة فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ كرّر «تحسبنّ» لطول الكلام ليعلم أنه يراد الأول كما تقول: لا تحسب زيدا إذا جاءك وكلّمك لا تحسبه مناصحا. [سورة آل عمران (3) : آية 189] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ابتداء وخبر، وكذا وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. [سورة آل عمران (3) : آية 190] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ في موضع نصب على أنه اسم «إن» لِأُولِي خفض باللام وزيدت فيها الواو فرقا بينها وبين «إلى» . الْأَلْبابِ خفض بالإضافة وحكى سيبويه «4» عن يونس: قد لببت ولا يعرف في المضاعف سواه. [سورة آل عمران (3) : آية 191] الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ في موضع خفض على النعت لأولي الألباب. قِياماً وَقُعُوداً

_ (1) وهذه قراءة ابن كثير أيضا، انظر تيسير الداني 77. (2) انظر مختصر ابن خالويه 23. (3) انظر مختصر ابن خالويه 24، والبحر المحيط 3/ 143. [.....] (4) انظر الكتاب 4/ 147.

[سورة آل عمران (3) : آية 193]

نصب على الحال. وَعَلى جُنُوبِهِمْ في موضع حال أي مضطجعين. وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ليكون ذلك أزيد في بصائرهم ويكون «ويتفكّرون» عطفا على الحال أو على يذكرون أو منقطعا. رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا أي ما خلقته من أجل باطل أي خلقته دليلا عليك، والتقدير: يقولون «باطلا» مفعول من أجله. سُبْحانَكَ أي تنزيها لك من أن يكون خلقت هذا باطلا. حدّثنا عبد السلام بن أحمد بن سهل قال: حدّثنا محمد بن علي بن محرّر قال: حدّثنا أبو أسامة قال: حدّثنا الثوريّ عن عثمان بن عبد الله بن موهب عن موسى بن طلحة قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن معنى «سبحان الله» فقال: «تنزيه الله عن السوء» «1» . سُبْحانَكَ مصدر وأضيف على أنه نكرة. [سورة آل عمران (3) : آية 193] رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا نداء مضاف. أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ في موضع نصب أي بأن آمنوا. وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ المعنى وتوفّنا أبرارا مع الأبرار، ومثل هذا الحذف كلّه قوله: [الوافر] 90- كأنّك من جمال بني أقيش ... يقعقع خلف رجليه بشنّ «2» وواحد الأبرار بارّ كما يقال: صاحب وأصحاب، ويجوز أن يكون واحدهم برّا مثل كتف وأكتاف. [سورة آل عمران (3) : آية 194] رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ أي على ألسن رسلك مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . [سورة آل عمران (3) : آية 195] فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي أي بأنّي، وقرأ عيسى بن عمر فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي «3»

_ (1) أخرجه الطبري في تفسيره 11/ 64. (2) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 126، وخزانة الأدب 5/ 67، وشرح أبيات سيبويه 2/ 58، وشرح المفصّل 3/ 59، والكتاب 2/ 363، ولسان العرب (وقش) ، و (قعع) و (شنن) ، والمقاصد النحوية 4/ 67، وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب 1/ 284، وشرح الأشموني 2/ 401، وشرح المفصّل 1/ 61، ولسان العرب (خدر) و (أقش) و (دنا) ، والمقتضب 2/ 138. (3) انظر مختصر ابن خالويه 24.

[سورة آل عمران (3) : آية 196]

بكسر الهمزة أي فقال إني. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ابتداء وخبر أي دينكم واحد. فَالَّذِينَ هاجَرُوا ابتداء. وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أي في طاعة الله جلّ وعزّ. وَقُتِلُوا أي قاتلوا أعدائي. وَقُتِلُوا أي في سبيلي، وقرأ ابن كثير وابن عامر وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا «1» على التكثير، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي وقتلوا وقاتلوا «2» لأن الواو لا تدلّ على أن الثاني بعد الأول. قال هارون القارئ: حدّثني يزيد بن حازم «3» عن عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه أنه قرأ وقتلوا وقتلوا «4» خفيفة بغير ألف. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي لأسترنّها عليهم في الاخرة فلا أوبّخهم بها ولا أعاقبهم عليها. ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مصدر مؤكد عند البصريين، وقال الكسائي: وهو منصوب على القطع، قال الفراء «5» : هو مفسّر. [سورة آل عمران (3) : آية 196] لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ نهي مؤكد بالنون الثقيلة، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب لا يَغُرَّنَّكَ بنون خفيفة. [سورة آل عمران (3) : آية 197] مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) مَتاعٌ قَلِيلٌ أي ذلك متاع قليل أي ابتداء وخبر، وكذا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ والجمع مآو. [سورة آل عمران (3) : آية 198] لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ في موضع رفع بالابتداء، وقرأ يزيد بن القعقاع لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا «6» بتشديد النون نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مثل ثوابا عند البصريين، وقال الكسائي: يكون مصدرا وقال الفراء «7» : هو مفسّر، وقرأ الحسن نزلا «8» بإسكان الزاي وهي لغة تميم، وأهل الحجاز وبنو أسد يثقّلون.

_ (1) انظر تيسير الداني 77. (2) انظر تيسير الداني 77. (3) يزيد بن حازم بن زيد الأزدي الجهضمي البصري. روى عن سليمان بن يسار وعكرمة (ت 148 هـ) ترجمته في تهذيب التهذيب 11/ 317. (4) انظر مختصر ابن خالويه 24، والبحر المحيط 3/ 152. (5) انظر معاني الفراء 1/ 251، والبحر المحيط 3/ 153. (6) انظر مختصر ابن خالويه 24. (7) انظر معاني الفراء 1/ 251. (8) وهذه قراءة مسلمة بن محارب والأعمش أيضا، وانظر مختصر ابن خالويه 24.

[سورة آل عمران (3) : آية 199]

[سورة آل عمران (3) : آية 199] وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ اسم «إنّ» واللام توكيد. قال الضحاك: وما أنزل إليكم القرآن وما أنزل إليهم التوراة والإنجيل. قال الحسن: نزلت في النجاشيّ «1» . خاشِعِينَ لِلَّهِ حال من المضمر الذي في يؤمن، وقال الكسائي: يكون قطعا من من لأنها معرفة وتكون قطعا من وما أنزل إليهم. قال الضحاك: خاشِعِينَ أي أذلّة. [سورة آل عمران (3) : آية 200] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا أمر فلذلك حذفت منه النون. وَصابِرُوا وَرابِطُوا عطف عليه وكذا وَاتَّقُوا اللَّهَ أي لا يكن وكدكم الجهاد فقط اتقوا الله في جميع أموركم. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لتكونوا على رجاء من الفلاح. قال الضحّاك: الفلاح البقاء.

_ (1) انظر البحر المحيط 3/ 155.

[4] شرح إعراب سورة النساء

[4] شرح إعراب سورة النساء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النساء (4) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) يا أَيُّهَا النَّاسُ «يا» حرف ينادى به، وقد يجوز أن يحذف إذا كان المنادى يعلم بالنداء و «أيّ» نداء مفرد و «ها» تنبيه. «النّاس» نعت لأيّ لا يجوز نصبه على الموضع لأن الكلام لا يتم قبله إلّا على قول المازني، وزعم الأخفش: أنّ أيّا موصولة بالنعت ولا تعرف الصلة إلّا جملة. اتَّقُوا رَبَّكُمُ أمر فلذلك حذفت منه النون. الَّذِي خَلَقَكُمْ في موضع نصب على النعت. مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أنّثت على اللفظ، ويجوز في الكلام من نفس واحد، وكذا وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما المذكر والمؤنث في التثنية على لفظ واحد في العلامة وليس كذا الجمع لاختلافه واتفاق التثنية. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ «1» هذه قراءة أهل المدينة بإدغام التاء في السين، وقراءة أهل الكوفة تَسائَلُونَ بحذف التاء لاجتماع تاءين ولأن المعنى يعرف ومثله إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ [النور: 15] . وَالْأَرْحامَ عطف أي واتّقوا الأرحام أن تقطعوها، وقرأ إبراهيم وقتادة وحمزة وَالْأَرْحامَ «2» بالخفض وقد تكلّم النحويون في ذلك. فأما البصريون فقال رؤساؤهم: هو لحن لا تحلّ القراءة به، وأما الكوفيون فقالوا: هو قبيح ولم يزيدوا على هذا ولم يذكروا علّة قبحه فيما علمته. وقال سيبويه «3» : لم يعطف على المضمر المخفوض لأنه بمنزلة التنوين، وقال أبو عثمان المازني: المعطوف والمعطوف عليه شريكان لا يدخل في أحدهما إلّا ما دخل في الآخر فكما لا يجوز مررت بزيد وك وكذا لا يجوز مررت بك وزيد، وقد جاء في الشعر كما قال: [البسيط] 91- فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيّام من عجب «4»

_ (1) انظر تيسير الداني 78. [.....] (2) انظر تيسير الداني 78. (3) انظر الكتاب 2/ 403. (4) الشاهد بلا نسبة في الإنصاف 464، وخزانة الأدب 5/ 123، وشرح الأشموني 2/ 430، والدرر 2/ 81، وشرح أبيات سيبويه 2/ 207، وشرح ابن عقيل ص 503، وشرح عمدة الحافظ ص 662، وشرح المفصّل 3/ 78، والكتاب 2/ 404، وهمع الهوامع 2/ 139.

[سورة النساء (4) : آية 2]

وكما قال: [الطويل] 92- وما بينها والكعب غوط نفانف «1» وقال بعضهم وَالْأَرْحامَ قسم وهذا خطأ من المعنى والإعراب لأن الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدلّ على النصب روى شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن النذر بن جرير عن أبيه قال: كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى جاء قوم من مصر حفاة عراة فرأيت وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم يتغير لما رأى من فاقتهم ثم صلّى الظهر وخطب الناس فقال: «يا أيّها الناس اتّقوا ربّكم والأرحام، ثم قال تصدّق رجل بديناره تصدّق رجل بدرهمه تصدّق رجل بصاع تمره» «2» وذكر الحديث فمعنى هذا على النصب لأنه حضّهم على صلة أرحامهم، وأيضا فلو كان قسما كان قد حذف منه لأن المعنى: ويقولون بالأرحام أي وربّ الأرحام: ولا يجوز الحذف إلّا أن لا يصحّ الكلام إلّا عليه. وأيضا فقد صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من كان حالفا فليحلف بالله» «3» فكما لا يجوز أن تحلف إلّا بالله كذا لا يجوز أن تستحلف إلّا بالله فهذا يرد قول من قال المعنى أسألك بالله وبالرّحم، وقد قال أبو إسحاق «4» : معنى تَسائَلُونَ بِهِ تطلبون حقوقكم به ولا معنى للخفض على هذا. والرحم مؤنثة ويقال: رحم ورحم ورحم ورحم. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً قال ابن عباس أي حفيظا. قال أبو جعفر: يقال: رقب الرجل وقد رقبته رقبة ورقبانا. [سورة النساء (4) : آية 2] وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ مفعولان ولا يقال: يتيم إلّا لمن بلغ دون العشر، وقيل: لا يقال: يتيم إلا لمن لم يبلغ الحلم، يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يتم بعد بلوغ» «5» . وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أي لا تأكلوا أموال اليتامى وهي محرّمة خبيثة وتدعوا الطّيب وهو مالكم ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم أي

_ (1) الشاهد لمسكين الدارمي في ديوانه ص 53 وفيه (تنائف) بدل (نفانف) ، والحيوان 6/ 494، والمقاصد النحوية 4/ 164، وبلا نسبة في الإنصاف 2/ 465، وشرح الأشموني 2/ 430، وشرح عمدة الحافظ 663، وشرح المفصّل 3/ 79، ولسان العرب (غوط) ، وتاج العروس (غوط) . وصدره: «نعلّق في مثل السواري سيوفنا» (2) أخرجه أحمد في مسنده 4/ 359، ومسلم في الزكاة 70. (3) أخرجه الترمذي في النذور 7/ 16، وابن ماجة في سننه- باب، حديث 2094، وأبو داود في سننه، الإيمان والنذور، حديث 3249، والدارمي في النذور 2/ 185. (4) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 455، والبحر المحيط 3/ 164. (5) أخرجه أبو داود في سننه 2873، والمتقي في كنز العمال 90499.

[سورة النساء (4) : آية 3]

لا تجمعوا بينهما فتأكلوهما. إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً «1» وقرأ الحسن حُوباً «2» . قال الأخفش: وهي لغة بني تميم والحوب المصدر وكذا الحيابة والحوب الاسم. وقرأ ابن محيصن ولا تبّدلوا «3» أدغم التاء في التاء وجمع بين ساكنين، وذلك جائز لأن الساكن الأول حرف مدّ ولين، ولا يجوز هذا في قوله ناراً تَلَظَّى [الليل: 14] . [سورة النساء (4) : آية 3] وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى شرط أي إن خفتم ألّا تعدلوا في مهورهنّ في النفقة عليهن. فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ فدلّ بهذا على أنه لا يقال: نساء إلا لمن بلغ الحلم. واحد النساء نسوة ولا واحد لنسوة من لفظه ولكن يقال: امرأة. ويقال: كيف جاءت «ما» للآدميين ففي هذا جوابان: قال الفراء «4» : «ما» هاهنا مصدر وهذا بعيد جدّا لا يصحّ فانكحوا الطيبة، وقال البصريون: «ما» تقع للنعوت كما تقع «ما» لما لا يعقل يقال: ما عندك؟ فيقال: ظريف وكريم فالمعنى فانكحوا الطيب من النساء أي الحلال وما حرّمه الله فليس بطيب. مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ في موضع نصب على البدل من «ما» ولا ينصرف عند أكثر البصريين في معرفة ولا نكرة لأن فيه علّتين إحداهما أنه معدول. قال أبو إسحاق: والأخرى أنه معدول عن مؤنث وقال غيره: العلّة أنّه معدول يؤدّي عن التكرير صحّ أنها لا تكتب وهذا أولى قال الله عزّ وجلّ: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [فاطر: 1] فهذا معدول عن مذكّر، وقال الفراء «5» : لم ينصرف لأن فيه معنى الإضافة والألف واللام، وأجاز الكسائي والفراء صرفه في العدد على أنه نكرة، وزعم الأخفش أنه إن سمّي به صرفه في المعرفة والنكرة لأنه قد زال عنه العدل. فَإِنْ خِفْتُمْ في موضع جزم بالشرط أَلَّا تَعْدِلُوا في موضع نصب بخفتم فَواحِدَةً أي فانكحوا واحدة وقرأ الأعرج فَواحِدَةً بالرفع. قال الكسائي: التقدير فواحدة تقنع. أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ عطف على واحدة. ذلِكَ أَدْنى ابتداء وخبره أَلَّا تَعُولُوا في موضع نصب. [سورة النساء (4) : آية 4] وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ مفعولان الواحدة صدقة. قال الأخفش: وبنو تميم

_ (1) وهذه قراءة الجمهور، انظر البحر المحيط 3/ 169. (2) انظر معاني الفراء 1/ 253، والإتحاف 112، والبحر المحيط 3/ 169، وهذه لغة بني تميم. (3) انظر مختصر ابن خالويه 24. (4) انظر معاني الفراء 1/ 253، والبحر المحيط 3/ 170. (5) انظر معاني الفراء 1/ 254.

[سورة النساء (4) : آية 5]

يقولون: صدقة والجمع صدقات، وإن شئت فتحت، وإن شئت أسكنت» . قال المازني: يقال صداق المرأة بالكسر ولا يقال: بالفتح، وحكى يعقوب وأحمد ابن يحيى الفتح. فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً مخاطبة للأزواج وزعم الفراء «2» أنه مخاطبة للأولياء لأنهم كانوا يأخذون الصداق ولا يعطون المرأة منه شيئا فلم يبح لهم منه إلا ما طابت به نفس المرأة. قال أبو جعفر: والقول الأول أولى لأنه لم يجر للأولياء ذكر. نَفْساً منصوبة على البيان، ولا يجيز سيبويه ولا الكوفيون أن يتقدّم ما كان على البيان، وأجاز المازني وأبو العباس أن يتقدم إذا كان العامل فعلا وأنشد: [الطويل] 93- وما كان نفيسا بالفراق تطيب «3» وسمعت أبا إسحاق يقول: إنّما الرواية «وما كان نفسي» . فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً منصوب على الحال من الهاء. يقال: هنؤ الطعام ومرؤ فهو هنيء مريء على فعيل، وهنيء يهنأ فهو هني على فعل، والمصدر على فعل، وقد هنأني ومرأني فإن أفردت قلت: أمرأني بالألف. [سورة النساء (4) : آية 5] وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ روى سالم الأفطس عن سعيد بن جبير وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ قال: يعني اليتامى لا تؤتوهم أموالهم. كما قال: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] وهذا من أحسن ما قيل في الآية وشرحه في العربية ولا تؤتوا السفهاء الأموال التي تملكونها ويملكونها كما قال: وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب: 59] ، وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي مالك وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ قال: أولادكم لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها ويبقوا بلا شيء، وروى سفيان عن حميد الأعرج عن مجاهد وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ قال: النساء. قال أبو جعفر: وهذا القول لا يصحّ، إنّما تقول العرب في النساء: سفائه وقد قيل «ولا تؤتوا السفهاء

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 24 والبحر المحيط 3/ 174، والقراءة الأولى لأبي واقد، والثانية بالفتح عن قتادة، والثالثة عن قتادة وأبي السمال. [.....] (2) انظر معاني الفراء 1/ 256، والبحر المحيط 3/ 174. (3) الشاهد للمخبّل السعدي في ديوانه ص 290، والخصائص 2/ 384، ولسان العرب (صبب) ، وللمخبّل السعدي أو لأعشى همدان أو لقيس بن الملوّح في الدرر 4/ 36، والمقاصد النحوية 3/ 235، وللمخبّل السعدي أو لقيس بن معاذ في شرح شواهد الإيضاح ص 188، وبلا نسبة في أسرار العربية 197، والإنصاف ص 828، وشرح الأشموني 1/ 266، وشرح ابن عقيل 348، وشرح المفصّل 2/ 74، والمقتضب 3/ 36، وهمع الهوامع 1/ 252، وصدره: «أتهجر ليلى بالفراق حبيبها»

[سورة النساء (4) : آية 6]

أموالكم» مخاطبة للأوصياء أضيفت الأموال إليهم وإن كانت ليست لهم على السعة لأنها في أيديهم كما يقال: بسر النخلة وماء البئر، وقيل: «ولا تؤتوا السفهاء أموالكم» حقيقة أي لا تعطوهم الأموال التي تملكونها وهذا بعيد لأن بعده وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً مصدر ونعته. قرأ إبراهيم النخعيّ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم اللاتي جعل الله لكم على جمع التي، وقراءة العامة الَّتِي «1» على لفظ الجماعة. قال الفراء «2» : الأكثر في كلام العرب النساء اللواتي والأموال التي وكذلك غير الأموال. قرأ أهل الكوفة قِياماً وقرأ أهل المدينة قيما «3» وقرأ عبد الله بن عمر قواما «4» ، زعم الفراء والكسائي أن قياما مصدر أي ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم فتقومون بها قياما، وقال الأخفش: المعنى قائمة بأموركم يذهب إلى أنه جمع وقيّما وقواما عند الكسائي والفراء بمعنى قياما، وقال البصريون: قيم جمع قيمة أي جعلها الله قيمة للأشياء. [سورة النساء (4) : آية 6] وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا وقرأ أبو عبد الرّحمن السلمي رشدا «5» وهو مصدر رشد، ورشد مصدر رشد وكذا الرّشاد. وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً مفعول من أجله، وقد يكون مصدرا في موضع الحال. وَبِداراً عطف عليه. أَنْ يَكْبَرُوا في موضع نصب ببدار، وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ شرط وجوابه، وكذا وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ يجازى بإذا في الشعر لأنها تحتاج إلى جواب، ولا يليها إلا الفعل مظهرا أو مضمرا ولم يجاز بها في غير الشعر عند الخليل وسيبويه لأن ما بعدها مخالف لما بعد حروف الشرط لأنه محصّل قال الخليل: تقول آتيك إذا احمرّ البسر ولا تقول: إن احمرّ البسر. [سورة النساء (4) : آية 7] لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة.

_ (1) انظر البحر المحيط 3/ 177. (2) انظر معاني الفراء 1/ 257. (3) انظر تيسير الداني 78. (4) انظر مختصر ابن خالويه 24، والبحر المحيط 3/ 178. (5) وأيضا هي قراءة عيسى الثقفي وأبي السمال وابن مسعود انظر مختصر ابن خالويه 44، والبحر المحيط 3/ 180.

[سورة النساء (4) : آية 8]

مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً قال أبو إسحاق «1» : نَصِيباً مَفْرُوضاً نصب على الحال، وقال الأخفش والفراء «2» : هو مصدر كما تقول: فرضا ولو كان غير مصدر لكان مرفوعا على النعت لنصيب. [سورة النساء (4) : آية 8] وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) يبعد أن يكون هذا على الندب لأن الندب لا يكون إلّا بدليل أو إجماع أو توقيف فأحسن ما قيل فيه أنّ الله جلّ وعزّ أمر إذا حضر أولو القربى ممن لا يرث أن يعطيه من يرث شكرا لله جلّ وعزّ على تفضيله إياه. [سورة النساء (4) : آية 9] وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) وَلْيَخْشَ جزم بالأمر فلذلك حذفت منه الألف. قال سيبويه: لئلا يشبه المجزوم المرفوع والمنصوب، وأجاز الكوفيون حذف اللام مع الجزم، وأجاز ذلك سيبويه في الشعر وأنشد الجميع: [الوافر] 94- محمد تفد نفسك كلّ نفس ... إذا ما خفت من أمر تبالا «3» وزعم أبو العباس: أن هذا لا يجوز لأن الجازم لا يضمر. [سورة النساء (4) : آية 10] إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) اسم إن والخبر إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية ابن عباس وَسَيَصْلَوْنَ «4» على ما لم يسم فاعله، وقرأ أبو حيوة وسيصلّون «5» على التكثير. [سورة النساء (4) : آية 11] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ خبر فيه معنى الإلزام ثمّ بيّن الذي أوصاهم به فقال:

_ (1) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 467، والبحر المحيط 3/ 183. (2) انظر معاني الفراء 1/ 257. (3) مرّ الشاهد رقم (65) . (4) انظر تيسير الداني 78. (5) انظر مختصر ابن خالويه 24.

لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ «مثل» رفع بالابتداء أو بالصفة، ويجوز النصب في غير القرآن على إضمار فعل. فَإِنْ كُنَّ نِساءً خبر كان أي فإن كان الأولاد نساء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ قال أبو جعفر: قد ذكرنا فيه أقوالا «1» : منها أنّ فوق زائدة وهو خطأ لأن الظروف ليست مما يزداد لغير معنى، ومنها الاحتجاج للأخوات ولا حجّة فيه لأن ذلك إجماع فهو مسلّم لذلك، ومنها أنه إجماع وهو مردود لأن الصحيح عن ابن عباس أنه أعطى البنين النصف لأن الله جلّ وعزّ قال: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ قال: فلا أعطي البنتين الثلثين، ومنها أن أبا العباس قال: في الآية ما يدلّ على أن للبنتين الثلثين قال: لما كان للواحد مع الابن الواحد الثلث علمنا أن للابنتين الثلثين وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط لأن الاختلاف في البنتين وليس في الواحدة فيقول مخالفه إذا ترك ابنتين وابنا فللبنتين النصف فهذا دليل على أنّ هذا فرضهما وأقوى الاحتجاج في أن للبنتين الثلثين الحديث المروي. لغة أهل الحجاز وبني أسد الثّلث والرّبع إلى العشر، ولغة بني تميم وربيعة الثلث بإسكان اللام إلى العشر، ويقال: ثلثت القوم أثلثهم، وثلثت الدراهم أثلثها إذا أتممتها ثلاثة وأثلثت هي إلا أنّهم قالوا في المائة والألف: مأيتها وأمأت وآلفتها وألفت. وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وهذه قراءة حسنة أي وإن كانت المولودة واحدة مثل فَإِنْ كُنَّ نِساءً، وقرأ أهل المدينة وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً «2» تكون كانت بمعنى وقعت مثل كان الأمر، وقرأ أبو عبد الرّحمن السلميّ فَلَهَا النِّصْفُ وقرأ أهل الكوفة فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ «3» وهذه لغة حكاها سيبويه. قال الكسائي: هي لغة كثير من هوازن وهذيل. قال أبو جعفر: لما كانت اللام مكسورة وكانت متصلة بالحرف كرهوا ضمة بعد كسرة فأبدلوا من الضمة كسرة لأنه ليس في الكلام فعل ومن ضم جاء به على الأصل ولأن اللام تنفصل لأنها داخلة على الاسم. قرأ مجاهد وعاصم وابن كثير مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ «4» على ما لم يسمّ فاعله وقرأ الحسن يُوصِي بِها «5» على التكثير. فَرِيضَةً مصدر. إِنَّ اللَّهَ اسم إنّ. كانَ عَلِيماً خبر كان واسم كان فيها مضمر والجملة خبر إنّ، ويجوز في غير القرآن «إنّ الله كان عليم حكيم» على إلغاء كان. وأهل التفسير يقولون: معنى كان عليما حكيما لم يزل، ومذهب سيبويه «6» أنهم رأوا حكمة وعلما فقيل لهم: إن الله كان كذلك وقال أبو العباس: ليس

_ (1) انظر البحر المحيط 3/ 191. (2) انظر تيسير الداني 78 والبحر المحيط 3/ 191. [.....] (3) انظر تيسير الداني 78، والحجّة لابن خالويه 95. (4) انظر تيسير الداني 78. (5) انظر مختصر ابن خالويه 25، وهي قراءة أبي الدرداء وأبي رجاء أيضا. (6) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 477.

[سورة النساء (4) : آية 12]

في قوله «كان» دليل على نفي الحال والمستقبل، وقيل: «كان» يخبر بها عن الحال كما قال جلّ وعزّ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم: 29] . [سورة النساء (4) : آية 12] وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ ابتداء أو بالصفة. قال الأخفش سعيد في وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً إن شئت نصبت كلالة على أنه خبر كان، وإن شئت جعلت كان بمعنى وقع وجعلت يورث صفة لرجل وكلالة نصب على الحال كما تقول: يضرب قائما. قال أبو جعفر: تكلّم الأخفش على أن الكلالة هو الميّت فإن كان للورثة قدّرته ذا كلالة. أَوِ امْرَأَةٌ ويقال مرأة وهو الأصل. وَلَهُ أَخٌ الأصل أخو يدلّ على ذلك أخوان فحذف منه وغيّر على غير قياس. وقال محمد بن يزيد حذف منه للتثبّت والأصل في أخت أخوة. قال الفراء: ضمّ أول أخت لأن المحذوف منها واو وكسر أول بنت لأن المحذوف منها ياء. فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ابتداء أو بالصفة. غَيْرَ مُضَارٍّ نصب على الحال أي يوصي بها غير مضارّ وبيّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ الموصى بأكثر من الثلث مضارّ وَصِيَّةٍ مصدر. وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي بمن أطاعه. حَلِيمٌ أي عمّن عصاه فأما قوله جلّ وعزّ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً فقيل معناه «عليما» بما لكم فيه من المصلحة «حكيما» بما قسم من هذه الأموال، وقال الحسن: «إنّ الله كان عليما» بخلقه قبل أن يخلقهم «حكيما» بما يدبّرهم به. [سورة النساء (4) : آية 13] تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ابتداء وخبر. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ شرط يُدْخِلْهُ مجازاة، ويجوز في الكلام يدخلهم على المعنى، ويجوز من يطيعون. [سورة النساء (4) : آية 15] وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ابتداء، والخبر فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً

[سورة النساء (4) : آية 16]

مِنْكُمْ ولا يجوز أن تكون اللاتي إلّا النساء. فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ. قال أبو جعفر: قد بيّنا أن هذا منسوخ فإنّ المرأة كانت إذا زنت حبست فنسخ ذلك بحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم «قد جعل الله لهنّ سبيلا» «1» ولولا الحديث لكان الحبس واجبا مع الضرب ونسخ عن الزانية المحصنة الحبس بالرّجم، والرجم سنّة فقد نسخ القرآن الحديث بلا مدفع. [سورة النساء (4) : آية 16] وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ الأولى أن يكون هذا للرجلين فأما أن يكون للرجل والمرأة على أن يغلّب المذكر على المؤنث فبعيد لأنه لا يخرج الشيء إلى المجاز ومعناه صحيح في الحقيقة. وزعم قوم أنّ قوله فَآذُوهُما منسوخ وقيل، وهو أولى: إنه ليس بمنسوخ وإنه واجب أن يؤذيا بالتوبيخ فيقال لهما: فجرتما وفسقتما وخالفتما أمر الله جلّ وعزّ. [سورة النساء (4) : آية 17] إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ قيل: هذا لكل من عمل ذنبا، وقيل: هذا لمن جهل فقط والتوبة لكلّ من عمل ذنبا في موضع آخر. [سورة النساء (4) : آية 18] وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) قال أبو جعفر: الآية مشكلة والإعراب يبيّن معناها فقوله جلّ وعزّ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ عطف على الذين يعملون السيئات. وفي معناه ثلاثة أقوال: فأكثر الناس على أن معنى السيئات هاهنا لما دون الكفر أي ليست التوبة لمن عمل دون الكفر من السيئات ثم تاب عند الموت ولا لمن مات كافرا فتاب يوم القيامة، ويجوز أن يكون معنى «ولا الذين يموتون» ولا الذين يقاربون الموت، وقيل: الذين يعملون السيئات الكفار وغيرهم ثم خصّ الكفار كما قال جلّ وعزّ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرّحمن: 68] وقول ثالث يكون الذين يعملون السيئات الكفار فيكون المعنى وليست التوبة للكفار الذين يتوبون عند الموت ولا الذين يموتون وهم كفار.

_ (1) أخرجه أحمد في مسنده 5/ 313، ومسلم في صحيحه الحدود 12، 13، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 210، وابن كثير في تفسيره 2/ 204، والطبري في تفسيره 4/ 198.

[سورة النساء (4) : آية 19]

[سورة النساء (4) : آية 19] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً «1» أَنْ في موضع رفع أي وراثة النساء والنِّساءَ منصوبات على أحد معنيين يكون بمعنى أن ترثوا من النساء كما ترثون الأموال وقد رويا جميعا في التفسير. روى أبو صالح عن ابن عباس قال: لما مات أبو قيس بن الأسلت جاء ابنه فألقى على امرأة أبيه رداءه وقال: قد ورثتها كما ورثت ماله. وكان هذا حكمهم فإن شاء دخل بها بلا صداق وإن شاء زوّجها وأخذ صداقها فأنزل الله جلّ وعزّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً. وفي رواية أخرى كان الرجل يتزوج المرأة فإذا مات عنها قبل أن يدخل بها منعها ابنه من التزويج حتى يرث منها. كَرْهاً مصدر في موضع الحال. وَلا تَعْضُلُوهُنَّ يجوز أن يكون معطوفا وفي قراءة عبد الله ولا أن تعضلوهنّ «2» ويجوز أن يكون «كرها» تمام الكلام ثم ابتدأ النهي فقال: «ولا تعضلوهنّ» وذلك أن يكون عند الرجل امرأة لا يريدها فيعضلها أي لا يطلقها لتفتدي منه فذلك محظور عليه قال ابن السلماني: نزلت لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً في أمر الجاهلية ونزلت وَلا تَعْضُلُوهُنَّ في أمر الإسلام، وقال ابن سيرين وأبو قلابة لا يحل له أن يأخذ منها فدية إلّا أن يجد على بطنها رجلا قال الله جلّ وعزّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وقال الضحاك وقتادة: الفاحشة المبيّنة النشوز أي فإذا نشزت كان له أن يأخذ الفدية، وقول ثالث إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ إلا أن يزنين فيحبسن في البيوت فيكون هذا قبل النسخ «وأن» في موضع نصب على جميع الأقوال لأنها استثناء ليس من الأول. [سورة النساء (4) : آية 20] وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً مصدر في موضع الحال. وَإِثْماً معطوف عليه. مُبِيناً من نعته. [سورة النساء (4) : آية 21] وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ جملة في موضع الحال.

_ (1) هذه قراءة حمزة والكسائي، وباقي السبعة بفتح الكاف، انظر تيسير الداني 79. (2) انظر معاني الفراء 1/ 259، والبحر المحيط 3/ 213.

[سورة النساء (4) : آية 22]

[سورة النساء (4) : آية 22] وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ استثناء ليس من الأول. إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً خبر كان، ويجوز الرفع على إلغاء «كان» في غير القرآن. وَساءَ سَبِيلًا منصوب على البيان. [سورة النساء (4) : آية 23] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ جمع أمّهة يقال: أمّ وأمّهة بمعنى واحد وجاء القرآن بهما. أُمَّهاتُكُمْ اسم ما لم يسمّ فاعله يقوم مقام الفاعل. قال محمد بن يزيد: لأنه مع الفعل جملة كالفاعل ولا يستغني عنه الفعل كما لا يستغني عن الفاعل. وَبَناتُكُمْ عطف، جمع بنة والأصل بنية والمستعمل ابنة وبنت. قال الفراء: كسرت الباء من بنت لتدلّ الكسرة على حذف الياء. وَأَخَواتُكُمْ عطف جمع أخوة. وَعَمَّاتُكُمْ عطف عليه إلى قوله وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ «أن» في موضع رفع أي وحرّم عليكم الجمع بين الأختين إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ استثناء ليس من الأول. [سورة النساء (4) : آية 24] وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ عطف وقد بيّنا أنهنّ ذوات الأزواج. يقال: امرأة محصنة أي متزوجة ومحصنة أي حرّة ومنه وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [المائدة: 5] ومحصنة ومحصنة وحصان أي عفيفة كما قال حسان بن ثابت في عائشة رضي الله عنها: [الطويل] 95- حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل «1»

_ (1) الشاهد لحسان بن ثابت في ديوانه 228، والإنصاف 2/ 759، ولسان العرب (حصن) ، وتاج العروس (حصن) ، و (رزن) ، وبلا نسبة في إصلاح المنطق ص 289، ولسان العرب (غرت) .

[سورة النساء (4) : آية 25]

وأصل هذا من قولهم مدينة حصينة أي منيعة فالمحصنة ذات الزوج قد منعها زوجها أن تزوّج غيره والمحصنة الحرّة لأن الإحصان يكون بها والعفيفة الممتنعة من الفسق. إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ استثناء من موجب كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ مصدر على قول سيبويه نصبا، وقيل: هو إغراء أي الزموا كتاب الله ويجوز الرفع أي هذا فرض الله. وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أي كتب الله ذلك عليكم وأحلّ لكم ويقرأ وَأُحِلَّ لَكُمْ «1» ردّا على حرّمت عليكم ما وَراءَ ذلِكُمْ «2» مفعول. أَنْ تَبْتَغُوا بدل من «ما» ، ويجوز أن يكون المعنى لأن وتحذف اللام فتكون «أن» في موضع نصب أو خفض. مُحْصِنِينَ نصب على الحال. فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ شرط، والجواب فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً مصدر. [سورة النساء (4) : آية 25] وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا مفعول. أَنْ يَنْكِحَ في موضع نصب أي إلى أن ينكح وَالْمُحْصَناتِ الحرائر ولا الإماء فما ملكت أيمانكم فلينكح من هذا الجنس. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ابتداء وخبر ويجوز أن يكون مرفوعا بينكح بعضكم من بعض أي فلينكح هذا فتاة هذا فيكون مقدما ومؤخرا أي فمن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضكم من بعض من فتياتكم المؤمنات و «بعضكم» مرفوع بهذا التأويل محمول على المعنى. فَإِذا أُحْصِنَّ صحيحة عن ابن عباس وفسّرها: تزوّجن، وقال ابن مسعود: فَإِذا أُحْصِنَّ أي أسلمن، وقال عاصم الجحدري فَإِذا أُحْصِنَّ «3» أي أحصنّ أنفسهن. وهذا أحسن ما قيل في هذه القراءة، وقال هارون القارئ: حدّثنا معمر قال: سألت الزهريّ عن قوله «فإذا أحصنّ» أو «أحصنّ» فقال: القراءة «أحصنّ» ومعنى أحصنّ عففن: وقيل: أسلمن. قال أبو جعفر: وهذا غير معروف عن الزهري إلا من هذا الطريق ولا يصحّ له معنى لا يكون فإذا عففن فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ وكذا يبعد مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فإذا أسلمن والصحيح ما رواه عن الزهري قال: سألته عن الأمة تزني، فقال: إذا كانت متزوّجة جلدت بالكتاب فإذا كانت

_ (1) هذه قراءة السبعة عدا حمزة والكسائي، انظر تيسير الداني 79، والحجة لابن خالويه 58. (2) هذه قراءة حفص وحمزة والكسائي، انظر تيسير الداني 79. (3) قراءة حمزة والكسائي بفتح الهمزة والصاد والباقون بضم الهمزة وكسر الصاد، انظر تيسير الداني 79.

[سورة النساء (4) : آية 26]

غير متزوّجة جلدت بالسّنّة، وروى معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الأمة التي لم تحصن فقال: «إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها، ثم قال في الثالثة أو الرابعة وبيعوها ولو بضفير» «1» فهذا يبيّن أنّ الله عزّ وجلّ لمّا أوجب على الأمة إذا زنت وقد تزوّجت نصف حدّ الحرّة أشكل عليهم أمرها إذا لم تتزوج فسألوا عنه فأجيبوا أنّ عليها ما على المتزوجة فتبيّن من هذا أن الإحصان هاهنا التزويج، وقد قيل: إن المعنى فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب يعني به المتزوّجات وأن على المتزوّجة الحرّة إذا زنت ضرب مائة بكتاب الله جلّ وعزّ والرّجم بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والرّجم لا يتبعّض فوجب أن يكون عليها نصف الجلد. وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ابتداء وخبر أي الصبر خير لكم. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ابتداء وخبر. [سورة النساء (4) : آية 26] يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ أي ليبيّن لكم أمر دينكم وما يحلّ لكم وما يحرم عليكم وقال بعد هذا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء: 28] فجاء هذا بأن والأول باللام فقال الفراء «2» : العرب تأتي باللام على معنى كي في موضع أن في أردت وأمرت فيقولون: أردت أن تفعل وأردت لتفعل لأنهما يطلبان المستقبل، ولا يجوز ظننت لتفعل لأنك تقول: ظننت أن قد قمت. قال أبو إسحاق «3» : وهذا خطأ ولو كانت اللام بمعنى «أن» لدخلت عليها لام أخرى كما تقول: جئت كي تكرمني، ثم تقول: جئت لتكرمني وأنشدنا: [الطويل] 96- أردت لكيما يعلم النّاس أنّها ... سراويل قيس والوفود شهود «4» قال: والتقدير أراد به ليبيّن لكم. قال أبو جعفر: وزاد الأمر على هذا حتى سمّاها بعض القراء لام «أن» وقيل: المعنى يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم مثل وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى: 15] . وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قال بعض أهل النظر: في هذا دليل على أنّ كلّ ما حرّم قبل هذه الآية علينا قد حرّم على من كان

_ (1) أخرجه أحمد في مسنده 4/ 117، والبخاري في صحيحه 3/ 93 و 8/ 213، ومسلم في صحيحه- الحدود 32، وأبو داود في سننه 4469، والبيهقي في سننه 8/ 242. (2) انظر معاني الفراء 1/ 261. (3) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 497. [.....] (4) الشاهد لقيس بن سعد بن عبادة في خزانة الأدب 8/ 514، ولسان العرب (سرل) ، والكامل للمبرد 2/ 456، وبلا نسبة في رصف المعاني 215.

[سورة النساء (4) : الآيات 27 إلى 28]

قبلنا. قال أبو جعفر: وهذا غلط لأنه قد يكون المعنى ويبيّن لكم أمر من قبلكم ممن كان يجتنب ما نهي عنه، وقد يكون يبيّن لكم كما بيّن لمن قبلكم من الأنبياء ولا يومى به إلى هذا بعينه. [سورة النساء (4) : الآيات 27 الى 28] وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ابتداء وخبر وأن في موضع نصب بيريد وكذا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ اسم ما لم يسمّ فاعله «1» . ضَعِيفاً على الحال. ومعناه أنّ هواه يستميله وشهوته وغضبه يستخفّانه وهذا أشدّ الضعف فاحتاج إلى التخفيف. [سورة النساء (4) : آية 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ أي بالظلم ويدخل في هذا القمار وكلّ ما نهي عنه. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ «2» هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وقرأ الكوفيون تِجارَةً بالنصب. وهو اختيار أبي عبيد. قال أبو جعفر: النصب بعيد من جهة المعنى والإعراب. فأما المعنى فإن هذه التجارة الموصوفة ليس فيها أكل الأموال بالباطل فيكون النصب، وأما الإعراب فيوجب الرفع لأن «أن» هاهنا في موضع نصب لأنها استثناء ليس من الأول «وتكون» صلتها، والعرب تستعملها هاهنا بمعنى وقع فيقولون: جاءني القوم إلّا أن يكون زيد ولا يكاد النصب يعرف. وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ نهي: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً أي فبرحمته نهاكم عن هذا ومنع بعضكم من بعض. [سورة النساء (4) : آية 30] وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي من يقتل نفسه، ويجوز أن يكون المعنى من يفعل شيئا مما تقدّم النهي عنه. فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً حذفت الضمة من الياء لثقلها. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً اسم كان وخبرها. [سورة النساء (4) : آية 31] إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ جمع كبيرة وهمز الجمع لالتقاء الساكنين ولم يكن للياء

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه (25) . (2) انظر تيسير الداني 79.

[سورة النساء (4) : آية 32]

خطّ في التحريك فتحرّك. ومعنى اجتنبت الشيء تركته جانبا. نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ عطف، ويجوز في غير القرآن النصب على الصرف عند الكوفيين وبإضمار «أن» عند البصريين، ويجوز الرفع بقطعه من الأول. قرأ أبو عمرو وأكثر الكوفيين وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا وهو المصدر، وقرأ أهل المدينة وعاصم وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا «1» بمعنى فتدخلون مدخلا كريما. [سورة النساء (4) : آية 32] وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا نهى الله جلّ وعزّ عن الحسد. والعرب تقول: حسد فلان فلانا، إذا تمنّى أن يتحوّل إليه ماله والتقدير ولا تتمنّوا تحويل ما فضّل الله به بعضكم على بعض فإن تمنّى أن يكون له مثل ماله ولا يتحوّل عنه قيل غبطه ولم يقل حسده. وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ وقرأ الكسائي وسلوا «2» بلا همز ألقى حركة الهمزة على السين. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أي قد علم ما لكم فيه الصلاح فلا يحسد بعضكم بعضا. [سورة النساء (4) : آية 33] وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ إذا جاءت «كلّ» مفردة فلا بد من أن يكون في الكلام حذف عند جميع النحويين حتى إنّ بعضهم أجاز: مررت بكلّ يا فتى، مثل «قبل» و «بعد» ، وتقدير الحذف ولكلّ أحد جعلنا موالي، وجواب آخر أن يكون ولكلّ شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي أي ورّاثا أي أولى بالميراث والذين عاقدت أيمانكم «3» أي بالحلف، وقرأ حمزة وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ أي بالحلف، وقرأ حمزة. والّذين عقدت أيمانكم وهي قراءة بعيدة لأن المعاقدة لا تكون إلّا من اثنين فصاعدا فبابها فاعل، وقراءة حمزة تجوز على غموض من العربية يكون التقدير فيها والذين عقدتهم أيمانكم الحلف وتعدّى إلى مفعولين والتقدير عقدت لهم أيمانكم الحلف ثم حذف اللام مثل وَإِذا كالُوهُمْ [المطففين: 3] أي كالوا لهم وحذف المفعول الأول لأنه متصل في الصّلة. فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ فيه قولان: قال الحسن

_ (1) انظر تيسير الداني 79، وقرأ الباقون بضمّ الميم. (2) انظر تيسير الداني 79، والبحر المحيط 3/ 246. (3) هي قراءة السبعة سوى حمزة والكوفيين، انظر البحر المحيط 3/ 247.

[سورة النساء (4) : آية 34]

وقتادة هي منسوخة «1» بالمواريث، وقيل: هي منسوخة بقوله: أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأنفال: 75] وهذان واحد، والقول الآخر أنّ مجاهدا قال: معناه فآتوهم نصيبهم من النصر كما وعدتموهم أي ليست منسوخة. قال أبو جعفر: قول مجاهد أولى لأنه إذا ثبتت التلاوة لم يقع النسخ إلّا بإجماع أو دليل. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أي قد شهد معاقدتكم إياهم وهو جلّ وعزّ يحبّ الوفاء. [سورة النساء (4) : آية 34] الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ابتداء وخبر أي يقومون بالنفقة عليهنّ والذبّ عنهن يقال: قوّام وقيّم، بِما فَضَّلَ اللَّهُ «ما» مصدر فلذلك لم يحتج إلى عائد وفضّل الله جل وعز الرجال على النساء بجودة العقل وحسن التدبير. وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ في المهور حتى صرن لهم أزواجا وصارت نفقتهنّ عليهم. فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ ابتداء خبر. قال الفراء: وفي حرف عبد الله فالصالحات قوانت حوافظ. قال أبو جعفر: وهذا جمع مكسّر مخصوص به المؤنث بِما حَفِظَ اللَّهُ وفي قراءة أبي جعفر بما حفظ الله بالنصب. وقد ذكرناه، ولكن نشرحه بعناية الشرح هاهنا. الرفع أبين أي حافظات لمغيب أزواجهن بحفظ الله جلّ وعزّ وتسديده، وقيل: بما حفظهن الله في مهورهن وعشرتهن، وقيل: بما استحفظهن الله إياه من أداء الأمانات إلى أزواجهن، والنصب بمعنى بالشيء الذي حفظ الله أي بالدين أو العقل الذي حفظ أمر الله. وقيل: بحفظ الله أي بخوف مثل ما حفظت الله جلّ وعزّ، وقيل: التقدير بما حفظن الله ثم وحّد الفعل كما قال: [المتقارب] 97- فإنّ الحوادث أودى بها «2» وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ في موضع رفع بالابتداء، وتقديره على قول سيبويه «3» :

_ (1) انظر الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 105. (2) الشاهد للأعشى في ديوانه ص 221، وخزانة الأدب 11/ 430، وشرح أبيات سيبويه 1/ 477، وشرح شواهد الإيضاح 346، وشرح المفصل 5/ 95، ولسان العرب (حدث) و (ودي) ، والمقاصد النحوية 2/ 466، وبلا نسبة في الإنصاف ص 764، ورصف المباني 103، وشرح الأشموني 1/ 175، والكتاب 2/ 42. (3) انظر الكتاب 1/ 196.

[سورة النساء (4) : آية 35]

وفيما فرض عليكم، وعند غيره التقدير أنّ الخبر فَعِظُوهُنَّ وقيل: «اللاتي» في موضع نصب على قراءة من قرأ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] فقول أبي عبيدة والفراء «1» تخافون بمعنى توقنون وتعلمون مردود غير معروف في اللغة وتخافون على بابه أي تخافون أن يكون منهم هذا لما تقدّم. فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ فيه ثلاثة أقوال: فمنها أن يهجرها في المضجع أي وقت النوم، وقيل: المعنى وبيّنوا عليهنّ بكلام غليظ وتوبيخ شديد من قولهم: أهجر إذا أفحش لأن أبا زيد حكى: هجر وأهجر، وقال صاحب هذا القول: النشوز التنحية عن المضجع فكيف يهجرها فيما تنحّت عنه، والقول الثالث: إنّ حفص بن غياث روى عن الحسن بن عبيد عن أبي الضحى عن ابن عباس في قول الله جلّ وعزّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ «2» قال: هذا كلّه في أمر المضجع فإن رجعت إلى المضجع لم يضربها. قال أبو جعفر: وهذا أحسن ما قيل في الآية أي اضربوهنّ من أجل المضاجع كما تقول: هجرت فلانا في الكذب. [سورة النساء (4) : آية 35] وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما شرط. فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها جوابه. إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما قيل الضميران للحكمين لأنهما إذا أرادا الإصلاح قصدا الحق فوفّقهما الله جلّ وعزّ: وقيل: الضميران للزوجين لأنه لا يقال: حكم إلّا لمن يريد الصلاح، وقيل: الضمير الأول للحكمين والثاني للزوجين. [سورة النساء (4) : آية 36] وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) وَاعْبُدُوا اللَّهَ أمر فلذلك حذفت منه النون. وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً نهي. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مصدر. قال الفراء «3» : ويجوز وبالوالدين إحسان «4» ترفعه بالباء لأن الفعل لم يظهر. وَبِذِي الْقُرْبى خفض بالباء. وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 265، والبحر المحيط 3/ 252. (2) البحر المحيط 3/ 252. (3) انظر معاني الفراء 1/ 266، وهذه قراءة ابن أبي عبلة. (4) انظر معاني الفراء 1/ 267.

[سورة النساء (4) : آية 37]

عطف كلّه. قال الفراء «1» : وفي مصاحف أهل الكوفة العتق ذا القربى ويجب على هذا أن يقرأ والجار ذا القربى تنصبه على إضمار فعل وتنصب ما بعده. وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ قال الأخفش: الجار الجنب المجانب للقرابة أي ليس بينك وبينه قرابة، وحكى والجار الجنب وأنشد: 98- الناس جنب والأمير جنب «2» والجنب الناحية أي المتنحّي عن القرابة، وقال أبو عبد الرّحمن: سألت أبا مكوزة الأعرابي عن الصّاحب بالجنب فقال: هو الذي بجنبك، وكذا قال الأخفش هو الذي بجنبك. يقال: فلان بجنبك وإلى جنبك، وحكى الأخفش مفعلة والجار الجانب، وقال أبو عبد الرّحمن: سألت أبا مكوزة عن الجار الجنب فقال: هو الذي يجيء ويحلّ حيث يحل تقع عليه عينك. وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ في موضع خفض أي وأحسنوا بما ملكت أيمانكم. [سورة النساء (4) : آية 37] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ في موضع نصب على البدل من «من» ويجوز أن يكون في موضع رفع بدلا من المضمر الذي في فخور ويجوز أن يكون في موضع رفع فتعطف عليه وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ ويكون الخبر «إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة أي لا يظلمهم» . [سورة النساء (4) : آية 38] وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ يكون في موضع رفع على ما ذكرنا آنفا، ويجوز أن يكون في موضع نصب تعطفه على الذين إذا كان بدلا من من، ويجوز أن يكون في موضع خفض تعطفه على «الكافرين» . وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً شرط فلا يجوز حذف النون منه لأنها متحركة وأما المعنى فيكون «من قبل من الشيطان في الدنيا فقد قارنه» ، ويجوز أن يكون المعنى «من قرن به الشيطان في النار» . فَساءَ قَرِيناً منصوب على البيان أي فساء الشيطان قرينا. وقرين فعيل من الاقتران والاصطحاب كما قال: [الطويل]

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 267. [.....] (2) الشاهد في لسان العرب وتاج العروس (جنب) بلا نسبة.

[سورة النساء (4) : آية 39]

99- عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فإنّ القرين بالمقارن مقتدي «1» [سورة النساء (4) : آية 39] وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) وَماذا عَلَيْهِمْ «ما» في موضع رفع بالابتداء و «وذا» خبر «ما» و «ذا» بمعنى: الذي، ويجوز أن يكون «ما» و «ذا» اسما واحدا. [سورة النساء (4) : آية 40] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً اسم «تك» بمعنى تحدث، ويجوز أيضا أن تنصب حسنة على تقدير: وإن تك فعلته حسنة. يُضاعِفْها جواب الشرط. وَيُؤْتِ عطف عليه. مِنْ لَدُنْهُ في موضع خفض بمن إلّا أنها غير معربة لأنها لا تتمكّن و «عند» قد تمكّنت فنصبت وخفضت، وتمكّنها أنّك تقول: هذا القول عندي صواب ولا تقول: هذا القول لدي صواب. أَجْراً مفعول. عَظِيماً من نعته. [سورة النساء (4) : آية 41] فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا فتحت الفاء لالتقاء الساكنين. إِذا ظرف زمان والعامل فيه جِئْنا. وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً نصب على الحال. [سورة النساء (4) : آية 42] يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) يَوْمَئِذٍ ظرف، وإن شئت كان مبنيا و «إذ» مبنية لا غير والتنوين فيها عوض مما حذف. وَعَصَوُا الرَّسُولَ ضمّت الواو لالتقاء الساكنين، ويجوز كسرها. لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ «2» قال أبو جعفر: قد ذكرناه. وقيل: معناه لو لم يبعثوا، لأنهم لو لم يبعثوا لكانت الأرض مستوية عليهم لأنهم من التراب نقلوا. وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً «3» . قال أبو جعفر: قد ذكرناه، وذكرنا قول قتادة أن القيامة مواطن ومعناه أنهم لما تبيّن لهم وحوسبوا لم يكتموا. [سورة النساء (4) : آية 43] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى ابتداء وخبر في موضع نصب

_ (1) الشاهد في ديوان طرفة 153، وهو لعدي بن زيد في تفسير الطبري 5/ 88. (2) انظر القراءات في البحر المحيط 3/ 263. (3) انظر البحر المحيط 3/ 264.

على الحال، ويقال: سكارى «1» ولم ينصرف لأن في آخره ألف التأنيث. حَتَّى تَعْلَمُوا نصب بحتى. وَلا جُنُباً عطف على الموضع أي ولا تقربوا الصلاة جنبا. إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ نصب على الحال. قال الأخفش: كما تقول: لا تأتني إلّا راكبا. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا معنى الآية إلّا أنها مشكلة من أحكام القرآن فنزيدها شرحا. قال الضحاك: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى أي من النوم. وهذا القول خطأ من جهات: منها أنه لا يعرف في اللغة، والحديث على غيره ولا يجوز أن يتعبد النائم في حال نومه فثبت أن سكارى من السكر الذي هو شرب، وقوله حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ بدل على أنّ من كان يعلم ما يقول فليس سكران. وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ فيه قولان: أحدهما أنّ المعنى لا تصلّوا وقد أجنبتم، ويقال: أجنبتم وجنبتم وجنبتم إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ إلّا مسافرين فتتيّممون فتصلّون فيجب على هذا أن يكون الجنب ليس له أن يتيمّم إلّا أن يكون مسافرا. وهذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود رحمه الله، والقول الآخر: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ لا تقربوا موضع الصلاة وهو المسجد إلّا عابري سبيل إلّا جائزين كما قال عبد الله بن عمر أيتخطأ الجنب المسجد؟ فقال: نعم ألست تقرأ: «إلّا عابري سبيل» ، وهذا مذهب علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس وأنس بن مالك رحمهم الله أنّ للجنب أن يتيمّم في الحضر. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أي مرضى لا تقدرون معه على تناول الماء أو تخافون التلف من برد أو جراح. أَوْ عَلى سَفَرٍ لا تجدون فيه الماء أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ قد ذكرنا أنّ بعض الفقهاء قال «2» : «أو» بمعنى الواو وإنّما احتاج إلى هذا لأن المرض والسفر ليسا بحدثين والغائط حدث، والحذّاق من أهل العربية لا يجيزون أن يكون «أو» بمعنى الواو لاختلافهما فبعضهم يقول: في الكلام تقديم وتأخير والتقدير «لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء، وإن كنتم جنبا فاطهّروا» أي وإن كنتم جنبا وأردتم الصلاة. والتقديم والتأخير لا ينكر كما قال الله جلّ وعزّ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى [طه: 129] أي ولولا كلمة سبقت من ربّك وأجل مسمّى، وقال امرؤ القيس: [الطويل] 100- فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال «3» وقيل: في الكلام حذف بلا تقديم ولا تأخير، والمعنى: وإن كنتم مرضى أو

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه (26) . (2) انظر البحر المحيط 3/ 268. (3) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص 39، والكتاب 1/ 131، والإنصاف 1/ 84، وتذكرة النحاة 339، وخزانة الأدب 1/ 327، والدرر 2/ 110، 5/ 322، وشرح شواهد المغني 1/ 342، والمقاصد النحوية 3/ 35، وهمع الهوامع 2/ 110.

[سورة النساء (4) : آية 44]

على سفر وقد قمتم إلى الصلاة محدثين فتيمّموا صعيدا طيبا وكذا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 6] معناه إذا قمتم محدثين. أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ في معناه ثلاثة أقوال: منها أن يكون لمستم جامعتم ومنها أن يكون لمستم باشرتم ومنها أن يكون لمستم يجمع الأمرين جميعا ولامستم بمعناه عند أكثر الناس إلّا أنه حكي عن محمد بن يزيد أنه قال: الأولى في اللغة أن يكون لامستم بمعنى قبّلتم أو نظيره لأن لكل واحد منهما فعلا فقال: ولمستم بمعنى غشيتم ومسستم وليس للمرأة في هذا فعل. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا أي يقبل العفو وهو السهل. غَفُوراً للذنوب. ومعنى غفر الله ذنبه ستر عنه عقوبته فلم يعاقبه. [سورة النساء (4) : آية 44] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) أَلَمْ تَرَ حذفت الألف للجزم، والأصل الهمز فحذفت استخفافا. إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ في موضع نصب على الحال. وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ عطف عليه. [سورة النساء (4) : آية 45] وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ روي عن الحسن وأبي عمرو أنهما أدغما الميم في الباء «1» ، ولا يجوز ذلك لأن في الميم غنّة فلو أدغمتها لذهبت. وَكَفى بِاللَّهِ الباء زائدة زيدت لأن المعنى اكتفوا بالله وَلِيًّا على البيان، وإن شئت على الحال، وكذا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً. [سورة النساء (4) : آية 46] مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وقرأ أبو عبد الرّحمن والنخعي يحرّفون الكلام عن مواضعه «2» . قال أبو جعفر: والكلم في هذا أولى لأنهم إنما يحرّفون كلم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو ما عندهم في التوراة وليس يحرفون جميع الكلام. ومعنى يحرفون يتأولون على غير تأويله وذمهم الله جل وعز بذلك لأنهم يفعلونه متعمّدين. وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ نصب على الحال. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا قول ابن عباس: معناه لا سمعت وشرحه اسمع لا سمعت. هذا مرادهم ويظهرون أنّهم يريدون اسمع غير

_ (1) انظر تيسير الداني 80. (2) انظر مختصر ابن خالويه 26، وهي قراءة علي بن أبي طالب أيضا.

[سورة النساء (4) : آية 47]

مسمع مكروها ولا أذى، وأما قول الحسن: معناه غير مسمع منك أي غير مجاب إلى ما تقوله فلو كان كذا لكان في اللفظ غير مسموع منك. وَراعِنا قال الأخفش: أي وراعنا سمعك أي ارعنا، وقيل: يريدون بقولهم وراعنا أي وراعنا مواشينا استخفافا بمخاطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال أبو جعفر: وشرح هذا- والله أعلم- أنهم يظهرون بقولهم: راعنا أرعنا سمعك ويريدون المراعاة يدلّ على هذا قوله عزّ وجل: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ أي إنهم يلوون ألسنتهم أي يميلونها إلى ما في قلوبهم ويطعنون في الدين أي يقولون لأصحابهم: لو كان نبيا لدرى أنّا نسبّه فأظهر الله جلّ وعزّ النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك وكان من علامات نبوته، ونهاهم عن هذا القول. لَيًّا مصدر وإن شئت كان مفعولا من أجله وأصله لويا ثم أدغمت الواو في الياء. وَطَعْناً معطوف عليه. وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا «أنّ» في موضع رفع أي لو وقع هذا وقيل: إنّما وقعت «إنّ» في موضع الفعل لأنه لا بد من أن يكون بعدها جملة. [سورة النساء (4) : آية 47] يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ نصب على الحال. مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً ويقال: نطمس ويقال في الكلام: طسم يطسم ويطسم بمعنى طمس، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا اسم كان وخبرها. [سورة النساء (4) : آية 48] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ قال أبو جعفر: قد ذكرناه ونزيده بيانا. فهذا من المحكم وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ من المتشابه الذي قد تكلم فيه العلماء فقال بعضهم: كان هذا متشابها حتى بيّن الله جلّ وعزّ ذلك بالوعيد، وقال محمد بن جرير «1» : «قد أبانت هذه الآية أنّ كلّ صاحب كبيرة ففي مشيئة الله جلّ وعزّ، إن شاء عفا عنه ذنبه وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله جلّ وعزّ» . وقال بعضهم: قد بيّن الله جلّ وعزّ بقوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء: 31] فأعلم أنه يشاء أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر ولا يغفرها لمن أتى الكبائر، وقول ثالث أنّ المعنى في «لمن يشاء» لمن تاب ويكون إخبارا بعد إخبار أنه يغفر الشرك وجميع الذنوب لمن تاب «فأن» في موضع نصب بيغفر، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أن الله لا يغفر ذنبا مع أن يشرك به وبأن يشرك به، ويجوز على

_ (1) انظر تفسير الطبري 5/ 126.

[سورة النساء (4) : الآيات 49 إلى 50]

مذهب جماعة من النحويين على هذا الجواب أن يكون «أن» في موضع جرّ. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شرط وجوابه فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً أي اختلق ومنه افترى فلان على فلان أي رماه بما ليس فيه وفريت الشيء قطعته. [سورة النساء (4) : الآيات 49 الى 50] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أي يسمّيه مطيعا ووليا ثم عجب النبي صلّى الله عليه وسلّم من ذلك فقال: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه وهذه التزكية. وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً على البيان. [سورة النساء (4) : آية 51] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وهما كلّ ما عبد من دون الله جلّ وعزّ وإيمانهم بالجبت والطاغوت قولهم لمن عبد الأوثان: هؤُلاءِ أَهْدى من المؤمنين الموحّدين وقول ابن عباس: الجبت والطاغوت كعب بن الأشرف، وحييّ بن أخطب ليس بخارج من ذاك. وإنما هو على التمثيل لهما بالجبت والطاغوت لأنهم أطاعوهما في تكذيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. سَبِيلًا على البيان. [سورة النساء (4) : آية 52] أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ابتداء وخبر. [سورة النساء (4) : آية 53] أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ لأنهم أنفوا من اتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم، والتقدير أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته أم لهم نصيب من الملك، ودلّ على هذا الحذف دخول أم على أول الكلام لأنه قد علم أنّ قبلها شيئا محذوفا. فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً أي يمنعون الحقوق خبّر الله جلّ وعزّ بما يعلمه منهم. قال سيبويه: «إذن» «1» في عوامل الأفعال بمنزلة أظنّ في عوامل الأسماء أي تلغى إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها فإن كانت في أول الكلام وكان الذي بعدها مستقبلا نصبت لا غير، وإن كان قبلها فاء أو واو جاء الرفع والنصب فالرفع على أن تكون الفاء ملصقة بالفعل والنصب على أن تكون الفاء ملصقة بإذن، ويجوز على هذا في غير القرآن فإذن لا يؤتوا الناس نقيرا، والناصب للفعل عند سيبويه «إذا» لمضارعتها أن.

_ (1) انظر الكتاب 3/ 11.

[سورة النساء (4) : آية 54]

والناصب عند الخليل «أن» مضمرة بعد إذن ولا ينتصب فعل عنده إلّا بأن مظهرة أو مضمرة، وزعم الفراء «1» أن إذن تكتب بالألف وأنها منونة. قال أبو جعفر: وسمعت علي ابن سليمان يقول: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: أشتهي أن أكوي يد من يكتب إذن بالألف لأنها مثل «لن» و «أن» ، ولا يدخل التنوين في الحروف. [سورة النساء (4) : آية 54] أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ لأنهم حسدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم. فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ أي هم مقرّون بهذا فلم يحسدون من فضّله الله به؟ [سورة النساء (4) : آية 55] فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه قد تقدم ذكره وهو المحسود، ويكون به للقرآن لأنه قد تقدّم ذكره، ويكون به للكتاب. وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً أي لمن صدّ عنه. وسعير بمعنى مسعورة. [سورة النساء (4) : آية 56] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا اسم «إنّ» والخبر سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً. كُلَّما ظرف. نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بالإدغام لأن التاء من طرف اللسان والجيم من وسطه والإظهار أحسن لئلا تجتمع الجيمات. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا في معناه قولين يرجعان إلى معنى واحد، وهو أنّ المعنى إنا نعيد النضيج غير نضيج وإنما يقع الألم على النفس لأنها التي تحس وتعرف، ومثله كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الإسراء: 97] أي يعيد النضيج غير نضيج حتّى تسعر النار كما يقال: تبدّلت بعدنا أي تغيّرت. لِيَذُوقُوا منصوب بلام كي وهي بدل من «أن» . إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً أي لا يعجزه شيء ولا يفوته حَكِيماً في إيعاده عباده وفي جميع أفعاله. [سورة النساء (4) : آية 57] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ موضع الذين نصب على العطف على ما يجب من

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 273.

[سورة النساء (4) : آية 58]

اللفظ، وإن شئت كان رفعا وهو أجود على الموضع وإن شئت على الابتداء، والذين: غير معرب لأنه لو أعرب لأعرب وسط الاسم، وقيل: لأنه لا يقع إلّا لغائب وفتحت النون لأنه جمع وقيل: لأن قبلها ياء، وقيل: لأنها بمنزلة شيء ضمّ إلى شيء. وفيها لغات فاللغة التي جاء بها القرآن «الذين» في موضع الرفع والخفض والنصب، وبنو كنانة يقولون: الذون في موضع الرفع، ومن العرب من يقول: اللاذون في موضع الرفع والخفض، ومنهم من يقول: اللذيّون. وفي التثنية أربع لغات أيضا: يقال: اللذان بتخفيف النون، واللذانّ بتشديدها يشدّد عوضا مما حذف، وقيل ليفرق بينها وبين ما يحذف في الإضافة، ويقال: اللّذيّان بتشديد الياء، ويقال: اللّذا بغير نون وأنشد سيبويه: [الكامل] 101- أبني كليب إنّ عمّيّ اللّذا ... قتلا الملوك وفكّكا الأغلالا «1» وفي الواحد لغات يقال: جاءني الذي كلّمك، وجاءني اللذ كلمك بكسر الذال بغير ياء، واللّذ بإسكان الذال كما قال: 102- كاللّذ تزبّى زيبة فاصطيدا «2» ويقال: الذي بتشديد الياء وطيء تقول: جاءني ذو قال ذاك، بالواو، ورأيت ذو قال ذاك، ومررت بذو قال ذاك، بمعنى الذي. سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ مفعولان، ومذهب سيبويه «3» أنّ التقدير: في جنّات فحذفت «في» . تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ نعت لجنات. خالِدِينَ نعت أيضا لأنه قد عاد الذكر، وإن شئت كان نصبا على الحال. أَبَداً ظرف زمان. [سورة النساء (4) : آية 58] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ فعل مستقبل وإسكان الراء لحن. أَنْ تُؤَدُّوا في موضع نصب. والأصل بأن تؤدّوا، والمصدر تأدية. والاسم الأداء وقد ذكرنا نِعِمَّا في «سورة البقرة» «4» .

_ (1) الشاهد للأخطل في ديوانه ص 387، والأزهيّة 296، والاشتقاق 338، وخزانة الأدب 3/ 185، والدرر 1/ 145، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 536، وشرح التصريح 1/ 132، وشرح المفصّل 3/ 154، والمقتضب 4/ 146، وتاج العروس (لذي) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 362، وأوضح المسالك 1/ 140، وخزانة الأدب 8/ 210، ورصف المباني 341، وما ينصرف وما لا ينصرف 84، والمحتسب 1/ 185، والمنصف 1/ 67. (2) الشاهد بلا نسبة في الكامل 18، والخزانة 2/ 498، وصدره: «فأنت والأمر الذي قد كيدا» [.....] (3) انظر الكتاب 1/ 480. (4) انظر إعراب الآية 271- البقرة.

[سورة النساء (4) : آية 59]

[سورة النساء (4) : آية 59] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) ذلِكَ خَيْرٌ ابتداء وخبر. وَأَحْسَنُ عطف على خير. تَأْوِيلًا على البيان. [سورة النساء (4) : آية 60] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) يُرِيدُونَ في موضع نصب على الحال. أَنْ يَتَحاكَمُوا مفعول. إِلَى الطَّاغُوتِ قد ذكرنا قول الضحاك «1» : أنه يراد به كعب بن الأشرف وهذا عند أهل اللغة كلّ ما عبد من دون الله، ويروى أن تحاكمهم إلى الطاغوت أنهم كانوا يجيلون القداح فإذا أخرج القدح المكتوب عليه افعل أو لا تفعل قالوا قد حكم الطاغوت علينا بهذا يفعلون هذا بين يدي الأصنام. وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ أي بذلك ضَلالًا بَعِيداً محمول على المعنى أي فيضلون ضلالا بعيدا ومثله وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) [نوح: 17] . [سورة النساء (4) : آية 61] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً اسم للمصدر عند الخليل والمصدر الصدّ والكوفيون يقولون: هما مصدران. [سورة النساء (4) : آية 62] فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ أي من ترك الاستعانة بهم وما يلحقهم من الذلّ نحو فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التوبة: 83] . ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ حال، إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً «إن» بمعنى «ما» . [سورة النساء (4) : آية 63] أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ ابتداء وخبر. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تقبل عذرهم. وَعِظْهُمْ خوّفهم العقاب. وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً أي من الوعيد يبلغ منهم. وقد بلغ الرجل بلاغة ورجل بليغ يبلغ بلسانه كنه ما في قلبه، والعرب

_ (1) انظر إعراب آية 51- النساء.

[سورة النساء (4) : آية 64]

تقول: أحمق بلغ وبلغ أي نهاية في الحماقة، وقيل: معناه يبلغ ما يريد وإن كان أحمق. [سورة النساء (4) : آية 64] وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ «من» زائدة للتوكيد. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ «أنّ» في موضع رفع أي لو وقع هذا لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً أي قابلا لتوبتهم وهما مفعولان لا غير. [سورة النساء (4) : آية 65] فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) فَلا وَرَبِّكَ خفض بواو القسم وهي بدل من الباء لمضارعتها إياها وجواب القسم لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ نصب بحتى وعلامة النصب حذف النون. وقرأ أبو السمّال. فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ «1» بإسكان الجيم وهذا لحن عند الخليل وسيبويه «2» لا تحذف الفتحة عندهم لخفّتها. ورواه عروة بن الزبير عن أخيه عبد الله عن أبيه قال: خاصمني رجل من الأنصار إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم في ماء كنّا نسقي منه جميعا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «اسق يا زبير ثم خلّ لجارك، فقال الأنصاريّ: يا رسول الله أن كان ابن عمّتك. فتلوّن وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم» «3» . قال الزبير: ولا أحسب هذه الآية نزلت إلّا فيه فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ وبغير هذا الإسناد أن الأنصاري حاطب بن أب بلتعة. [سورة النساء (4) : آية 66] وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ضممت النون لالتقاء الساكنين واختير الضم لأن التاء مضمومة، وإن شئت كسرت على الأصل، وكذا أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ على البدل من الواو، وأهل الكوفة يقولون: على التكرير ما فعلوه ما فعله إلّا قليل منهم وقرأ عبد الله بن عامر وعيسى بن عمر ما فعلوه إلّا قليلا منهم نصبا «4»

_ (1) انظر البحر المحيط 3/ 296، وقال: «وكأنه فرّ من توالي الحركات، وليس تعوي لخفّة الفتحة بخلاف الضمة والكسرة» . (2) انظر الكتاب 4/ 231. (3) أخرجه البخاري 5/ 34 في المساقاة باب سكر الأنهار (3359) و (4585) ، ومسلم في الفضائل 4/ 1829، وذكره في البحر المحيط 3/ 296. (4) انظر تيسير الداني 80.

[سورة النساء (4) : آية 67]

على الاستثناء. والرفع أجود عند جميع النحويين، وإنّما صار الرفع أجود لأن اللفظ أولى من المعنى وهو يشتمل على المعنى. وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي في الدنيا والآخرة. وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً في أمورهم و «تثبيتا» على البيان. [سورة النساء (4) : آية 67] وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) أي ثوابا في الآخرة. [سورة النساء (4) : آية 68] وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) أي طريقا إلى الجنة. [سورة النساء (4) : آية 69] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ شرط والجواب فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ اتباع الأنبياء وَالشُّهَداءِ الذين قاموا بالقسط وشهدوا لله جلّ وعزّ بالحقّ، وقيل: المقتولون في سبيل الله، وقيل: إنما سمّي المقتول شهيدا لأنه شهد لله جلّ وعزّ بالحق وأقام شهادته حتى قتل، وقيل لأنه شهد كرامة الله جلّ وعزّ: وفيه قول ثالث أنه يشهد على العباد بأعمالهم يوم القيامة، ويقال: إن الشهداء عدول يوم القيامة. وقرأ أبو السّمّال العدويّ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «1» . قال أبو جعفر: وهذا جائز لنقل الضمة، وقال الأخفش «رفيقا» نصب على الحال وهو بمعنى رفقاء، وقال الكوفيون: هو نصب على التفسير لأن العرب تقول: حسن أولئك من رفقاء وكرم زيد من رجل، ودخول «من» يدلّ على أنه مفسّر ذلك الفعل. [سورة النساء (4) : آية 70] ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ابتداء وخبر أي ذلك الثواب العظيم تفضل من الله جلّ وعزّ لأنه قد أنعم عليهم في الدنيا فقد كان يجوز أن يكون ذلك النعيم بأعمالهم وفي الحديث «لا يدخل الجنة أحد بعمله» «2» ففيه جوابان: أحدهما هذا وأنه مثل الآية، والجواب الآخر أنه قد كانت لهم ذنوب وقد كان يجوز أن يجعل العمل جزاء الذنوب. [سورة النساء (4) : آية 71] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) فَانْفِرُوا ثُباتٍ على الحال. الواحد ثبة، ويقال لوسط الحوض: ثبة، وربما توهّم

_ (1) هي لغة تميم كما في البحر المحيط 3/ 301، وانظر مختصر ابن خالويه (26) . (2) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 256 و 3/ 494.

[سورة النساء (4) : آية 72]

الضعيف في العربية أنهما واحد وأن أحدهما من الآخر، وبينهما فرق، فثبة الحوض يقال في تصغيرها: ثويبة لأنها من ثاب يثوب، ويقال في ثبة الجماعة ثبيّة «1» . أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً نصب على الحال عند سيبويه. [سورة النساء (4) : آية 72] وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ اللام الأولى لام التوكيد والثانية لام القسم. و «من» في موضع نصب، وصلتها: لَيُبَطِّئَنَّ، لأن فيه معنى اليمين، والخبر مِنْكُمْ وقرأ مجاهد وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ «2» جاء موحّدا على اللفظ ولو كان قالوا لجاز وكذا في جميع الآية. وقرأ ابن كثير وعاصم من رواية حفص. [سورة النساء (4) : آية 73] وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ومن ذكّر جعل مودة بمعنى الودّ. فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً جواب التمني. [سورة النساء (4) : آية 74] فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) فَلْيُقاتِلْ أمر وحذفت الكسرة من اللام تخفيفا. الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وقد ذكرنا أن معنى يشترون يبيعون أي يبذلون أنفسهم وأموالهم لله بِالْآخِرَةِ أي بثواب الآخرة. وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ شرط. فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ عطف عليه. والمجازاة فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. [سورة النساء (4) : آية 75] وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في موضع نصب كما قال عزّ وجلّ: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر: 49] وَالْمُسْتَضْعَفِينَ قال محمد بن يزيد: أختار أن يكون المعنى: في المستضعفين لأن السبيلين مختلفان كأنّ سبيل المستضعفين خلاصهم. قال أبو إسحاق «3» : بل الاختيار أن يكون المعنى: وفي سبيل المستضعفين فإنّ خلاص

_ (1) انظر تاج العروس (ثبا) . (2) انظر البحر المحيط 3/ 302. (3) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 539.

[سورة النساء (4) : آية 76]

المستضعفين من سبيل الله جلّ وعزّ. الَّذِينَ يَقُولُونَ نعت للمستضعفين، ويجوز أن يكون نعتا للجميع المخفوضين بمن. مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها نعت للقرية وإن كان الفعل للضمير كما تقول: مررت بالرجل العاقل أبوه ولم يقل: الظالمين لأنه نعت يقوم مقام الفعل أي التي ظلم أهلها. وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا أي يستنقذنا منهم. وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً أي ينصرنا عليهم. [سورة النساء (4) : آية 76] الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) الَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ. يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فعل مستقبل في موضع الخبر، وكذا وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ قال أبو عبيدة والكسائي: الطاغوت يذكّر ويؤنث. قال أبو عبيدة: وإنما ذكّر وأنّث «1» لأنهم كانوا يسمون الكاهن والكاهنة طاغوتا. قال: وحدّثنا حجاج عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله وسئل عن الطاغوت التي كانوا يتحاكمون إليها فقال: كانت في جهينة واحدة وفي أسلم واحدة وفي كلّ حيّ واحدة. قال أبو إسحاق «2» : الدليل على أنه الشيطان قوله: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً. [سورة النساء (4) : آية 77] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ روي عن ابن عباس: إنّ قوما تمنّوا القتال قبل أن يؤذن فيه فنهاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما فرض كرهوه فأنزل الله جلّ وعزّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ... إلى آخرها. يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ الكاف في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف. أَوْ أَشَدَّ عطف على الكاف في موضع نصب، ويجوز أن يكون عطفا على خشية في موضع خفض. كَخَشْيَةِ على البيان. لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ الأصل «لما» حذفت الألف لأنها استفهام. لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ أي هلا ولا يليها إلّا الفعل. قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ ابتداء وخبر وكذا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى أي اتّقى المعاصي. [سورة النساء (4) : آية 78] أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)

_ (1) انظر تاج العروس (طغو) . (2) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 541. [.....]

[سورة النساء (4) : آية 79]

أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ شرط ومجازاة و «ما» زائدة. وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ على التكثير. يقال: شاد البنيان وأشاد بذكره. وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ شرط ومجازاة وكذا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ. قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ابتداء وخبر. فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً أي لا يعرفون معناه وتأويله، وقد بين الله جلّ وعزّ لهم فقال: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 152] واللام متصلة عند البصريين والفراء «1» لأنها لام خفض، وحكى ابن سعدان «2» انفصالها. [سورة النساء (4) : آية 79] ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ قال الأخفش: «ما» بمعنى الذي، وقيل: هو شرط. والصواب قول الأخفش لأنه نزل في شيء بعينه من الجدب وليس هذا من المعاصي في شيء ولو كان منها لكان وما أصبت من سيئة وروى مجاهد عن ابن عباس «ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك» وأنا كتبتها عليك وهذه قراءة على التفسير. وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا مصدر مؤكّد، ويجوز أن يكون المعنى ذا رسالة. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على البيان. [سورة النساء (4) : آية 81] وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ أي أمرنا طاعة أو منّا طاعة. قال الأخفش: ويجوز طاعة بالنصب أي نطيع طاعة. بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ فذكّر الطائفة لأنها في المعنى رجال، وأدغم الكوفيون التاء في الطاء لأنهما من مخرج واحد، واستقبح ذلك الكسائي في الفعل، وهو عند البصريين غير قبيح، وهي قراءة أبي عمرو «3» . فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أمر أي ثق به. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي ناصرا لك على عدوك وموثوقا به.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 278. (2) محمد بن سعدان النحوي، أبو جعفر الضرير، من أصحاب القراء. كان أحد القراء بقراءة حمزة (ت 231 هـ) . ترجمته في (طبقات الزبيدي 153) . (3) انظر تيسير الداني 83.

[سورة النساء (4) : آية 82]

[سورة النساء (4) : آية 82] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أي أفلا ينظرون في عاقبته وفي الحديث «لا تدبروا» «1» أي لا يولي بعضكم بعضا دبره، وأدبر القوم مضى أمرهم إلى آخره، ودلّ بهذا على أنه يجب التدبر للقرآن ليعرف معناه وكان في هذا ردّ على من قال: لا يؤخذ تفسير القرآن إلّا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا لأنه ليس من متكلّم يتكلّم بكلام كثير إلا وجد في كلامه اختلاف كثير إمّا في الوصف واللفظ وإما في جودة المعنى وإما في التناقض وإما في الكذب فأنزل جلّ وعزّ القرآن وأمر بتدبره لأنهم لا يجدون فيه اختلافا في وصف من العيوب ولا رذالة في معنى ولا تناقضا ولا كذبا فيما يخبرون به من علم الغيوب ما يسرّون. [سورة النساء (4) : آية 83] وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ في إذا معنى الشرط ولا يجازى بها والمعنى: أنهم إذا سمعوا شيئا من الأمور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم. أَوِ الْخَوْفِ وهو ضد هذا. أَذاعُوا بِهِ أي أظهروه وتحدّثوا به من قبل أن يقفوا على حقيقته فنهوا عن ذلك لما يلحقهم من الكذب والإرجاف. وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ وهم الأمراء لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي يستخرجونه بالمسألة وهذا مشتق من «النبط» وهو أول ما يخرج من ماء البئر أول ما يحفر وسمّي النبط نبطا لأنهم يستخرجون ما في الأرض. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ رفع بالابتداء والخبر عند سيبويه «2» ولا يجوز أن يظهر الخبر عنده، والكوفيون يقولون رفع بلولا. لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا في هذه الآية ثلاثة أقوال: قال أبو عبيد: التقدير أذاعوا به إلا قليلا، وهذا قول جماعة من النحويين قالوا لأن الأكثر من المستنبطين لا يعلمون. وقال أبو إسحاق «3» : بل التقدير «لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا» ، لأن هذا الاستنباط الأكثر يعرفه لأنه استعلام بخبر، وهذان قولان على المجاز، وقول ثالث بغير مجاز. يكون المعنى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بأن بعث فيكم رسولا أقام فيكم الحجة لكفرتم وأشركتم إلا قليلا منكم أي إنه كان يوحد.

_ (1) أخرجه الترمذي في سننه في البر والصلة 8/ 120. (2) انظر الكتاب 2/ 128. (3) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 547.

[سورة النساء (4) : آية 84]

[سورة النساء (4) : آية 84] فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هذه الفاء متعلقة بقوله: وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [النساء: 74] فقاتل في سبيل الله أي من أجل هذا فقاتل، ويجوز أن تكون متعلقة بقوله: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء: 75] . لا تُكَلَّفُ مرفوع لأنه فعل مستقبل ولم يجزم لأنه ليس علة للأول وزعم الأخفش أنه يجوز جزمه. إِلَّا نَفْسَكَ خبر ما لم يسم فاعله. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا إطماع، والإطماع من الله سبحانه واجب على أن الطمع قد جاء في كلام العرب على الوجوب وقد قيل منه وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء: 82] . وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً نصب على البيان وكذا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا. [سورة النساء (4) : آية 85] مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها قال الحسن «1» : من شفع في شيء فله أجر وإن لم يشفّع لأنّ الله جلّ وعزّ قال: «من يشفع» ولم يقل: من يشفع وفي الحديث «اشفعوا تؤجروا» «2» ويقضي الله جلّ وعزّ على لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلّم ما شاء، ويروى أنّ هذا نزل في اليهود وكانوا يدعون على المسلمين في الغيبة بالهلاك وفي الحضور بأن يقولوا: السلام عليكم فأنزل الله عزّ وجلّ: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وأتبع ذلك بقوله: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ وهي السلام. قال أبو موسى الأشعري «الكفل» النصيب. قال الكسائي: أصل الكفل مركب يهيّأ على ظهر البعير وهذا قول حسن. يقال: اكتفلت البعير إذا لفقت على موضع من ظهره كساء ثم ركبت البعير فإنما أخذت نصيبا من البعير. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً اسم كان وخبرها. قال أبو عبيدة «3» : «المقيت» الحافظ، وقال الكسائي «4» : المقيت المقتدر، وقول أبي عبيدة أولى لأنه مشتقّ من القوت والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان.

_ (1) انظر تفسير الطبري 5/ 186. (2) أخرجه أحمد في مسنده 4/ 404، والبيهقي في سننه 8/ 167، والبخاري في صحيحه 2/ 140، وأبو داود في سننه (5132) ، والنسائي في سننه 5/ 78، وابن كثير في تفسيره 2/ 324. (3) انظر مجاز القرآن 1/ 135. (4) انظر البحر المحيط 3/ 322، والبغوي 1/ 457، وفتح القدير 1/ 493.

[سورة النساء (4) : آية 86]

[سورة النساء (4) : آية 86] وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها لم ينصرف لأنه أفعل وهو صفة أي بتحية أحسن منها. قال ابن عباس: إذا قال سلام عليكم قلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته فهذا أحسن منها. أَوْ رُدُّوها وعليكم وهذا للكفار يعني الثاني، وقال غيره: لا يجوز أن يقال للكفار: وعليكم السلام كما لا يجوز أن يترحّم على ميتهم ولا حيّهم. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً قيل محاسبا كما قال: أكيل بمعنى مواكل، وقال مجاهد: «حسيبا» حفيظا، وقال أبو عبيدة «1» : كافيا. قال أبو جعفر: وهذا أبينها يقال: أحسبني الشيء أي كفاني ومنه حَسْبَكَ اللَّهُ [الأنفال: 64] وقد بيّنت أن هذا خطأ في الكتاب الآخر. [سورة النساء (4) : آية 87] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ابتداء وخبر. لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لأن الناس يقومون فيها لرب العالمين جل وعز، وقيل: لأن الناس يقومون من قبورهم إليها. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً على البيان. [سورة النساء (4) : آية 88] فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ روى شعبة عن عديّ بن ثابت عن عبد الله بن زيد عن زيد بن ثابت قال: تخلّف رجال عن أحد فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت فرقة: اقتلهم وقالت فرقة: اعف عنهم فأنزل الله جلّ وعزّ فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ. قال الضحاك: هؤلاء قوم تخلّفوا بمكّة وأظهروا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الإسلام وقالوا إن ظهر محمد فقد عرفنا وإن ظهر قومنا فهو أحبّ إلينا، فصار المسلمون فيهم فئتين قوم يتولونهم وقوم يتبرؤون منهم فقال الله جلّ وعزّ فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا فبين الله جلّ وعزّ كفرهم وأوجب البراءة منهم، وقال الأخفش «فئتين» على الحال «2» كما يقال: مالك قائما، وقال الكوفيون «3» : هو خبر ما لكم كخبر كان وظننت وأجازوا إدخال الألف واللام فيه، وحكى الفراء «4» : أركسهم أي ردّهم إلى الكفر. قال

_ (1) انظر مجاز القرآن 1/ 135. (2) عند البصريين كما في البحر المحيط 3/ 326. (3) انظر البحر المحيط 3/ 326. (4) قاله ابن عباس واختاره الفراء والزجاج، انظر البحر المحيط 3/ 326. [.....]

[سورة النساء (4) : آية 90]

أبو إسحاق: أي ردّهم إلى حكم الكفار. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي أن تهدوه إلى الثواب بأن يحكم له بأحكام المؤمنين. فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أي إلى الحجة. [سورة النساء (4) : آية 90] إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ استثناء من وَاقْتُلُوهُمْ ويروى أن هؤلاء قوم اتصلوا ببني مدلج وكانوا صلحا للنبي صلّى الله عليه وسلّم «يصلون» أي يتصلون. أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أي ضاقت وللنحويين فيه على هذه اللغة أربعة أقوال: قال الفراء «1» : أي قد حصرت فأضمر «قد» ، وقال محمد بن يزيد «2» : هو دعاء كما تقول: لعن الله الكافرين وقيل: هو خبر بعد خبر، والقول الرابع أن يكون حصرت في موضع خفض على النعت لقوم، وفي حرف أبيّ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق حصرت صدورهم ليس فيه أَوْ جاؤُكُمْ، وقرأ الحسن أو جاؤكم حصرة صدورهم «3» نصبا على الحال، ويجوز خفضه على النعت ورفعه «4» على الابتداء والخبر، وحكى أو جاؤكم حصرات صدورهم «5» ويجوز الرفع. يُقاتِلُوكُمْ في موضع نصب أي من أن يقاتلوكم. [سورة النساء (4) : آية 91] سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) قرأ يحيى بن وثّاب والأعمش «6» كلّما ردّوا إلى الفتنة بكسر الراء لأن الأصل رددوا فأدغم وقلب الكسرة على الراء ونظيره وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ [الانشقاق: 3] وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ [الانشقاق: 2] . فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وقعت إن على لم لأن المعنى للفعل الماضي فإن لم يعتزلوا قتالكم أي فإن تركوا قتالكم. وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ أي عن الحرب. وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً عليهم مقامه مقام المفعول الثاني. [سورة النساء (4) : آية 92] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 282. (2) انظر البحر المحيط 3/ 330. (3) وقرأ قتادة ويعقوب أيضا، انظر البحر المحيط 3/ 330. (4) انظر البحر المحيط 3/ 330. (5) انظر مختصر ابن خالويه (28) . (6) انظر البحر المحيط 3/ 330.

[سورة النساء (4) : آية 93]

وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً أَنْ في موضع رفع لأنه اسم كان. إِلَّا خَطَأً استثناء ليس من الأول وسيبويه «1» يقول «إلا» بمعنى لكن أي لكن إن قتله خطأ فعليه كذا، ولا يجوز أن يكون «إلا» بمعنى الواو ولا يعرف ذلك في كلام العرب ولا يصح في المعنى لأن الخطأ لا يحظر، وقرأ الأعمش إلّا خطاءا «2» ممدودا. وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي فعليه تحرير رقبة. وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا استثناء ليس من الأول أي إلا أن يصدق أهل المقتول بالدية على القاتل، وقرأ أبو عبد الرّحمن إلا أن تصّدّقوا «3» بالتاء، ويجوز على هذه القراءة إلا أن تصدّقوا بحذف التاء، ولا يجوز التخفيف مع الياء وفي حرف أبيّ إلا أن يتصدّقوا «4» . فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ مثل الروم. فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي فعلى القاتل تحرير رقبة. وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ قيل يراد به أهل الذمة وقيل يراد به المسلم يكون نسبة إلى أهل الذمّة والأولى أن يكون الضمير الذي في كان للمؤمن لأنه قد تقدّم ذكره. وروى يزيد بن زريع «5» عن يونس عن الحسن أنه قرأ وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن «6» . فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رفع بالابتداء، والخبر: فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي فعليه صيام شهرين متتابعين تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ مصدر، وإن شئت مفعولا من أجله، ويجوز الرفع أي ذلك توبة من الله إن الله كان عليما أي بما فيه مصلحة خلقه حَكِيماً أي بتدبير أمر عباده. [سورة النساء (4) : آية 93] وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً شرط، والجواب فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ والتقدير

_ (1) انظر الكتاب 2/ 328. (2) انظر البحر المحيط 3/ 334، وهي قراءة الحسن أيضا. (3) وهي قراءة الحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو أيضا، انظر البحر المحيط 3/ 337. (4) انظر البحر المحيط 3/ 337، وفيه «وفي حرف أبيّ وعبد الله، يتصدّقوا بالياء والتاء» . (5) يزيد بن زريع أبو معاوية البصري، حدّث عن أيوب السختياني وخالد الحذّاء. (ت 182 هـ) . ترجمته في تذكرة الحفاظ 256. (6) وبهذا قال مالك، انظر البحر المحيط 3/ 337.

[سورة النساء (4) : آية 94]

في العربية يجزه الله جهنم والدليل على هذا أنّ بعده. وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ أي عاقبه وَلَعَنَهُ أي باعده من رحمته وثوابه. [سورة النساء (4) : آية 94] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ويقرأ فتثبّتوا «1» ، وتبيّنوا في هذا أوكد لأن الإنسان قد يتثبّت ولا يتبيّن، وفي «إذا» معنى الشرط وقد يجازى بها كما قال: [الكامل] 103- وإذا تصبك خصاصة فتجّمل «2» والجيّد أن لا يجازى بها كما قال: [الكامل] 104- والنّفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع «3» وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً هكذا قرأ «4» ابن عباس وأبو عبد الرّحمن وأبو عمرو بن الغلاء وعاصم الجحدريّ، والحديث يدلّ على ذلك لأنه يروى أن مرداسا الفدكيّ مرّ بغالب فقال: السلام عليكم فقام إليه غالب فقتله وأخذ ماله فأنزل الله جلّ وعزّ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً. ومن جيّد ما قيل فيه ما رواه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس قال: مرّ المسلمون برجل في غنمه فقال: سلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنمه فنزلت وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً هكذا الحديث بالألف. وقرأ أهل الحرمين وأهل الكوفة لمن ألقى إليكم السّلم «5» وذلك جائز لأنه إذا سلم فقد ألقى السلم والعرب تقول: ألقى فلان إليّ السّلم أي انقاد واستسلم وقال الله جلّ وعزّ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ

_ (1) هذه قراءة حمزة والكسائي والباقون فتبيّنوا، انظر البحر المحيط 3/ 342. (2) الشاهد لعبد قيس بن خفاف في الدرر 3/ 102، وشرح اختيارات المفضل 1558، وشرح شواهد المغني 1/ 271، ولسان العرب (كرب) ، والمقاصد النحوية 2/ 203، ولحارثة بن بدر الغداني في أما لي المرتضى 1/ 383، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 335، وشرح الأشموني 3/ 583، وشرح عمدة الحافظ ص 374، ومغني اللبيب 1/ 93، وهمع الهوامع 1/ 206، وصدره: «واستغن ما أغناك ربّك بالغنى» [.....] (3) الشاهد لأبي ذؤيب في الدرر 3/ 104، وشرح اختيارات المفضّل ص 1693، وشرح أشعار الهذليين 1/ 7، وشرح شواهد المغني 1/ 262، ومغني اللبيب 1/ 93، وبلا نسبة في همع الهوامع 1/ 206. (4) انظر البحر المحيط 3/ 342. (5) وهي قراءة نافع وابن عامر وحمزة والكسائي أيضا، انظر تيسير الداني 83.

[سورة النساء (4) : آية 95]

[النحل: 87] وقرأ أبو رجاء ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم «1» بكسر السين وإسكان اللام، وقرأ أبو جعفر لَسْتَ مُؤْمِناً. فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ لم تنصرف لأنها جمع لا نظير له في الواحد. كَذلِكَ الكاف في موضع نصب. [سورة النساء (4) : آية 95] لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ هذه قراءة أهل الحرمين وزيد بن ثابت وغَيْرُ «2» نصب على الاستثناء، وإن شئت على الحال من الْقاعِدُونَ أي لا يستوي القاعدون في حال صحتهم، والحديث يدل على معنى النصب، روى أبو بكر بن عياش وزهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن البراء قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ادع لي زيدا وقل له يأتي بالكتف والدواة فقال له اكتب: لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله، فقال ابن أمّ مكتوم: وأنا ضرير، فما برحنا حتى أنزل الله عزّ وجلّ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ. وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ قال الأخفش: هو نعت للقاعدين، وقرأ حيوة غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «3» جعله نعتا للمؤمنين، ومحمد بن يزيد يقول هو بدل لأنه نكرة والأول معرفة. فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وقد قال بعد هذا: [سورة النساء (4) : آية 96] دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) دَرَجاتٍ فالجواب أن معنى «درجة» علوا أي أعلاهم ورفعتهم بالثناء والمدح والتقريظ، فهذا معنى درجة ودرجات يعني في الجنة. قال ابن محيرز سبعين درجة. وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى منصوب بوعد، وكلّ قيل: يعنى به المجاهدون خاصة، وقيل: يعنى به المجاهدون وأولو الضرر، وقيل: يعنى به المجاهدون والقاعدون وأولو الضرر لأنهم كلهم مؤمنون وإن كان بعضهم أفضل من بعض. وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً نصب بفضّل وإن شئت كان مصدرا «درجات» بدل من أجر، ويجوز الرفع أي ذلك درجات. [سورة النساء (4) : آية 97] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ اسم إن والخبر فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ. وتَوَفَّاهُمُ فعل

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه (28) . (2) انظر البحر المحيط 3/ 342 وقال: «أي: لا نؤمنك في نفسك» . (3) انظر تيسير الداني 83.

[سورة النساء (4) : آية 98]

ماض وجاء التذكير بمعنى الجميع، ويجوز أن يكون فعلا مستقبلا والأصل «تتوفّاهم» فحذفت إحدى التاءين. ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ نصب على الحال، والأصل ظالمين أنفسهم فحذفت النون وأضيف. قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ الأصل، «فيما» حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر لأن قبلها حرف خفض والوقوف عند أهل العربية فيه لئلا تحذف الألف والحركة ولأن فيها حرف خفض. [سورة النساء (4) : آية 98] إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ نصب على الاستثناء أي إلا المستضعفين على الحقيقة. لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً في موضع الحال أي غير مستطيعين وكذا وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. [سورة النساء (4) : آية 100] وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً شرط وجوابه. قال مجاهد «1» : المرغم: المتزحزح، وقال الضحاك: المراغم: المتحوّل، وقال الكسائي «2» : المراغم: المذهب، وقال أبو عبيدة: المراغم: المهاجر «3» . قال أبو جعفر: وهذه الأقوال متفقة المعاني فالمراغم هو المذهب والمتحوّل في حال هجرة وهو اسم للموضع الذي يراغم فيه وهو مشتق من الرّغام، ورغم أنف فلان أي لصق بالتراب وراغمت «4» فلانا هجرته وعاديته ولم أبال إن رغم أنفه رغم الله أمره. قال الضحاك: وَسَعَةً في الرزق وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ شرط. ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ عطف، ولا يجوز أن يكون جوابا لأن «ثم» يبعد الثاني معها من الأول والفاء يقرب فيها الثاني من الأول والجواب فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. [سورة النساء (4) : آية 101] وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) «أن» في موضع نصب أي في أن تقصروا. قال أبو عبيدة: فيها ثلاث لغات يقال: قصرت الصلاة وقصّرتها وأقصرتها. إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: فتنت الرجل وتميم وربيعة وقيس وأسد وجميع أهل نجد يقولون:

_ (1) وهي قراءة الأعمش أيضا، انظر البحر المحيط 3/ 344. (2) انظر البحر المحيط 3/ 35، وقال «قال مجاهد: المزحزح عمّا يكره» . (3) انظر معاني الفراء 1/ 284. (4) وهذا قول ابن زيد أيضا، انظر البحر المحيط 3/ 350.

[سورة النساء (4) : آية 102]

أفتنت الرجل. وفرق الخليل وسيبويه بينهما فقالا: فتنته جعلت فيه فتنة مثل عجلته وأفتنته جعلته مفتتنا، وزعم الأصمعي أنه لا يعرف أفتنته بالألف. [سورة النساء (4) : آية 102] وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ والأصل فلتقم حذفت الكسرة لثقلها وحكى الأخفش والكسائي والفراء «1» : أنّ لام الأمر ولام كي ولام الجحود يفتحن، وسيبويه «2» يمنع من هذا لعلّة موجبة وهي الفرق بين لام الجر ولام التوكيد. قال أبو إسحاق «3» : لا يلتفت إلى حكاية حاك لم يروها النحويون القدماء وإن كان الذي يحكيها صادقا فإن الذي سمعت منه مخطئ. وكذا وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ وكذا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً في موضع رفع إلا أنه مقصور «أن تضعوا» في موقع نصب أي في أن تضعوا. [سورة النساء (4) : آية 103] فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ حال. [سورة النساء (4) : آية 104] وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ نهي، وقرأ عبد الرّحمن الأعرج إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ «4» بفتح الهمزة أي لأن، وقرأ منصور بن المعتمر «5» إن تكونوا تيلمون «6»

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 258. (2) انظر الكتاب 3/ 4. (3) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 566. (4) انظر البحر المحيط 3/ 357، وقال «بفتح الهمزة على المفعول من أجله» . [.....] (5) منصور بن المعتمر أبو عتاب السلمي الكوفي، عرض على الأعمش، وروى عن مجاهد (ت 133 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 2/ 314. (6) وهي قراءة ابن وثاب أيضا، انظر البحر المحيط 3/ 357.

[سورة النساء (4) : آية 105]

بكسر التاء ليدلّ على أنه من فعل، ولا يجوز عند البصريين في تألمون كسر التاء لثقل الكسر فيها. [سورة النساء (4) : آية 105] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ لام كي، وروي عن الحسن وأبي عمرو أنهما أدغما الميم في الباء، ولا يجيز ذلك النحويون لأن في الميم غنّة. [سورة النساء (4) : آية 112] وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً شرط. ثُمَّ يَرْمِ بِهِ عطف عليه وفي الكلام حذف من الأول على مذهب سيبويه ويقال: ما الفرق بين الخطيئة والإثم وقد عطف أحدهما على الآخر ففي هذا أجوبة: منها أنهما واحد ولكن لما اختلف اللفظان جاز هذا، وقيل: قد تكون الخطيئة صغيرة والإثم لا يكون إلا كبيرة، وقال أبو إسحاق «1» : سمّى الله جلّ وعزّ بعض المعاصي خطايا وسمّى بعضها إثما فأعلم أنه من كسب معصية تسمّى خطيئة أو كسب معصية تسمّى إثما ثم رمى بها من لم يعملها وهو منها بريء فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً والبهتان الكذب الذي يتحيّر من عظمه وشأنه. [سورة النساء (4) : آية 113] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ ما بعد «لولا» مرفوع بالابتداء عند سيبويه «2» والخبر محذوف لا يظهر، والمعنى: ولولا فضل الله عليك ورحمته بأن نبّهك على الحقّ، لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ عن الحقّ لأنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبرّئ ابن أبيرق «3» من التّهمة ويلحقها اليهوديّ فتفضّل الله جلّ وعزّ على رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن نبّهه على ذلك وأعلمه إيّاه. وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأنهم يعملون عمل الضالين والله جلّ وعزّ يعصم رسوله صلّى الله عليه وسلّم. وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ لأنك معصوم. وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ حذفت الضمّة من النون للجزم وحذفت الواو لالتقاء الساكنين و «تعلم» في موضع نصب لأنه خبر «تكن» .

_ (1) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 572. (2) انظر الكتاب 2/ 128. (3) هو طعمة بن أبيرق الذي سرق الدرع ورماها في دار اليهودي (انظر الدر 2/ 117، والخازن 1/ 596) .

[سورة النساء (4) : آية 114]

[سورة النساء (4) : آية 114] لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ نجواهم في العربية على معنيين: أحدهما أنه يكون لما يتناجون به ويتداعون إليه. إذا كان على هذا «فمن» في موضع نصب لأنه استثناء ليس من الأول، أي لكن من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ودعا إليه ففي نجواه خير، ويجوز أن يكون «من» في موضع خفض، ويكون التقدير: إلّا في نجوى من أمر بصدقة، والمعنى الآخر أن النجوى تكون الجماعة المفردين فيكون (من) هذا في موضع خفض على البدل، وفي موضع نصب على قول من قال: ما مررت بأحد إلّا زيدا، ونجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه أي خلصته وأفردته والنجوة من الأرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله كما قال: [البسيط] 105- فمن بنجوته كمن بعقوته ... والمستكنّ كمن يمشي بقرواح «1» وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ شرط. ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ مفعول من أجله وهو مصدر وجواب الشرط. فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً حذفت الضمة من الياء لثقلها، ويجوز أن يؤتى به على الأصل في الشعر. [سورة النساء (4) : آية 115] وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ جزم لأنه شرط وظهر التضعيف لأن القاف الثانية في موضع سكون وإنما كسرت لئلا يلتقي ساكنان. قوله نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى جواب الشرط، وإن شئت حذفت الياء وتركت الكسرة تدلّ عليها، وإن شئت ضممت وأثبت الواو، وإن شئت حذفتها. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا علله. فأما إسكان الهاء فلا يجوز لخفائها وكذا وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً نصب على البيان. [سورة النساء (4) : آية 117] إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً مفعول وكذا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً قال أبو رجاء عن الحسن قال: كان في كل حيّ صنم يقال له أنثى بني فلان فقال الله جلّ

_ (1) الشاهد لعبيد بن الأبرص في ديوانه ص 15، ولسان العرب (قرح) و (نجا) ، وكتاب العين 3/ 44، ومجمل اللغة (نجو) ، وديوان الأدب 2/ 73، وتهذيب اللغة 11/ 201، وتاج العروس (قرح) ، وأمالي القالي 1/ 177، ولأوس بن حجر في ديوانه ص 16، والشعر والشعراء 214، والأغاني 11/ 75، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 5/ 398، والمخصص 9/ 103.

[سورة النساء (4) : آية 118]

وعزّ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ قال ابن عباس: مع كل صنم شيطانة، وقيل: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً لأن الحجارة مؤنّثة فذكرها الله جلّ وعزّ بالضعة لأن المذكر من كل شيء أرفع من المؤنث وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لأنه أمرهم بذلك فنسب الدعاء إليه مجازا لأنهم يطيعونه به. [سورة النساء (4) : آية 118] لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) لَعَنَهُ اللَّهُ من نعته ويجوز أن يكون دعاءا عليه. وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً قيل: من النصيب طاعتهم إياه في أشياء منها أنهم يضربون للمولود مسمارا عند ولادته ودورانهم به يوم أسبوعه يقولون: لتعرفه العمّار. [سورة النساء (4) : آية 119] وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ أي عن الحق. وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ أي طول الحياة والخير والتوبة والمغفرة مع الإصرار. وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ هذه لامات قسم والنون لازمة لها لأنه لا يقسم إلّا على المستقبل وأهل التفسير مجاهد وغيره يقولون معنى فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ دين الله وقد قيل: يراد به الخصاء وما تفعله الزنج والحبش من الآثار، وقيل: هو أنّ الله خلق الشمس والقمر والحجارة للمنفعة فحولوا ذلك وعبدوها من دون الله جلّ وعزّ. وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ يطيعه ويدع أمر الله. [سورة النساء (4) : آية 120] يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) يَعِدُهُمْ أي يعدهم الرياسة والجاه «1» والمال ليعصوا الله جلّ وعزّ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي خديعة. [سورة النساء (4) : آية 121] أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) ف أُولئِكَ مبتدأ. مَأْواهُمْ مبتدأ ثان. جَهَنَّمُ خبر الثاني والجملة خبر الأول. وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً أي ملجأ والفعل منه حاص يحيص. [سورة النساء (4) : آية 122] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ رفع بالابتداء والخبر. سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ وإن شئت كان في موضع نصب على إضمار فعل يفسّره ما بعده وذلك حسن لأنه معطوف.

_ (1) وهذه قراءة الحسن وشيبة بن نصاح والحكم والأعرج أيضا انظر البحر المحيط 3/ 371.

[سورة النساء (4) : آية 123]

وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ ابتداء وخبر. قِيلًا على البيان يقال: قيلا وقولا وقالا. [سورة النساء (4) : آية 123] لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ وقرأ أبو جعفر المدني لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ بتخفيف الياء فيهما جميعا، ومن أحسن ما روي فيه ما رواه الحكم ابن أبان عن عكرمة عن بن عباس قال: قالت اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان منا، وقالت قريش: ليس نبعث فأنزل الله جلّ وعزّ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ. مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قال: والسوء هنا الشرك، وقال الضحاك: السوء الكفر وما يجزى عليه مما لم يتب منه. [سورة النساء (4) : آية 124] وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ جزم بالشرط والمجازاة فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً عطف عليه. [سورة النساء (4) : آية 125] وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَمَنْ أَحْسَنُ ابتداء وخبر. وَلَهَدَيْناهُمْ على البيان. وَهُوَ مُحْسِنٌ ابتداء وخبر في موضع الحال وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا وقد ذكرنا معناه. ومن أحسن ما قيل فيه أن الخليل المختصّ اختصّه الله جلّ وعزّ في وقته للرسالة والدليل على هذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «وقد اتّخذ الله عزّ وجلّ صاحبكم خليلا» «1» يعني نفسه صلّى الله عليه وسلّم، وقال صلّى الله عليه وسلّم «لو كنت متّخذا خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا» «2» أي لو كنت مختصا أحدا بشيء لاختصصت أبا بكر. وفي هذا ردّ على من زعم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم اختصّ بعض أصحابه بشيء من أمر الدين. [سورة النساء (4) : آية 127] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127)

_ (1) أخرجه ابن ماجة في سننه 93. (2) أخرجه أحمد في مسنده 1/ 377، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 246، والترمذي في سننه (3659) ، ومسلم في صحيحه في فضائل الصحابة ب 1 رقم (2، 3، 4) وابن حجر في فتح الباري 7/ 17.

[سورة النساء (4) : آية 128]

ما في موضع رفع أي ويفتيكم القرآن. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ في موضع خفض لأنه عطف على اليتامى، وكذا وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ. [سورة النساء (4) : آية 128] وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً رفعت امرأة بإضمار فعل يفسره ما بعده وإنما يحسن هذا في ان لقوّتها في باب المجازاة وإذا كان الفعل ماضيا وهو يجوز في المستقبل في الشعر وأنشد سيبويه: [الخفيف] 106- وإذا واغل ينبهم يحيّوه ... وتعطف عليه كأس السّاقي «1» وقول من قال: خفت بمعنى تيقّنت خطأ. قال أبو إسحاق «2» : المعنى وإن امرأة خافت من بعلها دوام النشوز. قال أبو جعفر: الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز التباعد والإعراض أن لا يكلّمها ولا يأنس بها فلا جناح عليهما أن يصّالحا بينهما صلحا «3» هذه قراءة المدنيين وقرأ الكوفيون أَنْ يُصْلِحا «4» وقرأ عاصم (الجحدي) أن يصلحا «5» بفتح الياء وتشديد الصاد وفتحها، وقرءوا كلّهم صلحا إلا أنه روي عن الأعمش أنه قرأ إلّا أن يصلحا بينهما إصلاحا. قال أبو جعفر: وهذا كله محمول على المعنى كما يقال: هو يدعه تركا فمن قال: يصلحا فالمصدر إصلاحا على قوله وصلح اسم، ومن قال: يصّالحا فالمصدر إصلاحا، والأصل: تصالحا ثم أدغم ومن قال: يصّلحا فالأصل عنده يصطلحا اصطلاحا ثم يدغم ونظيره قول امرئ القيس: [الطويل] 107- ورضت فذلّت صعبة أيّ إذلال» وقال القطامي: [الوافر] 108- وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبّعه اتّباعا «7» لأن معنى تتبّعه وتتّبعه واحد. وللنحويين في هذا قولان: فمنهم من يقول: العامل فيه فعل محذوف والمعنى إلا أن يصّالحا بينهما فيصلح الأمر صلحا فعلى هذا

_ (1) الشاهد لعدي بن زيد في ديوانه ص 156، والإنصاف 2/ 617، وخزانة الأدب 3/ 46، والدرر 5/ 78، وشرح أبيات سيبويه 2/ 88، والكتاب 3/ 128، وبلا نسبة في شرح المفصّل 9/ 10، ولسان العرب (وغل) ، والمقتضب 2/ 76، وهمع الهوامع 2/ 59، وتاج العروس (وغل) ، وفي رواية «فمتى واغل» . (2) انظر إعراب القرآن ومعانيه ص 587. (3) هذه قراءة السبعة، انظر البحر المحيط 3/ 379. (4) هذه قراءة السبعة، انظر البحر المحيط 3/ 379. (5) هذه قراءة السبعة، انظر البحر المحيط 3/ 379. [.....] (6) مرّ الشاهد رقم (78) . (7) مرّ الشاهد رقم (77) .

[سورة النساء (4) : آية 129]

القول لا يكنى عن المصدر متّصلا، ومنهم من يقول العامل فيه الأول والكلام محمول على المعنى فهذا يكنى عنه متصلا، وهذا يقع مشروحا في باب الألف واللام. وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ابتداء وخبر. وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ أي تشح بما لها فيه من المنفعة. وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا أي وإن تؤثروا الإحسان والتقوى فتجملوا العشرة. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وإذا خبّره جازى عليه. [سورة النساء (4) : آية 129] وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ قيل: في القسمة واللّين والكسوة وقال الحسن والضحاك: في الحبّ والجماع «1» . فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ مصدر، وقال الحسن «2» والضحاك: ولا تمل إلى الشابّة وتترك الأخرى لا أيمّا فتتزوج ولا ذات زوج. فَتَذَرُوها منصوب لأنه جواب النهي. كَالْمُعَلَّقَةِ الكاف في موضع نصب. [سورة النساء (4) : آية 131] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ عطف على «الذين» . أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ في موضع نصب. قال الأخفش: أي بأن تتقوا الله. [سورة النساء (4) : آية 133] إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ شرط وجوابه وَيَأْتِ بِآخَرِينَ عطف على الجواب. [سورة النساء (4) : آية 134] مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) مَنْ كانَ يُرِيدُ في موضع نصب لأنه خبر كان. فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ رفع بالابتداء. [سورة النساء (4) : آية 135] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ نعت لقوّامين وإن شئت كان خبرا بعد خبر. وأجود من هذين أن يكون نصبا على الحال بما في قوامين من ذكر «الذين آمنوا» لأنه يصير المعنى كونوا قوامين بالعدل عند شهادتكم وحين شهادتكم ولم ينصرف لأن فيه ألف

_ (1) وهو قول عمر وابن عباس أيضا، انظر البحر المحيط 3/ 380 وتفسير الطبري 5/ 312. (2) انظر تفسير الطبري 5/ 316.

[سورة النساء (4) : آية 137]

التأنيث. وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي ولو كان الحق على أنفسكم. أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ عطف بأو. إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا خبر يكن واسمها فيها مضمر أي أن يكون المطالب غنيا، أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما ولم يقل به و «أو» إنما يدلّ على الحصول لواحد، ففي هذا للنحويين أجوبة قال الأخفش: تكون «أو» بمعنى الواو قال: ويجوز أن يكون التقدير إن يكن من تخاصم غنيّين أو فقيرين فقال: غنيا فحمله على لفظ من مثل وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [محمد: 16] والمعنى يستمعون. قال أبو جعفر: والقولان خطأ لا تكون «أو» بمعنى الواو ولا تضمر من كما لا يضمر بعض الاسم، وقيل إنما قال بهما لأنه قد تقدّم ذكرهما كما قال وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء: 12] . أَنْ تَعْدِلُوا في موضع نصب. وقرأ ابن عامر والكوفيون وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا «1» وقد ذكرناه، والفعل منه لوى والأصل فيه لوي قلبت الياء ألفا بحركتها وحركة ما قبلها والمصدر ليّا والأصل لويا وليّانا والأصل لويانا ثم أدغمت الواو وفي الحديث «ليّ الواجد يحلّ عقوبته وعرضه» «2» قال ابن الأعرابي: عقوبته حبسه وعرضه شكايته، وزعم بعض النحويين أنّ من قرأ (تلوا) بمعنى «تلووا» والأصل: تلؤوا همزت الواو كما يقال: أُقِّتَتْ فصار تلؤوا ثم خفّفت الهمزة فألقيت حركتها على اللام فوجب أن تحذف فصار تلو. [سورة النساء (4) : آية 137] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا اسم «إنّ» والخبر لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ويقال: الله لا يغفر شيئا من الكفر فكيف قال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ؟ فالجواب إنّ الكافر إذا آمن غفر له كفره فإذا رجع فكفر لم يغفر له الكفر الأول ومعنى «ثم ازدادوا كفرا» أصرّوا على الكفر. لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا أي طريقا إلى الجنّة وقيل: لا يخصّهم بالتوفيق كما يخصّ أولياءه. [سورة النساء (4) : الآيات 138 الى 139] بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ نعت للمنافقين وفي هذا دليل على أنّ من عمل معصية من الموحّدين ليس بمنافق لأنه

_ (1) هي قراءة حمزة أيضا، انظر البحر المحيط 3/ 386. (2) أخرجه أحمد في مسنده 4/ 222، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 51، وأبو داود في سننه 3628، والنسائي في سننه 7/ 316، والمتقي في كنز العمال (15439) .

[سورة النساء (4) : آية 140]

لا يتولّى الكافرين. أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ أي أيبتغون أن يعتزوا بهم. فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً نصب على الحال. [سورة النساء (4) : آية 140] وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر لأنّ من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم والرضى بالكفر كفر، قال الله جلّ وعزّ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ والأصل التنوين فحذف استخفافا. [سورة النساء (4) : آية 141] الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ نعت للمنافقين. فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ اسم كان وكذا وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ جاء على الأصل، ولو أعلّ لكان لم نستحذ والفعل على الإعلال استحاذ يستحيذ وعلى غير الإعلال استحوذ يستحوذ وفي حرف أبيّ ومنعناكم من المؤمنين «1» وهو محمول على المعنى لأن المعنى قد استحوذنا عليكم ويجوز أن يكون على حذف قد. وقد ذكرنا معنى وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا. [سورة النساء (4) : آية 142] إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ مجاز أي يخادعون أولياء الله. وَهُوَ خادِعُهُمْ أي معاقبهم، وإن شئت أسكنت الهاء فقلت «وهو» لأن الضمّة ثقيلة وقبل الكلمة واو، وحكي إسكان الواو وقرأ مسلمة بن عبد الله النحوي وَهُوَ خادِعُهُمْ «2» بإسكان العين، وقال محمد بن يزيد: هذا لحن لأنه زوال الإعراب. قال أبو جعفر: وقد أجاز سيبويه ذلك وأنشد: [الرجز] 109- إذا اعوججن قلت صاحب قوّم «3»

_ (1) انظر البحر المحيط 3/ 391، ومعاني الفراء 1/ 292. (2) انظر البحر المحيط 3/ 393، ومختصر ابن خالويه (29) . (3) مرّ الشاهد (22) .

[سورة النساء (4) : آية 143]

وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى في موضع نصب على الحال، وكذا يراءون الناس أي يرون الناس أنّهم يتديّنون بصلاتهم وقرأ ابن أبي إسحاق والأعرج يرؤّون الناس «1» على وزن يُدَعُّونَ [الطور: 13] ، وحكى أنها لغة سفلى مضر والقراءة الأولى أولى لإجماعهم على الذين هم يراءون، ويقال: فلان مراء وفعل ذلك رئاء الناس. وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا أي لا يذكرون الله جلّ وعزّ بقراءة ولا تسبيح وإنّما يذكرونه بالتكبير وبما يراءون به والتقدير: إلّا ذكرا قليلا. [سورة النساء (4) : آية 143] مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ أي مضطربين يظهرون لهؤلاء أنهم منهم ولهؤلاء أنهم منهم وفي حرف أبيّ متذبذبين «2» ويجوز الإدغام على هذه القراءة مُذَبْذَبِينَ بتشديد الذال الأولى وكسر الثانية وروي عن الحسن مذبذبين «3» بفتح الميم. [سورة النساء (4) : آية 144] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ مفعولان أي لا تجعلوهم خاصتكم وبطانتكم. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي في تعذيبه إياكم. [سورة النساء (4) : آية 145] إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ «4» وقرأ الكوفيون فِي الدَّرْكِ «5» والأول أفصح، والدليل على ذلك أنه يقال في جمعه: أدراك مثل جمل وأجمال. وقد ذكرنا أن الإدراك الطبقات والمنازل إلا أن استعمال العرب أن يقال لكل ما تسافل: أدراك، يقال للبئر: أدراك، ويقال لما تعالى: درج فللجنّة درج وللنار أدراك. [سورة النساء (4) : آية 146] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا استثناء فأولئك مع المؤمنين أي فأولئك يؤمنون مع المؤمنين. وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً مفعولان وحذفت الياء في المصحف من «يؤتي»

_ (1) انظر البحر المحيط 3/ 393، ومختصر ابن خالويه (29) . (2) انظر البحر المحيط 3/ 394. (3) وهي قراءة ابن عباس أيضا، انظر مختصر ابن خالويه (29) . (4) قرأ الحرميان والعربيان «في الدرك» انظر البحر المحيط 3/ 396. (5) وهي قراءة حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب، انظر البحر المحيط 3/ 396. [.....]

[سورة النساء (4) : آية 147]

لأنها محذوفة في اللفظ لالتقاء الساكنين، وأهل المدينة يحذفونها في الوقف ويثبّتون أمثالها في الإدراج، واعتلّ لهم الكسائي بأنّ الوقف موضع حذف، ألا ترى أنك تحذف الإعراب في الوقف «1» . [سورة النساء (4) : آية 147] ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ ما في موضع نصب والمعنى أن الله جلّ وعزّ لا ينتفع بعذابكم ولا بظلمكم فلم يعذّبكم إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً أي يشكر عباده على طاعته ومعنى يشكرهم يثيبهم. [سورة النساء (4) : آية 148] لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ أي لا يريد أن يجهر أحد بسوء من القول، وتمّ الكلام ثم قال جلّ وعزّ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ استثناء ليس من الأول في موضع نصب أي لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان بكذا، ويجوز أن يكون «من» في موضع رفع، ويكون التقدير لا يحبّ الله أن يجهر بالسوء إلا من ظلم، ويجوز إسكان اللام ومن قرأ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ «2» فلا يجوز له أن يسكن اللام لخفة الفتحة وتقديره ما يفعل الله بعذابكم إلا من ظلم. [سورة النساء (4) : آية 149] إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أي من القول السيئ. أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ أي أن تبدوا خيرا فهو خير من القول السّيئ أو تخفوه أو تعفوا عن سوء مما لحقكم فإنّ الله يعفو عنكم لعفوكم. [سورة النساء (4) : آية 150] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ اسم «إنّ» والجملة الخبر وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أي بين الإيمان بالله ورسله. وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وهم اليهود آمنوا بموسى صلّى الله عليه وسلّم وكفروا بعيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ ولم يقل: ذينك لأن ذلك يقع للإثنين كما قال جلّ وعزّ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة: 68] في سورة «البقرة» ، ولو كان ذينك لجاز، والمعنى ويريدون أن يتّخذوا بين الإيمان والجحد طريقا.

_ (1) انظر البحر المحيط 3/ 397. (2) انظر البحر المحيط 3/ 398.

[سورة النساء (4) : آية 151]

[سورة النساء (4) : آية 151] أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا لأنهم لا ينفعهم إيمانهم بالله جل وعز إذا كفروا برسوله وإذا كفروا برسوله فقد كفروا به جلّ وعزّ لأنه مرسل للرسول ومنزّل عليه الكتاب وكفروا بكل رسول مبشّر بذلك الرسول فلهذا، صاروا الكافرين حقا والتقدير قلت قولا حقا وما قبله يدلّ عليه. وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ولِلْكافِرِينَ يقوم مقام المفعول الثاني. [سورة النساء (4) : آية 152] وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) وَالَّذِينَ آمَنُوا ابتداء في موضع رفع، وإن شئت كان في موضع نصب بإضمار فعل يفسّره ما بعده. [سورة النساء (4) : آية 153] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً هم اليهود سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصعد إلى السماء وهم يرونه بلا كتاب وينزل ومعه كتاب تعنّتا له صلّى الله عليه وسلّم فأعلم الله جل وعز أن آباءهم قد تعنّتوا موسى صلّى الله عليه وسلّم بأكبر من هذا. فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً جهرة نعت لمصدر محذوف أي رؤية جهرة، وقول أبي عبيدة «1» : إن التقدير فقالوا جهرة في موضع الحال. وَأَرِنا «2» بإسكان الراء بعيدة في العربية لأنه حذف بعد حذف. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ أي بعظيم ما جاءوا به. ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي البراهين أنه لا معبود إلا الله جلّ وعزّ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً من الآيات التي جاء بها وسمّيت الآية سلطانا لأن من جاء بها قاهر بالحجة وهي قاهرة للقلوب بأن تعلم أنه ليس في قوى البشر أن يأتوا بمثلها. [سورة النساء (4) : آية 154] وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً على الحال. وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ «3» من عدا

_ (1) انظر مجاز القرآن 1/ 142. (2) راجع إعراب الآية 127- البقرة. (3) انظر البحر المحيط 3/ 403.

[سورة النساء (4) : آية 155]

تعدو، وتعدّوا، والأصل فيه تعتدوا، فأدغمت التاء في الدال، ولا يجوز إسكان العين ولا يوصل إلى الجمع بين ساكنين في هذا، والذي يقرأ بهذا إنما يروم الخطأ. [سورة النساء (4) : آية 155] فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ خفض بالباء و «ما» زائدة. وَكُفْرِهِمْ عطف وكذا وَقَتْلِهِمُ. [سورة النساء (4) : الآيات 157 الى 158] وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) كسرت «إنّ» لأنها مبتدأة بعد القول وفتحها لغة. رَسُولَ اللَّهِ بدل، وإن شئت على معنى أعني وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ رويت روايات في التشبيه الذي كان منها أن رؤساءهم لمّا فقدوا المسيح أخذوا رجلا فقتلوه ولبّسوه ثيابا مثل ثياب المسيح وصلبوه على خشبة مرتفعة ومنعوا الناس من الدنوّ منه لئلّا يفطن بهم ثم دفنوه ليلا، وقيل: كان المسيح صلّى الله عليه وسلّم محبوسا عند خليفة قيصر فاجتمعت اليهود إليه فتوهّم أنهم يريدون خلاصه فقال لهم: أنا أخلّيه لكم قالوا بل نريد قتله فرفعه الله جل وعز إليه أي حال بينهم وبينه فأخذ خليفة قيصر رجلا فقتله وقال لهم: قد قتلته خوفا منه فهو الذي شبّه عليهم، وقد يكون آمن به وأطلقه فرفع وشبّه عليهم بغيره ممّن قد استحق القتل في حبسه، وقد يكون امتنع من قتله لما رأى من الآيات قال الله جلّ وعزّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ تمّ الكلام. ثم قال جلّ وعزّ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ استثناء ليس من الأول في موضع نصب، وقد يجوز أن يكون في موضع رفع على البدل أي ما لهم به علم إلّا اتباع الظن، وأنشد سيبويه: [الرجز] 110- وبلدة ليس بها أنيس ... إلّا اليعافير وإلّا العيس «1» وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً نعت لمصدر وفيه تقديران: أبينهما أنّ التقدير قال الله جلّ وعزّ هذا قولا يقينا، والقول الآخر أن يكون المعنى وما علموه علما يقينا وروى الأعشى عن أبي بكر بن عياش عن عاصم:

_ (1) الشاهد لجران العود في ديوانه ص 97، وخزانة الأدب 10/ 15، والدرر 3/ 162، وشرح أبيات سيبويه 2/ 140، وشرح التصريح 1/ 353، وشرح المفصل 2/ 117، والمقاصد 3/ 107، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 91، والإنصاف 1/ 271، وأوضح المسالك 2/ 261، والجنى الداني 164، ورصف المباني ص 417، وشرح الأشموني 1/ 229، وشرح شذور الذهب 344.

[سورة النساء (4) : آية 159]

بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً بغير إدغام والإدغام أجود لقرب اللام من الراء وأنّ في الراء تكريرا فالإدغام فيها حسن. وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً أي قادرا على أن يمنع أولياءه من أعدائه ولا يمنعه من ذاك مانع ولا يغلبه غالب. حَكِيماً فيما يدبّره من أمور خلقه. [سورة النساء (4) : آية 159] وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ لأن أهل الكتاب فيه على ضربين منهم من كذّبه ومنهم من اتّخذه إلها فيضطرّ قبل موته إلى الإيمان به لأنه يتبيّن أنه كان على باطل إذا عاين وتقدير سيبويه «1» وإن من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمنن به، وتقدير الكوفيين وإن من أهل الكتاب إلّا من ليؤمننّ به، وحذف الموصول خطأ. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً أي على من كان فيهم. [سورة النساء (4) : آية 160] فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا قال أبو إسحاق: هذا بدل من فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [آية: 155] حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ نحو كل ذي ظفر وما أشبهه وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً أي صدّا كثيرا. [سورة النساء (4) : آية 162] لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ رفع بالابتداء. يُؤْمِنُونَ في موضع الخبر، والكوفيون يقولون: رفع بالضمير وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ، في نصبه ستة أقوال فسيبويه ينصبه على المدح أي وأعني المقيمين. قال سيبويه: هذا باب ما ينصب على التعظيم ومن ذلك المقيمين الصلاة وأنشد «2» : [البسيط] 111- وكلّ قوم أطاعوا أمر مرشدهم ... إلّا نميرا أطاعت أمر غاويها الظّاعنين ولمّا يظعنوا أحدا ... والقائلون لمن دار نخلّيها وأنشد «3» : [الكامل]

_ (1) انظر الكتاب 2/ 363. (2) البيتان لمالك بن خياط العكلي في شرح أبيات سيبويه 2/ 21، والكتاب 2/ 59، ولابن حماط العكلي في خزانة الأدب 5/ 42، وبلا نسبة في الإنصاف 2/ 470، ولسان العرب (ظعن) ، وتاج العروس (ظعن) . (3) مرّ البيتان في الشاهد رقم (33) .

[سورة النساء (4) : آية 163]

112- لا يبعدن قومي الذين هم ... سمّ العداة وآفة الجزر النّازلين بكلّ معترك ... والطّيبون معاقد الأزر وهذا أصحّ ما قيل في المقيمين، وقال الكسائي: وَالْمُقِيمِينَ معطوف على «ما» . قال أبو جعفر: وهذا بعيد لأن المعنى يكون ويؤمنون بالمقيمين، وحكى محمد بن جرير أنه قيل: إن المقيمين هنا الملائكة عليهم السلام لدوامهم على الصّلاة والتسبيح والاستغفار، واختار هذا القول، وحكى أنّ النصب على المدح بعيد لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر، وخبر الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ في أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً فلا ينتصب على المدح ولم يتمّ خبر الابتداء لأنه جعل «والمؤتون» عطفا وجعل الخبر ما ذكر. ومذهب سيبويه غير ما قال، وقيل: والمقيمين عطف على الكاف التي في قبلك أي من قبلك ومن قبل المقيمين وقيل: «والمقيمين» عطف على الكاف التي في أولئك وقيل: هو معطوف على الهاء والميم أي منهم ومن المقيمين. وهذه الأجوبة الثلاثة لا تجوز لأن فيها عطف مظهر على مضمر مخفوض، والجواب السادس أن يكون و «المقيمين» عطفا على قبلك ويكون المعنى ومن قبل المقيمين ثم أقام المقيمين مقام قبل كما قال وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وقرأ سعيد بن جبير وعاصم الجحدري والمقيمون الصلاة وكذا هو في حرف عبد الله بن مسعود فأما حرف أبيّ فهو فيه وَالْمُقِيمِينَ «1» كما في المصاحف. وَالْمُؤْتُونَ «2» فيه خمسة أقوال: قال سيبويه: وأما «المؤتون» فمرفوع بالابتداء. وقال: غيره: هو مرفوع على إضمار مبتدأ أي فهم المؤتون الزكاة، وقيل هو معطوف على المضمر الذي في المقيمين، وقيل: هو عطف على المضمر الذي في يؤمنون أي يؤمنون هم والمؤتون، والجواب الخامس أن يكون معطوفا على الراسخين. [سورة النساء (4) : آية 163] إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ انصرف نوح وهو اسم أعجمي لأنه على ثلاثة أحرف فخفّ فأما إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ فأعجمية وهي معرفة فلذلك لم ينصرف، وكذا يعقوب وعيسى وموسى إلا أن عيسى وموسى يجوز أن تكون الألف فيهما للتأنيث فلا ينصرفان في معرفة ولا نكرة. روي عن الحسن أنه قرأ ويونس «3» بكسر النون

_ (1) وهي قراءة عمرو بن عبيد وعيسى بن عمرو مالك بن دينار وعصمة عن الأعمش ويونس وهارون عن أبي عمرو أيضا، انظر البحر المحيط 3/ 411. (2) انظر البحر المحيط 3/ 412. (3) وهي قراءة نافع في رواية ابن جماز عنه أيضا، انظر البحر المحيط 3/ 413.

[سورة النساء (4) : آية 164]

وكذا يوسف بكسر السين يجعلهما من أنس وأسف ويجب على هذا أن ينصرفا ويهمزا ويكون جمعهما يأ أنس ويأ اسف ومن لم يهمز قال: يوانس ويواسف وحكى أبو زيد: يونس ويوسف. [سورة النساء (4) : آية 164] وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ بإضمار فعل أي وقصصنا رسلا لأنه معطوف على ما قد عمل فيه الفعل ومثله ما أنشد سيبويه «1» : [المنسرح] 113- أصبحت لا أحمل السّلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا والذّئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرّياح والمطرا ويجوز أن يكون وَرُسُلًا عطفا على المعنى لأن المعنى إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ إنا أرسلناك موحين إليك وأرسلنا رسلا قد قصصناهم عليك من قبل وفي حرف أبيّ ورسل «2» بالرفع. وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً مصدر مؤكّد، وأجمع النحويون على أنك إذا أكّدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا وأنه لا يجوز في قول الشاعر: [الرجز] 114- امتلأ الحوض وقال قطني «3» أن يقول: قال قولا فكذا لمّا قال: تكليما وجب أن يكون كلاما على الحقيقة من الكلام الذي يعقل. [سورة النساء (4) : آية 165] رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ على البدل من وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ ويجوز أن يكون على

_ (1) البيتان للربيع بن ضبع في أمالي المرتضى 1/ 255 وحماسة البحتري 201، وخزانة الأدب 7/ 384، وشرح التصريح 2/ 36، والكتاب 1/ 144، ولسان العرب (ضمن) ، والمقاصد النحوية 3/ 398، وبلا نسبة في الردّ على النحاة 114، وشرح المفصّل 7/ 105، والمحتسب 2/ 99. (2) انظر البحر المحيط 3/ 414. [.....] (3) الشاهد بلا نسبة في إصلاح المنطق ص 57، والإنصاف 130، وأمالي المرتضى 2/ 309، وتخليص الشواهد 111، وجواهر الأدب ص 151، والخصائص 1/ 23، ورصف المباني ص 362، وسمط اللآلي 475، وشرح الأشموني 1/ 57، وشرح المفصّل 1/ 82، وكتاب اللامات 140، ولسان العرب (قطط) و (قطن) ، ومجالس ثعلب ص 189، والمقاصد النحوية 1/ 361، ومقاييس اللغة 5/ 14، والمخصّص 14/ 62، وتهذيب اللغة 8/ 264، وكتاب العين 5/ 14، وبعده: «مهلا رويدا قد ملأت بطني»

[سورة النساء (4) : آية 166]

إضمار فعل، ويجوز نصبه على الحال أي كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ورسلا. [سورة النساء (4) : آية 166] لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ رفع وإن شئت شدّدت النون ونصبت. يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ والشاهد المبيّن لشهادته أن يبيّن، ويعلم ذلك. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً. [سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 168] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ اسم «إنّ» والجملة الخبر، وكذا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً مفعول ثان وقد حذفت منه «إلى» كما حذفت «من» في قوله وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الأعراف: 155] . [سورة النساء (4) : الآيات 169 الى 170] إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ بدل. فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ على مذهب سيبويه «1» وآتوا خيرا لكم، وعلى قول الفراء «2» نعت لمصدر محذوف أي إيمانا خيرا لكم، وعلى قول أبي عبيدة «3» : يكن خيرا لكم. [سورة النساء (4) : آية 171] يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) يا أَهْلَ الْكِتابِ نداء مضاف. لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ نهي والغلو والتجاوز في الظلم. إِنَّمَا الْمَسِيحُ رفع بالابتداء ف عِيسَى بدل منه وكذا ابْنُ مَرْيَمَ ويجوز أن يكون خبر الابتداء، ويكون المعنى إنما المسيح ابن مريم فكيف يكون إلها هو محدث

_ (1) انظر الكتاب 1/ 340، والبحر المحيط 3/ 416. (2) انظر معاني الفراء 1/ 295، والبحر المحيط 3/ 416. (3) وهو مذهب الكسائي أيضا، انظر البحر المحيط 3/ 416، ومجاز القرآن 1/ 143.

[سورة النساء (4) : آية 172]

ليس بقديم ويكون رَسُولُ اللَّهِ خبرا ثانيا. فَآمِنُوا بِاللَّهِ أي بأنه إله واحد خالق المسيح ومرسله. وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أي ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ قال سيبويه: ومما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره قوله: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ لأنك إذا قلت: انته فأنت تخرجه وتدخله في آخر وأنشد: [السريع] 115- فواعديه سرحتي مالك ... أو الرّبى بينهما أسهلا «1» ومذهب أبي عبيدة انتهوا يكن خيرا لكم. قال محمد بن يزيد: هذا خطأ لأنه لا يضمر الشرط وجوابه وهذا لا يوجد في كلام العرب، ومذهب الفراء أنه نعت لمصدر محذوف. قال علي بن سليمان: هذا خطأ فاحش لأنه يكون المعنى انتهوا الانتهاء الذي هو خير لكم. إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ ابتداء وخبر. سُبْحانَهُ مصدر. أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ في موضع نصب أي كيف يكون له ولد وولد الرجل مشبه له ولا شبيه لله جلّ وعزّ: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا بيان، وإن شئت حال ومعنى وكيل كاف لأوليائه. [سورة النساء (4) : آية 172] لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) ْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أي لن يأنف نْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ في موضع نصب أي من أن يكون عبدا لله لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ فدلّ بهذا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء صلوات الله عليهم وكذا وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ [هود: 31] . [سورة النساء (4) : آية 173] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ رفع بالابتداء والجملة الخبر، ويجوز أن يكون نصبا على إضمار فعل يفسره ما بعده وكذا وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا وقد ذكرنا معنى تسمية عيسى صلّى الله عليه وسلّم بالكلمة «2» . ومن أحسن ما قيل فيه أنّ عيسى صلّى الله عليه وسلّم لما كان يهتدى به صار بمنزلة كلام الله جلّ وعزّ الذي يهتدى به ولما كان يحيى به من موت الكفر قيل له روح الله جلّ وعزّ على التمثيل. [سورة النساء (4) : آية 174] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً أي يهتدى به من الضلالة فهو نور مبين أي واضح بين.

_ (1) الشاهد لعمر بن أبي ربيعة في خزانة الأدب 2/ 120، والكتاب 1/ 340، وله أو لغيره من الحجازيين في شرح أبيات سيبويه 1/ 428، وبلا نسبة في لسان العرب (وعد) . (2) انظر إعراب الآية 45- آل عمران.

[سورة النساء (4) : آية 175]

[سورة النساء (4) : آية 175] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ أي امتنعوا بكتابه عن معاصيه وإذا اعتصموا بكتابه فقد اعتصموا به، وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ أي إلى ثوابه. [سورة النساء (4) : آية 176] يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ فيها ثلاثة أقوال: منها أن الكلالة الميت الذي لا والد له ولا ولد، ومنها أنها الورثة الذين لا والد فيهم ولا ولد، وقيل: الكلالة المال. إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ رفع بإضمار فعل وجاز هذا لأن «إن» أصل حروف المجازاة وبعدها فعل ماض يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا في موضع نصب وقيل: خفض وفيه ثلاثة أقوال: قال الفراء «1» : أي لئلا تضلّوا وهذا عند البصريين خطأ لأن «لا» لا تحذف هاهنا، وقال محمد بن يزيد وجماعة من البصريين: التقدير كراهة أن تضلّوا ثم حذف وهو مفعول من أجله، والقول الثالث: أن المعنى يبيّن الله لكم الضلالة أي فإذا بيّن لكم الضلالة اجتنبتموها. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ابتداء وخبر أي بكل شيء من مصالح عباده في قسمة مواريثهم وغيرها ذو علم.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 297.

[5] شرح إعراب سورة المائدة

[5] شرح إعراب سورة المائدة [سورة المائدة (5) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (يا) للنداء وحروف النداء عند سيبويه «1» خمسة وهي: يا وأيا وهيّا وأي والألف. و «ها» للتنبيه و (أيّ) نداء مفرد والنعت لازم له ليبيّنه الَّذِينَ نعت لأيّ ويقال: «الّذون» . آمَنُوا صلة الذين والأصل «أأمنوا» فخفّفت الهمزة الثانية ولا يجوز الجمع بينهما في حرف واحد إلّا في فعّال. أَوْفُوا مجزوم عند الكوفيين وأضمروا اللام، وغير معرب عند البصريين لأنه لا يضارع. بِالْعُقُودِ خفض بالباء وهو جمع عقد يقال: عقدت الحبل والعهد وأعقدت العسل ووجب بهذا أن يوفى بكل يمين وأمان وبيع واجارة إذا لم يكن حراما. أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ اسم ما لم يسمّ فاعله أي أحل لكم أكلها والانتفاع بها. وبنو تميم يقولون: «بهيمة» «2» . إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في موضع نصب بالاستثناء، وهو عند سيبويه «3» بمنزلة المفعول، وعند أبي العباس بمعنى استثنيت. قال أبو إسحاق «4» : لا يجوز إلا ما قاله سيبويه والذي قال أبو العباس لا يصحّ، وزعم الفراء «5» : أنه يجوز الرفع بجعلها «إلا» العاطفة والنصب عنده بإن. غَيْرَ مُحِلِّي نصب على الحال مما في أوفوا. قال الأخفش: أي يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد، وقال غيره: حال من الكاف والميم، والتقدير: أحلّت لكم بهيمة الأنعام غير محلى الصيد، والأصل محلّين حذفت

_ (1) انظر الكتاب 2/ 234. (2) انظر مختصر ابن خالويه 31، وهذه قراءة أبي السمال. (3) انظر الكتاب 2/ 346. (4) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 617. (5) انظر معاني الفراء 1/ 298.

[سورة المائدة (5) : آية 2]

النون استخفافا وحذفت الياء في الوصل لالتقاء الساكنين. وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ابتداء وخبر. إِنَّ اللَّهَ اسم «إنّ» يَحْكُمُ في موضع الخبر أي بين عباده. [سورة المائدة (5) : آية 2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وهي العلامات وقيل هي البدن المشعرة أي المعلمة أي لا تستحلّوها قبل محلّها وقيل هي العلامات التي بين الحلّ والحرم لا تتجاوزوها غير محرمين. وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ عطف، وكذا وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ قيل: هذا كلّه منسوخ وقيل حرّم عليهم أن يمسوا الهدي والقلائد قبل محلّ الهدي وروي عن الأعمش ولا آمّي البيت الحرام «1» بحذف النون والإضافة. يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ في موضع نصب أي مبتغين، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ بضم الياء. قال الكسائي: هما لغتان ولا يعرف البصريون الضم في هذا المعنى وإنما يقال ذلك في الإجرام أَنْ صَدُّوكُمْ في موضع نصب مفعول من أجله أي لأن صدّوكم، وقرأ أبو عمرو وابن كثير أَنْ صَدُّوكُمْ «2» بكسر إن وهو اختيار أبي عبيد وروي عن الأعمش إن يصدّوكم «3» وهذه القراءة لا تجوز بإجماع النحويين إلّا في شعر على قول بعضهم لأن «إن» إذا عملت فلا بدّ في جوابها من الفاء والفعل وإن كان سيبويه قد أنشد: [الرجز] 116- إنّك إن يصرع أخوك تصرع «4» فإنّما أجازه في الشعر وقد ردّ عليه قوله فأما «إن صدّوكم» بكسر «إن» فالعلماء الجلّة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء منها أنّ هذه الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان وكان المشركون صدّوا المؤمنين عام الحديبية سنة ستّ فالصدّ كان قبل الآية وإذا قرئ بالكسر لم يجز أن يكون إلا بعده كما تقول: لا تعط فلانا شيئا إن قاتلك فهذا لا يكون إلّا للمستقبل وإن فتحت كان للماضي فوجب على هذا ألّا يجوز إلا أن صدّوكم، وأيضا فلو لم يصح هذا الحديث لكان الفتح واجبا لأن قوله تعالى:

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 31، ومعاني الفراء 1/ 299 والبحر المحيط 3/ 435 (وهي قراءة عبد الله وأصحابه) . (2) انظر تيسير الداني 82. [.....] (3) انظر المحتسب 1/ 206. (4) مرّ الشاهد رقم (85) .

[سورة المائدة (5) : آية 3]

لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ إلى آخر الآية يدلّ على أنّ مكة كانت في أيديهم وأنّهم لا ينهون عن هذا إلّا وهم قادرون على الصدّ عن البيت الحرام فوجب من هذا فتح «أن» لأنه لما مضى وأيضا فلو كان للمستقبل لكان بعيدا في اللغة لأنك لو قلت لرجل يخاف من آخر الشتم والضرب والقتل: لا تغضب إن ضربك فلان لكان بعيدا لأنك توهم أن يغضب من الضرب فقط. أَنْ تَعْتَدُوا في موضع نصب لأنه مفعول به أي لا يكسبنّكم شنآن قوم الاعتداء، وأنكر أبو حاتم وأبو عبيد «شنان» بإسكان النون لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة وخالفهما غيرهما وقال: ليس هذا مصدرا ولكنه اسم فاعل على وزن كسلان وغضبان قال الأخفش: ثم قال عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى فقطعه من أول الكلام. إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ اسم انّ وخبرها. [سورة المائدة (5) : آية 3] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ اسم ما لم يسمّ فاعله وما بعده عطف عليه، ويجوز فيما بعده النصب بمعنى وحرّم الله عليكم الدم، والأصل في دم فعل يدلّ على ذلك قول الشاعر: [الوافر] 117- جرى الدميان بالخبر اليقين «1» وهو من دمي يدمى مثل: حذر يحذر، وقيل: وزنه فعل بإسكان العين. وَالنَّطِيحَةُ بالهاء وإن كانت مصروفة عن مفعولة لأنه لم يتقدّمها اسم. وكذا يقول: خضيبة فإن ذكرت مؤنّثا قلت: رأيت كفّا خضيبا هذا قول الفرّاء، والبصريون يقولون: جعلت اسما فحذفت منها الهاء كالذبيحة، وقيل: هي بمعنى ناطحة قال الفراء: أهل نجد يقولون «السبع» فيحذفون الضمة. إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ في موضع نصب بالاستثناء وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ وحقيقته في اللغة تستدعوا القسم بالقداح. قال الأخفش وأبو عبيدة: واحد الأزلام زلم وزلم. ذلِكُمْ فِسْقٌ ابتداء وخبر. الْيَوْمَ ظرف والعامل فيه يئس والتقدير اليوم يئس الذين كفروا من تغيير دينكم وردّكم عنه لما رأوا من استبصاركم بصحّته واغتباطكم به. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فدلّ بهذا على أن الإيمان والإسلام أشياء كثيرة، وهذا خلاف قول المرجئة. فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ (من) في موضع رفع

_ (1) مرّ الشاهد رقم (13) .

[سورة المائدة (5) : آية 4]

بالابتداء، والتقدير فإنّ الله له غفور رحيم ثم حذف له وأنشد سيبويه: [الرجز] 118- قد أصبحت أمّ الخيار تدّعى ... عليّ ذنبا كلّه لم أصنع «1» اضْطُرَّ في موضع جزم بالشرط إلّا أنه فعل ماض لا يعمل فيه عامل، ويجوز كسر النون وضمّها، وقرأ ابن محيصن فمن اطّرّ «2» وهو لحن لأن الضاد فيها تفش فلا تدغم في شيء. غَيْرَ مُتَجانِفٍ «3» على الحال، وإن شئت كسر النون في «فمن» على أصل التقاء الساكنين. [سورة المائدة (5) : آية 4] يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ ما في موضع رفع بالابتداء، والخبر الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وذا زائدة، وإن شئت كان بمعنى الذي وكان الخبر قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وهو الحلال، وكل حرام فليس بطيب، وقيل: الطيب ما التذّه أكله وشاربه ولم يكن عليه منه ضرر في الدنيا ولا في الآخرة. وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ قال الأخفش: واحدتها جارحة. مُكَلِّبِينَ نصب على الحال. فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ الأصل أمسكنه وحذفت الهاء لطول الاسم وفي هذا وفيما قبله دليل على أنه أن أكل الجارحة لم يؤكل منه. وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الذكر باللسان، وقيل: بالقلب والذي توجبه اللغة أن يكون باللسان حقيقة وبالقلب مجازا. [سورة المائدة (5) : آية 5] الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) مُحْصِنِينَ. نصب على الحال. غَيْرَ مُسافِحِينَ مثله، وإن شئت كان نعتا. وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ عطف على مسافحين ولا يجوز أن يكون معطوفا على محصنين. وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ شرط والجواب فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. قال أبو إسحاق «4» : أي من بدل شيئا مما

_ (1) الشاهد لأبي النجم العجلي في تخليص الشواهد 281، والكتاب 1/ 138، وخزانة الأدب 1/ 359، والدرر 2/ 13، وشرح أبيات سيبويه 1/ 14، وشرح شواهد المغني 2/ 544، وشرح المفصل 6/ 90، والمحتسب 1/ 211، ومعاهد التنصيص 1/ 147، والمقاصد النحوية 4/ 224، وبلا نسبة في الخصائص 2/ 61، وشرح المفصل 2/ 30 والمقتضب 4/ 252، وهمع الهوامع 1/ 97. (2) انظر البحر المحيط 3/ 442 (بإدغام الضاد في الطاء) . (3) وقرأ أبو عبد الرّحمن والنخعي وابن وثاب (متجنف) بدون ألف، انظر البحر المحيط 3/ 442. (4) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجّاج 630.

[سورة المائدة (5) : آية 6]

أحلّه الله فجعله حراما أو حرّم شيئا مما أحلّه الله فقد حبطت أعماله أي لا يثاب عليها. وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ لا يجوز أن يكون الظرف متعلقا بالخاسرين فيدخل في الصلة ولكنه متعلّق بالمصدر، وقد ذكرنا نظيره فيما تقدّم «1» وأما قول مجاهد رواه عنه ابن جريج في قول الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ قال «بالله» فمعناه من كفر بالإيمان كفر بالله وحبط عمله والدليل على ذلك أنّ سفيان روى عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد قال: «الإيمان قول وعمل يزيد وينقص» «2» . [سورة المائدة (5) : آية 6] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ قال زيد بن أسلم: أي إذا قمتم من النوم إلى الصلاة وقال غيره: في الكلام حذف أي إذا قمتم إلى الصلاة وقد أحدثتم وقيل كان واجبا أن يتهيّأ للصلاة كلّ من قام إليها ثم نسخ ذلك. وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ «3» فمن قرأ بالنصب جعله عطفا على الأول أي واغسلوا أرجلكم، وقد ذكرنا الخفض «4» إلا أنّ الأخفش وأبا عبيدة «5» يذهبان إلى أنّ الخفض على الجوار «6» والمعنى للغسل. قال الأخفش: ومثله: «هذا جحر ضب خرب» وهذا القول غلط عظيم لأن الجوار لا يجوز في الكلام أن يقاس عليه وإنما هو غلط ونظيره الأقواء. ومن أحسن ما قيل أنّ المسح والغسل واجبان جميعا والمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب، والقراءتان بمنزلة آيتين وفي الآية تقديم وتأخير على قول بعضهم قال: التقدير: إذا قمتم إلى الصلاة أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى

_ (1) مرّ في إعراب الآية 130 سورة البقرة. (2) الحديث في إتحاف السادة المتقين 9/ 152، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي 5/ 419، واللئالئ المصنوعة للسيوطي 1/ 19، وتنزيه الشريعة لابن عراق 1/ 150، وميزان الاعتدال 2117، 8658. (3) هذه قراءة نافع وابن عامر وحفص، انظر البحر المحيط 3/ 452، وتيسير الداني 82. (4) (وأرجلكم) : بالخفض هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحمزة وأبي بكر، وأنس وعكرمة والشعبي والباقر وقتادة وعلقمة والضحاك. (5) انظر مجاز القرآن 1/ 155. (6) انظر إعراب القرآن للزجاج 631.

[سورة المائدة (5) : آية 7]

الكعبين. وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً أي ذوي جنب لأن جنبا مصدر وهو واحد فإن جمعته قلت: جنوب وأجناب وجناب. وحكى ثعلب ومحمد بن جرير: أجنب الرجل وجنب واجتنب والمصدر الجنابة والإجناب. فَاطَّهَّرُوا «1» والأصل فتطهّروا فأدغمت التاء في الطاء لأنها من أصول الثنايا العليا وطرف اللسان وجيء بألف الوصل ليوصل إلى الساكن وقرأ الزهري أو جاء أحد منكم من الغيط. وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ «2» لام كي أي إرادته ليطهّركم من الذنوب. وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بالثواب. [سورة المائدة (5) : آية 7] وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ قيل: هذا الميثاق الذي في قوله جلّ وعزّ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ [الأعراف: 172] وقيل: هذا الميثاق الذي أخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم في بيعة الرضوان. [سورة المائدة (5) : آية 8] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) شُهَداءَ أي مبيّنين وهو منصوب على أنه خبر ثان من كونوا، ويجوز أن يكون نعتا لقوامين وبدلا ولم ينصرف لأن فيه ألف التأنيث. عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا منصوب بأن ولا تحول «لا» بين العامل والمعمول فيه لأنها قد تقع زائدة. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ابتداء وخبر. [سورة المائدة (5) : آية 9] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إذا قلت: وعد لم يكن إلّا للخير وأوعد للشر إلا أن يبيّن. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ رفع بالابتداء. وَأَجْرٌ عَظِيمٌ عطف عليه. [سورة المائدة (5) : آية 12] وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) وَلَقَدْ لام توكيد أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وهو الذي كان موسى صلّى الله عليه وسلّم

_ (1) انظر البحر المحيط 3/ 453. [.....] (2) وقرأ ابن المسيب ليطهركم بإسكان الطاء وتخفيف الهاء.

[سورة المائدة (5) : آية 13]

أخذه عليهم. وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً نصب ببعثنا وعلامة النصب الياء وأعربت اثنا عشر من بين أخواتها لأن المثنى لا يبنى. وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ كسرت «إن» لأنها مبتدأة، ومعكم منصوب لأنه ظرف. لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ لام توكيد ومعناها القسم، وكذا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ وكذا وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. [سورة المائدة (5) : آية 13] فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) فَبِما نَقْضِهِمْ «ما» زائدة للتوكيد ونَقْضِهِمْ مخفوض بالباء، ويجوز رفعه في غير القرآن أي فالذي هو نقضهم. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ «1» أي يتأوّلونه على تأويله، ويُحَرِّفُونَ في موضع نصب أي جعلنا قلوبهم قاسية محرفين، قيل: معنى جعلنا قلوبهم قاسية وصفناهم بهذا، ومثله كثير قد حكاه سيبويه وغيره وقد ذكرناه. وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا استثناء من الهاء والميم اللتين في خائنة منهم قال قتادة: خائنة خيانة. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ أمر وفي معناه قولان: أحدهما فاعف عنهم واصفح ما دام بينك وبينهم عهد وهم أهل الذمة، والقول الآخر أنه منسوخ بقوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: 58] . [سورة المائدة (5) : آية 14] وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ قال سعيد الأخفش هذا كما تقول: من زيد أخذت درهمه. قال أبو جعفر: ولا يجيز النحويون أخذنا ميثاقهم من الذين قالوا إنا نصارى ولا ألينها لبست من الثياب لئلا يتقدّم مضمر على مظهر. فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي تركوا حظّا من الكتاب الذي وعظوا به وذكّروا به، وجعلوا ذلك الترك والتحريف سببا للكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وجمع حظ حظوظ، وسمع عن العرب: أحظ بإسكان الحاء، والأصل: أحظظ فابدل من الضاد ياء، وسمع منهم أحاظ. فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ قيل: يراد به النصارى، وقيل: اليهود والنصارى لأنه قد تقدّم ذكرهما. والأولى أن يكون للنصارى لأنهم أقرب. وأحسن ما قيل في معنى فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ أن الله تعالى أمر بعداوة

_ (1) (الكلم) : وهي قراءة الجمهور وفيها قراءات، فقد قرأها أبو عبد الرّحمن والنخعي (الكلام) ، وقرأ أبو رجاء (الكلم) . انظر البحر المحيط 3/ 461.

[سورة المائدة (5) : آية 15]

الكفار وإبغاضهم فكلّ فرقة مأمورة بعداوة صاحبتها وإبغاضها لأنهم كفار. [سورة المائدة (5) : آية 15] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) قرأ الحسن قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ. أدغم النون في اللام لقربها منها ويُبَيِّنُ في موضع نصب على الحال وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ معطوف عليه. [سورة المائدة (5) : آية 16] يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ بضم الهاء على الأصل، ومن كسر أبدل من الضمة كسرة لئلا يجمع بين ضمة وكسرة. سُبُلَ السَّلامِ «1» مفعول ثان، والأصل إلى سبل السلام. [سورة المائدة (5) : آية 18] وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ابتداء وخبر فردّ الله تعالى هذا عليهم فقال: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فلم يكونوا يخلون من إحدى جهتين: إمّا أن يقولوا هو يعذّبنا، فيقال لهم: فلستم إذا أبناءه وأحبّاءه، أو يقولوا: لا يعذّبنا فيكذّبوا ما في كتبهم وما جاءت به رسلهم ويبيحوا المعاصي. بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ابتداء وخبر. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وقد أعلم الله جلّ وعزّ من يغفر له أنّه من تاب وآمن وأعلم من يعذّبه، وهو من كفر وأصرّ فلما عرف معناه جاء مجملا ولم يقل عزّ وجلّ: يغفر لمن يشاء منكم. [سورة المائدة (5) : الآيات 19 الى 20] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) أَنْ تَقُولُوا في موضع نصب أي كراهة أن تقولوا، ويجوز مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ على الموضع. وروى عبيد بن عقيل عن شبل بن عبّاد عن عبد الله بن كثير أنه قرأ

_ (1) قرأ الحسن وابن شهاب (سبل) ساكنة الباء، انظر البحر المحيط 3/ 464.

[سورة المائدة (5) : آية 21]

يا قوم اذكروا «1» بضم الميم وكذلك ما أشبهه وتقديره يا أيّها القوم كما قال: [البسيط] 119- ويلا عليك وويلا منك يا رجل «2» إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ لم ينصرف لأن فيه ألف تأنيث. وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً قيل تملكون أمركم لا يغلبكم عليه غالب، وقيل جعلكم ذوي منازل لا يدخل عليكم فيها إلا بإذن. وروى أنس بن عياض عن زيد بن أسلم عن أنس بن مالك: لا أعلمه إلا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كان له منزل أو قال بيت يأوي إليه وزوجة وخادم يخدمه فهو ملك» «3» . ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ حذفت الياء للجزم، ويجوز إثباتها في الشعر. [سورة المائدة (5) : آية 21] يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ يعني بيت المقدس والْمُقَدَّسَةَ نعت للأرض أي المطهّرة من كثير من الذنوب بكثرة الأنبياء فيها. الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ نعت أي كتب لكم سكناها. وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ أي لا ترجعوا عن طاعتي. فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ جواب النهي. [سورة المائدة (5) : آية 22] قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً اسم «إن» . جَبَّارِينَ نعت والخبر في الظرف. حَتَّى يَخْرُجُوا نصب بحتى ولا يجوز رفعه لأنه مستقبل. [سورة المائدة (5) : آية 23] قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالَ رَجُلانِ ويجوز الإدغام إدغام اللام في الراء ويجوز إسكان الجيم من رجلين لثقل الضمة. مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ ومن قرأ يَخافُونَ «4» قال: هما جبّاران من الله عليهما بالإسلام ومن فتح الياء قال: هما من أصحاب موسى الذين يخافون الجبارين، وقد يجوز على هذه القراءة أن يكونوا من الجبّارين.

_ (1) هذه قراءة ابن محيصن، انظر البحر المحيط 3/ 469. (2) الشاهد للأعشى في ديوانه ص 107، وخزانة الأدب 8/ 394، وشرح المفصّل 1/ 129، ولسان العرب (ويل) ، والمحتسب 2/ 213، وتاج العروس (ويل) . وتمام البيت: « قالت هريرة لمّا جئت زائرها ... ويلي عليك وويلي منك يا رجل » (3) انظر تفسير القرطبي 6/ 124. (4) هذه قراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد، انظر البحر المحيط 3/ 470 ومختصر ابن خالويه 31.

[سورة المائدة (5) : آية 24]

[سورة المائدة (5) : آية 24] قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) أَبَداً ظرف زمان. فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ عطف على المضمر الذي في فَاذْهَبْ لأنك قد أكّدته، ويقبح عند البصريين أن تعطف على المضمر المرفوع إذا لم تؤكّده لأنه كأحد حروف الفعل إلا أنه جائز عندهم في الشعر وهو عند الفراء «1» جائز في كل موضع. إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ خبر إنّ، ويجوز في غير القرآن قاعدين على الحال لأن الكلام قد تمّ. [سورة المائدة (5) : آية 25] قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي الأصل إنّني حذفت النون لاجتماع النونات. وَأَخِي في موضع نصب عطف على نفسي، وإن شئت كان عطفا على اسم إن، ويجوز أن يكون موضعه رفعا عطفا على الموضع، وإن شئت على المضمر، وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير أنه قرأ فَافْرُقْ «2» بكسر الراء ومعنى فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ اجعل دارنا الجنة ليكون بيننا وبينهم فرق. [سورة المائدة (5) : آية 26] قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ اسم «إن» وخبرها. ومعنى محرمة أنّهم ممنوعون من دخولها كما يقال: حرّم الله وجهك على النار. أَرْبَعِينَ سَنَةً ظرف زمان. [سورة المائدة (5) : آية 27] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) وَاتْلُ أمر فلذلك حذفت منه الواو. أمر الله تعالى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتلو على اليهود خبر ابني آدم إذ قرّبا قربانا وإن كان عندهم في التوراة ليعلمهم أنّ سبيلهم في عصيان الله تعالى وكفرهم بنبيه صلّى الله عليه وسلّم سبيل ابن آدم عليه السلام وأنهم ليسوا أكرم على الله من ابن آدم لصلبه وكان في ذلك دلالة على نبوته صلّى الله عليه وسلّم إذ كان لم يقرأ الكتب وأما قول عمرو مجاهد إنّ اللذين قرّبا قربانا من بني إسرائيل فغلط يدلّ على ذلك قوله عزّ وجلّ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ. قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أي من المتقين من المعاصي.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 304، والبحر المحيط 3/ 471. (2) هذه قراءة عبيد بن عمير ويوسف بن داود، انظر البحر المحيط 3/ 472.

[سورة المائدة (5) : آية 29]

[سورة المائدة (5) : آية 29] إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ يقال: كيف يريد المؤمن هذا؟ ففي هذا قولان: محمد بن يزيد: هذا مجاز لمّا كان المؤمن يريد الثواب ولا يبسط يده بالقتل كان بمنزلة من يريد هذا، والجواب الآخر أنه حقيقة لأنه لما قال له: لأقتلنّك استوجب النار بهذا فقد أراد الله تعالى أن يكون من أهل النار فعلى المؤمنين أن يريدوا ذلك فأما معنى بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فمن أحسن ما قيل فيه- وهو مذهب سيبويه «1» - أنّ المعنى بإثمنا لأن المصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول، وحكى سيبويه: المال بيني وبينك أي بيننا، وأنشد: [الوافر] 120- فأيّي ما وأيّك كان شرّا «2» أي فأيّنا، ويجوز أن يكون بإثمي بإثم قولك لي لأقتلنك، ويجوز أن يكون المعنى بإثم قتلي إن قتلتني. فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ عطف. وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ ابتداء وخبر. [سورة المائدة (5) : الآيات 30 الى 31] فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) وقرأ أبو واقد فطاوعت له نفسه «3» . قال أبو جعفر: هذا بعيد لأنه إنما يقال: طاوعته نفسه. فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ أي أحدث له شهوة في هذا لِيُرِيَهُ لام كي يكون لما آل أمره إلى هذا كان كأنه فعله ليريه، ويجوز أن يكون المعنى ليريه الله، وإن خفّفت الهمزة قلت: سوّة. يا وَيْلَتى «4» الأصل: يا ويلتي ثم أبدل من الياء ألفا. وقرأ الحسن يا ويلتي «5» بالياء. والأول أفصح لأن حذف الياء في النداء أكثر. ومذهب

_ (1) انظر الكتاب 2/ 421. (2) الشاهد لعباس بن مرداس في الكتاب 2/ 422، وهو في ديوانه ص 148، وخزانة الأدب 4/ 367، وذيل الأمالي ص 60، وشرح أبيات سيبويه 2/ 93، وشرح ديوان زهير 113، وشرح المفصّل 2/ 131، ولسان العرب (قوم) . وعجزه: «فسيق إلى المقامة لا يراها» (3) هذه قراءة الحسن بن عمران والجراح ورويت عن الحسن، انظر المحتسب 1/ 209. (4) قرأ الجمهور (يا ويلتا) بألف بعد التاء، وهي بدل من ياء المتكلم، انظر البحر المحيط 3/ 481. (5) هذه قراءة الحسن، وأمال حمزة والكسائي وأبو عمرو ألف ويلتي، انظر البحر المحيط 3/ 481. [.....]

[سورة المائدة (5) : آية 32]

سيبويه «1» أن النداء إنما يقع في هذه الأشياء على المبالغة إذا قلت: يا عجبا فكأنك قلت: يا عجب احضر فهذا وقتك، فهذا أبلغ من قولك: هذا وقت العجب ويا ويلتا كلمة تدعو بها العرب عند الهلاك هذا قول سيبويه «2» ، وقال الأصمعي: ويل بعد وقرأ الحسن أَعَجَزْتُ «3» بكسر الجيم. وهذه لغة شاذة إنما يقال: عجزت المرأة إذا عظمت عجيزتها، وعجزت عن الشيء أعجز عجزا ومعجزة ومعجزة. فَأُوارِيَ «4» عطف على أكون، ويجوز أن يكون جواب الاستفهام. [سورة المائدة (5) : آية 32] مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) وقرأ يزيد بن القعقاع مِنْ أَجْلِ ذلِكَ «5» . بكسر النون وإسقاط الهمزة، وهذا على لغة من قال: أجل ثمّ خفّفت الهمزة. يقال: أجلت الشيء آجله أجلا وإجلا إذا جنيته. أَنَّهُ في موضع نصب أي بأنّه والهاء كناية عن الحديث، ويجوز إنه بالكسر على الحكاية، والجملة خبر «انّ» . وقرأ الحسن أو فسادا «6» أي أو عمل فسادا، ويجوز أن يكون بمعنى المصدر أي أو أفسد فسادا. [سورة المائدة (5) : آية 33] إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) جَزاءُ رفع بالابتداء وخبره أَنْ يُقَتَّلُوا والتقدير: الذي يحاربون أولياء الله ومتّبعي رسله، وقرأ الحسن أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ والأصل أيديهم حذفت الضمة من الياء لثقلها، ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا ابتداء وخبر. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ يدلّ على أن الحدّ لا يزيل عقوبة الآخرة عمّن لم يتب. [سورة المائدة (5) : آية 34] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا في موضع نصب بالاستثناء، ويجوز أن يكون في موضع رفع

_ (1) انظر الكتاب 2/ 222. (2) انظر الكتاب 1/ 396. (3) وهذه قراءة ابن مسعود وفياض وطلحة وسليمان أيضا. انظر البحر المحيط 3/ 481. (4) انظر البحر المحيط 3/ 481. (5) انظر البحر المحيط 3/ 483، والمحتسب 1/ 209. (6) انظر مختصر ابن خالويه 32، والمحتسب 1/ 210، والبحر المحيط 3/ 484.

[سورة المائدة (5) : آية 35]

بالابتداء، ويكون التقدير: إلّا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم. فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لهم. غَفُورٌ رَحِيمٌ. [سورة المائدة (5) : آية 35] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ. أي بترك المعاصي والجهاد. [سورة المائدة (5) : آية 38] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ رفع بالابتداء، والخبر فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما وعند سيبويه «1» الخبر محذوف والتقدير عنده: وفيما فرض عليكم السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، والرفع عند الكوفيين بالعائد، وقرأ عيسى بن عمر وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ «2» نصبا وهو اختيار سيبويه. قال «3» : إلا أن العامة أبت إلّا الرفع، يريد بالعامة الجماعة ونصبه بإضمار فعل أي: اقطعوا السارق والسارقة وإنما اختار النصب لأن الأمر بالفعل أولى. وقد خولف سيبويه في هذا فزعم الفراء «4» : أن الرفع أولى لأنه ليس يقصد به إلى سارق بعينه فنصب وإنما المعنى كلّ من سرق فاقطعوا يده. وهذا قول حسن غير مدفوع. يدلّ عليه أنهم قد أجمعوا على أن قرءوا وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النساء: 16] وهذا مذهب محمد ابن يزيد، فأما فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ولم يقل فيه: يديهما فقد تكلّم فيه النحويون فقال الخليل: أرادوا أن يفرّقوا بين ما في الإنسان منه واحد وما فيه اثنان فقال: أشبعت بطونها. وإِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: 4] ، وقال الفراء: لما كان أكثر ما في الإنسان من الجوارح اثنين حملوا الأقل على الأكثر، وقال غيرهما: فعل هذا لأن التثنية جمع، وقيل: لأنه لا يشكل، وأجاز النحويون التثنية على الأصل والتوحيد لأنه يعرف، وأجاز سيبويه جمع غير هذا، وحكى: وصغار حالهما يريد رحلي راحلتين. جَزاءً بِما كَسَبا مفعول من أجله، وإن شئت كان مصدرا، وكذا نَكالًا مِنَ اللَّهِ. [سورة المائدة (5) : آية 39] فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ شرط وجوابه فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ.

_ (1) انظر الكتاب 1/ 196. (2) وهذه قراءة ابن أبي عبلة أيضا. انظر معجم القراءات القرآنية 2/ 208 وتفسير القرطبي 6/ 116، والكشاف 1/ 377، والبحر المحيط 3/ 489. (3) انظر الكتاب 1/ 197. (4) انظر معاني الفراء 1/ 306.

[سورة المائدة (5) : آية 41]

[سورة المائدة (5) : آية 41] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ويقال: يحزنك، والأول أفصح. مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ أي لم يضمروا في قلوبهم الإيمان كما نطقت به ألسنتهم. وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا يكون هذا تمام الكلام ثم قال جلّ وعزّ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي هم سمّاعون ومثله طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ [النور: 58] . وقال الفراء «1» : ويجوز سمّاعين وطوّافين كما قال: مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا [الأحزاب: 61] وكما قال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ [الطور: 17] ثم قال فاكِهِينَ [الطور: 18] وآخِذِينَ [الذاريات: 26] ويجوز أن يكون المعنى: ومن الذين هادوا قوم سمّاعون للكذب. سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ثم قال: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي يتأوّلونه على غير تأويله بعد أن فهموه عنك وعرفوا مواضعه التي أرادها الله عزّ وجلّ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ أي إن أعطيتم هذا الذي قلنا لكم فاقبلوه. وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ أي إن نهيتم عنه فَاحْذَرُوا أن تقبلوه ممن قال لكم فإنه ليس بنبيّ يريدون أن يروا ضعفتهم أنّهم ينصحونهم. أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ أي لم يرد الله عزّ وجلّ أن يطهّر قلوبهم من الطبع عليها والختم كما طهر قلوب المؤمنين ثوابا لهم. [سورة المائدة (5) : آية 42] سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ «2» . على التكثير. والسّحت في اللغة كلّ حرام يسحت الطاعات أي يذهبها، وروى العباس بن الفضل عن خارجة بن مصعب عن نافع أكّالون للسّحت «3» بفتح السين، وهذا مصدر من سحته يقال: سحت وأسحت بمعنى واحد، وقال أبو إسحاق «4» : سحته ذهب به قليلا قليلا.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 309. (2) قرأ النحويان وابن كثير (السّحت) بضمتين، وقرأ باقي السبعة بإسكان الحاء. (3) انظر البحر المحيط 3/ 501، وهذه قراءة زيد بن علي أيضا. (4) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 662. [.....]

[سورة المائدة (5) : آية 44]

[سورة المائدة (5) : آية 44] إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ «هدى» في موضع رفع بالابتداء ونور عطف عليه وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عطف على النبيين. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ رفع بالابتداء وخبره: فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وقد ذكرنا معناه. ومن أحسن ما قيل فيه قول الشّعبيّ قال: هذا في اليهود خاصة ويدلّ على ما قال ثلاثة أشياء: منها أن اليهود قد ذكروا قبل هذا في قوله لِلَّذِينَ هادُوا فعاد الضمير عليهم، ومنها أن سياق الكلام يدلّ على ذلك ألا ترى أنّ بعده. وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها فهذا الضمير لليهود بإجماع وأيضا فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقصاص فإن قال قائل «من» إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلّا أن يقع دليل على تخصيصها، قيل له «من» هاهنا بمعنى الذي مع ما ذكرنا من الأدلّة والتقدير: واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، فهذا أحسن ما قيل في هذا، وقد قيل: من لم يحكم بما أنزل الله مستحلّا لذلك. وقد قيل: من ترك الحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر. [سورة المائدة (5) : آية 45] وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) الآية فيها وجوه «1» : قرأ نافع وعاصم والأعمش بالنصب في جميعها، وهذا بين على العطف. ويجوز تخفيف أن ورفع الكل بالابتداء والعطف، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلّا الجروح. قال أبو جعفر: حدّثنا محمد بن الوليد عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال: حدثنا حجّاج عن هارون عن عبّاد بن كثير عن عقيل عن الزهري عن أنس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ «2» الرفع من ثلاث جهات بالابتداء والخبر، وعلى المعنى لأن المعنى قلنا لهم النفس بالنفس، والوجه الثالث قاله أبو إسحاق «3» : يكون عطفا على المضمر. فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ شرط وجوابه ويجوز في غيرة القرآن فمن اصّدّق به.

_ (1) انظر البحر المحيط 3/ 506، ومعاني الفراء 1/ 309. (2) انظر معاني الفراء 1/ 310. (3) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجّاج 664.

[سورة المائدة (5) : آية 46]

[سورة المائدة (5) : آية 46] وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً على الحال. فِيهِ هُدىً في موضع رفع بالابتداء. وَنُورٌ عطف عليه. وَمُصَدِّقاً فيه وجهان يجوز أن يكون لعيسى صلّى الله عليه وسلّم ونعطفه على مصدّق الأول، ويجوز أن يكون للإنجيل ويكون التقدير: وآتيناه الإنجيل مستقرّا فيه هدّى ونور ومصدّقا. وَهُدىً وَمَوْعِظَةً عطف على مصدّق. [سورة المائدة (5) : آية 47] وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ أمر ويجوز كسر اللام والجزم لأن أصل اللام الكسر، وفي الكلام حذف، والمعنى: وأمرنا أهله أن يحكموا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ فحذف هذا، وقرأ الأعمش وحمزة وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ «1» على أنها لام كي، والأمر أشبه وسياق الكلام يدلّ عليه. قال أبو جعفر: والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان لأنّ الله تعالى لم ينزل كتابا إلّا ليعمل فيما فيه وأمر بالعمل بما فيه فصحّتا جميعا. وإذا كانت لام كي ففي الكلام حذف أي وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه أنزلناه عليهم. [سورة المائدة (5) : آية 48] وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً حال. وَمُهَيْمِناً عطف عليه. لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً روي عن ابن عباس أنه قال: الشرعة والمنهاج الإسلام والسنّة، وقيل: الشرعة ابتداء الشيء وهو قول لا إله إلّا الله، والمنهاج جملة الفرائض، وقيل: هما واحد ومن أحسن ما قيل فيه أن الشريعة والشرعة واحد وهو ما ظهر من الدين مما يؤخذ بالسمع نحو الصلاة والزكاة وما أشبههما، ومنه أشرعت بابا إلى الطريق، ومنه شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا، ومنه إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً [الأعراف: 163] ومنه طريق شارع، ومنه الشّراع، والمنهاج الطريق الواضح البيّن المستقيم فجعل شريعة وطريقا بيّنا أي برهانا واضحا. ودلّ بهذا على أن شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم مخالفة لشريعة موسى صلّى الله عليه وسلّم. لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي لجعل شريعتكم واحدة.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 312 وقرأ أبي (وأن ليحكم) بزيادة أن قبل لام كي، انظر البحر المحيط 3/ 511.

[سورة المائدة (5) : آية 49]

وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما في الكلام حذف تتعلق به لام كي أي ولكن جعل شرائعكم مختلفة ليبلوكم أي ليتعبّدكم آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا أي فاسبقوا الخيرات من قبل أن تعجزوا عنها أو تموتوا أو يذهب وقتها. [سورة المائدة (5) : آية 49] وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وقد كان خيّره قبل هذا فنسخ التخيير بالحتم والدليل على أنّ هذا ناسخ وأنّ على الإمام أن يحكم على أهل الكتاب بالحقّ قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ [النساء: 35] . وَأَنِ احْكُمْ «أن» في موضع نصب عطفا على الكتاب أي وأنزلنا إليك أن احكم بينهم بما أنزل الله أي بحكم الله الّذي أنزله إليك في كتابه. وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ الهاء والميم في موضع نصب يجب أن يكون هذا على قول من قال: حاذر، ويجوز أن يكون على قول من قال: حذر في قول سيبويه وأنشد: [الكامل] 121- حذر أمورا لا تضير وآمن ... ما ليس منجيه من الأقدار «1» أَنْ يَفْتِنُوكَ بدل وإن شئت بمعنى من أن يفتنوك. [سورة المائدة (5) : آية 50] أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ نصب بيبغون. والمعنى أنّ الجاهلية كانوا يجعلون حكم الشريف خلاف حكم الوضيع وكانت اليهود تقيم الحدود على الضعفاء الفقراء ولا يقيمونها على الأقوياء الأغنياء فضارعوا الجاهلية بهذا الفعل. وَمَنْ أَحْسَنُ ابتداء وخبر. مِنَ اللَّهِ حُكْماً على البيان. [سورة المائدة (5) : آية 51] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ مفعولان وتولّيهم معاضدتهم على المسلمين واختصاصهم، دونهم. بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ابتداء وخبر. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي لأنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم ووجبت له النار كما وجبت لهم فصار منهم أي من أصحابهم.

_ (1) الشاهد لأبان اللاحقي في خزانة الأدب 8/ 169، ولأبي يحيى اللاحقي في المقاصد النحوية 3/ 543 وبلا نسبة في الكتاب 1/ 168، وخزانة الأدب 8/ 157، وشرح أبيات سيبويه 1/ 409، وشرح الأشموني 2/ 342، وشرح المفصل 6/ 71، ولسان العرب (حذر) والمقتضب 2/ 116.

[سورة المائدة (5) : آية 52]

[سورة المائدة (5) : آية 52] فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ أي في موالاتهم. فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أي بالنصر وهو نصب بأن فَيُصْبِحُوا عطف أي فأصبحوا نادمين على تولّيهم الكفار إذا رأوا نصر الله عزّ وجلّ للمؤمنين وإذا عاينوا عند الموت فبشّروا بالعذاب. [سورة المائدة (5) : آية 53] وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) قرأ أهل المدينة وأهل الشام «يا أيها الذين آمنوا» «1» بغير واو مرفوع لأنه فعل مستقبل، وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا «2» بالواو والنصب عطفا على «أن يأتي» عند أكثر النحويين وإذا كان على هذا كان النصب بعيدا لأنه مثل قولك: عسى زيد أن يأتي ويقوم عمرو. وهذا بعيد جدا لا يصحّ المعنى عسى زيد أن يقوم عمرو، ولكن لو قلت: عسى أن يقوم زيد ويأتي عمرو كان جيدا ولو كانت الآية عسى الله أن يأتي بالفتح كان النصب حسنا وجوازه على أنه يحمل على هذا المعنى مثل قوله: [مجزوء الكامل] 122- ورأيت زوجك في الوغا ... متقلّدا سيفا ورمحا «3» وفيه قول آخر تعطفه على الفتح كما قال: [الوافر] 123- للبس عباءة وتقرّ عيني ... أحبّ إليّ من لبس الشّفوف «4» وقرأ الكوفيون وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا بالرفع على القطع من الأول. أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ أي قالوا إنّهم ويجوز أنّهم بأقسموا إنّهم ويجوز أنّهم بأقسموا فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ أي خاسرين للثواب.

_ (1) انظر البحر المحيط 3/ 521، ومعاني الفراء 1/ 313. (2) انظر تيسير الداني 82. (3) الشاهد بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 108، وأمالي المرتضى 1/ 54، والإنصاف 2/ 612، وخزانة الأدب 2/ 231، والخصائص 2/ 431، وشرح شواهد الإيضاح 182، وشرح المفصل 2/ 50، ولسان العرب (رغب) و (زجج) ، والمقتضب 2/ 51. والشطر الأول: «يا ليت زوجك قد غدا» (4) الشاهد لميسون بنت بحدل في خزانة الأدب 8/ 503، والدرر 4/ 90، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 273، وشرح التصريح 2/ 244، وشرح شواهد الإيضاح 250، وشرح شواهد المغني 2/ 653، ولسان العرب (مسن) ، والمحتسب 1/ 326، ومغني، اللبيب 1/ 267، والمقاصد النحوية 4/ 397، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 48، والأشباه والنظائر 4/ 277، وأوضح المسالك 4/ 192، والجنى الداني 157، وخزانة الأدب 8/ 523، والردّ على النحاة 128، ورصف المباني ص 423، وشرح الأشموني 3/ 531.

[سورة المائدة (5) : آية 54]

[سورة المائدة (5) : آية 54] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) يا أيّها الذين آمنوا من يرتدد منك عن دينه. هذه قراءة «1» أهل المدينة وأهل الشام، وقرأ أهل الكوفة وأهل البصرة مَنْ يَرْتَدَّ بفتح الدال لالتقاء الساكنين، ويجوز كسرها إلا أن الفتح اختير لأنه أخف، وقال الكوفيون: فتح لأنه بني على التشبيه من قولك: ردّا ولهذا عند الفراء فتح الفعل الماضي، ويرتدد أحسن لأن الحرف الثاني قد سكن. فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ في موضع النعت. أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ نعت أي يرؤفون بهم ويرحمونهم. أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يغلظون عليهم ويعادونهم، ويجوز «أذلّة» بالنصب على الحال أي يحبّهم ويحبّونه في هذا الحال. يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فدلّ بهذا على تثبيت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لأنهم الذين جاهدوا في الله في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعد موته. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ابتداء وخبر. وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أي واسع الفضل عليم بمصالح خلقه. [سورة المائدة (5) : آية 55] إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ابتداء وخبر. وَرَسُولُهُ عطف. وَالَّذِينَ آمَنُوا كذلك ثم نعتهم فقال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا أن محمد بن علي أبا جعفر سئل عن معنى إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا هل هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ فقال: علي من المؤمنين «2» ، يذهب إلى أن هذا لجميع المؤمنين وهذا قول بين لأن الذين لجماعة المؤمنين وهذا في تولّي المؤمنين بعضهم بعضا وليس هذا من الإمامة في شيء يدلّ على ذلك أن هذا التولّي في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومعنى يقيمون الصلاة يأتون بها في أوقاتها بجميع حقوقها كما يقال: فلان قائم بعمله. [سورة المائدة (5) : آية 56] وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مبتدأ، فقيل الخبر محذوف والتقدير: ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فهو من حزب الله وقيل هُمُ الخبر والْغالِبُونَ خبر ثان. [سورة المائدة (5) : آية 57] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)

_ (1) انظر تيسير الداني 82، والبحر المحيط 3/ 523. (2) انظر البحر المحيط 3/ 525.

[سورة المائدة (5) : آية 59]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً وهذه قراءة أهل المدينة، وقرأ أهل الكوفة» هزؤا حذفوا الضمة لثقلها فان خفّفت الهمزة على قراءة أهل المدينة قلبتها واوا فقلت «هزوا» وإن خفّفتها على قراءة أهل الكوفة قلت «هزا» مثل «هدى» . مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ هذه قراءة أهل الحرمين وأهل الكوفة أي ولا تتّخذوا الكفار أولياء، وقرأ أبو عمرو والكسائي وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ «2» بمعنى ومن الكفار ومِنَ هاهنا لبيان الجنس والنصب أوضح وأبين. [سورة المائدة (5) : آية 59] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا وتدغم اللام في التاء لقربها منها إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ في موضع نصب أي هل تنقمون منا إلّا إيماننا به وقد علمتم أنّا على الحقّ وفسقكم في ترككم الإيمان. [سورة المائدة (5) : آية 60] قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ أي بشرّ من نقمتكم علينا، وقيل: من شرّ ما تريدون لنا من المكروه مَثُوبَةً على البيان وأصلها مفعولة فألقيت حركة الواو على الثاء فسكنت الواو وبعدها واو ساكنة فحذفت إحداهما مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ في موضع رفع كما قال عزّ وجلّ: بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ [الحج: 72] والتقدير: هو لعن من لعنه الله، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى قل هل أنبئكم من لعنه الله، ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل من شرّ وقد ذكرنا وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ والقراءات «3» فيه، ويجوز على قراءة الأعمش وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بحذف الضمة لثقلها ويجوز على قراءة حمزة وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ «4» بحذف الضمة أيضا وبنصبه على الذمّ وإن شئت كان منصوبا بمعنى وجعل منهم أي وصفهم بهذا، ويجوز الرفع بمعنى وهم ويجوز الخفض عطفا على مِنْ إذا كانت في موضع خفض. أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً «5» يقال ليس في المؤمنين شرّ فكيف جاء أولئك شرّ مكانا ففي هذا أجوبة حكى الكوفيون: العسل أحلى من الخلّ، وإن كان مردودا، وقال أبو إسحاق «6» : المعنى أولئك شرّ مكانا على قولكم. ومن أحسن ما قيل فيه: أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا في الآخرة من مكانكم في الدنيا

_ (1) انظر تيسير الداني 63. (2) انظر تيسير الداني 83. (3) انظر البحر المحيط 3/ 529. [.....] (4) انظر تيسير الداني 83. (5) انظر البحر المحيط 3/ 531. (6) انظر البحر المحيط 3/ 531.

[سورة المائدة (5) : آية 61]

لما لحقكم من الشرّ، وقيل: أولئك الذين نسيهم الله شرّ من الذين نقموا عليكم، وقيل: أولئك الذين نقموا عليكم شرّ من الذين لعنهم الله. [سورة المائدة (5) : آية 61] وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَقَدْ دَخَلُوا أي بالإبغاض للنبي صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين وتمنّي هلاكهم وخرجوا منطوين عليه وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ من الكفر. [سورة المائدة (5) : آية 64] وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ اسم لم يسمّ فاعله حذفت الضمة من الياء لثقلها أي غلّت في الآخرة، ويجوز أن يكون دعاءا عليهم، وكذا وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ابتداء وخبر. قال الأخفش وفي قراءة عبد الله بل يداه بسطان «1» . قال الأخفش: يقال: يد بسطة أي منطلقة منبسطة. وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ لام قسم. كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً ظرف أي كلّما جمعوا وأعدّوا. [سورة المائدة (5) : آية 65] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ «أن» في موضع رفع، وكذا وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ. [سورة المائدة (5) : آية 67] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي كلّ ما أنزل من ربك. وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ شرط وجوابه. فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ «2» «3» هذه قراءة أهل المدينة، وقرأ أبو عمرو وأهل الكوفة والكسائي (رسالته) على واحدة والقراءتان حسنتان إلا أن الجمع أبين لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان ينزل عليه الوحي شيئا شيئا ثم يبينه. وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ دلالة على نبوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن الله جلّ وعزّ خبّر أنه معصوم، وفي هذه الآية دلالة على ردّ قول من قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتم شيئا من أمر الدين تقيّة، ودلالة على أنه لم يسرّ إلى أحد شيئا من أمر الدين لأن المعنى بلّغ كل ما أنزل إليك ظاهرا ولولا هذا ما كان في قوله جلّ وعزّ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ فائدة.

_ (1) انظر البحر المحيط 3/ 535، ومعاني الفراء 1/ 315. (2) انظر تيسير الداني 83. (3) هذه قراءة نافع وابن عامر وأبي بكر، وقرأ باقي السبعة على التوحيد. انظر البحر المحيط 3/ 540.

[سورة المائدة (5) : آية 69]

[سورة المائدة (5) : آية 69] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اسم إن. وَالَّذِينَ هادُوا عطف عليه. وَالصَّابِئُونَ وقرأ سعيد ابن جبير والصابئين «1» بالنصب، والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله منهم وعمل صالحا فلهم أجرهم والصابئون والنصارى كذلك. وأنشد سيبويه وهو نظير هذا: [الوافر] 124- وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق «2» وقال الكسائي والأخفش ذكره في «المسائل الكبير» : و «الصابئون» عطف على المضمر الذي في هادوا، وقال الفراء «3» : إنما جاز الرفع لأن الذين لا يبين فيه الإعراب. قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يقول، وقد ذكر له قول الأخفش والكسائي: هذا خطأ من جهتين: أحدهما أن المضمر المرفوع يقبح العطف عليه حتى يؤكّد، والجهة الأخرى أن المعطوف شريك المعطوف عليه فيصير المعنى: إنّ الصابئين قد دخلوا في اليهودية وهذا محال وسبيل ما لا يتبيّن فيه الإعراب وما يتبيّن فيه واحدة. [سورة المائدة (5) : آية 70] لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) فَرِيقاً كَذَّبُوا أي كذبوا فريقا وكذلك وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ. [سورة المائدة (5) : آية 71] وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ هذه قراءة الكوفيين وأبي عمرو والكسائي، وقرأ «4» أهل الحرمين بالنصب. قال سيبويه «5» : حسبت أن لا تقول ذاك أي حسبت أنه قال: وإن

_ (1) هذه قراءة عثمان وأبيّ وعائشة وابن جبير والجحدري وابن كثير، انظر البحر المحيط 3/ 541. (2) الشاهد لبشر بن أبي خازم في الكتاب 2/ 158، وفي ديوانه 165، وتخليص الشواهد ص 373، وخزانة الأدب 10/ 293، وشرح أبيات سيبويه 2/ 14، وشرح التصريح 1/ 228، والمقاصد النحوية 2/ 271، وبلا نسبة في أسرار العربية 154، وشرح المفصل 8/ 69. (3) انظر معاني الفراء 1/ 310. (4) انظر الكتاب 3/ 189. (5) هذه قراءة ابن عامر وعاصم أيضا.

[سورة المائدة (5) : آية 72]

شئت نصبت. قال أبو جعفر: الرفع عند النحويين في حسبت وأخواتها أجود كما قال قال امرؤ القيس: [الطويل] 125- ألا زعمت بسباسة اليوم أنّني ... كبرت وأن لا يشهد اللهو أمثالي «1» وإنما صار الرفع أجود لأن حسبت وأخواتها بمنزلة العلم في أنه شيء ثابت وإنما يجوز النصب على أن تجعلهنّ بمنزلة خشيت وخفت هذا قول سيبويه في النصب. فِتْنَةٌ اسم تكون. والفتنة: الاختبار فإن وقعت لغيره فذلك مجاز والمعنى وحسبوا أن لا يكون عقاب. فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ولم يقل: عمي وصمّ، والفعل متقدّم ففي هذا أجوبة: منها أن يكون كثير منهم بدلا من الواو. قال الأخفش سعيد: كما تقول رأيت قومك ثلثيهم، وإن شئت كانت على إضمار مبتدأ أي العمي والصمّ منهم كثير، وجواب رابع يكون على لغة من قال: أكلوني البراغيث. قال الأخفش: يجوز أن يكون هذا منها وأنشد: [الطويل] 126- ولكن ديافيّ أبوه وأمّه ... بحوران يعصرن السليط أقاربه «2» . ويجوز في غير القرآن كثيرا بالنصب نعتا لمصدر محذوف. [سورة المائدة (5) : آية 72] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وهذا قول اليعقوبيّة «3» فردّ الله جلّ وعزّ ذلك عليهم بحجّة قاطعة مما يقرّون به فقال وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ أي إذا كان المسيح يقول: يا ربّ ويا الله فكيف يدعو نفسه أم كيف يسألها هذا محال. [سورة المائدة (5) : آية 73] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)

_ (1) الشاهد لامرى القيس في ديوانه ص 28، وجمهرة اللغة 121، وبلا نسبة في لسان العرب (لها) ، وتاج العروس (لها) . وفي الديوان «وأن لا يحسن اللهو» . (2) الشاهد للفرزدق في ديوانه 1/ 46، والكتاب 2/ 35، والاشتقاق 242، وتخليص الشواهد 474، وخزانة الأدب 5/ 163، والدرر 2/ 285، وشرح أبيات سيبويه 1/ 491، وشرح شواهد الإيضاح 336، وشرح المفصل 3/ 89، ولسان العرب (سلط) و (دوف) ، وبلا نسبة في الجنى الداني 150، وخزانة الأدب 7/ 446، والخصائص 2/ 194، ورصف المباني 19، وسرّ صناعة الإعراب 446، ولسان العرب (خطأ) ، وهمع الهوامع 1/ 160. (3) اليعقوبية: فرقة من النصارى، انظر البحر المحيط 3/ 543. [.....]

[سورة المائدة (5) : الآيات 75 إلى 76]

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ هذا المعنى أحد ثلاثة ولا يجوز فيه التنوين فإن قلت: ثالث اثنين جاز التنوين. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ (من) زائدة ويجوز في غير القرآن إلا إلها واحدا على الاستثناء، وأجاز الكسائي «1» الخفض على البدل وذلك خطأ عند الفراء «2» والبصريين لأن «من» لا تدخل في الإيجاب. [سورة المائدة (5) : الآيات 75 الى 76] مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ابتداء وخبر، أي إن المسيح صلّى الله عليه وسلّم وإن أظهر الآيات فإنما جاء بها كما جاءت الرسل. وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ابتداء وخبر. كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ أي: فإذا كانا يأكلان الطعام كانا يحدثان فكنّى الله تعالى عن ذلك وكان في هذا دلالة على أنّهما بشران قال الله تعالى انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن الحقّ بعد هذا البيان ثم زادهم في البيان فقال: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً. أي أنتم مقرّون أن عيسى كان جنينا في بطن أمّه لا يملك لأحد ضرّا ولا نفعا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي أنتم قد أقررتم أنّ عيسى كان في حال من الأحوال لا يسمع ولا يعلم والله جلّ وعزّ لم يزل سميعا عليما. [سورة المائدة (5) : آية 77] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ أي لا تفرطوا كما أفرطت اليهود والنصارى في عيسى. وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ جمع هوى وهكذا جمع المقصور على نظيره من السالم، وقيل: هوى لأنه يهوي بصاحبه في الباطل. [سورة المائدة (5) : آية 78] لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا اسم ما لم يسمّ فاعله، وبعض العرب يقول: الّذون.

_ (1) انظر البحر المحيط 3/ 544. (2) انظر معاني الفراء 1/ 317.

[سورة المائدة (5) : آية 79]

عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي أمر بلعنهم فلعنّاهم ولم ينصرف داود عليه السلام لأنه اسم أعجميّ لا يحسن فيه الألف واللام فإن حسنت في مثله ألف ولام انصرف نحو طاوس وراقود. ذلِكَ في موضع رفع بالابتداء أي ذلك اللعن. بِما عَصَوْا، ويجوز أن يكون على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك، ويجوز أن يكون في موضع نصب أي فعلنا ذلك بهم بعصيانهم واعتدائهم. [سورة المائدة (5) : آية 79] كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ مرفوع لأنه فعل مستقبل وهو في موضع نصب لأنه خبر كان. لَبِئْسَ لام توكيد. قال أبو إسحاق: المعنى لبئس شيئا فعلهم. [سورة المائدة (5) : آية 80] تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا هم اليهود كانوا يتولّون المشركين وليسوا على دينهم. لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، (أن) في موضع رفع على إضمار مبتدأ، وقيل: بدل مما في «لبئس ما» ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى لأن سخط الله. وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ ابتداء وخبر. [سورة المائدة (5) : آية 81] وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81) فدلّ بهذا على أنّ من اتّخذ كافرا وليا فليس بمؤمن. [سورة المائدة (5) : آية 82] لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) لَتَجِدَنَّ لام قسم ودخلت النون على قول الخليل وسيبويه فرقا بين الحال والمستقبل. أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ مفعولان وعَداوَةً على البيان وكذا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى وفي هذا قولان: أحدهما أنهم لم يكونوا نصارى على الحقيقة ولا يجوز أن يمدح الله تعالى كافرا وإنما هم قوم كانوا يؤمنون بعيسى، ولا يقولون: إنه إله فسمّوا بالنصارى قبل أن يسلموا، والقول الآخر أن المعنى: الذين قالوا إنا نصارى. ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ اسم أن ويقال في جمع قسيس مكسرا قساوسة أبدل من إحدى السينين واو، ويقال قسّ بمعناه وجمعه

[سورة المائدة (5) : آية 83]

قسوس ويقال للنميمة أيضا قسّ. وقد قسّ الحديث قسّا. ورهبانا: جمع راهب والفعل منه رهب الله يرهب أي خافه رهبا رهبانا ورهبة. قال أبو عبيد: ويقال: رهبان للواحد. قال الفراء: جمعه رهابنة ورهابين. وَأَنَّهُمْ في موضع خفض عطفا. [سورة المائدة (5) : آية 83] وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وأجاز سيبويه في الشعر الجزم بإذا. تَفِيضُ في موضع نصب على الحال وكذا (يقولون) . [سورة المائدة (5) : آية 84] وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ في موضع نصب على الحال أي شيء لنا في هذه الحال. [سورة المائدة (5) : آية 87] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في موضع رفع نعت لأي. لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ جزم على النهي فلذلك حذفت منه النون وكذا وَلا تَعْتَدُوا. [سورة المائدة (5) : آية 88] وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) وَاتَّقُوا اللَّهَ في موضع نصب نعت. أَنْتُمْ ابتداء مُؤْمِنُونَ خبر، وهما صلة الذي وعادت إليه الهاء التي في (به) . [سورة المائدة (5) : آية 89] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) قرأ أبو عمرو وأهل المدينة. وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ بالتشديد، وقرأ أهل الكوفة والكسائي بما عقدتم «1» بالتخفيف. وأنكر أبو عبيد التشديد «2» . قال: لأنه للتكرير، وزعم أنه يخاف أن يلزم من قرأ به أن لا يوجب الكفّارة حتى يحلف مرارا، قال: وهذا خارج من قول الناس. قال أبو جعفر: هذا لا يلزم، وفي التشديد قولان: قال أبو عمرو: عقّدتم وكّدتم أي فكما تقول: وكّدتم فكذا تقول: عقّدتم ومعنى عقدت اليمين ووكّدتها أن يحلف الحالف على الشيء غير غالط ولا ناس،

_ (1) انظر تيسير الداني 83. (2) قرأ الحرميان وأبو عمر بتشديد القاف.

[سورة المائدة (5) : آية 90]

وقيل: عقّدتم لأنه لجماعة. فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ابتداء وخبر ويجوز تنوين إطعام ونصب عشرة بغير تنوين وبتنوين على أن يكون مَساكِينَ في موضع نصب على البدل. مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ البيّن في هذا أن يكون ما تطعمون ليس بالرفيع ولا بالدّون. كِسْوَتُهُمْ في موضع نصب وعلامة النصب فيه الياء وحذفت النون للإضافة. أَوْ كِسْوَتُهُمْ عطف على إطعام وكذا أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ويجوز «أو تحرير رقبة» ، وكذا فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ والتقدير فعليه. ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ ابتداء وخبر والتقدير إذا حلفتم وحنثتم ثم حذف. وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أمر الله جلّ وعزّ، بحفظ الأيمان وترك التهاون بها حتى تنسى ليذكرها ويقوم فيها بما يجب عليه من كفارة أو غيرها. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ الكاف في موضع نصب أي يبيّن لكم آياته بيانا مثل ما بيّن لكم في كفارة اليمين. [سورة المائدة (5) : آية 90] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ الخمر عند العرب عصير العنب إذا اشتدّ، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ مسكر خمر» «1» فجعله بمنزلة هذه التي تعرفها العرب بالخمر والأنصاب: الأوثان والأزلام القداح، والتقدير واستعمال الأزلام. رِجْسٌ خبر الابتداء. والرجس عند العرب كلّ عمل يقبح فعله والفعل منه رجس يرجس ورجس يرجس، والرجس بفتح الراء وإسكان الجيم الصوت والفعل من الميسر. يسر ييسر فهو ياسر ويسر. فَاجْتَنِبُوهُ يكون فاجتنبوا الرّجس، ويكون فاجتنبوا هذا الفعل ويكون لأحد هذه الأشياء، ويكون باقيها داخلا فيما دخل فيه. [سورة المائدة (5) : آية 93] لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا أي من الحلال ودلّ على هذا إِذا مَا اتَّقَوْا فأمّا التكرير في قوله: إِذا مَا اتَّقَوْا ثُمَّ اتَّقَوْا ففيه أقوال: منها أن يكون المعنى: إذا ما اتقوا الكفر ثم آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا المعاصي ثم اتّقوا ظلم النّاس ودلّ على هذا وَآمَنُوا وقيل: إذا ما اتّقوا فيما مضى وصلحت «إذا» لما مضى على إضمار كانوا ثم اتّقوا للحال ثم اتّقوا في المستقبل، وقيل إذا اتّقوا للحال ثُمَّ اتَّقَوْا للمستقبل ثم اتقوا أقاموا على التقى، وقيل: إذا اتّقوا الكفر ثم اتّقوا الكبائر ثم اتّقوا الصّغائر.

_ (1) أخرجه الترمذي في كتاب الأشربة، باب ما جاء في شارب الخمر رقم (1861) .

[سورة المائدة (5) : آية 94]

[سورة المائدة (5) : آية 94] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ لام قسم وفي دخول «من» ثلاثة أجوبة تكون لبيان الجنس كما تقول: لأمتحننّك بشيء من الذهب وكما قال سيبويه «1» : هذا باب علم ما الكلم من العربيّة، ويجوز أن تكون «من» للتبعيض لأن المحرم صيد البرّ خاصة، ويجوز أن يكون التبعيض لأن الصيد إنما منع في الإحرام خاصّة. وواحد الحرم حرام أي محرم ومحرم يقع على ضربين أحدهما بالحجّ أو العمرة، والآخر أنه يقال: أحرم إذا دخل الحرم. لِيَعْلَمَ اللَّهُ لام كي. [سورة المائدة (5) : آية 95] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً شرط والجواب فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ وهذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وقرأ أهل الكوفة فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ «2» وروى هارون ابن حاتم عن ابن عياش عن عاصم فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ «3» ينصب «مثل» . قال الكسائي: وفي حرف عبد الله فجزاؤه مثل ما قتل «4» فقراءة المدنيين وأبي عمرو بمعنى فعليه جزاء مثل ما قتل، ويجوز أن يكون هذا على قراءة الكوفيين أيضا ويكون «مثل» نعتا لجزاء، ويجوز أن يكون «جزاء» مرفوعا بالابتداء وخبره «مثل ما قتل» والمعنى فجزاء فعله مثل ما قتل ومن نصب «مثلا» فتقديره فعليه أن يجزي مثل ما قتل. يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ تثنية ذو على الأصل. هَدْياً نصب على الحال من الهاء التي في «به» ويجوز أن يكون على البيان، ويجوز أن يكون مصدرا، وقرأ الأعرج هديّا بتشديد الياء «5» وهي لغة فصيحة. بالِغَ الْكَعْبَةِ أصله بالغا الكعبة لأنه نعت لنكرة. أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ «6» هذه قراءة أهل المدينة على إضافة الجنس وقراءة أبي عمرو وأهل الكوفة أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ قال أبو عبيد: لأن الطعام هو الكفارة، وهو عند البصريين على البدل. أَوْ كَفَّارَةٌ معطوفة على جزاء أي أو عليه كفارة.

_ (1) انظر الكتاب 1/ 40. (2) انظر البحر المحيط 4/ 22، وتيسير الداني 83. (3) انظر البحر المحيط 4/ 22، والمحتسب 1/ 218. (4) انظر البحر المحيط 4/ 22. (5) انظر البحر المحيط 4/ 23. (6) هذه قراءة عبد الله بن الحارث أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 26.

[سورة المائدة (5) : آية 96]

أَوْ عَدْلُ ذلِكَ قد ذكرناه. صِياماً على البيان. لِيَذُوقَ بلام كي. وَمَنْ عادَ في موضع جزم بالشرط إلا أنه فعل ماض مبني على الفتح. فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فعل مستقبل وفيه جواب الشرط. [سورة المائدة (5) : آية 96] أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ اسم ما لم يسم فاعله. وَطَعامُهُ عطف عليه. وقد ذكرنا معناه ومن أحسن ما قيل فيه أن الله تعالى أحلّ صيد البحر وأكله، وقد قيل: طعامه الماء لأنه يتطعّم، وقرأ ابن عباس وطعمه «1» بضم الطاء وإسكان العين. مَتاعاً منصوب على أنه مصدر لأن معنى أحلّ لكم هذا متّعتم به متاعا، ونظيره كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: 24] . ما دمتم حرما، ويقال: «دمتم» «2» والضمّ أفصح. [سورة المائدة (5) : آية 97] جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ مفعول أول، وقيل لها كعبة لتربيع أعلاها. الْبَيْتَ الْحَرامَ بدل. قيما مفعول ثان وقرأ ابن عامر وعاصم الجحدري قِياماً لِلنَّاسِ «3» وهما من ذوات الواو فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها، وقد قيل: قوام. وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ عطف. لِتَعْلَمُوا في موضع رفع أي الأمر ذلك ويجوز أن يكون في موضع نصب أي فعل الله ذلك. أَنَّ لام كي. أَنَّ اللَّهَ في موضع نصب. [سورة المائدة (5) : آية 101] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) أَشْياءَ لا تنصرف، وللنحويين فيها أقوال: قال «4» الخليل وسيبويه رحمهما الله والمازني: أصلها فعلاء شيئاء فاستثقلت همزتان بينهما ألف فقلبت الأولى فصارت لفعاء، وقال الكسائي وأبو عبيد: لم تنصرف لأنها أشبهت حمراء لقول العرب: أشياوات مثل حمراوات، وقال الأخفش والفراء» والزيادي: لم تنصرف لأنها أفعلاء

_ (1) هذه قراءة يحيى بن وثاب، انظر البحر المحيط 4/ 27. (2) انظر البحر المحيط 4/ 28، وتيسير الداني 83، ومختصر ابن خالويه 35. (3) انظر الكتاب 4/ 524، والبحر المحيط 4/ 32. [.....] (4) انظر معاني الفراء 1/ 321. (5) انظر البحر المحيط 4/ 36.

[سورة المائدة (5) : آية 102]

أشيئاء على وزن أشيعاع كما يقال: هين وأهوناء. قال أبو حاتم: أشياء أفعال مثل أنباء وكان يجب أن تنصرف إلا أنّها سمعت عن العرب غير معروفة فاحتال لها النحويون باحتيالات لا تصحّ. قال أبو جعفر: أصحّ هذه الأقوال قول الخليل وسيبويه والمازني ويلزم الكسائي وأبا عبيد ألّا يصرفا أسماء وأبناء لأنه يقال فيهما: أبناوات وأسماوات، حدّثني أحمد بن محمد الطبري النحوي يعرف بابن رستم عن أبي عثمان المازني قال: قلت للأخفش: كيف تصغّر أشياء؟ فقال: أشياء فقلت له: يجب على قولك أن تصغّر الواحد ثم تجمعه فانقطع. قال أبو جعفر وهذا كلام بيّن لأن أشياء لو كانت أفعلاء ما جاز أن تصغّر حتى تردّ إلى الواحد، وأيضا فإن فعلا لا يجمع على أفعلاء، وإمّا أن يكون أفعالا على قول أبي حاتم فمحال لأن أفعالا لا يمتنع من الصرف وليس شيء يمتنع من الصرف لغير علّة، والتقدير لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم، وأحسن ما قيل في هذا ما رواه أبو هريرة رحمه الله أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: من أبي؟ فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ فالمعنى على هذا لا تسألوا عن أشياء مستورة قد عفا الله عنها بالتوبة إن تبد لكم تسؤكم وعلم الله جلّ وعزّ أن الصلاح لهم أن لا تسألوا عنها، وقيل هذه أشياء عفا الله عنها كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الحلال بيّن والحرام بيّن وأشياء سكت الله عزّ وجلّ عنها هي عفو» «1» ومعنى سكت الله عنها لم ينه عنها. [سورة المائدة (5) : آية 102] قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) أي ردّوا على أنبيائهم فقالوا ليس الأمر كما قلتم. [سورة المائدة (5) : آية 105] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ. إغراء لأن معنى عليكم: الزموا. لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ «2» خبر ويجوز أن يكون جزما على الجواب أو على النهي يراد به المخاطبون كما يقال: لا أرينّك هاهنا وإذا كان جزما جاز ضمّه وفتحه وكسره، وحكى الأخفش لا يَضُرُّكُمْ «3» جزما من ضار يضير. [سورة المائدة (5) : آية 106] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)

_ (1) هذه قراءة الجمهور، انظر البحر المحيط 4/ 42. (2) هذه قراءة النخعي، انظر البحر المحيط 4/ 42. (3) انظر البحر المحيط 4/ 42.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ من أشكل آية في القرآن وقد ذكرنا فيها أقوالا للعلماء، ونذكر هاهنا: أحسن ما قيل فيها حدّثنا الحسن بن آدم بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا أبو زيد هارون بن محمد يعرف بابن أبي الهيذام قال: حدّثني أبو مسلم الحسن ابن أحمد بن أبي شعيب الحراني قال: حدّثنا محمد بن سلمة قال: حدّثنا محمد بن إسحاق عن أبي النّضر عن باذان مولى أم هانئ ابنة أبي طالب عن ابن عباس عن تميم الداريّ في هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ قال: برىء الناس منها غيري وغير عدي بن بدّاء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبيل الإسلام فأقبلا من الشام بتجارتهما وقدم عليهم مولى لبني سهم يقال له: بديل بن أبي مريم «1» بتجارة ومعه جام من فضّة يريد به الملك وهو مال عظيم قال: فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلّغا ما ترك أهله قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم واقتسمناه إليهما أنا وعدي بن بداء قال: فلمّا قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألوا عنه فقلنا ما ترك غير هذا وما دفع إلينا غيره قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فوثبوا إليه وأتوا به النبي صلّى الله عليه وسلّم فسألهم البيّنة فلم يجدوا بأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فأنزل الله عزّ وجلّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إلى قوله جلّ وعزّ: أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت خمسمائة الدرهم من عدي بن بداء، وحدّثنا الحسن بن آدم قال: حدّثنا أبو يزيد قال: حدّثني أبو زائدة زكرياء بن يحيى بن أبي زائدة قال: وجدت في كتاب أبي بخطّه: حدّثني محمد بن القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس أن تميما الداريّ وعديّ بن بدّاء كانا يختلفان إلى مكة في تجارة فخرج معهما رجل من بني سهم ببضاعة فتوفّي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما فجاءا بتركته فدفعوها إلى أهله وحبسوا عنهم جاما «2» من فضة مخوصا بالذهب قالوا: لم نره فأتوا بهما النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمر بهما فحلفا بالله عزّ وجلّ ما كتمنا ولا ظلمنا فخلّى سبيلهما ثم إن الجام وجد بمكة زعموا أنهم اشتروه من عدي وتميم فقام رجل من أولياء السّهميّين فحلف بالله أنّ الجام

_ (1) بديل بن أبي مريم، وقيل ابن أبي مارية السهمي، مولى عمرو بن العاص، انظر ترجمته في الإصابة 1/ 45 (609) . (2) الجام من الفضة: الإناء.

[سورة المائدة (5) : آية 107]

لجام السهمي ولشهادتنا أحقّ من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ثم أخذوا الجام وفيهم أنزلت هذه الآية «1» . شَهادَةُ بَيْنِكُمْ «2» رفع بالابتداء، وخبره اثْنانِ والتقدير شهادة اثنين مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ويجوز أن يكون اثنان رفعا بفعلهما أي ليكن منكم أن يشهد اثنان، وقيل: «شهادة» رفع بإذا حضر لأنها شهادة مستأنفة ليست واقعة لكل الخلق أي عند حضور الموت والاثنان مرفوعان عند قائل هذا القول بمعنى أن يشهد اثنان ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ نعت. أَوْ آخَرانِ عطف مِنْ غَيْرِكُمْ. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا ما فيه وأنه قيل: من غيركم من غير أهل دينكم، وقيل: من غير أقربائكم والثاني أولى لأن المعنى أو آخران عدلان من غيركم. كذا يجب أن يكون معنى آخر في اللغة ولا يكون غير المسلم عدلا. إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ «أنتم» رفع بفعل مضمر مثل الثاني. تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ أي صلاة العصر وخصّت بهذا لأنه لا ركوع بعدها فالناس يتفرغون بعدها. فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ يعني المدّعى عليهما. إِنِ ارْتَبْتُمْ معترض والتقدير فيقسمان بالله يقولان لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً أي بقسمنا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى معترض أي ولو كان الميت ذا قربى. وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ متصل بقوله «ثمنا» وقرأ ابن محيصن إنّا إذا لملّاثمين «3» أدغم النون في اللّام. وهذا رديء في العربية لأن اللام حكمها السكون وإن حرّكت فإنما الحركة للهمزة، ونظير هذا قراءة أبي عمرو ونافع وإنّه أهلك عادا لولى «4» [النجم: 51] . قال أبو جعفر: سمعت محمد بن الوليد يقول: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: ما علمت أن أبا عمرو بن العلاء لحن في شيء في صميم العربية إلّا في حرفين أحدهما وإنّه أهلك عادا لّولى والآخرة يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75] . [سورة المائدة (5) : آية 107] فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) فَإِنْ عُثِرَ في موضع جزم بالشرط يقال: منه عثرت عليه بالذنب أعثر عثورا وعثرت في المشي أعثر عثارا. فَآخَرانِ رفع بفعل مضمر. يَقُومانِ في موضع نعت. مَقامَهُما مصدر وتقديره مقاما مثل مقامهما ثم أقيم النعت مقام المنعوت والمضاف مقام المضاف إليه. مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ «5» ، روي عن أبيّ بن كعب مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ «6»

_ (1) القصة في البحر المحيط 4/ 43. (2) وقرأ السلمي والحسن (شهادة) بالنصب والتنوين، انظر البحر المحيط 4/ 43. (3) انظر البحر المحيط 4/ 48، ومختصر ابن خالويه 35. (4) انظر كتاب السبعة 615. (5) هذه قراءة حمزة وأبي بكر، انظر البحر المحيط 4/ 49. (6) هذه قراءة أبيّ وعلي وابن عباس، انظر البحر المحيط 4/ 49.

[سورة المائدة (5) : آية 108]

بفتح التاء والحاء، وكذا روى حفص بن سليمان عن عاصم بن أبي النجود. الْأَوْلَيانِ قراءة أهل المدينة يكون بدلا من قوله «فآخران» أو من المضمر في يَقُومانِ وقيل هو اسم ما لم يسم فاعله أي استحقّ عليهم إثم الأوليين مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ والمعنى عند قائل هذا «من الذين استحق عليهم الإثم بالخيانة» ، وعليهم بمعنى فيهم مثل عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة: 102] أي في ملك سليمان والمعنى الأولى بالميّت أو القسم، وقرأ الكوفيون الأولين «1» بدل من الذين أو من الهاء والميم في عليهم، وروي عن الحسن الأولان «2» . فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما ابتداء وخبر وقد ذكرنا ما فيه. والأولى أن يكون لأولياء الميت فأما أن يكون الشاهدان يحلفان فبعيد وإنما أشكل لقوله: لشهادتنا وبيانه أنّ الشهادة بمعنى الخبر وكلّ مخبر شاهد، وقد روى معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال: قام رجلان من أولياء الميت فحلفا. [سورة المائدة (5) : آية 108] ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) ذلِكَ أَدْنى ابتداء وخبر. أَنْ في موضع نصب يَأْتُوا نصب بأن. أَوْ يَخافُوا عطف عليه. أَنْ تُرَدَّ في موضع نصب بيخافوا. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا أمر فلذلك حذفت منه النون. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ نعت للقوم وفسق ويفسق ويفسق أي خرج من الطاعة إلى المعصية. [سورة المائدة (5) : آية 109] يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ظرف زمان والعامل فيه واسمعوا أي واسمعوا خبر يوم، وقيل: التقدير: واتّقوا يوم يجمع الله الرسل. فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا لا يصحّ قول مجاهد في هذا إنهم يفزعون فيقولون: لا علم لنا لأن الرسل صلّى الله عليهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والصحيح في هذا أن المعنى: ماذا أجبتم في السرّ والعلانية ليكون هذا توبيخا للكفار فيقولون: لا علم لنا فيكون هذا تكذيبا لمن اتّخذ المسيح إلها. إِلَّا ما عَلَّمْتَنا في موضع رفع لأنه خبر التبرية ويجوز أن يكون في موضع نصب على الاستثناء. [سورة المائدة (5) : آية 110] إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110)

_ (1) انظر تيسير الداني 83، والبحر المحيط 4/ 49. [.....] (2) انظر معاني الفراء 1/ 324، والبحر المحيط 4/ 51.

[سورة المائدة (5) : آية 111]

إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يكون على دعوة واحدة فيكون عِيسَى صلّى الله عليه في موضع نصب ويكون على دعوتين فيكون عِيسَى عليه السلام في موضع ضمّ وابْنَ مَرْيَمَ «1» نداء ثانيا، وإن شئت بدلا وإن شئت نعتا على الموضع ولا يجوز الرفع في الثاني إذا كان مضافا إلّا عند الطوال فإنه أجاز الرفع، وقرأ ابن محيصن إذ آيدتك «2» وكذا روي عن مجاهد، وكذا روى الحسين بن علي الجعفيّ عن أبي عمرو. وتُكَلِّمُ في موضع نصب على الحال. وَكَهْلًا عطف عليه، ويجوز أن يكون معطوفا على الموضع. فِي الْمَهْدِ أي أيدتك صغيرا في المهد وكبيرا كهلا وحكى ثابت بن أبي ثابت: إن الكهل ابن أربعين إلى الخمسين، وقال غيره: ابن ثلاث وثلاثين. وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ. معنى تخلق تقدّره تقديرا مستويا لا زيادة فيه ولا نقصان. فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي «3» أي فيقلب الله عزّ وجلّ الروح الذي يكون من النفخ لحما ودما وقد قرئ طَيْراً! وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي معنى بإذني بدعوتي فأبرئهما. قال الخليل رحمه الله: الأكمه الذي يولد أعمى والذي يعمى بعد ما كان يبصر. [سورة المائدة (5) : آية 111] وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ على الأصل ومن العرب من يحذف إحدى النونين.. [سورة المائدة (5) : آية 112] إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) أي هل يفعل ذلك لمسألتنا وقد ذكرناه. قالَ اتَّقُوا اللَّهَ وقرأ الكسائي هل تستطيع ربّك «4» أي هل تستطيع أن تسأل ربك قال: اتّقوا الله أي اتّقوا معاصي الله وكثرة السؤال فإنكم لا تدرون ما يحلّ بكم عند اقتراح الآيات إذ كان الله جلّ وعزّ إنما يفعل الأصلح بعباده. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي إن كنتم مؤمنين به وبما جئت به فقد جئتكم من الآيات بما فيه غناء.

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 54. (2) انظر البحر المحيط 4/ 55. (3) انظر تيسير الداني 83، والبحر المحيط 4/ 55. (4) انظر تيسير الداني 83.

[سورة المائدة (5) : آية 113]

[سورة المائدة (5) : آية 113] قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها نصب بأن. وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ عطف كلّه. [سورة المائدة (5) : آية 114] قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ الأصل عند سيبويه «1» يا الله والميمان بدل من يا. رَبَّنا نداء ثان، لا يجيز سيبويه غيره ولا يجوز عنده أن يكون نعتا لأنه قد أشبه الأصوات من أجل ما لحقه. أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ سؤال. تَكُونُ نعت المائدة وليس بجواب، وقرأ الأعمش تكن لنا عيدا «2» على الجواب. والمعنى يكون يوم نزولها عيدا لنا. لِأَوَّلِنا لأوّل أمتنا وآخرها، وقرأ عاصم الجحدري. لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا «3» . [سورة المائدة (5) : آية 115] قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) وهذا يوجب أنه قد أنزلها ووعده الحق. [سورة المائدة (5) : آية 116] وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) المعنى وإذ يقول الله يوم القيامة «وفعل» تأتي بمعنى «يفعل» ، و «يفعل» بمعنى «فعل» إذا عرف المعنى لأن الفعل واحد وإنما اختلف لاختلاف الزمان، وأنشد سيبويه في نظير الآية: [الكامل] 127- ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني ... فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني «4»

_ (1) انظر الكتاب 2/ 198. (2) قرأ عبد الله والأعمش (يكن) بالجواب على جواب الأمر، انظر البحر المحيط 4/ 60. (3) وهذه قراءة زيد بن ثابت وابن محيصن أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 60. (4) الشاهد لرجل من سلول والكتاب 3/ 22، والدرر 1/ 78، وشرح التصريح 2/ 11، وشرح شواهد المغني 1/ 310، والمقاصد النحوية 4/ 58، ولشمر بن عمرو الحنفي في الأصمعيات 126، ولعميرة بن جابر الحنفي في حماسة البحتري 171، وبلا نسبة في الأزهية ص 263، والأشباه والنظائر 3/ 90، والأضداد ص 132، وأمالي ابن الحاجب 631، وجواهر الأدب 307، وخزانة الأدب 1/ 357، والخصائص 2/ 338، وشرح شواهد الإيضاح 221، وشرح شواهد المغني 1/ 84، وشرح ابن عقيل 475، ولسان العرب (ثم) و (منن) .

[سورة المائدة (5) : آية 117]

وقال آخر: [الكامل] 128- وانضح جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخا دم وذبائح «1» يريد فلقد كان. قالَ سُبْحانَكَ مصدر أي تنزيها لك أن يكون معك إله سواك. ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ هذا التمام و «بحق» من صلة لي ولا بدّ للباء من أن تكون متعلقة بشيء. تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ أي تعلم حقيقة ما عندي ولا أعلم حقيقة ما عندك على الازدواج. قال المازني: التقدير إن قيل كنت قلته. [سورة المائدة (5) : آية 117] ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) أَنِ لا موضع لها من الإعراب وهي مفسّرة مثل وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص: 6] ، ويجوز أن تكون «أن» في موضع نصب أي ما ذكرت لهم إلّا عبادة الله جلّ وعزّ، ويجوز أن تكون في موضع خفض أي: بأن اعبدوا، وضمّ النون أجود لأنهم يستثقلون كسرة بعدها ضمة والكسر جائز على أصل التقاء الساكنين «2» . وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ (ما) في موضع نصب أي وقت دوامي فيهم. فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ قيل هذا يدلّ على أن الله جل وعز توفاه قبل أن يرفعه. [سورة المائدة (5) : آية 118] إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ شرط وجوابه. وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مثله وقد مضى تفسيره العزيز الذي لا يقهر الحكيم في فعله. [سورة المائدة (5) : آية 119] قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ هذه القراءة البينة على الابتداء والخبر، وفيها وجهان آخران: أحدهما هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ بالتنوين ويحذف فيه مثل

_ (1) الشاهد لزياد الأعجم في ديوانه 54، وأمالي المرتضى 2/ 301، وخزانة الأدب 10/ 4، والشعر والشعراء 1/ 438، ولسان العرب (كون) ، وللصلتان العبدي في أمالي المرتضى 2/ 199، وبلا نسبة في تخليص الشواهد 512، وخزانة الأدب 1/ 217. (2) انظر البحر المحيط 4/ 64، والكشاف 1/ 694.

[سورة المائدة (5) : آية 120]

وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة: 123] . والوجه الآخر هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ «1» بنصب يوم. حكى إبراهيم بن حميد عن محمد بن يزيد إنّ هذه القراءة لا تجوز لأنه نصب خبر الابتداء. قال أبو جعفر: ولا يجوز فيه البناء وقال إبراهيم بن السريّ «2» هي جائزة بمعنى قال الله هذا لعيسى يوم ينفع الصادقين صدقهم أي قاله يوم القيامة، وقال غيره: التقدير قال الله جلّ وعزّ هذه الأشياء تقع يوم القيامة، وقال الكسائي والفراء «3» : بني «يوم» هاهنا على النصب لأنه مضاف إلى غير اسم كما تقول: مضى يومئذ وأنشد الكسائي: [الطويل] 129- على حين عاتبت المشيب على الصّبا ... وقلت ألمّا تصح والشّيب وازع «4» ولا يجيز البصريون ما قالاه إذا أضفت الظرف إلى فعل مضارع فإن كان ماضيا كان جيدا كما مرّ في البيت. وإنّما جاز أن يضاف إلى الفعل ظروف الزمان لأن الفعل بمعنى المصدر. قال أبو إسحاق: حقيقة الحكاية أَبَداً ظرف زمان. [سورة المائدة (5) : آية 120] لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ابتداء وخبر.

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 67، وتيسير الداني 84، وهذه قراءة نافع. (2) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج 717. (3) انظر معاني الفراء 1/ 326. [.....] (4) الشاهد للنابغة في ديوانه 32، والكتاب 2/ 345، والأضداد 151، وجمهرة اللغة 1315، وخزانة الأدب 2/ 456، والدرر 3/ 144، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 506، وشرح أبيات سيبويه 2/ 53، وشرح التصريح 2/ 42، وشرح شواهد المغني 2/ 816، ولسان العرب (وزع) و (خشف) ، والمقاصد النحوية 3/ 406، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 111، وشرح الأشموني 2/ 315، وشرح ابن عقيل 387، وشرح المفصّل 3/ 16، ومغني اللبيب 571، والمقرب 1/ 290، والمنصف 1/ 58، وهمع الهوامع 1/ 218.

6 شرح إعراب سورة الأنعام

الجزء الثاني 6 شرح إعراب سورة الأنعام بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأنعام (6) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ ابتداء وخبر. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا بأكثر من هذا في «أمّ القرآن» والمعنى: قولوا الحمد لله. الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ نعت. وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ بمعنى خلق فإذا كانت جعل بمعنى خلق لم تتعدّ إلا إلى مفعول واحد. ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ابتداء وخبر ومن العرب من يقول: الذون والمعنى ثم الذين كفروا يجعلون لله عزّ وجلّ عدلا وشريكا وهو خلق هذه الأشياء وحده. [سورة الأنعام (6) : آية 2] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ابتداء وخبر وفي معناه قولان: أحدهما هو الذي خلق أصلكم يعني آدم صلّى الله عليه وسلّم، والآخر تكون النطفة خلقها الله جلّ وعزّ من طين على الحقيقة ثم قلبها حتى كان الإنسان منها. ثُمَّ قَضى أَجَلًا مفعول. وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ابتداء وخبر. وقال الضحّاك: قضى أجلا يعني أجل الموت وأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أجل القيامة فالمعنى على هذا أحكم أجلا وأعلمكم أنكم تقيمون إلى الموت ولم يعلمكم بأجل القيامة وقيل: قضى أجلا ما أعلمناه من أنه لا نبيّ بعد محمد صلّى الله عليه وسلّم وَأَجَلٌ مُسَمًّى أمر الآخرة، وقيل: قضى أجلا ما نعرفه من أوقات الأهلّة والزروع وما أشبههما، وأجل مسمّى أجل الموت لا يعلم الإنسان متى يموت. ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ابتداء وخبر أي تشكّون في أنه إله واحد وقيل: تمارون في ذلك. [سورة الأنعام (6) : آية 3] وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) وَهُوَ اللَّهُ ابتداء وخبر. قال أبو جعفر: وقد ذكرناه ومن أحسن ما قيل فيه: أنّ المعنى: وهو الله يعلم سرّكم وجهركم في السموات وفي الأرض. وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (ما) في موضع نصب يعلم.

[سورة الأنعام (6) : آية 4]

[سورة الأنعام (6) : آية 4] وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) (ما) نفي، وليست بشرط فلذلك ثبتت الياء في تأتيهم وإعراضهم عنها كفرهم بها. [سورة الأنعام (6) : آية 6] أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) (كم) في موضع نصب بأهلكنا ولا يعمل فيه يروا وإنما يعمل في الاستفهام ما بعده. مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ولم يقل «لهم» لأنه جاء على تحويل المخاطبة. وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً على الحال. وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ مفعولان. [سورة الأنعام (6) : آية 7] وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) ويقال قرطاس. فَلَمَسُوهُ عطف، وجواب لو لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. [سورة الأنعام (6) : آية 8] وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ بمعنى هلّا. وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ اسم ما لم يسم فاعله. [سورة الأنعام (6) : آية 9] وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا أي لو أنزلنا إليهم ملكا على هيئته لم يروه فإذا جعلناه رجلا التبس عليهم أيضا ما يلبسون على أنفسهم فكانوا يقولون: هذا ساحر مثلك وقال أبو إسحاق: كانوا يقولون لضعفتهم: إنما محمد بشر وليس بينه وبينكم فرق فيلبسون عليهم بهذا ويشكّكونهم فأعلم الله جل وعز أنه لو أنزل ملكا في صورة رجل لوجدوا سبيلا إلى اللّبس كما يفعلون. [سورة الأنعام (6) : آية 10] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بكسر الدال وضمّها لالتقاء الساكنين، الكسر الأصل، والضم لأن بعد الساكن ضمة. فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي عقابه. [سورة الأنعام (6) : آية 12] قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ قال الفراء: إن شئت كان هذا تمام الكلام ثم استأنفت لَيَجْمَعَنَّكُمْ وإن شئت كان في موضع نصب. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ قال الأخفش: إن شئت كان الَّذِينَ في موضع نصب على البدل من الكاف والميم، وزعم أبو العباس أن هذا القول خطأ لأنه لا يبدل من المخاطب، ولا المخاطب، لا يقال مررت

[سورة الأنعام (6) : آية 14]

بك زيد ولا مررت بي زيد، لأن هذا لا يشكل فيبيّن، وقيل: «الذين» نداء مفرد، وقيل قول ثالث وهو أجودها يكون الذين في موضع رفع بالابتداء وخبره فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. [سورة الأنعام (6) : آية 14] قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا مفعولان. فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1» نعت وأجاز الأخفش الرفع على إضمار مبتدأ. قال أبو إسحاق: ويجوز النصب على المدح، وقال الفراء «2» : على القطع. وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ وهي قراءة العامة وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد والأعمش وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ «3» . [سورة الأنعام (6) : آية 16] مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وقرأ الكوفيون مَنْ يُصْرَفْ «4» بفتح الياء وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، وعلى قول سيبويه الاختيار «من يصرف» بضم الياء لأن سيبويه قال: وكلّما قلّ الإضمار كان أولى. فإذا قرأ من يصرف بفتح الياء فتقديره من يصرف الله عنه العذاب وإذا قرأ من يصرف فتقديره من يصرف عنه العذاب. وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ابتداء وخبر. [سورة الأنعام (6) : آية 19] قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً ابتداء وخبر. شَهادَةً على البيان، والمعنى أيّ شيء من الأشياء أكبر شهادة حتى استشهد به عليكم. قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ابتداء وخبر وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا اسم ما لم يسم فاعله. الْقُرْآنُ نعت له. لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ نصب بلام كي. وَمَنْ بَلَغَ في موضع نصب عطف على الكاف والميم. وفي معناه قولان أحدهما وأنذر من بلغه القرآن، والآخر ومن بلغ الحلم ودلّ بهذا على أنّ من لم يبلغ الحلم ليس بمخاطب ولا متعبّد. أَإِنَّكُمْ بهمزتين على الأصل وإن خففت الثانية قلت: أينّكم وروى الأصمعي عن أبي عمرو ونافع أاإنكم وهذه لغة معروفة يجعل بين الهمزتين ألف كراهة لالتقائهما. وَإِنَّنِي على الأصل ويجوز وإني على الحذف بَرِيءٌ خبر «إن» .

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 90. (2) انظر معاني الفراء 1/ 328. (3) انظر البحر المحيط 4/ 91. (4) انظر تيسير الداني 84، والبحر المحيط 4/ 91 وهي قراءة أبي بكر وحمزة والكسائي.

[سورة الأنعام (6) : آية 20]

[سورة الأنعام (6) : آية 20] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ في موضع رفع بالابتداء. يَعْرِفُونَهُ في موضع الخبر. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ في موضع رفع نعت للذين الأول، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. [سورة الأنعام (6) : آية 21] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ ابتداء وخبر. [سورة الأنعام (6) : آية 23] ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ. أي اختبارهم يقرأ على خمسة أوجه: قرأ حمزة الكسائي ثم لم يكن» بالياء. فِتْنَتُهُمْ نصب وهذه قراءة بيّنة لأنّ: أَنْ قالُوا اسم «يكن» ولفظه مذكّر «فتنتهم» خبر، وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو بن العلاء ثُمَّ لَمْ تَكُنْ «2» بالتاء، فِتْنَتُهُمْ نصب أنّث «أن قالوا» عند سيبويه، لأنّ «أن قالوا» هو الفتنة، ونظيره عند سيبويه «3» قول العرب: ما جاءت حاجتك، وقراءة الحسن تلتقطه بعض السيّارة [يوسف: 10] وأنشد سيبويه: [الطويل] 130- وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدّم «4» وقال غير سيبويه: جعل «أن قالوا» بمعنى المقالة وقرأ عبد الله بن مسعود وأبيّ ابن كعب وما كان فتنتهم إلّا أن قالوا «5» وقرأ الأعرج ومسلم بن جندب وابن كثير وعبد الله بن عامر الشامي وعاصم من رواية حفص والأعمش من رواية المفضل والحسن وقتادة وعيسى بن عمر. ثُمَّ لَمْ تَكُنْ بالتاء فِتْنَتُهُمْ بالرفع اسم تكن والخبر إِلَّا أَنْ قالُوا فهذه أربع قراءات والخامسة ثم لم يكن بالياء. (فتنتهم) «6» بالرفع يذكر الفتنة لأنها بمعنى الفتون ومثله فمن جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ [البقرة: 275] . وَاللَّهِ خفض بواو القسم وهي بدل من الباء لقربها منها. رَبِّنا نعت ومن نصب

_ (1) انظر تيسير الداني 84. (2) انظر تيسير الداني 84. (3) انظر الكتاب 1/ 92. (4) الشاهد للأعشى في ديوانه ص 173، والكتاب 1/ 93، والأزهية 238، والأشباه والنظائر 5/ 55 وخزانة الأدب 5/ 106، والدرر 5/ 19، وشرح أبيات سيبويه 1/ 54، ولسان العرب (صدر) و (شرق) ، والمقاصد النحوية 3/ 378، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 105، والخصائص 2/ 417، والمقتضب 4/ 197، وهمع الهوامع 2/ 49. (5) انظر البحر المحيط 4/ 99. (6) انظر البحر المحيط 4/ 99، ومختصر ابن خالويه 36.

[سورة الأنعام (6) : آية 25]

فعلى النداء أي يا ربّنا وهي قراءة حسنة لأن فيها معنى الاستكانة والتضرّع. [سورة الأنعام (6) : آية 25] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) أَنْ يَفْقَهُوهُ في موضع نصب أي كراهة أن يفقهوه. وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً عطف يقال: وقرت أذنه بفتح الواو وحكى أبو زيد عن العرب: أذن موقورة فعلى هذا وقرت بضم الواو. واحد الأساطير اسطارة ويقال: أسطورة، ويقال: هو جمع أسطار وأسطار جمع سطر يقال: سطر وسطر. [سورة الأنعام (6) : آية 26] وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) وقرأ الحسن وهم ينهون عنه وينون عنه «1» ألقى حركة الهمزة على النون وحذفها. [سورة الأنعام (6) : آية 27] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) ويجوز في العربية إذ أقفوا على النّار مثل أُقِّتَتْ [المرسلات: 11] . قرأ أهل المدينة والكسائي يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «2» رفع كلّه. قال أبو جعفر: وهكذا يروى عن أبي عمرو، ويروى عنه وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا بالإدغام، وقرأ الكوفيون وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بالنصب. وَنَكُونَ مثله، وقرأ عبد الله بن عامر يا ليتنا نرد ولا نكذب بالرفع وَنَكُونَ «3» بالنصب، وقرأ أبي وابن مسعود يا ليتنا نردّ ولا نكذّب بآيات ربّنا «4» بالفاء والنصب. قال أبو جعفر: القراءة الأولى بالرفع على أن يكون منقطعا مما قبله هذا قول سيبويه وقيل: هو عطف والإدغام حسن والنصب بالواو على أنه جواب التمنّي وكذا بالفاء ورفع الأول على قراءة ابن عامر على القطع مما قبله أو العطف ويجعل «ونكون» جوابا. [سورة الأنعام (6) : آية 28] بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ في معناه قولان: أحدهما أنه للمنافقين لأن اسم الكفر مشتمل عليهم فعاد الضمير على بعض المذكور وهذا من كلام العرب الفصيح والقول الآخر أن الكفار كانوا إذا وعظهم النبي صلّى الله عليه وسلّم خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 104. (2) انظر تيسير الداني 84. (3) انظر البحر المحيط 4/ 107، وتيسير الداني 84. [.....] (4) انظر البحر المحيط 4/ 107.

[سورة الأنعام (6) : آية 29]

يفطن بهم ضعفاؤهم فظهر ذلك يوم القيامة، وقرأ يحيى بن وثاب وَلَوْ رُدُّوا بكسر «1» الراء لأن الأصل رددوا فقلب كسرة الدال على الراء كما يقال: قيل وبيع وبينهما فرق لأنّ قيل إنما قلبت فيه الحركة لأنه معتل وليس حكم الياء والواو حكم غيرهما لكثرة انقلابهما. [سورة الأنعام (6) : آية 29] وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ابتداء وخبر وَما نَحْنُ اسم ما. نَحْنُ الخبر. [سورة الأنعام (6) : آية 31] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ أي قد خسروا أعمالهم وثوابها. حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً نصب على الحال وهي عند سيبويه «2» مصدر في موضع الحال كما تقول: قتلته صبرا وأنشد: [الطويل] 131- فلأيا بلأي ما حملنا وليدنا ... على ظهر محبوك ظماء مفاصله «3» ولا يجيز سيبويه أن يقاس عليه. لا يقال: جاء فلان سرعة. وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ أي ذنوبهم جعلها لثقلها بمنزلة الحمل الثقيل الذي يحمل على الظّهر وقيل: يعني عقوبات الذنوب لأن العقوبة يقال لها وزر. أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أي يحملون. [سورة الأنعام (6) : آية 32] وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ابتداء وخبر أي الذين يشتهون الحياة الدنيا لا عاقبة له فهو بمنزلة اللهو واللعب. وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ ابتداء وخبر وقرأ ابن عامر ولدار الآخرة خفيفة وبالخفض، والدار الآخرة خير لبقائها. لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أي يتقون معاصي الله جلّ وعزّ أَفَلا تَعْقِلُونَ إنّ الأمر هكذا فتزهدوا في الدنيا. [سورة الأنعام (6) : آية 33] قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ كسرت «إنّ» لدخول اللام. فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ قد ذكرناه وحكي عن محمد بن يزيد أنه قال: يكذبونك ويكذّبونك بمعنى واحد قال: وقد يكون لا يكذبونك بمعنى لا يجدونك تأتي بالكذب كما تقول: أبخلت الرجل، وقال

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 108. (2) انظر الكتاب 1/ 438. (3) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 133، والكتاب 1/ 438، وشرح شواهد للشنتمري 1/ 186.

[سورة الأنعام (6) : آية 34]

غيره: معنى لا يكذّبونك لا يكذّبونك بحجّة ولا برهان ودلّ على هذا وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. [سورة الأنعام (6) : آية 34] وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ على تأنيث الجماعة. رُسُلٌ اسم ما لم يسمّ فاعله، وإن شئت حذفت الضمة فقلت: رسل لثقل الضمة. فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا أي فاصبر كما صبروا. وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا أي فسيأتيك ما وعدت به. وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ مبيّن لذلك أي ما وعد الله عز وجل فلا يقدر أحد أن يدفعه. [سورة الأنعام (6) : آية 35] وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) وَإِنْ كانَ شرط. كَبُرَ فعل ماض وهو خبر عن كان. فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ مفعول به. أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ عطف عليه أي سببا إلى السماء وهذا تمثيل لأن السّلّم الذي يرتقى عليه سبب إلى الموضع وما يعرف ما حكاه الفراء من تأنيث السلّم. فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ عطف وأمر الله جلّ وعزّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أن لا يشتدّ حزنه عليهم إذ كانوا لا يؤمنون كما أنه لا يستطيع هذا. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ من الذين اشتدّ حزنهم وتحسّروا حتّى أخرجهم ذلك إلى الجزع الشديد وإلى ما لا يحلّ. [سورة الأنعام (6) : آية 36] إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ أي يسمعون سماع إصغاء وتفهّم وإرادة للحقّ. وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ وهم الكفار وهم بمنزلة الموتى في أنهم لا يقبلون ولا يصغون إلى حجّة. [سورة الأنعام (6) : آية 37] وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وكان منهم تعنّتا بعد ظهور البراهين وإقامة الحجّة بالقرآن الذي عجزوا عن أن يأتوا بسورة مثله لما فيه من الوصف وعلم الغيوب. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن الله جلّ وعزّ إنّما ينزل من الآيات ما فيه مصلحة للعباد. [سورة الأنعام (6) : آية 38] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ عطف على اللفظ، وقرأ الحسن وعبد الله

[سورة الأنعام (6) : آية 39]

ابن أبي إسحاق وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «1» جعله عطفا على الموضع، والتقدير: وما دابة ولا طائر يطير بجناحيه. إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أي هم جماعات مثلكم في أن الله جلّ وعزّ خلقهم وتكفّل بأرزاقهم وعدل عليهم فلا ينبغي أن تظلموهم ولا تجاوزوا فيهم ما أمرتم به. ودابّة يقع لجميع ما دبّ. ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ أي ما تركنا شيئا من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن إما دلالة مبيّنة مشروحة وإما مجملة نحو وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] ، ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ فدلّ بهذا على أن البهائم تحشر يوم القيامة. [سورة الأنعام (6) : آية 39] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ ابتداء وخبر. مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ شرط ومجازاة وكذا وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. [سورة الأنعام (6) : آية 40] قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ بتحقيق «2» الهمزتين قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة وقرأ نافع بتخفيف الهمزتين يلقي حركة الأولى على ما قبلها ويأتي بالثانية بين بين، وحكى أبو عبيد عنه أنه يسقط الهمزة ويعوّض منها ألفا وهذا عند أهل اللغة غلط عليه لأن الياء ساكنة والألف ساكنة ولا يجتمع ساكنان، وقرأ عيسى بن عمر والكسائي قل أريتكم «3» بحذف الهمزة الثانية وهذا بعيد في العربية وإنما يجوز في الشعر والعرب تقول: أريتك زيدا ما شأنه. قال الفراء «4» : الكاف لفظها لفظ منصوب ومعناها معنى مرفوع، كما يقال: دونك زيدا أي خذه. قال أبو إسحاق: هذا محال ولكن الكاف لا موضع لها وهي زائدة للتوكيد كما يقال: ذاك والعرب تقول على هذا في التثنية أريتكما زيدا ما شأنه، وفي الجمع أريتكم زيدا وفي المرأة أريتك زيدا ما شأنه، يدعون التاء موحّدة ويجعلون العلامة في الكاف فإن كانت الكاف في موضع نصب قالوا في التثنية: أريتما كما عالمين بفلان وفي الجمع أريتموكم عالمين بفلان وفي جماعة المؤنث أريتكنّ عالمات بفلان وفي الواحدة أريتك عالمة بزيد. قال الله عزّ وجلّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6، 7] فهو من هذا بعينه.

_ (1) وهذه قراءة ابن أبي عبلة أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 125. (2) انظر تيسير الداني 84. (3) انظر تيسير الداني 84. (4) انظر معاني الفراء 1/ 331، والبحر المحيط 4/ 131.

[سورة الأنعام (6) : آية 41]

[سورة الأنعام (6) : آية 41] بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) إِيَّاهُ نصب بتدعون فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ فعل مستقبل. وَتَنْسَوْنَ وتتركون مثل وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ [طه: 115] ويجوز أن يكون المعنى وتتركون فتكونون بمنزلة الناسين. وقرأ عبد الرحمن الأعرج. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ بضم الهاء على الأصل لأن الأصل أن تكون الهاء مضمومة كما تقول: جئت معه وقد ذكرنا توحيد الهاء. [سورة الأنعام (6) : آية 49] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49) قال الكسائي: يقال بغتهم الأمر يبغتهم بغتا وبغتة إذا أتاهم فجاءة وقرأ الحسن والأعمش الْعَذابُ بِما «1» مدغما وهكذا روي عن أبي عمرو مدغما وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش بِما كانُوا يَفْسُقُونَ «2» بكسر السين وهي لغة معروفة. [سورة الأنعام (6) : آية 52] وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ جزم بالنهي وعلامة الجزم حذف الضمة وكسرت الدال لالتقاء الساكنين. يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ غداة نكرة فعرفت بالألف واللام وكتبت بالواو كما كتبت الصلاة بالواو وقرأ أبو عبد الرحمن السلميّ وعبد الله بن عامر ومالك بن دينار بِالْغَداةِ «3» وباب غدوة أن تكون معرفة إلا أنه يجوز تنكيرها كما تنكّر الأسماء الأعلام فإذا نكّرت دخلتها الألف واللام للتعريف، وعشيّ وعشيّة نكرتان لا غير. ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ (من) الأولى للتبعيض والثانية زائدة للتوكيد وكذا. وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ جواب النفي. فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ جواب النهي. [سورة الأنعام (6) : آية 53] وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) لام كي وهذا من المشكل يقال: كيف فتنوا ليقولوا هذا لأنه إن كان إنكارا فهو كفر منهم وفي هذا جوابان: أحدهما أنّ المعنى اختبرنا الأغنياء بالفقراء أن تكون مرتبتهم عند النبي صلّى الله عليه وسلّم واحدة ليقولوا على سبيل الاستفهام لا على سبيل الإنكار أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا، والجواب الآخر أنهم لما اختبروا بهذا فآل عاقبته

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 136. (2) انظر البحر المحيط 4/ 136. (3) انظر تيسير الداني 85، والبحر المحيط 4/ 139.

[سورة الأنعام (6) : آية 54]

إلى أن قالوا هذا سبيل الإنكار صار مثل قوله جلّ وعزّ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] . [سورة الأنعام (6) : آية 54] وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ رفع بالابتداء وفيه معنى المنصوب عند سيبويه «1» فلذلك ابتدئ بالنكرة. كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي أوجب فخوطب العباد على ما يعرفون من أنه من كتب شيئا فقد أوجبه على نفسه وقيل: كتب ذلك في اللوح المحفوظ قال أبو جعفر: وقد ذكرنا قراءة «2» من قرأ (أنّه) (فأنه) ففتحهما جميعا وقراءة من كسرهما جميعا وقراءة من فتح الأولى وكسر الثانية، وقرأ عبد الرحمن الأعرج بكسر الأولى وفتح الثانية كذا روى عنه ابن سعدان فمن فتحهما جميعا جعل الأولى بدلا من الرحمة أو على إضمار مبتدأ أي هي كذا والثانية مكرّرة عند سيبويه «3» كما قال الله جلّ وعزّ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمران: 188] وقال جلّ وعزّ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا ثم قال بعد إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ [الحج: 17] وقال الأخفش وأبو حاتم: «أنّ» الثانية في موضع رفع بالابتداء أي فالمغفرة له وهذا خطأ عند سيبويه، وسيبويه لا يجوز عنده أن يبتدأ بأنّ ولكن قال بعض النحويين يجوز أن تكون «أنّ» الثانية في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي فالذي له أنّ الله غفور رحيم ومن كسرهما جميعا جعل الأولى مبتدأة وجعل كتب بمعنى قال وكسر الثانية لأنها بعد الفاء في جواب الشرط، ومن كسر الأولى وفتح الثانية جعل الأولى كما قلنا وفتح الثانية على إضمار مبتدأ، وأنكر أبو حاتم هذه القراءة ولم يقع إليه، ومن فتح الأولى وكسر الثانية جعل الأولى كما ذكرنا فيمن فتحهما جميعا وكسر الثانية على ما يجب فيها بعد الفاء فهذه القراءة بيّنة في العربية. [سورة الأنعام (6) : الآيات 55 الى 56] وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ يقال: هذه اللام تتعلّق بالفعل فأين الفعل الذي تعلّقت به فالكوفيون يقولون: التقدير وكذلك نفصّل الآيات لنبيّن لكم

_ (1) انظر الكتاب 1/ 395. (2) القراءات كلّها في البحر المحيط 4/ 144. (3) انظر الكتاب 3/ 153. [.....]

[سورة الأنعام (6) : آية 57]

ولتستبين سبيل المجرمين. قال أبو جعفر: وهذا الحذف كلّه لا يحتاج إليه والتقدير وكذلك نفصّل الآيات، ولتستبين سبيل المجرمين فصّلناها. والسبيل يذكر ويؤنّث والتأنيث أكثر، وقرأ يحيى بن وثّاب وطلحة بن مصرف قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً «1» بكسر اللام وقال أبو عمرو بن العلاء ضللت لغة تميم. [سورة الأنعام (6) : آية 57] قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ الضمير يعود على البيّنة وذكّرت لأن البيان والبيّنة واحد وقيل: التقدير: وكذّبتم بما جئت به. قال أبو جعفر: قد ذكرنا «2» يقضي الحقّ ويَقُصُّ الْحَقَّ. [سورة الأنعام (6) : آية 58] قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي من العذاب. لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي لانقطع إلى آخره. [سورة الأنعام (6) : آية 59] وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ الذي هو يفتح علم الغيب إذا أراد جلّ وعزّ أن يخبر به نبيّا أو غيره، ومفاتح جمع مفتح هذه اللغة الفصيحة ويقال مفتاح والجمع مفاتيح. وقرأ الحسن وعبد الله بن بي إسحاق ولا رطب لا يابس إلّا في كتاب مّبين «3» عطفا على المعنى ويجوز وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ على الابتداء والخبر. إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي كتبها الله لتعتبر الملائكة بذلك. [سورة الأنعام (6) : آية 60] وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ابتداء وخبر أي يستوفي عددكم. بِاللَّيْلِ وفي الليل واحد وقرأ أبو رجاء وطلحة بن مصرّف ثم يبعثكم فيه ليقضي أجلا مسمّى «4» .

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 145. (2) انظر البحر المحيط 4/ 146، ومعاني الفراء 1/ 38. (3) انظر مختصر ابن خالويه 37، والبحر المحيط 4/ 15، وهي قراءة ابن السميفع أيضا. (4) انظر مختصر ابن خالويه 37.

[سورة الأنعام (6) : آية 61]

[سورة الأنعام (6) : آية 61] وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ هذا اختيار الخليل وهي قراءة نافع على تخفيف الهمزة الثانية ويجوز تخفيفهما «1» وحذف إحداهما. تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا على تأنيث الجماعة كما قال: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ [غافر: 83] وقرأ حمزة توفّاه رسلنا «2» على تذكير الجمع وقرأ الأعمش يتوفّاه رسلنا بزيادة ياء في أوله والتذكير. [سورة الأنعام (6) : آية 62] ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ على النعت وقرأ الحسن الحقّ «3» بالنصب يكون مصدرا وبمعنى أعني، ومعنى مولاهم الحقّ أنه خالقهم ورازقهم ونافعهم وضارهم وهذا لا يكون إلا الله جلّ وعزّ أَلا لَهُ أي اعلموا وقولوا له الحكم وحده. [سورة الأنعام (6) : آية 63] قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً مصدر ويجوز أن يكون حالا والمعنى ذوي تضرّع وروى أبو بكر ابن عيّاش عن عاصم وَخُفْيَةً «4» بكسر الخاء وروي عن الأعمش وخيفة الياء قبل الفاء وهذا معنى بعيد لأن معنى تضرعا أن يظهروا التذلّل، وخفية أن يبطنوا مثل ذلك قرأ الكوفيون لَئِنْ أَنْجانا «5» واتّساق الكلام بالتاء كما قرأ أهل المدينة وأهل الشام. [سورة الأنعام (6) : آية 65] قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وروي عن أبي عبد الله المدني أَوْ يَلْبِسَكُمْ» بضم الياء أي يجلّلكم العذاب ويعمّكم به وهذا من اللّبس بضم اللام والأول من اللّبس بفتحها وهو موضع مشكل والإعراب يبيّنه. قيل: التقدير أو يلبس عليكم أمركم فحذف أحد المفعولين وحرف الجر كما قال جلّ وعزّ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ [المطففين: 3]

_ (1) انظر تيسير الداني 85. (2) انظر البحر المحيط 4/ 152. (3) وهذه قراءة الأعمش أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 153، ومختصر ابن خالويه 37. (4) انظر البحر المحيط 4/ 153، وتيسير الداني 85. (5) انظر البحر المحيط 4/ 154، وتيسير الداني 85. (6) انظر البحر المحيط 4/ 155.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 66 إلى 67]

وهذا اللبس بأن يكون يطلق لبعضهم أن يحارب بعضا أو يريهم آية يتفرقون عندها فيروا شيعا، وشِيَعاً نصب على الحال أو المصدر، وقيل: معنى يلبسكم شيعا يقوّي عدوكم حتى يخالطكم فإذا خالطكم فقد لبسكم فرقا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ بالحرب. [سورة الأنعام (6) : الآيات 66 الى 67] وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لم أومر أن أحفظكم من التكذيب والكفر. روي عن ابن عباس لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أي لكل خبر حقيقة. [سورة الأنعام (6) : آية 68] وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا التقدير وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والردّ والاستهزاء. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ منكرا عليهم. حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فأدّب الله جلّ وعزّ نبيه فهذا صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان يقعد إلى قوم من المشركين يعظهم ويدعوهم فيستهزءون بالقرآن فأمره الله عزّ وجلّ أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه وكان في هذا ردّ في كتاب الله عزّ وجلّ على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج واتباعهم لهم أن يخالطوا الفاسقين ويصوبوا آراءهم تقية، وقرأ عبد الله بن عامر وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ «1» على التكثير. [سورة الأنعام (6) : آية 69] وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَلكِنْ ذِكْرى في موضع نصب على المصدر ويجوز أن تكون في موضع رفع بمعنى «ولكن الذي يفعلونه ذكرى» أي ولكن عليهم ذكرى، وقال الكسائي: المعنى ولكن هذه ذكرى. [سورة الأنعام (6) : آية 70] وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ في موضع نصب أي كراهة أن تبسل. بِما كانُوا يَكْفُرُونَ في موضع نصب على خبر كانوا. [سورة الأنعام (6) : آية 71] قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71)

_ (1) انظر تيسير الداني 85، والبحر المحيط 4/ 157.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 72 إلى 73]

قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا أي ما لا ينفعنا إن دعوناه. وَلا يَضُرُّنا إن تركناه. وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا أي نرجع إلى الضلالة بعد الهدى. وواحد الأعقاب عقب وهي مؤنّثة تصغيرها عقيبة. كَالَّذِي الكاف في موضع نصب نعت لمصدر. اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ على تأنيث الجماعة، وقرأ حمزة استهواه الشياطين «1» على تذكير الجمع، وروي عن ابن مسعود استهواه الشيطان «2» وعن الحسن استهوته الشياطون «3» رواه محبوب عن عمرو عن الحسن وهو لحن. حَيْرانَ نصب على الحال ولم ينصرف لأنّ أنثاه حيرى. لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا وفي الابتداء ائتنا والأصل بهمزتين أبدلت من إحداهما ياء لئلا يجتمعا. وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ لام كي. قال أبو جعفر: وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول: هي لام الخفض واللامات كلها ثلاث لام خفض ولام أمر ولام توكيد لا يخرج شيء عنها. [سورة الأنعام (6) : الآيات 72 الى 73] وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ فيه ثلاثة أقوال: فمذهب الفراء أنّ المعنى وأمرنا لأن نسلّم وأن أقيموا، والجواب الثاني أن يكون المعنى وبأن أقيموا الصلاة والثالث أن يكون عطفا على المعنى أي يدعونه إلى الهدى ويدعونه أن أقيموا الصلاة، لأن معنى «ائتنا» أن ائتنا. وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ابتداء وخبر وكذا وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ. وَيَوْمَ يَقُولُ فيه ثلاثة أجوبة يكون عطفا على الهاء في وَاتَّقُوهُ، والثاني أن يكون عطفا على السموات، والثالث أن يكون بمعنى اذكر. كُنْ فَيَكُونُ فيه ثلاثة أجوبة: قال الفراء «4» : يقال إنه للصور خاصة «ويوم يقول للصور كن فيكون» ، والجواب الثاني أن يكون المعنى فيكون جميع ما أراد من موت الناس وحياتهم وعلى هذين الجوابين قَوْلُهُ الْحَقُّ ابتداء وخبر، والجواب الثالث أن يكون قوله رفعا بيكون والحقّ من نعته. يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فيه ثلاثة أجوبة: يكون بدلا من يوم، والجواب الثاني أن يكون التقدير قوله الحقّ يوم ينفخ في الصور، والجواب الثالث أن يكون التقدير وله الملك يوم ينفخ في الصّور. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فيه ثلاثة أجوبة يكون نعتا للذي أي

_ (1) انظر الحجة لابن خالويه 117. (2) انظر مختصر ابن خالويه 38. (3) انظر البحر المحيط 4/ 162. [.....] (4) انظر معاني الفراء 1/ 340.

[سورة الأنعام (6) : آية 74]

وهو الذي خلق السموات عالم الغيب، ويكون على إضمار مبتدأ وقرأ الحسن والأعمش وعاصم عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ «1» يكون بدلا من الهاء التي في (له) ، والجواب الثالث في الرفع أن يكون محمولا على المعنى أي ينفخ فيه عالم الغيب لأنه إذا كان النفخ فيه بأمر الله كان منسوبا إلى الله جلّ وعزّ وأنشد سيبويه: [الطويل] 132- ليبك يزيد ضارع لخصومة ... وأشعث ممّن طوّحته الطّوائح «2» [سورة الأنعام (6) : آية 74] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ تكلّم العلماء في هذا فقال الحسن: كان اسم أبيه آزر، وقيل كان له اسمان آزر وتارح، وروى المعتمر بن سليمان عن أبيه قال: بلغني أنها أعوج، قال: وهي أشدّ كلمة قالها إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم لأبيه، وقال الضحاك: معنى آزر شيخ. قال أبو جعفر: يكون هذا مشتقا من الأزر وهو الظّهر ولا ينصرف لأنه على أفعل ويكون بدلا كما يقال: رجل أجوف أي عظيم الجوف، وكذا آزر يكون عظيم الأزر معوّجه، وروي عن ابن عباس أنه قرأ وإذ قال إبراهيم لأبيه أازرا «3» بهمزتين فالأولى مفتوحة والثانية مكسورة هذه رواية أبي حاتم ولم يبيّن معناه فيجوز أن يكون مشتقا من الأزر أي الظّهر ويكون معناه القوة ويكون مفعولا من أجله، ويجوز أن يكون بمعنى وزر كما يقال: وسادة وإسادة وفي رواية غير أبي حاتم بهمزتين مفتوحتين وفي الروايتين تَتَّخِذُ بغير ألف. أَصْناماً آلِهَةً مفعولان وفيه معنى الإنكار. إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ عطفا على الكاف. [سورة الأنعام (6) : آية 75] وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) وقرأ أبو السمّال العدوي وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بإسكان اللام ولا يجوز عند سيبويه حذف الفتحة لخفّتها ولعلّها لغة. وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أي وليكون من الموقنين أريناه.

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 165. (2) الشاهد للحارث بن نهيك في الكتاب 1/ 345، وفي خزانة الأدب 1/ 303، وشرح شواهد الإيضاح 94، وشرح المفصل 1/ 80، وللبيد بن ربيعة في ملحق ديوانه 362، ولنهشل بن حريّ في خزانة الأدب 1/ 303، ومعاهد التنصيص 1/ 202، وللحارث بن ضرار في شرح أبيات سيبويه 1/ 110، ولنهشل أو للحارث أو لضرار أو لمزرد بن ضرار أو للمهلهل في المقاصد النحوية 2/ 454، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 345، وأمالي ابن الحاجب ص 447، وتخليص الشواهد 478، وخزانة الأدب 8/ 139، والخصائص 2/ 353، وشرح الأشموني 1/ 171، وشرح المفصل 1/ 80، ومغني اللبيب 620، والمقتضب 3/ 282، وهمع الهوامع 1/ 160، وعجز البيت «ومختبط ممّا تطيح اللوائح» . (3) انظر مختصر ابن خالويه 38 والبحر المحيط 4/ 169 وهذه قراءة أبي إسماعيل الشامي أيضا.

[سورة الأنعام (6) : آية 76]

[سورة الأنعام (6) : آية 76] فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً مفعول. قالَ هذا رَبِّي ابتداء وخبر ومن أحسن ما قيل في هذا ما صحّ عن ابن عباس رحمه الله أنه قال في قول الله جلّ وعزّ نُورٌ عَلى نُورٍ [النور: 35] قال: كذا قلب المؤمن يعرف الله جلّ وعزّ ويستدلّ عليه بقلبه فإذا عرفه ازداد نورا على نور وكذا إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم عرف الله عزّ وجلّ بقلبه واستدلّ عليه بدلائله فعلم أن له ربّا وخالقا فلما عرّفه الله جلّ وعزّ بنفسه ازداد معرفة فقال: أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ [الأنعام: 80] . [سورة الأنعام (6) : آية 78] فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً نصب على الحال لأن هذا من رؤية العين. قالَ هذا رَبِّي قال الكسائي والأخفش: أي قال هذا الطالع ربي، وقال غيرهما: أي هذا الضوء قال أبو الحسن علي بن سليمان: أي هذا الشخص كما قال الأعشى «1» : [السريع] 133- قامت تبكّيه على قبره ... من لي من بعدك يا عامر تركتني في الدّار ذا غربة ... قد ذلّ من ليس له ناصر [سورة الأنعام (6) : آية 79] إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) أي قصدت بعبادتي وتوحيدي لله جلّ وعزّ وحده. وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسم «ما» وخبرها، وإذا وقفت قلت: أنا، زدت الألف لبيان الحركة ومن العرب من يقول «انه» . [سورة الأنعام (6) : آية 80] وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي قرأ نافع أتحاجّوني «2» بنون مخفّفة، وحكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: هو لحن وأجاز سيبويه «3» ذلك وقال: استثقلوا التّضعيف، وأنشد: [الوافر]

_ (1) البيتان بلا نسبة في أمالي المرتضى 1/ 71، والأشباه والنظائر 5/ 177، والإنصاف 2/ 507، وسمط اللآلي 1/ 174، وشرح المفصل 5/ 101، ولسان العرب (عمر) . (2) هذه قراءة ابن عامر أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 174، وتيسير الداني 86. (3) انظر الكتاب 4/ 4.

[سورة الأنعام (6) : آية 81]

134- تراه كالثّغام يعلّ مسكا ... يسوء الفاليات إذا فليني «1» قال أبو عبيدة: وإنما كره التثقيل من كره للجمع بين ساكنين وهما الواو والنون فحذفوها. قال أبو جعفر: والقول في هذا قول سيبويه ولا ينكر الجمع بين ساكنين إذا كان الأول حرف مدّ ولين والثاني مدّغما. وَقَدْ هَدانِ بحذف الياء لأن الكسرة تدلّ عليها والنون عوض منها إذا حذفتها وإثباتها حسن. وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ أي لأنه لا ينفع ولا يضرّ وما في موضع نصب. إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً في موضع نصب استثناء ليس من الأول. وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً بيان. [سورة الأنعام (6) : آية 81] وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ مفعول وكذا وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً أي حجة. فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ابتداء وخبر. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم تعلمون فإنّ من خاف من ينفع ويضر أولى بالأمن منكم. [سورة الأنعام (6) : آية 82] الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ مبتدأ. أُولئِكَ ابتداء ثان. لَهُمُ الْأَمْنُ خبره والجملة خبر الأول. وَهُمْ مُهْتَدُونَ ابتداء وخبر. [سورة الأنعام (6) : آية 83] وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وكذا وَتِلْكَ حُجَّتُنا قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ «2» بالإضافة وقرأ أهل الكوفة نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بتقدير ونرفع من نشاء إلى درجات ثم حذفت «إلى» . [سورة الأنعام (6) : آية 84] وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ اسمان أعجميان لا ينصرفان في المعرفة وينصرفان في النكرة فإن أخذت إسحاق من أسحقه الله انصرف وكذا يعقوب إن كان منقولا

_ (1) الشاهد لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص 180، والكتاب 4/ 4، وخزانة الأدب 5/ 371، والدرر 1/ 213، وشرح أبيات سيبويه 2/ 304، وشرح شواهد الإيضاح 213، ولسان العرب (فلا) والمقاصد النحوية 1/ 379، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 85، وجمهرة اللغة 459، وشرح المفصل 3/ 91، ولسان العرب (حيج) ، والمنصف 2/ 337، وهمع الهوامع 1/ 65. (2) انظر تيسير الداني 86.

[سورة الأنعام (6) : آية 85]

انصرف بكل حال يقال لذكر القبح: يعقوب. كُلًّا نصب بهدينا. وَنُوحاً نصب بهدينا الثاني. وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ قال الفراء «1» عطف على نوح، وقال الأخفش: عطف على إسحاق وكذا وَأَيُّوبَ وما بعده ولم ينصرف داود لأنه اسم أعجميّ وكل ما كان على فاعول لا يحسن فيه الألف واللام لم ينصرف وسليمان اسم أعجمي ويجوز أن يكون مشتقا من السلامة ولا ينصرف لأن فيه ألفا ونونا زائدتين، وأيوب اسم عجمي وكذا يوسف، وقرأ طلحة بن مصرف وعيسى بن عمر وَيُوسُفَ «2» بكسر السين. قال أبو زيد: يقول العرب يؤسف بالهمزة وكسر السين وفتحها يؤسف مهموز، وموسى اسم عجميّ، فأما موسى الحديد فإن سمّيت بها رجلا لم تنصرف لأنها مؤنّثة، وعيسى اسم عجمي وإن جعلته مشتقا لم ينصرف لأن في آخره ألفا تشبه ألف التأنيث واشتقاقه من عاسه يعوسه انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ويجوز أن يكون مشتقا من العيس وهو ماء الفحل «3» . [سورة الأنعام (6) : آية 85] وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَزَكَرِيَّا اسم عجميّ ويجوز أن يكون عربيا فيه ألف تأنيث ولا ينصرف في معرفة ولا نكرة. وَيَحْيى لم ينصرف لأن أصله من الفعل وكتب بالياء فرقا بين الاسم والفعل. وَإِلْياسَ عجميّ وقرأ الأعرج والحسن وقتادة وَإِلْياسَ بوصل الألف، قال الفراء «4» : ويجوز في هذا كلّه الرفع كما تقول: أخذت صدقاتهم لكلّ مائة شاة شاة وشاة. [سورة الأنعام (6) : آية 86] وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَإِسْماعِيلَ عجميّ، وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وعاصم وَالْيَسَعَ بلام مخفّفة، وقرأ الكوفيون إلا عاصما واللّيسع «5» ، وكذا قرأ الكسائي وردّ قراءة من قرأ «واليسع» قال: لأنه لا يقال: اليفعل مثل اليحيى وهذا الردّ لا يلزم والعرب تقول: اليعمل واليحمد ولو نكّرت يحيى لقلت: اليحيى، وردّ أبو حاتم على من قرأ (الّيسع) وقال: لا يوجد ليسع. قال أبو جعفر: وهذا الردّ لا يلزم قد جاء في كلام العرب حيدر وزينب والحق في هذا أنه اسم عجميّ والعجميّة لا تؤخذ بالقياس إنما تؤدّى سماعا والعرب تغيّرها كثيرا فلا ينكر أن يأتي الاسم بلغتين وَيُونُسَ عجميّ وإن قلت: يونس

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 342. (2) انظر مختصر ابن خالويه 62، والبحر المحيط 4/ 178. (3) انظر تاج العروس (عيس) . (4) انظر معاني الفراء 1/ 342. (5) انظر البحر المحيط 4/ 178، وتيسير الداني 86. [.....]

[سورة الأنعام (6) : آية 87]

أو يونس لم تصرفه لأن أصله من الفعل. وَلُوطاً عجميّ لخفته. [سورة الأنعام (6) : آية 87] وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) وَاجْتَبَيْناهُمْ أي اخترناهم مشتقّ من جبيت الماء في الحوض أي جمعته. [سورة الأنعام (6) : آية 89] أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ابتداء وخبر. فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ شرط، وجوابه فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً أي بالإيمان بها قوما. لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ الباء الثانية توكيد. [سورة الأنعام (6) : آية 90] أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ابتداء وخبر. فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فيه قولان: أحدهما أن المعنى اصبر كما صبروا، والآخر أنه صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يحبّ أن يتّبع أهل الكتاب فيما لم ينه عنه ولم ينسخ وقرأ عبد الله بن عامر فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً «1» وهذا لحن لأن الهاء لبيان الحركة في الوقف وليست بهاء إضمار ولا بعدها واو ولا ياء أيضا ولا يجوز فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ومن اجتنب اللحن واتبع السواد قرأ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ فوقف ولم يصل لأنه إن وصل بالهاء لحن وإن حذفها خالف السواد. [سورة الأنعام (6) : آية 91] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مصدر. قال أبو جعفر: وقد ذكرناه أنه قيل المعنى: وما عظّموا الله حقّ تعظيمه وهذا يكون من قولهم: لفلان قدر. وشرح هذا أنهم لما قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ نسبوا الله جلّ وعزّ إلى أنه لا يقيم الحجّة على عباده ولا يأمرهم بما لهم فيه الصلاح فلم يعظّموه حق تعظيمه ولا عرفوه حقّ معرفته وقد قيل: المعنى: وما قدروا نعم الله حقّ تقديرها، وقرأ أبو حيوة وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «2» بفتح الدال وهي لغة. تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ أي في قراطيس مثل وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: 155] .

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 180، والحجة لابن خالويه 120، وتيسير الداني 86. (2) وهذه قراءة الحسن وعيسى الثقفي أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 181.

[سورة الأنعام (6) : آية 92]

[سورة الأنعام (6) : آية 92] وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ نعت ويجوز نصبه في غير القرآن على الحال وكذا مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى أي أنزلناه لهذا. [سورة الأنعام (6) : آية 94] وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) وَمَنْ قالَ في موضع خفض أي ومن أظلم ممن قال سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وحذف الجواب أي لرأيت عذابا عظيما. وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ ابتداء وخبر والأصل باسطون أيديهم يقولون أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ وحذف أي أخرجوا أنفسكم من العذاب أي خلّصوها. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي عذاب الهوان. بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ أي تدعون معه شريكا وتقولون: لم يبعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم. وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى في موضع نصب على الحال ولم ينصرف لأن فيه ألف تأنيث وقرأ أبو حيوة فرادا «1» بالتنوين قال هارون: لغة تميم فرادا بالتنوين وهؤلاء يقولون: في موضع الرفع فراد، وحكى أحمد بن يحيى فراد بلا تنوين مثل ثلاث ورباع. قال أبو جعفر: المعنى: ولقد جئتمونا منفردين ليس معكم ناصر ممن كان يصاحبكم في الغيّ. كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فيه ثلاثة أقوال: يكون منفردين كما خلقوا، ويكون عراة، ويكون كما خلقناكم أعدناكم. وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ أي الذين عبدتموهم وجعلتموهم شركاء في أموالكم لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «2» قال أبو عمرو أي وصلكم وبَيْنَكُمْ «3» على الظرف. [سورة الأنعام (6) : آية 95] إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى أي يشقّ النواة الميتة فيخرج منها ورقا أخضر وكذا

_ (1) وهذه قراءة عيسى بن عمر أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 185. (2) هي قراءة السبعة بضم الميم، انظر البحر المحيط 4/ 186. (3) هذه قراءة نافع والكسائي وحفص بالفتح، انظر البحر المحيط 4/ 186.

[سورة الأنعام (6) : آية 96]

الحبة ويخرج من الورق الأخضر نواة ميتة وحبة وهذا معنى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ وروي عن ابن عباس: يخرج البشر الحيّ من النطفة الميتة والنطفة من البشر الحي. ذلِكُمُ اللَّهُ ابتداء وخبر. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فمن أين تصرفون عن الحق مع ما ترون من قدرة الله جلّ وعزّ. [سورة الأنعام (6) : آية 96] فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) فالِقُ الْإِصْباحِ نعت وهو معرفة لا يجوز فيه التنوين عند أحد من النحويين إلا عند الكسائي ومعنى فالق الإصباح الذي خلق له فلقا وهو الفجر. يقال للفجر: فلق الصّبح وفرقه وقرأ الحسن وعيسى بن عمر فالِقُ الْإِصْباحِ «1» بفتح الهمزة وهو جمع صبح وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه قرأ فلق الإصباح «2» على فعل والهمزة مكسورة والحاء منصوبة، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وحمزة والكسائي وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً «3» أي جعله يصلح أن يسكن فيه وقرأ أهل المدينة وجاعل الليل سكنا «4» . وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً نصب الشمس والقمر عطفا على المعنى أي وجعل، والخفض بعيد لضعف الخافض وأنك قد فرقت، وقد قرأ يزيد بن قطيب السكوني وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر «5» بالخفض عطفا على اللفظ وقال الأخفش: حسبانا أي بحسبان. قال: وهو جمع حساب مثل شهاب وشهبان وقال يعقوب: حسبان مصدر حسبت الشيء أحسبه حسبا وحسبانا، والحساب الاسم وقال غيره: جعل الله جلّ وعزّ سير الشمس والقمر بحساب لا يزيد ولا ينقص فدلّهم الله جلّ وعزّ بذلك على قدرته ووحدانيته. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ابتداء وخبر. [سورة الأنعام (6) : آية 98] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وقرأ ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وأبو عمرو وعيسى والأعرج وشيبة والنخعي فَمُسْتَقَرٌّ. بكسر القاف. وقرأ أبو جعفر ونافع وحمزة والكسائي فَمُسْتَقَرٌّ بفتح القاف والرفع بالابتداء فيها إلا أن التقدير فيمن كسر القاف: فمنها مستقرّ والفتح بمعنى فلها مستقر: قال عبد الله بن مسعود: فلها مستقر في الرحم ومستودع في الأرض وهذا التفسير يدلّ على

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 190، ومختصر ابن خالويه 39. (2) وهذه قراءة ابن وثاب وأبي حيوة أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 190. (3) هذه قراءة الكوفيين، انظر البحر المحيط 4/ 190. (4) انظر تيسير الداني 87، والبحر المحيط 4/ 190. (5) انظر مختصر ابن خالويه 39.

[سورة الأنعام (6) : آية 99]

الفتح، وقال الحسن فمستقرّ في القبر وأكثر أهل التفسير يقولون: المستقرّ ما كان في الرحم والمستودع ما كان في الصلب. [سورة الأنعام (6) : آية 99] وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً والأصل في ماء «ماه» والهاء خفيّة والألف كذلك فأبدل من الهاء همزة لأن الهمزة جلدة. فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ أي كل شيء نابت. فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً قال الأخفش: أي أخضر كما يقول العرب: «أرنيها نمرة أركها مطرة» «1» . وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ رفع بالابتداء، وأجاز الفراء «2» في غير القرآن «قنوانا دانية» على العطف على ما قبله. قال سيبويه: ومن العرب من يقول «3» : قنوان. قال الفراء: هذه لغة قيس، وأهل الحجاز يقولون: قنوان، وتميم تقول: قنيان ثم يجتمعون في الواحد فيقولون: قنو وقنو. وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ قراءة العامة بالنصب عطفا أي فأخرجنا جنات، وقرأ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والأعمش وهو الصحيح من قراءة عاصم وجنات بالرفع وأنكر هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم حتى قال أبو حاتم: هي محال لأن الجنات لا تكون من النخل. قال أبو جعفر: والقراءة جائزة وليس التأويل على هذا ولكنه رفع بالابتداء والخبر محذوف أي ولهم جنات كما قرأ جماعة من القراء. وَحُورٌ عِينٌ [الواقعة: 22] وأجاز مثل هذا سيبويه والكسائي والفراء، ومثله كثير وعلى هذا أيضا وحورا عينا» حكاه سيبويه وأنشد: [البسيط] 135- جئني بمثل بني بدر لقومهم ... أو مثل أسرة منظور بن سيّار «5» فأما وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ فليس فيه إلا النصب للإجماع على ذلك. انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ قراءة أبي عمرو وأهل المدينة جمع ثمرة وقراءة يحيى ابن وثاب وحمزة والكسائي إِلى ثَمَرِهِ «6» بضمتين جمع ثمار وقيل: هذا المال المثمّر وروي عن

_ (1) النّمرة: واحدة النّمر، والسحاب النّمر الذي ترى في خلله نقاطا كلون النمر، والمثل من قول أبي ذؤيب الهذليّ، وهو يضرب لما يتيقّن وقوعه إذا لاحت مخايله. انظر تاج العروس (نمر) . (2) انظر معاني الفراء 1/ 347. (3) هذه قراءة الأعرج وهارون وأبي عمرو، انظر البحر المحيط 4/ 193. (4) هذه قراءة أبيّ، انظر الكتاب 1/ 149. [.....] (5) الشاهد لجرير في ديوانه 237، والكتاب 1/ 148، وشرح أبيات سيبويه 1/ 66، والمقتضب 4/ 153، وبلا نسبة في شرح المفصل 6/ 69، والمحتسب 2/ 78. (6) وهي قراءة مجاهد أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 195.

[سورة الأنعام (6) : آية 100]

الأعمش إِلى ثَمَرِهِ بضمّ الثاء وإسكان الميم، حذفت الضمة لثقلها. ويجوز أن يكون جمع ثمر مثل بدنة وبدن، وقرأ محمد بن السميفع اليماني ويانعه «1» أي ومدركه، وقرأ ابن محيصن وابن أبي إسحاق وينعه «2» بضمّ الياء. قال الفراء: الضم لغة بعض أهل نجد. [سورة الأنعام (6) : آية 100] وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ «الجنّ» مفعول أول وشُرَكاءَ مفعول ثان والتقدير وجعلوا لله الجن شركاء ويجوز أن يكون الجن بدلا من شركاء والمفعول الثاني لله، وأجاز الكسائي رفع الجنّ بمعنى هم الجن. وقرأ ابن مسعود وهو خلقهم وقرأ يحيى بن يعمر وَخَلَقَهُمْ «3» بإسكان اللام. قال: أي وجعلوا خلقهم لأنهم كانوا يخلقون الشيء ثم يعبدونه. [سورة الأنعام (6) : آية 101] بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بمعنى هو بديع وأجاز الكسائي خفضه على النعت لله عزّ وجلّ ونصبه بمعنى بديعا السموات والأرض. قال أبو جعفر: وذا خطأ عند البصريين لأنه لما مضى. أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ اسم «تكن» أي من أين يكون له ولد؟ وولد كلّ شيء شبيهه ولا شبيه له. [سورة الأنعام (6) : آية 102] ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) ذلِكُمُ في موضع رفع بالابتداء. اللَّهُ رَبُّكُمْ على البدل. خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ خبر الابتداء ويجوز أن يكون ربكم الخبر و «خالق» خبرا ثانيا أو على إضمار مبتدأ وأجاز الكسائي والفراء النصب فيه. [سورة الأنعام (6) : آية 104] قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ أي آيات وبراهين يبصّر بها ويستدلّ وبصائر مهموز لئلا

_ (1) وهي قراءة ابن أبي عبلة أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 195، وتيسير الداني 87. (2) وهي قراءة الضحاك أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 195. (3) انظر مختصر ابن خالويه 39.

[سورة الأنعام (6) : آية 105]

يلتقي ساكنان والألف لا يتحرك. فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ أي فمن استدلّ وتعرّف وَمَنْ عَمِيَ فلم يستدلّ فصار بمنزلة الأعمى. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أي لم أومر بحفظكم عن أن تهلكوا أنفسكم. [سورة الأنعام (6) : آية 105] وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ الكاف في موضع نصب أي ونصرف الآيات مثل ما تلونا عليك. وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ قال أبو جعفر: قد ذكرنا ما فيه من القراءات وروى شعبة عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ «1» قال قرأت وتعلّمت وفي الكلام حذف أي وليقولوا درست صرّفناها. قال أبو إسحاق: هذا كما تقول: كتب فلان هذا الكتاب لحتفه أي آل أمره إلى ذا وكذا لما صرّفت الآيات آل أمرهم إلى أن قالوا درست وتعلّمت. قال أبو جعفر: وفي المعنى قول آخر حسن وهو أن يكون معنى نُصَرِّفُ الْآياتِ نأتي بها آية بعد آية ليقولوا درست علينا فيذكرون الأول بالآخر فهذا حقيقة والذين قال أبو إسحاق مجاز، ومن قرأ دَرَسْتَ «2» فأحسن ما قيل فيه أن المعنى ولئلا يقولوا انقطعت وامّحت وليس يأتي محمد صلّى الله عليه وسلّم بغيرها، وأحسن ما قيل في دارست «3» أن معناه دارستنا فيكون معناه كمعنى درست وقيل: معناه دارست أهل الكتاب فهذا أيضا مجاز كما قال: [المتقارب] 136- فللموت ما تلد الوالده «4» [سورة الأنعام (6) : آية 108] وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَلا تَسُبُّوا نهي وحذفت منه النون للجزم نهى الله عز وجل المؤمنين أن يسبّوا أوثانهم لأنه علم أنهم إذا سبّوها نفر الكفار وازدادوا كفرا ونظيره قوله عزّ وجلّ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] . فَيَسُبُّوا جواب النهي بالفاء. عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ مصدر ومفعول من أجله وروي عن أهل مكة أنهم قرءوا عدوا فهذا نصب على الحال وهو واحد يؤدّي عن جمع مثل فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ الشعراء:

_ (1) انظر المحتسب 1/ 225، والبحر المحيط 4/ 200. (2) هذه قراءة ابن عامر، انظر تيسير الداني 87. (3) انظر البحر المحيط 4/ 200. (4) الشاهد لنهيكة بن الحارث المازني، أو لشتيم بن خويلد في خزانة الأدب 9/ 530، ولشتيم أو لسماك بن عمرو في لسان العرب (لوم) وبلا نسبة في شرح شواهد المغني 2/ 572، ومغني اللبيب 1/ 214.

[سورة الأنعام (6) : آية 109]

[الشعراء: 77] وروي عنهم عدوا «1» بضم العين والدال وتشديد الواو وهذه قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة. [سورة الأنعام (6) : آية 109] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وقرأ طلحة بن مصرّف وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بالنون الخفيفة. قال سيبويه: قال الخليل: وَما يُشْعِرُكُمْ ثم أوجب فقال: (إنّا) . قال أبو جعفر: هذه قراءة مجاهد وأبي عمرو وابن كثير، وقرأ أهل المدينة والأعمش وحمزة أَنَّها «2» بفتح الهمزة قال الخليل: «أنها» بمعنى «لعلها» «3» . قال أبو جعفر: التمام على هذه القراءة أيضا وَما يُشْعِرُكُمْ ثم ابتدأ فقال (أنّها) وفيه معنى الإيجاب وهذا موجود في كلام العرب أن تأتي لعل وعسى بمعنى ما سيكون فأما قول الكسائي: أنّ «لا» زائدة فخطأ عند البصريين لأنها إنما تزاد فيما لا يشكل وقرأ حمزة وحده لا تؤمنوا «4» بالتاء. [سورة الأنعام (6) : آية 110] وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ «أول مرة» هذه آية مشكلة ولا سيما وفيها وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فالمعنى ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم يوم القيامة على لهب النار كما لم يؤمنوا في الدنيا ونذرهم في الدنيا أي نمهلهم ولا نعاقبهم فبعض الآية في الآخرة وبعضها في الدنيا ونظيرها وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ [الغاشية: 2] فهذا في الآخرة عامِلَةٌ ناصِبَةٌ [الغاشية: 3] فهذا في الدنيا. [سورة الأنعام (6) : آية 111] وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) أَنَّنا في موضع رفع. وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا «5» قال هارون القارئ: أي عيانا وقال محمد بن يزيد يكون قبلا بمعنى ناحية كما تقول: لي قبل فلان مال و (قبلا) بضم القاف والباء وفيه ثلاثة أقوال: فمذهب الفراء أنه بمعنى ضمناء كما قال أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء: 92] وقول الأخفش بمعنى قبيل وعلى

_ (1) انظر المحتسب 1/ 226. (2) انظر البحر المحيط 4/ 203. (3) انظر معاني الفراء: 1/ 350. (4) انظر تيسير الداني 87، والبحر المحيط 4/ 204. (5) انظر تيسير الداني 87. [.....]

[سورة الأنعام (6) : آية 112]

القولين هو نصب على الحال، وقال محمد بن يزيد وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا أي مقابلا، ومنه إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ [يوسف: 26] ومنه قبل الرجل ودبره لما كان من بين يديه ومن ورائه ومنه قبل الحيض، وقرأ الحسن وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا حذف الضمة من الباء لثقلها. ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «أن» في موضع نصب استثناء ليس من الأول. [سورة الأنعام (6) : آية 112] وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا حكى سيبويه (جعل) بمعنى وصف عَدُوًّا مفعول أول. لِكُلِّ نَبِيٍّ في موضع المفعول الثاني. شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يدل على عدوّ ويجوز أن تجعل «شياطين» مفعولا أول «وعدوّا» مفعولا ثانيا. ومعنى شيطان متمرّد في معاصي الله تعالى لاحق ضرره بغيره فإذا كان هكذا فهو شيطان كان من الإنس أو من الجن ومعناه ممتد في الشرّ مشتقّ من الشطن وهو الحبل وسمّي ما توسوس به شياطين الجنّ إلى شياطين الإنس وحيا لأنه إنما يكون خفية وجعل تمويههم زخرفا لتزيينهم إياه وغُرُوراً نصب على الحال لأن معنى يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يغرّونهم بذلك غرورا ويجوز أن يكون في موضع الحال، وروى ابن عباس بإسناد أنه قال في قوله يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ لإبليس مع كل جنّي شيطان ومع كل إنسيّ شيطان فيلقى أحدهما الآخر فيقول له: إني قد أضللت صاحبي فأضلل صاحبك بمثله، ويقول له الآخر: مثل ذلك هذا وحي بعضهم إلى بعض. قال أبو جعفر: والقول الأول يدلّ عليه وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ [الأنعام: 121] فهذا يبيّن معنى ذلك. فَذَرْهُمْ أمر فيه معنى التهديد. قال سيبويه: ولا يقال وذر ولا ودع استغنوا عنه بترك. قال أبو إسحاق: الواو ثقيلة فلمّا كان ترك ليست فيه واو بمعنى ما فيه الواو ترك ما فيه الواو وهذا معنى قوله وليس بنصّه. [سورة الأنعام (6) : آية 113] وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ لام كي وكذا وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا إلا أن الحسن قرأ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا «1» بإسكان اللام جعلها لام أمر فيه معنى التهديد كما قال: افعل ما شئت. [سورة الأنعام (6) : آية 114] أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) أَفَغَيْرَ اللَّهِ نصب بابتغي. حَكَماً نصب على البيان وإن شئت على الحال.

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 40، والبحر المحيط 4/ 211.

[سورة الأنعام (6) : آية 115]

وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ ابتداء وخبر وكذا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ نهي مؤكدة بالنون الثقيلة وفتحت لالتقاء الساكنين وقيل لأنهما شيئان ضمّ أحدهما إلى الآخر. [سورة الأنعام (6) : آية 115] وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا مصدر وحال. [سورة الأنعام (6) : آية 116] وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أي الكفّار. يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن الطريق التي تؤدّي إلى ثواب الله عزّ وجلّ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ بمعنى «ما» . [سورة الأنعام (6) : آية 117] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) (من) في موضع رفع بالابتداء مثل لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ [الكهف: 12] . [سورة الأنعام (6) : آية 118] فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ اسم ما لم يسمّ فاعله والذكر عند أهل اللغة باللسان ويكون بالقلب مجازا. [سورة الأنعام (6) : آية 119] وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَما لَكُمْ ابتداء وخبر. أَلَّا في موضع نصب والمعنى وأيّ شيء لكم في أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وسيبويه يجيز أن تكون «أن» في موضع جرّ بإضمار الخافض. إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ في موضع نصب بالاستثناء. وَإِنَّ كَثِيراً اسم «إن» وصلح أن يكون اسمها نكرة لأنّ فيها فائدة وليس الخبر معرفة. وهذا حسن عند سيبويه، وأنشد: [الطويل] 137- وإنّ شفاء عبرة لو سفحتها ... فهل عند رسم دارس من معوّل «1»

_ (1) الشاهد لامرئ القيس من مطوّلته (قفا نبك) صفحة 9، والكتاب 2/ 143، وخزانة الأدب 3/ 448، والدرر 5/ 139، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 257، وشرح أبيات سيبويه 1/ 449، وشرح شواهد المغني 2/ 772، ولسان العرب (عول) و (هول) ، والمنصف 3/ 40، وبلا نسبة في خزانة الأدب 9/ 274، والدرر 6/ 154، وشرح الأشموني 2/ 434، وشرح شواهد المغني 2/ 872، وهمع الهوامع 2/ 77.

[سورة الأنعام (6) : آية 121]

[سورة الأنعام (6) : آية 121] وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) وَلا تَأْكُلُوا نهي. مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ كسرت الراء لالتقاء الساكنين. وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ خبر «إنّ» . [سورة الأنعام (6) : آية 122] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وروى المسيّبي عن نافع بن أبي نعيم أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ بإسكان الواو وقال أبو جعفر: يجوز أن يكون محمولا على المعنى أي انظروا وتبيّنوا أغير الله أبتغي حكما أو من كان ميتا فأحييناه. ومن فتح الواو جعلها واو عطف دخلت عليها ألف الاستفهام. [سورة الأنعام (6) : آية 123] وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) لام كي قيل: إنه مجاز كما قال فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] . [سورة الأنعام (6) : آية 125] فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ أي يوسعه ثوابا إلى طاعته وهي شرط ومجازاة. وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً مثله، وقرأ ابن كثير ضَيِّقاً «1» بتخفيف الياء كما يقال: ليّن ولين وهيّن وهين. حرج اسم الفاعل وحرج مصدر وصف به كما يقال: رجل عدل ورضى وقيل: حرج جمع حرجة ومعناه شدّة الضيق ومنه فلان يتحرّج أي يضيّق على نفسه في تركه هواه للمعاصي. كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ «2» قد ذكرناه. كَذلِكَ الكاف في موضع نصب وكذا ما مرّ من قوله «وكذلك جعلنا في كلّ قرية» . [سورة الأنعام (6) : آية 126] وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)

_ (1) انظر تيسير الداني 88، والبحر المحيط 4/ 219. (2) قراءات (يصّعّد) في البحر المحيط 4/ 220.

[سورة الأنعام (6) : آية 127]

وَهذا صِراطُ رَبِّكَ ابتداء وخبر. مُسْتَقِيماً على الحال. [سورة الأنعام (6) : آية 127] لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) لَهُمْ دارُ السَّلامِ ابتداء وخبر وكذا وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. [سورة الأنعام (6) : آية 128] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ نصب بالفعل المحذوف أي ويوم يحشرهم نقول جَمِيعاً على الحال. يا مَعْشَرَ الْجِنِّ نداء مضاف. قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أبين ما قيل فيه أن الجنّ استمتعت من الإنس أنهم تلذّذوا بطاعة الإنس إيّاهم وتلذّذ الإنس بقبولهم من الجنّ حتّى زنوا وشربوا الخمور. وقيل: الجنّ هم الذين استمتعوا من الإنس لأن الإنس قبلوا منهم، والأول أولى لأن كلّ واحد منهما قد استمتع بصاحبه. والتقدير في العربية: استمتع بعضنا ببعضنا. قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ ابتداء وخبر. خالِدِينَ فِيها نصب على الحال. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ استثناء ليس من الأول. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ أي عقوبتهم وفي جميع أفعاله. عَلِيمٌ بمقدار مجازاتهم. [سورة الأنعام (6) : آية 130] يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) أحسن ما قيل فيه أنّ معنى منكم في الخلق والتكليف والمخاطبة. قُصُّونَ في موضع رفع نعت لرسل. [سورة الأنعام (6) : آية 131] ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) ذلِكَ في موضع رفع عند سيبويه بمعنى الأمر ذلك، لأنّ ربك لم يكن مهلك القرى بظلم وأجاز الفراء «1» أن يكون في موضع نصب بمعنى فعل ذلك. [سورة الأنعام (6) : آية 133] وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) كَما أَنْشَأَكُمْ الكاف في موضع نصب بمعنى ويستخلف من بعدكم ما يشاء استخلافا مثل ما أنشأكم. مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ وقرأ زيد بن ثابت

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 355.

[سورة الأنعام (6) : آية 134]

ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ «1» بكسر الذال وتشديد الراء والياء، وقرأ أبان بن عثمان ذريّة «2» بفتح الذال وتخفيف الراء وتشديد الياء. [سورة الأنعام (6) : آية 134] إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) (ما) اسم (إنّ) والخبر لآت واللام توكيد. [سورة الأنعام (6) : آية 135] قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ أي على ما أنا عليه. مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ اسم تكون ويجوز «من يكون» «3» لأنه مصدر وتأنيثه غير حقيقي كتأنيث الجماعة، وقرأ الأعرج يا معشر الجنّ والإنس ألم تأتكم على تأنيث الجماعة. مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ في موضع رفع لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ويجوز أن يكون بمعنى الذي فتكون في موضع نصب. [سورة الأنعام (6) : آية 136] وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ هذه لغة أهل الحجاز، ولغة بني أسد بِزَعْمِهِمْ وهكذا قرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي، ولغة تميم وقيس فيما حكى الفراء والكسائي «بزعمهم» بكسر الزاي وإن كان أبو حاتم قد أنكر كسرها وقد حكاه الكسائي والفراء فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ سمّوا شركاء لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم فقالوا هم شركاؤنا فيها. ساءَ ما يَحْكُمُونَ قال الكسائي (ما) في موضع رفع أي ساء الشيء يفعلون. قال أبو إسحاق «ما» في موضع رفع والمعنى ساء الحكم يحكمون. [سورة الأنعام (6) : آية 137] وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ هذه قراءة أهل

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 40، أما في البحر المحيط 4/ 228، فقال: «وقرأ زيد بن ثابت «ذرّيّة» بفتح الذال، وأبان بن عثمان «ذرية» بفتح الذال وتخفيف الراء المكسورة» . (2) هذه قراءة حمزة والكسائي، انظر البحر المحيط 4/ 229. (3) انظر معاني الفراء 1/ 356، والبحر المحيط 4/ 230.

[سورة الأنعام (6) : آية 138]

الحرمين وأهل الكوفة وأهل البصرة إلا أبا عبد الرحمن والحسن فإنهما قرءا وَكَذلِكَ زَيَّنَ بضم الزاي لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ برفع قتل وخفض أولادهم. شُرَكاؤُهُمْ «1» بالرفع وحكى أبو عبيد أن ابن عامر وأهل الشام قرءوا وَكَذلِكَ زَيَّنَ بضم الزاي. (لكثير من المشركين قتل أولادهم) برفع قتل ونصب أولادهم شركائهم «2» بالخفض وحكى غير أبي عبيد عن أهل الشام أنهم قرءوا وَكَذلِكَ زَيَّنَ بضم الزاي لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ برفع قتل وخفض أولادهم شركائهم «3» بالخفض أيضا. قال أبو جعفر: فهذه أربع قراءات الأولى أبينها وأصحّها تنصب «قتلا» بزيّن وخفض «أولادهم» بالإضافة، شُرَكاؤُهُمْ رفع بزيّن لا بالقتل لأنهم زيّنوا ولم يقتلوا وهم شركاؤهم في الدين ورؤساؤهم، والقراءة الثانية أن يكون «قتل» اسم ما لم يسمّ فاعله. «شركاؤهم» رفع بإضمار فعل لأن زيّن يدلّ على ذلك أي زيّنه شركاؤهم ويجوز على هذا: ضرب زيد عمرو بمعنى ضربه عمرو وأنشد سيبويه: [الطويل] 138- ليبك يزيد ضارع لخصومة «4» وقرأ ابن عامر وعاصم من رواية ابن عباس يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ [النور: 36] وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ [البروج: 4، 5] بمعنى قتلتهم النار، فأما ما حكاه أبو عبيد عن ابن عامر وأهل الشام فلا يجوز في كلام ولا شعر وإنما أجاز النحويون التفريق بين المضاف والمضاف إليه في الشعر بالظرف لأنه لا يفصل فأما بالأسماء غير الظروف فلحن، وأما ما حكاه غير أبي عبيد وهي القراءة الرابعة فهو جائز على أن تبدل شركاؤهم من أولادهم لأنهم شركاؤهم في النسب والميراث. لِيُرْدُوهُمْ لام كي. وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أي يأمرونهم بالباطل فيصير الحقّ مغطى عليه فبهذا يلبسون. [سورة الأنعام (6) : آية 138] وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ ابتداء وخبر. وَحَرْثٌ حِجْرٌ عطف على الخبر وقرأ أبان

_ (1) انظر تيسير الداني 88. (2) انظر تيسير الداني 88. (3) انظر البحر المحيط 4/ 231. (4) مرّ الشاهد رقم 132، وعجزه: «وأشعث ممّن طوّحته الطوائح»

[سورة الأنعام (6) : آية 139]

ابن عثمان وَحَرْثٌ حِجْرٌ «1» بضم الحاء والجيم وقرأ الحسن وقتادة وَحَرْثٌ حِجْرٌ «2» بضم الحاء واسكان الجيم لغات بمعنى، وروي عن ابن عباس وابن الزبير وحرث حرج «3» الراء قبل الجيم وكذا في مصحف أبيّ وفيه قولان: أحدهما أنه مثل جبذ وجذب، والقول الآخر وهو أصحّ أنه من الحرج وهو الضيق فيكون معناه الحرام ومنه فلان يتحرّج أي يضيق على نفسه الدخول فيما يشتبه عليه بالحرام. افْتِراءً مفعول من أجله ومصدر. [سورة الأنعام (6) : آية 139] وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا تقرأ على أربعة أوجه: قراءة العامة وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ برفع خالصة والتأنيث وقرأ قتادة خالِصَةٌ بالنصب وقرأ ابن عباس وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا على الإضافة وقرأ الأعمش خالص لذكورنا بغير هاء والقراءة الأولى على الابتداء والخبر، وفي تأنيث ما ثلاثة أقوال: قال الكسائي والأخفش هذا على المبالغة وقال الفراء «4» : تأنيثها لتأنيث الأنعام وهذا القول عند قوم خطأ لأن ما في بطونها ليس منها فلا يشبه تلتقطه بعض السيارة [يوسف: 10] لأن بعض السيارة سيارة وهذا لا يلزم الفراء لأنه إنما يؤنث هذا لأن الذي في بطونها أنعام كما أنها أنعام، والقول الثالث أحسنها يكون التأنيث على معنى ما والتذكير على اللفظ والدليل على هذا أنّ بعده وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا على اللفظ فالتقدير وقالوا الأنعام التي في بطون هذه الأنعام خالصة، والنصب عند الفراء على القطع وعند البصريين على الحال مما في المخفوض الأول ولا يجوز أن يكون حالا من المضمر الذي في الذكور كما يجوز زيد قائما في الدار لأن العامل لا يتصرف وإن كان الأخفش قد أجازه في بعض كتبه، والقراءة الثالثة على أن يكون خالِصَةٌ ابتداء ثانيا والخبر «لذكورنا» والجملة خبر «ما» ويجوز أن «خالصه» بدلا من «ما» . والقراءة الرابعة على تذكير «ما» في اللفظ. يَكُنْ بمعنى وإن يكن ما في بطونها ميتة والتأنيث بمعنى وإن تكن الحمول ميتة. قال أبو حاتم: وإن تكن النسمة ميتة. قال أبو عمرو بن العلاء: الاختيار يكن بالياء لأن بعده فَهُمْ فِيهِ ولم يقل: فيها وإن يكن ميتة بالرفع بمعنى تقع وقال الأخفش: أي وإن تكن في بطونها ميتة.

_ (1) وهي قراءة عيسى بن عمر أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 233، ومختصر ابن خالويه 41. (2) انظر البحر المحيط: 4/ 233. [.....] (3) انظر مختصر ابن خالويه 41. (4) انظر معاني الفراء 1/ 258.

[سورة الأنعام (6) : آية 140]

[سورة الأنعام (6) : آية 140] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) سَفَهاً مصدر ومفعول من أجله. [سورة الأنعام (6) : آية 141] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ في موضع نصب وكسرت التاء لأنه جمع مسلّم. مَعْرُوشاتٍ نعت أي عليها حيطان، وقيل: لأن بعض أغصانها على بعض. وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ عطف. مُخْتَلِفاً على الحال. قال أبو إسحاق: هذه مسألة مشكلة من النحو لأنه يقال: قد أنشأها ولم يختلف أكلها وهو ثمرها. ففي هذا جوابان: أحدهما أنه أنشأها بقوله خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 102] فأعلم الله عزّ وجلّ أنه أنشأها مختلفا أكلها، والجواب الآخر أنه أنشأها مقدّرا ذلك فيها، وقد بيّن هذا سيبويه «1» بقوله: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، على الحال كما تقول: ليدخلنّ الدار آكلين شاربين أي مقدّرين ذلك. وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ عطف. مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ على الحال. ويقال: حصاد وحصاد وجداد وجدّاد وصرام وصرام. وَلا تُسْرِفُوا نهي. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ أي لا يثني عليهم ولا يثيبهم. [سورة الأنعام (6) : آية 142] وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً عطف، أي وأنشأ حمولة وفرشا من الأنعام وللعلماء في الأنعام ثلاثة أقوال: أحدها أنّ الأنعام الإبل خاصة، وقيل: النعم الإبل وحدها وإذا كان معها غنم وبقر فهي أنعام أيضا، والقول الثالث أصحّها قال أحمد بن يحيى: «الأنعام» كلّ ما أحلّه الله جلّ وعزّ من الحيوان ويدلّ على صحّة هذا قوله جلّ وعزّ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ [المائدة: 1] . وقد ذكرنا الحمولة والفرش، ومن أحسن ما قيل فيهما أنّ الحمولة المسخّرة المذلّلة للحمل، و «الفرش» ما خلقه الله عزّ وجلّ من الجلود والصوف مما يجلس عليه ويتمهّد. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ جمع خطوة.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 358.

[سورة الأنعام (6) : آية 143]

ويجوز الضمّ والفتح وقرأ أبو السمال خُطُواتِ الشَّيْطانِ «1» بفتح الخاء والطاء. [سورة الأنعام (6) : آية 143] ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ في نصبه ستة أقوال: قال الكسائي: هو منصوب بإضمار أنشأ، وقال الأخفش سعيد: هو منصوب على البدل من حمولة وفرش، وإن شئت على الحال، وقال الأخفش علي بن سليمان: يكون منصوبا بكلوا أي كلوا لحم ثمانية أزواج، ويجوز أن يكون منصوبا على البدل من «ما» على الموضع، ويجوز أن يكون منصوبا بمعنى كلوا المباح ثمانية أزواج مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ قرأ طلحة بن مصرّف وعيسى مِنَ الضَّأْنِ «2» بفتح الهمزة، وقرأ أبان بن عثمان من الضأن اثنان ومن المعز اثنان «3» رفعا بالابتداء وقرأ أبو عمرو والحسن وعيسى ومن المعز «4» بفتح العين وفي حرف أبيّ ومن المعزى اثنين «5» ، قال أبو جعفر: الأكثر في كلام العرب المعز والضأن بالإسكان، ويدلّ على هذا قولهم في الجمع: معيز هذا جمع معز كما يقال: عبد وعبيد، وقال امرؤ القيس: [الوافر] 139- ويمنحها بنو شمج بن جرم ... معيزهم حنانك ذا الحنان «6» واختار أبو عبيد ومن المعز أيضا بإسكان العين، قال: لإجماعهم على الضأن وقد ذكرنا أنه قد قرئ الضَّأْنِ وما عزّ ومعز مثل تاجر وتجر فأما معز فيجوز لأن فيه حرفا من حروف الحلق وكذا ضأن. قُلْ آلذَّكَرَيْنِ منصوب بحرّم. أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ عطف عليه وكذا أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ وزدت مع ألف الوصل مدة فقلت الذكرين لنفرق بين الخبر والاستفهام، ويجوز حذف المدة لأن «أم» تدلّ على الاستفهام كما قال: [المتقارب] 140- تروح من الحيّ أم تبتكر «7» [سورة الأنعام (6) : آية 145] قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)

_ (1) انظر الكتاب 2/ 46. (2) انظر المحتسب 1/ 233. (3) وهي قراءة الحسن أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 241. (4) انظر البحر المحيط 4/ 241. (5) انظر البحر المحيط 4/ 241، ومختصر ابن خالويه 41. (6) الشاهد لامرى القيس في ديوانه ص 143، ولسان العرب (حنن) ، وبلا نسبة في مجالس ثعلب 2/ 543، والمقتضب 3/ 224. (7) مرّ الشاهد رقم (7) .

[سورة الأنعام (6) : آية 146]

قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ وقرأ أبو جعفر محمد بن علي يَطْعَمُهُ والأصل فيه يطتعمه «1» فأدغم بعد قلب التاء طاء. يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أي إلا أن يكون المأكول ميتة. قال الأصمعي: قال لي نافع بن أبي نعيم مفسرا إلا أن يكون ذلك ميتة وقرأ ابن كثير والأعمش وحمزة إلا أن تكون ميتة «2» والتقدير على هذا: إلا أن يكون المأكولة ميتة وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع إلا أن تكون ميتة «3» بالرفع. أَوْ دَماً بالنصب وبعض النحويين يقول هو لحن لأنه عطف منصوبا على مرفوع وسبيل المعطوف سبيل المعطوف عليه والقراءة جائزة وقد صحّت عن إمام على أن يكون أو دما معطوفا على أن لأن «أن» في موضع نصب وهي اسم والتقدير إلّا كون ميتة أَوْ دَماً مَسْفُوحاً نعت. أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ عطف وكذا أَوْ فِسْقاً فإنّه رجس ينوى به التأخير وفي الآية إشكال يقال: قد حرّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلّ ذي ناب من السباع وكلّ ذي مخلب من الطير، وليس هما في الآية ففي هذا أقوال: منها أنّهم سألوا عن شيء بعينه فوقع الجواب مخصوصا وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه، وقيل: ما صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو داخل في الآية معطوف على ما بعد إلا، وهذا قول حسن ومثله كثير، وفي الآية قول ثالث بيّن وهو أن ما حرّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو ميتة فالآية على هذا مشتملة على هذه الأشياء. [سورة الأنعام (6) : آية 146] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وقرأ الحسن ظفر «4» بإسكان الفاء وقرأ أبو السمّال ظفر «5» بإسكان الفاء وكسر الظاء، وأنكر أبو حاتم كسر الظاء وأنكر أبو حاتم كسر الظاء وإسكان الفاء ولم يذكر هذه القراءة قال: ويقال: أظفور وحكى الفراء في الجمع أظافير وأظافرة وأظافر وأظفارا. وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 242. (2) انظر تيسير الداني 89، والبحر المحيط 4/ 242. (3) انظر البحر المحيط 4/ 242، وتيسير الداني 89. (4) وهي قراءة أبيّ والأعرج أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 245، ومختصر ابن خالويه 41. [.....] (5) وهي قراءة الحسن أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 245، ومختصر ابن خالويه 41.

[سورة الأنعام (6) : آية 147]

(ما) في موضع نصب على الاستثناء. ظُهُورُهُما رفع بحملت. أَوِ الْحَوايا في موضع رفع عطف على الظهور. حاوية وحوايا وحاوياء مثل نافقاء ونوافق وضاربة وضوارب وأبدل من الياء ألف كما يقال صحارى. أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ (ما) في موضع نصب عطف على ما حملت وفي هذا أقوال هذا أصحّها وهو قول الكسائي والفراء «1» وأحمد بن يحيى والنظر يوجبه أن يعطف الشيء على ما يليه إلا أن لا يصحّ معناه أو يدل دليل على غيره. ذلِكَ جَزَيْناهُمْ أي الأمر ذلك. وَإِنَّا لَصادِقُونَ خبر إنّ والأصل إنّنا. [سورة الأنعام (6) : آية 147] فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) فَإِنْ كَذَّبُوكَ شرط والجواب فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ أي لأنه حلم عنكم فلم يعاقبكم في الدنيا والأصل في «ذو» ذوى ولو نطق به على الأصل لقيل: ذوى مثل عصا وقد جاء في القرآن على الأصل وهو ذَواتا أَفْنانٍ [الرحمن: 48] ثم أخبر الله جلّ وعزّ بالغيب عما سيقولونه فقال: [سورة الأنعام (6) : آية 148] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا عطف على النون والألف وحسن ذلك لما جئت بلا، توكيدا وقد أفادت معنى النفي عن الجميع وقيل: معنى قوله: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا أي لو شاء الله لأرسل إلى آبائنا رسولا فنهاهم عن الشرك وعن تحريم ما أحلّ فانتهوا فاتبعناهم على ذلك وألفناه ولم تنفر طباعنا عنه فردّ الله عزّ وجلّ عليهم ذلك فقال هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا أي أعندكم دليل على أنّ هذا كذا. إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ في هذا القول وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ فتوهمون ضعفتكم أنّ لكم حجّة. [سورة الأنعام (6) : آية 149] قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ أي التي تقطع عذر المحجوج وتزيل الشكّ عمن نظر فيها. [سورة الأنعام (6) : آية 150] قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ فتحت الميم لالتقاء الساكنين كما تقول: ردّ يا هذا. ولا يجوز

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 363.

[سورة الأنعام (6) : آية 151]

ضمها ولا كسرها. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا معناها إلّا أنّ في كتاب العين للخليل رحمه الله أنّ أصلها: «هل أؤمّ» . أي هل أقصدك ثم كثر استعمالهم إياها حتى صار المقصود يقولها، كما أن «تعالى» أصلها أن يقولها المتعالي للمتسافل فكثر استعمالها إياها حتى صار المتسافل يقول للمتعالي: تعالى. [سورة الأنعام (6) : آية 151] قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ جواب الأمر. ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ (ما) في موضع نصب بالفعل. أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً الفراء يختار أن يكون (لا) للنهي لأن بعده وَلا تَقْتُلُوا. قال أبو جعفر: ويجوز أن تكون «أن» في موضع نصب بدلا من «ما» أي أتل عليكم تحريم الإشراك ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى كراهة أن تشركوا ويكون المتلو عليهم قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الأنعام: 145] الآية، ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى هو أن لا تشركوا به شيئا. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مصدر. وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ أي من خوف الفقر. وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ نصب بالفعل. ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ بدل منها. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ أي الأمر ذلكم ويجوز أن يكون بمعنى بيّن لكم وصاكم به. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لتكونوا على رجاء من ذلك. [سورة الأنعام (6) : آية 152] وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ نهي كلّه فلذلك حذفت منه النون. وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا أي إذا عاهدتم الله جلّ وعزّ على شيء أو حلفتم لإنسان فأوفوا. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ مثل الأول وأدغمت التاء في الذال لقربها منها ويجوز حذفها للدلالة. [سورة الأنعام (6) : آية 153] وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم وتقديرها عند الخليل وسيبويه «1» : ولأن هذا صراطي كما قال جلّ وعز: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ

_ (1) انظر الكتاب 3/ 146.

[سورة الأنعام (6) : آية 154]

[الجن: 18] والفراء «1» يذهب إلى أنها في موضع خفض بمعنى «ذلكم وصّاكم به» ووصّاكم بأنّ هذا صراطي مستقيما، والكسائي يذهب إلى أنها في موضع نصب على هذا المعنى إلا أنه لمّا حذف الباء نصب وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي وَأَنَّ هذا «2» بكسر الهمزة وهذا مستأنف ومن قرأ وَأَنَّ هذا «3» بالتخفيف فهذا عنده في موضع رفع بالابتداء ويجوز النصب ومعنى وأنّ هذا صراطي مستقيما لا يعرّج من سلكه. مُسْتَقِيماً على الحال. فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ أي لا تتبعوا الديانات المختلفة. فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ جواب النهي. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مثل الأول. [سورة الأنعام (6) : آية 154] ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مفعولان تَماماً مفعول من أجله ومصدر. عَلَى الَّذِي خفض بعلى أَحْسَنَ فعل ماض داخل في الصلة وهذا قول البصريين وأجاز الكسائي والفراء «4» أن يكون اسما نعتا للذي وأجاز: مررت بالذي أخيك، ينعتان الذي بالمعرفة وما قاربها وذا محال عند البصريين لأنه نعت للاسم قبل أن يتم والمعنى عندهم على المحسن، وأجاز الكسائي والفراء أن يكون الذي بمعنى الذين أي على المحسن، وحكي عن محمد بن يزيد قول رابع قال: هو مثل قولك: إذا ذكر زيد مررت بالذي ضرب أي الذي ضربه فالمعنى تماما على الذي أحسنه الله إلى موسى من الرسالة وغيرها وَتَفْصِيلًا عطف وكذا وَهُدىً وَرَحْمَةً. [سورة الأنعام (6) : آية 155] وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) وَهذا كِتابٌ ابتداء وخبر. مُبارَكٌ نعت، ويجوز في غير القرآن: مباركا. على الحال. [سورة الأنعام (6) : آية 156] أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَنْ تَقُولُوا في موضع نصب بمعنى كراهة أن تقولوا وقال الفراء «5» أي: واتّقوا أن تقولوا.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 364، والبحر المحيط 4/ 254. (2) انظر تيسير الداني 89. (3) انظر تيسير الداني 89، والبحر المحيط 4/ 254، وهذه قراءة ابن عامر. (4) انظر معاني الفراء 1/ 365، والبحر المحيط 4/ 255. (5) انظر معاني الفراء 1/ 366، والبحر المحيط 4/ 257.

[سورة الأنعام (6) : آية 157]

[سورة الأنعام (6) : آية 157] أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) أَوْ تَقُولُوا عطف عليه. فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ لأن البينة والبيان واحد. [سورة الأنعام (6) : آية 158] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ويجوز تأتي مثل فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ [القصص: 8] أو مثل تلتقطه بعض السيارة [يوسف: 10] وقرأ ابن سيرين لا تنفع نفسا إيمانها. قال أبو حاتم: هذا غلط من ابن سيرين. قال أبو جعفر: في هذا شيء دقيق من النحو ذكره سيبويه وذلك أنّ الإيمان والنفس كلّ واحد منهما مشتمل على الآخر فجاز التأنيث وأنشد سيبويه: [الطويل] 141- مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت ... أعاليها مرّ الرّياح النواسم «1» لأن المرّ والرياح كل واحد منهما مشتمل على الآخر، وفيه قول آخر أن يؤنث الإيمان لأنه مصدر كما يذكّر المصدر المؤنث مثل فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ [البقرة: 275] لأن موعظة بمعنى الوعظ وكما قال: [الطويل] 142- فقد عذرتنا في صحابته العذر «2» ففي أحد الأقوال أنه أنّث العذر لأنه بمعنى المعذرة. [سورة الأنعام (6) : آية 159] إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ أي آمنوا ببعض وكفروا ببعض وكذا من ابتدع فقد جاء بما لم يأمر الله جل وعز به فقد فرّق دينه وفارقوا دينهم يعني الإسلام وكلّ من فارقه فقد فارق

_ (1) الشاهد لذي الرمة في ديوانه ص 754، وخزانة الأدب 4/ 225، وشرح أبيات سيبويه 1/ 58، والكتاب 1/ 94، والمحتسب 1/ 237، والمقاصد النحوية 3/ 367 وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 5/ 239، والخصائص، 2/ 417، وشرح الأشموني 2/ 310، وشرح عمدة الحافظ 838، ولسان العرب (عرد) و (صدر) ، و (قبل) ، و (سفه) ، والمقتضب 4/ 197. (2) الشاهد بلا نسبة في تذكرة النحاة ص 583، وللأبيرد اليربوعي في الحماسة البصرية 1/ 268، ونسب للأخطل في لسان العرب (عذر) . وصدره: «فإن تكن الأيام فرّقن بيننا»

[سورة الأنعام (6) : آية 160]

دينه الذي يجب أن يتّبعه لست منهم في شيء فأوجب براءته منهم إنما أمرهم إلى الله تعزية للنبي صلّى الله عليه وسلّم. [سورة الأنعام (6) : آية 160] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ ابتداء وهو شرط والجواب فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها أي فله عشر حسنات أمثالها وحكى سيبويه «1» : عندي عشرة نسّابات أي عندي عشرة رجال نسابات، وقرأ الحسن وسعيد بن جبير والأعمش فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «2» وتقديرها: فله حسنات عشر أمثالها أي له من الجزاء عشرة أضعاف مما يجب له ويجوز أن يكون له مثل ويضاعف المثل فيصير عشرة. فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها خبر ما لم يسمّ فاعله. [سورة الأنعام (6) : آية 161] قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قال الأخفش: هو نصب بهداني وقال غيره: هو نصب بمعنى عرّفني مثل: هو يدعه تركا. قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون محمولا على المعنى لأن المعنى هداني صراطا مستقيما كما قال جلّ وعزّ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً [الفتح: 2] : قِيَماً من نعمته وقيّما أعلّ على الإتباع. مِلَّةَ إِبْراهِيمَ بدل. حَنِيفاً قال أبو إسحاق: هو حال من إبراهيم وقال علي بن سليمان: هو نصب بإضمار أعني. [سورة الأنعام (6) : آية 162] قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) قُلْ إِنَّ صَلاتِي اسم «إنّ» . وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي عطف عليه وقرأ أهل المدينة وَمَحْيايَ «3» بإسكان الياء في الإدراج وهذا لم يجزه أحد من النحويين إلا يونس لأنه جمع بين ساكنين وإنما أجازه يونس لأن قبله ألفا والألف المدّ التي فيها تقوم مقام الحركة وأجاز يونس اضربان زيدا وإنما منع النحويون هذا لأنه جمع بين ساكنين وليس في الثاني إدغام، ومن قرأ بقراءة أهل المدينة وأراد أن يسلم من اللحن وقف على «محياي» فيكون غير لاحن عند جميع النحويين، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى وعاصم الجحدري وَمَحْيايَ وَمَماتِي «4» بالإدغام وهذا وجه جيد في العربية لمّا كانت الياء يغيّر

_ (1) انظر الكتاب 4/ 46. (2) انظر البحر المحيط: 4/ 261، ومختصر ابن خالويه 41. (3) انظر تيسير الداني 89، والبحر المحيط 4/ 262. (4) انظر البحر المحيط 4/ 262. [.....]

[سورة الأنعام (6) : آية 165]

ما قبلها بالكسر ولم يجز في الألف كسر صيّر تغييرها قلبها إلى الياء كما أنشد أهل اللغة: [الكامل] 143- سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم «1» خبر. قال الأخفش: يقال: وزر يوزر ووزر يزر ووزر يوزر وزرا ويجوز إزرا كما يقال: إسادة. [سورة الأنعام (6) : آية 165] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ مفعولان. لِيَبْلُوَكُمْ نصب بلام كي وهو بدل من «أن» . إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ اسم «إنّ» وخبرها وكذا وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.

_ (1) مرّ الشاهد رقم 18، وعجزه: «فتخرّموا ولكلّ جنب مصرع»

7 شرح إعراب سورة الأعراف

7 شرح إعراب سورة الأعراف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ربّ يسّر وأعن: [سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ قال الكسائي: أي هذا كتاب أنزل إليك، وقال الفراء «1» : المعنى الألف واللام والميم والصاد من حروف المقطّع كتاب أنزل إليك مجموعا. قال أبو إسحاق: هذا القول خطأ من ثلاث جهات: منها أنه لو كان كما قال لوجب أن يكون بعد هذه الحروف أبدا كتاب وقد قال الله جلّ وعزّ: الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران: 1، 2] ومنها أنه لو كان كما قال ما لكانت «الم» في غير موضع كذا «حم» ، ومنها أنه أضمر شيئين لأنه يحتاج أن يقدّر «الم» بعض حروف كتاب أنزل إليك ولا يكون هذا كقولك: اب ت ث ثمانية وعشرون حرفا، لأن هذا اسم للسورة كما تقول: الحمد سبع آيات والدليل على هذا أنه لا يجوز ط ظ ر ن ثمانية وعشرون حرفا. قال أبو جعفر: وقد أجاز الفراء هذا. فَلا يَكُنْ نهي وعلامة الجزم فيه حذف الضمة من النون وحذفت الواو لسكونها وسكون النون وكانت أولى بالحذف لأن قبلها ضمة تدلّ عليها. حَرَجٌ اسم يكن والنهي في اللفظ للحرج وفي المعنى المخاطب. لِتُنْذِرَ بِهِ نصب بلام كي. وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ «2» لم تنصرف لأن في آخرها ألف تأنيث وتكون في موضع رفع ونصب وخفض، الرفع عند البصريين على إضمار مبتدأ، وقال الكسائي: هي عطف على «كتاب» ، والنصب عند البصريين على المصدر، وقال الكسائي: هي عطف على الهاء في «أنزلناه» ، والخفض بمعنى للإنذار وذكرى للمؤمنين خفض باللام. [سورة الأعراف (7) : آية 3] اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) اتَّبِعُوا أمر وهو جزم عند الفراء وبناء عند سيبويه وَلا تَتَّبِعُوا جزم. مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 368. (2) انظر البحر المحيط 4/ 268.

[سورة الأعراف (7) : آية 4]

مفعول ولم ينصرف لأن فيه ألف التأنيث أي لا تعبدوا معه غيره قَلِيلًا نعت لظرف أو لمصدر. ما تَذَكَّرُونَ «1» تكون «ما» زائدة وتكون مع الفعل مصدرا والأصل تتذكّرون فأدغمت التاء في الذال لقربها منها وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي تذكرون فحذف التاء الثانية لاجتماع تاءين. [سورة الأعراف (7) : آية 4] وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها في موضع رفع بالابتداء ويجوز النصب بإضمار فعل. فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ قال الفراء «2» : خفّفت الواو والمعنى أو وهم قائلون. قال أبو إسحاق: هذا خطأ إذا عاد الذكر استغني عن الواو تقول: جاءني زيد راكبا أو هو ماش ولا يحتاج إلى الواو. [سورة الأعراف (7) : آية 5] فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَما كانَ دَعْواهُمْ خبر كان واسمها إِلَّا أَنْ قالُوا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 6 الى 7] فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) فدلّ بهذا على أن الكفار يحاسبون وهذه لام القسم وحقيقتها أنها للتوكيد وكذا فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ خبر كان وبطل عمل ما. [سورة الأعراف (7) : الآيات 8 الى 9] وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) وَالْوَزْنُ رفع بالابتداء الْحَقُّ خبره، ويجوز أن يكون الحق نعتا له والخبر يَوْمَئِذٍ ويجوز نصب الحق على المصدر. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ شرط وجوابه، وكذا وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ مصدر أي بظلمهم. [سورة الأعراف (7) : آية 10] وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10) وقرأ الأعرج معائش «3» بالهمز وكذا روى خارجة بن مصعب عن نافع. قال

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 268. (2) انظر معاني الفراء 1/ 372، والبحر المحيط 4/ 268. (3) وهي قراءة زيد بن علي والأعمش أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 271، ومختصر ابن خالويه 42.

[سورة الأعراف (7) : آية 11]

أبو جعفر: والهمز لحن لا يجوز لأن الواحد معيشة فزدت ألف الجمع وهي ساكنة والياء ساكنة فلا بد من تحريك إذ لا سبيل إلى الحذف والألف لا تحرّك فحرّكت الياء بما كان يجب لها في الواحد ونظيره من الواو منارة ومناور ومقامة ومقاوم كما قال: [الطويل] 144- وإنّي لقوّام مقاوم لم يكن ... جرير ولا مولى جرير يقومها «1» وكذا مصيبة ومصاوب هذا الجيد ولغة شاذّة مصايب. قال الأخفش: إنما جاز مصايب لأن الواحدة معتلّة. قال أبو إسحاق: هذا خطأ يلزمه أن يقول: مقايم، ولكن القول عندي أنه مثل وسادة وإسادة. [سورة الأعراف (7) : آية 11] وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قال أبو جعفر: فقد ذكرنا معنى وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ استثناء من موجب. لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ في موضع الخبر. [سورة الأعراف (7) : آية 12] قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ ما مَنَعَكَ ما في موضع رفع بالابتداء، وعند الكسائي بالعائد. والمعنى أيّ شيء منعك أَلَّا تَسْجُدَ في موضع نصب أي من أن تسجد. قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ابتداء وخبر. في أنا ثلاث لغات أفصحها: أنا فعلت بحذف الألف في الإدراج لأنها زائدة لبيان الحركة في الوقف. قال الفراء: وبعض بني قيس وربيعة يقولون: أنا فعلت بإثبات الألف في الإدراج. قال الكسائي: وبعض قضاعة يقولون: أان فعلت، مثل عان. وفي الوقف ثلاث لغات: أفصحها: أنا. قال الكسائي: ومن العرب من يقول: «أنه» قال الأخفش: ومن العرب من يقول: «أن» في الوقف. [سورة الأعراف (7) : الآيات 16 الى 17] قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي فيها ثلاثة أجوبة: يكون من الغيّ ويكون مثل أحمدت الرجل، وقيل: أغواه أي خيّبه. لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ أي لأقعدن لهم في الغيّ على

_ (1) الشاهد للأخطل في ديوانه ص 233، وحماسة البحتري ص 212، والخصائص 3/ 145، وشرح المفصل 10/ 90، وللفرزدق في المقتضب 1/ 122، وبلا نسبة في شرح المفصل 10/ 97، والمنصف 1/ 306.

[سورة الأعراف (7) : آية 18]

صراطك حذفت «على» كما حكى سيبويه: ضرب الظّهر والبطن وأنشد: [الكامل] 145- لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه ... فيه كما عسل الطّريق الثّعلب «1» والتقدير على صراطك وفي صراطك وسمّي الدين صراطا لأنه الطريق إلى النجاة. وأحسن ما قيل في معنى ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ في الضلالة. [سورة الأعراف (7) : آية 18] قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً على الحال وقرأ عاصم من رواية أبي بكر بن عيّاش لَمَنْ تَبِعَكَ «2» بكسر اللام وأنكره بعض النحويين وتقديره- والله أعلم- من أجل من تبعك كما يقال: أكرمت فلانا لك وقد يكون المعنى: الدّحر لمن تبعك منهم. قال أبو إسحاق من قرأ «لمن تبعك» بفتح اللام فهي عنده لام قسم وهي توطئة لقوله لَأَمْلَأَنَّ وقال غيره: لمن تبعك هي لام توكيد لأملأنّ لام قسم الدليل على هذا أنه يجوز في غير القرآن حذف اللام الأولى ولا يجوز حذف الثانية، وفي الكلام معنى الشرط والمجازاة أي من تبعك عذّبته، ولو قلت: من تبعك أعذبه لم يجز إلّا أن تريد لأعذبنه. [سورة الأعراف (7) : الآيات 19 الى 20] وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ نهي. فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ جواب ويكون عطفا. قال الأخفش: فَوَسْوَسَ لَهُمَا أي إليهما. ما وُورِيَ ويجوز في غير القرآن أوري مثل «أقّتت» . إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ خبر تكونا و «أن» في موضع نصب بمعنى كراهة والكوفيون يقولون: لئلّا وقرأ يحيى بن أبي كثير والضحّاك إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ بكسر اللام ويجوز على هذه القراءة إسكانها ولا يجوز على القراءة الأولى لخفة الفتحة، وزعم أبو عبيد أن احتجاج يحيى بن أبي كثير بقوله وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه:

_ (1) الشاهد لساعدة بن جؤيّة الهذليّ في الكتاب 1/ 69، وتخليص الشواهد 503، وخزانة الأدب 3/ 83، والدرر 3/ 86، وشرح أشعار الهذليين 1120، وشرح التصريح 1/ 312، وشرح شواهد الإيضاح ص 155، وشرح شواهد المغني ص 885، ولسان العرب (وسط) و (عسل) ، والمقاصد النحوية 2/ 544، ونوادر أبي زيد ص 15، وبلا نسبة في أسرار العربية 180، وجمهرة اللغة 842، والخصائص 3/ 319، وشرح الأشموني 1/ 197، ومغني اللبيب ص 11، وهمع الهوامع 1/ 200. (2) انظر مختصر ابن خالويه 42، وهي قراءة عاصم.

[سورة الأعراف (7) : آية 21]

120] حجّة بيّنة ولكنّ الناس على تركها فلهذا تركناها «1» . قال أبو جعفر: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ قراءة شاذة وقد أنكر على أبي عبيد هذا الكلام وجعل من الخطأ الفاحش وهل يجوز أن يتوهّم آدم صلّى الله عليه وسلّم أنه يصل إلى أكثر من ملك الجنة وهي غاية الطالبين وإنما معنى وَمُلْكٍ لا يَبْلى المقام في ملك الجنّة والخلود فيه وقد بيّن الله جلّ وعز فضل الملائكة على جميع الخلق في غير موضع من القرآن فمنها هذا وهو إلّا أن يكونا ملكين ومنها وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام: 50] ومنه لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: 172] وقال الحسن: فضّل الله عزّ وجلّ الملائكة بالصور والأجنحة والكرامة، وقال غيره: فضّلهم الله جلّ وعزّ بالطاعة وترك المعصية فبهذا يقع التفضيل في كلّ شيء. [سورة الأعراف (7) : آية 21] وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) ليس «لكما» داخلا في الصلة وللنحويين فيه ثلاثة أقوال: قال هشام: التقدير إني ناصح لكما لمن الناصحين، وقال محمد بن يزيد: يكون لكما تبيينا كما تقول: مرحبا بك وبك مرحبا. قال محمد بن يزيد وقال المازني: وهو اختياري الألف واللام بمنزلتها في الرجل وليست بمعنى الذي ألا ترى أنك تقول: نعم القائم. ولا يجوز: نعم الذي قام. [سورة الأعراف (7) : آية 22] فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) وقرأ الحسن فلمّا ذاقا الشجرة بدت لهما سوأتهما على واحدة والأجود الجمع ويجوز التثنية وقد ذكرناه في «سورة المائدة» «2» . وَطَفِقا «3» ويجوز إسكان الفاء. وحكى الأخفش طفق يطفق مثل ضرب يضرب وقرأ الحسن يَخْصِفانِ «4» بكسر الخاء والأصل يختصفان فأدغم وكسر الخاء لالتقاء الساكنين وقرأ ابن بريدة ويعقوب يَخْصِفانِ «5» بفتح الخاء ألقى حركة التاء عليها، ويجوز يخصّفان بضم الياء من خصف يخصف والمعنى أنهما أمرا بترك اللّباس فبدت سوآتهما. [سورة الأعراف (7) : آية 23] قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالا رَبَّنا نداء مضاف والأصل يا ربنا وقيل في معنى «يا» معنى التعظيم.

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 42. (2) انظر المائدة: 31. (3) وقرأ أبو السّمال (وطفقا) بالفتح، انظر البحر المحيط 4/ 281. (4) وهي قراءة الأعرج ومجاهد وابن وثاب أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 281. (5) انظر البحر المحيط 4/ 281، ومختصر ابن خالويه 42. [.....]

[سورة الأعراف (7) : آية 26]

وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وقعت (إن) على (لم) لأن معناها مع ما بعدها الفعل الماضي. [سورة الأعراف (7) : آية 26] يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ نداء مضاف. قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وهو القطن والكتّان لأنهما يكونان من الماء الذي يكون من السماء، وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن وعاصم من رواية المفضّل الضبّي وأبو عمرو ومن رواية الحسين بن عليّ الجعفيّ ورياشا «1» ولم يحكه أبو عبيد إلا عن الحسن ولم يفسّر معناه وهو جمع ريش وهو ما كان من المال واللباس قال الفراء «2» : ريش ورياش كما تقول: لبس ولباس وَلِباسُ التَّقْوى «3» هذه قراءة أهل المدينة والكسائي، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم والأعمش وحمزة وَلِباسُ التَّقْوى بالرفع، والنصب على العطف وتم الكلام والرفع بالابتداء. وذلِكَ من نعته وخبر الابتداء خَيْرٌ ويجوز أن يكون «لباس» مرفوعا على إضمار مبتدأ أي وستر العورة ذلك لباس المتّقين وروي عن محمد بن يزيد أنه قال: الرفع والنصب حسنان إلّا أن النصب يحتمل معنيين، أحدهما أن يكون ذلك إشارة إلى اللباس والآخر أن يكون إشارة إلى كل ما تقدّم فأما لباس التقوى ففيه قولان: أحدهما أن معنى أنزل لباس التقوى ما علّمه الله جلّ وعزّ وهدى به هذا في النصب، وفي الرفع على التمثيل، والقول الآخر أن معنى لباس التقوى لبس الصوف والخشن من الثياب مما يتواضع به لله جلّ وعزّ. وأولى ما قيل في النصب أنه معطوف و «ذلك» مبتدأ، أي ذلك الذي أنزلناه من اللباس والريش لباس التقوى خير من التقوى والتجرّد في طوافكم فإن رفعت فقرأت وَلِباسُ التَّقْوى فأولى ما قيل فيه أن ترفعه بالابتداء. وذلِكَ نعته أي ولباس التقوى ذلك الذي علمتموه خير لكم من لباس الثياب التي يواري سوآتكم ومن الرياش الذي أنزلناه إليكم فألبسوه ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ أي مما يدل على أنّ له خالقا. لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي ليكونوا على رجاء من التذكير. [سورة الأعراف (7) : آية 27] يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) يا بَنِي آدَمَ نداء مضاف. لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ نهي وهو مجاز مثل

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 283، ومختصر ابن خالويه 43. (2) انظر معاني الفراء 1/ 375. (3) انظر تيسير الداني 90.

[سورة الأعراف (7) : آية 29]

وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102] أي كونوا على الإسلام حتى يأتيكم الموت. كَما في موضع نصب نعت لمصدر. أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أب وأبة للمؤنث فعلى هذا قيل: أبوان ويقال في النداء: يا أبة للمذكر وبضم الهاء وبفتح. يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما في موضع نصب على الحال ويكون مستأنفا. لِيُرِيَهُما نصب بلام إِنَّهُ يَراكُمْ الأصل يرأاكم ثم خفّفت الهمزة. هُوَ وَقَبِيلُهُ عطف على المضمر وهو توكيد وهذا يدلّ على أنه يقبح رأيتك وعمر وأنه ليس المضمر كالمظهر، وقيل: إن قوله إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ يدلّ على أن الجنّ لا يرون إلا في وقت نبيّ ليكون ذلك دلالة على نبوّته لأن الله جلّ وعزّ خلقهم خلقا لا يرون فيه وإنما يرون إذا نقلوا عن صورهم وذلك من المعجزات التي لا تكون إلّا في وقت الأنبياء صلّى الله عليه وسلّم مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ وحكى سيبويه: حيث. قال أبو إسحاق هي مبنيّة لعلّتين: إحداهما أنها لا تدلّ على موضع بعينه، والأخرى أنّ ما بعدها صلة لأنها لا تضاف ويقال: حوث وحوث وحكى الكوفيّون الكسر والإضافة. إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ أي وصفناهم بهذا. [سورة الأعراف (7) : آية 29] قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ الكاف في موضع نصب. أي تعودون كما بدأكم أي كما خلقكم أول مرّة يعيدكم. قال أبو إسحاق: هو متعلّق بما قبله أي ومنها تخرجون كما بدأكم تعودون. [سورة الأعراف (7) : آية 30] فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) فَرِيقاً هَدى نصب بهدى. وَفَرِيقاً نصب بإضمار فعل أي وأضلّ فريقا وأنشد سيبويه «1» : [المنسرح] 146- أصبحت لا أحمل السّلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نّفرا والذّئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرّياح والمطرا وقال الكسائي والفراء: التقدير يعودون فريقا هدى وفريقا أي يعودون فريقين. قال الكسائي: وفي قراءة أبيّ تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا حقّ عليهم

_ (1) مرّ الشاهد رقم (113) .

[سورة الأعراف (7) : آية 32]

الضلالة «1» قال الفراء: ولو كان مرفوعا لجاز وقرأ عيسى بن عمر أنّهم بفتح الهمزة بمعنى لأنهم. [سورة الأعراف (7) : آية 32] قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ابتداء وخبر أي هي خالصة يوم القيامة للذين آمنوا في الدنيا وهذه قراءة ابن عباس وبها قرأ نافع وسائر القراء يقرءون خالِصَةً على الحال أي يجب لهم في هذه الحال، وخبر الابتداء لِلَّذِينَ آمَنُوا والاختيار عند سيبويه النصب لتقدم الظرف. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الكاف في موضع نصب نعت لمصدر. [سورة الأعراف (7) : آية 33] قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ نصب بوقوع الفعل عليها. ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ بدل. وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ قال الفراء «2» : الإثم ما دون الحدّ، والبغي الاستطالة على الناس. قال أبو جعفر: فإمّا أن يكون الإثم الخمر فلا يعرف ذلك وتحريم الخمر موجود نصّا في كتاب الله جل وعز وهو قوله إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90] وحقيقة الإثم أنه جميع المعاصي كما قال: [الكامل] 147- إنّي وجدت الأمر أرشده ... تقوى الإله، وشرّه الإثم «3» والبغي التجاوز في الظلم. وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ في موضع نصب عطف وكذا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يبيّن أن كلّ مشرك يقول على الله ما لا يعلم. [سورة الأعراف (7) : آية 34] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أي الوقت المعلوم عند الله. لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ظرف زمان. وَلا يَسْتَقْدِمُونَ فدلّ بهذا على أن المقتول إنما يقتل بأجله.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 376، والبحر المحيط 4/ 290. (2) انظر معاني الفراء 1/ 378. (3) الشاهد للمخبّل السعدي في ديوانه ص 316، ولسان العرب (ألا) ، وديوان المفضليات 224.

[سورة الأعراف (7) : آية 35]

[سورة الأعراف (7) : آية 35] يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ شرط ودخلت النون توكيدا لدخول ما. فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ شرط وما بعده جوابه وهو وجوابه جواب الأول، وأصلح منكم وقيل المعنى فمن اتقى وأصلح فليطعم وحذف هذا ودلّ قوله جلّ وعزّ فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ إن المؤمنين يوم القيامة لا يخافون ولا يحزنون ولا يلحقهم رعب ولا فزع. [سورة الأعراف (7) : آية 36] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها ابتداء. أُولئِكَ ابتداء ثان. أَصْحابُ النَّارِ خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول. [سورة الأعراف (7) : آية 37] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ابتداء وخبر وكذا أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ لأن التقدير نائل لهم. حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ قال الخليل وسيبويه «1» في «حتّى» و «أمّا» و «إلا» لا يملن لأنهم حروف ففرق بينهنّ وبين الأسماء نحو حبلى وسكرى. قال أبو إسحاق: تكتب «حتى» بالياء لأنها أشبهت سكرى ولو كتبت «إلا» بالياء لأشبهت «إلى» ولم تكتب «إما» بالياء لأنها «إن» ضمّت إليها «ما» . [سورة الأعراف (7) : آية 38] قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ ظرف. حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا أي اجتمعوا وقرأ الأعمش تداركوا «2» وهذا الأصل ثم وقع الإدغام فاحتيج إلى ألف الوصل وقرأ مجاهد حتى إذا أدركوا «3» أي أدرك بعضهم بعضا. جَمِيعاً على الحال. قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ ما تجدون من العذاب.

_ (1) انظر الكتاب 4/ 248. (2) وهي قراءة ابن مسعود أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 298. (3) انظر البحر المحيط 4/ 298.

[سورة الأعراف (7) : آية 39]

[سورة الأعراف (7) : آية 39] وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) أي قد كفرتم وفعلتم كما فعلنا فليس تستحقون تخفيفا من العذاب. [سورة الأعراف (7) : آية 40] إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها اسم «إن» والخبر في لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ هذه قراءة نافع وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي لا يفتح «1» بالباء على تذكير الجميع والتأنيث على تأنيث الجماعة والتخفيف يكون للقليل والكثير والتثقيل للكثير لا غير والتثقيل هنا أولى لأنه على الكثير أدلّ. [سورة الأعراف (7) : آية 41] لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ التنوين عند سيبويه «2» عوض من الياء وعند أصحابه عوض من الحركة. وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف. [سورة الأعراف (7) : آية 42] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ابتداء والجملة الخبر ومعنى لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي إلا ما تقدر عليه وتتسع له. [سورة الأعراف (7) : آية 43] وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إن احتجت إلى جمع غلّ قلت: غلال. تَجْرِي في موضع نصب على الحال وقد يكون مستأنفا وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا فيه قولان: أحدهما هدانا إلى ما أدّى إلى هذا، والقول الآخر أن المعنى الذي هدانا إلى الجنة بالتمكين لنا والتعريف. وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لام نفي. لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ «أن» في موضع رفع. وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ «أن» في موضع نصب مخفّفة من الثقيلة وقد يكون تفسيرا

_ (1) انظر تيسير الداني 90. (2) انظر الكتاب 3/ 342.

[سورة الأعراف (7) : آية 44]

لما نودوا به فلا يكون لها موضع تِلْكُمُ الْجَنَّةُ ابتداء وخبر. [سورة الأعراف (7) : آية 44] وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ تميل من أجل الراء لأنها مخفوضة وهي بمنزلة حرفين ويجوز التفخيم. أَنْ قَدْ وَجَدْنا مثل «أن تلكم» . فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا مفعولان. قالُوا نَعَمْ وقرأ الأعمش والكسائي قالُوا نَعَمْ «1» بكسر العين ويجوز على هذه اللغة إسكان العين. فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ هذه قراءة أبي عمرو وعاصم ونافع. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «2» أَنْ في موضع نصب على القراءتين ويجوز في المخففة أن لا يكون لها موضع وتكون مفسرة وحكى أبو عبيد أن الأعمش قرأ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ وحكى عصمة عن الأعمش أنه قرأ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ «3» بكسر الهمزة فهذا على إضمار القول كما قرأ الكوفيون فناداه الملائكة وهو قائم يصلّي في المحراب إنّ الله. [سورة الأعراف (7) : آية 45] الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ في موضع خفض نعت للظالمين ويجوز الرفع والنصب على إضمار. [سورة الأعراف (7) : آية 46] وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وهو السّور الذي ذكره الله جلّ وعزّ. وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ أي وعلى أعراف السّور وهي شرفه ومنه عرف الفرس، وقد تكلّم العلماء في أصحاب الأعراف فقال قوم: هم ملائكة، وقيل: هم قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم، ومن أحسن ما قيل فيه أنّ أصحاب الأعراف عدول القيامة وهم الشهداء من كل أمة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم فهم على السّور بين الجنة والنار وقال جلّ وعزّ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي سلمتم من العقوبة لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ أي لم يدخل الجنة أصحاب الأعراف أي لم يدخلوها بعد، وهم يطمعون على هذا التأويل وهم يعلمون أنّهم يدخلونها، وذلك معروف في اللغة أن يكون طمع بمعنى علم.

_ (1) انظر تيسير الداني 91. (2) انظر تيسير الداني 91، والبحر المحيط 4/ 303. [.....] (3) انظر البحر المحيط 4/ 303.

[سورة الأعراف (7) : آية 47]

[سورة الأعراف (7) : آية 47] وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وقد علموا أنه لا يجعلهم معهم فهذا سبيل التذلّل كما يقول أهل الجنة رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا [التحريم: 8] ويقولون: «الحمد لله» على سبيل الشكر لله جلّ وعزّ ولهم في ذلك لذّة. [سورة الأعراف (7) : آية 48] وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أي من أهل النار. [سورة الأعراف (7) : آية 49] أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) أَهؤُلاءِ إشارة إلى قوم المؤمنين الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة أي أقسمتم في الدنيا لا ينالهم الله في الآخرة برحمة يوبّخونهم بذلك وزيدوا غمّا بأن قيل لهم ادْخُلُوا الْجَنَّةَ وقرأ عكرمة دخلوا الجنة «1» بغير ألف والدال مفتوحة وقرأ طلحة بن مصرف أدخلوا الجنة «2» بكسر الخاء على أنه فعل ماض. [سورة الأعراف (7) : آية 50] وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ مثل «أن تلكم الجنّة» وجمع تِلْقاءَ تلاقيّ. [سورة الأعراف (7) : آية 51] الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً في موضع خفض نعت للكافرين وقد يكون رفعا ونصبا بإضمار كَما نَسُوا في موضع خفض بالكاف. وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ عطف عليه أي وكما كانوا بآياتنا يجحدون. [سورة الأعراف (7) : آية 52] وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ أي بيّناه حتى يعرفه من تدبّره وقيل: فصّلناه أنزلناه متفرّقا. عَلى عِلْمٍ منّا به. هُدىً وَرَحْمَةً قال الفراء «3» هو نصب على القطع. قال أبو

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 306، والمحتسب 1/ 249. (2) وهي قراءة ابن وثاب والنخعي أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 306. (3) انظر معاني الفراء 1/ 380.

[سورة الأعراف (7) : آية 53]

إسحاق: أي هاديا ذا رحمة فجعله حالا من الهاء التي في «فصّلناه» . قال الكسائي والفراء: ويجوز هُدىً وَرَحْمَةً بالخفض «1» . قال الفراء: مثل وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الأنعام: 92] . قال أبو إسحاق: ويجوز «هدى ورحمة» بمعنى: هو هدى ورحمة. [سورة الأعراف (7) : آية 53] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ بالهمز لأنه من آل يؤول وأهل المدينة يخفّفون الهمزة ويجعلونها ألفا، وفي معناه قولان: أحدهما هل ينظرون إلا ما وعدوا به في القرآن من العقاب والحساب، والقول الآخر هل ينظرون إلّا تأويله من النظر إلى يوم القيامة. يَوْمَ يَأْتِي نصب بيقول. فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ «من» زائدة للتوكيد. فَيَشْفَعُوا لَنا نصب لأنه جواب الاستفهام. أَوْ نُرَدُّ قال الفراء: المعنى أو هل نردّ وقال أبو إسحاق: هو عطف على المعنى أي هل يشفع لنا أحد أو نردّ وقرأ ابن أبي إسحاق أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ «2» بنصبهما جميعا والمعنى إلّا أن نردّ كما قال امرؤ القيس: [الطويل] 148- فقلت له لا تبك عينك إنّما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا «3» وقرأ الحسن أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ «4» برفعهما جميعا والقراءة المجمع عليها أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ «5» . قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي لم ينتفعوا بها وكلّ من لم ينتفع فقد خسرها. وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ما كانوا يعبدونه من الأوثان. [سورة الأعراف (7) : آية 54] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) إِنَّ رَبَّكُمُ اسم «إنّ» (اللَّهُ) خبرها. الَّذِي نعت ويجوز في القرآن إن ربّكم الله

_ (1) في البحر المحيط 4/ 308 (بالخفض على البدل، وهي قراءة زيد بن عليّ) . (2) انظر مختصر ابن خالويه 44. (3) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 66، والأزهية 122، وخزانة الأدب 4/ 212، وشرح أبيات سيبويه 2/ 59، والكتاب 3/ 51، وشرح المفصّل 7/ 22، والصاحبي في فقه اللغة 128، واللامات ص 68، والمقتضب 2/ 28، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 313، والجنى الداني ص 231، والخصائص 1/ 263، ورصف المباني 133، وشرح عمدة الحافظ 644، واللمع 211. (4) انظر مختصر ابن خالويه 44، والبحر المحيط 4/ 308. (5) هذه قراءة الجمهور، انظر البحر المحيط 4/ 308.

[سورة الأعراف (7) : آية 56]

الذي يكون «الذي» الخبر. خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ولو أراد جلّ وعزّ خلقهما في أقلّ الأوقات لفعل ولكنّه علم أن ذلك أصلح ليظهر قدرته للملائكة شيئا بعد شيء. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يجعله له كالغشاء وهو في موضع نصب على الحال ويجوز أن يكون مستأنفا وكذا يَطْلُبُهُ حَثِيثاً نعت لمصدر محذوف. وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ قال الأخفش: هي معطوفة على السموات أي وخلق الشمس وروي عن عبد الله بن عامر وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ على الابتداء والخبر. [سورة الأعراف (7) : آية 56] وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) اسم «إنّ» وخبرها «فأما قريب» ولم يقل قريبا ففيه ستة أقوال: من أحسنها أنّ الرحمة والرحم واحد وهي بمعنى العفو والغفران كما قال زياد الأعجم: [الكامل] 149- إنّ السّماحة والمروءة ضمّنا ... قبرا بمرو على الطّريق الواضح «1» ومذهب الفراء «2» أن قريبا إنما جاء بغير هاء ليفرق بين قريب من النسب وبينه، وقال من احتجّ له: كذا كلام العرب كما قال امرؤ القيس: [الطويل] 150- له الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم ... قريب ولا بسباسة ابنة يشكرا «3» قال أبو إسحاق: هذا خطأ لأن سبيل المذكر والمؤنّث أن يجريا على أفعالهما ومذهب أبي عبيدة «4» أن تذكير قريب على تذكير المكان. قال علي بن سليمان: هذا خطأ ولو كان كما قال لكان قريب منصوبا في القرآن كما تقول: إنّ زيدا قريبا منك. قال أبو جعفر: والذي قاله أبو عبيدة قد أجاز سيبويه مثله على بعد كما قال لبيد: [الكامل] 151- فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه ... مولى المخافة خلفها وأمامها «5» فهذه ثلاثة أقوال، وقال الأخفش: يجوز أن يذكّر كما يذكّر بعض المؤنّث وأنشد: [المتقارب] 152- فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها «6»

_ (1) مرّ الشاهد رقم (20) . (2) انظر معاني الفراء 1/ 380. (3) مرّ الشاهد رقم 47. (4) انظر مجاز القرآن 1/ 216. (5) الشاهد للبيب بن ربيعة في ديوانه ص 311، والكتاب 1/ 475، وإصلاح المنطق 77، والدرر 3/ 117، وشرح شواهد الإيضاح ص 170، وشرح المفصل 2/ 129، ولسان العرب (أمم) ، و (كلا) ، و (ولي) ، والمقتضب 4/ 341، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 463، ولسان العرب (فرج) . [.....] (6) الشاهد لعامر بن جوين في تخليص الشواهد 483، والكتاب 2/ 42، وخزانة الأدب 1/ 45، والدرر 6/ 268، وشرح التصريح 1/ 278، وشرح شواهد الإيضاح 339، وشرح شواهد المغني 2/ 943، ولسان العرب (أرض) و (بقل) ، والمقاصد النحوية 2/ 464، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 352، وجواهر الأدب 113، والخصائص 2/ 411، وشرح الأشموني 1/ 174، والردّ على النحاة 91، ورصف المباني 166، وشرح أبيات سيبويه 1/ 557، وشرح ابن عقيل 244، وشرح المفصل 5/ 94، ولسان العرب (خضب) والمحتسب 2/ 112، ومغني اللبيب 2/ 656.

[سورة الأعراف (7) : آية 57]

قال: ويجوز أن تكون الرحمة هاهنا للمطر، والقول السادس أن يكون هذا على النسب كما يقال: امرأة طالق وحائض. [سورة الأعراف (7) : آية 57] وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ ابتداء وخبر والرياح جمع ريح في أكثر العدد وفي أقلّه أرواح لأن الياء في ريح منقلبة من واو إذ كانت قبلها كسرة وهي ساكنة. بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ فيه ست قراءات «1» وسابعة تجوز: قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو نُشُراً بضم النون والشين وقرأ الحسن وقتادة نُشْراً بضم النون وإسكان الشين. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي نَشْراً بفتح النون وإسكان الشين وقرأ عاصم بُشْراً بالباء وإسكان الشين والتنوين وروي عنه بُشْراً بفتح الباء فهذه خمس قراءات، وقرأ محمد اليماني بشرى بين يدي رحمته في وزن حبلى، والقراءة السابعة بشرا «2» بضم الباء والشين. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا معانيها في كتابنا المعاني وهي في موضع نصب على الحال وما كان منها مصدرا فهو مثل قوله: «قتلته صبرا» . حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً يذكّر ويؤنّث وكذا كلّ جمع بينه وبين واحدته هاء ويجوز نعته بواحد فتقول: سحاب ثقيل وثقيلة. سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ وإلى بلد بمعنى واحد. كَذلِكَ الكاف في موضع نصب. [سورة الأعراف (7) : آية 58] وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ رفع بالابتداء. يَخْرُجُ نَباتُهُ في موضع الخبر، وقرأ «3» عيسى بن عمر يخرج نباته بإذن ربه بضم الياء والْبَلَدُ الطَّيِّبُ هو الطيّب تربته والذي خبث هو الذي في تربته حجارة وفي أرضه شوك شبّه سريع الفهم بالبلد الطيب. والبلد الذي خبث لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً نصب على الحال، وقرأ طلحة إِلَّا نَكِداً «4» حذف الكسرة

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 381، والبحر المحيط 4/ 320، والمحتسب 1/ 355، وتيسير الداني 91. (2) وهذه قراءة ابن عباس والسلمي وابن أبي عبلة، انظر البحر المحيط 4/ 320. (3) في البحر المحيط 4/ 322 قال: (وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بن عمر: يَخْرُجُ نَباتُهُ مبنيا للمفعول) . (4) انظر البحر المحيط 4/ 322.

[سورة الأعراف (7) : آية 59]

لثقلها ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى ذا نكد وقرأ أبو جعفر إِلَّا نَكِداً فهذا مصدر بمعنى ذا نكد كما قال الخنساء: [البسيط] 153- فإنّما هي إقبال وإدبار «1» [سورة الأعراف (7) : آية 59] لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ الفاء تدلّ على أنّ الثاني بعد الأول يا قَوْمِ نداء مضاف ويجوز يا قومي على الأصل. اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هذه قراءة أبي عمرو وشيبة ونافع وعاصم وحمزة، وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش والكسائي وأبو جعفر غيره «2» بالخفض وهو اختيار أبي عبيد. قال أبو عمرو: ولا أعرف الجر ولا النصب وقال عيسى بن عمر: النصب والجر جائزان. قال أبو جعفر: والرفع من جهتين: إحداهما أن يكون «غير» في موضع «إلّا» فتقول ما لكم إله إلّا الله وما لكم إله غير الله فعلى هذا الوجه لا يجوز الخفض لا يجوز: ما جاءني من أحد إلّا زيد لأن من لا يكون إلّا في الواجب. قال سيبويه: لأن «على» و «عن» لا يفعل بهما ذلك أي لا يزادان البتّة ثم قال: ولا «من» في الواجب، والوجه الآخر في الرفع أن يكون نعتا على الموضع أي ما لكم إله غيره والخفض على اللفظ، ويجوز النصب على الاستثناء وليس بكثير غير أنّ الكسائي والفراء أجازا نصب «غير» في كلّ موضع يحسن فيه «إلّا» في موضعها تمّ الكلام أو لم يتمّ، وأجازا ما جاءني غيرك. قال الفراء: هي لغة بعض بني أسد وقضاعة وأنشد: [البسيط] 154- لم يمنع الشّرب منها غير أن هتفت ... حمامة في سحوق ذات أو قال «3» قال الكسائي: ولا يجوز جاءني غيرك لأنّ إلّا لا يقع هاهنا. قال أبو جعفر: لا يجوز عند البصريين نصب غير إذا لم يتمّ الكلام وذلك عندهم من أقبح اللحن. قال أبو إسحاق: وإنما استهواه- يعني الفراء- البيت الذي أنشده سيبويه منصوبا وإنما نصب غير في البيت لأنها مضافة إلى ما لا إعراب فيه فأما ما جاءني غيرك فلحن وخطأ.

_ (1) مرّ الشاهد رقم (32) . (2) انظر البحر المحيط 4/ 324. (3) الشاهد لأبي قيس بن الأسلت في ديوانه ص 85، وجمهرة اللغة 1316، وخزانة الأدب 3/ 406، والدرر 3/ 150، ولأبي قيس بن رفاعة في شرح أبيات سيبويه 2/ 180، وشرح شواهد المغني 1/ 458، وشرح المفصل 3/ 80، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 4/ 65، والإنصاف 1/ 287، وخزانة الأدب 6/ 532، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 507، وشرح التصريح 1/ 15، وشرح المفصّل 3/ 81، والكتاب 2/ 344، ولسان العرب (نطق) ، ومغني اللبيب 1/ 159، وهمع الهوامع 1/ 219.

[سورة الأعراف (7) : آية 62]

[سورة الأعراف (7) : آية 62] أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أُبَلِّغُكُمْ «1» وأبلّغكم واحد كما يقال: أكرمه وكرّمه، وكما قال: [الطويل] 155- ومن لا يكرم نفسه لا يكرم «2» [سورة الأعراف (7) : آية 63] أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) أَوَعَجِبْتُمْ فتحت الواو لأنها واو عطف دخلت عليها ألف الاستفهام للتقرير وإنما سبيل الواو أن تدخل على حروف الاستفهام إلّا الألف لقوّتها. [سورة الأعراف (7) : آية 65] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) وَإِلى عادٍ وإن شئت لم تصرفه يكون اسما للقبيلة كما قال جلّ وعزّ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى «3» [النجم: 50] ومن صرف جعله اسما للحيّ. أَخاهُمْ عطف وهو عطف البيان والتقدير وأرسلنا إلى عاد أخاهم هُوداً بدل والصرف وهو أعجميّ لخفّته لأنه على ثلاثة أحرف وقد يجوز أن يكون عربيا مشتقا من هاد يهود. [سورة الأعراف (7) : آية 67] قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ ولو كان ليست جاز والتذكير لأنه مصدر وقد فرق بينه وبين الفعل. [سورة الأعراف (7) : آية 69] أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) خُلَفاءَ جمع خليفة على التذكير والمعنى وخلائف على اللفظ. وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً قال الفراء «4» : ويروى أنّ أطولهم كان مائة ذراع وأقصرهم ستّين ذراعا. ويجوز بَصْطَةً الصاد لأن بعدها طاء. [سورة الأعراف (7) : آية 71] قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)

_ (1) قراءة أبي عمرو، وباقي السبعة بالتشديد، انظر البحر المحيط 4/ 325، وتيسير الداني 91. (2) الشاهد عجز بيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 32، واللمع ص 215 وصدره: «ومن يغترب يحسب عدوّا صديقه» (3) انظر تيسير الداني 166، وهذه قراءة نافع وأبي عمرو. (4) انظر معاني الفراء 1/ 384.

[سورة الأعراف (7) : آية 73]

فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها وحذف المفعول الثاني أي سميتموها آلهة. [سورة الأعراف (7) : آية 73] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَإِلى ثَمُودَ لم ينصرف لأنه جعل اسما للقبيلة، وقال أبو حاتم: لم ينصرف لأنه أعجميّ وهذا غلط لأنه مشتقّ من الثمد وقد قرأ الفراء «1» أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ [هود: 68] على أنه اسم للحيّ، وقرأ يحيى بن وثّاب وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً «2» بالصرف. [سورة الأعراف (7) : آية 74] وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) وقرأ الحسن وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ «3» بفتح الحاء، وهي لغة وفيه حرف من حروف الحلق فلذلك جاء على فعل يفعل قرأ الأعمش ولا تعثوا «4» بكسر التاء أخذا من عثي يعثى لا من عثا يعثو. [سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 81] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَلُوطاً نصب لأنه عطف أي وأرسلنا لوطا ويجوز أن يكون منصوبا بمعنى: واذكروا، وكذا ما تقدّم من نظيره إلّا أن الفراء أجاز «5» «وإلى عاد أخوهم هود» لأن له رافعا ولا يجوز عنده في لوط هذا. قال أبو إسحاق: زعم بعض النحويين يعني الفراء أن لوطا يكون مشتقا من لطت الحوض قال: وهذا خطأ لأن الأسماء الأعجمية لا تشتقّ. أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ استفهام فيه معنى التقرير. واختلف القراء في الذي بعده فقرأه

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 20. (2) وهذه قراءة الأعمش أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 330، ومختصر لابن خالويه 44. [.....] (3) انظر مختصر ابن خالويه 44. (4) انظر البحر المحيط 4/ 332. (5) انظر معاني الفراء 1/ 383.

[سورة الأعراف (7) : آية 82]

أبو عمر بالاستفهام إلّا أنه ليّن الهمزة فجعلها بين الهمزة والياء وقرأ عاصم وحمزة بالاستفهام أيضا غير أنهما حقّقا الهمزة فقرأ أانكم «1» وقرأ الكسائي ونافع الثاني بغير همزة وهو اختيار أبي عبيد، واحتجّ هو والكسائي جميعا بقوله عزّ وجل أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ [الأنبياء: 34] ولم يقل: أفهم وبقوله: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ [آل عمران: 144] ولم يقل: انقلبتم. قال أبو جعفر: وحكي عن محمد بن يزيد أنه كان يذهب إلى قول أبي عبيد والكسائي وهذا من أقبح الغلط لأنهما شبّها شيئين بما لا يشتبهان لأن الشرط وجوابه بمنزلة شيء واحد فلا يكون فيهما استفهامان كالمبتدأ وخبره فلا يجوز: أفإن متّ أفهم الخالدون كمالا يجوز: أزيد أمنطلق وقصّة لوط صلّى الله عليه وسلّم فيها جملتان فلك أن تستفهم عن كل واحدة منهما ويجوز الحذف من الثانية لدلالة الأولى عليها إلا أن الاختيار تخفيف الهمزة الثانية وهذا قول الخليل وسيبويه. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ابتداء وخبر. [سورة الأعراف (7) : آية 82] وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ ويكون الخبر أَنْ قالُوا فإذا نصبت فالاسم «أن قالوا» أي إلّا قولهم. [سورة الأعراف (7) : آية 83] فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ عطف على الهاء. إِلَّا امْرَأَتَهُ استثناء من موجب. [سورة الأعراف (7) : آية 84] وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً توكيد. [سورة الأعراف (7) : آية 85] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَإِلى مَدْيَنَ لم تنصرف لأنها اسم مدينة وقيل: لأنها اسم قبيلة وقيل: للعجمة وأصحّها الأول. أَخاهُمْ عطف. فَأَوْفُوا الْكَيْلَ من أوفى ويقال: وفى وعلى هذه اللغة فأوفوا. [سورة الأعراف (7) : آية 86] وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) قال الأخفش وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ أي في كلّ صراط، وفلان بالبصرة وفي

_ (1) انظر تيسير الداني 35.

[سورة الأعراف (7) : آية 87]

البصرة واحد. تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ أي عن الطريق التي تؤدّي إلى طاعة الله جلّ وعزّ. وَتَبْغُونَها عِوَجاً مفعولان والتقدير يبغون لها عوجا. يقال: في الدين وفي الأمر عوج وفي العود عوج. [سورة الأعراف (7) : آية 87] وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مذكّر على المعنى وعلى اللفظ كانت. [سورة الأعراف (7) : آية 89] قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ «فيها» اسم يكون إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ في موضع نصب وفيه تقديران: قال أبو إسحاق: أي إلا بمشيئة الله جلّ وعزّ. قال: وهذا قول أهل السّنّة، والتقدير الآخر أنه استثناء ليس من الأول وفي معناه قولان: أحدهما: إلّا أن يشاء الله أن يتعبّدنا بشيء مما أنتم عليه، والقول الآخر: أن يكون مثل حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: 40] . [سورة الأعراف (7) : آية 93] فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش وطلحة بن مصرف فكيف إيس على قوم كافرين «1» وهذه لغة تميم يقولون: أنا اضرب. [سورة الأعراف (7) : الآيات 97 الى 98] أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى مثل أو عجبتم وكذا أَوَأَمِنَ على هذه القراءة وروي عن نافع وجهان: روى قالون وأكثر الناس عنه أنه قرأ أَوَأَمِنَ «2» بإسكان الواو، وروى عنه ورش أومن بتحريك الواو وإذهاب الهمزة والوجهان يرجعان إلى معنى واحد لأنه ألقى حركة الهمزة على الواو لمّا أراد تخفيفها وحذفها ومعنى أَوَهاهنا الخروج من شيء إلى شيء ونظيره قوله جلّ وعزّ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ [الإسراء: 54] .

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 349. (2) انظر البحر المحيط 4/ 351.

[سورة الأعراف (7) : آية 100]

[سورة الأعراف (7) : آية 100] أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ بالياء فأن في موضع رفع على هذا وقرأ مجاهد وأبو عبد الرحمن بالنون أولم نهد «1» قال أبو عمرو والقراءة بالنون محال. قال أبو جعفر: يكون «أن» في موضع نصب على قراءة من قرأ بالنون بمعنى لأن أصبناهم ببعض ذنوبهم وتمّ الكلام ثم قال جلّ وعزّ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ ولا يكون معطوفا على أصبناهم لأن أصبناهم ماض ونطبع مستقبل، وأجاز الفراء «2» العطف لأن المستقبل والماضي يقعان هاهنا بمعنى واحد. [سورة الأعراف (7) : آية 101] تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ قال الأخفش أي فما كان ليحكم لهم بالإيمان بتكذيبهم أي ليسوا المؤمنين بتكذيبهم وقال غيره: هذا لقوم بأعيانهم كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ في موضع نصب. [سورة الأعراف (7) : آية 102] وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ في موضع نصب فالمعنى وما وجدنا لأكثرهم عهدا ومن زائدة للتوكيد وفيه قولان: أحدهما أن يكون المعنى وما وجدنا لأكثرهم وفاء بالعهد أي وفاء عهد أي إذا عوهدوا لم يوفوا، والقول الثاني أن يكون العهد بمعنى الطاعة لأنّ على الإنسان الطاعة كما عليه الوفاء بالعهد. وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ الفراء يقول: المعنى وما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين، وسيبويه يذهب إلى أنّ «إن» هذه هي الثقيلة خفّفت ولزمت اللام. [سورة الأعراف (7) : آية 105] حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا هذه قراءة نافع وشيبة «3» ، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وأهل مكة وأهل الكوفة (على ألّا) «4» مخفّفة بمعنى جدير وخلق يقال: فلان خليق بأن يفعل وجدير أن يفعل وعلى أن يفعل بمعنى واحد، ومعنى «حقيق عليّ»

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 351. (2) انظر معاني الفراء 1/ 386. (3) انظر تيسير الداني 92. (4) انظر البحر المحيط 4/ 356.

[سورة الأعراف (7) : آية 107]

واجب عليّ وأن على هذه القراءة في موضع رفع وهي في السواد موصولة في موضع ومفصولة في موضع. وقد تكلّم النحويون في ذلك فقال الملهم صاحب الأخفش سعيد ابن مسعد: من العرب من يدغم بغنّة ومنهم من يدغم بلا غنّة، فمن أدغم بغنّة كتبها مفصولة ومن أدغم بلا غنّة كتبها موصولة لأنه قد أذهب النون وما فيها من الغنّة، وقال القتبيّ: من نصب بها كتبها موصولة ومن لم ينصب بها كتبها مفصولة نحو أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا [طه: 89] فهذه مفصولة لأن فيها إضمارا. قال أبو جعفر: وسمعت أبا الحسن عليّ بن سليمان يقول لا يجوز أن يكتب من هذا شيء إلّا مفصولا لأنها «أن» دخلت عليها «لا» . [سورة الأعراف (7) : آية 107] فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ حذفت الواو لسكونها وسكون الألف ويجوز فألقى عصا هو فإذا هي بالواو بين الساكنين هاء. فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ابتداء وخبر، والمعنى مبين أنه ثعبان لا يلبس وهذه «إذا» التي للمفاجأة، تقول: خرجت فإذا عمرو جالس ويجوز النصب. قال الكسائي: لأن المعنى فاجأته. قال بعض البصريين لو كان كما قال لنصب الاسم. قال علي بن سليمان: سألت أبا العباس محمد بن يزيد كيف صارت «إذا» خبرا لجثّة فقال: هي هاهنا ظرف مكان قال علي بن سليمان: وهو عندي بمعنى الحدوث. [سورة الأعراف (7) : آية 110] يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ نصب بيريد. فَماذا تَأْمُرُونَ ويجوز أن يكون «قالوا» لفرعون وحده «فماذا تأمرون» كما يخاطب الجبّارون، ويجوز أن يكون «قالوا» له ولأصحابه و «ما» في موضع رفع على أنّ «ذا» بمعنى الذي وفي موضع نصب على أنّ (ما) و (ذا) شيء واحد. [سورة الأعراف (7) : آية 111] قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ هذه قراءة أهل المدينة وعاصم والكسائي، وقرأ سائر أهل الكوفة أَرْجِهْ وَأَخاهُ «1» بإسكان الهاء، وقرأ عيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء أرجئه وأخاه «2» بهمزة ساكنة والهاء مضمومة. فالقراءة الأولى فيها ثلاثة أقوال: منها أن يكون على بدل الهمزة وقال الكسائي: تميم وأسد يقولون: أرجيت الأمر إذا أخّرته،

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 359، وتيسير الداني 92. (2) انظر تيسير الداني 92.

[سورة الأعراف (7) : آية 112]

والقول الثالث قاله محمد بن يزيد قال: هو مأخوذ من رجا يرجو أي أطمعه ودعه يرجو وكسر الهاء على الاتباع ويجوز ضمّها على الأصل وإسكانها لحن ولا يجوز إلّا في شذوذ من الشعر والهمز جيد حسن لولا مخالفة السواد إلّا أنه يحتجّ لذلك بأنّ مثل هذا يحذف من الخط. وَأَخاهُ عطف على الهاء. حاشِرِينَ نصب بالفعل. [سورة الأعراف (7) : آية 112] يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) يَأْتُوكَ جزم لأنه جواب الأمر فلذلك حذفت منه النون، وقرأ الكوفيون إلّا عاصما بكلّ سحّار عليم «1» وقرأ سائر الناس ساحِرٍ وكذلك هو في السواد كلّه ويجب أن تجتنب مخالفة السواد. [سورة الأعراف (7) : آية 113] وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ وحذف ذكر الإرسال إليهم لعلم السامع. [سورة الأعراف (7) : آية 115] قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ «أن» في موضع نصب عند الكسائي والفراء «2» كما قال: [البسيط] 156- قالوا الرّكوب فقلنا تلك عادتنا» قال الفراء: في الكلام حذف والمعنى: قال لهم موسى عليه السلام: إنكم لن تغلبوا ربّكم ولن تبطلوا آياته، وهذا من معجز القرآن الذي لا يأتي مثله في كلام الناس ولا يقدرون عليه يأتي باللفظ اليسير بجمع المعنى الكثير. [سورة الأعراف (7) : آية 116] قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ أي عظيم عندهم وليس بعظيم على الحقيقة. [سورة الأعراف (7) : آية 117] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) وروي عن عاصم فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مخفّفا ويجوز على هذه القراءة «تلقف لأنه من

_ (1) انظر تيسير الداني 92، والبحر المحيط 4/ 360. (2) انظر معاني الفراء 1/ 389. [.....] (3) الشاهد للأعشى في ديوانه 113، وخزانة الأدب 8/ 394، والدرر 5/ 80، وشرح شواهد المغني 2/ 965، والصاحبي في فقه اللغة ص 276، والكتاب 3/ 56، والمحتسب 1/ 195، وبلا نسبة في همع الهوامع 2/ 60، وهو في الديوان: «إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنا معشر نزل»

[سورة الأعراف (7) : آية 119]

لقف. ما يَأْفِكُونَ أي ما يكذبون لأنهم جاءوا بحبال وجعلوا فيها زئبقا حتّى تحرّكت وقالوا هذه حيّات. [سورة الأعراف (7) : آية 119] فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ على الحال والفعل منه صغر يصغر صغرا وصغورا وصغارا. [سورة الأعراف (7) : آية 120] وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) على الحال. [سورة الأعراف (7) : آية 126] وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) قال خارجة قرأ الحسن وَما تَنْقِمُ مِنَّا «1» قال الأخفش: هي لغة. [سورة الأعراف (7) : آية 127] وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ جواب الاستفهام، وقال الفراء: هو منصوب على الظرف، وفي قراءة أبيّ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وقد تركوا أن يعبدوك وَآلِهَتَكَ «2» . قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وسنقتّل على التكثير. قال أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله. [سورة الأعراف (7) : آية 130] وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ قال بالجوع، ومن العرب من يعرب النون في السنين وأنشد الفراء: [الوافر] 157- أرى مرّ السّنين أخذن منّي ... كما أخذ السّرار من الهلال «3» وأنشد سيبويه هذا البيت بفتح النون ولكن أنشد في هذا ما لا يجوز غيره وهو قوله: [الوافر] 158- وقد جاوزت رأس الأربعين «4»

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 366. (2) انظر البحر المحيط 4/ 367، ومعاني الفراء 1/ 391. (3) الشاهد لجرير في ديوانه 546، والدرر 1/ 135، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 1/ 153، والمخصص 17/ 103، ولسان العرب (خضع) ، والمقتضب 4/ 200، وهمع الهوامع 1/ 47، وفي الديوان: «رأت مرّ السنين» (4) الشاهد لسحيم بن وثيل في إصلاح المنطق 156، وتخليص الشواهد ص 74، وتذكرة النحاة 480، وخزانة الأدب 8/ 61، وحماسة البحتري 13، والدرر 1/ 140، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 627، وشرح التصريح 1/ 77، وشرح ابن عقيل 41، وشرح المفصل 5/ 11، ولسان العرب (نجذ) و (ربع) ، و (دري) ، والمقاصد النحوية 1/ 191، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 7/ 248، وأوضح المسالك 1/ 61، وجواهر الأدب 155، وشرح الأشموني 1/ 38، والمقتضب 3/ 332، وهمع الهوامع 1/ 49، وصدره: «وماذا تبتغي الشعراء منّي»

[سورة الأعراف (7) : آية 131]

وحكى الفراء عن بني عامر أنهم يقولون: أقمت عنده سنينا يا هذا. مصروفا قال: وبنو تميم لا يصرفون ويقولون: مضت له سنين يا هذا. [سورة الأعراف (7) : آية 131] فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ شرط. يَطَّيَّرُوا جوابه والأصل يتطيّروا فأدغمت التاء في الطاء وقرأ طلحة وعيسى تطيّروا «1» على أنه فعل ماض. ومعنى تطيّروا تشاءموا والأصل في هذا من الطير، ثم كثر استعمالهم إيّاه حتى قيل لكل من تشاءم: تطيّر. وقرأ الحسن ألا إنّما طيرهم عند الله «2» جمع طائر. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون أنّ ما لحقهم من القحط والشدائد إنما هو من عند الله جلّ وعزّ بذنوبهم لا من عند موسى صلّى الله عليه وسلّم وقومه. [سورة الأعراف (7) : آية 132] وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) وَقالُوا مَهْما وحكى الكوفيون مهما بمعناه. قال الخليل «3» رحمه الله: الأصل «ما ما» الأولى للشرط والثانية التي تزاد في قولك: أينما تجلس أجلس، فكرهوا الجمع بين حرفين لفظهما واحد فأبدلوا من الألف هاء فقالوا: مهما. قال أبو إسحاق: قال بعضهم الأصل فيه «مه» أي اكفف. مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ شرط والجواب لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. [سورة الأعراف (7) : آية 133] فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ قال الأخفش: جمع طوفانة. وَالْجَرادَ جمع جرادة في المذكر والمؤنث فإن أردت الفصل قلت: رأيت جرادة ذكرا. وَالضَّفادِعَ جمع

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 370. (2) انظر البحر المحيط 4/ 370، ومختصر ابن خالويه 45. (3) انظر الكتاب 3/ 68.

[سورة الأعراف (7) : آية 137]

ضفدع. وَالدَّمَ عطف. قال أبو إسحاق آياتٍ مُفَصَّلاتٍ نصب على الحال. قال: وتروى أنه كان بين الآية والآية ثمانية أيام. [سورة الأعراف (7) : آية 137] وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا مفعولان. الَّتِي بارَكْنا فِيها في موضع نصب لمشارق ومغارب ويجوز أن يكون خفضا نعتا للأرض وزعم الكسائي والفراء «1» أنّ الأصل في مشارق الأرض وفي مغاربها ثم حذف «في» فنصب. قال الفراء: وتوقع «أورثنا» على «التي» ، وأجاز الفراء «2» أن يكونا مفعولين كما تقدم. وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ رفع بفعلها. الْحُسْنى نعتها وروي عن عاصم كلمات ربّك الحسنى «3» . وَما كانُوا يَعْرِشُونَ لغة فصيحة. قال الكسائي: وبنو تميم يقولون: «يعرشون» وبها قرأ عاصم ويقال أيضا: عكف يعكف ويعكف والمصدر منها جميعا على فعول. [سورة الأعراف (7) : آية 140] قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ مفعولان أحدهما بحرف والأصل أبغي لكم. إِلهاً نصب على البيان. وَهُوَ ابتداء والخبر فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. [سورة الأعراف (7) : آية 141] وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ أي واذكروا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 142 الى 143] وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً مفعولان أي تمام ثلاثين ليلة. وقد ذكرنا واعدنا

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 397. (2) انظر مختصر ابن خالويه 45. (3) انظر تيسير الداني 93، والبحر المحيط 4/ 376. وقراءة ابن عامر وأبي بكر بضم الراء، وباقي السبعة والحسن ومجاهد وأبي رجاء بكسر الراء.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 144 إلى 145]

ووعدنا في سورة البقرة وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ حذفت الهاء لأنه عدد لمؤنث. فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً الفائدة في هذا وقد علم أنّ ثلاثين وعشرا أربعون، أنه قد كان يجوز أن تكون العشر غير ليال فلما قال: أربعين ليلة علم أنها ليال، وقيل: هو توكيد، وجواب ثالث هو أحسنها قد كان يجوز أن تكون العشر تتمة لثلاثين فأفاد قوله: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً أنّ العشر سوى الثلاثين. وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي على البدل، ويجوز «هارون» على النداء، وهو من خلف يخلف أي كن خليفة لي. ويقال: خلف الله عليه بخير إذا مات له من لا يعتاض منه الوالدان، وأخلف الله عليه إذا مات له من يعتاض منه الوالدان، وأخلف الله عليه إذا مات له من يعتاض منه الأخوة ومن أشبهم. وَأَصْلِحْ ألف قطع وكذا أَرِنِي. فأما أَنْظُرْ فهي ألف النفس فلذلك قطعت وجزم أنظر لأنه جواب. فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ شرط والجواب فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة ويدلّ على صحتها دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا [الفجر: 21] وأنّ الجبل مذكّر، وقرأ أهل الكوفة جعله دكّاء «1» وتقديره في العربية فجعله مثل أرض دكّاء والمذكّر أدك وجمع دكّاء دكّاوات ودكّ. وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً على الحال فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ ويجوز الإدغام. سُبْحانَكَ مصدر. تُبْتُ إِلَيْكَ يقال: تاب إذا رجع، والتوبة أن يندم على ما كان منه وينوي أن لا يعاود ويقلع في الحال عن الفعل، فهذه ثلاث شرائط في التوبة. وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ابتداء وخبر، وقرأ نافع وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ «2» بإثبات الألف في الإدراج والأولى حذفها في الإدراج، وإثباتها لغة شاذة خارجة عن القياس لأن الألف إنما جيء بها لبيان الفتحة وأنت إذا أدرجت لم تثبت فلا معنى للألف. [سورة الأعراف (7) : الآيات 144 الى 145] قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) فَخُذْ ما آتَيْتُكَ لا يقال: أوخذ وهو القياس كما يقال: أومر فلانا، لأنه سمع من العرب هكذا، وقيل: فيه علّة وهي أن الخاء من حروف الحلق وكذا الهمزة. فأما أومر فيقال، وعلى هذا قوله جلّ وعزّ: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها فإذا قلت: مر فلانا فهذا الأكثر ويجوز أومر.

_ (1) انظر تيسير الداني 93، والبحر المحيط 4/ 383. (2) انظر الإتحاف 138.

[سورة الأعراف (7) : آية 146]

[سورة الأعراف (7) : آية 146] سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ قراءة أهل المدينة وأهل البصرة وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما الرشد «1» قال أبو عبيد: فرّق أبو عمرو بين الرّشد والرشد فقال: الرشد في الصلاح والرشد في الدين. قال أبو جعفر: وسيبويه يذهب إلى أن الرشد واحد مثل السّخط والسخط وكذا قال الكسائي. قال أبو جعفر: والصحيح عن أبي عمرو غير ما قال أبو عبيد. قال إسماعيل بن إسحاق حدّثنا نصر بن علي عن أبيه عن أبي عمرو بن العلاء قال: إذا كان الرشد وسط الآية فهو مسكّن وإذا كان رأس الآية فهو محرّك قال أبو جعفر: يعني أبو عمرو برأس الآية نحو وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً [الكهف: 10] فهما عنده لغتان بمعنى واحد، إلا أنه فتح هذا لتتفق الآيات. ويقال: رشد يرشد ورشد يرشد، وحكى سيبويه: رشد يرشد وحقيقة الرشد والرشد في اللغة أن يظفر الإنسان بما يريد وهو ضدّ الخيبة وحقيقة الغيّ في اللغة الخيبة قال الله جلّ وعزّ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: 121] وقال الشاعر: [الطويل] 159- فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغولا يعدم على الغيّ لايما «2» [سورة الأعراف (7) : آية 147] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ مبتدأ. والخبر حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ خبر ما لم يسمّ فاعله. [سورة الأعراف (7) : آية 148] وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة، وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما مِنْ حُلِيِّهِمْ «3» بكسر الحاء، وقرأ يعقوب مِنْ حُلِيِّهِمْ بفتح الحاء والتخفيف. قال أبو جعفر: جمع حلي حليّ وحليّ مثل ثدي وثديّ والأصل حلويّ ثم أدغمت الواو في الياء فانكسرت اللام لمجاورتها الياء وتكسر الحاء لكسرة اللام وضمّها على الأصل. فأما عصيّ فالأصل فيها عصوّ لأنها من ذوات الواو ثم

_ (1) انظر تيسير الداني 93. [.....] (2) مرّ الشاهد رقم (56) . (3) انظر تيسير الداني 93.

[سورة الأعراف (7) : آية 149]

أعلّت. عِجْلًا مفعول. جَسَداً نعت. لَهُ خُوارٌ رفع بالابتداء أو بالصفة يقال خار يخور خوارا إذا صاح وكذا جأر يجأر جؤارا، ويقال: خار يخور خورا إذا جبن وضعف. اتَّخَذُوهُ فحذف المفعول الثاني أي اتخذوه إلها. [سورة الأعراف (7) : آية 149] وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) قال الأخفش: يقال: سقط في يده وأسقط ومن قال سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ فالمعنى عنده سقط الندم قالوا لئن لم ترحمنا ربّنا «1» شرط وفيه معنى القسم، وربّنا على النداء. ومن قرأ يَرْحَمْنا بالياء وَيَغْفِرْ لَنا بالياء ورَبُّنا رفع بفعله، ومن قرأ ترحمنا بالتاء وتغفر لنا بالتاء فهو ينصب ربّنا على النداء المضاف كأنه قال: يا ربّنا. [سورة الأعراف (7) : آية 150] وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) غَضْبانَ نصب على الحال ولم ينصرف لأنّ مؤنثه غضبى. وحقيقة امتناع صرفه أنّ الألف والنون فيه بمنزلة ألفي التأنيث في قولك حمراء فالنون بدل كما يقال: في صنعاء صنعانيّ. أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ قال يعقوب: يقال: عجلت الشيء سبقته وأعجلت الرجل استعجلته. وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ أخذ برأسه، وأخذ رأسه واحد وكذا وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [المائدة: 6] وقيل: إنما أخذ برأسه على جهة المسارّة لا غير فكره هارون صلّى الله عليه وسلّم أن يتوهّم من حضر لأن الأمر على خلاف ذلك فقال: ابن أمّ على الاستعطاف له لأنه أخوه لأمه وهذا موجود في كلام العرب كما قال: [الخفيف] 160- يا ابن أمّي ويا شقيق نفسي «2» قرأ أهل المدينة وأبو عمرو ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ «3» وقرأ أهل الكوفة ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 393، وتيسير الداني 93، والبحر المحيط 4/ 392. (2) الشاهد لأبي زبيد الطائي في ديوانه ص 48، والدرر 5/ 57، وشرح التصريح 2/ 179، والكتاب 2/ 213، ولسان العرب (شقق) ، والمقاصد النحوية 4/ 222، وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 40، وشرح الأشموني 2/ 457، وشرح قطر الندى 207، وشرح المفصل 2/ 12، والمقتضب 4/ 250، وهمع الهوامع 2/ 54، وعجزه: «أنت خلّفتني لدهر شديد» (3) انظر البحر المحيط 4/ 394، وتيسير الداني 93، ومعاني الفراء 1/ 394.

[سورة الأعراف (7) : آية 151]

قال الكسائي والفراء «1» وأبو عبيد: يا ابن أمّ تقديره يا ابن أمّاه، وقال البصريون: هذا القول خطأ لأن الألف خفيفة لا تحذف ولكن جعل الاسمان اسما واحدا فصار كقولك: خمسة عشر أقبلوا. وقال الأخفش وأبو حاتم: يا ابن أمّ كما يقول: يا غلام غلام أقبل. قال أبو جعفر: يا غلام غلام لغة شاذة لأن الثاني ليس بمنادى فلا ينبغي أن تحذف منه الياء فالقراءة بكسر الميم على هذا القول بعيدة ولكن لها وجه حسن جيّد يكون بمنزلة قولك: يا خمسة عشر أقبلوا، لمّا جعل الاسمين اسما واحدا أضاف. إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي بنونين لأنه فعل مستقبل ويجوز الإدغام في غير القرآن. قرأ مجاهد ومالك بن دينار فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ بالتاء على تأنيث الجماعة ويجوز كسرها ويجوز التذكير على الجميع. وفيه شيء لطيف يقال: كيف نهى الأعداء عن الشماتة؟ فالجواب أن هذا مثل قوله جلّ وعزّ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة: 132] أي اثبتوا على الإسلام حتى يأتيكم الموت وكما قالت العرب: لا أرينك هاهنا. والمعنى لا تفعل بي ما تشمت من أجله الأعداء. قال أبو عبيد: وحكيت عن حميد فَلا تُشْمِتْ «2» بكسر الميم. قال أبو جعفر: ولا وجه لهذه القراءة لأنه إن كان من شمت وجب أن يقول: تشمت وإن كان من أشمت وجب أن يقول: تشمت. [سورة الأعراف (7) : آية 151] قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي فأعاد حرف الجرّ لأنّ المضمر المخفوض لا يعطف عليه إلّا هكذا إلّا في شذوذ كما قرأ حمزة تساءلون به والأرحام «3» [النساء: 1] فيجيء على هذا اغفر لي وأخي. [سورة الأعراف (7) : آية 152] إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ اسم «إنّ» والخبر سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ والغضب من الله جلّ وعزّ العقوبة. وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا لأنهم أمروا أن يقتل بعضهم بعضا ورأوا أنهم قد ضلّوا. والأشبه بسياق الكلام أن يكون إنّ الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا. من كلام موسى صلّى الله عليه وسلّم أخبر الله جلّ وعزّ به عنه وتمّ الكلام ثم قال الله عزّ وجلّ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 394. (2) انظر معاني الفراء 1/ 394، والبحر المحيط 4/ 395. (3) انظر تيسير الداني 78.

[سورة الأعراف (7) : آية 153]

[سورة الأعراف (7) : آية 153] وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ابتداء، والخبر إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي لهم. [سورة الأعراف (7) : آية 154] وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَفِي نُسْخَتِها هُدىً في موضع رفع بالابتداء. وَرَحْمَةٌ عطف عليه. لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ في اللام ثلاثة أقوال: قول الكوفيين: أنها زائدة. قال الكسائي: حدثني من سمع الفرزدق يقول: نقدت لها مائة درهم بمعنى نقدتها، وقال محمد ابن يزيد هي متعلقة بمصدر، وقال الأخفش سعيد: قال بعضهم: المعنى والذين هم من أجل ربّهم يرهبون. [سورة الأعراف (7) : آية 155] وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا مفعولان أحدهما حذفت منه «من» وأنشد سيبويه: [الطويل] 161- [و] منّا الّذي اختير الرّجال سماحة ... وجودا إذا هبّ الرّياح الزّعازع «1» فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي ماتوا. قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ أي أمتهم كما قال جلّ وعزّ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ [النساء: 176] . وَإِيَّايَ عطف والمعنى لو شئت أمتّنا قبل أن تخرج إلى الميقات فلم يتوهّم الناس علينا أنّنا أحدثنا خروجا عن طاعتك. أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ استفهام فيه معنى النفي، وهكذا هو في كلام العرب وإذا كان نفيا كان بمعنى الإيجاب كما قال جرير: [الوافر] 162- ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح «2»

_ (1) الشاهد للفرزدق في ديوانه 418، والكتاب 1/ 74، والأشباه والنظائر 2/ 331، وخزانة الأدب 9/ 113، والدرر 2/ 291، وشرح أبيات سيبويه 1/ 424، وشرح شواهد المغني 1/ 12، ولسان العرب (خير) ، وبلا نسبة في شرح المفصل 8/ 51، والمقتضب 4/ 330، وهمع الهوامع 1/ 162. (2) الشاهد لجرير في ديوانه 85، والجنى الداني 32، وشرح شواهد المغني 1/ 42، ولسان العرب (نقص) ، ومغني اللبيب 1/ 17، وبلا نسبة في الخصائص 2/ 463، ورصف المباني 46، وشرح المفصل 8/ 123، والمقتضب 3/ 292.

[سورة الأعراف (7) : آية 156]

إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أي ما هذا إلا اختبارك وتعبّدك بما يشتدّ. تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ أي تضلّ بها الذين تشاء، والذين تشاء هم الذين لا يصبرون عند البلاء ولا يرضون وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ من صبر ورضي. أَنْتَ وَلِيُّنا ابتداء وخبر وكذا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ. [سورة الأعراف (7) : آية 156] وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) وقرأ أبو وجزة السعدي «1» إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ «2» يقال: هاد يهود، هذا المعروف، إذا تاب ويقال: ثوب مهوّد أي مرقّق مليّن. قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ أي الذين أشاء أي المستحقّين له. وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أي من دخل فيها لم تعجز عنه، وقيل: وسعت كلّ شيء من الخلق حتّى إنّ البهيمة لها رحمة وعطف على ولدها. [سورة الأعراف (7) : آية 157] الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ خفض على البدل من «الذين» الأول وإن شئت كان نعتا وكذا الَّذِي يَجِدُونَهُ «والذين هم» عطف، وقرأ أبو جعفر وأيّوب وابن عامر والضحّاك وضع عنهم آصارهم وهو جمع إصر، وأصله في اللغة الثقل وهو ما تعبّدوا به مما يثقل، وقيل: هو ما ألزموه من قطع ما أصابه البول، وقيل: هو ما كان يؤخذ عليهم من العهود إنّهم كانوا يطيعون الله جلّ وعزّ ويؤمنون بأنبيائه صلوات الله عليهم ويوالون أهل الطاعة ويعادون أهل المعصية قربوا أو بعدوا. قال الأخفش: وقرأ الجحدري وعيسى وَعَزَّرُوهُ «3» بالتخفيف، وكذا وَعَزَّرْتُمُوهُمْ [المائدة: 12] قال أبو إسحاق: يقال: عزره يعزره ويعزره. [سورة الأعراف (7) : آية 159] وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) يكون لمن آمن منهم، ويكون لقوم قد هلكوا أو لمن لحق عيسى صلّى الله عليه وسلّم فآمن به،

_ (1) أبو وجزة السعدي: يزيد بن عبيد المدني، وردت عنه الرواية في حروف القرآن، وكان شاعرا مجيدا (ت 130 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 2/ 382. (2) انظر مختصر ابن خالويه 46، والبحر المحيط 4/ 400، وهذه قراءة زيد بن علي أيضا. (3) وهذه قراءة قتادة وسليمان التيمي أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 403.

[سورة الأعراف (7) : آية 160]

ومعنى يهدون بالحق يدعون الناس إلى الهداية وَبِهِ يَعْدِلُونَ في الحكم. [سورة الأعراف (7) : آية 160] وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً التقدير اثنتي عشرة أمة فلهذا أجاز التأنيث. أَسْباطاً بدل من اثنتي عشرة. أُمَماً نعت لأسباط، والمعنى: جعلناهم اثنتي عشرة فرقة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 161 الى 162] وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) وروى معمر عن همّام بن منبّه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قول الله جلّ وعزّ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ قال: قالوا حبّة في شعرة حدّثنا أبو القاسم محمد بن جعفر القزويني قال: حدّثنا أحمد بن منصور الرمادي قال: أخبرنا سفيان عن معمر عن همّام بن منبّه عن أبي هريرة قالوا: حبّة في شعرة وقيل لهم وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً فدخلوا متورّكين على أستاههم. بِما كانُوا يَظْلِمُونَ مرفوع لأنه فعل مستقبل وموضعه نصب، و «ما» بمعنى المصدر أي بظلمهم. [سورة الأعراف (7) : آية 163] وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ وإن خفّفت الهمزة قلت: وسلهم ألقيت حركتها على السين وحذفتها، الَّتِي في موضع خفض نعت للقرية. إِذْ في موضع نصب والمعنى سلهم عن وقت عدوا في السبت، وهذا سؤال توبيخ وتقرير. يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً على الحال. وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ «1» قد ذكرنا قول الكسائي وأبي عبيد أنّ معنى يسبتون يعظّمون السبت، وحقيقته في اللغة يعملون عمل السبت، يقال: سبت يسبت إذا استراح أو عمل عمل السبت، وأكثر العرب يقول: اليوم السبت وكذا الجمعة لأن العمل فيهما وتقول في سائر الأيام بالرفع: اليوم الاثنان والتقدير ولا تأتيهم يوم لا يسبتون، والظرف يضاف إلى

_ (1) انظر القراءات المختلفة ليسبتون في البحر المحيط 4/ 408. [.....]

[سورة الأعراف (7) : آية 164]

الفعل عند سيبويه لكثرة استعمالهم إياه وعند أبي العباس لأن الفعل بمعنى المصدر، وقال أبو إسحاق هو على الحكاية أي يوم يقال هذا، ولا يفعل عند سيبويه نفي ليفعلنّ أو هو يفعل إذا أراد المستقبل. كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ أي نشدّد عليهم في العباد ونختبرهم والكاف في موضع نصب. بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بفسقهم. [سورة الأعراف (7) : آية 164] وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الأصل «لما» حذفت الألف لأنه استفهام، وقيل: «ما» حرف خفض. فإذا أوقفت في غير القرآن قلت: لمه الهاء لبيان الحركة. قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ «1» وقرأ عيسى وطلحة مَعْذِرَةً «2» بالنصب. ونصبه عند الكسائي من جهتين: إحداهما أنه مصدر، والأخرى أن التقدير فعلنا ذلك معذرة. وقد فرّق سيبويه «3» بين الرفع والنصب وبيّن أنّ الرفع الاختيار فقال: لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا من أمر ليمسوا عليه ولكنهم قيل لهم: لم تعظون؟ فقالوا: موعظتنا معذرة، ولو قال رجل لرجل: معذرة إلى الله وإليك من كذا وكذا يريد اعتذارا لنصب. وهذا من دقائق سيبويه رحمه الله ولطائفه التي لا يلحق فيها. [سورة الأعراف (7) : آية 165] فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ وفي هذا إحدى عشرة قراءة» وكان الإعراب أولى بذكرها لما فيها من النحو ولأنه لا يضبط مثلها إلّا أهل الإعراب. قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بِعَذابٍ بَئِيسٍ على وزن فعيل، وقرأ أهل مكة بِعَذابٍ بَئِيسٍ بكسر الباء والوزن واحد، وقرأ أهل المدينة «5» بِعَذابٍ بَئِيسٍ الباء مكسورة وبعدها ياء ساكنة والسين مكسورة منونة، وقرأ الحسن بعذاب بئس بما الباء مكسورة وبعدها همزة ساكنة والسين مفتوحة، وقرأ أبو عبد الرحمن المقرئ بعذاب بئس الباء مفتوحة والهمزة مكسورة والسين مكسورة منونة. قال يعقوب القارئ: عن بعض القراء

_ (1) انظر تيسير الداني 93، وهي قراءة الجمهور. (2) انظر تيسير الداني 93، والبحر المحيط 4/ 409. (3) انظر الكتاب 1/ 382. (4) انظر الحجة لابن خالويه 141، وتيسير الداني 94، والبحر المحيط 4/ 410. (5) انظر تيسير الداني 94، والبحر المحيط 4/ 410.

[سورة الأعراف (7) : آية 166]

بعذاب بئس الباء مفتوحة والهمزة مكسورة والسين مفتوحة، وقرأ الأعمش بعذاب بيئس «1» على فيعل وروي عنه بيأس «2» على فيعل، وروي عنه بعذاب بئس بباء مفتوحة وهمزة مشدّدة مكسورة والسين في هذا كلّه مكسورة منونة يعني قراءة الأعمش، وقرأ نصر بن عاصم «3» بعذاب بيّس الباء مفتوحة وبعدها ياء مشددة بغير همز. قال يعقوب القارئ وجاء عن بعض القراء بعذاب بئيس الباء مكسورة وبعدها همزة ساكنة وبعدها ياء مفتوحة، فهذه إحدى عشرة قراءة. ومن قرأ بَئِيسٍ فهو عنده من بؤس فهو بئيس أي اشتدّ وكذا بئيس إلّا أنه كسر الباء لأن بعدها همزة مكسورة. وأما قراءة أهل المدينة ففيها ثلاثة أقوال: قال الكسائي: في تقديرها بئيس ثم خفّفت الهمزة كما يعمل أهل المدينة فاجتمعت ياءان فثقل ذلك فحذفوا إحداهما وألقوا حركتها على الباء فصارت بيس، وقال محمد بن يزيد: الأصل بئس ثم كسرت الباء لكسرة الهمزة فصارت بئس فحذفت الكسرة من الهمزة لثقلها فهذان قولان، وقال علي بن سليمان: العرب تقول جاء ببنات بيس أي بشيء رديء فمعنى «بعذاب بيس» بعذاب رديء. وأما قراءة الحسن فزعم أبو حاتم أنه لا وجه لها قال: لأنه لا يقال: مررت برجل بئس حتى يقال: بئس الرجل وبئس رجلا. قال أبو جعفر: وهذا مردود من كلام أبي حاتم حكى النحويون إن فعلت كذا وكذا فيها ونعمت يريدون ونعمت الخصلة، فالتقدير على قراءة الحسن بعذاب بئس العذاب وبعذاب بئس على فعل مثل حذر. وقراءة الأعمش بيئس لا تجوز على قول البصريين لأنه لا يجيء مثل هذا في كلام العرب إلّا في المعتل المدغم نحو ميّت وسيّد. فأما بيأس فجائز عندهم لأن مثله صيرف وحيدر. وأما بئس فلا يكاد يعرف مثله في الصفات، وأما بيّس بغير همز فإنّما يجيء في ذوات الياء نحو بيّع، وأما بيأس فجائز ومثله جذيم. [سورة الأعراف (7) : آية 166] فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا أي فلما تجاوزوا في معصية الله جلّ وعزّ. قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ يقال: خسأته فخسأ أي باعدته وطردته. [سورة الأعراف (7) : آية 168] وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ رفع بالابتداء. وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ منصوب على الظرف ولا نعلم أحدا رفعه.

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 410، والمحتسب 1/ 264. (2) انظر البحر المحيط 4/ 410، وهذه قراءة ابن عباس وأبي بكر عن عاصم والأعمش. (3) نصر بن عاصم الليثي البصري النحوي، تابعي، عرض على أبي الأسود، وعرض عليه أبو عمرو، ويقال: إنه أول من نقط المصاحف (ت 100 هـ) . ترجمته في غاية النهاية 2/ 336.

[سورة الأعراف (7) : آية 169]

[سورة الأعراف (7) : آية 169] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا ولا يجوز إدغام الراء في اللام لأن فيها تكريرا ويجوز إدغام اللّام في الراء نحو بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [المطففين: 14] . وَإِنْ يَأْتِهِمْ جزم بالشرط فلذلك حذفت منه الياء والجواب يَأْخُذُوهُ. قال الكسائي: وقرأ أبو عبد الرحمن وادّارسوا ما فيه «1» فأدغم التاء في الدال. [سورة الأعراف (7) : آية 170] وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ ابتداء والتقدير في خبره إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ منهم، وقرأ أبو العالية وعاصم وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ «2» وكلام العرب على غير هذا يقولون: مسّكت وأمسكته وكذا القراءة وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: 10] وقال كعب ابن زهير فجاء به على طبعه: [البسيط] 163- فما تمسّك بالحبل الذي زعمت ... إلّا كما تمسك الماء الغرابيل «3» [سورة الأعراف (7) : آية 171] وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ أي واذكروا لهم. فَوْقَهُمْ ظرف. ظُلَّةٌ خبر كأن وأنّ في موضع خفض بالكاف، والكاف في موضع رفع الابتداء. والبر محمول على المعنى. [سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 173] وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ بمعنى واذكروا، هذه الآية مشكلة وقد ذكرنا فيها شيئا وقد قال قوم: إنّ معنى وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيّاتهم «4» أخرج من ظهور بني آدم بعضهم من بعضهم قالوا ومعنى وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ أي قال. وفي

_ (1) انظر المحتسب 1/ 267، والبحر المحيط 4/ 415. (2) انظر تيسير الداني 94، والبحر المحيط 4/ 416، وهذه قراءة عمر وأبي العالية وأبي بكر عن عاصم. (3) الشاهد لكعب بن زهير في ديوانه ص 8، وتاج العروس (غربل) . (4) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 298، والبحر المحيط 4/ 420.

[سورة الأعراف (7) : آية 175]

الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم غير هذا القول. قال أبو جعفر: قرئ على جعفر بن محمد وأنا أسمع عن قتيبة عن مالك بن أنس عن زيد ابن أبي أنيسة إن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن يزيد بن الخطاب أخبره عن مسلم ابن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ فقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عنها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله جلّ وعزّ خلق آدم فمسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرّيّة فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرّيّة فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتّى يموت على عمل أهل الجنة فيدخله الجنّة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتّى يموت فيدخله النار قال: وليس الله تعالى بظالم له في هذه الحال لأنه قد علم ما سيكون منه» «1» . قال أبو جعفر: والآية مع هذا مشكلة ونحن نتقصّى ما فيها. قال بعض العلماء: هي مخصوصة لأن الله جلّ وعزّ قال: مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ فخرج من هذا من كان من ولد آدم عليه السلام لصلبه. وقال جلّ وعزّ: أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ فخرج منها كل من لم يكن له آباء مشركون. ومعنى وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ قال لهم: بأن أرسل إليهم رسولا، وقيل: بل هي عامة لجميع الناس لأن كلّ أحد يعلم أنه كان طفلا فغذّي وربّي وأن له مدبّرا وخالقا فهذا معنى وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ، ومعنى قالُوا بَلى أنّ ذلك واجب عليهم، وقيل هذا لمن كان من ظهور بني آدم عليه السلام وقد علم أنّ ولد آدم عليه السلام لصلبه كذا. وقرأ أهل المدينة وأهل الكوفة (أن تقولوا) بالتاء معجمة من فوق، وقرأ عبد الله بن عباس وسعيد بن جبير وأبو عمرو بن العلاء وابن محيصن وعاصم الجحدري وعيسى بن عمر أن يقولوا «2» بالياء، و (أن) في موضع نصب في القراءتين جميعا بمعنى كراهة أن وعند الكوفيين بمعنى لئلا. أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ بمعنى لست تفعل هذا. [سورة الأعراف (7) : آية 175] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ في موضع جزم عند الكوفيين فلذلك حذفت منه الواو. قال الفراء: واللام الجازمة محذوفة. وهو عند البصريين مبني على أصل الأفعال، فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ أي من الخائنين.

_ (1) أخرجه الترمذي في سننه، أبواب التفسير 11/ 194. (2) انظر البحر المحيط 4/ 420. [.....]

[سورة الأعراف (7) : آية 176]

[سورة الأعراف (7) : آية 176] وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها أي لو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة بها أي بالعمل بها. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ابتداء وخبر وقيل: «مثل» هاهنا بمعنى صفة كما قال مَثَلُ الْجَنَّةِ [الرعد: 35] وقيل: هو على بابه. إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ شرط وجوابه وهو في موضع الحال أي فمثله كمثل الكلب لاهثا، والمعنى أنه على شيء واحد لا يرعوي عن المعصية كمثل الكلب الذي هذه حاله، وقيل: المعنى أنه لا يرعوي عن أذى الناس كمثل الكلب لاهثا، ومعنى لاهث أنه يحرك لسانه وينبح. وفي هذه الآية أعظم الفائدة لمن تدبّرها وذلك أنّ فيها منعا منه التقليد لعالم إلا بحجة يبيّنها لأن الله جلّ وعزّ خبّر أنه أعطى هذا آياته فانسلخ منها فوجب أن يخاف مثل هذا على غيره وأن لا يقبل منه إلا بحجة. [سورة الأعراف (7) : آية 177] ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ قال الأخفش: فجعل مثل القوم مجازا. والتقدير: ساء مثلا مثل القوم والْقَوْمُ مرفوعون بالابتداء أو على إضمار مبتدأ. وقرأ عاصم الجحدري والأعمش (ساء مثل القوم) «1» رفع مثلا بساء. [سورة الأعراف (7) : آية 178] مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي شرط وجوابه وكذا وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. [سورة الأعراف (7) : آية 179] وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) أي هم بمنزلة من لا يفقه لأنهم لا ينتفعون بها. أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ليست. بَلْ هاهنا رجوعا عن الأول ولكنّ المعنى هم كالأنعام وهم أضل من الأنعام لأنهم لا يهتدون إلى ثواب. [سورة الأعراف (7) : آية 180] وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم والكسائي، وقرأ يحيى بن وثاب

_ (1) هذه قراءة الحسن وعيسى بن عمر أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 424.

[سورة الأعراف (7) : آية 181]

والأعمش وحمزة يلحدون «1» بفتح الياء والحاء، واللغة الفصيحة ألحد في دينه ولحد القبر. وقد تدخل كلّ واحدة منهما على الأخرى لأن المعنى معنى الميل. ومعنى يلحدون في أسمائه على ضربين: أحدهما أن يسموا غيره إلها والآخر أن يسمّوه بغير أسمائه. [سورة الأعراف (7) : آية 181] وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) فدلّ الله جلّ وعزّ بهذه الآية أنه لا تخلو الدنيا في وقت من الأوقات من داع يدعو إلى الحق. [سورة الأعراف (7) : الآيات 182 الى 183] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ الكيد من الله جلّ وعزّ هو عذابه إذا أتاهم من حيث لا يشعرون وهذا معنى الكيد في اللغة. [سورة الأعراف (7) : آية 185] أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) وَأَنْ عَسى في موضع خفض معطوف على ما قبله. (أن يكون) في موضع رفع. [سورة الأعراف (7) : آية 186] مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ شرط ومجازاة. وَنَذَرُهُمْ «2» بالنون هذه قراءة أهل المدينة وفيها تقديران: أحدهما أن يكون معطوفا على ما يجب فيما بعد الفاء في المجازاة وكذا «ونذرهم» ، وقراءة الكوفيين وَيَذَرُهُمْ «3» بالياء والجزم معطوف على موضع الفاء. والمعنى لا تميتهم إذا عصوا حتى يحضر أجلهم. [سورة الأعراف (7) : آية 187] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أي عن الساعة التي تقوم فيها القيامة. أَيَّانَ مُرْساها أي يقولون: متى وقوعها؟ ومُرْساها في موضع رفع بالابتداء عند سيبويه وبإضمار فعل

_ (1) انظر تيسير الداني 94. (2) انظر تيسير الداني 94، والبحر المحيط 4/ 431. (3) انظر البحر المحيط 4/ 431.

[سورة الأعراف (7) : آية 188]

عند أبي العباس ومرساها من أرساها، ومرساها من رست أي ثبتت ووقعت، ومنه وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سبأ: 13] . قال قتادة: أي ثابتات. قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ابتداء وخبر. لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً مصدر في موضع الحال. يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قال أبو جعفر: قد ذكرنا قول أهل التفسير إن المعنى على التقديم والتأخير، وقال محمد بن يزيد المعنى يسألونك كأنك حفيّ بالمسألة عنها أي ملحّ يذهب إلى أنه ليس فيه تقديم ولا تأخير يقال: أحفى في المسألة وفي الطلب فهو محفي وحفيّ على التكثير مثل مخصب وخصيب. قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ ليس هذا تكريرا ولكن أحد العلمين لوقوعها، والآخر لكنها. [سورة الأعراف (7) : آية 188] قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) ما شاءَ اللَّهُ في موضع نصب بالاستثناء والمعنى إلّا ما شاء الله أن يملكني، وأنشد سيبويه: [الطويل] 164- مهما شاء بالناس يفعل «1» وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ من أحسن ما قيل فيه أن المعنى لو كنت أعلم الغيب ما يريد الله جلّ وعزّ مني من قبل أن يعرّفنيه لفعلته وقيل: لو كنت أعلم متى يكون لي النصر في الحرب لقاتلت فلم أغلب. [سورة الأعراف (7) : آية 189] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ابتداء وخبر وقد ذكرناه «2» وقد قيل: إن المعنى هو الذي خلقكم من آدم عليه السلام ثم جعل منه زوجه إخبار. فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً كل ما كان في الجوف فهو حمل بالفتح وإذا كان على الظهر فهو حمل، وما كان في النخلة فهو حمل بالفتح. وقد حكى يعقوب في حمل النخلة الكسر. قال الأخفش: فَلَمَّا أَثْقَلَتْ صارت ذات ثقل كما تقول: أثمر النخل. لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أي سويا.

_ (1) الشاهد للأسود بن يعفر في ديوانه 56، وسمط اللآلي 935، والكتاب 2/ 254، وشرح أبيات سيبويه 1/ 464، وشرح التصريح 2/ 190، ونوادر أبي زيد 159، وبلا نسبة في المقرب 1/ 188، وتمامه: «ألا هل لهذا الدهر من متعلّل ... عن الناس، مهما شاء بالناس يفعل » (2) مرّ في إعراب الآية 172.

[سورة الأعراف (7) : آية 190]

[سورة الأعراف (7) : آية 190] فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً قيل: التقدير إيتاء صالحا، وهو ذكر وأنثى كما كانت حواء تلد. جَعَلا لَهُ قيل: يعني الذكر والأنثى الكافرين ويعني به الجنسين ودل على هذا فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ولم يقل: يشركان فهذا قول حسن، وقيل: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ومن هيئة واحدة وشكل واحد وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها أي من جنسها فلمّا تغشّاها يعني الجنسين وعلى هذا القول لا يكون لآدم وحواء في الآية ذكر. قرأ أهل المدينة وعاصم جعلا له شركا «1» وقرأ أبو عمرو وسائر أهل الكوفة جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ «2» وأنكر الأخفش سعيد القراءة الأولى، وقال: كان يجب على هذه القراءة أن يكون جعلا لغيره شريكا لأنهما يقرّان أن الأصل لله جلّ وعزّ فإنما يجعلان لغيره الشرك. قال أبو جعفر: التأويل لمن قرأ القراءة الأولى جعلا له ذا شرك مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . [سورة الأعراف (7) : آية 193] وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ قال الأخفش وإن تدعوا الأصنام إلى الهدى لا يتبعوكم. سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ قال أحمد بن يحيى: لأنه رأس آية يريد أنه قال «أم أنتم صامتون» ولم يقل أم صمتم. قال أبو جعفر: المعنى في «أم أنتم صامتون» وفي «أم صمتم» واحد. هذا قول سيبويه «3» . [سورة الأعراف (7) : آية 194] إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ اسم إنّ. عِبادٌ خبره. أَمْثالُكُمْ نعت، وحكى أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني أن سعيد بن جبير قرأ إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم «4» بتخفيف «إن» وكسرها لالتقاء الساكنين ونصب «عبادا» بالتنوين ونصب «أمثالكم» قال: يريد ما الذين تدعون من دون الله بعباد أمثالكم أي هنّ حجارة وأصنام وخشب. قال أبو جعفر: وهذه القراءة لا ينبغي أن يقرأ بها من ثلاث جهات إحداها أنها مخالفة للسواد، والثانية أن سيبويه يختار الرفع في خبر «إن» إذا كانت بمعنى «ما» فيقول: إن زيد منطلق لأن عمل «ما» ضعيف و «إن» بمعناها فهي أضعف

_ (1) انظر تيسير الداني 94، وكتاب السبعة لابن مجاهد 299، والبحر المحيط 4/ 436. (2) انظر تيسير الداني 94، وكتاب السبعة لابن مجاهد 299، والبحر المحيط 4/ 436. (3) انظر الكتاب 3/ 73. (4) انظر المحتسب 1/ 270، والبحر المحيط 4/ 440.

[سورة الأعراف (7) : آية 195]

منها، والجهة الثالثة أن الكسائي زعم أنّ «إن» لا تكاد تأتي في كلام العرب بمعنى «ما» إلّا أن يكون بعدها إيجاب كما قال جلّ وعزّ: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ [الملك: 20] فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ الأصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها وإن اللام قد اتصلت بما قبلها. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ خبر كنتم وفي اللام حذف والمعنى فادعوهم إلى أن يتّبعوكم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين أنّهم آلهة. [سورة الأعراف (7) : آية 195] أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أنتم أفضل منهم فكيف تجدونهم وقرأ أبو جعفر وشيبة أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ «1» ، وهي لغة. واليد والرّجل والأذن مؤنّثات يصغّرن بالهاء، وتزاد في اليد ياء في التصغير تردّ إلى أصلها. قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي الذين شركتموهم فجعلتم لهم قسطا من أموالكم. ثُمَّ كِيدُونِ والأصل كيدوني بالياء حذفت الياء لأن الكسرة تدلّ عليها وكذا فَلا تُنْظِرُونِ أي فلا تؤخرون. [سورة الأعراف (7) : آية 196] إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ اسم «إنّ» وخبرها، وقرأ عاصم الجحدري إنّ وليّ الله الذي نزّل الكتاب «2» يعني جبرئيل عليه السلام. ومعنى وليّي الله حافظي وناصري الله، ووليّ الشّيء الذي يحفظه ويمنع منه الضرر. [سورة الأعراف (7) : آية 197] وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مبتدأ والخبر لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ. [سورة الأعراف (7) : آية 198] وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى شرط فلذلك حذفت منه النون، والجواب لا يَسْمَعُوا. وَتَراهُمْ مستأنف. يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ في موضع الحال ومعنى النظر فتح العينين إلى المنظور إليه وليس هو مثل الرؤية وخبّر عنهم بالواو لأن الخبر جرى على فعل من يعقل. [سورة الأعراف (7) : آية 199] خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) خُذِ الْعَفْوَ وهو اليسير. قال أبو عبد الله إبراهيم بن محمد: العفو الزكاة لأنها يسير من كثير، قال أبو جعفر: وهو من عفا إذا درس، وقد يقال: خذ العفو منه أي لا

_ (1) وهي قراءة نافع أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 441، ومختصر ابن خالويه 48. (2) انظر البحر المحيط 4/ 442، ومختصر ابن خالويه 48.

[سورة الأعراف (7) : آية 200]

تنقص عليه وسامحه. وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وقرأ عيسى بن عمر بِالْعُرْفِ «1» أي المعروف ومعنى المعروف ما كان حسنا في العقل. وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي إذا أقمت عليهم الحجّة وأمرتهم بالمعروف فجهلوا عليك فأعرض عنهم صيانة له عنهم وترفعا لقدره عن مجاوبتهم. [سورة الأعراف (7) : آية 200] وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نزغ أي إن وسوس إليك الشيطان عند الغضب بما لا يحلّ. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ لقولك عَلِيمٌ بما يجب في ذلك ويَنْزَغَنَّكَ في موضع جزم بالشرط وكّد بالنون وحسن ذلك لمّا دخلت «ما» ، وحكى سيبويه: بألم ما تختننّه «2» . [سورة الأعراف (7) : آية 201] إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا أي اتّقوا المعاصي. إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ هذه قراءة أهل البصرة وأهل مكة، وقرأ أهل المدينة وأهل الكوفة طائفة وروي عن سعيد بن جبير طيّف «3» بتشديد الياء. قال أبو جعفر: كلام العرب في مثل هذا طيف بالتخفيف على أنه مصدر من طاف يطيف، وقال الكسائي: هو مخفّف من طيّف. قال أبو جعفر: ومعنى طيف في اللغة ما يتخيّل في القلب أو يرى في النوم وكذا معنى طائف، وقال أبو حاتم: سألت الأصمعيّ عن طيّف فقال: ليس في المصادر فيعل. قال أبو جعفر: ليس هذا بمصدر ولكن يكون بمعنى طائف، والمعنى: إنّ الذين اتّقوا المعاصي إذا لحقهم شيء من الشيطان تفكّروا في قدرة الله جلّ وعزّ في إنعامه عليهم فتركوا المعصية فإذا هم مستبصرون، وروي عن مجاهد تَذَكَّرُوا بتشديد الذال ولا وجه له في العربية. [سورة الأعراف (7) : آية 202] وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ قال أحمد بن جعفر: الضمير للمشركين. قال أبو حاتم: أي وإخوان المشركين وهم الشياطين. قال أبو إسحاق: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى لا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون وإخوانهم يمدونهم في

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 444، قال: بضم الراء. (2) انظر الكتاب 3/ 580، وقد ورد المثل في خزانة الأدب 1/ 403، ومجمع الأمثال 1/ 107، والمعنى: لا يكون الختان إلا بألم، والمقصود أنه لا يدرك الخير إلا باحتمال المشقّة. [.....] (3) انظر البحر المحيط 4/ 445.

[سورة الأعراف (7) : آية 203]

الغي وأحسن ما قيل في هذا قول الضحاك وَإِخْوانُهُمْ أي إخوان الشياطين وهم الفجّار. يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ قال أي لا يتوبون ولا يرجعون، وعلى هذا يكون الضمير متّصلا، فهذا أولى في العربية. وقيل للفجار: إخوان الشياطين لأنهم يقبلون منهم. وقرأ أهل المدينة يَمُدُّونَهُمْ بضم الياء، وجماعة من أهل اللغة ينكرون هذه القراءة منهم أبو حاتم وأبو عبيد. قال أبو حاتم: لا أعرف لها وجها إلّا أن يكون المعنى يزيدونهم من الغيّ، وهذا غير ما يسبق إلى القلوب، وحكى جماعة من أهل اللغة منهم أبو عبيد أنه يقال إذا أكثر شيء شيئا بنفسه: مدّه، وإذا أكثره بغيره قيل: أمدّه نحو يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [آل عمران: 125] وحكي عن محمد بن يزيد أنه احتجّ لقراءة أهل المدينة قال: يقال مددت له في كذا أي زيّنته له واستدعيته أن يفعله وأمددته في كذا أي أعنته برأي أو غير ذلك. وقرأ عاصم الجحدريّ: وإخوانهم يمادّونهم «1» في الغيّ. [سورة الأعراف (7) : آية 203] وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا بمعنى «هلّا» ولا يليها إلّا الفعل ظاهرا أو مضمرا. هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ابتداء وخبر أي هذا الذي دللتكم به أنّ الله جلّ وعزّ واحد. بصائر أي يستبصر به. وَهُدىً أي ودلالة. وَرَحْمَةٌ أي ونعمة [سورة الأعراف (7) : آية 204] وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا قال أبو جعفر: قد ذكرنا أنه يقال: إن هذا في الصلوات، وقيل: إنه في الخطبة، وفي اللغة يجب أن يكون في كل شيء إلّا أن يدلّ دليل على اختصاص شيء. [سورة الأعراف (7) : آية 205] وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً مصدر وقد يكون في موضع الحال وجمع خيفة خوف لأنها بمعنى الخوف، وحكى الفراء أنه يقال أيضا: خيّف. وقرأ أبو مجلز «2» بالغدوّ والإيصال «3» وهو مصدر أصلنا أي دخلنا في العشيّ وَالْآصالِ

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 446، ومختصر ابن خالويه 48. (2) أبو مجلز: لاحق بن حميد السدوسي البصري، سمع الصحابة ابن عباس وابن عمر وغيرهما. وردت عنه الرواية في حروف القرآن (ت 106 هـ) ، ترجمته في غاية النهاية 2/ 362. (3) انظر مختصر ابن خالويه 48، والبحر المحيط 4/ 449.

[سورة الأعراف (7) : آية 206]

جمع أصل مثل طنب وأطناب، قال الأخفش: الآصال جمع أصيل مثل يمين وأيمان، وقال الفراء: أصل جمع أصيل وقد يكون أصل واحدا كما قال: [البسيط] 165- ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل «1» [سورة الأعراف (7) : آية 206] إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ اسم «إنّ» وهم الملائكة صلوات الله عليهم قال أبو إسحاق: قال: عند ربك والله جلّ وعزّ بكل مكان لأنهم قريبون من رحمة الله جلّ وعزّ وكلّ قريب من رحمة الله جلّ وعزّ فهو عنده، وقال غيره: لأنهم في موضع لا ينفذ فيه إلّا حكم الله جلّ وعزّ، وقيل: لأنهم رسل الله كما يقال: عند الخليفة جيش كثير وَيُسَبِّحُونَهُ أي يعظّمونه وينزّهونه عن كلّ سوء. وَلَهُ يَسْجُدُونَ أي يذلّون خلاف أهل المعاصي.

_ (1) الشاهد للأعشى في ديوانه 107، وتاج العروس (أصل) ، وصدره: «يوما بأطيب منها نشر رائحه»

8 شرح إعراب سورة الأنفال

8 شرح إعراب سورة الأنفال بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأنفال (8) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ إن خفّفت الهمزة ألقيت حركتها على السين وأسقطتها، وقرأ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يسئلونك الأنفال «1» يكون على التفسير وتعدّت يسألونك إلى مفعولين. قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ ابتداء وخبر وَالرَّسُولِ عطف. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي كونوا مجتمعين على أمر الله جلّ وعزّ، وفي الدعاء «اللهمّ أصلح ذات البين» أي الحال التي يقع بها الاجتماع. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الغنائم وغيرها. [سورة الأنفال (8) : آية 2] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ابتداء و «ما» كافة ويجوز في القياس النصب ومنعه سيبويه. الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ خبر الابتداء. وحكى سيبويه وجل يوجل وياجل وييجل وييجل. قال أبو زيد: سألت خليلا عن الذين قالوا: رأيت الزّيدان، فقال: هذا على لغة من قال ياجل. [سورة الأنفال (8) : آية 3] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ بدل من الذين الأول. [سورة الأنفال (8) : آية 4] أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ ابتداء وخبر. حَقًّا مصدر. لَهُمْ دَرَجاتٌ ابتداء أي منازل رفيعة في الجنة بقدر أعمالهم. وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ عطف.

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 48، والمحتسب 1/ 272.

[سورة الأنفال (8) : آية 5]

[سورة الأنفال (8) : آية 5] كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ من المشكل ولأهل اللغة فيها ستة أقوال: قال سعيد بن مسعدة أولئك المؤمنون حقا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق. قال: وقال بعض العلماء كما أخرجك ربك من بيتك بالحقّ فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وقال الكسائي أي مجادلتهم الآن له كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ. وقال أبو عبيدة «1» : هو قسم أي والذي أخرجك من بيتك. قال أبو إسحاق: الكاف في موضع نصب أي الأنفال ثابتة لك كما أخرجك ربّك من بيتك بالحق وهم كارهون كذلك ننفّل من رأيت. فهذه خمسة أقوال، وقول أبي إسحاق هذا هو معنى قول الفراء لأن الفراء قال «2» : امض لأمرك في الغنائم ونفّل من شئت وإن كرهوا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، والقول السادس من أحسنها قال الله جلّ وعزّ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ إلى لَهُمْ ... مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فالمعنى هذا الوعد للمؤمنين حقّ كما أخرجك ربك من بيتك بالحقّ الواجب له فأنجز وعدك وأظفرك بعدوك فأوفى لك لأنه قال جلّ وعزّ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ [الأنفال: 7] فكما أنجز هذا الوعد في الدنيا كذا ما وعدكم به في الآخرة. [سورة الأنفال (8) : آية 6] يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) ومعنى يُجادِلُونَكَ يجادلك بعضهم فعاد الضمير على البعض لأنهم قد ذكروا في الكلّ والمعنى بعد ما تبيّن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما كان كل ما يخبرهم به يكون وجب عليهم أن يقبلوا منه كل ما يقوله وكان قد تبين لهم الحق. [سورة الأنفال (8) : آية 7] وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مفعول ثان: أَنَّها لَكُمْ بدل وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ قال أبو عبيدة «3» : أي غير ذات الحدّ. قال أبو إسحاق: أي تودّون أن تظفروا بالطائفة التي ليست معها سلاح ولا فيها حرب يقال: فلان شاك في السلاح وشائك وشاك من الشّكّة كما قال: [المنسرح] 166- إمّا تري شكّتي رميح أبي ... سعد فقد أحمل السّلاح معا «4»

_ (1) انظر مجاز القرآن 1/ 240. (2) انظر معاني الفراء 1/ 403، والبحر المحيط 4/ 457. (3) انظر مجاز القرآن 1/ 241. (4) الشاهد لذي الإصبع العدواني في ديوانه ص 60، وشرح اختيارات المفضل 728، والأغاني 3/ 94، وبلا نسبة في لسان العرب (رمح) ، وجمهرة اللغة 542، وتاج العروس (رمح) .

[سورة الأنفال (8) : آية 8]

[سورة الأنفال (8) : آية 8] لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) لِيُحِقَّ الْحَقَّ أي يحقّ وعده. وَيُبْطِلَ الْباطِلَ أي كيد الكافرين. [سورة الأنفال (8) : آية 9] إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ لقلّتكم في العدد أي اذكر. فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي في موضع نصب أي بأني، وقرأ عيسى بن عمر (إنّي) «1» بمعنى: قال إني، وروي عن عاصم أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ كما تقول: فلس وأفلس. مُرْدِفِينَ «2» قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم والأعمش والكسائي وحمزة مُرْدِفِينَ بكسر الدال. قال سيبويه «3» : وقرأ بعضهم مُرْدِفِينَ «4» بفتح الراء وتشديد الدال وبعضهم مُرْدِفِينَ «5» بكسر الراء وبعضهم مُرْدِفِينَ «6» بضم الراء والدال مكسورة في القراءات الثلاث. «مردفين» بفتح الدال فيها تقديران: يكون في موضع نصب على الحال من «كم» في ممدكم أي أردف بهم المؤمنين وهذا مذهب مجاهد. قال مجاهد: أي ممدّين. قال أبو جعفر: ويجوز أن يكون «مردفين» في موضع خفض نعتا للألف «ومردفين» بكسر الدال، قال أبو عمرو: فيه أي أردف بعضهم بعضا، ورد أبو عبيد على أبي عمرو هذا القول وأنكر كسر الدال واحتجّ أن معنى أردف فلان فلانا جعله خلفه. قال: ولا نعلم هذا في صفة الملائكة يوم بدر وأنكر أن يكون أردف بمعنى ردف، قال لقول الله جلّ وعزّ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ [النازعات: 7] ولم يقل المردفة. قال أبو جعفر: لا يلزم أبا عمرو هذا الرد ولا تتأوّل قوله على ما تأوّله أبو عبيد ولكن المعنى في مردفين قد تقدّم بعضهم بعضا. يقال: ردفته وأردفته بمعنى تبعته وأتبعته. ولو كان كما قال أبو عبيد لكان معنى مردفين بفتح الدال مردفين خلفكم وإنما معنى مردفين في آثاركم أي اتبع بعضهم بعضا وهذا أقوى من قول من قال: مردف بهم المسلمون لأنّ ظاهر القرآن على خلافه والقراءة بمردفين أولى لأن أهل التأويل على هذه القراءة يفسّرون أي أردف بعضهم بعضا، وأما مردّفين فتقديره عند سيبويه: مرتدفين ثم أدغم التاء في الدال فألقى حركتها على الراء لئلا يلتقي ساكنان ومن قال: مردّفين كسر الراء «7» لالتقاء الساكنين ومن قال مردّفين بضم الراء قبلها ضمة كما تقول: ردّ يا هذا.

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 460. (2) انظر البحر المحيط 4/ 460. (3) انظر الكتاب 4/ 582. (4) وهذه قراءة الخليل بن أحمد وحكاه عن ابن عطية، انظر البحر المحيط 4/ 460، ومختصر ابن خالويه 49، والمحتسب 1/ 273. [.....] (5) وهذه قراءة الخليل بن أحمد وحكاه عن ابن عطية، انظر البحر المحيط 4/ 460، ومختصر ابن خالويه 49، والمحتسب 1/ 273. (6) وهذه قراءة الخليل بن أحمد وحكاه عن ابن عطية، انظر البحر المحيط 4/ 460، ومختصر ابن خالويه 49، والمحتسب 1/ 273. (7) انظر البحر المحيط 4/ 463.

[سورة الأنفال (8) : آية 10]

[سورة الأنفال (8) : آية 10] وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى مفعولان، ولن تنصرف بُشْرى لأن فيها ألف التأنيث. وَلِتَطْمَئِنَّ لام كي والفعل محذوف لما دلّ عليه. وَمَا النَّصْرُ ابتداء، والخبر إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ اسم «إن» وخبرها. [سورة الأنفال (8) : آية 11] إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ مفعولان وهي قراءة أهل الحرمين وهي حسنة لأن بعده وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ أَمَنَةً مفعول من أجله ومصدر. يقال: أمنة وأمنا وأمانا. لِيُطَهِّرَكُمْ نصب بلام كي لأنها بدل من «أن» أو بإضمار «أن» . وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ عطف. وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ عطف جملة على جملة أو مفرد وأعيدت اللام، وَيُثَبِّتَ بِهِ بالماء الذي أنزله الله جلّ وعزّ على الرمل يوم بدر حتى تثبت أقدام المسلمين وقد يكون به للرباط. [سورة الأنفال (8) : آية 12] إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ أي يثبّت به ذلك الوقت وقد يكون اذكر إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي في موضع نصب والمعنى بأني مَعَكُمْ ظرف ومن أسكن العين فهي عنده حرف. قال الأخفش: فاضربوا فوق الأعناق معناه فاضربوا الأعناق، وهذا عند محمد بن يزيد خطأ لأن فوقا يفيد معنى فلا يجوز زيادتها ولكن المعنى أنهم أبيحوا ضرب الوجوه وما قرب منها. وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ. قال أبو إسحاق: واحد البنان بنانة وهي هاهنا الأصابع وغيرها من الأعضاء واشتقاق البنان من قولهم: أبن بالمكان إذا أقام به، فالبنان يعتمل به ما يكون للإقامة والحياة. [سورة الأنفال (8) : آية 13] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ (ذلك) في موضع رفع بالابتداء أو خبر. والتقدير ذلك الأمر أو الأمر ذلك. مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ جزم بالشرط، ويجوز وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ «1» كما قال جرير: [الوافر] 167- فغضّ الطّرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا «2»

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 466، وقال: «الإدغام لغة تميم» . (2) الشاهد لجرير في ديوانه 821، وجمهرة اللغة 1096، وخزانة الأدب 1/ 72، والكتاب 4/ 17، والدرر 6/ 322، وشرح المفصّل 9/ 128، وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 411، وخزانة الأدب 6/ 531، وشرح الأشموني 3/ 897، وشرح شافية ابن الحاجب 244، والمقتضب 1/ 185.

[سورة الأنفال (8) : آية 14]

ويجوز «ومن يشاقّ الله» ، والتقديردِيدُ الْعِقابِ له، وحذف له. [سورة الأنفال (8) : آية 14] ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ كما تقدّم في الأول، وَأَنَّ في موضع رفع بعطفها على ذلكم. قال الفراء «1» : ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى «وبأنّ للكافرين» قال: ويجوز أن يضمر واعلموا أنّ، قال أبو إسحاق: لو جاز إضمار واعلموا لجاز زيد منطلق وعمرا جالسا، بل كان يجوز في الابتداء: زيدا منطلقا لأن المخبر معلم وهذا لا يقوله أحد من النحويين. [سورة الأنفال (8) : آية 15] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً مصدر في موضع الحال. [سورة الأنفال (8) : آية 16] وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ شرط. إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ نصب على الحال. فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ مجازاة. وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ ابتداء وخبر. [سورة الأنفال (8) : آية 17] فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) وكذا وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ على قراءة «2» من خفّف «لكن» ، ومعنى فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ فلم تقتلوهم بتدبيركم ولكن الله قتلهم بالنصر، ونظير هذا أنّ رجلين لو كانا يتقاتلان ومعهما سيفان فجاء رجل وأخذ سيف أحدهما فقتله الآخر لجاز أن يقال: ما قتل ذاك إلّا الذي أخذ سيفه. وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى مثله ويجوز أن يكون المعنى وما رميت بالرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصى. [سورة الأنفال (8) : آية 18] ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ «3» قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو،

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 405. (2) انظر الإتحاف 142. (3) انظر تيسير الداني 95.

[سورة الأنفال (8) : آية 19]

وقراءة أهل الكوفة مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ «1» وفي التشديد معنى المبالغة، وروي عن الحسن مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ بالإضافة والتخفيف. والمعنى أنّ الله جلّ وعزّ يلقي في قلوبهم الرّعب حتى يتشتّتوا أو يتفرق جمعهم. [سورة الأنفال (8) : آية 19] إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ في معناه ثلاثة أقوال: يكون مخاطبة للكفار لأنهم قالوا: اللهمّ انصر أحبّ الفئتين إليك. وَإِنْ تَنْتَهُوا أي عن الكفر. وَإِنْ تَعُودُوا إلى هذا القول. نَعُدْ إلى نصر المؤمنين. وقيل: إن تستفتحوا مخاطبة للمؤمنين أي تستنصروا فقد جاءكم النصر وكذا «وإن تنتهوا» أي وإن تنتهوا عن مثل ما فعلتموه من أخذ الغنائم والأسرى قبل الإذن. فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وإن تعودوا إلى مثل ذلك نعد إلى توبيخكم كما قال جلّ وعزّ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 68] ، والقول الثالث أن يكون أن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح للمؤمنين وما بعده للكفّار وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي مع المؤمنين المطيعين وفتح (أنّ) بمعنى ولأنّ الله، والتقدير لكثرتها وأنّ الله، و «أنّ» في موضع نصب على هذا وقيل: هي عطف على «وأن الله موهّن» والكسر على الاستئناف. [سورة الأنفال (8) : آية 20] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) ابتداء وخبر في موضع الحال والمعنى وأنتم تسمعون ما يتلى عليكم من الحجج والبراهين. [سورة الأنفال (8) : آية 21] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ الكاف في موضع نصب على الظرف وخبر كان يكون سَمِعْنا بمعنى قبلنا كما يقال: سمع الله لمن حمده، ويكون من سماع الأذن، ويكون بمعنى وهم لا يشعرون وهم لا يتدبّرون ما سمعوا ولا يفكّرون فيه فهم بمنزلة من لم يسمع. [سورة الأنفال (8) : آية 22] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ والأصل أشرّ حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال وكذا «خير» الأصل فيها أخير، الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ خبر «إنّ» ونعت.

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 473، وتيسير الداني 95.

[سورة الأنفال (8) : آية 23]

[سورة الأنفال (8) : آية 23] وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ أي لأسمعهم جواب كلّ ما يسألون عنه ودلّ على هذا ولو أسمعهم لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فخبر بالغيب عنهم. [سورة الأنفال (8) : آية 24] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ حذفت الضمّة من الياء لثقلها ولا يجوز الإدغام. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ (أنّ) في موضع نصب باعلموا، وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ عطف. قال الفراء «1» : ولو استؤنف فكسرت «وإنّه» لكان صوابا. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «2» . [سورة الأنفال (8) : آية 26] وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ ابتداء وخبر. مُسْتَضْعَفُونَ نعت وكذا تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ في موضع نصب. [سورة الأنفال (8) : آية 27] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ بغلول الغنائم ونسبها إلى الله جلّ وعزّ لأنه أمر بقسمها، وإلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأنه المؤدّي عن الله جلّ وعزّ والقيّم بها. وَتَخُونُوا في موضع جزم نسقا على الأول وقد يكون نصبا على الجواب كما يقال: لا تأكل السمك وتشرب اللّبن. [سورة الأنفال (8) : آية 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً أي يجعل بينكم وبين الكفار فرقانا بأن ينصركم ويعزّكم ويخذلهم ويذلّهم. [سورة الأنفال (8) : آية 30] وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي واذكر هذا لِيُثْبِتُوكَ نصب بلام كي قيل معناه

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 407، والبحر المحيط 4/ 476. (2) انظر البحر المحيط 4/ 478.

[سورة الأنفال (8) : آية 32]

يحبسونك. وحكى بعض أهل اللغة أثبته إذا جرحه فلم يقدر أن يبرح، أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ عطف. وَيَمْكُرُونَ مستأنف. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ابتداء وخبر. والمعنى أنّ الله جلّ وعزّ إنما مكره أن يأتيهم بالعذاب الذي يستحقّونه من حيث لا يشعرون فهو خير الماكرين. [سورة الأنفال (8) : آية 32] وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ خبر كان. وهُوَ عند الخليل وسيبويه «1» فاصلة. قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يفسّر معنى فاصلة قال: لأنه إنما جيء بها ليعلم أنّ الخبر معرفة أو ما قارب المعرفة وأن الْحَقَّ ليس بنعت وإنّ كانَ ليست بمعنى «وقع» ، وقال الأخفش: (هو) صلة زائدة كزيادة «ما» وقال الكوفيون (هو) عماد. قال الأخفش: وبنو تميم يرفعون فيقولون: إن كان هذا هو الحقّ من عندك. قال أبو جعفر: يكون (هو) ابتداء و «الحقّ» خبره والجملة خبر كان. [سورة الأنفال (8) : آية 33] وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وقد ذكرنا وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ «2» بنهاية الشرح. [سورة الأنفال (8) : آية 34] وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) قال الأخفش: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أن فيه زائدة. قال أبو جعفر: ولو كان كما قال لرفع يعذبهم و (أن) في موضع نصب والمعنى وما يمنعهم من أن يعذّبوا فدخلت «أن» لهذا المعنى. وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ابتداء وخبر، وكذا إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وعليهم أن يعلموا، وقيل لا يعلمون أنهم يعذّبون في الآخرة. ويجوز أن يغفر لهم، وقيل لا يعلمون أن المتّقين أولياؤه. [سورة الأنفال (8) : آية 35] وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) وَما كانَ صَلاتُهُمْ اسم كان: إِلَّا مُكاءً خبر. قال أبو حاتم: قال

_ (1) انظر الكتاب 2/ 409. (2) انظر البحر المحيط 4/ 483.

هارون وبلغني أن الأعمش قرأ وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً «1» . قال أبو جعفر: قد أجاز سيبويه مثل هذا على أنه شاذّ بعيد لأنه جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة وأنشد سيبويه: [الطويل] 168- أسكران كان ابن المراغة إذ هجا ... تميما ببطن الشّام أم متساكر «2» وأنشد: [الوافر] 169- فإنّك لا تبالي بعد حول ... أظبي كان أمّك أم حمار «3» قال أبو أعفر: وأبين من هذا وإن كان قد وصل النكرة قوله: [الوافر] 170- ولا يك موقف منك الوداعا «4» وكذا: [الوافر] 171- يكون مزاجها عسل وماء «5» وإن كان علي بن سليمان قد قال: التقدير مزاجا لها. وتصدية، من صدّ يصدّ إذا ضجّ فأبدل من إحدى الدالين ياء.

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 49، والبحر المحيط 4/ 486. [.....] (2) الشاهد للفرزدق في ديوانه 481، وخزانة الأدب 9/ 288، والكتاب 1/ 90، ولسان العرب (سكر) ، والمقتضب 4/ 93، وبلا نسبة في الخصائص 2/ 375، ومغني اللبيب 2/ 490، وشرح شواهد المغني 2/ 874. (3) الشاهد لخداش بن زهير في الكتاب 1/ 88، وتخليص الشواهد 272، وشرح شواهد المغني 2/ 918، والمقتضب 4/ 94، ولثروان بن خزارة في حماسة البحتري 210، وخزانة الأدب 7/ 192، وشرح أبيات سيبويه 1/ 227، ولثروان أو لخداشي في خزانة الأدب 9/ 283، وبلا نسبة في خزانة الأدب 10/ 472، وشرح المفصل 7/ 94. (4) الشاهد للقطامي في ديوانه 31، وخزانة الأدب 2/ 367، والكتاب 2/ 250، والدرر 3/ 57، وشرح أبيات سيبويه 1/ 444، وشرح شواهد المغني 2/ 849، ولسان العرب (ضبع) و (ودع) واللمع ص 120، والمقاصد النحوية 4/ 295، والمقتضب 4/ 94، وصدره: «قفي قبل التفرّق يا ضباعا» (5) الشاهد لحسان بن ثابت في ديوانه 71، والأشباه والنظائر 2/ 296، والكتاب 1/ 88، وخزانة الأدب 9/ 224، والدرر 2/ 73، وشرح أبيات سيبويه 1/ 50، وشرح شواهد المغني 849، وشرح المفصّل 7/ 93، ولسان العرب (سبأ) و (رأس) ، و (جني) ، والمحتسب 1/ 279، والمقتضب 4/ 92، وبلا نسبة في همع الهوامع 1/ 89. وصدره: «كأنّ سبيئة من بيت رأس»

[سورة الأنفال (8) : آية 37]

[سورة الأنفال (8) : آية 37] لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) لِيَمِيزَ نصب بلام كي ولِيَمِيزَ «1» على التكثير، وَيَجْعَلَ فَيَرْكُمَهُ عطف. [سورة الأنفال (8) : آية 38] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ شرط ومجازاة، وكذا وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أي مضت سنة الأوّلين في عذاب المصرّين على معاصي الله جل وعز. [سورة الأنفال (8) : آية 39] وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ اسم تكون وهي بمعنى تقع وكذا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. [سورة الأنفال (8) : آية 40] وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) نِعْمَ الْمَوْلى رفع بنعم لأنها فعل. قال أبو عمر الجرمي والدليل على أنها فعل قول العرب: نعمت فأثبتوا التاء وكذا وَنِعْمَ النَّصِيرُ. [سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 42] وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ «ما» بمعنى الذي والهاء محذوفة، ودخلت الفاء لأنّ في الكلام معنى المجازاة وأنّ الثانية توكيد للأولى ويجوز كسرها. خُمُسَهُ اسم إنّ يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ظرفان، وكذا إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا والجمع عدّى ومن قال: عدوة قال: عدّى مثل لحية ولحّى، ويقال: «القصيا» والأصل الواو.

_ (1) انظر تيسير الداني 76.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 43 إلى 44]

وَالرَّكْبُ ابتداء قيل: يعني به الإبل التي كانت تحمل أمتعتهم وكانت في موضع يأمنون عليها توفيقا من الله جلّ وعزّ فذكرهم نعمه عليهم، وقيل: يعني عير قريش. أَسْفَلَ مِنْكُمْ ظرف في موضع الخبر أي موضعا أسفل منكم، وأجاز الأخفش والكسائي والفراء «1» والركب أسفل منكم. أي أشدّ تسفلا منكم. والركب جمع راكب ولا تقول العرب: ركب إلا للجماعة الراكبي الإبل، وحكى ابن السكيت وأكثر أهل اللغة أنه لا يقال: راكب وركب إلّا للذين على الإبل خاصة، ولا يقال: لمن كان على فرس أو غيرها راكب. وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أي لم يكن يقع الاتفاق فوفق الله جلّ وعزّ لكم، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا من نصر المؤمنين ولِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ لام كي والتقدير ولكن جمعكم هنا لك ليقضي أمرا، ليهلك هذه اللام مكررة على اللام في ليقضي، ومَنْ في موضع رفع. وَيَحْيى في موضع نصب مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ هذه قراءة أبي عمرو وابن كثير وحمزة وهي اختيار سيبويه «2» وأبي عبيد، فأما احتجاج أبي عبيد فإنه في السواد بياء واحدة، قال أبو جعفر: هذا الاحتجاج لا يلزم لأن مثل هذا الحذف في السواد، ولكن اجتماع النحويين الحذّاق في هذا أنه لمّا اجتمع حرفان على لفظ واحد كان الأولى الإدغام كما يقال: جفّ، وقرأ نافع وعاصم من حيي عن بيّنة «3» والحجّة لهما أنه لا يجوز الإدغام في المستقبل فأتبعوا المستقبل الماضي وقد أجاز الفراء «4» الإدغام في المستقبل وأن يدغم يحيّى. وهذا عند جميع البصريين من الخطأ الكبير ومثله لا يجوز في شعر ولا كلام والعلّة في منعه إذا قلت: يحيى فالياء الثانية ساكنة فلم يجتمع حرفان متحركان فيدغم وقد كان الاختيار لم يجفف وإن كان يجوز لم يجفّ ولم يجفّ فيجوز الإدغام، فأما في يحيى فلا يجوز وأيضا فإنّ الياء تحذف في الجزم فهذا مخالف ليجفّ ولا يجوز أيضا الإدغام في أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [القيامة: 40] لأن الحركة عارضة. [سورة الأنفال (8) : الآيات 43 الى 44] إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ ظرف، وكذا وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ وجاء متّصلا لأنك بدأت بالأقرب وأجاز يونس يريكمهم.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 411. (2) انظر الكتاب 4/ 538. (3) انظر تيسير الداني 95. (4) انظر معاني الفراء 1/ 412.

[سورة الأنفال (8) : آية 46]

[سورة الأنفال (8) : آية 46] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَنازَعُوا نهي. فَتَفْشَلُوا نصب لأنه جواب النهي، ولا يجيز سيبويه حذف الفاء والجزم وأجازه الكسائي. [سورة الأنفال (8) : آية 47] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً مصدر في موضع الحال. ومعنى البطر في اللغة التقوية وبنعم الله جلّ وعزّ ما ألبسه الله جلّ وعزّ من العافية على المعاصي. [سورة الأنفال (8) : آية 48] وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ يجمع جار أجوارا وجيرانا وفي القليل جيرة. إِنِّي أَخافُ اللَّهَ قيل: خاف أن ينزل به بلاء. [سورة الأنفال (8) : آية 49] إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قيل: المنافقون الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، والذين في قلوبهم مرض الشّاكّون وهم دون المنافقين، وقيل: هما واحد وهذا أولى ألا ترى إلى قوله جلّ وعزّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] ثم قال جلّ وعزّ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [البقرة: 4] وهما لواحد، وكذا إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الأحزاب: 35] . [سورة الأنفال (8) : آية 50] وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) يكون هذا عند الموت وقد يكون بيوم القيامة حين يصيرون بهم إلى النار، وجواب «لو» محذوف وتقديره لرأيت أمرا عظيما وأنشد سعيد الأخفش: [الخفيف] 172- إن يكن طبّك الدّلال فلو في ... سالف الدّهر والسّنين الخوالي «1»

_ (1) الشاهد لعبيد بن الأبرص في ديوانه ص 113، وشرح شواهد المغني 2/ 937، والمقاصد النحوية 4/ 461، وبلا نسبة في تذكرة النحاة 74، ومغني اللبيب 2/ 649.

[سورة الأنفال (8) : آية 51]

وقرأ الأعرج تتوفّى «1» على تأنيث الجماعة. يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ في موضع الحال. قال الفراء «2» : المعنى ويقولون وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ. [سورة الأنفال (8) : آية 51] ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) ذلِكَ في موضع رفع أي الأمر ذلك. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ خفض بالياء. وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ في موضع خفض نسق على (ما) ، وإن شئت نصبت بمعنى و «بأنّ» وحذفت الباء بمعنى وذلك أنّ الله، ويجوز أن يكون في موضع رفع نسقا على ذلك. [سورة الأنفال (8) : آية 52] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ أي العادة في تعذيبهم عند قبض الأرواح وفي القبور كعادة آل فرعون، وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الكفار وبعد هذا أيضا كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وليس هذا بتكرير لأن الأول للعادة في التعذيب والثاني للعادة في التغيير. [سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 56] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا اسم «إنّ» وخبرها، وهو مخصوص وقد بيّنه جلّ وعزّ بقوله الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ. [سورة الأنفال (8) : آية 57] فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ شرط ودخلت النون توكيدا وصلح ذلك في الخبر لمّا دخلت (ما) هذا قول البصريين، وقال الكوفيون: تدخل النون الثقيلة والخفيفة مع إمّا في المجازاة للفرق بين المجازاة والتخيير. فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ قال الكسائي: (من) بمعنى الذي. قال أبو إسحاق: المعنى افعل بهم فعلا من القتل تفرّق به من خلفهم. لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي يتذكّرون توعّدك إياهم. [سورة الأنفال (8) : آية 58] وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ قال الكسائي: السواء العدل، وقال الفراء «3» : يقال: معناه افعل بهم كما يفعلون سواء. قال: ويقال: معنى فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 502. (2) انظر معاني الفراء 1/ 413. (3) انظر معاني الفراء 1/ 414.

[سورة الأنفال (8) : آية 59]

جهرا لا سرّا. قال أبو جعفر: هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه، والمعنى إمّا تخافنّ من قوم بينك وبينهم عهد- خيانة فانبذ إليهم العهد أي قل قد نبذت إليكم عهدكم وأنا مقاتلكم ليعلموا ذلك فيكونوا معك في العلم سواء، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يتقون بك فيكون ذلك خيانة ثم بيّن هذا بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ. [سورة الأنفال (8) : آية 59] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا اسم تحسبنّ وخبره، وقرأ حمزة. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا «1» فزعم جماعة من النحويين منهم أبو حاتم أن هذا لحن لا تحلّ القراء به ولا يسمع لمن عرف الإعراب أو عرّفه. قال أبو جعفر: وهذا تحامل شديد وقد قال أبو حاتم أكثر من هذا قال: لأنه لم يأت ليحسبنّ بمفعول وهو يحتاج إلى مفعولين. قال أبو جعفر: القراءة تجوز ويكون المعنى ولا يحسبنّ من خلفهم الذين كفروا سبقوا فيكون الضمير يعود على ما تقدّم إلّا أنّ القراءة بالتاء أبين. قال الفراء: وفي حرف عبد الله بن مسعود ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا أنهم لا يعجزون «2» ويروى ولا تحسب الذين بفتح الباء، وهذا على إرادة النون الخفيفة كما قال الشاعر: [الطويل] 173- وسبّح على حين العشيّات والضّحى ... ولا تحمد المثرين والله فاحمدا «3» وإن شئت كسرت الدال، وقرأ عبد الله بن عامر. إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ «4» بفتح الهمزة، واستبعد أبو حاتم وأبو عبيد هذه القراءة قال أبو عبيد: وإنما تجوز على أن يكون المعنى ولا تحسبنّ الذين كفروا أنهم لا يعجزون. قال أبو جعفر: الذي ذكره أبو عبيد لا يجوز عند النحويين البصريين لا يجوز حسبت زيدا أنه خارج إلّا بكسر إن، وإنما لم يجز لأنه في موضع المبتدأ كما تقول: حسبت زيدا أبوه خارج، ولو فتحت لصار المعنى حسبت زيدا خروجه، وهذا محال، وفيه أيضا من البعد أنه لا وجه لما قاله يصحّ به معنى إلّا أن تجعل «إلّا» زائدة، ولا وجه لتوجيه حذف في كتاب الله جلّ وعزّ إلى التطول بغير حجة يجب التسليم لها، والقراءة جيدة على أن يكون المعنى لأنهم لا يعجزون، وزعم الفراء أنه تجوز قراءة حمزة على إضمار «أن» يكون المعنى

_ (1) وهذه قراءة حفص وابن عامر أيضا، انظر البحر المحيط 4/ 505، وتيسير الداني 96. [.....] (2) انظر البحر المحيط 4/ 506، ومعاني الفراء 1/ 414. (3) الشاهد للأعشى في ديوانه 187، ولسان العرب (آ) ، وتهذيب اللغة 15/ 664، وبلا نسبة في المخصص 13/ 86، وفي الديوان (وصلّ) . (4) انظر البحر المحيط 4/ 506.

[سورة الأنفال (8) : آية 60]

ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا قال أبو جعفر: لا يجوز إضمار «أن» إلا بعوض ومن أضمرها فقد أضمر بعض اسم وقد شبّه الفراء هذا بقولهم: عسى يقوم زيد، وهو لا يشبهه لأن «أن» لو كانت هاهنا مضمرة لنصبت يقوم، وقد ذكرنا أنه من قرأ لا يُعْجِزُونَ «1» بكسر النون فقد لحن. [سورة الأنفال (8) : آية 60] وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ كل ما تعدّه لصديقك من خير أو لعدوك من شر فهو داخل في عددك. وقرأ الحسن (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ) «2» على التكثير، وقرأ بو عبد الرحمن عَدُوًّا لِلَّهِ «3» . وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ عطف على عدو ويجوز أن يكون عطفا على وأعدوا لهم بإضمار فعل. [سورة الأنفال (8) : آية 61] وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها لأن السلم مؤنّثة ويجوز أن يكون التأنيث للفعلة، وحكى أبو حاتم فَاجْنَحْ «4» لها. [سورة الأنفال (8) : آية 64] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ابتداء وخبر أي كافيك الله، ويقال: أحسبه إذا كفاه وَمَنِ اتَّبَعَكَ في موضع نصب معطوف على الكاف في التأويل أي يكفيك الله ويكفي من اتّبعك كما قال: [الطويل] 174- إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا ... فحسبك والضّحّاك سيف مهنّد «5» ويجوز أن يكون وَمَنِ اتَّبَعَكَ «6» في موضع رفع، وللنحويين فيه على هذا ثلاثة

_ (1) هذه قراءة ابن محيصن، انظر مختصر ابن خالويه 50، والبحر المحيط 4/ 506. (2) انظر مختصر ابن خالويه 50. (3) انظر معاني الفراء 1/ 416. (4) انظر البحر المحيط 4/ 509. (5) الشاهد لجرير في ذيل الأمالي 140، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في خزانة الأدب 7/ 581، وسمط اللئالي ص 899، وشرح الأشموني 1/ 224، وشرح شواهد الإيضاح ص 374، وشرح شواهد المغني 2/ 900، وشرح عمدة الحافظ 407، وشرح المفصل 2/ 51، ولسان العرب (حسب) و (هيج) ، و (عصا) ، ومغني اللبيب 2/ 563، والمقاصد النحوية 3/ 84. (6) انظر البحر المحيط 4/ 511.

[سورة الأنفال (8) : آية 65]

أقوال: قال أبو جعفر: سمعت علي بن سليمان يقول: يكون عطفا على اسم الله جلّ وعزّ أي حسبك الله ومن اتّبعك قال: ومثله قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «يكفينيه الله وأبناء قيلة» «1» والقول الثاني أن يكون التقدير: ومن اتّبعك من المؤمنين كذلك على الابتداء وأخبر كما قال الفرزدق: [الطويل] 175- وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلّا مسحتا أو مجلّف «2» والقول الثالث: أحسنها أن يكون على إضمار بمعنى وحسبك من اتّبعك من المؤمنين وهكذا الحديث على إضمار ومن كفى. القول الأول لأنه قد صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه نهى أن يقال: ما شاء الله وشئت، والقول الثاني فالشاعر مضطرّ فيه إذا كانت القصيدة مرفوعة وإن كان فيه غير هذا. [سورة الأنفال (8) : آية 65] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ اسم «يكن» فإن قال قائل: لم كسر أول العشرين وفتح أول ثلاثين وما بعده إلى ثمانين إلّا ستين؟ فالجواب عند سيبويه «3» أنّ عشرين من عشرة بمنزلة اثنين من واحد فكسر أول عشرين كما كسر اثنان والدليل على هذا قولهم ستّون وتسعون كما قيل: ستّة وتسعة. [سورة الأنفال (8) : آية 66] الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) وقرأ أبو جعفر وعلم أنّ فيكم ضعفاء كما يقال كريم وكرماء، وقراءة أهل المدينة وأبي عمرو ضعفا «4» وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد. قال أبو عبيد: لكثرة من قرأ بها وأنها قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن اتّبعه عليها، وهذا الكلام وإن كان أبو عبيد رحمه الله معلوما منه أنه لم يقصد إلا إلى خير وإنما يقال: ومن اتّبعه فيمن يجوز أن يخالف، وإسناد الحديث ليس بذاك. وقال أبو عمرو بن العلاء: الضّعف لغة أهل الحجاز، والضّعف لغة تميم فأمّا التفريق بينهما فلا يصحّ أعني في المعنى.

_ (1) انظر تفسير القرطبي 8/ 43. (2) الشاهد للفرزدق في ديوانه 26، وجمهرة أشعار العرب 880، وجمهرة اللغة 386، وخزانة الأدب 1/ 237، والخصائص 1/ 99، ولسان العرب (سحت) و (جلف) و (ودع) ، وبلا نسبة في الإنصاف 1/ 188، وجمهرة اللغة 487، وشرح شواهد الإيضاح 279، وشرح المفصل 1/ 31، والمحتسب 1/ 180. (3) انظر الكتاب 1/ 266. (4) انظر البحر المحيط 4/ 513.

[سورة الأنفال (8) : آية 67]

[سورة الأنفال (8) : آية 67] ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى وتكون على تأنيث الجماعة أسرى أسارى وأسارى. تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا أي المغانم والفداء، وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أي يريد لكم ثواب الآخرة لأنه خير لكم. [سورة الأنفال (8) : آية 68] لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فيه خمسة أجوبة: فمن أحسنها أنّ المعنى لولا كتاب من الله نزل وهو القرآن فآمنتم به فاستحققتم العفو والصفح لعذّبكم، وقيل: المعنى لولا كتاب من الله نزل وهو القرآن فآمنتم به فاستحققتم العفو والصفح لعذّبكم، وقيل: المعنى لولا أنّ الله جلّ وعزّ كتب أنه سيحل لكم المغانم لعذّبكم، والجواب الخامس أن المعنى لولا أنّ الله جلّ وعز كتب أنه يغفر لأهل بدر ما تقدّم من ذنوبهم وما تأخّر لعذّبكم. ومعنى لَوْلا في اللغة امتناع شيء لوقوع شيء. وكِتابٌ مرفوع بالابتداء وسَبَقَ في موضع النعت له ولا يكون خبرا لأنه لا يجوز أن يؤتى بخبر لما ارتفع بعد لولا بالابتداء. هذا قول سيبويه والتقدير لولا كتاب من الله سبق تدارككم لَمَسَّكُمْ والأصل فيها فعل ثم أدغمت ويجوز الإظهار كما قال: [البسيط] 176- مهلا أعاذل قد جرّبت من خلقي ... أنّى أجود لأقوام وإن ضننوا «1» فِيما أَخَذْتُمْ أدغمت الذال في التاء لأن المهموس أخفّ ويجوز الإظهار هنا. [سورة الأنفال (8) : آية 69] فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ في الفاء معنى الشرط والمجازاة، وقال سيبويه «2» فالكلم اسم وفعل وحرف، والتقدير في الآية قد أحللت لكم الفداء فكلوا ممّا غنمتم، حَلالًا طَيِّباً منصوب على الحال. [سورة الأنفال (8) : آية 70] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى خاطب النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم قال لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ

_ (1) الشاهد لقعنب بن أم صاحب في الخصائص 1/ 160، والكتاب 1/ 58، وسمط اللآلي 576، وشرح أبيات سيبويه 1/ 318، ولسان العرب (ظلل) و (ضنن) ، والمنصف 1/ 339، ونوادر أبي زيد 44، وبلا نسبة في خزانة الأدب 1/ 150، وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 241، وشرح المفصل 3/ 12، ولسان العرب (حمم) ، والمقتضب 1/ 142، والمنصف 2/ 69. [.....] (2) انظر الكتاب 1/ 40.

[سورة الأنفال (8) : آية 71]

فيه ثلاثة أجوبة: يكون المعنى يا أيّها النبي قل لهم قولوا لمن في أيديكم من الأسرى، ويكون على أنّ المخاطبة له صلّى الله عليه وسلّم، مخاطبة لأمته كما قال جلّ وعزّ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: 1] ويكون على تحويل المخاطبة في إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ، فأمّا أن يكون على التعظيم فبعيد. إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً شرط وكسرت الميم لالتقاء الساكنين والجواب يُؤْتِكُمْ فلذلك حذفت منه الياء. [سورة الأنفال (8) : آية 71] وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ أي في نقض العهد لأنهم عاهدوه ألّا يحاربوه صلّى الله عليه وسلّم أي إن فعلوا هذا فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي خانوا أولياءه المؤمنين بديئا. وجمع خيانة خيائن وكان يجب أن يقال: خوائن لأنه من ذوات الواو إلّا أنهم فرّقوا بينه وبين جمع خائنة، ويقال: خائن وخون وخونة وخانة. [سورة الأنفال (8) : آية 72] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اسم إنّ. وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا معطوف عليه. أُولئِكَ رفع بالابتداء بَعْضُهُمْ ابتداء ثان. أَوْلِياءُ بَعْضٍ «1» خبره والجميع خبر إنّ، وَالَّذِينَ آمَنُوا ابتداء، والخبر ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة من ولايتهم «2» . يقال: وليّ بيّن الولاية ووال بيّن الولاية. قال أبو جعفر: والفتح في هذا أبين وأحسن لأنه بمعنى النصر، وقال أبو إسحاق: ويجوز الكسر لأنه مشتمل فصار كالصناعة وكالخياطة. قال: ويجوز فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ بالنصب على الإغراء. [سورة الأنفال (8) : آية 73] وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وقال الكسائي: يجوز النصب في قوله: تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ «3» . [سورة الأنفال (8) : آية 74] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) حَقًّا مصدر.

_ (1) انظر البحر المحيط 4/ 517. (2) انظر البحر المحيط 4/ 518، وتيسير الداني 96. (3) انظر البحر المحيط 4/ 518.

[سورة الأنفال (8) : آية 75]

[سورة الأنفال (8) : آية 75] وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) وَأُولُوا الْأَرْحامِ ابتداء والواحد «ذو» والرحم مؤنثة. بَعْضُهُمْ ابتداء. أَوْلى بِبَعْضٍ الخبر والجملة خبر الأول، وفي قوله فِي كِتابِ اللَّهِ جلّ وعزّل. أقوال: منها أن هذه الآية تدلّ على أنه لا يورّث إلّا من كان له في كتاب الله ذكر إلّا أن يجمع المسلمون على شيء أو يصحّ عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقيل معنى فِي كِتابِ اللَّهِ في اللوح المحفوظ، وقيل فِي كِتابِ اللَّهِ في حكم الله كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لأقضينّ بينكما بكتاب الله» «1» جلّ وعزّ فقضى بالجلد وتغريب عام والرجم عليها إذا كانت محصّنة، وليس في القرآن الرجم فقيل: معنى «بكتاب الله» جلّ وعزّ بحكم الله، وقيل: لمّا قال جلّ وعزّ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] كان القبول من النبي صلّى الله عليه وسلّم بكتاب الله جلّ وعزّ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ اسم «إنّ» وخبرها.

_ (1) أخرجه أبو داود في سننه، الحدود، حديث 4445، والترمذي في سننه الحدود 6/ 206.

9 شرح إعراب سورة براءة

9 شرح إعراب سورة براءة [سورة التوبة (9) : آية 1] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) من ذلك قوله جلّ وعزّ بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ. رفع بالابتداء، والخبر إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وحسن الابتداء بالنكرة لأنها قد وصلت، ويجوز أن ترفع براءة على أنها خبر ابتداء محذوف. يقال: برئت من العهد والدّين والرجل براءة، وبرأت من المرض أبرأ، ولا يعرف فعلت أفعل مما لامه همزة إلا هذا ويقال: برئت من المرض أبرأ برءا وبرءوا، وبريت القلم وأبريت الناقة جعلت في أنفها برة. وهي حلقة من حديد، فإن كانت من خشب فهي خشاش، وإن كانت من شعر فهي خزامة. والوقف براءه بالهاء. قال سيبويه: أرادوا أن يفرقوا بين هذه التاء والتاء التي هي من نفس الحرف نحو تاء القت. قال: وزعم أبو الخطاب أنّ ناسا من العرب يقولون: طلحت كما فعلوا بتاء الجميع. مِنَ اللَّهِ فتحت النون لالتقاء الساكنين هذه اللغة الفصيحة، وللنحويين فيها أقوال: قال الكسائي: أصل (من) منا حذفوا الألف وأبقوا الفتحة، وقيل: كرهوا الجمع بين كسرتين فحركوها في أكثر المواضع بالفتح. قال أبو جعفر: وأحسن ما قيل في هذا قول سيبويه «1» قال: لمّا كثر استعمالهم لها ولم يكن فعلا وكان الفتح أخفّ عليهم فتحوا وشبهوها بأين وكيف. قال سيبويه: وناس من العرب يكسرون فيقولون: من الله على القياس. قال أبو حاتم: زعم هارون أن أبا عمرو بن العلاء قرأ براءة من الله إلى الذين عاهدتم «2» وإن شئت قلت: عاهدتمو على الأصل والحذف لأن الواو ثقيلة. [سورة التوبة (9) : آية 2] فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ قال الكسائي: المصدر سيوحا وسيحانا وسياحة. قال الفراء: وساح الماء سيحا. أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أثبت الهاء فرقا بين المذكر والمؤنث. قال أبو جعفر:

_ (1) انظر الكتاب 4/ 265. (2) انظر مختصر ابن خالويه 51.

[سورة التوبة (9) : آية 3]

وقد ذكرناه، وذكرنا ما هذه الشهور «1» . وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ في موضع نصب باعلموا وإن شئت قلت: أنّكمو كما تقدّم غير معجزي الله حذفت النون للإضافة. ويجوز على قول سيبويه أن تحذفها لالتقاء الساكنين وتنصب. [سورة التوبة (9) : آية 3] وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ عطف على براءة. يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ظرف وقد ذكرنا ما قيل فيه، والحجّ الأصغر العمرة. أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ في موضع نصب، والتقدير «بأن الله» ، ومن قرأ إنّ الله قدّره بمعنى قال إنّ الله، بَرِيءٌ خبر. وَرَسُولِهِ عطف على الموضع، وإن شئت على المضمر كلاهما حسن لأنه قد طال الكلام، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ «2» عطف على اللفظ. [سورة التوبة (9) : الآيات 4 الى 5] إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ في موضع نصب بالاستثناء. قال الأخفش التقدير واقعدوا لهم على كل مرصد وحذفت «على» قال أبو جعفر: قد حكى سيبويه: ضرب الظهر والبطن، بحذف «على» إلّا أنّ كُلَّ مَرْصَدٍ نصبه على الظرف جيّد كما تقول: [سورة التوبة (9) : آية 6] وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ أي من القتل وأَحَدٌ مرفوع بإضمار فعل كالذي بعده وهذا حسن في «إن» وقبيح في أخواتها، ومذهب سيبويه في الفرق بين إن وأخواتها أنها لمّا كانت أمّ حروف الشرط لأنها لا تكون لغيره خصّت بهذا، وقال محمد بن يزيد: أما قوله لأنها لا تكون في غيره فغلط لأنها تكون بمعنى «ما» ،

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 80. (2) انظر البحر المحيط 4/ 8.

[سورة التوبة (9) : آية 7]

وزائدة، ومخففة من الثقيلة ولكنها مبهمة وليس كذا غيرها وأنشد سيبويه: [الكامل] 177- لا تجزعي إن منفسا أهلكته ... وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي «1» ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ مفعولان حذف من أحدهما الحرف والجمع مآمن. [سورة التوبة (9) : آية 7] كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ اسم يكون إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ استثناء. قال محمد بن إسحاق: هم بنو بكر. [سورة التوبة (9) : آية 8] كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ قال الأخفش سعيد: أضمر، أي كيف لا تقتلونهم والله أعلم، وقال أبو إسحاق: المعنى كيف يكون لهم عهد ثم حذف كما قال: [الطويل] 178- وخبرتماني أنّما الموت بالقرى ... فكيف وهذا هضبة وكثيب «2» قال: التقدير وكيف مات لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وبعده لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وليس هذا تكريرا ولكن الأول لجميع المشركين والثاني لليهود خاصة، والدليل على هذا قوله: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني اليهود باعوا حجج الله جلّ وعزّ وبيانه بطلب الرئاسة وطمع في شيء وجمع إل آلال في القليل، والكثير ألال، وذمّة وذمم. [سورة التوبة (9) : آية 11] فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ أي فهم إخوانكم.

_ (1) الشاهد للنمر بن تولب في الكتاب 1/ 188، وديوانه 72، وتخليص الشواهد 499، وخزانة الأدب 1/ 314، وسمط اللآلي 468، وشرح أبيات سيبويه 1/ 160، وشرح شواهد المغني 1/ 472، وشرح المفصّل 2/ 38، ولسان العرب (نفس) و (خلل) ، والمقاصد النحوية 2/ 535، وبلا نسبة في الأزهيّة ص 248، والأشباه والنظائر 2/ 151، والجنى الداني 72، وجواهر الأدب 67، وخزانة الأدب 3/ 32، والردّ على النحاة 114، وشرح الأشموني 1/ 188، وشرح ابن عقيل 264، ومغني اللبيب 1/ 166، والمقتضب 2/ 76. (2) الشاهد لكعب بن سعد الغنوي في اللسان (قول) و (هذا) ، وبلا نسبة في شرح المفصل 3/ 136، وتفسير الطبري 10/ 83.

[سورة التوبة (9) : آية 12]

[سورة التوبة (9) : آية 12] وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ جمع إمام، والأصل أأممة كمثال وأمثلة ثم أدغمت الميم في الميم، وقلبت الحركة على الهمزة همزتان فأبدلت من الثانية ياء، وزعم الأخفش أنّك تقول: هذا أيمّ من هذا بالياء. قال المازني: أومّ بالواو. وقرأ حمزة فقاتلوا أامّة الكفر «1» . فأكثر النحويين يذهب إلى أنّ هذا لحن لا يجوز لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة، وزعم أبو إسحاق أنه جائز على بعد، قال: لأنه قد وقع في الكلمة علّتان الإدغام والتضعيف فلمّا ألقيت حركة الميم على الهمزة تركت الهمزة لتدلّ بحركتها على ذلك. [سورة التوبة (9) : آية 13] أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) أَلا تُقاتِلُونَ توبيخ وفيه معنى التحضيض. [سورة التوبة (9) : الآيات 14 الى 15] قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) قاتِلُوهُمْ أمر. يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ جوابه وهو جزم بمعنى المجازاة، والتقدير إن تقاتلوهم يعذّبهم الله. بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ كلّه عطف، ويجوز فيه كله الرفع على القطع من الأول ويجوز النصب على إضمار أن وهو محمول على المعنى، والكوفيون يقولون على الصرف كما قال: «2» [الوافر] 179- فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع النّاس والشّهر الحرام ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجبّ الظّهر ليس له سنام وإن شئت رفعت ونأخذ وإن شئت نصبته. وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ القراءة بالرفع لأنه ليس من جنس الأول لأن القتال غير موجب لهم التوبة من الله جلّ وعزّ وهو

_ (1) انظر تيسير الداني 96، قراءة الكوفيين وابن عامر (أئمة) بهمزتين، وأدخل هشام بينهما ألفا، وقراءة الباقين بهمزة وياء مختلسة الكسرة من غير مدّ. (2) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه ص 106، والأغاني 11/ 26، وخزانة الأدب 7/ 511، وشرح أبيات سيبويه 1/ 28، والكتاب 1/ 258، وشرح المفصّل 6/ 83، والمقاصد النحوية 3/ 579، وبلا نسبة في أسرار العربية 200، والأشباه والنظائر 6/ 11، والاشتقاق ص 105، وأمالي ابن الحاجب 1/ 458، والإنصاف 1/ 134، وشرح الأشموني 3/ 591، وشرح عمدة الحافظ 358، ولسان العرب (حبب) ، و (ذنب) ، والمقتضب 2/ 179.

[سورة التوبة (9) : آية 16]

موجب لهم العذاب والخزي وشفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم، ونظيره فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ تم الكلام ثم قال وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ [الشورى: 24] وقرأ ابن أبي إسحاق ويتوب الله «1» بالنصب وكذا روي عن عيسى والأعرج. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ابتداء وخبر. [سورة التوبة (9) : آية 16] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) أَمْ حَسِبْتُمْ خروج من شيء إلى شيء. أَنْ تُتْرَكُوا في موضع المفعولين على قول سيبويه، وعند أبي العباس أنه قد حذف الثاني، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ جزم بلمّا وإن كانت «ما» زائدة فإنّها عند سيبويه تكون جوابا لقولك قد فعلت وكسرت الميم لالتقاء الساكنين. قال الفراء وَلِيجَةً بطانة من المشركين يتخذونهم ويفشون إليهم أسرارهم ويعلمونهم أمورهم. [سورة التوبة (9) : آية 17] ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ اسم كان. شاهِدِينَ على الحال. وأُولئِكَ ابتداء. حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الخبر. [سورة التوبة (9) : آية 18] إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ (ما) كافة والفعل متقدّم لأنه لمن. وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ حذفت الألف للجزم. قال سيبويه: واعلم أنّ الآخر إذا كان يسكن في الرفع حذف في الجزم لئلّا يكون الجزم بمنزلة الرفع. فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ وعسى من الله جلّ وعزّ واجبة. [سورة التوبة (9) : آية 19] أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ التقدير في العربية أجعلتم أصحاب سقاية الحاجّ وقيل: التقدير كإيمان من آمن بالله وجعل الاسم موضع المصدر إذ علم معناه مثل: إنّما

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 19. [.....]

[سورة التوبة (9) : آية 20]

السخاء حاتم وإنّما الشعر زهير. وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وقرأ أبو وجزة أجعلتم سقاة الحاجّ وعمرة المسجد الحرام «1» سقاة جمع ساق والأصل فيه سقية على فعلة كذا الجمع المعتلّ من هذا نحو قاض وقضاة وناس ونساة فإن لم يكن معتلا جمع على فعلة نحو ناسئ ونسأة للذين كانوا ينسئون الشهور. [سورة التوبة (9) : آية 20] الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) الَّذِينَ آمَنُوا في موضع رفع بالابتداء، وخبره أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ، ودَرَجَةً على البيان. [سورة التوبة (9) : آية 22] خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) خالِدِينَ نصب على الحال. [سورة التوبة (9) : آية 23] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ مفعولان. إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ أي لا تطيعوهم ولا تختصّوهم. [سورة التوبة (9) : آية 24] قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ اسم «كان» وما بعده معطوف عليه. أَحَبَّ إِلَيْكُمْ خبر كان ويجوز في غير القرآن رفع «أحبّ» على الابتداء والخبر واسم كان مضمر فيها، وأنشد سيبويه: [الطويل] 180- إذا متّ كان النّاس صنفان شامت ... وآخر مثن بالّذي كنت أصنع «2» وأنشد سيبويه: [البسيط] 181- هي الشّفاء لدائي لو ظفرت بها ... وليس منها شفاء الدّاء مبذول «3»

_ (1) هذه قراءة ابن الزبير والباقر وأبي حيوة، انظر البحر المحيط 5/ 22. (2) الشاهد للعجير السلولي في الكتاب 1/ 118، والأزهيّة ص 190، وتخليص الشواهد 246، وخزانة الأدب 9/ 72، والدرر 1/ 223، وشرح أبيات سيبويه 1/ 144، والمقاصد النحوية 2/ 85، ونوادر أبي زيد ص 156، وبلا نسبة في أسرار العربية 136، واللمع في العربية ص 122، وهمع الهوامع 1/ 67. (3) الشاهد لهشام أخي ذي الرمة في الكتاب 1/ 119، وشرح شواهد المغني 2/ 704، ولهشام بن عقبة في الأزهية ص 191، والأشباه والنظائر 5/ 85، وتذكرة النحاة 141، والدرر 2/ 42، ولذي الرمّة في شرح أبيات سيبويه 1/ 421، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 2/ 868، ورصف المباني 302، وشرح المفصّل 3/ 116، والمقتضب 4/ 101، وهمع الهوامع 1/ 111.

[سورة التوبة (9) : آية 25]

[سورة التوبة (9) : آية 25] لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ قال الفراء «1» : لم ينصرف مواطن لأنه جمع ليس لها نظير في المفرد وليس لها جماع، إلّا أن الشاعر ربما اضطرّ فجمع وليس يوجد في الكلام ما يجوز في الشعر، وأنشد: [الرجز] 182- فهنّ يعلكن حدائداتها «2» قال أبو جعفر: رأيت أبا إسحاق يتعجّب من هذا قال: أخذ قول الخليل رحمه الله وأخطأ فيه لأن الخليل يقول لم ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد ولا يجمع جمع التكسير فأما بالألف والتاء فلا يمتنع. وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ظرف أي ونصركم يوم حنين. وانصرف حنين لأنه مذكر اسم واد ومن العرب من لا يجريه يجعله اسما للبقعة، فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ حذفت الياء للجزم. [سورة التوبة (9) : آية 26] ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي أنزل عليهم ما يسكّنهم ويذهب خوفهم حتى اجترءوا على قتال المشركين. وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة يقوّون المؤمنين بما يلقون في قلوبهم من الخواطر والتثبيت ويضعفون الكافرين بالتجبين لهم من حيث لا يرونهم ومن غير قتال لأن الملائكة صلوات الله عليهم لم تقاتل إلا في يوم بدر. [سورة التوبة (9) : آية 28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ابتداء وخبر. فَلا يَقْرَبُوا نهي فلذلك حذفت منه النون. [سورة التوبة (9) : آية 30] وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 428. (2) الشاهد بلا نسبة في معاني الفراء 1/ 428، وتاج العروس (حدد) وللسان العرب (حدد) .

[سورة التوبة (9) : آية 31]

وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ للنحويين في هذا أقوال: فمن أحسنها أنه مرفوع على إضمار مبتدأ والتقدير صاحبنا عزير، وأنشد الأخفش: [الطويل] 183- لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... شعيب بن سهم أم شعيب بن منقر «1» ويجوز أن يكون عُزَيْرٌ رفع بالابتداء وابْنُ خبره، ويحذف التنوين لالتقاء الساكنين أجاز سيبويه مثل هذا بعينه، وقول ثالث لأبي حاتم قال: لو قال قائل إنّ عزيرا اسم عجمي فلذلك حذفت منه التنوين. قال أبو جعفر: هذا القول غلط لأن عزيرا اسم عربيّ مشتق قال الله جلّ وعزّ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9] ولو كان عجميا لانصرف لأنه على ثلاثة أحرف في الأصل ثم زيدت عليه ياء التصغير، وقد قرأ القراء من الأئمة في القراءة واللغة عُزَيْرٌ منوّنا. قرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبان بن تغلب وعاصم والكسائي وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وهذا بيّن على الابتداء والخبر وكذا وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وكذا ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ، وقرأ عاصم وطلحة يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا «2» وجعل الهمزة من الأصل وقدّر ضهيئا فعيلا. وترك الهمز أجود لأنه لا نعلم أحدا من أهل اللغة حكى أنّ في الكلام فعيلا وإذا لم يهمز قدّر ظهياء فعلاء، الهمزة زائدة كما زيدت في شأمل وغرقئ إلا أنه يجوز أن يكون فعيلا لا نظير له كما أن كنهبلا فنعلل لا نظير له كما أن قرنفلا فعنلل لا نظير له. [سورة التوبة (9) : آية 31] اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ مفعولان. وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ منصوب على إضمار فعل ويجوز أن يكون عطفا. [سورة التوبة (9) : آية 32] يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ جعل البراهين بمنزلة النور لما فيها من البيان.

_ (1) الشاهد للأسود بن يعفر في ديوانه 37، والكتاب 3/ 197، وخزانة الأدب 11/ 122، وشرح التصريح 2/ 113، وشرح شواهد المغني ص 138، والمقاصد النحوية 4/ 138، ولأوس بن حجر في ديوانه 49، وخزانة الأدب 11/ 128، وللأسود أو للعين المنقري في الدرر 6/ 98، وبلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 421، ولسان العرب (شعث) ، والمحتسب 1/ 50، ومغني اللبيب 1/ 42، والمقتضب 3/ 294، وهمع الهوامع 2/ 232. (2) انظر البحر المحيط 5/ 32، وباقي السبعة بغير همز.

[سورة التوبة (9) : آية 33]

بِأَفْواهِهِمْ جمع فوه على الأصل لأن الأصل في فم فوه مثل حوض وأحواض، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ يقال: كيف دخلت إلّا وليس في الكلام حرف نفي؟ ولا يجوز ضربت إلّا زيدا فزعم الفراء «1» أن «إلّا» إنما دخلت في الكلام طرفا من الجحد، قال أبو إسحاق: الجحد والتحقيق ليسا بذوي أطراف وأدوات الجحد «ما ولا ولم ولن وليس» وهذه لا أطراف لها ينطق بها، ولو كان الأمر كما أراد لجاز كرهت إلا زيدا ولكن الجواب أنّ العرب تحذف مع «أبى» والتقدير ويأبى الله كلّ شيء إلّا أن يتمّ نوره. قال علي بن سليمان: إنما أجاز هذا في يأبى لأنها منع أو امتناع فضارعت النفي. قال أبو جعفر: وهذا قول حسن كما قال: [الطويل] 184- وهل لي أمّ غيرها إن تركتها ... أبى الله إلّا أن أكون لها ابنما «2» [سورة التوبة (9) : آية 33] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) لِيُظْهِرَهُ لام كي أي ليظهره بالحجّة والبراهين وقد أظهره. [سورة التوبة (9) : آية 34] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ دخلت اللام على يفعل ولا تدخل على فعل بمضارعة يفعل الأسماء وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ رفع بالابتداء ويجوز أن يكون معطوفا على ما في يأكلون أي ويأكلها الذين يكنزون الذهب والفضة. وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولم يقل ينفقونهما ففيه أربعة أقوال يكون التقدير ولا ينفقون الكنوز، ويكون ولا ينفقون الأموال، ويكون ولا ينفقون الفضة وحذف من الأول لدلالة الثاني عليه وأنشد سيبويه: [المنسرح] 185- نحن بما عندنا وأنت بما عندك ... راض والرّأي مختلف «3»

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 433. (2) الشاهد للمتلمس في ديوانه ص 30، والأصمعيات ص 345، وخزانة الأدب 10/ 58، والمقاصد النحوية 4/ 568، والمقتضب 2/ 93، وبلا نسبة في الخصائص 2/ 182، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 115، وشرح الأشموني 3/ 816، وشرح المفصّل 9/ 133، والمنصف 1/ 58. (3) الشاهد لقيس بن الخطيم في ملحق ديوانه 239، والكتاب 1/ 123، وتخليص الشواهد ص 205، والدرر 5/ 314، والمقاصد النحوية 1/ 557، ولعمرو بن امرئ القيس الخزرجي في الدرر 1/ 147، وشرح أبيات سيبويه 1/ 279، وبلا نسبة في شرح الأشموني 1/ 453، والصاحبي في فقه اللغة 218، ومغني اللبيب 2/ 622، وهمع الهوامع 2/ 109.

[سورة التوبة (9) : آية 35]

والتقدير الرابع أن يكون ينفقونها للذهب والثاني معطوفا عليه. فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ في موضع خبر الابتداء أي اجعل لهم موضع البشارة عذابا أليما. [سورة التوبة (9) : آية 35] يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) يَوْمَ ظرف والتقدير يعذّبون. يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ. فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ اسم ما لم يسمّ فاعله. وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ عطف. هذا ما كَنَزْتُمْ أي يقال لهم. [سورة التوبة (9) : آية 36] إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً اسم «إنّ» وخبرها، وأعربت اثْنا عَشَرَ دون نظائرها لأن فيها حرف الإعراب أو دليله، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ابتداء وخبر وروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ذلِكَ الدِّينُ أي ذلك القضاء. فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ الأكثر أن يكون هذا للأربعة لأن أكثر ما تستعمل العرب فيما جاوز العشرة «فيها ومنها» . وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً مصدر في موضع الحال، قال أبو إسحاق: مثل هذا من المصادر عافاه الله عافية، وعاقبه عاقبة لا يثنّى ولا يجمع وكذا عامّة وخاصّة. قال: ومعنى كافة معنى محيطين بهم مشتقّ من كفّة الشيء وهي حرفه لأنك إذا بلغت إليه كففت عن الزيادة. [سورة التوبة (9) : آية 37] إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ هكذا يقرأ أكثر الأئمة ولم يرو أحد عن نافع علمناه. إِنَّمَا النَّسِيءُ «1» بلا همز إلا ورش وحده، وهو مشتقّ من نسأه وأنسأه إذا أخره. حكى اللغتين الكسائي، فنسىء بمعنى منسؤ أو منسأ. قال أبو عبيد: وقرأها ابن

_ (1) قرأ الزهري وحميد وأبو جعفر وورش عن نافع والحلواني (النسيّ) بتشديد الياء من غير همز.

[سورة التوبة (9) : آية 38]

كثير بغير مدّ ولا همز قال أبو حاتم: قرأها ابن كثير بإسكان السين. قال أبو جعفر: المعروف عن قراءة ابن كثير إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ على فعيل. قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» وقرأ الكوفيون يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وقرأ الحسن وأبو رجاء يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا «2» بضم الياء وكسر الضاد. والقراءات الثلاث كلّ واحدة منها تؤدي عن معنى. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «أوتيت جوامع الكلم» «3» فيضلّ به الذين كفروا، إلّا أنهم يحسبونه فيضلّون به، ويضلّ به الذين كفروا بمعنى المحسوب لهم، ويُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وقد حذف منه المفعول أي يضلّ به الذين كفروا من يقبل منهم. لِيُواطِؤُا نصب بلام كي فَيُحِلُّوا عطف عليه. [سورة التوبة (9) : آية 38] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ الأصل تثاقلتم أدغمت التاء في الثاء لقربها منها فاحتجت إلى ألف الوصل لتصل إلى النطق بالساكن، والمعنى: اثّاقلتم إلى نعيم الأرض وإلى الإقامة بالأرض، والتقدير أرضيتم بنعيم الدنيا من نعيم الآخرة. فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ابتداء وخبر. [سورة التوبة (9) : آية 39] إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْفِرُوا شرط فلذلك حذفت منه النون والجواب يُعَذِّبْكُمْ. وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً عطف. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ابتداء وخبر. [سورة التوبة (9) : آية 40] إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ شرط ومجازاة. إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ظرف.

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 42، ومعاني الفراء 1/ 437. (2) انظر البحر المحيط 5/ 42، ومختصر ابن خالويه 52. (3) أخرجه مسلم في المساجد 7، 8، وأحمد في مسنده 2/ 250، 314، وابن كثير في تفسيره 4/ 72، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 7/ 113، وأبو نعيم في دلائل النبوة 1/ 14، والمتقي الهندي في كنز العمال 32068. [.....]

ثانِيَ اثْنَيْنِ نصب على الحال أي أخرجوه منفردا من جميع الناس إلا من أبي بكر رضي الله عنه أي أحد اثنين. قال علي بن سليمان: التقدير فخرج ثاني اثنين مثل وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] . إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فأشاد جلّ وعزّ بذكر أبي بكر رضي الله عنه، ورفع قدره بخروجه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبذله نفسه ولو أراد أن يهاجر آمنا لفعل، وقوله لا تَحْزَنْ فيه معنى أمنه كما قال لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه: 68] وقال في قصة لوط عليه السلام لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ [العنكبوت: 33] وفي قصة إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم لا تَخَفْ [الذاريات: 28] وقال إِنَّ اللَّهَ مَعَنا أي ينصرنا ويمنع منا فأوجب لأبي بكر رضي الله عنه بهذا التقى والإحسان كما قال جلّ وعزّ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128] . فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ القول عند أكثر أهل التفسير وأهل اللغة أن المعنى فأنزل الله سكينته على أبي بكر لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد علم أنه معصوم والله جلّ وعزّ أمره بالخروج وأنه ينجيه والدليل على هذا أنه قال لأبي بكر لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فسكن أبو بكر رضي الله عنه، قال الله جلّ وعزّ فأنزل الله سكينته عليه ومعنى الفاء في العربية أن يكون الثاني يتبع الأول، فكما قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تحزن إنّ الله معنا سكن واطمأن، وليس هذا مثل فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الفتح: 26] لأن هذا في يوم حنين لمّا اضطرب المسلمون خاف النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد علم أنه في نفسه معصوم، فلمّا أيّد الله المؤمنين ورجعوا سكن النبي صلّى الله عليه وسلّم لذلك وزال خوفه الذي لحقه على المؤمنين، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها الهاء تعود على النبي صلّى الله عليه وسلّم فالضميران مختلفان، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب قال الله جلّ وعزّ أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [العلق: 11، 12، 13] ثم قال أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى [العلق: 14] . وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى أي وصفها بهذا، وَكَلِمَةُ اللَّهِ ابتداء. هِيَ الْعُلْيا ابتداء وخبر، والابتداء والخبر خبر الأول، ويجوز أن يكون «العليا» الخبر، و «وهي» فاصلة، وقرأ الحسن ويعقوب وَكَلِمَةُ اللَّهِ «1» بالنصب عطفا على الأول، وزعم الفراء أنّ هذا بعيد. قال: لأنك تقول: أعتق فلان غلام أبيه ولا تقول: غلام أبي فلان، وقال أبو حاتم نحوا من هذا، قال: كأن يكون وكلمته هي العليا. قال أبو جعفر: الذي ذكره الفقراء لا يشبه الآية ولكن يشبهها ما أنشده سيبويه: [الخفيف] 186- لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا «2» وهذا جيد حسن لأنه لا إشكال فيه بل يقول النحويون الحذّاق: إنّ في إعادة

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 52، والبحر المحيط 5/ 46. (2) مرّ الشاهد رقم (70) .

[سورة التوبة (9) : آية 41]

الذّكر في مثل هذا فائدة وهي أنّ فيه معنى التعظيم. قال الله جلّ وعزّ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزلزلة: 1، 2] فهذا لا إشكال فيه. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ابتداء وخبر. [سورة التوبة (9) : آية 41] انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) انْفِرُوا حكى الأخفش «انفروا» ، خِفافاً وَثِقالًا نصب على الحال، وفيه قولان: أحدهما أنه منسوخ بقوله فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: 122] ، والآخر أنه غير منسوخ لأن الجهاد فرض إلّا أنّ بعض المسلمين يحمله عن بعض فإذا وقع الاضطرار وجب الجهاد على كلّ أحد. [سورة التوبة (9) : آية 42] لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً خبر كان. وَسَفَراً قاصِداً عطف عليه. لَاتَّبَعُوكَ وهذه الكناية للمنافقين لأنهم داخلون فيمن خوطب بالنفير. وهذا موجود في كلام العرب يذكرون الجملة ثم يأتون بالإضمار عائدا على بعضها كما قيل في قول الله جلّ وعزّ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] إنها القيامة ثم قال جلّ وعزّ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا [مريم: 72] يعني جلّ وعزّ جهنم. حكى أبو عبيدة «1» : إنّ الشُّقَّةُ السفر، وحكى الكسائي: إنه يقال: شقّة وشقّة. [سورة التوبة (9) : آية 43] عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ في معناه قولان: أحدهما أنه افتتاح الكلام كما تقول: أصلحك الله كان كذا وكذا، والقول الآخر وهو أولى لأن المعنى عفا الله عنك ما كان من ذنبك في أن أذنت لهم ويدلّ على هذا لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ لأنه لا يقال: لم فعلت ما أمرتك به؟ والأصل «لما» حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر، وأنّ «ما» قد اتّصلت باللام ولا يوقف عليها إلّا بالهاء لمه. [سورة التوبة (9) : الآيات 44 الى 45] لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا في موضع نصب. قال

_ (1) انظر مجاز القرآن 1/ 260.

[سورة التوبة (9) : الآيات 46 إلى 47]

أبو إسحاق: التقدير في أن يجاهدوا، وقال غيره: هذا غلط وإنما المعنى ضدّ هذا ولكن التقدير إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ في التّخلّف لئلّا يجاهدوا، وحقيقته في العربية كراهة أن لا يجاهدوا كما قال جلّ وعزّ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 76] . [سورة التوبة (9) : الآيات 46 الى 47] وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ لأنهم قالوا إن يؤذن لنا في الجلوس أفسدنا وحرّضنا على المسلمين ويدلّ على هذا أن بعده لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا، فَثَبَّطَهُمْ الله جلّ وعزّ. وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ يكون التقدير قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ويكون هذا هو الإذن الذي تقدّم ذكره وقيل: المعنى وقال لهم أصحابهم هذا. يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ مفعول ثان، والمعنى: يطلبون لكم الفتنة أي الإفساد والتحريض، ويقال: بغيته كذا أي أعنته على طلبه وبغيته كذا طلبته له. لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ أي لقد طلبوا الإفساد من قبل أن يظهر أمرهم وينزل الوحي بما أسرّوه وبما سيفعلونه لأنه قال جلّ وعزّ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ [براءة: 95] أخبر بعيبهم وقلّبوا لك الأمور أي دبّروا واحتالوا في التضريب والإفساد. [سورة التوبة (9) : آية 49] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي من أذن يأذن فإذا أمرت زدت همزة مكسورة وقبلها همزة هي فاء الفعل ولا يجتمع همزتان فأبدلت من الثانية ياء لكسرة ما قبلها فقلت: ائذن لي، فإذا وصلت زالت العلّة في الجمع بين همزتين فهمزت فقلت: ومنهم من يقول أذن لي «1» وروى ورش عن نافع ومنهم من يقول اذن لي خفّف «2» الهمزة. قال أبو جعفر: يقال: ائذن لفلان ثم ائذن لفلان وهجاء الأول والثاني واحد بألف وباء قبل الذال في الخطّ فإن قلت: ائذن لفلان وأذن لغيره كان الثاني بغير ياء، وكذلك الفاء

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 52. (2) انظر البحر المحيط 5/ 52.

[سورة التوبة (9) : آية 50]

والفرق بين ثم والفاء والواو أنّ ثم يوقف عليها وينفصل والفاء والواو لا يوقف عليها ولا ينفصلان. [سورة التوبة (9) : آية 50] إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ شرط ومجازاة وكذا وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا عطف. [سورة التوبة (9) : آية 51] قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا نصب بلن وحكى أبو عبيدة أن من العرب من يجزم بها. وقرأ طلحة بن مصرّف هل يصيبنا «1» وروي عن أعين قاضي الري أنه قرأ قل لن يصبّنا «2» بنون مشدّدة وهذا لحن لا يؤكّد بالنون ما كان خبرا ولو كان هذا في قراءة طلحة لجاز، قال الله جلّ وعزّ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ [الحج: 15] . ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا ما في موضع رفع. هُوَ مَوْلانا ابتداء وخبر، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ جزم لأنه أمر وكسرت اللام الثانية لالتقاء الساكنين، وإن شئت كسرت الأولى على الأصل والتسكين لثقل الكسرة. [سورة التوبة (9) : آية 52] قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا والكوفيون يدغمون اللام في التاء، فأما لام المعرفة فلا يجوز معها إلّا الإدغام كما قال جلّ وعزّ التَّائِبُونَ [التوبة: 112] لكثرة لام المعرفة في كلامهم، ولا يجوز الإدغام في قوله قُلْ تَعالَوْا [الانعام: 151] لأن قل معتلّ يجمعوا عليه علتين. وواحد الْحُسْنَيَيْنِ الحسنى والجمع الحسن ولا يجوز أن ينطق به إلّا معرّفا، لا يقال: رأيت امرأة حسنى. وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ في موضع نصب بنتربّص. [سورة التوبة (9) : آية 53] قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً مصدر في موضع الحال ولفظ أنفقوا لفظ أمر، ومعناه الشرط والمجازاة. وهكذا تستعمل العرب في مثل هذا تأتي بأو كما: [الطويل]

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 52، وهي قراءة ابن مسعود أيضا. (2) انظر المختصر لابن خالويه 53، والمحتسب 1/ 294.

[سورة التوبة (9) : آية 54]

187- أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقليّة إن تقلّت «1» والمعنى: إن أسأت أو أحسنت فنحن لك على ما تعرفين، ومعنى الآية: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل منكم ثم بيّن جلّ وعزّ لم لم يقبل منهم فقال: [سورة التوبة (9) : آية 54] وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) أَنْ الأولى في موضع نصب والثانية في موضع رفع، والمعنى وما منعهم من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا كفرهم، وقرأ الكوفيون أن يقبل منهم نفقاتهم «2» لأن النفقات والانفاق واحد. قال أبو إسحاق: ويجوز وما منعهم أن يقبل منهم نفقاتهم إِلَّا أَنَّهُمْ بمعنى وما منعهم من أن يقبل الله نفقاتهم إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا فإن الأولى والثانية في موضع نصب ويجوز عند سيبويه أن يكونا في موضع جر. [سورة التوبة (9) : آية 57] لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً كذا الوقف عليه وفي الخط بألفين الأولى همزة والثانية عوض من التنوين وكذا رأيت جزأا. أَوْ مَغاراتٍ من غار يغير. قال الأخفش: ويجوز مَغاراتٍ «3» من أغار يغير كما قال: [البسيط] 188- الحمد لله ممسانا ومصبحنا ... بالخير صبّحنا ربّي ومسّانا «4» أَوْ مُدَّخَلًا فيه خمس قراءات «5» : هذه إحداها، وروي عن قتادة وعيسى والأعمش أَوْ مُدَّخَلًا بتشديد الدال والخاء، وفي حرف أبيّ أو متدخّلا «6» وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن أو مدخلا بفتح الميم وإسكان الدال. قال أبو إسحاق: ويقرأ أو مدخلا بضم الميم وإسكان الدال. قال أبو جعفر: الأصل في مدّخل مدتخل، قلبت التاء دالا لأن الدال مجهورة والتاء مهموسة وهما من مخرج

_ (1) الشاهد لكثير عزّة في ديوانه ص 101، ولسان العرب (سوأ) و (حسن) ، و (قلا) ، والتنبيه والإيضاح 1/ 21، وتهذيب اللغة 4/ 318، والأغاني 9/ 38، وأمالي القالي 2/ 109، وتزيين الأسواق 1/ 124، وتاج العروس (سوأ) ، و (قلي) . (2) انظر تيسير الداني 97. (3) وهذه قراءة سعد بن عبد الرحمن بن عوف، انظر البحر المحيط 5/ 56، ومختصر ابن خالويه 53. (4) الشاهد لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص 62، والكتاب 4/ 210، وإصلاح المنطق 166، والأغاني 4/ 132، وخزانة الأدب 1/ 248، وشرح أبيات سيبويه 2/ 392، وشرح المفصل 6/ 53، ولسان العرب (مسا) ، وبلا نسبة في شرح المفصل 6/ 50. (5) انظر البحر المحيط 5/ 56، ومختصر ابن خالويه 53. (6) في البحر المحيط 5/ 56 «وقرأ أبيّ مندخلا» بالنون من (اندخل) .

[سورة التوبة (9) : آية 58]

واحد، والأصل الأولى في مدّخّل مدتخّل، وقيل الأصل فيه متدخّل على متفعّل، كما في قراءة أبيّ. ومعناه دخول بعد دخول أي قوما يدخلون معهم، ومدخل من دخل، ومدخل من أدخل كذا المصدر والمكان والزمان كما أنشد سيبويه: [الطويل] 189- مغار ابن همّام على حيّ خثعما «1» وَهُمْ يَجْمَحُونَ ابتداء وخبر. [سورة التوبة (9) : آية 58] وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وقرأ الأعرج ومنهم من يلمزك «2» بضم الميم والأكثر في المتعدي يفعل بكسر العين. [سورة التوبة (9) : آية 60] إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ مصدر. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ابتداء وخبر. قال الفراء «3» : ويجوز «فريضة من الله» ، بمعنى ذلك فريضة من الله. [سورة التوبة (9) : آية 61] وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ الَّذِينَ في موضع رفع. يُؤْذُونَ مهموز لأنه من آذى، وإن شئت خفّفت الهمزة فأبدلت منها واوا. وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ابتداء وخبر وكذا قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ على قراءة الحسن، وقرأ أهل الكوفة قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ وقرءوا وَرَحْمَةٌ خفضا عطف على خير، وهذا عند أهل العربية لأنه قد باعد بين الاسمين وهذا يقبح في المخفوض، والرفع عطفا على أذن، والتقدير قل هو أذن خير وهو رحمة أي هو مستمع خير لكم أي مستمع ما يجب استماعه وقابل ما يجب أن يقبله وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله جلّ وعزّ ويقولون هو أذن قال مستمع

_ (1) الشاهد لحميد بن ثور في الكتاب 1/ 292، والأشباه والنظائر 2/ 394، وشرح أبيات سيبويه 1/ 347، وليس في ديوانه، وللطماح بن عامر كما في حاشية الخصائص 2/ 208، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ص 351، والخصائص 2/ 208، وشرح المفصل 6/ 109، ولسان العرب (لحسن) و (علق) ، والمحتسب 2/ 121، وصدره: «وما هي إلّا في إزار وعلقة» [.....] (2) هذه قراءة يعقوب وحماد بن سلمة عن ابن كثير والحسن وأبي رجاء، انظر البحر المحيط 5/ 57. (3) انظر معاني الفراء 1/ 444.

[سورة التوبة (9) : آية 62]

وقائل. قال: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يصدّق بالله ويصدّق المؤمنين. قال أبو جعفر: فاللام على هذا زائدة عند الكوفيين ومثله هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف: 15] وعند محمد بن يزيد متعلّقة بمصدر دلّ عليه الفعل. [سورة التوبة (9) : آية 62] يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ابتداء وخبر، فيذهب سيبويه أن التقدير والله أحق أن يرضوه ورسوله أحقّ أن يرضوه ثم حذف، وقال محمد بن يزيد ليس في الكلام حذف. والتقدير والله أحق أن يرضوه ورسوله على التقديم والتأخير، وقال الفراء «1» : المعنى أحقّ أن يرضوه والله افتتاح كلام كما تقول ما شاء الله وشئت. قال أبو جعفر: وقول سيبويه أولاها لأنه قد صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم النهي عن أن يقال ما شاء الله وشئت ولا يقدّر في شيء تقديم ولا تأخير ومعناه صحيح. [سورة التوبة (9) : آية 63] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) أَلَمْ يَعْلَمُوا حذفت النون للجزم. أَنَّهُ في موضع نصب بيعلموا والهاء كناية عن الحديث، مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ في موضع رفع بالابتداء. فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ يقال: ما بعد الفاء في الشرط مبتدأ فكان يجب أن يكون «فإنّ له» بكسر إنّ فللنحويين في هذا أربعة أقوال: مذهب الخليل وسيبويه «2» أنّ «أن» الثانية مبدلة من الأولى، وزعم أبو العباس «3» أنّ هذا القول مردود وأنّ الصحيح ما قال الجرمي قال: إنّ الثانية مكررة للتوكيد، ونظيره وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ [النمل: 5] ، وكذا فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها [الحشر: 17] . قال الأخفش «4» : المعنى فوجوب النار له. قال أبو العباس: قول الأخفش هذا خطأ لأنه يبتدئ أنّ ويضمر الخبر. وقال علي بن سليمان: المعنى: فالواجب أنّ له نار جهنم، وأجاز الخليل وسيبويه فإنّ له نار جهنّم بالكسر. قال سيبويه: وهو جيد وأنشد «5» : [الطويل] 190- وعلمي بأسدام المياه فلم تزل ... قلائص تخدي في طريق طلائح «6»

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 445. (2) انظر الكتاب 3/ 153. (3) انظر المقتضب 2/ 356. (4) انظر المقتضب 2/ 357. (5) البيتان لتميم بن مقبل في ديوانه 45، والكتاب 3/ 155، وشرح أبيات سيبويه 2/ 116، وشرح الشواهد للشنتمري 1/ 467. (6) أسدام: جمع سدم: وهو الماء المتغيّر طعمه ولونه لقلّة الواردين. والقلائص: جمع القلوص: الناقة الفتيّة الشابة. والطلائح: جمع الطليحة: الناقة المعيية لطول السفر. وتخدي: تسرع.

[سورة التوبة (9) : آية 64]

وأنّي إذا ملّت ركابي مناخها ... فإني على حظّي من الأمر جامح «1» [سورة التوبة (9) : آية 64] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ خبر ويدلّ على أنه أنّ بعده إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ لأنهم كفروا عنادا وقيل: هو بمعنى الأمر كما يقال يفعل ذلك. أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ في موضع نصب أي من أن تنزل عليهم، ويجوز على قول سيبويه أن يكون في موضع خفض على حذف «من» ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على أنها مفعولة لأنّ سيبويه أجاز حذرت زيدا وأنشد: [الكامل] 191- حذر أمورا لا تضير وآمن ... ما ليس منجيه من الأقدار «2» وهذا عند أبي العباس مما غلط فيه سيبويه ولا يجوز عنده أنا حذر زيدا لأن حذرا شيء في الهيئة فلا يتعدّى. قال أبو جعفر: حدّثنا علي بن سليمان قال: سمعت محمد بن يزيد يقول: حدّثني أبو عثمان المازني قال: قال لي اللاحقي: لقيني سيبويه فقال لي: أتعرف في إعمال فعل شرا؟ ولم أكن أحفظ في ذلك: [الكامل] حذر أمورا لا تصير وآمن ... ما ليس منجيه من الأقدار [سورة التوبة (9) : الآيات 65 الى 66] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فأعلم الله جلّ وعزّ أنهم قد كفروا فقال: لا تَعْتَذِرُوا أي لا تعتذروا بقولكم إنما كنّا نخوض ونلعب. قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ ثم قال جلّ وعزّ: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ حذفت الألف للجزم. قال الكسائي: وقرأ زيد بن ثابت إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بالنون ونصب طائفة بنعذّب، وكذا قرأ أبو عبد الرحمن وعاصم، وقرأ الجحدري إن يعف عن طائفة بفتح الياء وضم الفاء يعذّب «3» بضم الياء وكسر الذال طائِفَةٍ نصب بالفعل. والمعنى إن يعف عن طائفة قد تابت يعذّب طائفة لم تتب. وحكى أهل اللغة منهم الفراء «4» أنه يقال للواحد: طائفة وأنه يقال: أكلت طائفة من الشّاة أي قطعة. قال أبو إسحاق: ويروى أن هاتين الطائفتين كانتا ثلاثة اثنان هزئا وواحد ضحك فجاء

_ (1) الجامح: الماضي على وجهه. (2) مرّ الشاهد رقم 121. (3) انظر البحر المحيط 5/ 68. (4) انظر معاني الفراء 1/ 445.

[سورة التوبة (9) : آية 67]

واحد لطائفة، كما يقال: جاءتني طائفة أي رجل واحد، وتقديره في العربية: جاءتني نفس طائفة. [سورة التوبة (9) : آية 67] الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ ابتداء. بَعْضُهُمْ ابتداء ثان ويجوز أن يكون بدلا ويكون الخبر من بعض. قال أبو إسحاق: هذا متّصل بقوله: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ [التوبة: 56] أي ليسوا من المؤمنين ولكن بعضهم من بعض أي متشابهون في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض أيديهم عن الجهاد. [سورة التوبة (9) : آية 68] وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) خالِدِينَ نصب على الحال. هِيَ حَسْبُهُمْ ابتداء وخبر. [سورة التوبة (9) : آية 69] كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) كَالَّذِينَ قال أبو إسحاق: الكاف في موضع نصب أي وعد الله الكفار نار جهنّم وعدا كما وعد الذين من قبلهم. كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً خبر كان ولم ينصرف لأنه أفعل صفة الأصل فيه أشدد أي كانوا أشدّ منكم قوة فلم يتهيأ لهم دفع عذاب الله جلّ وعزّ فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ أي انتفعوا بنصيبهم من الدنيا كما فعل الذين من قبلهم. [سورة التوبة (9) : آية 70] أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) أَلَمْ يَأْتِهِمْ حذف الياء للجزم. نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ رفع بيأتي. قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ بدل، ومن لم يصرف ثمود جعله اسما للقبيلة، وَالْمُؤْتَفِكاتِ قيل يراد به قوم لوط لأن أرضهم ايتفكت بهم أي انقلبت، وقيل: المؤتفكات كلّ من أهلك كما يقال: انقلبت عليه الدنيا. [سورة التوبة (9) : آية 72] وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)

[سورة التوبة (9) : آية 73]

وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ابتداء وخبر أي أكبر من نعيمهم ويجوز في غير القرآن النصب لأن هذا مما وعدوا به. [سورة التوبة (9) : آية 73] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ كسرت الدال لالتقاء الساكنين والفعل غير معرب ولا يكون فعل الأمر إلا مستقبلا عند جميع النحويين، وكذا سيفعل وسوف يفعل فأما يفعل فقد اختلف فيه النحويون فالبصريون يقولون يكون مستقبلا وحالا. والكوفيون يقولون: يكون مستقبلا لأن هذه الزوائد إنما جيء بها علامة للاستقبال، وفاعل عند البصريين كيفعل، وهو عند الكوفيين للحال إلّا أن يكون مجازا. [سورة التوبة (9) : آية 74] يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ يدلّ على أن المنافقين كفار وفي قوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [المنافقون: 3] دليل قاطع. وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ (أن) في موضع نصب. فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ شرط ومجازاة، وكذا وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ. [سورة التوبة (9) : آية 75] وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ في موضع رفع. [سورة التوبة (9) : آية 77] فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً مفعولان. إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ في موضع خفض. [سورة التوبة (9) : آية 79] الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ في موضع رفع بالابتداء والأصل المتطوّعين أدغمت التاء في الطاء. وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ في موضع خفض عطف على المؤمنين ولا يجوز أن يكون عطفا على المطّوّعين لأنك لو عطفت عليهم

[سورة التوبة (9) : آية 81]

لعطفت على الاسم قبل أن يتمّ لأن فَيَسْخَرُونَ عطف على يلمزون. سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ خبر الابتداء. [سورة التوبة (9) : آية 81] فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ مفعول من أجله وإن شئت كان مصدرا. قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ ابتداء وخبر. حَرًّا على البيان. [سورة التوبة (9) : آية 82] فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا أمر فيه معنى التهديد، والأصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها، قَلِيلًا وكَثِيراً نصب على أنهما نعت لظرف أو لمصدر جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ مفعول من أجله للجزاء. [سورة التوبة (9) : آية 84] وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ حذفت لأنه مجزوم بلا. [سورة التوبة (9) : آية 86] وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا في موضع نصب أي بأن آمنوا. [سورة التوبة (9) : آية 87] رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ جمع خالفة أي النساء وقد يقال للرجل: خالفة وخالف إذا كان غير نجيب، إلّا أنّ فواعل جمع فاعلة ولا يجمع فاعل صفة على فواعل إلا في الشعر إلّا في حرفين وهما فارس وهالك فأما هالك فعلى المثل وأما فارس فلا يشكل. [سورة التوبة (9) : آية 88] لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) لكِنِ الرَّسُولُ ابتداء. وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ عطف عليه. جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في موضع الخبر. [سورة التوبة (9) : آية 89] أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ابتداء وخبر.

[سورة التوبة (9) : آية 90]

[سورة التوبة (9) : آية 90] وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ قرأ الأعرج والضحاك الْمُعَذِّرُونَ «1» ورويت هذه القراءة عن ابن عباس رواها أصحاب القراءات إلّا أنّ مدارها على الكلبي. وهي من أعذر إذا بالغ في العذر. وأما المعذّرون بالتشديد ففيه قولان: قال الأخفش والفراء «2» وأبو حاتم وأبو عبيد: الأصل المعتذرون ثم أدغمت فألقيت حركة التاء على العين ويجوز عندهم المعذّرون بضمّ العين لالتقاء الساكنين ولأن ما قبلها ضمّة ويجوز المعذّرون الذين يعتذرون ولا عذر لهم. قال أبو العباس محمد بن يزيد: ولا يجوز أن يكون فيه المعتذرين ولا يجوز الإدغام فيقع اللبس وذكر إسماعيل بن إسحاق أن الإدغام مجتنب على قول الخليل وسيبويه وأن سياق الكلام يدلّ أنّهم مذمومون لا عذر لهم. قال لأنهم جاءوا لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ولو كانوا من الضعفاء والمرضى أو الذين لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا أن يستأذنوا. قال أبو جعفر: أصل المعذرة والإعذار والتعذير من شيء واحد وهو مما يصعب ويتعذّر، وقول العرب «من عذير من فلان» معناه: قد أتى أمرا عظيما يستحقّ أن أعاقبه عليه ولم يعلم الناس به فمن يعذرني إن عاقبته. لِيُؤْذَنَ لَهُمْ نصب بلام كي. [سورة التوبة (9) : آية 91] لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ اسم ليس. ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ في موضع رفع اسم (ما) . [سورة التوبة (9) : آية 92] وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ الجملة في موضع نصب على الحال. حَزَناً مصدر. أَلَّا يَجِدُوا نصب بأن. قال الفراء «3» ويجوز «أن لا يجدون» يجعل «لا» بمعنى ليس، فهو عند البصريين بمعنى أنّهم لا يجدون.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 448، والبحر المحيط 5/ 86، وهذه قراءة زيد بن علي وأبي صالح وعيسى بن هلال ويعقوب والكسائي. (2) انظر معاني الفراء 1/ 448. [.....] (3) انظر معاني الفراء 1/ 448.

[سورة التوبة (9) : آية 93]

[سورة التوبة (9) : آية 93] إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ أي النساء اللواتي يخلفن أزواجهن. [سورة التوبة (9) : آية 97] الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً نصب على البيان. وَنِفاقاً عطف عليه. وَأَجْدَرُ عطف على أشدّ أَلَّا في موضع نصب بأن كما يقال: أنت خليق أن تفعل ولا يجوز أنت خليق الفعل. قال أبو إسحاق: لأن «ما» بعد أن يدلّ على أنّ الفعل مستقبل يجعل الحذف عوضا، وقال غيره: الحذف لطول الكلام. [سورة التوبة (9) : آية 98] وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ في موضع رفع بالابتداء. ما يُنْفِقُ مَغْرَماً مفعولان، والتقدير: ينفقه حذفت الهاء لطول الاسم. عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ هذه قراءة أهل الحرمين وأهل الكوفة إلّا أن مجاهدا وأبا عمرو وابن محيصن قرءوا دائِرَةُ السَّوْءِ «1» بضم السين وأجمعوا على فتح السين في قوله جلّ وعزّ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ [مريم: 28] والفرق بينهما- وهو قول الأخفش والفراء: أن السّوء بالضم المكروه. قال الأخفش: أي عليهم دائرة الهزيمة والشرّ. قال الفراء: أي عليهم دائرة العذاب والبلاء قالا: ولا يجوز امرأ سوء بالضم كما لا يقال: هو امر عذاب ولا شرّ، وحكي عن محمد بن يزيد قال: السوء بالفتح الرداءة قال: وقال سيبويه: مررت برجل صدق. معناه برجل صلاح، وليس من صدق اللسان ولو كان من صدق اللسان لما قلت: مررت بثوب صدق ومررت برجل سوء ليس هو من مصدر سؤته سوءا ومساءة وسوائية ومسائية «2» سؤته، وإنما معناه مررت برجل فساد، وقال الفراء: السّوء بالفتح مصدر سؤته سوءا ومساءة وسوائية ومسائية. [سورة التوبة (9) : الآيات 99 الى 100] وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)

_ (1) انظر تيسير الداني 97، ومعاني الفراء 1/ 449، والبحر المحيط 5/ 95. (2) انظر معاني الفراء 1/ 450.

[سورة التوبة (9) : آية 101]

قُرُباتٍ الواحدة قربة والجمع قرب وقربات وقربات وقد ذكرنا علله. قال أبو جعفر: قال الأخفش: ويقال: قربة. وحكى ابن سعدان أن يزيد بن القعقاع قرأ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ «1» . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ «2» رفعا عطفا على السابقين. قال الأخفش: الخفض في الأنصار الوجه لأنه السابقين منهما. أَبَداً ظرف زمان ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ابتداء وخبر. [سورة التوبة (9) : آية 101] وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ ابتداء أي قوم منافقون. وقد ذكرنا أنّ المنافق مشتقّ من النافقاء، وفي الحديث «المنافق الذي إذا حدّث كذّب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان» «3» . وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ يكون قولك مردوا نعتا للمنافقين، ويجوز أن يكون تقديره ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق. [سورة التوبة (9) : آية 103] خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وهي الزكاة المفروضة فيما روي وفيها خمسة أوجه: قال أبو إسحاق: الأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي فإنك تطهّرهم وتزكّيهم بها، ويجوز أن يكون في موضع الحال. قال الأخفش: ويجوز أن تكون للصدقة، ويكون اتَّبَعُوهُمْ توكيدا، ويجوز أن يكون تطهّرهم للصدقة وتزكّيهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والوجه الخامس أن تجزم على جواب الأمر كما قال امرؤ القيس: [الطويل] 192- قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان «4»

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 96. (2) انظر البحر المحيط 5/ 96، وهذه قراءة الحسن وعيسى الكوفي وسلام وسعيد بن أبي سعيد وطلحة ويعقوب والأنصار جميعا. (3) أخرجه الترمذي في سننه باب الإيمان 10/ 97. (4) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 173 (دار صادر) وعجزه: «ورسم عفت آياته منذ أزمان»

[سورة التوبة (9) : آية 104]

وَصَلِّ عَلَيْهِمْ فيه جوابان: أحدهما أنه منسوخ بقوله جلّ وعزّ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [التوبة: 84] ، والآخر أنه غير منسوخ وأنّ المعنى وادع لهم إذا جاءوك بالصدقات، وكذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يفعل والعلماء على هذا ويدلّ عليه إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ أي إذا دعوت لهم حين يأتونك بصدقاتهم سكّن ذلك قلوبهم وفرحوا وبادروا رغبة في دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم. وحكى أهل اللغة جميعا فيما علمناه أن الصلاة في كلام العرب الدعاء، ومنه الصلاة على الجنازة. [سورة التوبة (9) : آية 104] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ فتحت (أنّ) يعلموا، ولو كان في خبرها اللام لكسرتها وهي فاصلة وإن شئت مبتدأة. [سورة التوبة (9) : آية 105] وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ هذا من رؤية العين لا غير لأنه لم يتعدّ إلا إلى مفعول واحد. [سورة التوبة (9) : آية 106] وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ معطوف والتقدير ومنهم آخرون مرجئون لأمر الله من أرجأته أخّرته، ومنه قيل: المرجئة لأنهم أخّروا العمل، ومن قرأ مُرْجَوْنَ «1» فله تقديران: أحدهما أن يكون من أرجيته، وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال: لا يقال: أرجيته بمعنى أخّرته ولكن يكون من الرجاء. إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ «إما» في العربية لأحد الأمرين، والله جلّ وعزّ عالم بمصير الأشياء ولكن المخاطبة للعباد على ما يعرفون أي ليكن أمرهم عندكم على الرجاء لأنه ليس للعباد أكثر من هذا. [سورة التوبة (9) : آية 107] وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً معطوف أي: ومنهم الذين اتخذوا مسجدا، ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء، ومن قرأ الَّذِينَ بلا واو وهي قراءة المدنيين فهو

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 101، وتيسير الداني 97.

[سورة التوبة (9) : آية 108]

عنده رفع بالابتداء لا غير، وفي الخبر قولان: زعم الكسائي أن التقدير: الذين اتخذوا مسجدا لا تقم فيه أبدا أي لا تقم في مسجدهم كما قال: [السريع] 193- من باب من يغلق من داخل «1» قال: يريد من باب من يغلق بابه من داخل. قال أبو جعفر: هذا خطأ عند البصريين ولا يجوز في شعر ولا غيره ولو جاز هذا لقلت: الذي اشتريت عمرو بمعنى الذي اشتريت داره عمرو. قال أبو جعفر: يكون خبر الابتداء لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم. ضِراراً مصدر مفعول من أجله. وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً عطف كله. [سورة التوبة (9) : آية 108] لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) لَمَسْجِدٌ ابتداء. أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى نعت. أَحَقُّ خبر الابتداء. أَنْ تَقُومَ فِيهِ في موضع نصب أي بأن تقوم فيه. قال سعيد بن المسيب: المسجد الذي أسّس على التقوى مسجد المدينة الأعظم، وروي عن ابن عباس أنه مسجد قباء، وكذا قال الضحاك وقد ذكرنا الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عنه فقال: هو مسجدي هذا. فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا قال الشّعبي: هم أهل مسجد قباء أنزل الله جلّ وعزّ فيهم هذا. قال أبو جعفر: يكون على قول الشعبي فيه لمسجد قباء ويكون الضميران مختلفين، وقد يجوز أن يكونا متّفقين ويكونا لمسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم. [سورة التوبة (9) : آية 109] أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) أَفَمَنْ أَسَّسَ «2» بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ من بمعنى الذي وهو في موضع رفع بالابتداء وخبره خَيْرٌ، أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عطف على الأولى، وهذه قراءة زيد بن ثابت وبها قرأ نافع. وفيه أربع قراءات سوى هذه القراءة: قرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع وأبو عمرو وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ بفتح الهمزة ونصب البنيان وهو اختيار أبي عبيد لكثرة من قرأ به وأن الفاعل

_ (1) الشاهد بلا نسبة في الدرر 1/ 298، وهمع الهوامع 1/ 90، وشرح جمل الزجاجي لابن عصفور 1/ 82، ويروى هكذا: «أعوذ بالله وآياته ... من باب من يغلق من خارج» (2) هذه قراءة نافع وابن عامر، انظر البحر المحيط 5/ 103، وتيسير الداني 98.

[سورة التوبة (9) : آية 110]

سمّي فيه، وقرأ نصر بن عاصم أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ «1» رفع أسسا بالابتداء وخفض بنيانه بالإضافة والخبر عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ والجملة في الصلة وأسس وأسّ بمعنى واحد مثل عرب وعرب. قال أبو حاتم: وقرأ بعض القرّاء افمن أساس بنيانه «2» . قال أبو جعفر: أساس واحد وجمعه أسس، والقراءة الخامسة حكاها أبو حاتم أيضا وهي افمن أساس بنيانه «3» وهذا جمع أسّ كما يقال: خفّ وأخفاف والكثير أساس مثل خفاف وقال الشاعر: [الخفيف] 194- أصبح الملك ثابت الآساس ... بالبهاليل من بني العبّاس «4» خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ مثل الأول. عَلى شَفا والتثنية شفوان والجمع أشفاء وشفيّ وشفيّ وجرف وجرفة هار، والأصل هائر، وزعم أبو حاتم أن الأصل فيه هاور ثم يقال: هائر مثل صائم ثم يقلب فيقال: هار، وزعم الكسائي أنه يكون من ذوات الواو ومن ذوات الياء وأنه يقال: تهوّر وتهيّر. وحكى أبو عبيد أنّ أبا عمرو بن العلا كان يحبّ أن يميل إذا كانت الراء مكسورة بعد ألف فإن كانت مفتوحة أو مضمومة لم يمل. قال أبو جعفر: هذا قول الخليل وسيبويه «5» والعلّة عندهما في ذلك أنّ الراء إذا كانت مكسورة فكأنّ فيها كسرتين للتكرير الذي فيها فحسنت الإمالة فإذا كانت مفتوحة فكأنّ فيها فتحتين فلا تجوز الإمالة وكذا إذا كانت مضمومة نحو وَبِئْسَ الْقَرارُ [إبراهيم: 29] ، وأما «كافر» فإنما أميل لكسرة الفاء. [سورة التوبة (9) : آية 110] لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ خبر لا يزال. [سورة التوبة (9) : آية 111] إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ اسم أنّ. وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا مصدران مؤكّدان. وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ مِنَ في موضع رفع بالابتداء وخبره أَوْفى.

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 103، ومختصر ابن خالويه 55. (2) انظر البحر المحيط 5/ 103، ومختصر ابن خالويه 55. (3) انظر معاني الفراء 1/ 452. (4) الشاهد للحافظ ابن حجر في تاج العروس (بهل) ، ولسديف بن ميمون في طبقات الشعراء لابن المعتز 39. [.....] (5) انظر الكتاب 4/ 248.

[سورة التوبة (9) : آية 112]

[سورة التوبة (9) : آية 112] التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) التَّائِبُونَ رفع على إضمار مبتدأ عند أكثر النحويين أي هم التائبون وفيه قولان سوى هذا: قال أبو إسحاق يجوز أن يكون بدلا أي يقال التائبون، قال: ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء قال: وهو أحسن عندي، ويكون التقدير التائبون لهم الجنة وفي قراءة عبد الله التائبين العابدين الحامدين «1» وفيه تقديران يكون نعتا للمؤمنين في موضع خفض ويكون منصوبا على المدح. [سورة التوبة (9) : آية 114] وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ اسم كان، والخبر إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ والموعدة عند العلماء كانت من أبي إبراهيم لإبراهيم عليه السلام. قال أبو إسحاق: يروى أنّه وعده أنّه يسلم فاستغفر له، وقال غيره: لا يجوز أن يكون استغفر له إلّا وقد أسلم ولكنّه وعده أنّه يظهر إسلامه فاستغفر له فلمّا لم يظهره تبيّن له أنّه عدوّ لله فتبرّأ منه. قال أبو إسحاق: لما أقام على الكفر تبيّن له أنه عدو لله، وروى سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: فلمّا تبيّن له أنه عدوّ لله، قال مات كافرا. إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ اسم أنّ وخبرها. [سورة التوبة (9) : آية 117] لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في موضع خفض على النعت للمهاجرين والأنصار، مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ سيبويه «2» يجوز أن ترفع القلوب بتزيغ ويضمر في كاد الحديث، وإن شئت رفعتها بكاد، ويكون التقدير من بعد ما كان قلوب فريق منهم تزيغ، وزعم أبو حاتم أنّ من قرأ «يزيغ» «3» بالياء فلا يجوز له أن يرفع القلوب بكاد. قال أبو جعفر: والذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجميع. حكى الفراء: رحبت البلاد وأرحبت، ورحبت لغة أهل الحجاز.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 453، والبحر المحيط 5/ 106. (2) انظر الكتاب 1/ 119. (3) هذه قراءة حمزة وحفص، انظر البحر المحيط 5/ 111، وتيسير الداني 98.

[سورة التوبة (9) : آية 119]

[سورة التوبة (9) : آية 119] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ أي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن اتّبعه وروى شعبة عن عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: الكذب ليست فيه رخصة اقرءوا إن شئتم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ أهل ترون في الكذب رخصة لأحد؟ [سورة التوبة (9) : آية 120] ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ اسم كان. ذلِكَ في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ رفع بيصيبهم أي عطش. وَلا نَصَبٌ عطف أي تعب و «لا» زائدة للتوكيد وكذا وَلا مَخْمَصَةٌ أي مجاعة. وَلا يَطَؤُنَ عطف على يصيبهم يَغِيظُ في موضع نصب لأنه نعت لموطئ أي غائظا. وَلا يَنالُونَ قال الكسائي: هو من قولهم أمر منيل وليس من التناول إنّما التناول من نلته بالعطيّة. [سورة التوبة (9) : آية 121] وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً والعرب تقول: واد ووادية، ولا يعرف فيما علمت فاعل وأفعلة سواه، والقياس أن يجمع ووادي فاستثقلوا الجمع بين واوين وهم يستثقلون واحدة حتى قالوا: أقّتت في وقّتت، وقال الخليل وسيبويه: في تصغير واصل اسم رجل أو يصل ولا يقولون غيره، وحكى الفراء في جمع واد أوداء. [سورة التوبة (9) : آية 122] وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً لفظ خبر ومعناه أمر. قال أبو إسحاق: ويجوز والله أعلم أن تكون هذه الآية تدلّ على أن بعض المسلمين يجزي عن بعض في الجهاد. فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ قال الأخفش: أي فهلّا نفر. [سورة التوبة (9) : آية 123] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)

[سورة التوبة (9) : آية 127]

قرأ أبان بن تغلب وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً «1» وروى المفضل عن الأعمش وعاصم وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً «2» بفتح الغين وإسكان اللام. قال الفراء: لغة أهل الحجاز وبني أسد «3» غلظة بكسر الغين ولغة تميم غلظة بضم الغين. [سورة التوبة (9) : آية 127] وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) يجوز أن يكون صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ دعاء عليهم أي قولوا لهم هذا ويجوز أن يكون خبرا. [سورة التوبة (9) : آية 128] لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ رفع بجاءكم، عَزِيزٌ عَلَيْهِ نعت وكذا حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ وكذا رَؤُفٌ رَحِيمٌ قال الفراء» : فلو قرئ: عزيزا عليه ما عنتّم حريصا رؤوفا رحيما، نصبا جاز بمعنى لقد جاءكم كذلك. قال أبو جعفر: عنتّم من قوله: أكمة عنوت إذا كانت شاقّة مهلكة. وأحسن ما قيل في هذا المعنى مما هو موافق لكلام العرب ما حدّثنا به أحمد بن محمد الأزديّ قال: حدّثني عبد الله بن محمد الخزاعي قال: سمعت عمرو بن علي يقول: سمعت عبد الله بن داود الجريبيّ يقول في قول الله جلّ وعزّ لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ قال: إن تدخلوا النار، حريص عليكم؟ قال: إن تدخلوا الجنة. [سورة التوبة (9) : آية 129] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ابتداء وخبر وكذا وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ومن رفع العظيم جعله نعتا لربّ.

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 118. (2) انظر البحر المحيط 5/ 118. (3) انظر البحر المحيط 5/ 118. (4) انظر معاني الفراء 1/ 456.

10 شرح إعراب سورة يونس ع

10 شرح إعراب سورة يونس ع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة يونس (10) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) قال أبو جعفر: قرأ عليّ أحمد بن شعيب بن علي بن الحسين بن حريث قال: أخبرنا علي بن الحسين عن أبيه عن يزيد أن عكرمة حدّثه عن ابن عباس: الر وحم ونون الرحمن مفرّقة فحدثت به الأعمش فقال: عندك أشباه هذا ولا تخبرني. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا في سورة البقرة أن ابن عباس رحمة الله عليه قال: معنى «الر» أنا الله أرى. ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول لأن سيبويه قد حكى مثله عن العرب وأنشد: [الرجز] 195- بالخير خيرات وإن شرّا فا ... ولا أريد الشّرّ إلّا أن تا «1» قال سيبويه: يريد إن شرّا فشرّ ولا أريد الشر إلّا أن تشاء. وقال الحسن وعكرمة «الر» قسم، وقال سعيد «2» عن قتادة «الر» اسم السورة، قال: وكذا كل هجاء في القرآن، وقال مجاهد: هي فواتح السور، وقال محمد بن يزيد: هي تنبيه وكذا حروف التهجّي. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ابتداء وخبر أي تلك التي جرى ذكرها آيات الكتاب الحكيم، وإن شئت كان التقدير هذه تلك آيات الكتاب الحكيم. قال أبو عبيدة «3» : الحكيم المحكم. أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً خبر كان، واسمها أَنْ أَوْحَيْنا وفي قراءة عبد الله أكان

_ (1) الشاهد لنعيم بن أوس في الدرر 6/ 307، وشرح أبيات سيبويه 2/ 320، وللقيم بن أوس في نوادر أبي زيد ص 126، ولحكيم بن معيّة التميمي وللقمان بن أوس بن ربيعة في لسان العرب (معي) ، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 355، وشرح شافية ابن الحاجب 262، ولسان العرب (تا) ، وما ينصرف وما لا ينصرف ص 118، ونوادر أبي زيد 127، وهمع الهوامع 2/ 210، اللغة: إن شرا فا: أي: إن أردت بي شرا فلك مني شرّ، وإلا أن تا: إلا أن تريده لي. (2) انظر تفسير الطبري 1/ 66. (3) انظر مجاز القرآن 1/ 272.

[سورة يونس (10) : آية 3]

للناس عجب «1» على أنه اسم كان، والخبر أَنْ أَوْحَيْنا، أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ في موضع نصب أي بأن أنذر الناس وكذا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ ويجوز أنّ لهم قدم صدق بمعنى قل. [سورة يونس (10) : آية 3] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) ما مِنْ شَفِيعٍ في موضع رفع والمعنى ما شفيع إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ. [سورة يونس (10) : آية 4] إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ رفع بالابتداء جَمِيعاً على الحال. وَعْدَ اللَّهِ مصدر لأنّ معنى مرجعكم وعدكم. حَقًّا مصدر نصبا وأجاز الفراء «2» «وعد الله» بالرفع بمعنى مرجعكم إليه وعد الله. قال أحمد بن يحيى ثعلب يجعله خبر مرجعكم، وأجاز الفراء «وعد الله حقّ» وقرأ يزيد بن القعقاع إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ «3» يكون «أنّ» في موضع نصب أي وعدكم أنه يبدأ الخلق، ويجوز أن يكون التقدير: لأنه يبدأ الخلق كما يقال: لبّيك أن الحمد والنّعمة لك، والكسر أجود، وأجاز الفراء «4» أن يكون «أنّ» في موضع رفع. قال أحمد بن يحيى: يكون التقدير: حقا ابتداء الخلق. [سورة يونس (10) : آية 5] هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً مفعولان. وَالْقَمَرَ نُوراً عطف. وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ بمعنى وقدّر له مثل وَإِذا كالُوهُمْ [المطففين: 3] ويجوز أن يكون المعنى قدّره ذا منازل مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وقدّره ولم يقل: وقدّرهما والشمس والقمر جميعا منازل، ففي هذا جوابان: أحدهما أنه خصّ القمر لأن العامة به تعرف الشّهور، والجواب الآخر أنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه وأنشد سيبويه والفراء: [الطويل] 196- رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن جول الطّويّ رماني «5»

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 126. (2) انظر معاني الفراء 1/ 457، والبحر المحيط 5/ 129. (3) انظر مختصر ابن خالويه 56. [.....] (4) انظر معاني الفراء 1/ 457. (5) الشاهد لعمرو بن أحمر في ديوانه 187، والكتاب 1/ 125، والدرر 2/ 62، وشرح أبيات سيبويه 1/ 249، وله أو للأزرق بن طرفة بن العمرد الفراصي في لسان العرب (جول) . والطوي: البئر.

[سورة يونس (10) : آية 6]

لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ على أنها نون الجميع، وبعض العرب يقول: عدد السّنين والحساب، ومن العرب من يقول: سنوات ومنهم من يقول: سنهات والتصغير سنيهة وسنيّة وجاز جمعهما بالواو والنون عوضا مما حذف منها وكسر أولها دلالة على ما لحقها مما هو لغيرها. ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ أي ما أراد الله جلّ وعزّ بخلق ذلك إلّا الحكمة والصواب. [سورة يونس (10) : آية 6] إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) لَآياتٍ اسم «إنّ» . [سورة يونس (10) : الآيات 7 الى 8] إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا اسم إنّ، والخبر أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ. [سورة يونس (10) : آية 10] دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) دَعْواهُمْ ابتداء أي دعاؤهم فِيها سُبْحانَكَ مصدر. وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ابتداء وخبر وكذا وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ولم يحك أبو عبيد إلّا تخفيف «أن» ورفع ما بعدها قال: وإنما نراهم اختاروا هذا وفرقوا بينها وبين قوله جلّ وعزّ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ وأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ [النور: 9] لأنهم أرادوا الحكاية حين يقال: «الحمد لله» . قال أبو جعفر: مذهب الخليل وسيبويه «1» أنّ «أن» هذه مخفّفة من الثقيلة والمعنى: أنه الحمد لله، قال محمد بن يزيد: ويجوز أن الحمد لله. يعملها خفيفة عملها ثقيلة والرفع أقيس لأنها إنما أشبهت الفعل باللفظ لا بالمعنى فإذا نقصت عن الفعل لم تعمل عمله ومن نصب شبّهها بالفعل إذا حذف منه. قال أبو جعفر: وحكى أبو حاتم أن بلال بن أبي بردة قرأ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «2» . [سورة يونس (10) : آية 11] وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ قيل: معناه لو عجّل الله للناس من العقوبة كما يستعجلون الثواب والخير فعاقبهم لماتوا لأنهم خلقوا في

_ (1) انظر الكتاب 3/ 187. (2) انظر البحر المحيط 5/ 132، وهذه قراءة عكرمة ومجاهد وقتادة وابن يعمر وأبي مجلز وأبي حيوة وابن محيصن ويعقوب أيضا.

[سورة يونس (10) : آية 12]

الدنيا خلقا ضعيفا وليس هم كذا يوم القيامة لأنهم يوم القيامة يخلقون للبقاء. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا غير هذا القول، استعجالهم على قول الأخفش والفراء بمعنى كاستعجالهم ثم حذف الكاف ونصب قال الفراء «1» : كما تقول: ضربت زيدا ضربك أي كضربك فأما مذهب الخليل وسيبويه «2» . وهو الحقّ فإنّ التقدير فيه ولو يعجّل الله للناس الشرّ تعجيلا مثل استعجالهم بالخير ثم حذف تعجيلا وأقام صفته مقامه ثم حذف صفته وأقام المضاف إليه مقامه، مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ، وحكى سيبويه «3» : زيد شرب الإبل، ولو جاز ما قال الأخفش والفراء لجاز: زيد الأسد أي كالأسد فهذا بيّن جدا. قال أبو إسحاق: ويقرأ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ «4» وهي قراءة ابن عامر الشامي وهي قراءة حسنة لأنه متّصل بقوله جلّ وعزّ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ. قال الأخفش فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا مبتدأ قال ويَعْمَهُونَ أي يتحيّرون. [سورة يونس (10) : آية 12] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ في موضع نصب على الحال. أَوْ قاعِداً عطف على الموضع، والتقدير دعانا مضطجعا أو قاعدا أو قائما. كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا قال الأخفش: هي «أنّ» الثقيلة خفّفت كما قال: [الخفيف] 197- وي كأن من يكن له نشب يحبب ... ومن يفتقر يعش عيش ضرّ «5» [سورة يونس (10) : آية 14] ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ. مفعولان لِنَنْظُرَ نصب بلام كي. [سورة يونس (10) : آية 15] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا اسم ما لم يسمّ فاعله. قال أبو إسحاق بَيِّناتٍ نصب على الحال.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 458. (2) انظر الكتاب 1/ 272. (3) انظر الكتاب 1/ 400. (4) انظر تيسير الداني 99. (5) الشاهد لزيد بن عمرو بن نفيل في الكتاب 2/ 156، وخزانة الأدب 1/ 404، والدرر 5/ 305، وذيل سمط اللآلي ص 103، ولنبيه بن الحجاج في الأغاني 17/ 205، وشرح أبيات سيبويه 2/ 11، ولسان العرب (ويا) و (وا) ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص 353، والخصائص 3/ 41، وشرح المفصل 4/ 76، ومجالس ثعلب 1/ 389، والمحتسب 2/ 155، وهمع الهوامع 2/ 106، وقبله في الكتاب: «سألتاني الطلاق أن رأتاني ... قلّ مالي، قد جئتماني بنكر»

[سورة يونس (10) : آية 16]

[سورة يونس (10) : آية 16] قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ أي لو شاء الله ما أرسلني إليكم فتلوت عليكم القرآن ولا أعلمكم به أي القرآن. قال أبو حاتم: سمعت الأصمعي يقول: سألت أبا عمرو بن العلاء عن قراءة الحسن ولا أدرأتكم به «1» أله وجه؟ قال: لا قال أبو عبيد: لا وجه لقراءة الحسن «ولا أدرأتكم به» إلّا على الغلط. معنى قول أبي عبيد إن شاء الله على الغلط أنه يقال: دريت أي علمت وأدريت غيري، ويقال: درأت أي دفعت فيقع الغلط بين دريت وأدريت ودرأت، وقال أبو حاتم: يريد الحسن فما أحسب ولا أدريتكم به فأبدل من الياء ألفا على لغة بني الحارث بن كعب لأنهم يبدلون من الياء ألفا إذا انفتح ما قبلها مثل إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: 63] . قال أبو جعفر هذا غلط لأن الرواية عن الحسن ولا أدرأتكم به بالهمز وأبو حاتم تكلّم على أنه بغير همز ويجوز أن يكون من درأت إذا دفعت، أي: ولا أمرتكم أن تدفعوا وتتركوا الكفر بالقرآن. فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ في الكلام حذف والتقدير فقد لبثت فيكم عمرا من قبله تعرفوني بالصدق والأمانة لا أقرأ ولا أكتب ثم جئتكم بالمعجزات أَفَلا تَعْقِلُونَ أن هذا لا يكون إلّا من عند الله جلّ وعزّ. [سورة يونس (10) : آية 19] وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً اسم «كان» وخبرها. وَلَوْلا كَلِمَةٌ رفع بالابتداء سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في موضع النعت. [سورة يونس (10) : آية 20] وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ والأصل «أنني» حذفت النون، والمعنى منتظر من المنتظرين. [سورة يونس (10) : آية 21] وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً جواب إذا على قول الخليل وسيبويه إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا

_ (1) وهذه قراءة ابن عباس وابن سيرين وأبي رجاء أيضا، انظر البحر المحيط 5/ 137، ومعاني الفراء 1/ 459.

[سورة يونس (10) : آية 22]

والتقدير مكروا. قال مجاهد: إذا لهم مكر في آياتنا استهزاء وتكذيب. قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ ابتداء وخبر. مَكْراً على البيان. [سورة يونس (10) : آية 22] هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ ابتداء وخبر، وفي يسيّركم معنى التكثير ويسيركم للقليل والكثير، وقرأ يزيد ابن القعقع هو الذي ينشركم «1» وهي المعروفة من قراءة الحسن، ويسيّركم أشبه بقوله جلّ وعزّ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ والْفُلْكِ يذكّر ويؤنّث ويكون واحدا وجمعا لفلك كما يقال: وثن ووثن. جاءَتْها الهاء تعود على الفلك ويجوز أن تعود على الريح الطيّبة رِيحٌ عاصِفٌ. [سورة يونس (10) : آية 23] فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّما بَغْيُكُمْ رفع بالابتداء وخبره مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا «2» ويجوز أن يكون خبره عَلى أَنْفُسِكُمْ وتضمر مبتدأ أي ذلك متاع الحياة الدنيا أو هو متاع الحياة الدنيا وبين المعنيين فرق لطيف إذا رفعت متاعا على أنه خبر بغيكم فالمعنى إنما بغي بعضكم على بعض مثل فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النور: 61] وكذا لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة 128] وإذا كان الخبر على أنفسكم فالمعنى إنما فسادكم راجع عليكم مثل وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: 7] وقرأ ابن أبي إسحاق مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا بالنصب على أنه مصدر أي تمتّعون متاع الحياة الدنيا. [سورة يونس (10) : آية 24] إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا ابتداء. كَماءٍ خبره والكاف في موضع رفع. أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ نعت لما. فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ عطف. حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ الأصل تزيّنت أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل لأن الحرف المدغم مقام

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 141، ومعاني الفراء 1/ 460. (2) انظر البحر المحيط 5/ 143، وتيسير الداني 99.

[سورة يونس (10) : آية 26]

حرفين الأول منهما ساكن، وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية وَازَّيَّنَتْ «1» أي جاءت بالزينة وجاء بالفعل على أصله ولو أعلّه لقال أزانت، قال عوف الأعرابي: قرأ أشياخنا وازيانّت ووزنه واسوادّت وفي رواية المقدّمي وازّاينت «2» والأصل فيه تزاينت ووزنه تفاعلت ثم أدغم، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها قال أبو إسحاق: المعنى قادرون على الانتفاع بها. أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً ظرفان. فَجَعَلْناها حَصِيداً مفعولان. [سورة يونس (10) : آية 26] لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى في موضع رفع بالابتداء. وَزِيادَةٌ عطف عليها. قال أبو جعفر وقد ذكرنا الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّ الزيادة النظر إلى الله تعالى وقيل: الزيادة أن تضاعف الحسنة عشر حسنات إلى أكثر من ذلك. قرأ الحسن وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ «3» ، والقتر والقتر والقترة بمعنى واحد. [سورة يونس (10) : آية 27] وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) قِطَعاً جمع قطعة. مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً حال من الليل ويبعد أن يكون نعتا لقطع لأنه لم يقل: مظلمة، وقرأ الكسائي قِطَعاً بإسكان الطاء فمظلما على هذا نعت ويجوز أن يكون حالا من الليل. [سورة يونس (10) : آية 28] وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) قال الفراء «4» وقرأ بعضهم (فزايلنا بينهم) . يقال: لا أزايل فلانا أي لا أفارقه، فإن قلت: لا أزاوله فهو بمعنى آخر معناه لا أخاتله. [سورة يونس (10) : آية 29] فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) شَهِيداً نصب على التمييز. قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون منصوبا على الحال.

_ (1) انظر المحتسب 1/ 311، والبحر المحيط 5/ 145. (2) انظر البحر المحيط 5/ 145. [.....] (3) انظر البحر المحيط 5/ 149. (4) انظر معاني الفراء 1/ 462.

[سورة يونس (10) : آية 30]

[سورة يونس (10) : آية 30] هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) هُنالِكَ في موضع نصب على الظرف أي في ذلك الوقت تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ واللام زائدة كسرت لالتقاء الساكنين والكاف للخطاب لا موضع لها وقال زهير: [الطويل] 198- هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا ... وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا «1» وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ في موضع خفض على النعت، وكذا الحقّ، ويجوز نصب الحق من ثلاث جهات: يكون التقدير ردّوا حقّا ثم جيء بالألف واللام، ويجوز أن يكون التقدير مولاهم حقّا لا ما يعبدون من دونه، والوجه الثالث أن يكون مدحا أي أعني الحقّ. ويجوز أن ترفع الحقّ ويكون المعنى مولاهم الحقّ لا ما يشركون من دونه وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ في موضع رفع وهي بمعنى المصدر أي افتراؤهم. [سورة يونس (10) : آية 32] فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ويجوز نصب الحق على ما تقدّم. [سورة يونس (10) : آية 33] كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ. المعنى بأنّهم ولأنهم فإنّ في موضع نصب. قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون في موضع رفع على البدل من كلمات. قال الفراء «2» : يجوز أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بكسر إنّ على الاستئناف. [سورة يونس (10) : آية 35] قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) أَمَّنْ قال الأخفش: إن قال قائل: كيف دخلت أم على من؟ قيل: لأن أم والألف أصل الاستفهام، ألا ترى أنّ أم تدل على هل. قال أبو جعفر: في أَمَّنْ لا يَهِدِّي

_ (1) الشاهد لزهير في ديوانه ص 112، ولسان العرب (خبل) ، و (خول) ، وتهذيب اللغة 7/ 425، وجمهرة اللغة 293، ومقاييس اللغة 2/ 234، والمخصص 7/ 159، ومجمل اللغة 2/ 237، وتاج العروس (خبل) وديوان الأدب 2/ 323، وهو في الديوان: «هنالك إن يستخولوا المال يخولوا ... وإن يسألوا يعصوا وإن ييسروا يغلوا» (2) انظر معاني الفراء 1/ 363.

[سورة يونس (10) : آية 37]

خمس قراءات «1» : قرأ أبو عمرو وابن كثير وعبد الله بن عامر أم من لا يهدّي بفتح الياء والهاء وتشديد الدال، وكذا روى ورش عن نافع وحدّثني إبراهيم بن محمد بن عرفة «2» قال: حدّثني إسماعيل بن إسحاق قال: حدّثني قالون عن نافع أنه قرأ أم من لا يهدّي بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال. قال أبو عبيد: وقرأ عاصم أَمَّنْ لا يَهِدِّي بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال، وقال الكسائي قرأ عاصم أم من لا يهدي بكسر الياء والهاء وتشديد الدال فهذه أربع قراءات، وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش وحمزة والكسائي أم من لا يهدي بفتح الياء وتسكين الهاء وتخفيف الدال. قال أبو جعفر: القراءة الأولى بيّنة في العربية الأصل فيها يهتدي أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها على الهاء، والقراءة الثالثة هي المعروفة عن عاصم والحسن وأبي رجاء أدغمت الياء في الدال وكسرت الهاء لالتقاء الساكنين، والقراءة الثانية التي رواها قالون عن نافع يحكي فيها الجمع بين ساكنين وهذا لا يجوز ولا يقدر أحد أن ينطق به. قال محمد بن يزيد: لا بدّ لمن رام مثل هذا أن يحرّك حركة خفيفة إلى الكسر وسيبويه يسمّي هذا اختلاس الحركة، وأما كسر الياء مع الهاء الذي رواه الكسائي عن عاصم فلا يجوز عند سيبويه «3» ، وسيبويه يجيز تهدي ويهدي وأهدي ولا يجيز يهدي لأن الكسر في الياء ثقيل، وأما القراءة الخامسة أم من لا يهدي فلها وجهان في العربيّة وإن كانت بعيدة فأحد الوجهين أن الكسائي والفراء «4» قالا: يهدي بمعنى يهتدي. قال أبو العباس: لا يعرف هذا ولكن التقدير أم من لا يهدي غيره تمّ الكلام، ثم قال: إِلَّا أَنْ يُهْدى استثناء ليس من الأول أي لكنه يحتاج إلى أن يهدى كما تقول: فلان لا يشبع غيره إلّا أن يشبع أي لكنه يحتاج أن يشبع. قال أبو إسحاق فَما لَكُمْ تمّ الكلام والمعنى أي شيء لكم في عبادة الأوثان. كَيْفَ تَحْكُمُونَ قال: كَيْفَ في موضع نصب والمعنى على أي حال. [سورة يونس (10) : آية 37] وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ قال الكسائي: المعنى وما كان هذا القرآن افتراء

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 157، وتيسير الداني 99. (2) إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي العتكي أبو عبد الله من أحفاد المهلب بن أبي صفرة إمام في النحو، وكان فقيها رأسا في مذهب داود، مسندا في الحديث ثقة. وكان يؤيّد مذهب سيبويه في النحو فلقبوه (نفطويه) (ت 323 هـ) ترجمته في وفيات الأعيان 1/ 11، ولسان الميزان 1/ 109 وتاريخ بغداد 6/ 159. (3) انظر الكتاب 4/ 228. (4) انظر معاني الفراء 1/ 464.

[سورة يونس (10) : آية 38]

كما تقول: فلان يحبّ أن يركب ويحبّ الركوب وقال غيره: التقدير لأن يفترى وقال الفراء: المعنى وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى، وقال غيره: المعنى ما كان لأحد أن يأتي بمثل هذا القرآن من عند غير الله ثم ينسبه إلى الله لإعجازه لرصفه ومعانيه وتأليفه. وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ قال الكسائي والفراء «1» ومحمد بن سعدان: التقدير: ولكن كان تصديق الذي بين يديه ويجوز عندهم الرفع بمعنى ولكن هو تصديق، وكذا وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. [سورة يونس (10) : آية 38] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بمعنى بل، وفيه معنى التقدير لإقامة الحجّة عليهم. [سورة يونس (10) : آية 39] بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ أي كذّبوا به وهم جاهلون بمعانيه وتفسيره وعليهم أن يعملوا ذلك بالسؤال وَلَمَّا يَأْتِهِمْ أي كذّبوا به ولم يعرفوا تفسيره وقيل: ولم يأتهم ما يؤول إليه أمره: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كذا كانت سبيلهم والكاف في موضع نصب. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ «كيف» في موضع نصب خبر كان. [سورة يونس (10) : آية 40] وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي في المستقبل و «من» في موضع رفع بالابتداء وكذا وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ والمعنى ومنهم من يصرّ على كفره فأعلم الله جلّ وعزّ إنما أخّر عنهم العقوبة لأن منهم من سيؤمن وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ أي بمن يصرّ على الكفر. [سورة يونس (10) : آية 41] وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي رفع بالابتداء والمعنى لي جزاء عملي وكذا وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ مثله. [سورة يونس (10) : آية 42] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ على المعنى. [سورة يونس (10) : آية 43] وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ على اللفظ.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 465.

[سورة يونس (10) : آية 44]

[سورة يونس (10) : آية 44] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ زعم جماعة من النحويين منهم الفراء أن العرب إذا قالت: ولكنّ بالواو آثروا التشديد وإذا حذفوا الواو آثروا التخفيف واعتلّ في ذلك الفراء «1» فقال: لأنها إذا كانت بغير واو أشبهت «بل» فخفّفوها ليكون ما بعدها كما بعد بل وإذا جاءوا بالواو خالفت «بل» فشدّدوها ونصبوا بها لأنها إن زيدت عليها لام وكاف وصيّرت حرفا واحدا وأنشد: [الطويل] 199- ولكنّني من حبّها لكميد «2» فجاء باللام لأنها إنّ. [سورة يونس (10) : آية 45] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا بمعنى كأنّهم لم يلبثوا. يَتَعارَفُونَ في موضع نصب على الحال. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ يجوز أن يكون هذا إخبارا من الله جلّ وعزّ بعد أن دلّ على البعث والنشور، ويجوز أن يكون المعنى يتعارفون بينهم يقولون هذا. [سورة يونس (10) : آية 46] وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ شرط. أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ عطف عليه. فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ جواب. ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عطف جملة على جملة. قال الفراء «3» : ولو قيل: «ثمّ الله شهيد» بمعنى هناك جاز. [سورة يونس (10) : آية 47] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ يكون المعنى ولكلّ أمة رسول شاهد عليهم فإذا جاء رسولهم يوم القيامة قضي بينهم مثل فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 465. (2) الشاهد بلا نسبة في الأشباه والنظائر 4/ 38، والإنصاف 1/ 209، وتخليص الشواهد 357، والجنى الداني 132، ورصف المباني 235، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 380، وشرح الأشموني 1/ 141، وشرح شواهد المغني 2/ 605، وشرح ابن عقيل 184، وشرح المفصّل 8/ 62، وكتاب اللامات 158، ولسان العرب (لكن) ، ومغني اللبيب 1/ 233، والمقاصد النحوية 2/ 247، وهمع الهوامع 1/ 140، وهو بتمامه: «يلومونني في حبّ ليلى عواذلي ... ولكنني من حبّها لعميد» (3) انظر معاني الفراء 1/ 466.

[سورة يونس (10) : آية 50]

[النساء: 41] ويجوز أن يكون المعنى أنهم لا يعذّبون حتّى نرسل إليهم مثل وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] . [سورة يونس (10) : آية 50] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ظرفان. ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ إن جعلت الهاء في منه تعود على العذاب ففيه تقديران يكون «ما» في موضع رفع بالابتداء و «ذا» بمعنى الذي وهو خبر «ما» ، والتقدير الآخر أن يكون «ماذا» شيئا واحدا في موضع رفع بالابتداء والخبر في الجملة وإن جعلت الهاء في منه تعود على اسم الله جلّ وعزّ وجعلت «ماذا» شيئا واحدا كانت «ما» في موضع نصب بيستعجل. والمعنى: أي شيء يستعجل المجرمون من الله جلّ وعزّ. [سورة يونس (10) : آية 51] أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ في الكلام حذف والتقدير: أتأمنون أن ينزل بكم العذاب ثم يقال بكم إذا حلّ بكم الآن آمنتم به. وفي فتح الآن ثلاثة أقوال: منها قولان للفراء «1» أحدهما أن يكون أصلها «أو ان» حذفت الهمزة منها وقلبت الواو ألفا ثم جيء بالألف واللام فبنيت معها وبقيت على نصبها، والقول الثاني أن يكون أصلها من (آن) أي حان ثم دخلتها الألف واللام وبقيت على فتحها مثل قيل وقال، وزعم أبو إسحاق أنّ هذا لو كان كذا ما جاز أن يكون بالألف واللام كما يقال: نهى عن القيل والقال، والقول الثالث مذهب الخليل وسيبويه أن سبيل الألف واللام أن يدخلا لمعهود (والآن) ليس بمعهود وإنّما معناه نحن في هذا الوقت نفعل كذا فلما تضمّنت معنى هذا وجب أن لا يعرب ففتحت لالتقاء الساكنين. [سورة يونس (10) : آية 53] وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أي عن كون العذاب أَحَقٌّ ابتداء هُوَ فاعل سد مسد الخبر. هذا قول سيبويه ويجوز أن يكون «هو» مبتدأ و «حقّ» خبره. قُلْ إِي وَرَبِّي قسم، وجوابه إِنَّهُ لَحَقٌّ. [سورة يونس (10) : آية 55] أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي له ملك السموات والأرض فلا مانع يمنعه من إنفاذ ما وعد.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 468.

[سورة يونس (10) : آية 56]

[سورة يونس (10) : آية 56] هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) هُوَ يُحْيِ ولا يجوز الإدغام عند سيبويه لئلا يجتمع ساكنان. [سورة يونس (10) : آية 58] قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا إشارة إلى الفضل والرحمة، والعرب تأتي بذلك للواحد والاثنين والجميع، وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ فبذلك فلتفرحوا «1» وهي قراءة يزيد ابن القعقاع. قال هارون في حرف أبيّ فافرحوا «2» قال أبو جعفر: سبيل الأمر أن يكون باللام ليكون معه حرف جازم كما أنّ مع النهي حرفا إلّا أنّهم يحذفون من الأمر للمخاطب استغناء بمخاطبته وربّما جاءوا به على الأصل منه فبذلك فلتفرحوا. [سورة يونس (10) : آية 59] قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) ما في موضع نصب برأيتم، وقال أبو إسحاق: هي في موضع نصب بأنزل. [سورة يونس (10) : آية 61] وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ قال الفراء: الهاء في «منه» تعود على الشأن وهذا كلام يحتاج إلى شرح. يكون المعنى وما تتلو من الشأن أي من أجل الشأن أي يحدث شأن فيتلى من أجله القرآن ليعلم كيف حكمه، أو ينزل فيه قرآن فيتلى. يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا عطف على مثقال وإن شئت على ذرة، والرفع عطف على الموضع لأن «من» زائدة للتوكيد، ويجوز الرفع على الابتداء وخبره إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ زعم قوم من النحويين أنّ الّذي في «سبأ» «3» لا يجوز فيه إلّا الرفع لأنه ليس معه من ذلك غلط وسنذكره في موضعه إن شاء الله. [سورة يونس (10) : آية 62] أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ اسم إنّ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ في موضع الخبر أي من تولاه الله جلّ وعز وتولّى حفظه وحياطته ورضي عنه فلا يخاف يوم القيامة ولا يحزن ومثله لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] .

_ (1) وهذه قراءة أبيّ وابن عامر والحسن أيضا، انظر البحر المحيط 5/ 170، ومعاني الفراء 1/ 469. [.....] (2) انظر البحر المحيط 5/ 170. (3) سبأ: الآية 3.

[سورة يونس (10) : آية 63]

[سورة يونس (10) : آية 63] الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) الَّذِينَ آمَنُوا في موضع نصب على البدل من اسم «إنّ» وإن شئت على أعني والرفع على إضمار مبتدأ وعلى البدل من الموضع وعلى الابتداء، وخبره هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وفيه قول رابع قال الكسائي: يكون النعت تابعا للمضمر في الفعل. قال الفراء «1» : هذا خطأ لأن المضمر لا ينعت بالمظهر. قال أبو جعفر: أما قوله المضمر لا ينعت بالمظهر فصواب ولكن يجوز أن يكون الكسائي أراد أن هذا الذي يكون نعتا تابعا للمضمر كما يقول البصريون بدل لأن الكوفيين لا يأتون بهذه اللفظة أعني البدل. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا معنى هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وقد قيل في الحياة الدنيا عند الموت وفي الآخرة إذا خرجوا من قبورهم، وقبل: هو قوله جلّ وعزّ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ [التوبة: 21] الآية ويدلّ على هذا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ. [سورة يونس (10) : آية 65] وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ تمّ الكلام ثم قال إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً نصب على الحال. [سورة يونس (10) : آية 70] مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) قال الكسائي: مَتاعٌ فِي الدُّنْيا أي ذلك متاع أو هو متاع في الدنيا. قال أبو إسحاق: ويجوز النصب في غير القرآن. ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي بكفرهم. [سورة يونس (10) : آية 71] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ حذفت الواو لأنه أمر. إِذْ في موضع نصب فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ بقطع ألف الوصل ونصب الشركاء هذه قراءة أكثر الأئمة. وقرأ عاصم الجحدريّ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ من جمع يجمع وَشُرَكاءَكُمْ نصب، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب فأجمعوا أمركم وشركاؤكم «2» بقطع الألف ورفع الشركاء. القراءة الأولى من أجمع على الشيء يجمع إذا عزم عليه وفي نصب الشركاء على هذه القراءة ثلاثة أقوال: قال الفراء «3» أجمع الشيء أي عدّه، وقال الكسائي

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 471. (2) انظر معاني الفراء 1/ 473، والبحر المحيط 5/ 177. (3) انظر معاني الفراء 1/ 473.

[سورة يونس (10) : آية 72]

والفراء: هو بمعنى وادعوا شركاءكم فهو منصوب عندهما على إضمار هذا الفعل، وقال محمد بن يزيد: هو معطوف على المعنى كما قال: [مجزوء الكامل] 200- يا ليت زوجك قد غدا ... متقلّدا سيفا ورمحا «1» والرمح لا يتقلّد إلّا أنه محمول كالسيف، وقال أبو إسحاق: المعنى مع شركائكم كما يقال: التقى الماء والخشبة. والقراءة الثانية على العطف على أمركم وإن شئت بمعنى مع. قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يجيز قام زيد وعمرا. والقراءة الثالثة على أن يعطف الشركاء على المضمر المرفوع وحسن العطف على المضمر المرفوع لأن الكلام قد طال، وهذه القراءة تبعد لأن لو كان مرفوعا لوجب أن يكتب بالواو وأيضا فإنّ شركاءكم الأصنام والأصنام لا تصنع شيئا. ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً اسم يكون وخبرها. ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ ألف وصل من قضى يقضي. قال الأخفش والكسائي: هو مثل وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ [الحجر: 66] أي أنهيناه إليه وأبلغناه إيّاه وروي عن ابن عباس: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ قال: امضوا إليّ ولا تؤخّرون. قال أبو جعفر: هذا قول صحيح في اللغة ومنه: قضى الميّت أي مضى. وأعلمهم بهذا أنهم لا يصلون إليه وهذا من دلائل النبوّات، وزعم الفراء ثمّ أفضوا «2» بقطع الألف والفاء «توجّهوا إليّ حتى تصلوا» ومنه: أفضت الخلافة إلى فلان. [سورة يونس (10) : آية 72] فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي فإن تولّيتم عما جئتكم به فليس ذلك لأني سألتكم أجرا. [سورة يونس (10) : آية 74] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ. قيل: التقدير بما كذّب به قوم نوح من قبل، ومن حسن ما قيل في هذا أنّه لقوم بأعيانهم مثل أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 6] . [سورة يونس (10) : آية 77] قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قال الأخفش أَسِحْرٌ هذا حكاية لقولهم لأنهم قالوا: أسحر هذا فقيل لهم: أتقولون للحقّ لمّا جاءكم: أسحر هذا.

_ (1) مرّ الشاهد رقم (122) . (2) انظر البحر المحيط 5/ 179، وهي قراءة السريّ بن ينعم بالفاء وقطع الألف، ومعاني الفراء 1/ 474.

[سورة يونس (10) : آية 78]

[سورة يونس (10) : آية 78] قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وروي عن الحسن (ويكون لكما الكبرياء) بالياء لأنه تأنيث غير حقيقي وقد فصل بينهما. وحكى سيبويه: حضر القاضي اليوم امرأتان. [سورة يونس (10) : آية 80] فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) أَنْتُمْ رفع بالابتداء، وخبره مُلْقُونَ والجملة في الصلة والعائد على الذي محذوف أي ملقوه. [سورة يونس (10) : آية 81] فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ فيه خمس قراءات وأكثر القراء على هذه القراءة. ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ابتداء وخبر، وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع وأبو عمرو بن العلاء ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ يكون «ما» في موضع رفع بالابتداء والخبر «جئتم به» . والتقدير: أيّ شيء جئتم به- على التوبيخ والتقصير لما جاءوا به. السِّحْرُ على إضمار مبتدأ والتقدير هو السحر. قال هارون القارئ، وفي قراءة عبد الله ما جئتم به سحر «1» فهذا أيضا على الابتداء والخبر ودخول الألف واللام في هذا أكثر من كلام العرب لأنهم قالوا لموسى صلّى الله عليه وسلّم: هذا سحر فقال لهم: بل ما جئتم به السحر وهكذا يقال في أول الكتب والرسائل: سلام على من اتّبع الهدى وفي آخرها: والسلام. ولو قال لك قائل: وجدت درهما ثم سألته لكان الاختيار أن تقول: فأين الدرهم؟ ولا تقول: أين درهم؟ فيتوهّم أنك سألته عن غيره. قال هارون: وفي حرف أبيّ ما آتيتم به سحر «2» وهذا كالذي قبله، وأجاز الفراء: «ما جئتم به السّحر إنّ الله سيبطله» بنصب السحر ويجعل «ما» للشرط و «جئتم» في موضع جزم بما والفاء محذوفة والتقدير فإنّ الله سيبطله كما قال: [البسيط] 201- من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشّر بالشرّ عند الله مثلان «3» والسحر عنده منصوب بجئتم ولم يشرحه شرحا يبيّن به حقيقة النصب. قال أبو جعفر: يكون السحر منصوبا على المصدر أي ما جئتم به سحرا ثم جاء بالألف واللام إلّا أنّ حذف الفاء في المجازاة لا يجيزه كثير من النحويين إلا في ضرورة الشعر بل

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 181، ومعاني الفراء 1/ 475. (2) انظر البحر المحيط 5/ 181. (3) مرّ الشاهد رقم 34.

[سورة يونس (10) : آية 82]

ربّما دفع ذلك بعضهم أن يجوز النيّة. وسمعت علي بن سليمان يقول: حدّثني محمد بن يزيد قال: حدثني المازني قال: سمعت الأصمعي يقول: غيّر النحويون هذا البيت وإنما الرواية: من يفعل الخير فالرحمن يشكره وسمعت علي بن سليمان يقول: حذف الفاء في المجازاة جائز قال: الدليل على ذلك القراءة وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم [الشورى: 1] وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى 2] قراءتان مشهورتان معروفتان. [سورة يونس (10) : آية 82] وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أي يبيّن الحق بكلامه وحججه وبراهينه. [سورة يونس (10) : آية 83] فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ رفع بفعلها ولا يجوز نصبها على الاستثناء لأن الكلام قبلها لم يتمّ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ ولم يقل: وملائه ففي هذا ستة أجوبة: منها أنّ فرعون لمّا كان جبارا خبّر عنه بفعل الجميع ومنها أنّ فرعون لمّا ذكر علم أنّ معه غيره فعاد الضمير عليه وعليهم وهذا أحد جوابي الفراء «1» ومنها أن تكون الجماعة سمّيت بفرعون مثل ثمود، وجواب الفراء الآخر أن يكون التقدير على خوف من آل فرعون مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ. وهذا الجواب على مذهب الخليل وسيبويه خطأ، لا يجوز عندهما: قامت هند وأنت تريد غلامها. والجواب الخامس مذهب الأخفش سعيد أن يكون الضمير يعود على الذريّة أي وملأ الذريّة. والجواب السادس كأنّه أبينها يكون الضمير يعود على قومه أَنْ يَفْتِنَهُمْ في موضع خفض على بدل الاشتمال ويجوز أن يكون في موضع نصب بخوف ولم ينصرف فرعون لأنه اسم عجميّ وهو معرفة. لَعالٍ في موضع رفع على خبر «إنّ» وقد ذكرنا نظيره. [سورة يونس (10) : آية 85] فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا أي سلّمنا أمورنا إليه ورضينا بقضائه وقدره وانتهينا إلى أمره. [سورة يونس (10) : الآيات 87 الى 88] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88)

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 476.

[سورة يونس (10) : آية 89]

وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً مفعولان وكذا آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ لام كي وأصحّ ما قيل فيها وهو مذهب الخليل وسيبويه أنه لمّا آل أمرهم إلى هذا كان كأنّه لهذا وسمّي لام العاقبة أي لمّا كان عاقبة أمرهم قد آل إلى هذا كان بمنزلة ما كان الأول من أجله، وقد زعم قوم أن المعنى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا لأن لا يضلّوا عن سبيلك وحذف «لا» كما قال يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] . والمعنى أن لا تضلّوا. قال أبو جعفر: ظاهر هذا الجواب حسن إلّا أنّ العرب لا تحذف «لا» مع «أن» فموّه صاحب هذا الجواب بقوله عز وجل أن تضلّوا. رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا وهذا أيضا من المشكل يقال: كيف دعا عليهم وحكم الرسل صلى الله عليهم وسلم استدعاء إيمان قومهم؟ فالجواب أنّ معنى اطمس على أموالهم عاقبهم على كفرهم بإهلاك أموالهم. قال أبو إسحاق: معنى تطميس الشيء إذهابه عن صورته. وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ قيل معناه غمّهم عقوبة لهم، وقيل معناه صبّرهم على ما لحقهم لا يخرجوا إلى موضع خصب لأن معنى شددت الشيء وربطته في اللغة ضيّقته، فَلا يُؤْمِنُوا ليس بدعاء على قول محمد بن يزيد قال: هو معطوف على قوله ليضلّوا، وقال الكسائي وأبو عبيدة هو دعاء فهو في موضع جزم عندهما، وأجاز الأخفش والفراء أن يكون جوابا وأنشد الفراء: [الرجز] 202- يا ناق سيري عنقا فسيحا ... إلى سليمان فنستريحا «1» فعلى هذا حذفت النون لأنه منصوب. [سورة يونس (10) : آية 89] قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما قال أبو جعفر: سمعت علي بن سليمان يقول: الدليل على أن الدعاء لهما جميعا قول موسى صلّى الله عليه وسلّم ربّنا ولم يقل ربّ. فَاسْتَقِيما قال الفراء: أمرا بالاستقامة على أمرهما والثبات عليه إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة قال: ويقال كان

_ (1) الرجز لأبي النجم في الكتاب 3/ 34، والدر 3/ 52، والردّ على النحاة 123، وشرح التصريح 2/ 239، ولسان العرب (نفخ) ، والمقاصد النحوية 4/ 387، وهمع الهوامع 2/ 10، وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 182، ورصف المباني 381، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 270، وشرح الأشموني 2/ 302، وشرح ابن عقيل ص 570، وشرح قطر الندى 71، وشرح المفصل 7/ 26، واللمع في العربية 210، والمقتضب 2/ 14، وهمع الهوامع 1/ 182.

[سورة يونس (10) : آية 90]

بينهما أربعون سنة. قال أبو جعفر: وقد قال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب والضحّاك كانت بينهما أربعون سنة وَلا تَتَّبِعانِّ في موضع جزم على النهي والنون للتوكيد وحرّكت لالتقاء الساكنين واختير لها الكسر لأنها أشبهت نون الاثنين. [سورة يونس (10) : آية 90] وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ في موضع نصب والمعنى «بأنه» ، ومن قرأ «إنّه» بالكسر فالتقدير عنده قال صرت مؤمنا ثم استأنف «إنه» ، وزعم أبو حاتم أنّ القول محذوف وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ابتداء وخبر، وقد ذكرنا الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عن جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم أنه جعل في فيه الطين، وتأويل هذا- والله أعلم- أنه عقوبة لعدوّ الله. [سورة يونس (10) : آية 92] فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ قال عبد الله بن شداد والضحاك فأخرج لهم، قالا: لتكون لمن خلفك آية ليعلموا أنه ليس إلاها كما قال الأخفش سعيد: نُنَجِّيكَ من النّجاء والإنجاء وقال بعضهم: نرفعك على نجوة من الأرض، قال بِبَدَنِكَ أي لا روح فيك، قال: وليس قول من قال «ببدنك» بدرعك بشيء. [سورة يونس (10) : آية 94] فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ في موضع جزم بالشرط، والجواب فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ وقد ذكرنا معناه. [سورة يونس (10) : آية 97] وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ فأنّث كلّا على المعنى لأن المعنى ولو جاءتهم الآيات. [سورة يونس (10) : آية 98] فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ قال الأخفش والكسائي: أي فهلّا. قال الفراء «1» : وفي حرف أبيّ (فهلا) لأن معناه أنهم لم يؤمنوا وقال غيره: المعنى فلم تكن قرية آمنت بمن

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 489.

[سورة يونس (10) : آية 99]

حقّت عليهم كلمات ربّك أي أهل قرية إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ نصبت لأنه استثناء ليس من الأول أي لكن قوم يونس. هذا قول الكسائي والأخفش والفراء وأنشد سيبويه «1» : [الكامل] 203- من كان أسرع في تفرّق فالج ... فلبونه جربت معا وأغدّت «2» إلّا كناشرة الّذي ضيّعتم ... كالغصن في غلوائه المتنبّت «3» ويجوز إلّا قوم يونس بالرفع وأنشد سيبويه: [الرجز] 204- وبلدة ليس بها أنيس ... إلّا اليعافير وإلّا العيس «4» ورفعه عند سيبويه من جهتين: إحداهما أن يكون الأول توكيدا، والجهة الأخرى أن يجعل اليعافير والعيس أنيسها. ومن أحسن ما قيل في الرفع ما قاله أبو إسحاق قال: يكون المعنى غير قوم يونس فلمّا جاء بإلّا أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غيركما قال: [الوافر] 205- وكلّ أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلّا الفرقدان «5» [سورة يونس (10) : آية 99] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ توكيد لمن جَمِيعاً عند سيبويه نصب على الحال.

_ (1) البيتان لعنز بن دجاجة في الكتاب 2/ 268، ولعنز أو لمعاوية بن كاسر المازني في شرح أبيات سيبويه 2/ 172، ولشهاب المازني في الأزهيّة ص 176، ولكابية بن حرقوص بن مازن في خزانة الأدب 6/ 362، وبلا نسبة في رصف المباني 203، وسرّ صناعة الإعراب 302، وشرح اختيارات المفضل 537، ولسان العرب (نبت) ، والمقتضب 4/ 416، والثاني بلا نسبة في الحيوان 6/ 500. [.....] (2) في الكتاب (أشرك) بدل أسرع. وفالج: هو فالج بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، أساء إليه بعض بني مازن فدعا الشاعر عليهم مستثنيا منهم رجلا يدعى (ناشرة) لأنه لم يرض عن إساءة بني مازن لفالج. واللبون: ذوات اللبن. وأغدّت: صارت فيها الغدة وهي كالذبحة تعتري البعير. (3) الغلواء: النماء والارتفاع. والمتنبّت: المنمّى والمغذّى. (4) مرّ الشاهد رقم 110. (5) الشاهد لعمرو بن معديكرب في ديوانه 178، والكتاب 2/ 350، ولسان العرب (ألا) ، والممتع في التصريف 1/ 51، ولحضرمي بن عامر في تذكرة النحاة ص 90، وحماسة البحتري 151، والحماسة البصرية 2/ 418، وشرح أبيات سيبويه 2/ 46، والمؤتلف والمختلف 85، ولعمرو أو الحضرمي في خزانة الأدب 3/ 1421، والدرر 3/ 170، وشرح شواهد المغني 1/ 216، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 180، وأمالي المرتضى 2/ 88، والجنى الداني 519، وخزانة الأدب 9/ 321، ورصف المباني 92، وشرح الأشموني 1/ 234، وشرح المفصل 2/ 89، ومغني اللبيب 1/ 72، والمقتضب 4/ 409.

[سورة يونس (10) : آية 100]

[سورة يونس (10) : آية 100] وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ أي العذاب عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أي لا يعقلون أمر الله جلّ وعزّ وهم الكفار. [سورة يونس (10) : آية 101] قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) وَما تُغْنِي في موضع رفع حذفت الضمة من الياء لثقلها وحذفت الياء من اللفظ لالتقاء الساكنين وكذا نُنَجِّيكَ في موضع رفع «وما» في موضع نصب بيعني وهو اسم تام. [سورة يونس (10) : آية 104] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مرفوع بالمضارعة، وكذا أَعْبُدُ اللَّهَ. [سورة يونس (10) : آية 109] وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ابتداء وخبر لأنه جلّ وعزّ لا يحكم إلّا بالحقّ، وروي عن طلحة والأعمش وعاصم إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يونس: 98] بكسر النون وكذا «يوسف» بكسر السين. قال أبو حاتم: يجب إذا كسروا أن يهمزوا لأنهم يتوهّمونه من آنس يؤنس وآسف يؤسف. قال: وقال أبو زيد: بعض العرب يقول يونس ويوسف.

11 شرح إعراب سورة هود ع

11 شرح إعراب سورة هود ع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة هود (11) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) قال أبو جعفر: يقال: هذه هود فاعلم بغير تنوين على أنه اسم للسورة لأنك لو سمّيت امرأة بزيد لم تصرف هذا قول الخليل وسيبويه «1» ، وعيسى يقول: هذه هود فاعلم بالتنوين على أنه اسم للسورة وكذلك لو سمّى امرأة بزيد لأنه لمّا سكن وسطه خفّ فصرف فإن أردت الحذف صرفت على قول الجميع فقلت: هذه هود فاعلم تريد هذه سورة هود. قال سيبويه: والدليل على هذا أنك تقول: هذه الرحمن فلولا أنك تريد سورة الرحمن ما قلت هذه. كِتابٌ بمعنى هذا كتاب أُحْكِمَتْ آياتُهُ في موضع رفع نعت لكتاب وأحسن ما قيل في معنى «أحكمت» جعلت محكمة كلّها لا خلل فيها ولا باطل وفي ثُمَّ فُصِّلَتْ آياته جعلت متفرّقة ليتدبّر مِنْ لَدُنْ في موضع خفض إلّا أنها مبنيّة على السكون لأنها غير متمكّنة وما بعدها مخفوض بالإضافة، وحكى سيبويه «2» : لدن غدوة يا هذا لمّا كان يقال: لد، كما أنشد سيبويه: [الرجز] 206- من لد شول فإلى إتلائها «3» صارت النون مثلها في عشرين فنصبت ما بعدها حَكِيمٍ أي في أفعاله خَبِيرٍ أي بمصالح خلقه. [سورة هود (11) : آية 2] أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) أَلَّا قال الكسائي والفراء «4» : أي بأن لا وقال أبو إسحاق المعنى لئلا تَعْبُدُوا نصب بأن. [سورة هود (11) : آية 3] وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)

_ (1) انظر الكتاب 3/ 265. (2) انظر الكتاب 1/ 92. (3) مرّ الشاهد رقم 72 «من لد شولا» . (4) انظر معاني الفراء 2/ 3.

[سورة هود (11) : آية 5]

وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا عطف ثُمَّ تُوبُوا عطف أيضا يُمَتِّعْكُمْ جواب الأمر أي يمتعكم بالمنافع مَتاعاً اسم للمصدر حَسَناً من نعته. وَيُؤْتِ عطف على يمتّعكم كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ مفعولان. [سورة هود (11) : آية 5] أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) وروى ابن جريج عن محمد بن عبّاد قال: سمعت ابن عباس يقول: (ألا إنهم تثنوني صدورهم ليستخفوا منه) «1» قال: كانوا لا يجامعون النساء ولا يأتون الغائط وهم يغضون إلى السماء فنزلت هذه الآية، وقيل: كان بعضهم ينحني على بعض ليسارّه وبلغ من جهلهم أن توهموا أن ذلك يخفى على الله جلّ وعزّ، وروى غير محمد بن عباد عن ابن عباس إلا إنهم تثنون صدورهم «2» ومعنى تثنون والقراءتين الأخريين مقارب لأنها تثنوني حتى يثنوها، وحذف الياء لا يجوز إلا في ضرورة الشعر كما قال: [المتقارب] 207- فهل يمنعني ارتيادي البلاد ... من حذر الموت أن يأتين «3» أو في صلة نحو وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الفجر: 4] يَسْتَغْشُونَ في موضع خفض بالإضافة. [سورة هود (11) : آية 6] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَما مِنْ دَابَّةٍ في موضع رفع والمعنى وما دابة إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها رفع بالابتداء وعند الكوفيين بالصفة. [سورة هود (11) : آية 7] وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ كسرت إن لأنها بعد القول مبتدأة وحكى سيبويه الفتح لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بفتح اللام التي قبل النون لأنه فعل متقدّم لا ضمير فيه، وبعده لَيَقُولَنَّ لأن فيه ضميرا.

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 203، ومعاني الفراء 2/ 3. (2) انظر البحر المحيط 5/ 203، ومختصر ابن خالويه 59. (3) الشاهد للأعشى في ديوانه ص 95، والدرر 5/ 151، والكتاب 3/ 574، وشرح المفصل 9/ 40، والمقاصد النحوية 4/ 324، والمحتسب 1/ 349، وبلا نسبة في همع الهوامع 2/ 78.

[سورة هود (11) : الآيات 8 إلى 9]

[سورة هود (11) : الآيات 8 الى 9] وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) لَيَؤُسٌ من يئس ييأس وحكى سيبويه «1» : يئس ييئس على فعل يفعل، ونظيره حسب يحسب ونعم ينعم وبئس يبئس، وبعضهم يقول: يئس ييأس لا يعرف في كلام العرب إلّا هذه الأربعة الأحرف من السالم جاءت على فعل يفعل في واحد منها اختلاف، فهو يائس ويؤوس على التكثير وكذا فاخر وفخور. [سورة هود (11) : آية 10] وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) قال يعقوب القارئ: وقرأ بعض أهل المدينة إنه لفرح فخور «2» . قال أبو جعفر: هكذا كما تقول: فطن وحذر وندس ويجوز في كلتا اللغتين الإسكان لثقل الضمة والكسرة. [سورة هود (11) : آية 11] إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا في موضع نصب. قال الأخفش: هو استثناء ليس من الأول وقال الفراء «3» : هو استثناء من الأول. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ أي الإنسان قال: لأن الإنسان بمعنى الناس. [سورة هود (11) : آية 12] فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ معطوف على تارك، وصدرك مرفوع به. أَنْ يَقُولُوا في موضع نصب أي كراهة أن يقولوا. [سورة هود (11) : آية 13] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) قُلْ فَأْتُوا وبعده. [سورة هود (11) : آية 14] فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)

_ (1) انظر الكتاب 4/ 165. (2) انظر البحر المحيط 5/ 207، ومختصر ابن خالويه 59. (3) انظر معاني الفراء 2/ 4. [.....]

[سورة هود (11) : آية 15]

فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ولم يقل: لك فهو على تحويل المخاطبة أو على أن تكون المخاطبة له كالمخاطبة للمؤمنين وعلى أن يخاطب مخاطبة الجميع. [سورة هود (11) : آية 15] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) مَنْ كانَ في موضع جزم بالشرط، وجوابه نُوَفِّ إِلَيْهِمْ فالأول من اللفظ ماض والثاني مستقبل كما قال زهير: [الطويل] 208- ومن هاب أسباب المنايا ينلنه «1» قال مجاهد: نوف إليه حسناته في الدنيا، وقال ميمون بن مهران: ليس أحد يعمل حسنة إلا وفّي ثوابها فإن كان مسلما وفي في الدنيا والآخرة وإن كان كافرا وفّي في الدنيا، وقيل: المعنى: من كان يريد بغزوة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم الغنيمة وفيها ولم ينقص منها. [سورة هود (11) : آية 16] أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) وَباطِلٌ ابتداء ما كانُوا يَعْمَلُونَ خبره، وقال أبو حاتم: وحذف الهاء. قال أبو جعفر: وهذه لا يحتاج إلى حذف لأنه بمعنى المصدر أي وباطل عمله وفي حرف أبيّ وعبد الله وباطلا ما كانوا يعملون «2» خبره تكون ما زائدة أي كانوا يعملون باطلا. [سورة هود (11) : آية 17] أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ابتداء والخبر محذوف أي: أفمن كان على بيّنة من ربّه ومعه من الفضل ما يبين به ذلك لغيّه فهذا على قول علي بن الحسين والحسن بن أبي الحسن قالا: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ لسانه، وقال عكرمة عن ابن عباس: ويتلوه شاهد منه «جبرائيل» عليه السلام فيكون على هذا «ويتلو البيان والبرهان شاهد من الله عزّ

_ (1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 30، والخصائص 3/ 324، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 267، وشرح شواهد المغني 1/ 386، ولسان العرب (سبب) . وعجزه: «ولو نال أسباب الماء بسلّم» (2) انظر البحر المحيط 5/ 211، ومختصر ابن خالويه 59.

[سورة هود (11) : آية 20]

وجلّ» ، وقال الفراء: قال بعضهم «ويتلوه شاهد منه» الإنجيل وإن كان قبله أي يتلوه في التصديق. وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى رفع بالابتداء. قال أبو إسحاق: المعنى: ويتلوه من قبله كتاب موسى لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم موصوف في كتاب موسى صلّى الله عليه وسلّم يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: 157] ، وحكى أبو حاتم عن بعضهم أنه قرأ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى «1» بالنصب. قال أبو جعفر: النصب جائز يكون معطوفا على الهاء أي ويتلو كتاب موسى إِماماً وَرَحْمَةً على الحال. [سورة هود (11) : آية 20] أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ أي على قدر كفرهم ومعاصيهم ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ (ما) في موضع نصب على أن يكون المعنى بما كانوا كما تقول: جزيته ما فعل وبما فعل وأنشد سيبويه: [البسيط] 209- أمرتك الخير فافعل ما أمرت به «2» ويجوز أن يكون المعنى: يضاعف لهم العذاب أبدا، والتقدير في العربية وقت ذلك ويجوز أن تكون «ما» نافية لا موضع لها. قال الفراء: ما كانوا يستطيعون السمع لأنّ الله جلّ وعزّ أضلّهم في اللّوح المحفوظ، والجواب الرابع عن أبي إسحاق قال: لبغضهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعداوتهم له لا يستطيعون أن يستمعوا منه ولا يتفهموا الحجج. قال أبو جعفر: وهذا معروف في كلام العرب أن يقال: فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان إذا كان ذلك ثقيلا عليه. وَما كانُوا يُبْصِرُونَ عطف. [سورة هود (11) : آية 21] أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ابتداء وخبر: ويقال: اللذون ولا يجوز أن يبنى كما يبنى الواحد وفي بنائه أربعة أقوال: قال الأخفش: ضمّت الّذي إلى النون فصار كخمسة عشر، وقيل: لأنه لا يتم إلّا بصلة، ولا يعرب الاسم من وسطه، وقال علي بن سليمان: لأنه يقع لكل غائب، وقال محمد بن يزيد: لأنه يحتاج إلى ما بعده كالحروف إلّا أنه أنّث وثنّي وجمع لأنه نعت ولم تحرّك ياؤه في موضع النصب لأنه ليس بمعرف ولهذا حذفت في التثنية.

_ (1) وهذه قراءة محمد بن السائب الكلبي وغيره، انظر البحر المحيط 5/ 211، ومختصر ابن خالويه 59. (2) مرّ الشاهد رقم (51) .

[سورة هود (11) : آية 22]

[سورة هود (11) : آية 22] لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) لا جَرَمَ قد تكلّم العلماء فيه، فقال الخليل وسيبويه «1» : جرم بمعنى حقّ، «فإنّ» عندهما في موضع رفع وهذا قول الفراء «2» ومحمد بن يزيد وزعم الخليل أن «لا» هاهنا جيء بها ليعلم أنّ المخاطب لم يبتدئ كلامه وإنّما خاطب من خاطبه والكلام يجاء به ليدلّ على المعاني. وقال أبو إسحاق: «لا» هاهنا نفي لما ظنّوا أنه ينفعهم كان المعنى لا ينفعهم ذلك جَرَمَ أَنَّهُمْ أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران فإنّ عنده في موضع نصب، وقال الكسائي: في الإعراب لا صدّ ولا منع عن أنهم، وحكى الكسائي فيها أربع لغات «لا جرم» ، «ولا عن ذا جرم» و «لا انّ ذا جرم» قال: وناس من فزارة يقولون: لا جر أنهم بغير ميم، وحكى الفراء «3» فيه لغتين أخريين قال: بنو عامر يقولون: لا ذا جرم، قال: وناس من العرب يقولون: لا جرم بضم الجيم. [سورة هود (11) : آية 23] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) إِنَّ الَّذِينَ اسم إنّ آمَنُوا صلة وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ عطف على الصلة قال مجاهد «أخبتوا» اطمأنوا وقال الفراء: أخبتوا إلى ربهم ولربهم واحد وقد يكون المعنى وجّهوا أخباتهم إلى ربهم. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خبر «إنّ» . [سورة هود (11) : آية 24] مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ ابتداء، والخبر كَالْأَعْمى وما بعده. قال الأخفش: أي كمثل الأعمى قال أبو جعفر: التقدير: مثل فريق الكافر كالأعمى والأصمّ ومثل فريق المؤمن كالسميع والبصير ولهذا هَلْ يَسْتَوِيانِ ولا يقع هاهنا من حروف العطف إلّا الواو لأنها للاجتماع، وحكى سيبويه: مررت بأخيك وصديقك. [سورة هود (11) : آية 25] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي أي فقال إنّي وأني أي بأنّي. [سورة هود (11) : آية 27] فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ قال إسحاق: «الملأ» الرؤساء أي هم مليئون بما

_ (1) انظر الكتاب 3/ 159. (2) انظر معاني الفراء 2/ 8. (3) انظر معاني الفراء 2/ 8.

[سورة هود (11) : آية 28]

يقولون: ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا نصب على الحال ومثلنا مضاف إلى معرفة وهو نكرة يقدّر فيه التنوين كما قال: [الكامل] 210- يا ربّ مثلك في النّساء غريرة «1» وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا وهم الفقراء والذين لا حسب لهم والخسيسو الصناعات، وفي الحديث أنّهم كانوا حاكة وحجّامين، وكان هذا جهلا منهم لأنهم عابوا نبي الله صلّى الله عليه وسلّم بما لا عيب فيه لأن الأنبياء صلوات الله عليهم إنّما عليهم أن يأتوا بالبراهين والآيات وليس عليهم تغيير الصور والهيئات وهم يرسلون إلى النّاس جميعا فإذا أسلم منهم الذين لم يلحقهم من ذلك نقصان لأن عليهم أن يقبلوا إسلام كل من أسلم منهم بادِيَ الرَّأْيِ بدأ يبدو إذا ظهر كما قال: [الكامل] 211- فاليوم حين بدون للنّظّار «2» ويجوز أن يكون «بادي الرأي» من بدأ وخفّفت الهمزة، وحقّق أبو عمرو الهمزة فقرأ بادِيَ الرَّأْيِ «3» . قال أبو إسحاق: نصبه بمعنى في بادئ الرأي. قال أبو جعفر: لم يشرح النحويون نصبه فيما علمت بأكثر من هذا فيجوز أن يكون «في» حذفت كما قال جلّ وعزّ وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: 155] ويجوز أن يكون المعنى اتباعا ظاهرا. [سورة هود (11) : آية 28] قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وحكى الكسائي والفراء «4» أَنُلْزِمُكُمُوها بإسكان الميم الأولى تخفيفا وقد أجاز سيبويه مثل هذا وأنشد: [السريع] 212- فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل «5»

_ (1) الشاهد لأبي محجن الثقفي في الكتاب 1/ 493، وشرح أبيات سيبويه 1/ 540، وشرح المفصّل 2/ 126، وهو ليس في ديوانه، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص 237، ورصف المباني 190، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 457، والمقتضب 4/ 289، وعجزه: «بيضاء قد متّعتها بطلاق» (2) الشاهد من قصيدة للربيع بن زياد العبسي في مالك بن زهير العبسي في شرح ديوان الحماسة للتبريزي 2/ 996، وبلا نسبة في جمهرة اللغة 1019، وشرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف 111، والخصائص 3/ 300، وصدره: «قد كنّ يخبأن الوجوه تستّرا» (3) انظر تيسير الداني 101. (4) انظر معاني الفراء 2/ 12. (5) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 122، والكتاب 4/ 319، وإصلاح المنطق 245، والأصمعيات 130، وجمهرة اللغة 962، وخزانة الأدب 4/ 106، والدرر 1/ 175، ورصف المباني 327، وشرح التصريح 1/ 88، وشرح شواهد الإيضاح 256، وشرح المفصل 1/ 48، ولسان العرب (دلك) و (حقب) ، و (وغل) ، والمحتسب 1/ 15، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 66، والاشتقاق 337، والخصائص 1/ 74، وهمع الهوامع 1/ 54.

[سورة هود (11) : آية 30]

ويجوز على قول يونس في غير القرآن أنلزمكمها يجري المضمر مجرى المظهر كما تقول: أنلزمكم تلك. [سورة هود (11) : آية 30] وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) أَفَلا تَذَكَّرُونَ أدغمت التاء في الذال، ويجوز حذفها فتقول: تذكّرون. [سورة هود (11) : آية 31] وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ أخبر بتواضعه وتذلّله لله جلّ وعزّ وأنه لا يدّعي ما ليس له من خزائن الله جلّ وعزّ وهي أنعامه على من يشاء من عباده، وأنه لا يعلم الغيب لأن الغيب لا يعلمه إلا الله جلّ وعزّ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ أي ولا أقول إنّ منزلتي عند الله جلّ وعزّ منزلة الملائكة. وقد قالت العلماء: الفائدة في هذا الكلام الدلالة على أن الملائكة أفضل من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلّم لدوامهم على الطاعة واتصال عبادتهم إلى يوم القيامة. وَلا أَقُولُ لكم ولا لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ والأصل تزدريهم حذفت الهاء والميم لطول الاسم والدال مبدلة من تاء لأن الزاي مجهورة والتاء مهموسة فأبدل من التاء حرف مجهور من مخرجها. إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي إن قلت هذا وإذن ملغاة لأنها متوسطة. [سورة هود (11) : آية 32] قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) وعن ابن عباس فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا «1» والجدل في كلام العرب المبالغة في الخصومة والمناظرة مشتق من الجدل وهو شدّة الفتل. ويقال للصقر أجدل لشدّته في الطير. [سورة هود (11) : آية 34] وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ أي لأنكم لا تقبلون نصحا. [سورة هود (11) : آية 35] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) إِجْرامِي مصدر أجرم وأجرامي جمع جرم وقد أجرم وجرم.

_ (1) انظر المحتسب 1/ 321، ومختصر ابن خالويه 60، والبحر المحيط 5/ 219.

[سورة هود (11) : آية 36]

[سورة هود (11) : آية 36] وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ في صرف نوح قولان: أحدهما أنّه أعجميّ ولكنه خفّ لأنه على ثلاثة أحرف، والآخر أنّه عربيّ قال عكرمة: إنما سمّي نوحا لأنه كان يكثر النياحة على نفسه قال: وركب في السفينة لعشر خلون من رجب وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود: 44] لعشر خلون من المحرّم فذلك ستة أشهر وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها ورفعها ثلاثون ذراعا. أَنَّهُ في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسمّ فاعله ويجوز أن يكون في موضع نصب ويكون التقدير بأنه، لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ في موضع رفع بيؤمن فَلا تَبْتَئِسْ أي فلا تغتمّ حتى تكون بائسا. [سورة هود (11) : آية 37] وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا قيل: معناه بحفظنا، وقيل: بعلمنا، وقيل: لأن الملائكة صلوات الله عليهم كانت تريد ذلك، وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تسألني فيهم فإني مغرقهم. [سورة هود (11) : آية 38] وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) وَكُلَّما ظرف مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قال الأخفش والكسائي يقال: سخرت به ومنه. [سورة هود (11) : آية 39] فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ قال الكسائي: وناس من أهل الحجاز يقولون: سو تعلمون. قال: ومن قال: ستعلمون أسقط الواو والفاء جميعا، وحكى الكوفيون: سف تعلمون. ولا يعرف البصريون إلّا سوف يفعل وسيفعل لغتان ليست إحداهما من الأخرى. [سورة هود (11) : آية 40] حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ في موضع نصب باحمل. وَأَهْلَكَ عطف عليه إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ «من» في موضع نصب بالاستثناء. وَمَنْ آمَنَ في موضع نصب عطف على اثنين وإن شئت على أهلك، وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ رفع بآمن، ولا يجوز نصبه على الاستثناء لأن الكلام قبله لم يتم إلّا أنّ الفائدة في دخول «إلّا» و «ما» أنك لو قلت: آمن معه فلان وفلان جاز أن يكون غيرهم قد آمن فإذا جئت بما وإلا أوجبت لما بعد إنّ ونفيت عن غيرهم.

[سورة هود (11) : آية 41]

[سورة هود (11) : آية 41] وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها بضم ميميهما «1» قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة إلّا من شذّ منهم، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها بفتح الميم وَمُرْساها بضم الميم، وروي عن يحيى بن عيسى عن الأعمش عن يحيى بن وثاب باسم الله مجراها ومرساها «2» بفتح الميم فيهما، وقرأ مجاهد ومسلم بن جندب وعاصم الجحدري باسم الله مجريها ومرسيها «3» فالقراءة الأولى بمعنى باسم الله إجراؤها وإرساؤها مرفوع بالابتداء، ويجوز أن يكون في موضع نصب ويكون التقدير باسم الله وقت إجرائها كما تقول: أنا أجيئك مقدم الحاجّ، وقيل: التقدير باسم الله موضع إجرائها ثم حذف موضع وأقيم مجراها مقامه، وقال الضحاك: كان إذا قال: باسم الله جرت، وإذا قال: باسم الله رست وتكون الباء متعلّقة باركبوا و «مجراها» بفتح الميم من جرت مجرى و «مرساها» بفتح الميم من رست رسوّا ومرسى إذا ثبتت، ومجريها نعت لله جلّ وعزّ في موضع جرّ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي هو مجريها ومرسيها ويجوز النصب على الحال بمعنى أعني. [سورة هود (11) : آية 42] وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ ويجوز على قول سيبويه وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ مختلس وَكانَ فِي مَعْزِلٍ «4» وأنشد سيبويه: [الوافر] 213- له زجل كأنه صوت حاد «5» فأما وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ «6» فقراءة شاذّة وزعم أبو حاتم أنها تجوز على أنه يريد ابنها ثم يحذف الألف كما تقول: ابنه فتحذف الواو. قال أبو جعفر: هذا الذي قاله أبو حاتم لا يجوز على مذهب سيبويه لأن الألف خفيفة فلا يجوز حذفها والواو ثقيلة يجوز حذفها. وَكانَ فِي مَعْزِلٍ اسم المكان والمصدر معزل يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا

_ (1) انظر تيسير الداني 101. [.....] (2) انظر معاني الفراء 2/ 14. (3) انظر القراآت المختلفة في البحر المحيط 5/ 225، ومعاني الفراء 2/ 14. (4) انظر مختصر ابن خالويه 60. (5) مرّ الشاهد رقم (17) وعجزه: «إذا طلب الوسيقة أو زمير» (6) انظر مختصر ابن خالويه 60، وهذه قراءة هشام بن عروة.

[سورة هود (11) : آية 43]

، وقرأ عاصم يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا بفتح الياء. قال أبو إسحاق: ويجوز في العربية يا بنيّ اركب معنا كما تقول: يا غلامي أقبل وكذا يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 53] «يا بني اركب معنا» على أن تحذف الياء وتبقي الكسرة دالّة عليها كما تقول: يا غلام أقبل. فأما قراءة عاصم فمشكلة، قال أبو حاتم: يريد يا بنيّاه ثم حذف. قال أبو جعفر، ورأيت عليّ بن سليمان يذهب إلى أنّ هذا لا يجوز لأن الألف خفيفة فلا يحذف. قال أبو جعفر: وما علمت أحدا من النحويين جوّز الكلام في هذا إلّا أبا إسحاق فإنّه زعم أنّ الفتح من جهتين والكسر من جهتين فالفتح على أن يبدل من الياء ألفا كما قال جلّ وعزّ أحيانا يا وَيْلَنا [هود: 72] . وكما قال: [الطويل] 214- فيا عجبا من رحلها المتحمّل «1» فيريد بابنيّا ثم حذف الألف لالتقاء الساكنين كما تقول: جاءني عبد الله في التثنية، والجهة الأخرى أن تحذف الألف لأنّ النداء موضع حذف ولكن على أن تحذف الياء، والجهة الأخرى على أن يحذفها لالتقاء الساكنين. وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ يدلّ هذا- والله أعلم- على أنّ نوحا صلّى الله عليه وسلّم لم يعلم أنه كافر وأنه ظنّ أنا مؤمن. [سورة هود (11) : آية 43] قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ على التبرئة ويجوز «لا عاصم اليوم» تكون «لا» بمعنى ليس إِلَّا مَنْ رَحِمَ في موضع نصب استثناء ليس من الأول ويجوز أن تكون في موضع رفع على أنّ عاصما بمعنى معصوم مثل ماءٍ دافِقٍ [الطارق: 6] ومن أحسن ما قيل فيه أن يكون «من» في موضع رفع والمعنى لا يعصم اليوم من أمر الله إلّا الراحم أي إلّا الله جلّ وعزّ ويحسن هذا لأنك لم تجعل عاصما بمعنى معصوم فتخرجه من بابه. [سورة هود (11) : آية 44] وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ قيل: هذا مجاز لأنها موات وقيل: جعل فيها ما تميّز به، والذي قال إنّها مجاز، قال: لو فتّش كلام العرب والعجم ما وجد فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها وبلاغة وصفها واشتمال المعاني فيها، وحكى الكسائي

_ (1) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص 11، وشرح شواهد المغني 2/ 558، ولسان العرب (عقر) ، وتهذيب اللغة 1/ 218، ومقاييس اللغة 4/ 90، وتاج العروس (عقر) ، وبلا نسبة في رصف المباني ص 349، ومغني اللبيب 1/ 209، وصدره: «ويوم عقرت للعذارى مطيّتي»

[سورة هود (11) : آية 45]

والفراء «1» بلعت وبلعت، وَغِيضَ الْماءُ يقال: غاض الماء وغضته، ويجوز غيض الماء، بضم الغين وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ فبيّن الإعراب فيه لأن الياء مشدّدة فقبلها ساكن، وحكى الفراء: واستوت على الجودي، بإسكان الياء لأن قبلها مكسورا وهي مخفّفة وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ والذي قال هذه فيما روي نوح صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون، أي أبعد الله الظالمين فبعدوا بعدا على المصدر. [سورة هود (11) : آية 45] وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) إِنَّ ابْنِي اسم إنّ مِنْ أَهْلِي في موضع الخبر. وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ اسم «إن» وخبرها، وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ ابتداء وخبره. [سورة هود (11) : آية 46] قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ «2» قد ذكرناه. فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي بي من لم يعلم أنه مؤمن، إِنِّي أَعِظُكَ أي أعظك بنهيي وزجري لئلّا تكون، والبصريون يقدرون كراهة أن يكون. [سورة هود (11) : آية 47] قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) أي أسألك أن توفّقني وتلطف لي حتّى لا أسأل ذلك وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي يدلّ على أنّ الأنبياء صلوات الله عليهم يذنبون أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ أي رحمتك يوم القيامة. [سورة هود (11) : آية 48] قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ أي من السفينة بِسَلامٍ أي بسلامة. وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ أي نعم ثابتة مشتقّ من بروك الجمل وهو ثباته وإقامته. مِمَّنْ مَعَكَ «من» للتبعيض وتكون لبيان الجنس. وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ أي وتكون أمم. قال الأخفش سعيد: كما تقول: كلّمت زيدا وعمرو جالس، وأجاز الفراء في غير القراءة وأمما «3» وتقديره وسنمتّع أمما.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 17. (2) انظر البحر المحيط 5/ 229. (3) انظر معاني الفراء 1/ 18.

[سورة هود (11) : آية 49]

[سورة هود (11) : آية 49] تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي تلك الأنباء وفي موضع آخر ذلك أي ذلك النبأ فَاصْبِرْ أي فاصبر على أذى قومك كما صبر هؤلاء الرسل صلّى الله عليهم وسلّم. [سورة هود (11) : آية 50] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً نصب بمعنى وأرسلنا. قال أبو إسحاق: قيل له أخوهم لأنه منهم أو لأنه من بني آدم عليه السلام كما أنهم من بني آدم ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ على اللفظ وغيره على الموضع وغيره على الاستثناء. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ أي ما أنتم في اتّخاذكم إلها غيره إلّا كاذبون عليه جلّ وعزّ. [سورة هود (11) : آية 51] يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً حذفت الياء لأن النداء موضع حذف لكثرته، ويجوز إثباتها لأنها اسم. [سورة هود (11) : آية 52] وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) يُرْسِلِ السَّماءَ جزم لأنه جواب وفيه معنى المجازاة مِدْراراً على الحال وفيه معنى التكثير، والعرب تحذف الهاء في مفعال على النسب. وَيَزِدْكُمْ عطفا على يرسل. [سورة هود (11) : آية 54] إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا على تذكير بعض ويجوز التأنيث على المعنى. [سورة هود (11) : آية 56] إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ أي رضيت بحكمه ووثقت بنصره. وما مِنْ دَابَّةٍ في موضع رفع بالابتداء. إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أي يصرّفها كيف يشاء ويمنعها مما شاء أي فلا يصلون إلى ضرري، وكلّ ما فيه الروح يقال: له دابّ ودابّة والهاء للمبالغة إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قيل: معناه لا خلل في تدبيره ولا تفاوت في خلقه.

[سورة هود (11) : آية 57]

[سورة هود (11) : آية 57] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) فَإِنْ تَوَلَّوْا في موضع جزم فلذلك حذفت منه النون، والأصل تتولّوا فحذفت التاء لاجتماع تاءين وإنّ المعنى معروف فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ بمعنى قد بيّنت لكم وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ مستأنف، ويجوز أن يكون عطفا على ما يجب فيما بعد الفاء ويجوز الجزم في غير القرآن مثل وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ [الأنعام: 110] وكذا وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً. [سورة هود (11) : آية 58] وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا لأنّ أحدا لا ينجو إلا برحمة الله تعالى وإن كانت له أعمال صالحة، وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم مثل هذا، وقيل: معنى بِرَحْمَةٍ مِنَّا بأن بيّنا لهم الهدى الذي هو رحمة. [سورة هود (11) : آية 59] وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَتِلْكَ عادٌ ابتداء وخبر، وحكى الكسائي والفراء «1» إنّ من العرب من لا يصرف عادا أي يجعله اسما للقبيلة. [سورة هود (11) : آية 60] وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ قال الفراء «2» : أي كفروا نعمة ربّهم قال: ويقال: كفرته وكفرت به، وشكرت له وشكرته. [سورة هود (11) : آية 61] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش وإلى ثمود أخاهم صالحا وصرفا ثمودا في سائر القرآن ولم يصرف حمزة ثمود في شيء من القرآن، وكذا روي عن الحسن واختلف سائر القراء فيه فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع، وزعم أبو عبيد أنه لولا مخالفة السواد لكان الوجه ترك الصرف إذ كان الأغلب عليه التأنيث. قال أبو جعفر: الذي قاله أبو عبيد رحمه الله من أن الغالب عليه التأنيث كلام مردود لأن ثمودا يقال له حيّ ويقال له قبيلة وليس الغالب عليه القبيلة بل الأمر

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 19. (2) انظر معاني الفراء 2/ 20.

[سورة هود (11) : آية 64]

على ضدّ ما قال عند سيبويه، والأجود عند سيبويه فيما لم يقل فيه بنو فلان الصرف نحو: قريش وثقيف وما أشبههما وكذا ثمود، والعلة في ذلك أنه لمّا كان التذكير الأصل وكان يقع له مذكّر ومؤنّث كان الأصل والأخفّ أولى والتأنيث جيّد بالغ حسن، وأنشد سيبويه في التأنيث: [الكامل] 215- غلب المساميح الوليد سماحة ... وكفى قريش المعضلات وسادها «1» غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ ولا يجوز إدغام الهاء في الهاء إلّا على لغة من حذف الواو في الإدراج إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ أي قريب الإجابة. [سورة هود (11) : آية 64] وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ ابتداء وخبر، وقيل: ناقة الله لأنه أخرجها لهم من جبل على ما طلبوا على أنهم يؤمنون. لَكُمْ آيَةً نصب على الحال. فَذَرُوها أمر فلذلك حذفت منه النون، ولا يقال: وذر ولا واذر إلّا شاذا، وللنحويين فيه قولان: قال سيبويه «2» : استغنوا عنه بترك، وقال غيره: لما كانت الواو ثقيلة وكان في الكلام فعل بمعناه لا واو فيه ألغوه، تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ جزم لأنه جواب الأمر. قال أبو إسحاق: ويجوز رفعه على الحال والاستئناف. وَلا تَمَسُّوها جزم بالنهي. قال الفراء. بِسُوءٍ أي بعقر فَيَأْخُذَكُمْ جواب النهي عَذابٌ قَرِيبٌ من عقرها. [سورة هود (11) : آية 65] فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا أي بنعم الله جلّ وعزّ قبل العذاب. ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ظرف زمان. [سورة هود (11) : آية 66] فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) قال أبو حاتم: حدّثنا أبو زيد عن أبي عمرو أنه قرأ وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ أدغم الياء في الياء وأضاف وكسر الميم من يومئذ. قال أبو جعفر: الذي يرويه النحويون مثل سيبويه ومن قاربه عن أبي عمرو في مثل هذا الإخفاء فأما الإدغام فلا يجوز لأنه يلتقي

_ (1) الشاهد لعديّ بن الرقاع في ديوانه ص 40، وخزانة الأدب 40، وشرح أبيات سيبويه 2/ 282، والطرائف الأدبية 90، ولسان العرب (قرش) ولجرير في لسان العرب (سمح) ، وليس في ديوانه، وهو بلا نسبة في الإنصاف ص 506، وما ينصرف وما لا ينصرف 59، والمقتضب 3/ 362، والكتاب 3/ 274. (2) انظر الكتاب 4/ 228.

[سورة هود (11) : آية 67]

ساكنان ولا يجوز كسر الزاي. قال أبو جعفر: ومن قرأ من خزي يومئذ حذف التنوين وأضاف ومن نوّن نصب يومئذ على أنه ظرف ومن حذف التنوين ونصب فقال ومن خزي يومئذ فله تقديران عند النحويين: فتقدير سيبويه أنه مبنيّ لأن ظرف الزمان ليس الإعراب فيه متمكنا فلما أضيف إلى غير معرب بني وأنشد: [الطويل] 216- على حين ألهى الناس جلّ أمورهم «1» وقال أبو حاتم: جعل «يوم» و «إذ» بمنزلة خمسة عشر. [سورة هود (11) : آية 67] وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ صيح بهم فماتوا وذكّر لأن الصيحة والصياح واحد، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ قيل: ساقطين على وجوههم. [سورة هود (11) : آية 69] وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قيل: بالولد، وقيل: بشروه بأنهم رسل الله جلّ وعزّ وأنّه لا خوف عليه. قالُوا سَلاماً في نصبه وجهان: يكون مصدرا، والوجه الآخر أن يكون منصوبا بقالوا كما يقال: قالوا خيرا والتفسير على هذا روى يحيى القطّان عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قالُوا سَلاماً أي سددا، قالَ سَلامٌ «2» في رفعه وجهان: أحدهما على إضمار مبتدأ أي هو سلام وأمري سلام، والآخر بمعنى سلام عليكم. قال الفراء «3» : ولو كانا جميعا منصوبين أو مرفوعين جاز، غير أن الفراء اعتلّ لأن كان الأول منصوبا والثاني مرفوعا فقال: قالوا سلاما فقال إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم هو سلام إن شاء الله. فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ سيبويه يذهب إلى أنّ «أن» في موضع نصب، قال: تقول: لا يلبث أن يأتيك أي عن إتيانك وأجاز الفراء: أن يكون موضعها بلبث أي فما أبطأ مجيئه.

_ (1) الشاهد لأعشى همدان في الحماسة البصرية 2/ 262، ولشاعر من همدان في شرح أبيات سيبويه 1/ 371، ولأعشى همدان أو للأحوص أو لجرير في المقاصد النحوية 3/ 46، وهو مع آخر في ملحق ديوان الأحوص ص 215، وملحق ديوانه جرير 1021، وبلا نسبة في الكتاب 1/ 171، والإنصاف 293، وجمهرة اللغة 682، والخصائص 1/ 120، وسرّ صناعة الإعراب ص 507، وشرح الأشموني 1/ 204، وشرح التصريح 1/ 331، وشرح ابن عقيل 289، ولسان العرب (ندل) و (خشف) وعجزه: «فندلا زريق المال ندل الثعالب» [.....] (2) انظر البحر المحيط 5/ 241. (3) انظر معاني الفراء 2/ 21.

[سورة هود (11) : آية 70]

[سورة هود (11) : آية 70] فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ هذه لغة أهل الحجاز، ولغة أسد وتميم «أنكرهم» وقال امرؤ القيس: [الطويل] 217- لقد أنكرتني بعلبك وأهلها «1» ويروى للأعشى: [البسيط] 218- وأنكرتني وما كان الّذي نكرت ... من الحوادث إلّا الشّيب والصّلعا «2» وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قال سيبويه: وناس من ربيعة يقولون: «منهم» أتبعوها الكسرة ولم يكن المسكّن عندهم حاجزا حصينا. قال أبو جعفر: وقيل: إنما أوجس منهم خيفة لأنه كان يقيم معتزلا في ناحية فخاف أن يكونوا عزموا له على شرّ، وكان الضّيفان إذا لم يأكلوا فإنما أرادوا شرّا. [سورة هود (11) : آية 71] وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ ابتداء وخبر، فَضَحِكَتْ قد ذكرناه، وقيل: إنما ضحكت لأنهم أحيوا العجل بإذن الله عزّ وجلّ فلما لحق بأمه ضحكت فلما ضحكت بشروها بإسحاق وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ رفعه من جهتين: إحداهما بالابتداء ويكون في موضع الحال أي بشروها بإسحاق مقابلا له يعقوب، والوجه الآخر أن يكون التقدير ومن وراء إسحاق يحدث يعقوب، ولا يكون على هذا داخلا في البشارة، وقرأ حمزة وعبد الله بن عامر وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ والكسائي والأخفش وأبو حاتم يقدّرون يعقوب في موضع خفض، وعلى مذهب سيبويه والفراء «3» ، يكون في موضع نصب. قال الفراء: ولا يجوز الخفض إلّا بإعادة الخافض. قال سيبويه ولو قلت: مررت بزيد أوّل من أمس وأمس عمرو كان قبيحا خبيثا لأنك فرّقت بين المجرور وما يشركه وهو الواو كما تفرّق بين الجارّ

_ (1) هذا الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص 68، وعجزه: «ولا ابن جريج في قربه حمص أنكرا» (2) الشاهد للأعشى في ديوانه 151، ولسان العرب (نكر) ، وتهذيب اللغة 10/ 191، وديوان الأدب 2/ 235، وأساس البلاغة (نكر) ، وتاج العروس (نكر) و (صلع) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 5/ 476، والمحتسب 2/ 298، وتفسير الطبري 12/ 71. (3) انظر الكتاب 1/ 147، ومعاني الفراء 2/ 22.

[سورة هود (11) : آية 72]

والمجرور. قال أبو جعفر: يكون التقدير: من وراء إسحاق وهبنا له يعقوب كما قال «1» : [البسيط] 219- جئني بمثل بني بدر لقومهم ... أو مثل أسرة منظور بن سيّار أو عامر بن طفيل في مركّبه ... أو حادثا يوم نادى القوم يا حار [سورة هود (11) : آية 72] قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالَتْ يا وَيْلَتى بإمالة الألف وتفخيمها. قال أبو إسحاق: أصلها الياء فأبدل من الياء ألف. وَهذا بَعْلِي ابتداء وخبر شَيْخاً على الحال. قال أبو إسحاق: والحال هاهنا نصبها من لطيف النحو وغامضه لأنك إذا قلت: هذا زيد قائما، وكان المخاطب لا يعرف زيدا لم يجز لأنه لا يكون زيدا ما دام قائما فإذا زال ذلك لم يكن زيدا فإذا كان يعرف زيدا صحّت المسألة، والعامل في الحال التنبيه والإشارة. قال الأخفش: وفي قراءة أبيّ وابن مسعود وهذا بعلي شيخ قال الفراء «2» : وفي قراءة ابن مسعود وهذا بعلي شيخ. قال أبو جعفر: الرفع من خمسة أوجه: تقول هذا زيد قائم، فزيد بدل من هذا وقائم خبر المبتدأ، ويجوز أن يكون هذا مبتدأ وزيد قائم خبرين، وحكى سيبويه: هذا حلو حامض: ويجوز أن يكون «قائم» مرفوعا على إضمار هذا أو هو، ويجوز أن يكون مرفوعا على البدل من زيد، والوجه الخامس أن يكون هذا مبتدأ وزيد مبيّنا عنه وقائم خبرا. [سورة هود (11) : آية 73] قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ مبتدأ، والخبر في عَلَيْكُمْ وحكى سيبويه «عليكم» بكسر الكاف لمجاورتها الياء أَهْلَ الْبَيْتِ منصوب على النداء ويسمّيه سيبويه «3» تخصيصا إِنَّهُ حَمِيدٌ أي محمود مَجِيدٌ أي ماجد. [سورة هود (11) : الآيات 74 الى 75] فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ، مذهب الأخفش والكسائي أن يجادلنا في موضع جادلنا. قال أبو جعفر: لما كان جواب «لمّا» يجب أن يكون للماضي جعل المستقبل مكانه كما أنّ الشرط يجب أن يكون بالمستقبل فجعل الماضي مكانه، وفي جواب آخر يكون «يجادلنا» في موضع الحال أي أقبل يجادلنا

_ (1) مرّ الشاهد رقم 135. (2) انظر معاني الفراء 2/ 23. (3) انظر الكتاب 2/ 240.

[سورة هود (11) : آية 77]

وهذا قول الفراء «1» . ويقال: أناب إذا رجع، فإبراهيم صلّى الله عليه وسلّم كان راجعا إلى الله جلّ وعزّ في أموره كلّها. [سورة هود (11) : آية 77] وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وإن شئت ضممت السين لأن أصلها الضمّ. الأصل سوئ بهم من السوء، قلبت حركة الواو على السين فانقلبت ياء فإن خفّفت الهمزة ألقيت حركتها على الياء فقلت: سي بهم مخففا. ولغة شاذة التشديد. وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً على البيان وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ وعصبصب على التكثير أي مكروه مجتمع الشرّ، وقد عصب أي عصب بالشرّ عصابة، ومنهم قيل: عصابة وعصبة أي مجتمعو الكلمة ومجتمعون في أنفسهم، وعصبة الرجل المجتمعون معه في النسب، وتعصّبت لفلان صرت كعضبته، ورجل معصوب مجتمع الخلق. [سورة هود (11) : آية 78] وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ في موضع الحال. قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي ابتداء وخبر، هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ وقرأ عيسى بن عمر هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ، وروى سيبويه: «احتبى ابن مروان «2» في اللّحن، أي حين قرأ هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ» «3» قال أبو حاتم: ابن مروان قارئ أهل المدينة. قال الكسائي: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ «4» صواب يجعل هنّ عمادا. قال أبو جعفر: قول الخليل وسيبويه والأخفش أن هذا لا يجوز ولا تكون «هنّ» هاهنا عمادا، قال: وإنما تكون عمادا فيما لا يتمّ الكلام إلا بما بعدها نحو: كان زيد هو أخاك، لتدلّ بها على أن الأخ ليس بنعت. قال أبو إسحاق: وتدلّ على أنّ كان تحتاج إلى خبر، وقال غيره: يدلّ بها على أن الخبر معرفة أو ما قاربها. وَلا تُخْزُونِ في ضيفي أي لا تهينوني ولا تذلوني، وضيف يقع للاثنين والجميع على لفظ الواحد لأنه في الأصل مصدر، ويجوز فيه التثنية والجمع. أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ أي يرشدكم وينهاكم.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 23. (2) هو محمد بن مروان السديّ، وردت عنه الرواية في حروف القرآن، انظر غاية النهاية 2/ 261. (3) انظر الكتاب 2/ 417. (4) هذه قراءة الحسن وزيد بن علي، وعيسى بن عمر، وسعيد بن جبير ومروان بن الحكم أيضا، انظر معجم القراءات القرآنية 3/ 126، والبحر المحيط 5/ 247، وتفسير الطبري 12/ 52، والكشاف 2/ 283، والمحتسب 1/ 325.

[سورة هود (11) : آية 79]

[سورة هود (11) : آية 79] قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ أي لأنا لم نتزوّج بهن. [سورة هود (11) : آية 81] قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ أي لن يصلوا إليك بمكروه فيروى أنه لمّا قالوا له هذا خلّى بين قومه وبين الدخول فأمرّ جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم يده على أعينهم فعموا وعلى أيديهم فجفّت فرجعوا إلى منازلهم مسرعين. فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ يقال: سرى وأسرى إذا سار بالليل لغتان فصيحتان، وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ نصب بالاستثناء، وهي القراءة البيّنة. والمعنى فأسر بأهلك إلّا امرأتك، وقد قال جلّ وعزّ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي من الباقين لم يخرج بها، وإن كان قد قيل فيه غير هذا، ويدل أيضا على النصب أنه في قراءة عبد الله فأسر بأهلك إلا امرأتك «1» وقد قيل: المعنى لا يلتفت منكم أحد إلى ما خلّف وليخرج مع لوط صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ أبو عمرو وابن كثير إلا امرأتك بالرفع على البدل، فأنكر هذه القراءة جماعة منهم أبو عبيد، قال أبو عبيد: ولو كان كذا لكان «ولا يلتفت» بالرفع، وقال غيره: كيف يجوز أن يأمرها بالالتفات؟ قال أبو جعفر: وهذا الحمل من أبي عبيد ومن غيره على مثل أبي عمرو مع جلالته ومحلّه من العربية لا يجب أن يكون، والتأويل له على ما حكى محمد بن يزيد قال: هذا كما يقول الرجل لحاجبه لا يخرج فلان فلفظ النهي لفلان ومعناه للمخاطب أي لا تدعه يخرج، فكذا لا يلتفت منكم أحد إلّا امرأتك، ومثله لا يقم أحد إلّا زيد، يكون معناه انههم عن القيام إلّا زيدا، ووجه آخر يكون معناه مر زيدا وحده بالقيام. أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ لأن لوطا صلّى الله عليه وسلّم استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه، وقرأ عيسى بن عمر أَلَيْسَ الصُّبْحُ «2» بضم الباء وهي لغة. [سورة هود (11) : آية 82] فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها مفعولان، حكى أبو عبيد عن الفراء أنه قد يقال «3» لحجارة الأرحاء سِجِّيلٍ وحكى عنه محمد بن الجهم أن سجّلا طين يطبخ حتى يصير بمنزلة الأرحاء، مَنْضُودٍ من نعت سجيل. [سورة هود (11) : آية 83] مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) مُسَوَّمَةً من نعت حجارة. قال الفراء «4» : زعموا أنها كانت مخطّطة بحمرة

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 248. (2) انظر البحر المحيط 5/ 249. [.....] (3) انظر معاني الفراء 2/ 24. (4) انظر معاني الفراء 2/ 24.

[سورة هود (11) : آية 84]

وسواد في بياض، فذلك تسويمها أي علاماتها. قال: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ يعني قوم لوط بِبَعِيدٍ قال: لم تكن تخطئهم. [سورة هود (11) : آية 84] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً لم تنصرف مدين لأنها اسم مدينة. [سورة هود (11) : آية 86] بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ ابتداء وخبر. وقد ذكرنا معناه وقد قيل: المعنى: ما يبقيه الله جلّ وعزّ لكم من رزقه وحفظه. خَيْرٌ لَكُمْ ممّا تأخذونه بالبخس والظلم. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أي لا يتهيّأ لي أن أحفظكم من إزالة نعم الله جلّ وعزّ عنكم بمعاصيكم. [سورة هود (11) : آية 87] قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَنْ في موضع نصب، وقال الكسائي: موضعها خفض على إضمار الباء، أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا (أن) في موضع نصب لا غير عطف على (ما) والمعنى أو تأمرك أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء، وزعم الفراء «1» أنّ التقدير: أو تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء، وقرأ الضحاك بن قيس أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء بالتاء فأن على هذه القراءة معطوفة على أن الأولى. إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ. قال أبو جعفر: قد ذكرناه وفيه زيادة هي أحسن ممّا تقدم ولأن ما قبلها يدلّ على صحّتها أي أنت الحليم الرشيد فكيف تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا ويدلّ عليها أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أنكروا لمّا رأوا من كثرة صلاته وعبادته وأنه حليم رشيد أن يكون يأمرك بترك ما كان يعبد آباؤهم، وهذا جهل شديد أو مكابرة وبعده أيضا ما يدلّ عليه. [سورة هود (11) : آية 88] قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) أي أفلا أنهاكم عن الضلال، وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ في موضع نصب بأريد.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 25.

[سورة هود (11) : آية 89]

[سورة هود (11) : آية 89] وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وقرأ يحيى بن وثاب لا يجرمنّكم بضم الياء شِقاقِي في موضع رفع أَنْ يُصِيبَكُمْ في موضع نصب. وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ قال الكسائي أي دورهم في دوركم. [سورة هود (11) : الآيات 91 الى 92] قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ يقال فقه يفقه إذا فهم فقها وفقها، وحكى الكسائي فقهانا وفقه فقها إذا صار فقيها. وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً على الحال. وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ رفع بالابتداء، وكذا أَرَهْطِي والمعنى أرهطي في قلوبكم أعظم من الله عزّ وجلّ وهو يملككم. وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا مفعولان. [سورة هود (11) : آية 93] وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) مَنْ في موضع نصب مثل يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة: 220] وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ عطف عليها، وأجاز الفراء «1» أن يكون موضعهما رفعا بجعلهما استفهاما. ويدلّ على القول الأول أنّ من الثانية موصولة ومحال أن يوصل بالاستفهام، وقد زعم الفراء أنهم إنما جاءوا بهو في وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ لأنهم لا يقولون: من قائم إنما يقولون: من قام ومن يقوم ومن القائم، فزادوا هو ليكون جملة تقوم مقام فعل ويفعل. قال أبو جعفر: ويدلّ على خلاف هذا قوله: [الخفيف] 220- من رسول إلى الثّريّا بأنّي ... ضقت ذرعا بهجرها والكتاب «2» [سورة هود (11) : آية 95] كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وحكي أن أبا عبد الرحمن السلميّ قرأ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ «3» بضم العين. قال أبو جعفر: المعروف في اللغة أنه يقال: بعد يبعد بعدا وبعدا إذا هلك.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 26. (2) الشاهد لعمر بن أبي ربيعة ص 430. (3) وهي قراءة أبي حيوة أيضا، انظر البحر المحيط 5/ 257، ومختصر ابن خالويه 61.

[سورة هود (11) : الآيات 98 إلى 99]

[سورة هود (11) : الآيات 98 الى 99] يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ يقال: قدمهم يقدمهم قدما وقدوما إذا تقدّمهم وَبِئْسَ الْوِرْدُ رفع ببئس الْمَوْرُودُ رفع بالابتداء وإن شئت على إضمار مبتدأ، وكذا بئس الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ حكى الكسائي وأبو عبيدة «1» : رفدته أرفده رفدا أي أعنته وأعطيته، واسم العطيّة الرفد. [سورة هود (11) : آية 100] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) ذلِكَ رفع على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك وإن شئت بالابتداء، وكذا مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ أي منها موجود مبني ومنها مخسوف به وذاهب. قال الأخفش سعيد: حصيد أي محصود وجمعه حصدى وحصاد مثل مرضى ومراض، قال: ويجوز فيمن يعقل حصداء مثل قبيل وقبلاء. [سورة هود (11) : آية 101] وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَما ظَلَمْناهُمْ أصل الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه، وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وحكى سيبويه أنه يقال: ظلم إياه. وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ مفعولان وهو مجاز لمّا كانت عبادتهم إياها قد خسرتهم ثواب الآخرة، قيل: ما زادوهم غير تخسير. [سورة هود (11) : آية 102] وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ ابتداء وخبر، وقرأ عاصم الجحدريّ وكذلك أخذ ربّك إذ أخذ القرى «2» فإذ لما مضى أي حين أخذ القرى، وإذا للمستقبل أي متى أخذ القرى وَهِيَ ظالِمَةٌ أي أهلها مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . [سورة هود (11) : آية 103] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) ذلِكَ يَوْمٌ ابتداء وخبر مَجْمُوعٌ من نعته الناس اسم ما لم يسمّ فاعله ولهذا لم يقل: مجموعون، ويجوز أن يكون الناس رفعا بالابتداء، ومجموع له خبره ولم يقل: مجموعون لأن «له» يقوم مقام الفاعل. [سورة هود (11) : آية 105] يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه «3» قراءة أهل المدينة وأبي عمرو والكسائي

_ (1) انظر مجاز القرآن 1/ 298. (2) انظر البحر المحيط 5/ 260. (3) انظر البحر المحيط 5/ 261.

[سورة هود (11) : آية 106]

بإثبات الياء في الإدراج وحذفها في الوقف، وحكي أن أبيّا وابن مسعود رضي الله عنهما قرأ يوم يأتي «1» بإثبات الياء في الوقف والوصل، وقرأ الأعمش وحمزة يَوْمَ يَأْتِ «2» بغير ياء في الوقف والوصل. قال أبو جعفر: الوجه في هذا أن لا يوقف عليه وأن يوصل بالياء لأن جماعة من النحويين قالوا لا وجه لحذف الياء، ولا يجزم الشيء بغير جازم فأما الوقف بغير ياء ففيه قول الكسائي قال: لأن الفعل السالم يوقف عليه كالمجزوم فحذف الياء كما يحذف الضمة، على أنّ أبا عبيد قد احتجّ بحذف الياء في الوقف والوصل بحجتين: إحداهما أنه زعم أنه رآه في الإمام الذي يقال له مصحف عثمان رضي الله عنه بغير ياء، والحجة الأخرى أنه حكى أنها لغة هذيل يقولون: ما أدر. قال أبو جعفر: أما حجته بمصحف عثمان رضي الله عنه فشيء يرده عليه أكثر العلماء. قال مالك بن أنس رحمه الله: سألت عن مصحف عثمان رضي الله عنه، فقيل لي قد ذهب وأما الحجة بقولهم: ما أدر فلا حجّة فيه لأن هذا الحرف قد حكاه النحويون القدماء وذكروا علته، وأنه لا يقاس عليه والعلّة فيه عند سيبويه، وإن كان سيبويه حكى: لا أدري، كثرة الاستعمال، ومعنى كثرة الاستعمال أنه نفي لكل ما جهل، وأنشد الفراء في حذف الياء: [الرجز] 221- كفّاك كفّ ما تليق درهما ... جودا وأخرى تعط بالسّيف الدّما «3» لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ والأصل تتكلّم حذفت إحدى التاءين تخفيفا. [سورة هود (11) : آية 106] فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا ابتداء فَفِي النَّارِ في موضع الخبر، وكذا لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ قال أبو العالية: الزفير من الصدر والشهيق من الحلق. قال أبو إسحاق: الزفير من شديد الأنين وقبيحه، والشهيق من الأنين المرتفع جدا. قال: وزعم أهل اللغة من البصريين والكوفيين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار في النهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوت الحمار في النهيق. [سورة هود (11) : آية 107] خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) خالِدِينَ فِيها نصب على الحال ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ في موضع نصب أي دوام السموات والأرض والتقدير وقت ذلك، إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ في موضع نصب، لأنه استثناء ليس من الأول وقد ذكرنا معناه.

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 262. (2) انظر البحر المحيط 5/ 262. (3) انظر معاني الفراء 2/ 27، والأضداد لابن الأنباري 64.

[سورة هود (11) : آية 108]

[سورة هود (11) : آية 108] وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا بضم السين، وقال أبو عمرو: والدليل على أنه سعدوا أن الأول شقوا ولم يقل: أشقوا قال أبو جعفر: رأيت علي بن سليمان يتعجّب من قراءة الكسائي سُعِدُوا مع علمه بالعربية إذ كان هذا لحنا لا يجوز لأنه إنما يقال: سعد فلان وأسعده الله جلّ وعزّ فأسعد مثل أمرض وإنما احتجّ الكسائي بقولهم: مسعود ولا حجّة له فيه لأنه يقال: مكان مسعود فيه ثم يحذف فيه ويسمّى به واحتجّ بقول العرب: فغرفاه وفغرفوه، وكذا شحاه «1» وسار الدابة وسرته ونزحت البئر ونزحتها وجبر العظم وجبرته، وذا لا يقاس عليه إنما ينطق منه بما نطقت به العرب. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: لو قال لنا قائل: كيف تنطقون بالمتعدّي من فغرفوه؟ ما قلنا إلّا أفغرت فاه، وهذا الذي قال حسن ويكون فغرفاه ليس بمتعدّي ذلك ولكنها لغة على حدة. عَطاءً اسم للمصدر غَيْرَ مَجْذُوذٍ من نعته يقال: جذّه وحذّه كما قال: [الطويل] 222- تجذّ السّلوقيّ المضاعف نسجه ... ويوقدن بالصّفّاح نار الحباحب «2» [سورة هود (11) : آية 109] فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) فَلا تَكُ في موضع جزم بالنهي وحذف النون لكثرة الاستعمال. وأحسن ما قيل في معناه: قل لكل من شكّ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ إنّ الله جلّ وعزّ ما أمرهم به وإنما يعبدونها كما كان آباؤهم يفعلون تقليدا لهم. [سورة هود (11) : آية 110] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ والكلمة أنّ الله جلّ وعزّ حكم أن يؤخّرهم إلى يوم القيامة لما علم من الصلاح في ذلك. ولولا ذلك لقضي بينهم

_ (1) شحا يشحو الرجل: فتح فاه. (2) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 46 «تقدّ السلوقيّ.. وتوقد» ، ولسان العرب (حجب) و (صفح) و (سلق) ، ومقاييس اللغة 2/ 28، والتنبيه والإيضاح 1/ 58، ومجمل اللغة 2/ 28، وكتاب العين 5/ 77، وتهذيب اللغة 4/ 257، وجمهرة اللغة 174، وبلا نسبة في كتاب العين 3/ 122، وجمهرة اللغة 851، وتاج العروس (حبب) و (صفح) و (سلق) . [.....]

[سورة هود (11) : آية 111]

بأن يثاب المؤمن ويعاقب الكافر. وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ من نعت شكّ. [سورة هود (11) : آية 111] وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا فيها ثماني قراءات «1» خمس منها موافقة للسواد. قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بتشديد «إنّ» وتخفيف «لما» ، وقرأ نافع بتخفيفهما جميعا. وقرأ أبو جعفر وشيبة وحمزة وهو المعروف من قراءة الأعمش بتشديدهما جميعا وقرأ عاصم بتخفيف «إن» وتشديد «لمّا» ، وقرأ الزهري «2» بتشديد «لمّا» والتنوين، فهذه خمس قراءات، وروي عن الأعمش وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا بتخفيف «إن» ورفع «كلّ» وتشديد «لمّا» . قال أبو حاتم: وفي حرف أبيّ وإن كلّ إلّا ليوفّينّ ربّك أعمالهم. وفي حرف ابن مسعود وإن كلّ إلّا ليوفّينّهم ربّك أعمالهم. قال أبو جعفر: القراءة الأولى أبينها ينصب «كلّا» بأنّ اللام للتوكيد وما صلة والخبر في ليوفّينّهم، والتقدير وإنّ كلّا ليوفّينّهم، وقراءة نافع على هذا التقدير إلّا أنه خفّف «إن» وأعملها عمل الثقيلة. وقد ذكر هذا الخليل وسيبويه وهو عندهما كما يحذف من الفعل ويعمل كما قال: [الطويل] 223- كأن ظبية تعطو إلى ناضر السّلم «3» وأنكر الكسائي أن تخفّف «إن» وتعمل وقال: ما أدري على أي شيء قرأ وإن كلّا، وقال الفراء: نصب كلّا بقوله: لنوفّينّهم. وهذا من كثير الغلط، لا يجوز عند أحد: زيدا لأضربنّه، والقراءة الثالثة بتشديدهما جميعا عند أكثر النحويين لحن، حكي عن محمد بن يزيد أن هذا لا يجوز، ولا يقال: إن زيدا إلا لأضربنّه، ولا لمّا لأضربنه، وقال الكسائي: الله جلّ وعزّ أعلم بهذه القراءة ما أعرف لها وجها. قال أبو جعفر: وللنحويين بعد هذا أربعة أقوال: قال الفراء «4» : الأصل وإنّ كلّا لممّا فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت إحداهن قال أبو إسحاق هذا خطأ لأنه يحذف النون من «من»

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 28، والبحر المحيط 5/ 266. (2) انظر البحر المحيط 5/ 266. (3) الشاهد لابن صريم اليشكري في الكتاب 2/ 134، ولعلباء بن أرقم في الأصمعيات 157، والدرر 2/ 200، وشرح التصريح 1/ 234، والمقاصد النحوية 4/ 384، ولزيد بن أرقم في الإنصاف 1/ 202، ولكعب بن أرقم في لسان العرب (قسم) ولباغت بن صريم اليشكري في تخليص الشواهد 390، وشرح المفصل 8/ 83، وله أو لعلباء بن أرقم في المقاصد النحوية 2/ 301، ولأحدهما أو لأرقم بن علباء في شرح شواهد المغني 1/ 111، وبلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 377، وجواهر الأدب 197، والجنى الداني ص 222، ورصف المباني 117، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 683، وسمط اللآلي ص 729، وشرح الأشموني: 1/ 147، وشرح عمدة الحافظ 241، وشرح قطر الندى 157، والمحتسب 1/ 308، ومغني اللبيب 1/ 33. (4) انظر معاني الفراء 2/ 9.

[سورة هود (11) : آية 113]

فيبقى حرف واحد. وقال أبو عثمان المازني: الأصل وإنّ كلّا لما بتخفيف ما ثم ثقلت. قال أبو إسحاق: هذا خطأ إنما يخفّف المثقّل ولا يثقّل المخفّف، وقال أبو عبيد القاسم بن سلّام: الأصل وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ بالتنوين من لممته لمّا أي جمعته ثم بنى منه فعلى كما قريء ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا [المؤمنون: 44] بغير تنوين وتنوين. قال أبو إسحاق: القول الذي لا يجوز عندي غيره أن «إن» تكون مخففة من الثقيلة وتكون بمعنى «ما» مثل إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ [الطارق: 4] وكذا أيضا تشدّد على أصلها وتكون بمعنى «ما» ولمّا بمعنى «إلّا» حكى ذلك الخليل وسيبويه «1» . قال أبو جعفر: والقراءات الثلاث المخالفات للسواد تكون فيها «إن» بمعنى «ما» لا غير وتكون على التفسير لأنه لا يجوز أن يقرأ بما خالف السواد إلّا على هذه الجهة. [سورة هود (11) : آية 113] وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) قال أبو عمرو بن العلاء وَلا تَرْكَنُوا لغة أهل الحجاز، وقال الفراء: لغة تميم وقيس ركن يركن وروي عن قتادة أنه قرأ وَلا تَرْكَنُوا بضم الكاف. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ «2» . وأنكر هذا أبو عبيد قال: لأنه ليس فيه حرف من حروف الحلق. قال أبو جعفر: لا معنى لقوله: ليس فيه حرف من حروف الحلق لأن حروف الحلق لا تجتلب الكسرة، وهذه اللغة ذكرها الخليل وسيبويه» عن غير أهل الحجاز إذا كان الفعل على فعل كسروا أول مستقبله ليدلّوا على الكسرة التي في ماضيه، وكان يجب أن يكسر ثانيه ليتفق مع الماضي فلم يجز ذلك للزوم الثاني الإسكان فكسروا الأول، فقالوا يحذر وهي مشهورة في بني فزارة وهذيل، كما قال: [الكامل] 224- وإخال إنّي لاحق مستتبع «4»

_ (1) انظر الكتاب 2/ 140. (2) انظر البحر المحيط 5/ 269، والمحتسب 1/ 330. (3) انظر الكتاب 4/ 227. (4) الشاهد لأبي ذؤيب الهذلي في تخليص الشواهد ص 448، والدرر 2/ 259، وشرح أشعار الهذليين 1/ 8، وشرح شواهد المغني 1/ 262، والمقاصد النحوية 3/ 494، والمنصف 1/ 322، ولسان العرب (نصب) وللهذلي في مغني اللبيب: 1/ 231، وبلا نسبة في شرح شواهد المغني 2/ 604، وهمع الهوامع 1/ 153، وصدره: «فلبثت بعدهم بعيش ناصب» .

[سورة هود (11) : آية 114]

وكذا إذا كان في ماضيه ألف وصل مكسورة كسروا أول المستقبل نحو نستعين قال سيبويه: وكذا ما كان يجب أن تكون فيه ألف وصل مثل تفعّل وتفاعل. [سورة هود (11) : آية 114] وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ نصب على الظرف، وحذفت النون للإضافة، وكسرت الياء لالتقاء الساكنين، ولم يحذفها لأن ما قبلها مفتوح (وزلفا) عطف. وقرأ أبو جعفر وَزُلَفاً بضمّ الزاي واللام وهو جمع زليف لأنه قد نطق بزليف ويجوز أن يكون واحدا، وقرأ ابن محيصن وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ بضم الزاي وإسكان اللام والتنوين وهو مسكن من زلف لأزلف الفتحة خفيفة. إِنَّ الْحَسَناتِ قد قيل: يعني به الصلوات ومما لا تنازع فيه أن التوبة تذهب السيئات. وإن اجتناب الكبائر يذهب السيئات الصغائر. [سورة هود (11) : آية 115] وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) وَاصْبِرْ أي على أذاهم. [سورة هود (11) : آية 116] فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) فَلَوْلا بمعنى هلّا، وهذا تستعمله العرب على التعجب من الشيء أي فهلّا كان من القرون من قبلكم قوم. يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ لما أعطاهم الله جلّ وعزّ من العقول وأراهم من الآيات. إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ استثناء ليس من الأول. وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ أي من الاشتغال بالمال واللذات. [سورة هود (11) : آية 118] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ خبر يزال. [سورة هود (11) : آية 119] إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ استثناء. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ معنى تمّت ثبتت، ذلك كما أخبر به. [سورة هود (11) : آية 120] وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَكُلًّا نصب بنقص. ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ أي على الصبر على أداء الرسالة

[سورة هود (11) : آية 123]

وما بدل من كل، وقال الأخفش، «وكلّا» نصب على الحال فقدّم الحال كما تقول: كلّا ضربت القوم. وَمَوْعِظَةٌ أي ما يتّعظ به من إهلاك الأمم. وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي يتذكرون ما ترك بمن هلك فيتوفّون. [سورة هود (11) : آية 123] وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) قال الأخفش: وما ربك بغافل عما يعملون إذا لم يخاطب النبي صلّى الله عليه وسلّم معهم قال: وقال بعضهم: تَعْمَلُونَ «1» لأنه خاطب النبي صلّى الله عليه وسلّم معهم أو قال قل لهم: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.

_ (1) وهي قراءة حفص وقتادة والأعرج وشيبة وأبي جعفر والجحدري، انظر البحر المحيط 5/ 275.

12 شرح إعراب سورة يوسف ع

12 شرح إعراب سورة يوسف ع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة يوسف (12) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) التقدير: هذا، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ على الابتداء والخبر. [سورة يوسف (12) : آية 2] إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب قرآن على الحال أي مجموعا، ويجوز أن يكون توطئة للحال كما تقول مررت بزيد رجلا صالحا، عَرَبِيًّا على الحال ومعنى أعرب بيّن ومنه «الثّيّب تعرب عن نفسها» «1» . لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لتكونوا على رجاء من هذا، وبعض العرب يأتي بأن مع لعل تشبيها بعسى واللام في لعلّ زائدة للتوكيد كما قال: [الرجز] 225- يا أبتا علّك أو عساكا «2» [سورة يوسف (12) : آية 3] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) نَحْنُ ابتداء. نَقُصُّ عَلَيْكَ في موضع الخبر. أَحْسَنَ الْقَصَصِ بمعنى الصدر والتقدير قصصا أحسن القصص.

_ (1) أخرجه ابن ماجة في سننه- النكاح- الحديث رقم 1872. (2) الرجز لرؤبة في ملحقات ديوانه 181، والكتاب 2/ 396، وشرح أبيات سيبويه 2/ 164، وشرح شواهد المغني 1/ 433، وشرح المفصل 2/ 90، والمقاصد النحوية 4/ 252، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 336، والجنى الداني 446، والخصائص 2/ 96، والدرر 2/ 159، ورصف المباني 29، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 406، وشرح الأشموني 1/ 133، وشرح المفصّل 2/ 12، واللامات ص 135، ولسان العرب (روي) وما ينصرف وما لا ينصرف ص 130، ومغني اللبيب 1/ 151، وهمع الهوامع 1/ 132.

[سورة يوسف (12) : آية 4]

بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قال الأخفش: أي بوحينا إليك، هذَا الْقُرْآنَ نصب بأوحينا، وأجاز الفراء «1» الخفض قال: على التكرير وهو عند البصريين على البدل من «ما» وأجاز أبو إسحاق الرفع على إضمار مبتدأ. وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ أي من الغافلين مما عرّفناكه. [سورة يوسف (12) : آية 4] إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) إِذْ في موضع نصب على الظرف. قالَ يُوسُفُ لم ينصرف لأنه عجميّ، وقرأ طلحة بن مصرّف إذ قال يؤسف بالهمز وكسر السين، وحكى أبو زيد «يوسف» بالهمز وفتح السين. لِأَبِيهِ خفض باللام وعلامة خفضه الياء والمحذوف منه واو يدلّ على ذلك أبوان. يا أَبَتِ «2» بكسر التاء قراءة عاصم ونافع وحمزة والكسائي والأعمش، وقرأ أبو جعفر والأعرج وعبد الله بن عامر يا أَبَتِ بفتح التاء، وأجاز الفراء «يا أبت» بضم التاء. قال أبو جعفر: إذا قلت يا أبت بكسر التاء فالتاء عند سيبويه من ياء الإضافة ولا يجوز على قوله الوقف إلّا بالهاء، وله على قوله دلائل، منها أن قولك: «يا أبت» يؤدي عن معنى قولك: يا أبي، وأنه لا يقال: يا ابة إلّا في المعرفة، ولا يقال: جاءني أبة لا يستعمل العرب هذا إلا في النداء خاصة ولا يقال: يا أبتي لأن التاء بدل من الياء فلا يجمع بينهما، وزعم الفراء أنه إذا قال: يا أبت فكسر وقف على التاء لا غير لأن الياء في النية، وزعم أبو إسحاق أن هذا خطأ، والحق ما قال، كيف تكون في النية وليس يقال: يا أبتا فأما قولنا بكسر التاء ولم نقل بكسر الهاء فلأن الكسر إنما يقع في الإدراج ولو قلت: مررت بامرأة لقلت: علامة الخفض كسرة التاء ولا يقول كسرة الهاء إلا من لا يدري. ويا أبت بفتح التاء مشكل في النحو، وفيه أقوال: فمذهب سيبويه «3» أنهم شبهوا هذه الهاء التي هي بدل من الياء بالهاء التي هي علامة التأنيث فقالوا يا أبت كما قال: [الطويل] 226- كليني لهمّ يا أميمة ناصب «4»

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 32. (2) انظر تيسير الداني 103، ومعاني الفراء 2/ 32. (3) انظر الكتاب 2/ 215. [.....] (4) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 40، والكتاب 2/ 211، والأزهيّة 237، وخزانة الأدب 2/ 321، والدرر 3/ 57، وشرح أبيات سيبويه 1/ 445، وكتاب اللامات 102، ولسان العرب (كوكب) و (نصب) و (أسس) و (شبع) ، والمقاصد النحوية 4/ 303، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص 121، وجمهرة اللغة ص 350، ورصف المباني 161، وشرح المفصل 2/ 107، وعجزه: «وليل أقاسيه بطيء الكواكب»

وهذا أحد قولي «1» الفراء، وله قول آخر وهو قول قطرب وأبي عبيدة وأبي حاتم يكون الأصل يا أبتاه ثم حذف الألف، ويكون الوقوف عند الفراء على قول بالتاء لا غير، وعلى القول الذي وافق فيه سيبويه بالهاء عندهما جميعا لا غير وهذا القول خطأ لأن هذا ليس موضع ندبة والألف خفيفة لا تحذف، وقال قطرب أيضا في يا أبت بالفتح يكون الأصل يا أبتا ثم حذف التنوين، وقال أبو جعفر: وهذا الذي لا يجوز لأن التنوين لا يحذف لغير علة وأيضا فإنما يدخل التنوين في النكرة، ولا يقال في النكرة يا أبة، وفي الفتح قول رابع كأنه أحسنها: يكون الأصل الكسر ثم أبدل من الكسرة فتحة كما تبدل من الياء ألف فيقال في يا غلامي أقبل: يا غلاما أقبل، وزعم أبو إسحاق أنه لا يجوز يا أبة بالضم. قال أبو جعفر: ذلك عندي لا يمتنع كما أجاز سيبويه الفتح تشبيها بهاء التأنيث كما يجوز الضمّ تشبيها بها أيضا. إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ليس بين النحويين اختلاف لأنه يقال: جاءني أحد عشر ومررت بأحد عشر، وكذلك ثلاثة عشر وتسعة عشر وما بينهما، فذهب الفراء أنهم لما ضموا أحد الاسمين إلى الآخر كرهوا أن يعربوا الأول فيخرج عن باب العدد وكرهوا أن يعربوا الثاني فيشبه بعلبكّ فحركوهما حركة واحدة كما كانا قبل البناء، وقال الكسائي: النصب مغيض النحو كلما صرف شيء عن جهته نصب وقال البصريون: النصب أخفّ الحركات فلمّا ضمّ أحد الاسمين إلى الآخر حرّكا بأخفّ الحركات، وقال بعضهم: لمّا حذفت الواو وكانت مفتوحة حرّكوا الاسمين بحركتها ولا اختلاف بين البصريين أن تعريف هذا بإدخال الألف واللام في أوله فتقول: مضى الأحد عشر رجلا لا غير، وأجاز الكسائي والفراء: مضى الأحد العشر. قال الفراء «2» : لتوهمهم انفصال أحدهما من الآخر، وأجاز إدخال الألف واللام في المميز. وذا محال عند البصريين، لأن المميز واحد يدلّ على جمع فإذا كان معروفا لم يكن فيه هذا المعنى. قال الفراء: فإن أضفت إلى نفسك أعربت الأول فقلت: هذه خمسة عشري، ومررت بخمسة عشري. قال لما لم يجز أن تضيفه إلى الأول لأن بينهما عشرا أعربت الأول، ولا يجوز المميّز هاهنا لاختلاف إعرابيهما. قال أبو جعفر: هذا يبطل كلّ ما مرّ، وسمعت محمد بن الوليد يقول: سمعت أبا العباس يقول: ربّما قرأ عليّ إسماعيل بن إسحاق الشّيء من كلام الفراء فاستحسنه فلا ينتهي إلى آخره حتّى يفسده. قال سيبويه «3» : واعلم أن العرب تجعل خمسة عشر وما أشبهها في الألف واللام والإضافة على حال، والعلّة عند أصحابه في هذا إن الجهة التي بنيت من أجلها موجودة مع الألف واللام والإضافة، وقد حكى سيبويه: هذه خمسة عشرك برفع الثاني، وزعم الفراء أنه يقال: ما رأيت خمسة عشر قطّ خيرا منها بخفض عشر وتنوينها. قال: ولا

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 32. (2) انظر معاني الفراء 2/ 33. (3) انظر الكتاب 3/ 331.

[سورة يوسف (12) : آية 5]

يدخل المميز هاهنا. وقال أبو جعفر: وذا لا يجوز عند البصريين أيضا، وقرأ أبو جعفر والحسن إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ «1» بإسكان العين، فزعم الأخفش والفراء أنهم استثقلوا الحركات فحذفوا لما كثرت. قال أبو جعفر: لم يذكر هذا سيبويه بل يجب على نصّ كلامه أن لا يجوز لأنه قال «2» : أحد عشر مثل أحد جمل ولا يجوز عنده حذف الفتحة لخفتها. وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عطف عليه. رَأَيْتُهُمْ توكيد، وقال: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ فجاء مذكّرا، فالقول عند الخليل وسيبويه أنه لمّا خبّر عن هذه الأشياء بالطاعة والسجود وهما من أفعال من يعقل جعل فيهما يكون لما يعقل. [سورة يوسف (12) : آية 5] قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ نهي وظهر التضعيف لأنه قد سكن الثاني ويجوز الإدغام في غير القرآن والفتح والكسر والضم. رُؤْياكَ بالهمز والجمع رؤي. قال أبو حاتم: قال يعقوب قال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله أهل الحجاز لا يهمزون «رؤيا» وبكر وتميم تهمزها. قال أبو حاتم: ويقال «3» : ريا بقلب الواو ياء والراء مضمومة ويقال: ريّا بكسر الراء. فَيَكِيدُوا جواب النبي بالفاء وقد ذكرناه. كَيْداً مصدر إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ اسم «إنّ» وخبرها وجمع عدوّ اعداء، وكان سبيله أن يجمع على فعول فاستثقل ذلك فيه. [سورة يوسف (12) : آية 6] وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ الكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف وكذلك الكاف في كَما أَتَمَّها، و (ما) كافة. [سورة يوسف (12) : آية 7] لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) قرأ أهل المدينة وأهل البصرة وأهل الكوفة لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ وقرأ أهل مكة آية للسائلين «4» على واحدة، واختار أبي عبيد «آيات» قال: لأنها عبر كثيرة. قال أبو جعفر: «آية» هاهنا قراءة حسنة أي لقد كان في الذين سألوا عن خبر يوسف آية فيما خبّروا به لأنهم سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة فقالوا: خبّرنا

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 280، ومعاني الفراء 2/ 34، ومختصر ابن خالويه 62. (2) انظر الكتاب 4/ 37. (3) انظر معاني الفراء 2/ 35. (4) انظر تيسير الداني 104.

[سورة يوسف (12) : آية 8]

عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر فبكى عليه حتّى عمي ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب ولا ممن يعرف خبر الأنبياء وإنما وجّه اليهود إليه من المدينة يسألونه عن هذا فأنزل الله عزّ وجلّ سورة يوسف جملة واحدة فيها كل ما في التوراة من خبره وزيادة فكان ذلك آية للنبي صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة إحياء عيسى صلّى الله عليه وسلّم الميّت. [سورة يوسف (12) : آية 8] إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ رفع بالابتداء وهذه لام التوكيد. وَأَخُوهُ عطف عليه. أَحَبُّ إِلى أَبِينا خبره، ولا يثنى ولا يجمع لأنه بمعنى الفعل. [سورة يوسف (12) : آية 9] اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً نصب «أرضا» على حذف «في» لا على الظرف لأنها غير مبهمة، وأنشد سيبويه فيما حذف منه في: [الكامل] 227- لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه ... فيه كما عسل الطّريق الثّعلب «1» إلّا أنه في الآية حسن كثير لأنه يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف فإذا حذفت الحرف تعدّى الفعل إلى الآخر. يَخْلُ لَكُمْ جزم لأنه جواب الأمر فلذلك حذفت منه الواو. وَتَكُونُوا عطف عليه. [سورة يوسف (12) : آية 10] قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة فِي غَيابَتِ الْجُبِّ «2» وقرأ أهل المدينة في غيابات الجبّ «3» وأجاز أبو عبيد التوحيد لأنه على موضع واحد ألقوه فيه فأنكر الجمع لهذا. قال أبو جعفر: هذا تضييق في اللغة، وغيابات على الجمع، ويجوز من جهتين: حكى سيبويه: سير عليه عشيّانات وأصيلانات، يريد عشيّة وأصيلا فجعل كل وقت منها عشيّة وأصيلا، وكذا جعل كلّ موضع ما يغيب غيابة ثم جمع، والوجه الآخر أن يكون في الجبّ غيابات جماعة. ويقال: غاب يغيب غيبا وغيابة وغيابا كما قال: [الطويل] 228- ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث ... إلى ذا كما ما غيّبتني غيابيا «4»

_ (1) مرّ الشاهد رقم (145) . (2) انظر تيسير الداني 104. (3) انظر البحر المحيط 5/ 285. (4) الشاهد لابن أحمر في ديوانه ص 171، والأزهيّة 115، وخزانة الأدب 5/ 9، وبلا نسبة في الإنصاف 2/ 483، والخصائص 2/ 460، والمحتسب 2/ 227.

[سورة يوسف (12) : آية 11]

يَلْتَقِطْهُ جواب الأمر، وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة تلتقطه «1» بعض السيارة، وهذا محمول على المعنى لأن بعض السيارة سيارة وحكى سيبويه: سقطت بعض أصابعه، وأنشد: [الطويل] 229- وتشرق بالقول الّذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدّم «2» إِنْ كُنْتُمْ في موضع جزم بالشرط. فاعِلِينَ خبر كنتم. [سورة يوسف (12) : آية 11] قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) قرأ يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا بالإدغام بغير إشمام، وقرأ طلحة بن مصرف ما لك لا تأمننا «3» بنونين ظاهرتين وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزين، ويروى عن الأعمش ما لك لا تيمنّا «4» بكسر التاء، وقرأ سائر الناس فيما علمت بالإدغام والإشمام. قال أبو جعفر: القراءة الأولى بالإدغام وترك الإشمام هي القياس لأن سبيل ما يدغم أن يكون ساكنا، وقال أبو عبيدة: لا بد من الإشمام. وهذا القول مردود عند النحويين: وقال أبو حاتم: لو كان إدغاما صحيحا ما أشمّ شيئا، وهذا أيضا عند النحويين غلط لأن الإشمام إنما هو بعد الإدغام إنما يدلّ به على أن الفعل كان مرفوعا وتأمننّا على الأصل، «وتيمنّا» لغة تميم. يقولون: أنت تضرب، وقد ذكرناه «5» . [سورة يوسف (12) : آية 12] أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً منصوب على الظرف والأصل عند سيبويه «6» «غدو» وقد نطق به. قال النضر بن شميل: ما بين الفجر وصلاة الصبح يقال له غدوة، وكذا بكرة نرتع ونلعب «7» بالنون وإسكان العين قراءة أهل البصرة، والمعروف من قراءة أهل مكة نرتع بالنون وكسر العين، وقراءة أهل الكوفة يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ بالياء وإسكان العين، وقراءة أهل المدينة يرتع ويلعب بالياء وكسر العين. قال أبو جعفر: القراءة الأولى من قول العرب: رتع الإنسان والبعير إذا أكلا كيف شاءا إلّا أن معمرا روى عن قتادة قال: يرتع يسعى. قال أبو جعفر: أخذه من قوله: «إنا ذهبنا نستبق» لأن المعنى نستبق في العدو إلى غاية بعينها، وكذا «يرتع» بإسكان العين إلّا أنه ليوسف وحده صلّى الله عليه وسلّم ونرتع بكسر العين من الرّعي وهو الكلأ، والرعي المصدر، وقال القتبيّ: نرتع

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 285. (2) انظر البحر المحيط 5/ 285، ومعاني الفراء 2/ 38. [.....] (3) انظر البحر المحيط 5/ 285، ومعاني الفراء 2/ 38. (4) انظر البحر المحيط 5/ 285، ومعاني الفراء 2/ 38. (5) مرّ في إعراب الآية 5- الفاتحة. (6) انظر الكتاب 1/ 92. (7) انظر تيسير الداني 104، والبحر المحيط 5/ 286.

[سورة يوسف (12) : آية 13]

نتحارس ونتحافظ من قولهم: رعاك الله أي حفظك. قال أبو جعفر: وعلامة الجزم في نرتع ويرتع الضمّة، وهو مجزوم لأنه جواب أرسله، وعلامة الجزم في نرتع ويرتع حذف الياء وَيَلْعَبْ عطف عليه. وَإِنَّا لَهُ تبيين. لَحافِظُونَ خبر «إنّ» . [سورة يوسف (12) : آية 13] قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي اللغة الفصيحة، حكى ذلك يعقوب وغيره أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ في موضع رفع أي ذهابكم به وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ من تذاءبت الريح إذا جاءت من كلّ وجه كذا قال أحمد بن يحيى، قال: و «الذئب» مهموز لأنه يجيء من كلّ وجه، وروى ورش عن نافع «الذيب» «1» بغير همز لما كانت الهمزة ساكنة وقبلها كسرة فخففها صارت ياء. [سورة يوسف (12) : الآيات 16 الى 17] وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) عِشاءً ظرف يَبْكُونَ في موضع الحال. قال محمد بن يزيد وَلَوْ كُنَّا أي وإن كنّا. [سورة يوسف (12) : آية 18] وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ مجاز أي ذي كذب مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . فَصَبْرٌ جَمِيلٌ قال أبو إسحاق: أي فشأني أو الّذي أعتقده صبر جميل. قال قطرب: أي فصبري صبر جميل. قال أبو حاتم: قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف فصبرا جميلا «2» قال: وكذا الأشهب العقيلي، قال: وكذا في مصحف أنس وأبي صالح «3» . قال محمد بن يزيد: «فصبر جميل» بالرفع أولى من النصب لأن المعنى: فالذي عندي صبر جميل، قال: وإنما النصب الاختيار في الأمر كما قال جلّ وعزّ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا [المعارج: 5] . قال أبو جعفر: والنصب على المصدر وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ ابتداء وخبر. عَلى ما تَصِفُونَ مجاز والمعنى- والله أعلم- والله المستعان على احتمال ما تصفون.

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 287. (2) انظر البحر المحيط 5/ 290، ومختصر ابن خالويه 63. (3) أبو صالح، محمد بن عمير بن الربيع الهمذاني الكوفي، عارف بحروف حمزة، انظر غاية النهاية 2/ 222.

[سورة يوسف (12) : آية 19]

[سورة يوسف (12) : آية 19] وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فأنّث على اللفظ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فذكّر على المعنى ولو كان فأرسلت واردها لكان على اللفظ. فَأَدْلى دَلْوَهُ من ذوات الواو إلّا أنه رجع إلى الياء لما جاوز ثلاثة أحرف اتباعا للمستقبل هذا قول الخليل وسيبويه، وقال الكوفيون لمّا ثقل ردّ إلى الياء لأنها أخفّ من الواو. وجمع دلو في أقلّ العدد أدل فإذا كثرت قلت: دليّ ودليّ، فقلبت الواو ياء لأن الجمع بابه التغيير وليفرّق بين الواحد والجميع، ودلاء قلبت الواو ألفا ثم أبدلت منها همزة لئلا يجتمع ساكنان. قال يا بشراي هذا غلام «1» هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة إلا أن ابن أبي إسحاق قرأ يا بشريّ هذا غلام «2» فقلبت الألف ياء لأن هذا الياء يكسر ما قبلها فلمّا لم يجز كسر الألف كان قلبها عوضا، وقرأ أهل الكوفة يا بُشْرى هذا غُلامٌ في معناه قولان: أحدهما أنه اسم الغلام، والآخر أن المعنى يا أيتها البشرى. قال قتادة: لمّا أدلي الدلو تشبّث به يوسف صلّى الله عليه وسلّم فلما أخرجه بشّرهم فقال: يا بشرى هذا غلام. قال أبو جعفر وهذا القول أولى لأنه لم يأت في القرآن تسمية أحد إلّا يسيرا وإنما يأتي بالكناية كما قال جلّ وعزّ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ [الفرقان: 27] وهو عقبة بن أبي معيط وبعده يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا [الفرقان: 27] وهو أميّة بن خلف فجاء على الكناية. وَأَسَرُّوهُ الهاء كناية عن يوسف، فأما الواو فكناية عن أخوته، وقيل عن التجار الذين اشتروه، بِضاعَةً نصب على الحال قال أبو إسحاق: المعنى واشتروه جاعليه بضاعة، وقال غيره: بضاعة بمعنى مبضوعا. [سورة يوسف (12) : آية 20] وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ من نعت ثمن أي ذي بخس أي قليل. دَراهِمَ على البدل ويقال: دراهيم على أنه جمع دراهم، وقد يكون اسما للجمع عند سيبويه، ويكون أيضا عنده على أنه مدّ الكسرة فصارت ياء وليس هذا مثل مدّ المقصور لأن مد المقصور لا يجوز عند البصريين في شعر ولا غيره، وأنشد النحويون: [البسيط] 230- تنفي يداها الحصى في كلّ هاجرة ... نفي الدّراهيم تنقاد الصّياريف «3»

_ (1) انظر تيسير الداني 104، والبحر المحيط 5/ 291، ومعاني الفراء 2/ 39. (2) وهي قراءة أبي الطفيل والحسن والجحدري، انظر البحر المحيط 291. (3) الشاهد للفرزدق في الكتاب 1/ 57، والإنصاف 1/ 27، وخزانة الأدب 4/ 424، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 25، وشرح التصريح 2/ 371، ولسان العرب (صرف) ، والمقاصد النحوية 3/ 521، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في أسرار العربية 45، والأشباه والنظائر 2/ 29، وأوضح المسالك 4/ 376، وتخليص الشواهد 169، وجمهرة اللغة 741، ورصف المباني 12، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 769، وشرح الأشموني 2/ 337، ولسان العرب (قطرب) و (سحج) و (نقد) و (صنع) ، والمقتضب 2/ 258، والممتع في التصريف 1/ 205.

[سورة يوسف (12) : آية 21]

مَعْدُودَةٍ نعت. وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ قال أبو إسحاق: ليست «فيه» داخلة في الصلة ولكنها تبيين أي زهادتهم فيه، وحكى سيبويه والكسائي زهدت فيه وزهدت بكسر الهاء وفتحها. [سورة يوسف (12) : آية 21] وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَكَذلِكَ الكاف في موضع نصب. مَكَّنَّا لِيُوسُفَ أي بأن عطفنا قلب الملك الذي اشتراه عليه حتى تمكّن من الأمر والنهي في البلد الذي الملك مستول عليه. وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ نصب بلام كي، ولا بد من أن يتعلق بفعل فالتقدير: ولنعلمه من تأويل الأحاديث مكنّاه، والمعنى: مكناه لنوحي إليه بكلامنا ونعلّمه تأويله وتفسيره وتأويل الرؤيا. وتم الكلام. ثم قال الله عزّ وجلّ: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أي يفعل ما يشاء في خلقه لا يقدر أحد على منعه ولا غلبته، وليس هذا للمخلوقين فهذا معنى غالب على أمره. [سورة يوسف (12) : آية 22] وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ هو جمع عند سيبويه «1» واحده شدّة، وقال الكسائي: واحده شدّ كما قال: [الكامل] 230 م- عهدي به شدّ النّهار كأنّما ... خضب البنان ورأسه بالعظلم «2» وزعم أبو عبيدة «3» أنه لا واحد له من لفظه عند العرب. ومعناه استكمال القوة ثم يكون النقصان بعد، وقال مجاهد وقتادة الأشدّ ثلاث وثلاثون سنة، وقال ربيعة وزيد بن أسلم ومالك بن أنس الأشدّ بلوغ الحلم. آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً قيل: معناه جعلناه المستولي على الحكم فكان يحكم في سلطان الملك، وآتيناه علما بالحكم. [سورة يوسف (12) : آية 23] وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وهي امرأة الملك. وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ غلّق

_ (1) انظر الكتاب 4/ 60. (2) الشاهد لعنترة في ديوانه ص 213، ولسان العرب (شدد) ، وتاج العروس (شدد) . (3) انظر مجاز القرآن 1/ 305. [.....]

للتكثير، ولا يقال: غلق الباب، وأغلق يقع للكثير والقليل، كما قال الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء رحمه الله: [البسيط] 231- ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها ... حتّى أتيت أبا عمرو بن عمّار «1» وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ فيها سبع قراءات «2» : فمن أجلّ ما قيل فيها وأصحّه إسنادا ما رواه الأعمش بن أبي وائل قال: سمعت عبد الله بن مسعود رحمه الله يقرأ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قال فقلت: إن قوما يقرءونها هَيْتَ لَكَ قال: إنما أقرأ كما علّمت. قال أبو جعفر: وبعضهم يقول عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا يبعد ذلك لأن قوله: إنما أقرأ كما علّمت يدلّ على أنه مرفوع، وهذه القراءة بفتح الهاء والتاء هي الصحيحة من قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة، وبها قرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ بفتح الهاء وكسر التاء، وقرأ أبو عبد الرحمن وابن كثير وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ بفتح الهاء وضم التاء، فهذه ثلاث قراءات الهاء فيهنّ مفتوحة، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ بكسر الهاء وفتح التاء، وقرأ يحيى بن وثاب وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ بكسر الهاء وبعدها ياء ساكنة والتاء مضمومة، وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس ومجاهد وعكرمة وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة والتاء مضمومة، وعن ابن عامر وأهل الشام وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ بكسر الهاء وبالهمزة وفتح التاء. قال أبو جعفر: «هيت لك» بفتح التاء لالتقاء الساكنين لأنه صوت يجب أن لا يعرب، والفتح خفيف. فهذا كقولك: كيف وأين ومن كسر التاء فإنما كسرها لأن الأصل الكسر، ومن ضمّ فلالتقاء الساكنين أيضا وشبّهه بقولهم: «جوت» في زجر الجمل. يقال: بالضمّ والفتح والكسر «وجاه» بمعناه إلّا أنه لا يقال إلّا مكسورا، وكذا «عاج» في زجر الأنثى، وقراءة أهل المدينة فيها قولان: أحدهما أن يكون الفتح لالتقاء الساكنين كما مرّ، والآخر أن يكون من هاء يهيء مثل جاء يجيء فيكون المعنى في «هيت» أي حسنت هيئتك وخفّف الهمزة، ويكون «لك» من كلام آخر، كما تقول: لك أعني وأما «لك» في «هيت لك» فهي تبين، كما يقال «سقيا لك» ، وقال عكرمة: «هيت» أي هلمّ أي إلى ما دعوتك له، و «هيت لك» بغير همز وبالهمز من هاء يهيئ. قالَ مَعاذَ اللَّهِ مصدر. يقال: عاذ معاذا ومعاذة وعياذا. إِنَّهُ رَبِّي في موضع نصب على

_ (1) الشاهد للفرزدق في ديوانه 382، والكتاب 3/ 563 «ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها» ، وأدب الكتاب ص 461، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 456، وشرح أبيات سيبويه 2/ 261، وشرح شافية ابن الحاجب 1/ 93، ولسان العرب (غلق) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 118، وشرح المفصّل 1/ 27. (2) انظر تيسير الداني 104، والبحر المحيط 5/ 294، ومعاني الفراء 2/ 40.

[سورة يوسف (12) : آية 24]

البدل من الهاء، وقد يكون رفعا على الخبر. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الهاء كناية عن الحديث والجملة خبر. [سورة يوسف (12) : آية 24] وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ لام توكيد، وزعم الخليل أنّ «قد» للتوقع. وَهَمَّ بِها قد ذكرنا معناه. وأن قوما قالوا: هو على التقديم والتأخير. وهذا القول عندي محال ولا يجوز في اللغة ولا في كلام من كلام العرب. لا يقال: قام فلان إن شاء الله، ولا قام فلان لولا فلان، وقد قيل: همّه بها هو الشهوة وما يخطر على القلب، كما يقال: ما يهمّني ذلك أي ما أشتهيه. لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ (أن) في موضع رفع، وجواب لولا محذوف لعلم السامع. كَذلِكَ الكاف في موضع رفع أي أمر البراهين كذلك، ويجوز أن تكون في موضع نصب أي أريناه البراهين كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ لام كي والناصب للفعل «أن» . إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ أي المخلصين لأداء الرسالة، والمخلصين لطاعة الله جلّ وعزّ. [سورة يوسف (12) : آية 25] وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) وَاسْتَبَقَا الْبابَ حذفت الألف من «استبقا» في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها. كما يقال: جاءني عبد الله في التثنية، ومن العرب من يقول: جاءني عبد الله بإثبات الألف بغير همز ويجمع بين ساكنين لأن الثاني مدغم والأول حرف مدّ ولين، ومنهم من يقول: جاءني عبد الله بإثبات الألف والهمزة، كما تقول في الوقف. وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ قال أبو إسحاق: القد القطع أي جذبت فانقطع قال أبو جعفر: في هذا من اختصار القرآن المعجز الذي يجمع فيه المعاني، والمعنى: سابق يوسف صلّى الله عليه وسلّم إلى الباب ممتنعا منها ليخرج، وسابقته إلى الباب لتقف عليه فتمنعه من الخروج فلما سبقها جذبته لئلا يخرج فقطعت قميصه. قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً (ما) ابتداء، وخبره أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ عطف عليه. قال الكسائي: ويجوز أو عذابا أليما بمعنى ويعذب عذابا أليما. [سورة يوسف (12) : الآيات 26 الى 27] قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قد ذكرنا فيه اختلافا. والأشبه بالمعنى- والله أعلم- أن يكون رجلا عاقلا حكيما شاوره الملك فجاء بهذه الدلالة ولو كان طفلا لكان شهادته ليوسف صلّى الله عليه وسلّم يغني أن يأتي بدليل من العادة لأن كلام الطفل آية معجزة فكانت أوضح من الاستدلال

[سورة يوسف (12) : آية 29]

بالعادة، وليس هذا بمخالف للحديث تكلّم أربعة وهم صغار منهم صاحب يوسف يكون بمعنى صغير وليس بشيخ، وفي هذا دليل آخر بيّن وهو أن ابن عبّاس رحمه الله هو الذي روى الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد تواترت الرواية عنه أن صاحب يوسف ليس بصبي. إِنْ كانَ قَمِيصُهُ في موضع جزم بالشرط، وفيه من النحو ما يشكل. يقال: حروف الشرط تردّ الماضي إلى المستقبل، وليس هذا في كان. فقال المازني: القول مضمر، وقال محمد بن يزيد هذا لقوّة كان فإنه يعبر بها عن جميع الأفعال. وقال أبو إسحاق: المعنى: إن يكن أي إن يعلم فالعلم لم يقع وكذلك الكون لأنه يؤدي عن العلم قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فخبّر عن كان بالفعل الماضي، كما قال زهير: [الطويل] 232- وكان طوى كشحا على مستكنّة ... فلا هو أبداها ولم يتقدّم «1» وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ «2» بضم القاف والباء واللام، وكذا «دبر» . قال أبو إسحاق: يجعله غاية أي من قبله ومن دبره قال: ويجوز «من قبل» «ومن دبر» بفتح اللام والراء، ويشبّهه بما لا ينصرف لأنه معرفة ومزال عن بابه. [سورة يوسف (12) : آية 29] يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) يُوسُفُ نداء مفرد أي يا يوسف. [سورة يوسف (12) : آية 30] وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) وَقالَ نِسْوَةٌ ويقال: نسوة، والجمع الكثير نساء، وحكي «قد شغفها» بكسر الغين. ولا يعرف في كلام العرب إلّا «شغفها» بفتح الغين، وكذا قَدْ شَغَفَها أي تركها مشغوفة. إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي في هذا الفعل. وهذه لام توكيد ولا تقع في الماضي هاهنا إلّا أن الأخفش أجاز: إنّ زيدا لنعم الرجل لأن نعم لا تتصرّف. [سورة يوسف (12) : آية 31] فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أي بعيبهن إياها واحتيالهنّ في ذمها أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ في الكلام حذف أي أرسلت إليهنّ تدعوهن إلى وليمة لتوقعهنّ فيما وقعت فيه. وَأَعْتَدَتْ من

_ (1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوان ص 22، والأزهيّة ص 158، وخزانة الأدب 4/ 3، ولسان العرب (طوى) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب 7/ 56. (2) انظر البحر المحيط 5/ 297، والمحتسب 1/ 338.

العتاد، وهو كل شيء جعلته عدّة لشيء. مُتَّكَأً أصحّ ما قيل فيه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: مجلسا، وأما قول الجماعة من أهل التفسير إنه الطعام، فيجوز على تقدير طعام متّكئا، مثل «واسئل القرية» ، ودلّ على هذا الحذف، وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً لأن حضور النساء ومعهنّ السكاكين إنّما هو الطعام يقطع بالسكاكين. والأصل في متّكأ موتكأ، ومثله متّزن ومتّعد من وزنت ووعدت ووكأت، ويقال: تكئ يتكأ تكأة. وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً مفعولان وحكى الكسائي والفراء أن السكين يذكّر ويؤنّث، وأنشد الفراء: [الوافر] 233- فعيّث في السّنام غداة قرّ ... بسكّين موثّقة النّصاب «1» والأصمعي لا يعرف في السكين إلّا التذكير. وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ بضم التاء لالتقاء الساكنين لأن الكسرة تثقل إذا كانت بعدها ضمة وكسر التاء على الأصل وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ أي معاذ الله، وروى الأصمعي عن نافع أنه قرأ كما قرأ أبو عمرو بن العلاء وقلن حاشا لله «2» بإثبات الألف، وهو الأصل، ومن حذفها جعل اللام التي بعدها عوضا منها، وفيها لغات أربع: «حاشاك» و «حاشا لك» و «حاش لك» و «حشا لك» ، ويقال: حشا زيد وحاشا زيدا. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمّد بن يزيد يقول: النصب أولى لأنه قد صحّ أنها فعل بقولهم: حاش لزيد والحرف لا يحذف منه، وقد قال النابغة: [البسيط] 234- وما أحاشي من الأقوام من أحد «3» ما هذا بَشَراً شبّهت (ما) بليس عند الخليل وسيبويه إذا كان الكلام مرتّبا. قال سيبويه: وربّ حرف هكذا أي يشبّهه بغيره في بعض المواضع، ثم ذكر سيبويه «تالله» و «لدن غدوة» ثم قال الكوفيون «4» : لما حذفت الباء نصبت وشرح هذا على ما قاله أحمد بن يحيى أنك إذا قلت: ما زيد بمنطلق، فموضع الباء موضع نصب، وهكذا سائر حروف الخفض. قال: فلما حذفت الباء نصبت لتدلّ على محلها. قال: وهذا قول الفراء «5» وما تعمل «ما» شيئا، فألزمهم البصريون أن يقولوا: زيد القمر، لأن المعنى كالقمر، فرد هذا أحمد بن يحيى بأن قال: الباء

_ (1) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (عيث) و (سكن) ، والمذكر والمؤنث للأنباري ص 314، والمذكر والمؤنث للفراء ص 96، والمخصّص 17/ 16، وتاج العروس (عيث) و (سكن) . (2) انظر تيسير الداني 105، والبحر المحيط 5/ 303. (3) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 20، وأسرار العربية 208، والإنصاف 1/ 278، والجنى الداني ص 599، وخزانة الأدب 3/ 403، والدرر 3/ 181، وشرح شواهد المغني 1/ 368، وشرح المفصّل 2/ 85، ولسان العرب (حشا) ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص 427، وشرح الأشموني 1/ 340، وشرح المفصّل 8/ 49، ومغني اللبيب 1/ 121، وهمع الهوامع 1/ 233. (4) انظر الإنصاف مسألة (19) . (5) انظر معاني الفراء 2/ 42.

[سورة يوسف (12) : آية 33]

أدخل في حروف الخفض من الكاف لأن الكاف تكون اسما. قال أبو جعفر: لا يصح إلا قول البصريين. وهذا القول يتناقض لأن الفراء أجاز نصا ما بمنطلق زيد، وأنشد: [الوافر] 235- أما والله أن لو كنت حرّا ... وما بالحرّ أنت ولا العتيق «1» ومنع نصا النصب، ولا نعلم بين النحويين اختلافا أنه جائز: ما فيك براغب زيد، وما إليك بقاصد عمرو ثم يحذفون الباء ويرفعون، وحكى البصريون والكوفيون: ما زيد منطلق بالرفع، وحكى البصريون أنها لغة بني تميم وأنشدوا: [الوافر] 236- أتيما تجعلون إليّ ندّا ... وما تيم لذي حسب نديد «2» وحكى الكسائي أنها لغة تهامة ونجد: وزعم الفراء أن الرفع أقوى الوجهين. قال أبو إسحاق: هذا غلط كتاب الله جلّ وعزّ، ولغة رسوله صلّى الله عليه وسلّم أقوى وأولى. إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ لفضل الملائكة على البشر. [سورة يوسف (12) : آية 33] قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ ابتداء وخبر، والتقدير نزول السجن أحبّ إليّ أي أسهل عليّ، وحكى أبو حاتم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قرأ السجن «3» بفتح السين، وحكى أن ذلك قراءة ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن الأعرج ويعقوب وهو مصدر سجنه سجنا وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ شرط ومجازاة أي إن لم تلطف لي في اجتناب المعصية وقعت فيها. [سورة يوسف (12) : آية 34] فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ أي فلطف له في ذلك. فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ قيل: لأنهنّ جمع قد راودنه عن نفسه، وقيل: يعني كيد النساء. [سورة يوسف (12) : آية 35] ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ فيه ثلاثة أقوال: فمذهب سيبويه «4» أن

_ (1) الشاهد بلا نسبة في الإنصاف 1/ 121، وخزانة الأدب 4/ 141، والجنى الداني 222، وجواهر الأدب 197، والدرر 4/ 96، ورصف المباني 116، وشرح التصريح 2/ 233، وشرح شواهد المغني 1/ 111، ومغني اللبيب 1/ 33، والمقاصد النحوية 4/ 409، والمقرب 1/ 205، وهمع الهوامع 2/ 18. (2) الشاهد لجرير في ديوانه ص 164، والخزانة 1/ 448. (3) انظر معاني الفراء 2/ 44، والبحر المحيط 5/ 306. (4) انظر الكتاب 4/ 125.

[سورة يوسف (12) : آية 36]

«ليسجننّه» في موضع الفاعل أي ظهر لهم أن يسجنوه، وقال محمد بن يزيد: هذا غلط لا يكون الفاعل جملة ولكن الفاعل ما دلّ عليه بدا أي بدا لهم بداء فحذف الفاعل لأن الفعل يدلّ عليه كما قال: [الوافر] 237- وحقّ لمن أبو موسى أبوه ... يوفّقه الّذي نصب الجبالا «1» والقول الثالث أن معنى «بدا له» في اللغة ظهر له ما لم يكن يعرفه فالمعنى ثم بدا لهم أي لم يكونوا يعرفونه وحذف هذا لأن في الكلام عليه دليلا وحذف أيضا القول أي قالوا ليسجننّه، وهذه النون للتوكيد، وكذا الخفيفة يوقف عليها بالألف نحو وَلَيَكُوناً [يوسف: 32] ليفرق بينهما، وقال أبو عبيد: يوقف عليها بالألف لأنها أشبهت التنوين في قولك: رأيت رجلا والتقدير فحسبوه. [سورة يوسف (12) : آية 36] وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ تثنية فتى وهو من ذوات الياء وقولهم الفتوّة شاذّ. قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً والتقدير في النوم ثم حذف. نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ من ذوات الهمز فلذلك ثبتت الياء فيه ومن خفف: نبيّنا ومن أبدل منها قال نبِّنا فحذف الياء. [سورة يوسف (12) : آية 40] ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ حذف المفعول الثاني للدلالة والمعنى سمّيتموها آلهة من عند أنفسكم. ما أَنْزَلَ اللَّهُ ذلك في كتاب. قال سعيد بن جبير مِنْ سُلْطانٍ أي من حجّة. [سورة يوسف (12) : آية 41] يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً حكى بعض أهل اللغة أنّ سقاه وأسقاه لغتان بمعنى واحد كما قال: [الوافر] 238- سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال «2»

_ (1) الشاهد لذي الرّمّة في ديوانه 446، وبلا نسبة في لسان العرب (حقق) . [.....] (2) الشاهد للبيد في ديوانه 93، وتهذيب اللغة 9/ 228، وتاج العروس (مجد) و (سقى) ، والمخصّص 14/ 169، ونوادر أبي زيد 213، وبلا نسبة في رصف المباني 50، ولسان العرب (مجد) .

[سورة يوسف (12) : آية 42]

قال الأصمعي: أنا أتّهم هذا البيت من شعر لبيد وأتوهّم أنه مصنوع لأنّه جاء بلغتين في بيت. قال أبو جعفر: الذي عليه أكثر أهل اللغة أن معنى سقاه ناوله فشرب أو صبّ الماء في حلقه، ومعنى أسقاه جعل له سقيا. قال جلّ وعزّ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً [المرسلات: 27] . [سورة يوسف (12) : آية 42] وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا قال الكسائي: والمصدر نجوا ونجاء. اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ أي أذكر ما رأيته منّي وما أنا عليه من عبارة الرؤيا وغير ذلك. [سورة يوسف (12) : آية 43] وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ حذفت الهاء فرقا بين المذكّر والمؤنّث، ويجوز في غير القرآن: سبع بقرات سمانا نعت لسبع، وكذا خضرا. قال الفراء «1» : ومثله سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [نوح: 15] . [سورة يوسف (12) : آية 44] قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي هي أضغاث. قال الفراء: ويجوز أضغاث أحلام، أي رأيت أضغاث أحلام. قال أبو جعفر: النصب بعيد لأن المعنى: لم ترى شيئا له تأويل، إنما هي أضغاث أحلام. وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ قال أبو إسحاق: المعنى بتأويل الأحلام المختلطة. [سورة يوسف (12) : آية 45] وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) قال أبو جعفر: الأصل في وَادَّكَرَ اذتكر، والذال قريبة المخرج من التاء، ولم يجز ادغامها فيها لأن الذال مجهورة والتاء مهموسة فلو أدغموا ذهب الجهر فأبدلوا من موضع التاء حرفا مجهورا وهو الدال وكان أولى من الطاء لأن الطاء مطبقة فصار إذ دكّر فأدغموا الذال في الدال فصار ادّكر، وحكى الخليل وسيبويه: إن من العرب من يقول اذّكر فيدغم الدال في الذال لرخاوة الذال ولينها ويقال: أمه يأمه إمها إذا نسي، فعلى هذا وادّكر بعد أمه.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 47.

[سورة يوسف (12) : آية 46]

[سورة يوسف (12) : آية 46] يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) يُوسُفُ نداء مفرد وكذا أَيُّهَا الصِّدِّيقُ الكثير الصدق. [سورة يوسف (12) : آية 47] قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) دَأَباً مصدر لأن معنى تزرعون تدأبون، وحكى أبو حاتم عن يعقوب دَأَباً «1» بتحريك الهمزة، وروى حفص عن عاصم وفيه قولان: قول أبي حاتم أنه من دئب. قال أبو جعفر: ولا يعرف أهل اللغة إلا دأب. والقول الآخر أنه حرّك لأن فيه حرفا من حروف الحلق. [سورة يوسف (12) : آية 48] ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ مجازا أي يأكل أهلهن. ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ أي ما ادخرتم من أجلهنّ. إِلَّا قَلِيلًا نصب على الاستثناء. مِمَّا تُحْصِنُونَ أي مما تحبسون لتزرعوه. [سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 51] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أي فذهب الرسول فأخبره فقال: ائتوني به فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ أي فأمره بالخروج. قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ أي ليعلم حال النسوة اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي ليعلم أني حبست بلا جرم. إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ فدلّ بهذا على أنهن قد كدنه كما كادته امرأة العزيز. المعنى فذهب الرسول فأخبره فاحضرهنّ فقال: ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ شدّدت النون لأنّها بمنزلة الميم والواو في المذكّرين. [سورة يوسف (12) : آية 52] ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) ذلِكَ في موضع رفع أي الأمر ذلك. لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ أي لم أذكره وهو غائب بسوء، وكذا الخيانة وقد قيل: هذا من كلام يوسف صلّى الله عليه وسلّم.

_ (1) انظر معاني الفرّاء 2/ 27، وتيسير الداني 105.

[سورة يوسف (12) : آية 53]

[سورة يوسف (12) : آية 53] وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي على التكثير، وكذا إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ أي مشتهية له. إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي في موضع نصب على الاستثناء. [سورة يوسف (12) : آية 54] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي جزم لأنه جواب الأمر، والمعنى فذهبوا فجاؤوا به ودلّ على هذا. فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أي متمكّن من نريد نافذ القول. أَمِينٌ لا تخاف عذرا. [سورة يوسف (12) : آية 55] قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ أي حفيظ لها عَلِيمٌ بما تستحق أن أجعلها فيه. [سورة يوسف (12) : آية 56] وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ أي ينزل. نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ أي بإحساننا. وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أي ثوابهم، ودلّ بهذا على أنه ثواب له. [سورة يوسف (12) : آية 58] وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ أي فجاءت سنو القحط فجاء إخوة يوسف إلى مصر ليمتاروا، وهذا من اختصار القرآن المعجز فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون لأنهم خلفوه صبيا ولم يتوهموا أنه بعد العبوديّة بلغ إلى تلك الحال. [سورة يوسف (12) : آية 59] وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ وهو ابن يامين وهو أخو يوسف لأبيه وأمه أي سألهم وذاكرهم حتى جرى ذكر أخيه وهذا من الاختصار أيضا. [سورة يوسف (12) : آية 60] فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي أي فلا أبغيكم شيئا. وَلا تَقْرَبُونِ في موضع جزم بالنهي فلذلك حذفت منه النون، وحذفت الياء لأنه رأس آية، ولو كان خبرا لكان ولا تقربون بفتح النون.

[سورة يوسف (12) : آية 62]

[سورة يوسف (12) : آية 62] وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) وقال لفتيته هذه قراءة «1» أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ سائر الكوفيين وَقالَ لِفِتْيانِهِ وهو اختيار أبي عبيد لأنه روى عن هشام عن مغيرة قال: في مصحف عبد الله «وقال لفتيانه» . قال أبو جعفر: وهذا مخالف للسواد الأعظم لأنه في السواد لا ألف فيه ولا نون فلا يترك السواد المجتمع عليه لهذا الإسناد المنقطع، وأيضا فإنّ فتية هاهنا أشبه من فتيان لأن فتية عند العرب لأقل العدد والقليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه. والأصل في فتية أفعلة وإن كان قد صغّر على لفظه. [سورة يوسف (12) : آية 63] فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ لأنه قال لهم: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي. فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ جواب، والأصل نكتال فحذفت الضمة من اللام للجزم وحذفت الألف لالتقاء الساكنين وهذه قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم، وقرأ الكوفيون يكتل «2» بالياء، والأول اختيار أبي عبيد ليكونوا كلّهم داخلين فيمن يكتال، وزعم أنه إذا قال: يكتل بالياء كان للأخ خاصة. قال أبو جعفر: وهذا لا يلزم لأنه لا يخلو الكلام من إحدى جهتين أن يكون المعنى فأرسل أخانا يكتل معنا فيكون للجميع، أو يكون التقدير على غير التقديم والتأخير فيكون في الكلام دليل على الجمع بقوله فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي. [سورة يوسف (12) : آية 64] قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً على البيان، وهذه قراءة «3» أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ سائر الكوفيين حفظا والقراءة الأولى أبين كما يقال: هو خير منه حسبا وحافِظاً منصوب على الحال، وقال أبو إسحاق: يجوز أن يكون منصوبا على البيان.

_ (1) انظر تيسير الداني 105. (2) انظر البحر المحيط 5/ 320، وتيسير الداني 105. (3) انظر تيسير الداني 105.

[سورة يوسف (12) : آية 65]

[سورة يوسف (12) : آية 65] وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) ما نَبْغِي «ما» في موضع نصب، والمعنى- والله أعلم- أي شيء نبغي بتعريفنا إياك فإن الملك قد برنا وهذِهِ بِضاعَتُنا تدلّ على ذلك إذ رُدَّتْ إِلَيْنا، وروي عن علقمة رُدَّتْ إِلَيْنا «1» بكسر الراء لأن الأصل فيه رددت فلما أدغم قلب حركة الدال على الراء كما يقال: «بيع» في المعتلّ، وقد حكى قطرب في ضرب زيد «ضرب» . وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ أي يخرج أخونا على بعير فيكال له عليه ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ في معناه قولان: أحدهما يسير على الملك أي سهل، والآخر ذلك الذي جئنا به كيل يسير لا يكفينا فنحن نحتاج أن يخرج أخونا معنا حتى يزداد. [سورة يوسف (12) : آية 66] قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ في موضع نصب. قال أبو إسحاق: المعنى إلّا لإحاطة بكم قال: وهذا يحقّق الجزاء كقولك: ما جئتني إلا لأخذ الدراهم وإلّا أن تأخذ الدراهم. قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ أي حافظ للحلف. [سورة يوسف (12) : آية 67] وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ أصحّ ما قيل فيه أنه خاف أن يدخلوا جميعا فيبلغ الملك الأعظم أمرهم فيلحقهم منه مكروه أو يحسدهم من رآهم مجتمعين، ولا معنى للعين هاهنا لأن بعده وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لأنه إن صحّ ما يكون يعقب العين فهو من الله جلّ وعزّ. [سورة يوسف (12) : آية 68] وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) ويدلّك على هذا وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. إِلَّا حاجَةً استثناء ليس من الأول. وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ أي بأمر دينه

_ (1) وهي قراءة يحيى بن وثاب والأعمش أيضا، انظر البحر المحيط 5/ 321.

[سورة يوسف (12) : آية 70]

وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ما يعلم يعقوب صلّى الله عليه وسلّم من أمر دينه. [سورة يوسف (12) : آية 70] فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قال الأخفش: جمع سقاية: سقايا. أَيَّتُهَا الْعِيرُ أي أصحاب العير يدلّ على ذلك. إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ وكان النداء عن غير أمر يوسف صلّى الله عليه وسلّم لأنه كذب. [سورة يوسف (12) : آية 72] قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وروي عن أبي هريرة قالوا نفقد صاع الملك «1» ، وروى أبو الأشهب عن أبي رجاء قالوا نفقد صوع الملك «2» بغير ألف وبغين معجمة، وكذا روي عن يحيى بن يعمر. قال أبو جعفر: الألف في صواع زائدة وهو بمعنى صاع وصاع أكثر في كلام الناس كما قال: 239- لا نألم القتل ونجزي به ... الأعداء كيل الصّاع بالصّاع «3» وجمع صواع صيعان، وجمع صاع على التذكير أصواع وعلى التأنيث أصوع، وجمع صوغ أصواغ كثوب أثواب. وصوغ مصدر بمعنى موغ كما تقول: درهم ضرب أي مضروب. وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ابتداء وخبر، وكذا وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ والزّعيم الكفيل وأصله من زعم ذاك أي قاله. [سورة يوسف (12) : آية 73] قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا تَاللَّهِ التاء بدل من الواو لأنها أقرب الزوائد إليها، ولا يقاس على الإبدال فيقال: تالرحمن لأن العرب إذا أبدلت الشيء من الشيء فقد عرف، وكذا المجاز لا يقال عليه. [سورة يوسف (12) : آية 74] قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا فَما جَزاؤُهُ ابتداء وخبر. إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ أي في قولكم وما كنا سارقين. [سورة يوسف (12) : آية 75] قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ وهذا مشكل من النحو وفيه ثلاثة أقوال: منها

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 326، مختصر ابن خالويه 64. (2) انظر البحر المحيط 5/ 326، مختصر ابن خالويه 64. (3) الشاهد لأبي قيس بن الأسلت في ديوان المفضليات 569، والخزانة 2/ 48.

[سورة يوسف (12) : آية 76]

أن يكون «جزاؤه» مبتدأ وخبره محذوفا، والتقدير: جزاؤه عندنا كجزائه عندكم أن يستعبد من يسرق، ويقال: إن هذا الحكم كان في شريعة يعقوب صلّى الله عليه وسلّم، وكان هذا في أول الإسلام حتى نسخه الله جلّ وعزّ بالقطع، والقول الثاني أن يكون «جزاؤه» مبتدأ و «من وجد» مبتدأ ثانيا «فهو جزاؤه» خبر الثاني والجملة خبر الأول و «من» شرط، وإن شئت بمعنى الذي، والذي يعود على المبتدأ الأول جزاؤه الثاني، والتقدير (فهو) هو ثم أظهر الضمير، وأنشد سيبويه: [الطويل] 240- لعمرك ما معن بتارك حقّه ... ولا منسئ معن ولا متيسّر «1» إلا أنه في الآية أحسن لأنه لو أضمر فيها لأشكل المعنى فكان الإظهار أحسن لهذا، والقول الثالث أن يكون «جزاؤه» مبتدأ و «من وجد في رحله» كناية عن رحله وخبره، والتقدير: جزاؤه استعباد من وجد في رحله فهو كناية عن الاستعباد، وهي في الجملة معنى التوكيد، كما تقول: جزاء من سرق القطع فهو جزاؤه وفهذا جزاؤه. كَذلِكَ الكاف في موضع نصب أي نجزي الظالمين جزاء كذلك. [سورة يوسف (12) : آية 76] فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) ثُمَّ اسْتَخْرَجَها فأنّث، ففيه ثلاثة أقوال: منها أن يكون الكناية للصواع على لغة من أنّث، ومنها أن يكون للسقاية، والجواب الثالث أن يكون للسرقة، وقرأ الحسن ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ «2» بضمّ الواو، ويجوز في غير القرآن «إعاء» مثل «أقّت» و «وقتت» ، ويجوز «إعاء أخيه» ، وهي لغة هذيل، ومثله «إكاف» و «وكاف» ، كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ الكاف في موضع نصب أي بأن فعل هذا حتى أخذ أخاه ولم يكن يتهيّأ له أخذه وحبسه مع الملك بغير حجّة قال جلّ وعزّ: ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ (أن) في موضع نصب، والتقدير إلّا بأن يشاء الله أن يلطف له بمثل هذا الكيد. نرفع درجات من نشاء «3» هذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة، وقرأ أهل الكوفة نَرْفَعُ دَرَجاتٍ بالتنوين، وهو على قراءتهم مما يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف، والتقدير: نرفع من نشاء إلى درجات، إلّا أنّ أكثر كلام العرب على

_ (1) الشاهد للفرزدق في ديوانه 1/ 310، والكتاب 1/ 107، وخزانة الأدب 1/ 375، والدرر 2/ 129، وشرح أبيات سيبويه 1/ 190، وبلا نسبة في همع الهوامع 1/ 128. (2) انظر البحر المحيط 5/ 328. (3) انظر تيسير الداني 105.

[سورة يوسف (12) : آية 77]

القراءة الأولى يقولون: اللهمّ ارفع درجته ولا يكادون يقولون: اللهمّ ارفعه درجة. قال مالك بن أنس سمعت زيد بن أسلم يقول في قوله عزّ وجلّ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بالعلم. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ابتداء وفيه تقديران: أحدهما وفوق كلّ ذي علم من هو أعلم منه حتّى ينتهي ذلك إلى الله جلّ وعزّ، والتقدير الآخر وفوق كل ذي علم عالم بكل شيء وهو الله جلّ وعزّ. [سورة يوسف (12) : آية 77] قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ جزم بإن، والجواب فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ المعنى على حذف القول والتقدير: فقد قيل سرق أخ له. ومن أحسن ما قيل في معناه أنّ السّدّي قال: كانت عمة يوسف صلّى الله عليه وسلّم تميل إليه وهي ربّته فلمّا ترعرع أرادوا أن يأخذوه منها فاحتالت في منعهم فأخذت منطقة إسحاق صلّى الله عليه وسلّم فشدّتها في وسطه من تحت ثيابه وكان حكم السّارق إذا سرق أن يستخدم فاحتالت بهذا فأخذته عندها فلهذا قال إخوته: فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ. فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ للعلماء في هذا أقوال: منها أنه أسرّ في نفسه قوله شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ وقيل: أسرّ في نفسه المجازاة لهم على ما قالوا فيه، وقيل: أسرّ في نفسه الحجّة على ما قالوا ولم يرد أن يبيّن عذره في ذلك، وقيل: أسرّ في نفسه قولهم «فقد سرق أخ له من قبل» ولم يرد أن يذيع هذا وينشره. قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ابتداء وخبر. مَكاناً منصوب على البيان أي فعلا. [سورة يوسف (12) : آية 78] قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً من نعته. [سورة يوسف (12) : آية 79] قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) قالَ مَعاذَ اللَّهِ مصدر. أَنْ نَأْخُذَ في موضع نصب أي من أن نأخذ. إِلَّا مَنْ وَجَدْنا في موضع نصب بنأخذ. إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ أي إن أخذنا غيره. [سورة يوسف (12) : آية 80] فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا أي انفردوا وليس هو معهم. نَجِيًّا نصب على الحال، وهو واحد يؤدي عن جمع وجمعه أنجية. وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ «ما» زائدة لا موضع لها من الإعراب، وقيل: هي في موضع رفع على الابتداء وبمعنى وقع

[سورة يوسف (12) : آية 81]

تفريطكم في يوسف عليه السلام، وقيل موضعه نصب عطف على «أنّ» ، والمعنى: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله وتعلموا تفريطكم في يوسف عليه السّلام. فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ أي من الأرض. حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي نصب بحتى وهي بدل من «أن» . أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي عطف على «يأذن» ، والمعنى- والله أعلم- أو يحكم الله لي بالممرّ مع أخي فأمضي معه إلى أبي. وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ابتداء وخبر. [سورة يوسف (12) : آية 81] ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا له. يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما قال أبو حاتم: ذكر قوم إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ «1» قالوا معناه رمي بالسّرق كما يقال ظلم فلان وخوّن قال: ولم أسمع له إسنادا. قال أبو جعفر: ليس نفيه السماع بحجّة على من سمع، وقد روى هذا الحرف غير واحد منهم محمد بن سعدان النحوي في كتابه «كتاب القراءات» وهو ثقة مأمون وذكر أنها قراءة ابن عباس. قال أبو إسحاق: وقرئ (إنّ ابنك سرق) وهو يحتمل معنيين: أحدهما علم منه السّرق، والآخر اتّهم بالسرق. شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ أي لم نعلم وقت أخذناه منك أنه يسرق فلا نأخذه. [سورة يوسف (12) : آية 82] وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها أي أهل القرية. قال سيبويه: ولا يجوز: كلّم هندا وأنت تريد غلام هند لأن هذا يشكل. [سورة يوسف (12) : آية 83] قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أي زيّنته من غير أن تكون منه سرق. فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي أولى من الجزع. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً لأنه كان عنده أنّ يوسف صلّى الله عليه وسلّم لم يمت وإنما غاب عنه خبره لأن يوسف صلّى الله عليه وسلّم حمل وهو عبد لا يملك لنفسه شيئا ثم اشتراه الملك فكان في داره لا يظهر للناس، ثم حبس فلما تمكّن احتال في أن يعلم أبوه خبره ولم يوجّه برسول لأنه كره من إخوته أن يعرفوا ذلك فلا يدعوا الرسول يصل إلى أبيه. وقال «بهم» لأنهم ثلاثة يوسف وأخوه والمتخلف مع أخيه. [سورة يوسف (12) : آية 84] وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ قال أبو إسحاق: الأصل يا أسفي أبدل

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 53، والبحر المحيط 5/ 332. [.....]

[سورة يوسف (12) : آية 85]

من الياء ألف لخفّة الألف والفتحة. عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ وقال: سأل قوم عن معنى شدّة حزن يعقوب صلّى الله عليه وسلّم فللعلماء في هذه ثلاثة أجوبة: منها أنّ يعقوب صلّى الله عليه وسلّم لمّا علم أنّ يوسف عليه السلام حيّ فندم على ذلك، والجواب الثالث أبينها وهو أنّ الحزن ليس محظورا وإنما المحظور الولولة وشقّ الثياب والكلام بما لا ينبغي. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب» «1» وقد بيّن الله جلّ وعزّ بقوله: فَهُوَ كَظِيمٌ. [سورة يوسف (12) : آية 85] قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ قال الكسائي: يقال: فتأت وفتئت أفعل ذلك أي ما زلت، وزعم الفراء أنّ «لا» مضمرة وأنشد: [الطويل] 241- فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي «2» والذي قال حسن صحيح، وزعم الخليل وسيبويه أنّ «لا» تضمر في القسم لأنه ليس فيه إشكال، ولو كان موجبا لكان باللام والنون. حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً يقال: حرض وحرض حروضا وحروضة إذا بلي وسقم، ورجل حارض وحرض إلّا أن حرضا لا يثنّى ولا يجمع ومثله قمن وحري لا يثنيان ولا يجمعان، وحكى أهل اللغة: أحرضه الهمّ إذا أسقمه ورجل حارض أي أحمق. [سورة يوسف (12) : آية 86] قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) لَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي حقيقة البثّ في اللغة ما يرد على الإنسان من الأشياء المهلكة التي لا يتهيّأ له أن يخفيها وهو من بثثته أي فرّقته فسمّيت المصيبة بثّا مجازا. [سورة يوسف (12) : آية 87] يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا أي اذهبوا إلى هذا الذي طلب منكم أخاكم واحتال عليكم في أخذه فسلوه عنه وعن مذهبه.

_ (1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الفضائل 62، والبخاري في صحيحه 2/ 105، والبيهقي في سننه 4/ 69، والمتقي في كنز العمال 40479، والقرطبي في تفسيره 9/ 429، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق 1/ 295. (2) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 32، والكتاب 3/ 560، وخزانة الأدب 9/ 238، والخصائص 2/ 284، والدرر 4/ 212، وشرح أبيات سيبويه 2/ 22، وشرح التصريح 1/ 185، وشرح شواهد المغني 1/ 341، وشرح المفصّل 7/ 110، ولسان العرب (يمين) ، واللمع 259، والمقاصد النحوية 2/ 13، وبلا نسبة في خزانة الأدب 10/ 93، وشرح الأشموني 1/ 110، ومغني اللبيب 2/ 637، والمقتضب 2/ 362، وهمع الهوامع 2/ 38.

[سورة يوسف (12) : الآيات 88 إلى 90]

[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 90] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ أي الممتنع. مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ فخضعوا له وتواضعوا فرقّ ف قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ قيل: فدلّ بهذا أنهم كانوا صغارا في وقت أخذهم ليوسف عليه السلام حتى تركوا أخاه منفردا منه لا يقاومهم فتنبّهوا ف قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ على تخفيف الهمزة الثانية، ويجوز تحقيقهما وأن يدخل بينهما ألفا، ويجوز «إنك» على الخبر. إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ الهاء كناية عن الحديث والجملة الخبر، وكذا الجملة الخبر في قوله جلّ وعزّ: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. [سورة يوسف (12) : آية 91] قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا الأصل همزتان خفّفت الثانية ولا يجوز تحقيقهما. واسم الفاعل مؤثر، والمصدر إيثار. ويقال: أثرت التراب إثارة فأنا مثير وهو أيضا على أفعل ثم أعلّ، والأصل أثير قلبت حركة الياء على الثاء فانقلبت الياء ألفا ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وأثرت الحديث على فعلت فأنا آثره. وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ من خطىء يخطأ إذا أتى الخطيئة. [سورة يوسف (12) : آية 92] قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ تمّ الكلام ومعنى اليوم الوقت. يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ فعل مستقبل فيه معنى الدعاء. [سورة يوسف (12) : آية 93] اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا هذا نعت للقميص والقميص مذكّر. فأما قول الشاعر: [الكامل] 242- يدعو هوازن والقميص مفاضة ... فوق النّطاق تشدّ بالأزرار «1» فتقديره والقميص درع مفاضة، يَأْتِ بَصِيراً جواب الأمر. وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ

_ (1) الشاهد لجرير في ديوانه 897، ولسان العرب (قمص) ، وتهذيب اللغة 8/ 387، وتاج العروس (قمص) ، وبلا نسبة في كتاب العين 5/ 70.

[سورة يوسف (12) : آية 96]

توكيد في موضع خفض، ولا يجوز أن يكون نصبا على الحال لأنه تابع لما قبله. [سورة يوسف (12) : آية 96] فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ «أن» زائدة للتوكيد. فَارْتَدَّ بَصِيراً نصب على الحال. [سورة يوسف (12) : الآيات 99 الى 100] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ نصب بالفعل، وكذا وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ. سُجَّداً على الحال. [سورة يوسف (12) : آية 101] رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ في موضع نصب لأنه نداء مضاف، والتقدير يا ربّ. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ نصب على النعت: وإن شئت كان نداء ثانيا. [سورة يوسف (12) : آية 102] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) ذلِكَ ابتداء. مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ خبره. نُوحِيهِ إِلَيْكَ خبر ثان. قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون «ذلك» بمعنى الذي ونُوحِيهِ إِلَيْكَ خبره أي الذي من أنباء الغيب نوحيه إليك. [سورة يوسف (12) : آية 103] وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ اسم «ما» . وَلَوْ حَرَصْتَ أي على هدايتهم. بِمُؤْمِنِينَ خبر ما. [سورة يوسف (12) : الآيات 105 الى 106] وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ قال الخليل وسيبويه «1» هي «أي» دخلت عليها كاف التشبيه فصارت بمعنى «كم» . قال أبو جعفر: ولا يجوز الوقف عليها إلّا وكأيّ كما

_ (1) انظر الكتاب 2/ 172.

[سورة يوسف (12) : آية 107]

تقول: أنت كزيد، ولا يقول أحد من العرب: أنت كزيدن، بنون، وقد اعتلّ النحويون لهذا فقالوا: لا يوقف على التنوين لئلّا يشبه النون التي يقع عليها الإعراب إلّا أنه يجوز الرّوم والإشمام في المرفوع، والرّوم في المخفوض، والإسكان في المخفوض أجود، وأكثر ما جاء في كلام العرب وأشعارها «كائن» من رجل قد رأيته على وزن كاع، وقرأ بهذه اللغة جماعة من أئمة المسلمين منهم أبي بن كعب وعبد الله بن عباس ومجاهد وابن كثير وأبو جعفر وشيبة والأعرج والأعمش، وروي عن ابن محيصن وكئن على وزن كعن، وفعل هذا بهذا الحرف لكثرته في كلامهم، وقد روي عن الحسن وكاين بغير همز. وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ ابتداء وخبر أي لا يتفكرون وبيّن أنّهم لا يتفكّرون بقوله جلّ وعزّ وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) إذا قيل لهم: من خلقكم وخلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله جلّ وعزّ ثم يشركون معه غيره. [سورة يوسف (12) : آية 107] أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً نصب على الحال وأصله المصدر وقال محمد بن يزيد: جاء عن العرب حال بعد نكرة وهو قولهم: وقع أمر بغتة وفجأة. قال أبو جعفر: ومعنى بغتة أصابه من حيث لم يتوقّع. [سورة يوسف (12) : آية 108] قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي ابتداء وخبر. أَنَا توكيد. وَمَنِ اتَّبَعَنِي عطف على المضمر. [سورة يوسف (12) : آية 109] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) وَلَدارُ الْآخِرَةِ ابتداء خَيْرٌ خبره وزعم الفراء «1» أن الدار هي الآخرة أي أضيف الشيء إلى نفسه، واحتجّ الكسائي بقولهم: صلاة الأولى: واحتجّ الأخفش بقولهم: مسجد الجامع. قال أبو جعفر: إضافة الشيء إلى نفسه محال لأنه إنما يضاف الشيء إلى غيره ليعرف به، والأجود الصلاة الأولى لأنها أول ما صلّي حين فرضت الصّلوات. وأول ما أظهر فلذلك قيل لها أيضا: ظهر والتقدير ولدار حال الآخرة خير. [سورة يوسف (12) : آية 110] حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا هذه القراءة البينة عطف على استيأس

_ (1) انظر معاني الفرّاء 2/ 55.

[سورة البقرة (2) : آية 111]

وقرأ بها من الصحابة عائشة رضي الله عنها، وقرأ ابن مسعود وابن عباس رحمهما الله وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا «1» والتقدير وظنّ قومهم أنّ الرّسل قد كذّبوا، وقرأ مجاهد وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا «2» أي وظن قومهم أن الرسل قد كذّبوا لمّا رأوا من تفضّل الله جلّ وعزّ في تأخيره العذاب. وروي عن عاصم فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ بنون واحد و (من) في موضع رفع اسم ما لم يسمّ فاعله. [سورة البقرة (2) : آية 111] وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي ولكن كان، ويجوز الرفع بمعنى ولكن هو تصديق الذي بين يديه وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 347، ومعاني الفراء 2/ 56. (2) انظر البحر المحيط 5/ 347، ومختصر ابن خالويه 65.

13 شرح إعراب سورة الرعد

13 شرح إعراب سورة الرعد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ربّ يسّر: [سورة الرعد (13) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ابتداء وخبر، ويجوز أن يكون التقدير: هذا الذي أنزل إليك تلك آيات الكتاب التي وعدت بها. وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ابتداء وخبر، ويجوز أن يكون الذي عطفا على آيات في موضع رفع ويكون الحق مرفوعا نعتا للذي أو على إضمار مبتدأ. ويجوز أن يكون الذي في موضع خفض عطفا على الكتاب ويكون الحق رفعا على إضمار مبتدأ، ويجوز خفضه يكون نعتا للذي. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ أي بعد وضوح الآيات. [سورة الرعد (13) : آية 2] اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ ابتداء وخبر أي ولا بدّ لها من رافع فهذا من الآيات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها يكون «ترونها» في موضع نصب على الحال أي رفع السماوات مرئيّة بغير عمد، ويجوز أن يكون مستأنفا أي رفع السموات بغير عمد ثم قال أنتم ترونها، ويجوز أن يكون تَرَوْنَها في موضع خفض أي بغير عمد مرئية أي لو كانت بعمد لرأيتموها لكثافة العمد. [سورة الرعد (13) : آية 3] وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ابتداء وخبر فدلّ على قدرته جلّ وعزّ في الأرض بعد أن دلّ عليها في السماء. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ حرّكت الياء في موضع النصب لخفة الفتحة ولم تنصرف لأنها قد صارت بمنزلة السالم. أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [لقمان: 10] في موضع نصب أي كراهة أن تميد بكم.

[سورة الرعد (13) : آية 4]

[سورة الرعد (13) : آية 4] وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ابتداء وخبر، ودلّ بهذا على قدرته جلّ وعزّ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ عطف، ويجوز و «جنات» على «وجعل فيها جنات» ، ويجوز أن يكون في موضع خفض عطفا على كلّ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ بالخفض «1» قراءة أهل المدينة وأهل الكوفة، وقرأ أبو عمرو وابن كثير (وزرع) بالرفع وما بعده مثله. قال الأصمعي: قلت لأبي عمرو بن العلاء كيف لا تقرأ «وزرع» بالجر؟ فقال: الجنات لا تكون من الزرع. قال أبو جعفر: هذا الذي قاله أبو عمرو رحمه الله لا يلزم من قرأ بالجر لأنّ بعده ذكر النخيل وإذا اجتمع مع النخيل الزرع قيل لهما: جنة، وحكي عن محمد بن يزيد أنه قال «وزرع ونخيل» بالخفض أولى لأنه أقرب إليه واحتجّ بحكاية سيبويه «2» : خشّنت بصدره وصدر زيد، وأنّ الجرّ أولى من النصب لقربه منه كذا «وزرع» أولى لقربه من أعناب، «صنوان» جمع صنو مثل نسوة ونسوان وقنو وقنوان، وحكى سيبويه قنوان، وقال الفراء: «صنوان» بالضمّ لغة تميم وقيس والكسر لغة أهل الحجاز، فإن جمعت صنوا في أقلّ العدد قلت: أصناء والكثيرة صنيّ وصنيّ. وقرأ الحسن وعاصم وحميد وابن محيصن يُسْقى بالياء على تذكير النبت أو الجمع، واحتجّ أبو عمرو للتأنيث بأن بعده وَنُفَضِّلُ بَعْضَها ولم يقل بعضه قال أبو جعفر: وهذا احتجاج حسن، وقرأ أهل الحرمين وأهل البصرة وَنُفَضِّلُ بالنون، وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما ويفضّل بالياء قال أبو عبيد ونفضّل على الاستئناف، ويفضّل على أول السورة. وهذا شيء قد تقدّم وانفصل بقوله عزّ وجلّ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ [الرعد: 4] . قال أبو جعفر: وهذا احتجاج حسن إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ في موضع خفض أي عقلاء. [سورة الرعد (13) : آية 5] وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أي فيجب أن يعجب من قولهم العقلاء لأنه جهل إذ كان الله جلّ وعزّ قد دلّهم على قدرته وأراهم من آياته ما هو أعظم من إحياء الموتى. و «عجب» مرفوع ينوى فيه التأخير على خبر المبتدأ. أَإِذا كُنَّا تُراباً العامل في «إذا» كنا لأنه لا يجوز أن يعمل ما بعد إنّ فيما قبلها فإذا قرأ «أإنّا» فالعامل «إذا» فعل محذوف

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 356، وتيسير الداني 107. (2) انظر الكتاب 1/ 123.

[سورة الرعد (13) : آية 6]

والتقدير أنبعث إذا. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أي من سأل عن البعث سؤال منكر له بعد البراهين فقد كفر ونظير هذا ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر: 4] أي جدال منكر. وَأُولئِكَ مبتدأ. (والأغلال) مبتدأ ثان. فِي أَعْناقِهِمْ في موضع الخبر، والجملة خبر الأول. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ مبتدأ وخبر. [سورة الرعد (13) : آية 6] وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ قال قتادة: بالعقوبة قبل العافية قال أبو إسحاق: هو من قولهم: اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ قد ذكرنا ما فيه. قال الفراء «1» : بنو تميم يقولون: مثلات بسكون الثاء. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ روي عن ابن عباس أنه قال: ليس في القرآن أرجأ من هذه. [سورة الرعد (13) : آية 7] وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وإنما قالوا هذا بعد ظهور الآيات والبراهين على التعنّت والتّهزّء فقال الله جلّ وعزّ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ أي تنذرهم العذاب لكفرهم بعد البراهين وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ قد ذكرنا قول أهل التفسير فيه، وفيه تقديران في العربية: يكون هاد معطوفا على منذر، وهذا من أحسن ما قيل فيه لأن المنذر هو الهادي إلى الله جلّ وعزّ، والتقدير: إنما أنت منذر هاد، والتقدير الآخر أن يكون مرفوعا بالابتداء، والتقدير: ولكل قوم نبيّ هاد. [سورة الرعد (13) : آية 8] اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ابتداء وخبر، وكذا وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [سورة الرعد (13) : آية 9] عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) عالِمُ الْغَيْبِ نعت، وإن شئت على إضمار مبتدأ، وإن شئت بالابتداء وما بعده خبره ويجوز في الإعراب النصب على المدح والخفض على البدل والْكَبِيرُ الملك المقتدر على كل شيء شيء والْمُتَعالِ المستعلي على كل شيء، وحذفت الياء لأنه رأس آية.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 59.

[سورة الرعد (13) : آية 10]

[سورة الرعد (13) : آية 10] سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) سَواءٌ مِنْكُمْ مرفوع ينوى به التأخير. قال أبو إسحاق: والتقدير: ذو سواء، كما يقال: رجل عدل، وقيل: سواء بمعنى مستو وهو مرفوع بالابتداء. قال أبو إسحاق: ولا يجوز عند سيبويه هذا لأنه لا يبتدأ بنكرة. قال أبو جعفر: والمعنى أنه يستوي عند الله جلّ وعزّ هؤلاء وعلمه بهم واحد، وقال حسان: [الوافر] 243- فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء «1» أي بمنزلته عند الله جلّ وعزّ. [سورة الرعد (13) : آية 11] لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) لَهُ مُعَقِّباتٌ جمع معقّبة والهاء للمبالغة ولهذا جاز يَحْفَظُونَهُ على التذكير مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي حفظهم إياه من أمر الله جلّ وعزّ أمرهم أن يحفظوه مما لم يقدر عليه وقيل المعنى أن المعقبات من أمر الله جلّ وعزّ وهذان الجوابان على قول من قال: أنّ المعقّبات الملائكة وأما من قال: أن المعقّبات الشّرط فالمعنى عنده: يحفظونه من أمر الله على قولهم. إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ فيه قولان: أحدهما أن المعنى: إن الله لا يغيّر ما بإنسان من نعمة وكرامة ابتدأ بها بأن يعاقبه أو يعذبه إلا أن يغيّر ما بنفسه، والقول الآخر: إن الله جلّ وعزّ لا يغيّر ما بقوم مؤمنين صالحين فيسميهم كافرين فاسقين إلا أن يفعلوا ما يوجب ذلك ولا يأمر بإذلالهم إلّا أن يغيّروا ما بأنفسهم: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ فحذّرهم الله جلّ وعزّ بعد أن أعلم أنّه يعلم سرائرهم وما يخفون. وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ أي من وليّ ينصرهم ويمنع منهم. [سورة الرعد (13) : آية 12] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ ابتداء وخبر. خَوْفاً وَطَمَعاً على المصدر. وقول أهل التفسير خوفا للمسافر وطمعا للحاضر على الأكثر. وحقيقته على العموم لكلّ من خاف أو طمع وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ جمع سحابة فلهذا نعت بالثقال. [سورة الرعد (13) : آية 13] وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ أهل التفسير يقولون: الرّعد اسم ملك فهذا حقيقة،

_ (1) الشاهد لحسان بن ثابت في ديوانه 76، وتذكرة النحاة ص 70، والدرر 1/ 296، ومغني اللبيب 625، والمقتضب 2/ 137، وبلا نسبة في شرح الأشموني ص 82، وهمع الهوامع 1/ 88.

[سورة الرعد (13) : آية 14]

وقيل أنّه مجاز وأنه الصّوت فيكون معنى يسبح يدلّ على تنزيه الله جلّ وعزّ من الأشباه فنسب التسبيح إليه مجازا. [سورة الرعد (13) : آية 14] لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ أي وما دعاء الكافرين الأوثان. إِلَّا فِي ضَلالٍ عن الصواب وعن الانتفاع بالإجابة. [سورة الرعد (13) : آية 15] وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قد تكلّم العلماء في معنى هذا، ومن أحسن ما قيل أنّ السجود هاهنا الخضوع لتدبير الله جلّ وعزّ وتصريفه من صحّة وسقم وغيرهما. طَوْعاً وَكَرْهاً أي ينقادون على ما أحبّوا أو كرهوا لا حيلة لهم في ذلك، وظلالهم أيضا منقادة لتدبير الله جلّ وعزّ وإجرائه الشمس بزيادة الظلّ ونقصانه وزواله بتصرّف الزمان وجري الشّمس على ما دبّره جلّ وعزّ. [سورة الرعد (13) : آية 16] قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي المؤمن والكافر. أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أي الكفر والإيمان. [سورة الرعد (13) : آية 17] أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها قال أهل التفسير: أي بقدر ملئها، وقيل: ما قدّر لها. فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً تم الكلام ثم قال جلّ وعزّ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ رفع بالابتداء عند البصريين، وقال الكسائي: ارتفع لأن معناه مما توقدون عليه في النار زبد، قال: وهو الغثاء. وقد غثى يغثي غثيا وغثيانا وهو ما لا ينتفع به مثله أي مثل زبد البحر. كَذلِكَ في موضع نصب، فَأَمَّا الزَّبَدُ أي من هذه الأشياء. فَيَذْهَبُ جُفاءً على الحال من قولهم: انجفأت القدر إذا رمت بزبدها، وهو الغثاء أيضا.

[سورة الرعد (13) : آية 18]

[سورة الرعد (13) : آية 18] لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى في موضع رفع يجوز أن يكون التقدير جزاء الحسنى، وقيل: هو اسم للجنة. أولئك لهم سوء الحساب والمناقشة والتوبيخ وإحباط الحسنات بالسيئات. [سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 20] أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ في موضع رفع على البدل من قوله جلّ وعزّ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [سورة الرعد (13) : آية 21] وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ أي يصلون أرحامهم ومن أمر الله جلّ وعزّ بإكرامه وإجلاله من أهل الطاعة. [سورة الرعد (13) : آية 22] وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي يدفعون، إذا همّوا بالسّيئة فكّروا فارتدعوا ودفعوها بالاستغفار والإقلاع. وهذا حسن من الفعل، وينهون أيضا عن المنكر بالموعظة أو بالغلظة فهذا كلّه حسن. أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ [سورة الرعد (13) : الآيات 23 الى 24] جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من عقبى. يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ وهذا من مشكل النحو لأن أكثر النحويين يقولون: ضربته وزيد- قبيح حتى يؤكد المضمر، فتكلّم النحويون في هذا حتى قال جماعة منهم: قمت وزيد، جيد بألف لأن هذا ليس بمنزلة المجرور لأن المجرور لا ينفصل بحال، وكان أبو إسحاق يذهب إلى أن الأجود: قمت وزيدا بمعنى معا إلّا أن يطول الكلام فتقول: قمت في الدار وزيد، وضربتك أمس وزيد وإن شئت نصبت. وإنما ينظر في هذا إلى ما كان منفصلا فيشبّه بالتوكيد. قال أبو جعفر: يجوز عندي- والله أعلم- أن يكون «من» في موضع رفع ويكون التقدير أولئك ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرّياتهم لهم عقبى الدار. وَالْمَلائِكَةُ ابتداء. يَدْخُلُونَ في موضع الخبر، والتقدير: يقولون: سَلامٌ عَلَيْكُمْ.

[سورة الرعد (13) : آية 27]

[سورة الرعد (13) : آية 27] وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ هذا أيضا على التعنّت بعد أن رأوا الآيات. [سورة الرعد (13) : آية 28] الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا في موضع نصب على البدل من (من) . وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أي بوعده. أَلا تنبيه. بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ أي قلوبهم. [سورة الرعد (13) : آية 29] الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) الَّذِينَ آمَنُوا في موضع رفع بالابتداء وخبره طُوبى لَهُمْ ويجوز أن يكون الَّذِينَ في موضع نصب بدلا من «من» وبمعنى أعني، ويجوز أن يكون طُوبى في موضع نصب بمعنى جعل الله لهم طوبى. [سورة الرعد (13) : آية 20] الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ الكاف في موضع نصب والأمة الجماعة. [سورة الرعد (13) : آية 31] وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ «أنّ» في موضع رفع أي لو وقع هذا وللعلماء في هذه الآية أقوال منها أن الجواب محذوف، والتقدير لكان هذا القرآن، وقيل: التقدير لما آمنوا. قال الكسائي: المعنى: وددنا أنّ قرآنا سيّرت به الجبال فهذا بغير حذف، وللفراء فيها قول حسن. قال: يكون الجواب فيما قبله أي وهم يكفرون بالرحمن ولو أن قرآنا سيّرت به الجبال. بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً على الحال. أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا وفيه لغات: يقال: يائس ويقال: ييئس على فعل يفعل، ويقال يئس يئس، المستقبل على لفظ الماضي. أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ في موضع نصب. [سورة الرعد (13) : آية 33] أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رفع بالابتداء، والخبر، محذوف دلّ عليه

[سورة الرعد (13) : آية 34]

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قال الكسائي والفراء: التقدير كشركائهم قُلْ سَمُّوهُمْ أي سموهم بخلق خلقوه أو فعل فعلوه بقدرتهم أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ قيل: معناه ليس له حقيقة، وقيل: أو بظاهر من القول قد ذكر في الكتب. وقرأ يحيى ابن وثّاب وَصُدُّوا بكسر الصاد لأن الأصل صددوا فقلبت حركة الدال على الصاد. [سورة الرعد (13) : آية 34] لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا لعنة الله جلّ وعزّ إياهم ومعاداة المؤمنين لهم. [سورة الرعد (13) : آية 35] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ رفع بالابتداء عند سيبويه، والتقدير عنده: فيما يقصّ عليكم مثل الجنّة أو مثل الجنّة فيما نقصّ عليكم، وقال الفراء «1» : الرافع له تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ والمعنى الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار كما يقال: حلية فلان أسمر. قال محمد بن يزيد: من قال: مثل بمعنى صفة فقد أخطأ لأنه إنما يقال: صفة فلان أنه ظريف وأنه كريم، ويقال: مثل زيد مثل عمرو «ومثل» مأخوذ من المثال والحذو، وصفة مأخوذة من التحلية والنعت، وإنما التقدير: فيما يقصّ عليكم مثل الجنة. أُكُلُها دائِمٌ وفيها كذا وفيها كذا. تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا ابتداء وخبر، وكذا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ. [سورة الرعد (13) : آية 36] وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ قيل: يعني به المؤمنين والكتاب القرآن. وَمِنَ الْأَحْزابِ أي الذين تحزّبوا على عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون ينكرون ما لم يوافقهم، وقيل الذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى يفرحون بالقرآن لأنه مصدق بأنبيائهم وكتبهم وإن لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. [سورة الرعد (13) : الآيات 38 الى 39] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي إلا بأن يأذن له أن يسأل الآية فيعلم أنّ في ذلك صلاحا. لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ أي لكل أمة كتاب مكتوب وأمر مقدّر مقضيّ

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 65.

[سورة الرعد (13) : آية 40]

تقف عليه الملائكة ليعلم بذلك قدرة الله جلّ وعزّ، وكذلك وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ وقد بيّنّا معنى يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ «1» . [سورة الرعد (13) : آية 40] وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ في موضع جزم بالشرط ودخلت النون توكيدا. [سورة الرعد (13) : آية 41] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها جمع طرف. وقد ذكرنا قول أهل التفسير فيه، وقال عبد الله بن عبد العزيز: الطرف الكريم من كل شيء وجمعه أطراف كما قال الأعشى: [الطويل] 244- هم الطّرف النّاكي العدوّ وأنتم ... بقصوى ثلاث تأكلون الوقائصا «2» قال: وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه «العلم أودية في أيّ واد أخذت منه حسرت فخذ من كلّ شيء طرفا» أي خيارا وقال الله جلّ وعزّ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أي من علمائها، والعلماء هم الخيار الكرماء، ومنه «ما يدري أيّ طرفيه أطول» «3» أي ما يدري الكرم يأتيه من ناحية أبيه أو من ناحية أمه لبلهه؟ والطّرف: الفرس الكريم، والطّارف ما استفيد. [سورة الرعد (13) : آية 42] وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً أي لله جلّ وعزّ المكر الثابت الذي يحيق بأهله. ومعنى المكر من الله جلّ وعزّ أن ينزل العقوبة بمن يستحقها من حيث لا يعلم. وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ والكافر بمعنى واحد يؤدّي عن جمع. [سورة الرعد (13) : آية 43] وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) قُلْ كَفى بِاللَّهِ في موضع رفع. شَهِيداً على البيان. وَمَنْ عِنْدَهُ في موضع خفض عطفا على اللفظ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على المعنى. عِلْمُ الْكِتابِ رفع بالابتداء.

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 387. (2) الشاهد للأعشى في ديوانه 199، ولسان العرب (طرف) ، وتهذيب اللغة 13/ 321، وتاج العروس (طرف) وبلا نسبة في جمهرة اللغة 895. «الباد والعدوّ» . [.....] (3) انظر مجمع الأمثال رقم (3503) .

14 شرح إعراب سورة إبراهيم ع

14 شرح إعراب سورة إبراهيم ع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة إبراهيم (14) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ أي هذا كتاب أنزلناه إليك في موضع رفع على النعت لكتاب. لِتُخْرِجَ النَّاسَ لام كي، والتقدير ليخرج الناس بِإِذْنِ رَبِّهِمْ والأذن يستعمل بمعنى الأمر مجازا إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. [سورة إبراهيم (14) : آية 2] اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) اللَّهِ على البدل والرفع على الابتداء، وإن شئت على إضمار مبتدأ، وكذا وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ. [سورة إبراهيم (14) : آية 3] الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) قال أبو إسحاق: عوجا مصدر في موضع الحال. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: هو منصوب على أنه مفعول ثان وهذا مما يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف، والتقدير ويبغون بها عوجا. [سورة إبراهيم (14) : آية 4] وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ نصب بلام كي. فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ مستأنف، وعند أكثر النحويين لا يجوز عطفه على ما قبله، ونظيره لِنُبَيِّنَ لَكُمْ

[سورة إبراهيم (14) : آية 5]

وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ [الحج: 5] وأنشد النحويون: [الرجز] 245- يريد أن يعربه فيعجمه «1» قال أبو إسحاق: يجوز النصب فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ على أن يكون مثل لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] أي صار أمرهم إلى هذا. [سورة إبراهيم (14) : آية 5] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) يجوز أن تكون «أن» في موضع نصب أي بأن أخرج قومك. وهذا مذهب سيبويه كما يقال: أمرته أن قم والمعنى أمرته أن يقوم ثم حمل على المعنى كما قال: [الكامل] 246- وأنا الذي قتلت بكرا بالقنا «2» ويجوز أن تكون «أن» لا موضع لها من الإعراب مثل: أرسلت إليه أن قم، والمعنى أي قم، ومثله قوله سبحانه وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص: 6] . [سورة إبراهيم (14) : آية 6] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ في موضع آخر بغير واو، إذا كان بالواو فهو عند الفراء «3» بمعنى يعذّبونكم ويذبّحونكم فيكون التذبيح غير العذاب الأول ويجوز عند غيره أن يكون بعض الأول، وإذا كان بغير واو فهو تبيين للأول وبدل منه كما أنشد سيبويه: [الطويل] 247- متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا «4»

_ (1) الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه 186، والكتاب 3/ 59، وللحطيئة في ديوانه 239، والأزهية 242، والدرر 6/ 86، وبلا نسبة في خزانة الأدب 6/ 149، والمقتضب 2/ 33، وهمع الهوامع 2/ 131، ولسان العرب (حضض) . (2) الشاهد للمهلهل بن ربيعة في المقتضب 4/ 132، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في خزانة الأدب 6/ 73، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 358، وشرح المفصّل 4/ 25 وعجزه: «وتركت تغلب غير ذات سنام» (3) انظر معاني الفراء 2/ 68. (4) الشاهد لعبيد بن الحرّ في خزانة الأدب 9/ 90، والدرر 6/ 69، وشرح أبيات سيبويه 2/ 66، وسرّ صناعة الإعراب ص 678، وشرح المفصّل 7/ 53، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 100، ورصف المباني ص 32، وشرح الأشموني 440، وشرح المفصّل 10/ 20، ولسان العرب (نور) والمقتضب 2/ 63، وهمع الهوامع 2/ 128.

[سورة إبراهيم (14) : آية 8]

[سورة إبراهيم (14) : آية 8] وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ كسرت إنّ لأن ما بعد الفاء في المجازاة مستأنف واللام للتوكيد. [سورة إبراهيم (14) : آية 9] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ على البدل ولم يخفض ثمود لأنه جعل اسما للقبيلة، ويجوز خفضه يجعل اسما للحيّ. وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ في موضع خفض معطوف. لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ رفع بالفعل. جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ. وإن شئت حذفت الضمّة من السين لثقلها. فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ فإذا أفردت قلت: فم والأصل فجمع على أصله مثل حوض وأحواض. [سورة إبراهيم (14) : آية 11] قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ في موضع رفع بكان. [سورة إبراهيم (14) : آية 12] وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا واللازم أذي يأذى أذى. [سورة إبراهيم (14) : آية 14] وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ ومن أمال أراد أن يدلّ على أنه من خفت. [سورة إبراهيم (14) : آية 15] وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ويجوز رفع عنيد نعتا لكلّ. [سورة إبراهيم (14) : آية 17] يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) يَتَجَرَّعُهُ أي تكرهه الملائكة على ذلك ليعذّب به. وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أي ينزل من حلقه. وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي يأتيه ما يمات منه من كلّ مكان من جسده. وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ قيل: من وراء ما يعذّب به عذاب آخر غليظ.

[سورة إبراهيم (14) : آية 18]

[سورة إبراهيم (14) : آية 18] مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ التقدير عند سيبويه «1» والأخفش: وفيما يقصّ عليكم، وقال الكسائي: إنما مثل أعمال الذين كفروا كرماد، وقال غيره مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا مبتدأ. أَعْمالُهُمْ بدل منه، والتقدير: مثل أعمالهم، ويجوز أن يكون مبتدأ ثانيا كما حكي صفة فلان أنّه أحمر. قال الفراء «2» ولو قرأ قارئ بالخفض أعمالهم جاز، وأنشد: [الرجز] 248- ما للكمال مشيها وئيدا «3» فِي يَوْمٍ عاصِفٍ على النسب عند البصريين بمعنى ذي عاصف، وأجاز الفراء أن يكون بمعنى في يوم عاصف الريح، وأجاز أيضا أن يكون عاصف للريح خاصّة ثم يتبعه يوما، قال: وحكى نحويون: هذا جحر ضبّ خرب «4» . قال أبو جعفر: هذا مما لا ينبغي أن يحمل كتاب الله جلّ وعزّ عليه، وقد ذكر سيبويه أن هذا من العرب غلط واستدلّ بأنهم إذا ثنّوا قالوا: هذان جحرا ضبّ خربان لأنه قد استبان بالتثنية والتوحيد، ونظير هذا الغلط قول النابغة «5» : [الكامل] 249- أمن آل ميّة رائح أو مغتدي ... عجلان ذا زاد وغير مزوّد زعم البوارح أنّ رحلتنا غد ... وبذاك خبّرنا الغراب الأسود فلا يجوز مثل هذا في كلام ولا لشاعر نعرفه فكيف يجوز في كتاب الله جلّ وعزّ ثم أنشد الفراء بيتا: [البسيط] 250- يا صاح بلّغ ذوي الزّوجات كلّهم ... أن ليس وصل إذا انحلّت عرى الذّنب «6»

_ (1) انظر الكتاب 1/ 196. (2) انظر معاني الفراء 2/ 73. (3) الرجز للزبّاء في لسان العرب (وأد) ، و (صرف) و (زهق) ، وأدب الكاتب ص 200، والأغاني 15/ 256، وأوضح المسالك 2/ 86، وجمهرة اللغة ص 742، وخزانة الأدب 7/ 295، والدرر 2/ 281، وشرح الأشموني 1/ 169، وشرح التصريح 1/ 271، وشرح شواهد المغني 2/ 912، ومغني اللبيب رقم (817) ، وللزباء أو للخنساء في المقاصد النحوية 2/ 448، وبلا نسبة في همع الهوامع 1/ 159، ومقاييس اللغة 6/ 78، وكتاب العين 7/ 116، وأساس البلاغة (وأد) ، وبعده: «أجندلا يحملن أم صديدا» (4) انظر الكتاب 1/ 113. (5) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 89، والبيت الأول في الأزهيّة 119، وخزانة الأدب 2/ 133، والخصائص 1/ 340. (6) الشاهد لأبي الغريب النصري في خزانة الأدب 5/ 90، والدرر 5/ 60، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 11، وتذكرة النحاة ص 537، وشرح شواهد المغني ص 962، وشرح شذور الذهب ص 428، ولسان العرب (زوج) ، ومغني اللبيب ص 683، وهمع الهوامع 2/ 55.

[سورة إبراهيم (14) : آية 21]

وزعم أن أبا الجراح أنشده إياه بخفض «كلّهم» ، وهذا مما لا يعرج عليه لأن النصب لا يفسد الشعر، ومن قرأ «في يوم عاصف» بغير تنوين أقام الصفة مقام الموصوف أي في يوم ريح عاصف. [سورة إبراهيم (14) : آية 21] وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً أي من قبورهم ونصب جَمِيعاً على الحال. تَبَعاً بمعنى ذي تبع، ويجوز أن يكون جمع تابع. قال علي بن سليمان التقدير سواء علينا جزعنا وصبرنا. [سورة إبراهيم (14) : آية 22] وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ في موضع نصب استثناء ليس من الأول. وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ بفتح الياء لأن ياء النفس فيها لغتان: الفتح والتسكين إذا لم يكن قبلها ساكن فإذا كان قبلها ساكن فالفتح لا غير، ويجب على من كسرها أن يقرأ هِيَ عَصايَ [طه: 18] بكسر الياء، وقد قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي «1» بكسر الياء- قال الأخفش سعيد: ما سمعت هذا من أحد من العرب ولا من النحويين، وقال الفراء: لعلّ الذي قرأ بهذا ظنّ أن الباء تخفض الكلمة كلّها. قال أبو جعفر: فقد صار هذا بإجماع لا يجوز وإن كان الفراء قد نقض هذا وأنشد: [الرجز] 251- قال لها هل لك يا تافيّ ... قالت له ما أنت بالمرضيّ «2» ولا ينبغي أن يحمل كتاب الله جلّ وعزّ على الشّذوذ. ومعنى بِما أَشْرَكْتُمُونِ من قبل أنه قد كان مشركا قبلهم، وقيل: من قبل الأمر. [سورة إبراهيم (14) : آية 26] وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ابتداء وخبر، وأجاز الكسائي والفراء: ومثل

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 408، ومعاني القرآن 2/ 75. (2) الشاهد للأغلب العجلي في الخزانة 2/ 257، وبلا نسبة في معاني القرآن 2/ 76، والبحر المحيط 5/ 409، والمحتسب 2/ 49.

[سورة إبراهيم (14) : آية 28]

كلمة خبيثة على النسق وحكيا أن في قراءة أبيّ وضرب مثل كلمة خبيثة «1» . [سورة إبراهيم (14) : آية 28] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ مفعولان. [سورة إبراهيم (14) : آية 29] جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) جَهَنَّمَ منصوب على البدل من دار، ولم تنصرف لأنها مؤنّثة معرفة مشتقّة من قولهم: ركيّة جهنّام «2» إذا كانت مقعّرة. [سورة إبراهيم (14) : آية 30] وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ نصب بلام كي وبعضهم يسميها لام العاقبة. والمعنى أنه لما آل أمرهم إلى هذا كانوا بمنزلة من فعل ذلك ليكون هذا. [سورة إبراهيم (14) : آية 31] قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ في يُقِيمُوا للنحويين أقوال: قال الفراء: تأويله الأمر. قال أبو إسحاق بمثل هذا قال المعنى ليقيموا الصلاة ثم حذفت اللام لأنه قد تقدم الأمر قال: ويجوز أن يكون مبنيا لأن اللام حذفت وبني لأنه بمعنى الأمر. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: حدثنا محمد بن يزيد عن المازني قال: التقدير: قل للذين آمنوا أقيموا الصلاة يقيموا، وهذا قول حسن لأن المؤمنين إذا أمروا بشيء قبلوا فهو جواب الأمر. وَيُنْفِقُوا عطف عليه. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ جعلت «لا» بمعنى ليس، وإن شئت رفعت ما بعدها بالابتداء، ويجوز رفع الأول ونصب الثاني بغير تنوين وبتنوين، ويجوز نصب الأول بغير تنوين ورفع الثاني بتنوين ونصبه بتنوين. قال الأخفش: خلال جمع خلّة وقال أبو عبيد: هو مصدر مثل القتال، وأنشد: [الطويل] 252- ولست بمقليّ الخلال ولا قال «3» [سورة إبراهيم (14) : آية 33] وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) دائِبَيْنِ على الحال أي دائبين فيما يؤدّي إلى صلاح الناس.

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 410. [.....] (2) جهنام: بعيدة القعر. (3) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 35، ولسان العرب (خلل) ، وتهذيب اللغة 6/ 567، وصدره: «صرفت الهوى عنهنّ من خشية الرّدى»

[سورة إبراهيم (14) : آية 34]

[سورة إبراهيم (14) : آية 34] وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ في معناه أقوال فمذهب الفراء من كل سؤالكم، كما تقول: أنا أعطيته سؤاله وإن لم يسأل شيئا أي ما لم يسأل لسأله، وقال الأخفش: وآتاكم من كل ما سألتموه شيئا، أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 23] أي من كلّ شيء في زمانها شيئا. قال: ويكون على التكثير، وحكى سيبويه: ما بقي منهم مخبّر، وذلك معروف في كلام العرب، وفيه قول رابع وهو أنّ الناس قد سألوا على تفرّق أحوالهم الأشياء فخوطبوا على ذلك. [سورة إبراهيم (14) : آية 35] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مفعولان. وَاجْنُبْنِي ويقال على التكثير: جنّبني، ويقال: أجنبني. أَنْ نَعْبُدَ في موضع نصب والمعنى من أن نعبد الأصنام. [سورة إبراهيم (14) : آية 36] رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي أي من أهل ديني ومن أصحابي، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي له إن تاب. [سورة إبراهيم (14) : آية 37] رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ وحذف المفعول لأن «من» تدلّ عليه وكذا رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي. [سورة إبراهيم (14) : آية 42] وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا مفعولان. [سورة إبراهيم (14) : آية 43] مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وقال أبو إسحاق مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ نصب على الحال. والمعنى ليوم تشخص فيه أبصارهم مهطعين أي مسرعين لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ رفع بيرتد. وَأَفْئِدَتُهُمْ مبتدأ. هَواءٌ خبره. [سورة إبراهيم (14) : آية 44] وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ليس لجواب الأمر ولكنه معطوف

[سورة إبراهيم (14) : آية 46]

على يأتيهم أو مستأنف. وقد أشكل هذا على بعض النحويين حتّى قال: لا ينصب جواب الأمر بالفاء، وهذا خلاف ما قال الخليل رحمه الله وسيبويه، وقد أنشد النحويون: [الرجز] 253- يا ناق سيري عنقا فسيحا ... إلى سليمان فنستريحا «1» وإنّما امتنع النصب في الآية لأن المعنى ليس عليه أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ أي من زوال عمّا أنتم عليه من الأمهال إلى الانتقام والمجازاة. [سورة إبراهيم (14) : آية 46] وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ «إن» بمعنى «ما» وهذا يروى عن الحسن كذا، وأنّ مثله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ [يونس: 94] ، وكذا قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف: 81] وقد قيل في هاتين الآيتين غير ما قال وذلك في مواضعهما، وقرأ مجاهد وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال «2» بفتح اللام ورفع الفعل، وبه قرأ الكسائي، وكان محمد بن يزيد فيما حكي عنه يختار فيه قول قتادة. قال: هذا لكفرهم مثل قوله جلّ وعزّ: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ [مريم: 90] . قال أبو جعفر: وكان أبو إسحاق يذهب إلى أن هذا جاء على كلام العرب لأنهم يقولون: لو أنك بلغت كذا ما وصلت إلى شيء وإن كان لا تبلغه وكذا في «إن» ، وأنشد سيبويه: [الطويل] 254- لئن كنت في جبّ ثمانين قامة ... ورقّيت أسباب السّماء بسلّم «3» وروي عن عمر وعلي وعبد الله رضي الله عنهم أنهم قرءوا وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال «4» ، بالدال ورفع الفعل. والمعنى في هذا بين وإنما هو تفسير وليس بقراءة. [سورة إبراهيم (14) : آية 47] فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ مجاز كما يقال: معطي درهم زيدا، وأنشد سيبويه: [الطويل] 255- ترى الثّور فيها مدخل الظّلّ رأسه ... وسائره باد إلى الشّمس أجمع «5»

_ (1) مرّ الشاهد رقم (202) . (2) انظر معاني الفراء 2/ 79، والبحر المحيط 5/ 426، ورويت هذه القراءة عن الإمام علي. (3) الشاهد للأعشى في ديوانه ص 173، وشرح المفصّل 2/ 74، ولسان العرب (سبب) و (ثمن) و (رقا) . (4) انظر مختصر ابن خالويه 69، والبحر المحيط 5/ 425، وهي قراءة علي وعمر وعبد الله وأبي سلمة بن عبد الرحمن وأبيّ وأبي إسحاق السبيعي وزيد بن علي. (5) الشاهد بلا نسبة في الكتاب 1/ 240، وأمالي المرتضى 1/ 216، وخزانة الأدب 4/ 235، والدرر 6/ 37، وهمع الهوامع 2/ 123.

[سورة إبراهيم (14) : آية 48]

[سورة إبراهيم (14) : آية 48] يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ اسم ما لم يسمّ فاعله غَيْرَ الْأَرْضِ خبره. وفي معناه قولان: أحدهما أنها تبدّل أرضا غير هذه وفي هذا أحاديث، والقول الآخر أنّ تبديلها إذهاب جبالها وجعلها قاعا صفصفا، وتبديل السماء انفطارها وانتثار كواكبها وتكوير شمسها، كما يقال: بدّلت خاتمي أي غيّرته عمّا كان عليه. [سورة إبراهيم (14) : آية 49] وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) مُقَرَّنِينَ نصب على الحال، مُقَرَّنِينَ معطوفة أيديهم وأرجلهم إلى أعناقهم بالسّلاسل والأغلال. والقرن بفتح الراء الحبل الذي يجمع به بين الشيئين. قال جرير: [البسيط] 256- وابن اللّبون إذا ما لزّ في قرن «1» [سورة إبراهيم (14) : آية 52] هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ ابتداء وخبر أي هذا الوعظ قد بلغ لهم إن اتّعظوا وَلِيُنْذَرُوا بِهِ لام كي، والفعل محذوف لعلم السامع. وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ عطف عليه.

_ (1) الشاهد لجرير في ديوانه 128، والكتاب 2/ 93، وجمهرة اللغة 130، وشرح أبيات سيبويه 1/ 459، وشرح شواهد المغني 1/ 167، وكتاب الصناعتين 24، ولسان العرب (لزز) و (قعس) و (قنعس) ، و (لين) ، والمقتضى 4/ 46، وبلا نسبة في الردّ على النحاة 74، وشرح المفصّل 1/ 35.

15 شرح إعراب سورة الحجر

15 شرح إعراب سورة الحجر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحجر (15) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ التقدير هذا تلك آيات الكتاب. [سورة الحجر (15) : آية 2] رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) رُبَما فيه ثمانية أوجه: قرأ الأعمش وحمزة والكسائي رُبَما «1» مثقلة، وقرأ أهل المدينة وعاصم رُبَما «2» مخفّفة. والأصل الثقيل، والعرب تخفف المثقّل ولا تثقل المخفف. وقال سيبويه «3» : لو سميت رجلا رب مخفّفة ثم صغرته رددته إلى أصله فقلت: ربيب. قال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا نصر بن علي عن أبيه عن الأصمعي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقرأ «ربما» مخفّفة ومثقلة. قال: التخفيف لغة أهل الحجاز والثقيل لغة تميم وقيس وبكر. وحكى أبو زيد أنه يقال: ربّتما وربّتما، وهذا على تأنيث الكلمة. فهذه أربع لغات وحكى أبو حاتم: ربما وربّما وربتما وربتما. ولا موضع لها من الإعراب عند أكثر النحويين لأنها كافة جيء بها لأن ربّ لا يليها الفعل، فلما جئت بما وليها الفعل عند سيبويه لا غير إلّا في الشعر فإنه يليها الابتداء والخبر، وأنشد: [الطويل] 257- صددت فأطولت الصّدود وقلّما ... وصال على طول الصّدود يدوم «4»

_ (1) انظر تيسير الداني 110. (2) انظر تيسير الداني 110. (3) انظر الكتاب 3/ 502 قال (ولو حقرت «ربّ» مخفّفة لقلت ربيب) . (4) الشاهد لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه 502، والكتاب 1/ 62، وللمرار الفقعسي في ديوانه 480، والأزهيّة 91، وخزانة الأدب 10/ 226، والدرر 5/ 190، وشرح أبيات سيبويه 1/ 105، وشرح شواهد المغني 2/ 717، ومغني اللبيب 1/ 307، وبلا نسبة في خزانة الأدب 1/ 145، والخصائص 1/ 143، والدرر 6/ 321، وشرح المفصّل 7/ 116، ولسان العرب (طول) و (قلل) ، والمحتسب 1/ 96، والمقتضب 1/ 84، والممتع في التصريف 2/ 482، وهمع الهوامع 2/ 83.

[سورة الحجر (15) : آية 3]

والجيد قوله: 258- وطال ما وطال ما وطالما ... سقى بكفّ خالد وأطعما «1» والذي حكيناه قول الخليل وسيبويه، وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد أن هذا جائز في الكلام والشعر كما أن إنما يكون بعدها الفعل والابتداء والخبر، وسمعت محمد بن الوليد يقول: ليس في حروف الخفض نظير لربّ لأن سبيل حروف الخفض أن يضاف بها قبلها إلى ما بعدها وسبيل ربّ أن يضاف ما بعده من الفعل إلى ما قبله، وزعم الأخفش أنه يجوز أن تكون «ما» في موضع خفض على أنها نكرة أي ربّ شيء أو ربّ ودّ. يقال: وددت أنّ ذلك كان، إذا تمنيته ودّا لا غير، ووددت الرجل، إذا أحببته ودّا، بضم الواو ومودّة وودادة وودادا. [سورة الحجر (15) : آية 3] ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) ذَرْهُمْ في موضع أمر فيه معنى التهديد، ولا يقال: وذر ولا واذر، والعلة فيه عند سيبويه أنهم استغنوا عنه بترك، وعند غيره ثقل الواو فلما وجدوا عنها مندوحة تركوها، يَأْكُلُوا جواب الأمر وَيَتَمَتَّعُوا عطف عليه. [سورة الحجر (15) : آية 4] وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) في موضع الحال، وفي غير القرآن يجوز حذف الواو. ودلّ بهذا على أن كل مهلك ومقتول فبأجله. [سورة الحجر (15) : آية 8] ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ «2» الأصل تتنزّل فحذفت إحدى التاءين تخفيفا. [سورة الحجر (15) : آية 9] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) والأصل في إِنَّا إنّنا نَحْنُ في موضع نصب على التوكيد بإنّ ويجوز أن تكون في موضع رفع على الابتداء، ويجوز أن تكون لا موضع لها تكون فاصلة. وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ اللام الأولى لام خفض والثانية لام توكيد ولم يحتج إلى فرق في المضمر لاختلاف العلامة. [سورة الحجر (15) : آية 12] كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ الكاف في موضع نصب نعت لمصدر، وقد تكلّم الناس في

_ (1) ورد صدر الشاهد فقط في مجالس ثعلب 326. (2) انظر تيسير الداني 110. [.....]

[سورة الحجر (15) : الآيات 14 إلى 15]

المضمر هاهنا فقيل: هو كناية عن التكذيب، وقيل: عن الذكر، وقيل: هو مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] أي عقوبته. [سورة الحجر (15) : الآيات 14 الى 15] وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) ولغة هذيل يعرجون، وفي المضمر قولان: أحدهما أن التقدير: فظل الملائكة، والآخر أن التقدير: ولو فتحنا على هؤلاء الكفار المعاندين بابا من السماء فأدخلناهم فيه ليعرجوا إلى السماء فيكون ذلك آية لتصديقك لدفعوا العيان، وقالوا إنما سكّرت أبصارنا وسحرنا حتى رأينا الشيء على غير ما هو عليه، ويقال: سكر وسكّر على التكثير أي غطّي على عقله، ومنه قيل: سكران، وهو مشتق من السّكر. [سورة الحجر (15) : الآيات 17 الى 18] وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ. مِنْ في موضع نصب. قال الأخفش: استثناء خارج، وقال أبو إسحاق: يجوز أن تكون «من» في موضع خفض، ويكون التقدير إلا ممّن استرق السمع. [سورة الحجر (15) : آية 19] وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها على إضمار فعل. [سورة الحجر (15) : آية 20] وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) قال الفراء «1» : «من» في موضع نصب والمعنى وجعلنا لكم فيها المعايش والإماء والعبيد. قال: ويجوز أن يكون «من» في موضع خفض أي ولمن لستم له برازقين، والقول الثاني عند البصريين لحن لأنه عطف ظاهرا على مكنيّ مخفوض، ولأبي إسحاق فيه قول ثالث حسن غريب قال «من» معطوفة على تأويل لكم، والمعنى: أعشناكم أي رزقناكم ورزقنا من لستم له برازقين. [سورة الحجر (15) : آية 21] وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي نحن مالكون له وقادرون عليه، وقيل: يعني به المطر.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 86.

[سورة الحجر (15) : آية 22]

[سورة الحجر (15) : آية 22] وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ قد ذكرناه، وقرأ طلحة ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة وأرسلنا الريح لواقح «1» وهذا عند أبي حاتم لحن لأن الريح واحدة فلا تنعت بجمع. قال أبو حاتم: يقبح أن يقال: الريح لواقح. قال وأما قولهم: اليمين الفاجرة تدع الدار بلاقع. فإنّما يعنون بالدّار البلد كما قال عزّ وتعالى: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ [الأعراف: 78] . وقال أبو جعفر: هذا الذي قاله أبو حاتم في قبح هذا غلط بيّن، وقد قال الله جلّ وعزّ: وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها [الحاقة: 17] يعني الملائكة لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك، وكذا الريح بمعنى الرياح، وقال سيبويه: وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وحكى الفراء في مثل هذا جاءت الريح من كلّ مكان يعني الرياح. [سورة الحجر (15) : آية 25] وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ حكيم في تدبيره عليم به. [سورة الحجر (15) : آية 26] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) قد ذكرناه «2» . ومن أحسن ما قيل فيه قول ابن عباس رحمه الله قال: «مسنون» على الطريق، وتقديره على سنن الطريق وسننها، وسننها، وإذا كان كذلك أنتن وتغيّر لأنه ماء منفرد. [سورة الحجر (15) : آية 27] وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وروي عن الحسن أنه قرأ والجانّ خلقنه «3» بالهمز كأنه كره اجتماع الساكنين. والأجود بغير همز ولا ينكر اجتماع ساكنين إذا كان الأول حرف مد ولين والثاني مدغما. وَالْجَانَّ نصب بإضمار فعل. [سورة الحجر (15) : آية 29] فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فقوله ساجِدِينَ نصب على الحال. [سورة الحجر (15) : آية 30] فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) مذهب الخليل وسيبويه «4» أنه توكيد بعد توكيد، وقال محمد بن يزيد: أجمعون يفيد أنهم غير متفرّقين. قال أبو إسحاق: هذا خطأ ولو كان كما قال لكان نصبا على الحال.

_ (1) انظر تيسير الداني 110. (2) انظر معانيه في البحر المحيط 5/ 440. (3) انظر مختصر ابن خالويه 71، والبحر المحيط 5/ 440. (4) انظر الكتاب 2/ 407.

[سورة الحجر (15) : آية 31]

[سورة الحجر (15) : آية 31] إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) إِلَّا إِبْلِيسَ قال أبو إسحاق: استثناء ليس من الأول يذهب إلى قول من قال: إن إبليس ليس من الملائكة ولا كان منهم. وهذا قول صحيح يدلّ عليه أن الله جلّ وعزّ أخبرنا أنه خلق الجانّ من نار والملائكة لم تخلق من نار. [سورة الحجر (15) : آية 32] قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ في موضع نصب. [سورة الحجر (15) : الآيات 37 الى 38] قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) ليس إجابة له إلى ما سأل وإنما هو على التهاون به إذ كان لا يصل إلى ضلال أحد إلّا من لا يفلح لو لم يوسوسه. [سورة الحجر (15) : آية 39] قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي فيه أقوال: فمن أحسنها أن المعنى: بما خيّبتني من الجنة يقال: غوى إذا خاب وأغواه خيّبه ومنه: [الطويل] 259- ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما «1» [سورة الحجر (15) : آية 40] إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) إِلَّا عِبادَكَ نصب على الاستثناء. [سورة الحجر (15) : آية 41] قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) قالَ هذا صِراطٌ. مبتدأ وخبر عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ من نعته. قال زياد بن أبي مريم: «عليّ» هي إليّ يذهب إلى أن المعنى واحد. قيل: فيه معنى التهديد أي إليّ مرجعه وعلى طريقه، وقيل: على بيانه أي ضمان ذلك. [سورة الحجر (15) : آية 42] إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ الأصل في ليس عند سيبويه ليس قال سيبويه «2» : وأما (ليس) فمسكّنة من نحو صيد كما قالوا: علم ذاك. قال أبو جعفر: كان يجب على أصول العربية أن يقال: لاس لتحرّك الياء وتحرّك ما قبلها. قال سيبويه «3» : فجعلوا إعلاله إزالة الحركة لأنه لا يقال منه: يفعل ولا فاعل ولا مصدر ولا اشتقاق، وكثر في كلامهم

_ (1) مرّ الشاهد رقم 56. (2) انظر الكتاب 4/ 486. (3) انظر الكتاب 4/ 486.

[سورة الحجر (15) : آية 47]

فلم يجعلوه كأخواته. يعني ما يعمل عمله. قال: فجعلوه كليت. قال أبو إسحاق: ولم يتصرّف ليس لأنه ينفى بها المستقبل والحال والماضي فلم يحتجّ فيها إلى تصرّف. قال أبو جعفر: وسمعت محمد بن الوليد يقول: لمّا ضارعت «ما» منعت من التصريف. [سورة الحجر (15) : آية 47] وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ قال الكسائي: غلّ يغلّ من الشحناء، وغلّ يغلّ من الغلول، وأغلّ يغلّ من الخيانة، وقال غيره: معنى وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أزلنا عنهم الجهل والغضب وشهوة ما لا ينبغي حتى زال التحاسد. إِخْواناً على الحال. [سورة الحجر (15) : آية 51] وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) والتقدير: عن أصحاب ضيف إبراهيم ولهذا لم يكثّر ضيوف. [سورة الحجر (15) : آية 53] قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالُوا لا تَوْجَلْ ومن قال تأجل أبدل من الواو ألفا لأنها أخفّ، ومن قال: تيجل أبدل منها ياء لأنها أخفّ من الواو، ولغة بني تميم تيجل ليدلّوا على أنه من فعل، ويقال: فلان ييجل، بكسر الياء، وهذا شاذّ لأن الكسرة في الياء مستقلة ولكن فعل هذا لتنقلب الواو ياء. [سورة الحجر (15) : آية 54] قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قراءة أكثر الناس، وقرأ نافع بكسر النون، وحكي عن أبي عمرو بن العلاء رحمه الله أنه قال: كسر النون لحن، يذهب إلى أنه لا يقال: أنتم تقوموا فيحذف نون الإعراب. قال أبو جعفر: قد أجاز سيبويه «1» والخليل مثل هذا. قال سيبويه: وقرأ بعض الموثوق بهم قالَ أَتُحاجُّونِّي [الأنعام: 80] وفَبِمَ تُبَشِّرُونَ وهي قراءة أهل المدينة «2» ، والأصل عند سيبويه: فبم تبشّرون بإدغام النون في النون ثم استثقل الإدغام فحذف إحدى النونين ولم يحذف نون الإعراب كما تأول أبو عمرو وإنما حذف النون الزائدة. وأنشد سيبويه: [الوافر] 260- تراه كالثّغام يعلّ مسكا ... يسوء الفاليات إذا فليني «3» وقال الآخر: [الوافر] 261- أبالموت الّذي لا بدّ أنّي ... ملاق لا أباك تخوّفيني «4»

_ (1) انظر الكتاب 4/ 3. (2) انظر تيسير الداني 111. (3) مرّ الشاهد رقم (134) . (4) الشاهد لأبي حيّة النميري في ديوانه 177، وخزانة الأدب 4/ 100، والدرر 2/ 219، وشرح شواهد الإيضاح 211، ولسان العرب (خعل) و (أبي) ، و (فلا) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 3/ 132، والخصائص 1/ 345، وشرح التصريح 2/ 26، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 501، وشرح شذور الذهب 424، وشرح المفصّل 2/ 105، واللامات ص 103، والمقتضب 4/ 375، والمقرّب 1/ 197، والمنصف 2/ 337، وهمع الهوامع 1/ 337.

[سورة الحجر (15) : الآيات 55 إلى 56]

[سورة الحجر (15) : الآيات 55 الى 56] قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ وقرأ وَمَنْ يَقْنِطُ «1» وقرأ مِنْ بَعْدِ ما قَنِطُوا [الشورى: 28] جميعا بالكسر وقرأ أبو عمرو والكسائي قال ومن يقنط بكسر النون و «قنطوا» بفتح النون، وقرأ أهل الحرمين وعاصم وحمزة قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ بفتح النون، وقرءوا «قنطوا» بفتح النون، وقرأ الأشهب العقيلي قال ومن يقنط بضمّ النون. قال أبو جعفر: أبو عبيد القاسم بن سلام يختار قراءة أبي عمرو والكسائي في هذا، وزعم أنها أصحّ في العربية، وردّ قراءة أهل الحرمين وعاصم وحمزة لأنها على فعل يفعل عنده، وكذا أنكر قنط يقنط، ولو كان الأمر كما قال لكانت القراءتان لحنا، وهذا شيء لا يعلم أنه يوجد أن يجتمع أهل الحرمين على شيء ثم يكون لحنا ولا سيما ومعهم عاصم مع جلالته ومحلّه وعلمه وموضعه من اللغة، والقراءتان اللتان أنكرهما جائزتان حسنتان وتأويلهما على خلاف ما قال. يقال: قنط يقنط وقنط قنوطا فهو قانط، وقنط يقنط قنطا فهو قنط وقانط. فإذا قرأ «ومن يقنط» فهو على لغة من قال: قنط يقنط، وإذا قرأ «ومن يقنط» فهو على لغة من قال: قنط يقنط مثل ضرب يضرب، وإذا قرأ يقنطوا فهو على لغة من قال: قنط يقنط مثل حذر يحذر فله أن يستعمل اللغتين، وأبو عبيد ضيّق ما هو واسع من اللغة ومعنى ومن يقنط من ييأس. [سورة الحجر (15) : آية 57] قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالَ فَما خَطْبُكُمْ ابتداء وخبر. [سورة الحجر (15) : الآيات 58 الى 59] قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا آلَ لُوطٍ ... قال أبو إسحاق: استثناء ليس من الأول إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ. [سورة الحجر (15) : آية 60] إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) إِلَّا امْرَأَتَهُ قال: استثناء من الهاء والميم. وتأوّل أبو يوسف هذا على أنه استثناء ردّ

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 447.

[سورة الحجر (15) : آية 65]

على استثناء، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ فاستثناهم من المجرمين إلا امرأته فاستثناها من قوم لوط فصارت مع المجرمين. قال كما تقول: له عليّ عشرة إلا أربعة إلّا واحدا، فيكون سبعة لأنك استثنيت من الأربعة واحدا فصار مع الستة فصارت سبعة. قال أبو عبيد: كما تقول: إذا قال رجل لامرأته: أنت طالق ثلاثا إلّا اثنتين إلّا واحدة فقد طلّق ثنتين. قال أبو جعفر: الذي قال أبو يوسف كما قال عند أهل العربية، والذي قاله أبو عبيد عند حذاق أهل العربية لا يجوز. يقولون إنّه لا يستثنى من الشّيء نصفه ولا أكثر من النصف ولا يتكلّم به أحد من العرب. والاستثناء عند الخليل وسيبويه «1» التوكيد، لأنك إذا قلت: جاءني القوم جاز أن يكون قد بقي منهم، فإذا قلت: كلّهم أحطت بهم، وكذا إذا قلت: جاءني القوم جاز أن يكون زيد داخلا فيهم فإذا قلت: إلا زيدا بيّنت كما بيّنت بالتوكيد. ومعنى قولك: له عندي عشرة إلا واحدا، له عندي عشرة ناقصة، ولا يجوز أن يقال لخمسة ولا أقل منها عشرة ناقصة. قَدَّرْنا إِنَّها وقرأ عاصم قَدَّرْنا وفي التشديد معنى المبالغة أي كتبنا ذلك وأخبرنا به وعلمنا أنّها لمن الغابرين قد ذكرناه. ومن أحسن ما قيل فيه أن معنى الغابرين الباقون المتخلّفون عن الخروج معه من قولهم غبر إذا بقي، وهكذا قال أهل العربية في معنى وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ [هود: 81] إن المعنى فأسر بأهلك إلّا امرأتك، ومن أحسن ما قيل في معنى وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ أن المعنى: ولا يلتفت إلى ما خلّف وليخرج، وقد قيل: إنه من الالتفات أي لا يكن منكم خروج فيلتفت. قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) أي بالعذاب الذي كانوا يشكّون فيه. [سورة الحجر (15) : آية 65] فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ من أسرى، ومن وصل جعله من سرّى، لغتان معروفتان. [سورة الحجر (15) : آية 66] وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ قال الأخفش: «أنّ» في موضع نصب على البدل من الأمر، وقال الفراء «2» : هي في موضع نصب بسقوط الخافض أي قضينا إليه ذلك الأمر بهذا. قال: وفي قراءة عبد الله وقلنا إن دبر هؤلاء «3» فلو قرأ قارئ على هذا بكسر إنّ لجاز. مُصْبِحِينَ نصب على الحال، والتقدير عند الفراء وأبي عبيد إذا كانوا مصبحين. قال أبو عبيد: كما تقول: أنت راكبا أحسن منك ماشيا. قال: وسمعت أعرابيا فصيحا من بني كلاب يقول: أنا لك صديقا خير منّي لك عدوا.

_ (1) انظر الكتاب 2/ 323. [.....] (2) انظر معاني الفراء 2/ 90. (3) انظر معاني الفراء 2/ 90.

[سورة الحجر (15) : آية 67]

[سورة الحجر (15) : آية 67] وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) في موضع نصب على الحال. [سورة الحجر (15) : آية 68] قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي وحّد لأنه مصدر في الأصل ضفته ضيفا أي نزلت به، والتقدير: ذوو ضيفي. قال أبو إسحاق: المعنى أو لم ننهك عن ضيافة العالمين، وقال غيره: المعنى أو لم ننهك عن أن تجير أحدا علينا وتمنعنا منه. [سورة الحجر (15) : آية 72] لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) لَعَمْرُكَ مبتدأ، والخبر محذوف لأن القسم باب حذف، والتقدير لعمرك قسمي إِنَّهُمْ بالكسر لأنه جواب القسم وأجاز جماعة من النحويين فتحها. لَفِي سَكْرَتِهِمْ أي جهلهم شبّه بالسكر. [سورة الحجر (15) : آية 73] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) نصب على الحال. وأشرقوا صادفوا شروق الشمس أي طلوعها. [سورة الحجر (15) : آية 75] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) أي لعظات عن المعاصي والكفر للمستدلّين. [سورة الحجر (15) : آية 78] وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لا اختلاف في صرف هذا والذي في «ق» «1» ، واختلفوا في الذي في «الشعراء» «2» والذي في «ص» «3» فقرأهما أهل المدينة بغير صرف، وقرأهما أهل البصرة وأهل الكوفة كذينك، وهذا هو الحقّ لأنه لا فرق بينهنّ والقصة واحدة، وإنما هذا كتكرير القصص في القرآن. فأما قول من قال: إن أيكة اسم للقرية، وإن «الأيكة» اسم للبلد فغير معروف ولا مشهور، فأمّا احتجاج من احتجّ بالسواد وقال: لا أصرف اللتين في «الشعراء» و «ص» لأنهما في الخطّ بغير ألف فلا حجّة له في ذلك وإنما هذا على لغة من قال: جاءني صاحب زيد لسود، يريد الأسود، فألقى حركة الهمزة على اللام فتحرّكت اللام وسقطت ألف الوصل لتحرّكها وسقطت الهمزة لمّا ألقيت حركتها على ما قبلها، وكذا ليكة.

_ (1) ق: 14، وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ. (2) الشعراء: 176 كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ. (3) ص: 13 وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ.

[سورة الحجر (15) : آية 79]

[سورة الحجر (15) : آية 79] فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ في معناه قولان: أحدهما أنّ الإمام الكتاب الذي كتبه الله جلّ وعزّ لأنه قبل الكتب كلّها، والآخر أنه الطريق لأنه يؤتمّ به. [سورة الحجر (15) : آية 80] وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) قيل: أصحاب الحجر قوم صالح. [سورة الحجر (15) : آية 82] وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) وقرأ الحسن وَكانُوا يَنْحِتُونَ لأن فيه حرفا من حروف الحلق والكسر أفصح. [سورة الحجر (15) : الآيات 87 الى 88] وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ في الحديث أن القرآن هاهنا هو الحمد لأن بعض القرآن قرآن لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ لا تتمنّينّ نعمهم ولا تحزن عليهم أي على نعمتي عليهم. قال أبو إسحاق: ومعنى وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ألن جناحك لمن آمن بك واتّبعك. [سورة الحجر (15) : الآيات 90 الى 91] كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) كَما أَنْزَلْنا الكاف في موضع نصب أي «وقل إنّي أنا النّذير المبين» عقابا أو عذابا مثل ما أنزلنا على المقتسمين الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أبو عبيدة «1» معمر بن المثنّى يذهب إلى أنّ «عضين» من عضّيت أي فرّقت، وهو مشتق من العضو، والمحذوف عنده واو، والتصغير عنده عضيّة، والكسائي يذهب إلى أنه من عضهت الرجل أي رميته بالبهتان، والتصغير عنده عضيهة. قال الفراء «2» : العضون في كلام العرب السحر وإنما جمع بالواو والنون عند البصريين عوضا مما حذف منه وعند الكوفيين أنه كان يجب أن يجمع على فعول فطلبوا الواو التي في فعول فجاءوا بها فقالوا عضون. قال الفراء «3» : ومن العرب من يقول: عضينك يجعله بالياء على كلّ حال ويعرب النون، كما تقول: مضت سنينك، وهي كثيرة في أسد وتميم وعامر، والعلّة عنده فيه أن الواو لمّا وقعت موقع حرف ناقص توهّموا أنها واو فعول فأعربوا ما

_ (1) انظر مجاز القرآن 1/ 355. (2) انظر معاني الفراء 2/ 92. (3) انظر معاني الفراء 2/ 92.

[سورة الحجر (15) : آية 92]

بعدها وقلبوها ياء كما قال بعض العرب في التاء حكاه عن أبي الجرّاح: سمعت لغاتهم، ولا تقول ذلك في الصّالحات، ولا فيما حذف من أوله نحو لدّات. [سورة الحجر (15) : آية 92] فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) توكيد للهاء والميم. [سورة الحجر (15) : آية 94] فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) قال أبو إسحاق فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أي أبنه وأظهره مشتقّ من الصّديع وهو الصبح، والصّدع في الزجاجة أن يبين بعضها من بعض بِما تُؤْمَرُ مصدر عند البصريين أي بأمرنا، وقال الكسائي: التقدير بما تؤمر به مثل أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ [هود: 6] أي بربّهم ثم حذفت الباء. قال أبو جعفر: لا يجوز حذف الباء عند البصريين في كلام ولا شعر، وقد أنشد الكوفيون لجرير: [الوافر] 262- تمرّون الدّيار ولم تعوجوا ... كلامكم عليّ إذا حرام «1» وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير ينشد لجدّه: مررتم بالدّيار ولم تعوجوا [سورة الحجر (15) : آية 96] الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ في موضع نصب على النعت للمستهزئين: ومعنى وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94] أي عن إجابتهم إذا تلقّوك بالقبيح. [سورة الحجر (15) : آية 99] وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ نصب بحتّى، ولا يجوز رفعه لأنه مستقبل، واليقين الموت لأن كلّ عاقل يوقن به.

_ (1) الشاهد لجرير في ديوانه 278، وتخليص الشواهد 503، وخزانة الأدب 9/ 118، والدرر 5/ 189، وشرح شواهد المغني 1/ 311، ولسان العرب (مرر) ، والمقاصد النحوية 2/ 560، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 6/ 145، وخزانة الأدب 7/ 158، ورصف المباني ص 247، وشرح ابن عقيل 272، وشرح المفصّل 8/ 8، ومغني اللبيب 1/ 100، والمقرّب 1/ 115، وهمع الهوامع 832.

16 شرح إعراب سورة النحل

16 شرح إعراب سورة النحل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النحل (16) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) أَتى أَمْرُ اللَّهِ من أحسن ما قيل في معناه قول الضحاك إنه القرآن، وقد قيل: إنه نصر النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومن قال: إنّه القيامة جعله مجازا على أحد أمرين يكون «أتى» بمعنى قرب، ويكون «أتى» بمعنى يأتي إلّا أن سيبويه «1» لا يجيز أن يكون فعل بمعنى يفعل ويجيز أن يكون يفعل بمعنى فعل لأنه يكون محكيّا. فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ نهي فيه معنى التهديد. [سورة النحل (16) : الآيات 2 الى 3] يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) أَنْ أَنْذِرُوا قال أبو إسحاق: «أن» في موضع جرّ على البدل من الروح، والتقدير: ينزل الملائكة بأن أنذروا أهل الكفر والمعاصي أي حذّروهم بأنه لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ثمّ دلّ جلّ وعزّ على توحيده فقال جل ثناؤه: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. [سورة النحل (16) : آية 5] وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَالْأَنْعامَ نصب بإضمار فعل، ويجوز الرفع في غير القرآن. [سورة النحل (16) : آية 8] وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ أي وجعل لكم، وقال الفراء «2» : هي ردّ على خلق. قال: وإن شئت كانت بمعنى وسخّر. قال: ويجوز الرفع من وجهين: أحدهما أنه لم يكن معها فعل رفعت، والآخر أنه لمّا كان يجوز والأنعام بالرفع توهّمت أنه مرفوع رفعت. وَزِينَةً قال الأخفش والفراء «3» : أي وجعلها زينة. قال الفراء: ويجوز أن

_ (1) انظر الكتاب 3/ 23. (2) انظر معاني الفراء 2/ 97. (3) انظر معاني الفراء 2/ 97.

[سورة النحل (16) : آية 13]

ينصبها بالفعل نفسه وتقديره بمعنى لتركبوها زينة. قال أبو حاتم: روى سعيد عن قتادة عن أبي عياض أنه قرأ لتركبوها زينة بغير واو. قال أبو إسحاق: «زينة» مفعول له أي خلقها من أجل الزينة. قال أبو إسحاق: ويقال لكلّ ما ينبت على الأرض شجر، وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس فِيهِ تُسِيمُونَ قال ترعون. قال أبو إسحاق: هو مشتقّ من السّومة أي العلامة لأنها إذا رعت أثرت في الأرض فصارت فيها علامات. [سورة النحل (16) : آية 13] وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ قال الأخفش: أي خلق وبثّ. [سورة النحل (16) : آية 15] وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَأَنْهاراً وَسُبُلًا قال: أي وجعل. قال أبو إسحاق معنى وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ وجعل فلهذا أضمر في الثاني وجعل. أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ في موضع نصب، والتقدير عند البصريين كراهة أن تميد بكم، وعند الكوفيين لئلا تميد بكم. [سورة النحل (16) : آية 20] وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مبتدأ وخبره لا يخلقون شيئا. قال الأخفش: وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ [آية: 12] أي وخلق وسخّر، وحكى الفراء «1» : مخرت السفينة تمخر وتمخر إذا صوّتت في جريها. قال أبو إسحاق: النجم والنجوم واحد. [سورة النحل (16) : آية 21] أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ على إضمار مبتدأ أي هم أموات. قال الكسائي: ويجوز النصب على القطع «2» والفعل. أَيَّانَ في موضع نصب. يُبْعَثُونَ ولكنه مبنيّ على الفتح لأن فيه معنى الاستفهام فوجب أن لا يعرب ففتحت نونه لالتقاء الساكنين، وإذا التقى ساكنان في كلمة واحدة فتح الثاني وإن كانا في كلمتين كسر الأول. هذا قول الكوفيين، فأما البصريون فسبيل الساكنين إذا التقيا عندهم أن يكسر أحدهما إلا أن تقع علّة والذي أوجب هذا أنّ الكسر أخو الجزم، وقال محمد بن يزيد: لأن ما كان معربا منصرفا لم يكسر إلا ومعه التنوين فإذا كان الساكن الأول ألفا فالفتح أولى عند الخليل وسيبويه لأن الفتحة من جنس الألف قالا: ولو سمّيت رجلا إسحارا ثم رخّمته لقلت:

_ (1) معاني الفراء 2/ 98. (2) القطع: الحال، انظر معاني الفراء 2/ 98. [.....]

[سورة النحل (16) : آية 23]

يا إسحار أقبل، ففتحت الراء لالتقاء الساكنين لأن قبلها ألفا وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي أَيَّانَ يُبْعَثُونَ «1» بكسر الهمزة. قال الفراء «2» : وهي لغة سليم. [سورة النحل (16) : آية 23] لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وقد ذكرنا «3» لا جَرَمَ أَنَّ في غير هذا الموضع. [سورة النحل (16) : آية 24] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ (ما) في موضع رفع بالابتداء و (ذا) بمعنى الذي وهو خبر «ما» . قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ على إضمار مبتدأ. قال الكسائي: أي هو أساطير الأولين، وقال الأخفش: الجواب يردّ على الكلام الأول فلما كانت «ما» في موضع رفع رفع. قال أبو إسحاق: المعنى «الذي أنزل» أي الذي ذكرتم أنتم أنه أنزل أساطير الأولين أي أكاذيب، وقال غيره: هذا على التّهزّء أي يقول بعضهم لبعض: ماذا أنزل ربكم فيقول المجيب: أساطير الأولين ولم يقرّوا أنه أنزل شيئا، فلهذا كان مرفوعا، وقد أجاز النحويون: ماذا تعلّمت أنحوا أم شعرا. بالنصب والرفع. فالرفع على ما تقدم والنصب على أن تكون «ذا» زائدة بمعنى أي شيء تعلّمت؟ فإن قلت: من ذا كلّمت أزيدا أم عمرا؟ لم يكن «من ذا» في موضع رفع لأن ذا لا يراد معها. [سورة النحل (16) : آية 30] وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً قال الكسائي: ولو قيل خير لجاز. يعني على ما تقدّم. وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ رفع بنعم، والدار مؤنثة ولم يقل: نعمت لأنه فعل يشبه الأسماء وجرى على مثل هذا قول البصريين، وحذف علامة التأنيث عندهم أجود، وقال الكسائي: التذكير لأن المعنى ولنعم موضع دار المتقين ومثوى ومأوى. قال: والتأنيث جيّد حسن واسع. [سورة النحل (16) : آية 31] جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها قال الفراء «4» : إن شئت رفعت جنات بالاستئناف، وإن شئت

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 99. (2) انظر معاني الفراء 2/ 99. (3) مرّ في إعراب الآية 22- هود. (4) انظر معاني الفراء 2/ 99، والبحر المحيط 5/ 474.

[سورة النحل (16) : آية 32]

بالعائد في يدخلونها. والرفع عند البصريين من جهتين: إحداهما بالابتداء والأخرى بإضمار مبتدأ، كما تقول: نعم الرجل زيد. [سورة النحل (16) : آية 32] الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ في موضع نصب نعت للمتقين وطَيِّبِينَ على الحال أي مؤمنين مجتنبين للمعاصي. [سورة النحل (16) : آية 33] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) ْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ «أن» الملائكة بما وعدوا من العذاب. وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ بالعذاب، وحكى الكسائي: حرص يحرص. [سورة النحل (16) : الآيات 37 الى 38] إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) وقد ذكرنا «1» فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ. وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا مصدر. قال الكسائي والفراء «2» : ولو قيل: وعد عليه حقّ لكان صوابا أي ذلك وعد عليه حقّ. [سورة النحل (16) : آية 40] إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) قرأ ابن محيصن وعبد الله بن عامر والكسائي إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون «3» بالنصب. قال أبو إسحاق: النصب من وجهين: أحدهما على العطف أي فأن يكون، والآخر أن يكون جوابا لكن. قال أبو جعفر: الوجه «فيكون» مرفوع، وتقديره عند سيبويه فهو يكون، والنصب على العطف جائز. فأما أن يكون جوابا فمحال لأنه إخبار لا يجوز فيه الجواب، كما تقول: أنا أقول لعمرو امض فيجلس أو فيمضي، ولا معنى للجواب هاهنا وإنما الجواب أن يقول: امض فأكرمك. ومثل الأول فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ [البقرة: 102] وإنما الجواب لا تكفر فتدخل النار. [سورة النحل (16) : آية 41] وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) وَالَّذِينَ هاجَرُوا أي هجروا قومهم وديارهم ليتباعدوا من الكفر وَالَّذِينَ في موضع رفع بالابتداء لَنُبَوِّئَنَّهُمْ في موضع الخبر.

_ (1) راجع إعراب الآية 35- يونس. (2) انظر معاني الفراء 2/ 100. (3) انظر تيسير الداني 112.

[سورة النحل (16) : آية 42]

[سورة النحل (16) : آية 42] الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) الَّذِينَ صَبَرُوا في موضع رفع على البدل من الذين هاجروا، وفي موضع نصب على البدل من هم. [سورة النحل (16) : آية 44] بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ أي من الفرائض والأحكام والحدود. [سورة النحل (16) : آية 46] أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عطف على الأول. فِي تَقَلُّبِهِمْ ما يتقلّبون فيه من الأسفار وغيرها. [سورة النحل (16) : آية 47] أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ لأنه أمهلهم دعاهم إلى التوبة. [سورة النحل (16) : الآيات 48 الى 49] أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ واحد في موضع جمع وَالشَّمائِلِ جمع على بابه سُجَّداً على الحال أي منقادا ذليلا على ما دبّره الله جل وعز عليه. واصل السجود في اللغة: التذلل والانقياد وَهُمْ داخِرُونَ أي منقادون على ما أحبّوا أو كرهوا وكذا السجود في وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ أي منقادا لله جلّ وعزّ دالّ على حكمته كما روي عن ابن عباس: الكافر يسجد لغير الله جلّ وعزّ وظلّه يسجد لله تبارك وتعالى أي ينقاد لتدبيره، وقال أبو إسحاق: معنى ظلّه هاهنا جسمه الذي يكون منه الظلّ أي جسمه ولحمه وعظمه منقادات لله جلّ وعزّ دالّة عليها أثر الخضوع والذلّ، فعلى هذا هي ساجدة له تقدّس اسمه. [سورة النحل (16) : آية 51] وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ قال أبو إسحاق: فذكر اثنين توكيدا لإلهين كما ذكر واحدا توكيدا في قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وقال غيره: التقدير ولا تتّخذوا اثنين إلهين. فَإِيَّايَ في موضع نصب بإضمار فعل.

[سورة النحل (16) : آية 52]

[سورة النحل (16) : آية 52] وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَلَهُ الدِّينُ واصِباً نصب على الحال. [سورة النحل (16) : آية 53] وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ قال الفراء «1» : «ما» في موضع جزاء كأنه قال: وما تكن بكم من نعمة فمن الله، وقال أبو إسحاق: المعنى ومما حلّ بكم من نعمة فمن الله أي أعطاكم من صحّة في جسم أو رزق فكل ذلك من الله جلّ وعزّ. [سورة النحل (16) : آية 56] وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً أي ويجعلون لما لا يعلمون أنه إله نصيبا مما رزقناهم. تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ أي من قولكم إنهم آلهة. [سورة النحل (16) : آية 57] وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ لأنهم قالوا: الملائكة بنات الله، وتمّ الكلام عند قوله سُبْحانَهُ ثم قال جلّ وعزّ: وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ أي الشيء الذي يشتهونه، و «ما» في موضع رفع، وأجاز الفراء «2» : أن يكون في موضع نصب بمعنى ويجعلون لهم. قال أبو إسحاق: «ما» في موضع رفع لا غير لأن العرب لا تقول في مثل هذا: جعل فلان له كذا. وإنما تقول: جعل لنفسه، ومثله ضربت نفسي، ولا يقال ضربتني. [سورة النحل (16) : آية 58] وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا خبر «ظلّ» ، ويجوز عند سيبويه «3» والفراء «4» : ظلّ وجهه مسودّ يكون في «ظلّ» مضمر والجملة الخبر، وحكى سيبويه: «حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصّرانه» «5» . قال الفراء: مثل وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: 60] والأصل في ظلّ ظلل ثم أدغم.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 104. (2) انظر معاني الفراء 2/ 105. (3) انظر الكتاب 2/ 414. (4) انظر معاني الفراء 2/ 106. (5) الحديث في الكتاب 2/ 414، «كلّ مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصّرانه» . وأخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز، وأبو داود في سننه حديث رقم (4714) ، والترمذي في سننه- القدر 8/ 303.

[سورة النحل (16) : آية 60]

أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ قال الكسائي: المعنى لا يدري ينظر أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ. [سورة النحل (16) : آية 60] لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي هو الواحد الصمد. الْحَكِيمُ القدير الذي لم يلد ولم يولد. [سورة النحل (16) : آية 61] وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ أي بعقوبة ظلمهم ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ لأنه إذا أفنى الآباء انقطع النسل. [سورة النحل (16) : آية 62] وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ جمع لسان على لغة من ذكّر اللسان، ومن أنّث قال: ألسن، ومن قال ألسن ثم سمّى بلسان رجلا لم يصرف، وإن قال ألسنة صرف والكذب منصوب بتصف وأَنَّ لَهُمُ بدل من الكذب. قال أبو حاتم: وقرأ أهل الشام أو بعضهم وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى نعت للألسنة قال قطرب «أنّ لهم النار» في موضع رفع أي وجب ذلك، وقال غيره: «أنّ» في موضع نصب أي كسبهم ذلك «أنّ لهم النار» . وقد ذكرنا «1» معنى لا جَرَمَ. قرأ عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رحمهما الله وهذه القراءة قراءة أبي رجاء ونافع وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ «2» بكسر الراء والتخفيف، وقرأ أبو جعفر وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ «3» بكسر الراء والتشديد. قال أبو حاتم وروي عن أبي جعفر وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ بفتح الراء والتشديد، وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية وسعيد بن جبير ومجاهد وهي قراءة أبي عمرو بن العلاء والكوفيين وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ «4» بفتح الراء والتخفيف. وأصل هذا كلّه من التجاوز والتقدّم. فمفرطون مبالغون متجاوزون في الشر، ومنه يقال: قد أفرط فلان على فلان و «مفرّطون» مضيّعون متجاوزون لما يجب، ومنه أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله، وفي التشديد معنى المبالغة والتكثير و «مفرطون» مقدّمون إلى النار.

_ (1) مرّ في إعراب الآية 22- هود. (2) انظر تيسير الداني 112، والبحر المحيط 5/ 490. [.....] (3) انظر البحر المحيط 5/ 491. (4) انظر البحر المحيط 5/ 490، ومعاني الفراء 2/ 108.

[سورة النحل (16) : آية 63]

[سورة النحل (16) : آية 63] تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) تَاللَّهِ التاء بدل من الواو وإنما يقال: تالله إذا كان في الكلام معنى التعجّب لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ وحذف المفعول أي رسلا فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي من الكفر والمعاصي فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ابتداء وخبر وتحذف الضمة لثقلها فيقال: فهو وليّهم أي هو معهم، وقيل: المعنى أنه يقال: لهم هذا الذي أطعتموه فاسألوه حتّى يخلّصكم تبكيتا لهم وتوبيخا. [سورة النحل (16) : آية 64] وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَهُدىً وَرَحْمَةً مفعول من أجله. قال أبو إسحاق: ويجوز الرفع بمعنى وهو مع ذلك هدى ورحمة. [سورة النحل (16) : آية 66] وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً أي لدلالة على قدرة الله جلّ وعزّ وحسن تدبيره. نُسْقِيكُمْ بفتح النون قراءة عاصم وشيبة ونافع، نُسْقِيكُمْ بضم النون قراءة ابن كثير وأبي جعفر وأبي عمرو بن العلاء والكوفيين إلا عاصما. قال الخليل وسيبويه «1» رحمهما الله: سقيته ناولته فشرب، وأسقيته جعلت له سقيا، وقال أبو عبيدة: هما لغتان، قال أبو جعفر: سقيته يكون بمعنى عرّضته لأن يشرب، وأسقيته دعوت له بالسقيا، وأسقيته جعلت له سقيا، وأسقيته بمعنى سقيته عند أبي عبيدة فنسقيكم بالضم إلّا أنه حكي عن محمد بن يزيد أنه قال: نسقيكم بالفتح هاهنا أشبه بالمعنى. مِمَّا فِي بُطُونِهِ فذكّر فللنحويين في هذا أربعة أقوال: فمن أحسنها مذهب سيبويه أن العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد ثم ذكر الآية كأنه ذهب إلى أن الأنعام تذكّر وتؤنّث، وقال الكسائي: حكاه عنه الفراء «2» المعنى نسقيكم مما في بطون ما ذكرنا، وقال الفراء «3» : الأنعام والنعم واحد وهما جمعان فرجع إلى تذكير النعم وحكي عن العرب هذا نعم وارد، وحكى أبو عبيد عن الكسائي هذا القول وأنشد: [الرجز] 263- أكلّ عام نعم تحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه «4»

_ (1) انظر الكتاب 4/ 170. (2) انظر معاني الفراء 2/ 108 و 109. (3) انظر معاني الفراء 2/ 108 و 109. (4) الشاهد لقيس بن حصين في خزانة الأدب 1/ 409، وشرح أبيات سيبويه 1/ 119، ولصبي من بني سعد قيل إنه قيس بن الحصين في المقاصد النحوية 1/ 529، ولرجل ضبيّ في الأغاني 16/ 256، وبلا نسبة في الكتاب 1/ 184، والأشباه النظائر 3/ 102، وتلخيص الشواهد 191، والردّ على النحاة 120، ولسان العرب (نعم) ، واللمع في العربية 113.

[سورة النحل (16) : آية 67]

والقول الرابع حكاه أبو عبيد عن أبي عبيدة قال: المعنى نسقيكم مما في بطون أيّها كان له لبن لأنه ليست كلّها لها لبن. سائِغاً لِلشَّارِبِينَ نعت. [سورة النحل (16) : آية 67] وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ أي ولكم فيما رزقناكم من ثمرات النخيل والأعناب عبرة. [سورة النحل (16) : آية 68] وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي لأنها مؤنّثة والعرب تقول في تصغيرها: نحيل بغير هاء لئلا تشبه الواحدة، وحكى الأخفش أنها تذكّر بُيُوتاً كما تقول فلس وفلوس ومن كسر الباء أبدل من الضمة كسرة وهو وجه بعيد. [سورة النحل (16) : آية 70] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي إلى الهرم لأنه يضعف قوته وعقله فإن قال قائل: فهو إذا كان صبيّا هكذا ولا يقال للصبيّ: هو في أرذل العمر، فالجواب أنّ الصبي يرجى له العقل والقوة وليس كذا الهرم لِكَيْ لا يَعْلَمَ تنصب بكي ولا تحول «لا» بين العامل والمعمول فيه لتصرّفها وأنّها تكون زائدة. [سورة النحل (16) : آية 71] وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ ابتداء وخبر. [سورة النحل (16) : آية 72] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ قيل: يعني الأوثان والأصنام لأنهم لا ينتفعون بعبادتها. وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ الكفر بالنعمة في اللغة على ضربين: أحدهما أن يجحد النعمة، والآخر أن ينسبها إلى غير المنعم بها أو يجعل له فيها شريكا.

[سورة النحل (16) : آية 73]

[سورة النحل (16) : آية 73] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً في نصب شيء قولان: أحدهما أن يكون التقدير: لا يملكون أن يرزقوهم شيئا وهو قول الكوفيين «1» ، ونصبه عند الأخفش وغيره من البصريين على البدل من رزق. قال الأخفش: والمعنى: لا يملكون لهم رزقا قليلا ولا كثيرا، وقال غيره: لا يجوز أن يكون منصوبا برزق لأنه اسم ليس بمصدر كما لا يجوز: عجبت من دهن زيد لحيته، حتّى يقول من دهن. وَلا يَسْتَطِيعُونَ على المعنى لأن «ما» في المعنى لجماعة. [سورة النحل (16) : آية 74] فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ فيه قولان: أحدهما لا تمثّلوا لله جلّ وعزّ بخلقه فتقولوا: هو محتاج إلى شريك ومشاور فإن هذا إنما هو لمن لا يعلم، ودلّ على هذا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، والقول الآخر لا تمثّلوا خلق الله جلّ وعزّ به فتجعلوا لهم من الأهبة مثل ما له. [سورة النحل (16) : آية 75] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ أي من الرقّ. وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً أي فكما لا يستوي هذان عندكم فيجب أن لا يسوّوا بين الأصنام وهي لا تعقل ولا تنفع وبين الله جلّ وعزّ في العبادة. الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على ما دلّنا من توحيده بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ فيه قولان: أحدهما أنّ فعلهم فعل من لا يعلم وإن كانوا يعلمون والآخر أنهم لا يعلمون وعليهم أن يعلموا. [سورة النحل (16) : آية 76] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وإذا كان أبكم ضعيفا فهو ثقيل على وليّه أينما يوجّهه أي إن وجهه لشيء من منافع الدنيا لم يأت بخير. هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ معطوف على المضمر في يستوي وهو توكيد، وحسن العطف على المضمر المرفوع لمّا وكّدته لأنه التوكيد يعينه فكأنّه بارز من الفعل.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 110، والبحر المحيط 5/ 500.

[سورة النحل (16) : آية 78]

[سورة النحل (16) : آية 78] وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ومن كسر الهمزة أتبع الكسرة الكسرة، وكسر الميم بعيد وأمّهات جمع أمّهة، وقيل: الهاء زائدة كما زيدت في أهرقت. [سورة النحل (16) : آية 79] أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ أي إلى خلقها كيف خلقت خلقا يتهيّأ لها معه الطيران والثبوت في الجو، وجعل ذلك تسخيرا منه لها مجازا فقال جلّ ثناؤه: مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ومُسَخَّراتٍ حال. ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ لأنه جلّ وعزّ يثبتهنّ بالهواء الذي خلقه تحتهنّ فجعل ذلك إمساكا منه لهن اتساعا. [سورة النحل (16) : آية 81] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ أي خلق لكم ما تتّخذون منه سرابيل وأقدركم على عمله وروي عن ابن عباس رحمه الله أنه قرأ كذلك تتمّ نعمه عليكم ورفع النعمة. لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ «1» بفتح التاء واللام. [سورة النحل (16) : آية 83] يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وإنكارهم إياها إضافتهم إياها إلى غير الله جلّ وعزّ وإشراكهم معه فيها غيره. [سورة النحل (16) : آية 84] وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً والأمة القرن والجماعة فدلّ بهذا على أنّ في كلّ قرن من يطيعه جلّ وعزّ، ولا يكون الشهيد إلّا مطيعا. ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار. ومعنى لا يؤذن لهم في الاعتذار لا يقال لهم: اعتذروا بل يقال لهم: إن اعتذرتم لم يقبل منكم، ومثله وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 36] أي لا يعتذرون اعتذارا ينتفع به.

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 508، ومعاني الفراء 2/ 112.

[سورة النحل (16) : آية 86]

[سورة النحل (16) : آية 86] وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ أي أصنامهم التي كانوا يعبدونها تحشر معهم ليوبّخوا بها ويقرّعوا بها في النار. وسماها شركاءهم لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم وزرعهم وأنعامهم فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ أنطقوا فقالوا لهم: كذبتم ما كنا آلهة ولا نستحقّ العبادة. [سورة النحل (16) : آية 87] وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ استسلموا وانقادوا. وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ هلك وزال. [سورة النحل (16) : آية 88] الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ أي فوق العذاب الذي كانوا يستحقونه بكفرهم. بِما كانُوا يُفْسِدُونَ بصدّهم الناس عن الإسلام. [سورة النحل (16) : آية 89] وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) تِبْياناً أي بيانا مثل تلقاء، ويقال: تبيانا بفتح التاء أي تبيينا. [سورة النحل (16) : آية 90] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أي بالإنصاف. وَالْإِحْسانِ أي التفضّل. وحقيقة الإحسان في اللغة أنه كلّ فعل حسن وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وهو صلة الأرحام. وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وهو كلّ فعل أو قول قبيح وَالْمُنْكَرِ كلّ ما تنكره العقول من أفعال أو أقوال وَالْبَغْيِ أشدّ الفساد. وحكى القاسم بن سلام أنه يقال: برأ جرحه على بغي إذا برأ وفيه شيء من نغل، ثم قال جلّ وعزّ: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ والأصل تتذكّرون أدغمت التاء في الذال. [سورة النحل (16) : آية 91] وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَأَوْفُوا على لغة من قال: أوفى، ويقال: وفى بعهد الله. إِذا عاهَدْتُمْ فيه

[سورة النحل (16) : آية 92]

قولان: أحدهما بما تقدّم إليكم به وقدّركم عليه، والآخر أوفوا بما حلفتم عليه، وهذا أولى وأشبه بالمعنى لأن بعده وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها قال الكسائي: وناس كثير من العرب يقولون: تأكيد وقد أكّدت. قال أبو إسحاق: الأصل الواو والهمزة بدل منها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا قولهم الله كفيل على هذا وشاهد، ويكون مجازا فيكون حلفهم كقولهم هذا. [سورة النحل (16) : آية 92] وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها أي فتنقضوا ما قد وكّدتموه وقويتموه. مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ والعرب تسمي الفتلة الوثيقة قوة. قال أبو إسحاق أَنْكاثاً يعني المصدر لأن معنى نقض ونكث واحد. قال ودَخَلًا منصوب لأنه مفعول له وأَنْ في موضع نصب والمعنى بأن تكون أمة هي أكثر من أمة. من ربا الشيء يربو إذا كثر، وقال الكسائي: المعنى لأن تكون لغة. قال الكسائي والفراء «1» : أَرْبى في موضع نصب، والمعنى مثل تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً [المزمّل: 20] يجعلان «هو» عمادا. قال أبو جعفر: وهذا خطأ عند الخليل وسيبويه «2» رحمهما الله، ولا يجوز، ولا يشبه تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً لأن الهاء في «تجدوه» معرفة وأمة نكرة، ولا يجوز عندهما: ما كان أحد هو جالس، وقال الخليل: لا تكون هو زائدة إلا مع المعرفة، وعنده أنّ كونها مع المعرفة زائدة عجب فكيف تزاد مع النكرة؟ فالقول إن «أربى» في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ والجملة خبر تكون. [سورة النحل (16) : آية 94] وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ جواب النهي، والمعنى: فتستحقّ العقوبة بعد أن كانت تستحقّ الثواب. [سورة النحل (16) : آية 96] ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) ما عِنْدَكُمْ في موضع رفع بالابتداء. يَنْفَدُ في موضع الخبر. وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ ابتداء وخبر. وقد ذكرنا مثل باق.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 113. (2) انظر الكتاب 2/ 412.

[سورة النحل (16) : الآيات 98 إلى 99]

[سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 99] فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ مجازه إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ فجاء على تذكير السلطان، وكثير من العرب يؤنّثه فتقول: قضت به عليك السلطان، فأعلم الله جلّ وعزّ أن الشيطان ليس له سلطان على المؤمنين، وأعلم جلّ وعزّ في موضع آخر أنّه ليس له سلطان على واحد. فأما المعنى إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ أي إنه إذا وسوس إليهم قبلوا منه. [سورة النحل (16) : آية 101] وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وهو الناسخ والمنسوخ لما يعلم الله جلّ وعزّ في ذلك من الصلاح تلبّسوا به فقالوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ وهو ابتداء وخبر، وكذا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. [سورة النحل (16) : آية 103] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) وقرأ الحسن إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ «1» «بشر» بغير تنوين و «اللسان» بالألف واللام، واللسان مرفوع «بشر» مرفوع بفعله و «اللسان» مبتدأ وخبره «أعجميّ» وحذف التنوين من «بشر» لالتقاء الساكنين، وأنشد سيبويه: [المتقارب] 264- ولا ذاكر الله إلّا قليلا «2» ومثله قراءة من قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص: 2] ، وكذا وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ [يس: 20] بنصب النهار. قرأ أقل المدينة وأهل البصرة يُلْحِدُونَ «3» بضم الياء وكسر الحاء، وقرأ الكوفيون يلحدون «4» بفتح الياء والحاء، واللغة الفصيحة «يلحدون» ومنه يقال: رجل ملحد أي مائل عن الحق، ويبيّن هذا وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ [الحج: 25] فهذا من ألحد يلحد لا غير، ويقال: لحدت

_ (1) انظر البحر المحيط 5/ 519، ومختصر ابن خالويه 74. (2) مرّ الشاهد رقم (73) . (3) انظر تيسير الداني 113. (4) انظر تيسير الداني 113. [.....]

[سورة النحل (16) : آية 106]

القبر أي جعلت فيه لحدا وألحدت الميّت ألزمته اللحد. وَهذا لِسانٌ قيل: يعني القرآن، سمّاه لسانا اتّساعا، كما يقال: فلان يتكلّم بلسان العرب أي بلغتها وكذا اللسان الذي يلحدون إليه أي كلامه وعلى هذا تسمّى الرسالة لسانا، كما قال: [الوافر] 265- لسان السّوء تهديها إلينا «1» [سورة النحل (16) : آية 106] مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ مَنْ في موضع رفع على البدل من «الكاذبين» . إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ في موضع نصب على الاستثناء. والمعنى- والله أعلم- إلّا من أكره. فله أن يقول ما ظاهره الكذب والكفر ولا يعتقده، ولا يجوز له أن يكذب كذبا صراحا بوجه، وإنما يقول: فلان كذّاب على قولهم أو يعني به غير النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ممن هو كاذب لأن الكذب قبيح فلا يجوز أن يأذن الله فيه بحال، والدليل على قبحه أن قائله لا يوثق بخبره وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ابتداء وخبر، وهو تبيين ما تقدّم. مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ مبتدأ. فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ في موضع الخبر. [سورة النحل (16) : آية 107] ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ قال الخليل رحمه الله لا جَرَمَ لا تكون إلّا جوابا. قال أبو جعفر: وقد ذكرناه «2» . [سورة النحل (16) : آية 110] ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) مِنْ بَعْدِها أي من بعد الفتنة. [سورة النحل (16) : آية 111] يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) يَوْمَ تَأْتِي في موضع نصب أي غفور رحيم يوم تأتي كلّ نفس، ويجوز أن يكون بمعنى: واذكر يوم تأتي كلّ نفس.

_ (1) الشاهد بلا نسبة في جواهر الأدب 125، والجنى الداني 94، والدرر 1/ 240، وشرح شواهد المغني 1/ 506، ومغني اللبيب 1/ 182، وهمع الهوامع 1/ 77، وعجزه: «وحنت وما حسبتك أن تحينا» (2) مرّ في إعراب الآية 22- هود.

[سورة النحل (16) : آية 112]

[سورة النحل (16) : آية 112] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً أي مثل قرية. فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ جمع نعمة عند سيبويه، وقال قطرب: جمع نعم مثل ودّ وأدود. [سورة النحل (16) : آية 116] وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ نصب بمعنى لوصف ألسنتكم الكذب، وقال: الكذب يلقي حركة الدال على الكاف، وقرأ أهل الشام أو بعضهم وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ «1» على النعت للألسنة، وقرأ الحسن والأعرج وطلحة وأبو معمر لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ «2» بالخفض على النعت لما أو البدل. [سورة النحل (16) : آية 117] مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) مَتاعٌ قَلِيلٌ على إضمار مبتدأ أي تمتّعهم في الدنيا متاع قليل أي مدّة بقائهم، ويجوز متاعا في غير القرآن على المصدر أي يمتعون متاعا. [سورة النحل (16) : آية 120] إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) كانَ أُمَّةً خبر كان. قانِتاً نعت أو خبر ثان. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا «3» وَلَمْ يَكُ في غير موضع. [سورة النحل (16) : آية 124] إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ قال بعضهم: لا نريد الجمعة، وقال بعضهم: لا نريد السبت ففرض عليهم الفراغ في يوم السبت. [سورة النحل (16) : آية 127] وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ قيل المعنى: لا تحزن على الكفار فإنّما عليك أن تدعوهم إلى الإيمان، وقيل: المعنى ولا تحزن على الشهداء فإن الله جلّ وعزّ قد أثابهم وفيهم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وفيه نزلت وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ

_ (1) انظر المحتسب 2/ 11. (2) انظر البحر المحيط 5/ 527. (3) مرّ في إعراب الآية 109- هود.

[سورة النحل (16) : آية 128]

[النحل: 126] وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ للكفّار لم يقل غيره، وحكى أبو عبيد القاسم بن سلام أنّ نافعا قرأ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ «1» بكسر الضاد قال أبو جعفر: وهذا لا يعرف عن نافع. وقال الكوفيون: الفراء «2» وغيره: «الضيق» بفتح الضاد في القلب والصدر، «والضيق» بكسر الضاد في الثوب والدار وما أشبهها مما يرى قال الفراء: فإذا رأيت الضيق بفتح الضاد قد وقع في موضع الضّيق فهو مخفّف من ضيّق أو جمع ضيقة، ولا يعرف البصريون من هذا التفريق شيئا، وقالوا إذا أردت المصدر قلت: الضيق، كما تقول: البيع، وإن أردت الاسم قلت: الضيق كما تقول: العلم، وأجازوا في ضيّق التخفيف. [سورة النحل (16) : آية 128] إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا الَّذِينَ خفض بإضافة مع إليه لأن مع عند الخليل اسم إذا فتحت العين وإن أسكنتها فهي حرف. وَالَّذِينَ عطف. هُمْ مُحْسِنُونَ مبتدأ وخبره في الصّلة.

_ (1) انظر تيسير الداني 113. (2) انظر معاني الفراء 2/ 115.

17 شرح إعراب سورة الإسراء

17 شرح إعراب سورة الإسراء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الإسراء (17) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) روي عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن معنى: سُبْحانَ اللَّهِ، فقال: تنزيها لله من كل سوء. قال أبو جعفر: شرح هذا أنه بمعنى تبعيد الله جلّ وعز عن كلّ ما نسبه إليه المشركون من الأنداد والأضداد والشركاء والأولاد ونصبه عند الخليل وسيبويه «1» رحمهما الله على المصدر أي: سبّحت الله تسبيحا، إلّا أنه إذا أفرد كان معرفة منصوبا بغير تنوين لأن في آخره زائدتين وهو معرفة، وحكى سيبويه أنّ من العرب من ينكره فيصرفه، وحكى أبو عبيد في نصبه وجهين سوى هذا، إنه يكون نصبا على النداء أي يا سبحان الله، والوجه الآخر: أن يكون غير موصوف. الَّذِي في موضع خفض بالإضافة. وقال: سرى وأسرى لغتان معروفتان. بِعَبْدِهِ لَيْلًا على الظرف مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نعت للمسجد. وأصل الحرام المنع فالمسجد الحرام ممنوع الصيد فيه. قال أبو إسحاق: ويقال للحرم كلّه: مسجد. إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى نعت له، وكذلك الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ قيل: معنى باركنا حوله أن الأنبياء عليهم السلام الذين كانوا بعد موسى صلّى الله عليه وسلّم من بني إسرائيل كانوا ببيت المقدس وما حوله فبارك الله جلّ وعزّ في تلك المواضع بأن باعد الشرك منها، ولهذا سمّي ببيت المقدس لأنه قدّس أي طهّر من الشرك. لِنُرِيَهُ نصب بلام كي وهي بدل من أن وأصلها لام الخفض. [سورة الإسراء (17) : الآيات 2 الى 3] وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مفعولان، وكذا وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ. أَلَّا تَتَّخِذُوا

_ (1) انظر الكتاب 1/ 386.

[سورة الإسراء (17) : آية 4]

بالياء قراءة أبي عمرو بن العلاء، والتقدير لئلا يتخذوا، وقراءة أهل الحرمين وأهل الكوفة أَلَّا تَتَّخِذُوا وزعم أبو عبيد أنه على الحذف أي قلنا لهم لا تتّخذوا. قال أبو جعفر: هذا لا يحتاج إلى حذف وتكون «أنّ» بمعنى أي، ويجوز أن تكون «أن» في موضع نصب، ويكون المعنى بأن لا تتخذوا، وجعل الكلام للمخاطبة لأن بعده ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا على المخاطبة، ونصب ذرية من أربعة أوجه: تكون نداء مضافا، وتكون بدلا من وكيل لأنه بمعنى جمع، وتكون هي ووكيل مفعولين كما تقول: لا تتخذ زيدا صاحبا، والوجه الرابع بمعنى أعني، ويجوز الرفع على قراءة من قرأ بالياء على البدل من الواو، ولا يجوز البدل من الواو على قراءة من قرأ بالتاء: ولا يقال: كلّمتك زيدا، ولا كلمتني زيدا، لأن المخاطب والمخاطب لا يحتاجان إلى تبيين. [سورة الإسراء (17) : آية 4] وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ قد ذكرنا قول ابن عباس رحمه الله أن معناه أعلمناهم. وأصل قضى في اللّغة عمل عملا محكما، والقاضي هو المحكم الأمر النافذة، والقضاء: الأمر النافذ المحكم الذي لا يدفع. وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ وروي عن ابن عباس وجابر بن زيد «1» ونصر بن عاصم أنهم قرءوا لَتُفْسِدُنَّ «2» على ما لم يسمّ فاعله. وَلَتَعْلُنَّ أي ولتعظّمنّ، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين ولأن قبلها ما يدلّ عليها. [سورة الإسراء (17) : آية 5] فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ قيل: أي خلّينا بينكم وبينهم، وقرأ الحسن فجاسوا خلل الديار «3» . قال أبو إسحاق: أصل الجوس طلب الشيء باستقصاء أي طلبوا هل يجدون أحدا لم يقتلوه وخِلالَ ظرف أي في خلال الديار. وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا خبر كان، واسمها فيها مضمر. [سورة الإسراء (17) : آية 6] ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ أي نصرناكم عليهم حتّى كررتم. وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ مفعولان. نَفِيراً على البيان.

_ (1) جابر بن زيد أبو الشعثاء الأزدي البصري، وردت له حروف في القرآن، صاحب ابن عباس (ت 93 هـ) ترجمته في غاية النهاية 1/ 189. (2) انظر البحر المحيط 6/ 8، ومختصر ابن خالويه 75. (3) انظر البحر المحيط 6/ 9، والإتحاف 171.

[سورة الإسراء (17) : آية 7]

[سورة الإسراء (17) : آية 7] إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أي الثواب لكم، وهو شرط وجوابه وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها أي يحصل العقاب لها، ولها بمعنى عليها لا يقوله النحويون الحذّاق، وهو قلب المعنى وليس احتجاجهم بالحديث «اشترطي الولاء لهم» «1» بشيء، وقد اختلف في هذا الحديث فرواه جماعة على هذا اللفظ من حديث مالك بن أنس وهو رواية الشافعي عنه «واشترطي الولاء لهم» ، وهذا معنى صحيح بيّن. يقال: اشترط الشيء إذا بيّنه، كما قال: [الطويل] 266- فأشرط فيها نفسه وهو معصم «2» وعلى الرواية الأخرى يكون المعنى «واشترطي الولاء لهم» أي من أجلهم، كما تقول: أنا أكرم فلانا لك، وفيه قول آخر يكون بمعنى النهي على التهديد والوعيد: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي وعد المرة الآخرة، وأقيمت الصفة مقام الموصوف، قرأ أهل المدينة وأهل البصرة لِيَسُوؤُا «3» على الجمع، وقرأ أهل الكوفة ليسوء وجوهكم «4» على التوحيد إلّا الكسائي فإنّه قرأ لنسوء وجوهكم «5» ، وزعم أنها قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعن أبيّ بن كعب روايتان: إحداهما أنه قرأ (لنسوءن وجوهكم) «6» اللام مفتوحة وهي لام قسم بالنون الخفيفة والوقف عليها بالألف فرقا بين الخفيفة والثقيلة، وروي عنه (ليسيء وجوهكم) بياءين وهمزة. قال أبو جعفر: القراءة الأولى على الجمع يدلّ عليها وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا والقراءة الثانية فيها ثلاثة أقوال: يكون المعنى ليسوء الله جلّ وعزّ وقال الفراء «7» : ليسوء العذاب. قال أبو إسحاق: ليسوء الوعد واللام فيهما لام كي، وكذا القراءة الثالثة وفي الكلام حذف، والمعنى: فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم فهذا الفعل جواب (إذا) ، ولام كي متعلّقة به. وفي معنى بعثناهم قولان: أحدهما خلّينا بينكم

_ (1) أخرجه مالك في الموطّأ- باب 10 حديث رقم (17) . (2) الشاهد لأوس بن حجر في ديوانه 87، ولسان العرب (شرط) و (عصم) ، وجمهرة اللغة 726، وأساس البلاغة (شرط) ، وكتاب العين 6/ 236، وتاج العروس (شرط) و (عصم) ، وسمط اللآلي 492، والفاخر 123، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 260، وعجزه: «وألقى بأسباب له وتوكّلا» (3) انظر تيسير الداني 113. [.....] (4) انظر تيسير الداني 113. (5) انظر تيسير الداني 113. (6) انظر معاني الفراء 2/ 117، والبحر المحيط 6/ 10. (7) انظر معاني الفراء 2/ 117.

[سورة الإسراء (17) : آية 8]

وبينهم ولم نخوّفهم منكم فكان هذا مجازا جعل التخلية وترك التخويف بعثا، ومثله أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ [مريم: 83] والقول الآخر: معنى بعثنا عليكم أمرناهم بغزوكم لما عصيتم وأفسدتم، وهذا حقيقة لا مجاز. وزعم الفراء أن من قرأ ليسوآ وجوهكم فهو الجواب عنده بغير حذف، ولكنه أضمر فعلا في «وليتبّروا» قال قتادة: المعنى وليتبّروا ما علوا عليه، وقال غيره: وليتبّروا ما داموا عالين وحقيقته في العربية وليتبّروا وقت علوهم، كما تقول: فلان يؤذيك ما ولي. [سورة الإسراء (17) : آية 8] عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ قال الضحاك: الرحمة هاهنا بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم. وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا قيل: إن عدتم للمعصية عدنا لترك النصر وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً مفعولان. [سورة الإسراء (17) : آية 9] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ نعت لهذا، والخبر في يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ. وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ في موضع نصب أي بأنّ. [سورة الإسراء (17) : آية 10] وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَأَنَّ الَّذِينَ معطوف عليه. [سورة الإسراء (17) : آية 11] وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ حذفت الواو في الإدراج لالتقاء الساكنين ولا ينبغي أن يوقّف عليه لأنه في السواد بغير واو، ولو وقف عليه واقف في غير القرآن لم يجز أن يقف إلّا بالواو لأنها لام الفعل لا تحذف إلّا في الجزم أو في الإدراج ولا ألف بعدها، وكذا يدعو ويرجو وإنّما تكون الألف مع واو الجميع فرقا بينها وبين الواو التي تكون لام الفعل في الواحد، وقال الأخفش: تكون في الجميع فرقا بينها وبين الواو العطف، وقال أحمد بن يحيى: تكون فرقا بين المضمر المنصوب والمؤكّد. دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ قال الأخفش: هذا كما تقول: انطلقت انطلاقا، أي هو مصدر، وقال الفراء «1» : المعنى كدعائه. قال أبو جعفر: وليس حذف الكاف مما يوجب نصبا ولا غيره ولا اختلاف بين النحويين أنه يقال: عمرو كالأسد فإن حذفت الكاف قلت: عمرو الأسد، وحقيقة القول في الآية أن التقدير: يدعو الإنسان بالشرّ دعاء مثل دعائه بالخير ثم أقيمت الصفة مقام الموصوف والمضاف إليه مقام المضاف.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 118.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 12 إلى 13]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 12 الى 13] وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ مفعولان وكلّ واحد منهما يأتي في إثر صاحبه وينصرف عند مجيئه فهما آيتان دالتان على مدبر لهما. فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أي لم نجعل لها ضياء ونورا كنور النهار، والشيء الممحو هو الذي لا يتبيّن. وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً وهي الشّمس وضوؤها لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وفي الكلام حذف أي ولتسكنوا في الليل وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أي جعلنا بين الآية والآية فصلا لتستدلّوا بدلائل الله جلّ وعزّ ونصب (كل شيء) بإضمار فعل، وكذا وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً من نعت كتاب، وإن شئت على الحال، وقد ذكرنا الآية وما فيها من القراءات. [سورة الإسراء (17) : آية 14] اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) اقْرَأْ كِتابَكَ علامة الجزم والبناء حذف الضمّة من الهمزة، وحكي عن العرب: أقر يا هذا، على إبدال الهمزة، ومنه وقول زهير: [الطويل] 267- وإلّا يبد بالظّلم يظلم «1» كَفى بِنَفْسِكَ في موضع رفع والباء زائدة للتوكيد. حَسِيباً على البيان، وإن شئت على الحال. قال أبو إسحاق: ويجوز في غير القرآن حسيبة. [سورة الإسراء (17) : آية 15] مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) مَنِ اهْتَدى شرط، والجواب فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وكذا وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي عمله له، ويدلّ على هذا وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وفي معناه قولان: أحدهما لا يؤخذ أحد بذنب أحد، والآخر أنّ المعنى لا ينبغي لأحد أن يقتدي بأحد ويقلّده في الشر، كما قال جلّ وعزّ إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: 22] ويقال وزر يزر والأصل يوزر حذفت الواو عند البصريين لوقوعها بين ياء وكسرة، والمصدر وزر ووزر ووزرة وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فيه قولان: أحدهما أن المعنى وما كنا معذّبين العذاب الذي يكون عقوبة على مخالفة الشيء الذي لا يعرف إلا بالإخبار حتى نبعث رسولا، والآخر أنه عذاب الاستئصال.

_ (1) مرّ الشاهد رقم (16) .

[سورة الإسراء (17) : آية 16]

[سورة الإسراء (17) : آية 16] وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وقد ذكرنا وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها «1» والقراءات التي فيه. [سورة الإسراء (17) : آية 17] وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) وَكَمْ في موضع نصب بأهلكنا. [سورة الإسراء (17) : آية 18] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ أي لا يريد ثوابا في الآخرة لم نمنعه ذلك لِمَنْ نُرِيدُ. [سورة الإسراء (17) : آية 20] كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) كُلًّا نصب بنمدّ. هؤُلاءِ بدل من كلّ. وَهَؤُلاءِ عطف عليه أي نرزق المؤمن والكافر وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. قال سعيد عن قتادة أي منقوصا. [سورة الإسراء (17) : آية 21] انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) كَيْفَ في موضع نصب بفضلنا إلا أنها مبنيّة غير معرّبة وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ ابتداء وخبر. دَرَجاتٍ في موضع نصب على البيان، وكذا تَفْضِيلًا قال الضحاك: من كان من أهل الجنة عاليا رأى فضله على من هو أسفل منه، ومن كان دونه لم ير أنّ أحدا فوقه أفضل منه. [سورة الإسراء (17) : آية 22] لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) فَتَقْعُدَ منصوب على جواب النهي. [سورة الإسراء (17) : آية 23] وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مصدر. إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ قراءة أهل المدينة وأهل البصرة وعاصم، وقراءة أهل الكوفة إلّا عاصما «2» (إمّا يبلغانّ عندك الكبر) والقراءة الأولى أبين في العربية لأن أحدهما واحد، وتجوز الثانية كما تقول: جاءاني أحدهما أو كلاهما على البدل لأنك قد جئت بعد الفعل بثلاثة والوجه جاءني أحدهما أو كلاهما، وإن شئت قلت: جاءاني كلاهما أو أحدهما على أن يكون كلاهما توكيدا وأحدهما

_ (1) انظر القراءات المختلفة في البحر المحيط 6/ 15. (2) انظر تيسير الداني 113، والبحر المحيط 6/ 23.

[سورة الإسراء (17) : آية 28]

عطفا. فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ فيه سبع لغات: قرأ الحسن وأهل المدينة (ولا تقل لهما أفّ) «1» بالكسر والتنوين، وقال أبو عمرو وأهل الكوفة بالكسر بغير تنوين، وقرأ أهل مكة وأهل الشام بالفتح بغير تنوين، وحكى الكسائي والأخفش ثلاث لغات سوى هذه. حكيا النصب بالتنوين والضم بالتنوين والضم بغير تنوين، وحكى الأخفش اللغة السابعة. قال: يقال: أفّي بإثبات الياء كأنه قال هذا القول لك. قال أبو جعفر: القراءة الأولى يكون الكسر فيها لالتقاء الساكنين والتنوين لأنه نكرة فرقا بينه وبين المعرفة، وهي قراءة حسنة، وأصل الساكنين إذا التقيا الكسر، وزعم الأصمعي أنه لا يجوز إلّا التنوين في مثل هذه الأشياء وأن ذا الرمة لحن في قوله: [الطويل] 268- وقفنا فقلنا إيه عن أمّ سالم ... وما بال تكليم الدّيار البلاقع «2» وكان الأصمعي مولعا بردّ اللغات الشاذة التي لا تكثر في كلام الفصحاء. فأما النحويون الحذّاق فيقولون: حذف التنوين على أنه معرفة وعلى هذا القراءة الثانية والقراءة الثالثة لأن الفتح خفيف والتضعيف ثقيل والتنوين كما تقدّم والضمّ بغير تنوين على الاتباع، كما يقال: ردّ، والتنوين كما ذكرنا إلّا أنّ الأخفش قال: التنوين قبيح إذا رفعت لأنه ليس في الكلام معه لام كأنه يقدّر رفعه بالابتداء، كما يقال: ويل له، وزعم أنّ النصب بالتنوين كما يقال: تعسا له. وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً أي قولا تكرمهما به وتعظّمهما به. [سورة الإسراء (17) : آية 28] وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ أي عن ذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مفعول من أجله أي طلب رزق تنتظره. فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً قيل: برفق ولين وعدة. [سورة الإسراء (17) : آية 29] وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ اليد مؤنّثة والعنق يذكّر ويؤنّث، والأكثر التذكير كما قال: [الرجز] 269- في سرطم هاد وعنق عرطل «3»

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 22، وتيسير الداني 113. (2) الشاهد لذي الرمة في ديوانه 778، والأشباه والنظائر 6/ 201، وإصلاح المنطق ص 291، وتذكرة النحاة ص 658، وخزانة الأدب 6/ 208، ورصف المباني ص 344، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 494، وشرح المفصّل 4/ 31، ولسان العرب (أيه) ، وتاج العروس (أيه) ، وما ينصرف وما لا ينصرف 109، ومجالس ثعلب ص 275، وكتاب العين 4/ 104، وبلا نسبة في خزانة الأدب 6/ 237، والمقتضب 3/ 179، والمخصص 14/ 81. (3) الشاهد لأبي النجم في الخصائص 1/ 270، واللسان (عراحل) .

[سورة الإسراء (17) : آية 30]

حذف الضمة في عنق لثقلها. [سورة الإسراء (17) : آية 30] إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي يضيّق ويفعل من ذلك ما فيه الصلاح ودلّ على هذا إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً أي يعلم ما يصلحهم. وفي معنى «فتقعد ملوما محسورا» قولان: أحدهما قول الفراء: «1» إنه بمنزلة المحسور أي الكالّ المتعب، وحكى: حسرت الدّابة فهي محسورة وحسير إذا سيّرتها حتى تنقطع، والقول الآخر «محسورا» بمعنى من قد لحقته الحسرة. [سورة الإسراء (17) : آية 31] وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً خبر كان واسمها فيها مضمر والجملة خبر إنّ. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا ما فيه من القراءات «2» . [سورة الإسراء (17) : آية 32] وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ومن العرب من يمدّه يجعله مصدرا من زانى لأنه لا يكن إلّا من اثنين. إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا على البيان أي طريقه سيّئ وفعله قبيح. [سورة الإسراء (17) : آية 33] وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ قد ذكرناه «3» . وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ على الحال فَقَدْ جَعَلْنا الإدغام حسن، لأن الدال من طرف اللسان والجيم من وسطه فهما متقاربتان والإظهار جائز لِوَلِيِّهِ أي أقرب الناس إليه. سُلْطاناً قال سعيد بن جبير كلّ سلطان في القرآن فهو حجّة. قال أبو إسحاق: من قرأ فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ «4» جعله خبرا أي فليس يسرف قاتل وليّه إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً في الضمير خمسة أقوال: يكون للوليّ، وهذا أولاها عند أهل النظر لأنه أقرب إليه. قال ابن كثير عن مجاهد: إن المقتول كان منصورا، وهذا قول حسن لأن المقتول قد نصر في الدنيا لمّا أمر بقتل قاتله وفي الآخرة بإجزال الثواب وتعذيب قاتله، وقيل: إنّ القتل كان منصورا. قال

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 122. (2) القراءات المختلفة في البحر المحيط 6/ 29. (3) انظر البحر المحيط 6/ 30. [.....] (4) انظر المحتسب 2/ 20، والبحر المحيط 6/ 31.

[سورة الإسراء (17) : آية 34]

الفراء «1» : يجوز أن يكون المعنى إنّ القتل لأنه فعل، والقول الخامس قول أبي عبيد، قال: يكون إنّ القاتل الأول كان منصورا إذا قتل. وهذا أبعدها وأشدّها تعسفا. [سورة الإسراء (17) : آية 34] وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا فدخل في هذا كلّ ما أمر الله به لأنه قد عهد إلينا فيه. [سورة الإسراء (17) : آية 36] وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فدخل في هذا النهي عن قذف المحصنات وعن القول في الناس بما لا يعلم وعن الكلام في الفقه والدين بالظنّ وأن لا يقول أحد ما لا يحقّه. إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا فدخل في هذا النهي عن الاستماع إلى ما لا يحلّ استماعه وعن الهمّ والعزم بما لا يحلّ النظر إليه، واعلم أن الإنسان مسؤول عن ذلك كلّه، وقال: أولئك في غير الناس لأن كلّ ما يشار إليه وهو متراخ فلك أن تقول فيه: أولئك، كما قال: [الكامل] 270- ذمّ المنازل غير منزلة اللّوى ... والعيش بعد أولئك الأيّام «2» [سورة الإسراء (17) : آية 37] وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي ذا مرح، وحكى يعقوب القارئ مَرَحاً «3» بكسر الراء على الحال. قال الأخفش: وكسر الراء أجود لأنه اسم الفاعل. قال أبو إسحاق: فتح الراء أجود لأنه فيه معنى التوكيد، كما يقال: جاء فلان ركضا، وجعله مصدرا في موضع الحال. والمرح في اللغة الأشر والبطر ويكون منه التختر والتكبّر. إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ أي لن تبلغ قوتك هذا. وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا فلا ينبغي أن تتكبّر وتترفّع. [سورة الإسراء (17) : آية 38] كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) فاحتجّوا بأشياء قد تقدّمت حسان منها وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ومنها وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، واحتجّ أبو حاتم بقوله «مكروها» ولم يقل مكروهة. قال أبو جعفر: لا يلزم

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 123. (2) الشاهد لجرير في ديوانه 990، وتخليص الشواهد 123، وخزانة الأدب 5/ 430، وشرح التصريح 1/ 128، وشرح شواهد الشافية 167، وشرح المفصل 9/ 129، ولسان العرب (أولى) ، والمقاصد النحوية 1/ 408، وبلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 134، وشرح الأشموني 1/ 63، وشرح ابن عقيل ص 72، والمقتضب 1/ 185. (3) انظر البحر المحيط 6/ 34.

[سورة الإسراء (17) : آية 40]

من هذه الاحتجاجات شيء لأن الأشياء الحسان تقدّمت في باب الأمر ثم جاء النهي فجاء بعده كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً لما نهي عنه، وقال مكروها ولم يقل: مكروهة لأنه عائد على لفظ كلّ وهو خبر ثان عن المضمر الذي في كان والمضمر مذكّر. [سورة الإسراء (17) : آية 40] أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا مصدر فيه معنى التوكيد عَظِيماً من نعته. [سورة الإسراء (17) : آية 41] وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قال أبو إسحاق: وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي ولقد بيّنا. قال: والمعنى وَما يَزِيدُهُمْ أي التبيين إِلَّا نُفُوراً. [سورة الإسراء (17) : آية 42] قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) لَابْتَغَوْا لطلبوا. [سورة الإسراء (17) : آية 43] سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) أي تعاليا، كما قال: [الوافر] 271- وليس بأن تتبّعه اتّباعا «1» [سورة الإسراء (17) : آية 44] تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ على تأنيث الجماعة ويسبح على تذكير الجميع. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ قد تكلّم العلماء في معناه فقال بعضهم: هو التسبيح الذي يعرف، وقال بعضهم: هو مخصوص، وقال بعضهم: تسبيحه دلالته على تنزيه الله جلّ وعزّ وتأوّل وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ على أن مخاطبة للكفار الذين لا يستدلّون، وقيل: ولكن لا تفقهون مخاطبة للناس وإذا كان فيهم من لا يفقه ذلك فلم يفقهوا. إِنَّهُ كانَ حَلِيماً أي حليما عن هؤلاء الذين لا يستدلّون. غَفُوراً لمن تاب منهم. [سورة الإسراء (17) : آية 45] وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) قيل: هؤلاء قوم كانوا إذا سمعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بمكة ليستدعي الناس سبّوه

_ (1) مرّ الشاهد رقم (77) .

[سورة الإسراء (17) : آية 46]

فأعلمه الله جلّ وعزّ أنه يحول بينهم وبينه حتى لا يفهموا قراءته. قال الأخفش: «مستورا» أي ساترا ومفعول يكون بمعنى فاعل كما يقال: مشؤوم وميمون أي شائم ويا من لأن الحجاب هو الذي يستر، وقال غيره: الحجاب مستور على الحقيقة لأنه شيء مغطّى عنهم. [سورة الإسراء (17) : آية 46] وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً نصب على الحال على أنه جمع نافر، ويجوز أن يكون واحدا على أنه مصدر. [سورة الإسراء (17) : آية 47] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) وَإِذْ هُمْ نَجْوى مبتدأ وخبره والتقدير: ذو نجوى. [سورة الإسراء (17) : آية 48] انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي قالوا مرة هو مخدوع ومرة هو ساحر ليلحقوا بك الكذب، فَضَلُّوا عن سبيل الحق فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إليه. [سورة الإسراء (17) : آية 49] وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) خَلْقاً مصدر جَدِيداً من نعته. وجديد في المذكّر والمؤنّث بمعنى واحد، وجديدة في المؤنث لغة رديئة عند سيبويه. [سورة الإسراء (17) : الآيات 50 الى 51] قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ أي توهّموا ما شئتم فلا بدّ من أن تموتوا وتبعثوا. وكانت هذه الآيات من أعظم الدلائل على نبوّة النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال الله جلّ وعزّ: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا فأخبر جلّ وعزّ بأنّهم سيقولون هذا، وأخبر أنهم يحرّكون رؤوسهم استبعادا لما قال لهم وأنهم يقولون مع تحريك رؤوسهم أو بعده. مَتى هُوَ وتلى عليهم فكان الأمر على ذلك. [سورة الإسراء (17) : آية 52] يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ قال سعيد بن جبير: يخرج الناس من قبورهم وهم

[سورة الإسراء (17) : آية 53]

يقولون: سبحانك وبحمدك. وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا قيل: إنّهم إنما ظنّوا هذا بعد الحقيقة التي لا بدّ للخلق منها. [سورة الإسراء (17) : آية 53] وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي المقالة التي هي أحسن. قال المازني: المعنى: قل لعبادي قولوا يقولوا إنّ الشيطان ينزغ بينهم أي يحرّض الكافرين على المؤمنين. [سورة الإسراء (17) : آية 56] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ في الكلام حذف دلّ عليه ما بعده، والتقدير: قل ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهتكم من دون الله فليكشفوا عنكم الضّرّ وليحوّلوكم من الضيق والشدّة إلى السّعة ودلّ على هذا فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا أي لن يحوّلوكم من الضيق والشدة إلى السعة والخصب. [سورة الإسراء (17) : آية 57] أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) أُولئِكَ مبتدأ. الَّذِينَ يَدْعُونَ من نعته، والخبر يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ وفي قراءة ابن مسعود رحمه الله أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ «1» لأن قبله قل ادعوا، والتقدير: يبتغون الوسيلة إلى ربهم ينظرون. أَيُّهُمْ أَقْرَبُ فيتوسّلون: والفرق بين هؤلاء وبين من توسّل بعبادة المسيح عليه السلام وغيره أن هؤلاء توسلوا وهم موحّدون وأولئك توسلوا بعبادة غير الله جلّ وعزّ فكفروا وأَيُّهُمْ رفع بالابتداء وأَقْرَبُ خبره، ويجوز أن يكون «أيّهم» بدلا من الواو ويكون بمعنى الذي، والتقدير يبتغي الذي هو أقرب الوسيلة وأضمرت «هو» وسيبويه «2» يجعل أيّا على هذا التقدير مبنيّة. وهو قول مردود وسنذكر ما فيه إن شاء الله «3» . والذين يدعون من كان مطيعا لله جلّ وعزّ، والتقدير: يدعونهم آلهة، وفي الآية قول آخر يكون متصلا بقوله جلّ وعزّ ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض أولئك الذين يدعون أي أولئك النبيون الذين يدعون الله جلّ وعزّ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ قال عطاء: أي القربة. قال أبو إسحاق: الوسيلة والسؤال والطلبة واحد. وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ أي الذين يعبدونهم المطيعون يرجون رحمته ويخافون عذابه على الجواب الأول.

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 50. (2) انظر الكتاب 2/ 420. (3) انظر إعراب الآية 69- سورة مريم.

[سورة الإسراء (17) : آية 58]

[سورة الإسراء (17) : آية 58] وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي أهل قرية. إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها بالموت أَوْ مُعَذِّبُوها بالاستئصال لعصيانهم كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي في الكتاب الذي كتبه الله جلّ وعزّ للملائكة عليهم السلام فيه أخبار العباد ليستدلّوا بذلك على قدرته. [سورة الإسراء (17) : آية 59] وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ أن الثانية في موضع رفع بالمنع والأولى في موضع نصب به. وهذه آية مشكلة. حدّثنا علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال: حدّثنا علي بن عبد الله قال: حدّثنا جرير عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم أهل مكّة أن يجعل لهم الصفا ذهبا أو ينحي عنهم الجبال فيزرعوا فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم لعلنا أن نجتبي منهم وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت قبلهم الأمم. قال: لا بل أستأني بهم فأنزل الله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً. قال أبو جعفر: التقدير في العربية: وما منعنا أن نرسل بالآيات التي اقترحوها إلّا أن كذّب بمثلها الأولون فأهلكوا واستؤصلوا فجعل الله جلّ وعزّ ما فيه من الصلاح لهم، فإن قال قائل: فقد أعطي الأولون مثل هذا ولم يؤمنوا فما الفرق؟ فالجواب أنّ الفرق بينهم علم الله جلّ وعزّ بأنّ من هؤلاء من يؤمن ومن هؤلاء ومن أولادهم من يؤمن، وأنّ أولئك لا يؤمنون ولا يولد لهم من يؤمن. وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مفعولان ولم ينصرف ثمود لأنه جعله اسما للقبيلة، ويجوز صرفه بجعله اسما للحيّ مُبْصِرَةً على الحال، وهو عند أكثر النحويين البصريين على النسب، وقال بعضهم: مبصرة: بمعنى مبصّرة أي مبيّنة مثل مكرم ومكرّم، وقال الفراء «1» : مبصرة أي مضيئة مثل وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يونس: 67، والنمل: 86، وغافر: 61] . قال الفراء: ومن قال (مبصرة) «2» أراد مثل قول عنترة: [الكامل] 272- والكفر مخبثة لنفس المنعم «3»

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 126. (2) انظر البحر المحيط 6/ 51. (3) الشاهد لعنترة العبسي من معلّقته في ديوانه 28، والتهذيب 1/ 316، ومعاني الفراء 2/ 126، والخزانة 1/ 336، وشرح القصائد العشر للتبريزي 368، وصدره: «نبّئت عرا غير شاكي نعمتي»

[سورة الإسراء (17) : آية 60]

قال فإذا وضعت مفعلة مكان فاعل كفت من الجمع والتأنيث. قال أبو إسحاق: من قرأ مبصرة فالمعنى مبيّنة فَظَلَمُوا بِها التقدير فظلموا بعقرها وكفرهم بخالقها. وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً قيل يعني به الآيات التي تتلى. [سورة الإسراء (17) : آية 60] وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ قال أبو جعفر: قد ذكرناه وقد قيل: إنّ ربك أحاط بالناس علما ومعرفة وتدبيرا فلهذا لم يعطهم الآيات التي اقترحوها لعلمه جلّ وعزّ بهم. وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ مفعولان أي محنة امتحنوا بها وتكليفا وقد تكلّم العلماء في هذه الرؤيا فمن أحسن ما قيل فيها وصحيحه أنها الرؤيا التي رآها محلّقين رؤوسهم ومقصّرين، فلما ردّ النبي صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبيّة عن البيت فافتتن جماعة من الناس حتى قال عمر رضي الله عنه للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ألم تعدنا أنّا ندخل المسجد الحرام فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: أقلت لكم في هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنكم ستدخلونه، فدخلوه في العام المقبل كما قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومن أحسن ما قيل فيها أيضا ما رواه سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله جلّ وعزّ: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال: هي رؤيا عين رآها النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به لا رؤيا نوم. قال وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ شجرة الزقوم. قال الفراء «1» : ويجوز وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ بالرفع يجعله نسقا على المضمر الذي في فتنة قال كما تقول: جعلتك عاملا وزيدا وزيد. وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً قال السّدّي: الطغيان المعصية، وقال مجاهد: هذا في أبي جهل. [سورة الإسراء (17) : آية 61] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ التقدير لمن خلقته وحذفت الهاء لطول الاسم. قال أبو إسحاق: طِيناً منصوب على الحال، والمعنى: أأسجد لمن أنشأته في حال كونه طينا. [سورة الإسراء (17) : آية 62] قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ أَرَأَيْتَكَ «2» الكاف لا موضع لها من الإعراب وإنما هي لتوكيد المخاطبة، وحكى سيبويه: أريتك زيدا أبو من هو، وقد ذكرنا هذا باختلاف النحويين في سورة

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 126. (2) انظر البحر المحيط 6/ 54.

[سورة الإسراء (17) : آية 63]

الأنعام «1» . لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ روى علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس قال «لأحتنكنّ» لأستولينّ، وقال مجاهد: لأحتوينّ مثل زناق الناقة والدابة وهي حناكها، وقال غيره: إنما قال إبليس هذا لمّا قال الله جلّ وعزّ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30] . [سورة الإسراء (17) : آية 63] قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) أي مكمّلا. [سورة الإسراء (17) : آية 64] وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ هذا على جهة التهاون به وبمن اتّبعه والتهديد له لأنّ من عصى فإنّما عصيانه على نفسه وليس ذلك بضارّ غيره. والعرب تفعل هذا على جهة التهديد ومثله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: 40] ولا يقع هذا إلّا بعد النهي فالله جلّ وعزّ قد نهى عن المعاصي، وكما تقول: يا غلام لا تكلّم فلانا، ثم تهدّده وتحذّره فتقول: كلّمه إن كنت صادقا، وكذا وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ قيل: إنّ هذا على التمثيل، وقيل: يجوز أن يكون له خيل ورجل، وقيل: هذا الخيل والرّجل الذين يسعون في المعاصي، وكذا وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ هو أن يزيّن لهم أن ينفقوا أموالهم ويستعملوا أولادهم في المعاصي. [سورة الإسراء (17) : آية 65] إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ قيل: معناه خلصائي ومن أحسن ما قيل فيه أنه لا سلطان له على أحد لأنّ العباد هاهنا جميع الخلق، والسلطان: الحجّة. كذا قال سعيد بن جبير لا حجة له على أحد توجب أن يقبل منه، وفيه قول ثالث يكون المعنى أنّ عبادي جميعا لا تسلّط لك عليهم إلّا الوسوسة، وصاحب هذا القول يستدلّ به على أنه لا يصل أحد من الجنّ إلى صرع أحد من الأنس وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا على البيان. [سورة الإسراء (17) : آية 67] وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ أي عصوف الرياح والخوف من الغرق ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ لأنكم تعلمون أنهم لا يغنون عنكم شيئا إلّا إيّاه فترجعون فتدعونه. وهذا من

_ (1) انظر إعراب الآية 40- سورة الأنعام. [.....]

[سورة الإسراء (17) : آية 68]

الدلائل على البارئ تبارك اسمه أنّه ليس أحد يقع في شدة من مؤمن أو مشرك أو ملحد إلا وهو يستغيث به. [سورة الإسراء (17) : آية 68] أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ على الظرف أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أي رجما من فوقكم. [سورة الإسراء (17) : آية 69] أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً تابعا يتبعنا في إنكار ذلك أو صرفه عنكم. [سورة الإسراء (17) : آية 70] وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا ولم يقل: على كلّ من خلقنا لأن الملائكة أفضل منهم لطاعتهم وأنّهم لا معصية لهم تَفْضِيلًا مصدر فيه معنى التوكيد. [سورة الإسراء (17) : آية 71] يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ التقدير: أذكر يوم ندعوا، ويجوز أن يكون التقدير: يعيدكم الذي فطركم يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ وقد ذكرنا عن ابن عباس أنه قال: بإمامهم بنبيّهم، وروي عنه إمام هدى وإمام ضلالة، وقال أبو صالح وأبو العالية بإمامهم بأعمالهم، وقال مجاهد بكتابهم. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال متفقة والناس يدعون بهذا كلّه فيدعون بنبيّهم فيقال أين أصحاب الورع؟ وكذا ضدّ هذا فيقال أين أمة فرعون؟ وأين أصحاب الزنا؟ فيكون في هذا توبيخ وهتكة على رؤوس الناس لمن ينادى به أو مدح وسرور لمن ينادى بضدّه. قال عكرمة عن ابن عباس: الفتيل ما في شقّ النواة، وتقديره في العربية لا يظلمون مقدار فتيل. [سورة الإسراء (17) : آية 72] وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أي في الدنيا أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وتقديره أعمى منه في الدنيا. قال محمد بن يزيد: وإنما جاز هذا، ولا يقال: فلان أعمى من فلان لأنه من عمى القلب، ويقال في عمى القلب: فلان أعمى من فلان، وفي عمى العين: فلان أبين عمىّ من فلان، ولا يقال: أعمى منه. قال أبو جعفر: وإنما لم يقل: أعمى منه

[سورة الإسراء (17) : آية 73]

في عمى العين عند الخليل وسيبويه «1» : لأن عمى العين شيء ثابت مرئيّ، كاليد والرجل، فكما لا تقول: ما أيداه لا تقول: ما أعماه، وفيه قولان آخران: قال الأخفش سعيد: إنّما لم يقل ما أعماه لأن الأصل في فعله اعميّ واعمايّ، ولا يتعجّب مما جاوز الثلاثة إلّا بزيادة. والقول الثاني أنهم فعلوا هذا للفرق بين عمى القلب، وكذا لم يقولوا في الألوان: ما أسوده ليفرقوا بينه وبين قولهم ما أسوده من السّؤدد وأتبعوا بعض الكلام بعضا. قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يقول: إنما لم يقولوا: ما أقيله من القائلة لأنهم قد يقولون في البيع: قلته ففرّقوا بينهما. وحكى الفراء «2» عن بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه وما أزرقه وما أعوره. قال: لأنهم يقولون: عمي وعشي وعور، وأجاز الفراء: في الكلام والشعر ما أبيضه وسائر الألوان، وكذا عنده. وقال محمد بن يزيد في قوله جلّ وعزّ: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى أن يكون من قولك: «فلان أعمى» لا يريد أشدّ عمى من غيره. قال أبو جعفر: والقول الأول أولى ليكون المعنى عليه لأن بعده وَأَضَلُّ سَبِيلًا أي منه في الدنيا، ولهذا روي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: تجوز الإمالة في قوله جلّ وعزّ: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى، ولا تجوز الإمالة في قوله فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى. يذهب إلى أن الألف في الثاني متوسطة لأن تقديره أعمى منه في الدنيا ولو لم يرد هذه لجازت الإمالة. قال أبو إسحاق: وَأَضَلُّ سَبِيلًا أي طريقا إلى الهدى لأنه قد حصل على عمله لا سبيل له إلى التوبة. [سورة الإسراء (17) : آية 73] وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ وزن كاد فعل على لغة أهل الحجاز وبني أسد، وبنو قيس يقولون: كدت، فهي عندهم فعلت، وقيل: إنهم فعلوا هذا ليفرقوا بينه وبين كدت من الكيد. [سورة الإسراء (17) : آية 74] وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) قيل: ثبّته الله جلّ وعزّ بالعصمة، وقيل: ثبّته بالوحي وإعلامه أنه لا ينبغي أن يركن إليهم فإنهم أعداء. ويقال: ركن يركن، وركن يركن أفصح. [سورة الإسراء (17) : آية 75] إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ فكان في هذا أعظم العظة للناس إذ كان الله جلّ وعزّ أخبر بحكمه في الأنبياء المصطفين صلّى الله عليهم إذا عصوا.

_ (1) انظر الكتاب 4/ 214. (2) انظر معاني الفراء 2/ 128.

[سورة الإسراء (17) : آية 76]

[سورة الإسراء (17) : آية 76] وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها تأول العلماء هذا على تأويلين: أحدهما أنهم لو أخرجوه من أرض الحجاز كلّها لهلكوا، والتأويل الآخر أنهم لو أخرجوه من مكة. وقال أصحاب هذا القول: لم يخرجوه وإنّما أمره الله عزّ وجلّ بالهجرة إلى المدينة، ولو أخرجوه لهلكوا. [سورة الإسراء (17) : الآيات 77 الى 78] سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا مصدر أي سنّ الله عزّ وجلّ أنّ من أخرج نبيّا هلك سنّة، وقال الفراء «1» : أي كسنّة. قال الأخفش سعيد: نصب وَقُرْآنَ الْفَجْرِ بمعنى وآثر قرآن الفجر، وعليك قرآن الفجر. قال أبو إسحاق: التقدير: وأقم قرآن الفجر. [سورة الإسراء (17) : آية 80] وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ المصدر من أفعل مفعل، وكذا الظرف من فعل مفعل، ومن قال في «مدخل صدق» إنه المدينة، وفي مخرج صدق إنه مكّة فله تقديران: أحدهما أن الله جل وعز وعده ذلك فهو مدخل صدق ومخرج صدق، والتقدير الآخر أن يكون المعنى مدخل سلامة، وحسن عاقبة فجعل الصدق موضع الأشياء الجميلة لأنه جميل، ومن قال مدخل صدق الرسالة ومخرج صدق من الدنيا، قدّره بما وعده الله جلّ وعزّ به من نصرته الرسالة، ومن إخراجه من الدنيا سليما من الكبائر، وقد قيل: أمره الله جلّ وعزّ بهذا عند دخوله إلى بلد أو غيره أو عند خروجه منه. وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أي حجة ظاهرة بيّنة تنصرني بها على أعدائي. [سورة الإسراء (17) : آية 81] وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ أي جاء أمر الله ووحيه وَزَهَقَ الْباطِلُ أي الباطل الكفر والفساد إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً والزاهق والزهوق في اللغة الذي لا ثبات له. [سورة الإسراء (17) : آية 82] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ أي شفاء في الدين لما فيه من الدلائل الظاهرة

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 129، والبحر المحيط 6/ 64.

[سورة الإسراء (17) : آية 83]

والحجج الباهرة فهو شفاء للمؤمنين أن لا يلحقهم في قلوبهم مرض ولا ريب، وأجاز الكسائي وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ نسقا على «ما» أي وننزل رحمة للمؤمنين. وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً أي يكفرون فيزدادون خسارا. وهذا مجاز. [سورة الإسراء (17) : آية 83] وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) وقرأ أبو جعفر وناء بجانبه «1» . قال الكسائي هما لغتان. وقال الفراء: لغة أهل الحجاز نأى ولغة بعض هوازن وبني كنانة وكثير من الأنصار ناء يا هذا. قال أبو جعفر: الأصل نأى ثم قلب، وهذا من قول الكوفيين مما يتعجّب منه لأنهم يقولون فيما كانت فيه لغتان وليس بمقلوب: هو مقلوب، نحو جذب وجبذ، ولا يقولون في هذا، وهو مقلوب: شيئا من ذلك. والدليل على أنه مقلوب أنهم قد أجمعوا على أن يقولوا: نأيت نأيا، ورأيت رأيا ورؤية ورؤيا، فهذا كلّه من نأى ورأى، ولو كان من ناء وراء لقالوا: رئت ونئت مثل جئت. وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً وإن خففت الهمزة جعلتها بين بين وحكى الكسائي عن العرب الحذف «كان يوسا» «2» وحكى وإذا المودة [التكوير: 8] قال: مثل الموزة. [سورة الإسراء (17) : آية 84] قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ هذه الآية من أشكل ما في السورة. ومن أحسن ما قيل فيها أن المعنى قل كلّ يعمل على ما هو أشكل عنده وأولى بالصواب. فربكم أعلم بمن هو أولى بالصواب. وهذا تستعمله العرب بعد تبيين الشيء مثل وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] ، وكما يقول الرجل لخصمه: إنّ أحدنا لكاذب، فقد صار في الكلام معنى التوبيخ. فهذا قول، وقيل: معنى قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ في أوقات الشرائع المفترضة لا غير، وفيها قول ثالث يكون المعنى: قل كلّ يعمل على ناحيته وعلى طريقته فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا فلمّا علم بيّن الحقّ والسّبل. [سورة الإسراء (17) : آية 85] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي قد تكلّم العلماء فيه فقيل: علم الله جلّ وعزّ أنّ الأصلح لهم أن لا يخبرهم ما الروح لأن اليهود قالت لهم: في كتابنا أنه إن فسّر لكم ما الروح فليس بنبيّ وإن لم يفسره فهو نبي، وقيل: إنهم سألوا عن عيسى صلّى الله عليه وسلّم فقال لهم الروح من أمر ربّي أي شيء أمر الله جلّ وعزّ به وخلقه لا كما يقول النصارى.

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 73. (2) انظر معاني الفراء 2/ 130.

[سورة الإسراء (17) : آية 87]

[سورة الإسراء (17) : آية 87] إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ استثناء ليس من الأول أي إلّا أن يرحمك الله فيرد إليك ذلك. والرحمة من الله جل وعز التفضّل. [سورة الإسراء (17) : آية 88] قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) فتحدّاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك فعجزوا عنه من جهات إحداها وصف القرآن الذي أعجزهم أن يأتوا بمثله، وذلك أن الرجل منهم كان يسمع السورة أو الآية الطويلة ثم يسمع بعدها سمرا أو حديثا فيتباين ما بين ذينك من إعجاز التأليف أنه لا يوجد في كلام أحد من المخلوقين أمر ونهي ووعظ وتنبيه وخبر وتوبيخ وغير ذلك ثم يكون كلّه متألفا. ومن إعجازه أنه لا يتغيّر، وليس كلام أحد من المخلوقين يطول إلا تغيّر بتناقض أو رداءة. ومن إعجازه الحذف والاختصار والإيجاز ودلالة اللفظ اليسير على المعنى الكثير، وإن كان في كلام العرب الحذف والاختصار والإيجاز فإنّ في القرآن من ذلك ما هو معجز، نحو قوله جلّ وعزّ: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: 58] أي إذا كان بينك وبين قوم عهد فخفت منهم وأردت أن تنقض العهد فانبذ إليهم عهدهم أو قل قد نبذت إليكم عهدكم أي قد رميت به لتكون أنت وهم على سواء في العلم فإنك إن لم تفعل ذلك ونقضت عهدهم كانت خيانة، والله لا يحبّ الخائنين. فمثل هذا لا يوجد في كلام العرب على دلالة هذه المعاني والفصاحة التي فيه، ومن إعجاز القرآن ما فيه من علم الغيوب بما لم يكن إذ كان النبي صلّى الله عليه وسلّم كلّما سئل عن شيء من علم الغيب أجاب عنه حتى لقد سئل بمكة فقيل له: رجل أخذه إخوته فباعوه ثم صار ملكا بعد ذلك، وكانت اليهود أمرت قريشا بسؤاله عنه، ووجهوا بذلك إليهم من المدينة إلى مكة وليس بمكّة أحد قرأ الكتب، فأنزل الله جلّ وعزّ سورة يوسف عليه السلام فيها أكثر ما في التوراة من خبر يوسف عليه السلام، فكانت هذه الآية للنبي صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة إحياء عيسى صلّى الله عليه وسلّم الميت الذي أحياه بإذن الله جلّ وعزّ. [سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 91] وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً هذه قراءة أهل المدينة، وقرأ أهل الكوفة حَتَّى تَفْجُرَ مختلفا، وقرءوا جميعا التي بعدها فَتُفَجِّرَ قال أبو عبيد لا أعلم بينهما فرقا. قال أبو جعفر: الفرق بينهما بيّن لأن الثاني جاء بعده (تفجيرا) فهذا مصدر فجّر والأول ليس بعده تفجير، وإن كان البيّن أن يقرأ الأول كالثاني يدلّ على

[سورة الإسراء (17) : آية 92]

ذلك أن ابن نجيح روى عن مجاهد حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً قال: عيونا، وكذا قال الحسن، وروى سعيد عن قتادة حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً قال: عيونا ببلدنا هذا. فهذا التفسير يدلّ على تفجّر لأن تفجّر على التكثير. [سورة الإسراء (17) : آية 92] أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) وقرأ أهل المدينة وعاصم أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً «1» . وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو (كسفا) «2» بإسكان السين. قال أبو جعفر: كسف جمع كسفة أي قطعا. وذكر السماء ليدلّ على الجمع. وحجة من قرأ كسفا أنه لمرة واحدة. أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا على الحال. [سورة الإسراء (17) : آية 93] أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ من رقي يرقى رقيّا إذا صعد، ويقال: رقيت الصّبيّ أرقيه رقيا ورقية. [سورة الإسراء (17) : آية 94] وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) (أن) في موضع نصب والمعنى من أن يؤمنوا إِلَّا أَنْ قالُوا في موضع رفع أي إلّا قولهم أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا فانقطعت حججهم لمّا ظهرت البراهين وجاءوا بالجهل. [سورة الإسراء (17) : آية 95] قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ على الحال، ويجوز في غير القرآن مطمئنّون نعت للملائكة. ومعنى هذا- والله أعلم- لو كان في الأرض ملائكة يمشون لا يعبدون الله ولا يخافونه. وهذا معنى المطمئنين لأن المتعبّد الخائف لا يكون مطمئنا. لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا حتى يعظهم، ويدعوهم إلى ما يجب عليهم. [سورة الإسراء (17) : آية 96] قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على الحال، ويجوز أن يكون منصوبا على البيان.

_ (1) انظر تيسير الداني 115، والبحر المحيط 6/ 78. (2) انظر تيسير الداني 115، والبحر المحيط 6/ 78.

[سورة الإسراء (17) : آية 97]

[سورة الإسراء (17) : آية 97] وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ حذفت الياء من الخط لأنها كانت محذوفة قبل دخول الألف واللام، والألف واللام لا يغيّران شيئا عن حاله إلا أنّ الاختيار إثبات الياء لأن التنوين قد زال. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: لا يجوز مثل هذا إلا بإثبات الياء، والصواب عنده أن لا يقف عليه، وأن يصله بالياء حتّى يكون متابعا للقراء وأهل العربية. عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا على الحال. [سورة الإسراء (17) : آية 100] قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ رفع على إضمار فعل، ولا يجوز أن يلي «لو» إلا فعل إمّا يكون مضمرا وإما لأنها تشبه حروف المجازاة. وخبّر الله جل وعز بما يعلم منهم مما غيّب عنهم فقال: لو أنتم تملكون خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أي نعمته. والرحمة من الله جلّ وعزّ هي النعمة. لَأَمْسَكْتُمْ أي عن النفقة خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وقيل: الإنفاق الفقر، المعنى خشية أن تنفقوا فينقص ما في أيديكم. وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً حكى الكسائي: قتر يقتر وأقتر يقتر، وحكى أبو عبيد: قتر وقتور على التكثير، كما يقال: ظلوم للكثير الظلم. [سورة الإسراء (17) : آية 101] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ مفعولان بَيِّناتٍ في موضع خفض على النعت لآيات، وقد يكون في موضع نصب على النعت لتسع. وقرأ الكسائي وابن كثير فسل بنى إسرائيل بغير همز يكون على التخفيف، وعلى لغة من قال: سال يسال. والتقدير: قل للشاكّ سل بني إسرائيل. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا ما قيل في التسع الآيات عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن ابن عباس، وما قاله ابن عباس فيجب أن يكون توقيفا لأنه ليس مما يقال بالرأي، والقولان ليسا بمتناقضين فإنّما الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيحمل على أنه لآيات جاء بها موسى صلّى الله عليه وسلّم تتلى إلّا أنها تفسير لهذه الآيات. والدليل على هذا قوله جلّ وعزّ: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النمل: 12] في تسع آيات إلى فرعون وقومه مَسْحُوراً أي مخدوعا مَثْبُوراً من الثبور أي الهلاك. [سورة الإسراء (17) : آية 102] قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لأن فرعون مع توجيهه إلى

[سورة الإسراء (17) : آية 104]

السحرة ونظره إلى ما يصنعون قد علم أنّ ما أتى به موسى عليه السلام لا يكون إلّا من عند الله جلّ وعزّ. بَصائِرَ أي حجبا تبصرها العقول. [سورة الإسراء (17) : آية 104] وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) لَفِيفاً على الحال. [سورة الإسراء (17) : آية 105] وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ لأن كلّ ما فيه حقّ. [سورة الإسراء (17) : آية 106] وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) وَقُرْآناً نصب على إضمار فعل فَرَقْناهُ بيناه، وقيل: أنزلناه متفرّقا وعيدا ووعدا وأمرا ونهيا وخبرا عمّا كان ويكون، وقيل: أنزلناه مفرّقا وقد اشتقّ مثل هذا أبو عمرو بن العلاء رحمه الله فقال: «فرقناه» أنزلنا فرقانا أي فارقا بين الحق والباطل والمؤمن والكافر. وقرأ ابن عباس والشّعبي وعكرمة وقتادة وقرآن فرّقناه «1» بالتشديد. ويحتمل أن يكون معناه كمعنى فرقناه إلّا أن فيه معنى التأكيد والمبالغة والتكثير. لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ أي ليحفظوه ويفهموه يقال: مكث ومكث ومكث ومكث. وقال مجاهد أي على ترسّل. [سورة الإسراء (17) : آية 107] قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً أي شكرا لله وتعظيما. [سورة الإسراء (17) : آية 108] وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا أي تنزيها لله جلّ وعزّ من أن يعد ببعث محمد صلّى الله عليه وسلّم ثم لا يبعثه. [سورة الإسراء (17) : آية 109] وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ قيل: في الصلاة. وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً مفعولان. [سورة الإسراء (17) : آية 110] قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا قال الأخفش سعيد: أي أيّ الدعاءين تدعو.

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 84.

[سورة الإسراء (17) : آية 111]

قال أبو جعفر: وهذا قول الحسن أي إن قلتم يا الله يا رحمن، وقال أبو إسحاق: المعنى أيّ الأسماء تدعون فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الرحمن الرحيم الغفور الودود. [سورة الإسراء (17) : آية 111] وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) قال مجاهد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ أي حليف ولا ناصر وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً مصدر فيه معنى التوكيد.

18 شرح إعراب سورة الكهف

18 شرح إعراب سورة الكهف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الكهف (18) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قال أبو جعفر: زعم الأخفش سعيد والكسائي والفراء «1» وأبو عبيد أن في أول هذه السورة تقديما وتأخيرا، وأن المعنى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا. قَيِّماً نصب على الحال. وقول الضحّاك فيه حسن أنّ المعنى مستقيم أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه، ولا فساد ولا تناقض عِوَجاً مفعول به. يقال: في الدين، وفي الأمر، وفي الطريق عوج، وفي الخشبة والعصا عوج أي عيب أي ليس متناقضا. [سورة الكهف (18) : آية 2] قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ نصب بلام كي، والتقدير لينذركم بأسا أي عذابا من عنده. [سورة الكهف (18) : آية 4] وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) وَيُنْذِرَ عطف عليه الَّذِينَ مفعولون. [سورة الكهف (18) : آية 5] ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) كَبُرَتْ كَلِمَةً نصب على البيان أي كبرت مقالتهم اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً كلمة من الكلام. وقرأ الحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق كبرت كلمة «2» بالرفع بفعلها أي عظمت كلمتهم، وهي قولهم: اتّخذ الله ولدا. [سورة الكهف (18) : آية 6] فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ جمع أثر، ويقال: أثر. إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 133. (2) انظر البحر المحيط 6/ 95.

[سورة الكهف (18) : الآيات 7 إلى 8]

قال أبو إسحاق: «أسفا» منصوب لأنه مصدر في موضع الحال. وأسف إذا حزن، وإذا غضب. [سورة الكهف (18) : الآيات 7 الى 8] إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها قيل «ما» و «زينة» مفعولان ويكون فيه تقديران: أحدهما أنه مخصوص للشجر والثمر والمال وما أشبههنّ، والآخر أنه عموم لأنه دالّ على بارئه، وقول آخر أنّ جعلنا هاهنا بمعنى خلقنا يتعدّى إلى «ما» و «زينة» مفعول من أجله، وهذا قول حسن لِنَبْلُوَهُمْ أي لنختبرهم فنأمرهم بالطاعة لننظر أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فالحسن العمل الذي يزهد في الزينة ثم أعلم الله عزّ وجلّ أنه مبيد ذلك كله فقال تعالى: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) . [سورة الكهف (18) : آية 9] أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ أي أبل حسبت أنّهم كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً وفي آيات الله عز وجل مما ترى أعجب منهم. قال ابن عباس: وجّهت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط من مكة إلى المدينة ليسألا أحبار يهود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسألاهم فقالوا: سله عن فتية ذهبوا في الدهر الأول كان لهم حديث عجب، وعن رجل طواف بلغ المشارق والمغارب، وعن الروح، فإن أخبركم بالاثنين فهو نبي، وإن أخبركم بالروح فليس بنبي، فنزلت سورة الكهف. [سورة الكهف (18) : آية 10] إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ أي هاربين بدينهم فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي أعطنا من عندك رحمة تنجينا بها من هؤلاء الكفار وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي على ما ننجو به. ويقال: رشد ورشد إلّا أنّ رشدا هاهنا أولى لتتفق الآيات. [سورة الكهف (18) : آية 11] فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ الواحدة أذن مؤنّثة وتحذف الضمة لثقلها فتقول: أذن سِنِينَ ظرف ويقال: سنينا. يجعل الإعراب في النون. عَدَداً نصب لأنه مصدر، ويجوز أن يكون نعتا لسنين يكون عند الفراء بمعنى معدودة، وعند البصريين بمعنى ذات عدد. [سورة الكهف (18) : آية 12] ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)

[سورة الكهف (18) : آية 13]

ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أي أيقظناهم من نومهم لنعلم. أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى وقد علم الله ذلك فمن أحسن ما قيل فيه أن معناه التوقيف، كما تقول لمن أتى بباطل: هات برهانك وبينه حتّى أعلم أنك صادق، وقيل هذا علم الشهادة. والحزبان أصحاب الكهف، والقوم الذين كانوا أحياء في وقت بعث أصحاب الكهف وأَيُّ مبتدأ وأَحْصى خبره. أَمَداً منصوب عند الفراء «1» من جهتين: إحداهما التفسير، والأخرى بلبثهم أي بلبثهم أمدا. قال أبو جعفر: والجهة الأولى أولى لأن المعنى: عليها، فإن قال قائل: كيف جاز التفريق بين أحصى وأمدا؟ وقولك: مرّ بنا عشرون اليوم رجلا قبيح، فالجواب أنّ هذا أقوى من عشرين لأن فيه معنى الفعل. [سورة الكهف (18) : آية 13] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) الْفِتْيَةُ جمع فتى في أقل العدد، ولا يقاس عليه والكثير فتيان. [سورة الكهف (18) : آية 14] وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي شددناها حتّى قالوا بين يدي الكفار رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً مصدر، وحقيقته قول شطط، ويجوز أن يكون مفعولا للقول. [سورة الكهف (18) : آية 16] وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ والتقدير: اذكروا إذا اعتزلتموهم. هذا قول بعض الفتية لبعض وَما يَعْبُدُونَ في موضع نصب أي واعتزلتم ما يعبدون فلم يعبدوه إِلَّا اللَّهَ استثناء فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ جواب الأمر وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً زعم الأصمعي أنه لا يعرف في كلام العرب إلّا مرفقا بكسر الميم في الأمر وفي اليد وفي كل شيء. وزعم الكسائي والفراء «2» أن اللغة الفصيحة كسر الميم، وأن الفتح جائز. قال الفراء: وكأنّ الذين فتحوا أرادوا أن يفرقوا بينه وبين مرفق الإنسان، وقد يفتحان جميعا. فزعم الأخفش سعيد أنّ فيه ثلاث لغات جيدة مرفق ومرفق ومرفق. فمن قال: مرفق جعله مما ينتقل ويعمل به، مثل مقطع، ومن قال: مرفق جعله كمسجد لأنه من رفق يرفق كسجد يسجد، ومن قال: مرفق جعله بمعنى الرفق.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 136، والبحر المحيط 6/ 100. (2) انظر معاني الفراء 2/ 136.

[سورة الكهف (18) : آية 17]

[سورة الكهف (18) : آية 17] وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ «1» أدغموا التاء في الزاي والأصل تتزاور، وقرأ أهل الكوفة (تزاور) «2» حذفوا التاء، وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق وابن عامر (تزور) «3» مثل تحمرّ، وحكى الفراء: تزوار «4» مثل تحمارّ. [سورة الكهف (18) : آية 18] وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ ظرفان فِراراً ورُعْباً منصوبان على التمييز، ولا يجوز عند سيبويه ولا عند الفراء تقديمهما، وأجاز ذلك محمد بن يزيد لأن العامل متصرّف، وروي عن يحيى بن وثاب والأعمش أنهما قرءا لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ بضم الواو. وهذا جائز لأن الضمة من جنس الواو إلّا أن الكسر أجود، وليس هذا مثل أَوِ انْقُصْ [المزمل: 3] لأن بعد الواو هاهنا ضمة فِراراً مصدر لأنّ معنى ولّيت فررت. [سورة الكهف (18) : آية 19] وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ أي أيقظناهم لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ أي ليسأل بعضهم بعضا قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ، ويجوز «لبتّم» على الإدغام لقرب المخرجين قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أحدهم: لبثنا يوما، وقال آخر: لبثنا نحوه فقال لهم كبيرهم لا تختلفوا فإنّ الاختلاف هلكة رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ وقرأ أهل المدينة فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ فأدغم، وأدغم ابن كثير القاف في الكاف لتقاربهما، وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو بِوَرِقِكُمْ حذفوا الكسرة لثقلها، وحكى الفراء: أنه يقال: «بورقكم» «5» بكسر الواو، كما يقال: كبد وفخذ، وحكى غيره: أنه يقال للورق: رقّة مثل عدة، وهذا على لغة من قال: ورقة فحذف الواو فقال: رقة. فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ التقدير: أيّ أهلها، وروى سعيد بن جبير عن ابن

_ (1) انظر تيسير الداني 116، والبحر المحيط 6/ 104. (2) انظر تيسير الداني 116، والبحر المحيط 6/ 104. [.....] (3) انظر تيسير الداني 116، والبحر المحيط 6/ 104. (4) انظر البحر المحيط 6/ 104. (5) انظر معاني الفراء 2/ 137، والبحر المحيط 6/ 107.

[سورة الكهف (18) : آية 20]

عباس رحمه الله قال: يعني أيّها أطهر طعاما لأنهم كانوا يذبحون الخنازير فليأتكم برزق منه، ويجوز كسر اللام وهو الأصل، وكذا وليتلطّف. [سورة الكهف (18) : آية 20] إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ. شرط ومجازاة أَوْ يُعِيدُوكُمْ عطف على المجازاة وفي إِذاً معنى الشرط والمجازاة أَبَداً ظرف زمان. [سورة الكهف (18) : آية 21] وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) إِذْ يَتَنازَعُونَ ظرف زمان والعامل فيه ليعلموا إذ بعثناهم. [سورة الكهف (18) : آية 22] سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ على إضمار مبتدأ أي هم ثلاثة رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ مبتدأ وخبر، وكذا سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ. وفي المجيء بالواو «وثامنهم» خاصة دون ما تقدّم قولان: أحدهما أن دخولها وخروجها واحد، والآخر أنّ دخولها يدلّ على تمام القصة وانقطاع الكلام. ذكر هذا القول إبراهيم بن السريّ فيكون المعنى عليه أنّ الله جلّ وعزّ خبر بما يقولون ثم أتى بحقيقة الأمر فقال: وثامنهم كلبهم. ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ رفع بفعله أي القليل يعلمونهم. [سورة الكهف (18) : آية 23] وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) غَداً ظرف زمان والأصل فيه غدو. [سورة الكهف (18) : آية 24] إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نصب على الاستثناء المنقطع. [سورة الكهف (18) : آية 25] وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ هذه قراءة «1» أهل المدينة وأبي عمرو

_ (1) انظر تيسير الداني 116، والبحر المحيط 6/ 112.

[سورة الكهف (18) : آية 26]

وعاصم، وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ بغير تنوين. القراءة الأولى على أن سنين في موضع نصب أو خفض فالنصب على البدل من ثلاث، وقال أبو إسحاق: سنين في موضع نصب على عطف البيان والتوكيد، وقال الكسائي والفراء» وأبو عبيدة: التقدير ولبثوا في كهفهم سنين ثلاث مائة. قال أبو جعفر: والخفض ردّ على مائة لأنها بمعنى مئين، كما أنشد النحويون: [الكامل] 273- فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا كخافية الغراب الأسحم «2» فنعت حلوبة بسود لأنها بمعنى الجمع. فأما ثلاث مائة سنين فبعيد في العربية. يجب أن تتوقّى القراءة به لأن كلام العرب ثلاث مائة سنة فسنة بمعنى سنين فجئت به على المعنى والأصل. [سورة الكهف (18) : آية 26] قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ حذف منه الإعراب لأنه على لفظ الأمر، وهو بمعنى التعجب أي ما أسمعه وما أبصره. وقرأ نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبو عبد الرحمن وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52] وحجّتهم أنها في السواد بالواو. قال أبو جعفر: وهذا لا يلزم لكتبهم الصلاة والحياة بالواو، ولا تكاد العرب تقول: الغدوة لأنها معرفة ولا تدخل الألف واللام على معرفة، وروي عن الحسن (لا تعد عينيك) «3» نصب بوقوع الفعل عليها. [سورة الكهف (18) : آية 30] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ في خبر إنّ ثلاثة أقوال: منها أن يكون التقدير إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملا منهم، ثم حذف منهم لأن الله جلّ وعزّ أخبرنا أنه يحبط أعمال الكفار، وقيل: التقدير: إنّا لا نضيع أجرهم لأن من أحسن عملا لهم، والجواب الثالث أن يكون التقدير: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم جنات عدن وعَمَلًا نصب على البيان.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 138. (2) الشاهد لعنترة في ديوانه 193، والحيوان 3/ 425، وخزانة الأدب 7/ 390، وشرح شذور الذهب 325، والمقاصد النحوية 4/ 487، وبلا نسبة في شرح الأشموني 3/ 625، وشرح المفصّل 3/ 55. (3) انظر المحتسب 2/ 27.

[سورة الكهف (18) : آية 31]

[سورة الكهف (18) : آية 31] أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) يُحَلَّوْنَ فِيها حكى الفراء «1» يُحَلَّوْنَ فِيها يقال: حليت المرأة تحلى فهي حالية إذا لبست الحلي، ويقال: حلي الشيء يحلى. مِنْ أَساوِرَ في موضع نصب لأنه خبر ما لم يسمّ فاعله مِنْ ذَهَبٍ في موضع نصب على التمييز إلا أن الأفصح في كلام العرب إذا كان الشيء مبهما أن يؤتى بمن والقرآن إنما يأتي بأفصح اللغات فيقال: عنده جبّة من خز وجبّتان خزّا، وأساور من ذهب وسواران ذهبا. وأساور جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، ويقال: سوار، وحكى قطرب إسوار. قال أبو جعفر: قطرب صاحب شذوذ. قد تركه يعقوب وغيره، فلم يذكروه. وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ ولو كان سندسا جاز ولكنه مبهم، والفصيح أن يؤتى معه بمن كما تقدم. قال الكسائي: واحد السندس سندسة، وواحد العبقريّ عبقريّة، وواحد الرّفرف رفرفة وواحد الأرائك أريكة نِعْمَ الثَّوابُ رفع بنعم ولو كان نعمت لجاز لأنه للجنّة وهي على هذا وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً. [سورة الكهف (18) : آية 32] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ التقدير مثلا مثل الرجلين. [سورة الكهف (18) : آية 33] كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها محمول على لفظ كلتا، وأجاز النحويون في غير القرآن الحمل على المعنى، وأن تقول كلتا الجنتين آتتا أكلهما لأن المعنى الجنتان كلتاهما آتتا أكلهما، وأجاز الفراء «2» كلتا الجنتين آتى أكله قال: لأن المعنى أكل الجنتين، أو كلّ الجنتين. وفي قراءة عبد الله كلّ الجنتين أتى أكله «3» . والمعنى عند الفراء على هذا كلّ شيء من ثمر الجنتين آتى أكله قال: ومن العرب من يفرد واحد كلتا، وهو يريد التثنية، وأنشد: [الرجز] 274- في كلت رجليها سلامي واحده «4» قال أبو جعفر: يقول الخليل وسيبويه «5» رحمهما الله: جاءني كلا الرجلين، ورأيت كلا الرجلين، ومررت بكلا الرجلين، كلّه بألف في اللفظ، وقال غيرهما: إلّا أنه يكتب

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 141. (2) انظر معاني الفراء 2/ 142. (3) انظر البحر المحيط 6/ 119. (4) الرجز بغير نسبة في معاني الفراء 2/ 142. (5) انظر الكتاب 1/ 266.

[سورة الكهف (18) : آية 34]

في موضع الخفض والنصب لأنه يقال: رأيت كليهما، ومررت بكليهما. [سورة الكهف (18) : آية 34] وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ قال الأخفش: وكان لأحدهما. [سورة الكهف (18) : آية 36] وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قرأ أهل المدينة لأجدنّ خيرا مّنهما منقلبا «1» بتثنية منهما وقرأ أهل الكوفة (مِنْها) والتثنية أولى لأن الضمير أقرب إلى الجنتين. [سورة الكهف (18) : آية 38] لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) لكِنَّا مذهب الكسائي والفراء «2» ، والمازني أن الأصل «لكن أنا» فألقيت حركة الهمزة على نون لكن، وحذفت الهمزة، وأدغمت النون في النون. والوقف عليها لكنّا وهي ألف أنا لبيان الحركة، ومن العرب من يقول: أنه. قال أبو حاتم فرووا عن عاصم لكنّنا هو الله ربّي «3» وزعم أن هذا لحن يعني إثبات الألف في الإدراج. قال: ومثله قراءة من قرأ كِتابِيَهْ [الحاقة: 19] فأثبت الهاء في الإدراج. قال أبو إسحاق: إثبات الألف في لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي في الإدراج جيد لأنه قد حذفت الألف من أنا فجاؤوا بها عوضا. قال: وفي قراءة أبيّ بن كعب لكن أنا هو الله ربّي «4» . [سورة الكهف (18) : آية 39] وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ في موضع رفع والتقدير إلّا من شاء، ويجوز أيضا عند النحويين أن تكون «ما» في موضع نصب وتكون للشرط، والتقدير أيّ شيء شاء الله كان فحذف الجواب، ومثله فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ [الأنعام: 35] . لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ على التجربة، ويجوز لا قوّة إلّا بالله إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً أَنَا فاصلة لا موضع لها من الإعراب، ويجوز أن يكون في موضع نصب توكيدا للنون والياء، وقرأ عيسى بن عمر إن ترني أنا أقلّ منك مالا «5» بالرفع يجعل أنا مبتدأ وأقل خبره والجملة في موضع المفعول الثاني والمفعول الأول والنون والياء إلّا أن الياء حذفت لأن الكسرة تدلّ عليها وإثباتها جيد بالغ وهو الأصل ولأنها الاسم على الحقيقة وإنما النون جيء بها لعلّة.

_ (1) انظر تيسير الداني 117. (2) انظر معاني الفراء 2/ 144. [.....] (3) انظر تيسير الداني 117. (4) انظر مختصر ابن خالويه 80. (5) انظر معاني الفراء 2/ 145، والبحر المحيط 6/ 123.

[سورة الكهف (18) : آية 41]

[سورة الكهف (18) : آية 41] أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً التقدير ذا غور، مثل «واسأل القرية» قال الكسائي: يقال: مياه غور وقد غار الماء يغور غوورا، ويجوز الهمز لانضمام الواو وغورا. [سورة الكهف (18) : آية 42] وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ اسم ما لم يسمّ فاعله مضمر وهو المصدر، ويجوز أن يكون المخفوض في موضع رفع فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ في موضع نصب أي منقلبا. [سورة الكهف (18) : آية 43] وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ اسم تكن والخبر لَهُ، ويجوز أن يكون يَنْصُرُونَهُ الخبر. والوجه الأول عند سيبويه أولى لأنه قد تقدّم له، وأبو العباس يخالفه ويحتج بقول الله جلّ وعزّ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: 4] ، وقد أجاز سيبويه الوجه الآخر وأنشد: [الرجز] 275- لتقربنّ قربا جلذيّا ... ما دام فيهنّ فصيل حيّا «1» وينصرونه على معنى فئة لأن معناها أقوام ولو كان على اللفظ لكان ولم تكن له فئة تنصره كما قال الله جلّ وعزّ: فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران: 13] . وَما كانَ مُنْتَصِراً أي ولم يكن يصل أيضا إلى نصر نفسه. [سورة الكهف (18) : آية 44] هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) هُنالِكَ قيل: إن هذا التمام فيكون العامل فيه منتصرا. وأحسن من هذا أن يكون «هنالك» مبتدأ أي في تلك الحال تتبيّن نصرة الله جلّ وعزّ وليّه. وقرأ الكوفيون (الولاية) «2» أي السلطان وهو بعيد جدّا. وفي «الحقّ» ثلاثة أوجه: قرأ أبو عمرو والكسائي (الحقّ) بالرفع نعتا للولاية، وقرأ أهل المدينة وحمزة الْحَقِّ بالخفض نعتا لله جلّ وعز ذي الحق. قال أبو إسحاق: ويجوز النصب على المصدر والتوكيد كما يقال: هذا لك حقا. هُوَ خَيْرٌ ثَواباً على البيان. وفي عقب ثلاثة أوجه: ضم العين

_ (1) الشاهد لابن ميادة في ديوانه 237، والكتاب 1/ 100، وخزانة الأدب 4/ 59، وشرح أبيات سيبويه 1/ 266، وشرح المفصّل 4/ 33، ولسان العرب (جلذ) وبلا نسبة في سمط اللآلي ص 501، وشرح أبيات سيبويه 1/ 277، وشرح المفصّل 7/ 96، ولسان العرب (دوم) و (هيا) ، والمقتضب 4/ 91، ونوادر أبي زيد ص 194. (2) انظر تيسير الداني 117.

[سورة الكهف (18) : آية 45]

والقاف، وقرأ أهل الكوفة عُقْباً بضم العين وإسكان القاف والتنوين. قال أبو إسحاق: ويجوز عقبى مثل بشرى. [سورة الكهف (18) : آية 45] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) وفي تَذْرُوهُ ثلاثة أوجه: تَذْرُوهُ قراءة العامة. قال الكسائي: وفي قراءة عبد الله تذريه «1» وحكى الكسائي أيضا «تذريه» وحكى الفراء «2» : أذريت الرجل عن البعير أي قلبته، وأنشد سيبويه والمفضل: [الطويل] 276- فقلت له: صوّب ولا تجهدنّه ... فتذرك من أخرى القطاة فتزلق «3» وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً وهذا من الشكل وقد تكلّم العلماء فيه، فقال قوم: كان بمعنى يكون، وقال آخرون: كان بمعنى ما زال. قال أبو جعفر: ورأيت أبا إسحاق ينكر أن يكون الماضي بمعنى المستقبل إلّا بحرف يدلّ على ذلك. قال: وإنما خوطبت العرب على ما تعرف ولا تعرف في كلامها هذا وأحسن ما قيل في هذا قول سيبويه. قال: عاين القوم قدرة الله جلّ وعزّ فقيل لهم هكذا كان أي لم يزل مقتدرا. [سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 49] وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ أي واذكر. قال بعض النحويين: التقدير: والباقيات الصالحات خير يوم نسيّر الجبال. قال أبو جعفر: وهو غلط من أجل الواو. وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً على الحال، وكذا عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا وكذا لا يُغادِرُ في موضع الحال، وكذا حاضِراً. [سورة الكهف (18) : آية 50] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ استثناء، وزعم أبو إسحاق أنه استثناء ليس من الأول لأنّ

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 146، والبحر المحيط 6/ 124. (2) انظر معاني الفراء 2/ 146، والبحر المحيط 6/ 124. (3) الشاهد لعمرو بن عمّار الطائي في الكتاب 3/ 117، وشرح أبيات سيبويه 2/ 62، (فيدنك) ، ولامرئ القيس في ديوانه 174، ولسان العرب (ذرا) ، والمحتسب 2/ 181، وبلا نسبة في خزانة الأدب 8/ 526، ومجالس ثعلب 2/ 436، والمقتضب 2/ 23.

[سورة الكهف (18) : آية 51]

إبليس لم يكن من الملائكة ولكنه أمر بالسجود معهم فاستثني منهم. [سورة الكهف (18) : آية 51] ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) قال أبو جعفر: وقرأ أبو جعفر والجحدري وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً بفتح التاء. وفي عضد ستة أوجه: أفصحها «عضد» ولغة بني تميم «عضد» «1» وروي عن الحسن أنه قرأ (عضدا) «2» بضم العين والضاد، وحكى هارون القارئ «عضد» . قال أبو إسحاق: ويجوز «عضد» واللغة السادسة «عضد» على لغة من قال: فخذ، وكتف، وقيل: إن الضمير الذي في ما أَشْهَدْتُهُمْ يعود على إبليس وذرّيته، والمعنى: ما أشهدت إبليس وذرّيته خلق السموات والأرض لأستعين بهم ولا أشهدتهم خلق أنفسهم. [سورة الكهف (18) : آية 52] وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أي الذين جعلتموهم شركاء في الألوهة والعبادة فنادوهم ليخلّصوكم مما أنتم فيه من العذاب ويجازوكم على عبادتكم إياهم. [سورة الكهف (18) : آية 53] وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ الأصل رأى قلبت الياء ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها، ولهذا زعم الكوفيون أن رأى يكتب بالياء واتّبعهم على هذا بعض البصريين، فأما البصريون الحذاق، منهم: محمد بن يزيد فإنّ هذا كلّه يكتب عندهم بالألف. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: لا يجوز أن يكتب مضى ورمى وكلّ ما كان من ذوات الياء إلّا بالألف، ولا فرق بين ذوات الياء وذوات الواو في الخطّ كما أنه لا فرق بينهما في اللفظ، وإنما الكتاب نقل ما في اللفظ كما أن ما في اللفظ نقل ما في القلب، ومن كتب ذوات شيئا من هذا بالياء فقد أشكل وجاء بما لا يجوز، ولو وجب أن تكتب ذوات الياء بالياء لوجب أن تكتب ذوات الواو بالواو، وهم مع هذا يناقضون فيكتبون، رمى بالياء ورماه بالألف فإن كانت العلّة أنه من ذوات الياء وجب أن يكتبوا رماه بالياء ثم يكتبون ضحا وكسا جمع كسوة وهما من ذوات الواو بالياء. وهذا لا يحصّل ولا يثبت على أصل. قال: فقلت لمحمد بن يزيد: فما بال الكتّاب وأكثر الناس قد اتّبعوهم على هذا الخطأ البيّن؟ قال: الأصل في هذا من الأخفش سعيد لأنه كان رجلا محتالا للتكسّب، فاحتال بهذا وهو الكسائي فهذا هو

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 130، ومختصر ابن خالويه 80. (2) انظر مختصر ابن خالويه 80.

[سورة الكهف (18) : آية 55]

الأصل فيه. وحكى سيبويه أنه يقال راء يا هذا، على القلب. وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً ويجوز مصرفا على أنه مصدر، وكسر الراء على أنه اسم للموضع، والمعنى ولم يجدوا موضعا يتهيّأ لهم الانصراف إليه. [سورة الكهف (18) : آية 55] وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) أَنْ الأولى في موضع نصب والثانية في موضع رفع، وسنة الأولين الاستئصال. أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا «1» على الحال، ومذهب الفراء أن قبلا قبيل أي متفرقا يتلو بعضه بعضا، ويجوز عنده أن يكون المعنى عيانا، قال الأعرج: وكانت قراءته (قبلا) معناه جميعا. قال أبو عمرو: وكانت قراءته (قبلا) «2» معناه عيانا. قال أبو جعفر: وهذا من المجاز لمّا كانوا قد جاءتهم البراهين وما ينبغي أن يؤمنوا به وما ينبغي أن يقبلوه كانوا بمنزلة من منعه أن يؤمن أحد هذين. [سورة الكهف (18) : آية 56] وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ على الحال. [سورة الكهف (18) : آية 57] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَمَنْ أَظْلَمُ أي لنفسه مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها أي عن قبولها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ ترك كفره ومعاصيه فلم يتب منها. [سورة الكهف (18) : آية 59] وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) وَتِلْكَ في موضع رفع بالابتداء والْقُرى نعت أو بدل أَهْلَكْناهُمْ في موضع الخبر محمول على المعنى لأن المعنى أهل القرى، ويجوز أن يكون تلك في موضع نصب على قول من قال: زيدا ضربته وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً «3» قيل: المعنى أنه قيل لهم: إن لم يؤمنوا أهلكتهم وقت كذا ومهلك من أهلكوا، وقرأ عاصم (مهلكا) «4» بفتح الميم واللام، وهو مصدر هلك، وأجاز الكسائي والفراء لِمَهْلِكِهِمْ

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 147. (2) انظر البحر المحيط 6/ 132. (3) انظر تيسير الداني 117. (4) انظر تيسير الداني 117. [.....]

[سورة الكهف (18) : آية 60]

بفتح الميم وكسر اللام. قال الكسائي: هو أحبّ إليّ لأنه من يهلك. قال أبو إسحاق: مهلك اسم للزمان، والتقدير لوقت مهلكهم كما يقال: أتت الناقة على مضربها. [سورة الكهف (18) : آية 60] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ وهو يوشع بن نون. قال الفراء: كلّ من أخذ عن أحد وتعلّم منه فهو فتاه وإن كان شيخا شبّه بالعبد، أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ظرف. قال الفراء «1» : الحقب في لغة قيس سنة، وفي التفسير أنه ثمانون سنة. قال أبو جعفر: حقيقة الحقب وقت من الزمان مبهم يكون لتمييز سنة أو أقلّ أو أكثر. [سورة الكهف (18) : آية 61] فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً مصدر دلّ عليه «اتّخذ» كما تقول: هو يدعه تركا. ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا، كما يقال: اتّخذت زيدا وكيلا، ومثله اتّخذت مكان كذا وكذا طريقا. [سورة الكهف (18) : آية 62] فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) فَلَمَّا جاوَزا التقدير فلمّا جاوزا مجمع البحرين، وحذف المفعول. قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا مفعولان. لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً أي [سورة الكهف (18) : آية 63] قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ قيل: المعنى نسيت أن أذكر لك خبر الحوت فإنّه حيي ثم انساب في البحر ونسي هذه الآية العظيمة لأن الآيات كانت كبيرة في ذلك الوقت. وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ ويجوز ضم «2» الهاء على الأصل، وإثبات الواو جائز، وكذا إثبات الياء إذا كسرت أَنْ أَذْكُرَهُ في موضع نصب على البدل من الهاء بدل الاشتمال، والتقدير وما أنساني أن أذكره إلّا الشيطان أي إن الشيطان وسوس إليه وشغل قلبه حتى نسي فنسب النسيان إلى الشيطان مجازا. وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً «3» قال أبو إسحاق: فيه وجهان: يكون يوشع صلّى الله عليه وسلّم قال: واتّخذ سبيله في البحر عجبا، والوجه الآخر أن يكون يوشع عليه السلام قال: واتّخذ سبيله في البحر عجبا فقال موسى صلّى الله عليه وسلّم عجبا أي أعجب عجبا. قال: وفيه وجه ثالث هو أولى مما قال أبو إسحاق، وهو أن أحمد بن

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 152، والبحر المحيط 6/ 134. (2) انظر البحر المحيط 6/ 138. (3) انظر البحر المحيط 6/ 138.

[سورة الكهف (18) : آية 64]

يحيى، قال: المعنى: واتّخذ موسى سبيل الحوت في البحر فعجب عجبا. قال أبو جعفر: وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: موسى صلّى الله عليه وسلّم تتبّع أثر الحوت وتنظّر إلى دورانه في الماء وتعجّب من تغيّبه فيه. [سورة الكهف (18) : آية 64] قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) قالَ ذلِكَ مبتدأ ما كُنَّا نَبْغِ خبره وحذفت الياء لأنه تمام الكلام فأشبه رؤوس الآيات فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً أي رجعا في الطريق الذي جاءا منه يقصّان الأثر قصصا. [سورة الكهف (18) : الآيات 65 الى 66] فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ يكون نعتا، ويكون مستأنفا. وَعَلَّمْناهُ معطوف عليه. مِنْ لَدُنَّا مبنية لأنها لا تتمكن عِلْماً مفعول ثان. وقرأ أهل المدينة وأهل الكوفة رُشْداً «1» وقرأ أبو عمرو (رشدا) «2» وهما لغتان بمعنى واحد. [سورة الكهف (18) : آية 68] وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) مصدر لأن معنى أحطت به وخبرته واحد، ومثله: [الطويل] 277- فسرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا ... ورضت فذلّت صعبة أيّ إذلال «3» لأن معنى رضت أذللت. [سورة الكهف (18) : آية 70] قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ أي إن رأيت شيئا تنكره فلا تعجلنّ بسؤالي عنه حتّى أذكره لك. [سورة الكهف (18) : آية 71] فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما ليغرق أهلها «4» والمعنى واحد. لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قيل: إنما قال له موسى صلّى الله عليه وسلّم هذا لأنه لم يعلم أنه نبيّ وأنّ هذا بوحي. وقيل: لا يجوز أن يكون موسى صلّى الله عليه وسلّم صحبه على أن يتعلم منه إلّا وهو نبيّ لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يتعلمون إلّا من الملائكة أو النبيين صلّى الله عليه وسلّم، وإنما

_ (1) انظر تيسير الداني 117. (2) انظر البحر المحيط 6/ 140، وتيسير الداني 117. (3) مرّ الشاهد رقم (78) . (4) انظر تيسير الداني 118.

[سورة الكهف (18) : آية 73]

قيل: لقد جئت شيئا إمرا ونكرا أي هو في الظاهر منكر حتّى نعلم الحكمة فيه. شَيْئاً منصوب على أنه مفعول به أي أتيت شيئا، ويجوز أن يكون التقدير: جئت بشيء إمر ثم حذفت الباء فتعدّى الفعل فنصب. [سورة الكهف (18) : آية 73] قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ في معناه قولان: أحدهما روي عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: هذا من معاريض الكلام والآخر أنه نسي فاعتذر ولم ينس في الثانية ولو نسي لاعتذر وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً مفعولان. [سورة الكهف (18) : آية 74] فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو «1» وقرأ الكوفيون زَكِيَّةً فزعم أبو عمرو أن زاكية هاهنا أولى لأن الزاكية التي لا ذنب لها: وكان الذي قتله الخضر صلّى الله عليه طفلا، وخالفه في هذا أكثر الناس فقال الكسائي والفراء» : زاكية واحد، وقال غيرهما: لو كان الأمر على ما قال لكان زكيّة أولى لأن فعيلا أبلغ من فاعل، ولم يصحّ أنّ الذي قتله الخضر كان طفلا بل ظاهر القرآن يدلّ على أنه كان بالغا. يدلّ على ذلك «بغير نفس» فهذا يدلّ على أن قتله بنفسه جائز، وهذا لا يكون لطفل، ولا يقع القود إلا بعد البلوغ نُكْراً الأصل ومن قال «نكرا» حذفت الضمة لثقلها. [سورة الكهف (18) : آية 76] قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها أي بعد هذه المسألة قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أي من قبلي قد عذرتك مدافعتي عن صحبتك، وهذه قراءة «3» أبي عمرو والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ أهل المدينة (من لدني) «4» بتخفيف النون. والقراءة الأولى أولى في العربية وأقيس لأن الأصل «لدن» بإسكان النون ثم تزيد عليها ياء لتضيفها إلى نفسك ثم تزيد نونا ليسلم سكون نون لدن، كما نقول: عنّي ومنّي فكما لا تقول عني يجب ألّا تقول: لدني، والحجّة في جوازه على ما حكي عن محمد بن يزيد أنّ النون حذفت كما قرأ أهل المدينة فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الحجر: 54] بكسر النون. وأحسن من هذا القول ما

_ (1) انظر تيسير الداني 118، والبحر المحيط 6/ 142. (2) انظر معاني الفراء 2/ 155. (3) انظر البحر المحيط 6/ 142، وتيسير الداني 118. (4) انظر البحر المحيط 6/ 142، وتيسير الداني 118.

[سورة الكهف (18) : آية 77]

ذهب إليه أبو إسحاق قال: «لدن» اسم و «عن» حرف والحذف في الأسماء جائز كما قال: [الراجز] 278- قدني من نصر الخبيبين قدي «1» فجاء باللغتين جميعا. قال: وأيضا فإن لدن أثقل من عن ومن. [سورة الكهف (18) : آية 77] فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) وقرأ أبو رجاء العطاردي «2» فأبوا أن يضيفوهما مخففا. يقال: أضفته وضيّفته أي أنزلته ضيفا وضفته أي مالت نزلت به. وهو مشتق من ضاف السّهم أي مال، وضافت الشمس أي مالت للغروب. وهو مخفوض بالإضافة أي بالإضافة الاسم إليه. وروي عن أبي عمرو ومجاهد لتخذت «3» يقال: تخذ يتخذ واتّخذ افتعل منه. [سورة الكهف (18) : آية 78] قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ تكرير «بين» عند سيبويه على التوكيد أي هذا فراق بيننا أي تواصلنا. قال سيبويه: ومثله أخزى الله الكاذب منّي ومنك أي منّا، وأجاز الفراء قال: هذا فراق بيني وبينك، على الظرف. [سورة الكهف (18) : آية 79] أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) أَمَّا السَّفِينَةُ مبتدأ والخبر فَكانَتْ لِمَساكِينَ ولم ينصرف مساكين لأنه جمع لا نظير له في الواحد. وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ أكثر أهل التفسير يقول: وراء بمعنى أمام. قال أبو إسحاق: وهذا جائز لأن وراء مشتقّة من توارى، فما توارى عنك فهو وراءك كان أمامك أم خلفك فيجب على قول أبي إسحاق أن يكون وراء ليس من ذوات الهمزة وأن

_ (1) الشاهد لحميد بن مالك الأرقط في خزانة الأدب 5/ 382، والدرر 1/ 207، وشرح شواهد المغني 1/ 487، ولسان العرب (خبب) ، والمقاصد النحوية 1/ 357، ولحميد بن ثور في لسان العرب (لحد) وليس في ديوانه، ولأبي بحدلة في شرح المفصّل 3/ 124، وبلا نسبة في الكتاب 2/ 393، والأشباه والنظائر 4/ 241، وتخليص الشواهد 108، والجنى الداني 253، وخزانة الأدب 6/ 246، ورصف المباني 362، وشرح ابن عقيل 64، ومغني اللبيب 1/ 170، ونوادر أبي زيد 205، وبعده: «ليس الإمام بالشحيح الملحد» (2) وهذه قراءة ابن الزبير والحسن وأبي رزين وابن محيصن وعاصم أيضا، انظر البحر المحيط 6/ 143. (3) انظر تيسير الداني 118، وهي قراءة ابن كثير أيضا. [.....]

[سورة الكهف (18) : آية 80]

يقال في تصغيره: وريئة وزعم الفراء «1» أنه لا يقال لرجل أمامك: هو وراءك، ولا لرجل خلفك: هو بين يديك، وإنما يقال ذلك في المواقيت من الليل والنهار والدهر. يقال: بين يديك برد، وإن كان لم يأتك، ووراءك برد، وإن كان بين يديك لأنه إذا لحقك صار وراءك. [سورة الكهف (18) : آية 80] وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ ويجوز عند سيبويه في غير القرآن مؤمنان على أن نضمر في كان و (أبواه مؤمنان) ابتداء وخبر في موضع خبر كان، وحكى سيبويه «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصّرانه» «2» فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً أي تجاوزا فيما لا يجب. وعلم الله عزّ وجلّ هذا منه إن أبقاه فأمر بفعل الأصلح. [سورة الكهف (18) : آية 81] فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً أكثر أهل التفسير يقول: الزكاة الدين، والرحم: المودة. قال أبو جعفر: وليس هذا بخارج من اللغة لأن الزكاة مشتقة من الزكاء وهو النماء والزيادة، والرحم من الرّحمة كما قال: [الراجز] 279- يا منزل الرّحم على إدريس ... ومنزل اللّعن على إبليس «3» [سورة الكهف (18) : آية 82] وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مفعول من أجله، ويجوز أن يكون مصدرا. ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ نذكره في العشر الذي بعد هذا لأنه أولى به. [سورة الكهف (18) : آية 85] فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) فَأَتْبَعَ سَبَباً «4» أي من الأسباب التي أوتيها، وهذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو. وقراءة الكوفيين (فأتبع) جعلوها ألف قطع، وهذه القراءة اختيار أبي عبيد لأنها من

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 157. (2) مرّ تخريج الحديث في حواشي تفسير الآية 58- سورة النحل. (3) الشاهد لرؤبة بن العجاج في اللسان (رحم) . (4) انظر البحر المحيط 6/ 151.

[سورة الكهف (18) : الآيات 86 إلى 87]

السير. وحكى هو والأصمعي أنه يقال: تبعه واتّبعه إذا سار ولم يلحقه وأتبعه إذا لحقته. قال أبو عبيد: ومثله فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ [الشعراء: 60] . قال أبو جعفر: وهذا التفريق، وإن كان الأصمعي قد حكاه، لا يقبل إلّا بعلّة أو دليل، وقوله عزّ وجلّ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ليس في الحديث أنه لحقوهم، وإنما الحديث لمّا خرج موسى صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه انطبق عليهم البحر، والحقّ في هذا أنّ تبع واتبع واتّبع لغات بمعنى واحد، وهي بمعنى السير، فقد يجوز أن يكون معه لحاق وأن لا يكون. [سورة الكهف (18) : الآيات 86 الى 87] حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَجَدَها تَغْرُبُ في موضع الحال فِي عَيْنٍ والحمأة الطين المتغير اللون والرائحة. وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قال أبو جعفر: قد ذكرنا قول أبي إسحاق أنّ المعنى أنّ الله جلّ وعزّ خيّره بين هذين الحكمين وردّ عليّ بن سليمان عليه قوله جلّ وعزّ خيّره لم يصح أن ذا القرنين نبيّ فيخاطب بهذا، وكيف يقول لربه جلّ وعزّ: ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ وكيف يقول: فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ فيخاطب بالنون. قال: والتقدير: قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين. قال أبو جعفر: هذا الذي قاله أبو الحسن لا يلزم منه شيء أما قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ فيجوز أن يكون الله جلّ وعزّ خاطبه على لسان نبي في وقته، ويجوز أن يكون قال له هذا كما قال فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: 4] ، وأما إشكال فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فإن تقديره أن الله جلّ وعزّ لما خيّره بين القتل في قوله إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وبين الاستبقاء في قوله جلّ وعزّ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قالَ لأولئك القوم. أَمَّا مَنْ ظَلَمَ أي أقام على الكفر منكم فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ أي بالقتل ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ أي يوم القيامة فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً أي شديدا. [سورة الكهف (18) : آية 88] وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ أي تاب من الكفر. وَعَمِلَ صالِحاً قال أحمد بن يحيى: «أن» في موضع نصب في إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قال ولو رفعه كان صوابا بمعنى فإمّا هو، كما قال: [الطويل] 280- فسيرا فإمّا حاجة تقضيانها ... وإمّا مقيل صالح وصديق «1» فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى «2» قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ سائر

_ (1) الشاهد بلا نسبة في تفسير الطبري 16/ 185، ومعاني الفراء 2/ 158. (2) انظر البحر المحيط 6/ 152، ومعاني الفراء 2/ 159، وتيسير الداني 118.

[سورة الكهف (18) : الآيات 89 إلى 90]

الكوفيين فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وقرأ ابن أبي إسحاق فله جزاء حسنى وعن ابن عباس ومسروق فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى منصوبا غير منون. قال أبو جعفر: القراءة الأولى فيها تقديران: أحدهما أن يكون «جزاء» رفعا بالابتداء أو بالاستقرار و «الحسنى» في موضع خفض بالإضافة ويحذف التنوين للإضافة، والتقدير الآخر أن يحذف التنوين لالتقاء الساكنين ويكون «الحسنى» في موضع رفع على البدل عند البصريين والترجمة عند الكوفيين وعلى هذا الوجه القراءة الثانية إلا أنك لم تحذف التنوين، وهو أجود. والقراءة الثالثة فيها ثلاثة أقوال: قال الفراء: جزاء منصوب على التمييز، والقول الثاني أن يكون مصدرا، وقال أبو إسحاق: هو مصدر في موضع الحال أي مجزيّا بها جزاء، والقراءة الرابعة عند أبي حاتم على حذف التنوين وهي كالثانية وهذا عند غيره خطأ لأنه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين، فيكون تقديره: فله الثواب جزاء الحسنى وعندها عند العين. [سورة الكهف (18) : الآيات 89 الى 90] ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ويقال مطلع وهو القياس. [سورة الكهف (18) : الآيات 91 الى 92] كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) كَذلِكَ بمعنى الأمر كذلك ويجوز أن تكون الكاف في موضع نصب أي تطلع طلوعا كذلك. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ «1» قراءة أهل المدينة وعاصم، وقرأ أهل مكة وأبو عمرو بَيْنَ السَّدَّيْنِ والذي بعده كذلك، وقرأ الكوفيون إلّا عاصما بضمّ هذا وفتح الذي بعده، وتكلّم الناس في السّدّ والسّدّ. فقال عكرمة: كلّ ما كان من صنع الله جل وعز فهو سدّ بالضم، وما كان من صنعة بني آدم فهو سدّ بالفتح، وقال أبو عمرو بن العلاء: السدّ بالفتح هو الحاجز بينك وبين الشيء، والسدّ بالضم ما كان من غشاوة في العين، وقال عبد الله بن أبي إسحاق: السدّ بالفتح ما لم يره عيناك، والسدّ بالضّم ما رأته عيناك. قال أبو جعفر: هذه التفريقات لا تقبل إلا بحجّة ودليل، ولا سيما وقد قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد. ووقع هذا الاختلاف بلا دليل ولا حجّة. والحقّ في هذا ما حكي عن محمد بن يزيد قال: السدّ المصدر، وهذا قول الخليل وسيبويه، والسدّ الاسم. فإذا كان على هذا كانت القراءة بالضم أولى لأن المقصود الاسم لا المصدر. وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ سائر الكوفيون يَفْقَهُونَ قَوْلًا «2» بضم الياء، وهو

_ (1) انظر تيسير الداني 118. (2) انظر تيسير الداني 118، والبحر المحيط 6/ 154.

[سورة الكهف (18) : آية 94]

على حذف المفعول أي لا يكادون يفقهون أحدا قولا، والأول بغير حذف، وعلى القراءتين يكون المعنى أنهم لا يفقهون ولا يفقهون. [سورة الكهف (18) : آية 94] قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ بلغتهم أو بإيماء إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ «1» وقرأ عاصم والأعرج إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ «2» بالهمز جعلهما مشتقّين من أجيج النار عند الكسائي، ويكونان عربيّين ولم يصرفا جعلا اسمين لقبيلتين. فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ سائر الكوفيين خراجا «3» ومحمد بن يزيد يذهب إلى أن الخرج: المصدر، والخراج: الاسم، وأن معنى استخرجت الخراج أظهرته، ويوم الخروج يوم الظهور عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قد ذكرناه «4» . [سورة الكهف (18) : آية 95] قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ مبتدأ وخبره أي الّذي مكّنّي فيه ربّي من الأسباب التي أوتيتها خير من الخراج الذي تجعلونه لي، وقرأ مجاهد وابن كثير قال ما مكّنني «5» فلم يدغم لأن النون الأولى من الفعل والثانية ليست منه، والإدغام حسن لاجتماع حرفين من جنس واحد أَجْعَلْ جزم لأنه جواب الأمر. [سورة الكهف (18) : آية 96] آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) قال الفراء: ساوى وسوّى واحد. قال أبو إسحاق: الصّدفان والصّدفان ناحيتا الجبل. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو والكسائي قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً «6» بمعنى أعطوني قطرا أفرغ، وقراءة الكوفيين «ايتوني» بمعنى جيئوني معينين. آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً نصب في هذه القراءة بأفرغ. [سورة الكهف (18) : آية 97] فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ حكى أبو عبيد أن حمزة كان يدغم التاء في الطاء ويشدد

_ (1) انظر تيسير الداني 118. (2) انظر تيسير الداني 118. (3) انظر البحر المحيط 6/ 154. (4) مرّ في إعراب الآية 93- الكهف. (5) انظر البحر المحيط 6/ 155، وكتاب السبعة لابن مجاهد 400. (6) انظر البحر المحيط 6/ 155. [.....]

[سورة الكهف (18) : آية 98]

الطاء. قال أبو جعفر: وهذا الذي حكاه أبو عبيد لا يقدر أحد أن ينطق به لأن السين ساكنة والطاء المدغمة ساكنة قال سيبويه «1» هذا محال، إدغام التاء فيما بعدها، ولا يجوز تحريك السين لأنها مبنية على السكون. وفيه أربع لغات حكاها سيبويه والأصمعي والأخفش يقال: استطاع يستطيع، واسطاع يسطيع فيحذف التاء لأنها من مخرج الطاء، ويقال: استاع يستيع فتحذف الطاء، واللغة الرابعة أسطاع يسطيع بقطع وضم أول الفعل المستقبل، وأصله عند سيبويه «2» أطاع يطيع فجاؤوا بالسين عوضا من ذهاب حركة العين، وحكى الكسائي: أنت تستطيع بكسر التاء الأولى. [سورة الكهف (18) : آية 98] قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي أي هذا الفعل نعمة من الله عزّ وجلّ، والرحمة من الله جلّ وعزّ هي النعمة والإحسان. فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي أي الوقت الذي وعد فيه أن يأجوج ومأجوج يخرجون جَعَلَهُ دَكَّاءَ بمعنى بقعة دكّاء وأرضا دكّاء. [سورة الكهف (18) : آية 99] وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ أي خلّيناهم ولم يمنعهم حتّى ماجوا مع الناس. [سورة الكهف (18) : آية 100] وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ أي أخرجناها. [سورة الكهف (18) : آية 101] الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ في موضع خفض على النعت للكافرين فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي أي هم بمنزلة من عينه مغطّاة فلا ينظر إلى دلائل الله جلّ وعزّ ولا يسمع وعظه. وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي ذلك ثقيل عليهم. [سورة الكهف (18) : آية 102] أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ أبو إسحاق يقدره بمعنى أفحسبوا أن ينفعهم ذلك، وقال غيره: في الكلام حذف، والمعنى: أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ولا أعاقبهم. [سورة الكهف (18) : آية 103] قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ فخالف حمزة في هذا، وقراءة حمزة أصوب وأولى في هذا، وهذا

_ (1) انظر الكتاب 4/ 604. (2) انظر الكتاب 4/ 613.

[سورة الكهف (18) : آية 104]

قول سيبويه «1» لأنه يستبعد أن تدغم اللام في النون، واعتلّ في ذلك بما يستجاد ويستحسن، قال: لأنه لا تدغم في النون واللام فاستوحشوا من إدغامها فيها، وذلك جائز على بعد عنده لقرب المخرجين. بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا نصب على التمييز. [سورة الكهف (18) : آية 104] الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في موضع خفض على النعت للأخسرين، ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى هم، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أعني. [سورة الكهف (18) : آية 109] قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي قيل المعنى لما يقدر أن يتكلّم به والله عزّ وجلّ أعلم بما أراد. [سورة الكهف (18) : آية 110] قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي لست أقدر على أن أكرهكم ولا أن أجبركم على ما أدعوكم إليه، قال أبو إسحاق: يقال حال من المكان يحول حولا إذا تحوّل منه ومثله من المصادر عظم عظما وصغر صغرا. فَلْيَعْمَلْ والأصل فليعمل حذفت الكسرة لثقلها ولأن اللام قد اتصلت بالفاء وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً روي عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس: هذا في المشركين خاصة. قال أبو جعفر: والتقدير على هذا القول: ولا يشرك بالله جلّ وعزّ أحدا فيعبده معه.

_ (1) انظر الكتاب 4/ 590.

19 شرح إعراب سورة مريم

الجزء الثالث 19 شرح إعراب سورة مريم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة مريم (19) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص (1) قال أبو جعفر: لا اختلاف في إسكانها. قال أبو إسحاق: أسكنت لأنها حروف تهجّ النيّة فيها الوقف. قرأ أهل المدينة بين التفخيم والإمالة، وروى محمّد بن سعدان عن أبي محمد عن أبي عمرو بن العلاء أنه قرأ كهيعص «1» الياء ممالة والهاء بين التفخيم والإمالة والصاد مدغمة، وحكى أبو عبيد أنّ حمزة كان يميل الياء ويفخم الهاء، وأن عاصما والكسائي كانا يكسران الهاء والياء، وحكى خارجة أن الحسن كان يضمّ كاف، وحكى غيره أنه كان يضم «ها» ، وحكى إسماعيل بن إسحاق أن الحسن كان يضمّ يا، قال أبو حاتم لا يجوز ضم الكاف ولا الهاء ولا الياء. قال أبو جعفر: قراءة أهل المدينة من أحسن ما في هذا والإمالة جائزة في «ها» وفي «يا» وما أشبههما نحو با وتا وثا إذا قصرت، وهذا قول الخليل وسيبويه «2» . قال: وحكى لي علي بن سليمان أنّ البصريين ينفردون بالكلام في الإمالة، وأن الكوفيين لم يذكروا ذلك كما ذكروا غيره من النحو وإنما جازت الإمالة عند سيبويه والخليل «3» فيما ذكرناه لأنها أسماء ما يكتب ففرقوا بينها وبين الحروف، نحو «لا» و «ما» ، ومن أمال منها شيئا فهو مخطئ، وكذلك «ما» التي بمعنى الذي، ولا يجيز أن تمال «حتّى» ولا «إلّا» التي للاستثناء لأنهما حرفان وإن سمّيت بهما جازت الإمالة، وأجازا «أنّى» لأنها اسم ظرف كأين وكيف، ولا يجوز إمالة كاف لأن الألف متوسطة. فأما قراءة الحسن فقد أشكلت على جماعة حتّى قالوا: لا تجوز، منهم أبو حاتم. والقول فيها ما بينه هارون القارئ. قال: كان الحسن يشمّ الرفع فمعنى هذا أنه كان يومئ، كما حكى سيبويه أن من العرب من يقول: الصلاة والزكاة يومئ إلى الواو، ولهذا كتبت في المصاحف بالواو.

_ (1) انظر تيسير الداني 120. (2) انظر الكتاب 4/ 248. (3) انظر الكتاب 4/ 248.

[سورة مريم (19) : آية 2]

[سورة مريم (19) : آية 2] ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ في رفعه ثلاثة أقوال: قال الفراء «1» : وهو مرفوع بكهيعص. قال أبو إسحاق: هذا محال لأن «كهيعص» ليس هو مما أنبأنا الله جلّ وعزّ به عن زكرياء، وقد خبّر الله جلّ وعزّ عنه وعما بشّره به وليس «كهيعص» من قصّته. قال الأخفش: التقدير: فيما نقص عليكم ذكر رحمة ربك، والقول الثالث أن المعنى: هذا الذي نتلوه عليكم ذكر رحمة ربك عبده، ورحمة بالهاء تكتب، ويوقف عليها، وكذلك كلّ ما كان مثلها. لا نعلم بين النحويين اختلافا في ذلك إذا لم يكن في شعر بل قد اعتلّوا في ذلك أن هذه الهاء لتأنيث الأسماء وفرقوا بينها وبين الأفعال. قال الأخفش: عَبْدَهُ منصوب برحمة. زَكَرِيَّا «2» بدل منه ولم ينصرف لأن فيه ألف تأنيث. هذا فيمن جعله مشتقا عربيا، ولا يصرفه في معرفة ولا نكرة، ومن جعله عجميا صرفه في النكرة. [سورة مريم (19) : آية 3] إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) إِذْ في موضع نصب على الظرف. نادى رَبَّهُ نِداءً مصدر مؤكّد خَفِيًّا من نعته. [سورة مريم (19) : آية 4] قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي والمستقبل يهن أصله يوهن حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة. وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً في نصبه قولان: أحدهما أنه مصدر، لأن معنى اشتعل شاب، وهذا قول الأخفش سعيد. قال أبو إسحاق: هو منصوب على التمييز، وقول الأخفش أولى لأنه مشتقّ من فعل، والمصدر أولى به. وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا خبر أكن. [سورة مريم (19) : آية 5] وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي نصب بخفت وحركت الياء في موضع النصب لخفته وأسكنتها في موضع الرفع والخفض لثقلهما، كما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قرأ خفّت الموالي من ورائي «3» وهذه قراءة شاذّة وإنما رواها كعب مولى سعيد بن العاص عن سعيد عن عثمان، وهي بعيدة جدا، وقد زعم بعض العلماء أنها لا تجوز. قال: كيف يقول: خفّت الموالي من بعد موتي وهو حيّ؟ والتأويل لها أن لا يعني بقوله

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 161. (2) انظر تيسير الداني 120 (3) انظر مختصر ابن خالويه 83، والبحر المحيط 6/ 165 وهي قراءة زيد بن ثابت وابن عباس، وسعيد ابن العاص وابن يعمر وابن جبير وعلي بن الحسين وغيرهم.

من ورائي من بعد موتي ولكن من ورائي في ذلك الوقت، وهذا أيضا بعيد يحتاج إلى دليل أنّهم خفّوا في ذلك الوقت وقلّوا، وقد أخبر الله عزّ وجلّ عنهم بما يدلّ على الكثرة حين قالوا: أيّهم يكفل مريم؟ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي لا تلد كأنّ بها عقرا. والفعل منه عقرت مسموع من العرب، والقياس عقرت. فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا والمستقبل يهب، والأصل يوهب بكسر الهاء، ومن قال: الأصل يوهب بفتح الهاء فقد أخطأ لأنه لو كان كما قال لم تحذف الواو وكما لم تحذف في يوجل، وإنما حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ثم فتح بعد حذفها لأن فيه حرفا من حروف الحلق. وقرأ أهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ «1» برفعهما، وقرأ يحيى بن يعمر وأبو عمرو ويحيى بن وثاب والأعمش والكسائي يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ «2» بالجزم فيهما. قال أبو جعفر: القراءة الأولى بالرفع أولى في العربية وأحسن، والحجّة في ذلك ما قاله أبو عبيد فإن حجّته حسنة. قال: المعنى: فهب لي من لدنك الوليّ الذي هذه حاله وصفته لأن الأولياء منهم من لا يرث، فقال: هب الّذي يكون وارثي، وردّ الجزم لأن معناه إن وهبته لي ورثني، فكيف يخبر الله جلّ وعزّ بهذا وهو أعلم به منه؟ وهذه حجة مقتضاة لأن جواب الأمر عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة. تقول: أطع الله جلّ وعزّ يدخلك الجنة والمعنى: إن تطعه يدخلك الجنة. فأما معنى يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ فللعلماء فيه ثلاثة أجوبة: قيل: هي وراثة نبوّة، وقيل: هي وراثة حكمة، وقيل: هي وراثة مال. فأما قولهم وراثة نبوة محال لأن النبوة لا تورث، ولو كانت تورث لقال قائل: الناس كلّهم ينسبون إلى نوح صلّى الله عليه وسلّم، وهو نبيّ مرسل. ووراثة الحكمة والعلم مذهب حسن. وفي الحديث «العلماء ورثة الأنبياء» «3» وأما وراثة المال فلا يمتنع وإن كان قوم قد أنكروه لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا صدقة» «4» فهذا لا حجّة فيه لأن الواحد يخبر عن نفسه بإخبار الجميع وقد يؤول هذا بمعنى لا نورث الذي تركناه صدقة لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يخلف شيئا يورث عنه، وإنما كان الذي له أباحه الله عزّ وجلّ إياه في حياته بقوله جلّ وعزّ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال: 41] لأن معنى لله جلّ وعزّ لسبل الله جلّ ثناؤه، ومن سبل الله تبارك وتعالى ما يكون في مصلحة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما دام حيّا فإن قيل: ففي بعض الروايات «إنّا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» ففيه التأويلان جميعا أن يكون «ما» بمعنى الذي، والآخر لا يورث من

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 165. (2) انظر تيسير الداني 120. (3) أخرجه ابن ماجة في سننه في المقدمة 17- حديث 223، والدارمي في سننه 1/ 98. (4) أخرجه مالك في الموطأ باب 12 حديث 27، والترمذي في سننه- السير 7/ 112، وأبو داود في سننه رقم (2977) .

[سورة مريم (19) : آية 7]

كانت هذه حاله. مِنْ آلِ يَعْقُوبَ لم ينصرف لأنه أعجمي وزعم عاصم الجحدري أنهم لو قالوا هو يعقوب آخر غير يعقوب بن إسحاق لصروفه، وقال: إنّهم قالوا: إنه غير يعقوب بن إسحاق عليهما السلام. [سورة مريم (19) : آية 7] يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) يا زَكَرِيَّا منادى مفرد. اسْمُهُ يَحْيى مبتدأ وخبر ولم ينصرف يحيى لأنه في الأصل فعل مستقبل وكتب بالياء فرقا بينه وبين الفعل لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا قد ذكرناه، وقد قيل: معناه لم نأمر أحدا أن يسمّي ابنه يحيى قبلك. [سورة مريم (19) : آية 8] قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) أَنَّى في موضع نصب على الظرف. وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا «1» قال قتادة: أي سنّا، والتقدير في العربية: سنّا عتيّا. والأصل عتوّا لأنه من ذوات الواو فأبدل من الواو ياء لأنها أختها، وهي أخفّ منها والآيات على الياء، ومن قرأ عِتِيًّا كره الضمة مع الكسرة والياء. [سورة مريم (19) : آية 9] قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ الكاف في موضع رفع أي الأمر كذلك. هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ قال الفراء «2» : أي خلقه عليّ هين، قرأ أهل المدينة وأهل البصرة وعاصم وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ، وقرأ سائر الكوفيين وقد خلقناك «3» قال أبو جعفر: والقراءة الأولى أشبه بالسواد. [سورة مريم (19) : آية 10] قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) قالَ آيَتُكَ مبتدأ وخبره (أن) وصلتها تُكَلِّمَ نصب بأن لأن «لا» غير حائلة، وأجاز الكسائي والفراء «4» «أن لا تكلّم الناس» بالرفع: بمعنى أنك لا تكلم الناس، وهذا كما قال: [الطويل] 282- ألا زعمت بسباسة اليوم أنّني ... كبرت وأن لا يشهد اللهو أمثالي «5»

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 166، وكتاب السبعة لابن مجاهد 407، وهي قراءة ابن أبي ليلى والأعمش وحمزة والكسائي، وباقي السبعة بالضم وعبد الله بفتح العين. [.....] (2) انظر معاني الفراء 2/ 162. (3) انظر البحر المحيط 6/ 167، وتيسير الداني 120. (4) انظر معاني الفراء 2/ 162. (5) مرّ الشاهد رقم (124) .

[سورة مريم (19) : آية 11]

قال الأخفش: سَوِيًّا نصب على الحال. قال أبو جعفر: والمعنى: يكفّ عن الكلام في هذه الحال. [سورة مريم (19) : آية 11] فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ظرفان، وزعم الفراء أنّ العشيّ يؤنّث ويجوز تذكيره إذا أبهمت. قال: وقد يكون العشيّ جمع عشيّة. [سورة مريم (19) : آية 12] يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ ومن أخذ يأخذ. الأصل أوخذ، حذفت الهمزة الثانية لكثرة الاستعمال، وقيل لاجتماع حرفين من حروف الحلق، واستغني عن الهمزة وكسرت الذال لالتقاء الساكنين. وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا على الحال. [سورة مريم (19) : آية 13] وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَحَناناً عطف على الحكم. وفي معناه قولان عن ابن عباس أحدهما قال: تعطّف الله جلّ وعزّ عليه بالرحمة، والقول الآخر: ما أعطيه من رحمة الناس حتّى يخلّصهم من الكفر والشرّ. وَزَكاةً في معناه قولان: أحدهما أنه أعطي الزيادة في الخير والنماء فيه، والقول الآخر أنّ الله جلّ وعزّ زكّاه بأن وصفه أنه زكيّ تقيّ فقال جلّ وعزّ: وَكانَ تَقِيًّا. [سورة مريم (19) : آية 14] وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ عطف على تقي. [سورة مريم (19) : آية 15] وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَسَلامٌ عَلَيْهِ رفع بالابتداء، وحسن الابتداء بالنكرة لأن فيها معنى الدعاء. ومعنى سلام عليك وسلام الله عليك واحد في اللغة. [سورة مريم (19) : آية 17] فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا وهو جبرائيل عليه السلام. سمّي روحا لأنه يأتي بما يحيا به العباد من الوحى فلما كان ما يأتي به يحيا العباد به سمّي روحا ولهذا سمّي عيسى صلّى الله عليه وسلّم روحا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا على الحال. [سورة مريم (19) : آية 19] قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19)

[سورة مريم (19) : آية 20]

قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ابتداء وخبر. لِأَهَبَ لَكِ «1» قراءة أكثر الناس وهي الصحيحة عن نافع بن أبي نعيم. حكى ذلك أبو عبيد وإسماعيل بن إسحاق وغيرهما من أهل الضبط إلّا ورشا فإنه روى عنه ليهب «2» وقراءة أبي عمرو ليهب «3» بلا اختلاف عنه. قال أبو عبيد: وهذا مخالف لجميع المصاحف كل ها: قال: ولو جاز أن يغيّر حرف من المصحف للرأي لجاز في غيره. قال: وفي هذا تحويل القرآن حتى لا يعرف المنزل منه من غيره قال أبو جعفر: «ليهب» يحتمل وجهين: أحدهما: أن يريد لأهب ثم يخفف الهمزة، والآخر يكون على غير تخفيف الهمزة: ويكون معناه ارسلني ليهب، ومن يقرأ «لأهب» فتقديره: قال لأهب لأن في قوله: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ما يدلّ على هذا. [سورة مريم (19) : آية 20] قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) وَلَمْ يَمْسَسْنِي ظهر التضعيف لما سكن الحرف الثاني. بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا الأصل أكن وقد ذكرناه «4» . [سورة مريم (19) : آية 21] قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا الأصل مقضويّ ثم أدغمت الواو في الياء. [سورة مريم (19) : آية 22] فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) ظرف وإن شئت كان مفعولا أي قصدت به مكانا قصيا. [سورة مريم (19) : آية 23] فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قيل: لأنها طلبت الظلّ. قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ من قال متّ ففي تقديره قولان: أحدهما أنه من متّ أمات مثل خفت أخاف، والآخر هو قول سيبويه أنه من متّ أموت، وزعم سيبويه «5» أنه جاء في كلام العرب على فعلت أفعل: فضل يفضل، ومتّ تموت، ولا يعرف غيرهما. وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا «6» قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم والكسائي، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة وَكُنْتُ نَسْياً بفتح النون. قال أبو جعفر: كسر النون في هذا أولى في العربية لجهتين: إحداهما أن

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 170. (2) انظر تيسير الداني 120، ومعاني الفراء 2/ 163، والبحر المحيط 6/ 170. (3) انظر تيسير الداني 120، ومعاني الفراء 2/ 163، والبحر المحيط 6/ 170. (4) مرّ في إعراب الآية 109- هود. (5) انظر الكتاب 4/ 486. (6) انظر تيسير الداني 121.

[سورة مريم (19) : آية 24]

المفتوحة مصدر والمكسورة اسم، والاسم هاهنا أولى من المصدر، والجهة الأخرى أن المصدر إنما تستعمله العرب هاهنا على فعلان فيقولون: نسيت نسيانا. [سورة مريم (19) : آية 24] فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) فَناداها مِنْ تَحْتِها فأما أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة إلّا الحسن وأبا عمرو النّخعي وعاصما فإنهم قرءوا من تحتها «1» بفتح الميم. فزعم أبو عبيد أن من قرأ «من تحتها» جاز في قراءته أن يكون لجبرائيل صلّى الله عليه وسلّم ولعيسى عليه السلام، ومن قرأ «من تحتها» فهو لعيسى صلّى الله عليه وسلّم خاصّة. قال أبو جعفر: «من» اسم و «تحتها» ظرف ولا يمتنع أن يكون معناه لجبرائيل صلّى الله عليه وسلّم كما كان في الأول «2» . [سورة مريم (19) : آية 25] وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فيه ستّ قراءات: قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم والكسائي تُساقِطْ بالتاء وتشديد السين، وقرأ الأعمش وحمزة تساقط بالتاء وتخفيف السين، وقرأ البراء بن عازب يسّاقط بالياء وتشديد السين، وقرأ مسروق بن الأجدع تسقط والقراءتان الباقيتان تُساقِطْ ونساقط. قال أبو جعفر: فالقراءة الأولى أصلها تتساقط ثم أدغمت التاء في السين، والثانية على الحذف، والثالثة على الإدغام ولا يجوز معها الحذف. ونصب رطب في هذه القراءات الثلاث على البيان كما قال: [الطويل] 283- فلو أنّها نفس تموت سويّة ... ولكنّها نفس تساقط أنفسا «3» وحكى أبو إسحاق عن أبي العباس أنه منصوب بهزّي، والقراءة الرابعة على أن يكون منصوبا بتسقط أو بهزّي، وكذا الخامسة. قال أبو إسحاق: ومن قرأ نساقط أراد: نساقط نحن عليك رطبا جنيّا ليكون ذلك آية. قال أبو جعفر: والرطب يذكّر على معنى الجنس ويؤنث على معنى الجماعة. [سورة مريم (19) : آية 26] فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً قال أبو إسحاق: فكلي من الرطب واشربي من الماء. قال وعَيْناً منصوب على التمييز. قال أبو جعفر: الأصل أأكلي بهمزتين فحذفت

_ (1) انظر تيسير الداني 121. (2) انظر البحر المحيط 6/ 175، وتيسير الداني 121، ومعاني الفراء 2/ 166. (3) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 107، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 648، وشرح المفصّل 9/ 8، ولسان العرب (جمع) ، وتفسير الطبري 13/ 152، وشرح القصائد السبع لابن الأنباري 423.

[سورة مريم (19) : آية 27]

إحداهما لاجتماعهما وكثرة الاستعمال، وكان القياس أن تخفّف الثانية فتكون واوا فيقال أوكل كما يقال: أوجر فلان من الأجر، فلمّا حذفت الهمزة الثانية استغني عن الأولى فقيل: كلي، وحذفت النون لأن الفعل غير معرب وللجزم عند الكوفيين وكذا واشربي وقرّي. قال الأصمعي: قررت به عينا، مشتقّ من القرّ أي بردت عيني فلم تدمع فتسخن، وقال أبو عمرو الشيباني: هو من قررت في المكان أي قرّت عيني فنامت ولم تسهر، وقيل: معناه قررت أي هدأت لمّا نلت ما كنت متطلعا إليه. فَإِمَّا تَرَيِنَّ في موضع جزم بالشرط. والأصل فإما تريي، زيدت النون توكيدا، وصلح ذلك في الخبر لدخول «ما» ، وحكى سيبويه «1» ، «بألم ما تختننّه» «2» ولو نطق به بغير نون لكان «فإما ترى» فلمّا زدت النون رددته إلى أصله وكسرت الياء لالتقاء الساكنين، وكانت الكسرة أولى للفرق بين المذكّر والمؤنّث ثم خفّفت الهمزة فألقيت حركتها على الراء وحذفت فصار ترين. فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا مشتق من آنس إذا علم وأبصر، والانسيّ مبصر معلوم به والجمع «أناسي» ، تزاد الألف ثالثة، كما يعمل في المجموع فتقول: بختيّ وبخاتيّ وذلك كثير معروف. [سورة مريم (19) : آية 27] فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ في موضع الحال. [سورة مريم (19) : آية 28] يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) يا أُخْتَ هارُونَ نداء مضاف. والأصل أخوة يدلّ على ذلك أخوات وقال محمد بن يزيد: حذفت الواو فرقا بين المتشبّث وغير المتشبّث. ولا نعلم أحدا سبق أبا العباس إلى هذا القول مع حسنه وجودته. وزعم الفراء أنه إنما ضمّت الهمزة في قولهم أخت وكسرت الباء في قولهم: بنت للفرق بين ما حذفت منه الواو وبين ما حذفت منه الياء فالضمة علم الواو والكسرة علم الياء. وذكر محمد بن يزيد أن هذا القول خطأ. قال أبو جعفر: في قوله: «يا أخت هارون» قولان للعلماء: أحدهما أن هارون كان رجلا صالحا فقالوا يا أخت هارون أي يا شبيهته في الصّلاح، وإنما المؤمنون إخوة من هذا، وآخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أصحابه. وروى جعفر عن سعيد بن جبير أنه كان رجل فاسق يقال له هارون فقالوا لها: يا أخت هارون. قال أبو جعفر: والقول الأول أولى لأن فيه حديثا مسندا.

_ (1) انظر الكتاب 3/ 580. [.....] (2) ورد المثل في خزانة الأدب 11/ 403، ومجمع الأمثال 1/ 107، والمعنى: لا يكون الختان إلا بألم، أي إنّ الخير لا يدرك إلا باحتمال المشقّة.

[سورة مريم (19) : آية 29]

[سورة مريم (19) : آية 29] فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن تكون «كان» زائدة ونصب صَبِيًّا على الحال، والعامل فيه الاستقرار، وقيل: «كان» بمعنى وقع نصب صبيّ على الحال إلّا أن العامل فيه كان، والقول الثالث قول أبي إسحاق. قال: من للشرط، والمعنى: من كان في المهد صبيا فكيف نكلّمه؟ قال: كما تقول: من كان لا يسمع ولا يبصر فكيف أخاطبه؟ قال أبو جعفر: وإنما احتاج النحويون إلى هذه التقديرات لأن الناس كلّهم كانوا في المهد صبيانا ولا بد من أن يبيّن عيسى صلّى الله عليه وسلّم بشيء منهم وقد حكى سيبويه زيادة كان، وأنشد: [الوافر] 284- فكيف إذا مررت بدار قوم ... وجيران لنا كانوا كرام «1» وحكى النحويون: ما كان أحسن زيدا وقالوا على إلغاء كان. [سورة مريم (19) : آية 30] قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ في معناه قولان: أحدهما قدّر أن يؤتينيه، والآخر أنّ الله جلّ وعزّ أكمل عقله وآتاه الكتاب وجعله نبيا وهو في المهد. قال قتادة: في المهد أي في الحجر. [سورة مريم (19) : آية 31] وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما مشتقّ من البركة وهو الثبوت على الخير. وكان ثابتا على الخير مشبا، كما قال عمرو بن قيس: معنى «وجعلني مباركا» معلّما مؤدبا. وبيّن هذا ما رواه شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلميّ عن عثمان عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وروى عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «خيركم من علم القرآن وعلّمه» «2» وروى شريك عن عاصم بن أبي النجود عن أبي عبد الرحمن عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «خيركم من علم القرآن وأقرأه» . وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ قال أبو إسحاق: «الزكاة» الطهارة، وقال غيره وأوصاني بالزكاة أن أؤدّيها إذا وجبت علي وآمر بها، ما دُمْتُ حَيًّا خبر دمت وعلى الحال عند الفراء. [سورة مريم (19) : آية 32] وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَبَرًّا بِوالِدَتِي قال الكسائي: هو نسق على مبارك أي وجعلني برا. وقرأ ابن

_ (1) مرّ الشاهد رقم (81) . (2) أخرجه الترمذي في سننه- فضائل القرآن 11/ 32، وابن ماجة في سننه- المقدمة الحديث 211، 212، وأبو داود في سننه حديث رقم (1452) .

[سورة مريم (19) : آية 33]

نهيك وبرّ بوالدتي بمعنى وأوصاني بالصلاة والزكاة وبرّ بوالدتي. [سورة مريم (19) : آية 33] وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا آخر كلام عيسى عليه السلام فلمّا تكلّم في حجر أمّه ظهرت لهم الآية. [سورة مريم (19) : آية 34] ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ قال الكسائي: «قول الحقّ» نعت، وقال أبو حاتم: المعنى هو قول الحق، وقيل: التقدير هذا الكلام قول الحق. وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر قَوْلَ الْحَقِّ بالنصب. قال الفراء «1» : بمعنى حقّا. قال أبو إسحاق: هو مصدر أي أقول قول الحق لأن ما قبله يدلّ عليه. [سورة مريم (19) : آية 35] ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ أَنْ في موضع رفع اسم كان مِنْ وَلَدٍ في موضع نصب و «من» زائدة للتوكيد، وحقيقة هذا أنك إذا قلت: ما اشتريت فرسا، جاز أن يكون المعنى أنك ما اشتريت شيئا البتة، وجاز أن يكون المعنى أنك اشتريت أفراسا. فإذا قلت: ما اشتريت فرسين، جاز فيه ثلاثة أوجه: منها أن يكون لم تشتر شيئا، وجاز أن تكون اشتريت واحدا، وجاز أن تكون اشتريت أكثر من اثنين. فإذا قلت: ما اشتريت من فرس صار المعنى أنك لم تشتر من هذا الجنس شيئا البتة. سُبْحانَهُ مصدر فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «2» قراءة الجماعة، وقرأ ابن عامر الشامي فيكون. [سورة مريم (19) : آية 36] وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ قراءة أهل المدينة وقراءة أهل الكوفة و «إنّ» «3» بكسر الهمزة على أنه مستأنف، وفي الفتح أقوال: فمذهب الخليل وسيبويه رحمهما الله أن المعنى ولأن «ربّي وربّكم» ، وكذا عندهما وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا [الجنّ: 18] فإنّ في موضع نصب عندهما، وأجاز الفراء «4» أن يكون في موضع خفض على حذف اللام، وأجاز أيضا أن يكون في موضع خفض بمعنى «وأوصاني بالصلاة والزكاة وبأن الله ربي وربكم» ، وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بمعنى «والأمر أن الله ربي وربكم» ،

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 168. (2) انظر تيسير الداني 121. (3) انظر تيسير الداني 121 وهي قراءة ابن عامر والكوفيين. (4) انظر معاني الفراء 2/ 168.

[سورة مريم (19) : آية 38]

وفيها قول خامس حكى أبو عبيد أن أبا عمرو بن العلاء قاله، وهو أن يكون المعنى: وقضى أنّ الله ربّي وربكم. [سورة مريم (19) : آية 38] أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا مبني على السكون لأن لفظه لفظ الأمر ومعناه معنى التعجّب: ما أسمعهم وما أبصرهم! [سورة مريم (19) : آية 39] وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ قد ذكرناه وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ما من أحد يدخل النار إلّا وله بيت في الجنة فيتحسّر عليه، وقيل: تقع الحسرة إذا أعطي كتابه بشماله. وأن معنى: إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ عرّف كلّ إنسان ما له وما عليه، وقيل: التقدير: وأنذرهم خبر يوم الحسرة إذ قضي الأمر فخبّر أنّهم معذّبون. [سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 42] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا خبر «كان» و «نبيّا» من نعته، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا، وأن يكون حالا من المضمر. قال أبو إسحاق: الوقف إذ قال لأبيه يا أبه بالهاء لأنها هاء تأنيث، وقال أبو الحسن بن كيسان: الوقف بالتاء لأنه مضاف إلى ما لا ينفصل، كما تقول: هذه نعمتي. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا «1» هذا في سورة «يوسف» بأكثر من هذا. قال الكسائي: عصيّ وعاصي واحد. [سورة مريم (19) : آية 46] قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ أَراغِبٌ رفع بالابتداء، و «أنت» فاعل سدّ مسدّ الخبر، كما تقول: أقائم أنت؟ وحسن الابتداء بالنكرة لما تقدمها. [سورة مريم (19) : آية 47] قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ صلح الابتداء بالنكرة لأن فيها معنى المنصوب وفيها في هذا الموضع معنى التفرّق والترك، ومثله وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63] . سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي أي إن أسلمت وتبت. إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا قال علي بن أبي

_ (1) انظر إعراب الآية 4: يوسف.

[سورة مريم (19) : آية 48]

طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه: أي لطيفا. قال الكسائي: قال: حفي به حفاوة وحفوة. وقال الفراء «1» : «إنه كان بي حفيا» أي عالما يجيبني إذا دعوته. قال أبو إسحاق: ويقال: قد تحفّى فلان بفلان حفوة إذا ألطفه وبرّه. [سورة مريم (19) : آية 48] وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ «ما» في موضع نصب لأنها معطوفة أي واعتزل ما تدعون. [سورة مريم (19) : آية 50] وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ أي قول صدق، كما قال أعشى باهلة: [البسيط] 285- إنّي أتتني لسان لا أسرّ بها ... من علو لا عجب فيها ولا سخر «2» وأنّث اللسان في هذا البيت، وهي لغة معروفة، وإن كان القرآن قد جاء بالتذكير. قال جلّ وعزّ عَلِيًّا وهو نعت للسان، وقال الآخر: [الوافر] 286- ندمت على لسان فات منّي ... فليت بيانه في جوف عكم «3» [سورة مريم (19) : آية 55] وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا مشتقّ من الرّضوان، والأصل مرضوّ عند سيبويه أبدل من الواو ياء لأنها أخفّ، وكذا مسنيّة وإنما أبدل من الواو ياء لأنها قبلها ضمة والساكن ليس بحاجز حصين، وقال الكسائي والفراء «4» من قال: مرضي بناه على رضيت. قالا: وأهل الحجاز يقولون: مرضو، وفيه قول ثالث حكاه الكسائي والفراء «5» قالا: من العرب من يقول: رضوان ورضيّان فرضوان على مرضو ورضيّان على مرضي، ولا يجيز البصريون أن يقال إلّا رضوان وربوان. قال أبو جعفر: سمعت أبا إسحاق يقول: يخطئون في الخطّ فيكتبون ربا بالياء ثم يخطئون فيما هو أشدّ من هذا فيكتبون ربيان، ولا يجوز إلّا ربوان ورضوان قال الله جلّ وعزّ وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ [الروم: 39] .

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 169. (2) الشاهد لأعشى باهلة في إصلاح المنطق 26، والأصمعيات 88، وجمهرة اللغة 950، وخزانة الأدب 6/ 511، وسمط اللآلي 75، وشرح المفصّل 4/ 90، ولسان العرب (سخر) و (لسن) ، والمؤتلف والمختلف 14، وبلا نسبة في خزانة الأدب 1/ 191، ولسان العرب (علا) . (3) الشاهد للحطيئة في ديوانه 122، وتخليص الشواهد 292، وخزانة الأدب 4/ 152، وشرح شواهد الإيضاح 503، ولسان العرب (عكم) ، و (لسن) ، ونوادر أبي زيد 33، وبلا نسبة في خزانة الأدب 10/ 244. (4) انظر معاني الفراء 2/ 169. (5) انظر معاني الفراء 2/ 169.

[سورة مريم (19) : آية 52]

[سورة مريم (19) : آية 52] وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا نصب على الحال. قال الفراء: نجيّ مثل جليس قال: ونجيّ ونجوى يكونان اسمين ومصدرين. [سورة مريم (19) : آية 53] وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ بدل من الأخ ولم ينصرف لأنه معرفة عجمي، وكذا إدريس عليه السلام. [سورة مريم (19) : آية 58] أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) خَرُّوا سُجَّداً على الحال. وَبُكِيًّا عطف عليه وقيل هو مصدر أي وبكوا بكيا. ويقال: بكى يبكي بكاء وبكي وبكيّا إلّا أن الخليل رحمه الله قال: إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن أي ليس معه صوت. قال: [الوافر] 287- بكت عيني وحقّ لها بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويل «1» [سورة مريم (19) : آية 59] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا الغيّ في اللغة الخيبة. قال أبو جعفر: وقد ذكرناه. [سورة مريم (19) : آية 60] إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) إِلَّا مَنْ تابَ في موضع نصب على الاستثناء. قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون المعنى لكن من تاب. فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً. [سورة مريم (19) : آية 61] جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) جَنَّاتِ عَدْنٍ على البدل. قال أبو إسحاق: ويجوز جنّات عدن» على الابتداء. قال أبو حاتم: ولولا الخطّ لجاز جنّة عدن، لأن قبله يدخلون الجنة. إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا قال الكسائي: أي يؤتى إليه ويصار، وزعم القتبيّ «2» : أنّ مأتيا بمعنى آت ومائتي مهموز لأنه من أتى يأتي ومن خفّف الهمزة جعلها ألفا.

_ (1) الشاهد لحسان بن ثابت في جمهرة اللغة 1027، وليس في ديوانه، ولعبد الله بن رواحة في ديوانه ص 98، وتاج العروس (بكى) ، ولكعب بن مالك في ديوانه ص 252، ولسان العرب (بكا) ، ولحسان أو لكعب أو لعبد الله في شرح شواهد الشافية ص 66، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص 304، ومجالس ثعلب 109، والمنصف 3/ 40. [.....] (2) القتبيّ: هو ابن قتيبة، انظر تفسير غريب القرآن لابن قتيبة 274.

[سورة مريم (19) : آية 62]

[سورة مريم (19) : آية 62] لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً قال الأخفش سعيد: وهذا على الاستثناء الذي ليس من الأول، قال: وإن شئت كان بدلا أي لا يسمعون إلا سلاما. وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا ظرفان. قال أبو إسحاق: أي يقسم لهم في هذين الوقتين ما يحتاجون إليه في كلّ ساعة. قال الأخفش: أي على مقادير الغداة والعشيّ مما في الدنيا لأنه ليس هناك ليل ولا نهار إنما هو نور العرش. [سورة مريم (19) : آية 64] وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) قال الأخفش: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا أي قبل أن نخلق وَما خَلْفَنا ما يكون بعد الموت. وَما بَيْنَ ذلِكَ مذ خلقنا. [سورة مريم (19) : آية 65] رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ الأصل اصتبر فثقل الجمع بين التاء والصاد لاختلافهما فأبدل من التاء طاء، كما تقول من الصوم: اصطام. [سورة مريم (19) : آية 67] أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) قرأ أهل الكوفة إلا عاصما وأهل مكة وأبو عمرو وأبو جعفر أولا يذكر الإنسان «1» وقرأ شعبة ونافع وعاصم أَوَلا يَذْكُرُ بالتخفيف، وفي حرف أبيّ أولا يتذكّر وهذه القراءة على التفسير لأنها مخالفة لخطّ المصحف لأن الأصل في يذّكّر يتذكر فأدغمت التاء في الذال. ومعنى يتذكّر: يتفكّر، ومعنى يذكر يتنبّه ويعلم. [سورة مريم (19) : آية 68] فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ عطف على الهاء والميم والشياطين الذين أغووهم ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا «2» نصب على الحال. والأصل جثوّ أبدل من الواو ياء لأنها ظرف، والجمع بابه التغيير. ومن قال: جثيّ أتبع الكسرة الكسرة. [سورة مريم (19) : آية 69] ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) وهذه آية مشكلة في الإعراب لأن القراء كلّهم يقرءون أَيُّهُمْ بالرفع إلّا

_ (1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 410، والبحر المحيط 6/ 195، وهذه قراءة أبي بحرية والحسن وشيبة وابن أبي ليلى وابن مناذر وأبي حاتم. (2) انظر تيسير الداني 121.

هارون القارئ، فإن سيبويه حكى عنه ثمّ لننزعنّ من كلّ شيعة أيّهم «1» بالنصب أوقع على أيّهم لننزعنّ. قال أبو إسحاق: في رفع «أيّهم» ثلاثة أقوال: قال الخليل بن أحمد- حكاه عنه سيبويه «2» - إنه مرفوع على الحكاية، والمعنى عنده: ثم لننزعنّ من كلّ شيعة الذي يقال من أجل عتوّه أيّهم أشدّ على الرحمن عتيّا، وأنشد الخليل: [الكامل] 288- ولقد أبيت من الفتاة بمنزل ... فأبيت لا حرج ولا محروم «3» أي فأبيت بمنزلة الذي يقال له: لا هو حرج ولا محروم. قال أبو جعفر: ورأيت أبا إسحاق يختار هذا القول ويستحسنه، قال: لأنه بمعنى قول أهل التفسير، وزعم أن معنى «ثم لننزعنّ من كلّ شيعة» ثم لننزعنّ من كلّ فرقة الأعتى فالأعتى، كأنه يبدأ بالتعذيب بأشدهم عتيا ثمّ الذي يليه. وهذا نص كلام أبي إسحاق في معنى الآية. وقال يونس: لننزعن بمنزلة الأفعال التي تلغى فرفع «أيّهم» بالابتداء. وقال سيبويه «4» : «أيّهم» مبني على الضم لأنها خالفت أخواتها في الحذف لأنك لو قلت: رأيت الذي أفضل منك، ومن أفضل، كان قبيحا حتى تقول: من هو أفضل، والحذف في أيّهم جائز. قال أبو جعفر: وما علمت أن أحدا من النحويين إلّا وقد خطّأ سيبويه في هذا. سمعت أبا إسحاق يقول: ما يبين لي أنّ سيبويه غلط في كتابه إلّا في موضعين هذا أحدهما، قال: وقد علمنا سيبويه أنه أعرب «أيّا» وهي منفردة لأنها تضاف فكيف يبنيها وهي مضافة؟ ولم يذكر أبو إسحاق فيما علمت إلا هذه الثلاثة الأقوال. قال أبو جعفر: وفيه أربعة أقوال سوى هذه الثلاثة الأقوال التي ذكرها أبو إسحاق، قال الكسائي: لننزعنّ واقعة على المعنى كما تقول: لبست من الثياب، وأكلت من الطعام، ولم يقع لننزعن على أيّهم فينصبها. وقال الفراء: المعنى ثم لننزعن بالنداء. ومعنى لننزعن لننادين إذا كان معناه لننزعن بالنداء. قال أبو جعفر: وحكى أبو بكر بن شقير أنّ بعض الكوفيين يقول: في أيّهم معنى الشرط والمجازاة، فلذلك لم يعمل فيها ما قبلها، والمعنى ثم لننزعن من كلّ فرقة إن تشايعوا أو لم يتشايعوا كما تقول: ضربت القوم أيّهم غضب، والمعنى: إن غضبوا أو لم يغضبوا، فهذه ستة أقوال، وسمعت علي بن سليمان يحكي عن محمد بن يزيد قال: أيّهم متعلّق بشيعة فهو مرفوع لهذا، والمعنى: ثم لننزعن من الذين تشايعوا

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 196، ومختصر ابن خالويه 86. (2) انظر الكتاب 2/ 420. (3) الشاهد للأخطل في ديوانه 616، والكتاب 2/ 81، وتذكرة النحاة 447، وخزانة الأدب 3/ 254، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 488، وشرح المفصّل 3/ 146، ولسان العرب (ضمر) ، وبلا نسبة في الإنصاف 1/ 710، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 80، وشرح المفصّل 7/ 87. (4) انظر الكتاب 2/ 420.

[سورة مريم (19) : الآيات 71 إلى 72]

أيهم، أي من الذين تعاونوا فنظروا أيّهم أشدّ على الرحمن عتيا. وهذا قول حسن. وقد حكى الكسائي: إنّ التشايع التعاون، «عتيا» على البيان. [سورة مريم (19) : الآيات 71 الى 72] وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قد ذكرنا فيه أقوالا: قال خالد بن معدان: إذا دخل أهل الجنة قالوا: يا ربنا إنك وعدتنا أن نرد النار، فيقال لهم: إنكم وردتموها وهي خامدة. قال أبو جعفر: ومن أحسن ما قيل فيه، أعني في الآية- أن المعنى: وإن منكم إلّا وارد القيامة لأن الله جلّ وعزّ قال في المؤمنين: لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها [الأنبياء: 108] ، وقال جلّ ثناؤه: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [المائدة: 69 والأنعام: 48] ودلّ على أنّ المضمر للقيامة فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ فالحشر إنما هو في القيامة ثم قال جلّ وعزّ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا واسم كان فيها مضمر أي كان ورودها. فأما وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا فالإضمار للنار لأنها في القيامة فكنى عنها لمّا كانت فيها. وهذا من كلام العرب الفصيح الكثير. وقرأ عاصم الجحدري ومعاوية بن قرة ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا «1» بفتح الثاء، وقرأ ابن أبي ليلى ثمة «2» : «ثم» ظرف إلّا أنه مبني لأنه غير محصّل فبني كما بني «ذا» والهاء يجوز أن تكون لبيان الحركة فتحذف لأن الحركة في الوصل بيّنة، ويجوز أن تكون لتأنيث البقعة فتثبت في الوصل تاءا. [سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 74] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) خَيْرٌ مَقاماً منصوب على البيان، وكذا نَدِيًّا وكذا أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً فيه خمس قراءات «3» : قرأ أهل المدينة وريّا بغير همز، وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو وَرِءْياً بالهمز، وحكى يعقوب أنّ طلحة قرأ وريا بياء واحدة مخفّفة وروى سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس هم أحسن أثاثا وزيّا بالزاي فهذه أربع قراءات، قال أبو إسحاق ويجوز هم أحسن أثاثا وريئا بياء بعدها همزة. قال أبو جعفر: قراءة أهل المدينة في هذا حسنة، وفيها تقديران: أحدهما أن يكون «من رأيت» ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء. وكذا هذا حسنا لتتّفق رؤوس الآيات

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 198. (2) انظر البحر المحيط 6/ 198. (3) انظر البحر المحيط 6/ 198، وكتاب السبعة لابن مجاهد 411، ومعاني الفراء 2/ 171، والمحتسب 2/ 43.

[سورة مريم (19) : آية 75]

لأنها غير مهموزات وعلى هذا قال ابن عباس: الريّ المنظر. والمعنى: هم أحسن أثاثا ولباسا، والوجه الثاني أن يكون المعنى أنّ جلودهم مرتوية من النعمة فلا يجوز الهمز لأنه مصدر من رويت ريّا، وفي رواية ورش: وريّا، ومن رواه عنه ورئيا بالهمز فهو يكون على الوجه الأول. وقراءة أهل الكوفة وأبي عمرو من رأيت على الأصل وقراءة طلحة بن مصرف وريا بياء واحدة مخفّفة أحسبها غلطا، وقد زعم بعض النحويين أنه كان أصلها ورئيا ثم حذفت الهمزة والزيّ الهيأة: والقراءة الخامسة على قلب الهمزة. حكى سيبويه راء بمعنى رأى. [سورة مريم (19) : آية 75] قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا قيل: المعنى: فليعش ما شاء فإنّ مصيره إلى الموت والعذاب. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ. قال أبو إسحاق: هذا على البدل من «ما» والمعنى: حتّى إذا رأوا العذاب أو الساعة. [سورة مريم (19) : آية 78] أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ألف الاستفهام وفيه معنى التوبيخ، وحذفت ألف الوصل لأنه قد استغني عنها. [سورة مريم (19) : آية 80] وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَيَأْتِينا فَرْداً على الحال. [سورة مريم (19) : آية 87] لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) فيه تقديران: أحدهما أن يكون «من» في موضع رفع البدل من الواو أي لا يملك الشفاعة إلا من اتّخذ، والتقدير الآخر: أي يكون من في موضع نصب استثناء ليس من الأول. والمعنى: لكن من اتّخذ عند الرحمن عهدا بأنّه يشفع له، والمعنى عند الفراء «1» لا يملكون الشفاعة إلا لمن اتّخذ عند الرحمن عهدا، ليس أنّ اللام مضمرة ولكن المعنى عنده على هذا. [سورة مريم (19) : آية 88] وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم وَلَداً بفتح الواو واللام، وقرأ سائر

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 172.

[سورة مريم (19) : آية 89]

الكوفيين ولدا بضم الواو وإسكان اللام. وفرّق أبو عبيد بينهما: فزعم أن الولد يكون للأهل والولد جميعا. قال أبو جعفر: وهذا قول مردود عليه لا يعرفه أحد من أهل اللغة، ولا يكون الولد والولد إلّا لولد الرجل وولد ولده إلّا أن ولدا أكثر في كلام العرب، كما قال النابغة: [البسيط] 289- مهلا فداء لك الأقوام كلّهم ... وما أثمّر من مال ومن ولد «1» قال أبو جعفر: وسمعت محمد بن الوليد يقول: يجوز أن يكون ولد جمع ولد، كما يقال: وثن ووثن وأسد وأسد، ويجوز أن يكون ولد وولد جمعا بمعنى واحد، كما يقال: عجمّ وعجم وعرب وعرب. [سورة مريم (19) : آية 89] لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) وقرأ أبو عبد الرحمن بفتح الهمزة، ويجوز شيئا أادّا كما تقول: رادّا، يقال أدّ يؤدّ أدّا فهو أادّ، والاسم الأدّ إذا جاء بشيء عظيم منكر. [سورة مريم (19) : آية 90] تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) تَكادُ السَّماواتُ على تأنيث الجماعة ويكاد على تذكير الجمع ينفطرن «2» بالياء والنون قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة، وقرأ الأعمش والحسن ونافع والكسائي يَتَفَطَّرْنَ «3» بالياء والتاء والأولى اختيار أبي عبيد، واحتجّ بقوله جلّ وعزّ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1] ولم يقل: تفطّرت. قال أبو جعفر: يتفطّرن بالياء والتاء في هذا الموضع أولى لأن فيه معنى التكثير فهو أولى لأنهم كفروا فكادت السموات تتشقّق فتسقط عليهم عقوبة بما فعلوه. وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا مصدر لأن معنى تخرّ تهدّ. [سورة مريم (19) : آية 91] أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) أَنْ في موضع نصب عند الفراء «4» بمعنى لأن دعوا ومن أن دعوا وزعم الفراء أن الكسائي قال: هي في موضع خفض. [سورة مريم (19) : آية 92] وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) لأن الله جلّ وعزّ لا يشبهه شيء، وولد الرجل يشبهه.

_ (1) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 26، والأشباه والنظائر 7/ 90، وخزانة الأدب 6/ 181، ولسان العرب (فدي) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب 6/ 237، وشرح المفصّل 4/ 73. (2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 412. والبحر المحيط 6/ 205. (3) انظر البحر المحيط 6/ 205. [.....] (4) انظر معاني الفراء 2/ 173.

[سورة مريم (19) : آية 93]

[سورة مريم (19) : آية 93] إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) «آتِي» بالياء في الخط والأصل التنوين فحذف تخفيفا وأضيف. [سورة مريم (19) : آية 95] وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ على لفظ كلّ، وعلى المعنى آتوه. [سورة مريم (19) : الآيات 96 الى 97] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي في قلوب المؤمنين. ولدّ جمع ألدّ، مثل أصمّ وصمّ. [سورة مريم (19) : آية 98] وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ في موضع نصب أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي قد ماتوا وحصلوا على أعمالهم.

20 شرح إعراب سورة طه

20 شرح إعراب سورة طه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة طه (20) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه (1) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو بغير إمالة «1» ، وقراءة الكوفيين بالإمالة إلا عاصما فإنه روي عنه اختلاف. قال أبو جعفر: لا وجه للإمالة في هذا عند أكثر أهل العربية لعلتين: إحداهما أنه ليس هاهنا ياء ولا كسرة فتكون الإمالة، والعلة الأخرى أن الطاء من الحروف الموانع للإمالة فهاتان علتان بينتان. وقد اختار بعض النحويين الإمالة، فقال أبو إسحاق إبراهيم بن السري: من كسر «طه» أمال إلى الكسر لأن المقصور الأغلب عليه الكسر إلى الإمالة، قال أبو جعفر: وهذا ليس بحجّة، ولا يجوز في كثير من المقصور الإمالة ولكن زعم سيبويه «2» أن الإمالة تجوز في حروف المعجم فيقال: با تا ثا لأنها أسماء فيفرق بينها وبين الحروف نحو «لا» فإنها لا تمال لأنها حرف. قال أبو إسحاق: من قرأ طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «3» فالأصل عنده طأ، أي طإ الأرض بقدميك جميعا في الصلاة. فأبدل من الهمزة هاء، كما يقال: إيّاك وهيّاك وأرقت الماء وهرقت الماء. قال: ويجوز أن يكون على البدل الهمز فيكون الأصل: ط يا هذا، ثم جاء بالهاء لبيان الحركة في الوقف. [سورة طه (20) : آية 2] ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) بعض النحويين يقول هذه لام النفي، وبعضهم يقول لام الجحود. قال أبو جعفر: وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول في مثلها: إنها لام الخفض. والمعنى عنده: ما أنزلنا عليك القرآن للشقاء. والشقاء يمدّ ويقصر، وهو من ذوات الواو. [سورة طه (20) : آية 3] إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) قال أبو إسحاق: هو بدل من يشقى أي ما أنزلناه إلّا تذكرة. قال أبو جعفر: وهذا

_ (1) انظر تيسير الداني 122. (2) انظر الكتاب 4/ 248. (3) انظر مختصر ابن خالويه 87.

[سورة طه (20) : آية 4]

وجه بعيد، والقريب أنه منصوب على المصدر أو مفعول من أجله. [سورة طه (20) : آية 4] تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) تَنْزِيلًا مصدر. مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى ولا يجوز عند الخليل وسيبويه أن يأتي مثل هذا إلّا بالألف واللام، وهو قول الكوفيين، وقال: محال: سقطت له ثنيّتان علييان لا سفليان، لأنه إنما يراد به المعرفة فإن أردت النكرة، وتفضيل شيء على شيء جئت بمن فقلت: سقطت له ثنية أعلى من كذا. [سورة طه (20) : آية 5] الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) ويجوز النصب على المدح. قال أبو إسحاق: ويجوز الخفض على البدل من من، وقال سعيد بن مسعدة: الرفع بمعنى هو الرحمن. قال أبو جعفر: ويجوز الرفع بالابتداء وعلى البدل من المضمر الذي في خلق. [سورة طه (20) : آية 6] لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) لَهُ ما فِي السَّماواتِ في موضع رفع بالابتداء وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى عطف عليه. [سورة طه (20) : آية 7] وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ مجزوم بالشرط، والجواب فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى أي وأخفى منه. [سورة طه (20) : آية 8] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مرفوع على البدل مما في «يعلم» ، أو على إضمار مبتدأ، أو بالابتداء. لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى رفع بالابتداء الْحُسْنى من نعتها. [سورة طه (20) : آية 10] إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) قرأ حمزة فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا «1» وكذا في القصص «2» . قال أبو جعفر: وهذا على لغة من قال: مررت بهو يا هذا، فجاء به على الأصل، وهو جائز إلّا أن حمزة خالف أصله في هذين الموضعين خاصة. [سورة طه (20) : آية 11] فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) لأن معنى نودي: قيل له. قرأ الحسن وأبو جعفر وأبو عمرو نودي يا موسى

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 215، وكتاب السبعة لابن مجاهد 417، وقراءة حمزة وطلحة ونافع بضمّ الهاء. (2) القصص: 29.

[سورة طه (20) : آية 12]

أنّي «1» بفتح الهمزة بمعنى نودي «بأنّي» و «أنّ» في موضع نصب، ومن كسر فالمعنى عنده: قال إني. [سورة طه (20) : آية 12] إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وقرأ أهل المدينة وأهل البصرة بالواد المقدّس طوى «2» بغير تنوين، وقرأ أهل الكوفة طُوىً بالتنوين. قال أبو جعفر: الوجه ترك التنوين لأنه مثل «عمر» معدول، وهو معرفة، ويجوز أن يكون اسما للبقعة فلا ينصرف أيضا، ومن نوّن فزعم أبو إسحاق أنه يقدّره اسما للمكان غير معدول، مثل حطم وصرد. قال: ومن قال: طوى فصرف جعله كضلع، ومعى على أنه اسم للمكان، ويجوز ترك صرفه على أنه اسم للبقعة. قال أبو جعفر: من جعل طوى بمعنى ثنى نوّن لا غير، يأخذه من ثنيت الشيء ثنى أي قدّس مرّتين. وفي الحديث «لا ثنى في الصّدقة» «3» أي لا تثنى فتؤخذ مرّتين. [سورة طه (20) : آية 13] وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم والكسائي وَأَنَا اخْتَرْتُكَ وقرأ سائر الكوفيين وإنّا اخترناك «4» والمعنى واحد إلّا أن «وأنا اخترتك» هاهنا أولى من جهتين: إحداهما أنه أشبه بالخطّ، والثانية أنه أولى بنسق الكلام لقوله جلّ وعزّ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ وعلى هذا النسق جرت المخاطبة. [سورة طه (20) : آية 14] إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي قال أبو إسحاق: فيه قولان يكون المعنى: أقم الصلاة لأن تذكرني فيها لأن الصلاة لا تكون إلّا بذكر، والقول الآخر: أقم الصلاة متى ذكرتها كان ذلك في وقت صلاة. قال أبو جعفر: وفيها قول ثالث يكون المعنى: أقم الصّلاة لأن أذكرك بالمدح. وقرأ أبو عبد الرحمن وأبو رجاء والشعبي أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «5» وفي هذه القراءة وجهان: أحدهما أن تكون هذه ألف التأنيث، والوجه الآخر أن تكون هذه الألف أبدلت من الياء، كما يقال: يا غلاما أقبل، وفعل ذلك لتتّفق رؤوس الآيات. [سورة طه (20) : آية 15] إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها آية مشكلة. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا شيئا مما قيل فيها. وعن سعيد بن جبير روايتان: إحداهما ما حدّثناه الحسن بن الفرج بغزّة قال:

_ (1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 417. (2) انظر البحر المحيط 6/ 217. (3) أخرجه الترمذي في سننه- الزكاة 3/ 174. (4) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 417. (5) انظر البحر المحيط 6/ 35، ومعاني الفراء 2/ 176، ومختصر ابن خالويه 87.

[سورة طه (20) : آية 16]

حدّثنا يوسف بن عديّ قال: حدّثنا محمد بن سهل الكوفي عن ورقاء وهو ابن إياس عن سعيد بن جبير أنه قرأ أَكادُ أُخْفِيها «1» بفتح الهمزة قال: أظهرها وليس لهذه الرواية طريق غير هذا، وقد رواها أبو عبيد عن الكسائي عن محمد بن سهل هذا. وأجود من هذا الإسناد ما رواه يحيى القطّان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير أنه قرأ أَكادُ أُخْفِيها «2» بضم الهمزة. قال أبو جعفر: يقال: خفى الشيء يخفيه إذا أظهره، وقد حكي أنه يقال: أخفاه إذا أظهره، وليس بالمعروف. قال أبو جعفر: ورأيت علي ابن سليمان لما أشكل عليه معنى أخفيها عدل إلى هذا القول، وقد قال معناه كمعنى أخفيها أي أظهرها. قال أبو جعفر: ليس المعنى على أظهرها ولا سيّما وأخفيها قراءة شاذة. فكيف نردّ القراءة الصحيحة الشائعة إلى الشاذة؟ ومعنى الضم أولى ويكون التقدير أنّ الساعة آتية أكاد آتي بها، ودلّ آتيه على آتي بها ثم قال جلّ وعزّ: أُخْفِيها على الابتداء. وهذا معنى صحيح لأن الله جلّ وعزّ قد أخفى الساعة التي هي يوم القيامة: والساعة التي يموت فيها الإنسان ليكون الإنسان يعمل، والأمر عنده مبهم ولا يؤخّر التوبة. وقيل: المعنى: أكاد أخفيها أي أقارب ذلك لأنك إذا قلت: كاد زيد يقوم، يجوز أن يكون قام، وأن يكون لم يقم، ودل على أنه قد أخفاها بدلالة غير هذه على هذا الجواب، وقيل: إن المعنى أنّ الساعة آتية لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى وقيل: المعنى أقم الصلاة لذكري لتجزى كلّ نفس بما تسعى. [سورة طه (20) : آية 16] فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها أي عن الإيمان بها، وبما فيها، مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ أي في الكفر بها فَتَرْدى من ردي يردى إذا هلك. [سورة طه (20) : الآيات 17 الى 18] وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) وَما تِلْكَ ابتداء وخبر، وفيه معنى التنبيه. وزعم الفراء أن تلك هاهنا اسم ناقص وصلته: بيمينك. قال أبو جعفر: ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول ويقول به، والمعنى عندهما: وما التي بيمينك. وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت أبا العباس ينكر هذا القول، ويقول: لا يجوز أن توصل الأسماء المبهمة. ويقال: أَهُشُّ و «أهشّ» .

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 176. (2) انظر البحر المحيط 6/ 219.

[سورة طه (20) : آية 20]

[سورة طه (20) : آية 20] فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ ابتداء وخبر، ويجوز النصب، يقال: خرجت فإذا زيد جالس، وجالسا، على الحال. قال أبو جعفر: وقد شرحناه فيما تقدم. والوقف حيه بالهاء. [سورة طه (20) : آية 21] قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى قال أبو جعفر: سمعت علي بن سليمان يقول: التقدير إلى سيرتها، مثل وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: 155] قال: ويجوز أن يكون مصدرا لأن معنى سنعيدها سنسيرها. [سورة طه (20) : آية 22] وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ ويجوز في غير القرآن ضمّ بفتح الميم وكسرها وضمّها لالتقاء الساكنين، والفتح أجود لخفته، والكسر على الأصل، والضم اتباع. فإن جئت بالألف واللام كان الكسر أجود، فإن جئت بمضمر غائب كان الضمّ أكثر وإظهار التضعيف، لأن الثاني قد سكن. ويد أصلها يدي على فعل. يدلّ على ذلك أيد، وتصغيرها يديّة لأنها مؤنّثة. تَخْرُجْ بَيْضاءَ نصب على الحال، ولم تنصرف لأن فيها ألفي التأنيث لا يزايلانها فكأن لزومها علّة ثانية فلم تنصرف في النكرة وخالفتها الهاء لأن الهاء تفارق الاسم آيَةً أُخْرى قال الأخفش: على البدل من بيضاء: وهو قول حسن لأن المعنى في بيضاء: مبيّنة. قال أبو إسحاق: المعنى آتيناك آية أخرى، أو نؤتيك آية لأنه لما قال: تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ دلّ على أنه قد آتاه آية أخرى. قال: ويجوز آية بالرفع بمعنى: هذه آية. [سورة طه (20) : آية 24] اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) أي تجاوز في الكفر. [سورة طه (20) : آية 25] قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) أي وسّعه وسهّل عليّ أداء ما أمرتني به. [سورة طه (20) : آية 27] وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) ولم يقل: احلل كلما بلساني، فلذلك قال فرعون: ولا يكاد يبين. [سورة طه (20) : آية 28] يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) مجزوم لأنه جواب الطلب. [سورة طه (20) : الآيات 29 الى 30] وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) يكون على التقديم والتأخير، ويكونان مفعولين، والأخ نعت، والتقدير واجعل

[سورة طه (20) : الآيات 31 إلى 32]

هارون أخي وزيرا لي، ويجوز أن يكون هارون بدلا من وزير لأن المعرفة تبدل من النكرة، ويجوز الرفع. [سورة طه (20) : الآيات 31 الى 32] اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) على الدعاء، وعن الحسن وابن أبي إسحاق أنهما قرءا اشْدُدْ «1» بفتح الهمزة وضم الدال الأولى وإسكان الثانية وَأَشْرِكْهُ «2» بضم الهمزة وإسكان الكاف يجعلان الفعلين في موضع جزم جوابا لقوله: اجعل لي وزيرا من أهلي. وهذه القراءة شاذّة بعيدة لأن جواب مثل هذا إنما ينجزم بمعنى الشرط والمجازاة فيكون المعنى: إن تجعل لي وزيرا من أهلي أشدد به أزري وأشركه في أمري. وأمره النبوة والرسالة، وليس هذا إليه صلّى الله عليه وسلّم فيخبر به، وإنما يسأل الله جلّ وعزّ أن يشركه معه في النبوة. وعن ابن عباس «أشدد به أزري» أي قوّني، وعنه أي ظهري. قال أبو جعفر: وهو مشتقّ من الإزار، لأنه يشدّ به. وقد يقال للظهر: أزر لما فيه من القوة. وآزره قواه وليس وزير من هذا، إنّما هو مشتقّ من الوزر، وهو الجبل. [سورة طه (20) : الآيات 33 الى 35] كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً نعت لمصدر أي تسبيحا كثيرا ويجوز أن يكون نعتا لوقت، والإدغام حسن، وكذا وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً مدغم، وكذا إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً لأن الحرفين من كلمتين «بصيرا» أي عليما بما يصلحنا. [سورة طه (20) : آية 39] أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ الضمير للتابوت فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ أمر. قال الفراء «3» : وفيه معنى المجازاة أي اقذفيه يلقه اليم. وكذا عنده اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] . وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أي على علمي بك. والإدغام جائز ليس في حسن الأول لبعد حروف الحلق. [سورة طه (20) : آية 40] إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى في الوقت الذي أراد الله جل وعزّ أن يرسله.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 178، والبحر المحيط 6/ 225. [.....] (2) انظر معاني الفراء 3/ 178. (3) انظر معاني الفراء 2/ 179.

[سورة طه (20) : آية 41]

[سورة طه (20) : آية 41] وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) أي قوّيتك وعلّمتك لتبلغ عبادي أمري ونهيي. [سورة طه (20) : آية 42] اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ عطف على المضمر، وحسن العطف عليه لمّا وكّدته. [سورة طه (20) : آية 43] اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) إِنَّهُ طَغى أي تجاوز في الكفر. [سورة طه (20) : آية 44] فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى قال أبو جعفر: قد ذكرناه «1» . [سورة طه (20) : آية 45] قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قال الضحاك: يفرط يعجل، قال: ويطغى يعتدي. قال أبو جعفر: التقدير: نخاف أن يفرط علينا منه أمر أي يبدر أمر. قال الفراء: يقال فرط منه أمر، قال: وأفرط أسرف، قال: وفرّط ترك. قال أبو إسحاق: أصله كلّه من التقديم. [سورة طه (20) : آية 46] قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى أي أسمع كلامه، وأرى فعله، ولا أخلّي بينه وبينكما. [سورة طه (20) : آية 47] فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى قال أبو إسحاق: أي من اتّبع الهدى سلم من سخط الله جلّ وعزّ وعذابه. قال: وليس بتحية، قال: والدليل على ذلك إنه ليس بابتداء لقاء، ولا خطاب. وروى زائدة عن الأعمش أنه قرأ الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ «2» بفتح اللام. [سورة طه (20) : الآيات 51 الى 52] قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى قال: كيف يحيون ويجارون أي إن هذا بعيد، فأجابه موسى صلّى الله عليه وسلّم بأن الله جلّ وعزّ يعلمهما. قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ وفي معناه قولان: أحدهما أنه تمثيل مجاز، والآخر أنه حقيقة، وأنّ ذلك مكتوب تقرأه الملائكة فتستدلّ

_ (1) ذكر في إعراب الآية 152: الأنعام. (2) انظر مختصر ابن خالويه 87، وهي قراءة أبي نهيك ونصير عن الكسائي أيضا.

[سورة طه (20) : آية 53]

على قدرة الله جلّ وعزّ وعلى عظمته. لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى في معناه ثلاثة أقوال: ذكر أبو إسحاق منها واحدا أنه نعت لكتاب أي لا يضلّه ربي ولا ينساه، والقول الثاني أنه قد تمّ الكلام ثم ابتدأ فقال: لا يضلّ ربي أي لا يهلك من قوله: أإذا ضللنا في الأرض، ولا ينسى شيئا، والقول الثالث أشبهها بالمعنى أخبر الله جلّ وعزّ أنه لا يحتاج إلى كتاب، فالمعنى لا يضلّ عنه علم شيء من الأشياء، ولا معرفتها، ولا ينسى علمه منها. وقرأ الحسن وقتادة وعيسى وعاصم الجحدري فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي «1» أي لا يضيّعه ربّي ولا ينساه. [سورة طه (20) : آية 53] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وقرأ الكوفيون مَهْداً «2» ، ومهادا هاهنا أولى لأن مهدا مصدر وليس هذا موضع مصدر إلّا على حذف: أي ذات مهد. وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا مجاز أي جعل لكم فيها السبل. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً أي من نواحيها. [سورة طه (20) : آية 55] مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) مِنْها خَلَقْناكُمْ أي من الأرض. قال أبو إسحاق: لأن آدم صلّى الله عليه وسلّم خلق من الأرض، وقال غير أبي إسحاق: النطفة مخلوقة من التراب. يدلّ على هذا ظاهر القرآن. [سورة طه (20) : آية 56] وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها المعنى: ولقد أرينا فرعون آياتنا التي أعطينا لموسى صلّى الله عليه وسلّم كلها. والفائدة في هذا أن فرعون رأى الآيات كلّها عيانا لا خبرا فَكَذَّبَ وَأَبى أن يؤمن. [سورة طه (20) : آية 58] فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً. وقرأ الكوفيون سُوىً بضم السين، والكسر أشهر وأعرف «3» . قيل: معناه سوى ذلك المكان. وأهل التفسير على أن معنى سوى نصف وعدل، وهو قول حسن، وأصله من قولك: جلس في سواء الدار، أي في وسطها وفي سواها. ووسط كلّ شيء

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 233، ومختصر ابن خالويه 87. (2) انظر البحر المحيط 6/ 234، وكتاب السبعة لابن مجاهد 418. (3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 418، والبحر المحيط 6/ 236.

[سورة طه (20) : آية 59]

أعدله. وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] أي عدلا. قال زهير: [الوافر] 290- أرونا خطّة لا ضيم فيها ... يسوّى بيننا فيها السّواء «1» [سورة طه (20) : آية 59] قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ مبتدأ وخبره. قال أبو إسحاق: المعنى وقت موعدكم يوم الزينة. وقرأ الحسن مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ «2» على الظرف. قال أبو إسحاق: أي يقع يوم الزينة وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (أن) في موضع رفع، يعني على قراءة من قرأ «يوم الزينة» ظرف وأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ بمعنى المصدر، فلا يعطف أحدهما على صاحبه إلا على حذف بمعنى ويوم أن يحشر الناس، وأولى من هذا أن تكون «أن» في موضع خفض عطفا على الزينة، والضُّحى مؤنثة تصغّرها العرب بغير هاء لئلّا يشبه تصغيرها تصغير ضحوة. [سورة طه (20) : آية 61] قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ بمعنى المصدر. قال أبو إسحاق: أي الزمهم الله جلّ وعزّ ويلا، قال: ويجوز أن يكون نداء مضافا. فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ «3» جواب النهي، وقرأ الكوفيون: فَيُسْحِتَكُمْ والأولى لغة أهل الحجاز، وهذه لغة بني تميم، قال الفرزدق: [الطويل] 291- وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلّا مسحتا أو مجلّف «4» ومعنى لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً لا تقولوا: إنّ الذي أجيء به من البراهين سحر وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى أي خاب من الرحمة والثواب. [سورة طه (20) : الآيات 62 الى 63] فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ فيه ست قراءات «5» قرأ المدنيون والكوفيون إنّ هذان

_ (1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 84، ولسان العرب (سوا) ، والمخصص 12/ 60، وتهذيب اللغة 13/ 126، وتاج العروس (سوا) . (2) انظر البحر المحيط 6/ 237. (3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 419. (4) مرّ الشاهد رقم (432) . (5) انظر القراآت في كتاب السبعة لابن مجاهد 419، والبحر المحيط 6/ 238، ومعاني الفراء 2/ 183.

لساحران وقرأ أبو عمرو إنّ هذين لساحران وهذه القراءة مروية عن الحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعيسى بن عمر وعاصم الجحدري، وقرأ الزهري وإسماعيل بن قسطنطين والخليل بن أحمد وعاصم في إحدى الروايتين إِنْ هذانِ لَساحِرانِ بتخفيف إن. فهذه ثلاث قراءات، قد رواها الجماعة عن الأئمة. وروي عن عبد الله بن مسعود إن هذان إلّا ساحران وقال الكسائي: في قراءة عبد الله إن هذان ساحران بغير لام، وقال الفراء «1» : في حرف أبيّ إن ذان إلّا ساحران فهذه ثلاث قراءات أخرى، تحمل على التفسير، إلا أنها جائز أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف. قال أبو جعفر: القراءة الأولى للعلماء فيها ستة أقوال: منها أن يكون إنّ بمعنى نعم، كما حكى الكسائي عن عاصم قال العرب: تأتي بإنّ بمعنى نعم، وحكى سيبويه: أنّ «إنّ» تأتي بمعنى أجل. وإلى هذا القول كان محمد بن يزيد وإسماعيل بن إسحاق يذهبان. قال أبو جعفر: ورأيت أبا إسحاق وأبا الحسن علي بن سليمان يذهبان إليه. وحدّثنا علي بن سليمان قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن عبد السّلام النيسابوري، ثمّ لقيت عبد الله بن أحمد هذا فحدّثني قال: حدّثنا عمير بن المتوكل قال: حدّثنا محمد بن موسى النوفلي من ولد حارث بن عبد المطلب قال: حدّثنا عمرو بن جميع الكوفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي وهو علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال: لا أحصي كم سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على منبره يقول: «إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ثم يقول: أنا أفصح قريش كلّها وأفصحها بعدي أبان بن سعيد بن العاص» «2» قال أبو محمد: قال عمير: إعرابه عند أهل العربية في النحو إنّ الحمد لله بالنصب إلّا أن العرب تجعل «إنّ» في معنى نعم كأنه أراد: نعم الحمد لله، وذلك أن خطباء الجاهلية كانت تفتتح في خطبتها بنعم، وقال الشاعر في معنى نعم: [الكامل] 292- قالوا: غدرت فقلت إنّ وربّما ... نال العلى وشفى الغليل الغادر «3» وقال ابن قيس الرقيات «4» : [مجزوء الكامل] 293- بكر العواذل في الصّبوح ... يلمنني وألومهنّه ويقلن شيب قد علاك ... وقد كبرت، فقلت: إنّه فعلى هذا جائز أن يكون قول الله عزّ وجلّ: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ بمعنى نعم.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 184، والبحر المحيط 6/ 238. (2) انظر تفسير الطبري 11/ 218. [.....] (3) الشاهد بلا نسبة في تذكرة النحاة 732، وجواهر الأدب 348، وشرح المفصل 3/ 130. (4) البيتان في ديوانه ص 66، وخزانة الأدب 11/ 213، وشرح أبيات سيبويه 2/ 375، وشرح شواهد المغني 1/ 126، ولسان العرب (أنن) ، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 172، وأمالي ابن الحاجب ص 354، وجمهرة اللغة ص 61، والجنى الداني 399، وجواهر الأدب 348، ورصف المباني 119، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 492 وشرح المفصل 8/ 6، ولسان العرب (بيد) .

قال أبو جعفر: أنشدني داود بن الهيثم قال: أنشدني ثعلب: [الخفيف] 294- ليت شعري هل للمحبّ شفاء ... من جوى حبّهنّ إنّ اللّقاء «1» أي: نعم، فهذا قول. وقال أبو زيد والكسائي والأخفش والفراء: هذا على لغة بني الحارث بن كعب. قال الفراء: يقولون: رأيت الزّيدان، ومررت بالزّيدان وأنشد: [الطويل] 295- فأطرق إطراق الشّجاع ولو يرى ... مساغا لناباه الشّجاع لصمّما «2» وحكى أبو الخطاب أنّ هذه لغة بني كنانة، وللفراء قول آخر قال: وجدت الألف دعامة ليست بلام الفعل فزدت عليها نونا ولم أغيرها، كما قلت: الذي، ثم زدت عليها نونا فقلت: جاءني الذين عندك، ورأيت الذين عندك. قال أبو جعفر: وقيل: شبّهت الألف في قولك: هذان بالألف في يفعلان، فلم تغير. قال أبو إسحاق: النحويون القدماء يقولون: الهاء هاهنا مضمرة، والمعنى: إنّه هذان لساحران. فهذه خمسة أقوال، قال أبو جعفر: وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية فقال: إن شئت أجبتك بجواب النحويين، وإن شئت أجبتك بقولي فقلت: بقولك، فقال: سألني إسماعيل بن إسحاق عنها فقلت: القول عندي أنه لما كان يقال: هذا في موضع الرفع والنصب والخفض على حال واحدة، وكانت التثنية يجب أن لا يغيّر لها الواحد أجريت التثنية مجرى الواحد، فقال: ما أحسن هذا لو تقدّمك بالقول به حتى يؤنس به، فقلت: فيقول القاضي «به» حتى يؤنس به فتبسّم. قال أبو جعفر: القول الأول أحسن إلّا أنّ فيه شيئا لأنه إنما قال: إنما يقال: نعم زيد خارج، ولا يكاد يقع اللام هاهنا، وإن كان النحويون قد تكلّموا في ذلك فقالوا: اللّام ينوى بها التقديم. وقال أبو إسحاق: المعنى إنّ هذان لهما ساحران، ثمّ حذف المبتدأ كما قال: [الرجز] 296- أمّ الحليس لعجوز شهربه «3» والقول الثاني من أحسن ما حملت عليه الآية إذ كانت هذه اللّغة معروفة، وقد

_ (1) لم أجده في المراجع اللغوية. (2) الشاهد للمتلمّس في ديوانه 34، والحيوان 4/ 263، وخزانة الأدب 7/ 487، والمؤتلف والمختلف ص 71، وبلا نسبة في جمهرة اللغة 757، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 704، وشرح الأشموني 1/ 34، وشرح المفصّل 3/ 128. (3) الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه ص 170، وشرح التصريح 1/ 174، وشرح المفصّل 3/ 130، وله أو لعنترة بن عروس في خزانة الأدب 10/ 323، والدرر 2/ 187، وشرح شواهد المغني 2/ 604، والمقاصد النحوية 1/ 535، وبلا نسبة في لسان العرب (شهرب) ، وجمهرة اللغة ص 1121، وتاج العروس (شهرب) و (لوم) ، وأوضح المسالك 1/ 210، وتخليص الشواهد 358، والجنى الداني ص 128، ورصف المباني 336، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 378، وشرح الأشموني 1/ 141، وشرح ابن عقيل ص 185، وشرح المفصل 7/ 57، ومغني اللبيب 1/ 230، وهمع الهوامع 1/ 140.

[سورة طه (20) : آية 64]

حكاها من يرتضى علمه وصدقه وأمانته، منهم أبو زيد الأنصاري، وهو الذي يقول إذا قال سيبويه: حدّثني من أثق به فإنما يعنيني. وأبو الخطاب الأخفش، وهو رئيس من رؤساء أهل اللغة، روى عنه سيبويه وغيره. ومن بين ما في هذا قول سيبويه: واعلم أنّك إذا ثنّيت الواحد زدت عليه زائدتين، الأولى منهما حرف مدّ ولين، وهو حرف الإعراب. قال أبو جعفر: فقول سيبويه: وهو حرف الإعراب، يوجب أنّ الأصل أن لا يتغير إنّ هذان، جاء على أصله ليعلم ذلك وقد قال الله جلّ وعزّ: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ [المجادلة: 19] ولم يقل: استحاذ، فجاء على هذا ليدل على الأصل إذ كان الأئمة قد رووها وتبيّن أنها الأصل، وهذا بيّن جدا. وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى تأنيث أمثل، كما يقال: الأفضل والفضلى، وأنّثت الطريقة على اللفظ، وإن كان يراد بها الرجال، ويجوز أن يكون التأنيث على معنى الجماعة. [سورة طه (20) : آية 64] فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ قراءة أهل الأمصار إلّا أبا عمرو فإنه قرأ فاجمعوا «1» بالوصل وفتح الميم، واحتج بقوله جلّ وعزّ: فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى [طه: 60] وفيما حكى عن محمد بن يزيد أنه قال: يجب على أبي عمرو ومن بحجّته أن يقرأ بخلاف قراءته هذه، وهي القراءة التي عليها أكثر الناس، قال: لأنه احتجّ بجمع وقوله جلّ وعزّ: فَجَمَعَ كَيْدَهُ قد ثبت هذا فيبعد أن يكون بعده فاجمعوا، ويقرب أن يكون بعده فأجمعوا أي اعزموا وجدّوا لما تقدّم ذلك وجب أن يكون هذا بخلاف معناه. يقال: أمر مجمع عليه. وقال أبو جعفر: تصحيح قراءة أبي عمرو فأجمعوا كلّ كيد وكلّ حيلة فضمّوه مع أخيه. ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا منصوب بوقوع الفعل عليه. وقول أبي عبيدة قال: يقال: أتيت الصفّ أي المصلى، فالمعنى عنده: أتوا الموضع الذي تجتمعون فيه يوم العيد. وزعم أبو إسحاق أنه يجوز أن يكون منصوبا على الحال. [سورة طه (20) : آية 66] قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) قال هارون القارئ: لغة بني تميم عصيهم «2» وبها يأخذ الحسن. قال أبو جعفر: من كسر العين أتبع الكسرة الكسرة وقد ذكرناه «3» . يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى قال أبو إسحاق: «أن» في موضع رفع أي يخيل إليه سعيها، وزعم الفراء: «أنّ» موضعها موضع نصب أي بأنها ثم حذف الباء. وقرأ الحسن تخيّل «4» بالتاء. قال أبو عبيد:

_ (1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 419، والبحر المحيط 6/ 239. (2) انظر مختصر ابن خالويه 88، والبحر المحيط 6/ 241 والإتحاف 186. (3) انظر إعراب الآية 11 من سورة النساء. (4) انظر البحر المحيط 6/ 241، ومعاني الفراء 2/ 182.

[سورة طه (20) : الآيات 67 إلى 68]

أراد الحبال. قال أبو إسحاق: من قرأ بالتاء جعل «أنّ» في موضع نصب أي تخيل إليه ذات سعي. قال: ويجوز أن تكون في موضع رفع على البدل، بدل الاشتمال، كما حكى سيبويه: ما لي بهم علم أمرهم. أي ما لي بأمرهم علم. قال: وأنشد: [الرجز] 297- وذكرت تقتد برد مائها «1» أي ذكر برد ماء تقتد. [سورة طه (20) : الآيات 67 الى 68] فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى يقال: إنه خاف أن يفتن الناس لمّا ألقى السحرة حبالهم وعصيّهم، وكانوا بالبعد من الناس في ناحية، وفرعون وجنوده في ناحية، وموسى وهارون صلّى الله عليهما في ناحية. فخاف موسى صلّى الله عليه وسلّم أن يشبّه على النّاس إذ كانوا يتخيّلون أنّ الحبال والعصيّ تسعى، وأنها حيات فيتوهمون أنهم قد ساووا موسى صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء به. ويقال: إن موسى صلّى الله عليه وسلّم إنما خاف لأنه أبطأ عليه الأمر بإلقاء العصا فأوحى الله جلّ وعزّ إليه لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي لا تخف الشّبه فإنّا سنبيّن أمرك حتى تعلو عليهم بالبرهان. [سورة طه (20) : آية 69] وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا فألقى العصا فتلقّفت حبالهم وعصيهم، وكانت حمل ثلاثمائة بعير، ثم عادت عصا لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصيّ إلّا الله جل وعزّ. قال أبو إسحاق: الأصل في «خيفة» خوفة أبدل من الواو ياء لانكسار ما قبلها. قال: ويجوز تَلْقَفْ ما صَنَعُوا بالرفع يكون فعلا مستقبلا في موضع الحال المقدّرة. قال: ويجوز «أنّ ما صنعوا» بفتح الهمزة. أي لأن ما. كَيْدُ ساحِرٍ بالرفع على خبر إنّ و «ما» بمعنى الذي، والنصب على أن تكون ما كافة. وقرأ الكوفيون إلّا عاصما كيد سحر «2» على إضافة النوع والجنس، كما تقول: ثوب خزّ. [سورة طه (20) : آية 71] قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ الضمير عائد على موسى صلّى الله عليه وسلّم، احتال فرعون في

_ (1) الرجز لجبر بن عبد الرحمن في شرح أبيات سيبويه 1/ 285، ولأبي وجزة السعدي في معجم البلدان (تقتد) ، ولأحد الاثنين في المقاصد النحوية 4/ 183، وبلا نسبة في جمهرة اللغة 402، والكتاب 1/ 204، وبعده: «وعتل البول على أنسائها» (2) انظر البحر المحيط 6/ 242، وكتاب السبعة لابن مجاهد 420.

[سورة طه (20) : آية 72]

التشبيه على الناس بهذا. فقال للسحرة: إن موسى كبيركم أي هو أحذق منكم بالسحر فواطأكم على هذا، وعلّمكم إيّاه. فقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلّبهم حتّى ماتوا. وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى قال أبو إسحاق: رفعت أيّا لأن لفظها لفظ الاستفهام فلم يعمل فيها ما قبلها لأنه خبر. [سورة طه (20) : آية 72] قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) قال أبو إسحاق: «الذي» في موضع خفض على العطف. والمعنى: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات وعلى الله جلّ وعزّ. قال: ويجوز أن يكون في موضع خفض على القسم. فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ بحذف الياء في الوصل لسكونها وسكون التنوين، وتحذف في الوقف دلالة على أنها في الوصل بغير ياء واختار سيبويه إثباتها في الوقف لأنه قد زالت علّة التقاء الساكنين إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا منصوبة على الظرف. والمعنى: إنما تقضي في متاع هذه الحياة الدنيا. وأجاز الفراء «1» الرفع على أن يجعل «ما» بمعنى الذي. [سورة طه (20) : آية 73] إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) ما في موضع نصب معطوفة على الخطايا، وقيل: لا موضع لها وهي نافية أي ليغفر لنا خطايانا من السحر وما أكرهتنا عليه، والأولى أولى. [سورة طه (20) : آية 74] إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً الهاء كناية عن الحديث والجملة خبر إنّ. [سورة طه (20) : آية 77] وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) أَنْ أَسْرِ من أسرى، وأن أسر من سرى، لغتان فصيحتان. فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم والكسائي وقرأ الأعمش وحمزة لا تخف دركا «2» والقراءة الأولى أبين لأنه بعده وَلا تَخْشى مجمع عليه بلا جزم. فالقراءة الأولى فيها ثلاث تقديرات: يكون في موضع الحال، وفي موضع النعت لطريق على حذف فيه، ومقطوعة من الأول. والقراءة الثانية فيها تقديران: أحدهما الجزم على النهي، والآخر الجزم على جواب الأمر وهو فاضرب. فأما وَلا تَخْشى إذا جزمت لا تخف فللنحويين فيه تقديران: أحدهما وهو الذي لا يجوز غيره أن يكون

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 187. (2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 421، والبحر المحيط 6/ 245، وهي قراءة أبي حيوة وطلحة أيضا.

[سورة طه (20) : آية 78]

مقطوعا من الأول، مثل يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [آل عمران: 111] ، والتقدير الآخر- ذكره الفراء «1» : أن يكون «ولا تخشى» ينوى به الجزم وتثبت فيه الياء- زعم كما قال الشاعر: [البسيط] 298- هجوت زبّان ثمّ جئت معتذرا ... من سبّ زبّان لم تهجو ولم تدع «2» وأنشد: [الوافر] 299- ألم يأتيك والأنباء تنمى ... بما لاقت لبون بني زياد «3» قال أبو جعفر: هذا من أقبح الغلط أن يحمل كتاب الله جلّ وعزّ على شذوذ من الشعر، وأيضا فإن الذي جاء به من الشعر لا يشبه من الآية شيئا لأن الواو والياء مخالفتان للألف لأنهما تتحركان والألف لا تتحرك، فللشاعر إذا اضطر أن يقدّرهما متحرّكتين ثم يحذف الحركة للجزم، وهذا محال في الألف. وأيضا فليس في البيتين اضطرار يوجب هذا لأنهما إذا رويا بحذف الواو والياء كانا وزنا صحيحا من البسيط والوافر، يسمي الخليل الأول مطويا والثاني منقوصا «4» . [سورة طه (20) : آية 78] فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) على معنى التعظيم والمعرفة بالأمر. [سورة طه (20) : آية 79] وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) أي أضلّهم عن الرشد، وما هداهم إلى خير ولا نجاة لأنه قدّر أنّ موسى صلّى الله عليه وسلّم ومن تبعه لا يفوتونه لأن بين أيديهم البحر، فلما ضرب موسى صلّى الله عليه وسلّم البحر بعصاه انفلق منه اثنا

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 187. [.....] (2) الشاهد لزبّان بن العلاء في معجم الأدباء 11/ 158، وبلا نسبة في تاج العروس (زبب) ، و (زبن) ، والإنصاف 1/ 24، وخزانة الأدب 8/ 359، والدرر 1/ 162، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 630، وشرح التصريح 1/ 87، وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 184، وشرح شواهد الشافية 406، وشرح المفصّل 10/ 104، ولسان العرب (يا) ، والمقاصد النحوية 1/ 234، والممتع في التصريف 2/ 537، والمنصف 2/ 115، وهمع الهوامع 1/ 52. (3) الشاهد لقيس بن زهير في الأغاني 17/ 131، وخزانة الأدب 8/ 359، والدرر 1/ 162، وشرح أبيات سيبويه 1/ 340، وشرح شواهد الشافية 408، وشرح شواهد المغني 328، والمقاصد النحوية 1/ 230، ولسان العرب (أتى) ، وبلا نسبة في أسرار العربية 103، والأشباه والنظائر 5/ 280، والإنصاف 1/ 30، وأوضح المسالك 1/ 6، والجنى الداني ص 50، وخزانة الأدب 9/ 524، والخصائص 1/ 333، ورصف المباني 149، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 87، وشرح الأشموني 1/ 168، وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 184، وشرح المفصل 8/ 24، ومغني اللبيب 1/ 108. (4) الطيّ: هو حذف الرابع الساكن من تفعيلة (مستفعلن) . والنقص: هو حذف السابع الساكن من تفعيلة الوافر (مفاعلتن) بعد تسكين الخامس.

[سورة طه (20) : آية 80]

عشر طريقا، وبين الطرق الماء قائما كالجبال. فأخذ كلّ سبط طريقا، فلما أقبل فرعون ورأى الطرق في البحر والماء قائما أوهمهم أنّ البحر فعل ذلك لهيبته فدخل هو وأصحابه فانطبق البحر عليهم. [سورة طه (20) : آية 80] يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) أي أمرنا موسى صلّى الله عليه وسلّم أن يأمركم بالخروج معه ليكلّمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام. وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى أي في البرية. [سورة طه (20) : آية 81] كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) أي لا تحملكم السّعة والعافية أن تعصوا لأن الطغيان: التجاوز إلى ما لا يجب. فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى وأكثر الكوفيين يقرأ يحلل «1» حكى أبو عبيد وغيره أنه يقال: حلّ يحلّ إذا وجب، وحلّ يحلّ إذا نزل. والمعنيان متقاربان إلّا أن الكسر أولى لأنهم قد أجمعوا على قوله: وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ [الزمر: 40] قال أبو إسحاق: فَقَدْ هَوى فقد هلك صار إلى الهاوية وهي قعر النار. [سورة طه (20) : آية 82] وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) قال وكيع عن سفيان: كنّا نسمع في قوله عزّ وجلّ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ أي من الشرك وَآمَنَ أي بعد الشرك وَعَمِلَ صالِحاً صلى وصام ثُمَّ اهْتَدى مات على ذلك. وهذا أحسن ما قيل في الآية، وقال الفراء «2» : ثُمَّ اهْتَدى علم أنّ لذلك ثوابا وعليه عقابا. [سورة طه (20) : آية 83] وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) - الآية- أمر أن يأمر قومه بالخروج معه ليسمعوا كلام الله جلّ وعزّ. [سورة طه (20) : آية 84] قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي أي هم قريبا منّي. قال أبو حاتم: قال عيسى: بنو تميم يقولون هم أولى مرسلة مقصورة، وأهل الحجاز يقولون: أُولاءِ ممدودة، وحكى الفراء «3» هم أولاء على أثري وزعم أبو إسحاق أن هذا لا وجه له، وهو كما قال: لأن هذا ليس مما يضاف فيكون مثل هداي، ولا يخلو من إحدى جهتين: إما أن

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 246، وكتاب السبعة لابن مجاهد 422. (2) انظر معاني الفراء 2/ 188. (3) انظر معاني الفراء 2/ 188.

[سورة طه (20) : آية 85]

يكون اسما مبهما فإضافته محال، وإما أن يكون بمعنى الذي فلا يضاف أيضا لأن ما بعده من تمامه وهو معرفة. وقرأ عيسى هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي «1» وهو بمعنى أثر وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أي عجلت بالمصير إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عنّي. [سورة طه (20) : آية 85] قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ أي اختبرناهم وامتحناهم بأن يستدلّوا على الله وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أي دعاهم إلى الضلالة فاتّبعوه. [سورة طه (20) : آية 86] فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً على الحال قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً وعدهم جل وعز الجنة إذا قاموا على طاعته، ووعدهم أنه يسمعهم كلامه. أَفَطالَ عَلَيْكُمُ أي أفطال عليكم الوقت الذي ينجز لكم فيه وعده فتوهمتم أنه لا ينجزه. حقيقته في النحو: أفطال عليكم إنجاز العهد فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي لأنهم وعدوه أنهم يقيمون على إطاعة الله جلّ وعزّ. [سورة طه (20) : آية 87] قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا أي قيل: هذا عامّ يراد به الخاصّ أي قال: الذين ثبتوا على طاعة الله ما أخلفنا موعدك بملكنا أي لم نملك ردّهم عن عبادة العجل. وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها أي ثقل علينا حمل ما كان معنا من الحليّ فقذفناه في النار ليذوب. فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ الكاف في موضع نصب أي فألقى السامريّ إلقاء مثل ذلك. [سورة طه (20) : آية 88] فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً قيل: معناه متجسّدا عظيما، وقيل: معناه جسد لا روح فيه. لَهُ خُوارٌ لأنه خرقه وثقبه ليحتال في إخراج الصوت منه. [سورة طه (20) : آية 89] أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا بمعنى أنه لا يرجع إليهم. قال أبو إسحاق: ويجوز

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 248، ومختصر ابن خالويه 88.

[سورة طه (20) : آية 90]

أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا «1» بالنصب على أن تنصب بأن، والرفع أولى وقد ذكرناه. [سورة طه (20) : آية 90] وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ اسم إنّ وخبرها. [سورة طه (20) : آية 91] قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ خبر نبرح، وعلى الحال حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى نصب بحتى، ولا يجوز الرفع لأنه مستقبل لا غير. [سورة طه (20) : الآيات 92 الى 93] قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أي ألّا تلحق بي. أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي لأنه كان أمره أن يلحق به معهم. [سورة طه (20) : آية 94] قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) لَ يَا بْنَ أُمَ بالفتح يجعل الاسمين اسما واحدا، وبالخفض على الإضافة. قال أبو إسحاق: ويجوز في غير القرآن «يا ابن أمّي» بالياء. تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي أي لا تفعل هذا فيتوهموا أنه منك استخفاف وعقوبة، وقد قيل: إنّ موسى عليه السلام إنما فعل هذا على غير استخفاف ولا عقوبة كما يأخذ الإنسان بلحية نفسه، والله أعلم بما أراد نبيّه صلّى الله عليه وسلّم. نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي خشيت أن أخرج وأتركهم وقد أمرتني أن أخرج معهم، فتقول: فرّقت بينهم ولم ترقب قولي لأنك أمرتني بأن أكون معهم. [سورة طه (20) : آية 95] قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قال أبو إسحاق أي ما أمرك الذي تخاطب به. [سورة طه (20) : آية 96] قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ وكان بصر بجبرائيل صلّى الله عليه وسلّم حين نزل إلى موسى صلّى الله عليه وسلّم

_ (1) وهي قراءة أبي حيوة، انظر البحر المحيط 6/ 250.

[سورة طه (20) : آية 97]

فظنّ أن له بذلك فضلا عليهم فأخذ قبضة من أثر دابّة جبرائيل عليه السلام ونبذها في العجل، وإنما فعل هذا ليوهمهم أنه يجب أن يعظّم العجل لهذا قال أبو إسحاق: ويجوز قبضة مثل غرفة. والقبضة مقدار ملء الكفّ، والقبضة بالفتح ملء الكفّ كلّها. وقرأ الحسن فَقَبَضْتُ قَبْضَةً «1» وفسّرها بأطراف الأصابع. [سورة طه (20) : آية 97] قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) على التبرية، قال هارون ولغة العرب «لا مساس» بكسر السين وفتح الميم. وقد تكلم النحويون في هذا. فأما سيبويه «2» فيذهب إلى أنه مبني على الكسر، كما يقال: اضرب الرّجل، وشرح هذا أبو إسحاق فقال: لا مساس نفي وكسرت السين لأن الكسر من علامة المؤنّث. تقول: فعلت يا امرأة، وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: إذا اعتلّ الشيء من ثلاث جهات وجب أن يبنى وإذا اعتلّ من جهتين وجب أن لا يصرف لأنه ليس بعد ترك الصرف إلّا البناء فمساس ودراك اعتلّ من ثلاث جهات: منها أنه معدول، ومنها أنه مؤنث، وأنه معرفة. فلمّا وجب البناء فيها وكانت الألف قبل السين ساكنة كسرت السين لالتقاء الساكنين، كما يقال: اضرب الرجل. قال أبو جعفر: ورأيت أبا إسحاق يذهب إلى أن هذا القول خطأ، وألزم أبا العباس إذا سمّى امرأة بفرعون أن يبينه ولا يقول هذا أحد. وقرأ البصريون وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ «3» بكسر اللام فيحتمل معنيين: أحدهما لن تجده مخلفا، كما يقال: أحمدته أي وجدته محمودا، والمعنى الآخر على التهديد أي لا بدّ لك من أن تصير إليه، وفي قراءة ابن مسعود رحمة الله عليه الَّذِي ظَلْتَ «4» بكسر الظاء. ويقال: ظللت أفعل ذاك إذا فعلته نهارا، وظلت وظلت: فمن قال: ظلت حذف اللام تخفيفا، ومن قال: ظلت ألقى حركة اللام على الظاء. عاكِفاً خبر. يروى عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه (لنحرقنّه) «5» وكذلك يروى عن أبي جعفر، وقرأ الحسن (لنحرقنّه) «6» ، وعن سائر الناس لَنُحَرِّقَنَّهُ «7» . يقال: حرقه يحرقه، ويحرقه إذا نحته

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 89، والبحر المحيط 6/ 254 وقال: (وقرأ عبد الله وأبيّ وابن الزبير وحميد والحسن بالصاد، وهو الأخذ بأطراف الأصابع) . (2) انظر الكتاب 3/ 307. (3) انظر البحر المحيط 6/ 256، وكتاب السبعة لابن مجاهد 424. (4) انظر مختصر ابن خالويه 89، والبحر المحيط 6/ 257. (5) انظر معاني الفراء 2/ 191، والبحر المحيط 6/ 257. (6) انظر البحر المحيط 6/ 257. [.....] (7) انظر البحر المحيط 6/ 257.

[سورة طه (20) : آية 98]

بمبرد أو غيره، وأحرقه يحرقه بالنار وحرقه يحرّقه يكون منهما جميعا على التكثير. [سورة طه (20) : آية 98] إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) ويروى عن قتادة أنه قرأ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً «1» أي ملأه. [سورة طه (20) : آية 99] كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ الكاف في موضع نصب والمعنى: نقصّ عليك كما قصصنا عليك قصة موسى عليه السلام وفرعون والسامريّ. آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ الكاف في موضع نصب والمعنى: نقصّ عليك كما قصصنا عليك قصة موسى عليه السلام وفرعون والسامريّ. آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً وهو القرآن. [سورة طه (20) : آية 100] مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ أي فلم يتدبّره ولم يؤمن به. [سورة طه (20) : الآيات 101 الى 103] خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) حِمْلًا على البيان وزُرْقاً على الحال، وكذا قاعاً صَفْصَفاً وعَشْراً منصوب بلبثتم، والكوفيون يقولون في المعنى: ما لبثتم إلّا عشرا. [سورة طه (20) : آية 109] يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ (من) في موضع نصب على الاستثناء الخارج من الأول. [سورة طه (20) : آية 110] يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) قال أبو إسحاق: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الآخرة وجميع ما يكون وَما خَلْفَهُمْ ما قد وقع من أعمالهم، وقال غيره: معنى وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ولا يحيطون بما ذكرنا، والله أعلم. [سورة طه (20) : آية 111] وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ في معناه قولان: أحدهما أنّ هذا في الآخرة، وروى عكرمة عن ابن عباس وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ قال: الركوع والسجود. ومعنى عنت في اللغة خضعت وأطاعت، ومنه فتحت البلاد عنوة أي غلبة. [سورة طه (20) : آية 117] فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) فَلا يُخْرِجَنَّكُما مجاز أي لا تقبلا منه فيكون سببا لخروجكما فَتَشْقى ولم يقل:

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 89، والبحر المحيط 6/ 257، وهذه قراءة مجاهد أيضا.

[سورة طه (20) : الآيات 118 إلى 119]

فتشقيا لأن المعنى معروف، وآدم صلّى الله عليه وسلّم هو المخاطب والمقصود. قال الحسن: في قوله: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى قال: يعني شقاء الدنيا لا ترى ابن آدم إلّا ناصبا. قال الفراء: هو أن يأكل من كدّ يديه. [سورة طه (20) : الآيات 118 الى 119] إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) قراءة أبي عمرو وأبي جعفر والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ عاصم ونافع وإنك «1» بكسر الهمزة. فالفتح على أن تكون «أنّ» اسما في موضع نصب عطفا على «أن» والمعنى: وإنّ لك أنّك لا تظمأ فيها، ويجوز أن يكون في موضع رفع عطفا على الموضع، والمعنى: ذلك أنّك لا تظمأ فيها، والكسر على الاستئناف وعلى العطف على «إن لك» . [سورة طه (20) : آية 121] فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) قال الفراء «2» : وَطَفِقا. في العربية أقبلا: وقيل: جعلا يلصقان عليهما الورق ورق التين. وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى قلبت الياء ألفا لتحرّكها وتحرّك ما قبلها، ولهذا كتبه الكوفيون بالياء ليدلّوا على أصله. [سورة طه (20) : آية 122] ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ أي اختاره فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى أي وهداه للتوبة وروى حمّاد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قول الله جلّ وعزّ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً قال: عذاب القبر. [سورة طه (20) : آية 128] أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي يبيّن لهم، وهذه قراءة أبي عبد الرحمن وقتادة بالياء. وقد تكلّم النحويون فيه لأنه مشكل من أجل الفاعل ليهد. فقال بعضهم: «كم» الفاعل، وهذا خطأ لأن كم استفهام فلا يعمل فيها ما قبلها، وقال أبو إسحاق: المعنى: أفلم يهد لهم الأمر بإهلاكنا من أهلكنا. قال: وحقيقة «أفلم يهد لهم» أفلم يبيّن لهم بيانا يهتدون به لأنهم كانوا يمرّون على منازل عاد وثمود فلذلك قال جلّ وعزّ: يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ

_ (1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 424، والبحر المحيط 6/ 263. (2) انظر معاني الفراء 2/ 194.

[سورة طه (20) : الآيات 129 إلى 130]

وفي مسكنهم على أنه مصدر. وقال محمد بن يزيد، فيما حكاه لنا عنه علي بن سليمان: وهذا معنى كلامه. قال: يهدي يدلّ على الهدى، فالفاعل هو الهدى. قال أبو إسحاق: «كم» في موضع نصب بأهلكنا. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى قال: لأولي التّقى. [سورة طه (20) : الآيات 129 الى 130] وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) قال: لَكانَ لِزاماً أي موتا وَأَجَلٌ مُسَمًّى معطوف على «كلمة» ، وواحد الإناء إني. لا يعرف البصريون غيره، وحكى الفراء في واحد الإناء إنّى- مقصورة واحد الآنية- إنا ممدود، وللفراء في هذا الباب في كتاب «المقصور والممدود» أشياء- قد جاء بها على أنها فيها مقصور وممدود، مثل الإناء والإنى، والوراء والورى- قد أنكرت عليه، ورواها الأصمعي وابن السكيت والمتقنون من أهل اللغة على خلاف ما روي، والذي يقال في هذا أنه مأمون على ما رواه غير أنّ سماع الكوفيين أكثره عن غير الفصحاء. [سورة طه (20) : آية 131] وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وهم الأغنياء، أي لا تنظر إلى ما أعطي الكفار في الدنيا. وقرأ عيسى بن عمر وعاصم الجحدري زَهْرَةَ «1» بفتح الهاء. قال أبو إسحاق «زهرة» منصوبة بمعنى متّعنا، لأن معناه جعلنا لهم الحياة الدّنيا زهرة لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي لنختبرهم، ونشدّد التعبّد عليهم لأن الأغنياء يشتد عليهم التواضع، والمحنة عليهم أشدّ. وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى قال الفراء «2» : أي ثواب ربك. وحكى الكسائي أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى قال: ويجوز على هذا بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى قال أبو جعفر: إذا نوّنت بيّنة ورفعت جعلت «ما» بدلا منها، وإذا نصبتها على الحال. والمعنى: أو لم يأتهم ما في الصحف الأولى مبيّنا. [سورة طه (20) : آية 134] وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ قيل: من قبل التنزيل، وقال الفراء: من قبل الرسول. فَنَتَّبِعَ آياتِكَ جواب لولا.

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 269، ومختصر ابن خالويه 90. (2) انظر معاني الفراء 2/ 196.

[سورة طه (20) : آية 135]

[سورة طه (20) : آية 135] قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) قال أبو إسحاق: فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ «من» في موضع رفع، وقال الفراء «1» : يجوز أن يكون في موضع نصب، مثل وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة: 220] . قال أبو إسحاق: وهذا خطأ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ومن هاهنا استفهام لأن المعنى: فستعلمون أأصحاب الصراط نحن أم أنتم، وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ «2» على فعلى بغير همز، وتأنيث الصراط شاذ قليل. قال الله جلّ وعزّ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] فجاء مذكّرا في هذا وفي غيره. وقد ردّ هذا أبو حاتم فقال: إن كان من السّوء وجب أن يكون السوءى، وإن كان من السواء وجب أن يقول: السيّى بكسر السين، والأصل السويا، قال أبو جعفر: جواز قراءة يحيى بن يعمر والجحدري أن يكون الأصل السوءى، والساكن ليس بحاجز حصين فكأنه قلب الهمزة ضمة فأبدل منها، والساكن ليس بحاجز ألفا إذا انفتح ما قبلها. وَمَنِ اهْتَدى معطوف على «من» الأولى. والفراء «3» يذهب إلى أنّ معنى من أصحاب الصراط السّويّ: من لم يضلّ، وإلى أن معنى «ومن اهتدى» من ضلّ ثم اهتدى.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 197. (2) انظر البحر المحيط 6/ 271. (3) انظر معاني الفراء 2/ 197.

21 شرح إعراب سورة الأنبياء

21 شرح إعراب سورة الأنبياء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأنبياء (21) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ولا يجوز في الكلام اقترب حسابهم للنّاس لئلا يتقدّم مضمر على المظهر لا يجوز أن ينوى به التأخير وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ابتداء وخبر، ويجوز النصب في غير القرآن على الحال. والمعنى: وهم في غفلة معرضون عن التأهب للحساب. [سورة الأنبياء (21) : آية 2] ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ نعت لذكر، وأجاز الكسائي والفراء: محدثا بمعنى ما يأتيهم محدثا، وأجاز الفراء «1» رفع محدث على تأويل ذكر لأنك لو حذفت «من» رفعت ذكرا. إِلَّا اسْتَمَعُوهُ. [سورة الأنبياء (21) : آية 3] لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ قال الكسائي: أي إلّا استمعوه لاهية قلوبهم، وأجاز الفراء «2» أن يكون مخرّجا من المضمر الذي في يلعبون، وأجاز هو والكسائي لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ «3» بالرفع بمعنى قلوبهم لاهية، وأجاز غيرهم الرفع على أن يكون خبرا بعد خبر أو على إضمار مبتدأ. وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ولم يقل: وأسرّ النجوى، والفعل متقدّم لأن الفعل إذا تقدّم الأسماء وحد، وإذا تأخّر ثنّي وجمع للضمير الذي فيه، فكيف جاء هذا

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 197 والبحر المحيط 6/ 275، وهي قراءة ابن أبي عبلة. (2) انظر معاني الفراء 2/ 197. (3) انظر معاني الفراء 2/ 197، والبحر المحيط 6/ 275، وهي قراءة ابن أبي عبلة وعيسى.

[سورة الأنبياء (21) : آية 4]

متقدما مجموعا؟ ففيه ستة أقوال: يكون بدلا من الواو، وعلى إضمار مبتدأ، ونصبا بمعنى أعني، وأجاز الفراء أن يكون خفضا بمعنى اقترب للناس الذين ظلموا حسابهم، وأجاز الأخفش أن يكون على لغة من قال: «أكلوني البراغيث» ، والجواب السادس أحسنها وهو أن يكون التقدير: يقول الذين ظلموا، وحذف القول مثل وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: 23] فالدليل على صحّة هذا الجواب أنّ بعده هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فهذا الذي قالوه والمعنى: هل هذا إلّا بشر مثلكم. وقد بين الله جلّ وعزّ أنه لا يجوز أن يرسل إليهم بشرا ليفهموا عنه ويعلّمهم، ثمّ قال أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ والسحر في اللغة كلّ مموّه لا حقيقة له ولا صحة وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ قيل: معناه وأنتم تبصرون أنه إنسان مثلكم، وقيل: وأنتم تعقلون لأن العقل هو البصر بالأشياء. [سورة الأنبياء (21) : آية 4] قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) قل ربي وفي مصاحف أهل الكوفة قالَ رَبِّي «1» فقيل: إنّ القراءة الأولى أظهر وأولى لأنهم أسرّوا هذا القول فأظهر الله عليه نبيّه وأمره أن يقول لهم هذا. قال أبو جعفر: والقراءتان صحيحتان. وهما بمنزلة الآيتين، وفيهما من الفائدة أنه صلّى الله عليه وسلّم أمر وأنه قال كما أمر. [سورة الأنبياء (21) : آية 5] بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ قال أبو إسحاق: أي بل قالوا الذي يأتي به أضغاث أحلام، وقال غيره: هو أحلام اختلاط. والمعنى كالأحلام المختلطة فلما رأوا أن الأمر ليس كما قالوا انتقلوا عن ذلك فقالوا: بَلِ افْتَراهُ ثم انتقلوا عن ذلك فقالوا: بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ أي كما أرسل موسى صلّى الله عليه وسلّم بالعصا وغيرها من الآيات، وكان هذا منهم تعنّتا إذ كان الله جلّ وعزّ قد أعطاه من الآيات ما فيه كفاية، ويبيّن الله جلّ وعزّ أنّهم لو كانوا يؤمنون لأعطاهم ما سألوا كقوله: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 23] . [سورة الأنبياء (21) : آية 6] ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أي من أهل قرية و «من» زائدة للتوكيد.

_ (1) انظر تيسير الداني 125، والبحر المحيط 6/ 276.

[سورة الأنبياء (21) : آية 9]

[سورة الأنبياء (21) : آية 9] ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ أي بإنجائهم ونصرهم، وإهلاك مكذّبيهم. [سورة الأنبياء (21) : آية 10] لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) فِيهِ ذِكْرُكُمْ رفع بالابتداء والجملة في موضع نصب لأنها نعت لكتاب ثم نبّههم بالاستفهام الذي معناه التوقيف فقال جلّ وعزّ: أَفَلا تَعْقِلُونَ. [سورة الأنبياء (21) : آية 11] وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) وَكَمْ قَصَمْنا «كم» في موضع نصب بقصمنا مِنْ قَرْيَةٍ لو حذفت «من» لجاز الخفض لأن «كم» هاهنا للخبر، والعرب تقول: «كم قرية قد دخلتها» . فتخفض. وفيه تقديران: أحدهما أن تكون «كم» بمنزلة ثلاثة من العدد، والفراء «1» يقول بإضمار «من» فإذا فرقت جاز الخفض والنصب، وأنشد النحويون: [السريع] 300- كم بجود مقرفا نال العلى ... وكريما بخله قد وضعه «2» وأجود اللّغات فيه إذا فرقت أن تأتي بمن، وبها جاء القرآن في هذا الموضع وغيره. [سورة الأنبياء (21) : آية 14] قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) قالُوا يا وَيْلَنا نداء مضاف. [سورة الأنبياء (21) : آية 15] فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ «تلك» في موضع رفع إن جعلت دعواهم خبرا، وفي موضع نصب إن جعلت دعواهم الاسم. [سورة الأنبياء (21) : آية 16] وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) أي: ما خلقنا السماء والأرض ليظلم الناس بعضا ويكفر بعضهم ويخالف بعضهم ما أمر به ثم يموتوا فلا يجازوا بأفعالهم، ولا يؤمروا في الدنيا بحسن، ولا ينهوا عن قبيح. وهذا اللعب المنفي عن الحكيم وضدّ الحكمة. [سورة الأنبياء (21) : آية 17] لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا لأنهم نسبوا إلى الله جلّ وعزّ الولد، والصاحبة. فالمعنى: لو أردنا أن نتّخذ ولدا أو صاحبة لما اتّخذناه من البشر الذين

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 125. [.....] (2) مرّ الشاهد رقم (45) .

[سورة الأنبياء (21) : آية 18]

تلحقهم الآفات، والحجارة التي لا تعقل فبيّن به الله عزّ وجلّ جهلهم بنسبهم إليه مثل هذا بلا حجّة ولا شبهة. [سورة الأنبياء (21) : آية 18] بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي بالحجج والبراهين. عَلَى الْباطِلِ وهو قولهم فَإِذا هُوَ زاهِقٌ حكى أهل اللغة زهق يزهق زهقا وزهوقا إذا انكسر واضمحلّ. [سورة الأنبياء (21) : آية 20] يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ظرفان. [سورة الأنبياء (21) : آية 22] لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا التقدير عند سيبويه والكسائي «غير الله» فلمّا جعلت إلّا في موضع غير أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غير، كما قال: [الوافر] 301- وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلّا الفرقدان «1» وحكى سيبويه لو كان معنا رجل إلّا زيد لهلكنا، وقال الفراء «2» : إلا هاهنا في موضع سوى، والمعنى: لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسد أهلهما، وقال غيره: أي لو كان فيهما إلهان لفسد التدبير لأن أحدهما إذا أراد شيئا وأراد الآخر ضدّه كان أحدهما عاجزا. [سورة الأنبياء (21) : آية 24] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وحكى أبو حاتم أنّ يحيى بن يعمر وطلحة قرأ: هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي «3» فزعم أنه لا وجه لهذا. وقال أبو إسحاق في هذه القراءة: المعنى هذا ذكر مما أنزل إليّ ومما هو معي، وذكر ممّن قبلي، وقال غيره: التقدير فيها هذا ذكر ذكر من معي مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . وروي عن الحسن أنه قرأ: الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ «4» بالرفع بمعنى هو الحقّ وهذا الحقّ. [سورة الأنبياء (21) : آية 26] وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26)

_ (1) مرّ الشاهد رقم (205) . (2) انظر معاني الفراء 2/ 200. (3) انظر مختصر ابن خالويه 91. (4) انظر المحتسب 2/ 61، ومختصر ابن خالويه 91.

[سورة الأنبياء (21) : آية 28]

سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ قال أبو إسحاق: المعنى: بل هم عباد مكرمون يعني الملائكة وعيسى عليهم السلام. قال: ويجوز في غير القرآن بل عبادا مكرمين بمعنى بل اتخذ عبادا مكرمين، وأجازه الفراء «1» أيضا على أن تردّه على ولد أي لم نتّخذهم ولدا بل اتّخذناهم عبادا مكرمين. [سورة الأنبياء (21) : آية 28] يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) أي لا يفعلون شيئا إلا بإذنه ثم خبّر بحكمه جلّ وعزّ في كلّ أحد فقال: [سورة الأنبياء (21) : آية 29] وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) الكاف في موضع نصب. [سورة الأنبياء (21) : آية 30] أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) قال الأخفش: قال: كانَتا لأنهما صنفان كما تقول العرب: هما لقاحان أسودان، وكما قال جلّ وعزّ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر: 41] قال أبو إسحاق: كانتا لأنه يعبّر عن السموات بلفظ الواحد بسماء ولأن السموات كانت سماء واحدة، وكذا الأرضون. قال: وقال: رتقا ولم يقل رتقين لأنه مصدر والمعنى: كانتا ذواتي رتق. قال أبو جعفر: وروي عن الحسن أنه قرأ كانَتا رَتْقاً «2» قال عيسى: هو صواب وهي لغة. وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ نعت لشيء، وأجاز الفراء «3» : كلّ شيء حيا بمعنى: وجعلنا كلّ شيء حيّا من الماء. [سورة الأنبياء (21) : آية 32] وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً نعت لسقف، ولو كان محفوظة على أن يكون نعتا للسماء لجاز.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 201. (2) انظر المحتسب 2/ 762 ومختصر ابن خالويه 91، والبحر المحيط 6/ 287، وهي قراءة أبي حيوة وعيسى وزيد بن علي أيضا. (3) انظر معاني الفراء 2/ 201.

[سورة الأنبياء (21) : آية 33]

[سورة الأنبياء (21) : آية 33] وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) فيه من النحو أنه لم يقل: يسبحن ولا يسبح. ومذهب سيبويه «1» أنه لما خبّر بفعل من يعقل، وجعلهنّ في الطاعة بمنزلة من يعقل خبّر عنهن بالواو والنون، وقال الفراء: «2» لمّا خبّر عنهنّ بأفعال الآدميين قال: يسبحون، وقال الكسائي يسبحون لأنه رأس آية، كما قال: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ [القمر: 44] ، ولم يقل منتصرون. [سورة الأنبياء (21) : آية 34] وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ جيء بالفاء التي في فهم عند الفراء «3» لتدلّ على الشرط لأنه جواب قولهم: ستموت، ويجوز أن يكون جيء بها لأن التقدير فيها: أفهم الخالدون إن متّ. قال الفراء: ويجوز حذف الفاء واضمارها لأن هم لا يتبيّن فيها الإعراب، أو لأن المعنى أهم الخالدون إن مت. [سورة الأنبياء (21) : آية 35] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً قال الكسائي: والمصدر بلاء. [سورة الأنبياء (21) : آية 38] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) «متى» عند الكوفيين في موضع نصب وكذا الجواب عندهم في المعرفة إذا قيل: متى وعدك قيل: يوم الجمعة فإن كان نكرة رفعت فقلت: موعدك يوم قريب، وكذا ظروف المكان، وحكى الفراء «4» : اجتمع الجيشان فالمسلمون جانب والكفار جانب صاحبهم. الثاني منصوب لأنه معرفة والأول مرفوع لأنه نكرة فاعتل في النصب مع المعرفة لأن الخبر مسند إليها لأنها معرفة، فحسنت الصفة، وبنوا المسائل على هذا فتقول: عبد الله جانب المسجد، وزيد جانب منه. وأما البصريون فالرفع عندهم الوجه إذا كان الظرف متمكنا. قال سيبويه «5» وتقول: موعدك غدوة وبكرة وموعدك بكرا لأن بكرا لا يتمكن. والدليل على صحة قول البصريين قراءة القراء، إلّا من شذّ منهم قال: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ [طه: 59] . وحكى الفراء «6» في النكرة: إنما البرد شهران، وإنما الصيف شهران، وزيد دون من الرجال، وهو دونك بالنصب في المعرفة. [سورة الأنبياء (21) : آية 40] بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) هُمْ في موضع رفع بالابتداء ولا تعمل إلا في معرفة. يُنْظَرُونَ في موضع الخبر.

_ (1) انظر الكتاب 2/ 44. (2) انظر معاني الفراء 2/ 201. (3) انظر معاني الفراء 2/ 202. (4) انظر معاني الفراء 2/ 203. (5) انظر الكتاب 1/ 279. (6) انظر معاني الفراء 2/ 203. [.....]

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 إلى 45]

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 الى 45] قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ فإن خفّفت الهمزة جعلتها بين الهمزة والواو، ولهذا كتبت واوا وحكى الكسائي والفراء «1» في التخفيف وجهين آخرين: «قل من يكلوكم» بفتح اللام وإسكان الواو، وحكيا «من يكلاكم» قال: فأما «يكلاكم» فخطأ من جهتين إحداهما: أنّ بدل الهمزة إنما يجوز في الشعر، والجهة الأخرى: أنهما يقولان في الماضي: كليته فينقلب المعنى لأن المعنى كليته أوجعت كليته، ومن قال لرجل: كلأك الله، فقد دعا عليه بأن يصيبه الله بوجع في كليته، والدليل على هذا أنه لا يقال: رجل مكليّ إلّا من هذا، هكذا السماع، ولا نلتفت إلى سماع لا يصحّ. وأما يَكْلَؤُكُمْ فقد حكى مثله سيبويه «2» في آخر الكلمة إنّ من العرب من يقول: هو الوثو «3» فيبدل من الهمزة واوا حرصا على تبيينها، وفي الخفض من الوثي، وهو الكلو، ومن الكلي، وأخذت الكلا. قال الفراء «4» : ومن قال: يكلوهم قال في الماضي: كلات فيترك النبرة. قرأ أبو عبد الرحمن السلمي ولا تسمع الصم الدعاء «5» جعلهما مفعولين فردّ عليه بعض أهل اللغة وقال: كان يجب على قوله إذا ما تنذرهم. قال أبو جعفر: وذلك جائز لأنه قد عرف المعنى. [سورة الأنبياء (21) : آية 47] وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) مِثْقالَ حَبَّةٍ «6» اسم كان ولا خبر لها لأنها بمعنى وقع، ويجوز النصب على أن تضمر فيها اسمها. [سورة الأنبياء (21) : آية 48] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) وروي عن ابن عباس وعكرمة ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء «7» بغير واو، وزعم الفراء «8» أنّ حذف الواو والمجيء بها واحد، كما قال جلّ وعزّ:

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 204. (2) انظر الكتاب 4/ 290. (3) الوثء: الوهن. (4) انظر معاني الفراء 2/ 205. (5) انظر معاني الفراء 2/ 205. (6) انظر تيسير الداني 126. (7) انظر المحتسب 2/ 64. (8) انظر معاني الفراء 2/ 205.

[سورة الأنبياء (21) : آية 51]

وَحِفْظاً [الصافات: 6 و 7] وردّ عليه هذا القول أبو إسحاق لأن الواو تجيء لمعنى فلا تزاد. قال: وتفسير الفرقان: التوراة، لأنّ فيها الفرق بين الحلال والحرام. قال: «وضياء» مثل فِيهِ هُدىً وَنُورٌ [المائدة: 46] ، وأجاز الفراء «1» وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ بمعنى أنزلناه مباركا. [سورة الأنبياء (21) : آية 51] وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مفعولان. قال الفراء: «رشده» هداه. [سورة الأنبياء (21) : آية 52] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ قال أبو إسحاق «إذ» في موضع نصب أي آتيناه رشده في ذلك الوقت. [سورة الأنبياء (21) : آية 58] فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ فجاء مذكّرا لأنهم جعلوا الأصنام بمنزلة ما يعقل في عبادتهم إياها إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ على الاستثناء. [سورة الأنبياء (21) : آية 60] قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قال أبو إسحاق: إبراهيم، يرتفع من جهتين على معنى: هو إبراهيم والمعروف به إبراهيم، وعلى النداء. قال أبو جعفر: واسم ما لم يسمّ فاعله على مذهب الخليل رحمه الله وسيبويه له، كما تقول: سيريه. وعلى مذهب محمد بن يزيد اسم ما لم يسمّ فاعله مضمر أي يقال له القول واحتيج إلى الإضمار، لأن إبراهيم لا يجوز أن يكون اسم ما لم يسمّ فاعله بل ذلك محال على كل قول لأنه من قال: قلت زيدا منطلقا، على اللغة الشاذة لم يقل: كلّمته فقلت له إبراهيم ولم يقل هذا إلّا بالرفع، وإن كانت تلك اللغة شاذة لا يتكلّم بها في كتاب الله عزّ وجلّ لشذوذها وخروجها على القياس، ولولا أنّ هذا القول لم يقله أحد من العلماء علمناه لزدنا في الشرح ولكن غنينا عن ذلك بما تقدّم وبما وصفناه، وأنه يلزم من رفع هذا على أنه اسم ما لم يسمّ فاعله أن يقول: قلت زيدا، كما أنه إذا قال: يضرب زيد قال: ضربت زيدا، ولا يقول أحد: قلت زيدا، ولا له معنى، ويلزمه أن يقرأ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ [الكهف: 5] بالنصب، فإذا لزمه ما لا يقوله أحد استغنى عن الزيادة. ولو لم يكن في هذا إلّا أنّ النحويين يعلّمون المتعلّم أنّ ما بعد القول محكيّ، فيقولون: قلت له زيد خارج، وكذا قيل له، لا فرق بين الفعلين في الحكاية. [سورة الأنبياء (21) : آية 67] أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67)

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 206.

[سورة الأنبياء (21) : آية 71]

قال أبو إسحاق: أُفٍّ لَكُمْ «1» وأفّ وأفّ لكم. وينوّن في اللغات الثلاث، ويقال: أفّه ومن كسر لالتقاء الساكنين قال الأصوات أكثرها مبنيّ على الكسر والفتح لأنه خفيف والضمّ اتباع، والتنوين فرق بين المعرفة والنكرة. [سورة الأنبياء (21) : آية 71] وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً عطف على الهاء. إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لأن الأرض مؤنّثة، فأما قول الشاعر: [المتقارب] 302- فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها «2» فرواه أبو حاتم «ولا أرض أبقلت إبقالها» . كره تذكير الأرض. قال أبو جعفر: وما في هذا ما ينكر لأنه تأنيث حقيقي. قال محمد بن يزيد: لو قلت: هدم دارك لجاز، والكوفيون يقولون: يجوز التذكير لأنه لا علاقة فيه للتأنيث. [سورة الأنبياء (21) : آية 73] وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) الأصل أقوام فألقيت حركة الواو على القاف فانقلبت الواو ألفا وحذفت لالتقاء الساكنين، فإن أفردت ألحقت الهاء وقبح حذفها لأنها عوض مما حذف. [سورة الأنبياء (21) : آية 74] وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً بمعنى: واذكر لوطا، أو معنى وآتينا لوطا وَنُوحاً. [سورة الأنبياء (21) : آية 78] وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ بمعنى واذكروا. ولم ينصرف «داود» لأنه اسم عجميّ لا يحسن فيه الألف واللام، ولم ينصرف «سليمان» لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين. [سورة الأنبياء (21) : آية 79] فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ قال أبو إسحاق: أي ففهّمنا القصّة. وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ معطوف على الجبال، ويجوز أن يكون بمعنى مع الطير، كما تقول:

_ (1) انظر تيسير الداني 126. (2) مرّ الشاهد رقم (152) .

[سورة الأنبياء (21) : آية 81]

التقى الماء والخشبة. قال أبو إسحاق: ويجوز «الطير» بالرفع بمعنى يسبّحن هنّ والطير. قال وَكُنَّا فاعِلِينَ أي نقدر على ما نريد، وقال غيره: المعنى وكنا فاعلين للأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذه الآيات. [سورة الأنبياء (21) : آية 81] وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً معطوف أي وسخّرنا لسليمان الريح، وقرأ عبد الرحمن الأعرج ولسليمان الريح «1» بالرفع قطعه من الأول، ورفع بالابتداء، كما تقول: أعطيت زيدا درهما ولعمر دينار. [سورة الأنبياء (21) : آية 82] وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) مِنَ في موضع نصب إن نصبت الريح، ويجوز الرفع بالابتداء وإن رفعت الريح فمن في موضع رفع عطف عليها، وإن شئت بالابتداء أيضا. ويَغُوصُونَ على معنى «من» ، ولو كان في غير القرآن لجاز يغوص على اللفظ. [سورة الأنبياء (21) : آية 84] فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ لأهل التفسير في معناه قولان عن مجاهد وعكرمة بإسنادين صحيحين قالا: قيل لأيوب صلّى الله عليه وسلّم، قد آتيناك أهلك في الجنّة، فإن شئت تركناهم لك في الآخرة، وإن شئت آتيناك هم في الدنيا. قال مجاهد: فتركهم الله جلّ وعزّ له في الجنّة وأعطاه مثلهم في الدنيا، وقال عكرمة: فاختار أن يكونوا له في الجنّة ويؤتي مثلهم في الدنيا، وقال الضحاك: قال عبد الله بن مسعود: كان أهل أيوب عليه السلام قد ماتوا إلّا امرأته فأحياهم الله جلّ وعزّ له وآتاه مثلهم معهم، وعن ابن عباس رحمة الله عليه قال: كان بنوه قد ماتوا، فأحيوا له وولد لهم مثلهم معهم. [سورة الأنبياء (21) : آية 85] وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ بمعنى: واذكر كذا. [سورة الأنبياء (21) : آية 87] وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) قال أبو جعفر: قد ذكرنا عن سعيد بن جبير أنه قال: مغاضبا لربه جلّ وعزّ.

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 308، ومختصر ابن خالويه 92.

[سورة الأنبياء (21) : آية 89]

وربّما أنكر هذا من لا يعرف اللغة، وهذا قول صحيح والمعنى مغاضبا من أجل ربه، كما تقول: غضبت لك أي من أجلك. والمؤمن يغضب لله جلّ وعزّ إذا عصي. وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أن قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعائشة رضي الله عنها: «اشترطي لهم الولاء» من هذا. وقال الضحاك: إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً أي لقومه فيكون معنى هذا أنه غاضبهم لعصيانهم. وقال الأخفش: إنّما غاضب بعض الملوك. وقرأ الحسن فظنّ أن لن يقدر عليه «1» وقرأ يعقوب القارئ فظنّ أن لن يقدر عليه «2» . [سورة الأنبياء (21) : آية 89] وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) وَزَكَرِيَّا بمعنى واذكر. [سورة الأنبياء (21) : آية 90] فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وقد ذكرنا أنّ معنى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أنها كانت سيئة الخلق، وقال سعيد بن جبير: إنها كانت لا تلد. قال أبو إسحاق: وَيَدْعُونَنا رَغَباً على أنه مصدر ورغبا بخلاف، ورغبا مثل بخلا. [سورة الأنبياء (21) : آية 91] وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها في موضع نصب بمعنى واذكر وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ ولم يقل: آيتين. قال أبو إسحاق: لأن الآية فيهما واحدة لأنها ولدته من غير فحل. وعلى مذهب سيبويه أنّ التقدير: وجعلناها آية للعالمين، وجعلنا ابنها آية للعالمين ثم حذف، وعلى مذهب محمد بن يزيد أن المعنى وجعلناها آية للعالمين وابنها مثل وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] . وفي قصة ذي النون حرف مشكل الإعراب على قراءة عاصم. وكذلك نجّي المؤمنين «3» بنون واحدة لأنها في المصحف كذا. وتكلم النحويون في هذا فقال بعضهم: هو لحن لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله. وكان أبو إسحاق يذهب إلى هذا القول. وذهب الفراء «4» وأبو عبيد إلى أنّ المعنى: وكذلك نجّي النجاء المؤمنين. قال أبو إسحاق: هذا خطأ لا يجوز ضرب زيدا. المعنى الضرب زيدا لأنه لا فائدة فيه إذ كان ضرب يدلّ على الضرب، ولأبي

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 311. (2) انظر البحر المحيط 6/ 311. [.....] (3) انظر معاني الفراء 2/ 210، وكتاب السبعة لابن مجاهد. (4) انظر معاني الفراء 2/ 210.

[سورة الأنبياء (21) : آية 92]

عبيد فيه قول آخر وهو أنه أدغم النون في الجيم. وهذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين علمناه لبعد النون من الجيم، فلا تدغم فيها، ولا يجوز في مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ [الأنعام: 160] مجّاء بالحسنة. قال أبو جعفر: ولم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من علي بن سليمان قال: الأصل ننجّي فحذف إحدى النونين لاجتماعهما، كما يحذف إحدى التاءين لاجتماعهما نحو قول الله جلّ وعزّ وَلا تَفَرَّقُوا [الأنعام: 103] الأصل تتفرقوا. والدليل على صحة ما قال أن عاصما يقرأ (نجّي) بإسكان الياء، ولو كان على ما تأوله من ذكرناه لكان مفتوحا. [سورة الأنبياء (21) : آية 92] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً على الحال. قال أبو إسحاق: أي إنّ هذه أمتكم في حال اجتماعها فإذا تفرّقت لم تدخل في ذلك. قال: ويجوز إنّ هذه أمتكم أمة واحدة، تجعل أمتكم بدلا من هذه، وفيه معنى التوكيد. قال أبو جعفر: وقرأ ابن أبي إسحاق وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً «1» «أمتكم» خبر إن «وأمة واحدة» خبر بعد خبر، وإن شئت على إضمار مبتدأ، وإن شئت على بدل النكرة من المعرفة. [سورة الأنبياء (21) : آية 94] فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) قال الكسائي: وفي حرف ابن مسعود فلا كفر لسعيه «2» وكفر وكفران وكفور بمعنى واحد. [سورة الأنبياء (21) : آية 95] وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ قراءة زيد بن ثابت وأهل المدينة، وعن علي وابن مسعود وابن عباس وحرم على قرية «3» ، وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ وحرم على قرية «4» بفتح الحاء والميم وكسر الراء، وروي عنه بضمّ الراء وفتح الحاء والميم. والآية مشكلة، وقد ذكرنا فيها أقوالا: فمن أحسن ما قيل فيه وأجلّه ما رواه ابن عيينة وابن عليّة وهشيم وابن إدريس ومحمد بن فضيل وسليمان بن حيّان ومعلّى عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس رحمه الله في قوله جلّ وعزّ وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها قال: وجب أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ قال: لا يتوبون. قال أبو جعفر: واشتقاق هذا بيّن من اللغة. وشرحه أنّ معنى حرم الشيء حظر ومنع منه، كما أن معنى أحلّ

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 313، ومعاني الفراء 2/ 10، ومختصر ابن خالويه 93، وهي قراءة الحسن أيضا. (2) انظر البحر المحيط 6/ 313. (3) انظر المحتسب 2/ 65، والبحر المحيط 6/ 313. (4) انظر المحتسب 2/ 65، والبحر المحيط 6/ 313.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 96 إلى 97]

أبيح ولم يمنع منه. فإذا كان حرام وحرم بمعنى واحد فمعناه أنه قد ضيّق الخروج منه ومنع فقد دخل في باب المحظور بهذا، فأما قول أبي عبيد: إنّ «لا» زائدة فقد ردّه عليه جماعة لأنها لا تزاد في مثل هذا الموضع، ولا فيما يقع فيه إشكال، ولو كانت زائدة لكان التأويل بعيدا أيضا، لأنه إن أراد وحرام على قرية أهلكناها أنهم يرجعون إلى الدنيا. فهذا ما لا فائدة فيه، وإن أراد التوبة فالتوبة لا تحرّم. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 96 الى 97] حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وقرأ عاصم والأعرج يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ «1» بالهمز. قال أبو إسحاق: هما مشتقّان من أجّة الحريق، ومن ملح أجاج. ولا يصرف، تجعلهما اسما للقبيلتين على فاعول ومفعول، ومن لم يهمز جعلهما أعجميين على قول أكثر النحويين. قال الأخفش: يأجوج: من يججت، ومأجوج: من مججت. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ قال: من كل شرف يقبلون. والتقدير في العربية: حتّى إذا فتح سدّ يأجوج ومأجوج، مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . فأما جواب إذا ففيه ثلاثة أقوال: قال الكسائي والفراء: حتّى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحقّ والواو عندهما زائدة، وأنشد الفراء: [الطويل] 303- فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى ... بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل «2» المعنى عنده انتحى. وأجاز الكسائي أن يكون جواب إذا فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا والقول الثالث أنّ المعنى قالوا يا وَيْلَنا ثم حذف قالوا. وهذا قول أبي إسحاق، وهو قول حسن. قال الله جلّ وعزّ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ [الزمر: 3] المعنى قالوا، وحذف القول كثير. [سورة الأنبياء (21) : آية 98] إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) المعنى إنكم والأوثان التي تعبدونها من دون الله. ولا يدخل في هذا عيسى صلّى الله عليه وسلّم، ولا عزير، ولا الملائكة لأن «ما» لغير الآدميين. والمعنى: لأن أوثانهم تدخل معهم

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 313، وكتاب السبعة لابن مجاهد 431. (2) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 15، وأدب الكاتب 353، والأزهية 234، وخزانة الأدب 11/ 43، ولسان العرب (جوز) ، وتاج العروس (عقل) ، والمنصف 3/ 41، وبلا نسبة في رصف المباني ص 425.

[سورة الأنبياء (21) : آية 99]

النار ليعذّبوهم بها إمّا بأن تحمى وتلصق بهم، وإمّا يبكّتوا بعبادتها، و «ما» في موضع نصب عطفا على اسم إن والخبر حَصَبُ جَهَنَّمَ أي يرمى بالحصباء. [سورة الأنبياء (21) : آية 99] لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ ابتداء وخبر، ويجوز نصب خالدين في غير القرآن. [سورة الأنبياء (21) : آية 100] لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) قيل: في الكلام حذف، والمعنى- والله أعلم- وهم فيها لا يسمعون شيئا يسرّهم لأنهم صمّ. [سورة الأنبياء (21) : آية 101] إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى قيل: يعني بها الجنة، وقيل: يعني بها الوعد. أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ابتداء وخبر في موضع خبر إن. [سورة الأنبياء (21) : آية 102] لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها قال أبو عثمان النهدي: على الصراط حيّات تلسع أهل النار فيقولون: حسّ حسّ. [سورة الأنبياء (21) : آية 103] لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ على لغة من قال: حزن يحزن، وهي أفصح اللغتين، وبها قرأ الكوفيون في جميع القرآن وقرأ ابن محيصن بلغة من قال: أحزن يحزن في جميع القرآن، وبها قرأ نافع إلّا في هذا الحرف، وبها قرأ أبو جعفر في هذا الحرف خاصة، وقرأ كل ما في القرآن من نظائرها على لغة من قال حزن يحزن. [سورة الأنبياء (21) : آية 104] يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ قال سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبد الله بن مسعود قال: يرسل الله ماءا من تحت العرش كمنيّ الرجال فتنبت منه لحما منهم وجسمانهم كما تنبت الأرض بالثرى، وقرأ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ. قال أبو جعفر: في قوله جلّ وعزّ: وَعْداً عَلَيْنا حذف والمعنى- والله أعلم- علينا إنجازه والوفاء به ثم أكّد ذلك بقوله جلّ وعزّ إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ قال أبو إسحاق: معنى إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ إنّا كنا قادرين على فعل ما نشاء.

[سورة الأنبياء (21) : آية 105]

[سورة الأنبياء (21) : آية 105] وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ والزبور والكتاب واحد، فلذلك جاز أن يقال للتوراة والإنجيل: زبور، من زبرت أي كتبت، وجمعه زبر، ومن قال: زبور جعله جمع زبر أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ أحسن ما قيل فيه أنه يراد بها أرض الجنة لأن الأرض التي في الدنيا قد ورثها الصالحون وغيرهم. [سورة الأنبياء (21) : آية 106] إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) قال سفيان: بلغني أنهم أهل الصلوات الخمس. [سورة الأنبياء (21) : آية 107] وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان محمد عليه السلام رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدّق به سعد ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق. [سورة الأنبياء (21) : آية 108] قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) يجوز أن يكون «إنّما» بالكسر لأن معنى يوحى إلىّ: يقال إليّ. [سورة الأنبياء (21) : آية 109] فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) وَإِنْ أَدْرِي بمعنى ما أدري، وأدري في موضع رفع لأنه فعل مستقبل لم يقع عليه ناصب ولا جازم، وحذفت الضمة من الياء لثقل الضمة فيها. أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ قيل: يعني القيامة. [سورة الأنبياء (21) : آية 111] وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ قيل: يعني وما أدري لعلّ الإمهال فتنة لكم أي اختبار وتشديد في العبادة. وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ إلى انقضاء المدة. [سورة الأنبياء (21) : آية 112] قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ «1» في موضع نصب لأنه نداء مضاف، ومن قرأ أحكم بالحقّ «2» فهو ابتداء وخبر، وعن أبي جعفر أنه قرأ ربّ احكم بالحقّ «3» وهذا عند النحويين لحن. لا يجوز عندهم: رجل أقبل، حتّى تقول: يا رجل، أو ما أشبهه: وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ أي على ما تصفونه من الكفر.

_ (1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 431، والبحر المحيط 6/ 319. (2) انظر البحر المحيط 6/ 319، ومختصر ابن خالويه 93. (3) انظر البحر المحيط 6/ 319، ومختصر ابن خالويه 93.

22 شرح إعراب سورة الحج

22 شرح إعراب سورة الحجّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحج (22) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يا أَيُّهَا النَّاسُ النَّاسُ مرفوعون على النعت لأي، وأجاز المازني النصب على الموضع كما تقول: يا زيد الكريم أقبل. قال أبو إسحاق: هذا غلط من المازني، لأن زيدا يجوز الوقف والاقتصار عليه، ولا يجوز يا أيّها والنّاس هم المقصودون. والمعنى: يا ناس اتّقوا ربّكم. إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ وهي شدائدها، ورجفة الأرض، والآيات الباهرة. [سورة الحج (22) : آية 2] يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ قال أبو إسحاق: تذهل تحيّر وتترك. مرضعة جارية على الفعل لأن بعدها أَرْضَعَتْ والكوفيون يقولون «1» : ما كان مخصوصا به المؤنث لم تدخل الهاء فيه نحو حائض وطالق وما أشبههما. قال علي بن سليمان: الدليل على أنّ هذا القول غلط إثبات الهاء في موضعه. وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى أي هي لشدّة الهول وخفقان القلب. وقرأ أبو هريرة وَتَرَى النَّاسَ سُكارى «2» يكونان مفعولين. قال سيبويه «3» يقال: سكارى وسكارى قال: وقوم يقولون: سكرى شبّهوه بمرضى لأنه آفة تدخل على العقل كالمرض. قال أبو جعفر: قول سيبويه: وقوم يقولون: سكرى يدلّ على أنّ غير هذه اللغة أشهر منها. [سورة الحج (22) : آية 3] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3)

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 214. (2) انظر البحر المحيط 6/ 325، ومختصر ابن خالويه 94، ومعاني الفراء 2/ 215. (3) انظر الكتاب 4/ 118. [.....]

[سورة الحج (22) : آية 4]

مِنَ في موضع رفع بالابتداء، ويجادل على اللفظ، ويجوز في غير القرآن يجادلون على المعنى. وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ يقال: مريد ومارد للمتجاوز في الشرّ القويّ فيه، وصخرة مرداء أي ملساء، ومنه قيل: أمرد. [سورة الحج (22) : آية 4] كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ (أن) في موضع رفع فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ عطف عليه ومذهب سيبويه أنّ «أنّ» الثانية مكررة للتوكيد، وأن المعنى: كتب عليه أنه من تولّاه يضلّه. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: التقدير: كتب عليه أنه من تولّاه فالواجب أن يضلّه بفتح الهمز، ومن زعم أنّ «أنّ» في موضع رفع بالابتداء فقد أخطأ، لأنّ سيبويه منع أن يبتدأ بأنّ المفتوحة، وأجاز سيبويه كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ بكسر الهمزة لأن الفاء جواب للشرط فسبيل ما بعدها أن يكون مبتدأ، والابتداء بأن يكون مكسورا. وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ مجاز لمّا كان يأمره بما يؤديه إلى النار قام ذلك مقام الهداية إليها. [سورة الحج (22) : آية 5] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ وحكى النحويون: من البعث، وأجاز الكوفيون في كلّ ما كان ثانية حرفا من حروف الحلق أن تسكّن وتفتح نحو نعل، ونعل وبخل وبخل. قال أبو إسحاق: هذا خطأ وإنما يرجع في هذا إلى اللغة فيقال: لفلان عليّ وعد ولا يقال: وعد، ولا فرق بين حروف الحلق وغيرها في هذا، وإنما هذا مثل قدر وقدر. قال أبو عبيد: العلقة الدمّ إذا اشتدّت حمرته. قال الكسائي: ويجوز مُخَلَّقَةٍ «1» بالنصب وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ على الفعل والقطع. لِنُبَيِّنَ لَكُمْ أي لنبيّن لكم قدرتنا على تصويرنا ما نشاء. وروى أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ «2» فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ بالنصب. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا. قال أبو حاتم: النصب على العطف. قال أبو إسحاق: وَنُقِرُّ «3» بالرفع لا غير لأنه

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 215، نصب على الحال. (2) انظر البحر المحيط 6/ 327. (3) انظر البحر المحيط 6/ 327.

[سورة الحج (22) : آية 6]

ليس المعنى فعلنا ذلك لنقرّ في الأرحام ما نشاء لأن الله جل وعز لم يخلق الأنام ليقرّ في الأرحام ما نشاء، وإنّما خلقهم ليدلّهم على الرشد والصلاح. قال: وطفل بمعنى أطفال قال: ودلّ على ذلك لفظ الجميع قال: وفيه معنى ويخرج كلّ واحد منكم طفلا. ومن قرأ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى «1» فمعناه عنده يستوفي أجله. وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي إلى الكبر لأنه لا يرجو قوّة ولا طول عمر فهو في أرذل العمر لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً مذهب الفراء «2» لكي لا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئا. مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ قال الكسائي: يقال: بهج بهجة وبهاجة. [سورة الحج (22) : آية 6] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) موضع «ذلك» رفع بمعنى الأمر ذلك. قال أبو إسحاق: يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى فعل الله ذلك لأنه الحق. [سورة الحج (22) : آية 8] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ في موضع رفع بالابتداء. [سورة الحج (22) : آية 9] ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ثانِيَ عِطْفِهِ نصب على الحال. ويتأوّل على معنيين: أحدهما أنه روي عن ابن عباس أنه قال: هو النّضر بن الحارث لوى عنقه مرحا وتعظّما، والمعنى الآخر، وهو قول الفراء «3» : إن التقدير: ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ثاني عطفه أي معرضا عن الذكر. [سورة الحج (22) : آية 10] ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ قال أبو إسحاق: «ذلك» في موضع رفع بالابتداء وخبره بِما قَدَّمَتْ يَداكَ. وَأَنَّ اللَّهَ في موضع خفض عطفا على الأول، ويجوز أن يكون في موضع رفع على معنى «والأمر أنّ الله ليس بظلام للعبيد» . قال: ويجوز الكسر «وإنّ الله» . [سورة الحج (22) : آية 11] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ في موضع رفع بالابتداء، والتمام انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 328، ومختصر ابن خالويه 94. (2) انظر معاني الفراء 2/ 216. (3) انظر معاني الفراء 2/ 216.

[سورة الحج (22) : آية 12]

على قراءة من قرأ خَسِرَ «1» وقرأ مجاهد وحميد خاسر الدنيا والآخرة «2» نصبا على الحال خسر الدنيا بذمّ الله جل وعز إياه وأمره بلعنه وأن لا حظّ له في غنيمة ولا ثناء وخسر الآخرة بأن لا ثواب له فيها. [سورة الحج (22) : آية 12] يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ قال الفراء: أي الطويل. [سورة الحج (22) : آية 13] يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ قد ذكرنا فيه أقوالا: منها قول الكسائي إن اللام في غير موضعها، وإن التقدير يدعو من لضرّه أقرب من نفعه. قال أبو جعفر: وليس للام من التصرف ما يوجب أن يجوز فيها تقديم وتأخير. وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال: في الكلام حذف، والمعنى: يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه إلها. قال: وأحسب هذا القول غلط على محمد بن يزيد لأنه لا معنى له لأنّ ما بعد اللام مبتدأ فلا يجوز نصب إله، وما أحسب مذهب محمد بن يزيد إلّا قول الأخفش سعيد، وهو أحسن ما قيل في الآية عندي، والله أعلم. قال: «يدعو» بمعنى يقول و «من» مبتدأ وخبره محذوف، والمعنى: يقول لمن ضرّه أقرب من نفعه إلهه، ولو كانت اللام مكسورة لكان المعنى يدعو إلى من ضرّه أقرب من نفعه. وقال الله جلّ وعزّ: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: 5] أي إليها. لَبِئْسَ الْمَوْلى في موضع رفع ببئس. وقد شرحنا مثل هذا «3» . [سورة الحج (22) : آية 15] مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) قد تكلّم النحويون في معنى هذه الآية وفي بيان ما أشكل منها. فمن أحسن ما قيل فيها أنّ المعنى: من كان يظنّ أن لن ينصر الله جلّ وعزّ محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وأنه يتهيّأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه، فليمدد بسب إلى السماء أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء ثُمَّ لْيَقْطَعْ أي ثم ليقطع النصر إن تهيّأ له فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ وحيلته ما يغيظه من نصر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيّأ له الكيد والحيلة بأن يفعل

_ (1) هذه قراءة الجمهور، انظر البحر المحيط 6/ 330. (2) وهذه قراءة الأعرج وابن محيصن وقعنب والجحدري وابن مقسم أيضا، انظر البحر المحيط 6/ 330، والمحتسب 2/ 75. (3) مرّ في إعراب الآية 151، آل عمران.

[سورة الحج (22) : آية 17]

مثل هذا لم يصل إلى قطع النصر. وقرأ أهل الكوفة بإسكان اللام. وهذا بعيد في العربية لأن ثمّ ليست مثل الواو والفاء لأنها يوقف عليها وتنفرد. [سورة الحج (22) : آية 17] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا خبر «إن» . إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ قال الفراء «1» ولا يجوز في الكلام: إنّ زيدا إنّ أخاه منطلق، فزعم أنه إنما جاز في الآية لأن في الكلام معنى المجازاة أي من آمن، ومن تهوّد، أو تنصّر، أو صبأ، ففصل ما بينهم وحسابهم على الله عزّ وجلّ، وردّ أبو إسحاق على الفراء هذا واستقبح قوله: إنّ زيدا إنّ أخاه منطلق. قال: لأنه لا فرق بين زيد وبين الذي، «وإنّ» تدخل على كل مبتدأ فتقول: إنّ زيدا هو منطلق، ثم تأتي بإنّ فتقول: إنّ زيدا إنّه منطلق. [سورة الحج (22) : آية 18] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) معطوفة على «من» وكذا وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ثم قال جلّ وعزّ: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وهذا مشكل من الإعراب. فيقال: كيف لم ينصب ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل مثل وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً [الإنسان: 31] فزعم الكسائي والفراء «2» أنه لو نصب لكان حسنا. ولكن اختير الرفع لأنّ المعنى: وكثير أبى السجود، وفي رفعه قول آخر، يكون معطوفا على الأول داخلا في السجود لأن السجود هاهنا إنّما هو الانقياد لتدبير الله جل وعز من ضعف وقوّة وصحّة وسقم وحسن وقبح، وهذا يدخل فيه كل شيء. وحكى الكسائي والأخفش والفراء وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ «3» أي من إكرام. [سورة الحج (22) : آية 19] هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) قرأ ابن كثير وشبل هذانِ خَصْمانِ بتشديد النون، وفي ذلك قولان: أحدهما أن تشديدها عوض مما حذف من هذين، والآخر على أنها غير ساقطة في الإضافة. وتأوّل

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 218. (2) انظر معاني الفراء 2/ 219. (3) انظر البحر المحيط 6/ 334.

[سورة الحج (22) : آية 20]

الفراء «1» «2» الخصمين على أنهما فريقان أهل دينين، وزعم أنّ الخصم الواحد المسلمون، والآخر اليهود والنصارى، اختصموا في دين ربهم. قال: فقال: اختصموا لأنهم جميع. قال: ولو قال اختصما لجاز. قال أبو جعفر: وهذا تأويل من لا دربة له بالحديث، ولا بكتب أهل التفسير، لأن الحديث في هذه الآية مشهور رواه سفيان الثوري وغيره عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما إنّ هذه الآية نزلت في حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة، وهكذا روى أبو عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس «3» . [سورة الحج (22) : آية 20] يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ رفع بفعل ما لم يسمّ فاعله. وَالْجُلُودُ عطف على «ما» . قال الكسائي. يقال: صهرته أنضجته. والكوفيون يقولون: معنى والجلود: وجلودهم. [سورة الحج (22) : آية 23] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) قال أبو إسحاق ويقرأ ويحلون «4» فيها من أساور من ذهب على قولك: حلي يحلى إذا صار ذا حلي، قال: وَلُؤْلُؤاً بمعنى ويحلّون لؤلؤا، قال: و «لؤلؤ» بمعنى: ومن لؤلؤ. قال: ويجوز أن يكون ذلك خلطا منهما. [سورة الحج (22) : آية 24] وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ فيه ثلاثة أوجه: يكون في اللغة على العموم، وقيل: الطيب من القول البشارات الحسنة، وقيل: هو قولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر: 34] . [سورة الحج (22) : آية 25] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اسم «إنّ» وكَفَرُوا صلته وَيَصُدُّونَ عطف على الذين كفروا. فإن قيل: كيف يعطف مستقبل على ماض؟ ففيه ثلاثة أوجه: منها أن يكون عطف جملة على جملة، ومنها أن يكون في موضع الحال، كما تقول: كلّمت زيدا

_ (1) انظر تيسير الداني 127. (2) انظر معاني الفراء 2/ 219. [.....] (3) انظر البحر المحيط 6/ 334. (4) انظر البحر المحيط 6/ 335، ومختصر ابن خالويه 94، والمحتسب 2/ 77.

[سورة الحج (22) : الآيات 26 إلى 27]

وهو جالس، وقال أبو إسحاق: هو معطوف على المعنى لأن المعنى إنّ الكافرين والصادين عن المسجد الحرام. وفي خبر «إنّ» ثلاثة أوجه: أصحّها أن يكون محذوفا، ويكون المعنى: إنّ الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله هلكوا، وقيل: المعنى: إنّ الذين كفروا يصدّون عن سبيل الله والواو مقحمة. قال أبو جعفر: في كتابي عن أبي إسحاق قال: وجائز أن يكون، وهو وجه الخبر نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. قال أبو جعفر: هذا غلط، ولست أعرف ما الوجه فيه لأنه جاء بخبر إنّ جزما، وأيضا فإنه جواب الشرط، ولو كان خبرا لبقي الشرط بلا جواب ولا سيما والفعل الذي للشرط مستقبل فلا بد له من جواب. الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ «1» . فيه ثلاثة أوجه من القراءات: قراءة العامة برفع سواء والعاكف والبادي، وعن أبي الأسود الدؤلي أنه قرأ سواء العاكف فيه والبادي بنصب سواء ورفع العاكف والبادي، وتروى هذه القراءة عن الأعمش باختلاف عنه، والوجه الثالث الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً «2» منصوبة منونة. الْعاكِفُ فيه بالخفض. فالقراءة الأولى فيها ثلاثة أوجه: يكون الذي جعلناه للناس من تمام الكلام ثم تقول سواء فترفعه بالابتداء، وخبره العاكف فيه والبادي، والوجه الثاني أن ترفع سواء على خبر العاكف، وتنوي به التأخير أي العاكف فيه والبادي سواء، والوجه الثالث أن تكون الهاء التي في جعلناه مفعولا أول، وسواء العاكف فيه والبادي في موضع المفعول الثاني، كما تقول: ظننت زيدا أبوه خارج، ومن هذا الوجه تخرج قراءة من قرأ بالنصب «سواء» يجعله مفعولا ثانيا، ويكون العاكف فيه رفعا إلّا أن الاختيار في مثل هذا عند سيبويه الرفع لأنه ليس جاريا على الفعل، والقراءة الثالثة على أن ينصب «سواء» لأنه مفعول ثان ويخفض «العاكف» لأنه نعت للناس، والتقدير: الذي جعلناه للناس العاكف فيه والبادي سواء وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ شرط وجوابه نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. وروى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ قال: الشرك. وقال عطاء: الشرك والقتل. وقد ذكرنا هذه الآية. [سورة الحج (22) : الآيات 26 الى 27] وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ في دخول اللام ثلاثة أوجه: لأنه يقال: بوّأت زيدا منزلا، فأخذ الثلاثة الأوجه أن تحمله على معنى جعلنا لإبراهيم مكان البيت

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 336، وكتاب السبعة لابن مجاهد 435. (2) انظر البحر المحيط 6/ 336، وهي قراءة الأعمش وحفص.

[سورة الحج (22) : آية 29]

مبوّءا، والوجه الثاني أن تكون اللام متعلقة بالمصدر مثل «ومن يرد فيه بإلحاد» ، والوجه الثالث أن تكون اللام زائدة، وهذا قول الفراء «1» . قال: مثل رَدِفَ لَكُمْ [النمل: 72] أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً في «أن» ثلاثة أوجه: قال الكسائي: في المعنى «بأنّ لا» ، والوجه الثاني أن تكون «أن» بمعنى أي مثل وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص: 6] ، والوجه الثالث تكون «أن» زائدة لتوكيد مثل فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ [يوسف: 69] وفي قوله: لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وفي وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ وما بينهما من المخاطبة ثلاثة أوجه كلّها عن العلماء: فأما قول المتقدّمين فإنّ هذا كلّه مخاطبة لإبراهيم عليه السلام. كما روى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال لإبراهيم عليه السلام: أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ فجعل لا يمرّ بقوم إلّا قال: إنه قد بني لكم بيت فحجوه فأجابه كل شيء من صخرة وشجرة وغيرها بلبّيك اللهمّ لبّيك. وروى حماد بن سلمة عن أبي عاصم الغنويّ عن أبي الطفيل قال: قال ابن عباس: أتدري ما كان أصل التلبية؟ قلت: لا، قال: لمّا أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذّن في الناس بالحجّ خفضت الجبال رؤوسها له، ورفعت له القرى، فنادى في الناس بالحجّ فأجابه كلّ شيء بلبيّك اللهمّ لبّيك، فهذا وجه. وقيل: أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ لإبراهيم عليه السلام. وتمّ الكلام. ثم خاطب الله جلّ وعزّ محمدا عليه السلام فقال: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ أي أعلمهم أن عليهم الحجّ، والوجه الثالث أنّ هذا كله مخاطبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهذا قول أهل النظر لأن القرآن أنزل على النبيّ عليه السلام فكلّ ما فيه من المخاطبة فهي له إلّا أن يدلّ دليل قاطع على غير ذلك، وهاهنا دليل آخر يدلّ على أنّ المخاطبة للنبيّ عليه السلام وهو «أنّ لا تشرك» بالتاء، وهذا مخاطبة لمشاهد، وإبراهيم عليه السلام غائب. فالمعنى على هذا وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله جلّ وعزّ، وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده فلا تشرك بي شيئا، وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود، وأذن في الناس بالحجّ. قيل: المعنى أعلمهم أنك تحجّ حجّة الوداع ليحجّوا يَأْتُوكَ رِجالًا نصب على الحال. وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ فيه ثلاثة أوجه: «يأتين» لأن معنى ضامر معنى ضوامر، فنعته بيأتين، وفي بعض القراءات يأتون «2» يكون للناس. قال الفراء: ويجوز يأتي على اللفظ. [سورة الحج (22) : آية 29] ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وقرأ أهل الكوفة بإسكان باللام «3» ، وهو وجه بعيد في

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 223. (2) انظر مختصر ابن خالويه 95، وهي قراءة ابن مسعود. (3) انظر معاني الفراء 2/ 224.

[سورة الحج (22) : آية 30]

العربية لأن ثمّ يوقف عليها، ولا يجوز أن يبتدأ بساكن وجوازه على بعد «ثمّ» عاطفة كالواو والفاء وفتحت الميم من ثمّ لالتقاء الساكنين، ولا يجوز ضمّها ولا كسرها لأنها لا تنصرف. والتقدير في العربية: ثم ليقضوا أجل تفثهم، مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ فيه ثلاثة أوجه: كسر اللام على الأصل، وإسكانها لثقل الكسرة، والوجه الثالث أن عاصما قرأ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ «1» . [سورة الحج (22) : آية 30] ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ أي الأمر ذلك من الفروض والمعنى ومن يعظم عنده فعل الحرام تعظيما لله جلّ وعزّ وخوفا منه. فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ابتداء وخبر. إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في موضع نصب على الاستثناء. فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ (من) عند النحويين لبيان الجنس إلّا أنّ الأخفش زعم أنها للتبعيض أي: فاجتنبوا الرجس الذي هو من الأوثان أي عبادتها. وهو قول غريب حسن. [سورة الحج (22) : آية 31] حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) حُنَفاءَ نصب على الحال وكذا غَيْرَ مُشْرِكِينَ. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ أي هو يوم القيامة لا يملك لنفسه نفعا، ولا يدفع عن نفسه عذابا بمنزلة من خرّ من السماء فهو لا يقدر أن يدفع عن نفسه ما هو فيه فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أي تقطّعه بمخالبها، ولا يمكن دفعها عن نفسه. وفي «تخطفه» ثلاثة أوجه سوى هذا. قرأ الأعرج فَتَخْطَفُهُ «2» بفتح التاء والخاء وتشديد الطاء، وقرأ أبو رجاء فَتَخْطَفُهُ «3» بفتح التاء وكسر الخاء وتشديد الطاء، وتروى هذه القراءة عن الحسن، والوجه الثالث يروى عن الحسن فَتَخْطَفُهُ بكسر التاء والخاء وتشديد الطاء. فقراءة الأعرج الأصل فيها فتختطفه ثم أدغم التاء في الطاء وألقى حركة التاء على الخاء. وقراءة أبي رجاء على أنه كسر الخاء لالتقاء الساكنين، والقراءة الآخرة على هذا إلّا أنه كسر التاء على لغة من قال: أنت تضرب. والسحيق: البعيد. [سورة الحج (22) : آية 32] ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 339، وهي قراءة شعبة أيضا، والجمهور مخفّفا. (2) انظر البحر المحيط 6/ 340، وهي قراءة نافع أيضا. (3) انظر البحر المحيط 6/ 340، وهي قراءة الحسن والأعمش أيضا.

[سورة الحج (22) : آية 34]

ذلِكَ فيه ثلاثة أوجه: يكون في موضع رفع بالابتداء أي ذلك أمر الله جل وعزّ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون في موضع نصب أي اتّبعوا ذلك من أمر الله جلّ وعزّ في الحجّ. وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ أحسن ما قيل فيه أن المعنى ومن يعظّم ما أمر به في الحجّ. سمّي شعائر لأن الله جلّ وعزّ أشعر به أي أعلم به وتعظيمه إيّاه أن لا يعصي الله جلّ وعزّ فيه فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أي من تقوى الإنسان ربّه بقلبه، وهو مجاز. [سورة الحج (22) : آية 34] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم وقرأ الكوفيون إلّا عاصما مَنْسَكاً «1» بكسر السين. قال: وفي كتابي عن أبي إسحاق منسك بفتح السين مصدر بمعنى النّسك والنّسوك، ومنسك أي مكان نسك مثل مجلس. قال أبو جعفر: وهذا غلط قبيح إنما يكون هذا في فعل يفعل نحو جلس يجلس والمصدر مجلس والموضع مجلس فأما فعل يفعل فلا يكون منه مفعل اسما للمكان، ولا مصدرا إلّا أن يسمع شيء فيؤدّى على ما سمع، على أن الكثير من كلام العرب منسك، وهو القياس، والباب، ومنسك يقع في كلام العرب على ثلاثة أوجه: يكون مصدرا، ولظرف الزمان، ولظرف المكان. قال الفراء «2» المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير أو شرّ. وقيل: مناسك الحج لترداد الناس إليها. فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي لا تذكروا على ذبائحكم اسم غيره وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ عن أهل التفسير فيه ثلاثة أقوال: قال عمرو بن أوس: المخبت الذي لا يظلم وإذا أظلم لم ينتصر. وقال الوليد بن عبد الله: المخبتون: المخلصون لله جلّ وعزّ. وقال مجاهد: هم المطمئنّون بأمر الله جلّ وعزّ. قال أبو جعفر: الخبت من الأرض: المكان المطمئنّ المنخفض، فاشتقاقه من هذا. [سورة الحج (22) : آية 35] الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أن يعصوه فيعاقبوا. وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ أي يصبرون على الشدائد في الطاعة والنهي عن المنكر وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ فيه ثلاثة أوجه: وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ بالخفض على الإضافة وتحذف النون منها، ويجوز النصب مع

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 341، وكتاب السبعة لابن مجاهد 436. (2) انظر معاني الفراء 2/ 230.

[سورة الحج (22) : آية 36]

حذف النون لأن الألف واللام بمعنى الذي، هذا قول سيبويه «1» . وقال أحمد بن يحيى: جاز النصب مع حذف النون يجريه مجرى الواحد لأنك في الواحد تنصبه فتقول: هو الآخذ درهما، والوجه الثالث في الكلام والمقيمين الصّلاة على الأصل. [سورة الحج (22) : آية 36] وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ منصوبة بإضمار فعل مثل الثاني، وقرأ ابن أبي إسحاق والبدن «2» بضم الباء والدال، وكذا روي عن عيسى والحسن وأبي جعفر. وحكى الفراء أنه يقال للواحدة بدنة وبدن. قال أبو جعفر: فبدن وبدن مثل وثن ووثن، وبدن يقال: إنه جمع الجمع أي بدنة وبدان وبدن. فإن قال قائل: فلم صار بدنة وبدن أفصح، وخشبة وخشب أفصح، والوزن واحد؟ فالجواب أنّ بدنة في الأصل نعت من البدانة، وهي السمن، وخشية ليست بنعت والنعت أولى بالتسكين، وما ليس بنعت أولى بالحركة. ألا ترى إلى قولهم: خذلة وخذلات، وحلوة وحلوات، وجفنة وجفنات، وظلمة وظلمات. فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فيه ثلاثة أوجه قد قرئ بها: قراءة العامة صَوافَّ، وعن الحسن والأعرج صوافي فإذا «3» جمع صافية، الخالصة. وعن عبد الله بن مسعود صوافن «4» جمع صافنة. قال الفراء «5» : الصافنة القائمة، وحكى غيره أنها القائمة على ثلاث، وحكى أبو عبيدة أن الصافنة التي قد جمعت رجليها ورفعت سنبكها، وقال أبو عمر الجرمي: الصافن عرق في مقدّم الرجل فإذا ضرب على الفرس رفع رجليه فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها قال مقسم عن ابن عباس قال: فإذا وقعت على جنوبها. [سورة الحج (22) : آية 37] لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها على تذكير الجمع، ويقال على تأنيث الجماعة وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى لأن التّقوى والتّقى واحد، ويناله على لفظ التقوى. وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ أي الذين أحسنوا في أداء ما عليهم. [سورة الحج (22) : آية 39] أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)

_ (1) انظر الكتاب 1/ 243. (2) انظر مختصر ابن خالويه 95، والبحر المحيط 6/ 342. [.....] (3) انظر البحر المحيط 6/ 342، ومعاني الفرّاء 2/ 226. ومختصر ابن خالويه 95. (4) انظر معاني الفراء 2/ 226. (5) انظر معاني الفراء 2/ 226.

[سورة الحج (22) : آية 40]

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ فيه ثلاثة أوجه من القراءات: هذه التي ذكرناها قراءة أهل المدينة، وقرأ أبو عمرو وعاصم أُذِنَ «1» كما قرأ أهل المدينة وقرأ يقاتلون بكسر التاء، وقرأ الكوفيون إلّا عاصما أذن «2» بفتح الهمزة والذين يقاتلون بكسر التاء والمعاني في هذا متقاربة لأنهم قد قاتلوا وقوتلوا إلّا أن قراءة أهل المدينة في هذا أصحّ معنى، وأبين من وجهين: أحدهما أنه قد صحّ عن ابن عباس أنها أول آية نزلت في القتال. قال أبو جعفر: كما حدّثنا أبو الحسن محمد بن محمد قال: حدّثنا محمد بن حمّاد الطهرانيّ قال: أخبرنا عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن مسلم عن سعيد عن ابن عباس أنه يقرأها أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ وقال: هي أول آية أنزلت في القتال. قال الطهراني: لا أدري كيف القراءة فإذا كانت أول آية أنزلت في القتال فهم لم يقاتلوا بعد. فيبعد أن يكون أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ وكان يقاتلون بيّنا، والجهة الأخرى أن بعده «بأنّهم ظلموا» ، وبعده الَّذِينَ أُخْرِجُوا فوجب أيضا أن يكون «يقاتلون» بأنهم ظلموا ولأنهم ظلموا واحد، كما تقول: جزيته ببغيه ولبغيه. قال أبو إسحاق: ولا يجوز: وأنّ الله على نصرهم لقدير. بفتح الهمزة لأن إنّ إذا كانت معها اللام لم يجز فتحها. [سورة الحج (22) : آية 40] الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ في موضع خفض بدلا من الذين. إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ في موضع نصب على مذهب سيبويه استثناء ليس من الأول، وقال الفراء «3» : يجوز أن تكون «أن» في موضع خفض يقدّرها مردودة على الباء، وهو قول أبي إسحاق، والمعنى عنده: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلّا بأن يقولوا: ربّنا الله أي أخرجوا بتوحيدهم. أخرجهم أهل الأوثان. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ روي عن أبي الدّرداء أنه قال: لولا أنّ الله جلّ وعزّ يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد، وبمن يغزو عمن لا يغزو لأراهم العذاب، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: لولا أن الله جلّ وعزّ يدفع بأخذ الحقوق بالشهادات لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ ولم ينصرف، صوامع ومساجد، لأنهما جمعان، وهما نهاية الجموع فثقلا فمنعا الصّرف. وكذلك كل جمع ثالث حروفه ألف وبعد الألف حرفان أو ثلاثة. وقوله جلّ وعزّ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً الذي يجب في كلام العرب على حقيقة النظر

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 346. (2) انظر البحر المحيط 6/ 346، وكتاب السبعة لابن مجاهد 437. (3) انظر معاني الفراء 2/ 227.

[سورة الحج (22) : الآيات 41 إلى 42]

أن يكون يذكر فيها اسم الله عائدا على المساجد لا على غيرها لأن الضمير يليها، ويجوز أن يكون يعود على صوامع وما بعدها. ويكون المعنى: في وقت شرائعهم وإقامتهم الحدود والحقّ. [سورة الحج (22) : الآيات 41 الى 42] الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ قال أبو إسحاق: الَّذِينَ في موضع نصب ردا على «من» يعني في «ولينصرنّ الله من ينصره» ، وقال غيره: «الذين» في موضع خفض ردّا على قوله أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ، ويكون الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ لأربعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يمكّن في الأرض غيرهم من الذين قيل فيهم: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وبهذه الآية يحتجّ في إمامة أبي بكر وعمر وغيرها من الآي. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا «1» ما في وَثَمُودُ من الصّرف وتركه. [سورة الحج (22) : آية 45] فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ قال الضحاك: أي متروكة، وقرأ الجحدري وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ «2» وإن المعنى واحد، وفي هذا أعظم الموعظة. وعظهم الله جلّ وعزّ بقوم قد أهلكوا وبقيت آثارهم يعرفونها. قال الأصمعي: سألت نافع بن أبي نعيم أتهمز البئر والذئب فقال: إذا كانت العرب تهمزها فأهمزها، وأكثر الروايات عن نافع بهمزهما إلّا ورشا فإنّ روايته عنه بغير همز فيهما، والأصل الهمز. قال أحمد بن يحيى: الذئب مشتقّ من تذاءبت الريح، إذا جاءت من وجوه كثيرة، وكذلك الذئب. قال أبو جعفر: فإذا حذفت الهمزة، وهي ساكنة لم يكن بعد السكون إلّا قلبها إلى ما أشبه ما قبلها. والفراء يذهب إلى أن «وبئر» معطوفة على عروضها، وأبو إسحاق يذهب إلى أنها معطوفة من «قرية» أي ومن بئر، ثم قال: «أخذتها وإلى المصير» . قال أبو إسحاق: أي بالعذاب، ثم حذف لأن قبله ما يدلّ عليه وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ. [سورة الحج (22) : آية 52] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) هذه آية مشكلة من جهتين: إحداهما أن قوما يرون أن الأنبياء فيهم مرسلون وغير

_ (1) مرّ في إعراب الآية 73 من سورة الأعراف. (2) وهذه قراءة الحسن وجماعة أيضا، مخفّفة، انظر البحر المحيط 6/ 348، ومختصر ابن خالويه 96.

مرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين. وغيرهم يذهب إلى أنه لا يجوز أن يقال: نبيّ حتى يكون مرسلا. والدليل على صحة هذا قوله جلّ وعزّ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ فأوجب للنبيّ الرسالة. وإنّ معنى نبيّ أنبأ عن الله جلّ وعزّ، ومعنى أنبأ عن الله جلّ وعزّ هو الإرسال بعينه. والجهة الأخرى التي فيها الإشكال الحديث المروي. قال أبو جعفر: وقد ذكرناه بإسناده وهو أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قرأ: «أفرأيتم اللات والعزّى فإنّ شفاعتهم ترتجى» «1» وسها كذا في رواية الزّهري، وفي رواية غيره «فإنهن الغرانيق العلى» . قال أبو جعفر: وهذا يجب أن يوقف على معناه من جهة الدين لطعن من طعن فيه من الملحدين. فأول ذلك أنّ الحديث ليس بمتصل الإسناد، ولو اتّصل إسناده وصحّ لكان المعنى فيه صحيحا. فأما معنى «وسها» فإنّ معناه وأسقط. ويكون تقديره أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وتمّ الكلام، ثمّ أسقط والغرانيق العلى، يعني الملائكة فإن شفاعتهم، يعود الضمير على الملائكة. فأمّا من روى «فإنّهنّ الغرانيق العلى» ففي روايته أجوبة عنها أن يكون القول محذوفا كما تستعمل العرب في أشياء كثيرة، ويجوز أن يكون بغير حذف، ويكون توبيخا لأن قبله أفرأيتم فيكون هذا احتجاجا عليهم. فإن كان في الصلاة فقد كان الكلام مباحا في الصلاة، ويجوز أن يكون الضمير للملائكة كما يضمر ما يعرف معناه فينسخ الله جلّ وعزّ ذلك لما فيه من الصلاح. والذي فيه من الصلاح إزالة التمويه أن يموّه على قوم فيقال لهم: هذا الضمير للّات والعزّى، فأنزل الله جلّ وعزّ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ وفي الآية قولان آخران: أحدهما أن يكون المعنى لمّا تلا أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى قال رجل ألقى الشيطان على لسانه: فإنهنّ الغرانيق العلى، والقول الآخر أنّ علي بن أبي طلحة روى عن ابن عباس في قوله الله جلّ وعزّ: إِلَّا إِذا تَمَنَّى قال: إذا تحدّث ألقى الرداءة الشيطان في أمنيته، قال: في حديثه فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ قال: فيبطل الله ما يلقي الشيطان. وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجلّه. وقد قال أحمد بن محمد بن حنبل: بمصر صحيفة في التّفسير رواها عليّ بن أبي طلحة لو رحل فيها رجل إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا. والمعنى عليه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا حدّث نفسه ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة، فيقول له: لو سألت الله جلّ وعزّ أن يغنّمك كذا ليتّسع المسلمون، ويعلم الله جلّ وعزّ الصّلاح في غير ذلك فيبطل ما يلقي الشيطان، كما قال ابن عباس وحكى الكسائي والفراء «2» جميعا تمنّى إذا حدّث نفسه. وهذا هو المعروف في اللغة. وقد حكيا أيضا تمنّى إذا تلا، وروي ذلك عن الضحاك.

_ (1) انظر تفسير القرطبي 12/ 80. (2) انظر معاني الفراء 2/ 229.

[سورة الحج (22) : آية 55]

[سورة الحج (22) : آية 55] وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) وحكى أبو عبد الرحمن السلمي فِي مِرْيَةٍ بضم الميم والكسر أعرف حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قال محمد بن يزيد: هو مصدر في موضع الحال أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ سمّي يوم القيامة عقيما لأنّه ليس يعقب بعده يوما مثله. [سورة الحج (22) : آية 63] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) فتصبح ليس بجواب وإنما هو خبر عند الخليل رحمه الله. قال الخليل: المعنى انتبه أنزل من السماء ماءا فكان كذا وكذا كما قال: [الطويل] 304- ألم تسأل الرّبع القوّاء فينطق ... وهل تخيرنك اليوم بيداء سملق «1» وقال الفراء «2» : «ألم تر» خبر، كما تقول في الكلام: اعلم أنّ الله تبارك وتعالى ينزل من السماء ماءا فتصبح الأرض مخضرة. [سورة الحج (22) : آية 65] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وسخر الفلك، ويجوز أن يكون المعنى وأنّ الفلك، ويجوز الرفع على الابتداء وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ في موضع نصب أي ويمسك السماء كراهة أن تقع على الأرض. [سورة الحج (22) : آية 72] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ فيها ثلاثة أوجه: الرفع بمعنى هو النار أو هي

_ (1) الشاهد لجميل بثينة في ديوانه 137، والأغاني 8/ 146، وخزانة الأدب 8/ 524، والدرر 4/ 81، وشرح أبيات سيبويه 2/ 201، وشرح التصريح 2/ 240، وشرح شواهد المغني 1/ 474، وشرح المفصّل 7/ 36، ولسان العرب (سملق) ، والمقاصد النحوية 4/ 403، وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 185، والجنى الداني ص 76، والدرر 6/ 86، والردّ على النحاة ص 127، والكتاب 3/ 37، ورصف المباني ص 378، ولسان العرب (حدب) ومغني اللبيب 1/ 168، وهمع الهوامع 2/ 11. (2) انظر معاني الفراء 2/ 229.

[سورة الحج (22) : آية 73]

النار، والخفض على البدل، والنصب فيه ثلاثة أوجه: يكون بمعنى أعني، وعلى إضمار فعل مثل الثاني، ويكون محمولا على المعنى أي أعرّفكم بشرّ من ذلكم النار. [سورة الحج (22) : آية 73] يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ أحسن ما قيل فيه أنّ المعنى ضرب لله جلّ وعزّ مما يعبد من دونه مثل. [سورة الحج (22) : آية 78] وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ قال أبو إسحاق: قيل: إن هذا منسوخ. قال: وكذا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] قال أبو جعفر: وهذا مما لا يجوز أن يقع فيه نسخ، لأنه واجب على الإنسان، كما روى حيوة بن شريح عن أبي هاني الخولاني عن عمرو بن مالك عن فضالة بن عبيد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «المجاهد من جاهد نفسه لله جلّ وعزّ» «1» ، وكما روى أبو طالب عن أبي أسامة أنّ رجلا سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أي الجهاد أفضل عند الجمرة الأولى؟ فلم يجبه ثم سأله عند الجمرة الثانية فلم يجبه، ثم سأله عند جمرة العقبة فقال عليه السلام: أين السائل؟ فقال: أنا ذا فقال صلّى الله عليه وسلّم: «كلمة عدل عند سلطان جائر» «2» . هُوَ اجْتَباكُمْ فدلّ بهذا على فضل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلى الردّ على من يتنقّصهم لأنه جلّ وعز اختارهم لنصرة نبيّه عليه السلام. وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ في موضع نصب و (من) زائدة للتوكيد. مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ قال الفراء «3» : أي كملّة أبيكم، فإذا ألقيت الكاف نصبت أي وسّع عليكم كملّة أبيكم. قال: وإن شئت نصبت على الأمر. قال أبو إسحاق: المعنى اتّبعوا ملّة أبيكم. قال: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ يجوز أن يكون لإبراهيم عليه السلام أي سماكم المسلمين فيما تقدّم

_ (1) أخرجه ابن ماجة في سننه الحديث (4011) ، وأبو داود في سننه الحديث (4344) ، والترمذي في سننه 9/ 19. (2) أخرجه الترمذي في سننه 9/ 19، وابن ماجة في سننه حديث (4011) . [.....] (3) انظر معاني الفراء 2/ 231.

وَفِي هذا أي وفي حكمه أنّ من اتّبع محمدا صلّى الله عليه وسلّم موحد فقد سمّاكم المسلمين. قال أبو جعفر: هذا القول مخالف لقول العلماء الأئمة. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو سمّاكم المسلمين، قال: الله جلّ وعزّ، وكذا روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس. وروى ابن نجيح عن مجاهد في قوله جلّ وعزّ: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ قال: سمّاكم المسلمين من قبل الكتب والذكر، وفي هذا القرآن. لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ أي بتبليغه إياكم. وبإجابتكم إياه وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ بتبليغكم إياهم وبما ترون منهم وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ قيل: أي امتنعوا بما أعطاكم من القوة وانبساط اليد من المعاصي. هُوَ مَوْلاكُمْ أي وليّ نعمكم، ووليّ ما تحتاجون إليه في حياتكم. ولهذا كره أن يقال للإنسان: يا مولاي من هذه الجهة، ويقول: هذا عبدي، أو أمتي. قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ولكن ليقل فتاي أو فتاتي. فَنِعْمَ الْمَوْلى أي فنعم الوليّ لكم لأنه يريد بكم الخير وَنِعْمَ النَّصِيرُ لمن أطاعه.

23 شرح إعراب سورة المؤمنين

23 شرح إعراب سورة المؤمنين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المؤمنون (23) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) ومن قرأ (قد أفلح) ألقى حركة الهمزة على الدال وحذف الهمزة لأن الدال كانت ساكنة، وإذا خفّفت الهمزة قربت من الساكنين، فحذفت الهمزة لهذا ثم ألقيت حركتها على الدال. [سورة المؤمنون (23) : آية 2] الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) الَّذِينَ في موضع رفعت نعت للمؤمنين هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ مبتدأ وخبره داخلون في الصلة، وكذلك ما بعده. [سورة المؤمنون (23) : آية 3] وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) قال الضحاك: اللّغو الشرك. قال أبو جعفر: اللّغو في اللغة ما يجب أن يلغى أي يطرح. ومن أحسن ما قيل فيه قول الحسن: إنها المعاصي كلّها. فهذا قول جامع يدخل فيه قول من قال: هو الشرك. وقول من قال: هو الغناء. كما روى مالك بن أنس عن محمد بن المنذر أنّ الله جلّ وعزّ يقول يوم القيامة: أين الذين كانوا ينزّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشياطين، أدخلوهم في رياض المسك ثم يقول للملائكة: أسمعوهم حمدي وثنائي، وأخبرهم أن لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. [سورة المؤمنون (23) : آية 4] وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) فمدح الله جلّ وعزّ ومن أخرج من ماله الزكاة وإن لم يخرج منه غيرها. فكأن الذين يكنزون الذهب والفضة هم الذين لا يخرجون الزكاة. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 5 الى 6] وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)

[سورة المؤمنون (23) : آية 7]

قال الفراء «1» : أي إلّا من أزواجهم اللاتي أحلّ الله جلّ وعزّ لهم الأربع لا تجاوز. أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ في موضع خفض معطوفة على أزواجهم و «ما» مصدر. [سورة المؤمنون (23) : آية 7] فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وقد أخبر جلّ وعزّ أنه لا يحبّ المعتدين، وإذا لم يحبّهم أبغضهم وعاداهم لا واسطة في ذلك. [سورة المؤمنون (23) : آية 8] وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وقرأ المكّيّون (لأمانتهم) «2» على واحدة. قال أبو جعفر: أمانة مصدر يؤدي عن الواحد والجمع، فإذا أردت اختلاف الأنواع جاز الجمع والتوحيد إلّا أن الجمع هاهنا حسن لأن الله جل وعز قد ائتمن العباد على أشياء كثيرة منها الوضوء وغسل الجنابة والصلاة والصيام وغيرهن. فأما احتجاج أبي عبيد في اختياره لأماناتهم بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء: 58] فمردود لا يشبهه هذا لأن الأمانات هاهنا هو الشيء بعينه بمنزلة الودائع، وليس مثل ذلك. ألا ترى أن بعده وَعَهْدِهِمْ ولم يقل وعهودهم فالجمع والتوحيد جائزان. [سورة المؤمنون (23) : آية 10] أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) أُولئِكَ مبتدأ «هم» مبتدأ ثان، وإن شئت كانت فاصلة. الْوارِثُونَ على أن قوله «هم» فاصلة خبر «أولئك» ، وعلى القول الآخر خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر «أولئك» وروى الزّهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنّة ثم قرأ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «3» إلى عشر آيات. قال أبو جعفر: معنى «من أقامهنّ» من قام عليهنّ ولم يخالف ما فيهنّ، وأدّاه، كما تقول: فلان يقوم بعمله، ثم نزل بعد هذه الآيات فرض الصوم والحجّ فدخل معهن. والذين قرءوا «لأماناتهم» قرءوا فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً إلّا عاصما فإنه قرأ فخلقنا المضغة عظما «4» فكسونا العظام لحما، وكذا قرأ الأعرج وقتادة وعبد الله بن عامر. والقراءة الأولى حسنة بيّنة لأن المضغة تفترق فتكون عظاما

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 231. (2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 444، والبحر المحيط 6/ 367. (3) أخرجه الترمذي في سننه- التفسير 12/ 35. (4) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 444.

[سورة المؤمنون (23) : آية 20]

فالجمع في هذا أبين والتوحيد جائز يكون يؤدي عن الجمع، وقال أبو إسحاق في العلة في جوازه لأنه قد علم أن الإنسان ذو عظام، واختار أبو عبيد الجمع واحتجّ بقول الله جلّ وعزّ: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها [البقرة: 259] أي لأنهم قد أجمعوا على هذا. وهذا التشبيه غلط لأن المضغة لمّا كانت تفترق عظاما كان كلّ جزء منها عظما فكل واحد منها يؤدي عن صاحبه فليس كذا «وانظر إلى العظام» لأن هذا إشارة إلى جمع، فإن ذكرت واحدا كانت الإشارة إلى واحد. ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ مجاز، وخَلْقاً مصدر لأنّ معنى أنشأناه خلقناه، واحد الطرائق طريقة. [سورة المؤمنون (23) : آية 20] وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَشَجَرَةً معطوف على جَنَّاتٍ [آية: 19] ، وأجاز الفراء الرفع «1» لأنه لم يظهر الفعل بمعنى «وثمّ شجرة» تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ بفتح السين قراءة الكوفيين على وزن فعلاء. وفعلاء في الكلام كثير يمتنع من الصرف في المعرفة والنكرة لأن في آخرها ألف التأنيث وألف التأنيث ملازمة لما هي فيه، وليس في الكلام فعلاء ولكن من قرأ (سيناء) «2» بكسر السين جعله فعلالا، ومنعه من الصرف على أنه للبقعة وقال الأخفش: هو اسم عجمي. وقد ذكرنا «3» تنبت وتنبت. [سورة المؤمنون (23) : آية 29] وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) مصدر، ومنزلا بفتح الميم بمعنى اجعل لي منزلا. قال أبو إسحاق: ومن قرأ مُنْزَلًا «4» بفتح الميم والزاي جعله مصدرا من نزل نزولا منزلا. [سورة المؤمنون (23) : آية 33] وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وزعم الفراء «5» أن معنى وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ على حذف «منه» أي ويشرب مما تشربون منه. وذا لا يجوز عند البصريين فلا يحتاج إلى حذف البتّة لأن «ما» إذا كانت مصدرا لم تحتج إلى عائد فإن جعلتها بمعنى الّذي وحذفت المفعول، ولم يحتج إلى إضمار من. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ «6» بما لا يحتاج إلى زيادة. [سورة المؤمنون (23) : آية 36] هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36)

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 233. (2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 444، والبحر المحيط 6/ 371. (3) انظر إعراب الآية 37، آل عمران. (4) انظر البحر المحيط 6/ 372. (5) انظر معاني الفراء 2/ 234. (6) مرّ في إعراب الآية 157- آل عمران.

[سورة المؤمنون (23) : آية 40]

قرئت على ثلاثة أوجه. قرأ أهل الحرمين وأهل الكوفة هَيْهاتَ هَيْهاتَ مفتوحة غير منوّنة إلّا أبا جعفر فإنه قرأ هَيْهاتَ هَيْهاتَ «1» مكسورة غير منونة، وقرأ عيسى بن عمر هَيْهاتَ هَيْهاتَ «2» مكسورة منونة. فهذه ثلاثة قراءات. قال أبو جعفر ويجوز هَيْهاتَ هَيْهاتَ «3» مفتوحة منوّنة. قال الكسائي: وناس من العرب كثير يقولون: أيهات «4» يعني أنهم يبدلون من الهاء همزة، ويجوز فيها ما جاز في هيهات من اللغات. قال أبو جعفر: من قال هيهات هيهات لما توعدون وقف بالهاء عند سيبويه والكسائي «5» لا غير لأنها واحدة، وبنيت على الفتح وموضعها رفع لأن المعنى البعد لأنها لم يشتقّ منها فعل فهي بمنزلة الحروف فاختير لها الفتح لأنّ فيها هاء التأنيث فهي بمنزلة اسم ضمّ إلى اسم كخمسة عشر، وزعم الفراء أن الوقف عليها بالياء ومن كسر وقف بالتاء عند الجماعة نوّن أو لم ينوّن لأنها جمع كبيضات، واحدها هيهة كبيضة ونصب الجميع كخفضه. والتنوين فيه قولان: أحدهما أن التنوين في جمع المؤنّث لازم، والآخر أن فرق بين المعرفة والنكرة، ولهذا حذف من حذف على أنه جعلها معرفة، ويقال: هيهات لما قلت، وهيهات ما قلت أي البعد لما قلت، والبعيد ما قلت. [سورة المؤمنون (23) : آية 40] قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ ما زائدة مؤكّدة عند البصريين. [سورة المؤمنون (23) : آية 44] ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا فيه ثلاثة أوجه: قرأ الكوفيون ونافع والحسن وابن محيصن تَتْرا «6» بغير تنوين، وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر والأعرج تَتْرا «7» منوّنة ويجوز تَتْرا «8» بكسر التاء الأولى موضعها نصب على المصدر لأن معنى «ثم أرسلنا» ثم واترنا، ويجوز أن يكون موضع الحال أي مواترين. قال الأصمعي: واترت كتبي عليه أتبعت بعضها بعضا إلّا أن بين كلّ واحد منها وبين الآخر مهلة، وقال غيره من أهل اللغة: المواترة التتابع بلا مهلة. قال أبو جعفر: من قرأ تترى بلا تنوين وجعلها فعلى مثل سكرى، ومن نون جعل الألف للنصب كما تقول: رأيت زيدا يا هذا، والتاء في القراءتين جميعا مبدلة من واو كما يقال: تالله والله. وهو من واترت واشتقاقه من الوتر

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 374، ومعاني 2/ 235، مختصر ابن خالويه 97. (2) انظر البحر المحيط 6/ 374، ومعاني 2/ 235، مختصر ابن خالويه 97. (3) انظر البحر المحيط 6/ 374، ومعاني 2/ 235، مختصر ابن خالويه 97. [.....] (4) انظر البحر المحيط 6/ 374، ومعاني 2/ 235، مختصر ابن خالويه 97. (5) انظر معاني الفراء 2/ 236. (6) انظر البحر المحيط 6/ 376، وكتاب السبعة لابن مجاهد 446. (7) انظر البحر المحيط 6/ 376، وكتاب السبعة لابن مجاهد 446. (8) انظر البحر المحيط 6/ 376، وكتاب السبعة لابن مجاهد 446.

[سورة المؤمنون (23) : آية 50]

والوتر. وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يتحدّث بخبرهم ويتعجّب منه ويعتبر به فَبُعْداً مصدر أي أبعدهم الله جلّ وعزّ من ثواب الآخرة. [سورة المؤمنون (23) : آية 50] وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ويقال: بالكسر والفتح، ويقال في معناها رباوة «1» ، وقرأ بها ابن أبي إسحاق ويقال: رباوة «2» ورباوة «3» بالفتح والكسر. وأحسن ما قيل فيه ما قاله ابن عباس رحمه الله. قال: نبئت أنها دمشق لأن قوله نبئت يدلّ على أنه توقيف. [سورة المؤمنون (23) : آية 51] يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ نعت لأي. كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ قال الحسن: أي من الحلال ويدلّ على هذا ما رواه أبو حازم عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّبا وإنّ الله أمر الأنبياء بما أمر به المؤمنين» فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة: 172] وقال: «يا أيّها الرّسل كلوا من الطّيّبات» . [سورة المؤمنون (23) : آية 52] وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً في هذا ثلاثة أوجه من القراءات: قرأ المدنيون وأبو عمرو وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً «4» بفتح الهمزة ونصب أمة واحدة، وقرأ الكوفيون بكسر الهمزة ونصب أمة واحدة أيضا، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً برفع كلّ شيء ففي فتح الهمزة ثلاثة أقوال: فقول البصريين أن المعنى: ولأنّ وحذفت اللام، وأن في موضع نصب، وقول الكسائي وهو أحد قولي الفراء «5» أنّ في موضع خفض نسقا على «ما تعملون» أي إني بما تعملون عليم وبأنّ هذه أمتكم، والقول الثالث قول الفراء «6» : إنّها في موضع نصب على إضمار فعل، والتقدير: واعلموا أنّ هذه أمتكم وكسر الهمزة عنده على الاستئناف، وعند الكسائي أنها نسق على أني بما تعملون عليم. أُمَّةً واحِدَةً نصب على الحال. والرفع من ثلاثة أوجه: على إضمار مبتدأ، وعلى البدل، وعلى خبر بعد خبر. [سورة المؤمنون (23) : آية 53] فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً نصب على الحال، والمعنى مثل زبر. كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي كلّ فريق يظنّ أنه على الحق، فهو فرح بما هو عليه وعليه أن يبيّن الحق لأنّه

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 377، ومختصر ابن خالويه 98. (2) انظر البحر المحيط 6/ 377، ومختصر ابن خالويه 98. (3) انظر البحر المحيط 6/ 377، ومختصر ابن خالويه 98. (4) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 446. (5) انظر معاني الفراء 2/ 237. (6) انظر معاني الفراء 2/ 237.

[سورة المؤمنون (23) : آية 54]

ظاهر. وقيل: كلّ حزب بما لديهم فرحون أي بما هم فيه من اللذات وطلب الرئاسة. [سورة المؤمنون (23) : آية 54] فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ أي فيما غطّى عليهم من حبّ الدنيا والتواني عن الموت وعن أمر الآخرة. وقيل: في غمرتهم أي فيما غمرهم من الجهل. قال أبو إسحاق: حَتَّى حِينٍ إلى حين ما يأتيهم ما وعدوا به من العذاب. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 55 الى 56] أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ «ما» بمعنى الذي، وفي خبر أن ثلاثة أقوال: منها أنه محذوف، وقال أبو إسحاق: المعنى نسارع لهم به، وحذفت به، وقال هشام قولا دقيقا قال: «ما» هي الخيرات، وليس في الكلام حذف لأن معنى في الخيرات فيه، وهذا قول بعيد ومثله: إنّ زيدا تكلّم عمرو في زيد، والأجود تكلّم عمرو فيه، وقد أجاز مثله سيبويه، وأنشد: [الخفيف] 305- لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا «1» ومن قرأ يسارع لهم في الخيرات «2» ففي قراءته ثلاثة أوجه: أحدها على حذف به، ويجوز أن يكون التقدير يسارع الأمداد، ويجوز أن يكون «لهم» اسم ما لم يسمّ فاعله. [سورة المؤمنون (23) : آية 57] إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) خبر أن. [سورة المؤمنون (23) : آية 61] أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي في عمل الخيرات أي الطاعات. قال أبو إسحاق: يسارعون أبلغ من يسرعون. وَهُمْ لَها سابِقُونَ أحسن ما قيل فيه أنهم يسبقون إلى أوقاتها، ودلّ أنّ الصلاة في أول الوقت أفضل، وكلّ من تقدّم في شيء فقد سابق إليه، وكلّ من تأخر عنه فقد سبقه وفاته. [سورة المؤمنون (23) : آية 62] وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ قيل: يعني به الكتاب الذي كتب فيه أعمال الخلق عند الملائكة محتفظ به. [سورة المؤمنون (23) : آية 63] بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63)

_ (1) مرّ الشاهد رقم (70) . (2) انظر البحر المحيط 6/ 379.

[سورة المؤمنون (23) : آية 67]

بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا قال أبو إسحاق: أي بل قلوبهم في عماية من هذا وقيل: بل قلوبهم في غمرة من هذا الكتاب الذي ينطق بالحق وأعمالهم فيه محصاة. [سورة المؤمنون (23) : آية 67] مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) وهذه قراءة حسنة مشاكلة لأول القصّة لأن في القصة ذكر نكوصهم على أعقابهم فيشبه هذا أنهم هجروا النبي صلّى الله عليه وسلّم والكتاب. وقال الكسائي: تَهْجُرُونَ تهذون. قال أبو جعفر: يقال: هجر المحموم إذا غلب على عقله فهذي، فيكون معنى الآية- والله أعلم- أنكم تتكلّمون في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بما لا يضرّه وبما ليس فيه فأنتم كمن يهذي. ويقال: ما زال ذاك إهجيراه وهجيراه أي عادته كأنه يهذي به حتى صار له عادة. [سورة المؤمنون (23) : آية 69] أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا هذا تستعمله العرب على معنى التوقيف والتقبيح، فيقولون الخير أحبّ إليك أم الشرّ، أي قد اخترت الشرّ. [سورة المؤمنون (23) : آية 71] وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أهل التفسير مجاهد وأبو صالح وغيرهما يقولون: «الحقّ» هاهنا الله جلّ وعزّ. وتقديره في العربية: ولو اتّبع صاحب الحقّ، وقد قيل: هو مجاز أي لو وافق الحقّ أهواءهم فجعل موافقته اتّباعا مجازا أي لو كانوا يكفرون بالرسل ويعصون الله جلّ وعزّ ثم لا يعاقبون ولا يجازون على ذلك إمّا عجزا وإمّا جهلا لفسدت السموات والأرض. وقيل: المعنى لو كان الحقّ فيما يقولون من اتخاذ آلهة مع الله لتنافست الآلهة وأراد بعضهم ما لا يريد بعض فاضطرب التدبير، وفسدت السموات والأرض، وإذا فسدتا فسد من فيهما. [سورة المؤمنون (23) : آية 72] أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) قال الأخفش: الخرج واحد إلّا أنّ اختلاف الكلام أحسن. وقال أبو حاتم: الخرج الجعل والخراج العطاء، وقول محمد بن يزيد: الخرج المصدر، والخراج الاسم، والمعنى أم تسألهم رزقا، فرزق ربّك خير وهو خير الرازقين أي ليس أحد يرزق مثل رزقه ولا ينعم مثل إنعامه. [سورة المؤمنون (23) : آية 73] وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) أي إلى دين مستقيم، والصراط في اللغة الطريق فسمّي الدين طريقا لأنه يؤدي إلى الجنة أي فهو طريق إليها.

[سورة المؤمنون (23) : آية 74]

[سورة المؤمنون (23) : آية 74] وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) قيل: هل مثل الأول أي عن الدين، وقيل: إنهم عن طريق الجنة لعادلون حتى يصيروا إلى النار. [سورة المؤمنون (23) : آية 75] وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ أي لو رددناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحنّاهم. لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ قال السّدّي: أي في معصيتهم. يَعْمَهُونَ. قال الأخفش: يترددون. [سورة المؤمنون (23) : آية 76] وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ قال الضحاك: أي بالجوع. [سورة المؤمنون (23) : آية 77] حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ قال عكرمة: هو باب من أبواب جهنم عليه من الخزنة أربعمائة ألف، سود وجوههم كالحدأ أنيابهم، قد قلعت الرحمة من قلوبهم إذا بلغوه فتحه الله عليهم. قل ... لله وقل ... الله «1» قد ذكرناه بما لا يحتاج إلى زيادة. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 91 الى 92] مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) عالِمِ الْغَيْبِ، قراءة أهل المدينة وأهل الكوفة على إضمار مبتدأ، وقراءة أبي عمرو عالِمِ الْغَيْبِ «2» بالخفض على النعت لله جلّ وعزّ وأكثر النحويين الكوفيين والبصريين يذهبون إلى أن الرفع أولى. فحجّة البصريين أنّ قبله رأس آية وقد تمّ الكلام فالابتداء أحسن، وحجّة الكوفيين منهم الفراء «3» أن الرفع أولى قال: لأنه لو كان مخفوضا لكان بالواو فكان يكون عالم الغيب وتعالى، فلما كان «فتعالى» كان الرفع أولى. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 الى 94] قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) قال أبو إسحاق: ويجوز «ربّ» بضم الباء، ويجوز «ربّي» بإسكان الياء وفتحها. و «إنّ» هاهنا للشرط و «ما» زائدة للتوكيد فلمّا زيدت «ما» حسن دخول النون للتوكيد،

_ (1) يشير إلى الآيات 85، و 87 و 89 من السورة. [.....] (2) انظر البحر المحيط 6/ 386. (3) انظر معاني الفراء 121.

[سورة المؤمنون (23) : آية 96]

وجواب الشرط فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني عنهم. [سورة المؤمنون (23) : آية 96] ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قال الحسن البصري: والله لا يصيبها أحد حتّى يكظم غيظا ويصبر على مكروه. [سورة المؤمنون (23) : آية 97] وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) قال عبد الله بن مسعود: وبعضهم يرفعه همزه الموتة. والموتة: ضرب من الجنون. وجمعت همزة وهي ساكنة على همزات فرقا بين الاسم والنعت. [سورة المؤمنون (23) : آية 99] حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) وقد يكون القول في النفس قال جلّ وعزّ: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ [المجادلة: 8] فأمّا قوله: ارْجِعُونِ وهو يخاطب ربّه جلّ وعزّ ولم يقل: ارجعني ففيه قولان للنّحويّين: أحدهما أنّ العرب تتعارف أن الجبار إذا أخبر عن نفسه قال: لنفعلنّ ولنرجعنّ فإذا خوطب كانت مخاطبته مخاطبة الجميع فيقال له: برّونا وأرجعونا فجاءت هذه الآية بهذا، والقول الآخر: إن معنى ارجعون على جهة التكرير ارجعن ارجعن ارجعن، وهكذا قال المازني في قوله جلّ وعزّ: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [ق: 24] قال معناه ألق ألق. [سورة المؤمنون (23) : آية 100] لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ البرزخ في اللغة كل حاجز بين شيئين فالبرزخ بين الدنيا والآخرة كما روي أن رجلا قال بحضرة الشعبي: رحم الله فلانا قد صار من أهل الآخرة قال: لم يصر من أهل الآخرة ولكن صار من أهل البرزخ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة. وأضفت يوما إلى يبعثون لأنه ظرف زمان، والمراد بالإضافة المصدر، وقال أبو إسحاق: حقيقته الحكاية. [سورة المؤمنون (23) : آية 101] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) في معناه قولان: أحدهما قول ابن عباس: أنهم في وقت لا يتساءلون. ويوم في اللغة بمعنى وقت معروف. والقول الآخر أبين من هذا: يكون معنى فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ أنّهم لا يتفاخرون بالأنساب يوم القيامة، ولا يتساءلون بها كما كانوا في الدنيا يفعلون.

[سورة المؤمنون (23) : آية 104]

[سورة المؤمنون (23) : آية 104] تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ويقال: «تنفح» في معنا إلّا أن «تلفح» أبلغ بأسا. وَهُمْ فِيها كالِحُونَ ابتداء وخبر، ويجوز النصب في غير القرآن على الحال. والكالح في كلام العرب الذي قد تشمّرت شفتاه وبدت أسنانه كما ترى رؤوس الغنم. وقد جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم التوقيف بمعنى هذا قال: «تحرق واحدهم النار فتقلص شفته العليا حتّى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتّى تبلغ سرّته» «1» . [سورة المؤمنون (23) : الآيات 106 الى 107] قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ الكوفيون إلا عاصما شقاوتنا «2» وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود والحسن. ويقال: شقا وشقاء بالقصر والمدّ. وأحسن ما قيل في معناه والأهواء شقوة لأنهما يؤديان إليها، كما قال جلّ وعزّ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: 10] لأن ذلك يؤديهم إلى النار وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ أي كنا في فعلنا ضالين عن الهدى. وليس هذا اعتذارا منهم إنّما هو إقرار ويدل على ذلك رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ. [سورة المؤمنون (23) : آية 108] قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) قالَ اخْسَؤُا فِيها والمصدر خسء في اللازم والمتعدّي على فعل. [سورة المؤمنون (23) : آية 109] إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا قال مجاهد: هم بلال وخبّاب وصهيب وفلان وفلان من ضعفاء المسلمين، كان أبو جهل وأصحابه يهزئون بهم. [سورة المؤمنون (23) : آية 110] فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا بالكسر والضم. وفرق أبو عمرو بينهما فجعل المكسورة من جهة التهزّؤ، والمضمومة من جهة السّخرة. ولا يعرف هذا التفريق الخليل وسيبويه رحمهما الله، ولا الكسائي ولا الفراء «3» . قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد كما

_ (1) أخرجه الترمذي في سننه، صفة الجنة 10/ 56. (2) انظر البحر المحيط 6/ 389، وكتاب السبعة لابن مجاهد 448. (3) انظر معاني الفراء 2/ 243.

[سورة المؤمنون (23) : آية 112]

يقال: عصيّ وعصيّ، وقال محمد بن يزيد: إنّما يؤخذ التفريق بين المعاني عن العرب، فأما التأويل فلا يكون. والكسر في «سخريّ» في المعنيين جميعا وفي عصيّ أكثر لأن الضمة تستثقل في مثل هذا. [سورة المؤمنون (23) : آية 112] قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ وقل كم لبثتم معنيان مختلفان لا يجوز أن يقال أحدهما أجود من الآخر عَدَدَ سِنِينَ بفتح النون على أنه جمع مسلم، ومن العرب من يخفضها وينوّنها. [سورة المؤمنون (23) : آية 113] قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وليس في هذا ما ينفي عذاب القبر لأنه لا بدّ من خمدة قبل البعث. [سورة المؤمنون (23) : آية 116] فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ كمن نعت العرش لارتفاعه وأنّ الأيدي لا تناله. [سورة المؤمنون (23) : آية 118] وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ مبتدأ وخبره. والاسم عند البصريين «أن» والتاء للخطاب. والاحتجاج لأبي عمرو في تفريقه بين سخري وسخريّ أن يكون خبّر بمذهبه في القراءة فقط. فأمّا «لبتّم» بالإدغام فلقرب التاء من الثاء، وكذا فاتّختّموهم «1» مدغم لقرب الذال من التاء، ومن لم يدغم فيهما فلأن التاء اسم فكأنها منفصلة والمخرجان مختلفان. وقال مجاهد: العادّون «2» الملائكة لأنهم يحصون ذلك. وقرأ الأعمش عددا سنين «3» ونصب عددا على البيان في القراءتين جميعا «وكم» في موضع نصب بلبثتم.

_ (1) انظر الآية 110 من السورة. (2) انظر الآية 113 من السورة. (3) انظر الآية 112.

24 شرح إعراب سورة النور

24 شرح إعراب سورة النور بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النور (24) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) سُورَةٌ أَنْزَلْناها بمعنى هذه سورة، وقرأ عيسى بن عمر سُورَةٌ أَنْزَلْناها «1» بالنصب بمعنى أنزلنا سورة. ويجوز أن يكون المعنى: اتل سورة أنزلناها وَفَرَضْناها أي وفرضنا فيها من الحلال والحرام «وفرضناها» فيه ثلاثة أقوال: قال أبو عمرو فصلناها، وقيل: هو على التكثير لكثرة ما فيها من الفرائض، والقول الثالث قال الفراء «2» : إنّه بمعنى فرضناها عليكم وعلى من بعدكم. [سورة النور (24) : آية 2] الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وقرأ عيسى بن عمر الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي «3» بالنصب. وهو اختيار الخليل وسيبويه «4» رحمهما الله لأن الأمر بالفعل أولى، وسائر النحويين على خلافهما، واستدلّ محمد بن يزيد على خلافهما بقول الله جلّ وعزّ: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ [النساء: 16] ، والحجة للرفع أنه ليس يقصد به اثنان- بأعيانهما- زنيا فينصب، فلما كان مبهما وجب الرفع فيه من ثلاثة أوجه: مذهب سيبويه أن المعنى: وفيما فرض عليكم الزانية والزاني، وقيل بما عاد عليه. وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ ورأفة لأن فعالة في الخصال كثير، نحو القباحة، وفعلة على الأصل. [سورة النور (24) : آية 3] الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 392، ومختصر ابن خالويه 100، وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي حيوة ومحبوب عن أبي عمرو وأم الدرداء أيضا. (2) انظر معاني الفراء 2/ 244. (3) انظر مختصر ابن خالويه 100. (4) انظر الكتاب 1/ 196.

[سورة النور (24) : آية 4]

الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً قد ذكرنا معناه وأن الوجه فيه أن يكون منسوخا وحرّم ذلك أن ينكح الرجل زانية والمرأة زانيا. [سورة النور (24) : آية 4] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) وقرأ أبو زرعة «1» بن عمرو بن جرير ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ «2» وفيه ثلاثة أوجه: يكون «شهداء» في موضع جرّ على النعت لأربعة، ويكون في موضع نصب بمعنى ثم لم يحضروا أربعة شهداء. والوجه الثالث أن يكون حالا من النكرة. وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. [سورة النور (24) : آية 5] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا في موضع نصب على الاستثناء، ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل. والمعنى: ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا. [سورة النور (24) : آية 6] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ على البدل والنصب على الاستثناء وعلى خبر يكون فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ «3» بالنصب قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وقراءة الكوفيين أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ «4» بالرفع على الابتداء، والخبر: أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حدّ القاذف أربع شهادات، كما تقول: صلاة الظهر أربع ركعات، والنصب لأن معنى شهادة أن شهد، فالتقدير: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات، أو فالأمر أن يشهد أحدهم أربع شهادات. [سورة النور (24) : آية 7] وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَالْخامِسَةُ رفع بالابتداء، والخبر «أنّ» وصلتها ومعنى المخفّفة كمعنى الثقيلة لأن معناها أنه. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة (والخامسة أنّ) «5» بالنصب بمعنى ويشهد الشهادة الخامسة.

_ (1) أبو زرعة بن عمرو بن جرير البجلي الكوفي، روى عن أبي هريرة، وهو من التابعين الثقات ترجمته في: غاية النهاية 1/ 602. (2) انظر مختصر ابن خالويه 100. [.....] (3) انظر البحر المحيط 6/ 399، وكتاب السبعة لابن مجاهد 452. (4) انظر البحر المحيط 6/ 399، وكتاب السبعة لابن مجاهد 452. (5) انظر البحر المحيط 6/ 399، ومعاني الفراء 2/ 247.

[سورة النور (24) : آية 10]

[سورة النور (24) : آية 10] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ رفع بالابتداء عند سيبويه، والخبر محذوف ولا يظهره العرب وَرَحْمَتُهُ عطف عليه. وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ عطف عليه أيضا. وحذف جواب لولا لأنه قد ذكر مثله بعد. قال الله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ [سورة النور (24) : آية 11] إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ اسم إنّ. عُصْبَةٌ خبرها، ويجوز النصب في «عصبة» على الحال، ويكون الخبر لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وقرأ حميد الأعرج ويعقوب وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ «1» بضم الكاف. قال الفراء «2» : وهو وجه جيد لأن العرب تقول: فلان أولى عظم كذا وكذا أي أكثره. قال أبو جعفر: والذي جاء به لا حجّة فيه لأنه قد يكون الشيء بمعنى الشيء، والحركة فيها مختلفة. والأشهر في كلام العرب في مثل هذا الكبر والكبر في النسب ويقال: الولاء للكبر. [سورة النور (24) : آية 12] لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً أي بإخوانهم. وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ فأوجب الله جلّ وعزّ على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا أو يذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه، ويكذّبوه، وتواعد من ترك ذلك ومن نقله. [سورة النور (24) : آية 15] إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ والأصل تتلقونه أي يأخذه بعضكم عن بعض، ويقبله بعضكم من بعض، ومثله فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [البقرة: 37] وعن عائشة رضي الله عنها أنها قرأت إِذْ تَلَقَّوْنَهُ «3» وإسناده صحيح، ولا يعرف له مخرج إلّا من حديث ابن عمر الجمحي والمعنيان صحيحان لأنهم قد تلقّوه وو لقوه. والأصل: تولقونه فحذفت الواو اتباعا ليلق، يقال: ولق يلق إذا أسرع في الكذب، واشتقاقه من الولق، وهو الخفّة والسرعة.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 247، والبحر المحيط 6/ 402. (2) انظر معاني الفراء 2/ 247. (3) انظر مختصر ابن خالويه 100.

[سورة النور (24) : آية 17]

[سورة النور (24) : آية 17] يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا في موضع نصب. [سورة النور (24) : آية 19] إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) فتواعدهم الله جلّ وعزّ على إرادة الفسق أي إذاعة الفاحشة في الذين آمنوا وَاللَّهُ يَعْلَمُ أي يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه، ويعلم كل شيء. [سورة النور (24) : آية 21] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) هو من ذوات الواو وإن كان قد كتب بالياء. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رحمه الله في قوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً قال: ما اهتدى أحد من الخلائق لشيء ينفع به نفسه أو ينفي به ما يدفعه عن نفسه. [سورة النور (24) : آية 22] وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ حذفت الياء للجزم، قرأ يزيد بن القعقاع وزيد بن أسلم. ولا يتألّ أولوا الفضل «1» حذفت الألف للجزم. والمعنى واحد، كما تقول: فلان يتكسّب ويكتسب. [سورة النور (24) : آية 23] إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) من أحسن ما قيل في هذا أنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى، والتقدير: الذين يرمون الأنفس المحصنات فدخل في هذا المذكّر والمؤنّث. وكذا: في الذين يرمون، إلّا أنه غلّب المذكّر على المؤنّث. [سورة النور (24) : آية 25] يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) وقرأ مجاهد يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ «2» يرفع الحقّ على أنه نعت لله جلّ وعزّ. قال أبو عبيد: ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع، ليكون نعتا لله جلّ

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 404، ومختصر ابن خالويه 101. (2) انظر البحر المحيط 6/ 405.

[سورة النور (24) : آية 26]

وعزّ، ويكون موافقا لقراءة أبيّ، وذلك أن جرير بن حازم قال: رأيت في مصحف أبيّ ليوفيهم الله الحقّ دينهم «1» وهذا الكلام من أبي عبيد غير مرضيّ لأنه احتجّ لما هو مخالف للسواد الأعظم، ولا حجة فيه أيضا لأنه لو صحّ هذا أنّ في مصحف أبيّ كذلك جاز أن تكون القراءة: يومئذ يوفّيهم الله الحقّ دينهم يكون دينهم بدلا من الحق على أن قراءة العامة دِينَهُمُ الْحَقَّ يكون «الحقّ» نعتا لدينهم والمعنى حسن لأنّ الله جل وعز قد ذكر المسيئين فاعلم أنه يجازيهم بالحق، كما قال جلّ وعزّ: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ: 17] لأن مجازاة الله جلّ وعزّ للكافر والمسيء بالحقّ والعدل، ومجازاته للمحسنين بالفضل والإحسان. [سورة النور (24) : آية 26] الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ قد ذكرنا فيه أقوالا: فمن أحسن ما قيل فيه: أنّ المعنى الزناة للزناة على ما كان التعبّد مبرئا. [سورة النور (24) : آية 27] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا قال عكرمة: أي حتى تستأذنوا وحقيقته في اللّغة تستعملوا مشتقّ من آنست الشيء أي استعملته. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي من الدخول بغير استئذان لما فيه من التّهمة لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي تنتبهون على ما لكم فيه الصّلاح. [سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31] قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ «من» هاهنا لبيان الجنس وكذا يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 405، ومختصر ابن خالويه 101.

[سورة النور (24) : آية 32]

وظهر التضعيف في الثاني، لأن لام الفعل من الثاني ساكنة ومن الأول متحركة وهما في موضع جزم جوابا. والتقدير عند المازني: قل للمؤمنين غضّوا يغضّوا وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ قال أبو العالية: أي حتى لا يراها أحد، وقال غيره: فحرّم الله على المسلمين أيضا أن يدخلوا حمّاما بغير مئزر، وأجمع المسلمون على أن السوأتين عورة من الرجل، وأن المرأة كلّها عورة إلّا وجهها ويديها فإنّهم اختلفوا فيهما، وقال أكثر العلماء في الرجل: من سرته إلى ركبته عورة لا يجوز أن ترى. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ اسم إن وخبرها. وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ ويجوز وليضربن بكسر اللام وهو الأصل وحذفت الكسرة لثقلها. ويضربن في موضع جزم بالأمر إلّا أنه مبنيّ على حال وحدة اتباعا للماضي عند سيبويه. والمعنى: وليلصقن خمرهنّ وهنّ المقانع على جيوبهنّ لئلا تبدو صدورهنّ أو أعناقهنّ. والصحيح من قراءة الكوفيين عَلى جُيُوبِهِنَّ «1» كما يقرءون بُيُوتاً والنحويون القدماء لا يجيزون هذه القراءة، ويقولون: بيت وبيوت كفلس وفلوس. وقال أبو إسحاق: هي تجوز على أن تبدل من الضمة كسرة. فأما ما روي عن حمزة من الجمع بين الضمّ والكسر فمحال لا يقدر أحد أن ينطق به إلّا على الإيماء إلى ما لا يجوز. أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ وقرأ يزيد بن القعقاع وعاصم وابن عامر أو التابعين غير «2» بنصب غير على الاستثناء. قال أبو حاتم: على الحال والخفض على النعت، وإن كان الأول معرفة لأنه ليس بمقصود قصده، وإن شئت قلت: هو بدل ونظيره غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] في الخفض والنصب جميعا أَوِ الطِّفْلِ بمعنى الأطفال، والدليل على ذلك نعته بالذين الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ وحكى الفراء أنّ لغة قيس «عورات» بفتح الواو، وهذا هو القياس لأنه ليس بنعت، كما تقول: جفنة وجفنات إلّا أن التسكين أجود في عورات وما أشبهه لأن الواو إذا تحرّكت وتحرّك ما قبلها قلبت ألفا، ولو فعل هذا لذهب المعنى وحكى الكسائي أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ «3» بضم الهاء وهذه لغة شاذّة لا وجه لها لأن ها للتنبيه. [سورة النور (24) : آية 32] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ جمع أيّم والأيّم عند أهل اللغة من لا زوج لها كانت بكرا أم ثيّبا. حكى ذلك أبو عمرو بن العلاء والكسائي وغيرهما. وذلك بيّن في قوله جلّ وعزّ: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ فلم يبح ثيّبا دون بكر. وحديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «الأيّم أحقّ

_ (1) انظر تيسير الداني 131، والبحر المحيط 6/ 413. (2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 455. (3) وهذه قراءة ابن عامر، انظر البحر المحيط 6/ 414، وتيسير الداني 131.

[سورة النور (24) : آية 33]

بنفسها» «1» من هذا بعينه. وجمع أيّم أيامى وأيايم وإيام مثل جيّد وجياد، وجمع أمة في التكسير إماء وآم، وفي النصب رأيت آميا وإموان مثل أخ وإخوان، لأن الأصل في أمة أموة وفي المسلّم أموات. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: حكى هشام أميات. قال: وهذا خطأ لأنها من ذوات الواو. وقرأ الحسن والصّالحين من عبيدكم «2» و «عبيد» اسم للجمع، وليس بجمع مستتبّ، والجمع المستتبّ أعبد وعباد، ونظير عبيد في أنه اسم للجمع قولهم: معبوداء وعبدّى. قال الفراء «3» : ويجوز والصالحين من عبادكم وإماءكم بالنصب يردّه على الصّالحين. إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ شرط وجوابه. قيل: يغنهم بالتزويج وهذا صحيح في اللغة لأن فقيرا إنما يعرف بالإضافة فيقال: فقير إلى الطّعام، وفقير إلى اللباس، وفقير إلى التزويج. [سورة النور (24) : آية 33] وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ في موضع رفع بالابتداء وفي موضع نصب عند الخليل وسيبويه على إضمار فعلا لأن بعده أمرا. [سورة النور (24) : آية 35] اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مبتدأ وخبره. وتقديره: الله ذو نور السّموات والأرض مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ مبتدأ وخبره أيضا. وقد ذكرنا معناه، وقد روى شمر بن عطية» عن كعب في قول الله جلّ وعزّ مَثَلُ نُورِهِ

_ (1) أخرجه الترمذي في سننه 5/ 25، وابن ماجة في سننه باب 11 حديث 1870، والدارمي في سننه 2/ 138، ومالك في الموطّأ باب 2 الحديث رقم 4. (2) وهذه قراءة مجاهد أيضا، بالياء مكان الألف وفتح العين، انظر البحر المحيط 6/ 415، ومختصر ابن خالويه 102. [.....] (3) انظر معاني الفراء 2/ 251. (4) شمر بن عطية: روى عن أبي وائل وزرّ، وعنه الأعمش وقيس بن الربيع، وكان عثمانيا غاليا، ترجمته في ميزان الاعتدال 2/ 280.

قال: نوره محمد صلّى الله عليه وسلّم. قال أبو جعفر: لأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم في تبيانه للناس بمنزلة النور الذي يضيء لهم. قال كعب: كَمِشْكاةٍ، ككوّة فيها مصباح قال: الْمِصْباحُ قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم فِي زُجاجَةٍ قال: الزُّجاجَةُ صدره كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ لصدره ثم رجع إلى المصباح الذي هو في القلب فقال: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ قال لم تصبها شمس المشرق ولا شمس المغرب. شَرْقِيَّةٍ نعت لزيتونة. وَلا ليست تحول بين النعت والمنعوت وَلا غَرْبِيَّةٍ عطف. يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ قال كعب: يكاد محمد صلّى الله عليه وسلّم يستبين لمن يراه أنّه نبيّ وإن لم ينطق لما جعل عليه صلّى الله عليه وسلّم من الدلائل، كما يكاد هذا الزيت يضيء ولو لم تمسّه نار. وقد قرئ دري «1» على أربعة أوجه: قرأ الحسن وأهل الحرمين كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ بضم الدال وتشديد الياء إلّا أن سعيد ابن المسيّب قرأ هو وأبو رجاء العطارديّ ونصر بن عاصم وقتادة كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ بفتح الدال وتشديد الياء وقرأ أبو عمرو والكسائي كأنّها كوكب درء بكسر الدال والهمز، وقرأ حمزة كأنّها كوكب درّيء بضم الدال والهمز. فهذه أربع قراءات، وحكى الفراء «2» أنّه يقال: درّي بكسر الدال وتشديد الياء بغير همز. قال أبو جعفر: القراءة الأولى بيّنة نسب الكوكب إلى الدّرّ. فإن قال قائل: فالكوكب نورا من الدّرّ قيل له: إنما المعنى أنّ هذا الكوكب فضله على الكواكب كفضل الدّرّ على سائر الحبّ. والقراءة الثانية بهذا المعنى فأبدل من الضمّة فتحة لأن النسب باب تغيير. والقراءة الثالثة أبي عمرو والكسائي ضعّفها أبو عبيد تضعيفا شديدا لأنه تأولها من درأت أي دفعت أي كوكب يجري من الأفق إلى الأفق فإن كان التأويل على ما تأوّله لم يكن في الكلام فائدة ولا كان لهذا الكوكب مزيّة على أكثر الكواكب. ألا ترى أنّه لا يقال: جاءني إنسان من بني آدم، ولا ينبغي أن يتأوّل لمثل أبي عمرو والكسائي رحمهما الله مع محلّهما وجلالهما هذا التأويل البعيد، ولكن التأويل لهما على ما روي عن محمد بن يزيد أن معناهما في ذلك كوكب مندفع بالنور كما يقال: اندرأ الحريق، أي اندفع، وهذا تأويل صحيح لهذه القراءة. وحكى الأخفش سعيد بن مسعدة أنه يقال: درأ الكوكب بضوئه إذا امتدّ ضوءه وعلا. فأما قراءة حمزة فأهل اللغة جميعا إلا أقلّهم يقولون: هي لحن لا يجوز لأنه ليس في كلام العرب اسم على فعّيل، وقد اعترض أبو عبيد في هذا فاحتج لحمزة فقال: ليس هو فعّل إنما هو فعّول مثل سبّوح أبدل من الواو ياء كما قالوا: عتيّ. قال أبو جعفر وهذا الاعتراض والاحتجاج من أعظم الغلط وأشدّه

_ (1) انظر القراءات جميعها في البحر المحيط 6/ 419، ومعاني الفراء 2/ 252، وكتاب السبعة لابن مجاهد 455. (2) انظر معاني الفراء 2/ 252.

[سورة النور (24) : آية 36]

لأن هذا لا يجوز البتّة، ولو جاز ما قال لقيل في سبّوح: سبّيح، وهذا لا يقوله أحد. وليس عتيّ من هذا، والفرق بينهما واضح بيّن لأنه ليس يخلو عتيّ من إحدى جهتين: إما أن يكون جمع عات فيكون البدل فيه لازما لأن الجمع باب تغيير والواو لا تكون ظرفا في الأسماء وقبلها ضمة، فلما كان قبل هذه ساكن وقبل الساكن ضمة والساكن ليس بحاجز حصين أبدل من الضم كسرة وقلبت الواو ياء، وإن كان عتى واحدا كان بالواو أولى وكان قبلها لأنها طرف والواو في فعول ليست طرفا ولا يجوز قلبها. ومن احتجّ لحمزة بشيء مشبه قال: قد جاء مرّيق وهو فعّيل، والحق في هذا أن مرّيقا عجميّ، والذي حكى الفراء- من كسر الدال جائز على أن تبدل من الضمة كسرة. يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ قرئ على أربعة أوجه «1» : قرأ الحسن وأبو عبد الرحمن السلمي ومجاهد وأبو جعفر وأبو عمرو بن العلاء توقّد من شجرة بفتح الدال يجعله فعلا ماضيا، وقرأ شيبة ونافع يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ وهاتان القراءتان متقاربتان لأنهما جميعا للمصباح، وهو أشبه بهذا الوصف لأنه الذي يبين ويضيء، وإنما الزجاجة وعاء له، فتوقّد فعل ماض من توقّد يتوقّد ويوقد فعل مستقبل من أوقد يوقد، وقرأ نصر ابن عاصم توقّد والأصل على قراءته تتوقّد وحذف إحدى التاءين لأن الأخرى تدلّ عليها. وقرأ الكوفيون توقد «2» وهاتان القراءتان على تأنيث الزجاجة وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ على تأنيث النار، وزعم أبو عبيد أنه لا يعرف إلّا هذه القراءة. وحكى أبو حاتم أنّ السّديّ روى عن أبي مالك عن ابن عباس أنه قرأ ولو لم يمسسه نار «3» بالياء. قال محمد بن يزيد: التذكير على أنه تأنيث غير حقيقي، وكذا سبيل الموات عنده. [سورة النور (24) : آية 36] فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ قد ذكرناه «4» . وقيل المعنى صلّوا في بيوت. وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ «5» ، وكذا يروى عن الحسن، وقد ذكر سيبويه مثل هذا، وأنشد: [الطويل] 306- ليبك يزيد ضارع لخصومة «6» والتقدير: يسبّح له فيها رجال على إضمار هذا الفعل لأنه لما قال: يسبّح دلّ

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 420، ومعاني الفراء 2/ 252، وكتاب السبعة لابن مجاهد. (2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد. (3) انظر البحر المحيط 6/ 420، ومختصر ابن خالويه 102. (4) انظر إعراب الآية 30 من هذه السورة. (5) انظر البحر المحيط 6/ 421، وكتاب السبعة لابن مجاهد 456. (6) مرّ الشاهد رقم (132) .

[سورة النور (24) : آية 37]

على أن ثمّ مسبّحين وعلى هذا تقول: ضرب زيد عمرو. ولمّا أن قلت: ضرب زيد. دلّ على أنّ له ضاربا فذكرته وأضمرت له فعلا. [سورة النور (24) : آية 37] رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) وَإِقامِ الصَّلاةِ ويقال: أقام الصلاة إقامة، والأصل إقوامة فقلبت حركة الواو على القاف فانقلبت الواو ألفا وبعدها ألف وهما ساكنتان فحذفت إحداهما وأثبت الهاء لئلّا تحذفها فيجحف فلما أضفت قام المضاف إليه مقام الهاء فجاز حذفها، فإن لم تضف لم يجز حذفها، ألا ترى أنك تقول: وعد عدة، فلا يجوز حذف الهاء لأنك قد حذفت واوا لأن الأصل وعدة فإن أضفت جاز حذف الهاء، وأنشد الفراء: [البسيط] 307- إنّ الخليط أجدّوا البين فانجردوا ... وأخلفوك عد الأمر الّذي وعدوا «1» يريد عدة فحذف الهاء لمّا أضاف. يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ قد ذكرناه. وقيل: معناه تتقلّب قلوب الفجّار على النار، وقيل تتقلّب أي تنضج مرّة وتلفحها النار مرة. [سورة النور (24) : آية 39] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) وَالَّذِينَ كَفَرُوا ابتداء أَعْمالُهُمْ ابتداء ثان، ويجوز أن يكون بدلا من الذين ويكون الخبر كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً فإن خففت الهمزة قلت الظّمآن. [سورة النور (24) : آية 40] أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) ظُلُماتٌ على إضمار مبتدأ ومن قرأ ظلمات «2» جعلها بدلا من ظلمات الأولى، ويقال: «ظلمات» لخفّة الفتحة و «ظلمات» لنقل الضمة. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ. تأوّله أبو إسحاق على أنه في الدّنيا أي من لم يجعل الله له هداية إلى الإسلام لم يهتد، وتأوله غيره على أنه في الآخرة أي من لم يجعل الله له نورا في القيامة لم يهتد إلى الجنّة.

_ (1) الشاهد للفضل بن عباس في شرح التصريح 2/ 396، وشرح شواهد الشافية 64، ولسان العرب (غلب) ، و (خلط) ، والمقاصد النحوية 4/ 572، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 5/ 241، وأوضح المسالك 4/ 407، والخصائص 3/ 171، وشرح الأشموني 2/ 304، وشرح عمدة الحافظ 486، ولسان العرب (وعد) و (خلط) . (2) انظر تيسير الداني 134، والبحر المحيط 6/ 424.

[سورة النور (24) : آية 41]

[سورة النور (24) : آية 41] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) عطفا على «من» . قال أبو إسحاق: ويجوز «والطير» بمعنى مع الطير، ولم يقرأ به. قال أبو جعفر: وسمعته يجيز قمت وزيدا، بمعنى مع زيد. قال: وهو أجود من الرفع. قال: فإن قلت: قمت أنا وزيد، كان الأجود الرفع، ويجوز النصب. كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ يجوز أن يكون المعنى: كلّ قد علم الله صلاته وتسبيحه. ومن هذه الجهة يجوز نصب كلّ عند البصريين والكوفيين. قال أبو إسحاق: والصلاة للناس والتسبيح لغيرهم ولهم، ويجوز أن يكون المعنى: كلّ قد علم صلاة نفسه وتسبيحه. [سورة النور (24) : آية 43] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ يقال: «بين» لا يقع إلّا لاثنين فصاعدا فكيف جاء بينه؟ فالجواب أن بينه هاهنا لجماعة السحاب، كما تقول: الشجر حسن، وقد جلست بينه. وفيه قول آخر: وهو، أن يكون السحاب واحدا فجاز أن يقال: بينه لأنه مشتمل على قطع كثيرة كما قال الشاعر: [الطويل] 308- قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل «1» فأوقع بينا على الدخول وهو واحد لاشتماله على مواضع. هذا قول النحويين، إلا الأصمعي فإنه زعم أن هذا لا يجوز وكان يرويه «بين الدّخول وحومل» ، قرأ ابن عباس والضحاك فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ «2» وخلل: واحد خلال مثل جمل وجمال، وهو واحد يدلّ على جمع. وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ من قال: إنّ المعنى من جبال برد فيها، فبرد عنده في موضع خفض هكذا يقول الفراء «3» ، كما تقول: الإنسان من لحم ودم، والإنسان لحم ودم، ويجب أن يكون على قوله: المعنى من جبال برد فيها بتنوين الجبال، لأنه قال: الجبال هي البرد. فأما على قول البصريين

_ (1) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 8، والأزهيّة 244، وجمهرة اللغة 567، والجنى الداني 63، وشرح شواهد الشافية ص 242، وشرح شواهد المغني 1/ 463، ولسان العرب (آ) ، ومجالس ثعلب 127، وهمع الهوامع 2/ 129، وبلا نسبة في الإنصاف 2/ 656، وأوضح المسالك 3/ 359، وجمهرة اللغة 580، والدرر 6/ 82، ورصف المباني 353، وشرح الأشموني 2/ 417، وشرح شافية ابن الحاجب 2/ 316. (2) انظر البحر المحيط 6/ 426. [.....] (3) انظر معاني الفراء 2/ 256.

[سورة النور (24) : آية 44]

فيكون من برد في موضع نصب، ويجوز الخفض كما تقول: مررت بخاتم حديدا وبخاتم حديد، الخفض على البدل والنصب عند سيبويه على الحال، وعند أبي العبّاس على البيان. ومن قال: المعنى من مقدار جبال فمن برد عنده في موضع نصب لا غير. قال الفراء «1» : كما تقول عندي بيتان تبنا، ومثله عنده أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً [المائدة: 95] . ومن قال: إنّ «من» زائدة فيهما فهما عنده في موضع نصب لا غير. وقرأ أبو جعفر: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ «2» بضم الياء، وزعم أبو حاتم أن هذا لحن، وهو قول أستاذه الأخفش يقول: دخل بالمدخل ولا يجيز هاهنا أدخل، ويزعم أن الباء تعاقب الألف، وهذا هو القول البين. فأما أن يكون خطأ لا يجوز ولا يحمل عليه فقد زعم جماعة أن الباء تزاد واحتجوا بقول الله جلّ وعزّ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ [الحجّ: 25] وإن كان غير هذا القول أولى منه، وهو ما حكاه لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد. قال: تكون الباء متعلقة بالمصدر إذ كان الفعل دالا عليه ومأخوذا منه فعلى هذا يكون التقدير ذهابه بالأبصار أو إذهابه وكذا: أدخل بالمدخل السّجن الدار، جائز على هذا. [سورة النور (24) : آية 44] يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ مجاز أي يقلب هذا إلى هذا وهذا إلى هذا فإذا زال أحدهما ودخل الآخر كان بمنزلة ما قلب إليه. [سورة النور (24) : آية 45] وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم وسائر الكوفيين يقرءون خالق كلّ دابّة «3» والمعنيان صحيحان. أخبر الله جلّ وعزّ بخبرين ولا ينبغي أن يقال في هذا أحد القراءتين أصحّ من الأخرى لأنهما يدلّان على معنيين، ولكن إن قال قائل: «خلق» في هذا أكثر لأنه ليس بشيء مخصوص، وإنما يقال: خالق على العموم، كما قال جلّ وعزّ: الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر: 24] وفي الخصوص الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: 1] ، وكذا هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [الأعراف: 189] فكذا يجب وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ. والدابّة كلّ ما دبّ على الأرض من الحيوان يقال: دبّ، وهو داب، والهاء للمبالغة. وقيل: يعني بالماء هاهنا المنيّ كما قال: مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطارق: 6] وقيل: لمّا كان خلق الأرض

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 257. (2) انظر البحر المحيط 6/ 470، يذهب بضمّ الياء. (3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 457.

[سورة النور (24) : آية 49]

من ماء جاء هذا هكذا. وقيل: أصل خلق النار والنور من الماء. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ ومن مشى على أكثر من أربع فهو يمشي على أربع، وغلب ما يعقل لمّا اجتمع مع ما لا يعقل لأنه المخاطب والمتعبّد. [سورة النور (24) : آية 49] وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) مُذْعِنِينَ في موضع الحال. [سورة النور (24) : آية 50] أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا فأنكر الله عليهم ذلك لما أظهر من البراهين فقال: بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. [سورة النور (24) : آية 51] إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وقرأ الحسن إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ «1» جعله اسم كان والخبر أَنْ يَقُولُوا. [سورة النور (24) : آية 53] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ لا تُقْسِمُوا نهاهم عن الحلف لأنّ عزمهم كان على غير ذلك فهم آثمون إذا حلفوا. طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ على إضمار لتكن طاعة، ويجوز أن يكون المعنى: طاعة أولى بكم. قال أبو إسحاق: يجوز طاعة بالنصب يعني على المصدر. [سورة النور (24) : آية 54] قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) فَإِنْ تَوَلَّوْا في موضع جزم بالشرط، والأصل تتولّوا فحذفت إحدى التاءين لدلالة الأخرى، وحذفت النون للجزم، والجواب في الفاء وما بعدها. [سورة النور (24) : آية 55] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) فكان في هذه الآية دلالة عن نبوّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن الله أنجز ذلك الوعد، وكان

_ (1) قول: بالرفع، وهي قراءة عليّ وابن أبي إسحاق أيضا، انظر البحر المحيط 6/ 429.

[سورة النور (24) : آية 57]

فيها دلالة على خلافة أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لأنه لم يستخلف أحدا ممّن خوطب بهذه الآية غيرهم لأن هذه الآية نزلت قبل فتح مكة. وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الخلافة بعدي ثلاثون» «1» هذا للآية وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً وعاصم يقرأ: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مخففا، وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال «2» : قرأ عاصم والأعمش: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مشددة، وهذا غلط على عاصم وقد ذكرنا بعده غلطا أشدّ منه، وهو أنه حكى عن سائر الناس التخفيف. قال أبو جعفر: زعم أحمد بن يحيى أن بين التخفيف والتثقيل فرقا وأنّه يقال: بدلته أي غيرته وأبدلته أنزلته، وجعلت غيره. قال أبو جعفر: وهذا القول صحيح، كما تقول: أبدل لي هذا الدرهم، أي أزله وأعطني غيره، وتقول: قد بدّلت بعدنا أي غيرت غير أنه قد يستعمل أحدهما في موضع الآخر، والذي ذكر أكثر يَعْبُدُونَنِي في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون مستأنفا في موضع رفع. [سورة النور (24) : آية 57] لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ مفعولان، وقرأ حمزة لا يحسبنّ «3» الذين كفروا معجزين في الأرض «4» قال أبو جعفر: وما علمت أحدا من أهل العربيّة واللغة بصريا ولا كوفيّا وإلّا وهو يحظر أن تقرأ هذه القراءة. فمنهم من يقول هي لحن لأنه لم يأت إلّا بمفعول واحد ليحسبن، وممن قال هذا أبو حاتم. وقال الفراء «5» : هو ضعيف وأجازه على ضعفه على أنه يحذف المفعول الأول. والمعنى عنده: لا يحسبنّ الذين كفروا إيّاهم معجزين في الأرض، ومعناه لا يحسبنّ أنفسهم معجزين في الأرض. ورأيت أبا إسحاق يذهب إلى هذا القول أعني قول الفراء وسمعت علي بن سليمان يقول في هذه القراءة: ويكون «الذي» في موضع نصب قال: ويكون المعنى: لا يحسبنّ الكافر الذين كفروا معجزين في الأرض. [سورة النور (24) : آية 58] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)

_ (1) أخرجه الترمذي في سننه 9/ 70، وأبو داود في سننه الحديث رقم (646) . (2) انظر البحر المحيط 6/ 431، وكتاب السبعة لابن مجاهد 459. (3) انظر معاني الفراء 2/ 258. (4) انظر تيسير الداني 132، وهذه قراءة ابن عامر أيضا. (5) انظر معاني الفراء 2/ 259.

[سورة النور (24) : آية 59]

وقرأ الحسن وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ «1» بإسكان اللام لثقل الضمة. وقرأ المدنيون وأبو عمرو ثَلاثُ عَوْراتٍ بالرفع، وقرأ الكوفيون (ثلاث عورات) «2» بالنصب، والقول في هذا قريب من القول في يحسبنّ. قال أبو حاتم: النصب ضعيف مردود. قال الفراء «3» : الرفع أحبّ إليّ. قال: وإنّما اخترت الرفع لأن المعنى هذه الخصال ثلاث عورات. والرفع عند الكسائي بالابتداء، والخبر عنده ما بعده. ولم يقل بالعائد، وقال نصا بالابتداء. قال: العورات الساعات التي تكون فيها العورة والخلوة إلا أنه قرأ بالنصب والنصب فيه قولان: أحدهما أنه مردود على قوله: ثَلاثَ مَرَّاتٍ ولهذا استبعده الفراء. قال أبو إسحاق: المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات طَوَّافُونَ بمعنى هم طوافون. قال الفراء: كقولك في الكلام: إنّما هم خدمكم وطوافون عليكم. وأجاز الفراء «4» نصب طوافون لأنه نكرة والمضمر في عليكم معرفة، ولا يجيز البصريون أن يكون حالا من المضمر من الذين في «عليكم» وفي «بعضكم» لاختلاف العاملين. لا يجوز مررت بزيد، ونزلت على عمرو العاقلين، على النعت لهما. بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ لله بإضمار فعل أي يطوف بعضكم على بعض كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الكاف في موضع نصب أي يبيّن الله لكم آياته الدالّة على وحدانيته. تبيانا مثل ما بيّن لكم هذه الأشياء. [سورة النور (24) : آية 59] وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وقرأ الحسن الحلم «5» حذف الضمة لثقلها. فَلْيَسْتَأْذِنُوا أي فليستأذنوا في كلّ الأوقات، ولم يقل: فليستأذنوكم، وقال في الأول: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبّدين ... [سورة النور (24) : آية 60] وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ جمع قاعد بحذف الهاء. وفيه ثلاثة أقوال: مذهب البصريين أنه على النسب، ومذهب الكوفيين أنه لمّا كان لا يقع إلّا للمؤنّث لم يحتج فيه إلى الهاء، والقول الثالث أنه جاء بغير هاء تفريقا بينه وبين القاعدة بمعنى الجالسة فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ على الحال، أي لا يردن أن يظهرن زينتهنّ للرجال.

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 433، ومختصر ابن خالويه 103. (2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 459. (3) انظر معاني الفراء 2/ 260. (4) انظر معاني الفراء 2/ 260. [.....] (5) انظر البحر المحيط 6/ 433.

[سورة النور (24) : آية 61]

[سورة النور (24) : آية 61] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ اسم ليس وقد ذكرناه. ومن حسن ما قيل فيه أنه في الجهاد. فأما معنى وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ إلى آخر الآية. ففيه ثلاثة أقوال: منها أنه إنما يجوز ذلك بعد الإذن، ومنها أنه قد كان علم أنهم لا يبخلون عليهم بهذا. والقول الثالث أن الآية منسوخة وأنّ هذا كان أول، فلمّا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ دماءكم وأموالكم حرام إلّا بإذن، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه» «1» فوجب من هذا أنّه لا يحلّ لأحد شيء من مال أحد إلّا بإذن أو ما أجمع عليه المسلمون عند خوفه على هلاك نفسه. وقد قيل: إنّ الآية منسوخة بقوله جلّ وعزّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النور: 27] فإذا كان لا يدخل إلّا بإذن فهو من الطعام أبعد، وقال جلّ وعزّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: 53] ولو لم يكن في نسخ الآية إلّا الحديث الذي رواه مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحتلبنّ أحدكم ماشية أخيه إلّا بإذنه أيحبّ أحدكم أن يؤتى إلى مشربته فتفتح خزانته فيوخذ طعامه لكان كافيا» «2» . وقرأ قتادة مفتاحه «3» وهي لغة ومفتح أكثر في كلام العرب يدلّك على ذلك جمعه على مفاتح. أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً نصب على الحال. تَحِيَّةً مصدر. قال أبو إسحاق: لأن معنى فَسَلِّمُوا فحيّوا، وأجاز الكسائي والفراء رفع تحيّة بمعنى هي تحيّة مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لأن الله أمر بها مُبارَكَةً طَيِّبَةً لأن سامعها يستطيب سمعها. [سورة النور (24) : آية 62] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)

_ (1) أخرجه أبو داود في سننه الحديث (4882) ، وابن ماجة الحديث رقم (1931) . (2) أخرجه مالك في الموطأ- الاستئذان باب 6، الحديث رقم (17) ، والترمذي في سننه- البيوع 5/ 295، وابن ماجة في سننه باب 68 الحديث (2302) . والبخاري في صحيحه 3/ 165، ومسلم في صحيحه كتاب اللقطة باب (2) رقم (13) . (3) انظر مختصر ابن خالويه 103.

[سورة النور (24) : آية 63]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مبتدأ وخبره وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ أي ما يحتاج فيه إلا الاجتماع من الحرب وغيرها لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ لأنه قد يحتاج إلى حضورهم. [سورة النور (24) : آية 63] لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ الكاف في موضع نصب مفعول ثان. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً مصدر، ويجوز أن يكون في موضع الحال أي ملاوذين. قال أبو إسحاق: أي مخالفين وحقيقته أنّ بعضهم يلوذ ببعض أي يستتر به لئلا يرى. يقال: لاوذ يلاوذ ملاوذة ولواذا، ولاذ يلوذ لوذا ولياذا تقلب الواو ياء لانكسار ما قبلها اتباعا للاذ في الاعتلال، فإذا كان مصدر فاعل لم يعلّ لأن فاعل لا يجوز أن يعلّ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ «أن» في موضع نصب بيحذر، ولا يجوز عند أكثر النحويين: حذر زيدا، وهو في أن جائز لأن حروف الخفض تحذف معها عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ مبتدأ وخبره.

25 شرح إعراب سورة الفرقان

25 شرح إعراب سورة الفرقان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفرقان (25) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) تَبارَكَ قد تكلّم أهل اللغة في معناه، فقال الفراء «1» : هي في العربية وتقدس واحد، وهما للعظمة، وقال أبو إسحاق تفاعل من البركة. قال: ومعنى البركة الكثرة من كل ذي خير، وقيل: تبارك تعالى، وقيل: المعنى تعالى عطاؤه أي زاد وكثر، وقيل: المعنى دام وثبت أنعامه. وهذا أولاها في اللغة، والاشتقاق من برك الشيء إذا ثبت، ومنه برك الجمل. فأما القول الأول فمخلّط لأن التقدير إنما هو من الطهارة، وليس من ذا في شيء الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ في موضع رفع بفعله. والفرقان القرآن لأنه فرق بين الحقّ والباطل، والمؤمن والكافر عَلى عَبْدِهِ ليكون إليه، ويجوز أن يكون يعود على الفرقان. ويقال: أنذر إذا خوّف، ونذير على التكثير. [سورة الفرقان (25) : آية 2] الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في موضع رفع نعتا أو بدلا من الذي قبله. قال أبو إسحاق: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً أي بظلم، وقال غيره فقد آتوا ظلما وزورا. [سورة الفرقان (25) : آية 5] وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ على إضمار مبتدأ أي وقالوا الذي أتيت به أساطير الأولين. قال أبو إسحاق واحدها اسطورة مثل أحدوثة وأحاديث، وقال غيره: أساطير جمع أسطار مثل أقوال وأقاويل. وروي عن ابن عباس رحمه الله أن الذي قال هذا النّضر بن الحارث، وكذا كلّ ما كان في القرآن فيه ذكر الأساطير. قال محمد بن

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 262.

[سورة الفرقان (25) : آية 7]

إسحاق فكان مؤذيا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ على لغة من قال: أملى، ومن قال: أملّ قال تملّ عليه بُكْرَةً وَأَصِيلًا. [سورة الفرقان (25) : آية 7] وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ قال أبو إسحاق: «ما» منفصلة. والمعنى أيّ شيء لهذا الرسول في حال مشيه وأكله؟ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ أي هلّا فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً جواب الاستفهام. [سورة الفرقان (25) : آية 8] أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) أَوْ يُلْقى في موضع رفع، والمعنى أو هلّا يلقى إليه كنز أو هلّا تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم، وقرأ الكوفيون نَأْكُلَ مِنْها» بالنون. والقراءتان حسنتان تؤدّيان عن معنيين، وإن كانت القراءة بالياء أبين لأنه قد تقدّم ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وحده فأن يعود الضمير إليه أبين. [سورة الفرقان (25) : آية 9] انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي ضربوا لك هذه الأمثال ليتوصلوا إلى تكذيبك فَضَلُّوا عن سبيل الحقّ وعن بلوغ ما أرادوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا أي إلى تصحيح ما قالوا فيك. [سورة الفرقان (25) : آية 10] تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ شرط ومجازاة، ولم يدغم لأن الكلمتين منفصلتان، ويجوز الإدغام لاجتماع المثلين وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً يكون في موضع جزم عطفا على موضع «جعل» ، ويجوز أن يكون في موضع رفع معطوفا على الأولين ثم يدغم، وأجاز الفراء «2» النصب على الصرف. وقرأ أهل الشام ويروى عن عاصم أيضا وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً «3» بالرفع أي وسيجعل لك في الآخرة قصورا.

_ (1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 462، والبحر المحيط 6/ 443. (2) انظر معاني الفراء 2/ 263. (3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد، والبحر المحيط 6/ 444.

[سورة الفرقان (25) : آية 13]

[سورة الفرقان (25) : آية 13] وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) قال أبو إسحاق: ثُبُوراً نصبه على المصدر أي ثبرنا ثبورا، وقال غيره: هو مفعول به أي دعوا الثبور، كما يقال: يا عجباه أي هذا من أوقاتك فاحضر، وهذا أبلغ من تعجّبت. [سورة الفرقان (25) : آية 14] لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) أي بلاؤكم أعظم من أن تدعوا الثبور مرة واحدة ولكن يدعونه مرارا كثيرة، ولم يجمع الثبور لأنه مصدر. [سورة الفرقان (25) : آية 15] قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) كما حكى سيبويه «1» عن العرب: الشّقاء أحبّ إليك أم السعادة؟ وقد علم أن السعادة أحبّ إليه، وقيل: هذا للتنبيه، وقيل: المعنى: أذلك خير على غير تأويل من، كما يقال: عنده خير. وهذا قول حسن، كما قال: [الوافر] 309- فشرّكما لخيركما الفداء «2» وفي الآية قول ثالث وهو أن الكوفيين يجيزون: العسل أحلى من الخل، وهذا قول مردود لأنّ معنى: فلان خير من فلان، أنّه أكثر خيرا منه، ولا حلاوة في الخلّ ولا يجوز أن تقول: النصرانيّ خير من اليهوديّ لأنه لا خير فيهما فيكون أحدهما أزيد في الخير من الآخر، ولكن يقال: اليهوديّ شرّ من النصرانيّ، فعلى هذا كلام العرب. [سورة الفرقان (25) : آية 18] قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) وقرأ الحسن وأبو جعفر أن نتّخذ «3» بضم النون. وقد تكلم في هذه القراءة النحويون، وأجمعوا على أن فتح النون أولى، فقال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر لا يجوز (نتّخذ) قال أبو عمرو: لو كانت «نتّخذ» لحذفت (من) الثانية، فقلت: أن نتّخذ من دونك أولياء، ومثل أبي عمرو على جلالته ومحلّه يستحسن منه هذا القول: لأنه جاء بعلّة بيّنة. وشرح ما قال إنه يقال: ما اتّخذت رجلا وليّا، فيجوز أن يقع هذا لواحد

_ (1) انظر الكتاب 3/ 193. (2) الشاهد لحسان بن ثابت في ديوانه 76، وخزانة الأدب 9/ 232، وشرح الأشموني 3/ 388، ولسان العرب (ندد) و (عرش) ، وتفسير الطبري 1/ 163. (3) انظر البحر المحيط 6/ 448، ومعاني الفراء 2/ 264.

[سورة الفرقان (25) : آية 19]

بعينه ثم يقال: ما اتخذت من رجل وليّا، فيكون نفيا عاما، وقولك: وليّا تابع لما قبله فلا يجوز أن يدخل فيه من لأنه لا فائدة في ذلك، وحكى الفراء «1» عن العرب أنهم لا يقولون: ما رأيت عبد الله من رجل، غير أنه أبطل هذا، وترك ما روى عن العرب، وأجاز ذلك من قبل نفسه فقال: ولو أرادوا ما رأيت من رجل عبد الله لجاز إدخال من تتأوّل القلب. قال أبو إسحاق: وهذا خطأ لا يجوز البتّة، وهو كما قال. ثم رجع الفراء فقال: والعرب إنما تدخل من في الأسماء وهذه مناقضة بيّنة وأجاز ذلك الكسائي أيضا، ثم قال: وهو قبيح. وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ أي طالت أعمارهم بعد موت الرسل صلوات الله عليهم فنسوا وهلكوا. [سورة الفرقان (25) : آية 19] فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ تأوله أبو عبيد بمعنى فيما يقولون، وقال غيره: هذه مخاطبة للأنبياء صلّى الله عليهم وسلّم فما تستطيعون صرفا ولا نصرا. قيل: فما يستطيعون أن يصرفوا عن أنفسهم العذاب ولا أن ينصر بعضهم بعضا. [سورة الفرقان (25) : آية 20] وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) إذا دخلت اللام لم يكن في «إن» إلا الكسر، ولو لم تكن اللام ما جاز أيضا إلا الكسر لأنها مستأنفة. وهذا قول جميع النحويين إلا أنّ علي بن سليمان حكى لنا عن محمد بن يزيد أنه قال: يجوز الفتح في إنّ هذه وإن كان بعدها اللام، وأحسبه وهما منه. قال أبو إسحاق: المعنى: وما أرسلنا قبلك رسلا إلّا أنهم ليأكلون الطعام ثم حذف من لأنّ من تدلّ على المحذوف. وقال الفراء «2» : «من» محذوفة أي إلّا أن منهم من ليأكلون الطّعام، وشبّهه بقوله: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] . قال أبو إسحاق: هذا خطأ لأنّ من موصولة فلا يجوز حذفها. وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً الفتنة في اللغة الاختبار، وفي الحديث «الغنيّ للفقير فتنة والفقير للغنيّ فتنة والقويّ للضعيف فتنة والضعيف للقويّ فتنة» . والمعنى في هذا أن كلّ واحد منهما مختبر بصاحبه فالغنيّ مختبر بالفقير عليه أن يواسيه ولا يسخر منه، والفقير ممتحن بالغنيّ عليه أن لا يحسده وأن لا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كلّ واحد منهما على الحقّ، كما قال الضحاك: في معنى أَتَصْبِرُونَ أي على الحق. وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أي بما تعملون أي فيما امتحنكم فيه.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 264. (2) انظر معاني الفراء 2/ 264.

[سورة الفرقان (25) : آية 22]

[سورة الفرقان (25) : آية 22] يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) لا يجوز أن يكون يوم يرون منصوبا ببشرى لأن ما في خبر التعجّب أو في خبر النفي لا يعمل فيما قبله ولكن فيه تقديران: يكون المعنى: يمنعون البشارة يوم يرون الملائكة ودلّ على هذا الحذف ما بعده، ويجوز أن يكون التقدير لا بشرى تكون «يوم يرون الملائكة» و «يومئذ» مؤكد، ويجوز أن يكون المعنى اذكر يوم يرون الملائكة. وَيَقُولُونَ حِجْراً مصدر أي منعا ومنه حجرت على فلان، ومنه قيل حجرة. [سورة الفرقان (25) : آية 23] وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أي لا ينتفع به أي أبطلناه. وليس هباء من ذوات الهمزة وإنما همزت لالتقاء الساكنين، والتصغير هبيّ في موضع الرفع، ومن النحويين من يقول: هبيّ في موضع الرفع. [سورة الفرقان (25) : آية 24] أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا ابتداء وخبر، وقد ذكرنا مثله قبل هذا في أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ [الفرقان: 15] وحكينا قول الكوفيين أنهم يجيزون: العسل أحلى من الخلّ. وذكر الفراء «1» في هذه الآية ما هو أكثر من هذا، فزعم أنّ المعنى: أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرّا من أهل النار، وليس في مستقرّ أهل النار خير، فكأنه ردّ على نفسه، وسمعت علي بن سليمان يقول في هذا ويحكيه إنّ المعنى: لمّا كنتم تعملون عمل أهل النار صرتم كأنكم تقولون: إنّ في ذلك خيرا، وقيل خير مستقرّا مما أنتم فيه، وقيل: خير على غير معنى أفعل، ويكون مستقرّ ظرفا، وعلى ما مرّ يكون منصوبا على البيان. [سورة الفرقان (25) : آية 25] وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ الأصل تتشقّق أدغمت التاء في الشين، وقرأ الكوفيون تَشَقَّقُ «2» حذفوا التاء لأن التاء الباقية تدلّ عليها. [سورة الفرقان (25) : آية 26] الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ مبتدأ وخبر. وأجاز أبو إسحاق نصب الحقّ بمعنى أحقّ الحقّ أو أعني الحقّ. وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً الفعل منه عسر يعسر وعسر يعسر.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 266. [.....] (2) انظر البحر المحيط 6/ 453.

[سورة الفرقان (25) : آية 27]

[سورة الفرقان (25) : آية 27] وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ الماضي عضضت وحكى الكسائي عضضت بفتح الضاد الأولى. وجاء التوقيف عن أهل التفسير منهم ابن عباس وسعيد بن المسيّب أنّ الظالم هاهنا عقبة بن أبي معيط، وأن خليله أميّة بن خلف. فعقبة قتله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأميّة قتله النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فكان هذا من دلائل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأنه خبّر عنهما بهذا فقتلا على الكفر ولم يسميا في الآية لأنه أبلغ في الفائدة ليعلم أنّ هذه سبيل كل ظالم قبل من غيره في معصية الله جلّ وعزّ. [سورة الفرقان (25) : آية 28] يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) يا وَيْلَتى وقرأ الحسن يا ويلتي «1» بالياء. والقراءة الأولى أكثر في كلام العرب لأنهم يحذفون إذا قالوا: يا غلام أقبل لأن النداء موضع حذف، وكان الأصمعي ينشد بيت زهير: [الطويل] 310- تبصّر خليل هل ترى من ظعائن ... تحمّلن بالعلياء من فوق جرثم «2» وينكر رواية من روى «تبصر خليلي» لأنه كان يقصد الروايات الصّحاح الفصيحة، ولا يعرّج على الشاذّ، وكذا روى أهل اللغة: [البسيط] 311- قالت هريرة لمّا جئت زائرها ... ويلا عليك وويلا منك يا رجل «3» [سورة الفرقان (25) : آية 30] وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) الْقُرْآنَ نعت لهذا لأن هذا ينعت بما فيه الألف واللام وإن لم يكن جاريا على الفعل مَهْجُوراً مفعول ثان. [سورة الفرقان (25) : الآيات 31 الى 32] وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف، وكذا الكاف في كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ المعنى تثبيتا كذلك التثبيت، هذا على أن يكون التمام عند قوله جلّ وعزّ: جُمْلَةً واحِدَةً وإن كان التمام عند «كذلك» كان التقدير ترتيلا

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 104، والبحر المحيط 6/ 454، وهي قراءة ابن قطيب أيضا. (2) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 9، والدرر 1/ 103، وشرح شواهد المغني 1/ 384، ولسان العرب (علا) ، وبلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 542، وهمع الهوامع 1/ 37. (3) مرّ الشاهد رقم (119) .

[سورة الفرقان (25) : آية 33]

كذلك. وهذا لما لم يجد المشركون سبيلا إلى تكذيب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ببرهان ولا حجّة قالوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً فسألوا ما الصّلاح في غيره لأن القرآن كان ينزّل مفرّقا جوابا عما يسألون عنه، وكان ذلك من علامات النبوة لأنهم لا يسألون عن شيء إلّا أجيبوا عنه. وهذا لا يكون إلّا من نبيّ فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم، ويدلّ على هذا الجواب. [سورة الفرقان (25) : آية 33] وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) ولو نزل جملة لكان قد سبق الحوادث التي كانت ينزل فيها القرآن، ولو نزل جملة بما فيه من الفرائض لثقل ذلك عليهم علم الله جلّ وعزّ. إنّ الصلاح في إنزاله متفرّقا لأنهم ينبّهون به مرّة بعد مرّة ولو نزل جملة لزال معنى التنبيه، وفيه ناسخ ومنسوخ فكانوا يعبّدون بالشيء إلى وقت بعينه قد علم الله جلّ وعزّ فيه الصلاح ثم ينزل النسخ بعد ذلك فمحال أن ينزل جملة افعلوا كذا وكذا، ولا تفعلوا، والأولى أن يكون التمام «جملة واحدة» لأنه إذا وقف على «كذلك» صار المعنى كالتوراة والإنجيل والزّبور، ولم يتقدّم لهما ذكر. قال أبو إسحاق: وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا أي أنزلناه. قيل: الترتيل وهو التمكّث وهو ضدّ العجلة. [سورة الفرقان (25) : آية 34] الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ في موضع رفع الابتداء وخبره في الجملة. وقد ذكرنا معناه المروي مرفوعا. وقد قيل: هو تمثيل، كما تقول: جاءني على وجهه، أي كارها. [سورة الفرقان (25) : آية 35] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ على البدل. وَزِيراً مفعول ثان. والوزير في اللغة المعاون الذي يلجأ إليه صاحبه مشتقّ من الوزر وهو الملجأ. قال الله جلّ وعزّ كَلَّا لا وَزَرَ [القيامة: 11] . [سورة الفرقان (25) : آية 36] فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) قال الفراء «1» : إنما أمر موسى صلّى الله عليه وسلّم بالذهاب وحده في المعنى، وهذا بمنزلة قوله: نَسِيا حُوتَهُما [الكهف: 61] ، وبمنزلة قوله يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: 22] وإنما يخرج من أحدهما. قال أبو جعفر: وهذا مما لا ينبغي أن يجترأ

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 268.

[سورة الفرقان (25) : آية 37]

به على كتاب الله جلّ وعزّ وقد قال جلّ ثناؤه فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى [طه: 44، 45] ونظير هذا في قوله: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [الرحمن: 62] ، وقد قال جلّ ثناؤه ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا [المؤمنون: 45] . [سورة الفرقان (25) : آية 37] وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَقَوْمَ نُوحٍ في نصبه أقوال: يكون معطوفا على المضمر في فَدَمَّرْناهُمْ أو يكون بمعنى واذكر، ويكون على إضمار فعل يفسّره ما بعده، والتقدير وأغرقنا قوم نوح. فهذه ثلاثة أقوال، وزعم الفراء أنه منصوب بأغرقناهم، وهذا لا يحصل لأن أغرقنا ليس ممّا يتعدّى إلى مفعولين فيعمل في المضمر وفي قوم نوح. [سورة الفرقان (25) : آية 38] وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) يكون هذا كلّه معطوفا على قوم نوح إذا كان قوم نوح منصوبا على العطف أو بمعنى واذكر، ويجوز أن يكون هذا كلّه منصوبا على أنه معطوف على المضمر في وَجَعَلْناهُمْ وهو أولى لأنه أقرب إليه. [سورة الفرقان (25) : آية 39] وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ قال أبو إسحاق: وأنذر كلّا. قال: والتتبير التدمير، ومنه قيل: لمتكسّر الزجاج تبر، وكذلك تبر الذهب. [سورة الفرقان (25) : آية 40] وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) قيل: هذا للكفار الذين كفروا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأنهم قد أتوا على مدائن قوم لوط عليه السلام، وعلموا أنهم أهلكوا بكفرهم أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً من ينكر الأضداد يقول: يرجون على بابه لأنهم إنّما كفروا بالآخرة على دفع منهم للحقّ ليس على يقين فهم لا يرجونها، وكان أبو إسحاق أحد من ينكر الأضداد، وقال: المعنى: بل كانوا لا يرجون ثواب النشور فاجترؤوا على المعاصي. [سورة الفرقان (25) : آية 41] وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ جواب إِذا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً لأن معناه يتّخذونك وقيل: الجواب محذوف لأن المعنى قالوا: أهذا الذي بعث هو الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا

[سورة الفرقان (25) : آية 43]

ونصب رسول على الحال، ويجوز أن يكون مصدرا لأن معنى بعث أرسل. ومعنى رسول رسالة على هذا. [سورة الفرقان (25) : آية 43] أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا قيل معناه أفأنت تجبره على ذلك. [سورة الفرقان (25) : آية 44] أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ولم يقل: أنّهم لأن منهم من قد علم أنه يؤمن وذمّهم جلّ وعزّ بهذا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ سماع قبول أو يفكّرون فيما تقوله فيعقلونه أي هم بمنزلة من لا يعقل ولا يسمع. وقيل: المعنى أنهم لمّا ينتفعوا بما يسمعون فكأنّهم لم يسمعوا. إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ أي إنّهم لا يفهمون بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا لأنهم يكذّبون بما يسمعون من الصدق، وليس كذا الأنعام. [سورة الفرقان (25) : آية 45] أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ حذفت الألف للجزم، والأصل الهمز، والتخفيف لازم للمضارع من هذا لكثرة الاستعمال. وقد ذكرنا معنى الآية. [سورة الفرقان (25) : الآيات 47 الى 49] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً مفعولان وَالنَّوْمَ سُباتاً عطف و «سبات» بمعنى الراحة، وأعاد «جعل» توكيدا ولو كان والنهار نشورا لجاز في غير القرآن. قال الأخفش سعيد: واحد الأناسيّ إنسيّ. وكذا قال محمد بن يزيد، وهو أحد قولي الفراء «1» ، وله قول آخر وهو أن يكون واحد الأناسيّ إنسانا لم يبدل من النون ياء فيقول: أناسيّ ويجب على قوله أن يقول في جمع سرحان: سراحيّ. لا فرق بينهما، وحكى أيضا وَأَناسِيَّ كَثِيراً بالتخفيف. [سورة الفرقان (25) : آية 50] وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ وهو المطر كما قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس:

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 270.

[سورة الفرقان (25) : آية 54]

ليس عام بأكثر مطرا من عام، ولكنّ الله يصرفه حيث يشاء. فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً لا يعلم بين أهل التفسير اختلافا أنّ الكفر هاهنا قولهم: «مطرنا بنوء كذا وكذا» «1» وأن نظيره قول المنجّم: فعل النجم كذا وكذا، وأنّ كلّ من نسب إليها فعلا فهو كافر. [سورة الفرقان (25) : آية 54] وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً للعلماء في هذا ثلاثة أقوال: فمن أجلها ما روي عن ابن عباس، قال: النسب سبع حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ [النساء: 23] والصّهر السبع وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء: 23] إلى آخر الآية. وشرح هذا أنّ السبع الأول من النسب فتقديره في العربية: فجعله ذا نسب وذا صهر. والسبع الذين من الصهر أي ممن يقع فيهم الصهر لولا ما حدث، وقال الضحاك: النسب الأقرباء، والصهر ذوات الرضاع، والقول الثالث: أنّ النسب الذكر من الأولاد، والصهر الإناث من الأولاد لأنّ المصاهرة من جهتين تكون. [سورة الفرقان (25) : آية 55] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً روي عن ابن عباس الكافر هاهنا أبو جهل وشيعته لأنه يستظهر بعبدة الأوثان على أولياء ربه. وقال عكرمة: الكافر إبليس ظهير على عداوة ربه، وقال مطر: الكافر هاهنا الشيطان. [سورة الفرقان (25) : آية 57] قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) مِنْ في موضع ونصب استثناء ليس من الأول. والتقدير: لكن من شاء أن ينفق ابتغاء مرضاة الله ليتّخذ إلى ثواب ربّه طريقا فليفعل. [سورة الفرقان (25) : آية 59] الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ في رفعه ثلاثة أوجه يكون بدلا من المضمر الذي في استوى، ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هو الرحمن، ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً. ويجوز الخفض بمعنى وتوكّل على الحيّ الذي لا يموت الرّحمن، يكون نعتا، ويجوز النصب على المدح.

_ (1) يشير إلى الحديث: «أصبح الناس بين مؤمن وكافر فمن قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب» ، أخرجه مالك في الموطأ باب 3، الحديث رقم (6) .

[سورة الفرقان (25) : آية 60]

[سورة الفرقان (25) : آية 60] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) هذه قراءة المدنيين والبصريين، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي لما يأمرنا «1» بالياء. والقراءة الأولى اختيار أبي عبيد، وتأوّل الثانية فيما نرى «أنسجد لما يأمرنا الرحمن» ، قال: ولو أقرّوا بأنّ الرحمن أمرهم ما كانوا كفارا، وليس يجب أن يتأوّل عن الكوفيين في قراءتهم بهذا التأويل البعيد، ولكن الأولى أن يكون التأويل لهم أنسجد لما يأمرنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فتصح القراءة على هذا، وإن كانت الأولى أبين وأقرب متناولا. [سورة الفرقان (25) : آية 61] تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) هذه قراءة المدنيين والبصريين وعاصم، وقرأ سائر الكوفيين سرجا «2» والقراءة الأولى أولى عند أبي عبيد، لأنه تأول أن السرج النّجوم، وأنّ البروج النجوم، وليس يجب أن يتأوّل لهم هذا فيجيء المعنى نجوما ونجوما، ولكن التأويل لهم أن أبان بن تغلب قال: السّرج النجوم الدراريّ فعلى هذا تصحّ القراءة ويكون مثل قوله جلّ وعزّ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] فأعيد ذكر النجوم النيّرة، وإن كانت القراءة الأولى أبين وأوضح تأويلا. قال ابن عباس: السراج الشمس وروى عصمة عن الأعمش وَقَمَراً «3» بضم القاف وإسكان الميم. وهذه قراءة شاذة. ولو لم يكن فيها إلا أن أحمد بن حنبل وهو إمام المسلمين في وقته قال: لا تكتبوا ما يحكيه عصمة الذي يروي القراءات. وقد أولع أبو حاتم السجستاني بذكر ما يرويه عصمة هذا. [سورة الفرقان (25) : آية 62] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ هذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم على اختلاف عنه والكسائي، وقرأ الأعمش وحمزة لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ «4» الأصل في «يذّكّر» يتذكّر ثم أدغمت التاء في الدال أي يتذكّر ويتفكّر في خلق الله، فإنّ الدلالة فيه بيّنة فهذه القراءة بيّنة ويذكر يجوز أن يتبيّن هذه الأشياء بذكره. [سورة الفرقان (25) : آية 63] وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَعِبادُ الرَّحْمنِ رفع بالابتداء وقد أشكل على جماعة من النحويين هذا حتى قال

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 466، وكتاب السبعة لابن مجاهد 466. (2) انظر البحر المحيط 6/ 467. (3) انظر البحر المحيط 6/ 468، وهي قراءة الحسن والنخعيّ. (4) انظر البحر المحيط 6/ 468، وكتاب السبعة لابن مجاهد 466.

[سورة الفرقان (25) : آية 66]

الأخفش: هو مبتدأ بلا خبر يذهب إلى أنه محذوف ورأيت أبا إسحاق قد جاء في هذا بما هو أولى من قول الأخفش هذا قال: «عباد» مرفوع بالابتداء والَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً من صفتهم «والذين» الذي بعده عطف عليه والخبر أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ [الفرقان: 75] قال: ويجوز أن يكون الخبر الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ قالُوا سَلاماً مصدر. وقد ذكرنا معناه. [سورة الفرقان (25) : آية 66] إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا قال أبو إسحاق: «مستقرا» منصوب على التمييز أي في المستقر سبيل التمييز أن يكون فيه معنى «من» فالمعنى: ساءت من المستقرات. [سورة الفرقان (25) : آية 67] وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا هذه قراءة الأعمش وحمزة والكسائي وعاصم ويحيى بن وثاب على اختلاف عنهما وهي قراءة حسنة من قتر يقتر وهذا القياس في اللازم مثل قعد يقعد. وقرأ أبو عمرو لَمْ يَقْتُرُوا «1» وهي لغة معروفة حسنة، وقرأ أهل المدينة وَلَمْ يَقْتُرُوا «2» وتعجّب أبو حاتم من قراءة أهل المدينة هذه لأن أهل المدينة عنده لا يقع في قراءتهم الشاذّ فانّما يقال: أقتر يقتر إذا افتقر، كما قال جلّ وعزّ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة: 236] وتأوّل أبو حاتم لهم أنّ المسرف يفتقر سريعا، وهذا تأويل بعيد ولكن التأويل لهم أن أبا عمر الجرمي حكى عن الأصمعي أنه يقال للإنسان إذا ضيّق: قتر يقتر ويقتر وقتّر يقتّر وأقتر يقتر فعلى هذا تصحّ القراءة وإن كان فتح الياء أصحّ وأقرب متناولا وأشهر وأعرف. ومن أحسن ما قيل في معناه ما حدّثناه الحسن بن غليب قال: حدّثني عمران بن أبي عمران قال: حدّثنا خلّاد بن سليمان الحضرمي. قال: حدّثني عمرو بن أبي لبيد عن أبي عبد الرحمن الحبلي في قوله جلّ وعزّ وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً قال: من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف ومن أمسك عن طاعة الله فهو الإقتار، ومن أنفق في طاعة الله فهو القوام. قال أبو إسحاق: تفسر هذه الآية على الحقيقة ما أدّب الله جلّ وعزّ به نبيّه صلّى الله عليه وسلّم فقال: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: 29] وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً خبر كان واسم كان فيها مضمر دلّ عليه أنفقوا، والتقدير: كان الإنفاق بين الإسراف والقتور عدلا. وللفراء قول آخر يجعل «بين» اسم كان وينصبها. قال أبو جعفر: ما أدري ما وجه هذا لأن «بين» إذا كانت في موضع رفع رفعت كما يقال: بين عينيه أحمر فترفع بين.

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 471، وكتاب السبعة لابن مجاهد 466. (2) انظر البحر المحيط 6/ 471، وكتاب السبعة لابن مجاهد 466.

[سورة الفرقان (25) : آية 68]

[سورة الفرقان (25) : آية 68] وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً شرط ومجازاة. [سورة الفرقان (25) : آية 69] يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ بدل من يلق قال سيبويه: لأن مضاعفة العذاب لقيّ الأنام، وقرأ عاصم يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهانا «1» بالرفع، والجزم أولى لما ذكرنا. وفي الرفع قولان: أحدهما أن يقطعه مما قبله، والآخر أن يكون محمولا على المعنى، كأنّ قائلا قال: ما لقيّ الآثام؟ فقيل: يضاعف له العذاب. [سورة الفرقان (25) : آية 70] إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) إِلَّا مَنْ تابَ في موضع نصب على الاستثناء. فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ مفعولان، وقد ذكرنا معناه. ومن حسن ما قيل فيه أنه يكتب موضع كافر مؤمن، وموضع عاص مطيع. [سورة الفرقان (25) : آية 71] وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً مصدر فيه معنى التوكيد. [سورة الفرقان (25) : آية 73] وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) صُمًّا وَعُمْياناً على الحال. [سورة الفرقان (25) : آية 74] وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) قُرَّةَ أَعْيُنٍ لم يجمع لأنه مصدر، ولو جمع يراد به اختلاف الأجناس لجاز وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً واحد يدلّ على جمع. [سورة الفرقان (25) : آية 75] أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة وقرأ أهل الكوفة وَيُلَقَّوْنَ فِيها «2» . قال الفراء «3» : ويلقون أعجب إليّ لأن القراءة لو كانت

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 472، وكتاب السبعة لابن مجاهد 468. [.....] (2) انظر البحر المحيط 6/ 474. (3) انظر معاني الفراء 2/ 275.

[سورة الفرقان (25) : آية 76]

«يلقّون» كانت في العربية بالباء. وهذا من الغلط أشدّ مما مرّ في السورة لأنه يزعم أنها لو كانت يلقّون كانت في العربية بتحية وسلام. وقال كما يقال: فلان يتلقّى بالسّلام وبالخير. فمن عجيب ما في هذا أنّه قال: يتلقّى، والآية يلقّون، والفرق بينهما بيّن لأنه يقال: فلان يتلقّى بالجنّة، ولا يجوز حذف الياء، فكيف يشبه هذا ذاك وأعجب من هذا أنّ في القرآن وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [الإنسان: 11] لا يجوز أن يقرأ بغيره وهذا يبيّن أن الأولى خلاف ما قال. [سورة الفرقان (25) : آية 76] خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) خالِدِينَ فِيها على الحال. [سورة الفرقان (25) : آية 77] قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً وعن ابن عباس بإسناد صحيح أنه قرأ: فقد كذّب الكافرون فسوف يكون لزاما «1» وكذا روى شعبة عن إبراهيم التيمي عن أبي الزبير قال شعبة: وكذا في قراءة عبد الله بن مسعود. وهذه القراءة مخالفة للمصحف وينبغي أن تحمل على التفسير لأن معنى فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أنّه يخاطب به الكفار، وهذه القراءة مع موافقتها للسواد أولى بسياق الكلام لأن الله جلّ وعزّ قال: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فهذه مخاطبة، وكذا فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً فهذا أولى من فقد كذّب الكافرون فسوف يكون لزاما وقد تكلم النحويون فيه، فمن حسن ما قيل فيه أنّ التقدير فسوف يكون التكذيب لأن كذبتم يدلّ على التكذيب، وحقيقته في العربية فسوف يكون جزاء التكذيب عذابا لزاما أي ذا لزام. ولزام وملازمة واحد. وحكى أبو حاتم عن أبي زيد قال: سمعت قعنبا أبا السّمال ليقرأ: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً «2» بفتح اللام. قال أبو جعفر: يكون مصدر لزم، والكسر أولى مثل قتال ومقاتلة كما أجمعوا على الكسر في قوله جلّ وعزّ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى [طه: 129] وللفراء قول آخر «3» في اسم يكون قال: يكون فيها مجهول. وهذا غلط لأن المجهول لا يكون خبره إلا جملة، كما قال جلّ وعزّ: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [يوسف: 90] وكما حكى النحويون: كان زيد منطلق. يكون في كان مجهول، ويكون المبتدأ وخبر مخبر المجهول، والتقدير كان الحديث. فأما أن يقال: كان منطلقا ويكون في كان مجهول فلا يجوز عند أحد علمناه.

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 475، ومختصر ابن خالويه 105. (2) انظر البحر المحيط 6/ 475. (3) انظر معاني الفراء 2/ 275.

26 شرح إعراب سورة الشعراء

26 شرح إعراب سورة الشّعراء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشعراء (26) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) أبو جعفر: «1» حكى أبو عبيد أنّ أبا عمرو كان يفتح، وأنّ الكوفيين يكسرون، وأن المدنيين يقرءون بين الفتح والكسر. وهذا مشروع في سورة «طه» وقرأ المدنيّون وأبو عمرو وعاصم والكسائي طسم بإدغام النون في الميم، والقرّاء يقولون: بإخفاء النون، وقرأ الأعمش وحمزة طسين ميم بإظهار النون. قال أبو جعفر: للنون الساكنة والتنوين أربعة أقسام عند سيبويه «2» : يبيّنان عند حروف الحلق، ويدغمان عند الراء واللام والميم والواو والياء، ويقلبان ميما عند الباء، ويكونان من الخياشيم أي لا يبينان، فعلى هذه الأربعة الأقسام التي نصّها سيبويه لا تجوز هذه القراءة لأنه ليس هاهنا حرف من حروف الحلق فتبيّن النون عنده ولكن في ذلك وجه وهو أن حروف المعجم حكمها أن يوقف عليها فإذا وقف عليها تبيّنت النون. وحكى أبو إسحاق في كتابه «فيما يجرى وما لا يجرى» «3» أنه يجوز أن يقول «طسين ميم» بفتح النون وضم الميم، كما يقال: هذا معدي كرب يا هذا. [سورة الشعراء (26) : آية 2] تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) تِلْكَ آياتُ رفع على إضمار مبتدأ أي: هذه تلك آيات الكتاب المبين أي التي كنتم وعدتم بها لأنهم وعدوا في التوراة والإنجيل بإنزال القرآن. [سورة الشعراء (26) : آية 3] لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ خبر لعلّ. أَلَّا يَكُونُوا قال الفراء «4» : في موضع نصب لأنهما جزاء. قال أبو جعفر: وإنما يقال: إن مكسورة لأنها جزاء، كذا المتعارف. والقول في

_ (1) انظر القراءات المختلفة في البحر المحيط 7/ 5. (2) انظر الكتاب 4/ 587. (3) انظر كتاب ما ينصرف وما لا ينصرف ص 63. (4) انظر معاني الفراء 2/ 275.

[سورة الشعراء (26) : آية 4]

هذا ما قاله أبو إسحاق في كتابه «في القرآن» قال: «أن» في موضع نصب مفعول له، والمعنى: لعلّك قاتل نفسك لتركهم الإيمان. [سورة الشعراء (26) : آية 4] إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً شرط ومجازاة. فَظَلَّتْ معناه فتظلّ، لأن الماضي يأتي بمعنى المستقبل في المجازاة. وقد ذكرنا «خاضعين» ولم يقل: خاضعات بما يستغني عن الزيادة. [سورة الشعراء (26) : آية 7] أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) أصل الكرم في اللغة الشرف والفضل، فنخلة كريمة أي فاضلة كثيرة الثمر، ورجل كريم فاضل شريف صفوح، قال الفراء: والزوج اللون. [سورة الشعراء (26) : آية 10] وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) إِذْ في موضع نصب، واتل عليهم إذ نادى ربك موسى، ويدل على هذا أن بعده وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ [الشعراء: 69] أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. [سورة الشعراء (26) : آية 11] قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قَوْمَ فِرْعَوْنَ بدل. أَلا يَتَّقُونَ لأنهم غيّب عن المخاطبة، ويجوز ألا تتّقون بمعنى قل لهم، ومثله قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمران: 12] بالتاء والياء.. [سورة الشعراء (26) : الآيات 12 الى 13] قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي. قال الكسائي: القراءة بالرفع يعني في وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي من وجهين: أحدهما: الابتداء، والآخر: بمعنى وإنّي يضيق صدري ولا ينطلق لساني يعني نسقا على «أخاف» . قال: ويقرأ بالنصب، وكلاهما وجه. قال أبو جعفر: الوجه الرفع لأن النصب عطف على «يكذّبون» ، وهذا بعيد يدلّ على ذلك قوله: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه: 27] فهذا يدلّ على أن هذا كذا. [سورة الشعراء (26) : آية 17] أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قال أبو إسحاق: أَنْ أَرْسِلْ في موضع نصب، أي أرسلنا لأن ترسل معنا بني إسرائيل، فامتنّ عليه فرعون بالتربية.

[سورة الشعراء (26) : آية 18]

[سورة الشعراء (26) : آية 18] قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً نصب على الحال. وَلَبِثْتَ فِينا وإن شئت أدغمت الثاء في التاء لقربها منها مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وتحذف الضمّة لثقلها فيقال من عمرك، وحكى سيبويه» فتح العين وإسكان الميم ومنه لعمرك ولا يستعمل في القسم عنده إلّا الفتح لخفّته. سِنِينَ على جمع التسليم، وقد يقال: لبثت سنينا يا هذا. يجعل الإعراب في النون. [سورة الشعراء (26) : آية 19] وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) تكون الجملة في موضع الحال أي قتلت النفس وهذه حالك، ويجوز أن يكون المعنى: وأنت السّاعة من الكافرين لنعمتي لأنك تطالبني أن أرسل معك بني إسرائيل. [سورة الشعراء (26) : آية 20] قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) قيل: معناه أي ضللت عن أن أعرف بأنّ تلك الضربة تقتل. [سورة الشعراء (26) : آية 22] وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قال الأخفش: فقيل المعنى أو تلك نعمة وحذفت ألف الاستفهام. قال أبو جعفر: وهذا لا يجوز لأن ألف الاستفهام تحدث معنى وحذفها محال، إلّا أن يكون في الكلام «أم» فيجوز حذفها في الشعر ولا أعلم بين النحويين في هذا اختلافا إلّا شيئا قاله الفراء «2» قال: يجوز حذف ألف الاستفهام في أفعال الشكّ وحكى: ترى زيدا منطلقا بمعنى أترى. وكان عليّ بن سليمان يقول في مثل هذا: إنّما أخذه من ألفاظ العامة وكذا عنده: نعم زيدا إذا تقدّم ذكره إنما أخذه من ألفاظ العامة. ومذهب الفراء «3» في معنى وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أنه على حذف. وأنّ المعنى هي لعمري نعمة إن مننت عليّ فلم تستعبدني واستعبدت بني إسرائيل أي: إنّما صارت لأنك استعبدت بني إسرائيل. وقول الضحاك: أنّ المعنى أنك تمنّ عليّ بما لا يجب أن تمنّ به أي يكون هذا على التّبكيت له والتبكيت يكون بغير استفهام وباستفهام، ويجوز أن يكون هذا مثل وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء: 79] ويكون تبكيتا أيضا، وقول رابع في الآيتين جميعا: أن يكون القول محذوفا «إن عبّدت» في موضع رفع على البدل من نعمة، ويجوز أن يكون أن في موضع نصب بمعنى لأن عبّدت بني إسرائيل.

_ (1) انظر الكتاب 1/ 386. (2) انظر معاني القرآن للفراء 2/ 394. (3) انظر معاني الفراء 2/ 279.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 إلى 24]

[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 24] قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ فأجابه موسى صلّى الله عليه وسلّم ف قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إذا نظرتم إلى السموات والأرض وما فيهما من الآيات والحوادث علمتم وأيقنتم أنّ لهما صانعا ومدبّرا. [سورة الشعراء (26) : آية 25] قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) عليهم من الأول وأدنى إلى أفهامهم من الأول. فخاطب موسى صلّى الله عليه وسلّم الجماعة بما هو أقرب. [سورة الشعراء (26) : آية 26] قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) فجاء بدليل يفهمونه عنه لأنهم يعلمون أنهم قد كان لهم آباء، وأنهم قد فنوا، وأنهم لا بدّ لهم من مفن، وأنهم قد كانوا بعد أن لم يكونوا وأنهم لا بد لهم من مكوّن. [سورة الشعراء (26) : الآيات 27 الى 28] قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ فأجابه موسى صلّى الله عليه وسلّم عن هذا بأن قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ليس ملكه كملكك لأنك إنما تملك بلدا واحدا لا يجوز أمرك في غيره ويميت من لا تحبّ أن يموت، والذي أرسلني يملك المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون فستتبيّنون ما قلت. [سورة الشعراء (26) : الآيات 29 الى 30] قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ فرفق به موسى صلّى الله عليه وسلّم ف قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي أتجعلني من المسجونين ولو جئتك بشيء تتبيّن به صدق ما جئت به. [سورة الشعراء (26) : آية 31] قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فلم يحتج الشرط إلى جواب عند سيبويه لأن ما تقدّم يكفي منه. [سورة الشعراء (26) : آية 36] قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ قال أبو إسحاق: أي أخّره عن وقتك وأخّر استتمام مناظرته

[سورة الشعراء (26) : آية 41]

حتى تجتمع كل السحرة أرجئه بإثبات الهمزة في الإدراج، ويجوز حذفها وإثبات الكسرة، وفي الإدراج يجوز حذفها، وإثبات الضمة بالهمزة وضمّ الهاء بغير واو. ويجوز إثبات الواو على بعد. وإنما بعد لأن الهمزة ساكنة والواو ساكنة والحاجز بينهما ضعيف والواو في الأصل والياء على البدل منه وحذفهما لأن قبلهما ما يدلّ عليهما، وأنهما زائدتان. [سورة الشعراء (26) : آية 41] فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) ومن قرأ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً بغير استفهام جعل معناه إنّك ممن يحبّنا ويبرّنا. [سورة الشعراء (26) : آية 46] فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) أي الّذين كان يقال لهم سحرة وذكروا بهذا الاسم ليدلّ على أنهم المذكورون قبل. [سورة الشعراء (26) : آية 49] قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ تمويه من فرعون وطغيان وعدوان أظهر أنّ السحرة واطئوا موسى عليه السلام على ما كان، وأنّ موسى هو الذين علّمهم السحر. [سورة الشعراء (26) : آية 50] قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) قالُوا لا ضَيْرَ من ضار يضير. ويقال: ضار يضور بمعنى ضرّ يضرّ ضرّا وضررا. [سورة الشعراء (26) : آية 51] إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) أَنْ في موضع نصب والمعنى لأن كنا، وأجاز الفراء «1» كسرها على أن يكون مجازاة. [سورة الشعراء (26) : آية 52] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي من أسرى يسري ويجوز أن أسر من سرى يسري لغتان فصيحتان. [سورة الشعراء (26) : آية 54] إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) لام توكيد تدخل كثيرا في خبر إن إلّا أن الكوفيين لا يجيزون: إن زيدا لسوف يقوم. والدليل على أنه جائز فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الشعراء: 49] فهذه لام التوكيد

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 280.

[سورة الشعراء (26) : آية 55]

بعينها قد دخلت على سوف قَلِيلُونَ جمع مسلّم كما يقال: أحدون. [سورة الشعراء (26) : آية 55] وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) من غاظ يغيظ وهي اللغة الفصيحة. [سورة الشعراء (26) : آية 56] وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) قراءة المدنيين وأبي عمرو، وقراءة الكوفيين حاذِرُونَ «1» ، وهي معروفة عن عبد الله بن مسعود وابن عباس حادرون «2» بالدال غير معجمة، قراءة ابن أبي عمار. قال أبو جعفر: أبو عبيدة يذهب إلى أن معنى حذرين وحاذرين واحد، وهو قول سيبويه. وأجاز: هو حذر زيدا، كما يقال: حاذر زيدا، وأنشد: [الكامل] 312- حذر أمورا لا تضير وآمن ... ما ليس منجيه من الأقدار «3» قال أبو جعفر: حدّثني علي بن سليمان قال: حدّثنا محمد بن يزيد قال: سمعت أبا عثمان المازني يقول: قال أبو عثمان اللّاحقي: لقيني سيبويه فقال: أتعرف بيتا فيه فعل ناصبا؟ فلم أحفظ فيه شيئا وفكّرت فعملت له فيه هذا البيت، وزعم أبو عمر الجرمي أنه يجوز هو حذر زيدا، على حذف «من» . فأما أكثر النحويين فيفرقون بين حذر وحاذر منهم الكسائي والفراء ومحمد بن يزيد، ويذهبون إلى أنّ معنى حذر في خلقته الحذر أي منتبه متيقّظ فإذا كان هكذا لم يتعدّ، ومعنى حاذر مستعد وبهذا جاء التفسير عن المتقدّمين. قال عبد الله بن مسعود في قول الله جلّ وعزّ: حاذِرُونَ قال: مؤدّون في الكراع والسلاح مقوون فهذا ذاك بعينه، وقوله: مؤدّون معناه معهم أداة، وقيل: المعنى معنا سلاح وليس معهم سلاح يحرّضون على القتال. فأما «حادرون» فمعنا مشتقّ من قولهم: عين حدرة أي ممتلئة أي نحن ممتلئون غيظا عليهم. [سورة الشعراء (26) : آية 59] كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) كَذلِكَ في موضع رفع والمعنى الأمر كذلك أي الأمر كما أخبرناكم من خبرهم. [سورة الشعراء (26) : آية 61] فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) فَلَمَّا تَراءَا هكذا الوقف كما تقول: تجافى القوم، وتراخى إخوتك. لم تقف عليه فتقول: تجافى وتراخى، ومن وقف فقال: تراءى فقد حذف لام الفعل، وغلط من اعتلّ أنه فعل متقدّم غلطا قبيحا، وذلك أن العلّة في قولنا: تراءى أنه مثل تداعى

_ (1) انظر البحر المحيط 6/ 17. [.....] (2) انظر مختصر ابن خالويه 106، والبحر المحيط 6/ 18. (3) مرّ: الشاهد رقم (121) .

[سورة الشعراء (26) : آية 69]

وتجافى- كما قلنا، ولو كان متأخّرا لقيل: ترآيا فإن وصلت حذفت لالتقاء الساكنين فقلت: تراءى الجمعان. وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ «1» . قال الفراء «2» : حفر واحتفر بمعنى واحد، وكذلك لمدركون ولمدّركون بمعنى واحد. قال أبو جعفر: وليس كذا يقول النحويون الحذاق، إنما يقولون مدركون ملحوقون، ومدّركون مجتهد في لحاقهم، كما يقال: كسبت بمعنى أصبت وظفرت، واكتسبت بمعنى اجتهدت وطلبت. وهذا معنى قول سيبويه. [سورة الشعراء (26) : آية 69] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) على تخفيف الهمزة الثانية، وهو أحسن الوجوه لأنهم قد أجمعوا جميعا على تخفيف الثانية إذا كانتا في كلمة واحدة، نحو آدم، وإن شئت حققتهما فقلت: «نبأ إبراهيم» وإن شئت خفّفتهما فقلت «نبأ إبراهيم» ، وإن شئت خففت الأولى فقلت «نبأ إبراهيم» . وثمّ وجه خامس إلّا أنه بعيد في العربية، بعد لأنه جمع بين همزتين كأنهما في كلمة واحدة وحسن في فعال لأنه لا يأتي إلّا مدغما. [سورة الشعراء (26) : الآيات 71 الى 72] قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ خبر نظل. قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ قال الأخفش: فيه حذف، والمعنى: هل يسمعون منكم أو هل يسمعون دعاءكم فحذف كما قال: [البسط] 313- القائد الخيل منكوبا دوابرها ... قد أحكمت حكمات القدّ والأبقا «3» قال: والأبق الكتان فحذف. والمعنى: وقد أحكمت حكمات الأبق. وروي عن قتادة أنه قرأ قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ «4» بضمّ الياء أي هل يسمعونكم أصواتهم. إِذْ تَدْعُونَ وإن شئت أدغمت الذال في التاء. [سورة الشعراء (26) : آية 73] أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) معطوف على يسمعونكم.

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 19، ومختصر ابن خالويه 107. (2) انظر معاني الفراء 2/ 280. (3) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 49، ولسان العرب (أبق) و (حكم) ، وتهذيب اللغة 4/ 114، وجمهرة اللغة 1026، وتاج العروس (حكم) ، ومجمل اللغة 1/ 159، ومقاييس اللغة 1/ 39، وديوان الأدب 2/ 329، وأساس البلاغة (حكم) ، وبلا نسبة في لسان العرب (حكم) ، والمخصّص 4/ 71، وديوان الأدب 2/ 133، وكتاب العين (حكم) . (4) انظر مختصر ابن خالويه 107.

[سورة الشعراء (26) : آية 77]

[سورة الشعراء (26) : آية 77] فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي واحد يؤدّي عن جماعة، وكذلك يقال للمرأة: هي عدوّ الله وعدوّة الله، حكاهما الفراء. قال أبو جعفر: وسألت علي بن سليمان عن العلّة فيه، فقال من قال: عدوّة فأثبت الهاء قال: هي بمعنى معادية. ومن قال عدوّ للمؤنّث، والجمع جعله بمعنى النسب. إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ قال أبو إسحاق: قال النحويون: هو استثناء ليس من الأول، وأجاز أبو إسحاق أن يكون من الأول على أنهم كانوا يعبدون الله جلّ وعزّ ويعبدون معه الأصنام، وتأوله الفراء «1» على الأصنام وحدها، والمعنى عنده فإنّهم لو عبدتهم عدوّ لي إلّا ربّ العالمين أي عدوّ لي يوم القيامة. [سورة الشعراء (26) : الآيات 78 الى 79] الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) يَهْدِينِ وَيَسْقِينِ: بغير ياء لأن الحذف في رؤوس الآيات حسن لتتّفق كلّها. وقد قرأ ابن أبي إسحاق على جلالته ومحلّه من العربية هذه كلّها بالياء لأن الياء اسم وإنما دخلت النون لعلّة. [سورة الشعراء (26) : آية 82] وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) وقرأ الحسن: الذي أطمع أن يغفر لي خطاياي يوم الدين وقال ليست خطيئة واحدة. قال أبو جعفر: وخطيئة بمعنى خطايا معروف في كلام العرب، وقد أجمعوا جميعا على التوحيد في قوّته جلّ وعزّ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ [الملك: 11] ومعناه بذنوبهم، وكذا فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء: 103] ومعناه الصلوات فكذا خَطِيئَتِي إن كانت خطايا، والله أعلم. [سورة الشعراء (26) : آية 94] فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) فَكُبْكِبُوا فِيها قيل الضمير يعود على الأصنام وقد جرى الإخبار عنهم بالتذكير، لأنهم أنزلوهم منزلة ما يعقل. هُمْ وَالْغاوُونَ الذين عبدوهم، «والغاوون» الخائبون من رحمة الله جلّ وعزّ. [سورة الشعراء (26) : آية 95] وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) الذين دعوهم إلى عبادة الأصنام وساعدوا إبليس على ما يريد فهم جنوده. [سورة الشعراء (26) : آية 99] وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99)

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 281.

[سورة الشعراء (26) : آية 100]

رفع بفعلهم، والمجرمون: الذين دعوهم إلى عبادة الأصنام. [سورة الشعراء (26) : آية 100] فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) في موضع رفع لأن المعنى: فما لنا شافعون. [سورة الشعراء (26) : آية 101] وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) ويجوز وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ بالرفع يكون عطفا على الموضع: لأن المعنى فما لنا شافعون ولا صديق حميم. وجمع صديق أصدقاء، وصدقاء وصداق. ولا يقال: صدق، للفرق بين النعت وبين غيره، وحكى الكوفيون أنه يقال في جمعه صدقان. وهذا بعيد لأن هذا جمع ما ليس بنعت نحو رغيف ورغفان، وحكوا أيضا صديق وأ صادق، وأفاعل إنما هو جمع أفعل إذا لم يكن نعتا، نحو أشجع وأشاجع. ويقال: صديق للجماعة وللمرأة، وجمع حميم أحمّاء وأحمّة، وكرهوا أفعلاء للتضعيف. [سورة الشعراء (26) : آية 102] فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) أنّ في موضع رفع والمعنى: فلو وقع لنا رجوع إلى الحياة لآمنّا. [سورة الشعراء (26) : آية 105] كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ على تأنيث الجماعة. [سورة الشعراء (26) : آية 111] قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) الْأَرْذَلُونَ جمع الأرذل والمكسر أراذل والأنثى الرّذلى والجمع رذل، ولا يجوز حذف الألف واللام في شيء من هذا عند أحد من النحويين علمناه، ومنعوا جميعا سقطت له ثنّيتان علييان لا سفليان. [سورة الشعراء (26) : آية 119] فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) الْفُلْكِ زعم سيبويه أنه جمع فلك كأسد وأسد، وقيل: فلك وفلك بمعنى واحد. [سورة الشعراء (26) : آية 128] أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) قال محمد بن يزيد رِيعٍ جمع ريعة. [سورة الشعراء (26) : آية 129] وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) فذمّوا على أن اتّخذوا ما لا يحتاجون إليه ووبخوا بقوله: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي لستم تخلدون فلم تبنون ما تموتون وتتركونه؟

[سورة الشعراء (26) : آية 137]

[سورة الشعراء (26) : آية 137] إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) قراءة شيبة ونافع وعاصم والأعمش وحمزة، وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر والحسن إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ «1» بفتح الخاء. فالقراءة الأولى عند الفراء بمعنى عادة الأولين. قال أبو جعفر: وحكى لنا محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد قال: خلق الأولين مذهبهم، وما جرى عليه أمرهم. والقولان متقاربان من هذا الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» «2» أي أحسنهم مذهبا وعادة وما يجري عليه الأمر في طاعة الله جلّ وعزّ، ولا يجوز أن يكون من كان حسن الخلق فاجرا فاضلا، ولا أن يكون أكمل إيمانا من السيئ الخلق الذي ليس بفاجر. قال أبو جعفر: وحكي لنا عن محمد بن يزيد أنّ معنى «خلق الأولين» تكذيبهم وتخرّصهم غير أنه كان يميل إلى القراءة الأولى لأن فيها مدح آبائهم، وأكثر ما جاء القرآن في صفتهم مدحهم لآبائهم وقولهم: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: 22] . [سورة الشعراء (26) : آية 148] وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ الجملة في موضع خفض نعت لنخل. وأحسن ما قيل في معناه ما رواه الدّراوردي عن ابن أخي الزّهري عن عمه في قوله جلّ وعزّ: طَلْعُها هَضِيمٌ قال: الرّخص اللطيف أول ما يطلع، وهو الطلع النضيد لأن بعضه فوق بعض. [سورة الشعراء (26) : آية 149] وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ ويقال: تنحتون لأنه فيه حرفا من حروف الحلق. بيوتا فرهين «3» قراءة المدنيين والبصريين، وقرأ أبو صالح والكوفيون فارِهِينَ وقد اختلف العلماء في معناهما ففرق بينهما بعضهم وجعلهما بمعنى واحد. فقال أبو صالح ومعاوية بن قرّة ومنصور بن المعتمر والضحاك بن مزاحم فارهون حاذقون. قال مجاهد: «فرهون» أشرون بطرون. قال أبو جعفر: فهذا تفريق بين معنيين، يكون «فارهون» من فره إذا كان حاذقا نشيطا، و «فرهون» بمعنى فرحين فأبدل من الحاء هاء. وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وينحتون من الجبال بيوتا فرهين قال:

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 281، والبحر المحيط 7/ 32، وهذه قراءة عبد الله وعلقمة وابن كثير والكسائي أيضا. (2) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 250، وأبو داود في سننه (4682) ، والدارمي في سننه 2/ 323، والحاكم في المستدرك 1/ 3، وأبو نعيم في حلية الأولياء 9/ 248 والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 5/ 355. (3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 472، والبحر المحيط 7/ 34.

[سورة الشعراء (26) : آية 155]

حاذقين. قال: فهذا بمعنى فارهين إن كان محفوظا عن ابن عباس وممن ذهب إلى أنّ فارهين وفرهين بمعنى واحد أبو عبيدة وقطرب. وحكى قطرب: فره يفره فهو فاره وفرع يفره فهو فره وفاره إذا كان نشيطا وهو منصوب على الحال. [سورة الشعراء (26) : آية 155] قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ قال الفراء «1» : الشّرب الحظّ من الماء. قال أبو جعفر: فأمّا المصدر فيقال فيه شرب شربا وشربا وشربا: وأكثرها المضمومة لأنّ المفتوحة والمكسورة يشتركان مع شيء آخر، فيكون الشرب الحظّ من الماء، ويكون الشّرب جمع شارب، كما قال: [البسيط] 314- فقلت للشّرب في درنا وقد ثملوا ... شيموا وكيف يشيم الشّارب الثّمل «2» إلّا أنّ أبا عمرو بن العلاء رحمه الله والكسائي يختاران الشّرب بالفتح في المصدر، ويحتجّان برواية بعض العلماء أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنّها أيام أكل وشرب» «3» . [سورة الشعراء (26) : آية 156] وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ لا يجوز إظهار التضعيف هاهنا لأنهما حرفان متحرّكان من جنس واحد فَيَأْخُذَكُمْ جواب النهي، ولا يجوز حذف الفاء منه والجزم كما جاز في الأمر إلّا شيء روي عن الكسائي أنه يجيزه. [سورة الشعراء (26) : آية 157] فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) أي على عقرها لما أيقنوا بالعذاب، ولم ينفعهم الندم لأن المحنة قد زالت لمّا وقع الاستيقان بالعذاب. وقيل: لم ينفعهم الندم لأنهم لم يتوبوا بل طلبوا صالحا صلّى الله عليه وسلّم ليقتلوه لمّا أيقنوا بالعذاب. [سورة الشعراء (26) : آية 171] إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) إِلَّا عَجُوزاً نصب على الاستثناء. فِي الْغابِرِينَ روى سعيد عن قتادة قال: غبرت في عذاب الله جلّ وعزّ أي بقيت، وأبو عبيدة يذهب إلى أن المعنى من الباقين في الهرم أي بقيت حتى هرمت.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 272. (2) الشاهد للأعشى في ديوانه 107، ولسان العرب (ثمل) و (درن) ، وجمهرة اللغة 640، ومقاييس اللغة 1/ 390، وأساس البلاغة (ثمل) ، وتاج العروس (ثفت) و (ثمل) ، و (درن) . (3) أخرجه مالك في الموطأ باب 44 حديث (135) ، وابن ماجة في سننه حديث (1719) وأبو داود في سننه حديث (2813) .

[سورة الشعراء (26) : آية 176]

[سورة الشعراء (26) : آية 176] كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) وقرأ أبو جعفر ونافع أصحاب لئيكة المرسلين «1» وكذا قرأ في «صاد» [آية: 13] ، وأجمع القراء على الخفض في التي في سورة «الحجر» [آية: 78] والتي في سورة «ق» [آية: 14] فيجب أن يردّ ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه إذ كان المعنى واحدا. فأما ما حكاه أبو عبيدة من أنّ «ليكة» هي اسم القرية التي كانوا فيها وأنّ الأيكة اسم البلد كلّه فشيء لا يثبت ولا يعرف من قاله، وإنما قيل: وهذا لا تثبت به حجّة حتّى يعرف من قاله فيثبت علمه، ولو عرف من قاله لكان فيه نظر لأنّ أهل العلم جميعا من أهل التفسير والعلم بكلام العرب على خلافه. روى عبد الله بن وهب عن جرير بن حازم عن قتادة قال: أرسل شعيب صلّى الله عليه وسلّم إلى أمّتين: أي قومه أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة. قال: والأيكة غيضة من شجر ملتفّ. وروى سعيد عن قتادة. قال: كان أصحاب الأيكة أهل غيضة وشجر، وكانت عامة شجرهم الدوم، وهو شجر المقل وروى جويبر عن الضحاك، قال: خرج أصحاب الأيكة يعني حين أصابهم الحر فانضموا إلى الغيضة والشجر فأرسل الله عليهم سحابة فاستظلّوا تحتها فلما تتامّوا تحتها أحرقوا، ولو لم يكن في هذا إلّا ما روي عن ابن عباس قال: تحتها الشجر. ولا نعلم بين أهل اللغة اختلافا أنّ الأيكة الشجر الملتفّ. فأمّا احتجاج بعض من احتجّ لقراءة من قرأ في هذين الموضعين بالفتح بأنه في السواد ليكة فلا حجّة له فيه، والقول فيه أنّ أصله الأيكة ثم خفّفت الهمزة فألقيت حركتها على اللّام وسقطت واستغنيت عن ألف الوصل، لأن اللام قد تحرّكت فلا يجوز على هذا إلّا الخفض، كما تقول: مررت بالأحمر، على تحقيق الهمزة ثم تخفّفها فتقول: مررت بلحمر. فإن شئت كتبته في الخطّ كما كتبته أولا، وإن شئت كتبته بالحذف، ولم يجز إلّا بالخفض فكذا لا يجوز في الأيكة إلّا الخفض. قال سيبويه: واعلم أنّ كلّ ما ينصرف إذا دخلته الألف واللام أو أضيف انصرف إذا دخلته، ولا نعلم أحدا خالف سيبويه في هذا. [سورة الشعراء (26) : آية 184] وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) عطف على الكاف والميم ويقال: جبلّة» والجمع فيهما جبال، وتحذف الضمة والكسرة من الباء، وكذلك التشديد من اللام فيقال: جبلة وجبل وجبلة وجبل. ويقال: جبلة وجبال، وتحذف الهاء من هذا كلّه. [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 193] وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)

_ (1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 473، وتيسير الداني 135، والبحر المحيط 7/ 36. [.....]

[سورة الشعراء (26) : آية 196]

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ هذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة إلّا الحسن فإنه قرأ هو والكوفيون نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «1» وبعض أهل اللغة يحتجّ لهذه القراءة بقوله جلّ وعزّ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ لأن تنزيلا يدلّ على نزّل، وهو احتجاج حسن، وقد ذكره أبو عبيد والحجّة لمن قرأ بالتخفيف أن يقول: ليس هذا المصدر لأنّ المعنى وإنّ القرآن لتنزيل ربّ العالمين نزل به جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم، كما قال جلّ وعزّ قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [البقرة: 97] فإنه نزّله على قلبك. [سورة الشعراء (26) : آية 196] وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أي وإنّ الإنذار بمن أهلك لفي كتب الأولين. وفي قراءة الأعمش لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ «2» حذف الضمة لثقلها كما يقال رسل. [سورة الشعراء (26) : آية 197] أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) أي أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل الذين أسلموا صحّة نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم فما عندهم في التوراة والإنجيل آية واضحة. ومن قرأ (تكن) «3» أنّث لأن أن يعلمه هو الآية كما قال: [الكامل] 315- فمضى وقدّمها وكانت عادة ... منه إذا هي عرّدت إقدامها «4» ويبعد رفع آية لأن أن يعلمه هو الآية. وقرأ عاصم الجحدري أن تعلمه علماء بني إسرائيل «5» . [سورة الشعراء (26) : آية 198] وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) وقرأ الحسن على بعض الأعجميّين «6» . قال أبو جعفر: يقال رجل أعجم وأعجميّ إذا كان غير فصيح وإن كان عربيا، ورجل عجميّ أصله من العجم وإن كان فصيحا ينسب إلى أصله، إلّا أنّ الفراء أجاز أن يقال: رجل عجميّ.

_ (1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 473، ومعاني الفراء 2/ 284، وتيسير الداني 135. (2) انظر البحر المحيط 7/ 38. (3) انظر تيسير الداني 135، وكتاب السبعة لابن مجاهد 473، والبحر المحيط 7/ 39، وهذه قراءة ابن عامر والجحدري. (4) الشاهد للبيد في ديوانه 306، والأشباه والنظائر 5/ 255، والخصائص 2/ 415، ولسان العرب (عرد) و (قدم) ، وكتاب العين 2/ 32، وبلا نسبة في الخصائص 1/ 70. (5) انظر البحر المحيط 7/ 39، ومختصر ابن خالويه 107. (6) انظر البحر المحيط 7/ 40 وهي قراءة ابن مقسم أيضا.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 200 إلى 201]

[سورة الشعراء (26) : الآيات 200 الى 201] كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) وأجاز الفراء «1» الجزم في «يؤمنون» لأن فيه معنى الشرط والمجازاة، زعم وحكي عن العرب: ربطت الفرس لا ينفلت بالرفع والجزم، قال: لأن معناه إن لم أربطه ينفلت. والرفع عنده بمعنى كيلا ينفلت وكيلا يؤمنوا فلما حذف «كي» رفع. وهذا الكلام كلّه في يؤمنون خطأ على مذهب البصريين لا يجوز الجزم لا جازم ولا يكون شيء يعمل عملا أقوى من عمله وهو موجود، فهذا احتجاج بيّن وإن شذّ قول لبعض البصريين لم يعرّج عليه إذ كان الأكثر يخالفه فيه. [سورة الشعراء (26) : آية 205] أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) قال الضحاك: يعني أهل مكة. [سورة الشعراء (26) : آية 206] ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) قال: يعني من العذاب والهلاك. [سورة الشعراء (26) : آية 207] ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) ما الأولى في موضع نصب، والثانية في موضع رفع، ويجوز أن تكون الأولى نفيا لا موضع لها. [سورة الشعراء (26) : الآيات 208 الى 209] وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) قال الكسائي: ذِكْرى في موضع نصب على القطع، وهذا لا يحصّل، والقول فيه هو قول الفراء «2» وأبي إسحاق أنّها في موضع نصب على المصدر. قال الفراء: أي يذّكّرون ذكرى وهذا قول صحيح لأنّ معنى إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ إلا لها مذكّرون. وذكرى لا يتبيّن فيه الإعراب لأن فيه ألفا مقصورة، ويجوز «ذكرى» بالتنوين، ويجوز أن يكون «ذكرى» في موضع رفع على إضمار مبتدأ. قال أبو إسحاق: أي إنذارنا ذكرى. وقال الفراء: أي ذلك ذكرى وتلك ذكرى. [سورة الشعراء (26) : آية 210] وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وقرأ الحسن الشياطون «3» وهو غلط عند جميع النحويين. قال أبو جعفر:

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 283. (2) انظر معاني الفراء 2/ 284. (3) انظر البحر المحيط 7/ 43، ومعاني الفراء 2/ 285، ومختصر ابن خالويه 108.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 211 إلى 212]

وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: هكذا يكون غلط العلماء إنما يكون بدخول شبهة. لما رأى الحسن رحمه الله في آخره ياء ونونا وهو في موضع اشتبه عليه بالجمع المسلّم فغلط. وفي الحديث «احذروا زلّة العالم» «1» وقد قرأ هو مع الناس وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ [البقرة: 14] ولو كان هذا بالواو في موضع الرفع لوجب حذف النون للإضافة. [سورة الشعراء (26) : الآيات 211 الى 212] وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ أي وما يصلح للشياطين أن ينزلوا بالوحي والأمر بطاعة الله جلّ وعزّ وَما يَسْتَطِيعُونَ أن يتقوّلوا مثل القرآن، ولا أن يأخذوه من الملائكة استراقا لأنهم عن السمع لمعزولون. [سورة الشعراء (26) : الآيات 213 الى 214] فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) قيل: قل لمن كفر هذا، وقيل: هو مخاطبة له صلّى الله عليه وسلّم وإن كان لا يفعل هذا لأنه معصوم مختار ولكنه خوطب بهذا ليعلم الله جلّ وعزّ حكمه في من عبد غيره كائنا من كان وبعد هذا ما يدلّ عليه وهو وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ أي لئلا يتّكلوا على نسبهم وقرابتهم منك فيدعوا ما يجب عليهم. [سورة الشعراء (26) : آية 215] وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) يقال: خفض جناحه إذا لان ورفق. [سورة الشعراء (26) : آية 216] فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) أي إنّي بريء من معصيتكم إيّاي لأن عصيانهم إياه عصيانهم لله جلّ وعزّ لأنه لا يأمرهم إلّا بما يرضاه الله جلّ وعزّ، ومن تبرّأ الله جلّ وعزّ منه. [سورة الشعراء (26) : آية 221] هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) قيل: الشياطين تنزّل لأنها أكثر ما تكون في الهواء لضئولة خلقها وأنها بمنزلة الريح. [سورة الشعراء (26) : آية 222] تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) أي كذّاب يجترم الإثم تتنزّل عليه توسوس له بالمعصية. [سورة الشعراء (26) : آية 223] يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223)

_ (1) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال رقم (2883) .

[سورة الشعراء (26) : آية 224]

يُلْقُونَ السَّمْعَ قيل: الّذين يلقون السمع هم الذين تتنزّل عليهم أي يستمعون إلى الشياطين ويقبلون منهم، وقيل: هم الشياطين يسترقون السمع. [سورة الشعراء (26) : آية 224] وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) ويجوز النصب على إضمار فعل يفسره يتّبعهم. وقيل: «الغاوون» هاهنا الزائلون عن الحقّ، ودلّ: هذا على أن الشعراء أيضا غاوون لأنهم لو لم يكونوا غاوين ما كان أتباعهم كذلك. [سورة الشعراء (26) : آية 225] أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) أي هم بمنزلة الهائم لأنهم يذهبون في كلّ وجه من الباطل ولا يتّبعون سنن الحقّ لأن من اتّبع الحقّ وعلم أنّه يكتب عليه قوله تثبّت ولم يكن هائما يذهب على وجهه لا يبالي ما قال. [سورة الشعراء (26) : آية 227] إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ في موضع نصب على الاستثناء. وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وإنما يكون الانتصار بالحقّ وبما حدّه الله جلّ وعزّ فإذا تجاوز ذلك فقد انتصر بالباطل. وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ وفي هذا تهديد لمن انتصر بظلم و «أيّ» منصوب بينقلبون، وهو بمعنى المصدر، ولا يجوز أن يكون منصوبا بسيعلم. والنحويون يقولون: لا يعمل في الاستفهام ما قبله. قال أبو جعفر: وحقيقة العلّة في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر، فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض.

27 شرح إعراب سورة النمل

27 شرح إعراب سورة النّمل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النمل (27) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ بمعنى هذه تلك آيات القرآن، ويجوز في هذا ما جاز في أول «البقرة» في قوله جلّ وعزّ ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: 2] . وَكِتابٍ مُبِينٍ عطف على القرآن. قال أبو إسحاق: ويجوز «وكتاب مبين» «1» بمعنى وذلك كتاب مبين. [سورة النمل (27) : آية 2] هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) هُدىً في موضع نصب على الحال، ويجوز فيه ما جاز في غيره في أول سورة «البقرة» في قوله جلّ وعزّ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] . [سورة النمل (27) : آية 3] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ في موضع رفع على إضمار مبتدأ، ويجوز فيه ما جاز في أول سورة «البقرة» في قوله جلّ وعزّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] [سورة النمل (27) : آية 4] إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ اسم «إنّ» . زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ في موضع الخبر. [سورة النمل (27) : آية 5] أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) أُوْلئِكَ في موضع رفع بالابتداء. وخبره الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ ويقال: «الّذون» في موضع الرفع. وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ. فِي الْآخِرَةِ تبيين وليس بمتعلق بالأخسرين.

_ (1) وهي قراءة ابن أبي عبلة، انظر البحر المحيط 7/ 51.

[سورة النمل (27) : الآيات 6 إلى 7]

[سورة النمل (27) : الآيات 6 الى 7] وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) لَدُنْ بمعنى عند إلّا أنّها مبنية غير معربة لأنها لا تتمكّن. وقرأ المدنيون وأبو عمرو بشهاب قبس «1» وقرأ الكوفيون بِشِهابٍ قَبَسٍ فزعم الفراء «2» في ترك التنوين أنه بمنزلة قولهم: وَلَدارُ الْآخِرَةِ [يوسف: 109] يضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلفت أسماؤه. قال أبو جعفر: إضافة الشيء إلى نفسه محال عند البصريين» لأن معنى الإضافة في اللغة ضمّ شيء ليبيّن به معنى الملك والنوع فمحال أن يبيّن أنه مالك نفسه أو من نوعها. و «بشهاب قبس» إضافة النوع إلى الجسم كما تقول: هذا ثوب خزّ. والشهاب كلّ ذي نور، نحو الكوكب والعود الموقد. والقبس اسم لما يقتبس من جمر وما أشبه، فالمعنى: بشهاب من قبس. يقال: قبست قبسا، والاسم قبس، كما تقول: قبض قبضا والاسم القبض، ومن قرأ «بشهاب قبس» جعله بدلا، ويجوز «بشهاب قبسا» في غير القرآن على أنه مصدر أو بيان أو حال. لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أصل الطاء تاء فأبدل منها طاء لأنّ الطاء مطبقة، والصاد مطبقة فكان الجمع بينهما حسنا. [سورة النمل (27) : آية 8] فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) قال أبو إسحاق «أن» في موضع نصب أي بأنه «قال» . ويجوز أن يكون في موضع رفع، جعلها اسم ما لم يسمّ فاعله. وحكى أبو حاتم: أن في قراءة أبيّ وابن عباس ومجاهد أن بوركت النار ومن حولها «4» ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح، ولو صحّ لكان على التفسير، وقد روى سعيد عن قتادة «أن بورك من في النّار ومن حولها» قال: الملائكة. وحكى الكسائي عن العرب: باركك الله، وبارك فيك. [سورة النمل (27) : آية 10] وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ في موضع نصب على الحال. كَأَنَّها جَانٌّ والجانّ عند العرب الثعبان، وهو الحيّة العظيمة وَلَّى مُدْبِراً على الحال. وَلَمْ يُعَقِّبْ قال قتادة: أي لم

_ (1) انظر تيسير الداني 136، والبحر المحيط 7/ 53. (2) انظر معاني الفراء 2/ 286. (3) انظر الإنصاف مسألة (61) . [.....] (4) انظر معاني الفراء 2/ 286، والبحر المحيط 7/ 55.

[سورة النمل (27) : آية 11]

يلتفت. يا مُوسى لا تَخَفْ أي قيل له لا تخف من الحيّة وضررها. إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ هذا تمام الكلام. [سورة النمل (27) : آية 11] إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ استثناء ليس من الأول في موضع نصب. وزعم الفراء «1» أن الاستثناء من محذوف، والمعنى عنده: إنّي لا يخاف لديّ المرسلون إنّما يخاف غيرهم إلّا من ظلم ثمّ بدّل حسنا بعد سوء فإنه لا يخاف، وزعم الفراء «2» : أيضا أنّ بعض النحويين يجعل إلّا بمعنى الواو. قال أبو جعفر: استثناء من محذوف محال لأنه استثناء من شيء لم يذكر ولو جاز هذا لجاز: إنّي أضرب القوم إلّا زيدا، بمعنى لا أضرب القوم إنّما أضرب غيرهم إلّا زيدا، وهذا ضدّ البيان، والمجيء بما لا يعرف معناه. وأما كان إلّا بمعنى الواو فلا وجه له ولا يجوز في شيء من الكلام. ومعنى «إلّا» خلاف معنى الواو لأنك إذا قلت: جاءني إخوتك إلّا زيدا، أخرجت زيدا مما دخل فيه الإخوة. وإذا قلت: جاءني إخوتك وزيد، أدخلت زيدا فيما دخل فيه الإخوة فلا شبه بينهما ولا تقارب. وفي الآية قول ثالث: يكون المعنى أن موسى صلّى الله عليه وسلّم لما خاف من الحية فقال له جلّ وعزّ: لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، علم جلّ وعزّ أنّ من عصى منهم يسرّ الخيفة فاستثناه فقال: إلّا من ظلم ثمّ بدّل حسنا بعد سوء أي فانه يخاف، وإن كنت قد غفرت له فإن قال قائل: فما معنى الخوف بعد التوبة والمغفرة؟ قيل له: هذه سبيل العلماء بالله جلّ وعزّ أن يكونوا خائفين من معاصيه، وجلين، وهم أيضا لا يأمنون أن يكون قد بقي من أشراط التوبة شيء لم يأتوا به، فهم يخافون من المطالبة به، وقرأ مجاهد ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ «3» قال أبو جعفر: وهذا بعيد من غير جهة، منها أنه أقام الصفة مقام الموصوف في شيء مشترك، ومنها أن ازدواج الكلام بدّل حسنا بعد سيئ على أن بعضهم قد أنشد بيت زهير: [البسيط] 316- يطلب شأو امرأين قدّما حسنا ... فاقا الملوك وبذّا هذه السّوقا «4» [سورة النمل (27) : آية 12] وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ جزم «تخرج» لأنه جواب الأمر، وفيه معنى المجازاة. فِي تِسْعِ آياتٍ أحسن ما قيل فيه أنّ المعنى هذه الآية داخلة في تسع آيات.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 287. (2) انظر معاني الفراء 2/ 287. (3) انظر البحر المحيط 7/ 56، ومختصر ابن خالويه 108. (4) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 51، ولسان العرب (سوق) ، وتاج العروس (سوق) .

[سورة النمل (27) : آية 13]

[سورة النمل (27) : آية 13] فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً نصب على الحال. قال أبو إسحاق: ويجوز «مبصرة» أي مبيّنة تبصر. قال الأخفش: ويجوز «مبصرة» مصدر، وكما يقال: «الولد مجبنة» . [سورة النمل (27) : آية 16] وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) قال سعيد عن قتادة وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ قال: ورث منه النبوّة والملك صلّى الله عليه وسلّم وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ خبر ما لم يسم فاعله. والمنطق قد يقع لما يفهم بغير كلام، والله جلّ وعزّ أعلم بما أراد. [سورة النمل (27) : آية 17] وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) يقال: إنّ الجنّ سخّرت له لأنه ملك مضارّها ومنافعها، وسخّرت له الطير بأن جعل فيها ما يفهم عنه فكانت تستره من الشمس وغيرها. وقيل: لهذا تفقّد الهدهد. [سورة النمل (27) : آية 18] حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) الكلام في القول كما مضى في المنطق. يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ فجاء على خطاب الآدميين لما خبر عنهن بأخبار الآدميين. لا يَحْطِمَنَّكُمْ يكون نهيا وجوابا، والنون للتوكيد. [سورة النمل (27) : آية 20] وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ هذه قراءة المدنيين وأبي عمرو بإسكان الياء وقرءوا وما لي لا أعبد الذي فطرني [يس: 22] بتحريك الياء، فزعم قوم أنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان مبتدأ وبين ما كان معطوفا على ما قبله، قال أبو جعفر: وهذا ليس بشيء وإنما هي ياء النفس، من العرب من يفتحها، ومنهم من يسكنها، فقرؤوا باللغتين والدليل على هذا أن جماعة من جلّة القراء قرءوها جميعا بالفتح، منهم عبد الله بن كثير وعاصم والكسائي، وأن حمزة قرأهما جميعا بالتسكين، واللغة الفصيحة من ياء النفس أن تكون مفتوحة لأنها اسم وهي على حرف واحد فكان الاختيار أن لا تسكّن فيجحف بالاسم. أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ بمعنى أبل. [سورة النمل (27) : آية 21] لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ مؤكد بالنون الثقيلة، وهي لازمة هي

[سورة النمل (27) : آية 22]

والخفيفة. قال أبو حاتم: ولو قرئت لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ لجاز أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ويجوز أن يكون هذا النون الخفيفة ثمّ أدغمت في النون التي مع الياء، ويجوز أن تكون النون التي مع الياء حذفت، كما يقال: إنّي ذاهب ويكون مؤكّدا بالثقيلة، وأهل مكة يقرءون «أو ليأتينّني» «1» . [سورة النمل (27) : آية 22] فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ قراء عاصم، وتروى عن الأعمش، وقراءة سائر القراء فَمَكَثَ «2» قال سيبويه: مكث يمكث مكوثا، كما قالوا: قعد يقعد قعودا. قال: ومكث مثل ظرف، وحجّة من ضمّ عند سيبويه أنه غير متعدّ كظرف. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: الدليل على أن مكث أفصح قولهم ماكث، ولا يقولون: مكث فهذا مخالف لظرف. قال أبو جعفر: وهذا احتجاج بيّن لأن فعل فهو فاعل لا يعرف في كلام العرب إلّا في أشياء مختلف فيها، ومنها ما هو مردود. فأما اللواتي اختلف فيها فطلقت المرأة فهي طالق، وقد قيل: طلقت، وحمض الخلّ فهو حامض، وقد قيل: حمض. وزعم أبو حاتم: أنّ قولهم فره فهو فاره لا اختلاف فيه. كذا قال، وقد حكى غيره: فره يفره فهو فره وفاره مثل حذر، حكى هذا قطرب. غَيْرَ بَعِيدٍ قال أبو إسحاق: أي وقتا غير بعيد. فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ فكان في هذا ردّ على من قال: إنّ الأنبياء تعلم الغيب، وحكى الفراء «3» (أحطّ) يدغم التاء في الطاء، وحكى أحتّ يقلب الطاء تاءا ويدغم «وجئتك من سبأ بنبإ يقين» قراءة المدنيين والكوفيين. وقرأ المكيون والبصريون مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ «4» بغير صرف وزعم الفراء أن الرّؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء رحمه الله عن سبأ فقال: ما أدري ما هو. وتأوّل الفراء على أبي عمرو أنه منعه من الصرف لأنه مجهول وأنه إذا لم يعرف الشيء لم ينصرف واحتجّ بقوله: [الطويل] 317- يكن ما أساء النّار في رأس كبكبا «5» وأبو عمرو أجلّ من أن يقول مثل هذا، وليس في حكاية الرؤاسي عنه دليل أنه إنّما منعه من الصرف لأنه لم يعرفه وإنما قال: لا أعرفه، ولو سئل نحويّ عن اسم

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 62، وكتاب السبعة لابن مجاهد 479. (2) انظر البحر المحيط 7/ 62، وكتاب السبعة لابن مجاهد 479. (3) انظر معاني الفراء 2/ 289. (4) انظر البحر المحيط 7/ 63. (5) الشاهد للأعشى في ديوانه 163، والكتاب 3/ 106، وجمهرة اللغة 177، وشرح شواهد الإيضاح 492، ولسان العرب (زيب) و (كبب) ، وبلا نسبة في المقتضب 2/ 22، وصدره: «وتدفن منه الصالحات وإن يسيء»

فقال: لا أعرفه، لم يكن في هذا دليل على أنه يمنعه من الصرف بل الحقّ على غير هذا، والواجب إذا لم تعرفه أن تصرفه لأن أصل الأسماء الصرف، وإنما يمنع الشيء من الصرف لعلّة داخلة عليه فالأصل ثابت فلا يزول بما لا يعرف. واحتجاجه بكبكب لا معنى له لأن كبكب جبل معروف، منع من الصرف لأنه بقعة، وإن كان الصرف فيه حسنا. والدليل على ما قلنا إن أبا عمرو إنما احتجّ بكلام العرب ولم يحتجّ بأنه لا يعرفه، وأنشد للنابغة الجعدي: [المنسرح] 318- من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما «1» وإن كان أبو عمرو قد عورض من هذا فروي «من سبأ الحاضرين ... » حذف التنوين لالتقاء الساكنين. قال أبو جعفر: سمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد ابن يزيد يقول: سمعت عمارة يقرأ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ [يس: 40] بالنصب، حذف التنوين لالتقاء الساكنين. وقد تكلّم أبو عبيد القاسم بن سلام في هذا بكلام كثير التخليط ونمليه على نص ما قال، إذ كان كتابه أصلا من الأصول ليوقف على نصّ ما قال، ويعلم موضع الغلط منه. قال أبو عبيد: وهي قراءتنا التي نختار، يعني «من سبأ بنبإ يقين» ، قال أبو عبيد: لأن سبأ اسم مؤنث لامرأة أو قبيلة، وليس بخفيف فيجري لخفّته والذي يجريه يذهب به إلى أنه اسم رجل، ومن ذهب إلى هذا لزمه أن يجري ثمود في كلّ القرآن فإنه وإن كان اليوم اسم قبيلة فإنه في الأصل اسم رجل وكذلك سبأ، فإن قيل: إن ثمود أكثر في العدد من سبأ بحرف، قيل: إن الحركة التي في الباء والهمزة قد زادتا في ثقله أكثر من ذلك الحرف أو مثله، إنما الزيادة في ثمود واو ساكنة. قال أبو جعفر: قوله: «لأن سبأ اسم مؤنّث لامرأة أو قبيلة» يوجب أنه ترك صرفه لأحد هذين الأمرين، وأحدهما لا يشبه صاحبه، لأن اسم المرأة تأنيث حقيقى واسم القبيلة تأنيث غير حقيقي، والاختيار عند سيبويه «2» في أسماء القبائل إذ كان لا يستعمل فيها «بنو» الصرف نحو ثمود، وقوله: «ليس بخفيف فيجري لخفّته» ليس بحجّة على من صرفه لأنه لم يقل أحد علمناه: صرفته لأنه خفيف. وقوله: «والذي يجريه يذهب به إلى أنه اسم رجل» ليس هذا حجّة من أجراه، إنما حجته أنه اسم للحيّ وإن كان أصله على الحقيقة أنه اسم لرجل. روى فروة بن مسيك وعبد الله بن عباس عن النبي

_ (1) الشاهد للنابغة الجعدي في ديوانه 134، وجمهرة اللغة ص 773، وسمط اللآلي ص 18، وشرح أبيات سيبويه 2/ 241، ولسان العرب (عرم) ، ولأميّة بن أبي الصلت في ديوانه ص 59، وللنابغة الجعدي أو لأميّة في خزانة الأدب 9/ 139، وللأعشى في معجم ما استعجم ص 170، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 279، والاشتقاق ص 489، وجمهرة اللغة 1107، ولسان العرب (سبأ) ، وما ينصرف وما لا ينصرف ص (59) . (2) انظر الكتاب 3/ 271.

[سورة النمل (27) : الآيات 24 إلى 25]

صلّى الله عليه وسلّم وهو معروف في النسب «سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان» وإن كان أبو إسحاق قد زعم أنه من صرفه جعله اسما للبلد. وقوله «فإن قيل: إنّ ثمود أكثر في العدد من سبأ قيل: إن الحركتين اللتين في الباء والهمزة قد زادتا في ثقله أكثر من ذلك الحرف أو مثله» فهذا موضع التخليط لأن الحركة التي في الباء والهمزة في ثمود وسبأ بالحركة لا معنى له لأنهما جميعا متحركان. قال أبو جعفر: والقول في سبأ ما جاء التوقيف فيه أنه اسم رجل في الأصل، فإن صرفته فلأنه قد صار اسما للحيّ، وإن لم تصرفه جعلته اسما للقبيلة مثل ثمود إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف، وحجته في ذلك قاطعة لأن هذا الاسم لما كان يقع للتذكير والتأنيث كان التذكير أولى لأنه الأصل والأخف. [سورة النمل (27) : الآيات 24 الى 25] وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ هذه قراءة أبي عمرو وعاصم ونافع وحمزة، وقرأ الزهري وأبو جعفر وأبو عبد الرحمن وحميد وطلحة والكسائي ألا يا اسجدوا لله «1» القراءة الأولى هي أن دخلت عليها «وإن» في موضع نصب. قال الأخفش: المعنى: لئلا يسجدوا. وقال الكسائي: المعنى: فصدّهم أن لا يسجدوا. وقال علي بن سليمان: أن بدل من أعمالهم في موضع نصب. وقيل: موضعها خفض على البدل من السبيل، والقراءة الثانية بمعنى ألا يا هؤلاء اسجدوا، كما قال: [الطويل] 319- ألا يا اسلمي يا دارمي على البلى ... ولا زال منهلّا بجرعائك القطر «2» وقال آخر: [البسيط] 320- يا لعنة الله والأقوام كلّهم ... والصّالحين على سمعان من جار «3»

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 290، وتيسير الداني 136. (2) الشاهد لذي الرمة في ديوانه ص 559، والإنصاف 1/ 100، وتخليص الشواهد ص 231، والخصائص 2/ 278، والدرر 2/ 44، وشرح التصريح 1/ 185، وشرح شواهد المغني 2/ 617، والصاحبي في فقه اللغة ص 232، واللامات 37، ولسان العرب (يا) ، ومجالس ثعلب 1/ 42، والمقاصد النحوية 2/ 6، وبلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 235، وجواهر الأدب ص 290، والدرر 5/ 117، وشرح الأشموني 1/ 178، وشرح ابن عقيل ص 136، وشرح عمدة الحافظ 199. [.....] (3) الشاهد بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 448، والجنى الداني ص 356، والكتاب 2/ 224، وجواهر الأدب ص 290، وخزانة الأدب 11/ 197، والدرر 3/ 25، ورصف المباني ص 3، وشرح أبيات سيبويه 2/ 31، وشرح شواهد المغني 2/ 796، وشرح المفصّل 2/ 24، واللامات ص 37، ومغني اللبيب 2/ 373، والمقاصد النحوية 4/ 261، وهمع الهوامع 1/ 174.

[سورة النمل (27) : آية 28]

والمعنى: يا هؤلاء لعنة الله. قال أبو جعفر: وهذا موجود في كلام العرب إلّا أنه غير معتاد أن يقال: يا قدم زيد، والقراءة به بعيدة لأن الكلام يكون معترضا. والقراءة الأولى يكون الكلام بها متّسقا، وأيضا السواد على غير هذه القراءة لأنه قد حذف منها ألفان وإنما يختصر مثل هذا بحذف ألف واحدة نحو يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ [المائدة: 110] . الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والوقف عليه بتسكين الهمزة، وإذا كان في موضع رفع جاز الرّوم «1» والإشمام ولا يجوز التضعيف، وحكى أبو حاتم أن عكرمة قرأ الّذي يخرج الخبا في السماوات والأرض «2» بألف غير مهموزة، وزعم أن هذا لا يجوز في العربية واعتل بأنه أن خفّف الهمزة ألقى حركتها على الباء وحذفها فقال: «الخب في السّموات» وأنه إن حول الهمزة قال: «الخبي» بإسكان الباء وبعدها ياء. قال أبو جعفر: قوله لا يجوز «الخبا» وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: كان دون أصحابه في النحو، ولم يلحق بهم، يعني أبا حاتم، إلّا أنه إذا خرج من بلده لم يلق أعلم منه. حكى سيبويه «3» عن العرب أنها تبدل من الهمزة ألفا إذا كان قبلها ساكن وكانت مفتوحة، وتبدل منها واوا إذ كان قبلها ساكن وكانت مضمومة، وتبدل منها ياء إذا كان قبلها ساكن وكانت مكسورة، وأنه يقال: هذا الوثو، وعجبت من الوثى، ورأيت الوثا، وهذا من وثئت يده، وكذلك هذا الخبو، وعجبت من الخبي، ورأيت الخبا. وإنما فعل هذا لأن الهمزة خفيفة فأبدلت منها هذه الحروف. وحكى سيبويه عن قوم من بني تميم وبني أسد أنهم يقولون: هذا الخبوء فيضمّون الساكن إذا كانت الهمزة مضمومة، ويثبتون الهمزة ويكسرون الساكن إذا كانت الهمزة مكسورة، ويفتحون الساكن إذا كانت الهمزة مفتوحة. وحكى سيبويه أيضا أنهم يكسرون وإن كانت الهمزة مضمومة إلّا أن هذا عن بني تميم، فيقولون: هذا الرّدي، وزعم أنهم لم يضمّوا الدال لأنهم كرهوا ضمة قبلها كسرة لأنه ليس في الكلام فعل. وهذا كلّه لغات داخلة على اللغة التي قرأ بها الجماعة. [سورة النمل (27) : آية 28] اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ قال أبو إسحاق: فيها خمسة أوجه «4» : (فألقهي إليهم) بإثبات الياء في اللفظ، وبحذف الياء وإثبات الكسرة دالّة عليها (فألقه إليهم) ،

_ (1) الرّوم: هو تضعيف الصوت بالحركة حتى يذهب بذلك معظم صوتها فيسمع لها صوت خفيّ يدركه الأعمى بحاسة السمع. (2) انظر مختصر ابن خالويه 109، والبحر المحيط 7/ 67. (3) انظر الكتاب 4/ 25. (4) انظر الوجوه الخمسة في كتاب السبعة لابن مجاهد 481، والبحر المحيط 7/ 68.

[سورة النمل (27) : آية 30]

وبضم الهاء واثبات الواو على الأصل (فألقهو إليهم) ، وبحذف الواو واثبات الضمة (فألقه إليهم) ، واللغة الخامسة قرأ بها حمزة بإسكان الهاء (فألقه إليهم) وهذا عند النحويين لا يجوز إلا على حيلة بعيدة يكون يقدّر الوقف. وسمعت علي بن سليمان يقول: لا تلتفت إلى هذه اللغة، ولو جاز أن يصل وهو ينوي الوقف لجاز أن تحذف الإعراب من الأسماء. [سورة النمل (27) : آية 30] إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أي وإنّ الكلام، أو أنّ مبتدأ الكلام «بسم الله الرّحمن الرّحيم» ، وأجاز الفراء «1» إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بفتحهما جميعا على أن يكونا في موضع رفع بمعنى: ألقي إليّ أنه من سليمان، وأجاز أن يكونا في موضع نصب على حذف الخافض. [سورة النمل (27) : آية 31] أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ذكر أبو إسحاق في «أن» ثلاثة أوجه: تكون في موضع نصب على معنى بأن، وتكون في موضع رفع بمعنى ألقي إليّ أن، والوجه الثالث أن تكون بمعنى أي مثل وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص: 6] المعنى أي امشوا وقالوا أن امشوا، وكذا «ألّا تعلو عليّ» أي قال: لا تعلوا عليّ، وعن وهب بن منبّه أنه قرأ ألّا تغلوا علي «2» من غلا يغلو إذا تجاوز وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ يكتب بغير ياء لأن الواو لا تنفصل. [سورة النمل (27) : آية 32] قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي بتخفيف الهمزة الثانية اللغة الفصيحة، وإن شئت خففت الأولى وحدها، وإن شئت خففتهما جميعا، وإن شئت حققتهما جميعا، وهي أبعد اللغات لثقل الجمع بين همزتين. ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ حذفت النون للنصب، وحذفت الياء لأن الكسرة دالة عليها والنون مع الفعل وهي رأس آية، ولا يجوز فتح النون ولو كان كذلك لكان الفعل مرفوعا. [سورة النمل (27) : الآيات 33 الى 34] قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) أُولُوا هذا اسم للجمع والواحد ذو. وروى الأعمش عن مجاهد قال: كان

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 291. (2) انظر البحر المحيط 7/ 69، وهي قراءة الأشهب العقيلي أيضا.

[سورة النمل (27) : آية 35]

تحت يديها اثنا عشر ألفا قيول تحت يدي كلّ قيل مائة ألف فأجابتهم عن هذا إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها أي عنوة أي على القهر والغلبة وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً قال الله جلّ وعزّ: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ وليس هذا من كلامها، كذا قال سعيد بن جبير. [سورة النمل (27) : آية 35] وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أرسلت إليهم بلبنة من ذهب أو بذهب، قرأت الرسل الحيطان من ذهب فصغر عندهم ما جاءوا به وقالت: «مرسلة إليهم» وإنما هو إلى سليمان صلّى الله عليه وسلّم كما يخبر عن الملوك فيخاطبون ويخاطبون، وقد قيل: إنّ الهدية كانت غير هذا إلّا أن قوله: «أتمدّونني بمال» يدلّ على هذا فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ والأصل «بما» ، حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر، وإنما يكون هذا إذا كان قبل «ما» حرف جر، تقول في الخبر: رغبت فيما عندك فتثبت فيما عندك الألف لا غير. وتقول في الاستفهام: فيم نظرت؟ فتحذف الألف، وأجاز الفراء «1» إثباتها في الاستفهام، وهذا من الشذوذ التي جاء القرآن بخلافها. [سورة النمل (27) : آية 36] فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ وإن شئت أدغمت النون في النون فذلك جائز وإن كان فيه جمع بين ساكنين. [سورة النمل (27) : آية 37] ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها لام قسم والنون لها لازمة. قال أبو جعفر: وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول: هي لام توكيد، وكذا كان عنده أنّ اللامات كلّها ثلاث لا غير: لام توكيد ولام أمر ولام خفض، وهذا قول الحذّاق من النحويين لأنهم يردّون الشيء إلى أصله، وهذا لا يتهيّأ إلّا لمن درب بالعربية. أَذِلَّةً على الحال. وَهُمْ صاغِرُونَ في موضع الحال أيضا. [سورة النمل (27) : آية 38] قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قيل: إنما أراد بهذا أنهم إذا أتوا مسلمين لم يجز أن يؤتى بعرشها إلّا بإذنها، وقيل: إنما أراد سليمان صلّى الله عليه وسلّم أن يظهر آية معجزة.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 292.

[سورة النمل (27) : آية 39]

[سورة النمل (27) : آية 39] قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ قال أبو إسحاق: العفريت النافذ في الأمور المبالغ فيها الذي معه خبث ودهاء. ويقال: عفر وعفارية وعفرية، وعن أبي رجاء أنه قرأ قال عفرية «1» من الجنّ ويقال: عفرية نفرية إتباع، ومن قال: عفرية جمعه على عفار، ومن قال: عفريت كان له في الجمع ثلاثة أوجه: إن شاء قال: عفاريت وإن شاء قال: عفار لأن التاء زائدة، كما يقال: طواغ في جمع طاغوت، وإن شاء عوض من التاء فقال: عفاريّ. [سورة النمل (27) : آية 40] قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قال الأخفش: المعنى: لينظر أأشكر أم أكفر، وقال غيره: معنى ليبلوني ليتعبّدني وهو مجاز. [سورة النمل (27) : آية 41] قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها زعم الفراء أنه إنما أمر بتنكيره لأن الشياطين قالوا له: إن في عقلها شيئا فأراد أن يمتحنها نَنْظُرْ جزم لأنه جواب الأمر، ومن رفعه جعله مستأنفا أَتَهْتَدِي في معناه قولان: أحدهما أتهتدي بمعرفته، والآخر أتهتدي لهذه الآية العظيمة وتعلم أنّها لا يأتي بها إلّا نبيّ من عند الله جلّ وعزّ فتهتدي وتدع الضّلالة. [سورة النمل (27) : آية 42] فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ خبر كأنّ مكنيّ عنه لأنه قد تقدّم ذكره. وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها قيل: العلم بالتوحيد وَكُنَّا مُسْلِمِينَ قيل: لأن قومها أسلموا قبلها. [سورة النمل (27) : آية 43] وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) تكون «ما» في موضع رفع أي صدّها عبادتها من دون الله وعبادتها إياها عن أن تعلم ما علمناه عن أن تسلم، ويجوز أن تكون «ما» في موضع نصب، ويكون التقدير وصدها الله جل وعز عن عبادتها أي وصدها سليمان صلّى الله عليه وسلّم عن عبادتها فحذف «عن» وتعدّى الفعل، وأنشد سيبويه: [الطويل]

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 109، والبحر المحيط 7/ 72.

[سورة النمل (27) : آية 44]

321- ونبئت عبد الله بالجوّ أصبحت ... كراما مواليها لئيما صميمها «1» وزعم أنّ المعنى عنده نبّئت عن عبد الله، ومن قرأ (أنّها) «2» بفتح الهمزة كانت أنّ في موضع نصب بمعنى لأنها، ويجوز أن يكون بدلا من «ما» والكسر على الاستئناف. [سورة النمل (27) : آية 44] قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) لَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ التقدير على مذهب سيبويه «3» ادخلي إلى الصرح فحذفت «إلى» وعدّي الفعل. وأبو العباس يغلّطه في هذا قال لأن «دخل» يدلّ على مفعول. لَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي كسرت إن لأنها مبتدأة بعد القول، ومن العرب من يفتحها فيعمل فيها القول أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إذا سكنت عَ فهي حرف جاء لمعنى بلا اختلاف بين النحويين، وإذا فتحتها ففيها قولان: أحدهما أنها بمعنى الظرف اسم، والآخر أنها حرف خافض مبني على الفتح. [سورة النمل (27) : آية 45] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً جعل اسما للقبيلة فلم يصرف، وصرفه حسن على أنه اسم للحيّ. فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ على المعنى ويختصمان على اللفظ. [سورة النمل (27) : آية 46] قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ قال أبو إسحاق: أي لم قلتم: إن كان ما أتيت به حقا فأتنا بالعذاب. [سورة النمل (27) : آية 47] قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قال مجاهد: أي تشاءمنا. قال أبو إسحاق: الأصل تطيّرنا فأدغمت التاء في الطاء لأنها من مخرجها واجتلبت ألف الوصل لئلا يبتدأ بساكن، فإذا وصلت حذفتها قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ قال الفراء «4» : يقول في اللوح المحفوظ عند الله عزّ وجلّ تشاءمون بي وتتطيّرون، وذلك من عند الله تعالى مثل قوله

_ (1) الشاهد للفرزدق في الكتاب 1/ 75، وشرح التصريح 1/ 293، والمقاصد النحوية 2/ 522، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في شرح أبيات سيبويه 1/ 426، وشرح الأشموني 1/ 186. (2) انظر مختصر ابن خالويه 110، وهذه قراءة سعيد بن جبير. (3) انظر الكتاب 1/ 211. (4) انظر معاني الفراء 2/ 295.

[سورة النمل (27) : آية 48]

طائِرُكُمْ مَعَكُمْ [يس: 19] أي لازم لكم ما كان من خير أو شرّ لازم لكم وفي رقابكم. [سورة النمل (27) : آية 48] وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ اسم للجمع، وجمعه أرهط، وجمع الجمع أراهط. يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قال الضحاك: كان هؤلاء التسعة عظماء أهل المدينة، وكانوا يفسدون ويأمرون بالفساد فجلسوا تحت صخرة عظيمة على نهر فقلبها الله جلّ وعزّ عليهم فقتلهم فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا. [سورة النمل (27) : آية 49] قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ وهذا، من أحسن ما قرئ به هذا الحرف لأنه يدخل فيه المخاطبون في اللفظ والمعنى. وإذا قرأ لتبيّننّه «1» لم يدخل فيه المخاطبون في اللفظ ودخلوا في المعنى، وقراءة مجاهد ليبيّتنّه بالياء. قال أبو إسحاق: لَنُبَيِّتَنَّهُ أي قالوا لنبيتنه متقاسمين، أي متحالفين ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ «2» «مهلك» بمعنى إهلاك، ويكون بمعنى الظرف وعن عاصم ما شهدنا مهتل بمعنى هلاك وعنه مَهْلِكَ «3» وهو اسم موضع الهلاك كما تقول: مجلس. [سورة النمل (27) : آية 50] وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) وَمَكَرُوا مَكْراً إنما عملوه. وَمَكَرْنا مَكْراً جازيناهم على ذلك، وقيل المكر من الله الإتيان بالعقوبة المستحقّة من حيث لا يدري العبد. [سورة النمل (27) : آية 51] فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ وقرأ الكوفيون والحسن وابن أبي إسحاق وهي قراءة الكسائي أَنَّا دَمَّرْناهُمْ بفتح الهمزة، وزعم الفراء «4» أن فتحهما من جهتين: إحداهما أن تردّها على كيف. قال أبو جعفر: وهذا لا يحصّل لأن كيف للاستفهام و «أنّا» غير داخل في الاستفهام، والجهة الأخرى عنده أن تكرّ عليها «كان» كأنك قلت: كان عاقبة أمرهم تدميرهم. قال أبو جعفر: وهذا متعسّف، وفي فتحها

_ (1) انظر القراءات المختلفة في تيسير الداني 136، والبحر المحيط 7/ 80. [.....] (2) انظر البحر المحيط 7/ 80، وتيسير الداني 136، وكتاب السبعة لابن مجاهد 483. (3) انظر البحر المحيط 7/ 80، وتيسير الداني 136، وكتاب السبعة لابن مجاهد 483. (4) انظر معاني الفراء 2/ 296.

[سورة النمل (27) : آية 52]

خمسة أوجه: منها أن يكون التقدير: لأنّا دمّرناهم وتكون أن في موضع نصب، ويجوز أن تكون في موضع رفع بدلا من عاقبة، وليجوز أن تكون في موضع نصب على خبر كان ويجوز أن تنصب عاقبة على خبر كان وتكون أنّ في موضع رفع على أنّها اسم كان، ويجوز أن تكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ تبيينا للعاقبة، والتقدير: من أنّا دمرناهم، ومن قرأ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ جعلها مستأنفه قال أبو حاتم: وفي حرف أبيّ أن دمّرناهم «1» تصديقا لفتحها. [سورة النمل (27) : آية 52] فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا النصب على الحال، والرفع من خمسة أوجه تكون «بيوتهم» بدلا من تلك و «خاوية» خبر الابتداء، وتكون «بيوتهم» خبرا و «خاوية» خبرا ثانيا كما يقال: هذا حلو حامض، وتكون «خاوية» على إضمار مبتدأ أي هي خاوية، وتكون بدلا من بيوتهم لأن النكرة تبدل من المعرفة. [سورة النمل (27) : آية 54] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ بمعنى وأرسلنا لوطا أو واذكر لوطا. [سورة النمل (27) : آية 55] أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) أَإِنَّكُمْ بتخفيف الهمزة الثانية اختيار الخليل وسيبويه رحمهما الله فأما الخط فالسبيل فيه أن يكتب بألفين على الوجوه كلّها لأنها همزة مبتدأة دخلت عليها ألف الاستفهام. وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت: 29] . قال مجاهد: كان يجامع بعضهم بعضا في المجالس. [سورة النمل (27) : آية 56] فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا جعلا «أن» خبر كان، فما كان جواب قومه إلّا قولهم. وقرأ عاصم قَدَّرْناها «2» مخفّفا، والمعنى واحد يقال: قدرت الشيء قدرا وقدرا وقدّرته. [سورة النمل (27) : آية 59] قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ قال الفراء «3» : المعنى قيل للوط صلّى الله عليه وسلّم قل الحمد لله على هلكهم

_ (1) انظر تيسير الداني 136، والبحر المحيط 7/ 82. (2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 484. (3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 484.

[سورة النمل (27) : آية 60]

وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى وخالف جماعة من العلماء الفراء في هذا فقالوا: هو مخاطبة لنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم. قال أبو جعفر: وهذا أولى لأن القرآن منزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكلّ ما فيه فهو مخاطب به عليه السلام إلّا ما لم يصحّ معناه إلّا بغيره. آللَّهُ خَيْرٌ وأجاز أبو حاتم أالله بهمزتين ولم نعلم أحدا تابعه على ذلك هذه المدّة إنما جيء بها فرقا بين الاستفهام والخبر، وهذه ألف التوقيف، «وخير» هاهنا ليس بمعنى أفعل منك إنما هو مثل قول الشاعر حسّان: [الوافر] 322- فشرّكما لخيركما الفداء «1» فالمعنى فالذي فيه الشر منكما للذي فيه الخير الفداء، ولا يجوز أن يكون بمعنى من لأنك إذا قلت: فلان شرّ من فلان، ففي كلّ واحد منهما شرّ. [سورة النمل (27) : آية 60] أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) قال عكرمة: الحدائق النخل ذاتَ بَهْجَةٍ قال أهل التفسير: البهجة الزينة والحسن. [سورة النمل (27) : آية 65] قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ قال أبو إسحاق: هذا بدل من «من» والمعنى لا يعلم أحد الغيب إلّا الله قال: ومن نصب نصب على الاستثناء يعني في الكلام. قال أبو جعفر: وسمعته يحتجّ بهذه الآية على من صدّق منجّما، وقال: أخاف أن يكفر لعموم هذه الآية. [سورة النمل (27) : آية 66] بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ هذه قراءة «2» أكثر النحويين منهم شيبة ونافع ويحيى بن وثاب وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير وحميد بل أدرك «3» ، وقرأ عطاء بن يسار بل أدرك «4» بتخفيف الهمزة، وقرأ ابن محيصن بل أدرك علمهم في الآخرة وقرأ ابن عباس بلى ادّارك «5» وإسناده إسناد صحيح هو من حديث شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس، وزعم هارون القارئ أن قراءة أبيّ بن كعب بل تدارك علمهم. القراءة الأولى والآخرة معناهما واحد لأن

_ (1) مرّ الشاهد رقم 309. (2) انظر تيسير الداني 137، ومعاني الفراء 2/ 299. (3) انظر تيسير الداني 137، ومعاني الفراء 2/ 299. (4) انظر تيسير الداني 137، ومعاني الفراء 2/ 299. (5) انظر تيسير الداني 137، ومعاني الفراء 2/ 299.

[سورة النمل (27) : آية 67]

أصل ادّارك تدارك أدغمت التاء في الدال فجيء بألف الوصل لأنه لا يبتدأ بساكن فإذا وصلت سقطت ألف الوصل وكسرت اللام لالتقاء الساكنين. وفي معناه قولان: أحدهما أنّ المعنى بل تكامل علمهم في الآخرة لأنهم رأوا كلّما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم به، والقول الآخر أن المعنى بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة فقالوا تكون، وقالوا لا تكون. وفي معنى أدرك قولان: أحدهما معناه كمل في الآخرة، وهو مثل الأول، والآخر على معنى الإنكار وهذا مذهب أبي إسحاق، واستدلّ على معنى صحّة هذا القول بأن بعده بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ. فأما معنى أدرك فليس فيه إلّا وجه واحد، يكون فيه معنى الإنكار كما تقول: أأنا قاتلتك أي لم أقاتلك فيكون المعنى لم يدرك. بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ حذفت منه الياء لالتقاء الساكنين، ولم يجز تحريكها لثقل الحركة فيها. [سورة النمل (27) : آية 67] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) هكذا يقرأ نافع «1» في هذه السورة وفي سورة «العنكبوت» «2» ، وقرأ أبو عمرو باستفهامين إلّا أنه خفّف الهمزة، وقرأ عاصم وحمزة باستفهامين أيضا إلّا أنهما حقّقا «3» الهمزتين. وكل ما ذكرناه في السورتين جميعا واحد، وقرأ الكسائي أَإِذا بهمزتين (اننا) بنونين في هذه السورة وفي سورة «العنكبوت» «4» باستفهامين. القراءة الأولى إذا كنا ترابا وآباؤنا أننا موافقة للخطّ حسنة، وقد عارض فيها أبو حاتم، فقال: وهذا معنى كلامه «إذ» ليس باستفهام و «أإنا» استفهام وفيه «أنّ» فكيف يجوز أن يعمل ما في حيّز الاستفهام فيما قبله، وكيف يجوز أن يعمل ما بعد أنّ فيما قبلها، وكيف يجوز غدا أنّ زيدا خارج، فإذا كان فيه استفهام كان أبعد، وهذا إذا سئل عنه كان مشكلا لما ذكره. قال أبو جعفر: وسمعت محمد بن الوليد يقول: سألنا أبو العباس محمد بن يزيد عن آية من القرآن صعبة الإعراب مشكلة وهي قوله جلّ وعزّ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: 7] فقال: إنّ عمل في «إذا» ينبئكم كان محالا لأنه لا ينبئهم ذلك الوقت، وإن عمل فيه ما بعد إن كان المعنى صحيحا، وكان خطأ في العربية أن يعمل ما بعد إنّ فيما قبلها. وهذا سؤال بيّن، ويجب أن يذكر في السورة التي هو فيها. فأما أبو عبيد فمال إلى قراءة نافع وردّ على من جمع بين استفهامين، واستدلّ بقول الله جلّ وعزّ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آل عمران: 144] ، وبقوله جلّ وعزّ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ

_ (1) انظر تيسير الداني 137، وكتاب السبعة لابن مجاهد 485. (2) انظر إعراب الآية 29- سورة العنكبوت. (3) انظر معاني الفراء 2/ 300، وتيسير الداني 137. [.....] (4) انظر معاني الفراء 2/ 300، وتيسير الداني 137.

[سورة النمل (27) : آية 81]

الْخالِدُونَ [الأنبياء: 34] وهذا الرّد على أبي عمرو وعاصم وحمزة وطلحة والأعرج لا يلزم منه شيء، ولا يشبه ما جاء به من الآية شيئا، والفرق بينهما أن الشرط وجوابه بمنزلة شيء واحد، ومعنى أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ أفإن مت خلدوا، ونظير هذا: أزيد منطلق، ولا يقال: أزيد أمنطلق، لأنهما بمنزلة شيء واحد، وليس كذا الآية، لأن الثاني جملة قائمة بنفسها فصلح فيها الاستفهام والأول كلام منفرد يصلح فيه الاستفهام فأما من حذف الاستفهام من الثاني الاستفهام لأن في الكلام دليلا عليه لمعنى الإنكار. [سورة النمل (27) : آية 81] وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ هذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم والكسائي، وأجاز الفراء وأبو حاتم وما أنت بهاد العمى «1» وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم «2» وفي حرف عبد الله وما أن تهدي العمي عن ضلالتهم. القراءة الأولى بحذف الياء في اللفظ لالتقاء الساكنين وإثباتها في الخط، والقراءة الثانية بحذف الياء في اللفظ والخطّ لسكونها وسكون التنوين بعدها، من العرب من يثبتها في الوقف فيقول: مررت بقاضي، لأن التنوين لا يثبت في الوقف، والقراءة الثالثة بحذف الياء منها في اللفظ وفي الوصل لالتقاء الساكنين وفي حرف عبد الله وما إن تهدي إن زائدة للتوكيد وهي كافّة لما عن العمل إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا قال أبو إسحاق: أي ما تسمع قال: والمعنى ما تسمع فيعي ويعمل إلا من يؤمن بآياتنا فأما من يسمع ولا يقبل فبمنزلة الأصم. [سورة النمل (27) : آية 82] وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ قالت حفصة ابنة سيرين: سألت أبا العالية عن قول الله جلّ وعزّ: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ فقال: أوحى الله جلّ وعزّ إلى نوح صلّى الله عليه وسلّم: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: 36] فكأنما كان على وجهي غطاء فكشف. قال أبو جعفر: وهذا من حسن الجواب لأنّ الناس ممتحنون ومؤخّرون لأن فيهم مؤمنين وصالحين، ومن قد علم الله جلّ وعزّ أنه سيؤمن ويتوب، ولهذا أمرنا بأخذ الجزية فإذا زال هذا وجب القول عليهم فصاروا كقوم نوح صلّى الله عليه وسلّم حين قال الله جلّ وعزّ فيهم أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ قال عبد الله بن عمر رحمة الله عليه: تخرج الدابة من صدع في الصفا، وقرأ ابن عباس

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 92، ومختصر ابن خالويه 110. (2) انظر معاني الفراء 2/ 300.

[سورة النمل (27) : آية 87]

وعكرمة وعاصم الجحدري وطلحة وأبو زرعة: أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ «1» قال عكرمة: أي تسمهم. وفي معنى «تكلمهم» قولان: فأحسن ما قيل فيه ما روي عن ابن عباس قال: هي والله تكلّمهم وتكلمهم. تكلّم المؤمن، وتكلم الكافر أو الفاجر تجرحه. وقال أبو حاتم: تكلّمهم كما تقول: تجرّحهم يذهب إلى أنّه تكثير من تكلمهم. وقرأ الكوفيون وابن أبي إسحاق أَنَّ النَّاسَ «2» بفتح الهمزة، وقرأ أهل الحرمين وأهل الشام وأهل البصرة إن الناس بكسر الهمزة. قال أبو جعفر: في المفتوحة قولان وكذا المكسورة، قال الأخفش: المعنى بأنّ الناس، وقال أبو عبيد: موضعها نصب بوقوع الفعل عليها أي تخبرهم أن الناس. وقال الكسائي: والفراء «3» : إن الناس بالكسر على الاستئناف، وقال الأخفش: هو بمعنى تقول إنّ النّاس. [سورة النمل (27) : آية 87] وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بمعنى واذكر، ومذهب الفراء «4» أنّ المعنى وذلك يوم ينفخ في الصور، وأجاز فيه الحذف وجعله مثل وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ [سبأ: 51] . فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فهذا ماض «وينفخ» مستقبل، ويقال: كيف عطف ماض على مستقبل؟ وزعم الفراء أنه محمول على المعنى، لأن المعنى إذا نفخ في الصور ففزع. إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ في موضع نصب على الاستثناء. قرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم والكسائي وكلّ آتوه داخرين «5» جعلوه فعلا مستقبلا، وقرأ الأعمش وحمزة وَكُلٌّ أَتَوْهُ جعلاه فعلا ماضيا. قال أبو جعفر: وفي كتابي عن أبي إسحاق في القرآن من قرأ وَكُلٌّ أَتَوْهُ وحده على لفظ كلّ ومن قرأ آتَوْهُ جمع على معناها. وهذا القول غلط قبيح لأنه إذا قال: وكلّ أتوه فلم يوحد وإنما جمع فلو وحّد لقال: أتاه، ولكن من قال: أتوه جمع على المعنى وجاء به ماضيا لأنّه ردّه على «ففزع» ومن قرأ وكلّ آتوه حمله على المعنى، وقال: آتوه لأنها جملة منقطعة من الأول. [سورة النمل (27) : آية 88] وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) وَتَرَى الْجِبالَ من رؤية العين، ولو كان من رؤية القلب لتعدّت إلى مفعولين، والأصل ترأى فألقيت حركة الهمزة على الرّاء فتحرّكت الراء وحذفت الهمزة فهذه سبيل

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 301. (2) انظر مختصر ابن خالويه 110. (3) انظر تيسير الداني 137. (4) انظر معاني الفراء 2/ 301. (5) انظر البحر المحيط 7/ 94، وكتاب السبعة لابن مجاهد 487، وتيسير الداني 137.

[سورة النمل (27) : آية 89]

تخفيف الهمزة إذا كان قبلها ساكن إلّا أنّ التخفيف لازم لترى وأخواتها من المضارع لكثرته في الكلام، وأنه يقع لرؤية العين والقلب. تَحْسَبُها جامِدَةً لا بدّ لتحسب من مفعولين، وظننت قد يتعدّى إلى واحد فقط. وأهل الكوفة يقرءون تَحْسَبُها وهو القياس لأنه من حسب يحسب إلّا أنه قد روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خلافها أنه قرأ بالكسر في المستقبل فيكون على فعل يفعل، كما قالوا نعم ينعم ويئس ييئس، وحكى بئس يبئس من السالم، لا يعرف في كلام العرب غير هذه الأحرف. وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ مصدر، وتقديره مرّا مثل مرّ السحاب فأقمت الصّفة مقام الموصوف والمضاف إليه. صُنْعَ اللَّهِ منصوب عند الخليل وسيبويه رحمهما الله على أنه مصدر لأنه لما قال عزّ وجلّ «وهي تمرّ مرّ السّحاب» دلّ على أنه صنع ذلك صنعا، ويجوز النصب على الإغراء أي انظروا صنع الله. قال أبو إسحاق: ويجوز الرفع على معنى ذلك صنع الله. [سورة النمل (27) : آية 89] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ تخفض «1» يوما على الإضافة وتحذف التنوين لها ومن نصب وأضاف فقرأ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ جعل يومئذ مبنيا على الفتح، مضاف إلى غير متمكّن، وأنشد سيبويه: [الطويل] 323- على حين ألهى النّاس جلّ أمورهم «2» فإن قال قائل: قد قال سيبويه «3» : التنوين علامة الأمكن عندهم، وقال «4» : وبعدت من المضارعة بعد «كم» و «إذ» من المتمكّنة، فكيف يكون التنوين علامة للأمكن ثمّ يدخل فيما لا يتمكّن بوجه من الوجوه فهذا ضرب من المناقضة؟ فالجواب عن هذا أن التنوين الذي على سيبويه ليس هو هذا التنوين وإنما يتوهّمه أنه كان ضعيفا في العربية والتنوين الذي أراده هو الذي يقول بعض النحويين فيه: أدخل فرقا بيّن ما ينصرف وما لا ينصرف، ويقول بعضهم: فرقا بين الاسم والفعل. وللتنوين قسمان آخران يكون فرقا بين المعرفة والنكرة، ويكون عوضا في قولك: جوار وفي قولك يومئذ. [سورة النمل (27) : آية 90] وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) والفعل من هذا كبيته واللازم منه أكبّ وقلّ ما يأتي هذا في كلام العرب. [سورة النمل (27) : آية 91] إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 96، وكتاب السبعة لابن مجاهد 487. (2) مرّ الشاهد رقم (216) . (3) انظر الكتاب 1/ 47. (4) انظر الكتاب 1/ 43.

[سورة النمل (27) : آية 92]

الَّذِي في موضع نصب نعت لرب، ولو كان بالألف واللام قلت: المحرّمها، فإن كان نعتا للبلدة المحرّمها هو، لا بدّ من إظهار المضمر مع الألف واللام لأن الفعل جرى على غير من هو له فإن قلت: الذي حرّمها لم تحتج أن تقول هو. [سورة النمل (27) : آية 92] وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَأَنْ أَتْلُوَا نصب بأن. قال الفراء «1» : وفي إحدى القراءتين وأن أتل القرآن «2» ، وزعم أنه في موضع جزم بالأمر فلذلك حذفت منه الواو. قال أبو جعفر: ولا نعرف أحدا قرأ بهذه القراءة وهي مخالفة لجميع المصاحف، وقوله في موضع جزم خطأ عند البصريين لأنه لا يكون جزم بلا جازم، وتقديره اللام خطأ لم يكن بدّ من المجيء بحرف المضارعة فكيف تضمر اللام وهي إذا جيء بها كان الكلام على غير ذلك، وحروف الجزم لا تضمر، وهذا الفعل لا يجوز أن يكون معربا لأنه ليس بالمضارع. قال سيبويه: أسكنوها لأنها لا يوصف بها ولا تقع موقع المضارعة. [سورة النمل (27) : آية 93] وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ بالتاء ليكون الكلام على نسق واحد، وبالياء على أن يردّ إلى ما قبله أو على تحويل المخاطبة.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 301. (2) انظر البحر المحيط 7/ 96، ومختصر ابن خالويه 111. [.....]

28 شرح إعراب سورة القصص

28 شرح إعراب سورة القصص بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) تِلْكَ في موضع رفع بمعنى هذه تلك وآياتُ بدل منها، ويجوز أن يكون «تلك» في موضع نصب بنتلو و «آيات» بدل منها أيضا وانتصابها كما تقول: زيدا ضربت. [سورة القصص (28) : آية 4] إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) عَلا هاهنا فعل، وقد يكون في غير هذا اسما إذا قلت: أخذته من على الحائط، وتكون حرفا، في قولك: على زيد مال. ويجوز كتابته بالياء إذا كان اسما أو حرفا، لأن ألفه ينقلب ياء مع المضمر وإنما انقلبت ياء فرقا بينها وبين المتمكن في قولك: رأيت عصاه يا هذا، ومن العرب من لا يقلب الألف ياء، كما قال: [الرجز] 324- طاروا علاهنّ فطر علاها «1» وإذا كانت اسما خفض ما بعدها بالإضافة، وتخفض ما بعدها إذا كانت حرفا، وإذا كانت فعلا رفعت ما بعدها بفعله أو نصبته لتعدّيها إليه. وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً مفعولان، وواحد الشّيع شيعة وهي الفرقة التي يشيّع بعضها بعضا أي يعاونه. [سورة القصص (28) : آية 5] وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) قال سعيد عن قتادة قال: هم بنو إسرائيل. وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً قال: ولاة الأمر وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ قال: أي من بعد فرعون وقومه.

_ (1) مرّ الشاهد رقم (6) .

[سورة القصص (28) : آية 6]

[سورة القصص (28) : آية 6] وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ عطف على ما قبله. قال أبو إسحاق: ويجوز و «نمكّن» بالرفع على معنى ونحن نمكّن وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ هذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم، وهي على نسق الكلام لأن قبله و «نريد» ، وقرأ سائر الكوفيين ويرى فرعون وهامان «1» وأجاز الفراء ويرى فرعون وهامان بمعنى ويري الله فرعون وهامان وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ تعدّى إلى مفعولين لأنه متعدّي يرى. [سورة القصص (28) : آية 7] وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فإن خفّفت الهمزة ألقيت حركتها على النون وحذفتها لقربها من الساكن، وأن النون كانت قبلها ساكنة. [سورة القصص (28) : آية 8] فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) نصب «ليكون» بلام كي، وربما أشكل هذا على من يجهل اللغة ويكون ضعيفا في العربية فقال: ليست بلام كي ولقبها بما لا يعرف الحذّاق من النحويين أصله، وهذا كثير في كلام العرب، يقال: جمع فلان المال ليهلكه، وجمعه لحتفه، وجمعه ليعاقب عليه، لمّا كان جمعه إيّاه قد أدّاه إلى ذلك كان بمنزلة من جمعه له كما قال: [المتقارب] 325- فللموت ما تلد الوالدة «2» وقرأ الكوفيون إلّا عاصما لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «3» فهذا الاسم للغمّ، والحزن مصدر حزن. [سورة القصص (28) : آية 9] وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ قال الكسائي: المعنى هذا قرّة عين لي ولك. قال أبو جعفر: وفي رفعه وجه آخر بعيد ذكره أبو إسحاق: يكون رفعا بالابتداء

_ (1) انظر تيسير الداني 138، والبحر المحيط 7/ 100. (2) مرّ الشاهد (136) . (3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 492، والبحر المحيط 7/ 101.

[سورة القصص (28) : آية 10]

والخبر لا تَقْتُلُوهُ وإنما بعد لأنه يصير المعنى: أنه معروف بأنه قرّة عين له، وجوازه أن يكون المعنى إذا كان قرّة عين لي ولك فلا تقتلوه، ويجوز النصب بمعنى: لا تقتلوا قرّة عين لي ولك. وقالت: لا تقتلوه ولم تقل: نقتله، وهي تخاطب فرعون كما يخاطب الجبّارون وكما يخبرون عن أنفسهم وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يكون لبني إسرائيل، ويجوز أن يكون لقوم فرعون أي لا يشعرون أنه يسلبهم ملكهم. [سورة القصص (28) : آية 10] وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً قد ذكرناه، وعن فضالة بن عبيد وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً «1» إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ من بدا يبدو إذا ظهر، وعن ابن مسعود قال: كانت تقول: أنا أمّة. قال الفراء «2» : أي إن كادت لتبدي باسمه لضيق صدرها. لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها «أن» في موضع رفع وحذف الجواب لأنه قد تقدّم ما يدلّ عليه ولا سيما وبعده لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. [سورة القصص (28) : آية 12] وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) الْمَراضِعَ جمع مرضع على جمع التكسير، ومن قال: مراضيع فهو جمع مرضاع ومفعال تكون للتكثير، ولا تدخل الهاء فيه فرقا بين المذكّر والمؤنث لأنه ليس بجار على الفعل ولكن من قال: مرضاعة جاء بالهاء للمبالغة، كما يقال: مطرابة. قال الفراء: تدخل الهاء فيما كان مدحا يراد به الداهية وفيما كان ذما يراد به البهيمة. وهذا القول خطأ عند البصريين، ولو كان كما قال لكانت الهاء للتأنيث. مِنْ قَبْلُ غاية ومعنى غاية أنه صار غاية الاسم لما حذف منه. قال محمد بن يزيد: فأعطي الضمّة لأنها غاية الحركات، وقال غيره: أعطي الضمّة لأنها لا تلحقه في حال السلامة. قال أبو إسحاق: التقدير من قبل أن نردّه إليها فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ «يكفلونه» ليس بجواب، ولكن يكون مقطوعا من الأول، أو في موضع نعت لأهل. وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ ليس «له» متعلقا بناصحين فلو كان ذلك لكان تفريقا بين الصلة والموصول. وقد ذكرناه في «سورة الأعراف» «3» . [سورة القصص (28) : آية 14] وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 303، والمحتسب 2/ 147، والبحر المحيط 7/ 102. (2) معاني الفراء 2/ 303. (3) انظر إعراب الآية 21- الأعراف.

[سورة القصص (28) : آية 15]

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ عند سيبويه «1» جمع شدّة، وقال غيره: هو جمع شدّ، وقيل: هو واحد، وحكى أبو إسحاق في غير هذه السورة أنّه لا يعرف في كلام العرب اسم واحد على أفعل بغير هاء إلا أشدّ وهو وهم، وقد حكى أهل اللغة إصبع. قال أبو إسحاق: وتأويل بلغ أشدّه استكمل نهاية قوة الرجل. وَاسْتَوى أهل التفسير منهم ابن عباس على أنّ معنى واستوى بلغ أربعين سنة، وتأوّله أبو إسحاق: على أنه يجوز أن يكون حقيقة واستوى وصف بلوغ الأشدّ. آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً العالم والحكيم هو الذي يعمل بعلمه وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قال أبو إسحاق: فجعل إتيان العلم والحكمة جزاء الإحسان لأنهما يؤدّيان إلى الجنة التي هي جزاء المحسنين. [سورة القصص (28) : آية 15] وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها أكثر أهل التفسير منهم ابن عباس على أنه دخل نصف النهار، وقال الضحاك: طلب أن يدخل المدينة وقت غفلة أهلها فدخلها حين علم منهم ذلك فكان منه ما كان من قتل الرجل من قبل أن يؤمر بقتله فاستغفر ربه فغفر له. ويقال في الكلام: دخلت المدينة حين غفل أهلها، ولا يقال: على حين غفل أهلها، ودخلت «على» في هذه الآية لأنّ الغفلة هي المقصودة، فصار هذا كما تقول: جئت على غفلة، وإن شئت قلت: جئت على حين غفلة فكذا الآية. فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ ابتداء وخبر. والمعنى: إذا نظر إليهما الناظر قال: هذا من شيعته أي من بني إسرائيل. وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ أي من قوم فرعون. وعدوّه بمعنى أعداء، وكذا يقال في المؤنّث: هي عدو لك. ومن العرب من يدخل الهاء في المؤنث لأنه بمعنى معادية عند البصريين وعند الكوفيين لأن الواو خفيّة، كذا يقولون. والواو ليست بخفيّة بل هي حرف جلد. إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ خبر بعد خبر، وإن شئت كان «مضلّ مبين» نعتا. [سورة القصص (28) : آية 17] قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فيه قولان: أحدهما أنه بمعنى الدعاء، وهذا قول الكسائي والفراء، وقدّره الفراء «2» بمعنى اللهمّ فلن أكون ظهيرا للمجرمين، والقول الآخر أنه بمعنى الخبر، وزعم الفراء أن قوله «هو» قول ابن عباس. قال أبو جعفر: وأن يكون بمعنى الخبر أولى وأشبه بنسق الكلام، كما يقال: لا أعصيك لأنّك أنعمت عليّ، وهذا قول ابن عباس على الحقيقة لا ما حكاه الفراء «3» لأن ابن عباس قال: لم يستثن فابتلي،

_ (1) انظر الكتاب 4/ 60. (2) انظر معاني الفراء 5/ 304. (3) انظر معاني الفراء 5/ 304.

[سورة القصص (28) : آية 18]

والاستثناء لا يكون في الدعاء، لا تقول: اللهمّ اغفر لي إن شئت. وأعجب الأشياء أن الفراء روى أن ابن عباس قال هذا ثم حكى عنه قوله. [سورة القصص (28) : آية 18] فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ منصوب على خبر أصبح، وإن شئت على الحال ويكون الظرف في موضع الخبر، قال الضحاك: خاف أن يراه أحد أو يظهر عليه قال: ويَتَرَقَّبُ يتلفّت. فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ «الذي» في موضع رفع بالابتداء يَسْتَصْرِخُهُ في موضع الخبر ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال «وأمس» إذا دخلت عليه الألف واللام تمكّن وأعرب عند أكثر النحويين، ومنهم من يبنيه وفيه الألف واللام، وإذا أضيف أو نكر تمكّن أيضا. والعلّة في بنائه عند محمد بن يزيد أنّ تعريفه ليس كتعريف المتمكّنات فوجب أن يبنى ولا يعرب فكسر آخره لالتقاء الساكنين، ومذهب الخليل رحمه الله أن الياء محذوفة منه. وللكوفيين فيه قولان: أحدهما أنه منقول من قولهم: أمس بخير. والآخر أن خلقة السين الكسر، هذا قول الفراء، وحكى سيبويه «1» وغيره أنّ من العرب من يجري أمس مجرى ما لا ينصرف في موضع الرفع خاصة، وربّما اضطرّ الشاعر ففعل هذا في الخفض والنصب كما قال: [الرجز] 326- لقد رأيت عجبا مذ أمسا «2» فخفض بمذ فيما مضى واللغة الجيّدة الرفع وأجرى «أمس» في الخفض مجراه في الرفع على اللغة الثانية. قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ والغويّ الخائب أي لأنك تشار من لا تطيقه. [سورة القصص (28) : آية 19] فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ «أن» زائدة للتوكيد. وقرأ يزيد بن القعقاع أَنْ يَبْطِشَ «3» وهي لغة إلّا

_ (1) انظر الكتاب 3/ 315. (2) الشاهد بلا نسبة في الكتاب 3/ 315، وأسرار العربية 32، وأوضح المسالك 4/ 132، وخزانة الأدب 7/ 167، والدرر 3/ 108، وشرح الأشموني 2/ 537، وشرح التصريح 2/ 226، وشرح قطر الندى ص 16، وشرح المفصّل 4/ 106، ولسان العرب (أمس) ، وما ينصرف وما لا ينصرف ص 95، والمقاصد النحوية 4/ 357، ونوادر أبي زيد 57، وهمع الهوامع 1/ 209، وجمهرة اللغة 841. وبعده: «عجائزا مثل السعالى خمسا» (3) انظر البحر المحيط 7/ 106، وهي قراءة الحسن وأبي جعفر.

[سورة القصص (28) : آية 22]

أنّ يَبْطِشَ «1» أعرف منها، وإن كان الضمّ أقيس، لأنه فعل لا يتعدّى. إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ قال عكرمة: لا يكون الإنسان جبّارا حتى يقتل نفسين. قال أبو إسحاق: الجبّار في اللغة المتعظّم الذي لا يخضع لأمر الله جلّ وعزّ وإنما تأول عكرمة في قتل النفسين- الآية كما تأول عطاء «فلن أكون ظهيرا للمجرمين» على أنه لا يحلّ لأحد أن يعين ظالما، ولا يكتب له، ولا يصحبه، وإنه إن فعل شيئا من ذلك فقد صار معينا للظالمين حتى قال لمن استفتاه: ارم قلمك واسترزق الله جلّ وعزّ ولا تكن ظهيرا للمجرمين. [سورة القصص (28) : آية 22] وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قال أبو إسحاق: أي سلك الطريق الذي هو تلقاء مدين، قال: ولم ينصرف مدين لأنه اسم للبقعة. قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ قال أبو إسحاق: وسواء السبيل قصد السبيل. [سورة القصص (28) : آية 23] وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ فقد ذكرنا قول ابن عباس: إن معنى تذودان تحبسان، وذلك معروف في اللغة يقال: ذاده يذوده إذا حبسه، وإذا قاده، لأن معنى قاده حبسه على ما يريد، وإنما كانتا تحبسان غنمهما لأنهما لا طاقة لهما بالسّقي وكانت غنمهما تطرد عن الماء. قالَ ما خَطْبُكُما مبتدأ وخبره قال أبو إسحاق: والمعنى ما تريدان بذود غنمكما عن الماء. قالَتا لا نَسْقِي أي لا نقدر على السّقي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ قراءة أهل الكوفة وأهل الحرمين إلا أبا جعفر فإنه قرأ حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ «2» وكذا قرأ أبو عمرو. فمعنى القراءة الأولى حتى يصدر الرعاة مواشيهم، ومعنى الثانية حتى ينصرف الرعاء فأفادت القراءتان معنيين وهما حسنان إلّا أنّ «يصدر» أشبه بالمعنى، وزعم أبو حاتم أنّ المعنى حتى يصدروا مواشيهم. قال: ولم يرد حتى ينصرفوا إن شاء الله و «الرعاء» جمع راع كما تقول: صاحب وصحاب. قال يعقوب: وذكر لي في لغة الرّعاء بضم الراء، وأنكر أبو حاتم هذه اللغة، وقال: إذا ضممت الراء لم تقل: إلّا الرّعاة بالهاء والذي أنكره لا يمتنع، كما يقال: غاز وغزّاء وغزّا بالمدّ والقصر. وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ قال أبو إسحاق: الفائدة في «وأبونا شيخ» أنه لا يمكنه أن يحضر فيسقي فاحتجنا ونحن نساء أن نخرج فنسقي. [سورة القصص (28) : آية 24] فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)

_ (1) هذه قراءة الجمهور، انظر البحر المحيط 7/ 106. [.....] (2) انظر البحر المحيط 7/ 108، وكتاب السبعة لابن مجاهد 492.

[سورة القصص (28) : آية 25]

فَسَقى لَهُما أي قبل الوقت الذي كانتا تسقيان فيه. ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ وهو في اللغة ما ليس عليه شمس، والفيء ما كانت عليه شمس ثم زالت. فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: لقد قال موسى صلّى الله عليه وسلّم ربّ إنّني لما أنزلت إليّ من خير فقير، وما أحد من الخلق أكرم على الله جلّ وعزّ منه ولقد افتقر إلى شقّ تمرة فمصّها فلزق بطنه بظهره من الجوع. [سورة القصص (28) : آية 25] فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قال عبد الله بن أبي الهذيل عن عمر بن الخطاب قال: جاءت وقد جعلت كم قميصها على وجهها أو كمّ درعها. قال أبو إسحاق: ويقال: جاءت تمشي مشي من لم يعتد الدخول والخروج مستحيية، قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وفي الكلام حذف أي: فأجابها ومضى معها. فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ حذفت الضمّة من الفاء للجزم، وحذفت الألف لالتقاء الساكنين. [سورة القصص (28) : آية 26] قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ أي من قوي على عملك وأدّى فيه الأمانة. [سورة القصص (28) : آية 28] قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) قالَ ذلِكَ في موضع رفع بالابتداء. بَيْنِي وَبَيْنَكَ في موضع الخبر، والتقدير عند سيبويه: بيننا، وأعيدت الثانية توكيدا. أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ نصب بقضيت و «ما» زائدة فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ تبرية، ويجوز فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ من جهتين: إحداهما أن تكون «لا» عاملة كليس، والأخرى أن يكون «عدوان» مرفوعا بالابتداء، و «عليّ» الخبر، كما تقول: لا زيد في الدار ولا عمرو. وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ ابتداء وخبر. قال أبو إسحاق: والمعنى: والله شهيدنا على ما عقد بعضنا على بعض. [سورة القصص (28) : آية 29] فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) وقرأ عاصم: أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ بفتح الجيم، وروي عن الأعمش أو جذوة «1» بضم الجيم.

_ (1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 493، والبحر المحيط 7/ 111، وهذه قراءة مسلمة أيضا.

[سورة القصص (28) : آية 30]

[سورة القصص (28) : آية 30] فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وعن الأشهب العقيلي فِي الْبُقْعَةِ بفتح الباء، وهي لغات، وقولهم بقاع يدلّ على بقعة، كما يقال: جفنة وجفان، ومن قال: بقعة قال: في الجمع بقع مثل غرفة وغرف. قال أبو إسحاق: ويجوز بقعة وبقاع مثل جفرة وجفار. قال: وأَنْ في موضع نصب بمعنى أنّه يا مُوسى. [سورة القصص (28) : آية 31] وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) قال: وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ عليها. وَلَّى مُدْبِراً على الحال. وَلَمْ يُعَقِّبْ أي لم يلتفت، والتقدير قيل له يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ قال وهب: قيل له: ارجع إلى حيث كنت فرجع فلفّ درّاعته على يده فقال له الملك: أرأيت إن أراد الله أن يصيبك بما تحاذر أينفعك لفّك يدك فقال: لا ولكنّي ضعيف خلقت من ضعف وكشف يده فأدخلها في فم الحيّة فعادت عصا. قال إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ مما تحاذر. [سورة القصص (28) : آية 32] اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ يكون التقدير: ولّى مدبرا من الرّهب أو لفّ يده من الرّهب وعن ابن كثير والجحدريّ مِنَ الرَّهْبِ «1» بضم الراء والهاء، وعن قتادة مِنَ الرَّهْبِ «2» بفتح الراء وإسكان الهاء على أصل المصدر. فَذانِكَ بُرْهانانِ ابتداء وخبر، ومن قرأ فذانّك «3» فله تقديران: منها أنه ثنّى ذلك فقال: ذانّك ومن قال: ذانك وقيل: تشديد النون عوض من الألف التي حذفت من «ذا» وكذا وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ [النساء: 16] ، وكذا هذانِ خَصْمانِ [الحج: 19] ، وهذا القول الثاني قول أبي حاتم، وقيل: تشديد النون للفرق بين النون التي لا تقع معها إضافة فتحذف وبين النون المحذوفة في الإضافة، فأما فذاناك وفذانيك فلا وجه لهما. [سورة القصص (28) : آية 34] وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 112، والبحر المحيط 7/ 112 وتيسير الداني 139. (2) انظر تيسير الداني 139. (3) انظر تيسير الداني 139، والبحر المحيط 7/ 113.

[سورة القصص (28) : آية 38]

فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً نصب على الحال ومعنى «ردء» معين مشتق من أردأته أي أعنته، وقد حكي ردأته ردءا. وجمع ردء أرداء، ومن خفف الهمزة حذفها وألقى حركتها على الدال، فقال: فأرسله معي ردّا. يُصَدِّقُنِي «1» وقرأ عاصم وحمزة يُصَدِّقُنِي بالرفع يكون نعتا لردء ويكون حالا. قال أبو إسحاق: ومن جزم فعلى جواب السؤال. [سورة القصص (28) : آية 38] وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) قال الفراء: والصرح كلّ بناء متّسع وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ فالظنّ هاهنا شكّ فكفر على الشكّ لأنه قد رأى من البراهين ما لا يخيل على ذي فطنة. [سورة القصص (28) : آية 43] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) بَصائِرَ نصب على الحال، والتقدير ولقد آتينا موسى الكتاب بصائر أي مبيّنا وَهُدىً وَرَحْمَةً عطف على بصائر، ويجوز الرفع بمعنى فهو هدي ورحمة. [سورة القصص (28) : آية 44] وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ أقيمت الصّفة مقام الموصوف أي بجانب الجبل الغربي. [سورة القصص (28) : آية 46] وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ نصب على المصدر، كذا عند الأخفش قال: ولكن رحمك ربّك رحمة، وعند أبي إسحاق مفعول من أجله أي للرّحمة، وعند الكسائي على خبر كان. قال: ويجوز الرفع بمعنى ولكن هي رحمة. قال أبو إسحاق: الرفع بمعنى ولكن فعل ذلك رحمة. [سورة القصص (28) : آية 47] وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَنَتَّبِعَ جواب لَوْلا أي هيلا. [سورة القصص (28) : آية 49] قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49)

_ (1) انظر تيسير الداني 139، والبحر المحيط 7/ 113.

[سورة القصص (28) : الآيات 54 إلى 55]

قال الفراء «1» بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ بالرفع لأنه صلة للكتاب وكتاب نكرة. قال: وإذا جزمت وهو الوجه فعلى الشرط. [سورة القصص (28) : الآيات 54 الى 55] أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ ابتداء وخبر. قال أبو العالية: هؤلاء قوم من أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث وقد أدركه بعضهم. قال محمد بن إسحاق: سألت الزّهري عن قوله جلّ وعزّ أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ من هم، فقال: النجاشي وأصحابه، ووجّه باثني عشر رجلا فجلسوا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكان أبو جهل وأصحابه قريبا منهم فآمنوا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلما قاموا من عنده تبعهم أبو جهل ومن معه فقالوا لهم خيّبكم الله من ركب، وقبحكم من وفد لم تلبثوا أن صدقتموه، ما رأينا ركبا أحمق ولا أجهل منكم، فقالوا: سَلامٌ عَلَيْكُمْ لم نأل أنفسنا رشدا لنا أعمالنا ولكن أعمالكم وَيَدْرَؤُنَ من درأت أي دفعت أي يدفعون بالاحتمال والكلام الحسن الأذى، وقيل يدفعون بالتوبة والاستغفار الذنوب. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فأثنى عليهم بأنهم ينفقون من أموالهم. [سورة القصص (28) : آية 57] وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) شرط ومجازاة. تجبى إليه ثمرات كلّ شيء «2» على تأنيث الجماعة ويُجْبى على تذكير الجمع، وثمرات جمع ثمرة، وثمر جمعه ثمار. [سورة القصص (28) : آية 58] وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها منصوب عند المازني بمعنى في معيشتها فلما حذف «في» تعدّى الفعل، وهو عند الفراء «3» منصوب على التفسير، قال: كما تقول: أبطرك مالك وبطرته، ونظيره عنده إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة: 130] ، وكذا عنده فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً [النساء: 4] ونصب المعارف على التفسير محال عند البصريين لأن معنى التفسير والتمييز أن يكون واحدا نكرة يدلّ على الجنس.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 307. (2) انظر تيسير الداني 139، والبحر المحيط 7/ 121 وكتاب السبعة لابن مجاهد 494. (3) انظر معاني الفراء 2/ 308.

[سورة القصص (28) : آية 61]

[سورة القصص (28) : آية 61] أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) قال مجاهد: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ حمزة بن عبد المطلب كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا أبو جهل بن هشام. [سورة القصص (28) : آية 64] وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ. قال أبو إسحاق: جواب «لو» محذوف، والمعنى: لو أنّهم كانوا يهتدون لما اتّبعوهم، ولما رأوا العذاب، وقال غيره: التقدير: لو أنهم كانوا يهتدون لأنجاهم الهدى ولما صاروا إلى العذاب. [سورة القصص (28) : آية 66] فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ أي تحيّروا فلم يدروا ما يجيبون به لمّا سئلوا، فقيل لهم: ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65] . [سورة القصص (28) : آية 68] وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ قال علي بن سليمان: هذا وقف التمام ولا يجوز أن يكون «ما» في موضع نصب بيختار لأنها لو كانت في موضع نصب لم يعد عليها شيء قال: وفي هذا رد على القدرية، وقال أبو إسحاق: «ويختار» هذا وقف التمام المختار، قال: ويجوز أن يكون «ما» في موضع نصب بيختار، ويكون المعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخير. [سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 72] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) أَفَلا تَسْمَعُونَ أي أفلا تقبلون، وبعده أَفَلا تُبْصِرُونَ أي أفلا تتبيّنون هذا. [سورة القصص (28) : آية 75] وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً قيل معناه من كلّ قرن وفي كل أمة قوم يكونون عدولا يشهدون على الناس يوم القيامة بأعمالهم. فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي حجّتكم بما كنتم تدينون به فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ أي أنّ الحق ما في الدنيا. وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي ما كانوا يدعون من دون الله، وقد قال جلّ وعزّ قبل هذا: وَقِيلَ ادْعُوا

[سورة القصص (28) : آية 76]

شُرَكاءَكُمْ [القصص: 64] أي الذين جعلتموهم مع الله جلّ وعزّ شركاؤكم لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم، وهذا على جهة التوبيخ أي ادعوهم لينجوكم مما أنتم فيه، فدعوهم فلم يستجيبوا لهم أي فلم ينجّوهم ولم يعينوهم، فهذا معنى وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ. [سورة القصص (28) : آية 76] إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) إن «قارون» لم ينصرف، لأنه اسم أعجميّ وما كان على فاعول أعجميا لا يحسن فيه الألف واللام لم ينصرف في المعرفة وانصرف في النكرة فإن حسنت فيه الألف واللام انصرف إن كان اسما لمذكر نحو طاوس وراقود. قال أبو إسحاق: ولو كان قارون من العربية من قرنت الشيء لانصرف. وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ إنّ واسمها في صلة «ما» قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: ما أقبح ما يقول الكوفيون في الصلاة أنه لا يجوز أن يكون صلة الذي وأخواته «أنّ» وما علمت فيه وفي القرآن «ما أن مفاتحه» . وهو جمع مفتح، ومن قال: مفتاح قال: مفاتيح لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أحسن ما قيل فيه أن المعنى لتنيء العصبة أي تميلهم من ثقلها. كما يقال: ذهبت به وأذهبته، وجئت به وأجأته، وأنأته ونؤت به. فأما قولهم: له عندي ما ساءه وناءه فهو إتباع كان يجب أن يقال: وأناءه ومثله يقال: هنأني الشيء ومرأني وأخذه ما قدم وما حدث. إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ تأوله الفراء «1» على أن موسى صلّى الله عليه وسلّم هو الذي قال له وحده فجمع، ومثله عنده الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران: 173] وإنما هو نعيم ابن مسعود رجل من أشجع وحده. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: غير هذا، وينكر ما قال الفراء لأنه بطلان البيان. قال: وإنما هذا على أن نعيما قاله ومن يذهب مذهبه. لا تَفْرَحْ تأوله أبو إسحاق على أنّ المعنى لا تفرح بالمال لأنّ الفرح لا يؤدي فيه الحق. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ فرّق الفراء «2» بين الفرحين والفارحين، وزعم أن الفرحين الذين هم في حال الفرح وأن الفارحين الذين يفرحون في المستقبل، وزعم أن مثله طمع وطامع وميّت ومائت، وبذلك على خلاف ما قال قول الله جلّ وعزّ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] ولم يقل: مائت. [سورة القصص (28) : آية 78] قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي تأوله الفراء «3» على معنيين: أحدهما على فضل عندي، والآخر على علم فيما رأى، كما تقول: هذا كذا عندي، وقال أبو إسحاق:

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 311. (2) انظر معاني الفراء 2/ 311. (3) انظر معاني الفراء 2/ 311.

[سورة القصص (28) : آية 82]

المعنى: إنما أوتيته على علم بالتوراة، لأنه كان عالما بها وأنكر قول من قاله إنه كان يعمل الكيمياء، قال: لأن الكيمياء باطل لا حقيقة له. [سورة القصص (28) : آية 82] وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) أحسن ما قيل في هذا قول الخليل رحمه الله ويونس وسيبويه والكسائي: إنّ القوم تنبّهوا أو نبّهوا فقالوا وي، والمتندّم من العرب يقول في حال تندّمه: وي، وحكى الفراء «1» : أن بعض النحويين قال: إنّها ويك أي ويلك ثم حذفت اللام. قال أبو جعفر: وما أعلم جهة من الجهات إلّا هذا القول خطأ منها فمن ذلك أن المعنى لا يصحّ عليه لأن القوم لم يخاطبوا أحدا فيقولوا له ويلك، وكان يجب على قوله أن يكون «إنّه» بكسر «إنّ» لأن جميع النحويين يكسرون أنّ بعد ويلك، وأيضا فإنّ حذف اللام من ويل لا يجوز، وأيضا فليس يكتب: هذا ويك. [سورة القصص (28) : آية 83] تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قال الضحّاك: الجنّة. [سورة القصص (28) : آية 84] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها قال عكرمة: ليس شيء خيرا من «لا إله إلّا الله» ، وإنما المعنى: من جاء بلا إله إلا الله، فله خير. [سورة القصص (28) : آية 88] وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ استثناء. قال أبو إسحاق: ولو كان في غير القرآن لجاز إلا وجهه بمعنى كلّ شيء غير وجهه هالك، كما قال: [الوافر] 327- وكلّ أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلّا الفرقدان «2» والمعنى: وكلّ أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بمعنى وترجعون إليه.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 312. (2) مرّ الشاهد رقم (205) . [.....]

29 شرح إعراب سورة العنكبوت

29 شرح إعراب سورة العنكبوت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) أَنْ الأولى في موضع نصب بحسب وهي وصلتها مقام المفعولين على قول سيبويه وأَنْ الثانية في موضع نصب على إحدى جهتين بمعنى لأن يقولوا وبأن يقولوا وعلى أن يقولوا، والجهة الأخرى أن يكون التقدير أحسبوا أن يقولوا. [سورة العنكبوت (29) : آية 3] وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ فيه قولان: أحدهما أن يكون صدقوا مشتقّا من الصدق، والكاذبين مشتقّا من الكذب الذي هو ضدّ الصدق، ويكون المعنى: فليبيننّ الله الذين صدقوا، فقالوا نحن مؤمنون واعتقدوا مثل ذلك، والذين كذبوا حين اعتقدوا غير ذلك وصدقوا في قولهم نحن نصبر ونثبت مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الحرب ويعلم الذين كذبوا، والقول الآخر أن يكون صدقوا مشتقّا من الصدق، وهو الصلب، والكاذبين من كذب إذا انهزم، فيكون المعنى: فليعلمنّ الله الذين ثبتوا في الحرب والذين انهزموا، كما قال: [البسيط] 328- ليث بعثر يصطاد الرّجال إذا ... ما الّليث كذّب عن أقرانه صدقا «1» وجعلت فليعلمنّ في موضع ليبيّننّ مجازا. [سورة العنكبوت (29) : آية 4] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) ساءَ ما يَحْكُمُونَ قدّر أبو إسحاق «ما» تقديرين أحدهما أن تكون في موضع

_ (1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 54، ولسان العرب (كذب) و (عثر) ، والتنبيه والإيضاح 2/ 161، وتهذيب اللغة 10/ 174، وجمهرة اللغة 421، وتاج العروس (كذب) ، و (عثر) ، وبلا نسبة في ديوان الأدب 1/ 84.

[سورة العنكبوت (29) : آية 5]

نصب بمعنى: ساء شيئا يحكمون، والتقدير الآخر أن يكون «ما» في موضع رفع بمعنى ساء الشيء حكمهم وقدرها أبو الحسن بن كيسان تقديرين آخرين سوى ذينك: أحدهما أن يكون «ما» مع يحكمون بمنزلة شيء واحد، كما تقول: أعجبني ما صنعت أي صنيعك، قال: وإن قلت ساء صنيعك لم يجز، والتقدير الآخر أن يكون «ما» لا موضع لها من الإعراب وقد قامت مقام الاسم لساء، وكذا نعم وبئس. قال أبو الحسن بن كيسان: وأنا أختار أن أجعل لما موضعا في كلّ ما أقدر عليه نحو قول الله جلّ وعزّ فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران: 159] ، وكذا فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [النساء: 155] ، وكذا: أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ [القصص: 28] «ما» في موضع خفض في هذا كلّه وما بعدها تابع لها، وكذا إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً [البقرة: 26] «ما» في موضع نصب وبعوضة تابعة لها. [سورة العنكبوت (29) : آية 5] مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أهل التفسير على أنّ المعنى: من كان يخاف الموت فليفعل عملا صالحا فإنه لا بدّ أن يأتيه، و «من» في موضع رفع بالابتداء، و «كان» في موضع الخبر وفي موضع جزم بالشرط و «يرجو» في موضع خبر كان، والمجازاة فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ. [سورة العنكبوت (29) : آية 8] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً قال أبو إسحاق: مثل ووصينا الإنسان بوالديه ما يحسن، قال: رويت إحسانا، والمعنى: ووصّينا الإنسان بوالديه أن يحسن إليهما إحسانا. [سورة العنكبوت (29) : آية 11] وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) قيل: معناه يبيّن أمرهم لأن المبيّن للأمر هو العالم به. [سورة العنكبوت (29) : آية 12] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا قال أبو إسحاق: أي الطريق الذي نسلكه في ديننا. وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ قال: هو أمر في تأويل شرط وجزاء أي إن تتّبعوا سبيلنا حملنا خطاياكم، كما قال: [الوافر]

[سورة العنكبوت (29) : آية 13]

329- فقلت ادعي وأدعو إنّ أندى ... لصوت أن ينادي داعيان «1» أي: إن دعوت دعوت، ويجوز «وليحمل» بكسر اللام وهو الأصل إلّا أن الكسرة حذفت استخفافا، حقيقة المعنى: - والله أعلم- اتّبعوا سبيلنا ونحن لكم بمنزلة المأمورين في حمل خطاياكم إن كانت لكم خطايا كما تقول: قلّدني وزر هذا. [سورة العنكبوت (29) : آية 13] وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ جمع ثقل، والثقل في الأذن، وربما دخل أحدهما على الآخر. [سورة العنكبوت (29) : آية 14] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) في الكلام حذف، والمعنى: ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ليدعوهم إلى الإيمان فدعاهم إليه ألف سنة إلّا خمسين عاما، وأظهر البراهين فكذبوه، ودلّ على هذا الحذف فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ وإنّ هذه القصة قد ذكرت في غير موضع من القرآن أَلْفَ سَنَةٍ منصوب على الظرف إِلَّا خَمْسِينَ منصوب على الاستثناء من الموجب وهو عند سيبويه بمنزلة المفعول لأنه مستثنى عنه كالمفعول، وعند الفراء «2» بإن لأنها عنده «إن» دخلت عليها «لا» فالنصب عنده بإن، والرفع عنده بلا إذا رفعت. فأما أبو العباس محمد بن يزيد فهو عنده مفعول محض كأنك قلت عنده: استثنيت زيدا. قال أبو جعفر: ورأيت أبا إسحاق يذهب إلى أن قول أبي العباس هذا خطأ، ولا يجوز عنده فيه إلّا ما قال سيبويه. ونملي كلام أبي إسحاق في الاستثناء الذي ذكره في الآية نصّا لحسنه، وأنه قد شرح فيه أشياء من هذا الباب. قال أبو إسحاق: «الاستثناء في كلام العرب توكيد العدد وتحصيله» لأنك قد تذكر الجملة ويكون الحاصل أكثرها فإذا أردت التوكيد في تمامها قلت كلّها وإذا أردت التوكيد في نقصانها أدخلت فيها الاستثناء تقول: جاءني إخوتك، تعني أنّ جميعهم جاءك، وجائز أن تعني أن أكثرهم قد جاءك

_ (1) الشاهد للأعشى في الكتاب 3/ 47، والدرر 4/ 85 والرّد على النحاة ص 128، وليس في ديوانه، وللفرزدق في أمالي القالي 2/ 90، وليس في ديوانه، ولدثار بن شيبان النمري في الأغاني 2/ 159، وسمط اللآلي ص 726، ولسان العرب (ندى) وللأعشى أو للحطيئة أو لربيعة بن جشم في شرح المفصل 7/ 35، ولأحد هؤلاء الثلاثة أو لدثار بن شيبان في شرح التصريح 2/ 239، وشرح شواهد المغني 2/ 827، والمقاصد النحوية 4/ 392، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 2/ 864، والإنصاف 2/ 531، وأوضح المسالك 4/ 182، ومغني اللبيب 1/ 397، وهمع الهوامع 2/ 13. (2) انظر الإنصاف المسألة (34) ، وهمع الهوامع 1/ 224.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 15 إلى 16]

وإذا قلت: جاءني إخوتك كلّهم أكّدت معنى الجماعة وأعلمت أنه لم يتخلّف منهم أحد وتقول: جاءني إخوتك إلّا زيدا فتؤكد أن الجماعة تنقص زيدا، وكذلك رؤوس الأعداد تشبّه بالجماعات، تقول: عندي عشرة فجائز أن تكون ناقصة وجائز أن تكون تامة فإذا قلت: عندي عشرة إلّا نصفا أو عشرة كاملة أعلمت تحقيقها، وكذلك إذا قلت: لبث ألفا إلّا خمسين فهو كقولك: عشرة إلّا نصفا لأنك استعملت الاستثناء فيما كان أملك بالعشرة من التّسعة لأن النصف قد دخل في باب العاشر ولو قلت: عشرة إلّا واحدا أو إلّا اثنين كان جائزا وفيه قبح لأن تسعة وثمانية يؤدّي عن ذلك العدد ولكنه جائز من جهة التوكيد إنّ هذه التسعة لا تزيد ولا تنقص لأن قولك: عشرة إلّا واحدا قد أخبرت بحقيقة العدد فيه. والاختيار في الاستثناء في الأعداد التي هي عقود الكسور والصّحاح أن يستثنى. فأمّا استثناء نصف الشيء فقبيح جدا لا تتكلّم به العرب فإذا قلت عندي عشرة إلّا خمسة فليس تكون الخمسة مستثناة من العشرة لأنها ليست تقرب منها، وإنما يتكلّم بالاستثناء كما يتكلّم بالنقصان فتقول: عندي درهم ينقص قيراطا فلو قلت: عندي درهم ينقص خمسة الدوانيق أو ينقص نصفه كان الأولى بذلك عندي نصف درهم لأن نصف درهم لا يقع عليه اسم درهم وإخوتك يقع على بعضهم اسم الأخوة. فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ مشتق من طاف يطوف، وهو اسم موضع على ما أحاط بالأشياء من غرق أو قتل أو غيرهما وَهُمْ ظالِمُونَ ابتداء وخبر في موضع الحال. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 15 الى 16] فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ معطوف على الهاء. قال الكسائي: وَإِبْراهِيمَ منصوب بأنجينا. يعني أنه معطوف على الهاء، وأجاز أن يكون معطوفا على نوح، والمعنى وأرسلنا إبراهيم، وقول ثالث أن يكون منصوبا بمعنى: واذكر إبراهيم. [سورة العنكبوت (29) : آية 17] إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً نصب بتعبدون و «ما» كافّة، ولا يجوز أن يكون صلة لأن إنّ لا تقع على الفعل فإن كان بعد «ما» اسم فقلت: إنما زيد جالس، فما أيضا كافة، وأجاز بعض النحويين أن يكون صلة فتقول: إنما زيدا جالس. ويجوز في غير القرآن رفع أوثان على أن تجعل «ما» اسما لأن و «تعبدون» صلتها، وحذفت الهاء لطول الاسم، وجعلت أوثانا خبر إنّ. فأما وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً فهو منصوب بالفعل لا غير.

[سورة العنكبوت (29) : آية 22]

[سورة العنكبوت (29) : آية 22] وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ذكر أبو إسحاق فيه قولين: أحدهما أن المعنى: وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا أهل السماء، والآخر ولا لو كنتم في السماء. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يحكي عن محمد بن يزيد قال: المعنى وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا من في السماء على أن من ليست موصولة ولكن يكون نكرة ويكون في السماء من نعتها، ثم أقام النعت مقام المنعوت. قال أبو إسحاق: وهذا خطأ لأن من إذا كانت نكرة فلا بد من نعتها فقد صار بمنزلة الصلة لها فلا يجوز حذف الموصول وإبقاء الصلة وكذا نعتها إذا كان بمنزلة الصلة، ولكن الناس خوطبوا بما يعرفون، وعندهم أنه من كان في السماء فالوصول إليه أبعد، فالمعنى وما أنتم بمعجزين في الأرض ولو كنتم في السماء ما أعجزتم، ومثله أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78] . [سورة العنكبوت (29) : آية 24] فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ خبر كان، واسمها إِلَّا أَنْ قالُوا ويجوز رفع «جواب» تجعله اسم كان والخبر أَنْ قالُوا [سورة العنكبوت (29) : آية 25] وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ «1» بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا هذه قراءة الحسن ومجاهد وأبي عمرو والكسائي. قال أبو إسحاق: وقرئ مودّة بينكم «2» وقرأ أهل المدينة وعاصم وابن عامر مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ «3» وقرأ حمزة مودّة بينكم. القراءة الأولى برفع مودة فيها ثلاثة أوجه، ذكر أبو إسحاق منها وجهين: أحدهما أنها مرفوعة على خبر إنّ ويكون ما بمعنى الذي، والتقدير: إنّ الذي اتّخذتموه من دون الله أوثانا مودّة بينكم، والوجه الآخر أن يكون على إضمار مبتدأ أي هي مودّة أو تلك مودّة بينكم.

_ (1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 498، والبحر المحيط 7/ 144. (2) انظر تيسير الداني 140. (3) انظر تيسير الداني 140.

[سورة العنكبوت (29) : آية 27]

والمعنى: ألفتكم وجماعتكم مودّة بينكم، والوجه الثالث الذي لم يذكره أن يكون «مودّة» رفعا بالابتداء وفِي الْحَياةِ الدُّنْيا خبره، فأما إضافة مودّة إلى بينكم فإنه جعل بينكم اسما غير ظرف، والنحويون يقولون: جعله مفعولا على السعة، وحكى سيبويه: [الرجز] يا سارق الليلة أهل الدار «1» ولا يجوز أن يضاف إليه وهو ظرف لعلّة ليس هذا موضع ذكرها. والقراءة الثانية على أنه جعل بينكم ظرفا فنصبه. والقراءة الثالثة على أنه نصب مودّة لأنه جعلها مفعولا من أجلها، كما تقول: جئتك ابتغاء العلم وقصدت فلانا مودّة له. [سورة العنكبوت (29) : آية 27] وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا مفعولان قال أبو جعفر: قد ذكرناه وبيّنا معناه وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ليس «في الآخرة» داخلا في الضلة وإنما هو تبيين وقد ذكرناه في غير هذا الموضع بأكثر من هذا. [سورة العنكبوت (29) : آية 28] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ قال الكسائي: المعنى: وأنجينا لوطا أو أرسلنا لوطا. قال: وهذا الوجه أحبّ إليّ. [سورة العنكبوت (29) : آية 29] أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قراءة الكوفيين أَإِنَّكُمْ «2» في الأولى والثانية على الاستفهام، وكذا قراءة أبي عمرو إلّا أنه يخفّف، وقرأ نافع إنّكم «3» بغير استفهام في الأولى واستفهم في الثانية. وهذه القراءة على اتّباع السواد، وهي على الإلزام لا على الاستفهام. وكذا قال محمد بن يزيد في قول الشاعر: [الخفيف] : 330- ثمّ قالوا: تحبّها قلت: بهرا «4»

_ (1) الرجز بلا نسبة في الكتاب 1/ 233، وخزانة الأدب 3/ 108، والدرر 3/ 98، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 655، وشرح المفصل 2/ 45، والمحتسب 2/ 295، وهمع الهوامع 1/ 203. (2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 499، والبحر المحيط 7/ 145. (3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 499، والبحر المحيط 7/ 145. (4) الشاهد لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه 431، والأغاني 1/ 87، والدرر 3/ 63، وجمهرة اللغة 331، والخصائص 2/ 281، وشرح أبيات سيبويه 1/ 267، وشرح شواهد المغني ص 39، وشرح المفصل 1/ 121، ولسان العرب (بهر) ، وبلا نسبة في الكتاب 1/ 372، وأمالي المرتضى 1/ 345، وكتاب اللامات 124، وهمع الهوامع 1/ 188.

[سورة العنكبوت (29) : آية 33]

والقراءة الأولى عند أبي عبيد بعيدة للجمع بين الاستفهامين. قال أبو جعفر: وليس الأمر كذلك لأن هذا استفهام بعد استفهام وليس ينكر في مثل هذا استفهامان وقد شبّهه بما لا يشبهه ممّا ذكره في هذه السورة. [سورة العنكبوت (29) : آية 33] وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ عطف على الكاف في التأويل، ولا يجوز العطف على موضعها بغير تأويل لئلا يعطف ظاهر مخفوض على مكنيّ. إِلَّا امْرَأَتَكَ استثناء من موجب. [سورة العنكبوت (29) : آية 38] وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَعاداً وَثَمُودَ «1» قال الكسائي: قال بعضهم: هو راجع إلى أول السورة وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... وَعاداً وَثَمُودَ، قال: وأحبّ إليّ أن يكون على فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وأخذت عادا وثمودا. وزعم أبو إسحاق أن التقدير: وأهلكنا عادا وثمودا. وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ فيه قولان: أحدهما أنّ المعنى: وكانوا مستبصرين في الضلالة، والقول الآخر وكانوا مستبصرين أي قد عرفوا الحقّ من الباطل بظهور البراهين. وهذا القول أشبه- والله أعلم- لأنه إنما يقال: فلان مستبصر إذا عرف الشيء على الحقيقة، ومن كفر فلم يعرف الشيء على حقيقته فلا يخلو أمره من إحدى جهتين إمّا أن يكون معاندا وإما أن يكون قد ترك ما يجب عليه من الاستدلال وتعرّف الحقّ، وهو على أحد هذين يعاقب. [سورة العنكبوت (29) : آية 39] وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ قال الكسائي: إن شئت كان على عاد وكان فيه ما فيه وإن شئت كان على فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [النمل: 24] وصدّ قارون وفرعون وهامان.

_ (1) انظر تيسير الداني 141.

[سورة العنكبوت (29) : آية 40]

[سورة العنكبوت (29) : آية 40] فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ قال الكسائي: «فكلّا» منصوب بأخذنا. [سورة العنكبوت (29) : آية 41] مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ الكاف في موضع رفع على التأويل، لأنها خبر الابتداء في موضع نصب على الظرف. والعنكبوت مؤنّثة، وحكى الفراء «1» تذكيرها وأنشد: [الوافر] 331- على هطّالهم منهم بيوت ... كأنّ العنكبوت هو ابتناها «2» قال أبو جعفر: وفي جمع العنكبوت وجوه يقال: عناكب وعناكيب وعكاب وعكب وأعكب، وقد حكي أنّه يقال: عنكب. وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ قال الضحاك: ضرب مثلا لضعف آلهتهم ووهنها فشبّهها ببيت العنكبوت. [سورة العنكبوت (29) : آية 42] إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) قال: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ. أي ما تعبدون من دونه من شيء. قال أبو جعفر: «من» هاهنا للتبعيض ولو كانت زائدة للتوكيد لا نقلب المعنى. [سورة العنكبوت (29) : آية 45] اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) مذهب أبي العالية أن المعنى إن مما يتلى في الصلاة، والتقدير على هذا إن تلاوة الصلاة مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . قال أبو جعفر: وقد ذكرنا غير هذا. وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مذهب الضحّاك أن المعنى: ولذكر الله عند ما يحرم فيترك أجلّ الذكر، وقيل: المعنى: ولذكر الله النهي عن الفحشاء والمنكر أكبر أي كبير، وأكبر يكون بمعنى كبير.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 317. (2) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (عنكب) و (هطل) ، وتهذيب اللغة 3/ 309، والمخصص 17/ 17، وديوان الأدب 1/ 329، وتاج العروس (عنكب) و (هطل) ، ومعاني القرآن للفراء 2/ 317.

[سورة العنكبوت (29) : آية 46]

[سورة العنكبوت (29) : آية 46] وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بدل من أهل، ويجوز أن يكون استثناء. [سورة العنكبوت (29) : آية 48] وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) فجعل الله جلّ وعزّ هذا دليلا على نبوته لأنه لا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكّة أهل الكتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم، وزالت الريبة والشك بهذه الأشياء. [سورة العنكبوت (29) : آية 49] بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ أي بل الكتاب، وزعم الفراء «1» أنّ في قراءة عبد الله بل هي آيات بينات بمعنى بل آيات القرآن آيات بينات، قال: ومثله هذا بَصائِرُ [الجاثية: 20] ولو كانت هذه لجاز، ونظيره هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي [الكهف: 89] . [سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 51] وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ وكان طلبهم لهذا تعنّتا وتهزّؤا لأنه قد ظهر من الآيات ما فيه كفاية فكان هذا مما لا نهاية له فأمر أن يقول لهم إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي يأتي منها بما فيه الصلاح. وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ قيل: معناه يبيّن لهم ما يجب عليهم وبيّن الأول بقوله: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ «أنّا» في موضع رفع بيكفي. [سورة العنكبوت (29) : آية 60] وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) هذه «أيّ» دخلت عليها كاف التشبيه فصار فيها معنى «كم» والتقدير عند الخليل وسيبويه «2» رحمهما الله كالعدد. وشرح هذا أبو الحسن بن كيسان فقال. أيّ شيء من الأشياء، فالمعنى على قول الخليل وسيبويه: كشيء كثير من العدد، قال: ولهذا قال

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 317. [.....] (2) انظر الكتاب 2/ 173.

[سورة العنكبوت (29) : آية 66]

الكسائي: الأصل في «كم» كما فإذا قلت: كم مالك؟ فالمعنى: كأي شيء من العدد مالك، قال: ومثل ذلك في الإبهام: له كذا وكذا درهما، أي له كالعدد المذكور أو المشار إليه ثم كثر استعمالهم لذلك حتى قالوا: له كذا وإن لم يتقدّم شي ولم يشر إلى شيء. فإذا قلت: له عندي كذا درهما، وجب له عند الكوفيين أحد عشر درهما، فإذا قلت: له عندي كذا وكذا درهما، وجب له أحد وعشرون درهما، وإذا قلت: له عندي كذا درهم كانت مائة، وإذا قلت: كذا دراهم كانت ثلاثة، ولا يجوز عند البصريين الخفض بوجه، وهي عندهم مبهمة يقع للقليل والكثير، وزعم أبو عبيدة أن الحيوان والحياة والحيّ واحد. وغيره يقول: إنّ الحيّ جمع على فعول مثل عصيّ. [سورة العنكبوت (29) : آية 66] لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) وَلِيَتَمَتَّعُوا لام كي، ويجوز أن تكون لام أمر، لأن أصل لام الأمر الكسر إلّا أنه أمر فيه معنى التهديد. ومن قرأ وليتمتّعوا «1» بإسكان اللام لم يجعلها لام كي، لأن لام كي لا يجوز إسكانها. [سورة العنكبوت (29) : آية 69] وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ لام توكيد، ودخلت اللام في مع على أحد أمرين منهما أن تكون اسما ولام التوكيد إنما تدخل على الأسماء ومنها أن تكون حرفا فتدخل عليها لأن فيها معنى الاستقرار، كما تقول: إنّ زيدا لفي الدار و «مع» إذا سكنت فهي حرف لا غير، وإذا فتحت جاز أن تكون اسما وأن تكون حرفا، والأكثر أن تكون حرفا جاء لمعنى إلّا أنها فتحت لما وقع فيها مما ليس في أخواتها.

_ (1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 502، والبحر المحيط 7/ 155.

30 شرح إعراب سورة الروم

30 شرح إعراب سورة الرّوم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) قال أبو جعفر: هذه قراءة أكثر الناس، وروي عن أبي عمرو وأبي سعيد الخدري أنهما قرءا الَم غَلبَتِ الرُّومُ «1» وقرءا سَتُغْلَبُونَ «2» ، وحكى أبو حاتم أن عصمة روى عن هارون أن هذه قراءة أهل الشام، وأحمد بن حنبل يقول: إن عصمة هذا ضعيف، وأبو حاتم كثير الرواية عنه والحديث يدلّ على أن القراءة غُلِبَتِ بضم الغين وكان في هذا الإخبار دليل على نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، لأن الروم غلبتها فارس فأخبر الله جلّ وعزّ أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، وأن المؤمنين يفرحون بذلك لأن الروم أهل كتاب فكان هذا من علم الغيب الذي أخبر الله جلّ وعزّ به مما لم يكن وأمر أبا بكر رضي الله عنه أن يراهنهم على ذلك، وأن يبالغ في الرهان ثم حرم الرهان ونسخ بتحريم القمار وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ زعم الفراء «3» أن الأصل من بعد غلبتهم فحذفت التاء كما حذفت في قوله: وَأَقامَ الصَّلاةَ [النور: 37] ، وهذا غلط لا يخفى على كثير من أهل النحو لأن «أقام الصلاة» مصدر حذف منه لاعتلال فعله فجعلت التاء عوضا من المحذوف، و «غلب» ، ليس بمعتل ولا حذف منه شيء وقد حكى الأصمعي: طرد طردا وحلب حلبا وغلب غلبا فأيّ حذف في هذا، وهل يجوز أن يقال: في أكل أكلا وما أشبهه حذف منه. [سورة الروم (30) : آية 4] فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) فِي بِضْعِ سِنِينَ حذفت الهاء من بضع فرقا بين المذكّر والمؤنّث، وفتحت النون من سنين لأنه جمع مسلّم، ومن العرب من يقول في بضع سنين كما يقول: من غسلين

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 319. (2) انظر البحر المحيط 7/ 157. (3) انظر معاني الفراء 2/ 319.

وإن جاز فجمع سنة بالواو والنون والياء والنون، لأنه قد حذف منها شيء فجعل هذا الجمع عوضا، وكسرت السين وكانت مفتوحة في سنة لأن الكسرة جعلت دليلا على أنه جمع على غير ما يجب له. هذا قول البصريين، ويلزم الفراء أن يضمّها إلّا أنّه يقول: الضمّة دليل على الواو، وقد حذف من سنة واو في أحد القولين ولا يضمها أحد علمناه. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ويقال: من قبل ومن بعد، وحكى الكسائي عن بعض بني أسد. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ «1» الأول مخفوض منون والثاني مضموم بلا تنوين. وحكى الفراء «2» ، «من قبل ومن بعد» مخفوضين بغير تنوين، وللفراء في هذا الفصل من كتابه في القرآن أشياء كثيرة، الغلط فيها بيّن فمنها أنه زعم أنه يجوز «من قبل ومن بعد» كما قال الشاعر: [مجزوء الكامل] 332- إلّا علالة أو بداهة ... سابح نهد الجزاره «3» وكما قال: [المنسرح] 333- يا من رأى عارضا أكفكفه ... بين ذراعي وجبهة الأسد «4» والغلط في هذا بيّن لأنه ليس في القرآن لله الأمر من قبل ومن بعد ذلك، فيكون مثل قوله: «بين ذراعي وجبهة الأسد» ألا ترى أنك تقول: أخذته بنصف وربع الدرهم، ولا يجوز أخذته بنصف وربع، وتقول: قطع الله يد ورجل زيد. ولا يجوز يد ورجل، على أنّ هذا أيضا ليس بكثير في كلام العرب وإنما يحمل كتاب الله على الكثير والفصيح، ولا يجوز أن يقاس عليه ما لا يشبهه، ولو قلت: اشتريت دار وغلام عمرو، لم يجز عند أحد علمناه ومن ذلك أنه زعم أنه يجوز من قبل ومن بعد وأنت تريد الإضافة وهذا نقض الباب كلّه لأن الضمّ إنما كان فيه لعدم الإضافة وإرادتها، فإذا خفضت وأنت تريدها تناقض الكلام وإنما يجوز «من قبل ومن بعد» على

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 320. (2) انظر معاني الفراء 2/ 320. (3) الشاهد للأعشى في ديوانه ص 209، والكتاب 1/ 237، وخزانة الأدب 1/ 172، والخصائص 2/ 407، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 298، وشرح أبيات سيبويه 1/ 114، وشرح المفصل 3/ 22، والشعر والشعراء 1/ 163، ولسان العرب (جزر) ، و (علل) و (بده) ، والمقاصد النحوية 3: 453، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 2/ 626، ورصف المباني 358، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 118، والمقتضب 4/ 228 والمقرب 1/ 180. (4) الشاهد للفرزدق في ديوانه 215، والكتاب 1/ 239، وخزانة الأدب 2/ 319، وشرح شواهد المغني 2/ 799، وشرح المفصل 3/ 21 والمقاصد النحوية 3/ 451، والمقتضب 4/ 229، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 100، وتخليص الشواهد 87، وخزانة الأدب 10/ 187، والخصائص 2/ 407، ورصف المباني ص 341، وسرّ صناعة الأعراب 297، وشرح الأشموني 2/ 336، وشرح عمدة الحافظ 502، ولسان العرب (بعد) و (يا) .

[سورة الروم (30) : آية 6]

أنهما نكرتان. قال أبو إسحاق: والمعنى من متقدّم ومن متأخّر، ومنها أنه شبّه من قبل ومن بعد بقولهم: من عل، وأنشد: [الرجز] 334- إن تأت من تحت أجئها من عل «1» وليس من قبل ومن بعد من باب من عل. قال سيبويه «2» : ولم يسكنوا من الأسماء ما ضارع المتمكّن ولا ما جعل في موضع بمنزلة غير المتمكّن. فالمضارع «من عل» حرّكوه لأنهم يقولون: من عل فأما التمكّن الذي جعل بمنزلة غير المتمكن فقولهم: أبدأ بهذا أول ويا حكم، أفلا ترى أن سيبويه لحذفه قد فصل بين «من عل» وبين «أول» ثم جاء الفراء فجمع بينهما، وأنشد الذي ذكرناه، وأنشد: [الطويل] 335- فو الله ما أدري وإنّي لأوجل ... على أيّنا تعدو المنيّة أوّل «3» فخلط الجميع في الباب وجاء بهما في «قبل وبعد» وأحدهما مخالف لقبل وبعد. فأما الكلام في قبل وبعد على مذهب سيبويه وعلى مذهب البصريين إنّ سبيلهما أن لا يعربا لأنهما قد كانتا حذف منهما المضاف إليه والإضافة فصارتا معرفتين من غير جهة التعريف فزال تمكّنهما فلم يخليا من حركة لأنهما قد كانتا معربتين فاختير لهما الضم لأنه قد يلحقهما بحقّ الإعراب الجرّ والنصب فأعطيتا غير تينك الحركتين فضمّتا إلّا أن أبا العباس محمد بن يزيد قال: لمّا كانتا غايتين أعطيتاه ما هو غاية الحركات. وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ في معناه قولان: أحدهما أنهم فرحون بغلبة الروم فارس لأن الروم أهل كتاب فهم إلى المسلمين أقرب من الأوثان، والقول الآخر وهو أولى أنّ فرحهم إنما هو لإنجاز وعد الله جلّ وعزّ إذ كان فيه دليل على النبوة لأنه أخبر جلّ وعزّ بما يكون في بضع سنين فكان فيه. [سورة الروم (30) : آية 6] وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) مصدر مؤكّد. قال أبو إسحاق: ويجوز وَعْدَ اللَّهِ بالرفع بمعنى ذلك وعد الله. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وهم الكفار وهم أكثر. [سورة الروم (30) : آية 7] يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثم بيّن ما يجهلونه بقوله: وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ «هم» الأول ابتداء والثاني ابتداء ثان والجملة خبر الأول، وفي الكلام معنى التوكيد،

_ (1) الرجز بلا نسبة في معاني الفراء 2/ 319، وتهذيب اللغة 2/ 244، ولسان العرب (بعد) . (2) انظر الكتاب 3/ 319. (3) مرّ الشاهد رقم (14) .

[سورة الروم (30) : آية 8]

ويجوز أن يكون «هم» الثاني بدلا من الأول كما تقول: رأيته إياه، وفي الكلام أيضا معنى التوكيد. [سورة الروم (30) : آية 8] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ اللام للتوكيد، والتقدير: لكافرون بلقاء ربّهم على التقديم والتأخير وعلى هذا تقول: إنّ زيدا في الدار لجالس، ولو قلت: إنّ زيدا لفي الدار لجالس، لجاز، فإن قلت: إنّ زيدا جالس لفي الدار. لم يجز لأن اللام إنما يؤتى بها توكيدا لاسم إنّ وخبرها، فإذا جئت بهما لم يجز إن تأتي بها وكذا إن قلت: إنّ زيدا لجالس لفي الدار لم يجز. [سورة الروم (30) : آية 9] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) وَأَثارُوا الْأَرْضَ لأن أهل مكة لم يكونوا أصحاب حرب. [سورة الروم (30) : آية 10] ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ «1» اسم كان وذكرت لأن تأنيثها غير حقيقي. السُّواى خبر كان ومن نصب عاقِبَةَ جعل «السّوأى» اسم كان، وروي عن الأعمش أنه يقرأ ثمّ كان عاقبة الذين أساؤا السّوء «2» برفع السوء. أَنْ كَذَّبُوا في موضع نصب، والمعنى: لأن كذّبوا. [سورة الروم (30) : آية 12] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي (يبلس) «3» بفتح اللام والمعروف في اللغة أبلس الرجل. إذا سكت وانقطعت حجّته ولم يؤمّل أن تكون له حجة، وقريب منه تحيّر، كما قال الراجز: 336- قال: نعم أعرفه وأبلسا «4»

_ (1) انظر تيسير الداني 141، وكتاب السبعة لابن مجاهد 506. (2) انظر البحر المحيط: 7/ 160. [.....] (3) انظر البحر المحيط 7/ 160، ومعاني الفراء 2/ 323. (4) الرجز للعجاج في ديوانه 1/ 185، ولسان العرب (بلس) والتنبيه والإيضاح 2/ 262، وتهذيب اللغة 12/ 442، وتاج العروس (بلس) و (عجنس) و (كرس) و (وكف) ، وجمهرة اللغة 719، وأساس البلاغة (بجس) ، وبلا نسبة في لسان العرب (صلب) ، ومقاييس اللغة 5/ 169، والمخصّص 1/ 126، وتاج العروس (صلب) ، وتهذيب اللغة 10/ 53. وقبله: «يا صاح هل تعرف رسما مكرسا»

[سورة الروم (30) : آية 13]

وقد زعم بعض النحويين أنّ «إبليس» مشتقّ من هذا وأنه أبلس أي انقطعت حجّته، ولو كان كما قال لوجب أن ينصرف وهو في القرآن غير منصرف فاحتجّ بعضهم بأنه اسم ثقل لأنه لم يسمّ به غيره. [سورة الروم (30) : آية 13] وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ قيل: يعني بشركائهم ما عبدوه من دون الله جلّ وعزّ. وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ قالوا: ليسوا بآلهة. [سورة الروم (30) : آية 15] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا سمعت أبا إسحاق يقول: معنى «أمّا» دع ما كنّا فيه وخذ في غيره، وكذا قال سيبويه: إنّ معناها مهما يكن من شيء أي مهما يكن من شيء فخذ في غير ما كنّا فيه. الَّذِينَ آمَنُوا في موضع رفع بالابتداء فَهُمْ ابتداء ثان وما بعده خبر عنه والجملة خبر «الذين» . قال الضحاك: فِي رَوْضَةٍ في جنة. والرياض الجنات. وقال أبو عبيدة: الروضة ما كان في تسفّل فإن كان مرتفعا فهو ترعة، وقال غيره: أحسن ما تكون الروضة إذا كانت في موضع مرتفع غليظ، كما قال الأعشى: [البسيط] 337- ما روضة من رياض الحزن معشبة «1» إلّا أنه لا يقال: لها روضة إلّا إذا كان فيها نبت فإن لم يكن فيها نبت وكانت مرتفعة فهي ترعة وقد قيل في الترعة غير هذا. قال الضحّاك: «يحبرون» يكرمون. حكى الكسائي حبرته أي أكرمته ونعمته. قال أبو جعفر: سمعت علي بن سليمان يقول: هو مشتق من قولهم: على أسنانه حبرة أي أثر فيحبرون أي يتبيّن عليهم أثر النعيم، الحبر مشتقّ من هذا. [سورة الروم (30) : آية 17] فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) أهل التفسير على أنّ هذا في الصلوات. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: حقيقته عندي فسبّحوا الله في الصلوات لأن التسبيح يكون في الصلاة، وعن

_ (1) الشاهد للأعشى في ديوانه 107، ولسان العرب (تدع) ، و (هطل) ، و (حزن) ، وتهذيب اللغة 2/ 266، وتاج العروس (حزن) ، وعجزه: «خضراء جاد عليها مسبل هطل»

[سورة الروم (30) : آية 18]

عكرمة أنه قرأ فسبحان الله حينا تمسون وحينا تصبحون «1» وهو منصوب على الظرف، والمعنى: حينا تمسون فيه وحينا تصبحون حتى يعود على حين من نعمته شيء، ومثله في القرآن يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة: 48] قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: حروف الخفض لا تحذف ولكن تقدّر فيه الهاء فقط. [سورة الروم (30) : آية 18] وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) وَلَهُ الْحَمْدُ ويجوز النصب على المصدر. [سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 21] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أَنْ في موضع رفع بالابتداء، وكذا أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها. وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً روي عن ابن عباس المودّة حبّ الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها سوء. [سورة الروم (30) : آية 22] وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) بيّن جلّ وعزّ آياته الدالة عليه بخلق السّموات والأرض واختلاف اللسان في الفم واختلاف اللغات واختلاف الألوان والصور على كثرة الناس فما تكاد ترى أحدا إلا وأنت تفرق بينه وبين الآخر، فهذا من أدلّ دليل على المدبّر والباري لأن من صنع شيئا غيره لم يكن فيه هذا التفريق. [سورة الروم (30) : آية 25] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ أي تقوم بلا عمد بقدرته، وجعله أمرا مجازا كما يقال: هذا أمر عظيم. وفي معنى يَسْمَعُونَ قولان: يقبلون مثل قوله: سمع الله لمن حمده، والآخر

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 162، ومختصر ابن خالويه 116.

[سورة الروم (30) : آية 26]

أنّ منهم من كان إذا تلي القرآن وهو حاضر سدّ أذنيه لئلّا يسمع فلمّا بيّن جلّ وعزّ الدلالة عليه قال: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ أي الذي فعل هذه الأشياء قادر على أن يبعثكم، وأجمع القراء على فتح التاء هاهنا في «تخرجون» واختلفوا في التي في «الأعراف» فقرأ أهل المدينة وَمِنْها تُخْرَجُونَ [الأعراف: 25] ، وقرأ أهل العراق بالفتح، وإليه يميل أبو عبيد والمعنيان متقاربان إلّا أن أهل المدينة فرقوا بينهما لنسق الكلام، فنسق الكلام في التي في «الأعراف» بالضم أشبه إذ كان الموت ليس من فعلهم، فكذا الإخراج والفتح في سورة الروم أشبه بنسق الكلام أي إذا دعاكم خرجتم أي أطعتم فالفعل بهم أشبه. [سورة الروم (30) : آية 26] وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) قال أبو الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ قنوت في القرآن فهو طاعة» «1» قال أبو جعفر: المعنى كلّ من في السّموات والأرض له مطيعون طاعة انقيادهم على ما شاء من صحّة وسقم وغنى وفقر، وليست هذه الطاعة التي يجازون عليها. [سورة الروم (30) : آية 27] وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وقد ذكرناه. وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي ما أراده جلّ وعزّ كان، وقال الخليل رحمه الله: المثل الصفة. [سورة الروم (30) : آية 28] ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) شُرَكاءَ في موضع رفع ومِنْ زائدة للتوكيد. فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ مبتدأ وخبر وليست سواء هاهنا التي تكون ظرفا. تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ نصب بالفعل والكاف والميم في موضع خفض، وهي أيضا في موضع رفع في التأويل كما تقول: عجبت من ضربكم عمرا. ويجوز من ضربكم عمرو لأن المصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول به، وتقول: عجبت من وقع أنيابه بعضها على بعض، وإن شئت رفعت لأن أنيابه في موضع رفع في التأويل إلّا أن الرفع في الظاهر قبيح عند الكوفيين، فإن قلت: عجبت من وقعها بعضها على بعض، حسن الرفع عند الجميع كَذلِكَ الكاف في موضع نصب، والتقدير: نفصّل الآيات تفصيلا كذلك.

_ (1) انظر تفسير القرطبي 14/ 20، و 15/ 239.

[سورة الروم (30) : آية 29]

[سورة الروم (30) : آية 29] بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ جمع هوى لأنّ أصله فعل. [سورة الروم (30) : آية 30] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي اجعل جهتك للدين. حَنِيفاً على الحال. قال الضحاك: «حنيفا» مسلما حاجا. قال وفِطْرَتَ اللَّهِ دين الله. قال أبو إسحاق: «فطرة الله» نصب بمعنى اتّبع فطرة الله، قال: لأن معنى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ اتبع الدين واتبع فطرة الله. قال محمد بن جرير: «فطرة» مصدر من معنى فأقم وجهك لأن معنى ذلك فطر الله الناس على ذلك فطرة. وقد ذكرنا فطرة الله بأكثر من هذا في «المعاني» ، والحديث «كل مولود يولد على الفطرة» ، وقول الفقهاء فيه. وقد قيل: معناه يولد على الخلقة التي تعرفونها، وقيل: معنى فطرة الله التي فطر الناس عليها أي اتّبعوا دين الله الذي خلق الناس له. وسمّيت الفطرة دينا لأن الناس يخلقون له قال جلّ وعزّ وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] واحتجّ قائل بقوله جلّ وعزّ: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: 7] . [سورة الروم (30) : آية 31] مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ منصوب على الحال. قال محمد بن يزيد: لأن معنى «فأقم وجهك» : وفأقيموا وجوهكم. وهو قول أبي إسحاق واحتج بقوله جلّ وعزّ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: 1] ، وقال الفراء «1» : المعنى فأقم وجهك ومن معك منيبين ورد أبو العباس قول من قال: التقدير لا يعلمون منيبين لأن معنى منيبين راجعون فكيف لا يعلمون راجعين، وأيضا فإن بعده وَاتَّقُوهُ وإنما معناه فأقيموا وجوهكم واتّقوه وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. [سورة الروم (30) : آية 32] مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ تأولته عائشة رضي الله عنها وأبو هريرة وأبو أمامة رحمهما الله على أنه لأهل القبلة، وقال الربيع بن أنس: الذين فرقوا دينهم أهل الكتاب. وفارقوا دينهم تركوا دينهم الذي يجب أن يتبعوه، وهو التوحيد. وَكانُوا شِيَعاً أي فرقا. كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ قيل: هم فرحون لأنهم لم يتبيّنوا الحق

_ (1) مرّ في إعراب الآية 9: مريم.

[سورة الروم (30) : آية 33]

وعليهم أن يتبيّنوه، وقيل: هذا قبل أن تظهر البراهين، وقول ثالث أنّ العاصي لله جلّ وعزّ قد يكون فرحا بمعصيته، وكذلك الشيطان، وقطّاع الطريق وغيرهم، والله أعلم. وزعم الفراء «1» أنه يجوز أن يكون التمام «ولا تكونوا من المشركين» ويكون المعنى «من الذين فارقوا دينهم» وَكانُوا شِيَعاً على الاستئناف، وأنه يجوز أن يكون متصلا بما قبله، قال أبو جعفر: إذا كان متصلا بما قبله فهو عند البصريين على البدل بإعادة الحرف كما قال جلّ وعزّ: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الأعراف: 75] ولو كان بلا حرف لجاز. [سورة الروم (30) : آية 33] وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ على الحال، وعن ابن عباس أي مقبلين إليه بكلّ قلوبهم. [سورة الروم (30) : آية 34] لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ لام كي، وقيل: هي لام أمر فيه معنى التهديد، كما قال جلّ وعزّ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] وكما تقول «2» : كلّم فلانا حتى نرى ما يلحقك منّي وكذا فَتَمَتَّعُوا، ودلّ على ذلك فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. [سورة الروم (30) : آية 35] أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً استفهام فيه معنى التوقيف. قال الضحّاك: «سلطانا» أي كتابا، وزعم الفراء أن العرب تؤنّث السلطان، وتقول: قضت به عليك السلطان. فأما البصريون فالتذكير عندهم أفصح، وبه جاء القرآن، والتأنيث جائز عندهم لأنه بمعنى الحجّة. وقولنا سلطان معناه صاحب سلطان أي صاحب الحجّة إلّا أن محمد بن يزيد قال غير هذا فيما حكى لنا عنه علي بن سليمان قال: سلطان جمع سليط كما تقول: رغيف ورغفان، فتذكيره على معنى الجميع وتأنيثه على معنى الجماعة. [سورة الروم (30) : آية 36] وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ التقدير عند سيبويه قنطوا فلهذا كان جواب الشرط. [سورة الروم (30) : آية 38] فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ تأوله مجاهد وقتادة على أنه قريب الرجل، وجعلا صلة

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 325. (2) انظر معاني الفراء 2/ 325.

[سورة الروم (30) : آية 41]

الرحم فرضا من الله جلّ وعزّ حتى قال مجاهد: لا يقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجة، وقيل: ذو القربى القربى بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وحقّه مبيّن في قوله جلّ وعزّ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى [الأنفال: 41] ، «وابن السبيل» الضيف فجعل الضيافة فرضا، فَأُولئِكَ مبتدأ وهُمُ مبتدأ ثان الْمُضْعِفُونَ خبر الثاني والجملة خبر الأول، وفي معنى المضعفين قولان: أحدهما تضاعف لهم الحسنات والآخر أنه قد أضعف لهم الخير والنعيم أي هم أصحاب أضعاف، كما يقال: فلان مقو أي له أصحاب أقوياء، ويقال: فلان رديء مردئ أي هو رديء في نفسه وأصحابه أردياء. [سورة الروم (30) : آية 41] ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ في معناه قولان: أحدهما ظهر الجدب في البر أي في البوادي وقرأها: وفي البحر أي في مدن البحر مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] أي ظهر قلّة الغيث وغلاء السعر بما كسبت أيدي الناس من المعاصي لنذيقهم عقاب بعض الذي عملوا ثم حذف. والقول الآخر: أنّ معنى ظَهَرَ الْفَسادُ ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم فهذا هو الفساد على الحقيقة. والأول مجاز إلّا أنه على الجواب الثاني يكون في الكلام حذف واختصار دلّ عليه ما بعده. ويكون المعنى ظهرت المعاصي في البر والبحر فحبس الله عنهم الغيث وأغلى سعرهم ليذيقهم عقاب بعض ما عملوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وروى داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس «لعلهم يرجعون» لعلهم يتوبون. فأما قوله جلّ وعزّ: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ فقد ذكرنا قول العلماء فيه أنه أن يهدي الرجل إلى الرجل الهدية يريد عليها المكافأة ولا يريد الثواب فذلك مباح إلّا أنه لا يثاب عليه لأنه لم يقصد به ثواب الله جلّ وعزّ غير أنّ الضحاك قال: نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك خاصة بقوله جلّ وعزّ: لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر: 6] وقد قيل: معنى وما آتيتم من ربا هو الربا الذي لا يحلّ، وقال قائل هذا القول: معنى فلا يربو عند الله فلا يحكم به لآخذه لأنه ليس له وإنما هو للمأخوذ منه. وتثنية الربا ربوان، كذا قول سيبويه «1» ، ولا يجوز عند أصحابه غيره. وسمعت أبا إسحاق يقول: وذكر قول الكوفيين- لا يكفيهم في قولهم ربيان أن يخطئوا في الخطّ فيكتبوا الربا بالياء حتى يخطئوا في التثنية واستعظم هذا، وقد قال الله جلّ وعزّ: لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ، فهذا

_ (1) انظر الكتاب 3/ 428.

[سورة الروم (30) : آية 43]

أبين أنه من ذوات الواو، وأن القول كما قال أبو إسحاق. [سورة الروم (30) : آية 43] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي لا يردّه الله جلّ وعزّ عنهم فإذا لم يردّه لم يتهيّأ لأحد دفعه، ويجوز عند غير سيبويه «1» «لا مردّ له» وذلك عند سيبويه بعيد إلّا أن يكون في الكلام عطف. يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ الأصل يتصدّعون أدغمت التاء في الصاد لقربها منها، ويقال: تصدّع القوم، إذا تفرقوا ومنه اشتق الصّداع لأنه يفرق شعب الرأس. [سورة الروم (30) : آية 47] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) كانَ حَقًّا عَلَيْنا خبر كان. صْرُ الْمُؤْمِنِينَ اسمها، ولو كان في غير القرآن لجاز رفع حقّ ونصب نصر، لأن حقّا، وإن كان نكرة، فبعده علينا، ولجاز رفعهما على أن تضمر في كان والخبر في الجملة. وفي الحديث: «من ردّ عن عرض صاحبه ردّ الله عنه نار جهنّم ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ » «2» . [سورة الروم (30) : آية 48] اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً جمع كسفة وهي القطعة، وفي قراءة الحسن وأبي جعفر وعبد الرحمن الأعرج. كسفا «3» بإسكان السين، وهو أيضا جمع كسفة كما يقال: سدرة وسدر، وعلى هذه القراءة يكون المضمر الذي بعده عائدا عليه أي فترى الودق يخرج من خلال الكسف لأن كلّ جمع بينه وبين واحده «الهاء» لا غير، التذكير فيه حسن، ومن قرأ كسفا فالمضمر عنده عائد على الحساب، وفي قراءة الضحاك فترى الودق يخرج من خلله «4» ويجوز أن يكون خلال جمع خلل. [سورة الروم (30) : الآيات 49 الى 50] وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)

_ (1) انظر الكتاب 1/ 104. (2) أخرجه أحمد في مسنده 6/ 450، والترمذي في سننه رقم (1931) ، والمنذري في الترغيب والترهيب 3/ 517، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 6/ 284. (3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 508. وتيسير الداني 142. (4) انظر إعراب الآية 12 من سورة الروم.

[سورة الروم (30) : آية 51]

وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ قد ذكرناه، وكان أبو إسحاق يذهب إلى أنه على التوكيد، ويقول: إنّ قول قطرب التقدير من قبل التنزيل خطأ لأن المطر لا ينفك من التنزيل، وأنشد: [الطويل] 338- مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت ... أغاليها مرّ الرّياح النّواسم «1» فأنّث المرّ، لأنّ الرياح لا تنفكّ منه، ولأن المعنى تسفّهت أعاليها الرياح، فكذا معنى: «من قبل أن ينزل عليهم المطر» من قبل المطر. ويقال: آثر وإثر. كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ لا يجوز فيه الإدغام لئلا يجمع فيه ساكنان. [سورة الروم (30) : آية 51] وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا قيل: التقدير فرأوا الزرع مصفرّا، وقيل: فرأوا السحاب، وقيل فرأوا الريح، وذكّرت الريح لأنها للمرسل منها، وقال محمد بن يزيد لا يمتنع تذكير كلّ مؤنث غير حقيقي نحو أعجبني الدار، وما أشبهه لَظَلُّوا قال الخليل رحمه الله: معناه ليظلّنّ. قال أبو إسحاق: وجاز هذا لأن في الكلام معنى المجازاة. [سورة الروم (30) : الآيات 52 الى 53] فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ جعلوا بمنزلة الموتى والصمّ، لأنهم لا ينتفعون بما يسمعون. وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ قال الفراء» : ويجوز من ضلالتهم بمعنى وما أنت بمانعهم من ضلالتهم، وعن بمعنى وما أنت بصارفهم عن ضلالتهم. [سورة الروم (30) : آية 54] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ قال عطية عن ابن عمر رحمه الله قال: قرأت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ضعف» فقال لي مِنْ ضَعْفٍ «3» وقرأ عيسى بن عمر مِنْ ضَعْفٍ، وقرأ الكوفيون مِنْ ضَعْفٍ وهو المصدر، وأجاز النحويون منهم من ضعف، وكذا كلّ ما كان فيه حرف من حروف الحلق ثانيا أو ثالثا. قال أبو إسحاق: تأويله الله الذي خلقكم من النطفة التي حالكم معها الضعف ثم جعل من بعد الضعف الشبيبة.

_ (1) مرّ الشاهد رقم 141. [.....] (2) انظر معاني الفراء 2/ 326. (3) انظر تيسير الداني 142.

[سورة الروم (30) : آية 55]

[سورة الروم (30) : آية 55] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ وليس في هذا ردّ لعذاب القبر إذ كان قد صحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من غير طريق أنه تعوّذ منه، وأمر أن يتعوّذ منه. من ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود قال: سمع صلّى الله عليه وسلّم أمّ حبيبة تقول: اللهمّ أمتعني بزوجي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية فقال لها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سألت الله في آجال مضروبة وأرزاق مقسومة ولكن سليه أن يعيذك من عذاب جهنّم أو عذاب القبر» «1» في أحاديث مشهورة. وفي معنى ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ قولان: أولهما أنّه يريد لا بدّ من خمدة قبل يوم القيامة ولحق الفناء الذي كتب على الخلق من رحم ومن عذّب فعلى هذا قالوا ما لبثنا غير ساعة لأنهم لم يعملوا مقدار ذلك، والقول الآخر أنهم يعنون في الدنيا لزوالها وانقطاعها وإن كانوا قد أقسموا على غيب وعلى غير ما يدرون قال الله جلّ وعزّ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ أي كذلك كانوا يكذبون في الدنيا، وقد زعم جماعة من أهل النظر أن القيامة لا يجوز أن يكون فيها كذب لما هم فيه، والقرآن يدل على غير ذلك. قال الله جلّ وعزّ: كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ وقال جلّ ثناؤه يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ [المجادلة: 18] . [سورة الروم (30) : آية 56] وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) وردّ عليهم المؤمنون فقالوا: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ قال أبو إسحاق: أي في اللّوح المحفوظ وحكى يعقوب عن بعض القراء «إلى يوم البعث» «2» فهذا ما فيه حرف من حروف الحلق. [سورة الروم (30) : آية 57] فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ لمّا ردّ عليهم المؤمنون سألوا الرجوع إلى الدنيا واعتذروا فلم يعذروا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ولا حالهم حال من يستعتب فيرجع. [سورة الروم (30) : آية 58] وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58)

_ (1) أخرجه مسلم في صحيحه- القدر- 32، 33. (2) انظر المحتسب 2/ 166.

[سورة الروم (30) : آية 60]

وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يدلّهم على ما يحتاجون إليه. [سورة الروم (30) : آية 60] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ في موضع جزم بالنهي فأكّد بالنون الثقيلة فبني على الفتح، كما يبنى الشيئان إذا ضمّ أحدهما إلى الآخر الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ في موضع رفع، ومن العرب من يقول الذّون في موضع الرفع.

31 شرح إعراب سورة لقمان

31 شرح إعراب سورة لقمان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) الم تِلْكَ في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي هذه تلك، ويقال: تيك. آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ بدل من «تلك» . [سورة لقمان (31) : آية 3] هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) هُدىً وَرَحْمَةً نصب على الحال، مثل هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً [الأعراف: 73، وهود: 64] وهذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم والكسائي، وقرأ حمزة هدى ورحمة «1» بالرفع، وهو من جهتين: إحداهما على إضمار مبتدأ لأنه أول آية، والأخرى أن يكون خبر تلك. [سورة لقمان (31) : آية 4] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ في موضع رفع على إضمار مبتدأ، لأنه أول آية أو في موضع نصب بمعنى أعني، أو في موضع خفض على أنه نعت للمحسنين. [سورة لقمان (31) : آية 6] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ مِنَ في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة. وعن رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أن «لهو الحديث» هاهنا الغناء وأنه ممنوع بالكتاب والسنة فيكون التقدير ومن الناس من يشتري ذا لهو أو ذات لهو، مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] أو يكون التقدير: لما

_ (1) انظر تيسير الداني 143، والبحر المحيط 7/ 179.

[سورة لقمان (31) : آية 7]

كان إنما يشتريها ويبالغ في ثمنها كأنه اشترى اللهو. لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ليضلّ غيره ومن قرأ ليضل «1» فعلى اللازم له عنده، وَيَتَّخِذَها «2» قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي وَيَتَّخِذَها عطفا على ليضلّ. والرفع من وجهين: أحدهما أن يكون معطوفا على يشتري، والآخر أن يكون مستأنفا. والهاء كناية عن الآيات، ويجوز أن تكون كناية عن السبيل لأن السبيل يذكّر ويؤنّث. [سورة لقمان (31) : آية 7] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً اسم كأنّ وتحذف الضمة لثقلها فيقال: أذن. [سورة لقمان (31) : آية 10] خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها يكون تَرَوْنَها في موضع خفض على النعت لعمد أي بغير عمد مرئية، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: الأولى أن يكون مستأنفا ويكون بغير عمد التمام. أَنْ تَمِيدَ في موضع نصب أي كراهة أن تميد، والكوفيون يقدّرونه بمعنى لئلا تميد. فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ عن ابن عباس: من كلّ نوع حسن، وتأوّله الشعبي على الناس لأنهم مخلوقون من الأرض، قال: فمن كان منهم يصير إلى الجنة فهو الكريم ومن كان يصير إلى النار فهو اللئيم، وقد تأول غيره أن النطفة مخلوقة من تراب وظاهر القرآن يدلّ على ذلك. [سورة لقمان (31) : آية 11] هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) هذا خَلْقُ اللَّهِ مبتدأ وخبر. فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ «ما» في موضع رفع بالابتداء وخبره «ذا» وذا بمعنى الذي، وخلق واقع على هاء محذوفة على هذا، تقول: ماذا تعلّمت أنحو أم شعر، ويجوز أن يكون «ما» في موضع نصب بخلق و «ذا» زائدة، وعلى هذا تقول: ماذا تعلمت أنحوا أم شعرا. بَلِ الظَّالِمُونَ رفع بالابتداء. فِي ضَلالٍ مُبِينٍ في موضع الخبر. [سورة لقمان (31) : آية 12] وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)

_ (1) انظر تيسير الداني 143، والبحر المحيط 7/ 179، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو. (2) انظر تيسير الداني 143، وكتاب السبعة لابن مجاهد 512.

[سورة لقمان (31) : آية 13]

وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ مفعولان ولم ينصرف لقمان لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين فأشبه فعلان الذي أنثاه فعلى فلم يصرف في المعرفة لأن ذلك ثقل ثان وانصرف في النكرة لأن أحد الثقلين زال. وزعم عكرمة أن لقمان كان نبيا وفي الحديث أنه كان حبشيا «1» . أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ فيه تقديران: أحدهما أن تكون «أن» بمعنى أي مفسرة أي قلنا له اشكر، والقول الآخر أنها في موضع نصب والفعل داخل في صلتها، كما حكى سيبويه: كتبت إليه أن قم إلا أن هذا الوجه بعيد. وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ جزم بالشرط، ويجوز الرفع على أن من بمعنى الذي. [سورة لقمان (31) : آية 13] وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ «إذ» في موضع نصب، والمعنى واذكر، وحكى أبو إسحاق في كتابه في القرآن أن «إذ» في موضع نصب بآياتنا وأن المعنى ولقد آتينا لقمان الحكمة إذ قال. قال أبو جعفر: وأحسبه غلطا لأن في الكلام واوا تمنع من ذلك وأيضا فإن اسم لقمان مذكور بعد قال. يا بُنَيَّ «2» بكسر الياء لأنها دالّة على الياء المحذوفة ومن فتحها فلخفّة الفتحة عنده. [سورة لقمان (31) : آية 16] يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) إِنَّها الكتابة عن القصة أو عن الفعلة أو بمعنى: إنّ التي سألتني عنها لأنه يروى أنه سأله، والبصريون يجيزون إنّها زيد ضربته، بمعنى أن القصة، والكوفيون لا يجيزون هذا إلّا في المؤنث إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ خبر «تك» واسمها مضمر فيها، واستبعد أبو حاتم أن يقرأ إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ «3» بالرفع. لأن مثقالا مذكّر فلا يجوز عنده إلا بالياء. قال أبو جعفر: وهذا جائز صحيح وهو محمول على المعنى لأن المعنى واحد، وهذا كثير في كلام العرب يقال: اجتمعت أهل القيامة لأن من كلامهم اجتمعت اليمامة، وزعم الفراء أن مثل الآية قول الشاعر: 339- وتشرق بالقول الّذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدّم «4» فأما وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ فمعترض بين كلام لقمان كما روى شعبة عن سماك ابن حرب عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قالت أم سعد لسعد: أليس قد أمر الله جلّ

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 181. (2) انظر تيسير الداني 143، وكتاب السبعة لابن مجاهد 513. (3) انظر معاني الفراء 2/ 328، والبحر المحيط 7/ 182. (4) مرّ الشاهد رقم (130) .

[سورة لقمان (31) : آية 17]

وعزّ ببرّ الوالدة؟ فو الله لا أطعم ولا أشرب حتى تكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا إذا أرادوا أن يطعموها أو جروها بالعصا وجعلوا في فيها الطعام والشراب، فنزلت وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إلى وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ الآية فأما نصب «وهنا على وهن» قال أبو جعفر: فما علمت أن أحدا من النحويين ذكره فيكون مفعولا ثانيا على حذف الحرف أي حملته بضعف على ضعف أو فازدادت ضعفا على ضعف، ومَعْرُوفاً نعت لمصدر محذوف. وزعم أبو إسحاق في كتابه أن «أن» في موضع نصب وأن المعنى ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي ولوالديك. وهذا القول على مذهب سيبويه بعيد ولم يذكر أبو إسحاق فيما علمت غيره. وأجود منه أن تكون «أن» مفسرة والمعنى: قلنا له اشكر لي ولوالديك. [سورة لقمان (31) : آية 17] يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ معنى إقامة الصّلاة إتمامها بجميع فروضها، كما يقال: فلان قيّم بعمله الذي وليه أي قد وفّى العمل جميع حقوقه، ومنه هذا قوام الأمر وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ وهو أن لا يخرج من الجزع إلى معصية الله وكذا الصبر عن المعاصي. [سورة لقمان (31) : آية 18] وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ قد ذكرناه وحكي عن محمد بن يزيد أنه قال: «تصاعر» من واحد مثل عافاه الله وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي متبخترا متكبرا. وهو مصدر في موضع الحال. [سورة لقمان (31) : آية 19] وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي توسّط والتوسط أحمد الأمور، وكذا وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أدّبه الله جلّ وعزّ بالأمر بترك الصياح في وجوه الناس تهاونا بهم إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ قال أبو عبيدة «1» : أي أشدّ، وقال الضحاك: وهما جميعا على المجاز. وفي الحديث «ما صاح حمار ولا نبح كلب إلّا أن يرى شيطانا» «2» . [سورة لقمان (31) : آية 20] أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20)

_ (1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 2/ 127. (2) أخرجه الترمذي في سننه- الدعاء 13/ 13، بمعناه.

[سورة لقمان (31) : آية 21]

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وذلك من نعم الله جلّ وعزّ على بني آدم فالأشياء كلّها مسخرة لهم من شمس وقمر ونجوم وملائكة تحوطهم، وتجرّ إليهم منافعهم، ومن سماء وما فيهما لا يحصى وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً على الحال ومن قرأ نعمة ظاهرة وباطنة «1» جعله نعتا، وهي قراءة ابن عباس من وجوه صحاح مروية وفسرها: الإسلام وشرح هذا أنّ سعيد بن جبير قال في قوله جلّ وعزّ: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [المائدة: 6] قال: يدخلكم الجنة وتمام نعمة الله على العبد أن يدخله الجنة فكذا لمّا كان الإسلام يؤول أمره إلى الجنة سمّي نعمة، وعن ابن عباس قال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ قال: هو النّضر بن الحارث. [سورة لقمان (31) : آية 21] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي أولو كان كذا يتّبعونه على التوبيخ. [سورة لقمان (31) : آية 22] وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وقراءة أبي عبد الرحمن السلمي وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ. قال: «يسلم» في هذا أعرف، كما قال جلّ وعزّ: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ومعنى «أسلمت وجهي لله» قصدت بعبادتي إلى الله وأقررت أنه لا إله غيره، ويجوز أن يكون التقدير: ومن يسلم نفسه إلى الله مثل كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] معناه إلّا إياه. ويكون يسلّم على التكثير إلّا أنّ المستعمل في سلّمت أنه بمعنى دفعت يقال: سلّمت في الحنطة وقد يقال: أسلمت. وروى جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله جلّ وعزّ: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى قال: لا إله إلا الله. [سورة لقمان (31) : آية 27] وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ «أنّ» في موضع رفع، والتقدير ولو وقع هذا و «أقلام» خبر أن. وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مرفوع من جهتين: إحداهما العطف على الموضع،

_ (1) انظر تيسير الداني 143، وكتاب السبعة لابن مجاهد 513. [.....]

[سورة لقمان (31) : آية 28]

والأخرى أن يكون في موضع الحال. وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ «1» بالنصب على اللفظ. وحكى يونس عن ابن أبي عمرو بن العلاء قال: ما أعرف للرفع وجها إلّا أن يجعل البحر أقلاما وأبو عبيد يختار الرفع لكثرة من قرأ به إلا أنه قال: يلزم من قرأ بالرفع أن يقرأ وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [المائدة: 45] . قال أبو جعفر: هذا مخالف لذاك عند سيبويه، قال سيبويه «2» : أي والبحر هذا أمره يجعل الواو تؤدّي عن الحال، وليس هذا في وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ (يمدّه) ، وحكي «يمدّه» على أنهما لغتان بمعنى واحد، وحكي التفريق بين اللغتين وأنّه يقال فيما كان يزيد في الشيء مدّة يمدّه كما تقول: مدّ النيل الخليج، أي زاد فيه، وأمدّ الله جلّ وعزّ الخليج بالنيل. وهذا أحسن القولين، وهو مذهب الفراء «3» ، ويجوز تمدّه. مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ على تأنيث السبعة. ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ قال قتادة: قالوا: إنّ ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم سينفد فأنزل الله جلّ وعزّ يعني هذا. [سورة لقمان (31) : آية 28] ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ قال الضحاك: أي ما ابتداء خلقكم جميعا إلّا كخلق نفس واحدة، وما بعثكم يوم القيامة إلّا كبعث نفس واحدة. قال أبو جعفر: وهكذا قدّره النحويون بمعنى إلّا كخلق نفس واحدة مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ. [سورة لقمان (31) : آية 29] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ عن ابن مسعود أنه قال: قصر نهار الشتاء في طول ليله، وقصر ليل الصيف في طول نهاره. [سورة لقمان (31) : آية 32] وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ لأن سبيل الموج إذا اشتدّ أن يرتفع. قال الفراء: يعني بالظّلل السحاب. قال الخليل وسيبويه رحمهما الله في قاض وجاز: يوقف عليهما بغير تاء، وعلتهما في ذلك أن يعرف أنه في الوصل كذلك وكان القياس أن يوقف عليهما بالياء لأن التنوين يزول في الوقف، وحكى يونس أن بعض العرب الموثوق بلغتهم يقف بالياء فيقول: جاءني قاضي وجازي.

_ (1) انظر تيسير الداني 143، وكتاب السبعة لابن مجاهد 513. (2) انظر الكتاب 2/ 145. (3) انظر معاني الفراء 2/ 329.

[سورة لقمان (31) : آية 34]

[سورة لقمان (31) : آية 34] إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ «1» الْغَيْثَ زعم الفراء «2» أن في هذا معنى النفي أي ما لم يعلمه أحد إلّا الله جل وعز. قال أبو جعفر: إنما صار فيه معنى النفي والإيجاب بتوقيف الرسول صلّى الله عليه وسلّم على ذلك لأنه صلّى الله عليه وسلّم في قول الله جلّ وعزّ وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الأنعام: 59] لا يعلمها إلّا هو أنها هذه. قال أبو إسحاق: فمن زعم أنه يعلم شيئا من هذا فقد كفر إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ومن العرب من يقول: بأيّة أرض. فمن قال: بأيّ أرض قال: تأنيث الأرض يكفي من تأنيث أي، ومن قال: بأيّة أرض قال: أي تنفرد تأتي بغير إضافة لو قال: جاءتني امرأة، قلت أيّة إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ نعت لعليم أو خبر بعد خبر.

_ (1) انظر تيسير الداني 143. (2) انظر معاني الفراء 2/ 330.

32 شرح إعراب سورة السجدة

32 شرح إعراب سورة السجدة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ الاجتماع على رفع تنزيل، ورفعه من ثلاثة أوجه: أحدها بالابتداء والخبر لا رَيْبَ فِيهِ، والثاني على إضمار مبتدأ أي هذا المتلو تنزيل، والثالث بمعنى هذه الحروف تنزيل و «ألم» تدل على الحروف كلها كما تدل عليها أب ت ث. ولو كان تنزيل منصوبا على المصدر لجاز كما قرأ الكوفيون إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ [يس: 3- 5] . [سورة السجده (32) : الآيات 3 الى 4] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ «أم» تدلّ على خروج من حديث إلى حديث بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ مبتدأ وخبره، وكذا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ أي للكافرين من مولى يمنع من عذابهم وَلا شَفِيعٍ، ويجوز بالرفع على الموضع أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ هذه الموعظة. [سورة السجده (32) : آية 7] الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير خَلَقَهُ «1» بإسكان اللام ونصبه في هذه القراءة على المصدر عند سيبويه مثل صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88] ، وعند غيره على البدل من «كلّ» أي الّذي أحسن خلق كلّ شيء وهما مفعولان على مذهب بعض النحويين بمعنى أفهم كلّ شيء خلقه وخَلَقَهُ على أنه فعل

_ (1) انظر تيسير الداني 144، وكتاب السبعة لابن مجاهد 516.

[سورة السجده (32) : آية 8]

ماض في موضع خفض نعت لشيء والمعنى على ما يروى عن ابن عباس: أحكم كلّ شيء خلقه أي جاء به ما أراد لم يتغيّر عن إرادته، وقول آخر أن كلّ شيء يخلقه حسن لأنه لا يقدر أحد أن يأتي بمثله، وهو دالّ على خالقه. قال أبو إسحاق: ويجوز الذي أحسن كل شيء خلقه بالرفع بمعنى ذلك خلقه. وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ يعني آدم صلّى الله عليه وسلّم. [سورة السجده (32) : آية 8] ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مشتقّ من سللت الشيء وفعالة للقليل. مِنْ ماءٍ مَهِينٍ قال أبو إسحاق: أي ضعيف، وقال غيره: أي لا خطر له عند الناس. [سورة السجده (32) : آية 9] ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) ثُمَّ سَوَّاهُ يعني الماء. وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أي الّذي يحيا به. وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ فوحّد السمع وجمع الأبصار، لأنّ السمع في الأصل مصدر، ويجوز أن يكون واحدا يدلّ على جمع وَالْأَفْئِدَةَ جمع فؤاد وهو القلب. [سورة السجده (32) : آية 10] وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) وقالوا أأذا ضللنا في الأرض أأنا «1» لفي خلق جديد ويقرأ أَإِنَّا في هذا سؤال صعب من العربية يقال: ما العامل في «إذ» و «إنّ» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها؟ والسؤال في الاستفهام أشدّ لأن ما بعد الاستفهام أجدر أن لا يعمل فيما قبله من «أنّ» كيف وقد اجتمعا؟ فالجواب على قراءة من قرأ أنا أنّ العامل ضللنا، وعلى قراءة من قرأ أَإِنَّا أن العامل مضمر، والتقدير: أنبعث إذا متنا، وفيه أيضا سؤال يقال: أين جواب إذا على القراءة الأولى لأن فيها معنى الشرط؟ فالقول في ذلك أن بعدها فعلا ماضيا فلذلك جاز هذا، وعن أبي رجاء وطلحة أنهما قرءا أَإِذا ضَلَلْنا «2» وهي لغة شاذة، وعن الحسن اإذا صللنا بالصاد، وهكذا رواها الفراء «3» ، وزعم أنها تروى عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ولا يعرف في اللغة صللنا ولكن يعرف صللنا، يقال: صل اللحم وأصل، وخمّ وأخمّ إذ أنتن. [سورة السجده (32) : آية 11] قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ قال أبو إسحاق: هو من توفية العدد أي يستوفي عددكم أجمعين.

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 195، وكتاب السبعة لابن مجاهد 285. (2) انظر البحر المحيط 7/ 195. (3) انظر معاني الفراء 2/ 311.

[سورة السجده (32) : آية 12]

[سورة السجده (32) : آية 12] وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ مبتدأ وخبر. قال أبو إسحاق: المخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم مخاطبة لأمته، والمعنى: ولو ترون، ومذهب أبي العباس غير هذا، وأن يكون المعنى: يا محمد قل للمجرم ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم لندمت على ما كان منك وحذف جواب «لو» والقول. [سورة السجده (32) : آية 13] وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها مفعولان قيل: في معناه قولان: أحدهما أن سياق الكلام يدلّ على أنه في الآخرة أي لو شئنا لرددناهم إلى الدنيا والمحنة كما سألوا وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي حقّ القول منّي لأعذبنّ من عصاني بعذاب جهنّم وعلم الله جلّ وعزّ أنّه لو ردّهم لعادوا كما قال وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] . [سورة السجده (32) : آية 14] فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا في معناه قولان: أحدهما أنه من النسيان الذي لا ذكر معه أي لم تعملوا لهذا اليوم فكنتم بمنزلة الناسين، والآخر أن نسيتم بمعنى تركتم، وكذا إِنَّا نَسِيناكُمْ واحتجّ محمد بن يزيد بقوله: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ [طه: 115] قال: والدليل على أنه بمعنى ترك أنّ الله جلّ وعزّ أخبر عن إبليس أنه قال له: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ [الأعراف: 20] فلو كان آدم صلّى الله عليه وسلّم ناسيا لكان قد ذكّره: وأنشد: [البسيط] 340- كأنّه خارجا من جنب صفحته ... سفّود شرب نسوه عند مفتأد «1» أي تركوه ولو كان من النسيان لكانوا قد عملوا به مرّة.

_ (1) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه ص 19، والأشباه والنظائر 6/ 243، وخزانة الأدب 3/ 185، والخصائص 2/ 275، ولسان العرب (فأد) ، وتهذيب اللغة 14/ 196، وبلا نسبة في رصف المباني ص 211، وكتاب العين 8/ 8.

[سورة السجده (32) : آية 15]

[سورة السجده (32) : آية 15] إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً أي إنما يؤمن بالعلامات والبراهين والحجج الذين إذا ذكّروا بها خضعوا لله وسبّحوا بحمده. وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن عبادته ولا الانقياد لما أبانه. [سورة السجده (32) : آية 16] تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ في موضع نصب على الحال أو رفع لأنه فعل مستقبل ولم يتبيّن فيه الإعراب لأنه فعل مقصور. ومعنى مقصور أنه قصر منه الإعراب ومعنى منقوص أنه نقص منه الإعراب. يَدْعُونَ في موضع نصب على الحال خَوْفاً مفعول من أجله، ويجوز أن يكون مصدرا. وَطَمَعاً مثله أي خوفا من العذاب وطمعا في الثواب. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ تكون «ما» بمعنى الذي وتكون مصدرا، وفي كلا الوجهين يجب أن تكون منفصلة من «من» . [سورة السجده (32) : آية 17] فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ويقرأ ما أخفي لهم «1» بإسكان الياء على أنه فعل مستقبل. وفي قراءة عبد الله ما نخفي «2» بالنون، قال أبو إسحاق: ويقرأ ما أخفي لهم بمعنى ما أخفى الله لهم فإن جعلت «ما» بمعنى الذي كانت في موضع نصب على الوجوه كلّها، وإن جعلتها بمعنى أي وقرأت بقراءة المدنيين كانت في موضع رفع وإن قرأت بغيرها كانت في موضع نصب. جَزاءً مفعول من أجله أو مصدر. [سورة السجده (32) : آية 18] أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) لأن لفظ «من» تؤدّي عن الجماعة فلهذا قال: لا يستوون. هذا قول كثير من النحويين، وقال بعضهم: يستوون لاثنين إلّا أنّ الاثنين جمع، لأنه واحد جمع مع آخر. والحديث يدلّ على هذا القول لأنه عن ابن عباس رحمه الله وغيره قال: نزلت أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كَمَنْ كانَ فاسِقاً في الوليد بن عقبة بن أبي معيط «3» .

_ (1) انظر تيسير الداني 144، وكتاب السبعة لابن مجاهد 516. (2) انظر معاني الفراء 2/ 332، والبحر المحيط 7/ 197. (3) انظر البحر المحيط 7/ 198.

[سورة السجده (32) : الآيات 19 إلى 20]

[سورة السجده (32) : الآيات 19 الى 20] أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ في موضع رفع بالابتداء فوصفه الله جلّ وعزّ بالإيمان، وخبر الابتداء فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى والمعنى: فله ولنظرائه فعلى هذا جاء الجمع، وكذا وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما ظرف. [سورة السجده (32) : آية 21] وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ لام قسم. مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى أي الأقرب، وأكثر أهل التفسير على أنها المصيبات في الدنيا. [سورة السجده (32) : آية 22] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَمَنْ أَظْلَمُ أي لنفسه. مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ أي بحججه وعلاماته. ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها بترك القبول فاعلم أنه ينتقم منه، فقال جلّ وعزّ: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ. [سورة السجده (32) : آية 23] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مفعولان. فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ قد ذكرناه، وقد قيل: إن معناه فلا تكن في شكّ من تلقي موسى صلّى الله عليه وسلّم الكتاب بالقبول، وعن الحسن أنه قال في معناه: ولقد آتينا موسى الكتاب فأوذي وكذّب فلا تكن في شكّ من أنه سيلقاك ما لقيه من التكذيب والأذى. وهو قول غريب إلّا أنه من رواية عمرو بن عبيد. [سورة السجده (32) : آية 24] وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً والكوفيون يقرءون أمّة وهو لحن عند جميع النحويين، لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة وهو من دقيق النحو، وشرحه أن الأصل أأممة ثم ألقيت حركة الميم الأولى على الهمزة، وأدغمت الميم في الميم وخفّفت الهمزة الثانية لئلا تجتمع همزتان، والجمع بين همزتين في حرفين بعيد فأما في حرف واحد فلا يجوز البتة إلّا بتخفيف آدم وآخر وهذا آدم من هذا لَمَّا صَبَرُوا «1» لصبرهم ولَمَّا صَبَرُوا أي حين صبروا جعلناهم أئمة.

_ (1) انظر تيسير الداني 144 ومعاني الفراء 2/ 332، والبحر المحيط 7/ 200، وهذه قراءة عبد الله وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي، والجمهور بفتح الميم وشدّ الميم. [.....]

[سورة السجده (32) : آية 26]

[سورة السجده (32) : آية 26] أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وقتادة أو لمن نهد لهم «1» بالنون فهذه قراءة بيّنة. والقراءة الأولى بالياء فيها إشكال لأنه يقال: الفعل لا يخلو من فاعل فأين الفاعل ليهد فتكلّم النحويون في هذا فقال الفراء «2» : «كم» في موضع رفع بيهد. وهذا نقض لأصول النحويين في قولهم: إنّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ولا في كم بوجه أعني ما قبلها. ومذهب أبي العباس أنّ يهد يدلّ على الهدى فالمعنى أو لم يهد لهم الهدى، وقيل: المعنى أو لم يهد الله لهم فيكون معنى الياء ومعنى النون واحدا، وقال أبو إسحاق: كم في موضع نصب بأهلكنا. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ في موضع نصب بأنّ. أَفَلا يَسْمَعُونَ بمعنى أفلا يقبلون مثل: سمع الله لمن حمده. [سورة السجده (32) : آية 27] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: هي أرض اليمن، وقال سفيان وحدّثني معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هي أبين «3» ، وقال الحكم بن أبان عن عكرمة «إلى الأرض الجرز» قال: هي الظّمأى، وقال جويبر عن الضحاك إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ قال: الميتة العطشى، وقال الفراء «4» : هي التي لا نبات فيها، وقال الأصمعي: الأرض الجرز التي لا تنبت شيئا. قال محمد بن يزيد: يبعد أن تكون إلّا أرضا بعينها لدخول الألف واللام إلّا أنه يجوز على قول ما قال ابن عباس والضحاك. قال أبو جعفر: الإسناد عن ابن عباس صحيح لا مطعن فيه، وهذا إنما هو نعت، والنعت للمعرفة يكون بالألف واللام. وهو مشتق من قولهم: رجل جروز إذا كان لا يبقي شيئا إلّا أكله. وحكى الفراء» وغيره أنه يقال: أرض جرز وجرز وجرز، وكذلك بخل ورعب ورهب في الأربعة أربع لغات فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً يكون معطوفا على نسوق، أو منقطعا مما قبله تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ في موضع نصب على النعت. وَأَنْفُسُهُمْ أي ويأكلون منه. والنفس في كلام العرب

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 200، ومختصر ابن خالويه 118. (2) انظر معاني الفراء 2/ 333. (3) انظر البحر المحيط 7/ 200 (وقال ابن عباس: هي أرض أبين من اليمن، وهي أرض تشرب بسيول لا تمطر) . (4) انظر معاني الفراء 2/ 333. (5) انظر معاني الفراء 2/ 333.

[سورة السجده (32) : آية 28]

على ضربين: أحدهما أنه يراد بها الانفصال، والآخر أنه يراد بها جملة الشيء وحقيقته قال جلّ وعزّ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116] أي تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم. أَفَلا يُبْصِرُونَ يكون (ألا) للتنبيه. [سورة السجده (32) : آية 28] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ «متى» في موضع رفع ويجوز أن تكون في موضع نصب على الظرف. قال الفراء «1» : يعني فتح مكة، وأولى من هذا ما قاله مجاهد قال: يعني يوم القيامة. قال أبو جعفر: ويوم فتح مكة قد نفع من آمن إيمانه. ويروى أن المؤمنين قالوا: سيحكم الله جلّ وعزّ بيننا يوم القيامة فيثيب المحسن ويعاقب المسيء، فقال الكفار على التهزي: متى هذا الفتح أي هذا الحكم؟ ويقال: للحاكم فاتح وفتّاح لأن الأشياء تتفتح على يديه وتنفصل، وفي القرآن رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الأعراف: 89] . [سورة السجده (32) : آية 29] قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ على الظرف وأجاز الفراء الرفع. [سورة السجده (32) : آية 30] فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ قيل: معناه أعرض عن سفههم ولا تجبهم إلا بما أمرت به. وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ أي انتظر يوم الفتح يوم يحكم الله لك عليهم، فإن قال قائل: فكيف ينظرون يوم القيامة وهم لا يؤمنون به ففي هذا جوابان: أحدهما أن يكون المعنى أنهم ينتظرون الموت، وهو من أسباب القيامة فيكون هذا مجازا، والآخر أن فيهم من يشكّ ومنهم من يوقن بالقيامة فيكون هذا لهذين الصنفين والله جلّ وعزّ أعلم.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 333.

33 شرح إعراب سورة الأحزاب

33 شرح إعراب سورة الأحزاب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأحزاب (33) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ ضممت أيا لأنه نداء مفرد والتنبيه لازم لها والنبي نعت لأيّ عند النحويين إلّا الأخفش فإنه يقول: إنه صلة لأي، وهو خطأ عند أكثر النحويين لأن الصلة لا تكون إلّا جملة والاحتيال له فيما قال: إنه لما كان نعتا لازما سماه صلة فهكذا الكوفيون يسمون نعت النكرة صلة لها، وأجاز بعض النحويين «1» النصب، اتَّقِ اللَّهَ حذفت الياء لأنه أمر. وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ أي لا تطعهم فيما نهيت عنه ولا تمل إليهم، ودلّ بقوله جلّ وعزّ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً على أنه إنما كان يميل إليهم استدعاء لهم إلى الإسلام أي لو علم الله جلّ وعزّ أن ميلك إليهم فيه منفعة لما نهاك عنه لأنه حكيم. [سورة الأحزاب (33) : آية 2] وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ أي من اجتنابهم. [سورة الأحزاب (33) : آية 3] وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي في الخوف من ضررهم. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي كافيا لك مما تخافه منهم «وكيلا» نصب على البيان أو على الحال. [سورة الأحزاب (33) : آية 4] ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ «من» زائدة للتوكيد، وشبه هذا بالأول أنّه لم

_ (1) انظر أسرار العربية ص 229.

[سورة الأحزاب (33) : آية 5]

يجعل للإنسان قلبين قلبا يخلص به لله جلّ وعزّ وقلبا يميل به إلى أعدائه. وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ «1» مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ مفعولان وهو مشتق من الظهر لأن الظهر موضع الركوب. وكانت العرب تطلق بالظّهار. وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ أهل التفسير على أن هذا نزل في زيد بن حارثة. وفي الحديث أن خديجة رضي الله عنها وهبته لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء أبوه حارثة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: خذ مني فداه فقال له: أنا أخيّره فإن أراد أن يقيم عندي أقام، وإن اختارك فخذه فاختار المقام فأعتقه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «هو ابني يرثني وأرثه» «2» ، ثم أنزل الله جلّ وعزّ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ أي ادعوهم لآبائهم. قال ابن عمر: ما كنا ندعوه إلّا زيد بن محمد فنسب كلّ دعيّ إلى أبيه. ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ ابتداء وخبره أي هو قول بلا حقيقة. وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ أي القول الحقّ نعت لمصدر، ويجوز أن يكون مفعولا. [سورة الأحزاب (33) : آية 5] ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ أي فهم إخوانكم وَمَوالِيكُمْ عطف عليه. وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ قول قتادة هو أن ينسب الرجل إلى غير أبيه، وهو يرى أنه أبوه. قال أبو جعفر: وقد قيل: إنّ هذا مجمل أي وليس عليكم جناح في شيء أخطأتم به، وكانت فتيا عطاء على هذا إذا حلف رجل ألّا يفارق غريمه حتى يستوفي منه حقّه فأخذ منه ما يرى أنه جيد من دنانير فوجدها زجاجا أنه لا شيء عليه، وكذا عنده إذا حلف أنه لا يسلّم على فلان فسلّم عليه وهو لا يعرفه أنه لا يحنث لأنه لم يعمد لذلك. وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ «ما» في موضع خفض ردّا على «ما» التي مع أخطأتم، ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ، والتقدير: ولكن الذي تؤاخذون به ما تعمدت قلوبكم. [سورة الأحزاب (33) : آية 6] النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ في معناه قولان: أحدهما النبي أولى بالمؤمنين من بعضهم لبعض مثل فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 54] ، والآخر أنه إذا أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم

_ (1) انظر القراءات التسعة في البحر المحيط 7/ 207، وكتاب السبعة لابن مجاهد 519. (2) انظر زاد المسير 6/ 351، وابن كثير 3/ 468، والقرطبي 14/ 79.

[سورة الأحزاب (33) : آية 7]

بشيء ودعت النفس إلى غيره كان أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى. وفي الحديث «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا أو ضياعا فعليّ» «1» . وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي في الحرمة ولا يحلّ لهم تزوّجهنّ. وَأُولُوا الْأَرْحامِ مبتدأ وبَعْضُهُمْ مبتدأ ثان أو بدل أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ يكون التقدير وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين، ويجوز أن يكون المعنى: أولى من المؤمنين والمهاجرين. إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً في موضع نصب استثناء ليس من الأول. قال محمد ابن الحنفية رحمة الله عليه: نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي مكتوبا في نسق كالسطر. ويقال: سطر والجمع أسطار، ومن قال سطر قال: أسطر وسطور يصلح لهما جميعا إلّا أنه بالمسكّن أولى وأكثر. [سورة الأحزاب (33) : آية 7] وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ قال الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم قال: على قومهم وعن أبيّ بن كعب قال: هو مثل وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف: 172] الآية، قال: فأخذ ميثاقهم وعلى الأنبياء- صلوات الله عليهم- منهم النور كأنه السّرج ثم أخذ ميثاق النبيين خاصة للرسالة قال: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ الآية قال: «ومن نوح» ولم يقل: ونوح لأن المظهر إذا عطف على المضمر المخفوض أعيد الحرف تقول: مررت به وبزيد وَإِبْراهِيمَ عطف مظهر على مظهر فلم يعد الحرف وكذا وَمُوسى وَعِيسَى. [سورة الأحزاب (33) : آية 8] لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ قد ذكرناه. [سورة الأحزاب (33) : آية 9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وفي الحديث «نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور» «2» وكان في هذه الريح أعظم الآيات والدلالات للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأن الله جلّ وعزّ أرسل على أعدائه ريحا

_ (1) أخرجه ابن ماجة في سننه- الصدقات- باب 3 الحديث رقم (2417) ، والترمذي في سننه- الجنائز 4/ 291. (2) انظر المعجم لونسنك 6/ 460.

[سورة الأحزاب (33) : آية 10]

شديدة البرد فقطعت خيامهم وشغلتهم ببردها، والمؤمنون حذاءهم لم يلحقهم منها شيء. [سورة الأحزاب (33) : آية 10] إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا والكوفيون يقرءونها بغير ألف، وذلك مخالف للمصحف وإن كان حسنا في العربية. وأولى الأشياء في هذا أن يوقف عليه بالألف ولا يوصل لأنه إن وصل بالألف كان لاحنا، وإن وصل بغير ألف كان مخالفا للمصحف، وإذا وقف بالألف كان متّبعا للسواد موافقا للإعراب لأن العرب تثبت هذه الألف في القوافي وتثبتها في الفواصل ليتّفق الكلام. [سورة الأحزاب (33) : آية 11] هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي في ذلك الوقت اختبر المؤمنون. واللام زائدة للتوكيد، وإن كانت مكسورة والكاف للخطاب. وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً، ويقال: زلزال في المضاعف خاصة وغير المضاعف لا يجوز فيه الفتح. ويقال: دحرجته دحراجا. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 12 الى 13] وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَإِذْ في موضع نصب بمعنى واذكر، وكذا وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ قال أبو عبيدة «1» : يثرب اسم أرض والمدينة منها. لا مُقامَ لَكُمْ «2» أي مكان يقيمون فيه، وأنشد: [الوافر] 341- فأيّي ما وأيّك كان شرّا ... فسيق إلى المقامة لا يراها «3» وقرأ أبو عبد الرحمن والأعرج لا مُقامَ لَكُمْ يكون مصدرا من قام يقيم أو موضعا يقيمون فيه أو يقامون وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ وقراءة أبي رجاء وتروى عن ابن عباس إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ «4» وهذا اسم الفاعل من عور يعور عورة ويجوز أن يكون مصدرا أي ذات عورة ويجوز أن يكون في موضع اسم الفاعل على السعة كما تقول: رجل عدل، أي عادل ويقال: أعور

_ (1) انظر مجاز القرآن 1/ 134. (2) انظر تيسير الداني 145، وكتاب السبعة لابن مجاهد 520، وقراءة حفص بضمّ الميم والباقون بفتحها. (3) مرّ الشاهد رقم 120. [.....] (4) انظر البحر المحيط 7/ 212.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 14 إلى 15]

المكان إذا تبيّنت فيه عورة وأعور الفارس إذا تبيّن منه موضع خلل. إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً أي ليس قصدهم ما قالوا وإنما قصدهم للفرار. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 14 الى 15] وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها وهي البيوت أو المدينة. ثمّ سئلوا الفتنة لأتوها هذه قراءة أهل الحرمين، وقراءة أهل البصرة وأهل الكوفة لَآتَوْها «1» وهو اختيار أبي عبيد، واحتجّ بحديث «2» الجماعة الذين فيهم بلال أنهم أعطوا الفتنة من أنفسهم غير بلال. قال أبو جعفر: الحديث في أمر بلال لا يشبه الآية، لأن الله جلّ وعزّ خبّر عن هؤلاء بهذا الخبر وبلال وأصحابه إنما أكرهوا، وفي هذه الآية: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها أي لو دخل عليهم الكفار لجاءوهم، وهذا خلاف ما عاهدوا الله عليه وفي القصّة وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ فهذا يدلّ على «لأتوها» مقصورا. وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً أي كان العذاب يأخذهم أو يهلكون. [سورة الأحزاب (33) : آية 16] قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا وفي بعض الروايات وإذا لا تمتّعوا تنصب بإذن، والرفع بمعنى لا تمتّعون إذن فتكون إذن ملغاة، ويجوز إعمالها فهذا حكمها إذا كان قبلها الواو أو الفاء، فإن كانت مبتدأة نصبت بها فقلت: إذن أكرمكم. وروى سيبويه «3» عن بعض أصحاب الخليل عن الخليل رحمه الله أنّ «أن» معها مضمرة وسماعه منه النصب بها فإن توسّطت لم يجز أن تنصب عند البصريين تقول: أنا إذن أكرمك، وكنت إذن أكرمك، وإنّي إذن أكرمك. الفراء «4» ينصب هنا أعني في «إنّ» خاصة، وأنشد: [الرجز] 342- إنّي إذا أهلك أو أطيرا «5»

_ (1) انظر تيسير الداني 145. (2) انظر تفسير الطبري 14/ 149. (3) انظر الكتاب 3/ 14. (4) انظر معاني الفراء 2/ 338. (5) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (شطر) وتهذيب اللغة 11/ 308، وتاج العروس (شطر) ، ومقاييس اللغة 3/ 187، ومجمل اللغة 3/ 185، وأساس البلاغة (شطر) ، والإنصاف 1/ 177، وأوضح المسالك 4/ 166، والجنى الداني 362، وخزانة الأدب 8/ 456، والدرر 4: 72، ورصف المباني 66، وشرح الأشموني 3/ 554، وشرح التصريح 2/ 234، وشرح شواهد المغني 1/ 70، وشرح المفصل 7/ 17، ومغني اللبيب 1/ 22، والمقاصد النحوية 4/ 383، والمقرّب 1/ 261، وهمع الهوامع 2/ 7. وقبله: «لا تدعني فيهم شطيرا»

[سورة الأحزاب (33) : آية 18]

والشعر منصوب وعلته في «إنّ» أنها لا تنصرف. [سورة الأحزاب (33) : آية 18] قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ أي المتعرّضين لأن يصدّوا الناس عن النبي. مشتقّ من عاقني عن كذا أي صرفني عنه، وعوّق على التكثير. وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا على لغة أهل الحجاز وغيرهم يقول: هلمّوا للجماعة وهلمّي للمرأة لأن الأصل ها التي للتنبيه ضمّت إليها «لمّ» ثم حذفت الألف استخفافا، وبنيت على الفتح ولم يجز فيها الكسر ولا الضم لأنها لا تتصرّف. ومعنى «هلمّ» أقبل. [سورة الأحزاب (33) : آية 19] أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) أَشِحَّةً نصب على الحال. قال أبو إسحاق: ونصبه عند الفراء «1» من أربع جهات: إحداهما أن يكون على الذمّ، ويجوز عنده أن يكون نصبا يعوّقون أشحّة، ويجوز عنده أن يكون التقدير: والقائلين أشحّة، ويجوز عنده ولا يأتون البأس إلّا قليلا يأتونه أشحّة أي أشحّة على الفقراء بالغنيمة جبناء. قال أبو جعفر: لا يجوز أن يكون العامل فيه المعوّقين ولا القائلين لئلّا يفرّق بين الصلة والموصول فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ وصفهم بالجبن، وكذا سبيل الجبان ينظر يمينا وشمالا محدّدا بصره وربّما غشي عليه فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ وحكى الفراء صلقوكم «2» بالصاد. وخطيب مسلاق ومصلاق إذا كان بليغا. أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا أي وإن كان ظاهرهم الإيمان فليسوا بمؤمنين لأن المنافق كافر على الحقيقة وصفهم الله جلّ وعزّ بالكفر. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي يقول الحقّ. [سورة الأحزاب (33) : آية 20] يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي لجبنهم. وقرأ طلحة وإن يأت الأحزاب يودّوا لو أنهم بدّا «3» في الأعراب يقال: باد وبدّا بالقصر مثل غاز وغزّى ويمدّ مثل صائم وصوّام. وقرأ الحسن وعاصم الجحدري يسّاءلون عن أنبائكم «4» والأصل يتساءلون

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 338. (2) انظر معاني الفراء 2/ 339، والبحر المحيط 7/ 215. (3) انظر مختصر ابن خالويه 119. (4) انظر البحر المحيط 7/ 215، ومعاني الفراء 2/ 339.

[سورة الأحزاب (33) : آية 21]

ثم أدغم. وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا نعت لمصدر أو لظرف. [سورة الأحزاب (33) : آية 21] لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ «1» حَسَنَةٌ أي في خروجه إلى الخندق وصبره، وقرأ عاصم أُسْوَةٌ بضم الهمزة. والكسر أكثر في كلام العرب والجمع فيهما جميعا واحد عند الفراء، والعلّة عنده في الضمّ على لغة من كسر في الواحد الفرق من ذوات الواو وذوات الياء فيقولون: كسوة وكسى، ولحية ولحي. لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ لا يجوز عند النحويين الحذّاق أن يكتب «يرجو» إلّا بغير ألف إذا كان لواحد لأن العلّة التي في الجمع ليست في الواحد. وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً أي ذكرا كثيرا. [سورة الأحزاب (33) : آية 22] وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ ومن العرب من يقول: راء على القلب. قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إن جعلت «ما» بمعنى الذي فالهاء محذوفة، وإن جعلتها «2» مصدرا لم يحتج إلى عائد. وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً قال الفراء: وما زادهم النظر إلى الأحزاب. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: رأى يدلّ على الرؤية، وتأنيث الرؤية غير حقيقي. والمعنى: وما زادهم الرؤية، مثل من كذب كان شرّا له. [سورة الأحزاب (33) : آية 23] مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ رفع بالابتداء، وصلح الابتداء بالنكرة لأن «صدقوا» في موضع النعت. قال أبو إسحاق: «ما» في موضع نصب. قال أبو جعفر: يقال: صدقت العهد أي وفيت به. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ «من» في موضع رفع بالابتداء، وقد ذكرنا معناه. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 25 الى 26] وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا قال محمد بن عمرو عن أبيه عن جدّه عن

_ (1) انظر تيسير الداني 145. (2) انظر تفسير الطبري 21/ 149.

[سورة الأحزاب (33) : آية 27]

عائشة رضي الله عنها قالت في قوله: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ أبو سفيان وعيينة ابن برد، رجع أبو سفيان إلى تهامة وعيينة إلى نجد. وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بأن أرسل عليهم الريح حتى رجعوا فرجعت بنو قريظة إلى صياصيهم. قال أبو جعفر: فكفي أمر بني قريظة بالرعب حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ رحمة الله عليه فحكم بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم. وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا أي لا يردّ أمره عَزِيزاً لا يغلب. وبيّن هذا في بني قريظة قال جلّ ثناؤه وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ قال محمد بن يزيد: أصل الصيصية ما يمتنع به فالحصن صيصية ويقال لقرون البقر: صياص لامتناعها. وكذا يقال في شوكة الديك قال: ويقال الشوكة الحائك صيصية تشبيها بها، وأنشد: [الطويل] 343- كوقع الصّياصي في النّسيج الممدّد «1» فَرِيقاً نصب بتقتلون. وفَرِيقاً نصب بتأسرون، وحكى الفراء «2» «تأسرون» بضم السين. [سورة الأحزاب (33) : آية 27] وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لأن المهاجرين لم تكن لهم بالمدينة دور. [سورة الأحزاب (33) : آية 28] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) فَتَعالَيْنَ نون المؤنّث فيه وهي لا تحذف لأنه مبنيّ ولو حذفت لأشكل. قال الخليل رحمه الله: الأصل في تعال: ارتفع ثم كثر استعمالهم حتى قيل للمتعالي: تعال أي أنزل. [سورة الأحزاب (33) : آية 31] وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً قراءة أهل الحرمين والحسن وأبي عمرو

_ (1) الشاهد لدريد بن الصمة في ديوانه 63، ولسان العرب (نوش) و (صيص) ، و (شيق) و (صيا) ، وكتاب العين 7/ 176، وتهذيب اللغة 12/ 266، وتاج العروس (صيص) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 242، والمخصص 12/ 260. وصدره: «غداة دعاني والمرماح ينشنه» (2) انظر معاني الفراء 2/ 341. [.....]

[سورة الأحزاب (33) : آية 32]

وعاصم، وقرأ سائر الكوفيين ويعمل صالحا «1» وأبو عبيد يميل إلى هذه القراءة لأنه عطف على الأول. وقد أجمعوا على الأول بالياء فقرؤوا «ومن يقنت» . قال أبو جعفر: الثاني مخالف للأول لأن الأول محمول على اللفظ وليس قبله ما يتبعه، والثاني قبله منكن وهذه النون للتأنيث فتعمل بالتاء أولى لأنه يلي مؤنثا وإن كان بالياء جائزا حسنا، وبعده نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ بالتأنيث في السواد وكذا وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً أهل التفسير على أن الرزق الكريم هاهنا الجنة. [سورة الأحزاب (33) : آية 32] يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ولم يقل: كواحدة لأنّ «أحدا» نفي عام يقع للمذكّر والمؤنّث، والجميع على لفظ واحد. فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ في موضع جزم بالنهي إلّا أنه مبني كما بني الماضي، هذا مذهب سيبويه «2» ، وقال أبو العباس محمد بن يزيد حكاه لنا علي بن سليمان عنه، ولا أعلمه في شيء من كتبه، قال: إذا اعتلّ الشيء من جهتين وهو اسم منع الصرف فإذا اعتلّ من ثلاث جهات بني لأنه ليس بعد ترك الصرف إلا البناء فهذا الفعل معتلّ من ثلاث جهات: منها أن الفعل أثقل من الاسم وهو جمع، والجمع أثقل من الواحد وهو للمؤنّث، والمؤنّث أثقل من المذكر، وهذا القول عند أبي إسحاق خطأ، وقال: يلزمه ألّا يصرف فرعون إذا سمّي به امرأة لأن فيه ثلاث علل. فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ منصوب لأنه جواب النهي، وقد بيّنّاه بأكثر من هذا، وحكى أبو حاتم أن الأعرج قرأ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ «3» بفتح الياء وكسر الميم. قال أبو جعفر: أحسب هذا غلطا وأن يكون قرأ فَيَطْمَعَ الَّذِي «4» بفتح الميم وكسر العين يعطفه على «يخضعن» وهذا وجه جيد حسن، ويجوز «فيطمع» الذي بمعنى فيطمع الخضوع أو القول وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 33 الى 34] وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ هذه قراءة أبي عمرو والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ أهل

_ (1) انظر تفسير الداني 145، وكتاب السبعة لابن مجاهد 521. (2) انظر الكتاب 1/ 45. (3) انظر مختصر ابن خالويه 119، والبحر المحيط 7/ 222. (4) انظر البحر المحيط 7/ 222.

المدينة وعاصم وَقَرْنَ «1» بفتح القاف. و «قرن» بكسر القاف فيه تقديران: أما مذهب الفراء «2» وأبي عبيد فإنه من الوقار ويقال: وقر يقر وقورا إذا ثبت في منزله، والقول الآخر أن يكون من قرّ في المكان يقرّ بكسر القاف، فيكون الأصل وقررن حذفت الراء الأولى استثقالا للتضعيف وألقيت حركتها على القاف فصار وقرن كما يقال: ظلت أفعل بكسر الظاء. فأما و «قرن» فقد تكلم فيه جماعة من أهل العربية فزعم أبو حاتم أنه لا مذهب له في كلام العرب، وزعم أبو عبيد أن أشياخه كانوا ينكرونه من كلام العرب. قال أبو جعفر: أما في قول أبي عبيد إنّ أشياخه أنكروه، ذكر هذا في «كتاب القراءات» فإنه قد حكى في «الغريب المصنّف» «3» نقض هذا. حكي عن الكسائي أنّ أهل الحجاز يقولون: قررت في المكان أقرّ. والكسائي من أجلّ مشايخه، ولغة أهل الحجاز هي اللغة القديمة الفصيحة. وأما قول أبي حاتم: أنه لا مذهب له فقد خولف فيه، وفيه مذهبان أحدهما ما حكاه الكسائي، والآخر ما سمعت علي بن سليمان يقوله، قال: هو من قررت به عينا أقرّ. فالمعنى: واقررن به عينا في بيوتكن، وهذا وجه حسن إلّا أن الحديث يدلّ على أنه من الأول كما روي أن عمار قال لعائشة رضي الله عنهما: إنّ الله جلّ وعزّ أمرك أن تقرّي في منزلك، فقالت: يا أبا اليقظان ما زلت قوّالا بالحقّ، فقال: الحمد لله الذي جعلني كذلك على لسانك. وَلا تَبَرَّجْنَ قال أبو العباس: حقيقة التبرّج إظهار الزينة وإظهار ما ستره أحسن، وهو مأخوذ من السعة يقال: في أسنانه تبرّج إذا كانت متفرّقة. قال: و «الجاهلية الأولى» كما تقول: الجاهلية الجهلاء، قال: وكانت النساء في الجاهلية الجهلاء يظهرون ما يقبح إظهاره حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخلمها فينفرد خلمها بما فوق الإزار إلى الأعلى. وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى الأسفل، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل. إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ قال أبو إسحاق: قيل: يراد به نساء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقيل يراد به نساؤه وأهله الذين هم أهل بيته. قال أبو جعفر: والحديث في هذا مشهور عن أم سلمة وأبي سعيد الخدري أن هذا نزل في عليّ وفاطمة والحسن والحسين» رضي الله عنهم، وكان عليهم كساء، وقوله «عنكم» يدلّ على أنه ليس للنساء خاصة. قال أبو إسحاق: أَهْلَ الْبَيْتِ نصب على المدح، قال: وإن شئت على النداء. قال: ويجوز الرفع والخفض. قال أبو جعفر: إن خفضت على أنه بدل من الكاف والميم لم يجز عند محمد بن يزيد، قال: لا يبدل من المخاطب ولا من المخاطب، لأنهما لا يحتاجان إلى تبيين. وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً مصدر فيه معنى التوكيد حوّلت المخاطبة على الحديث المروي إلى أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال جلّ وعزّ: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ.

_ (1) انظر البحر المحيط: 7/ 223. (2) انظر معاني الفراء 2/ 342. (3) انظر الغريب المصنّف ص 261. (4) انظر البحر المحيط 7/ 224، وتفسير الطبري 22/ 6.

[سورة الأحزاب (33) : آية 35]

خفّفت النون الأولى لأنها بمنزلة واو المذكر، تقول في المذكر واذكروا، وثقّلت في الثاني لأنهما بمنزلة الميم والواو في قولك: في بيوتكم إلّا أن الواو يجوز حذفها لثقلها، وأنّ قبلها ميما يدلّ عليها. مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ أكثر أهل التفسير على أنّ الحكمة هاهنا السّنة وبعضهم يقول: هي من الآيات. [سورة الأحزاب (33) : آية 35] إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ اسم إن. وَالْمُسْلِماتِ عطف عليه، ويجوز رفعهن عند البصريين. فأما الفراء فلا يجيزه إلّا فيما لا يتبيّن فيه الإعراب. وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ التقدير والحافظاتها ثم حذف، ويجوز على هذا: ضربني وضربت زيد، فإن لم تحذف قلت: وضربته ومثله: ونخلع ونترك من يفجرك، وإن لم تحذف قلت: وتتركه. وحكى سيبويه «1» : متى ظننت أو قلت زيدا منطلقا، فإن لم تحذف قلت: متى ظننت أو قلت هو زيدا منطلقا، وإن شئت قلت متى ظننت أو قلته زيدا منطلقا. فهذا كلّه على إعمال الأول، فإن أعملت الثاني قلت: متى ظننت أو قلت زيد منطلق. هذه اللغة الجيدة، وإن شئت قلت: متى ظننت أو قلت زيدا منطلقا، على إعمال الثاني وتكون قلت عاملة كظننت. وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ مثله قال مجاهد: لا يكون ذاكرا الله كثيرا جلّ وعزّ قائما وجالسا ومضطجعا. وقال أبو سعيد الخدري: من أيقظ أهله بالليل فصلّيا أربع ركعات كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات. [سورة الأحزاب (33) : آية 36] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً قال الحسن: ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله بأمر ورسوله بأمر أن يعصياه، وقرأ الكوفيون «2» أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ وهو اختيار أبي عبيد لأنه قد فرق بين المؤنّث وبين فعله. قال أبو جعفر: القراءة بالياء جائزة فأما أن تكون مقدّمة على التاء فلأن اللفظ مؤنث فتأنيث فعله حسن، والتذكير على أنّ الْخِيَرَةُ بمعنى التخيّر. [سورة الأحزاب (33) : آية 37] وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37)

_ (1) انظر الكتاب 1/ 178. (2) انظر تيسير الداني 145.

[سورة الأحزاب (33) : آية 38]

وَإِذْ تَقُولُ في موضع نصب وهي غير معربة لأنها لا تتمكّن. لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ قال بعض العلماء: لم يكن هذا من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار منه، وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلّا أن غيره أحسن منه وأخفى ذلك في نفسه خشية أن يفتن الناس. [سورة الأحزاب (33) : آية 38] ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ «من» زائدة للتوكيد سُنَّةَ اللَّهِ مصدر لأن قبله ما هو بمعنى سنّ ذلك. [سورة الأحزاب (33) : آية 39] الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ قال أبو إسحاق: الَّذِينَ في موضع جرّ على النعت لقوله: الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ قال: ويجوز أن يكون في موضع رفع، قال: ويجوز أن يكون في موضع نصب على المدح. [سورة الأحزاب (33) : آية 40] ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وقد كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولاد منهم إبراهيم والقاسم والطّيب، والحسن والحسين رضي الله عنهم ولدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما أن عيسى عليه السلام من ولد آدم صلّى الله عليه وسلّم، ففي هذا جوابان: أحدهما، وهو قول أبي إسحاق، أن المعنى ما كان محمد أبا أحد ممن تبنّاه ولكنه أبو أمته في التبجيل والتعظيم، وإنّ نساءه رضي الله عنهن عليهم حرام، وجواب آخر يكون هذا على الحقيقة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في وقت نزلت فيه هذه الآية لم يكن أبا أحد من الرجال، ومن ذكرنا من إبراهيم والقاسم والطيّب ماتوا صبيانا. وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ قال الأخفش والفراء «1» : أي ولكن كان رسول الله وأجاز وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ بالرفع على إضمار مبتدأ، وزعم الفراء «2» أنه قد قرئ به، وقرأ الحسن والشعبي وعاصم وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ «3» بفتح التاء أي آخر النبيين، كما قرأ علقمة بن قيس خاتمه مسك [المطففين: 26] أي آخره، وخاتم من ختم فهو خاتم وفي قراءة عبد الله «4» ولكنّ نبيا ختم النّبيّين ويقال للذي يلبس خاتم

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 344. (2) انظر معاني الفراء 2/ 344. (3) انظر تيسير الداني 145. (4) انظر مختصر ابن خالويه 220، والبحر المحيط 7/ 228. [.....]

[سورة الأحزاب (33) : آية 42]

وخاتم وخيتام وخاتام. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً خبر كان والتقدير: عليم بكلّ شيء. [سورة الأحزاب (33) : آية 42] وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) قال محمد بن يزيد: الأصيل العشيّ وجمعه أصائل والأصل بمعنى الأصيل وجمعه آصال، وقال غيره: أصل جمع أصيل كرغيف ورغف. [سورة الأحزاب (33) : آية 43] هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ الأصل في الصلاة عند أهل اللغة الدعاء كما قال الأعشى: [البسيط] 344- عليك مثل الّذي صلّيت فاغتمضي ... يوما فإنّ لجنب المرء مضطجعا «1» أي الزمي مثل الدعاء الذي دعوت لي به لأن قبله: 345- تقول بنتي وقد قرّبت مرتحلا ... يا ربّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا «2» ويروى: عليك مثل الذي صلّيت، أي عليك مثل دعائك. وسمّيت الصلاة صلاة لما فيها من الدعاء ولهذا وغيره يقول فقهاء أهل المدينة يدعو في صلاته بما أراد، إلّا أن محمد بن يزيد زعم أن أصل الصلاة: الترحّم، وأخرجها كلّها من باب واحد، والصلاة من الله رحمته عباده، ومن الملائكة رقّة لهم واستدعاء الرحمة من الله جلّ وعزّ إيّاهم، والصلاة من الناس لطلب الرحمة من الله جلّ وعزّ بأداء الفرض أو النفل. إلا أن في الحديث أن بني إسرائيل سألوا صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي ربّك جلّ وعزّ فأعظم ذلك فأوحى جلّ وعزّ إليه أنّ صلاتي أي رحمتي سبقت غضبي. لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ قال الضحاك: «الظلمات» الكفر و «النور» الإيمان، ويجوز «الظّلمات» تبدل من الضمة فتحة لخفّة الفتحة إلا أن الكسائي كان يقول: ظلمات جمع ظلم، وظلم جمع ظلمة، ومن قال: ظلمات حذف الضمة لثقلها. [سورة الأحزاب (33) : آية 44] تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ مبتدأ وخبر. وأجل ما روي فيه أن البراء بن عازب قال: تحيّتهم يوم يلقونه سلام يسلّم ملك الموت على المؤمنين عند قبض روحه لا يقبض روحه حتى يسلم عليه، وتأوله أبو إسحاق على أن هذا في الجنّة، واستشهد بقوله:

_ (1) الشاهد للأعشى في ديوانه 151، ولسان العرب (ضجع) ، و (صلا) ، وتهذيب اللغة 12/ 236، وتاج العروس (ضجع) . (2) الشاهد للأعشى في ديوانه 151، ومقاييس اللغة 3/ 300، وتاج العروس (شفع) .

[سورة الأحزاب (33) : آية 45]

تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وفرق محمد بن يزيد بين التحية والسّلام، فقال: التحيّة تكون لكلّ دعاء والسلام فخصوص، ومنه يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً [الفرقان: 75] . [سورة الأحزاب (33) : آية 45] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) نصب على الحال. قال سعيد عن قتادة: شاهِداً على أمته بالبلاغ وَمُبَشِّراً بالجنة وَنَذِيراً من النار. [سورة الأحزاب (33) : آية 46] وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ أي إلى شهادة أن لا إله إلّا الله، بِإِذْنِهِ قال: بأمره. وَسِراجاً مُنِيراً قال: كتاب الله جلّ وعزّ. قال أبو جعفر: التقدير على قوله وداعيا إلى توحيد الله جلّ وعزّ وذا سراج أي ذا كتاب بين، وأجاز أبو إسحاق أن يكون بمعنى وتاليا كتابا. [سورة الأحزاب (33) : آية 47] وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ والباء تحذف من مثل هذا، ولا يجوز دخول اللام في الخبر. [سورة الأحزاب (33) : آية 48] وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ تأوّله أبو إسحاق بمعنى: دع الأذى الذي يؤذونك به أي لإنجازهم عليه حتى تؤمر فيهم بشيء. وتأوّله غيره لا تؤذهم وكان هذا عنده من قبل أن يؤمر بالقتال. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 49 الى 50] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ «من» زائدة للتوكيد. وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً عطف أي وأحللنا لك امرأة مؤمنة. إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ قال أبو إسحاق: إن وهبت نفسها للنبيّ حلّت له. وقرأ الحسن أن وهبت بفتح الهمزة، و «إن» في موضع نصب. قال أبو إسحاق: فهي لأن وهبت، وقال غيره: إنّ وهبت بدل الاشتمال من امرأة خالِصَةً نصب على الحال. قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ قال قتادة الذي فرض جلّ

[سورة الأحزاب (33) : آية 51]

وعزّ عليهم في أزواجهم أنه لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدلين وصداق، وأن لا يتزوج الرجل أكثر من أربع، وقال غيره: يدلّ على هذا وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور: 32] ، وَلا تَعْضُلُوهُنَّ [النساء: 19] وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 32] مع ما يقوّي ذلك الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فالذي فرض فيه ألّا يحلّ من النساء إلّا سبي من لا ذمة له لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ أي لا تتعدّ هذا، وقيل: هو راجع على قوله: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ وما بعده. [سورة الأحزاب (33) : آية 51] تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) ترجئ من تشاء منهنّ بالهمزة من أرجأت الأمر إذا أخّرته. ويقرأ تُرْجِي «1» بغير همز. وقد تكلم النحويون في الحيلة له فقال بعضهم: هي لغة وإن كانت ليست بالفصيحة، ومنهم من قال: على بدل الهمزة على لغة من قال: قريت. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: الصحيح من قول سيبويه أنه لا يجيز بدل الهمزة لأن أبا زيد قال له: من العرب من يقول في قرأت قريت مثل رميت فقال سيبويه: كيف يقولون في المستقبل؟ قال: يقولون يقرأه قال له سيبويه: كان يجب أن يقولوا: يقرى مثل رميت أرمي. قال أبو الحسن: وهذا من كلام سيبويه يدلّ على أنه لا يجوز عنده، قال: وسمعت محمد بن يزيد يقول: هو من رجا يرجو مشتق، يقال: رجا وأرجيته أي جعلته يرجو. ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ قد ذكرناه «2» . وقيل فيه: ذلك أقرب ألّا يحزن إذا لم تجتمع أحداهن مع الأخرى، وتعاين الأثرة والميل. وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ على توكيد المضمر أي ويرضين كلّهن، وأجاز أبو حاتم وأبو إسحاق وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ على التوكيد للمضمر الذي في «آتيتهنّ» ، والفراء «3» لا يجيزه لأن المعنى ليس عليه إذ كان المعنى وترضى كلّ واحدة منهن، وليس المعنى بما أتيتهن كلّهن. قال أبو جعفر: والذي قال حسن. [سورة الأحزاب (33) : آية 52] لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قال الفراء «4» : اجتمعت القراء على القراءة بالياء

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 120، والبحر المحيط 7/ 234. (2) انظر إعراب الآية 33- الأحزاب. والبحر المحيط 7/ 235. (3) انظر معاني الفراء 2/ 436. (4) انظر معاني الفراء 2/ 346.

[سورة الأحزاب (33) : آية 53]

لا يَحِلُّ لَكَ وزعم أنه لو كان لجميع النساء لكان بالتاء أجود. وقال أبو جعفر: وهذا غلط بين وكيف يقال: اجتمعت القراء على الياء، وقد قرأ أبو عمرو بالتاء «1» بلا اختلاف عنه وإذا كان لجماعة النساء كان بالياء جائزا حسنا. وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: من قرأ لا تحل لك النساء قدره بمعنى جماعة النساء، ومن قرأ بالياء قدّره بمعنى جميع النساء. والفراء يقدره إذا كان بالياء لا يحلّ لك شيء من النساء فحمل التذكير على هذا إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ في موضع رفع على البدل من النساء، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الاستثناء. وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ في موضع رفع عطفا على النساء أي لا يحلّ لك النساء التبدل بهن، ومن قال: إن الآية لا يجوز فإنما أجاز ذلك لأنها في معنى النهي، وإن كان لفظهما لفظ الأخبار لا يجوز أن تنسخ. [سورة الأحزاب (33) : آية 53] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ «إن» في موضع نصب على معنى إلّا بأن يؤذن لكم، ويكون استثناء ليس من الأول إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ نصب على الحال أي لا تدخلوا في هذه الحال، ولا يجوز في غير الخفض على النعت للطعام لأنه لو كان نعتا لم يكن بد من إظهار الفاعلين وكان يكون غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أنتم، ونظير هذا من النحو: هذا رجل مع رجل ملازم له، وإن شئت قلت: هذا رجل ملازم له هو، ومررت برجل معه صقر صائد به، وإن شئت قلت: صائد به هو. وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا الفاء في جواب إذا لازمة لما فيها من معنى المجازاة. وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ في موضع نصب عطفا على غير. ويجوز أن يكون خفضا عطفا على ما بعد غير فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ قال أبو إسحاق: ويقال: يستحي بياء واحدة تحذف الياء تخفيفا. قال أبو جعفر: وقد ذكرت هذا في السورة التي تذكر فيها البقرة «2» . وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ في موضع رفع اسم كان. وَلا أَنْ تَنْكِحُوا معطوف عليه.

_ (1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 523، وتيسير الداني 145. (2) انظر آية 26 من سورة البقرة.

[سورة الأحزاب (33) : آية 56]

[سورة الأحزاب (33) : آية 56] إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ عطف وحكي «وملائكته» بالرفع وأجاز الكسائي على هذا: إنّ زيدا وعمرو منطلقان. ومنع هذا جميع النحويين غيره. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: الآية لا تشبه ما أجازه لأنك لو قلت: إنّ زيدا وعمرو منطلقان، أعملت في منطلقين شيئين وهذا محال، والتقدير في الآية: إنّ الله جلّ وعزّ يصلّي على النبي وملائكته يصلّون على النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم حذفت من الأول لدلالة الثاني. والذي قال حسن. ولقد قال بعض أهل النظر في قراءة من قرأ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ بالنصب مثال ما قال علي بن سليمان في الرفع قال: لأن يصلون إنما هو للملائكة خاصة لأنه لا يجوز أن يجتمع ضمير لغير الله جلّ وعزّ مع الله إجلالا له وتعظيما، ولقد قال رجل للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ما شاء الله وشئت، وأنكر ذلك وعلمه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال له: قل ما شاء الله ثم شئت. [سورة الأحزاب (33) : آية 57] إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الَّذِينَ في موضع نصب وما بعده صلته، وهو يقع لكل غائب مذكر وأخواته «من» و «ما» و «أي» ومؤنثه «التي» فإذا قلت: رأيت من في الدار، كان للآدميّين خاصة، وإذا قلت: رأيت الذي في الدار، كان مبهما للآدميين وغيرهم، وإذا قلت: رأيت ما في الدار، كان لما لا يعقل خاصة ولنعت ما يعقل لو قال قائل: ما عندك؟ فقلت: كريم، كان حسنا. قال محمد بن يزيد: ولو قلت: رجل، كان جائزا لأنه داخل في الأجناس، ولا يجوز أن تقول: زيد ولا عمرو إلّا أن من وما يكونان في الاستفهام والجزاء بغير صلة لأنك لو وصلتهما في الاستفهام كنت مستفهما عما تعرفه، والجزاء مبهم لا يختص شيئا دون شيء فلهذا لم تجز فيه الصلة، و «يؤذون» مهموز لأنه من آذى والأصل بين مهموز مثل آمن فإن خففت الهمزة أبدلت منها واوا فقلت: يوذون لأنه لا سبيل إلى أن يجعلها بين بين لأنها ساكنة. [سورة الأحزاب (33) : آية 58] وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ في موضع رفع بالابتداء، ويجوز أن يكون في موضع نصب على العطف. [سورة الأحزاب (33) : آية 59] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ واحدها زوج. يقال للمرأة: زوج وزوجة، والفصيح

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 إلى 61]

الكثير بغير هاء وبها جاء كل ما في القرآن ولا يجوز أن تجمع زوجة على أزواج، إنما أزواج جمع زوج مثل حوض وأحواض والأصل زوج مثل فلس وأفلس واستثقلوا الحركة في الواو، وقد جاء في فعل أفعال فردّوه إليه فقالوا أزواج وأحواض وللكثير حياض وزياج، وفي قولهم: زوج بغير هاء قولان: أحدهما أن تأنيثه تأنيث صيغة مثل عقرب وعناق، وليس بجار على الفعل فيلزمه الهاء، والجاري على الفعل متزوّجة، والقول الآخر أن العرب تقول لكل مقترنين: زوجان. يقال للخفّين: زوجان، وكذا النعلان والمقرضان «1» والمقصان. قال الله جلّ وعزّ احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود: 40] وقال جلّ وعزّ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص: 58] . وَبَناتِكَ جمع مسلم، وهو جمع بنة مثل هنة وهنات والمحذوف منه ياء، وقد قال بعض النحويين: المحذوف منه واو واستدلّ بقولهم البنوّة. قال أبو جعفر: وهذا لعمري مما تقع فيه المغالطة لأنه ليس فيه دليل لأنهم قد قالوا: الفتوّة وهو من ذوات الياء يدلك على ذلك قوله جلّ وعزّ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ [يوسف: 36] . قال أبو جعفر: وأحسن ما سمعت فيه قول أبي إسحاق قال: هو عندي مشتقّ من بنى يبني. وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ قيل: نساء جمع جواب للأمر، والأمر محذوف والتقدير عند المازني: قل لهنّ أدنين يدنين مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ عن ابن مسعود وابن عباس الجلباب: الرداء. قال محمد بن يزيد: الجلباب كل ما ستر من ثوب أو ملحفة أي يرخين على وجوههن منه. ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ أي يعرفن بالستر والصيانة. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 61] لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد، كما روى سفيان بن سعيد بن منصور عن أبي رزين قال: المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة هم شيء واحد يعني أنهم قد جمعوا هذه الأشياء، وعن ابن عباس وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال فجور وشك، قال: لئن لم ينتهوا عن أذى النبي وعن أذى النساء وفي هذه الآية للعلماء غير قول فمنها أنه لم ينتهوا وأن الله جل وعز قد أغراه بهم لأنه قد قال جلّ وعزّ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ [التوبة: 84] وأنه أمره بلعنهم فهذا هو الإغراء فهذا قول، وقال أبو العباس محمد بن يزيد: قد أغراه بهم في الآية التي تلي هذه مع

_ (1) أخرجه أبو داود في سننه- المناسك، الحديث رقم (1847) ، ومسلم في صحيحه ب 9 رقم 79، والطبراني في المعجم الكبير 17/ 329.

[سورة الأحزاب (33) : آية 62]

اتصال الكلام بها، وهو قوله جلّ وعزّ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم أي هذا حكمهم وهذا أمرهم أن يؤخذوا ويقتلوا إذ كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف. وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «خمس يقتلن في الحرم» «1» فهذا فيه معنى الأمر كالآية سواء. وهذا من أحسن ما قيل وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «خمس يقتلن في الحرم» . لَنُغْرِيَنَّكَ لام القسم واليمين واقعة عليها وأدخلت اللام في إن توطئة لها ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا فكان الأمر كما قال جلّ وعزّ لأنهم لم يكونوا إلا أقلاء فهذا أحد جوابي الفراء «2» ، وهو الأولى عنده أي إلا في حال قتلهم، والجواب الآخر أن يكون المعنى: إلّا وقتا قليلا. مَلْعُونِينَ هذا تمام الكلام عند محمد بن يزيد، وهو منصوب على الحال أي ثم لا يجاورونك إلا أقلاء. عن بعض النحويين أنه قال يكون المعنى أينما أخذوا ملعونين، وهذا خطأ لا يعمل ما كان مع المجازاة فيما قبله. [سورة الأحزاب (33) : آية 62] سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) سُنَّةَ اللَّهِ نصب على المصدر أي سنّ الله جلّ وعزّ فيمن أرجف بالأنبياء وأظهر نفاقه أن يؤخذ ويقتل. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 64 الى 65] إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً فأنّث لأن السعير بمعنى النار. خالِدِينَ فِيها أَبَداً. [سورة الأحزاب (33) : آية 66] يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ وحكى الفراء «3» «يوم تقلّب» بمعنى تتقلّب. ويوم نقلّب وجوههم في النار يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا هذه الألف تقع في الفواصل لتتفق فيوقف عليها ولا يوصل بها. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 67 الى 68] وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) وقرأ الحسن إنّا أطعنا ساداتنا بكسر التاء لأنه جمع مسلّم لسادة، وكان في هذا زجر عن التقليد.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 350. (2) انظر معاني الفراء 2/ 350. (3) انظر تيسير الداني 145، وكتاب السبعة لابن مجاهد 523 والبحر المحيط 7/ 242.

[سورة الأحزاب (33) : آية 69]

وقرأ عاصم وابن عامر وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً و (كثيرا) «1» في هذا أشبه كما قال جلّ وعزّ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة: 159] وهذا اللعن كثير. [سورة الأحزاب (33) : آية 69] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً خبر كان. ولو قلت: كان عبد الله عندنا جالسا، كان في نصبه وجهان: يكون خبر كان ويكون على الحال. والوجيه عند العرب العظيم القدر، الرفيع المنزلة، ويروى أنه كان إذا سأل الله شيئا أعطاه إياه. [سورة الأحزاب (33) : آية 70] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) قال الحكم بن أبان عن عكرمة «قولوا قولا سديدا» قال: لا إله إلا الله وما أشبهها من الصدق والصواب. قال أبو جعفر: الاسم من هذا السّداد بفتح السين وقد استدّ فلان، القياس من فعله سدّ والأصل سدد. فأما السّداد بكسر السين فما غطّي به الشيء، وهو سداد من عوز. [سورة الأحزاب (33) : آية 72] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها قد ذكرناه. ومن حسن ما قيل في معناه أنّ معنى عرضنا أظهرنا كما تقول: عرضت الجارية على البيع، والمعنى: أنّا عرضنا الأمانة وتضييعها على أهل السموات وأهل الأرض من الملائكة والجنّ والإنسان فأبين أن يحملنها أي أن يحملن وزرها، كما قال جلّ وعزّ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: 13] «وحملها الإنسان» قال الحسن يراد به الكافر والمنافق، قال: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً لنفسه جَهُولًا بربّه فيكون على هذا الجواب مجازا، مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ، وفيه جواب آخر على أن يكون حقيقة أنه عرض على السموات والأرض والجبال الأمانة وتضييعها وهي الثواب والعقاب أي أظهر لهن ذلك فلم يحملن وزرها وأطعن فيما أمرن به وما سخّرن له، وحملها الإنسان على ما مر من الجواب الذي تقدم. [سورة الأحزاب (33) : آية 73] لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)

_ (1) انظر تيسير الداني 145، وكتاب السبعة لابن مجاهد 523.

لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ أي بالحجج القائمة عليهم من عرض الأمانة عليهم، وهي إظهار ما أظهر لهم من الوعيد. قال عبد الله بن مسعود: الأمانة: الصلاة والصيام وغسل الجناية، وعن أبيّ بن كعب قال: من الأمانة أنّ المرأة اؤتمنت على فرجها. وفي حديث مرفوع «الأمانة الصلاة» «1» إن شئت قلت صليت، وإن شئت قلت لم أصلّ وكذا الصيام وغسل الجنابة. وقرأ الحسن ويتوب الله «2» بالرفع يقطعه من الأول أي يتوب عليهم بكل حال. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً خبر بعد خبر لكان، ويجوز أن يكون نعتا لغفور، ويجوز أن يكون حالا من المضمر.

_ (1) انظر تفسير الطبري 22/ 23. [.....] (2) انظر البحر المحيط 7/ 244، مختصر ابن خالويه 121.

34 شرح إعراب سورة سبأ

34 شرح إعراب سورة سبأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة سبإ (34) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) الَّذِي في موضع خفض على النعت أو البدل، ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ، وأن يكون في موضع نصب بمعنى أعني. وحكى سيبويه: الحمد لله أهل الحمد بالنصب والرفع والخفض. وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ مبتدأ وخبره. [سورة سبإ (34) : آية 2] يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) يَعْلَمُ في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون مستأنفا. [سورة سبإ (34) : آية 3] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي قسم، والجواب لَتَأْتِيَنَّكُمْ وقرأ أهل المدينة عالم الغيب «1» بالرفع لأن جواب القسم قد تقدّم فحسن الرفع بالابتداء والخبر ما بعده، ويجوز أن يكون مرفوعا على إضمار مبتدأ، ويجوز النصب بمعنى أعني، وقرأ أبو عمرو وعاصم عالِمِ الْغَيْبِ على النعت، وقرأ سائر الكوفيين علّام الغيب «2» بالخفض على النعت أيضا، فعالم يكون للقليل والكثير وعلّام للكثير لا غير، والمستعمل والأشبه في مثل هذا: عالم الغيب فإن قلت: علام الغيوب كان علّام أشبه. وقرأ يحيى بن وثاب والكسائي لا يعزب «3» بكسر الزاي، يقال: عزب يعزب

_ (1) انظر تيسير الداني 146، وكتاب السبعة لابن مجاهد 526. (2) وهذه قراءة ابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي، انظر البحر المحيط 7/ 248. (3) انظر تيسير الداني 146، وكتاب السبعة لابن مجاهد 526.

[سورة سبإ (34) : الآيات 4 إلى 5]

ويعزب. قال الفراء «1» : والكسر أحبّ إليّ، وهي قراءة الأعمش. وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ بالفتح تعطفهما على «ذرّة» ، وقراءة العامة بالرفع على العطف على مثقال. [سورة سبإ (34) : الآيات 4 الى 5] لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) لِيَجْزِيَ منصوب بلام كي، والتقدير لتأتينّكم ليجزي. وقرأ طلحة وعيسى أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ «2» بالرفع على النعت لعذاب. [سورة سبإ (34) : آية 6] وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَيَرَى في موضع نصب معطوف على ليجزي، ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه مستأنف الَّذِينَ في موضع رفع بيرى. أُوتُوا الْعِلْمَ خبر ما لم يسمّى فاعله، الَّذِي في موضع نصب على أنه مفعول أول ليرى هُوَ الْحَقَّ مفعول ثان «وهو» فاصلة والكوفيون يقولون: عماد، ويجوز الرفع على أن يكون «هو» مبتدأ و «الحقّ» خبره والنصب أكثر فيما كانت فيه الألف واللام عند جميع النحويين، وكذا ما كان نكرة لا تدخله الألف واللام فيشبه المعرفة فإن كان الخبر اسما معروفا نحو قولك: كان أخوك هو زيد. وزعم الفراء «3» أن الاختيار فيه الرفع وكذا: كان أبو محمد هو عمرو. وعلّه في اختياره الرفع أنه لما لم يكن فيه ألف ولام أشبه النكرة في قوله: كان زيد هو جالس، لأن هذا لا يجوز فيه إلا الرفع. [سورة سبإ (34) : آية 7] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ وإن شئت أدغمت اللام في النون لقربها منها يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ والمعنى: يقول لكم «وإذا» في موضع نصب، والعامل فيها مزّقتم، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ينبئكم لأنه ليس يخبرهم ذلك الوقت، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما بعد أنّ لأنه لا يعمل فيما قبله، وأجاز أبو إسحاق أن يكون العامل فيها محذوفا، والتقدير: إذا مزّقتم كلّ ممزّق بعثتم. [سورة سبإ (34) : آية 8] أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8)

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 251. (2) انظر تيسير الداني 146. (3) انظر معاني الفراء 2/ 352.

[سورة سبإ (34) : آية 10]

أَفْتَرى لمّا دخلت ألف الاستفهام واستغنيت عن ألف الوصل فحذفتها وكان فتح ألف الاستفهام فرقا بينها وبين ألف الوصل. [سورة سبإ (34) : آية 10] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا مفعولان: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ أي رجّعي الحنين فكانت الجبال تجيبه إذا تلا الزبور، وهو من آب يؤوب إذا رجع. وَالطَّيْرَ «1» بالرفع قراءة الأعرج وأبي عبد الرحمن، والرفع من جهتين: إحداهما على العطف على جبال، والأخرى على العطف على المضمر الذي في أوّبي، وحسن ذلك، لأن بعده «معه» ، والنصب عند أبي عمرو بن العلاء بمعنى وسخّرنا له الطير، وقال الكسائي: هو معطوف على فضلا أي آتيناه الطير، وعند سيبويه «2» معطوف على الموضع أي: نادينا الجبال والطير، ويجوز أن يكون مفعولا معه، كما تقول: استوى الماء والخشبة: أي مع الخشبة. قال أبو جعفر: سمعت أبا إسحاق يجيز قمت وزيدا. وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ قيل: إنه أول من سخّر له الحديد، وقيل أعطي من القوة أنه كان يثني الحديد- والله جلّ وعزّ أعلم بذلك- وقال الحسن: وكان داود صلّى الله عليه وسلّم يأخذ الحديد فيكون في يده مثل العجين فيعمل منه الدروع. [سورة سبإ (34) : آية 11] أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ لأبي إسحاق فيه جوابان: أحدهما أن تكون «أن» بمعنى أي مفسّرة تؤدّي عن معنى: قلنا له اعمل، والجواب الآخر أن يكون في موضع نصب أي وألنّا له الحديد لها ووصلت أن بلفظ الأمر سابِغاتٍ في موضع نصب وأقيمت الصفة مقام الموصوف أي: اعمل دروعا سابغات والدروع مؤنثة إذا كانت للحرب، ودرع المرأة مذكر. وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ قال ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: قدر المسمار لا يكون دقيقا فيسلس ولا غليظا فيفصمها. [سورة سبإ (34) : آية 12] وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ جعله الكسائي نسقا على وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ وقال: المعنى: وألنّا لسليمان الرّيح، وقال أبو إسحاق: التقدير: وسخّرنا لسليمان الريح: وقرأ عاصم وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ «3» بالرفع بالابتداء أو بالاستقرار أي لسليمان الريح ثابتة وفيه ذلك

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 253. (2) انظر الكتاب 2/ 188. (3) انظر تيسير الداني 146، وكتاب السبعة لابن مجاهد 527.

[سورة سبإ (34) : آية 13]

المعنى، فإن قال قائل: إذا قلت: أعطيت زيدا دينارا ولعمرو درهم، فرفعت لم يكن فيه كمعنى الأول، وجاز أن يكون لم تعطه الدرهم قيل: الأمر كذا الآية على خلاف هذا من المعنى قد علم أنه لم يسخّرها أحد غير الله جلّ وعزّ غُدُوُّها شَهْرٌ أي مسيرة شهر، وكذا وَرَواحُها شَهْرٌ وروى الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان سليمان صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس نصبت حواليه أربعمائة ألف كرسيّ ثم جلس رؤساء الإنس مما يليه، وجلس سفلة الإنس مما يليهم، وجلس رؤساء الجنّ مما يلي سفلة الإنس وجلس سفلة الجن مما يليهم، وموكل بكلّ كرسي طائر يعمل بعينه ثم تقلّهم الريح والطير تظلّهم من الشمس، فيغدو من بيت المقدس إلى إصطخر فيقيل بها ثم يروح من إصطخر فيبيت في بيت المقدس ثمّ قرأ ابن عباس غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ. وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ «من» في وضع نصب بمعنى وسخرنا، ويجوز أن يكون في موضع رفع كما تقدّم في الريح. وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ شرط وجوابه. ومِنَ في موضع رفع بالابتداء وهو تام. [سورة سبإ (34) : آية 13] يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ لم ينصرفا لأن هذا الجمع ليس له نظير في الواحد، ولا يجمع كما يجمع غيره من الجموع. والمحراب في اللغة كلّ موضع مرتفع وقيل للذي يصلّي إليه: محراب، لأنه يجب أن يرفّع ويعظّم، وقال الضحاك: «من محاريب» أي من مساجد وتماثيل، قال: صور فقال قوم: عمل الصور جائز لهذه الآية ولما أخبر الله جلّ وعزّ عن المسيح صلّى الله عليه وسلّم، وقال قوم: قد صحّ النهي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عنها والتوعّد لمن عملها أو اتخذها فنسخ صلّى الله عليه وسلّم هذا ما كان مباحا قبله، وكانت في ذلك الحكمة لأنه بعث صلّى الله عليه وسلّم والصّور تعبد، وكان الأصلح إزالتها. وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ الأولى أن يكون بالياء، ومن حذف الياء قال: سبيل الألف واللام أن يدخلا في النكرة فلا يغيّرها عن حالها فلما كان يقال: «جواب» ودخلت الألف واللام أقرّ على حاله بحذف الياء وواحد الجوابي جابية وهي القدر العظيمة والحوض الكبير الذي يجبى إليه الشيء أن يجمع، ومنه جبيت الخراج وجبيت الجراد أي جعلت كساء فجمعته فيه، إلا أنّ ليثا روى عن مجاهد قال: الجوابي جمع جوبة. قال أبو جعفر: الجوبة الحفرة الكبيرة تكون في الجبل يجتمع فيها ماء المطر وَقُدُورٍ راسِياتٍ قال سعيد بن جبير: هي قدور النحاس تكون بفارس. قال الضحاك: هي قدور كانت تعمل من حجارة الجبال. اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً أي يقال لهم. آلَ داوُدَ نداء مضاف ونصب شكر عند أبي إسحاق من جهتين: إحداهما اعملوا للشكر أي لتشكروا الله جلّ وعزّ، والأخرى أن يكون التقدير: اشكروا شكرا. وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ

[سورة سبإ (34) : آية 14]

الشَّكُورُ مبتدأ وخبره. والشكور على التكثير لا غير، وشاكر يقع للقليل والكثير، والشكر لا يكون إلا في شيء بعينه، والحمد أعمّ منه. [سورة سبإ (34) : آية 14] فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) مِنْسَأَتَهُ «1» قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وقرأها الكوفيون بالهمز واشتقاقها يدلّ على أنها مهموزة لأنها مشتقة من نسأته أي أخّرته ودفعته فقيل لها: منسأة لأنه يدفع بها الشيء ويؤخّر. قال مجاهد وعكرمة: هي العصا فمن قرأ (منساته) أبدل من الهمزة ألفا، فإن قال قائل: الإبدال من الهمزة قبيح إنما يجوز في الشعر على بعد وشذوذ وأبو عمرو بن العلاء لا يغيب عنه مثل هذا ولا سيما وأهل المدينة على هذه القراءة فالجواب عن هذا أن العرب استعملت في هذه الكلمة البدل ونطقوا بها هكذا كما يقع البدل في غير هذا ولا يقاس عليه حتى قال أبو عمرو: ولست أدري ممّ هي؟ إلّا أنها غير مهموزة. وهذا كلام العلماء لأن ما كان مهموزا قد يترك همزة وما لم يكن مهموزا لم يجز همزه بوجه. فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ موته وقال غيره: المعنى: تبيّن أمر الجن مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وقيل: المعنى تبيّنت الجن للإنس: وفي التفسير بالأسانيد الصحاح تفسير المعنى، وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: أقام سليمان بن داود صلّى الله عليهما حولا لا يعلم بموته وهو متّكئ على عصاه والجنّ متصرّفة فيما كان أمرها به ثم سقط بعد حول. وقرأ ابن عباس فلما خرّ تبيّنت الإنس أن لو كان الجنّ يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين «2» قال أبو جعفر: وهذه القراءة عن ابن عباس على سبيل التفسير. فأما. أَنْ فموضعها موضع رفع على البدل من الجن أي تبيّن أن لو كان الجنّ يعلمون الغيب، وهذا بدل الاشتمال، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى اللام. [سورة سبإ (34) : آية 15] لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ بالصرف والتنوين على أنه اسم للحيّ، وهو في الأصل اسم رجل جاء بذلك التوقيف عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ أبو عمرو لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ «3» بغير صرف

_ (1) انظر تيسير الداني 146، وكتاب السبعة لابن مجاهد 527، نافع وأبو عمرو بألف ساكنة بدلا من الهمزة، وابن ذكوان بهمزة ساكنة، والباقون بهمزة مفتوحة. (2) انظر المحتسب 2/ 188، والبحر المحيط 7/ 257. (3) انظر تيسير الداني 146.

[سورة سبإ (34) : آية 16]

جعله اسما للقبيلة، وهو اختيار أبي عبيد واستدلّ على أنه اسم قبيلة أن بعده فِي مَسْكَنِهِمْ ولو كان كما كان لكان في مساكنها. آيَةٌ اسم كان أي علامة دالّة على قدرة الله جل وعزّ وانعامه على عباده أنه جعل لأهل سبأ جنتين عن يمين وشمال ومما اجتمع من مطر بين جبلين في وجهه مسنّاة قال يحيى بن سليمان الجعفي: المسنّاة هي التي يسمّيها أهل مصر الجسر فكانوا يفتحونها إذا شاؤوا فإذا رويت جنّتهم سدّوها جَنَّتانِ بدل من الآية ويجوز أن يكون مرفوعا على إضمار مبتدأ، ويجوز أن تنصب «آية» على أنها خبر كان، ويجوز أن تنصب جنتين على الخبر أيضا في غير القرآن. والتقدير: قيل لهم: كلوا من رزق ربّكم واشكروا له. قال الفراء: تمّ الكلام. بَلْدَةٌ بالرفع على إضمار مبتدأ أي هذه بلدة وَرَبٌّ على إضمار مبتدأ أيضا. غَفُورٌ من نعته. فأما في مساكنهم «1» فهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وشيبة ونافع وعاصم وأبي عمرو. وقرأ إبراهيم النخعي وحمزة فِي مَسْكَنِهِمْ وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي فِي مَسْكَنِهِمْ «2» بكسر الكاف. قال أبو جعفر: «مساكن» في هذا أبين لأنه يجمع اللفظ والمعنى فإذا قلت: مسكنهم كان فيه تقديران: أحدهما أن يكون واحدا يؤدّي عن جميع، والآخر أن يكون مصدرا لا يثنّى ولا يجمع، كما قال جلّ وعزّ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ [البقرة: 7] فجاء السمع مفردا، وكذا فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ [القمر: 55] ومن قال: مسكن بكسر الكاف جعله مثل مسجد، وهو خارج عن القياس لا يوجد مثله إلّا سماعا. [سورة سبإ (34) : آية 16] فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ قال عمرو بن شرحبيل: «العرم» المسنّاة، وقال محمد بن يزيد: العرم كلّ حاجز بين شيئين، وهو الذي يسمّى السّكر وهو جمع عرمة وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وقرأ أبو عمرو ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ «3» بغير تنوين مضافا. قال أهل التفسير والخليل رحمه الله: «الخمط» : الأراك وقال محمد بن يزيد: الخمط: كلّ ما تغيّر إلى ما لا يشتهى واللبن خمط إذا حمض. والأولى عنده في القراءة ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ بالتنوين على أنه نعت لأكل أو بدل منه لأن الأكل هو الخمط بعينه عنده فأما الإضافة فباب جوازها أن يكون تقديرها ذواتي أكل حموضة أو أكل مرارة وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ قال الفراء: هو السّمر.

_ (1) انظر تيسير الداني 146، وكتاب السبعة لابن مجاهد 528، ومعاني الفراء 2/ 357. [.....] (2) انظر تيسير الداني 146، وكتاب السبعة لابن مجاهد 528، ومعاني الفراء 2/ 357. (3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 528، وتيسير الداني 146.

[سورة سبإ (34) : آية 17]

[سورة سبإ (34) : آية 17] ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا قال أبو إسحاق: «ذلك» في موضع نصب أي جزيناهم ذلك. وهل يجازى إلا الكفور «1» قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم، وقرأ الكوفيون إلا عاصما وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ «2» وهذا عند أبي عبيد أولى لأن قبله «جزيناهم» ولم يقل جوزوا. قال أبو جعفر: الأمر في هذا واسع، والمعنى فيه بين لو قال قائل: خلق الله جلّ وعزّ آدم من طين، وقال آخر: خلق آدم من طين لكان المعنى واحدا. وفي الآية سؤال لا أعلم في السورة أشدّ منه يقال: ما معنى وهل يجازى إلّا الكفور ولم يذكر أصحاب المعاصي غير الكفار؟ وقد تكلم العلماء في هذا فقال قوم: ليس يجازى بمثل هذا الجزاء الذي هو الاصطلام والهلاك إلّا من كفر. فأما قطرب فجوابه على هذه الآية على خلاف لأنه جعلها في أهل المعاصي غير الكفار وجرى على مذهبه وقوله من كفر بالنعم فعمل الكبائر. وأولى ما قيل في هذه الآية وأجل ما روي فيه أنّ الحسن قال: مثلا بمثل. وروى أيوب عن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من حوسب هلك» فقلت يا نبيّ الله: فأين قوله جلّ وعزّ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً [الانشقاق: 8] قال: «إنما ذلك العرض ومن نوقش الحساب هلك» «3» . قال أبو جعفر: وهذا إسناد صحيح، وشرحه أن الكافر يكافأ على أعماله ويحاسب عليها ويحبط ما عمل من خير، ويبين لك هذا قوله جلّ وعزّ في الأولى ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وفي الثاني «وهل يجازى» فمعنى «يجازى» يكافأ بما عمل، ومعنى «جزيناهم» وفيناهم فهذا حقيقة اللغة وإن كان جازى يقع بمعنى جزى مجازا. [سورة سبإ (34) : آية 18] وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً قال أبو العباس: الظاهرة المرتفعة. وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي جعلناه بمقدار يسيرون ويبيتون في قرية. قال الفراء: «4» وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم فهذا التقدير. سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً ظرفان آمِنِينَ على الحال.

_ (1) انظر تيسير الداني 147، وكتاب السبعة لابن مجاهد 529، حفص وحمزة والكسائي بالنون وكسر الزاي، والباقون بالياء وفتح الزاي والرفع. (2) انظر تيسير الداني 147، وكتاب السبعة لابن مجاهد 529، حفص وحمزة والكسائي بالنون وكسر الزاي، والباقون بالياء وفتح الزاي والرفع. (3) أخرجه الترمذي في سننه- صفة القيامة 9/ 258. (4) انظر معاني الفراء 341.

[سورة سبإ (34) : آية 19]

[سورة سبإ (34) : آية 19] فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا فيه ستة أوجه من القراءات «1» قرأ الحسن وأبو رجاء وأبو مالك وأبو جعفر وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا، وقرأ مجاهد وابن كثير وأبو عمرو ربّنا بعد بين أسفارنا وقرأ محمد ابن الحنفية ويروى عن ابن عباس وأبي صالح ربّنا باعد بين أسفارنا، وقرأ يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر وتروى عن ابن عباس ربّنا بعّد بين أسفارنا، وقرأ سعيد بن أبي الحسن وهو أخو الحسن البصري فقالوا ربّنا بعد بين أسفارنا. فهذه خمس قراءات. وروى الفراء وأبو إسحاق السادسة ربّنا بعد بين أسفارنا قال أبو جعفر: القراءة الأولى ربّنا نصب على أنه نداء مضاف وهو منصوب على أنه مفعول به لأن معناه ناديت ودعوت، وكذلك القراءة الثانية و «باعد» و «بعّد» واحد في المعنى، كما تقول: قارب وقرّب، والمعنى على ما روى محمد بن ثور عن معمر عن قتادة قال: كانوا آمنين يخرجون إلى أسفارهم ولا يتزوّدون يبيتون في قرية ويقيلون في قرية فبطروا النعمة فقالوا: ربّنا بعد بين أسفارنا فعاقبهم الله جلّ وعزّ. والقراءة الثالثة «ربّنا» رفع بالابتداء و «باعد» فعل ماض في موضع الخبر، وكذا الرابعة، وقد فسّرها ابن عباس قال: شكوا أن ربّهم باعد بين أسفارهم. القراءة الخامسة ربّنا بعد بين أسفارنا. «ربّنا» نداء مضاف ثم أخبروا بعد ذلك فقالوا «بعد بين أسفارنا» ورفع «بين» بالفعل أي بعد ما يتصل بأسفارنا. والقراءة السادسة مثل هذه إلا أنها تنصب «بين» على أنه ظرف، وتقديره في العربية: بعد سيرنا بين أسفارنا. وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال: إحداها أجود من الأخرى، لا يقال ذلك في الأخبار إذا اختلفت معانيها ولكن خبّر عنهم أنهم دعوا أن يبعّد بين أسفارهم بطر وأشرا، وخبّر أنهم لمّا فعل بهم ذلك خبّروا به وشكوا، كما قال ابن عباس وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أي بكفرهم فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي يتحدّث بهم بأخبارهم، وتقديره في العربية ذوي أحاديث. وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي لمّا لحقهم ما لحقهم تفرّقوا وتمزّقوا. قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب. وغسان بالشام، وأسد بعمان، وخزاعة بتهامة. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ «صبّار» تكثير صابر، والصابر الذي يصبر عن المعاصي يمدح بهذا الاسم وإن أردت أنه صبر على المعصية لم يستعمل فيه إلا صابر عن كذا قال جلّ وعزّ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10] .

_ (1) انظر القراءات المختلفة في تيسير الداني 147، والبحر المحيط 7/ 262، وكتاب السبعة لابن مجاهد 529، والمحتسب 2/ 189.

[سورة سبإ (34) : آية 20]

[سورة سبإ (34) : آية 20] وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فيه أربع أوجه من القراءات: قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر يروى عن مجاهد وَلَقَدْ صَدَّقَ «1» بالتخفيف. عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ بالرفع. ظَنَّهُ بالنصب. وقرأ ابن عباس ويحيى بن وثاب والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي صَدَّقَ بالتشديد، وقرأ أبو الهجهاج: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه «2» بنصب إبليس ورفع ظنه، قال أبو حاتم: لا وجه لهذه القراءة عندي والله جلّ وعزّ أعلم. قال أبو جعفر: وقد أجاز هذه القراءة الفراء وذكرها أبو إسحاق، وقال: المعنى: صدّق ظنّ إبليس إبليس بما اتّبعوه، والقراءة الرابعة وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ «3» برفع إبليس وظنّه. والقراءة الأولى وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ معناها في ظنّه. قال أبو إسحاق: هو منصوب على المصدر، والقراءة الثانية وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ بنصب «ظنه» بوقوع الفعل عليه. قال مجاهد: ظنّ ظنّا فكان كما ظن فصدّق ظنّه، وعن ابن عباس قال: إبليس خلق آدم من طين فهو ضعيف وأنا من نار فلأحتنكنّ ذرّيّته إلّا قليلا فكان كما قال. وقال الحسن: ما ضربهم بسوط ولا بعصا، وإنما ظنّ ظنّا فكان كما ظنّ بوسوسته. إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نصب بالاستثناء، وفيه قولان: أحدهما أنه يراد به بعض المؤمنين فأما ابن عباس فعنه أنه قال: هم المؤمنون كلّهم. [سورة سبإ (34) : آية 21] وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) مِنْ زائدة للتوكيد. وأهل التفسير يقولون السلطان الحجّة. إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وقد علم الله جلّ وعزّ ذلك غيبا، وهذا علم الشهادة الذي تجب به الحجّة هذا قول أكثر أهل اللغة، وهو عند بعضهم مجاز أي ليكون هذا علمه جازى عليه، وقول ثالث، وهو مذهب الفراء يكون المعنى: إلّا لنعلم ذلك عندكم، كما قال: أَيْنَ شُرَكائِيَ [النحل: 27] . أي على قولكم وعندكم. [سورة سبإ (34) : آية 22] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ في الكلام حذف، والمعنى: قل ادعوا الّذين زعمتم أنّهم آلهة لكم من دون الله لينفعوكم أو ليدفعوا عنكم ما قضاه الله جلّ وعزّ

_ (1) انظر تيسير الداني 147، وكتاب السبعة لابن مجاهد 529. (2) انظر البحر المحيط 7/ 263. (3) انظر مختصر ابن خالويه 121.

[سورة سبإ (34) : آية 23]

عليكم فإنّهم لا يملكون ذلك ولا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ قال الضحاك والسدي أي من معين. [سورة سبإ (34) : آية 23] وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) أَذِنَ «1» وأذن بمعنى واحد كما مرّ في وهل يجازى [سبأ: 17] و «من» هاهنا للشافعين، ويجوز أن تكون للمشفوع لهم، وزعم أبو إسحاق أنها للشافعين أشبه بالمعنى، قال: لأن بعده حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ فيكون هذا للملائكة صلوات الله عليهم. وفي هذا خمس قراءات قراءة العامة حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ «2» ، وعن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ «3» بفتح الفاء والزاي فهاتان القراءتان بمعنى واحد أي فزّع الله جلّ وعزّ عن قلوبهم أي كشف عنها الفزع أي تعدّاها الفزع، وكذا يقول سيبويه «4» في قول العرب: رميت عن القوس أي تعدّى رميي القوس، وقد ذكرنا معناه. وروى هيثم عن عوف عن الحسن أنه قرأ حتى إذا فرّغ عن قلوبهم «5» بضم الفاء وبراء غير معجمة وبعدها غين معجمة وكذا قرأ أبو مجلز. وروى مطر الوراق عن الحسن حتى إذا فزّع عن قلوبهم «6» وهاتان القراءتان يؤول معناهما إلى معنى الأولين لأن المعنى: حتّى إذا فرّغ عن قلوبهم الفزع أزيل عن قلوبهم إلّا أن مجاهدا قال في تفسير هذه الآية على ما رواه عنه ورقاء عن أبي نجيح: إنها في يوم القيامة. قال: إذا كشف الغطاء. وروى أيّوب وحميد الطويل عن الحسن حتّى إذا فرغ عن قلوبهم بضمّ الفاء وبراء مخففة غير معجمة وبعدها غين معجمة فهذه الروايات عن الحسن مستقيمات الطرق لا مطعن في واحد رواها، وكلّها صحاح عنه قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ «ماذا» في موضع نصب بقال ويجوز أن يكون «ما» في موضع رفع بالابتداء و «ذا» في موضع الخبر، ومعناه معنى الذي قالُوا الْحَقَّ على أن «ماذا» في موضع نصب أي قال الحق، ويجوز رفع «الحقّ» على أن ما في موضع رفع. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ابتداء وخبر. و «العليّ» الجبار المتعالي، و «الكبير» السيّد المقصود. [سورة سبإ (34) : آية 24] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)

_ (1) انظر تيسير الداني 147، وأذن بضم الهمزة قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي والباقين بفتحها. (2) انظر تيسير الداني 147، وكتاب السبعة لابن مجاهد 530. (3) انظر الكتاب 4/ 348. (4) انظر الكتاب 4/ 348. [.....] (5) انظر البحر المحيط 7/ 266، ومعاني الفراء 2/ 361. (6) انظر البحر المحيط 7/ 266، ومعاني الفراء 2/ 361.

[سورة سبإ (34) : آية 27]

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ مَنْ في موضع رفع بالابتداء، وهي اسم تام لأنها للاستفهام ويَرْزُقُكُمْ في موضع الخبر ويجوز إدغام القاف في الكاف فتقلب القاف كافا وَإِنَّا والأصل وإنّنا فحذفت النون تخفيفا أَوْ إِيَّاكُمْ معطوف على اسم «إنّ» ولو عطف على الموضع لكان أو أنتم ويكون لَعَلى هُدىً للأول لا غير لو قلت: أو أنتم فإذا قلت: أو إيّاكم كان للثاني أولى وحذفت من الأول، ويجوز أن يكون للأول وهو اختيار أبي العباس، قال: ومعناه معنى قول المستنصر بصاحبه على صحّة الوعيد واستظهار بالحجّة الواضحة أحدنا كاذب وقد عرف المعنى، وكما تقول: أنا أفعل كذا وتفعل أنت كذا وأحدنا مخطئ وقد عرف أنه هو المخطئ، وهكذا وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. [سورة سبإ (34) : آية 27] قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ تكون أَرُونِيَ هاهنا من رؤية القلب أي عرّفوني هذه الأصنام والأوثان التي جعلتموها شركاء لله جلّ وعزّ هل شاركته في خلق شيء فبيّنوا ما هو وإلّا فلم تعبدونها؟ ويجوز أن يكون من رؤية البصر فيكون «شركاء» حالا. قال أبو إسحاق: والمعنى: أروني الذين ألحقتموهم به شركاء ثم حذف لأنه في الصلة. قال: ثم قال جلّ وعزّ كَلَّا ردع وتنبيه أي ارتدعوا عن هذا القول، وتنبهوا على ضلالكم. [سورة سبإ (34) : آية 28] وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً نصب على الحال. قال أبو إسحاق: والمعنى: أرسلناك جامعا للناس لأنه صلّى الله عليه وسلّم أرسل إلى العرب والعجم. [سورة سبإ (34) : آية 30] قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وأجاز النحويون لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ «1» على أنه بدل من ميعاد، وأجازوا ميعاد يوما لا تستأخرون عنه «2» على أن يكون ظرفا وتكون الهاء تعود على يوم ولا يجوز الإضافة كما تقول: إنّ يوما زيد فيه أمير عبد الله فيه وزير، بتنوين يوم لا غير فإن حذفت فيه جار حذف التنوين ونصبت عبد الله على أنه اسم إنّ، ويجوز مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ «3» بغير تنوين في يوم على أن يكون الهاء التي في «عنه» تعود على ميعاد لا على يوم.

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 270، ومعاني الفراء 2/ 36. (2) انظر البحر المحيط 7/ 270، ومعاني الفراء 2/ 36. (3) انظر مختصر ابن خالويه 122.

[سورة سبإ (34) : آية 31]

[سورة سبإ (34) : آية 31] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قال سعيد عن قتادة: وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب والأنبياء عليهم السلام. وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ الظَّالِمُونَ بالابتداء مرفوعون، ومَوْقُوفُونَ خبره، والجملة في موضع خفض بالإضافة، ولا يجوز أن تنصب «موقوفون» على الحال لأن إذ ظرف زمان فلا تكون خبرا عن الجثث، وجواب «لو» محذوف لعلم السامع. يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أي يجاوبه واللغة الفصيحة هذه يقال: رجعت زيدا. يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ هذه اللغة الفصيحة ومن العرب من يقول: لولاكم حكاها سيبويه «1» ويكون «لولا» تخفض المضمر وترفع المظهر بعدها بالابتداء وتحذف خبره، ومحمد بن زيد يقول: لا يجوز «لولاكم» لأن المضمر عقب المظهر فلما كان المظهر مرفوعا بإجماع وجب أن يكون المضمر أيضا مرفوعا. [سورة سبإ (34) : آية 32] قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أي أنتم اخترتم الكفر ولم يكن لنا عليكم سبيل إلّا أن دعوناكم فاستجبتم لنا. [سورة سبإ (34) : آية 33] وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ قال الأخفش: أي هذا مكر الليل والنهار. قال أبو جعفر: والمعنى والله جلّ وعزّ أعلم، مكركم في اللّيل والنهار أي مشارتكم إيانا ودعاؤكم لنا إلى الكفر الذي حملنا على هذا. قال محمد بن يزيد: أي بل مكركم الليل والنهار كما تقول العرب: نهاره صائم، وليله قائم، وأنشد: [الطويل] 346- لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى ... ونمت وما ليل المطيّ بنائم «2»

_ (1) انظر الكتاب 2/ 395. (2) الشاهد لجرير في ديوانه 993، وخزانة الأدب 1/ 465، ولسان العرب (ريح) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 60، والصاحبي في فقه اللغة 222، والمحتسب 2/ 184، والمقتضب 3/ 105.

[سورة سبإ (34) : آية 34]

وأنشد سيبويه: [الرجز] 347- فنام ليلي وتجلّى همّي «1» أي نمت فيه، وروى جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ قال ممرّ اللّيل والنّهار عليهم فغفلوا، وقرأ راشد بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «2» بالنصب كما يقال: رأيته مقدم الحاج، وإنما يجوز هذا فيما يعرف، ولو قلت: رأيته مقدم زيد لم يجز إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً قال: ويقال: نديد وأنشد: [الوافر] 348- أتيما تجعلون إليّ ندّا ... وما تيم لذي حسب نديد «3» وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ في معناه قولان: أحدهما أن معنى أسروا أظهروا وأنه من الأضداد، كما قال: [الطويل] 349- تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا ... عليّ حراصا لو يسرّون مقتلي «4» وقد روي يشرّون. وقيل وأسرّوا الندامة تبيّنت الندامة في أسرار وجوههم. وقيل: الندامة لا تظهر وإنما تكون في القلب وإنما يظهر ما يتولّد عنها. [سورة سبإ (34) : آية 34] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها قال سعيد عن قتادة: مترفوها جبابرتها ورؤوسها وقادة الشر. [سورة سبإ (34) : آية 36] قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) أحسن ما قيل في هذا قاله الحسن، قال: يخير له والمعنى على قوله وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن الله جلّ وعزّ إنما يبسط الرزق لمن يشاء، ويقدر على المحنة ويفعل بهم الذي هو خير لهم. [سورة سبإ (34) : آية 37] وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37)

_ (1) الرجز لرؤبة في ديوانه 142، والمحتسب 2/ 184 وبلا نسبة في خزانة الأدب 8/ 202، والمقتضب 3/ 105. (2) وهذه قراءة ابن جبير وطلحة أيضا، انظر البحر المحيط 7/ 271، ومختصر ابن خالويه 122. (3) مرّ الشاهد رقم (237) . (4) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص 13، وجمهرة اللغة 736، وخزانة الأدب 11/ 238، وشرح شواهد المغني 2/ 651، ولسان العرب (شرر) ، ومغني اللبيب 1/ 265، وبلا نسبة في رصف المباني 292.

وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى قال الأخفش: أي أزلافا. وهو اسم المصدر وزعم الفراء «1» أن التي تكون للأموال والأولاد جميعا، وله قول آخر، وهو مذهب أبي إسحاق، يكون المعنى وما أموالكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ثم حذف، وأنشد الفراء: [الخفيف] 350- نحن بما عندنا وأنت بما عندك ... راض والرّأي مختلف «2» وأنشد: [الكامل] 351- إنّي ضمنت بما أتاني ما جنى ... وأبي وكان وكنت غير غدور «3» ويجوز في غير القرآن باللتين وباللاتي وباللواتي وبالذين للأولاد خاصة. إِلَّا مَنْ آمَنَ في موضع نصب بالاستثناء. وزعم أبو إسحاق أنه في موضع نصب على البدل من الكاف والميم التي في «تقربكم» وهذا القول كأنه غلط لأن الكاف والميم للمخاطب فلا يجوز البدل، ولو جاز هذا لجاز: رأيتك زيدا. وقول أبي إسحاق هذا هو قول الفراء «4» إلّا أن الفراء لا يقول: بدل لأنه ليس من لفظ الكوفيين ولكن قوله يؤول إلى ذلك وزعم أن مثله إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 89] يكون منصوبا عنده بينفع وأجاز الفراء «5» أن يكون «من» في قوله جلّ وعزّ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ في موضع رفع بمعنى ما هو إلّا من آمن كذا قال، ولست أحصل معناه. فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وأجاز النحويون أولئك لهم جزاء الضعف «6» يكون بدلا من جزاء أو على إضمار مبتدأ، وأجازوا «أولئك لهم جزاء الضّعف» بمعنى أولئك لهم أن نجزيهم الضعف، وأجازوا أولئك لهم جزاء الضعف «7» . قال أبو إسحاق: والمعنى: أولئك لهم الضعف جزاء أي في حال مجازاتهم. وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ «8» وعن الحسن في الغرفات «9» إسكان الراء، وعن الأعمش وحمزة في الغرفة «10» . قال أبو جعفر: «الغرفات» جمع غرفة على جمع التسليم إلّا أن الراء ضمت فرقا بين الاسم والنعت، ومن قال: غرفات حذف الضمة لثقلها، ومن قال:

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 336. (2) مرّ الشاهد رقم (185) . (3) الشاهد للفرزدق في الكتاب 1/ 126، والردّ على النحاة 100، وشرح أبيات سيبويه 1/ 226، ولسان العرب (قعد) وتفسير الطبري 26/ 158، وبلا نسبة في معاني الفراء 1/ 434، وهو غير موجود في ديوان الفرزدق. [.....] (4) انظر معاني الفراء 2/ 363. (5) انظر معاني الفراء 2/ 363. (6) انظر البحر المحيط 7/ 273. (7) انظر معاني الفراء 2/ 364. (8) انظر البحر المحيط 7/ 273. (9) انظر البحر المحيط 7/ 273، ومختصر ابن خالويه 122، وتيسير الداني 147. (10) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 530.

[سورة سبإ (34) : آية 39]

غرفات أبدل من الضمة فتحة لأنها أخف، ويجوز أن يكون «غرفات» جمع غرف ومن قرأ الْغُرْفَةَ أتى بواحدة تدل على جماعة والجمع أشبه لأن الإخبار عن جمع. [سورة سبإ (34) : آية 39] قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وهذا فيما أنفق في طاعة الله جلّ وعزّ فهو مخلف لا محالة إما في الدنيا وإما في الآخرة. وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي رزق العباد. [سورة سبإ (34) : آية 40] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً على الحال ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قال سعيد عن قتادة هذا استفهام مثل قوله جلّ وعزّ لعيسى عليه السلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ [المائدة: 116] . قال أبو جعفر: والمعنى أن الملائكة صلوات الله عليهم إذا أكذبتهم كان في ذلك تبكيت لهم. [سورة سبإ (34) : آية 41] قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أي أنت المتولّي لنا دونهم. بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أي يطيعونهم. أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ بقبولهم منهم وهو مجاز. [سورة سبإ (34) : آية 46] قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ قال سفيان عن ليث عن مجاهد: «بواحدة» قال: لا إله إلا الله، وقال غيره: تقديره بخصلة واحدة ثم بينها بقوله جلّ وعزّ: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى وتكون «أن» في موضع خفض على البدل من واحدة أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ، ومذهب أبي إسحاق أنها في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا مَثْنى وَفُرادى على الحال وهو لا ينصرف لعلّتين قد ذكرناهما «1» ، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا معطوف على تقوموا. [سورة سبإ (34) : آية 48] قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) وقرأ عيسى بن عمر علام الغيوب «2» على أنه بدل أي: قل إنّ ربّي علّام

_ (1) انظر إعراب الآية 3/ من سورة النساء. (2) انظر البحر المحيط 7/ 278، وهذه قراءة ابن أبي إسحاق وزيد بن علي وابن أبي عبلة وأبي حيوة وحرب أيضا.

[سورة سبإ (34) : آية 49]

الغيوب يقذف بالحقّ. قال أبو إسحاق: والرفع من جهتين: على الموضع لأن الموضع رفع وعلى البدل مما في «يقذف» . قال أبو جعفر: وفي الرفع وجهان آخران: يكون خبرا بعد خبر، ويكون على إضمار مبتدأ. وزعم الفراء أن الرفع في مثل هذا أكثر في كلام العرب إذا أتى بعد خبر «إنّ» ومثله إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: 64] . [سورة سبإ (34) : آية 49] قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ جاءَ الْحَقُّ قال سعيد عن قتادة، قال: القرآن. قال أبو جعفر: والتقدير: جاء صاحب الحقّ أي الكتاب الذي فيه البراهين والحجج الحق. وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ قال سعيد عن قتادة، قال: الباطل إبليس. والتقدير في العربية صاحب الباطل. وقال الضحاك: الباطل الآلهة، وقال: وما يبدئ وما يعيد أي ما يحيى وما يميت وقال قتادة ما يُبْدِئُ وما يُعِيدُ ما يخلق وما يبعث، وقال غيره: «ما يُبْدِئُ الْباطِلُ» أي ما يبتدي بحجة و «ما يُعِيدُ» ما يحكي عن غيره حجة «ما» الأولى في موضع نصب يبدئ، و «ما» الثانية في موضع نصب بيعيد. قال أبو إسحاق: والأجود أن تكون «ما» نافية. [سورة سبإ (34) : آية 50] قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي شرط وجوابه، وكذا وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي فإن جعلت «ما» بمعنى الذي كانت الهاء محذوفة، وإن جعلتها مصدرا لم يحتج إلى عائد إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ أي يسمع ممن دعاه قريب الإجابة له. [سورة سبإ (34) : آية 51] وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ حذف جواب «لو» قال أبو إسحاق: المعنى: ولو ترى إذ فزعوا لرأيت ما يعتبر به عبرة شديدة أي فلا فوت لهم أي فلا يمكنهم الفوت. [سورة سبإ (34) : آية 52] وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وقرأ أبو عمرو والكسائي والأعمش وحمزة وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ «1» بالهمز وأبو عبيد يستبعد هذه القراءة، لأن «التناؤش» البعد فيكون فكيف يكون وأنّى لهم البعد من مكان بعيد. قال أبو جعفر: والقراءة جائزة حسنة ولها وجهان في كلام العرب ولا يتناول بها هذا المتناول البعيد، فأحد الوجهين أن يكون الأصل غير مهموز ثم همزت الواو لأن الحركة فيها خفية وذلك كثير في كلام العرب، وفي المصحف الذي نقلته

_ (1) انظر تيسير الداني 147، والبحر المحيط 7/ 280.

[سورة سبإ (34) : آية 53]

الجماعة عن الجماعة وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ [المرسلات: 11] والأصل «وقّتت» لأنه مشتق من الوقت. ويقال في جمع دار: أدؤر. والوجه الآخر قد ذكره أبو إسحاق: قال: يكون مشتقا من «النئيش» وهو الحركة في إبطاء أي من أين لهم الحركة فيما قد بعد وقد كفروا به من قبل؟ [سورة سبإ (34) : آية 53] وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ والعرب تقول لكلّ من يتكلّم بما لا يحقه: هو يقذف ويرجم بالغيب. مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ على التمثيل بمن يرجم ولا يصيب برجمه. ومن قرأ وَيَقْذِفُونَ «1» فمعناه عنده يقذف به إليهم من يغويهم ويضلّهم. [سورة سبإ (34) : آية 54] وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ قيل: حيل بينهم وبين النجاة من العذاب، وقيل: حيل بينهم وبين ما يشتهونه في الدنيا من أموالهم وأهليهم. ومذهب قتادة أن المعنى أنهم كانوا يشتهون أن يقبل منهم أن يطيعوا الله جلّ وعزّ وينتهوا إلى ما يأمرهم به فحيل بينهم وبين ذلك، لأن ذلك إنما كان في الدنيا، وقد زالت في ذلك الوقت. والأصل في حيل «حول» فقلبت حركة الواو على الحاء فانقلبت ياء فحذفت حركتها لثقلها. إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ أي في الدنيا والتوحيد مُرِيبٍ أي يستراب به.

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 122.

35 شرح إعراب سورة فاطر

35 شرح إعراب سورة فاطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة فاطر (35) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيه ثلاثة أوجه: الخفض على النعت، والرفع على إضمار مبتدأ، أو النصب على المدح، وحكى سيبويه «1» : الحمد لله أهل الحمد، مثله، وكذا جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا ولا يجوز فيه التنوين لأنه لما مضى رُسُلًا مفعول ثان، ويقال: على إضمار فاعل لأن «فاعلا» إذا كان لما مضى مضافا لم يعمل شيئا أُولِي أَجْنِحَةٍ نعت، قال أبو إسحاق: أي أصحاب أجنحة مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لم ينصرف لأن فيها علّتين: إحداهما أنها معدولة فهذا اتّفاق، واختلف في الثانية لأن النحويين القدماء لم يذكروها. قال أبو إسحاق: العلّة الثانية أنّه عدل في حال نكرة وقال غيره: العلّة الثانية أنه صفة، وقول ثالث إنه معدول عن اثنين اثنين فهذه علّة ثانية. [سورة فاطر (35) : آية 2] ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) وأجاز النحويون «2» في غير القرآن: فلا ممسك له، على لفظ «ما» «ولها» على المعنى وأجازوا: وَما يُمْسِكْ فلا مرسل لها على معنى «ما» ، وأجازوا: فلا ممسك لها، يكون بمعنى ليس وكذا «فلا مرسل له» وأجازوا: «ما يفتح الله للناس من رحمة» تكون «ما» بمعنى الذي. [سورة فاطر (35) : آية 3] يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)

_ (1) انظر الكتاب 2/ 57. (2) انظر معاني الفراء 2/ 66.

[سورة فاطر (35) : آية 4]

يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ هذه قراءة شيبة ونافع وأبي عمرو وعاصم، وقرأ شقيق بن سلمة ويزيد بن القعقاع ويحيى بن وثّاب وحمزة والكسائي هل من خالق غير الله «1» ويجوز نصب غير على الاستثناء. والرفع من جهتين: إحداهما بمعنى: هل من خالق إلّا الله بمعنى ما خالق إلّا الله، والوجه الثاني أن يكون نعتا على الموضع، لأن المعنى هو خالق غير الله. والخفض على اللفظ، وقال حماد ابن سلمة: حدّثنا حميد الطويل قال: قلت للحسن: من خلق الشرّ؟ فقال: سبحان الله، هل من خالق غير الله جلّ وعزّ الله خلق الخير والشرّ. [سورة فاطر (35) : آية 4] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تأسيا له صلّى الله عليه وسلّم. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ قال أبو إسحاق: أي الأمور مرجعها إلى الله جلّ وعزّ فيجازي من كذّب وينصر من كذّب من رسله. [سورة فاطر (35) : آية 5] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا قال سعيد بن جبير: غرور الحياة الدنيا أن يشغل الإنسان بنعيمها وفتنتها عن عمل الآخرة حتى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الفجر: 24] وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. وقال شعبة عن سماك وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ «2» بضم الغين. وفيه ثلاثة أقوال: منها أن يكون مع غار، كما تقول جالس وجلوس، وهذا أحسن ما قيل فيه، ويكون معناه كمعنى «الغرور» ، قال أبو حاتم: الغرور جمع غر، وغر مصدر، والقول الثالث يكون الغرور مصدرا، وهذا بعيد عند أبي إسحاق لأن غررته متعد، والمصدر من المتعدّي إنّما هو على فعل نحو ضربته ضربا إلّا أشياء يسيرة سمعت لا يقاس عليها قالوا: لزمته لزما، ونهكه المرض نهوكا. فأما معنى هذا الحرف فأحسن ما قيل فيه ما قاله سعيد بن جبير، قال: الغرور بالله جلّ وعزّ أن يكون الإنسان يعمل المعاصي ثم يتمنّى على الله جلّ وعزّ المغفرة. [سورة فاطر (35) : آية 6] إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ ويكون عدوّ بمعنى معاد فيثنّى ويجمع ويؤنث، ويكون بمعنى النسب فيكون موحّدا بكلّ حال كما قال جلّ وعزّ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشعراء: 77] وفي المؤنث على هذا عدوّ أيضا. فأما قول بعض النحويين: إن الواو خفيّة فجاؤوا بالهاء فخطأ بل الواو حرف جلد. فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا مفعولان. إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ

_ (1) انظر تيسير الداني 148، وفيه (غير الله) بخفض الراء قراءة حمزة والكسائي والباقون برفعها. [.....] (2) انظر مختصر ابن خالويه 122.

[سورة فاطر (35) : آية 7]

كفّت «ما» «إنّ» عن العمل فوقع بعدها الفعل لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [سورة فاطر (35) : آية 7] الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) الَّذِينَ كَفَرُوا يكون بدلا من «أصحاب» ويكون في موضع خفض، ويكون بدلا من حزبه فيكون في موضع نصب، أو يكون بدلا من الواو فيكون في موضع رفع، وقول رابع، وهو أحسنها، يكون في موضع رفع بالابتداء ويكون خبره لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ. فأما وَالَّذِينَ آمَنُوا ففي موضع رفع بالابتداء وخبره لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ. [سورة فاطر (35) : آية 8] أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ «من» في موضع رفع بالابتداء، وخبره محذوف لما دلّ عليه. قال الكسائي: والذي دلّ عليه. فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ والمعنى: أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا ذهبت نفسك عليهم حسرات، قال: وهذا كلام عربي حسن ظريف لا يعرفه إلّا قليل. والذي قاله الكسائي أحسن ما قيل في الآية لما ذكره فمن الدلالة على المحذوف، والمعنى أنّ الله جلّ وعزّ نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن شدّة الاغتمام بهم والحزن عليهم كما قال جلّ وعزّ لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ [الشعراء: 3] قال أهل التفسير: أي: قاتل نفسك، وقرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا نصر بن علي قال: سألت الأصمعي عن قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في أهل اليمن «هم أرقّ قلوبا وأبخع طاعة» «1» ما معنى أبخع طاعة، قال أنصح طاعة قال: فقلت له: إنّ أهل التفسير مجاهدا وغيره يقولون: في قول الله جلّ وعزّ لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ معناه قاتل نفسك فقال: هو من ذلك بعينه كأنه من شدّة النصح لهم قاتل نفسه، وقراءة أبي جعفر فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ «2» والمعنيان متقاربان و «حسرات» منصوب على أنه مفعول من أجله أو مصدر. [سورة فاطر (35) : آية 9] وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) وبَلَدٍ مَيِّتٍ وميّت «3» واحد، وكذا ميتة وميتة واحد. هذا قول الحذّاق من النحويين، وقال محمد بن يزيد: هذا قول البصريين ولم يستثن أحدا واستدلّ على ذلك بدلائل قاطعة من كلام العرب.

_ (1) أخرجه الترمذي في المناقب 10/ 286. (2) انظر البحر المحيط 7/ 288، ومعاني الفراء 2/ 367. (3) انظر تيسير الداني 73.

[سورة فاطر (35) : آية 10]

وأنشد «1» : [الخفيف] 352- ليس من مات فاستراح بميت ... إنّما الميت ميّت الأحياء إنّما الميت من يعيش كئيبا ... كاسفا باله قليل الرّخاء ويروى «قليل الرّجاء» قال: فهل ترى بين ميت وميت من فرق؟ وأنشد: [البسيط] 353- هينون لينون أيسار بنو يسر ... سوّاس مكرمة أبناء أيسار «2» قال: قد أجمعوا على أنّ قوله: هينون وهيّنون واحد، فكذا ميت وميّت وسيد وسيّد، قال: وزعم سيبويه أن قولهم كان كينونة وصار صيرورة الأصل فيه كينونة وصيرورة، وكذا قيدودة، وردّ محمد بن يزيد «3» على الكوفيين قولهم: إنه فعلول من جهتين: إحداهما لأنه ليس في كلام العرب فعلول والثانية أنه لو كان كما قالوا لكان بالواو. قال أبو جعفر: هذا كلام بيّن حسن في كينونة لأنها من الكون وفي القيدودة لأنها من الأقود. كَذلِكَ النُّشُورُ أي كذلك تحيون بعد ما متّم. من نشر الإنسان نشورا إذا حيي وأنشره الله جلّ وعزّ. [سورة فاطر (35) : آية 10] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ التقدير عند الفراء: من كان يريد علم العزّة، وكذا قال غيره من أهل العلم من كان يريد علم العزّة التي لا ذلة معها لأن العزّة إذا كانت تؤدّي إلى ذلّة فإنها هي تعرّض للذلة، والعزّة التي لا ذلّة معها لله جلّ وعزّ. جَمِيعاً على الحال. وقدر أبو إسحاق معناه: من كان يريد بعبادة الله جلّ وعزّ العزّة به فإن الله يعزّه في الآخرة والدنيا. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ تمّ الكلام وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي إليه يصعد الكلام «4» والكلم جمع كلمة. وأهل التفسير ابن عباس ومجاهد والربيع ابن أنس وشهر بن حوشب وغيرهم قالوا: والمعنى العمل الصالح يرفع الكلم الطيّب. وهذا رد على المرجئة. وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ رفع بالابتداء أو على إضمار فعل. فأما أن يكون مرفوعا بمعنى ويرفعه العمل الصالح فخطأ لأن الفاعل إذا كان قبل الفعل لم يرتفع بالفعل. هذا قول جميع النحويين إلّا شيئا حكاه لنا علي بن سليمان عن أحمد بن

_ (1) الشعر لعدي بن الرعلاء في تاج العروس (موت) ، ولسان العرب (موت) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 14/ 343 وتاج العروس (حيي) ، والتنبيه والإيضاح 1/ 173. (2) الشاهد لعبيد بن العرندس الكلابي في الكامل 72، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 265، والخصائص 2/ 289، والمنصف 3/ 61. (3) انظر المقتضب 3/ 135. (4) انظر معاني الفراء 2/ 367، والبحر المحيط 7/ 290.

[سورة فاطر (35) : آية 11]

يحيى أنه أجاز: زيد قام بمعنى قام زيد. قال أبو جعفر: ويبيّن لك فساد هذا قول العرب: الزيدان قاما، ولو كان كما قال لقيل: الزيدان قام. وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ بمعنى والذين يعملون السيئات فتكون السيئات مفعولة، ويجوز أن يكون التقدير والذين يسيئون فيكون السيئات مصدرا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ خبر «الذين. وَمَكْرُ أُولئِكَ مبتدأ، وهو ابتداء ثان ويَبُورُ خبر الثاني، ويجوز أن يكون خبرا عن الأول، ويكون هذا زائدة. وتقول: بار يبور إذا هلك ومنه بارت السوق، ونعوذ بالله جلّ وعزّ بوار الأيّم. [سورة فاطر (35) : آية 11] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ قال سعيد عن قتادة قال: يعني آدم صلّى الله عليه وسلّم والتقدير على هذا خلق أصلكم من تراب. ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ قال: أي التي أخرجها من ظهور آبائكم. ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً قال: أي زوّج بعضكم بعضا. وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ. حدّثنا علي بن الحسين عن الحسن بن حمد قال: حدّثنا ابن عوانة عن عطاء ابن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: وما يعمّر من معمّر إلّا كتب عمره كم هو سنة؟ كم هو شهرا؟ كم هو يوما؟ وكم هو ساعة؟ ثم يكتب عند عمره نقص كذا نقص كذا حتى يوافق النقصان العمر. ومذهب الفراء في معنى وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ أي ما يطوّل من عمره وما ينقص من عمره يعني آخر أي ولا ينقص الآخر من عمر ذاك إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ والفعل منه يسر، ولو سمّيت به إنسانا انصرف لأنه فعيل. [سورة فاطر (35) : الآيات 12 الى 13] وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ روى ابن عباس قال: فرات حلو، وأجاج: مالح مرّ. وقرأ طلحة وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ «1» بفتح الميم وكسر اللام بغير ألف، وأما المالح فهو الذي يجعل الملح لإصلاح الشيء. وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا لا اختلاف في هذا أنّه منهما جميعا. وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها مذهب أبي إسحاق أن الحلية إنما تستخرج من الملح فقيل: منهما لأنهما مختلطان، وقال غيره: إنما تستخرج

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 291، والمحتسب 2/ 199.

[سورة فاطر (35) : آية 14]

الأصداف التي قال فيها الحلية من الدرّ وغيره، ومن المواضع التي فيها العذب والملح نحو العيون وقال محمد بن يزيد قولا ثالثا هو أحسنها قال: إنما تستخرج الحلية من الملح خاصة، وليس هذا عنده لأنهما مختلطان ولكن جمعا ثم خبّر عن أحدهما كما قال جلّ وعزّ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [يونس: 67] وكما تقول: لو رأيت الحسن والحجّاج لرأيت خيرا وشرا، وكما تقول: لو رأيت الأصمعيّ وسيبويه لملأت يدك لغة ونحوا، فقد عرف معنى هذا، وهو كلام فيصيح كثير فكذا. وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها فاجتمع في الأول وانفرد الملح بالثاني فصارا مجتمعين في كل هذا. قال: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ أي في الملح خاصة، ولولا ذلك لقال: فيهما وقد مخرت السفينة تمخر وتمخر إذا شقّت الماء، كما قال طرفة: [الطويل] 354- يشقّ حباب الماء حيزومها بها ... كما قسم التّرب المفايل باليد «1» وقيل: الأجل المسمّى هاهنا القيامة لأنها عند الله جلّ وعزّ مسمّاة لوقت معلوم وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: القطمير جلد النواة. [سورة فاطر (35) : آية 14] إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ شرط ومجازاة. وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ فيه معنى الأول وإن كانت لولا يجازى بها. قال قتادة مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ ما تبعوكم ولا قبلوا منكم. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ. قال أبو إسحاق: أي يقولون: ما كانوا إيّانا يعبدون. وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ قال قتادة: الله جلّ وعزّ أخبر أنه يكون هذا منكم يوم القيامة. [سورة فاطر (35) : آية 15] يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ بتخفيف الهمزة الثانية أجود الوجوه عند الخليل رحمه الله ويجوز تخفيف الأولى وحذفها وتخفيفها جميعا وتحقيقهما جميعا. وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ تكون «هو» زائدة فلا يكون لها موضع من الإعراب، وتكون مبتدأة فيكون موضعها رفعا.

_ (1) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه 20، ولسان العرب (حبب) و (فيل) ، وكتاب العين 3/ 32، ومقاييس اللغة 2/ 28، والمخصّص 9/ 149، وتهذيب اللغة 4/ 10، وتاج العروس (فأل) ، و (حبب) و (فيل) .

[سورة فاطر (35) : آية 16]

[سورة فاطر (35) : آية 16] إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ شرط ومجازاة وفيه حذف تستعمله العرب كثيرا. والتقدير: إن يشأ أن يذهبكم يذهبكم وحذفت من «يشأ» الضمة التي كانت على الهمزة فلما سكنت حذفت الألف التي قبلها. وَيَأْتِ معطوف على يذهبكم. [سورة فاطر (35) : آية 18] وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَلا تَزِرُ مقطوع مما قبله والأصل توزر حذفت الواو اتباعا ليزر. وازِرَةٌ نعت لمحذوف أي نفس وازرة، وكذا وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ قال الفراء «1» : أي نفس مثقلة أو دابة قال: وهذا يقع للمذكّر والمؤنث. قال الأخفش: أي وإن تدع مثقلة إنسانا إِلى حِمْلِها والحمل ما كان على الظهر، وحمل المرأة وحمل النخلة حكاهما الكسائي بالفتح لا غير، وحكى ابن السكيت: إنّ حمل النخلة يفتح ويكسر وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى التقدير على قول الأخفش ولو كان الإنسان المدعو ذا قربى، وأجاز الفراء «2» : ولو كان ذو قربى قال أبو جعفر: وهذا جائز عند سيبويه، ومثله وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ [البقرة: 280] وتكون «كان» بمعنى وقع أو يكون الخبر محذوفا أي وإن كان فيمن تطلبون ذو عسرة، وحكى سيبويه: الناس مجزيّون بأعمالهم إن خير فخير، على هذا، وإن خيرا فخيرا، على الأول وحكى الحكم بن أبان عن عكرمة أنه قال: بلغني أنّ اليهوديّ والنصراني يرى الرجل المسلم يوم القيامة فيقول له: ألم أكن قد أسديت إليك يدا ألم أكن قد أحسنت إليك فيقول: بلى فيقول: انفعني فلا يزال المسلم ينقص من عذابه، وأن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول: ألم أكن بك بارا وعليك مشفقا وإليك محسنا، وأنت ترى ما أنا فيه فهب لي حسنة من حسناتك أو تحمل عني سيئة فيقول: إن الذي سألتني يسير ولكني أخاف مثل ما تخاف، وإن الأب ليقول لابنه مثل ذلك فيردّ عليه نحوا من هذا، وإن الرجل ليقول لزوجته: ألم أكن حسن العشرة لك فتحملي عني خطيئة لعلي أنجو فتقول: إنّ ذلك ليسير ولكنّي أخاف مما تخاف منه ثم تلا عكرمة وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى. إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وهو ينذر الخلق كلهم فخصّ الذين يخشون ربّهم لأنهم الذين ينتفعون بالنذارة. [سورة فاطر (35) : الآيات 19 الى 21] وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21)

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 368. (2) انظر معاني الفراء 2/ 368.

[سورة فاطر (35) : آية 25]

وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ روي عن ابن عباس قال: المؤمن والكافر، قال: والظُّلُماتُ الضلالة والنُّورُ الهدى والظِّلُّ الجنّة والْحَرُورُ النار. قال الأخفش سعيد: «لا» زائدة والمعنى: ولا الظلمات والنور ولا الظل والحرور. وقيل: الحرور لا يكون إلّا بالليل، والسموم يكون بالنهار. وقيل: الحرور يكون فيهما. وهذا أصحّ القولين، لأن الحرور فعول من الحرّ، وفيه معنى التكثير أي الحرّ المؤذي. وقرأ الحسن وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ «1» تحذف التنوين تخفيفا أي هم بمنزلة أهل القبول في أنّهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه. [سورة فاطر (35) : آية 25] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وفي موضع آخر الزُّبُرِ [آل عمران: 184] بغير باء والمعنى واحد، غير أنّ الكثير في كلام العرب بغير باء وما بعده بالباء أيضا فتكون الباء إذا دخلت توكيدا أو عطف جملة على جملة وحذف الفعل لدلالة الأول عليه. [سورة فاطر (35) : آية 27] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) نصبت مُخْتَلِفاً لأنه نعت لثمرات وأَلْوانُها مرفوع بمختلف وصلح أن يكون نعتا لثمرات لما عاد عليه من ذكره، ويجوز رفعه في غير القرآن ومثله: رأيت رجلا خارجا أبوه. وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ جمع جدّة. قال الأخفش: ولو كان جمع جديد لقيل جدد مثل رغيف ورغف. بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها رفع «مختلف» هاهنا ونصب ثمّ لأن ما قبله هاهنا مرفوع فهو نعت له، ويجوز أن يكون رفعه على الابتداء والخبر. [سورة فاطر (35) : آية 28] وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) فقيل هاهنا أَلْوانُهُ وثمّ «أَلْوانُها» لأن تقديره وخلق مختلف ألوانه. ومختلف نعت أقيم مقام المنعوت. والكاف في موضع نعت لأنها نعت لمصدر محذوف. إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ قال مجاهد: إنما العالم من يخشى الله جلّ وعزّ وعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: كفى بخشية الله جلّ وعزّ علما وبالاغترار به جهلا. [سورة فاطر (35) : آية 29] إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29)

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 295، ومختصر ابن خالويه 123.

[سورة فاطر (35) : الآيات 32 إلى 33]

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ قال أحمد بن يحيى خبر «إنّ» . يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ. [سورة فاطر (35) : الآيات 32 الى 33] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا هذه الآية مشكلة لأنه قال جلّ وعزّ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ثم قال جلّ وعزّ فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وقد كنا ذكرناها إلّا أنا نبيّنها هاهنا بغاية البيان وقد تكلم جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فمن أصحّ ما روي في ذلك ما قرئ على أبي بكر محمد بن جعفر ابن الإمام عن يوسف بن موسى عن وكيع بن الجراح قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» قال: الكافر، وقرئ على أحمد بن شعيب عن الحسين بن حبيب عن الفضل بن موسى عن حسين عن يزيد عن عكرمة عن ابن عباس «1» في قول الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ قال: نجت فرقتان. فهذا قول: ويكون التقدير في العربية «فمنهم» فمن عبادنا «ظالم لنفسه» أي كافر، وقال الحسن: أي فاسق، ويكون الضمير الذي في يدخلونها يعود على المقتصد والسابق لا على الظالم. فأما معنى «الذين اصطفينا من عبادنا» ففيه قولان: أحدهما أن الذين اصطفوا هم الأنبياء صلوات الله عليهم أي اختيروا للرسالة، وقيل: المعنى الذين اصطفوا لإنزال الكتاب عليهم فهذا عام، وقيل الضمير في يَدْخُلُونَها يعود على الثلاثة الأصناف على أن لا يكون الظالم هاهنا كافرا ولا فاسقا، فمن روى عنه هذا القول أعني أنّ الذين يدخلونها هذه الثلاثة الأصناف عمر وعثمان وأبو الدرداء وابن مسعود وعقبة بن عمرو وعائشة رضي الله عنهم. ولولا كراهة الإطالة لذكرنا ذلك بأسانيده وإن كانت ليست مثل الأسانيد الأولى في الصحة وهذا القول أيضا صحيح عن عبيد بن عمرو وكعب الأحبار وغيرهما من التابعين والتقدير على هذا القول: أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر، والمقتصد: قال محمد بن يزيد: هو الذي يعطي الدّنيا حقّها، والآخرة حقّها فيكون «جنّات عدن يدخلونها» عائدا على الجميع على هذا الشرح والتبيين. وفي الآية قول ثالث يكون «الظالم» صاحب الكبائر، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته. فيكون «جنّات عدن يدخلونها» الذين سبقونا بالخيرات لا غير. وهذا قول

_ (1) انظر تفسير الطبري 22/ 135. [.....]

[سورة فاطر (35) : آية 34]

جماعة من أهل النظر قالوا: لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى. وقد ذكرنا «1» قول العلماء المتقدمين قبل هذا يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ جمع أسورة، وأسورة جمع سوار وسوار، وقد حكي أنه يقال: أسوار وجمع إسوار أساوير «2» ، وقد حكي أن في حرف أبي «أساوير» وحذف الياء من مفاعل هذا جائز غير أن المعروف أن الأسوار هو الرجل الجيّد الرمي من الفرس. وَلُؤْلُؤاً «3» قراءة أهل المدينة. قال أبو إسحاق: لأن معنى من أساور ومعنى أساور واحد، والخفض قراءة أهل الكوفة، وهو أبين في العربية لأنه مخفوض معطوف على مخفوض. وقرأ عاصم الجحدري جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها «4» بكسر التاء تكون في موضع جرّ على البدل من الخيرات، ويجوز أن يكون في موضع نصب على لغة من قال: زيدا ضربته وزعم بعض أهل النظر أن قوله جلّ وعزّ: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ للنساء لأن قوله جلّ وعزّ: مِنْ عِبادِنا مشتمل على الذكور والإناث. وهذا خطأ بيّن، لأنه لو كان للنساء لكان يحلّين ولكن هو للرجال لا غير إلّا أنه يجوز أن يحلّى به النساء فإذا حلّي به النساء فهو لأزواجهنّ. [سورة فاطر (35) : آية 34] وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ عن ابن عباس قال: النار. وقال سعيد عن قتادة قال: كانوا يعملون في الدّنيا وينصبون ويلحقهم الحزن وقال شمر بن عطيّة في قول الله جلّ وعزّ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ قال: همّ الطّعام. قال: إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ غفر لهم الذّنوب التي عملوها، وشكر لهم الخير الذي دلّهم عليه فعملوه. [سورة فاطر (35) : آية 35] الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ يكون «الذي» في موضع نصب نعت لاسم «إنّ» ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أو على خبر بعد خبر إن، وعلى البدل من غفور، أو على البدل من المضمر الذي في «شكور» ويجوز أن يكون في موضع خفض على النعت لاسم الله جلّ وعزّ قال الكسائي والفراء: الْمُقامَةِ: الإمامة والمقامة: المجلس الذي يقام فيه. لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ أي تعب والنّصب الشرّ والنصب ما ينصب لذبح أو غيره وقرأ أبو عبد الرحمن وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ «5» بفتح اللام يكون مصدرا كالوقود والطّهور وقيل هو ما يلغب منه.

_ (1) انظر إعراب الآية 23 سورة الرعد. (2) انظر إعراب الآية 31 سورة الكهف. (3) انظر تيسير الداني 127. (4) انظر البحر المحيط 7/ 299، ومختصر ابن خالويه 123. (5) انظر مختصر ابن خالويه 124، والبحر المحيط 7/ 300.

[سورة فاطر (35) : آية 36]

[سورة فاطر (35) : آية 36] وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَالَّذِينَ كَفَرُوا مبتدأ والخبر لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ ويجوز أن يكون الخبر لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا «1» وحذفت النون لأنه جواب النفي. وقرأ الحسن يقضى عليهم فيموتون على العطف قال الكسائي وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 36] بالنون في المصحف لأنه رأس آية، ولا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا بغير نون لأنه ليس برأس آية ويجوز في كلّ واحد منهما ما جاز في صاحبه. [سورة فاطر (35) : آية 37] وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها الطاء مبدلة من تاء لأن الطاء بالصاد أشبه لأنهما مطبقتان، ويقال: اصطرخ إذا استغاث رَبَّنا أَخْرِجْنا أي يقولون نَعْمَلْ صالِحاً جواب المسألة أي إن أخرجتنا عملنا صالحا غير الذي كنا نعمل أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ أي فيقال لهم، وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من عمّر ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر» «2» ، وكذلك روى سهل بن سعد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مثل معناه وقال ابن عباس في قوله جلّ وعزّ: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ قال ستين سنة. وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ أي المنذر وفي فعيل معنى المبالغة. قيل: يعني به النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هو من أنذرهم، وقيل: يعني به الشيب والله جلّ وعزّ أعلم. [سورة فاطر (35) : آية 38] إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) إذا كان بغير تنوين صلح أن يكون للماضي والمستقبل والحال، وإذا كان منونا لم يجز أن يكون للماضي. [سورة فاطر (35) : آية 39] هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ جمع خليفة أي تخلفون من كان قبلكم وفي هذا معنى التنبيه والاعتبار أي فتحذرون أن تنزل بكم العقوبة، كما نزلت بمن كان قبلكم فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] أي عقوبة كفره.

_ (1) وهذه قراءة عيسى أيضا، انظر البحر المحيط 7: 301، والمحتسب 2/ 201. (2) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 405 والمتقي في كنز العمال (42668) ، وأبو نعيم في الحلية 3/ 258.

[سورة فاطر (35) : آية 40]

وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً مفعولان، وكذا وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً. [سورة فاطر (35) : آية 40] قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ منصوب بالرؤية، ولا يجوز رفعه وقد يجوز الرفع عند سيبويه في قولهم: قد علمت زيد أبو من هو لأن زيدا في المعنى يستفهم عنه، ولو قلت: أرأيت زيدا أبو من هو؟ لم يجز الرفع والفرق بينهما أن معنى هذا أخبرني عنه، وكذا معنى هذا أخبروني عن شركائكم الذين تدعون من دون الله أعبدتموهم لأن لهم شركة في خلق السّموات أم خلقوا من الأرض شيئا أم آتيناهم كتابا بهذا أي أم عندهم كتاب أنزلناه إليهم بالشّركة أو بأنا أمرناهم بعبادتهم فكان في هذا ردّ على كل من عبد غير الله جلّ وعزّ لأنهم لا يجدون في كتاب من الكتب أنّ الله جلّ وعزّ أمر أن يعبد غيره. على بيّنات منه «1» قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وعاصم والكسائي، وقرأ أبو عمرو وابن كثير والأعمش وحمزة عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ «2» قال أبو جعفر: والمعنيان متقاربان إلّا أن القراءة «بيّنات» أولى لأنه لا يخلو من قرأ «على بيّنة» أن يكون خالف السواد الأعظم أو يكون جاء به على لغة من قال: جاءني طلحة، فوقف بالتاء. وهذه لغة شاذّة قليلة. بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً «إن» بمعنى «ما» فلذلك رفعت الفعل. بَعْضُهُمْ بَعْضاً «بعضهم» إِلَّا غُرُوراً أي إلّا غرورا بالباطل. [سورة فاطر (35) : آية 41] إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا «أن» في موضع نصب بمعنى كراهة أو يحمل على المعنى لأن المعنى إنّ الله يمنع السّموات والأرض من أن تزولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ قال الفراء: «3» أي ولو زالتا ما أمسكهما من أحد من بعده و «أان» بمعنى «ما» قال: وهو مثل قوله تعالى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ [الروم: 51] . [سورة فاطر (35) : آية 42] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ قال أبو إسحاق: كانوا حلفوا واجتهدوا. قال أبو

_ (1) انظر تيسير الداني 148. (2) انظر تيسير الداني 148. (3) انظر معاني الفراء 2/ 370.

[سورة فاطر (35) : آية 43]

جعفر: فاليمين وقعت على لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ قال الأخفش: فأنّث إحدى لتأنيث أمة فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً أي عن الحقّ. [سورة فاطر (35) : آية 43] اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) اسْتِكْباراً مفعول من أجله أي تكبّرا عن الحقّ. وَمَكْرَ السَّيِّئِ معطوف عليه. قال سعيد عن قتادة: أي ومكر الشرك. قال أبو جعفر: أصل المكر السّيّئ في اللغة الكذب والخديعة بالباطل. وقرأ الأعمش وحمزة ومكر السّيئ ولا يحق المكر السيّئ إلا بأهله «1» فحذف الإعراب من الأول وأثبته في الثاني. قال أبو إسحاق: وهو لحن لا يجوز. قال أبو جعفر: وإنما صار لحنا لأنه حذف الإعراب منه، وزعم محمد بن يزيد: أن هذا لا يجوز في كلام ولا شعر، لأن حركات الإعراب لا يجوز حذفها لأنها دخلت للفروق بين المعاني. وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش على جلالته ومحلّه يقرأ بهذا، وقال: إنما كان يقف عليه فغلط من ادّعى عنه قال: والدليل على هذا أنه تمام الكلام، وإن الثاني لمّا لم يكن تمام الكلام أعربه، والحركة في الثاني أثقل منها في الأول لأنها ضمة بين كسرتين. وقد احتجّ بعض النحويين لحمزة في هذا بقول سيبويه، وأنه أنشد هو وغيره: [الرجز] 355- إذا اعوججن قلت صاحب قوّم ... بالدوّ أمثال السّفين العوّم «2» وقال الآخر: [السريع] 356- فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل «3» وهذا لا حجّة فيه لأن سيبويه لم يجزه وإنما حكاه بعض النحويين، والحديث إذا قيل فيه عن بعض العلماء لم يكن فيه حجّة فكيف وإنما جاء به على الشذوذ، وضرورة الشعر، قد خولف فيه. وزعم أبو إسحاق أن أبا العباس أنشده: [الرجز] 357- إذا اعوججن قلت صاح قوّم «4» وأنه أنشده «فاليوم فاشرب» بالفاء. فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أي إنما ينظرون العقاب الذي نزل بالكفار الأولين فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا أي أجرى الله جلّ وعزّ العذاب على الكفار، وجعل ذلك سنّة فيهم فهو يعذب بمثله من

_ (1) انظر تيسير الداني 148، وكتاب السبعة لابن مجاهد 535، والبحر المحيط 7/ 305. (2) مرّ الشاهد رقم (22) . (3) مرّ الشاهد رقم (212) . (4) مرّ الشاهد رقم (22) . [.....]

[سورة فاطر (35) : آية 44]

استحقّه لا يقدر أحد أن يبدّل ذلك، ولا يحوّله. [سورة فاطر (35) : آية 44] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) قال أبو إسحاق: لِيُعْجِزَهُ لتفوته ... [سورة فاطر (35) : آية 45] وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مهموز لأن العرب تقول: أخذت فلانا بكذا وكذا، ولا يقال: وأخذت، ولكن إن خفّفت الهمزة في يؤاخذ جاز فقلت يؤاخذ تقلبها واوا. فإن قال قائل: فلم لا يقلبها ألفا وهي مفتوحة؟ قلت: هذا محال لأن الألف لا يكون ما قبلها أبدا إلا مفتوحا. عَلى ظَهْرِها يعود على الأرض وقد تقدّم ذكرها. فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً لا يجوز أن يكون العامل في إذا بصيرا، كما لا يجوز: اليوم أنّ زيدا خارج، ولكن العامل فيها جاء لشبهها بحروف المجازاة، وقد يجازى بها، كما قال: [الطويل] 358- إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب «1»

_ (1) الشاهد لقيس بن الخطيم الأنصاري في ديوانه 88، وخزانة الأدب 7/ 25، والكتاب 3/ 69، وشرح أبيات سيبويه 2/ 137، وشرح المفصّل 7/ 47، وللأخنس بن شهاب في خزانة الأدب 5/ 28، وشرح اختيارات المفضّل ص 937، ولكعب بن مالك في فصل المقال 442، وليس في ديوانه، ولشهم بن مرّة في الحماسة الشجرية 1/ 186، ولعمران بن حطان في شعر الخوارج ص 406، وبلا نسبة في شرح المفصل 4/ 97، والمقتضب 2/ 57.

36 شرح إعراب سورة يس

36 شرح إعراب سورة يس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة يس (36) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس (1) قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: لكلّ شيء قلب، وقلب القرآن «يس» من قرأها نهارا كفي همّه، ومن قرأها ليلا غفر ذنبه. قال شهر بن حوشب: يقرأ أهل الجنة «طه» و «يس» فقط. قال أبو جعفر: في يس «1» أوجه من القراءات. قرأ أهل المدينة والكسائي يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ بإدغام النون في الواو، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ بإظهار النون، وقرأ عيسى بن عمر يسين والقرآن الحكيم، وذكر الفراء قراءة رابعة ياسين والقرآن. قال أبو جعفر: القراءة الأولى بالإدغام على ما يجب في العربية لأنّ النون تدغم في الواو لشبهها بها، ومن بيّن قال: سبيل حروف التهجي أن يوقف عليها، وإنما يكون الإدغام في الإدراج، وذكر سيبويه «2» النصب وجعله من جهتين: إحداهما أن يكون مفعولا لا يصرفه، لأنه عنده اسم أعجمي بمنزلة هابيل. والتقدير: اذكر ياسين، وجعله سيبويه اسما للسورة. وقوله الآخر أن يكون مبنيا على الفتح مثل «كيف» و «أين» ، وأما الكسر فزعم الفراء أنه مشبه بقول العرب جير لأفعلن وجير لا أفعل «3» . [سورة يس (36) : آية 2] وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) وَالْقُرْآنِ قسم والواو مبدلة من ياء لشبهها بها، كما أبدلوها من ربّ، الْحَكِيمِ من نعت القرآن. قال أبو إسحاق: لأنه أحكم بالأمر والنهي والأمثال وأقصيص الأمم. [سورة يس (36) : آية 3] إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) جواب القسم، وإن مكسورة لأن في خبرها اللام ولو حذفت اللام لكانت أيضا

_ (1) انظر القراءات المختلفة في تيسير الداني 148، والبحر المحيط 7/ 310، ومعاني الفراء 2/ 371. (2) انظر الكتاب 3/ 286. (3) انظر معاني الفراء 2/ 371.

[سورة يس (36) : آية 4]

مكسورة إلّا في قول الكسائي فإنّه يجيز فتحها لأن في الكلام معنى: أقسم. [سورة يس (36) : آية 4] عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) قال الضحاك: أي على طريقة مستقيمة. قال قتادة: أي على دين مستقيم. قال أبو إسحاق: عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خبر بعد خبر، قال: ويجوز أن يكون من صلة المرسلين أي الذين أرسلوا على صراط مستقيم. [سورة يس (36) : آية 5] تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وقرأ الكوفيون وعبد الله بن عامر اليحصبي تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ «1» بالنصب وحكي الخفض. قال أبو جعفر: فالرفع على إضمار مبتدأ أي الذي أنزل إليك تنزيل العزيز الرحيم، والنصب على المصدر، والخفض على البدل من القرآن. [سورة يس (36) : آية 6] لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ ما لا موضع لها من الإعراب عند أكثر أهل التفسير لأنها نافية، وعلى قول عكرمة موضعها النصب لأنه قال: أي قد أنذر آباؤهم فتكون على هذا مثل قوله: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت: 13] أي بصاعقة. فَهُمْ غافِلُونَ ابتداء وخبر. [سورة يس (36) : آية 7] لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ أي حقّ القول عليهم بالعذاب لكفرهم، ومثله وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزمر: 71] . [سورة يس (36) : آية 8] إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا عن ابن عباس أنه قال: إن أبا جهل أقسم لئن رأيت محمدا صلّى الله عليه وسلّم يصلّي لأدمغنّه فأخذ حجرا والنبي صلّى الله عليه وسلّم يصلّي ليرميه به. فلما أومأ به إليه جفّت يده على عنقه، والتصق الحجر بيده فهو على هذا تمثيل أي بمنزلة من غلّت يده إلى عنقه. وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: قرأ ابن عباس إنّا جعلنا في أيمانهم «2» أغلالا فهي إلى الأذقان قال أبو إسحاق وقرئ إنّا جعلنا في أيديهم أغلالا قال أبو جعفر: هذه القراءة على التفسير، ولا يقرأ بما خالف المصحف، وفي

_ (1) انظر تيسير الداني 149، ومختصر ابن خالويه 124. (2) انظر معاني الفراء 2/ 373.

[سورة يس (36) : آية 9]

الكلام حذف على قراءة الجماعة فالتقدير: إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان، فهي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق، والعرب تحذف مثل هذا، ونظيره سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] فتقديره: وسرابيل تقيكم البرد فحذف لأن ما وقى الحرّ وقى البرد، ولأنّ الغل إذا كان في العنق فلا بد من أن يكون في اليد ولا سيما وقد قال جلّ وعزّ: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فقد أعلم الله جلّ وعزّ أنها يراد بها الأيدي. فَهُمْ مُقْمَحُونَ أجلّ ما روي فيه ما حكاه عبد الله بن يحيى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أراهم الأقماح فجعل يديه تحت لحيته وألصقهما ورفع رأسه. قال أبو جعفر: وكان هذا مأخوذا مما حكاه الأصمعي قال: يقال أكمحت الدّابّة إذا جذبت لجامها لترف رأسها. قال أبو جعفر: والقاف مبدلة من الكاف لقربها منها، كما يقال: قهرته وكهرته. قال الأصمعي: ويقال: أكفحت الدابة إذا تلقّيت فاها باللجام لتضربه به. مشتقّ من قولهم: لقيته كفاحا أي وجها لوجه، وكفحت الدابّة بغير ألف إذا جذبت عنانها لتقف ولا تجري. [سورة يس (36) : آية 9] وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) قال محمد بن إسحاق في روايته: جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأميّة بن خلف يراصدون النبي صلّى الله عليه وسلّم ليبلغوا من أذاه فخرج عليهم يقرأ أول «يس» وفي يده تراب فرماهم به، وقرأ وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا إلى رأس العشر، فأطرقوا حتى مرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد قيل إن هذا تمثيل كما يقال: فلان حمار أي لا يبصر الهدى، كما يقال: [البسيط] 359- لهم عن الرشد أغلال وأقياد «1» وقراءة ابن عباس وعكرمة ويحيى بن يعمر وعمر بن عبد العزيز فَأَغْشَيْناهُمْ «2» قال أبو جعفر: القراءة بالغين أشبه بنسق الكلام، ويقال: غشيه الأمر وأغشيته إياه فأما فأغشيناهم فإنّما يقال لمن ضعف بصره حتى لا يبصر بالليل، أو لمن فعل فعله، كما قال: [الطويل] 360- متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد «3» قال قتادة: فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ الهدى.

_ (1) الشاهد للأفوه الأودي في ديوانه ص 10. (2) انظر البحر المحيط 7/ 312. (3) مرّ الشاهد رقم (69) .

[سورة يس (36) : آية 10]

[سورة يس (36) : آية 10] وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ قيل: المعنى لا يكترثون بذلك ولا يعبئون به ولا يؤمنون. قال ابن عباس: فما آمن منهم أحد. [سورة يس (36) : آية 11] إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي إنّما ينتفع بالإنذار. قال أبو إسحاق: ومعنى وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ خاف الله جلّ وعزّ من حيث لا يراه أحد إلّا الله عزّ وجلّ. فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ قال الضحاك عن ابن عباس في معنى كريم: أي حسن، وقيل: يراد به الجنة والله جلّ وعزّ أعلم. [سورة يس (36) : آية 12] إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) الأصل في إِنَّا إنّنا حذفت النون لاجتماع النونات نُحْيِ حذفت منه الضمة لثقلها، ولا يجوز إدغام الياء في الياء هاهنا لئلّا يلتقي ساكنان. وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ أي ذكر ما قدّموا، وأقيم المضاف إليه مقام المضاف، وتأوله ابن عباس بمعنى خطاهم إلى المساجد. وهو أولى ما قيل فيه لأنه قال: إنّ الآية نزلت في ذلك لأن الأنصار كانت منازلهم بعيدة من المسجد. وفي حديث عمرو بن الحارث عن أبي عشانة عن عقبة بن عامر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يكتب له برجل حسنة، ويحطّ عنه برجل سيئة ذاهبا وراجعا إذا خرج إلى المسجد» «1» وتأوّله غير ابن عباس «ونكتب ما قدّموا وآثارهم» يعني نكتب ما قدّموا من خير وما سنّوا من سنة حسنة يعمل بها بعدهم. وواحد الآثار: أثر، ويقال: إثر. وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ منصوب على إضمار فعل، ويجوز رفعه بالابتداء إلّا أنّ نصبه أولى ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل. وهذا قول الخليل وسيبويه رحمهما الله. قال مجاهد: فِي إِمامٍ مُبِينٍ في اللوح المحفوظ. [سورة يس (36) : آية 13] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ قال أبو إسحاق: أي اذكر لهم مثلا، والضرب هو المثال والجنس، يقال: هذا من ضرب هذا، أي من مثال هذا وجنسه والمعنى: ومثّل لهم مثلا. أَصْحابَ الْقَرْيَةِ بدل من مثل فالمعنى مثل أصحاب القرية. إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ أي جاء أهلها المرسلون.

_ (1) أخرجه ابن ماجة في سننه- المساجد 1/ 254، والترمذي في سننه 3/ 83، وأحمد في مسنده 4/ 156.

[سورة يس (36) : آية 14]

[سورة يس (36) : آية 14] إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ وقرأ عاصم فَعَزَّزْنا «1» وربما غلط في هذا بعض الناس فتوهّم أنه من عز يعزّ، وليس منه إنما هو من قول العرب: عازّني فلان فعززته أعزّه أي غلبته وقهرته وله نظائر في كلامهم، وتأول الفراء «2» فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ أنّ الثالث أرسل قبل الاثنين وأنه شمعون وإنّ معنى فعزّزنا به أنّه غلبهم. والظاهر يدلّ على خلاف ما قال، ولو كان كما قال لكان الأولى في كلام العرب أن يقال: بالثالث إذ كان قد أرسل قبل، كما يقال: في أول الكتاب سلام عليك وفي آخره والسلام، وكما يقال: مررت برجل من قصّته كذا فقلت للرّجل. [سورة يس (36) : آية 15] قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا مبتدأ وخبره. [سورة يس (36) : آية 18] قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قال الفراء: لَنَرْجُمَنَّكُمْ أي لنقتلنّكم قال: وعامة ما في القرآن من الرجم معناه القتل. [سورة يس (36) : آية 19] قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ فيه سبعة أوجه من القراءات «3» : قرأ أهل المدينة أين ذكرتم بتخفيف الهمزة الثانية، وقرأ أهل الكوفة أَإِنْ بتحقيق الهمزتين، والوجه الثالث أاإن بهمزتين بينهما ألف، أدخلت الألف كراهة للجمع بين الهمزتين، والوجه الرابع أاإن بهمزة بعدها ألف وبعد الألف همزة مخففة، والقراءة الخامسة أان ذكرتم بهمزتين إلا أنّ الثانية همزة مخففة، والوجه السادس أأن بهمزتين محققتين مفتوحتين. حكى الفراء «4» : أنّ هذه قراءة أبي رزين. وقرأ عيسى بن عمر والحسن البصري قالوا طائركم معكم أين ذكّرتم بمعنى حيث والمعنى: أين ذكّرتم تطيّركم معكم. ومعنى أأن ألأن، وقرأ يزيد بن القعقاع والحسن وطلحة ذكرتم «5»

_ (1) انظر تيسير الداني 149، وكتاب السبعة لابن مجاهد 539. (2) انظر معاني الفراء 2/ 373. (3) انظر القراءات في البحر المحيط 7/ 314، ومختصر ابن خالويه 125، وكتاب السبعة لابن مجاهد 540. (4) انظر معاني الفراء 2/ 374. [.....] (5) انظر المحتسب 2/ 205، والبحر المحيط 7/ 314.

[سورة يس (36) : آية 20]

بالتخفيف وزعم الفراء أن معنى طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي رزقكم وعملكم وبَلْ لخروج من كلام إلى كلام أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ابتداء وخبر. [سورة يس (36) : آية 20] وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى وفي موضع آخر رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى [القصص: 20] والمعنى واحد إلّا أن حقّ الظروف أن تكون في آخر الكلام، وتقديمها مجاز. ألا ترى أن معنى: إنّ في الدار زيدا، إن زيدا في الدار، قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. [سورة يس (36) : آية 21] اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً هذا يدلّ على إعادة الفعل وَهُمْ مُهْتَدُونَ محمول على معنى «من» . [سورة يس (36) : آية 22] وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) وقرأ الأعمش وحمزة وَما لِيَ لا أَعْبُدُ بإسكان الياء وهذه ياء النفس تفتح وتسكّن، إذا كان ما قبلها متحرّكا فالفتح لأنها اسم فكره أن يكون اسم على حرف واحد ساكنا، والإسكان لاتصالها بما قبلها، وموضع لا أَعْبُدُ موضع نصب على الحال. [سورة يس (36) : آية 23] أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ شرط ومجازاة، وعلامة الجزم فيه حذف الضمة من الدال وحذفت الياء التي قبل الدال لالتقاء الساكنين. والقول في الياء التي بعد النون كما تقدّم من الفتح والإسكان إلّا أنك إذا أسكنتها حذفتها في الإدراج لالتقاء الساكنين وجواب الشرط لا تُغْنِ عَنِّي. [سورة يس (36) : آية 25] إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) فأما ما روي عن عاصم أنه قرأ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ بفتح النون فلحن لأنه في موضع جزم فإذا كسرت النون جاز لأنها النون التي تكون مع الياء لا نون الإعراب. قال أبو إسحاق: أشهد الرسل على إيمانه فقال: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ. [سورة يس (36) : آية 26] قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)

[سورة يس (36) : آية 27]

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ في الكلام حذف لعلم السامع والتقدير: فقتلوه فقيل: ادخل الجنة فلمّا رأى ما هو فيه من النعيم. قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. [سورة يس (36) : آية 27] بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي فيه ثلاثة أوجه: تكون «ما» مصدرا، وتكون بمعنى «الذي» ، والثالث استفهاما، وهذا ضعيف لأن الأكثر في الاستفهام: بم غفر لي ربّي؟ بغير ألف وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ قال أبو مجلز: أي بإيماني وتصديقي الرسل. قال أبو إسحاق: مِنَ الْمُكْرَمِينَ أي أدخلني الجنة. [سورة يس (36) : آية 28] وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ أي لم ينزل جندا من السماء ينتصرون له. [سورة يس (36) : آية 29] إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً في «كانت» مضمر أي أن كانت عقوبتهم أو بليتهم إلّا صيحة. قرأ أبو جعفر إن كانت إلّا صيحة واحدة بالرفع. قال أبو حاتم: ينبغي ألا يجوز لأنه إنما يقال: ما جاءني إلّا جاريتك، ولا يقال: ما جاءتني إلّا جاريتك، لأن المعنى ما جاءني أحد إلا جاريتك أي فلو كان كما قرأ أبو جعفر لقال: إن كان إلا صيحة واحدة. قال أبو جعفر: لا يمتنع من هذا شيء، يقال: ما جاءتني إلّا جاريتك، بمعنى ما جاءتني امرأة أو جارية. والتقدير: بالرفع في القراءة ما قاله أبو إسحاق، قال: المعنى إن كانت عليهم صيحة إلّا صيحة واحدة وقدّره غيره بمعنى: ما وقعت إلّا صيحة واحدة «وكان» بمعنى: وقع كثير في كلام العرب. وقرأ عبد الرحمن بن الأسود، ويقال: إنه في حرف عبد الله كذلك: إن كانت إلّا زقية واحدة «1» . قال أبو جعفر: هذا مخالف للمصحف، وأيضا فإن اللغة المعروفة: زقا يزقو إذا صاح فكان يجب على هذا أن يكون إلّا زقوة. قال قتادة: فَإِذا هُمْ خامِدُونَ أي هالكون. [سورة يس (36) : آية 30] يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) يا حَسْرَةً منصوب لأنه نداء نكرة لا يجوز فيه إلا النصب عند البصريين، وزعم الفراء أنّ الاختيار النصب وأنها لو رفعت النكرة الموصولة بالصفة لكان صوابا، واستشهد بأشياء منها أنه سمع من العرب: يا مهمّ بأمرنا لا تهتمّ. وأنشد: [الكامل]

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 375، ومختصر ابن خالويه 125.

[سورة يس (36) : آية 31]

361- يا دار غيّرها البلى تغييرا «1» قال أبو جعفر: في هذا بطلان باب النداء أو أكثره لأنه يرفع النكرة المحضة ويرفع ما هو منزلة المضاف في طوله ويحذف التنوين متوسطا ويرفع ما هو في المعنى مفعول بغير علة أوجبت ذلك. فأما ما حكاه عن العرب فلا يشبه ما أجازه، لأن تقدير: يا مهتمّ بأمرنا لا تهتمّ، على التقديم والتأخير، والمعنى: يا أيّها المهتم لا تهتمّ بأمرنا. وتقدير البيت: يا أيّها الدار، ثم حوّل المخاطبة أي يا هؤلاء غير هذه الدار البلى، كما قال جلّ وعزّ: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] . وكان أبو إسحاق يقول: بأن قوله جلّ وعزّ: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ من أصعب ما في القرآن من المسائل، وإنما قال هذا لأن السؤال فيه أن يقال: ما الفائدة في نداء الحسرة؟ قال أبو جعفر: وقد شرح هذا سيبويه بأحسن شرح، ومذهبه أن المعنى إذا قيل: يا عجباه فمعناه يا عجب هذا من أبانك، ومن أوقاتك التي يجب أن تحضرها والمعنى على قوله إنه يجب أن تحضر الحسرة لهم على أنفسهم لاستهزائهم بالرسل، وفي معنى الآية قول غريب إسناده جيد رواه الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: لمّا رأى الكفار العذاب قالوا: يا حسرة على العباد، يعنون بالعباد الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إليهم تحسروا على فواتهم إن لم يحضروا حتى يؤمنوا. قال الله تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الحجر: 11] . [سورة يس (36) : آية 31] أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ قال الفراء «2» : «كم» في موضع نصب من وجهين: أحدهما بيروا، واستشهد على هذا القول بأنه في قراءة عبد الله بن مسعود الم يروا من أهلكنا، والوجه الآخر أن تكون «كم» في موضع نصب بأهلكنا. قال أبو جعفر: القول الأول محال لأن «كم» لا يعمل فيها ما قبلها لأنها استفهام، ومحال أن يدخل الاستفهام في حيّز ما قبله، وكذا حكمها إذا كانت خبرا، وإن كان سيبويه قد أومأ إلى بعض هذا فجعل «أنّهم» بدلا من «كم» ، وقد ردّ عليه محمد بن يزيد هذا أشدّ ردّ، وقال: «كم» في موضع نصب بأهلكنا «وأنّهم» في موضع نصب. والمعنى عنده: بأنهم أي ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون بالاستئصال.

_ (1) الشاهد بلا نسبة في معاني الفراء 2/ 376، وقد ذكر سيبويه في الكتاب 2/ 203 البيت للأحوص الأنصاري باختلاف بسيط: « يا دار حسّرها البلى تحسيرا ... وسفت عليها الريح بعدك مورا » (2) انظر معاني الفراء 2/ 376.

[سورة يس (36) : آية 32]

[سورة يس (36) : آية 32] وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) هذه إن الثقيلة في الأصل خفّفت فزال عملها في أكثر اللغات، ولزمتها اللام فرقا بينها وبين «إن» التي بمعنى «ما» . وقرأ الكوفيون «1» وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا وفيه قولان: أحدهما أنّ «لمّا» بمعنى إلا و «إن» بمعنى «ما» . حكى ذلك سيبويه «2» في قولهم: سألتك بالله لمّا فعلت، وزعم الكسائي أنه لا يعرف هذا. والقول الآخر أن المعنى: وإن كلّ لمن ما، وهذا قول الفراء «3» . قال وحذفت ما، كما يقال علماء بنو فلان، أراد به: على الماء بنو فلان. [سورة يس (36) : آية 33] وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَآيَةٌ رفع بالابتداء، والخبر «لَهُمُ» ، ويجوز أن يكون الخبر الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ. قال أبو إسحاق: ويقال: الميتة، والتخفيف أكثر. [سورة يس (36) : آية 35] لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ «ما» في موضع خفض على العطف أي ومما عملته أيديهم، ويجوز أن تكون «ما» نافية لا موضع لها أي ولم تعمله أيديهم فإذا كان بحذف الهاء كانت «ما» في موضع خفض، وحذف الهاء لطول الاسم، ويبعد أن تكون نافية. [سورة يس (36) : آية 36] سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) قال أبو إسحاق: أي الأجناس من الحيوان والنبات. [سورة يس (36) : آية 37] وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ وعلامة دالّة على توحيد الله. [سورة يس (36) : آية 38] وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالشَّمْسُ تَجْرِي ويكون تقديره وآية لهم الشمس، ويجوز أن تكون الشمس مرفوعة بإضمار فعل يفسّره الثاني، ويجوز أن تكون مرفوعة بالابتداء. [سورة يس (36) : آية 39] وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 319، ومعاني الفراء 2/ 376. (2) انظر الكتاب 3/ 123. (3) انظر معاني الفراء 2/ 376.

[سورة يس (36) : آية 40]

وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ يكون تقديره: وآية لهم القمر، ويجوز أن يكون القمر مرفوعا بالابتداء. وقرأ الكوفيون وَالْقَمَرَ بالنصب على إضمار فعل. وهو اختيار أبي عبيد، قال: لأن قبله فعلا وبعده فعلا مثله قبله «نسلخ» وبعده «قدّرناه» قال أبو جعفر: أهل العربية جميعا فيما علمت على خلاف ما قال، منهم الفراء «1» ، قال: الرفع أعجب إليّ، وإنما كان الرفع عندهما أولى لأنه معطوف على ما قبله فمعناه: وآية القمر والذي قاله: من أنّ قبله «نسلخ» فقبله ما أقرب إليه منه وهو يجري وقبله: والشمس بالرفع، والذي ذكره بعده وهو «قدّرناه» قد عمل في الهاء. ووجه ثان في الرفع يكون مرفوعا بالابتداء، ويقال: القمر ليس هو المنازل فكيف قال: قدّرنا منازل؟ ففي هذا جوابان: أحدهما أن تقديره: قدرناه ذا منازل مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . والتقدير الآخر: قدّرنا له منازل ثمّ حذف اللام، وكان حذفها حسنا لتعدّي الفعل إلى مفعولين مثل وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الأعراف: 155] . [سورة يس (36) : آية 40] لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) رفعت الشمس بالابتداء، «2» ولا يجوز أن تعمل «لا» في معرفة. وقد تكلّم العلماء في معنى هذه الآية فقال: بعضهم معناها أن الشّمس لا تدرك القمر فيبطل معناه، وقيل: القمر في السماء الدنيا والشمس في السماء الرابعة فهي لا تدركه. وأحسن ما قيل في معناه وأبينه مما لا يدفع أن سير القمر سير سريع فالشمس لا تدركه في السير. وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ مما قد تكلموا فيه أيضا، وقال بعضهم: هذا يدلّ على أن النهار مخلوق قبل الليل وأن الليل لم يسبقه بالخلق، وقيل: لا يجوز أن يتقدّم أحدهما صاحبه لأن وجود هذا عدم هذا ولا يقع فيهما القبل والبعد. وهذا قول أهل النظر، وقيل: كل واحد منهما يجيء في وقته لا يسبق أحدهما صاحبه. قال أبو جعفر: حدّثنا محمد بن الوليد وعلي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال: سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقرأ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ فقلت ما هذا؟ قال: أردت سابق النهار فحذفت التنوين لأنه أخفّ. قال أبو جعفر: يجوز أن يكون النهار منصوبا بغير تنوين ويكون التنوين حذف لالتقاء الساكنين. [سورة يس (36) : آية 41] وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) هذه الآية من أشكل ما في السورة لقوله جلّ وعزّ حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ لأنهم هم المحمولون. فسمعت علي بن سليمان يقول: الضميران مختلفان والمعنى: وآية لأهل

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 378. (2) انظر تيسير الداني 149، وكتاب السبعة لابن مجاهد 540.

[سورة يس (36) : الآيات 42 إلى 43]

مكة أنّا حملنا ذريات قوم نوح في الفلك. وفيها قول آخر حسن، وهو أن يكون المعنى أن الله جلّ وعزّ خبّر بلطفه وامتنانه أنه خلق السفن يحمل فيها من يصعب عليه المشي والركوب من الذريات والصغار، ويكون الضميران على هذا متفقين. [سورة يس (36) : الآيات 42 الى 43] وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ والأصل: يركبونه حذفت الهاء لطول الاسم، وأنه رأس آية. وفي معناه ثلاثة أقوال: مذهب مجاهد وقتادة وجماعة من أهل التفسير أنّ معنى «من مثله» للإبل، والقول الثاني أنه للإبل والدواب وكل ما يركب، والقول الثالث أنه للسفن، وهذا أصحّها لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس رواه محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال: خلق لهم سفنا أمثالها يركبون فيها. وبغير هذا الإسناد أن ابن عباس احتجّ في أن هذا ليس للإبل بأن بعده وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وهو حسن لأن بعده ما لا يجوز فيه إلا الرفع لأنّه معرفة وهو وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ والنحويون يختارون: لا رجل في الدار ولا زيد. [سورة يس (36) : آية 44] إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا قال الكسائي: هو نصب على الاستثناء، وقال أبو إسحاق: نصب لأنه مفعول له أي للرحمة وَمَتاعاً معطوف عليه. قال قتادة: إِلى حِينٍ أي إلى الموت. [سورة يس (36) : آية 49] ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) وفي قوله جلّ وعزّ ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ خمس قراءات «1» : قرأ أبو عمرو وابن كثير وهم يخصّمون بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد، وكذا روى ورش عن نافع. فأما أصحاب القراءات وأصحاب نافع سوى ورش فإنهم رووا عنه وهم يخصّمون بإسكان الخاء وتشديد الصاد على الجمع بين ساكنين وقرأ عاصم والكسائي وَهُمْ يَخِصِّمُونَ بكسر الخاء وتشديد الصاد، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة وهم يخصمون بإسكان الخاء وتخفيف الصاد، وفي حرف أبيّ وهم يختصمون. قال أبو جعفر: القراءة الأولى وهم يخصّمون أبينها والأصل: يختصمون فأدغمت التاء في الصاد فقلبت حركتها إلى الهاء، وإسكان الخاء

_ (1) انظر تيسير الداني 149، ومعاني الفراء 2/ 379، وكتاب السبعة لابن مجاهد 541.

[سورة يس (36) : آية 50]

لا يجوز لأنه جمع بين ساكنين وليس أحدهما حرف مدّ ولين وإنما يجوز في مثل هذا إخفاء الحركة فلم يضبط كما لم يضبط عن أبي عمرو فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ [البقرة: 54] إلّا من رواية من يضبط اللغة، كما روى سيبويه عنه أنه كان يختلس الحركة. فأما «يخصّمون» فالأصل فيه أيضا يختصمون فأدغمت التاء في الصاد ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين. وزعم الفراء «1» : أن هذه القراءة أجود وأكثر، فترك ما هو أولى من إلقاء حركة التاء على الخاء واجتلب لها حركة أخرى وجمع بين ياء وكسرة، وزعم أنه أجود وأكثر وكيف يكون أكثر وبالفتح قراءة أهل مكة وأهل البصرة وأهل المدينة. قال عكرمة في قوله جلّ وعزّ إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: 29] قال: هي النفخة الأولى في الصّور. [سورة يس (36) : آية 50] فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: ينفخ في الصور والناس في أسواقهم فمن جالب لقحة، ومن ذارع ثوبا، ومن مار في حاجة فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ وذكر الفراء «2» فيه قولين أحدهما لا يرجعون إلى أهليهم قولا، والقول الآخر لا يرجعون من أسواقهم إلى أهليهم. [سورة يس (36) : آية 51] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ في معناه قولان: قال قتادة: «الصّور» جمع صورة أي نفخ في الصّور الأرواح، وصورة وصور مثل سورة البناء وسور. قال العجاج: [الرجز] 362- فربّ ذي سرادق محجور ... سرت إليه في أعالي السّور «3» وقد روي عن ابن هرمز أنه قرأ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ «4» فهذا لا إشكال فيه. فأما «الصّور» بإسكان الواو فالصحيح فيه أنه القرن جاء بذلك الحديث والتوقيف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك معروف في كلام العرب. أنشد أهل اللغة «5» : [الرجز] 363- نحن نطحناهم غداة الغورين ... بالضّابخات في غبار النقعين نطحا شديدا لا كنطح الصّورين

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 379. (2) انظر معاني الفراء 2/ 380. (3) الشاهد للعجاج في ديوانه 341، والكتاب 4/ 162، وشرح الشواهد للشنتمري 2/ 232. (4) انظر المحتسب 2/ 212. [.....] (5) البيت الأول والثالث بلا نسبة في لسان العرب (صور) ، وديوان الأدب 3/ 315، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة 26.

[سورة يس (36) : آية 52]

[سورة يس (36) : آية 52] قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) قالُوا يا وَيْلَنا منصوب على أنه نداء مضاف أي من أيّامك ومن ابّانك، ويجوز أن يكون منصوبا على معنى المصدر، ويكون المنادى محذوفا على أن الكوفيين يقدّرونه «وي لنا» منفصلة فإذا قيل لهم فلم قلتم: ويل زيد؟ ففتحتم اللام وهي لام خفض ولم قلتم ويل له؟ فضممتم اللام ونونتموها ثم حكيتم: ويل زيد بالضم غير منوّن اعتلّوا بعلل لا تصحّ. قال أبو جعفر: وسنذكرها إن شاء الله فيما يستقبل. مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا يقال: كيف قالوا هذا وهم من المعذّبين في قولكم في قبورهم؟ فالجواب أن أبيّ بن كعب قال: ناموا نومة. وقال أبو صالح: إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور، وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية وبينهما أربعون سنة فذلك قولهم: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا. قال مجاهد: أي فيقول لهم المؤمنون هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وقال قتادة: فقال لهم من هدى الله هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وقال الفراء: أي فقال لهم الملائكة هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال متفقة لأن الملائكة من المؤمنين وممن هدى الله وقرأ مجاهد ويروى عن ابن عباس يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا. قال أبو جعفر: وعلى هذا يتأوّل قول الله جلّ وعزّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة: 7] وكذا الحديث «المؤمن عند الله خير من كلّ ما خلق» «1» ويجوز أن يكون الملائكة صلّى الله عليهم وغيرهم من المؤمنين قالوا «هذا ما وعد الرحمن» ، والتمام على هذا «من مرقدنا» «وهذا» في موضع رفع بالابتداء وخبره «ما وعد الرحمن» ويجوز أن يكون «هذا» في موضع خفض على النعت لمرقدنا فيكون التمام «من مرقدنا هذا» ويكون «ما وعد الرحمن» في موضع رفع من ثلاث جهات ذكر أبو إسحاق منها اثنتين، قال: يكون بإضمار «هذا» ، والثانية: أن يكون بمعنى حق ما وعد الرحمن، وقال أبو جعفر: والثالثة: أن يكون بمعنى بعثكم ما وعد الرحمن. [سورة يس (36) : آية 53] إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ مبتدأ وخبره وجميع نكرة ومُحْضَرُونَ من نعته. [سورة يس (36) : آية 55] إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) قال عبد الله بن مسعود وابن عباس: شغلهم بافتضاض العذارى، وقال أبو قلابة: بينما الرجل من أهل الجنة مع أهله إذ قيل له تحول إلى أهلك فيقول: أنا مع أهلي مشغول فيقال له: تحوّل أيضا إلى أهلك، وقيل: أصحاب الجنة في شغل بما هم فيه

_ (1) أخرجه ابن ماجة في سننه باب 6- الحديث رقم (3947) .

[سورة يس (36) : آية 56]

من اللذات والنعيم عن الاهتمام بأهل المعاصي ومصيرهم إلى النار وما هم فيه من أليم العذاب وإن كانوا أقوياء هم وأهليهم. وقرأ الكوفيون فِي شُغُلٍ «1» بضم الشين والغين، وعن مجاهد فِي شُغُلٍ وحكى أبو حاتم: أنّ هذا يروى عن أبي عمرو بن العلاء أنه قرأ به وهي لغات بمعنى واحد ويقال: شغل بفتح الشين وإسكان الغين فاكِهُونَ خبر إنّ، وعن طلحة بن مصرف أنه قرأ فاكهين «2» نصبه على الحال. [سورة يس (36) : آية 56] هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) مبتدأ وخبره، ويجوز أن يكون هم توكيدا وَأَزْواجُهُمْ عطفا على المضمر ومُتَّكِؤُنَ نعتا لقوله فاكهون. [سورة يس (36) : آية 57] لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) الدال الثانية مبدلة من تاء لأنه يفتعلون من دعاء. [سورة يس (36) : آية 58] سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) سَلامٌ مرفوع عن البدل من «ما» ، ويجوز أن يكون «ما» نكرة و «سلام» نعتا لها أي ولهم ما يدّعون مسلّم ويجوز أن يكون «ما» رفعا بالابتداء سَلامٌ خبرا عنها. وفي قراءة عبد الله بن مسعود سلاما «3» يكون مصدرا. وإن شئت في موضع الحال أي ولهم الذي يدّعون مسلّما وقَوْلًا مصدر أي نقوله قولا يوم القيامة، ويجوز أن يكون معناه قال الله جلّ وعزّ هذا قولا. [سورة يس (36) : آية 59] وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) ويقال: تميّزوا وانمازوا. [سورة يس (36) : آية 60] أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ ويقال: أعهد بكسر الهاء يكون من عهد يعهد. قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون عهد يعهد مثل حسب يحسب. أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ قال الكسائي: «لا» للنهي. [سورة يس (36) : آية 61] وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)

_ (1) انظر تيسير الداني 149، والبحر المحيط 7/ 327. (2) وهذه قراءة الأعمش أيضا، انظر البحر المحيط 7/ 327. (3) انظر البحر المحيط 7/ 327.

[سورة يس (36) : آية 62]

وَأَنِ اعْبُدُونِي من كسر النون فعلى الأصل، من ضم كره كسرة بعدها ضمة. [سورة يس (36) : آية 62] وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا هذه قراءة أهل المدينة والعاصمين، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى وعبد الله بن عبيد بن عمير والنضر بن أنس وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا «1» بضم الجيم والباء وتشديد اللام، قرأ ابن كثير والكوفيون إلا عاصما جِبِلًّا «2» بضم الجيم والباء وتخفيف اللام، وقرأ أبو عمرو جِبِلًّا «3» بضم الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام وقرأ أبو يحيى والأشهب العقيلي جِبِلًّا بكسر الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام. قال أبو جعفر: فهذه خمس قراءات أبينها القراءة الأولى الدليل على ذلك أنهم قد أجمعوا على أن قرءوا وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 184] ويكون جبل جمع جبلّة. والاشتقاق فيه كلّه واحد، وإنما هو من: جبل الله الخلق أي خلقهم وقد ذكرت قراءة سادسة وهي وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً «4» بالياء. أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ أي قد كنتم تعقلون، وهذا على جهة التوبيخ، وكذا «ألم أعهد» أي قد عهدت. [سورة يس (36) : آية 66] وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ أي لو شئنا لأعميناهم في الدنيا عقوبة على عصيان الله جلّ وعزّ، ولكنا أخّرنا عقوبتهم إلى يوم القيامة. فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ أي فبادروا الطريق إلى منازلهم في أول ما يعمون ليلحقوا بأهليهم. [سورة يس (36) : آية 67] وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ أي لو نشاء لمسخناهم في الموضع الذي اجترءوا فيه على معصية الله عزّ وجلّ. فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا أي فلم يستطيعوا أن يهربوا. وَلا يَرْجِعُونَ إلى أهليهم، وحكى الكسائي: طمس يطمس ويطمس. وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ على مكانتهم يقال: مكان ومكانة ودار ودارة. وحكى ابن الأعرابي أنّ العرب تقول: في جمع مكان أمكنة ومكنات وأنّ منه حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أقرّوا الطير على مكناتها» «5» . قال أبو جعفر: مكنات جمع مكنة، ومكنة ومكان بمعنى واحد. وقد تكلّم الناس في معنى هذا الحديث فقال: بعض الناس لا تنفروها بالليل ولا تصطادوها إلّا أن الشافعي رحمه الله فسّره لسفيان بن عيينة على غير هذا، قال: كانت العرب تزجر

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 328، وتيسير الداني 150. (2) انظر البحر المحيط 7/ 328، وتيسير الداني 150. (3) انظر البحر المحيط 7/ 328، وتيسير الداني 150. (4) انظر البحر المحيط 7/ 328، وقال هي قراءة علي بن أبي طالب وبعض الخراسانيين. (5) انظر اللسان (مكن) .

[سورة يس (36) : آية 68]

الطير في مكناتها إذا أرادوا الحاجة يتفاءلون بها ويتطيّرون فنهاهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: «أقروا الطّير على مكناتها» أي لا تزجروها فإن الأمور تجري على ما قضى الله جلّ وعزّ. وقد روي عن عبد الله بن سلام غير هذا في تأويل هذه الآية وتأولها على أنها يوم القيامة. قال: إذا كان يوم القيامة ومدّ الصراط نادى مناد ليقم محمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته فيقومون برّهم وفاجرهم فيتبعونه ليجاوزوا الصراط فإذا صاروا عليه طمس الله جلّ وعزّ أعين فجارهم فاستبقوا الصراط فمن أين يبصرونه حتى يجاوزوه ثم ينادي ليقم عيسى صلّى الله عليه وسلّم وأمته فيقومون برهم وفاجرهم فتكون سبيلهم تلك السبيل، وكذلك سائر الأنبياء صلوات الله عليهم. [سورة يس (36) : آية 68] وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ «1» قال أبو إسحاق: يبدل من القوة ضعفا، ومن الشباب هرما. وعاصم والأعمش وحمزة يقرءون نُنَكِّسْهُ «2» على التكثير والتخفيف يقع للقليل والكثير بمعنى واحد. [سورة يس (36) : آية 69] وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وقد صحّ عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: [الرجز] 364- أنا النّبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب فتكلّم العلماء في هذا فقال بعضهم: إنما الرواية بالإعراب فإن كانت بالإعراب لم تكن شعرا لأنه إذا فتح الباء من البيت الأول أو ضمّها أو نوّنها وكسر الباء من البيت الثاني خرج عن وزن الشعر، وقال بعضهم: ليس هذا الوزن من الشعر. قال أبو جعفر: وهذا مكابرة العيان لأن أشعار العرب على هذا قد رواها الخليل وغيره. ومن حسن ما قيل في هذا قول أبي إسحاق: إنّ معنى وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ أي وما علّمناه أن يشعر أي ما جعلناه شاعرا، وهذا لا يمنع أن ينشد شيئا من الشعر، وقد قيل إنما خبر الله عزّ وجلّ ما علّمه الشعر، ولم يخبر أنّه لا ينشد شعرا، وهذا ظاهر الكلام. وقد قيل فيه قول بين زعم صاحبه أنه إجماع من أهل اللغة، وذلك أنهم قالوا: كل من قال قولا موزونا لا يقصد به إلى شعر فليس بشعر وإنما وافق الشعر، وهذا قول بيّن. وَما يَنْبَغِي لَهُ قال أبو إسحاق: أي وما يتسهّل له، وتأويله على معنى وما يتسهّل قول الشعر لا الإنشاد إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أي ما الذي أنزلنا إليك إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ. [سورة يس (36) : آية 70] لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)

_ (1) انظر تيسير الداني 150. (2) انظر تفسير الطبري 10/ 102.

[سورة يس (36) : آية 71]

لتنذر من كان حيّا ... هذه قراءة أهل المدينة «1» ، ومال إليها أبو عبيد، قال: والشاهد لها «إنّما أنت منذر» وقراءة أبي عمرو وأهل الكوفة لِيُنْذِرَ يكون معناها لينذر الله جلّ وعزّ، أو لينذر القرآن، أو لينذر محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقرأ محمد بن السميفع اليماني لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا قال جويبر عن الضحاك: «من كان حيّا» أي من كان مؤمنا أي لأن المؤمن بمنزلة الحيّ في قبوله ما ينفعه وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ أي يحقّ عليهم أن الله جلّ وعزّ يعذّبهم وإنما يحقّ عليهم هذا بعد كفرهم. وحكى بعض النحويين: «لتنذر من كان حيّا» أي لتعلم من قولهم: نذرت بالقوم أنذر إذا علمت بهم فاستعددت لهم وحكي: ويحق القول على الكافرين بمعنى يوجب الحجة عليهم. [سورة يس (36) : آية 71] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) إن جعلت «ما» بمعنى الذي حذفت الهاء لطول الاسم، وإن جعلت «ما» مصدرا لم يحتج إلى إضمار الهاء. وواحد الأنعام نعم والنّعم مذكّر. [سورة يس (36) : آية 72] وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) فَمِنْها رَكُوبُهُمْ روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قرأت فمنها ركوبتهم «2» قال أبو جعفر: حكى النحويون الكوفيون أنّ العرب تقول: امرأة صبور وشكور بغير هاء، ويقولون: شاة حلوبة، وناقة ركوبة لأنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان له الفعل وبين ما كان الفعل واقعا عليه فحذفوا الهاء مما كان فاعلا، وأثبتوها فيما كان مفعولا، كما قال عنترة: [الكامل] 365- فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا كخافية الغراب الأسحم «3» فيجب على هذا أن يكون «ركوبتهم» فأما أهل البصرة فيقولون: حذفت الهاء على النسب والحجة للقول الأول ما رواه الجرمي عن أبي عبيدة قال: الركوبة تكون للواحدة والجماعة، والركوب لا يكون إلّا للجماعة. فعلى هذا يكون على تذكير الجمع. وزعم أبو حاتم أنه لا يجوز «فمنها ركوبهم» بضم الراء لأنه مصدر والرّكوب ما يركب وأجاز الفراء «4» : «فمنها ركوبهم» بضم الراء، كما تقول: فمنها أكلهم، ومنها شربهم. [سورة يس (36) : آية 73] وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73)

_ (1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 544، وتيسير الداني 150. (2) مرّ الشاهد رقم (274) . [.....] (3) انظر مجاز القرآن 2/ 165. (4) انظر معاني الفراء 2/ 381.

[سورة يس (36) : آية 74]

وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ لم ينصرفا، لأنهما من الجموع التي لا نظير لها في الواحد ولا يجمع. [سورة يس (36) : آية 74] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) هذه اللغة الفصيحة ومن العرب من يأتي بأن فيقول: لعلّه أن ينصر. [سورة يس (36) : آية 75] لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ يعني الآلهة، وجمعوا على جمع الآدميين لأنه أخبر عنهم بخبرهم وَهُمْ يعني الكفار لَهُمْ الآلهة جُنْدٌ مُحْضَرُونَ قال الحسن: يمنعون منهم ويدفعون عنهم، وقال قتادة: يغضبون لهم. [سورة يس (36) : آية 76] فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ هذه هي اللغة الفصيحة. ومن العرب من يقول: يحزنك إِنَّا بكسر الهمزة فيما بعد القول لأنه مستأنف. [سورة يس (36) : الآيات 78 الى 79] وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ حذفت الضمة من الياء لثقلها، ولا يجوز الإدغام لئلا يلتقي ساكنان وكذا قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ. [سورة يس (36) : الآيات 80 الى 81] الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فذكّر الشجر ومن العرب من يقول: الشجر الخضراء كما قال جلّ وعزّ: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ [الواقعة: 52، 53] . وحكي أن سلاما أبا المنذر قرأ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى «1» أي إن خلق السموات والأرض أعظم من خلقهم، فالذي خلق السموات والأرض يقدر على أن يبعثهم «2» . [سورة يس (36) : آية 82] إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 333. (2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 544.

[سورة يس (36) : آية 83]

وقرأ الكسائي إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون بالنصب عطفا على يقول. [سورة يس (36) : آية 83] فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) قال سعيد عن قتادة: مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ مفاتح كل شيء. قال أبو جعفر: ملكوتي وملكوت في كلام العرب بمعنى ملك. والعرب تقول: «جبروتي خير من رحموتي» .

37 شرح إعراب سورة الصافات

37 شرح إعراب سورة الصّافات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) هذه قراءة أكثر القراء، وقرأ حمزة «1» بالإدغام فيهن. وهذه القراءة التي نفر منها أحمد بن حنبل لمّا سمعها. قال أبو جعفر: هي بعيدة في العربية من ثلاث جهات: إحداهنّ أن التاء ليست من مخرج الصاد ولا من مخرج الزاي ولا من مخرج الذال، ولا هي من أخواتهن، وإنما أختاها الطاء والدال، وأخت الزاي الصاد والسين، وأخت الذال الظاء والثاء، والجهة الثانية أن التاء في كلمة وما بعدها في كلمة أخرى، والجهة الثالثة أنك إذا أدغمت فقلت: والصافات صفّا فجمعت بين ساكنين من كلمتين فإنما يجوز الجمع بين ساكنين في مثل هذا إذا كانا في كلمة واحدة نحو دابّة. ومجاز قراءة حمزة أن التاء قريبة المخرج من هذه الحروف «والصافات» خفض بواو القسم والواو بدل من الباء والتقدير: أحلف بالصّافات، وحقيقته بربّ الصافات فالزاجرات عطف، وكذا «فالتاليات» . [سورة الصافات (37) : آية 4] إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) جواب القسم وأجاز الكسائي فتح أن في القسم. [سورة الصافات (37) : آية 5] رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خبر بعد خبر، ويجوز أن يكون بدلا من واحد، ويجوز أن يكون مرفوعا على إضمار مبتدأ، وحكى الأخفش: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ بالنصب على النعت لاسم «إنّ» . [سورة الصافات (37) : آية 6] إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6)

_ (1) انظر تيسير الداني 150.

[سورة الصافات (37) : آية 7]

هذه قراءة الحسن وأهل المدينة ويحيى بن وثاب وهي المعروفة من قراءة أبي عمرو، وحكى يعقوب القارئ أن أبا عمرو والأعمش قرءا بزينة الكواكب «1» بتنوين زينة ونصب الكواكب. وهي المعروفة من قراءة عاصم، وأما حمزة فقرأ بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ «2» بتنوين زينة وخفض الكواكب، وقراءة رابعة تجوز وهي بزينة الكواكب «3» بتنوين زينة ورفع الكواكب فالقراءة الأولى بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ بحذف التنوين من زينة للإضافة، وهي قراءة بيّنة حسنة أي إنّا زيّنّا السماء الدنيا بتزيين الكواكب أي بحسنها، وقرأه عاصم بتنوين زينة ونصب الكواكب فيها ثلاثة أقوال: أحداهنّ أن تكون الكواكب منصوبة بوقوع الفعل عليها أي بأنا زينا الكواكب، كما تقول: عجبت من ضرب زيدا. وقال الله عزّ وجلّ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً [البلد: 14] إلّا أن هذا أحسن للتفريق، والقول الثاني أن يكون التقدير: أعني الكواكب، والقول الثالث ذكره أبو إسحاق أن يكون الكواكب بدلا من زينة على الموضع لأن موضعها نصب وقراءة حمزة بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ على بدل المعرفة من النكرة. [سورة الصافات (37) : آية 7] وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) وَحِفْظاً نصب على المصدر والفعل محذوف، وهو معطوف على «زينا» . مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ نعت لشيطان. وكلّ عات من الجنّ والإنس فهو شيطان، فالعرب تسميه شيطانا. [سورة الصافات (37) : آية 8] لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ سائر الكوفيين لا يسمعون «4» على أن الأصل: يتسمّعون فأدغمت التاء في السين لقربها منها. ومال أبو عبيد إلى هذه القراءة واحتجّ في ذلك أنّ العرب لا تكاد تقول: سمعت إليه، ولكن تسمعت إليه، قال: فلو كان «يسّمّعون الملأ» بغير «إلى» لكان مخفّفا. قال أبو جعفر: يقال: سمعت منه كلاما وسمعت إليه يقول كذا ومعنى سمعت إليه: أملت سمعي إليه. فأما قوله: لو كان يسمعون الملأ، فكأنه غلط، لأنه لا يقال: سمعت زيدا، وتسكت إنما تقول: سمعت زيدا يقول كذا وكذا فيسمعون إلى الملأ على هذا أبين. وقد روى الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس: لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى قال: هم لا يسمعون وهم يتسمّعون. وهذا قول بيّن وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 382، وتيسير الداني 150، والبحر المحيط 7/ 338. (2) انظر معاني الفراء 2/ 382، وتيسير الداني 150، والبحر المحيط 7/ 338. (3) انظر معاني الفراء 2/ 382، وتيسير الداني 150، والبحر المحيط 7/ 338. (4) انظر تيسير الداني 151.

[سورة الصافات (37) : آية 9]

[سورة الصافات (37) : آية 9] دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) دُحُوراً مصدر، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي دُحُوراً «1» بفتح الدال يجعله مصدرا على فعول بمنزلة القبول وأما الفراء فقدّره على أنه اسم الفاعل أي ويقذفون بما يدحرهم أي بدحور ثم حذف الباء والكوفيون يستعملون هذا كثيرا، كما أنشدوا لجرير: [الوافر] 366- تمرّون الدّيار ولم تعوجوا ... كلامكم عليّ إذا حرام «2» قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: قرأت على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير «مررتم بالديار» . [سورة الصافات (37) : آية 10] إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فيه لغات قد قرئ ببعضها، وهي غير مخالفة للخطّ يقال: إذا أخذ الشيء بسرعة خطف وخطف وخطّف وخطّف وخطّف والأصل المشدّدات اختطف فأدغمت التاء في الطاء لأنها أختها وفتحت الخاء، لأن حركة التاء ألقيت عليها ومن كسرها فلالتقاء الساكنين، ومن كسر الطاء أتبع الكسر الكسر. فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ نعت لشهاب. قال أبو إسحاق: يقال: تبعه وأتبعه إذا مضى في أثره وشهاب وشهب، والقياس في القليل أشهبة وإن لم يسمع من العرب، وحكى الأخفش سعيد: في الجمع شهب ثقب وثواقب وثقاب، وحكى الكسائي: ثقب يثقب ثقابة وثقوبا. [سورة الصافات (37) : آية 11] فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا «من» بمعنى الذين والمعنى: أم الذين خلقناهم وقد تقدّم ذكر الملائكة وغيرهم إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ. وحكى الفراء عن العرب طين لاتب «3» بمعناه أي لازق. [سورة الصافات (37) : آية 12] بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ الكوفيون إلّا عاصما بَلْ عَجِبْتَ «4» بضم التاء وإليها يذهب أبو عبيد، واحتجّ بقول الله جلّ وعزّ وَإِنْ تَعْجَبْ

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 339، ومعاني الفراء 2/ 833. (2) مرّ الشاهد رقم (263) . (3) انظر معاني الفراء 2/ 384. (4) انظر تيسير الداني 151، وكتاب السبعة لابن مجاهد 547.

[سورة الصافات (37) : آية 14]

فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرعد: 5] ولا حجة فيه. ومعناه على ما قاله أبو حاتم: وإن تعجب فلك في قولهم عجب ولمن سمعه وفيه عجب. والقراءة بضم التاء مروية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن ابن مسعود رحمه الله رواها شعبة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ بَلْ عَجِبْتَ بضم التاء ويروى عن ابن عباس قال أبو جعفر: سمعت علي بن سليمان يقول: معنى القراءتين واحد، والتقدير: قل: يا محمد بل عجبت لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مخاطب بالقرآن، وهذا قول حسن. وَيَسْخَرُونَ بالسين في السواد، ويجوز في غير القرآن عند الخليل رحمه الله أن يقال: «صخرت منه» بالصاد، ولغة شاذة «سخرت به» بالياء. [سورة الصافات (37) : آية 14] وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) أي يستدعون السّخريّ و «إذا» في موضع نصب بإضمار فعل قبلها، ولا يعمل فيها ما بعدها. وحكى الكسائي: دخر يدخر دخورا. [سورة الصافات (37) : آية 19] فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ والجمع زجرات بتحريك الجيم فرقا بين الاسم والنعت. [سورة الصافات (37) : آية 20] وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) وَقالُوا يا وَيْلَنا منصوب على أنه مصدر عند البصريين، وزعم الفراء أن تقديره يا وي لنا. ووي بمعنى: حزن ولو كان كما قال لكان منفصلا وهو في المصحف متصل، ولا نعلم أحدا يكتبه إلّا متصلا فزاد الكوفيون على هذا، فحكى بعضهم لغات شتّى أنه يقال: ويل للشيطان، وويلا للشيطان، وويل للشيطان، وويل الشيطان، وويل الشيطان، وويل الشيطان. فأما ويل للشيطان فبيّن لا نظر فيه، وويلا للشيطان جائز بمعنى: ألزمه الله ويلا، وأما ويل للشيطان فشاذّ وهو مشبّه بالأصوات. فأما ويل الشيطان فهو عند البصريين منصوب على معنى ألزمه الله ويلا أيضا، وقال الفراء: لمّا كثر استعمالهم إيّاه جعلوه بمنزلة اسم ضمّ إلى اسم، كما قالوا: يا لبكر، وهي لام الخفض، ومن قال: ويل الشيطان جاء به على الأصل، ومن قال: ويل الشيطان فالأصل عنده ويل للشيطان ثم حذف لكثرة اللامات كما قرئ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ [الأعراف: 196] بمعنى إنّ وليّي الله فحذف لكثرة الياءات. قال أبو جعفر: لا تعرف هذه القراءة ولكن قرأ عاصم الجحدري إنّ وليّ الله الذي نزّل الكتاب بمعنى إنّ وليّ الله الذي نزّل الكتاب جبريل صلّى الله عليه وسلّم الذي نزّل الكتاب ثمّ أقيم النعت مقام المنعوت. هذا يَوْمُ الدِّينِ ابتداء وخبر. قال أبو جعفر: قال الضحاك وعطية العوفي: أي هذا يوم الحساب.

[سورة الصافات (37) : آية 21]

[سورة الصافات (37) : آية 21] هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) «الذي» في موضع رفع على النعت لليوم ويجوز أن يكون في موضع خفض على النعت للفصل. [سورة الصافات (37) : الآيات 22 الى 23] احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ معطوف على «الذين» . وواحدهم زوج قال سفيان عن سماك عن النعمان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: وَأَزْواجَهُمْ قرناؤهم وهو مبيّن في حديث شريك عن سماك عن النعمان قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول في قول الله جلّ وعزّ: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ قال: الزاني مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، وصاحب السرقة مع صاحب السرقة. وقال سفيان عن أبيه عن المسيب بن رافع عن ابن عباس «احشروا الذين ظلموا وأزواجهم» قال: أشباههم. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال لا تدفع لجلالة قائلها وأنها معروفة في اللغة يقال: هذا زوج هذا أي قرينه وشبهه، ومن هذا قيل للرجل: زوج المرأة وللمرأة زوج الرجل وقيل للخفّين: زوجان لأن كل واحد منهما زوج لصاحبه، ولا يقال للاثنين إلا زوجان. وقال سعيد عن قتادة احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ، قال: الكفار مع الكفار. وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال الأصنام فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ يقال: هديته إلى الطريق وهديته الطريق أي دللته عليه، وأهديت الهديّة وهديت العروس ويقال أهديتها أي جعلتها بمنزلة الهدية. [سورة الصافات (37) : آية 24] وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) وحكى عيسى بن عمر أنهم بفتح الهمزة. قال الكسائي: أي لأنهم وبأنهم. [سورة الصافات (37) : آية 25] ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) في موضع نصب على الحال. [سورة الصافات (37) : آية 26] بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) قال قتادة مستسلمون في عذاب الله. [سورة الصافات (37) : الآيات 27 الى 28] وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ فربما توهم الجاهل أن هذا من قول جلّ وعزّ: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون: 101] وليس منه في شيء لأن قوله جلّ وعزّ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ إنما هو لا يتساءلون بالأرحام فيقول أحدهم:

[سورة الصافات (37) : آية 29]

أسألك بالرحم التي بيني وبينك إمّا نفعتني أسقطت حقّا لك عليّ أو وهبت لي حسنة لأن قبله: فلا أنساب بينهم أي ليس ينتفعون بالأنساب التي بينهم كما جاء بالحديث «إنّ الرجل يوم القيامة ليسرّ بأن يصحّ له على أبيه أو على ابنه حقّ فيأخذه منه لأنها الحسنات والسيئات» «1» ، وفي حديث آخر «رحم الله امرأ كانت لأخيه عنده مظلمة في مال أو عرض فأتاه فاستحلّه قبل أن يطلبه به فيأخذ من حسناته فإن لم تكن له حسنات زيد عليه من سيئات المطالب» «2» و «يتساءلون» هاهنا إنما هو أن يسأل بعضهم بعضا ويوبّخه في أنه أضلّه أو فتح له بابا من المعصية يبيّن ذلك أنّ بعده إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ قال سعيد عن قتادة: أي تأتونا عن طريق الخير وتصدّوننا، وعن ابن عباس نحو منه، وقيل: تأتوننا عن اليمين من الجهة التي نحبّها وننقاد إليها وتغرّونا بذاك. والعرب تتفاءل لما كان على اليمين، وتسميه السانح وقيل: تأتوننا مجيء من إذا حلف لنا صدّقناه. [سورة الصافات (37) : آية 29] قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) قال قتادة: هذا قول للشياطين لهم. [سورة الصافات (37) : آية 30] وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) سُلْطانٍ في موضع رفع لأن «من» زائدة للتوكيد. بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ أي متزايدين في الكفر، وطغى الماء إذا زاد. [سورة الصافات (37) : آية 31] فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا أي فحقّ علينا ما كتبه الله جلّ وعزّ، وما أعلم به ملائكته صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا موافق للحديث «إنّ الله جلّ وعزّ كتب للنار أهلا وللجنّة أهلا لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم» «3» . [سورة الصافات (37) : آية 32] فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) أي كنا سببا لغيّكم. [سورة الصافات (37) : آية 33] فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) أي الضالّ والمضلّ، ولو كان في غير القرآن لجاز نصب مشتركين. [سورة الصافات (37) : آية 34] إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) الكاف من كذلك في موضع نصب نعت لمصدر.

_ (1) انظر تفسير القرطبي 15/ 74. [.....] (2) أخرجه الترمذي في صفة القيامة 9/ 254. (3) أخرجه الترمذي في سننه في التفسير 11/ 195، وابن ماجة في سننه في المقدمة الحديث رقم (82) .

[سورة الصافات (37) : آية 35]

[سورة الصافات (37) : آية 35] إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) يكون يستكبرون في موضع نصب على خبر كان، ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر «إنّ» وكان ملغاة. [سورة الصافات (37) : آية 38] إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) الأصل لذائقون حذفت النون استخفافا، وخفضت للإضافة، ويجوز النصب، كما أنشد سيبويه: [المتقارب] 367- فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلّا قليلا «1» وأجاز سيبويه وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ [الحج: 35] على هذا. [سورة الصافات (37) : آية 40] إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) نصب على الاستثناء. [سورة الصافات (37) : آية 42] فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فَواكِهُ بدل من رزق. [سورة الصافات (37) : آية 44] عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) قال عكرمة: لا ينظر بعضهم في قفا بعض، ويجوز سرر لثقل الضمة مع التضعيف. [سورة الصافات (37) : آية 45] يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) روي عن ابن عباس قال: الخمر، وعن مجاهد قال: هي خمر بيضاء، وقال الضحاك: كل كأس في القرآن فهي خمر، وحكي من يوثق به من أهل اللغة أنّ العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر: كأس فإن لم يكن فيه خمر فهو قدح، كما يقال للخوان إذا كان عليه طعام: مائدة فإن لم يكن عليه طعام لم يقل له مائدة. قال أبو الحسن بن كيسان: ومثله ظعينة للهودج إذا كانت فيه امرأة. قال أبو إسحاق: بكأس من معين: خمر تجري العيون على وجه الأرض. [سورة الصافات (37) : آية 46] بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) قال: ولَذَّةٍ بمعنى ذات لذّة. [سورة الصافات (37) : آية 47] لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47)

_ (1) مرّ الشاهد رقم (73) .

[سورة الصافات (37) : آية 48]

لا فِيها غَوْلٌ ويقال بمعناه: غيلة وغائلة، وهو ما يؤذي الإنسان من الصداع أو غيره وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ قراءة أهل المدينة وأهل البصرة وعاصم، وقرأ سائر الكوفيين إلّا عاصما يُنْزَفُونَ «1» بكسر الزاي. قال أبو جعفر: والقراءة الأولى أبين وأصحّ في المعنى لأن معنى «ينزفون» عند جلّة أهل التفسير منهم مجاهد لا تذهب عقولهم فنفى الله جلّ وعزّ عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع والسكر. فأما معنى «ينزفون» فالصحيح فيه أنه يقال: أنزف الرجل إذا نفد شرابه، وهذا يبعد أن يوصف به شراب أهل الجنة، ولكن مجازه أن يكون بمعنى لا ينفذ أبدا. [سورة الصافات (37) : آية 48] وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) عن ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب قالوا: قصرن طرفهنّ على أزواجهن فلا يبغين غيرهم، وقال عكرمة: قاصرات الطرف أي محبوسات على أزواجهن والتفسير الأول أبين لأنه ليس في الآية مقصورات موضع آخر حُورٌ مَقْصُوراتٌ [الرحمن: 72] من قول العرب امرأة قصيرة ومقصورة إذا حبست على زوجها. عِينٌ جمع عيناء والأصل فيه فعل فكسرت العين لئلا تنقلب الياء واوا. [سورة الصافات (37) : آية 49] كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) قال مطر الوراق: أي بيض محضون أي لم توسّخه الأيدي. قال أبو جعفر: هكذا تقول العرب إذا وصفت الشيء بالحسن والنظافة كأنه بيض النّعام المغطّى بالريش. [سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 52] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ وإدغام التاء في السين جائز في العربية. قال الأخفش: إنما سأل عن صاحبه ثم أخبر فقال إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ قال سعد بن مسعود: وشريكه قرينه، وهما رجلان من بني إسرائيل اشتركا في تجارة فربحا ستة آلاف دينار، فأخذ كل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فافترقا فلقي أحدهما صاحبه فقال له: هل علمت أني تزوجت امرأة من أفضل نساء بني إسرائيل بألف دينار؟ فمضى صاحبه فأخذ ألف دينار تصدّق بها على المساكين والفقراء وقال: اللهمّ إنّ صاحبي تزوّج امرأة يموت عنها، ويكبر وتفارقه، وأني أسألك أن تنكحني امرأة من نساء أهل الجنّة بهذه الألف،

_ (1) انظر تيسير الداني 151، وكتاب السبعة لابن مجاهد 547.

[سورة الصافات (37) : آية 54]

ثم إنّ صاحبه لقيه فقال له: هل علمت أني اشتريت مسكنا من أفضل مساكن بني إسرائيل بألف دينار؟ فمضى صاحبه فتصدّق بألف دينار على الفقراء والمساكين وقال: اللهم إني اشتريت منك مسكنا من مساكن أهل الجنّة بهذه الألف دينار، ثمّ لقي صاحبه فقال: هل علمت أني اشتريت جنة من أفضل جنة بني إسرائيل بألف دينار فصرت من أفضلهم بزوجتي ومسكني وجنتي؟ فمضى صاحبه فتصدّق بالألف الباقي على الفقراء والمساكين وقال: اللهم إنّي قد اشتريت منك جنة الخلد بهذا الألف، ثمّ إنّ صاحبه الذي اكترى أجراء لجنّته فإذا هو بصاحبه فيهم فعرفه فدعا به فقال له أشحّ هذا أم أفسدت ملكك فحدّثه بالقصة، فقال له: أتتوهّم أنك ستبعث ثم تدان بما علمت أنك لمغرور وإنّ هذا لباطل، ففيهما أنزل الله جلّ وعزّ «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ» إلى مِنَ الْمُحْضَرِينَ. قال أبو جعفر: التقدير أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ بأنّا مدينون أي محاسبون مجاوزون بأعمالنا ثم حذفت الياء وكسرت «إنّ» ، لأن في خبرها اللام، ولا يجوز أنك لمن المصدّقين لأنه لا معنى للصدقة هاهنا. [سورة الصافات (37) : آية 54] قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) وحكي هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ «1» . قال أبو إسحاق: يقال: طلع، وأطلع بمعنى واحد، وقد حكي: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ بكسر النون وهي لحن لا يجوز لأنه جمع بين النون والإضافة، ولو كان مضافا لكان هل أنتم مطلعيّ، وإن كان سيبويه والفراء حكيا مثله، وأنشدا: [الطويل] 368- هم القائلون الخير والآمرونه ... إذا ما خشوا من محدث الأمر معظما «2» وإنشاد الفراء «والفاعلونه» وأنشد سيبويه وحده: [الطويل] 369- ولم يرتفق والنّاس محتضرونه ... جميعا وأيدي المعتفين رواهقه «3» وأنشد الفراء وحده: [الوافر] 370- وما أدري وظنّي كلّ ظنّ ... أمسلمني إلى قومي شراح «4»

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 344، والمحتسب 2/ 219. (2) البيت بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 392، والكتاب 1/ 247، وخزانة الأدب 4/ 266، والدرر 6/ 235، وشرح المفصّل 2/ 125، ولسان العرب (طلع) ، و (حين) ، و (ها) ، ومجالس ثعلب 1/ 150، وهمع الهوامع 2/ 157. (3) البيت بلا نسبة في الكتاب 1/ 248، وخزانة الأدب 4/ 266، وشرح المفصّل 2/ 125، والمقرّب 1/ 125، والكامل 371. (4) الشاهد ليزيد بن محرم الحارثي في شرح شواهد المغني 2/ 770، والدرر 1/ 212، والمقاصد النحوية 1/ 385، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 3/ 243، وتذكرة النحاة 422، ورصف المباني 363، ولسان العرب (شرحل) ، والمحتسب 2/ 220، ومغني اللبيب 2/ 345، والمقرّب 1/ 125، وهمع الهوامع 1/ 65.

[سورة الصافات (37) : آية 55]

أما البيتان اللذان أنشدهما سيبويه وشركه الفراء في أحدهما فلا يعرف من قالهما ولا تثبت بهما حجّة، ولو عرف من قالهما لكانا شاذين خارجين عن كلام العرب وما كان هكذا لم يحتجّ به في كتاب الله جلّ وعزّ، ولا يدخل في الفصيح. وأما البيت الذي أنشده الفراء فالقول فيه ما حكاه أبو إسحاق قال: أنشدنا محمد بن يزيد «أأسلمني» وزعم الفراء أنه يريد بشراح شراحيل. وهذا من أقبح الضرورات أن يرخّم في غير النداء وإنما لم يجز «هل أنتم مطلعون» بكسر النون لأنه جاء إلى ما لا ينفصل مما قبله بالنون وهذا ما لا وجه له، وهذا قول من يوثق به من النحويين منهم محمد بن يزيد، وهو أيضا قول الفراء غير أنه أفسده بعد ذلك فقال: ضاربني مشبّه بيضربني. [سورة الصافات (37) : آية 55] فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) وحكي فَاطَّلَعَ فَرَآهُ «1» وفيه قولان: أحدهما أن يكون فعلا مستقبلا أي فأطلع أنا، ويكون منصوبا على أنه جواب الاستفهام، والقول الثاني على أن يكون فعلا ماضيا ويكون أطلع واطلع واحدا فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ عن عبد الله بن مسعود قال: في وسطها والحسك حواليه. [سورة الصافات (37) : آية 56] قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) قال الكسائي: أي لثهّلكني، وقال محمد بن يزيد: لو قيل: لتردين لتوقعني في النار لكان جائزا. [سورة الصافات (37) : آية 57] وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) ما بعد لولا مرفوع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف. قال الفراء: أي لكنت معك في النار محضرا. [سورة الصافات (37) : الآيات 58 الى 59] أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى يكون استثناء ليس من الأول، ويكون مصدرا لأنه منعوت. [سورة الصافات (37) : آية 60] إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) يكون هو مبتدأ، وما بعده خبرا عنه، والجملة خبر «إنّ» ويجوز أن يكون هو فاصلا.

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 345، ومعاني الفراء 2/ 386.

[سورة الصافات (37) : آية 61]

[سورة الصافات (37) : آية 61] لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) والأصل ليعمل بكسر اللام، فحذفت الكسرة لثقلها. والتقدير- والله جلّ وعزّ أعلم- فليعمل العاملون لمثل هذا فإن قال قائل: فالفاء في العربية تدلّ على أن الثاني بعد الأول فكيف صار ما بعدها ينوى به التقديم؟ فالجواب أنّ التقديم كمثل التأخير لأنّ حقّ حروف الخفض وما معها أن تكون متأخرة. [سورة الصافات (37) : آية 62] أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) أَذلِكَ خَيْرٌ مبتدأ وخبره نُزُلًا على البيان والمعنى أنعيم أهل الجنة خير نزلا أم شجرة الزقوم خير نزلا والنزل في اللغة الرزق الذي له سعة وكذا النّزل والنزل إلّا أنه يجوز أن يكون النزل بإسكان الزاي لغة، ويجوز أن يكون أصله النّزل فحذفت الضمة لثقلها، ومنه: أقيم للقوم نزلهم. واشتقاقه أنه الغذاء الذي يصلح أن ينزلوا معه، ويقيموا فيه. وشجرة الزقوم مشتقّة من التزقّم، وهو البلع على الجهد والشدّة، فقيل لها شجرة الزقوم لأنهم يبتلعونها على جهد وتقف في حلوقهم لكراهيتها ونتنها. [سورة الصافات (37) : آية 63] إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) مفعولان. [سورة الصافات (37) : آية 64] إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) إِنَّها شَجَرَةٌ خبر «إن» ولا يجوز حذف الألف من «إنها» كما حذفت الواو من إنه لثقل الواو وخفة الألف. تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ خبر بعد خبر مثل كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى [المعارج: 16] ويجوز أن يكون تخرج نعتا للشجرة. [سورة الصافات (37) : آية 65] طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) طَلْعُها مبتدأ، وخبره في الجملة أو تجعل الكاف بمعنى مثل فتكون خبرا. [سورة الصافات (37) : الآيات 66 الى 68] فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها دخلت اللام للتوكيد، وكذا لَشَوْباً حكى الفراء شاب طعامه وشرابه إذا خلطهما بشيء سواهما يشوبهما شوبا وشابة. [سورة الصافات (37) : آية 70] فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) قال الفراء «1» : الإهراع الإسراع فيه شبيه بالرعدة، وقال محمد بن يزيد: المهرع

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 387.

[سورة الصافات (37) : آية 75]

المستحب يقال: جاء فلان يهرع إلى النار إذا استحثّه البرد إليها، وحكى أبو إسحاق: هرع وأهرع جميعا. [سورة الصافات (37) : آية 75] وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ من النداء الذي هو استغاثة ودعاء. فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ قال الكسائي: فلنعم المجيبون له كنا. [سورة الصافات (37) : آية 76] وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ عطف على الهاء. [سورة الصافات (37) : آية 77] وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ مفعول أول وهُمُ زائدة تسمّى فاصلة الْباقِينَ مفعول ثان. فأما معنى وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ فمن أحسن ما روي فيه ما ذكر عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيّب في قوله جلّ وعزّ وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ أنّ الناس كلّهم من ولد نوح صلّى الله عليه وسلّم، وأنهم كلّهم من ثلاثة أولاد لنوح سام وحام ويافث فالعرب يعني يمنيها ونزارها والروم والفرس من ولد سام، والسودان يعني أجناسهم من السند والهند والزغاوة وغيرهم والبربر والقبط من ولد حام، والصقالب والترك ويأجوج ومأجوج من ولد يافث. والخير في ولد سام. قال أبو جعفر: صرفت نوحا وساما وإن كانت أسماء أعجمية لأنها على ثلاثة أحرف فخفّت. هذا الصحيح، وقد قيل إنها عربية مشتقة. [سورة الصافات (37) : الآيات 78 الى 79] وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) زعم الكسائي أن فيه تقديرين: أحدهما وتركنا عليه في الآخرين يقال: سلام على نوح أي تركنا عليه هذا الثناء، وهذا مذهب أبي العباس، قال: والعرب تحذف القول كثيرا. والقول الآخر أن يكون المعنى: وألقينا عليه وتمّ الكلام ثم ابتدأ فقال: سلام على نوح. قال الكسائي: وفي قراءة ابن مسعود سلاما «1» منصوب بتركنا أي تركنا عليه ثناء حسنا. [سورة الصافات (37) : آية 80] إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) أي يبقى عليهم الثناء الحسن، والكاف في موضع نصب أي جزاء كذلك. [سورة الصافات (37) : آية 82] ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 349.

[سورة الصافات (37) : آية 83]

الواحد: آخر والأصل فيه أن يكون معه «من» إلا أنها حذفت لأن المعنى معروف لا يكون آخر ومعه شيء من جنسه. [سورة الصافات (37) : آية 83] وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) نصب بإنّ. [سورة الصافات (37) : آية 84] إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) قال عوف الأعرابي: سألت محمد بن سيرين: ما القلب السليم؟ فقال: الناصح لله في خلقه. [سورة الصافات (37) : آية 85] إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) تكون «ما» في موضع رفع بالابتداء و «ذا» خبره، ويجوز أن تكون «ما» و «ذا» في موضع نصب بتعبدون. [سورة الصافات (37) : آية 86] أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) أَإِفْكاً نصب بتعبدون. قال أبو العباس محمد بن يزيد: والإفك أسوأ الكذب وهو الذي لا يثبت ويضطرب، ومنه ائتفكت بهم الأرض، آلِهَةً بدل من إفك. [سورة الصافات (37) : آية 87] فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَما ظَنُّكُمْ مبتدأ وخبره. [سورة الصافات (37) : آية 88] فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) يكون جمع نجم، ويكون واحدا مصدرا، وهذا قول الخليل أي فيما نجم له من الرأي. [سورة الصافات (37) : آية 89] فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) عن ابن عباس قال: مريض، وقال الضحاك: أي مطعون فينحّوا عنه لئلا يعديهم. وصدق إبراهيم في هذا لأن كلّ أحد سيسقم بالموت، كما قال جلّ وعزّ إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزمر: 30] فالمعنى إني سقيم فيما استقبل فتوهّموا أنه سقيم الساعة. قال أبو جعفر: وهذا من معاريض الكلام. [سورة الصافات (37) : آية 90] فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) نصب على الحال.

[سورة الصافات (37) : الآيات 91 إلى 94]

[سورة الصافات (37) : الآيات 91 الى 94] فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ فخاطبها كما يخاطب من يعقل، لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة في عبادتهم إياها، وكذا «قال ألا تأكلون» متعجبا منها، وكذا ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ وكذا فَراغَ عَلَيْهِمْ ولم يقل: عليها ولا عليهنّ ضَرْباً مصدر، وقرأ مجاهد ويحيى بن وثاب والأعمش فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ «1» بضم الياء وزعم أبو حاتم أنه لا يعرف هذه اللغة وقد عرفها جماعة من العلماء منهم الفراء وشبّهها بقولهم: أطردت الرجل، أي صيّرته إلى ذلك وطردته نحّيته. وأنشد هو وغيره: [الطويل] 371- تمنّى حصين أن يسود جذاعه ... فأضحى حصين قد أذلّ وأقهرا «2» أي صيّر إلى ذلك فكذا «يزفّون» يصيرون إلى الزفيف. قال محمد بن يزيد: الزفيف: الإسراع، وقال أبو إسحاق: الزفيق: أول عدو النعام. قال أبو حاتم: وزعم الكسائي أنّ قوما قرءوا فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ «3» من وزف يزف مثل وزن يزن فهذه حكاية أبي حاتم، وأبو حاتم لم يسمع من الكسائي شيئا. وروى الفراء «4» وهو صاحب الكسائي عن الكسائي أنه لا يعرف «يزفون» مخفّفة. قال الفراء: وأنا لا أعرفها. قال أبو إسحاق: وقد عرفها غيرهما أنه يقال: وزف يزف إذا أسرع، ولا أعلم أحدا قرأ «يزفون» . [سورة الصافات (37) : آية 95] قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) ويقال: نحت ينحت وينحت لأنه فيه حرف من حروف الحلق. [سورة الصافات (37) : آية 96] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) «ما» في موضع نصب أي: وخلق ما تعلمون، ويجوز أن يكون في موضع نصب بيعملون أي: وأيّ شيء تعملون. قال عبد الله بن عمرو بن العاص: فلمّا صار في البنيان قال: حسبي الله ونعم الوكيل. [سورة الصافات (37) : آية 99] وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) والأصل إنّني حذفت لاجتماع النونات.

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 351. (2) الشاهد للمخبل السعدي في ديوانه 294، ولسان العرب (قهر) و (جذع) ، وتهذيب اللغة 5/ 395، وتاج العروس (قهر) و (جذع) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 5/ 35، ومجمل اللغة 4/ 128، وديوان الأدب 2/ 299، والمخصّص 3/ 130. (3) انظر معاني الفراء 2/ 389. [.....] (4) انظر معاني الفراء 2/ 389.

[سورة الصافات (37) : آية 100]

[سورة الصافات (37) : آية 100] رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) أي صالحا من الصالحين وحذف مثل هذا كثير. [سورة الصافات (37) : آية 101] فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) أي إنه يكون حليما في كبره. [سورة الصافات (37) : آية 102] فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) قال أبو جعفر: فاختلف العلماء في المأمور بذبحه، فقال أكثرهم: الذبيح إسحاق فممن قال ذلك العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله ذلك الصحيح عنه ورواه الثوري عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: المفديّ إسحاق. وروى الثوري وابن جريج عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الذبيح إسحاق، وهذا هو الصحيح عن عبد الله بن مسعود رواه شعبة عن أبي إسحاق عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود: أن رجلا قال: أنا ابن الأشياخ الكرام، فقال عبد الله: ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله، وقد روى حمّاد ابن زيد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين» «1» . وروى أبو الزبير عن جابر قال: الذّبيح إسحاق، وذلك مرويّ أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبد الله بن عمر أنّ الذبيح إسحاق عليه السلام، فهؤلاء ستة من الصحابة ومن التابعين وغيرهم منهم علقمة والشّعبي ومجاهد وسعيد بن جبير وعبد الله بن أبي الهذيل ومالك بن أنس وكعب الأحبار قالوا: الذبيح إسحاق صلّى الله عليه وسلّم. قال أبو جعفر: أما من قال: هو إسماعيل صلّى الله عليه وسلّم فأبو هريرة، وهو يروي عن ابن عمر ثم تكلّم العلماء بعد ذلك فمنهم من قال: نصّ التأويل يدلّ على أنه إسماعيل عليه السلام لأن الله جلّ وعزّ قال: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا [الصافات: 112] فكيف يأمره بذبحه وقد وعده أن يكون نبيا فهذا قد قيل، وليس بقاطع والله جلّ وعزّ أعلم لأن البشارة بنبوته في ما روي بشارة ثابتة بعد الأمر بذبحه ثوابا على ما كان منه. فأمّا وعده بأن يكون من إسحاق ابن، فكيف يأمره بذبحه فقد يجوز أن يكون ولد لإسحاق غير ولد لأنه قد بلغ السعي، فظاهر التنزيل يدلّ على أن الذبيح إسحاق لأنه أخبر جلّ وعزّ أنه فدى الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم حين قال: هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فإذا كان

_ (1) أخرجه أحمد في مسنده 8/ 86.

[سورة الصافات (37) : الآيات 103 إلى 105]

المفدّى هو المبشّر به وقد بيّن أن الذي بشر به هو إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، وأن كلّ موضع من القرآن ذكر بتبشيره إياه بولد فهو إسحاق نبيا أي بتبشيره إياه بقوله فبشرناه بغلام حليم إنما هو إسحاق، فأما اعتلال من اعتلّ بأن قرني الكبش كانا معلّقين في الكعبة فليس يمتنع أن يكون حمل من الشام إلى مكّة على أن جماعة من العلماء قد قالوا كان الأمر بالذبح. فأما قوله: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى فمن المشكل وقد تكلّم العلماء في معناه فقال بعضهم: كان إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم أمر إذا رأى رؤيا فيها كذا وكذا أن يذبح ابنه واستدلّ صاحب هذا القول بأنها في قراءة ابن مسعود إنّي أرى في المنام أفعل ما أمرت به فهذه قراءة على التفسير دالّة على أنه أمر بهذا قبل إذ كان مما لا يؤتى مثله برؤيا، وقال صاحب هذا القول: وقد ذبحه إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم لأن معنى ذبحت الشيء قطعته، وليس هذا مما يجوز أن ينسخ بوجه. واستدلّ عليه بقول مجاهد: قال إسحاق لإبراهيم عليهما السلام: لا تنظر إلى وجهي وترحمني، ولكن اجعل وجهي إلى الأرض فأخذ إبراهيم السكين فأمرّها على خلفة فانقلبت فقال له: ما لك؟ فقال: انقلبت السكين، قال: اطعنّي بها طعنة ففعل، ثم فداه الله جلّ وعزّ. قال ابن عباس: فداه الله بكبش قد رعى في الجنّة أربعين سنة. وقال الحسن: ما فدى الله إسماعيل إلّا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير. قال أبو إسحاق: يقال إنه فدي بوعل، والوعل: التيس الجبليّ وأهل التفسير على أنه فدي بكبش. فَانْظُرْ ماذا تَرى أي ماذا تأتي به من رأيك. وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما فَانْظُرْ ماذا تَرى «1» . قال الفراء «2» : المعنى: فانظر ماذا تري من صبرك أو جزعك، وأما غيره فقال: معناه ماذا تشير وأنكر أبو عبيد «تري» ، وقال: إنما يكون هذا من رؤية العين خاصّة، وكذا قال أبو حاتم. قال أبو جعفر: وهذا غلط هذا يكون من رؤية العين وغيرها وهو مشهور يقال: أريت فلانا الصواب، وأريته رشده، وهذا ليس من رؤية العين. قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ والقول الآخر في رؤيا إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم أنه لم يعزم على ذبحه من أجل الرّؤيا، وإنما أضجعه ينظر الأمر ألا ترى أنه قال: يا أبت افعل ما تؤمر أي إن أمرت بشيء فافعله. [سورة الصافات (37) : الآيات 103 الى 105] فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) فَلَمَّا أَسْلَما قال قتادة: أسلم أحدهما لله جلّ وعزّ نفسه وأسلم الآخر ابنه. وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ يقال: كبه وحوّل وجهه إلى القبلة، وجواب لمّا محذوف عند البصريين أي فلمّا أسلما سعدا وأجزل لهما الثواب. وقال الكوفيون: الجواب نادَيْناهُ والواو زائدة.

_ (1) انظر تيسير الداني 151، والبحر المحيط 7/ 355. (2) انظر معاني الفراء 2/ 390.

[سورة الصافات (37) : آية 106]

قال أبو جعفر: والواو من حروف المعاني فلا يجوز أن تزاد. وفي قراءة ابن مسعود فلما سلّما وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا «1» أي فعلت ما أمرت به، وما رأيته في النوم. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي نجزيهم بالخلاص من الشدائد في الدنيا والآخرة. [سورة الصافات (37) : آية 106] إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) أي النعمة الظاهرة يقال: أبلاه الله بلاء وإبلاء إذا نعم عليه، وقد يقال: بلاه قال زهير: [الطويل] 372- جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... وأبلاهما خير البلاء الّذي يبلو «2» فزعم قوم أنه جاء باللغتين، وقال آخرون: بل الثاني من بلاه يبلوه إذا اختبره ولا يقال في الاختبار إلّا بلاه يبلوه، ولا يقال من الابتلاء بلاه. وأصل هذا كلّه من الاختبار لأن الاختبار يكون بالخير والشرّ. قال جلّ وعزّ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] وقال ابن زيد: هذا في البلاء الذي نزل به في أن يذبح ابنه، قال: وهذا من البلاء المكروه. [سورة الصافات (37) : آية 107] وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) الذبح اسم المذبوح وجمعه ذبوح، والذبح بالفتح المصدر. وروى الثوري عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله جلّ وعزّ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ قال: بشّر بنبوّته، وذهب إلى أنّ البشارة به كانت مرتين. [سورة الصافات (37) : آية 113] وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ أي ثبتنا عليهما النعمة. [سورة الصافات (37) : آية 115] وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) قال أبو إسحاق: في معنى وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ من الغرق الذي لحق آل فرعون. [سورة الصافات (37) : آية 116] وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَنَصَرْناهُمْ موسى وهارون وقومهما، وذهب الفراء «3» إلى أنه لموسى وهارون وحدهما واعتلّ بأن الاثنين جمع.

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 355، والمحتسب 2/ 222. (2) انظر ديوانه ص 109، واللسان (بلا) . (3) انظر معاني الفراء 2/ 390.

[سورة الصافات (37) : آية 123]

[سورة الصافات (37) : آية 123] وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) روى أبو إسحاق عن عبيدة بن ربيعة عن عبد الله بن مسعود قال: إسرائيل هو يعقوب وإلياس: هو إدريس، وقيل: هو الخضر قال الفراء: إن أخذت إلياس من الأليس صرفته. [سورة الصافات (37) : آية 125] أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) روى الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس أَتَدْعُونَ بَعْلًا. قال صنما، وروى عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس «أَتَدْعُونَ بَعْلًا» قال: ربّا. قال أبو جعفر: القولان صحيحان أي تدعون صنما عملتموه ربّا. «أَتَدْعُونَ» بمعنى أتسمّون، حكى ذلك سيبويه وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ. [سورة الصافات (37) : آية 126] اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) بالنصب قراءة الربيع بن خثيم والحسن وابن أبي إسحاق ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وإليها يذهب أبو عبيد وأبو حاتم، وحكى أبو عبيد: أنها على النعت. قال أبو جعفر: وهذا غلط وإنما هو البدل ولا يجوز النعت هاهنا لأنه ليس بتحلية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر وشيبة ونافع الله ربكم بالرفع. قال أبو حاتم: بمعنى هو الله ربّكم. قال أبو جعفر: وأولى مما قال إنه مبتدأ وخبر بغير إضمار ولا حذف، ورأيت علي بن سليمان يذهب إلى أن الرفع أولى وأحسن لأن قلبه رأس آية فالاستئناف أولى. [سورة الصافات (37) : آية 130] سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) قراءة الأعرج وشيبة ونافع وفيها قراءتان أخريان: قرأ عكرمة وأبو عمرو وحمزة والكسائي سلام على إلياسين «1» وقرأ الحسن سلام على الياسين «2» بوصل الألف كأنها «ياسين» دخلت عليها الألف واللام للتعريف. فمن قرأ سلام على آل ياسين كأنه والله أعلم جعل اسمه «الياس» و «ياسين» ثم سلّم على آله أي أهل دينه ومن كان على مذهبه وعلم أنه إذا سلم على آله من أجله فهو داخل في السلام، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «صلّ على آل أبي أوفى» «3» وقال جلّ وعزّ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر: 46] فأما «الياسين» فللعلماء فيها غير قول روى هارون عن ابن أبي إسحاق

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 358، وكتاب السبعة لابن مجاهد 549، وتيسير الداني 151. (2) انظر البحر المحيط 7/ 358، وكتاب السبعة لابن مجاهد 549، وتيسير الداني 151. (3) أخرجه أبو داود في سننه- الزكاة رقم الحديث (1590) ، وابن ماجة في سننه الزكاة رقم الحديث (1796) .

[سورة الصافات (37) : الآيات 135 إلى 137]

قال: إلياسين مثل إبراهيم يذهب إلى أنه اسم له وأبو عبيد «1» يذهب إلى أنه جمع جمع التسليم على أنه وأهل مذهبه يسلّم عليهم، وأنشد: [الرجز] 373- قدني من نصر الخبيبين قدي «2» وإنما يريد أبا خبيب عبد الله بن الزبير فجمعه على أن من كان على مذهبه داخل معه، وغير أبي عبيدة يرويه «الخبيبين» على التثنية يريد عبد الله ومصعبا. قال أبو جعفر: ورأيت علي بن سليمان يشرحه بأكثر من هذا الشرح، قال: العرب تسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل منهم فيقولون: المهالبة على أنهم سمّوا كلّ واحد بالمهلّب، قال: فعلى هذا «سلام على الياسين» سمّى كل رجل منهم الياس. وقد ذكر سيبويه «في كتابه» «3» شيئا من هذا إلّا أنه ذكر أن العرب تفعل هذا على وجه النسبة فيقولون: الأشعرون يريدون به النسب، واحتجّ أبو عبيدة في قراءته «سلام على الياسين» وأن اسمه كما أن اسمه الياس لأنه ليس في السورة «سلام على آل» لغيره من الأنبياء صلّى الله عليه، وكما سمّي الأنبياء، كذا سمي هو. وهذا الاحتجاج أصله لأبي عمرو بن العلاء وهو غير لازم لأنّا قد بيّنا قول أهل اللغة أنّه إذا سلم على آله من أجله فهو مسلم عليه والقول بأنّ اسمه الياس والياسين يحتاج إلى دليل ورواية فقد وقع في الأمر إشكال كان الأولى اتباع الخط الذي في المصحف وفي المصحف «سلام على آل ياسين» بالانفصال فهذا ما لا إشكال فيه. وللفراء «4» في هذا قول حسن ليس بالمشروع سنذكره ونشرحه إن شاء الله، وذلك أنه شبهه بقول الله جلّ وعزّ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ [المؤمنون: 20] وقال جلّ وعزّ: وَطُورِ سِينِينَ [التين: 2] . قال وهما بمعنى واحد وموضوع واحد وشرح هذا أن الياس اسم أعجمي والأسماء الأعجمية إذا وقعت إلى العرب غيّرتها بضروب من التغيير فيقولون إبراهيم وإبراهيم وإبرهام هكذا أيضا سيناء وسنين والياس والياسين ويس في قراءة «سلام على آل ياسين» بمعنى واحد. [سورة الصافات (37) : الآيات 135 الى 137] إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) إِلَّا عَجُوزاً نصب على الاستثناء ومُصْبِحِينَ نصب على الحال. [سورة الصافات (37) : آية 138] وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وَبِاللَّيْلِ عطف على المعنى أي في الصبح وفي الليل. [سورة الصافات (37) : آية 139] وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) لم ينصرف لأنه اسم أعجميّ ولو كان عربيا لانصرف، وإن كانت في أوله الياء لأنه

_ (1) انظر مجاز القرآن 2/ 172. (2) مرّ الشاهد رقم (279) . (3) انظر الكتاب 3/ 454. (4) انظر معاني الفراء 2/ 391. [.....]

[سورة الصافات (37) : آية 140]

ليس في الأفعال يفعل، كما أنك إذا سمّيت بيعفر صرفته وإن سمّيته بيعفر لم تصرفه. [سورة الصافات (37) : آية 140] إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) إِذْ أَبَقَ قال محمد بن يزيد: أصل أبق تباعد ومنه: غلام آبق وأبق وقال غيره: إنما قيل يونس أبق لأنه خرج لغير أمر الله جلّ وعزّ مستترا من الناس. إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ قال الفراء: «1» الفلك يذكّر ويؤنّث ويذهب به إلى معنى الجميع، وقال غيره: إذا ذهب به إلى معنى الجمع فهو جمع فلك مثل: وثن ووثن. [سورة الصافات (37) : آية 141] فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَساهَمَ قال محمد بن يزيد: فقارع قال: وأصله من السّهام التي تجال فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ أي من المغلوبين به. قال الفراء «2» : يقال: دحضت حجّته وأدحضها الله وأصله من الزلق. [سورة الصافات (37) : آية 142] فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) من ألام إذا أتى بما يجب أن يلام عليه مثل: أحمق فهو محمق، فأما الملوم فهو الذي يلام استحق ذلك أو لم يستحق. [سورة الصافات (37) : الآيات 143 الى 144] فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) قال الكسائي: لم يكسر «أنّ» لدخول اللام لأن اللام ليست لها. قال أبو جعفر: والأمر كما قال إنما اللام في جواب لولا وعن ابن مسعود وابن عباس «فلولا أنه كان من المسبحين» قالا أي من المصلين. قال قتادة: كان يصلّي قبل ذلك فحفظ الله جل وعز له ذلك فنجاه. قال الربيع بن أنس: لولا أنه كان قبل ذلك له عمل صالح لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قال: ومكتوب في الحكمة أن العمل الصالح يرفع ربّه إذا عشر. قال سعيد بن جبير: لما قال لا إله إلا أنت سبحانك أنّي كنت من الظالمين قذفه الحوت. [سورة الصافات (37) : آية 145] فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) مما يسأل عنه يقال: خبّر الله جلّ وعزّ هاهنا أنه نبذ بالعراء وقال جلّ وعزّ لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ [القلم: 49] فالجواب أن الله جلّ وعزّ خبّر هاهنا أنه نبذه بالعراء وهو غير مذموم ولولا نعمة الله جلّ وعزّ عليه لنبذه بالعراء وهو مذموم. وحكى الأخفش في جمع سقيم: سقمي وسقامى وسقام.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 393. (2) انظر معاني الفراء 2/ 393.

[سورة الصافات (37) : آية 146]

[سورة الصافات (37) : آية 146] وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) جمع يقطينة قال محمد بن يزيد: يقال لكلّ شجرة ليس لها ساق يفترش ورقها على الأرض: يقطينة نحو الدبّاء والبطيخ والحنظل فإن كان لها ساق يقلّها فهي شجرة فقط، وإن كانت قائمة أي بغير ورق مفترش فهي نجمة وجمعها نجم. [سورة الصافات (37) : آية 147] وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) قال أبو جعفر: قد ذكرت حديث ابن عباس أنه قال: كانت الرسالة بعد ما نبذه الحوت وليس له طريق إلّا عن شهر بن حوشب، وأجود منه إسنادا، وأصحّ ما حدّثناه علي بن الحسين قال: حدّثنا الحسن بن محمد قال: حدّثنا عمرو العنقريّ قال: حدّثنا إسرائيل عن ابن إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: حدّثنا عبد الله في بيت المال عن يونس النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إنّ يونس صلّى الله عليه وسلّم وعد قومه العذاب، وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام ففرقوا بين كل والدة وولدها، وخرجوا وجأروا إلى الله جلّ وعزّ، واستغفروا فكفّ الله جلّ وعزّ عنهم العذاب، وهذا يونس صلّى الله عليه وسلّم ينتظر العذاب فلم ير شيئا. وكان من كذب ولم تكن له بيّنة قتل، فخرج يونس صلّى الله عليه وسلّم مغاضبا فأتى قوما في سفينة فحملوه وعرفوه، فلما دخل السفينة ركدت السفينة، والسفن تسير يمينا وشمالا، فقالوا: ما لسفينتكم؟ قالوا: لا ندري، فقال يونس صلّى الله عليه: إنّ فيها عبدا آبقا من ربّه جلّ وعزّ وإنها لن تسير حتى تلقوه، قالوا: أما أنت يا نبيّ الله فإنّا لا نلقيك، قال: فاقترعوا فمن قرع فليقع فاقترعوا فقرعهم يونس صلّى الله عليه فأبوا أن يدعوه قالوا: فاقترعوا ثلاثا فمن قرع فليقع فاقترعوا فقرعهم يونس صلّى الله عليه ثلاث مرات أو قال ثلاثا فوقع. وقد وكل الله جلّ وعزّ به حوتا فابتلعه فمرّ يهوي به إلى قرار الأرض فسمع يونس صلّى الله عليه تسبيح الحصى فنادى في الظلمات أن لا إله إلّا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين قال: ظلمة اللّيل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت قال: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ قال: كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش قال: وأنبت الله جلّ وعزّ عليه شجرة من يقطين فنبتت، فكان يستظلّ بها، فيبست، فبكى عليها، فأوحى الله جلّ وعزّ إليه أتبكي على شجرة يبست ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم؟ قال: وخرج يونس صلّى الله عليه وسلّم فإذا هو بغلام يرعى فقال: يا غلام من أنت؟ قال: من قوم يونس، قال: فإذا جئت إليهم فأخبرهم أنك قد لقيت يونس. قال له: إن كنت يونس فقد علمت أنه من كذب قتل إذا لم يكن له بيّنة فمن يشهد لي قال: هذه الشجرة وهذه البقعة، قال: فمرهما فقال لهما يونس صلّى الله عليه: إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له، قالتا: نعم. فرجع الغلام إلى قومه، وكان في منعة، وكان له إخوة فأتى الملك، فقال: إنّي قد لقيت يونس، وهو يقرأ عليكم السلام قال: فأمر به أن يقتل،

[سورة الصافات (37) : الآيات 148 إلى 149]

فقالوا: إنّ له بينة فأرسلوا معه فأتى الشجرة والبقعة فقال لهما: نشدتكما بالله جلّ وعزّ أشهدكما يونس صلّى الله عليه وسلّم قالتا: نعم، قال: فرجع القوم مذعورين. يقولون: شهدت له الشجرة والأرض فأتوا الملك فأخبروه بما رأوا، قال عبد الله: فتناول الملك بيد الغلام فأجلسه في مجلسه فقال: أنت أحقّ بهذا المكان منّي، قال عبد الله: فأقام لهم ذلك الغلام أمرهم أربعين سنة. فقد تبيّن في هذا الحديث أن يونس صلّى الله عليه كان قد أرسل قبل أن يلتقمه الحوت بهذا الإسناد الذي لا يؤخذ بالقياس. وفيه أيضا من الفائدة أن قوم يونس صلّى الله عليه آمنوا وندموا قبل أن يروا العذاب لأن فيه أنه أخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام ففرقوا بين كلّ والدة وولدها، والفاء في اللغة تدلّ على أن الثاني يلي الأول فكان حكم الله جلّ وعزّ فيهم كحكمه في غيرهم في قوله جلّ وعزّ: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر: 85] ، وقال جلّ ثناؤه وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ [النساء: 18] الآية وقد قال بعض العلماء: إنهم رأوا مخايل العذاب فتابوا. قال أبو جعفر: وهذا لا يمتنع فأما قوله عزّ وجلّ: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يونس: 98] فهو استثناء ليس من الأول. وقد ذكرنا معنى أَوْ يَزِيدُونَ وقول الفراء «1» أنها بمعنى «بل» ، وقول غيره أنها بمعنى الواو. وأنه لا يصحّ هذان القولان، لأن «بل» ليس هذا من مواضعها، لأنها للإضراب عن الأول والإيجاب لما بعده. وتعالى الله عز وجل عن ذلك أو الخروج من شيء إلى شيء، وليس هذا موضع ذلك. والواو معناها خلاف معنى «أو» فلو كانت إحداهما بمعنى الأخرى لبطلت المعاني، ولو جاز ذلك لكان وأرسلناه إلى أكثر من مائة ألف أخصر، وفي الآية قولان سوى هذين: أحدهما أنّ المعنى وأرسلناه إلى جماعة لو رأيتموهم لقلتم هم مائة ألف أو أكثر، وإنّما خوطب العباد على ما تعرفون، والقول الآخر أنه كما تقول: جاءني زيد أو عمرو، وأنت تعرف من جاءك منهما إلّا أنك أبهمت على المخاطب. [سورة الصافات (37) : الآيات 148 الى 149] فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) وفي قراءة ابن مسعود فآمنوا فمتعناهم حتى حين «2» والمعنى واحد. فَاسْتَفْتِهِمْ قال أبو إسحاق: أي فاسألهم سؤال توبيخ وتقرير أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ لأن معنى «فاستفتهم» فقل لهم. [سورة الصافات (37) : آية 150] أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) إِناثاً جمع أنثى. قال أبو إسحاق: «أم» بمعنى: أبل. وَهُمْ شاهِدُونَ ابتداء وخبر في موضع الحال.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 393. (2) انظر معاني الفراء 2/ 393.

[سورة الصافات (37) : آية 151]

[سورة الصافات (37) : آية 151] أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) أَلا إِنَّهُمْ «إنّ» بعد «ألا» مكسورة لأنها مبتدأة، وحكى سيبويه أنّها تكون بعد «أما» تكون مفتوحة ومكسورة فالفتح على أن تكون أما بمعنى حقا، والكسر على أن يكون أما بمعنى ألا. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: يجوز فتحها بعد «ألا» تشبيها بأما، فأمّا في الآية فلا يجوز إلّا كسرها لأن بعدها اللام. [سورة الصافات (37) : الآيات 153 الى 154] أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ استفهام فيه معنى التوبيخ. فأما ما روي «1» عن أبي جعفر وشيبة ونافع أنّهم قرءوا وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَناتِ بوصل الألف فلا يصحّ عنهم، وزعم أبو حاتم أنه لا وجه له لأن بعده ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ فالكلام جار على التوبيخ. قال أبو جعفر: هذه القراءة وإن كانت شاذة فهي تجوز من وجهتين إحداهما أن تكون تبيينا لما قالوا ويكون ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ منقطعا مما قبله، والجهة الأخرى أنه قد حكى النحويون منهم الفراء أنّ التوبيخ يكون استفهاما وبغير استفهام، كما قال جلّ وعزّ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا [الأحقاف: 20] وجعلوا بينه وبين الجنّة نسبا أكثر أهل التفسير على أن الجنّة هاهنا الملائكة وقال أهل الاشتقاق: قيل لهم: جنّة لأنهم لا يرون، وثم قول آخر غريب رواه إسرائيل عن السّدّي عن أبي مالك قال: إنما قيل للملائكة جنّة لأنهم على الجنان، والملائكة كلهم جنّة. [سورة الصافات (37) : آية 158] وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) كسرت إنّ لدخول اللام. [سورة الصافات (37) : آية 160] إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) إِلَّا عِبادَ اللَّهِ نصب على الاستثناء. الْمُخْلَصِينَ من نعتهم. [سورة الصافات (37) : الآيات 161 الى 162] فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) أهل التفسير مجمعون فيما علمته على أن المعنى: ما أنتم بمضلّين أحدا إلّا من قدّر الله جلّ وعزّ عليه أن يضلّ، فروى فضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم قال: ليس بتابعكم على عبادة آلهتكم وعبادتكم إلّا من كتب الله جلّ وعزّ عليه أن يصلى الجحيم. وروى عمر بن ذر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله ما أنتم بمضلّين إِلَّا مَنْ

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 361، ومعاني الفراء 2/ 394.

[سورة الصافات (37) : آية 163]

هُوَ صالِ الْجَحِيمِ. وعن ابن عباس: ما أنتم بمضلّين إلّا من قدّر عليه أن يضلّ. وروى أبو الأشهب جعفر بن حيان عن الحسن قال: يا بني إبليس ما أنتم بمضلّين أحدا من الناس إلّا من قدّر الله عليه أن يضلّ. قال أبو جعفر: ففي هذه الآية ردّ على القدرية من كتاب الله جلّ وعزّ، وفيها من المعاني أنّ الشياطين لا يصلون إلى إضلال أحد إلّا من كتب الله جلّ وعزّ عليه أنه لا يهتدي، ولو علم الله جلّ وعزّ أنّه يهتدي لحال بينه وبينهم. وعلى هذا قوله جلّ وعزّ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الإسراء: 64] أي لست تصل منهم إلى شيء إلّا إلى ما في علمي. قال الفراء «1» : أهل الحجاز يقولون: فتنته، وأهل نجد يقولون: أفتنته. [سورة الصافات (37) : آية 163] إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وعن الحسن أنه قرأ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ «2» بضم اللام فجماعة من أهل العربية يقولون: لحن لأنه لا يجوز: هذا قاض فاعلم. قال أبو جعفر: ومن أحسن ما قيل فيه ما سمعت من عليّ بن سليمان يقول. هو محمول على المعنى لأن معنى «من» جماعة فالتقدير: فيه صالون، فحذفت النون للإضافة وحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وفيهما قول آخر: أن يكون على القلب فإذا قلب قيل: صايل ثم يحذف الياء فيقال: صال كما يقال: شاك. [سورة الصافات (37) : آية 164] وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) فيه تقديران عند أهل العربية: أحدهما وما منا إلّا من له وحذفت من وهذا مذهب الكوفيين، وفيه ما لا خفاء فيه من حذف الموصول، والقول الآخر أنّ المعنى: وما منّا ملك إلّا لهم مقام معلوم، وهذا قول البصريين. فأما اتصال هذا بما قبله فإنه فيما يروى أن الملائكة تبرّأت ممّن يعبدها، وتعجبت من ذلك لاجتهادها فقال: وما منا إلّا له مقام معلوم. [سورة الصافات (37) : الآيات 165 الى 166] وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وفي الحديث عن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن في المسجد فقال: «ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربهم. فقلنا يا رسول الله كيف تصفّ الملائكة عند ربهم؟ قال: يتمّمون الصفوف ويتراصون في الصفّ» «3» .

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 394. (2) انظر البحر المحيط 7/ 362، ومعاني الفراء 2/ 394. (3) أخرجه أبو داود في سننه، الصلاة رقم (661) وابن ماجة في سننه رقم (992) .

[سورة الصافات (37) : آية 167]

[سورة الصافات (37) : آية 167] وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لمّا خففت «إن» دخلت على الفعل ولزمتها اللام فرقا بين النفي والإيجاب. والكوفيون يقولون «إن» بمعنى «ما» واللام بمعنى إلّا. [سورة الصافات (37) : الآيات 168 الى 169] لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) أي لو جاءنا ذكر كما جاء الأولين لأخلصنا العبادة. [سورة الصافات (37) : آية 170] فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) فَكَفَرُوا أي بالذكر، والفراء «1» يقدره على حذف أي فجاءهم محمد صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن فكفروا به. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ قال أبو إسحاق: أي فسوف يعلمون مغبّة كفرهم. [سورة الصافات (37) : آية 171] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) قال الفراء: بالسعادة، وقال غيره: التقدير: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. [سورة الصافات (37) : آية 172] إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) فلمّا دخلت اللام كسرت «إن» . [سورة الصافات (37) : آية 173] وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) على المعنى، ولو كان على اللفظ لكان هو الغالب مثل قوله: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ [ص: 11] . وقال الكسائي: جاء هاهنا على الجمع من أجل أنه رأس آية. [سورة الصافات (37) : آية 174] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) قال قتادة: أي إلى الموت، وقال أبو إسحاق: أي الوقت الذي أمهلوا إليه. [سورة الصافات (37) : آية 177] فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ أي العذاب، قال أبو إسحاق: وكان عذاب هؤلاء بالقتل. وساء بمعنى: بئس، ورفع صَباحُ بها. [سورة الصافات (37) : آية 180] سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ على البدل قال أبو إسحاق: ويجوز النصب على المدح والرفع بمعنى: هو رب العزة. [سورة الصافات (37) : الآيات 181 الى 182] وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) ولو كان في غير القرآن لجاز النصب على المصدر.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 395.

38 شرح إعراب سورة ص

38 شرح إعراب سورة ص بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة ص (38) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بإسكان الدال لأنها حروف تهجّ، والأجود عند سيبويه «1» فيها الإسكان. ولا تعرب لأن حكمها الوقوف عليها وقراءة الحسن صاد «2» بكسر الدال بغير تنوين ولقراءته مذهبان: أحدهما أنه من صادى يصادي إذا عارض، ومنه فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: 6] فالمعنى صادي القرآن بعملك أي قابلة به. وهذا المذهب يروى عن الحسن أنه فسّر به قراءته رواية صحيحة عنه أنّ المعنى: اتله وتعرّض لقراءته. والمذهب الآخر أن تكون الدال مكسورة لالتقاء الساكنين. وقراءة عيسى بن عمر (صاد) بفتح الدال، له فيها ثلاثة مذاهب: أحداهنّ أن يكون بمعنى اتل صاد. والثاني أن يكون فتح لالتقاء الساكنين، واختار الفتح للإتباع، الثالث أن يكون منصوبا على القسم بغير حروف. وقراءة ابن أبي إسحاق (صاد) بكسر الدال والتنوين على أن يكون مخفوضا على حذف حرف القسم. قال أبو جعفر: وهذا بعيد وإن كان سيبويه قد أجاز مثله، ويجوز أن يكون مشبّها بما لا يتمكن من الأصوات وغيرها. وصاد إذا جعلته اسما للسورة لم ينصرف كما أنك إذا سمّيت مؤنثا بمذكّر لم ينصرف وإن قلّت حروفه. وَالْقُرْآنِ خفض بواو القسم بدل من الباء. ذِي الذِّكْرِ نعت وعلامة الخفض الياء، وهو اسم معتل والأصل فيه ذوي على فعل. [سورة ص (38) : آية 2] بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا في موضع رفع بالابتداء. فِي عِزَّةٍ خبره أي في تكبّر وامتناع من قبول الحقّ، كما قال جلّ وعزّ: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] . وَشِقاقٍ من شاقّ يشاقّ إذا خالف، واشتقاقه أنه صار في شقّ غير الشقّ الآخر.

_ (1) انظر الكتاب 3/ 294. (2) انظر معاني الفراء 2/ 396.

[سورة ص (38) : آية 3]

[سورة ص (38) : آية 3] كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) كَمْ في موضع نصب بأهلكنا. فَنادَوْا قال قتادة: فنادوا في غير نداء. قال أبو جعفر: ومعناه على قوله في غير نداء ينجي، كما قال الحسن: نادوا بالتوبة وليس حين توبة ولا ينفع العمل. وهذا تفسير من الحسن لقوله جلّ وعزّ وَلاتَ حِينَ مَناصٍ، قال ليس حين. فأما إسرائيل فيروى عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال: ليس بحين نزو ولا فرار، قال ضبط القوم جميعا. قال أبو جعفر: وأصله من ناص ينوص إذا تأخّر، ويقال: ناص ينوص إذا تقدّم. وأما «ولات حين» فقد تكلّم النحويون فيه وفي الوقوف عليه، وكثّر فيه أبو عبيد القاسم بن سلام في «كتاب القراءات» ، وكلّ ما جاء به فيه إلّا يسيرا مردود. قال سيبويه «1» : لات مشبّهة بليس، والاسم فيها مضمر أي ليست أحياننا حين مناص، وحكي أنّ من العرب من يرفع بها فيقول وَلاتَ حِينَ مَناصٍ «2» ، وحكي أنّ الرفع قليل، ويكون الخبر محذوفا كما كان الاسم محذوفا في النصب أي ولات حين مناص لنا. والوقوف عليها عند سيبويه والفراء «3» ، وهو قول أبي الحسن بن كيسان وأبي إسحاق، ولات بالتاء ثم تبتدئ حين مناص. قال أبو الحسن بن كيسان: والقول كما قال سيبويه لأنه شبّهها بليس فكما تقول ليست تقول: لات. والوقوف عليها عند الكسائي بالهاء ولاه، وهو قول محمد ابن يزيد، كما حكى لنا عنه علي بن سليمان، وحكي عنه أنّ الحجّة في ذلك أنها «لا» دخلت عليها الهاء لتأنيث الكلمة، كما يقال: ثمّة وربّة. وأما أبو عبيد فقال: اختلف العلماء فيها فقال بعضهم: لات ثم تبتدئ فتقول: حين. ثم لم يذكر عن العلماء غير هذا القول وكلامه يوجب غير هذا ثم ذكر احتجاجهم بأنها في المصاحف كلّها كذا ثم قال: وهذه حجّة لولا أنّ ثمّ حججا تردّها ثم ذكر حججا لا يصحّ منها شيء، وسنذكرها إن شاء الله تعالى، ونبين ما يردّها. قال: والوقوف عندي بغير تاء ثم تبتدئ بحين مناص ثم ذكر الحجج فقال: إحداهنّ أنّا لم نجد في كلام العرب لات إنما هي «لا» . قال أبو جعفر: لو لم يكن في هذا من الردّ إلا اجتماع المصاحف على ما أنكره فكيف وقد روي خلاف ما قال جميع النحويين المذكورين من البصريين والكوفيين، فقال سيبويه: «لات» مشبهة بليس، وقال الفراء عن الكسائي أحسبه أنه سأل أبا السمّال فقال: كيف تقف على ولات؟ فوقف عليها بالهاء. قال أبو عبيد: والحجة الثانية أنّ تفسير ابن عباس يدلّ على ذلك لأن ابن عباس قال: ليس حين نزو ولا فرار. قال أبو جعفر: تفسير ابن عباس يدلّ على أن الصحيح غير قوله، ولو كان على قوله لقال ابن عباس ليس تحين مناص، ولم يرو هذا أحد. قال أبو عبيد: والحجة الثالثة أنّا لم نجد

_ (1) انظر الكتاب 1/ 101. (2) انظر البحر المحيط 7/ 368. (3) انظر معاني الفراء 2/ 398. [.....]

العرب تزيد هذه التاء إلا في حين وأوان والآن، وأنشد لأبي وجزة السعدي: [الكامل] 374- العاطفون تحين ما من عاطف ... والمطعمون زمان أين المطعم «1» وأنشد لأبي زبيد الطائي: [الخفيف] 375- طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء «2» وأنشد: [الخفيف] 376- نولّي قبل يوم بيني جمانا ... وصلينا كما زعمت تلانا «3» قال أبو جعفر: وإنشاد أهل اللغة جميعا على غير ما قال. قال الفراء: أنشدني المفضل: 377- تذكّر حبّ ليلى لات حينا ... وأضحى الشّيب قد قطع القرينا «4» قال أبو جعفر: فأما البيت الأول الذي أنشده لأبي وجزة فقرأه العلماء باللغة على أربعة أوجه كلّها على خلاف ما أنشده، وفي أحدها تقديران. رواه أبو العباس محمد بن يزيد «العاطفون ولات ما من عاطف» ، والرواية الثانية «العاطفون ولات حين تعاطف» ، والرواية الثالثة رواها أبو الحسن بن كيسان «العاطفونه حين ما من عاطف» جعلها هاء في الوقف وتاء في الإدراج، وزعم أنها لبيان الحركة شبّهت بهاء التأنيث، والرواية الرابعة هي «العاطفونه حين ما من عاطف» . وفي هذه الرواية تقديران: أحدهما، وهو مذهب إسماعيل بن إسحاق، أن الهاء في موضع نصب كما تقول: الضاربون زيدا، فإذا كنّيت قلت: الضاربوه، وأجاز سيبويه «5» الضاربونه في الشعر، فجاء إسماعيل بالبيت

_ (1) الشاهد لأبي وجزة السعدي في الأزهية 264، والإنصاف 1/ 108، وخزانة الأدب 4/ 175، والدرر 2/ 115، ولسان العرب (ليت) و (عطف) و (أين) و (حين) و (ما) ، وبلا نسبة في الجنى الداني 487، وخزانة الأدب 9/ 383، والدرر 2/ 122، ورصف المباني ص 163، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 163، وشرح الأشموني 3/ 882، ومجالس ثعلب 1/ 270، والممتع في التصريف 1/ 273، وهمع الهوامع 1/ 126. (2) الشاهد لأبي زبيد الطائي في ديوانه 30، والإنصاف 109، وتخليص الشواهد 295، وتذكرة النحاة 734، وخزانة الأدب 4/ 183، والدرر 2/ 119، وشرح شواهد المغني ص 640، والمقاصد النحوية 2/ 156، وبلا نسبة في جواهر الأدب 249، وخزانة الأدب 4/ 169، والخصائص 2/ 370، ورصف المباني 169، وسرّ صناعة الإعراب 509، وشرح الأشموني 1/ 126، وشرح المفصّل 9/ 32، ولسان العرب (أون) و (لات) ، ومغني اللبيب 255، وهمع الهوامع 1/ 126. (3) الشاهد لجميل بثينة في ديوانه 196، ولسان العرب (تلن) ، وبلا نسبة في الإنصاف 110، وتذكرة النحاة 735، والجنى الداني 487، ورصف المباني 173، وسرّ صناعة الإعراب 166، ولسان العرب (أين) و (حين) ، والممتع في التصريف 1/ 273. (4) الشاهد بلا نسبة في معاني الفراء 2/ 397، وتفسير الطبري 2/ 144. (5) انظر الشاهد رقم 368.

[سورة ص (38) : آية 5]

على مذهب سيبويه في إجازته مثله. والتقدير الآخر «العاطفونه» على أن الهاء لبيان الحركة، كما تقول: مر بنا المسلمونه، في الوقف ثم أجريت في الوصل مجراها في الوقف. كما قرأ أهل المدينة ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ [الحاقة: 29] . وأما البيت الثاني فلا حجّة له فيه لأنه يوقف عليه ولات أوان غير أنّ فيه شيئا مشكلا لأنه روي «ولات أوان» بالخفض، وإنما يقع ما بعد لات مرفوعا ومنصوبا، وإن كان قد روي عن عيسى بن عمر أنه قرأ ولات حين مناص «1» بكسر التاء من «لات» والنون من «حين» فإن الثّبت عنه أنه قرأ وَلاتَ حِينَ مَناصٍ فبنى لات على الكسر ونصب حين فأما «ولات أوان» ففيه تقديران: قال الأخفش: فيه مضمر أي ولات حين أوان. قال أبو جعفر: وهذا القول بيّن الخطأ، والتقدير الآخر عن أبي إسحاق، قال تقديره: ولات حين أواننا فحذف المضاف إليه فوجب ألّا يعرب فكسره لالتقاء الساكنين، وأنشد محمد بن يزيد «ولات أوان» بالرفع. وأما البيت فبيت مولّد لا يعرف قائله، ولا يصح به حجّة على أن محمد بن يزيد رواه «كما زعمت الآن» وقال غيره: المعنى كما زعمت أنت الآن، فأسقط الهمزة من أنت والنون. وأما احتجاجه بحديث عبد الله بن عمر لما ذكر للرجل مناقب عثمان رضي الله عنه. قال: اذهب بها تلان إلى أصحابك، فلا حجّة فيه لأن المحدّث إنما يروي هذا على المعنى، والدليل على هذا أنّ مجاهدا روى عن عمرو بن عمر هذا الحديث، وقال فيه: اذهب فاجهد جهدك، ورواه آخر اذهب بها الآن معك فأمّا احتجاجه بأنه وجدها في الإمام «تحين» فلا حجة فيه لأن معنى الإمام أنه إمام للمصاحف فإن كان مخالفا لها فليس بإمام لها، وفي المصاحف كلّها ولات. فلو لم يكن في هذا إلّا هذا الاحتجاج لكان مقنعا. وجمع مناص مناوص. [سورة ص (38) : آية 5] أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَعَجِبُوا أَنْ في موضع نصب، والمعنى من أن جاءهم. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً مفعولان. [سورة ص (38) : آية 6] وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) وَانْطَلَقَ في موضع نصب، والمعنى: بأن امشوا. والْمَلَأُ الأشراف، وقد سمّوا، في رواية محمد بن إسحاق، أنهم أبو جهل بن هشام وشيبة وعتبة ابنا ربيعة بن عبد شمس وأميّة بن خلف والعاصي بن وائل وأبو معيط جاءوا إلى أبي طالب، فقالوا

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 368.

[سورة ص (38) : الآيات 7 إلى 8]

له: أنت سيدنا فانصفنا في قومنا وأنفسنا فاكفنا أمر ابن أخيك وسفهاء معه قد تركوا آلهتنا وطعنوا في ديننا، فأرسل أبو طالب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له: إنّ قومك يدعونك إلى السواء والنصفة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: إني أدعوهم إلى كلمة واحدة، فقال أبو جهل: وعشرا، فقال: يقولون: لا إله إلّا الله فقاموا، وقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا الآيات. قال أبو جعفر: وقيل المعنى: وانطلق الأشراف منهم فقالوا للعوام امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي على عبادة آلهتكم إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أي إن هذا الذي جاء به محمد عليه السلام لشيء يراد به زوال نعم قوم وغير تنزل بهم. [سورة ص (38) : الآيات 7 الى 8] ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أي تكذيب وابتداع. يقال: خلق واختلق أي ابتدع، وخلق الله الخلق من هذا أي ابتدعهم على غير مثال، ثم بيّن أنهم حساد لقولهم أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي وهو القرآن بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ والأصل إثبات الياء، وجاز الحذف لأنه رأس آية. [سورة ص (38) : الآيات 9 الى 10] أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) قيل: أم لهم هذا فيمنعوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم مما أنعم الله به عليه، وكذا أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فإن ادعوا ذلك فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ أي في أسباب السموات، وقيل: في الأسباب التي ذكرت التي لا تكون إلّا لله جلّ وعزّ. والأصل فليرتقوا، حذفت الكسرة لثقلها، يقال: رقي يرقى، وارتقى يرتقي، إذا صعد، ورقّى يرقي رقيا رمى يرمي رميا، من الرقية ثم وعد الله نبيه النصر فقال جلّ ذكره: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ فهزم الله جلّ وعزّ الأحزاب كما وعده. و «ما» زائدة للتوكيد، وتأول الفراء معنى مهزوم أنه مغلوب على أن يصعد إلى السماء. [سورة ص (38) : آية 12] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ أنّث «قوم» على معنى الجماعة، ولو جاء مذكّرا لجاز على معنى الجميع. وصرف نوح وإن كان أعجميا، لأنه على ثلاثة أحرف فخفّ، ومنع فِرْعَوْنُ من الصرف لأنه قد جاوز ثلاثة أحرف فلم يصرف لعجمته وأنّه معرفة وزعم محمد بن إسحاق اسم فرعون الوليد بن مصعب، قال: وقد قيل: إن اسمه مصعب بن الربان، وقال غيره: كان يسمّى من ملك مصر فرعون، كما يسمّى من ملك

[سورة ص (38) : آية 14]

اليمن تبّعا، وهم التبابعة، ومن ملك فارس كسرى، وقال محمد بن يزيد: كسرى بفتح الكاف، ومن ملك الروم قيصر وهرقل وذُو الْأَوْتادِ نعت. [سورة ص (38) : آية 14] إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) إِنْ كُلٌّ بمعنى ما كلّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ الأصل إثبات الياء، وحذفت لأنه رأس آية والكسرة دالّة عليها. [سورة ص (38) : آية 15] وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ بمعنى ما ينتظر ومنه انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد: 13] إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً قال عبد الله بن عمر: لم تكن صيحة في السماء إلا بغضب من الله جلّ وعزّ على أهل الأرض. ما لَها مِنْ فَواقٍ «1» قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وأبي عمرو وعاصم، ومن فواق بضم القاف قراءة يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي. وأصحّ ما قيل فيهما أنهما لغتان بمعنى واحد، وحكى ذلك الكسائي والفراء. [سورة ص (38) : آية 16] وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا من أحسن ما قيل في معناه ما قاله سعيد بن جبير قال: قالوا: ربّنا عجّل لنا نصيبنا في الآخرة قبل يوم الحساب. وهو مشتقّ من قططت الشيء أي قطعته. فالنصيب قطعة تقطع للإنسان، وذلك معروف في كلام العرب أن يقال في النصيب: قطّ ويقال للكتاب المكتوب بالجائزة قطّ كما قال الأعشى: [الطويل] 378- ولا الملك النّعمان يوم لقيته ... بإمّته يعطي القطوط ويأفق «2» «بإمّته» أي بنعمته وحاله الجليلة، و «يافق» يصلح «القطوط» جمع قطّ وهو الكتاب بالجائزة، ويقال في جمعه: قططة، وفي القليل أقطّ وأقطاط. [سورة ص (38) : آية 17] اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ نعت. والأيد والآد كما يقال: العيب والعاب، ومنه رجل أيّد. إِنَّهُ أَوَّابٌ قال الضحاك: أي ثواب، وعن غيره أنه كان كلّما ذكر ذنبه أو خطر على باله استغفر منه كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي لاستغفر في اليوم والليلة مائة

_ (1) انظر تيسير الداني 15، والبحر المحيط 7/ 373. (2) الشاهد للأعشى في ديوانه 269، ولسان العرب (قطط) و (أفق) ، وتهذيب اللغة 8/ 264، وكتاب الجيم 3/ 66، ومقاييس اللغة 1/ 116، وجمهرة اللغة 150، وكتاب العين 5/ 227، ومجمل اللغة 4/ 115، وتاج العروس (قطط) و (أفق) ، وبلا نسبة في المخصص 4/ 102.

[سورة ص (38) : آية 18]

مرّة» «1» ويقال: آب يؤوب إذا رجع، كما قال: [مخلع البسيط] 379- وكلّ ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب «2» [سورة ص (38) : آية 18] إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ في موضع نصب على الحال. ويروى أنها كانت تجيبه بالتسبيح، وقيل: سخّرها الله جلّ وعزّ لتسير معه فذلك تسبيحها لأنها دالّة على تنزيه الله جلّ وعزّ عن شبه المخلوقين. بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ من أشرقت الشمس إذا أضاءت وصفت. وعن ابن عباس قال: صلاة الضحى مذكورة في كتاب الله جلّ وعزّ، وقرأ «يسبّحن بالعشيّ والإشراق» . [سورة ص (38) : الآيات 19 الى 20] وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) إِنَّا سَخَّرْنَا معطوف على الجبال. قال الفراء «3» : ولو قرئ (والطّير محشورة) لجاز لأنه لم يظهر الفعل، وكذا لو قرئ (وشددنا ملكه) وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ فعولان وَفَصْلَ الْخِطابِ معطوف عليه. [سورة ص (38) : آية 21] وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ وبعده إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ لأنّ الخصم يؤدّي عن الجمع وهو مصدر في الأصل من خصمته خصما. وحقيقته في العربية إذا قلت: القوم خصم له، معناه ذوو خصم ثم أقمت المضاف إليه مقام المضاف، وقد يقال: خصوم كما يقال: عدول. [سورة ص (38) : آية 22] إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فجاءت إذ مرتين لأنهما فعلان، وزعم الفراء «4» إحداهما بمعنى «لمّا» . وقول آخر أن تكون الثانية وما بعدها تبيينا لما قبلها. قالُوا لا تَخَفْ حذفت الضمة من الفاء للجزم، وحذفت الألف المنقلبة من الواو لئلا يلتقي ساكنان خَصْمانِ وقبل هذا إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ لأن اثنين جمع. قال الخليل رحمه الله: كما تقول: نحن فعلنا، إذا كنتما اثنين، وقال الكسائي: جمع لما كان خبرا فلما انقضى

_ (1) أخرجه أبو داود في سننه- الصلاة رقم الحديث (1515) ، وابن ماجة في سننه الحديث رقم (3815) . (2) الشاهد لعبيد بن الأبرص في ديوانه ص 16، ولسان العرب (أوب) ، وتهذيب اللغة 15/ 608، ومقاييس اللغة 1/ 153. (3) انظر معاني الفراء 2/ 401. (4) انظر معاني الفراء 2/ 401.

[سورة ص (38) : آية 23]

الخبر وجاءت المخاطبة خبّر الاثنان عن أنفسهما فقالا «خصمان» . قال أبو إسحاق: أي نحن خصمان، وقال غيره: القول محذوف أي يقول خصمان. قال أبو إسحاق: ولو كان بالنصب خصمين لجاز أي أتيناك خصمين. بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ قال الكسائي: ولو كان بغى بعضهما على بعض لجاز، وقال غيره: بغى بعضنا يجوز أن يراد به داود صلّى الله عليه وسلّم فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وقرأ الحسن وأبو رجاء وَلا تُشْطِطْ «1» بفتح التاء وضم الطاء الأولى، وقال أبو حاتم لا يعرف هذا في اللغة. قال أبو جعفر: يقال أشطّ يشطّ إذا جار في الحكم أو القول، وشطّ يشطّ ويشطّ إذا بعد فيشطط في الآية أبين ويشطط يجوز أي لا تبعد عن الحق، كما قال: [المتقارب] 380- تشطّ غدا دار جيراننا ... وللدّار بعد غد أبعد «2» [سورة ص (38) : آية 23] إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) وقرأ الحسن تسع وتسعون نعجة «3» بفتح التاء فيها، وهي لغة شاذة وهي الصحيحة من قراءة الحسن. والعرب تكني عن المرأة بالنعجة والشاة. وعن عبد الله بن مسعود رحمه الله أنه قرأ وعازّني في الخطاب «4» . [سورة ص (38) : آية 24] قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ فيقال: إن هذه خطيّة داود صلّى الله عليه وسلّم لأنه قال: لقد ظلمك من غير تثبيت بيّنة، ولا إقرار من الخصم ولا سؤال لخصمه هل كان هذا كذا أم لم يكن؟ هذا قول، فأما قول العلماء المتقدّمين الذين لا يدفع قولهم، منهم عبد الله بن مسعود وابن عباس رحمهما الله فإنهم قالوا: ما زاد داود صلّى الله عليه وسلّم على أن قال للرجل: انزل عن امرأتك. قال أبو جعفر: فعاتبه الله جلّ وعزّ على هذا، ونبهه عليه. وليس هذا بكبير من المعاصي، ومن يخطئ إلى غير هذا، فإنما يأتي بما لا يصح عن عالم ويلحقه فيه الإثم العظيم. بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إضافة على المجاز أي بسؤال نعجتك. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ جمع خليط، وهو الشريك فهذا جمع ما لم يكن في واو، ولا يجوز في طويل طولاء لثقل الحركة في الواو وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ قال أبو عمر والفراء «5» : ظنّ بمعنى

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 376. (2) الشاهد لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه 300، وبلا نسبة في لسان العرب (شطط) وتهذيب اللغة 11: 264، وتاج العروس (شطط) . [.....] (3) انظر البحر المحيط 7/ 376. (4) انظر معاني الفراء 2/ 404. (5) انظر معاني الفراء 2/ 404.

[سورة ص (38) : آية 25]

أيقن إلّا أن الفراء شرحه بأنه لا يجوز في المعاني أن يكون الظنّ بمعنى اليقين. وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ أَنَّما فَتَنَّاهُ «1» بتشديد التاء والنون على التكثير، وعن قتادة أنه قرأه. إنما فتناه بتخفيفهما. فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً على الحال. [سورة ص (38) : آية 25] فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ في موضع نصب بغفرنا، ويجوز أن يكون في موضع رفع أي الأمر ذلك وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى. قال مجاهد عن عبيد بن عمر قال: الزلفى الدنو من الله جلّ وعزّ يوم القيامة. [سورة ص (38) : آية 26] يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أي مكّنّاك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فتخلف من كان قبلك من الأنبياء والأئمة الصالحين. إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بفتح الياء بلا اختلاف فيها، وهو فعل لازم ولو ضممت الياء كان متعدّيا بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ أي تركوا العمل. يقال: نسي الشيء إذا تركه. [سورة ص (38) : الآيات 27 الى 28] وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) وشرح هذا أنهم كانوا يقولون: ليست ثمّ عقوبة ولا نار فالكافر والعاصي يسعدان باللذات وغصب الأموال، والمظلوم يشقى، لأنهما يصيران إلى شيء واحد، فرد الله جل وعز هذا عليهم بأنه ما خلق السّماء والأرض وما بينهما باطلا لأن الذين ادعوه باطل وذلك منهم ظنّ وبيّن ذلك جلّ وعزّ بقوله: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ فكان في هذا ردّ على المرجئة لأنهم يقولون: يجوز أن يكون المفسد كالمصلح أو أرفع درجة منه، وبعده أيضا أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ. [سورة ص (38) : آية 29] كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ بمعنى هذا كتاب. مُبارَكٌ من نعته. [سورة ص (38) : آية 30] وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) نِعْمَ الْعَبْدُ مرفوع بنعم.

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 377.

[سورة ص (38) : آية 31]

[سورة ص (38) : آية 31] إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) الْجِيادُ جمع جواد للفرس إذا كان شديد الحضر، كما يقال للإنسان: جواد إذا كان سريع العطيّة غزيرها غير أنه يقال: قوم أجواد وخيل جياد وقد قيل: جياد جمع جائد. وقائل هذا يحتجّ بأنه لو كان جمع جواد لقيل جواد، كطويل وطوال. ويقال في جمع جواد: جوداء وأجوداء وجود بإسكان الواو وجوود بضمها. [سورة ص (38) : الآيات 32 الى 33] فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ الفراء «1» يقدّره مفعولا أي آثرت حبّ الخيل، وغيره يقدره مصدرا وهو يقدّر الخيل بمعنى الخير، وغيره يقول: معنى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ أنه كان في صلاة فجيء إليه بخيل لتعرض عليه قد غنمت فأشار إليها بيده لأنه يصلّي حتّى توارت الخيل، وسترها جدر الإصطبلات فلمّا فرغ من صلاته قال: رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً «2» أي فأقبل يمسحها مسحا. وفي معناه قولان: أحدهما أنه أقبل يمسح سوقها وأعناقها بيده إكراما منه لها، وليري أن الجليل لا يقبح به أن يفعل مثل هذا بخيله. وقال قائل هذا القول: كيف يقتلها وفي ذلك إفساد المال ومعاقبة من لا ذنب له؟ وقيل المسح هاهنا القطع أذن له في قتلها. والسّوق جمع ساق مثل دار ودور، وفي أقلّ العدد أسوق. والساق مؤنّثة. [سورة ص (38) : آية 34] وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أي اختبرناه بما يثقل عليه وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً قيل يعني به ولدا له ميّتا. وذلك أنه طاف على جواريه، وقال: أرجو أن تلد كلّ واحدة منهم ذكرا، وفي الحديث أنه لم يقل إن شاء الله فلم تحمل إلّا واحدة منهن، ومات الولد وألقي على كرسيّه فتنة على محبّة الدّنيا، والرغبة فيها، واستدعاء الولد، وأنه لا ينبغي أن يكون كذا ثُمَّ أَنابَ أي رجع عما كان عليه. وقد قيل: جسد شيطان. [سورة ص (38) : آية 35] قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي قيل: ليس في هذا دليل على أنّ ذلك الفعل منه ذنب، لأنه قد يكون له أن يستغفر مما عمله قبل النبوة أو يستغفر مما يعرض له. [سورة ص (38) : آية 40] وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 405. (2) انظر البحر المحيط 7/ 380.

[سورة ص (38) : آية 41]

وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى أي قرين. وَحُسْنَ مَآبٍ أي مرجع. [سورة ص (38) : آية 41] وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ على البدل. إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ وقرأ عيسى ابن عمر (إنّي) «1» بكسر الهمزة. قال الفراء «2» : واجتمعت القراء على أن قرءوا «بنصب» بضم النون والتخفيف. وهذا غلط ويعدّ مناقضة أيضا، لأنه قال: اجتمعت القراء على هذا، وحكي بعده أنهم ذكروا عن يزيد بن القعقاع أنه قرأ (بنصب) «3» بفتح النون والصاد فغلط على أبي جعفر، وإنّما قرأ أبو جعفر (بنصب) بضم النون والصاد، كذا حكاه أبو عبيد وغيره، وهو يروى عن الحسن فأما (بنصب) فهو قراءة عاصم الجحدري ويعقوب الحضرمي وقد رويت هذه القراءة أيضا عن الحسن، وقد حكي (بنصب) . وهذا كلّه عند أكثر النحويين بمعنى النّصب. فنصب ونصب كحزن وحزن، وقد يجوز أن يكون نصّب جمع نصب كوثن ووثن، ويجوز أن يكون نصب بمعنى نصب حذفت منه الضمة فأما وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة: 3] فقيل: إنه جمع نصاب ونصب على أصل المصدر. وقد قيل في معنى مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ: أنه ما يلحقه من وسوسته لا غير، والله أعلم. [سورة ص (38) : آية 42] ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ قال الكسائي: أي قلنا، وقال محمد بن يزيد: الرّكض التحريك ولهذا قال الأصمعي: يقال ركضت الدابة ولا يقال: ركضت هي، لأن الركض إنما هو تحريك راكبها برجليه ولا فعل لها في ذلك، وحكى سيبويه: ركضت الدابة فركضت هي مثل جبرت العظم فجبر وحزنته فحزن. [سورة ص (38) : آية 43] وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ تأوّل هذا مجاهد على أن الله جلّ وعزّ ردّ عليه أهله فأعطاه مثلهم في الآخرة فصار له أهله في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة. فأما ما يروى عن عبد الله بن مسعود لمّا بلغه أن مروان قال: إنّما أعطي عوضا من أهله ولم يعطهم بأعيانهم فقال: ليس كما قال بل أعطي أهله ومثلهم معهم، فتأول هذا القول بعض العلماء على أن الله جلّ وعزّ ردّ عليه من غاب من أهله، وولد له مثل من مات وأعطي من نسلهم مثلهم رَحْمَةً بالنصب على المصدر. قال أبو إسحاق: هو مفعول له

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 383. (2) انظر معاني الفراء 2/ 405. (3) انظر معاني الفراء 2/ 405، البحر المحيط 7/ 384.

[سورة ص (38) : آية 44]

وَذِكْرى معطوف على الرحمة. قال أبو إسحاق: معنى وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أنّ ذا العقل إذا ابتلي ذكر بلاء أيّوب صلّى الله عليه وسلّم صبر. [سورة ص (38) : آية 44] وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً أي وقلنا له وخذ بيدك ضغثا. قال: وهي الحزمة من الحشيش وما أشبه ذلك. [سورة ص (38) : آية 45] وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ على البدل، وقراءة ابن عباس واذكر عبدنا «1» بإسناد صحيح، رواها ابن عيينة عن عمر عن عطاء عنه، وهي قراءة ابن كثير. فعلى هذه القراءة يكون إِبْراهِيمَ بدلا من عبدنا، وإسحاق ويعقوب على العطف. والقراءة بالجمع أبين، وشرح هذا من العربية أنك إذا قلت: رأيت أصحابنا زيدا أبين، وشرح هذا من العربية أنك إذا قلت: رأيت أصحابنا زيدا وعمرا وخالدا، فزيد وعمرو وخالد بدل منهم، فزيد وحده بدل، وهو الصاحب، وعمرو وخالد عطف على صاحبنا وليسا بداخلين في المصاحبة إلّا بدليل غير هذا غير أنه قد علم أن قوله جلّ وعزّ «وإسحاق ويعقوب» داخل في العبودية أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ فأما وَالْأَبْصارِ فمتّفق على تأويلها أنها البصائر في الدين، وأما الْأَيْدِي «2» فمختلف في تأويلها فأهل التفسير يقولون: إنها القوة في الدين، وقوم يقولون: الأيدي جمع يد، وهي النعمة أي هم أصحاب النعم أي الذين أنعم الله عليهم، وقيل: هم أصحاب النعم والإحسان لأنهم قد أحسنوا وقدموا خيرا. [سورة ص (38) : آية 46] إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) ذِكْرَى في موضع خفض إلّا أن فيها ألف التأنيث وخفضها بالإضافة وقراءة الكوفيين بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ «3» على البدل. وهذا بدل المعرفة من النكرة أَخْلَصْناهُمْ جعلناهم مخلصين ومخلصين من الأدناس قد أخلصوا العمل لله جلّ وعزّ يذكرون الدار، وهي الآخرة، ويذكرونها لا يريدون بذلك الدنيا ولا التعمّل لأهلها. [سورة ص (38) : آية 47] وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) أي من الذين اصطفيناهم من الأدناس ومصطفين جمع مصطفى زدت على

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 406، والبحر المحيط 7/ 385. (2) انظر البحر المحيط 7/ 385. (3) انظر البحر المحيط 7: 385، وتيسير الداني 152.

[سورة ص (38) : الآيات 49 إلى 50]

مصطفى ياء ساكنة ونونا، والألف من مصطفى ساكنة حذفت الألف لالتقاء الساكنين وكانت أولى بالحذف لأن قبلها فتحة. والأخيار جمع خيّر وكأنه جمع على حذف الزائد كأنك جمعت خيّرا، كما تقول: ميّت وأموات. ويقال: رجل خيّر وخير كما يقال: هيّن وهين وليّن ولين. [سورة ص (38) : الآيات 49 الى 50] هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) هذا ذِكْرٌ مبتدأ وخبره. والمعنى هذا ذكر جميل في الدنيا. وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ أي مع هذا الذكر الجميل في الدنيا حسن المرجع يوم القيامة ثم بيّن بقوله جلّ وعزّ: جَنَّاتِ عَدْنٍ والعدن في اللغة الإقامة يقال: عدن بالمكان إذا أقام به غير أن عبد الله بن عمر قال: جنّة عدن: قصر في الجنّة، له خمسة آلاف باب، على كل باب خمسة آلاف خيّرة لا يدخله إلّا نبيّ أو صديق أو شهيد مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ رفعت الأبواب لأنها اسم ما لم يسمّ فاعله، وأجاز الفراء «مفتحة لهم الأبواب» على أن مفتّحة للجنات، وأنشد هو وسيبويه: [الوافر] 381- وما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشّعر الرّقابا «1» قال الفراء: أي مفتحة الأبواب ثم جئت بالتنوين ونصبت وأنشد سيبويه: [الوافر] 382- ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجبّ الظهر ليس له سنام «2» [سورة ص (38) : آية 51] مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) مُتَّكِئِينَ فِيها نصب لأنه نعت للجنات. [سورة ص (38) : آية 52] وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) نعت لقاصرات لأن قاصرات نكرة وإن كان مضافا إلى معرفة، والدليل على ذلك أن الألف واللام يدخلانه، كما قال الشاعر: [الطويل] 383- من القاصرات الطّرف لو دبّ محول ... من الذّرّ فوق الإتب منها لأثّرا «3» وزعم الفراء «4» أن المعنى مفتّحة لهم أبوابها وأنّ الألف واللام بدل من الهاء

_ (1) الشاهد للحارث بن ظالم في الأغاني 11/ 119، وشرح أبيات سيبويه 1/ 259، والكتاب 1/ 263، والمقاصد النحوية 3/ 609، والمقتضب 4/ 161، وبلا نسبة في خزانة الأدب 7/ 492، وشرح المفصل 6/ 79. (2) مرّ الشاهد رقم (179) . [.....] (3) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص 68، ولسان العرب (قصر) و (حول) ، ومقاييس اللغة 1/ 53، وتاج العروس (قصر) و (حول) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 8/ 359. (4) انظر معاني الفراء 2/ 408.

[سورة ص (38) : آية 55]

والألف، وأجاز: مررت برجل حسنة العين المعنى حسنة عينه. قال أبو إسحاق: ولا يجوز أن تكون الألف واللام بدلا من الهاء واللام لأن الألف واللام محرف جاء لمعنى والهاء والألف اسم ومحال أن يقوم أحدهما مقام صاحبه. وإنما المعنى: مفتّحة لهم الأبواب منها. [سورة ص (38) : آية 55] هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ والتقدير الأمر هذا لَشَرَّ مَآبٍ اسم إن. [سورة ص (38) : آية 56] جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) جَهَنَّمَ بدل من شرّ. [سورة ص (38) : آية 57] هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) هذا في موضع رفع بالابتداء وخبره حميم على التقديم والتأخير أي هذا حميم وغسّاق فليذوقوه. ويجوز أن يكون «هذا» في موضع رفع بالابتداء وفليذوقوه في موضع الخبر. ويجوز أن يكون المعنى الأمر هذا وحميم وغساق إذا لم تجعلهما خبرا فرفعهما على معنى: هو حميم وغساق. والفراء يرفعهما بمعنى هو حميم وغساق، وأنشد: [البسيط] 384- حتّى إذا ما أضاء الصّبح في غلس ... وغودر البقل ملويّ ومحصود «1» ويجوز أن يكون هذا في موضع نصب بإضمار فعل، كما تقول: زيدا أضربه، والنصب في هذا أولى. وَغَسَّاقٌ بالتخفيف قراءة أهل المدينة وأهل البصرة وبعض الكوفيين. فأما يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي فقرؤوا وَغَسَّاقٌ بالتشديد. فأما معناه فقال عبد الله بن عمر: وفيه هو قيح غليظ لو وقع شيء منه بالمشرق لأنتنّ ممن في المغرب، ولو وقع منه شيء بالمغرب لأنتن من في المشرق. قال مجاهد: غسّاق بارد، وعن غير مجاهد أنه يحرق ببرده كما يحرق الحميم بحره. وقال قتادة: هو ما يسيل من بين جلودهم ولحمهم. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: يقال: غسقت عينه إذا سالت، فغسّاق بالتشديد أولى، كما تقول: سيّال. قال أبو جعفر: وقد خالف في هذا غيره من رؤساء النحويين لأنه إذا قال: غسّاق جعله نعتا لغير معروف بعينه، وهذا بعيد في العربية فإذا قال: غسّاق فهو اسم، وهو أولى من أن يقام النعت مقام المنعوت ويحذف المنعوت.

_ (1) الشاهد بلا نسبة في معاني القرآن للفراء 1/ 193، وتفسير الطبري 23/ 176.

[سورة ص (38) : الآيات 59 إلى 60]

[سورة ص (38) : الآيات 59 الى 60] هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ابتداء وخبره أي مقتحم معكم النار. والتقدير: يقال لهم: هذا فوج يدخل معكم النار فيقول الذين في النار لا مَرْحَباً بِهِمْ و «مرحبا» منصوب على المصدر وبمعنى لا أصبت رحبا أي سعة. قال الفوج: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا أي دعوتمونا إلى العصيان. فَبِئْسَ الْقَرارُ أي استقرارنا. [سورة ص (38) : آية 61] قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا «1» قال الفراء «2» : أي من شرّع لنا هذا وسنّه، وقال غيره: أي من قدّم لنا هذا العذاب بدعائه إيّانا إلى المعاصي. فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ أي عذابا بكفره وعذابا بدعائه إيّانا فصار ذلك ضعفا. [سورة ص (38) : آية 62] وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا (ما) في موضع رفع ولا نَرى في موضع نصب على الحال. [سورة ص (38) : آية 63] أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا بضم السين قراءة الحسن ومجاهد وأبي جعفر وشيبة ونافع وعاصم وابن عامر على الاستفهام وسقطت ألف الوصل لأنه قد استغني عنها، وقرأ ابن كثير والأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي اتّخذناهم على أنها ألف وصل في اتّخذناهم، يكون «اتخذناهم» نعتا للرجال، وأبو عبيد وأبو حاتم يميلان إلى هذه القراءة واحتجّا جميعا بأن الذين قالوا هذا قد علموا أنهم اتّخذوهم سخريّا فكيف يستفهمون فالا وقد تقدم الاستفهام. قال أبو جعفر: هذا الاحتجاج لا يلزم، ولو كان واجبا لوجب في مالنا، ولكن الاستفهام هاهنا على ما قاله الفراء «3» «4» فيه. قال: هو بمعنى التوبيخ والتعجب الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ إذا قرأت بالاستفهام كانت أم للتسوية، وإذا كانت بغير استفهام فهي بمعنى أبل. [سورة ص (38) : آية 64] إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) بمعنى هو تخاصم، ويجوز أن يكون بدلا من الحقّ، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر، ويجوز أن يكون بدلا من ذلك على الموضع.

_ (1) انظر تيسير الداني 152. (2) انظر معاني الفراء 2/ 411. (3) انظر تيسير الداني 152. (4) انظر معاني الفراء 2/ 411.

[سورة ص (38) : آية 65]

[سورة ص (38) : آية 65] قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ مبتدأ وخبره وكفّت «ما» «أن» عن العمل وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ «من» زائدة للتوكيد. قال أبو إسحاق: ولو قرئ بالنصب إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ جاز على الاستثناء. [سورة ص (38) : آية 66] رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) على النعت، وأن نصبت الأول نصبت، ويجوز رفع الأول ونصب ما بعده على المدح. [سورة ص (38) : آية 67] قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أي القرآن خبر جليل، وقيل: المعنى عظيم المنفعة، وقال أبو إسحاق: هذا الخبر نبأ عظيم. [سورة ص (38) : آية 68] أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) أي لا تقبلونه. [سورة ص (38) : آية 69] ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) قال أبو جعفر: قد بينا معناه «1» . [سورة ص (38) : آية 70] إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) «أنّ» في موضع رفع لأنها اسم ما لم يسمّ فاعله، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى إلّا لأنما. [سورة ص (38) : آية 72] فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَإِذا سَوَّيْتُهُ إذا تردّ الماضي إلى المستقبل لأنها تشبه حروف الشرط وجوابها كجوابه ساجِدِينَ على الحال. [سورة ص (38) : آية 75] قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) أَسْتَكْبَرْتَ على التوبيخ، ومن وصل الألف جعله خبرا أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ. قال ابن عباس: كان في علم الله من الكافرين.

_ (1) انظر إعراب الآية السادسة من السورة.

[سورة ص (38) : آية 76]

[سورة ص (38) : آية 76] قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ مبتدأ وخبره. قال الفراء: ومن العرب من يقول: أنا أخير منه وأشرّ منه. وهذا هو الأصل إلّا أنه حذفت الألف منه لكثرة الاستعمال. [سورة ص (38) : آية 77] قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها قيل: يعني من الجنة. فَإِنَّكَ رَجِيمٌ أي مرجوم بالكواكب والشهب. [سورة ص (38) : الآيات 79 الى 81] قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وهو يوم القيامة فلم يجب إلى ذلك وأخّر إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو يوم يموت الخلق فيه فأخّر إليه تهاونا به وأنه لا يصل إلّا لي الوسوسة، ولا يفسد إلّا من كان لا يصلح لو لم يوسوسه. [سورة ص (38) : آية 82] قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) أي لاستدعينّهم إلى المعاصي التي يغوون من أجلها أي يخيبون. [سورة ص (38) : الآيات 84 الى 87] قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) قال الحقّ «1» والحقّ أقول هذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة والكسائي، وقرأ ابن عباس ومجاهد وعاصم والأعمش وحمزة قالَ فَالْحَقُّ «2» وَالْحَقَّ أَقُولُ برفع الأول وفتح الثاني، وأجاز الفراء «3» «قال فالحقّ والحقّ أقول» بخفض الأول ولا اختلاف في الثاني أنه منصوب بأقول ونصب الأول على الإغراء أي فاتّبعوا الحق واستمعوا الحق. وقيل بمعنى أحقّ أي أفعله، وأجاز الفراء وأبو عبيد أن يكون الحقّ منصوبا بمعنى حقّا لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ وذلك عند جماعة من النحويين خطأ لا يجوز: زيدا لأضربنّ لأن ما بعد اللام مقطوع مما قبلها. ومن رفع الحق رفعه بالابتداء أي فأنا الحقّ أو والحقّ منّي ورويا جميعا عن مجاهد يجوز أن يكون التقدير: هذا الحق. وفي الخفض قولان: أحدهما أنه على حذف حرف القسم، هذا قول الفراء، قال كما تقول:

_ (1) انظر تيسير الداني 152، والبحر المحيط 7/ 393. (2) انظر تيسير الداني 152، والبحر المحيط 7/ 393. (3) انظر معاني الفراء 2/ 413.

[سورة ص (38) : آية 88]

الله لأفعلنّ، وقد أجاز مثل هذا سيبويه وغلّطه في أبو العباس، ولم يجز إلّا النصب لأن حروف الخفض لا تضمر، والقول الآخر: أن تكون الفاء بدلا من القسم، كما أنشدوا: [الطويل] 385- فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فالهيتها عن ذي تمائم محول «1» وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: من سئل عمّا لا يعلم فليقل لا أعلم ولا يتكلّف فإنّ قوله لا أعلم علم. وقد قال الله جلّ وعزّ لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. [سورة ص (38) : آية 88] وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ أي نبأ القرآن حق بعد حين. قال أبو إسحاق: أي بعد الموت. وقال الفراء: بعد الموت وقبله أي سيتبيّن ذلك.

_ (1) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 12، والأزهيّة 244، والجنى الداني ص 75، وجواهر الأدب 63، وخزانة الأدب 1/ 334، والدرر 4/ 193، وشرح أبيات سيبويه 1/ 450، والكتاب 2/ 164، وشرح شواهد المغني 1/ 402، ولسان العرب (رضع) و (غيل) ، والمقاصد النحوية 3/ 336، وتاج العروس (غيل) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 73، ورصف المباني 387، وشرح الأشموني 2/ 299، وشرح ابن عقيل ص 372، ومغني اللبيب 1/ 136، وهمع الهوامع 2/ 36.

39 شرح إعراب سورة الزمر

الجزء الرابع 39 شرح إعراب سورة الزّمر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الزمر (39) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ رفع بالابتداء، وخبره مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أي أنزل من عند الله جلّ وعزّ، ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى: هذا تنزيل الكتاب. وأجاز الكسائي والفراء تَنْزِيلُ «1» الْكِتابِ بالنصب على أنه مفعول. قال الكسائي: أي اتّبعوا واقرءوا تنزيل الكتاب. وقال الفراء: على الإغراء مثل كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: 24] أي الزموا كتاب الله. [سورة الزمر (39) : آية 3] أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي الذي لا يشوبه شيء، وفي حديث الحسن عن أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله إنّي أتصدّق بالشّيء وأصنع الشيء أريد به وجه الله جلّ وعزّ وثناء الناس. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله جلّ ثناؤه شيئا شورك فيه ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ» «2» . وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ في موضع رفع بالابتداء، والتقدير: والذين اتّخذوا من دونه أولياء قالوا: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى ويجوز أن يكون «الذين» في موضع رفع بفعلهم أي وقال «زلفى» في موضع نصب بمعنى المصدر أي تقريبا.

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 414. (2) انظر تفسير الطبري 23/ 190. [.....]

[سورة الزمر (39) : آية 4]

[سورة الزمر (39) : آية 4] لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي لو أراد ذلك أن يسمي أحدا من خلقه بهذا ما جعله إليهم. سُبْحانَهُ مصدر أي تنزيها له من الولد. [سورة الزمر (39) : آية 5] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) قال الضحاك: أي يلقي هذا على هذا وهذا على هذا. قال أبو جعفر: وهذا معنى التكوير في اللغة. وقد روي عن ابن عباس غير هذا في معنى الآية، قال: ما نقص من الليل دخل في النهار وما نقص من النهار دخل في الليل. [سورة الزمر (39) : آية 6] خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) أي لا تمنعه الظلمة كما تمنع المخلوقين. [سورة الزمر (39) : آية 7] إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ أي يرض الشكر لكم أن تشكروا يدلّ على الشكر. [سورة الزمر (39) : آية 8] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) دَعا رَبَّهُ مُنِيباً على الحال. [سورة الزمر (39) : آية 9] أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) أَمَّنْ «1» هُوَ قانِتٌ قراءة الحسن وأبي عمرو وأبي جعفر وعاصم والكسائي. وقرأ

_ (1) انظر تيسير الداني 153.

نافع وابن كثير ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة أَمَّنْ هُوَ «1» وحكى أبو حاتم عن الأخفش قال: من قرأ في الزمر أَمَّنْ هُوَ بالتخفيف فقراءته ضعيفة لأنه استفهام ليس معه خبر. قال أبو جعفر: هذا لا يلزم وقد أجمعوا جميعا على أن قرءوا «أفمن شرح الله صدره للإسلام» وهو مثله. وفي القراءة بالتخفيف وجهان حسنان في العربية، وليس في القراءة الأخرى إلا وجه واحد. فأحد الوجهين أن يكون نداء، كما يقال: يا زيد أقبل، ويقال: أزيد أقبل. حكى ذلك سيبويه وجميع النحويين كما قال: [الكامل] 386- أبني لبينى لستم بيد ... إلّا يدا ليست لها عضد «2» وكما يقال: فلان لا يصلّي ولا يصوم أمن يصلّي ويصوم أبشر، والوجه الآخر أن يكون في موضع رفع بالابتداء والمعنى معروف أي: أمن هو قانت اناء الليل أفضل أم من جعل لله أندادا؟ والتقدير: الّذي هو قانت. ومن قرأ أَمَّنْ هُوَ فتقديره أم الذي هو قانت أفضل ممّن ذكر و «أم» بمعنى «أبل» . فأما معنى قانت فيما رواه عمرو بن الحارث عن درّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ قنوت في القرآن فهو طاعة لله جلّ وعزّ» «3» .. وروى الأعمش عن أبي سفيان عن جابر أنه قال: «سئل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أي الصلاة أفضل، قال: طول القنوت» «4» فتأوّله جماعة من أهل العلم على أنه طول القيام. وروى عبد الله عن نافع عن ابن عمر سئل عن القنوت قال: ما أعرف القنوت إلّا طول القيام وقراءة القرآن، وقال مجاهد: من القنوت طول الركوع، وغضّ البصر. وكان العلماء إذا وقفوا في الصلاة غضّوا أبصارهم وخضعوا، ولم يلتفتوا في صلاتهم، ولم يعبثوا، ولم يذكروا شيئا من أمر الدنيا إلّا ناسين. قال أبو جعفر: أصل هذا أن القنوت الطاعة، وكل ما قيل فيه فهو طاعة الله جلّ وعزّ وهذه الأشياء كلّها داخلة في الطاعة وما هو أكثر منها، كما قال نافع وقال لي ابن عمر: قم فصلّ فقمت أصلّي وكان عليّ ثوب حلق فدعاني فقال لي: أرأيت لو وجّهتك في حاجة وراء الجدار أكنت تمضي هكذا، فقلت: لا كنت أتزيّن، قال: فالله أحقّ أن يتزيّن له. قال الحسن: آناءَ اللَّيْلِ ساعاته أوّله وأوسطه واخره. وعن ابن عباس قال: آناءَ اللَّيْلِ جوف الليل. قال سعيد بن جبير: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ أي عذاب الآخرة. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ قال أبو إسحاق: أي

_ (1) البحر المحيط 7/ 402. (2) الشاهد لأوس بن حجر في ديوانه ص 21، وشرح أبيات سيبويه 2/ 68، ولطرفة بن العبد في ديوانه ص 45، وشرح المفصّل 2/ 90، وبلا نسبة في الكتاب 2/ 328، وأمالي ابن الحاجب ص 441، والمقتضب 4/ 421، ومعاني الفراء 1/ 317. (3) مرّ الحديث في إعراب الآية 26- الروم. (4) أخرجه الترمذي في سننه- الصلاة 2/ 178، وابن ماجة في إقامة الصلاة حديث رقم (1421) .

[سورة الزمر (39) : الآيات 10 إلى 13]

كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون كذا لا يستوي الطائع والعاصي. وقال غيره: الذين يعلمون هم الذي ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فبمنزلة من لم يعلم. إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أي إنما ينتفع بذكره وينتفع به ويعتبر أولو العقول الذين ينتفعون بعقولهم فهؤلاء ينتفعون ويمدحون بعقولهم لأنهم انتفعوا بها. [سورة الزمر (39) : الآيات 10 الى 13] قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ قيل معناه اتّقوا معاصيه والتاء مبدلة من واو. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ يجوز أن يكون في الدنيا داخلا في الصلة أي لهم حسنة في الآخرة وإن لم يكن داخلا في الصلة فالمعنى للذين أحسنوا حسنة في الدنيا. فالحسنة التي لهم في هذه الدنيا موالاة الله جلّ وعزّ إيّاهم وثناؤه عليهم وتسميته إياهم بالأسماء الحسنة. وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ في معناه قولان: أحدهما أنه يراد بها أرض الجنة، والآخر أن معناه أن أرض الله واسعة فهاجروا فيها ولا تقيموا مع من يعمل بالمعاصي. إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ صابر يمدح به، إنّما هو لمن صبر عن المعاصي، فإن أردت أنه صابر على المعصية قلت صابر على كذا. بِغَيْرِ حِسابٍ قيل: بغير تقدير، وقيل: يراد على الثواب، لأنه لو أعطي بقدر ما عمل لكان بحساب، وقيل معنى «بغير حساب» بغير متابعة ولا مطالبة كما تقع المطالبة بنعم الدنيا. [سورة الزمر (39) : آية 14] قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ نصب بأعبد، وسيبويه يجيز الرفع على حذف الهاء، ولا نعلم أحدا من النحويين وافقه على ذلك في الاسم العلم. [سورة الزمر (39) : آية 15] فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) الَّذِينَ في موضع رفع على خبر إِنَّ وأَهْلِيهِمْ في موضع نصب معطوفون على أنفسهم وعلامة النصب الياء. وقال ميمون بن مهران عن ابن عباس: ليس من أحد إلّا وقد خلق الله جلّ وعزّ له زوجة في الجنة فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله. [سورة الزمر (39) : آية 16] لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ الواحدة ظلّة وهو ما ارتفع فوقهم من النار وثبت. وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ مجاز أي مثل ذلك من تحتهم، وقيل: هو حقيقة أي من تحتهم ظلل

[سورة الزمر (39) : الآيات 17 إلى 19]

لمن هو أسفل منهم من أهل النار. ذلِكَ في موضع رفع بالابتداء أي ذلك الذي ذكرناه من العذاب يخوّف الله به عباده يا عِبادِ فَاتَّقُونِ بحذف الياء من عبادي لأن النداء موضع حذف، ويجوز إثباتها على الأصل، ويجوز فتحها. [سورة الزمر (39) : الآيات 17 الى 19] وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها قال الأخفش: الطاغوت جمع، ويجوز أن يكون واحدة مؤنّثة. [سورة الزمر (39) : آية 20] لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) وَعْدَ اللَّهِ نصب على المصدر لأن معنى لَهُمْ غُرَفٌ وعدهم الله جلّ وعزّ ذلك وعدا، ويجوز الرفع بمعنى ذلك وعد الله. [سورة الزمر (39) : آية 21] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ واحدها ينبوع، ويقال: ينبع وجمعه ينابيع وقد نبع الماء ينبع وينبع. وحكى لنا ابن كيسان في قول الشاعر: [الكامل] 387- ينباع من ذفرى غضوب جسرة «1» إنّ معناه ينبع فأشبع الفتحة فصارت ألفا. ثُمَّ يَهِيجُ قال محمد بن يزيد: قال الأصمعي يقال: هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتها وولى. قال: وكذلك قال غير الأصمعي. ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً قال: من تحطيم العود إذا تفتّت من اليبس. إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ واحدها ذو، وهو اسم للجمع، وزيد في كتابها واو عند بعض أهل اللغة فرقا بينها وبين إلى. [سورة الزمر (39) : آية 22] أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ قال أبو إسحاق: هذه الفاء فاء المجازاة. فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ

_ (1) الشاهد لعنترة في ديوانه 204، والإنصاف 1/ 26، وخزانة الأدب 1/ 122، والخصائص 3/ 121، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 338، وشرح شواهد الشافية ص 24، ولسان العرب (غضب) و (نع) و (زيف) ، والمحتسب 1/ 258، وبلا نسبة في الخصائص 3/ 193، ورصف المباني 11، وشرح شافية ابن الحاجب 1/ 70، ولسان العرب (بوع) ، و (تنف) ، و (دوم) ، (خظا) ، ومجالس ثعلب 2/ 539، والمحتسب 1/ 78.

[سورة الزمر (39) : آية 23]

قال محمد بن يزيد: يقال: قسا إذا صلب، قال: وكذلك عتا وعسا مقاربة لها، وقلب قاس أي صلب لا يرقّ ولا يلين. أُولئِكَ في موضع رفع بالابتداء أي أولئك الذين قست قلوبهم فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. [سورة الزمر (39) : آية 23] اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً على البدل من أحسن. مَثانِيَ نعت لكتاب. ولم ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد تَقْشَعِرُّ مِنْهُ في موضع نصب على أنه نعت لكتاب ذلِكَ في موضع رفع بالابتداء أي ذلك الخوف والرجاء ولين القلوب هُدَى اللَّهِ. [سورة الزمر (39) : الآيات 24 الى 25] أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ حذف الجواب. قال الأخفش سعيد: أي أفمن يتّقي بوجهه سوء العذاب أفضل أم من سعد. [سورة الزمر (39) : آية 26] فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ قال محمد بن يزيد: يقال لكل ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته أي قد وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى ذائقهما، قال: والخزي المكروه والخزاء إفراط الاستحياء. [سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 28] وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب على الحال. قال الأخفش: لأن قوله جلّ وعزّ في هذا القرآن معرفة. وقال علي بن سليمان: «عربيا» نصب على الحال وقرانا توطئة الحال، كما تقول: مررت بزيد رجلا صالحا، فقولك صالحا هو المنصوب على الحال. قال أبو إسحاق: «قرانا عربيا» على حال، وقال: «قرانا» توكيد. غَيْرَ ذِي عِوَجٍ نعت. أحسن ما قيل فيه ما قاله الضحاك قال مختلف. [سورة الزمر (39) : آية 29] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ قال الفراء: أي مختلفون. قال محمد بن

[سورة الزمر (39) : آية 30]

يزيد: أي متعاسرون، من شكس يشكس فهو شكس مثل عسر يعسر عسرا فهو عسر. وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هذه قراءة أهل المدينة وأهل الكوفة، وقرأ ابن عباس والحسن ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وابن كثير. وَرَجُلًا سَلَماً فسّرها ابن عباس قال: خالصا. قال أبو جعفر: ومال أبو عبيد إلى هذه القراءة قال: لأن السالم ضد المشرك، والسلم ضد الحرب ولا معنى للمحارب هاهنا. قال أبو جعفر: وهذا الاحتجاج لا يلزم لأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلّا على أولاهما فهذا وإن كان السلم ضد الحرب فله موضع أخر، كما يقال: كان لك في هذا المنزل شركاء فصار سلما لك ويلزمه أيضا في سالم ما لزمه في غيره لأنه يقال: شيء سالم لا عاهة به. والقراءتان حسنتان قد قرأ بهما الأئمة. [سورة الزمر (39) : آية 30] إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) وقراءة ابن محيصن وابن أبي إسحاق وعيسى إنّك مائت وإنّهم مائتون. قال أبو جعفر: وهي قراءة حسنة ومثل هذه الألف تحذف في السواد. ومائت في المستقبل كثير في كلام العرب، ومثله: ما كان مريضا وإنّه لمارض من هذا الطعام. وميّت جائز أيضا وتخفيفه جائز عند غير أبي عمرو بن العلاء فإنه كان لا يجيز التخفيف في المستقبل. [سورة الزمر (39) : آية 31] ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) قيل: يعني في المظالم، وفي الحديث المسند «أول ما تقع فيه الخصومات الدماء» «1» . [سورة الزمر (39) : آية 32] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ مَثْوىً في موضع رفع ولم يتبيّن فيه الإعراب لأنه مقصور. وهو مشتق من ثوى يثوي، ولو كان من أثوى لكان مثوى، وهذا يدلّ على أنّ ثوى هو اللغة الفصيحة. وقد حكى أبو عبيدة أثوى، وأنشد: [الكامل] 388- أثوى وقصّر ليلة ليزوّدا «2»

_ (1) أخرجه الترمذي في الديات 6/ 173. (2) الشاهد للأعشى في ديوانه 277، ولسان العرب (خلف) و (ثوا) ، وجمهرة اللغة ص 615، ومقاييس اللغة 1/ 393، ومجمل اللغة 2/ 213، وديوان الأدب 4/ 109، وتهذيب اللغة 15/ 167، وتاج العروس (خلف) ، و (ثوى) ، وبلا نسبة في المخصّص 13/ 262. وعجزه: «فمضت وأخلف من قتيله مواعدا»

[سورة الزمر (39) : الآيات 33 إلى 35]

والأصمعي لا يعرف إلّا ثوى ويرويه أثوى. [سورة الزمر (39) : الآيات 33 الى 35] وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ في موضع رفع بالابتداء، وخبره أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وتأوّله إبراهيم النخعي على أنه للجماعة، وقال: الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة فيقولون هذا الذي أعطيتمونا قد اتّبعنا ما فيه، فيكون الذي على هذا بمعنى جمع كما يكون «من» بمعنى جمع. وقيل بل حذفت النون لطول الاسم. وتأوله الشّعبي على أنه واحد، وقال: الذي جاء بالصدق محمد صلّى الله عليه وسلّم، وصدق به أبو بكر الصديق رضي الله عنه، والصحابة فيكون على هذا خبره جماعة كما يقال لمن يعظّم: هم فعلوا كذا وكذا. وجواب أخر أن يكون له ولمن اتّبعه صلّى الله عليه وسلّم وفي قراءة ابن مسعود والذين جاءوا بالصدق وصدّقوا به فهذه قراءة على التفسير، وفي قراءة أبي صالح الكوفي وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ «1» «2» مخفّفا يكون معناه- والله أعلم- وصدق فيه كما يقال: فلان بمكّة وفي مكّة. [سورة الزمر (39) : الآيات 36 الى 37] أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ حذفت الياء لسكونها وسكون التنوين بعدها، وكان الأصل ألّا تحذف في الوقف لزوال التنوين إلّا أنها حذفت ليعلم أنها كذلك في الوصل، ومن العرب من يثبتها في الوقف على الأصل فيقول: كافي عبده. [سورة الزمر (39) : آية 38] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ «3» بغير تنوين قراءة أبي جعفر ونافع وابن كثير ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ أبو عمرو وشيبة وهي المعروفة من قراءة الحسن وعاصم هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ ومُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ بالتنوين على الأصل لأنه لما لم يقع بعد ولو كان ماضيا لم يجز فيه التنوين. وحذف التنوين على التخفيف فإذا حذف التنوين لم يبق بين الاسمين حاجز فخفضت الثاني بالإضافة. وحذف التنوين

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 419. (2) انظر البحر المحيط 7/ 412. (3) انظر تفسير الداني 154.

[سورة الزمر (39) : الآيات 39 إلى 40]

كثير في كلام العرب موجود حسن. قال الله جلّ وعزّ: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ، [المائدة: 95] وكذا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا [الأحقاف: 24] ، وكذا إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ [القمر: 27] . قال سيبويه: مثل ذلك كثير مثله غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [المائدة: 1] لأن معناه كمعنى وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [المائدة: 2] ، وأنشد سيبويه: [البسيط] . 389- هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد ربّ أخا عون بن مخراق «1» وقال النابغة: [البسيط] 390- واحكم كحكم فتاة الحيّ إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد «2» معناه وارد الثّمد فحذف التنوين مثل «كاشفات ضرّه» . [سورة الزمر (39) : الآيات 39 الى 40] قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ على مكانتي أي على جهتي التي تمكّنت عندي. [سورة الزمر (39) : آية 41] إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) قيل: معناه لنبيّنه للناس بالحقّ الذي أمروا به فيه. [سورة الزمر (39) : الآيات 42 الى 43] اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وقراءة يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ «3» على ما لم يسمّ فاعله، والمعنى واحد غير أن القراءة الأولى أبين وأشبه بنسق الكلام لأنهم قد جمعوا على «ويرسل» ولم

_ (1) الشاهد لجابر بن رألان أو لجرير أو لتأبط شرا، أو هو مصنوع في خزانة الأدب 8/ 215، ولجرير بن الخطفى أو لمجهول أو هو مصنوع في المقاصد النحوية 3/ 513، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 256، والدرر 6/ 192، والكتاب 1/ 227، وشرح أبيات سيبويه 1/ 395، وشرح الأشموني 2/ 344، والمقتضب 4/ 151، وهمع الهوامع 2/ 145. (2) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 23، والكتاب 1/ 223، وأدب الكاتب ص 25، والحيوان 3/ 221، والدرر 1/ 217، وشرح أبيات سيبويه 1/ 33، ولسان العرب (حكم) و (حمم) ، وبلا نسبة في شرح التصريح 1/ 225. (3) انظر تيسير الداني 154. [.....]

[سورة الزمر (39) : آية 44]

يقرءوا ويرسل وقد مرّ في الكتاب الذي قبل هذا العلّة في فتح الواو في قوله جلّ وعزّ: أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ. [سورة الزمر (39) : آية 44] قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) نصب على الحال، فإن قيل: جميع إنّما يكون للاثنين فصاعدا والشفاعة واحدة. فالجواب أن الشفاعة مصدر، والمصدر يؤدّي عن الاثنين والجميع. [سورة الزمر (39) : آية 45] وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ نصب على المصدر عند الخليل وسيبويه «1» ، وعلى الحال عند يونس قال محمد بن يزيد: اشْمَأَزَّتْ أي انقبضت. [سورة الزمر (39) : آية 46] قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ نصب لأنه نداء مضاف، وكذا عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ولا يجوز عند سيبويه أن يكون نعتا. [سورة الزمر (39) : آية 47] وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) من أجلّ ما روي فيه ما رواه منصور عن مجاهد قال: عملوا أعمالا توهّموا أنها حسنات فإذا هي سيئات، وقيل: عملوا أعمالا سيئة وتوهّموا أنهم يتوبون قبل الموت فأدركهم الموت، وقد كانوا ظنوا أنّهم ينجون بالتوبة فبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون، ويجوز أن يكونوا توهّموا أنهم يغفر لهم من غير توبة فبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون، من دخول النار. [سورة الزمر (39) : آية 48] وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ أي عقاب سيّئات أو ذكر سيئات. [سورة الزمر (39) : آية 49] فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ قال أبو إسحاق: أي على شرف وفضل يجب لي به هذا

_ (1) انظر الكتاب 1/ 442.

[سورة الزمر (39) : الآيات 50 إلى 52]

الذي أعطيته فقد علمت أنّي سأعطى هذا بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ قال الفراء: أنّث لتأنيث الفتنة ولو كان بل هو فتنة لجاز. قال أبو جعفر: التقدير: بل أعطيته فتنة. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون أنّ إعطاءهم المال اختبار، وقيل: عملهم عمل من لا يعلم. [سورة الزمر (39) : الآيات 50 الى 52] قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ على تأنيث الكلمة. [سورة الزمر (39) : آية 53] قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وإن شئت حذفت الياء لأن النداء موضع حذف. ومن أجلّ ما روي فيه ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال: لما اجتمعنا على الهجرة اتّعدت أنا وهشام بن العاصي بن وائل السّهمي وعيّاش بن عتبة فقلنا الموعد أضاة غفر، وقلنا من تأخر منّا فقد حبس فأصبحت أنا وعيّاش بن عتبة بها، ولم يواف هشام وإذا به قد فتن ففتن. وكنا نقول بالمدينة هؤلاء قوم قد عرفوا الله جلّ وعزّ وآمنوا به وبرسوله صلّى الله عليه وسلّم ثم افتتنوا ببلاء لحقهم لا نرى لهم توبة وكانوا هم أيضا يقولون هذا فأنزل الله جلّ وعزّ قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إلى أخر القصة. وروى عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان قوم من المشركين قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا فقالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو بعثوا إليه إنّ ما تدعونا إليه لحسن لو تخبرنا أنّ لنا توبة فأنزل الله جلّ وعزّ: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ إلى أخر الآيات، قال عبد الله بن عمر: هذه أرجى آية في القرآن فردّ عليه ابن عباس فقال: بل أرجى آية في القرآن وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرعد: 6] . وروى حمّاد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن أسماء أنها سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ولا يبالي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وفي مصحف ابن مسعود «1» إنّ الله يغفر الذّنوب جميعا لمن يشاء وهاتان القراءتان على التفسير أي يغفر لمن يشاء، وقد عرّف الله جلّ وعزّ من يشاء أن يغفر له، وهو التائب أو من عمل صغيرة ولم يكن له كبيرة ودلّ على أنه يريد التائب ما بعده. [سورة الزمر (39) : الآيات 54 الى 55] وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ فالتائب مغفور له ذنوبه جميعا. يدل على ذلك وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ [طه: 82] . فهذا الإشكال فيه وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ قال الضحاك:

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 421.

[سورة الزمر (39) : آية 56]

أي «أنيبوا» ارجعوا إلى طاعته جلّ وعزّ وأمره. قال أبو جعفر: ثم تواعد ما لم يثب فقال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ أي فلا يدفعه أحد عنكم. [سورة الزمر (39) : آية 56] أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ في موضع نصب أي كراهة أن تقول، وعند الكوفيين بمعنى لئلا تقول نفس يا حَسْرَتى والأصل: يا حسرتي أي يا ندمي، فأبدل من الياء ألفا لأنها أخفّ فالفائدة في نداء الحسرة أنّ في ذلك معنى أنّها لازمة موجودة فهذا أبلغ من الخبر. وأجاز الفراء «1» في الوصل: يا حسرتاه على كذا: ويا حسرتاه على كذا، وذكر هذا القول في الآية وشبّهه بالندبة. وإثبات الهاء في الوصل خطأ عند جميع النحويين غيره، وليس هذا موضع ندبة ولا في السّواد هاء ولا قرأ به أحد عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ قال الضحاك: أي في ذكر الله قال: يعني القرآن والعمل به. وفي حديث ابن عجلان عن سعيد المقبريّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما جلس رجل مجلسا ولا مشى مشيا ولا اضطجع مضطجعا لم يذكر الله جلّ وعزّ فيه إلّا كانت عليه ترة يوم القيامة» «2» أي حسرة. قال إبراهيم التيمي: من الحسرات يوم القيامة أن يرى الرجل ماله الذي أتاه الله إيّاه يوم القيامة في ميزان غيره قد ورثه فعمل فيه بالحقّ، وكان له أجره، وعلى الآخر وزره. ومن الحسرات أن يرى الرجل عبده الذي خوّله الله إياه جلّ وعزّ في الدنيا أقرب منزلة من الله جلّ وعزّ، أو يرى رجلا يعرفه أعمى في الدنيا قد أبصر يوم القيامة وعمي هو. وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ قال أبو إسحاق: أي ما كنت إلّا من المستهزئين. [سورة الزمر (39) : آية 57] أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) قيل: معناه لو هداني إلى النجاة من النار، وردّني إلى التكليف. لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ المعاصي. وقيل: لو أن الله هداني في الدنيا، فردّ عليه فقيل بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي أي قد هديتك بالبيّنات. [سورة الزمر (39) : آية 58] أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ نصب على جواب التمني، فإن شئت كان معطوفا على كرة لأن معناه أن أكون كما قال: [الوافر] 391- للبس عباءة وتقرّ عيني ... أحبّ إليّ من لبس الشّفوف «3»

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 422. (2) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال (25461) . (3) مرّ الشاهد رقم (123) .

[سورة الزمر (39) : آية 59]

[سورة الزمر (39) : آية 59] بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي بفتح الكاف، والنفس مؤنّثة لأن المعنى للمذكر، وقرأ «1» عاصم الجحدري بالكسر على تأنيث النفس والقراءة بالكسر تروى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. [سورة الزمر (39) : آية 60] وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ مبتدأ وخبره في موضع نصب، ويجوز النصب على أن تكون وجوههم بدلا من الذين. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ وبيّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معنى الكبر فقال: الكبر سفه الحقّ وغمس الناس أي احتقارهم. وفي حديث عبد الله بن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يحشر المتكبّرون يوم القيامة كهيئة الذّرّ يلحقهم الصّغار حتّى يؤتى بهم إلى سجن في جهنّم» «2» . [سورة الزمر (39) : آية 61] وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ هذه قراءة أكثر الناس على التوحيد لأنها مصدر. وقرأ الكوفيون (بمفازاتهم) «3» وهو جائز كما تقول: بسعاداتهم وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تفسير هذه الآية من حديث أبي هريرة قال: «يحشر الله جلّ وعزّ مع كلّ امرئ عمله فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة فكلّما كان رعب أو خوف قال له: لا ترع فما أنت بالمراد به، ولا أنت بالمعنيّ به فإذا كثر ذلك عليه قال له: ما أحسنك فمن أنت؟ فيقول، أما تعرفني أنا عملك الصالح حملتني على ثقلي فو الله لأحملنّك اليوم ولأدفعنّ عنك فهي التي قال: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» «4» . [سورة الزمر (39) : آية 62] اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) أي هو حافظه والقائم به. [سورة الزمر (39) : آية 63] لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ واحدها مقليد وأكثر ما يستعمل فيه إقليد وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ مبتدأ أُولئِكَ هُمُ مبتدأ ثان: الْخاسِرُونَ خبر الثاني «وهم» فاصلة، ويجوز أن يكون «أولئك» بدلا من الذين و «هم» مبتدأ و «الخاسرون» خبره والجملة خبر الذين.

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 419. (2) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 178، والترمذي رقم الحديث (2492) ، والمنذري في الترغيب والترهيب 4/ 388 انظر رقم 19 والزبيدي في إتحاف السادة المتّقين 1/ 309. (3) انظر البحر المحيط 7/ 420. (4) ذكره القرطبي في تفسيره 15/ 274.

[سورة الزمر (39) : آية 64]

[سورة الزمر (39) : آية 64] قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) غير نصب بأعبد، والكسائي يذهب إلى أن التقدير: أن أعبد ثم حذف أن فرفع الفعل، وهو أحد قولي سيبويه «1» في أَعْبُدُ هذا، وقوله الآخر أنّ التقدير «أفغير الله أعبد فيما تأمروني» وهذا قول بيّن أي أفغير الله أعبد أنتم تأمرونّي، وفي هذا معنى في أمركم. والأخفش سعيد يقول: تأمرونني ملغى كما تقول: قال ذلك زيد بلغني. وهذا هو قول سيبويه بعينه فأما أن يكون الشيء يعمل نصبا فإذا حذف كان عمله أقوى فعمل رفعا فبين الخطأ، ولو أظهرت «أن» هاهنا لم يجز وكان تفريقا بين الصلة والموصول، والأصل: تأمرونني أدغمت النون في النون فأما «تأمروني» بنون واحدة مخفّفة فإنما يجيء مثله شاذّا في الشعر، وأبو عمرو بن العلاء رحمه الله يقول لحن، وقد أنشد سيبويه في مثله: [الوافر] 392- ترعاه كالثّغام يعلّ مسكا ... يسوء الفاليات إذا فليني «2» وسمعت علي بن سليمان يقول: كان النحويون من قبل يتعجّبون من فصاحة جرير وقوله على البديه إنهم يبدؤوني. فأما حذف الياء من «تأمروني» فسهل لأنّ النون كأنها عوض منها والكسرة دالّة عليها. [سورة الزمر (39) : آية 65] وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ قال محمد بن يزيد: ليفسدنّ وذهب إلى أنّه من قولهم حبط بطنه يحبط وحبج يحبج إذا فسد من داء بعينه. [سورة الزمر (39) : آية 66] بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ قال أبو جعفر: في كتابي عن أبي إسحاق لفظ اسم الله جلّ وعزّ منصوب بأعبد، قال: ولا اختلاف في هذا عند البصريين والكوفيين. قال أبو جعفر: وقد قال الفراء «3» : يكون نصبا بإضمار فعل لأنه أمر. فأمال الفاء فقال أبو إسحاق: إنها للمجازاة، وغيره يقول بأنها زائدة. [سورة الزمر (39) : آية 67] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ قال محمد بن يزيد: أي عظّموه من قولك فلان عظيم

_ (1) انظر الكتاب 3/ 116. (2) مرّ الشاهد رقم (134) . (3) انظر معاني الفراء 2/ 242.

[سورة الزمر (39) : الآيات 68 إلى 70]

القدر. قال أبو جعفر: فالمعنى على هذا: وما عظّموا الله حقّ عظمته إذ عبدوا معه غيره، وهو خالق الأشياء ومالكها وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ مبتدأ وخبره، وأجاز الفراء «1» : «قبضته» بالنصب بمعنى في قبضته. قال أبو إسحاق: لم يقرأ به، وهو خطأ عند البصريين لا يجوز لا يقولون: زيد قبضتك ولا المال قبضتك أي في قبضتك، قال: ولو جاز هذا لجاز: زيد دارك، أي في دارك. وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ مبتدأ وخبره، وأجاز الكسائي والفراء «2» وأبو إسحاق: «مطويّات» بكسر التاء، قال أبو إسحاق: على الحال. [سورة الزمر (39) : الآيات 68 الى 70] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ وأجاز الكسائي: قياما بالنصب، كما تقول: خرجت فإذا زيد جالسا. قال زيد بن أسلم في قوله جلّ وعزّ: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ الشهداء الحفظة. [سورة الزمر (39) : الآيات 71 الى 73] وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً نصب على الحال. حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها «3» جواب إذا. وفي قصّة أهل الجنة. وَفُتِحَتْ بالواو. فالكوفيون يقولون: الواو زائدة، وهذا خطأ عند البصريين لأنها تفيد معنى وهي العطف هاهنا والجواب محذوف قال محمد بن يزيد: أي سعدوا. وحذف الجواب بليغ في كلام العرب وأنشد: [الطويل] 393- فلو أنّها نفس تموت سويّة ... ولكنّها نفس تساقط أنفسا «4» فحذف جواب «لو» ، والتقدير: لكان أروح. فأما الحكمة في إثبات الواو في الثاني وحذفها من الأول فقد تكلّم فيه بعض أهل العلم، يقول: لا أعلم أنه سبقه إليه

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 425. (2) انظر معاني الفراء 2/ 425. [.....] (3) انظر تيسير الداني 154. (4) مرّ الشاهد رقم (284) .

[سورة الزمر (39) : آية 74]

أحد، وهو أنه قال: لمّا قال الله جلّ وعزّ في أهل النار حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها دلّ بهذا على أنها كانت مغلقة، ولما قال في أهل الجنة حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها دلّ بهذا على أنها كانت مفتّحة قبل أن يجيئوها. والله جلّ وعزّ أعلم. [سورة الزمر (39) : آية 74] وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ قد ذكرنا قول قتادة إنها أرض الجنة، وقد قيل: إنها أرض الدنيا على التقديم والتأخير. [سورة الزمر (39) : آية 75] وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) حَافِّينَ قال الأخفش: واحدهم حافّ، وقال الفراء: لا يفرد لهم واحد لأن هذا الاسم لا يقع لهم إلّا مجتمعين وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي يقول المؤمنون: الحمد لله الذي أثابنا فله الحمد على ما أثابنا من نعمه وإحسانه ونصرنا على من ظلمنا.

40 شرح إعراب سورة الطول (غافر)

40 شرح إعراب سورة الطول (غافر) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة غافر (40) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) بإسكان الميم الآخرة لأنها حروف هجاء فحكمها السكون لأنها يوقف عليها. وأما قراءة عيسى بن عمر حاميم تنزيل «1» فمفتوحة لالتقاء الساكنين، ويجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل ولم ينصرف لأنها اسم المؤنث، أو لأنها أعجمية مثل هابيل وقابيل. [سورة غافر (40) : آية 2] تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) تَنْزِيلُ الْكِتابِ على إضمار مبتدأ و «تنزيل» في موضع منزّل على المجاز، ويجوز أن يكون تنزيل رفعا بالابتداء والخبر مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. [سورة غافر (40) : آية 3] غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ قال الفراء «2» : جعلتها كالنعت للمعرفة وهي نكرة. وقال أبو إسحاق: هي خفض على البدل. قال أبو جعفر: وتحقيق الكلام في هذا وتلخيصه أن غافر الذنب وقابل التوب يجوز أن يكونا معرفتين على أنهما لما مضى فيكونا نعتين، ويجوز أن يكونا للمستقبل والحال فيكونا نكرتين، ولا يجوز نعتين على هذا ولكن يكون خفضهما على البدل، ويجوز النصب على الحال. فأما شَدِيدِ الْعِقابِ فهو نكرة فيكون خفضه على البدل. والتواب: جمع توبة أو مصدر. وقال أبو العباس: الذي يسبق إلى القلب أن يكون مصدرا أي يقبل هذا الفعل، كما تقول: قال يقول قولا. وإذا كان جمعا فمعناه يقبل التوبات. ذِي الطَّوْلِ على البدل لأنه نكرة وعلى النعت لأنه معرفة.

_ (1) انظر تيسير الداني 155. (2) انظر معاني الفراء 3/ 5.

[سورة غافر (40) : آية 4]

[سورة غافر (40) : آية 4] ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا مجاز أي في دفع آيات الله جلّ وعزّ. فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ قال أبو العباس: أي تصرّفهم، كما يقال: فلان يتقلب في ماله. [سورة غافر (40) : آية 5] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ على تأنيث الجماعة أي كذّبت الرسل. قال أبو العباس: لِيُدْحِضُوا ليزيلوا. ومنه مكان دحض أي مزلقة. [سورة غافر (40) : آية 6] وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) قال وَكَذلِكَ حَقَّتْ وجبت ولزمت لأنه مأخوذ من الحقّ لأنه اللازم. أَنَّهُمْ قال الأخفش: أي لأنهم وبأنهم. قال أبو إسحاق: ويجوز «إنّهم» بكسر الهمزة أَصْحابُ النَّارِ المعذبون بها. [سورة غافر (40) : آية 7] الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) اتّصل هذا بذكر الكفار لأن المعنى- والله أعلم- الذين يحملون العرش ومن حوله ينزّهون الله جلّ وعزّ عمّا يقوله الكفار. وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وقد غفر لهم لأن الله جلّ وعزّ يحبّ ذلك فهم مطيعون لله جلّ وعزّ بذلك رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً منصوبان على البيان. فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ولا يجوز إدغام الراء في اللام لأن في الراء تكريرا. [سورة غافر (40) : آية 8] رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) مَنْ في موضع نصب معطوف على الهاء والميم التي في وَعَدْتَهُمْ، أو على الهاء والميم في أَدْخِلْهُمْ. [سورة غافر (40) : آية 9] وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) سمّى العقاب سيئات مجازا لأنه عقاب على السيئات.

[سورة غافر (40) : الآيات 10 إلى 11]

[سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 11] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) قال الأخفش: لَمَقْتُ هذه لام الابتداء ووقعت بعد يُنادَوْنَ لأن معناه يقال لهم والنداء قول. وقال غيره المعنى يقال لهم: لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقت بعضكم بعضا يوم القيامة لأن بعضهم عادى بعضا ومقته يوم القيامة فأذعنوا عند ذلك وخضعوا، وطلبوا الخروج من النار فقالوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ و «من» زائدة للتوكيد. [سورة غافر (40) : الآيات 12 الى 13] ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) ذلِكُمْ في موضع رفع أي الأمر ذلكم أي ذلكم العذاب بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ أي لأنه إذا وحّد الله كفرتم وأنكرتم، وإن أشرك به مشرك صدّقتموه وامنتم به والهاء كناية عن الحديث فَالْحُكْمُ لِلَّهِ أي لله جلّ وعزّ وحده لا لما تعبدونه من الأصنام الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ. [سورة غافر (40) : آية 14] فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) فادعوه أي من أجل ذلك ادعوه مُخْلِصِينَ على الحال. [سورة غافر (40) : آية 15] رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ على إضمار مبتدأ. قال الأخفش: يجوز نصبه على المدح، وقرأ الحسن لتنذر يوم التلاق «1» وهي مخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وتأوّل أبو عبيد قراءة من قرأ لينذر بالياء أنّ المعنى: لينذر الله. وقال أبو إسحاق: الأجود أن يكون للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأنه أقرب وحذفت الياء من «التلاق» لأنه رأس آية. [سورة غافر (40) : الآيات 16 الى 17] يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ هُمْ في موضع رفع بالابتداء وبارِزُونَ خبره، والجملة في موضع خفض بالإضافة فلذلك حذفت التنوين من يوم وإنما يكون في هذا عند سيبويه «2» إذا كان كان الظرف بمعنى «إذ» تقول: لقيتك يوم زيد أمير، فإذا كان بمعنى إذا لم يجز نحو: أنا ألقاك يوم زيد أمير لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أصحّ ما

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 437. (2) انظر الكتاب 3/ 138.

[سورة غافر (40) : آية 18]

قيل فيه ما رواه أبو وائل عن ابن مسعود، قال: يحشر النّاس على أرض بيضاء مثل الفضة لم يعص الله جلّ وعزّ عليها فيؤمر مناد أن ينادي لمن الملك اليوم؟ فهذا قول بيّن. فأما أن يكون هذا والخلق غير موجودين فبعيد لأنه لا فائدة فيه. والقول الأول صحيح عن ابن مسعود، وليس هو مما يؤخذ بالقياس، ولا بالتأويل والمعنى على قوله فينادي مناد يوم القيامة ليقرّر الناس لمن الملك اليوم فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم: لله الواحد القهّار فيقول المؤمنون هذا سرورا وتلذاذا، ويقول الكافرون هذا رغما وانقيادا وخضوعا. [سورة غافر (40) : آية 18] وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ نصبت كاظمين على الحال وهو محمول على المعنى. قال أبو إسحاق: المعنى: إذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كظمهم، وأجاز الفراء «1» أن يكون التقدير: وأنذرهم كاظمين على أنه خبر القلوب، وقال: لأن المعنى إذ هم كاظمين. وقال الكسائي: يجوز رفع كاظمين على الابتداء ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ أي قريب وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ من نعت شفيع أي ولا شفيع يسأل فيجاب. [سورة غافر (40) : آية 19] يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ. قال أبو إسحاق: أي من نظر ونيّته الخيانة، وقال الفراء: يعلم خائنة الأعين النظرة الثانية وَما تُخْفِي الصُّدُورُ النظرة الأولى. [سورة غافر (40) : آية 20] وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «هو» زائدة فاصلة، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء وما بعدها خبر عنها والجملة خبر «إنّ» . [سورة غافر (40) : الآيات 21 الى 22] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا عطف على يسيروا في موضع جزم، ويجوز أن يكون في موضع نصب على أنه جواب، والجزم والنصب في التثنية والجمع واحد. كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اسم كان والخبر في كيف. واقٍ في موضع خفض معطوف على اللفظ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على الموضع فرفعه وخفضه واحد لأن الياء تحذف وتبقى الكسرة دالّة عليها.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 6.

[سورة غافر (40) : آية 23]

[سورة غافر (40) : آية 23] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) في قوله جلّ وعزّ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الإسراء: 101] «وسلطان مبين» «السلطان» الحجّة وهو يذكّر ويؤنّث. [سورة غافر (40) : آية 24] إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ أسماء أعجمية لا تنصرف وهي معارف، فإن نكّرتها انصرفت. فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ مرفوع على إضمار مبتدأ أي هو ساحر. [سورة غافر (40) : آية 25] فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جمع ابن على الأصل والأصل فيه بني. وقال قتادة: هذا القتل الثاني فهذا على قوله إنه معاقبة لهم، والقتل الأول كان لأنه قيل لفرعون: إنّه يولد في بني إسرائيل ولد يكون زوال ملكك على يده فأمر بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم ثم كان القتل الثاني عقوبة لهم ليمتنع الناس من الإيمان. قال الله جلّ وعزّ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي إنّه لا يمتنع النّاس من الإيمان، وإن فعل بهم مثل هذا فكيف يذهب باطلا. [سورة غافر (40) : الآيات 26 الى 27] وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) أَقْتُلْ جزم لأنه جواب الأمر وَلْيَدْعُ جزم لأنه أمر وذَرُونِي ليس بمجزوم وإن كان أمرا، ولكن لفظه لفظ المجزوم وهو مبني، وقيل: هذا يدلّ على أنّه قيل لفرعون: إنّا نخاف أن ندعو عليك فيجاب، فقال وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ «1» هذه قراءة المدنيين وأبي عبد الرحمن وابن عامر وأبي عمرو، وقراءة الكوفيين أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ «2» وكذا في مصاحف الكوفيين «أو» بألف وإليه يذهب أبو عبيد، قال: لأن «أو» قد تكون بمعنى الواو لأن في ذلك بطلان المعاني، ولو جاز أن يكون بمعنى الواو لما احتيج إلى هذا هاهنا لأن معنى الواو إني أخاف الأمرين جميعا، ومعنى «أو» لأحد الأمرين أي إنّي أخاف أن يبدّل دينكم فإن أعوزه ذلك أفسد في الأرض.

_ (1) انظر تيسير الداني 155، والبحر المحيط 7/ 441. (2) انظر تيسير الداني 155، والبحر المحيط 7/ 441.

[سورة غافر (40) : آية 28]

[سورة غافر (40) : آية 28] وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ في موضع نصب أي لأن يقول. وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ولو كان «يكن» جاز ولكن حذفت النون لكثرة الاستعمال على قول سيبويه، ولأنها نون الإعراب على قول أبي العباس. [سورة غافر (40) : الآيات 29 الى 30] يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) ظاهِرِينَ نصب على الحال. وقد ذكرنا ما بعده مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ يعني به من أهلك والله أعلم. [سورة غافر (40) : آية 31] مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ على البدل. وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لم ينصرف ثمود لأنه اسم للقبيلة وصرفه جائز على أنه اسم للحيّ. وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ في موضع خفض على النسق. [سورة غافر (40) : آية 32] وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) وقراءة الضحاك يَوْمَ التَّنادِ «1» بالتشديد، وقد رويت عن ابن عباس إلّا أنها من رواية الكلبي عن أبي صالح. قال أبو جعفر: يقال: ندّ البعير يندّ إذا نفر من شيء يراه ثم يستعار ذلك لغير البعير. وفي القراءة جمع بين ساكنين إلا أنه جائز. [سورة غافر (40) : آية 33] يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ على البدل من يَوْمَ التَّنادِ. مُدْبِرِينَ على الحال. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ في موضع خفض بمن ومن وما بعدها في موضع رفع، ورفع هاد وخفضه واحد.

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 444، والمحتسب 2/ 243.

[سورة غافر (40) : آية 34]

[سورة غافر (40) : آية 34] وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ من قبل موسى صلّى الله عليهما فذكر وهب بن منبّه أن فرعون موسى هو فرعون يوسف صلّى الله عليه وسلّم عمّر، وغيره يقول: هو أخر وليس في هذه الآية دليل على أنه هو لأنه إذا أتى بالبيّنات فهي لمن معه، ولمن بعده، وقد جاءهم جميعا بها وعليهم أن يصدقوه بها. كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ. [سورة غافر (40) : آية 35] الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) الَّذِينَ يُجادِلُونَ في موضع نصب على البدل من «من» ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على معنى هم الذين يجادلون في آيات الله أو على الابتداء. مَقْتاً على البيان أي كبر جدالهم مقتا. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ وقراءة أبي عمرو عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ «1» بالتنوين. قال أبو جعفر: قال أبو إسحاق: الإضافة أولى لأن المتكبّر هو الإنسان وقد يقال: قلب متكبر يراد به الإنسان. [سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 37] وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) أَسْبابَ السَّماواتِ بدل من «الأسباب» . فَأَطَّلِعَ عطف على أَبْلُغُ وقرأ الأعرج فأطلع «2» بالنصب. قال أبو عبيد: على الجواب. قال أبو جعفر: معنى النصب خلاف معنى الرفع لأن معنى النصب متى بلغت الأسباب اطّلعت ومعنى الرفع لعليّ أبلغ الأسباب ثم لعليّ أطّلع بعد ذلك إلا أنّ ثم أشدّ تراخيا من الفاء. وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ «3» عَنِ السَّبِيلِ وقراءة الكوفيين وصدّ «4» ويجوز على هذه القراءة وصدّ «5» تقلب كسرة الدال على الصاد، وقراءة ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة وصدّ عن السبيل. [سورة غافر (40) : الآيات 38 الى 42] وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) وقراءة معاذ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ «6» . قال أبو جعفر: وقد ذكرناه.

_ (1) انظر تيسير الداني 155. (2) انظر تيسير الداني 155، والبحر المحيط 7/ 446. (3) انظر تيسير الداني 155. (4) انظر البحر المحيط 7/ 446، وهذه قراءة الجمهور. [.....] (5) انظر البحر المحيط 7/ 446، وهذه قراءة الجمهور. (6) انظر البحر المحيط 7/ 446.

[سورة غافر (40) : آية 43]

[سورة غافر (40) : آية 43] لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ قال أبو إسحاق: أي ليس له استجابة دعوة تنفع، وقال غيره: ليس له دعوة توجب له الألوهة في الدنيا وفي الآخرة. [سورة غافر (40) : الآيات 44 الى 45] فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ أي في الآخرة. وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ قيل: هذا يدلّ على أنهم أرادوا قتله. قال الكسائي: يقال: حاق يحيق حيقا وحيوقا إذا نزل ولزم. [سورة غافر (40) : آية 46] النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها فيه ستة أوجه تكون النار بدلا من سوء، ويكون بمعنى هو النار، وتكون بالابتداء، وقال الفرّاء «1» : تكون مرفوعة بالعائد فهذه أربعة أوجه وأجاز الفرّاء النصب لأن بعدها عائدا وقبلها ما تتّصل به وأجاز الأخفش: الخفض على البدل من العذاب، واحتجّ بعض أهل اللغة في تثبيت عذاب القبر بقوله جلّ وعزّ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا قال فهذا في الدنيا، وفي الحديث عن ابن مسعود قال: «إن أرواح ال فرعون ومن كان مثلهم من الكفار يعرضون على النار بالغداة والعشيّ فيقال هذه داركم» «2» وفي حديث صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنّ الكافر إذا مات عرض على النار بالغداة والعشيّ ثم تلا النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وإن المؤمن إذا مات عرضت روحه على الجنة بالغداة والعشي» «3» . قال الفرّاء «4» : في الغداة والعشيّ أي بمقادير ذلك في الدنيا. قال أبو جعفر: غدوّ مصدر جعل ظرفا على السعة وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ نصبت يوما بقوله أَدْخِلُوا «5» وقراءة الحسن وأبي الحسن وأبي عمرو وعاصم ادخلوا آل فرعون أشد العذاب تنصب ال فرعون في هذه القراءة على النداء المضاف ومن قرأ أدخلوا ال فرعون نصبهم بوقوع الفعل عليهم وآلَ فِرْعَوْنَ من كان على دينه وعلى مذهبه وإذا كان من كان على دينه

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 9. (2) انظر الطبري 24/ 46، وتفسير عبد الرزاق 3/ 192، والبغوي 4/ 99، وابن كثير 4/ 82، والدر المنثور 5/ 352. (3) أخرجه البخاري في صحيحه 3/ 243، ومسلم في صحيحه 4/ 2199. (4) انظر معاني الفراء 3/ 9. (5) انظر تيسير الداني 155.

[سورة غافر (40) : آية 47]

وعلى مذهبه في أشدّ العذاب كان هو أقرب إلى ذلك. وروى قتادة عن أبي حسّان الأعرج عن ناجية بن كعب عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ العبد يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت مؤمنا، منهم يحيى بن زكريا صلّى الله عليهما وسلّم ولد مؤمنا وحيي مؤمنا ومات مؤمنا. وإن العبد يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت كافرا، منهم فرعون ولد كافرا وحيي كافرا ومات كافرا» . [سورة غافر (40) : آية 47] وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً مصدر فلذلك لم يجمع، ولو جمع لقيل: أتباع. [سورة غافر (40) : آية 48] قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها قال الأخفش: كل مرفوع بالابتداء، وأجاز الفرّاء «1» والكسائي إنّا كلا فيها بالنصب على النعت. قال أبو جعفر: وهذا من عظيم الخطأ أن ينعت المضمر، وأيضا فإنّ «كلّا» لا تنعت ولا ينعت بها. هذا قول سيبويه نصا. وأكثر من هذا أنّه لا يجوز أن يبدل من المضمر هاهنا لأنه مخاطب، ولا يبدل من المخاطب ولا المخاطب لأنهما لا يشكلان فيبدل منهما. هذا قول محمد بن يزيد نصا. إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ أي حكم بينهم ألا يؤاخذ أحدا بذنب غيره. [سورة غافر (40) : الآيات 49 الى 50] وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) الَّذِينَ في موضع رفع، ومن العرب من يقول: اللذون على أنه جمع مسلّم معرب ومن قال: الذين في موضع الرفع بناه، كما كان في الواحد مبنيا. وقال سعيد الأخفش: ضمّت النون إلى الذي فأشبه خمسة عشر فبني على الفتح. وخزنة جمع خازن، ويقال: خزّان وخزّن. ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ جواب مجزوم، وإذا كان بالفاء كان منصوبا إلّا أن الأكثر في كلام العرب في الأمر وما أشبهه أن يكون بغير فاء، على هذا جاء القرآن بأفصح اللغات، كما قال: [الطويل] 394- قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل «2»

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 10. (2) مرّ الشاهد رقم (308) .

[سورة غافر (40) : الآيات 51 إلى 53]

وفي الحديث عن أبي الدرداء قال: «يلقى على أهل النار الجوع حتّى يعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون منه فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغني من جوع فيأكلون فلا يغني عنهم شيئا فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصّة فيغصّون به فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء فيستغيثون بالشراب فيرفع لهم الحميم بالكلاليب فإذا دنا من وجوههم شواها فإذا وقع في بطونهم قطّع أمعاءهم وما في بطونهم فيستغيثون بالملائكة فيقولون «ادعوا ربكم يخفّف عنا يوما من العذاب» «1» فيجيبونهم أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ. [سورة غافر (40) : الآيات 51 الى 53] إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا ويجوز حذف الضمة لثقلها فيقال: رسلنا. وَالَّذِينَ آمَنُوا في موضع نصب عطفا على الرسل. وفي الحديث عن أبي الدرداء وبعض المحدثين يقول عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ردّ عن عرض أخيه المسلم كان حقّا على الله جلّ وعزّ أن يردّ عنه نار جهنّم» «2» ثم تلا إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا وروى سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حمى مؤمنا من منافق يغتابه بعث الله جلّ وعزّ ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من النار، ومن ذكر مسلما بشيء ليشينه به وقفه الله جلّ وعزّ على جسر جهنّم حتّى يخرج مما قال» «3» . وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ قال سفيان الثوري: سألت الأعمش عن الأشهاد فقال: الملائكة صلّى الله عليه وسلّم، وقال زيد بن أسلم «4» : الأشهاد: الملائكة والنبيون والمؤمنون والأجساد. قال أبو إسحاق: الأشهاد: جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب، قال أبو جعفر: ليس باب فاعل أن يجمع على أفعال ولا يقاس عليه، ولكن ما جاء منه مسموعا أدّى كما سمع وكان على حذف الزائد. وأجاز الأخفش والفرّاء «5» : ويوم تقوم الأشهاد بالتاء على تأنيث الجماعة. وقرأ أبو عمرو وابن كثير لا تنفع الظالمين معذرتهم «6» قال بعض أهل اللغة: كان الأولى به أن يقرأ ويوم تقوم الأشهاد لأن الفعل يلي الأسماء، وأن يقرأ

_ (1) أخرجه الترمذي في سننه في صفة جهنم 10/ 54. (2) أخرجه الترمذي في سننه- البرّ والصلة 8/ 118. (3) أخرجه أبو داود في سننه- الأدب- الحديث رقم (4883) . (4) زيد بن أسلم أبو أسامة، مولى عمر بن الخطاب، وردت عنه ال في حروف القرآن، أخذ عنه شيبة ابن نصاح (136 هـ) ، ترجمته في غاية النهاية 1/ 296. (5) انظر معاني الفراء 3/ 10. [.....] (6) انظر تيسير الداني 155.

[سورة غافر (40) : آية 54]

لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ بالياء لأنه قد حال بين الفعل وبين الاسم. قال أبو جعفر: هذا لا يلزم لأن الأشهاد واحدهم شاهد مذكّر فتذكير الجميع فيهم حسن، ومعذرة مؤنّثة في اللفظ فتأنيثها حسن. [سورة غافر (40) : آية 54] هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) هُدىً في موضع نصب إلّا أنه يتبيّن فيه الإعراب لأنه مقصور. وَذِكْرى معطوف عليه ونصبهما على الحال. [سورة غافر (40) : آية 55] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ مصدر جعل ظرفا على السعة، والأبكار جمع بكر. [سورة غافر (40) : آية 56] إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) قال أبو إسحاق: المعنى أنّ الذين يجادلون في دفع آيات الله وقدره مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وقال سعيد بن جبير بِغَيْرِ سُلْطانٍ بغير حجة. والسلطان يذكّر ويؤنّث ولو كان بغير سلطان أتتهم، لكان جائزا. أَتاهُمْ من نعت سلطان وهو في موضع خفض. إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ قال أبو إسحاق: المعنى: ما في صدورهم إلّا كبر ما هم ببالغي إرادتهم فيه فقدره على الحذف. وقال غيره: المعنى ببالغي الكبر على غير حذف لأنّ هؤلاء قوم رأوا أنهم إن اتّبعوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قلّ ارتفاعهم ونقصت أحوالهم وأنهم يرتفعون إذا لم يكونوا تبعا فأعلم الله جلّ وعزّ أنهم لا يبلغون الارتفاع الذي أمّلوه بالتكذيب فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي من شرّهم. [سورة غافر (40) : آية 57] لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مبتدأ وخبره وهذه لام التوكيد، وسبيلها أن تكون في أول الكلام لأنها تؤكّد الجملة إلّا أنها تزحلف عن موضعها. كذا قال سيبويه: تقول: إن عمرا لخارج وإنما أخّرت عن موضعها لئلّا يجمع بينها وبين «إنّ» لأنهما يؤديان عن معنى واحد، كذلك لا يجمع بين إنّ وأنّ عند البصريين. وأجاز هشام: إنّ أنّ زيدا منطلق حقّ، فإن حذفت حقّا لم يجز عند أحد من النحويين علمته ومما دخلت اللام في خبره قوله جلّ وعزّ بعد هذا إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها.

[سورة غافر (40) : آية 60]

[سورة غافر (40) : آية 60] وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) ادْعُونِي أمر غير معرب ولا مجزوم عند البصريين إلّا أن تكون معه اللام، وعند الفراء مجزوم على حذف اللام «أستجب» مجزوم عند الجماعة لأنه بمعنى جواب الشرط وهذه الهمزة مقطوعة لأنها بمنزلة النون في نفعل، وسقطت ألف الوصل لأنه قد استغني عنها. [سورة غافر (40) : الآيات 61 الى 63] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) جَعَلَ هاهنا بمعنى خلق والعرب تفرق بين «جعل» إذا كانت بمعنى خلق وبين «جعل» إذا لم تكن بمعنى خلق، فلا تعديها إلّا إلى مفعول واحد، وإذا لم تكن بمعنى خلق عديتها إلى مفعولين نحو قوله جلّ وعزّ: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف: 3] وَالنَّهارَ عطف عليه مُبْصِراً على الحال. [سورة غافر (40) : آية 64] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وتروى عن ابن رزين فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بكسر الصاد وقد بيّن هذا سيبويه «1» ، وذكر أن الكسرة مجاورة للضمة لأن العرب تقول: ركبة وركبات ويحذفون الضمة فيقولون: ركبات وكذلك هند وهندات ويحذفون الكسرة فيقولون: هندات، فتجاورت الضمة والكسرة فجمعوا فعلة على فعل رشوة ورشى، فكذا عنده صورة وصور وهذا من أحسن كلام في النحو وأبينه، ونظيره أنهم يقولون «2» : فخذ وفخذ وعضد وعضد، فيحذفون الكسرة والضمة ولا يقولون: في جمل جمل فيحذفون الفتحة لخفتها، ويقولون: سورة وسورة ولا يقولون: في فعلة مفتوحة اللام إلا فعال نحو: جفنة وجفان وفعلة مثل: فعلة يقولون: فيها فعل. ألا ترى إلى تجانس فعلة وفعلة ومباينة فعلة لهما. [سورة غافر (40) : آية 65] هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) مُخْلِصِينَ على الحال. لَهُ الدِّينَ بوقوع الفعل عليه، والتقدير: قولوا الحمد لله ربّ العالمين.

_ (1) انظر الكتاب 3/ 440. (2) انظر 4/ 228.

[سورة غافر (40) : الآيات 67 إلى 70]

[سورة غافر (40) : الآيات 67 الى 70] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وهذا جمع الكثير، ويقال: شيوخا، وفي العدد القليل أشياخ والأصل: أشيخ مثل فلس وأفلس إلّا أن الحركة في الياء ثقيلة وقد كان فعل يجمع على أفعال وليست فيه ياء تشبيها بفعل، قالوا: زند وأزناد، فلما استثقلت الحركة في الياء شبّهوا فعلا بفعل فقالوا: شيخ أشياخ، وإن اضطرّ شاعر جاز أن يقول: أشيخ مثل: عين أعين إلّا أنه حسن في عين لأنها مؤنثة، والشيخ من جاوز أربعين سنة. وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ قال مجاهد: أي من قبل أن يكون شيخا. قال أبو جعفر: ولهذا الحذف ضمّت قبل، وقد ذكرنا العلة في اختيارهم الضمّ لها. قال مجاهد: وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى الموت للكلّ. [سورة غافر (40) : الآيات 71 الى 74] إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ عطف على الأغلال. قال أبو حاتم يُسْحَبُونَ مستأنف على هذه القراءة، وقال غيره: هو في موضع نصب على الحال والتقدير: إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل مسحوبين. وروى أبو الجوزاء «1» عن ابن عباس أنه قرأ وَالسَّلاسِلُ «2» بالنصب يُسْحَبُونَ والتقدير في قراءته: ويسحبون السلاسل. قال أبو إسحاق: من قرأ وَالسَّلاسِلُ «3» بالخفض فالمعنى عنده وفي السلاسل يسحبون وفي الحميم والسلاسل. وهذا في كتاب أبي إسحاق «في القرآن» كذا، والذي يبين لي أنه غلط لأن البيّن أنه يقدّره يسحبون في الحميم والسلاسل تكون السلاسل معطوفة على الحميم، وهذا خطأ لا نعلم أحدا يجيز: مررت وزيد بعمرو، وكذا المخفوض كلّه وإنما أجازوا ذلك في المرفوع أجازوا: قام وزيد عمرو، وهو بعيد في المنصوب نحو: رأيت وزيدا عمرا، وفي المخفوض لا يجوز لأن الفعل غير دال عليه. [سورة غافر (40) : آية 75] ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) أي ذلكم العذاب بما كنتم تفرحون بالمعاصي. وفي بعض الحديث لو لم يعذّب الله جلّ وعزّ إلّا على فرحنا بالمعاصي واستقامتها لنا. فهذا تأويل، وقيل: إن فرحهم

_ (1) أبو الجوزاء: أوس بن عبد الله الربعي البصري، أخذ عن عائشة وابن عباس (ت 83 هـ) . ترجمته في (خلاصته تذهيب الكمال 35) . (2) انظر البحر المحيط 7/ 454. (3) انظر البحر المحيط 7/ 454.

[سورة غافر (40) : آية 76]

بما عندهم أنهم قالوا للرسل عليهم السلام: نحن نعلم أنا لا نبعث ولا نعذّب. وكذا قال مجاهد في قوله جلّ وعزّ: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ قال بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي بما كنتم تأشرون وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ أي تبطرون. [سورة غافر (40) : آية 76] ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ في موضع رفع أي قبحت مثوى المتكبرين. [سورة غافر (40) : الآيات 77 الى 78] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ في موضع جزم بالشرط و «ما» زائدة للتوكيد وكذا النون وزال الجزم وبني الفعل على الفتح لأنه بمنزلة الشيئين الذي يضمّ أحدهما، إلى الآخر أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ عطف عليه. فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ الجواب مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ «من» في موضع رفع بالابتداء، وكذا وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ. [سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 80] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ قال أبو إسحاق: الأنعام هاهنا الإبل. لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ فاحتجّ من منع أكل الخيل وأباح أكل الجمال بأنّ الله تعالى قال في الأنعام وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وقال في الخيل والبغال والحمير. وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [النحل: 8] ولم يذكر إباحة أكلها. [سورة غافر (40) : آية 81] وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) َيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ نصبت أيّا بتنكرون لأن الاستفهام يعمل فيه ما بعده، ولو كان مع الفعل هاء لكان الاختيار الرفع في أيّ، ولو كان الاستفهام بالألف أو بهل وكان بعدها اسم بعده فعل معه هاء لكان الاختيار النصب. [سورة غافر (40) : آية 82] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ خبر كان ولم ينصرف لأنه على أفعل وزعم الكوفيون أن كل ما لا ينصرف يجوز أن ينصرف إلّا أفعل من كذا لا يجوز صرفه بوجه في شعر ولا غيره إذا كانت معه «من» . قال أبو العباس: ولو كانت «من» المانعة لصرفه لوجب أن لا

[سورة غافر (40) : آية 83]

تقول: مررت بخير منك وشر من عمرو، وكيف يجوز صرف ما لا ينصرف وفيه العلل المانعة من الصرف، وإذا كان ينصرف فما معنى قولنا لا ينصرف لعلة كذا. [سورة غافر (40) : آية 83] فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) في معناه ثلاثة أقوال: قول مجاهد: إنّ الكفار الذين فرحوا بما عندهم من العلم، وقالوا: نحن أعلم منهم لن نعذّب ولن نبعث وقيل: فرح الكفار بما عندهم من علم الدنيا نحو يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الروم: 7] . وقيل: الذين فرحوا الرّسل لمّا كذبهم قومهم أعلمهم الله جلّ وعزّ أنه مهلك الكافرين ومنجيهم والمؤمنين ففرحوا بما عندهم من العلم بنجاء المؤمنين، وحاق بالكفار ما كانوا يستهزئون أي عقاب استهزائهم بما جاءت به الرسل. [سورة غافر (40) : الآيات 84 الى 85] فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ سُنَّتَ اللَّهِ مصدر أي سنّ الله عزّ وجلّ في الكافرين أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب. وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ قال أبو إسحاق: وقد كانوا خاسرين قبل ذلك إلا أنه تبين لهم الخسران لمّا رأوا العذاب.

41 شرح إعراب سورة السجدة (فصلت)

41 شرح إعراب سورة السجدة (فصّلت) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) قال أبو إسحاق: تَنْزِيلٌ رفع بالابتداء وخبره كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قال: وهذا قول البصريين. قال الفراء «1» يجوز أن يكون رفعه على إضمار هذا قُرْآناً عَرَبِيًّا قال الكسائي والفراء «2» : يكون منصوبا بالفعل أي فصّلت كذلك قال: ويجوز أن يكون منصوبا على القطع. وقال أبو إسحاق يكون منصوبا على الحال أي فصّلت آياته في حال جمعه. وقول أخر: يكون منصوبا على المدح أي أعني قرانا عربيا. [سورة فصلت (41) : آية 4] بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) بَشِيراً وَنَذِيراً قال الكسائي والفراء «3» : ويجوز قرآن عربي بالرفع يجعلانه نعتا لكتاب، قالا مثل وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الأنعام: 92، 155] وقال غيرهما: دلّ قوله جلّ وعزّ: قُرْآناً عَرَبِيًّا على أنه لا يجوز أن يقال فيه شيء بالسريانية والنبطية، ودل أيضا على أنه يجب أن يطلب معانيه وغريبه من لغة العرب وكلامها، ودلّ أيضا على بطلان قول من زعم أن ثمّ معنيين معنى ظاهرا ومعنى باطنا لا يعرفه العرب في كلامها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فدلّ بهذا على أنه إنما يخاطب العقلاء البالغين، وإن من أشكل عليه شيء من القرآن فيجب أن يسأل من يعلم. فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ في معناه قولان: أحدهما لا يقبلون وكلّهم كذا إلّا من آمن والآخر يجتنبون سماع القرآن. [سورة فصلت (41) : آية 5] وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ جمع كنان أي عليها حاجز لا يصل إليها ما يقوله، وكذا

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 11. (2) انظر معاني الفراء 3/ 12. (3) انظر البحر المحيط 7/ 465.

[سورة فصلت (41) : آية 6]

وَفِي آذانِنا وَقْرٌ أي صمم والوقر الحمل. وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ قال أبو إسحاق: أي حاجز لا يجامعك على شيء مما تقوله فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ على الأصل، ومن قال: إنّا حذف النون تخفيفا. [سورة فصلت (41) : آية 6] قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) يُوحى إِلَيَّ أَنَّما في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسمّ فاعله. [سورة فصلت (41) : آية 7] الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) الَّذِينَ في موضع خفض نعت «للمشركين» . لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ في معناه أقوال: فمن أصحّ ما روي فيه وأحسنه استقامة إسناد ما رواه عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: التوحيد لله جلّ وعزّ. وروى الحكم بن أبان عن عكرمة لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ قال لا يقولون لا إله إلا الله. وقال الربيع بن أنس: لا يزكّون أعمالهم فينتفعون بها. وروى إسماعيل بن مسلم عن الحسن الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ. قال: عظم الله جلّ وعزّ شأن الزكاة فذكرها فالمسلمون يزكون والكفار لا يزكون والمسلمون يصلّون والكفار لا يصلّون. [سورة فصلت (41) : آية 8] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قال محمد بن يزيد: في معناه قولان يكون غَيْرُ مَمْنُونٍ غير مقطوع من قولهم مننت الحبل أي قطعته، وقد منّه السفر، أي قطعه ويكون معناه لا يمنّ عليهم. [سورة فصلت (41) : آية 9] قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ قال عبد الله بن سلام وكعب: هما يوم الأحد ويوم الاثنين. وقال مجاهد: كلّ يوم بألف سنة مما تعدون. وقال غيره: لو أراد عزّ وجلّ أن يخلقها في وقت واحد لفعل، ولكنه أراد ما فيه الصلاح ليتبين ملائكته أثر صنعته شيئا بعد شيء فيزداد في بصائرها. الأصل: أإنّكم، فإن خفّفت الهمزة الثانية جعلتها بين بين، وكتابه بألفين لا غير لأن الهمزة الثانية مبتدأة، والمبتدأة لا تكون إلا ألفا، ودخلت عليها ألف الاستفهام. فقولك أإنّكم كقولك هل إنّكم وأم إنّكم لا تكتب إلّا بألف. وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً قال الضحاك: تتّخذون معه أربابا والهة. قال أبو جعفر: واحد الأنداد ندّ وهو المثل أي تجعلون له أمثالا لاستحقاق. ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ أي ذلك الذي خلق الأرض في يومين والذي جعلتم له أندادا ربّ العالمين. قال الضحاك: العالمون

[سورة فصلت (41) : آية 10]

الجنّ والإنس والملائكة، وهذا من أحسن ما قيل في معناه لأن سبيل ما يجمع بالواو والنون والياء والنون أن يكون لما يعقل فهذا للملائكة والإنس والجن. [سورة فصلت (41) : آية 10] وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها قال كعب: مادت الأرض فخلق الله فيها الجبال يوم الثلاثاء، وخلق الرياح والماء الملح، وخلق من الملح العذب، وخلق الوحش والطير والهوام وغير ذلك يوم الأربعاء. قال أبو جعفر: واحد الرواسي راسية، ويقال: واحد الرواسي راس. وقيل للجبال: رواس لثباتها على الأرض. وَبارَكَ فِيها أي زاد فيها من صنوف ما خلق من الأرزاق وثبتها فيها والبركة: الخير الثابت وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها قال عكرمة: جعل في كلّ بلد ما يقوم به معيشة أهله فالسابري بسابور، والهروي بهراة، والقراطيس بمصر. فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ قال محمد بن يزيد: أي ذا وذاك في أربعة أيام. وقال أبو إسحاق: أي في تمام أربعة أيام. سَواءً مصدر عند سيبويه أي استوت استواء. قال سيبويه: وقد قرئ سَواءً لِلسَّائِلِينَ جعل سواء في موضع مستويات، كما تقول: في أربعة أيام تمام أي تامة، ومثله: رجل عدل أي عادل وسواء من نعت أيام، وإن شئت من نعت أربعة. والقراءة بالخفض مرويّة عن الحسن، وبالرفع عن أبي جعفر أي هي سواء. لِلسَّائِلِينَ فيه قولان: قال الضحاك: أي لمن سأل عن خلق هذا في كم كان هذا؟ والقول الآخر وقدّر فيها أقواتها للسائلين أي لجميع الخلق لأنّهم يسألون القوت. [سورة فصلت (41) : آية 11] ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ قالوا: في يوم الخميس فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً وعن سعيد بن جبير أنه قرأ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي أعطيا الطاعة. وقرأ قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «1» ولم يقل: طائعات ففي هذا ثلاثة أجوبة للكسائي قال: يكون أتينا بمن فينا طائعين يكون لما خبّر عنهن بالإتيان أجرى عليهن ما يجري على من يعقل من الذكور، والجواب الثالث أنه رأس آية. [سورة فصلت (41) : آية 12] فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ على قول من أنّث السماء، ومن ذكّر قال: سبعة سموات فأما قول بعض أهل اللغة أنه ما جمع بالتاء فهو بغير هاء، وإن كان الواحد

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 466، ومختصر ابن خالويه 133.

[سورة فصلت (41) : آية 13]

مذكرا، وحكى أخذت منه أربع سجلّات، بغير هاء فخطأ لا يعرفه أهل الإتقان من أهل العربية وقد حكوا: هذه أربعة حمّامات لأن الواحد حمّام مذكر، هكذا قال الأخفش سعيد وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها قيل: أمرها ملائكتها، وقيل: ما صنع فيها وعن حذيفة ما يدلّ على الجوابين، قال: وأوحى في كل سماء أمرها قال للسماء الدنيا: كوني زمردة خضراء، وجعل فيها ملائكة يسبّحون. وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً قال الأخفش: أي وحفظناها حفظا. [سورة فصلت (41) : آية 13] فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) وقرأ أبو عبد الرحمن والنخعي صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ ولم تأتهم الصاعقة لأنهم لم يعرضوا كلهم وأعرضوا للكل، وكل من خوطب بهذا أسلم إلّا من قتل منهم. وقراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عتبة بن الوليد كما قرئ على أحمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال: حدّثنا محمد بن فضيل قال: حدثنا الأجلح بن عبد الله عن الذيّال بن حرملة عن جابر بن عبد الله قال: قال أبو جهل يوما، والملأ من قريش: إنه قد التبس علينا أمر محمد فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فأتاه فكلّمه ثم أتانا ببيان من أمره فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت السحر والكهانة والشعر وعلمت من ذلك علما وما يخفى عليّ إن كان كذلك فأتاه عتبة فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه، فقال له عتبة: يا محمّد أأنت خير أم هاشم؟ أأنت خير أم عبد المطلب؟ أأنت خير أم عبد الله؟ لم يأتوا بمثل ما أتيت به فبم تشتم الهتنا وتضلّل آباءنا؟ فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا لك اللواء بيننا بالرئاسة فكنت ما بقيت، وإن كان بك الباءة زوّجناك عشر نسوة تختار هن من أي بنات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ساكت لا يتكلّم فلما فرغ عتبة من كلامه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بسم الله الرّحمن الرّحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصّلت آياته قرانا عربيا» ثمّ قرأ إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكفّ ثم رجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فاحتبس عنهم فقال أبو جهل: يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلّا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلّا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه فأتوا عتبة فخرج إليهم فقال له أبو جهل والله يا عتبة ما نظنّك إلّا قد صبأت إلى محمد وأعجبك أمره، وما نرى ذلك إلّا من حاجة أصابتك فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب عتبة وأقسم ألّا يكلّم محمدا أبدا، وقال لهم: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكنّي أتيته فقصّ عليهم ما قال له: وما قال لرسول الله، ثم قال: جاءني والله بشيء ما هو بسحر ولا كهانة قرأ علي «بسم الله الرّحمن الرّحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصّلت آياته قرانا عربيا» إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ

[سورة فصلت (41) : الآيات 14 إلى 15]

أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) فأمسكت على فيه، وناشدته الرحم أن يكفّ، وقد علمتم أنّ محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب فناشدته الرحم أن يكفّ. قال الضحاك: صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ أي عذابا- وقال محمد بن يزيد: الصاعقة معناها في كلام العرب المبيدة المهلكة المخمدة فربّما استعملت للإخماد من غير إهلاك ومنه سمّي الصّعق بن حرب لأنه ضرب ضربة فخمد ثم أفاق. [سورة فصلت (41) : الآيات 14 الى 15] إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ في معناه ثلاثة أقوال: مذهب الضحاك: أن الرسل الذين بين أيديهم من قبلهم، والذين من خلفهم الذين بحضرتهم. قال أبو جعفر: فيكون الضمير الذي في خلفهم يعود على الرسل، هذا قول وهو مذهب الفراء. وقيل: من بين أيديهم الذين بحضرتهم، ومن خلفهم الذين من قبلهم. وقيل: هما على التكثير أي جاءتهم الرسل من كلّ مكان بشيء واحد، وهو ألا يعبدوا إلّا الله. [سورة فصلت (41) : آية 16] فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) قرأ أبو عمرو ونافع فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ «1» بإسكان الحاء، وأكثر القراء بكسرها فيقول: نَحِساتٍ واحتجّ أبو عمرو في التسكين على إجماعهم بتسكين الحاء في قولهم: نحس وفي قوله جلّ وعزّ: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [القمر: 19] وردّ عليه أبو عبيد هذا الاحتجاج لأن معنى فِي يَوْمِ نَحْسٍ في يوم شؤم وأن معنى فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ في أيام مشؤومات، والقول كما قال أبو عبيد. روى جويبر عن الضحّاك «في أيام نحسات» قال: مشؤومات عليهم، ويحتمل قراءة من قرأ فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ بإسكان الحاء أن يكون الأصل عنده نحسات ثم حذف الكسرة فيكون كمعنى نحسات، ويحتمل أن يكون وصفها بما هو فيها مجازا واتساعا. [سورة فصلت (41) : الآيات 17 الى 18] وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ رفعت ثمود بالابتداء ولم تصرفه على أنه اسم للقبيلة

_ (1) انظر تيسير الداني 156.

[سورة فصلت (41) : الآيات 19 إلى 22]

والمعروف من قراءة الأعمش وَأَمَّا ثَمُودُ «1» بالصرف على أنه اسم للحيّ إلّا أن أبا حاتم روى عن أبي زيد عن المفضّل عن الأعمش وعاصم أنهما قرا وأمّا ثمودا بالنصب. وهذه القراءة معروفة عن عبد الله بن أبي إسحاق، والنصب بإضمار فعل على قول يونس قال: زيدا ضربته، وذلك بعيد عند سيبويه. وعلى ذلك أنشد: [المتقارب] 395- فأمّا تميم تميم بن مر ... فألفاهم القوم روبى نياما «2» قال الضحاك: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أخرجنا لهم الناقة تبيانا وتصديقا لصالح صلّى الله عليه وسلّم. فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى قال: أي استحبّوا الكفر على الإيمان. [سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 22] وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) ويوم نحشر أعداء الله إلى النّار هذه قراءة نافع، وأما سائر القراء أبو عمرو وأبو جعفر والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي فقرؤوا وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ «3» على ما لم يسمّ فاعله. وهذا اختيار أبي عبيد وعارض نافعا في قراءته منكرا فقال بعده فَهُمْ يُوزَعُونَ ولم يقل نزعهم أي يحشر أولى. قال أبو جعفر: وهذه المعارضة لا تلزم، والقراءتان حسنتان، والمعنى فيهما واحد غير أن قائلا لو قال قراءة نافع أولى بما عليها من الشواهد لأنه قد أجمع القراء على النون في قوله جلّ وعزّ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مريم: 85] ومن الدليل على أن معارضته لا تلزم قول الله جلّ وعزّ: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف: 47] ولم يقل: وحشروا، وبعده عُرِضُوا لما لم يسمّ فاعله. فهذا مثل قراءة نافع ويوم نحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون والإمالة في قوله جلّ وعزّ: إِلَى النَّارِ حسنة لأن الراء مكسورة وكسرتها بمنزلة كسرتين لأن فيها تكريرا. هذا قول الخليل وسيبويه «4» فحسن معها إمالة الألف للمجانسة. فأما قول من يقول: تمال الراء وتمال الدال فلا تخلو من إحدى جهتين من الخطأ والتساهل: لأن الإمالة إنما تقع على الألف لأنها حرف هوائي فيتهيأ فيه ما لا يتهيأ في غيره. ويقال: وزعته أزعه والأصل أوزعه فحذفت الواو وفتحت لأن فيه حرفا من حروف الحلق. قال الضحاك:

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 14، والبحر المحيط 7/ 47. (2) الشاهد لبشر بن أبي خازم في ديوانه ص 190، والأزهيّة ص 146، وجمهرة اللغة 1021، وشرح أبيات سيبويه 1/ 280، والكتاب 1/ 134، ولسان العرب (روب) ، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص 7، وأمالي ابن الحاجب 1/ 334، ومجالس ثعلب ص 230، والمحتسب 1/ 189، والمعاني الكبير 937. (3) انظر البحر المحيط 7/ 471. [.....] (4) انظر الكتاب 4/ 575.

[سورة فصلت (41) : آية 23]

يُوزَعُونَ يدفعون. وقال مجاهد وأبو رزين: يُوزَعُونَ يحبس أولهم على اخرهم. ويروى عن ابن عباس يُوزَعُونَ، قال: يحبس أولهم على اخرهم حتّى يتتامّوا فيرمى بهم في النار. قال أبو جعفر: والدليل على هذا الجواب أنّ بعده حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ وهذا من معجز القرآن لأن فيه حذفا واختصارا قد دلّ عليه المعنى، والمعنى حتّى إذا جاءوا النار وصاروا بحضرتها سئلوا عن كفرهم ومعاصيهم فأنكروها بعد أن شهد عليهم النبيون والمؤمنون. شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ قال الفرّاء «1» : الجلد هاهنا الذكر كنّى الله جلّ وعزّ عنه كما كنّى في قوله جلّ وعزّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة: 235] أي نكاحا، وقال غيره: هي جلودهم بعينها جعل الله عزّ وجلّ فيها ما ينطق فشهدت عليهم، قال جلّ وعزّ: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ أي ما كنتم تقدرون على أن تستروا معاصيكم عن سمعكم وأبصاركم وجلودكم لأنكم بهن تعملون المعاصي و «أن» في موضع نصب أي من أن. [سورة فصلت (41) : آية 23] وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ ابتداء وخبر، ويجوز أن يكون ظنكم بدلا من ذلكم وأَرْداكُمْ خبر ذلكم، وعلى الجواب الأول أرداكم خبر ثان فأما قول الفرّاء: يكون أرداكم في موضع نصب مثل: هذا زيد قائما، فغلط لأن الفعل الماضي لا يكون حالا. قال أبو العباس: أرداكم من الردى وهو الهلاك. [سورة فصلت (41) : آية 24] فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً في موضع جزم بالشرط، وجوابه الجملة الفاء وما بعدها، وكذا وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا. [سورة فصلت (41) : آية 25] وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ عن ابن عباس أن القرناء الشياطين. وهي آية مشكلة فمن الناس من يقول: معنى هذا التحلية للمحنة وقيل: قيضنا لهم قرناء من الشياطين في النار فَزَيَّنُوا لَهُمْ أعمالهم في الدنيا. فإن قيل: فكيف يصحّ هذا والفاء تدلّ على أن الثاني بعد الأول؟ قيل: يكون المعنى: قدّرنا عليهم هذا وحكمنا به. ومن أحسن ما قيل في الآية أن المعنى أحوجناهم إلى الإقرار والاقتران فأحوجنا الغنيّ إلى الفقير

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 16.

[سورة فصلت (41) : الآيات 26 إلى 27]

ليستعين به وأحوجنا الفقير إلى الغني لينال منه، وكذا الزوجان كل واحد منهما محتاج إلى صاحبه فهذا معنى الاقتران وحاجة بعضهم إلى بعض. قيض الله جلّ وعزّ لهم ذلك ليتعاونوا على طاعته فزيّن بعضهم لبعض المعاصي قال جلّ وعزّ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ فيه أقوال: يروى عن ابن عباس ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ التكذيب بالآخرة والبعث والجنة والنار، وَما خَلْفَهُمْ الترغيب في الدنيا والتسويف بالمعاصي، وقيل فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي ما تقدّمهم من المعاصي وَما خَلْفَهُمْ ما يعمل بعدهم أو بحضرتهم، وقيل: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ما هم فيه وَما خَلْفَهُمْ ما عزموا أن يعملوه، وهذا من أبينها. وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وهو أن الله جلّ وعزّ يعذّب من عمل مثل عملهم فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ أي هم داخلون في أمم قد حقّ عليهم هذا القول. فهذا قول بين، وقد قيل: «في» بمعنى مع كما قال: [الطويل] 396- وهل ينعمن من كان أخر عهده ... ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال «1» [سورة فصلت (41) : الآيات 26 الى 27] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ وهذا من لغي يلغى، وهي اللغة الفصيحة، ويقال: لغى يلغى لأن فيه حرفا من حروف الحلق، ولغا يلغو، وعلى هذه اللغة قرأ ابن أبي إسحاق وعيسى وَالْغَوْا فِيهِ بضم الغين. قال محمد بن يزيد: اللغو في كلام العرب ما كان على غير وجهه، ومنه وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [القصص: 55] إنما هو ما يصدّ عن الخير ويدعو إلى الشر أي هو مما ينبغي أن يطّرح، ولا يعرّج عليه كما أن اللغو في الكلام ما لا يفيد معنى. ويروى عن عبد الله بن عباس في معنى وَالْغَوْا فِيهِ أن أبا جهل هو الذي قال هذا، قال: فإذا رأيتم محمدا يصلّي فصيحوا في وجهه، وشدّوا أصواتكم بما لا يفهم حتّى لا يدري ما يقول، ويروى أنهم إنّما فعلوا هذا لما أعجزهم القرآن، ورأوا من تدبّره آمن به لإعجازه بفصاحته وكثرة معانيه وحسنه ونظمه ورصفه فقالوا: إذا سمعتموه يقرأ فخلّطوا عليه القراءة بالهزء وما لا يحصل، وذلك اللغو لعلكم تغلبونه. [سورة فصلت (41) : الآيات 28 الى 29] ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ قال أبو إسحاق: النار بدل من جزاء قال: ويجوز أن يكون رفعها بإضمار مبتدأ أيضا تبيينا عن الجزاء.

_ (1) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 27، وأدب الكاتب ص 518، وجمهرة اللغة 1315، وخزانة الأدب 1/ 62، والجنى الداني 252، وجواهر الأدب ص 230، وتاج العروس (حول) و (في) ، والدرر 4/ 149، وشرح شواهد المغني 1/ 486، وبلا نسبة في الخصائص 2/ 313، ورصف المباني ص 391، وشرح الأشموني 2/ 292، ولسان العرب (فيا) ومغني اللبيب 1/ 169، وهمع الهوامع 2/ 30.

[سورة فصلت (41) : آية 30]

[سورة فصلت (41) : آية 30] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ويجوز في غير القرآن حذف إحدى التاءين ولا يجوز الإدغام للبعد. و «أن» في موضع نصب أي بأن لا تخافوا ولا تحزنوا. ويروى عن ابن عباس أن هذا في يوم القيامة. قال زيد بن أسلم: هذا عند الموت قال: والبشارة في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث. [سورة فصلت (41) : آية 31] نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ أي نحوطكم ونحفظكم بأمر الله عزّ وجلّ، وفي الآخرة نطامنكم ونرشدكم. وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ . قال عكرمة عن ابن عباس قال: إذا أراد أحدهم الشيء واشتهاه في نفسه وجده حيث تناله يده. [سورة فصلت (41) : آية 32] نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) نُزُلًا قال الأخفش: هو منصوب من جهتين: إحداهما أن يكون مصدرا أي أنزلهم الله ذاك نزلا، والأخرى أن يكون في موضع الحال أي منزلين نزلا. [سورة فصلت (41) : آية 33] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا منصوب على البيان. وقد ذكرنا فيه أقوالا فمن أجمعها ما قاله الضحاك قال: هو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ومن اتّبعهم إلى يوم القيامة إلّا أن الحديث عن عائشة رضي الله عنها فيه توقيف أنّ هذه الآية نزلت في المؤذنين، وهي لا تقول إلّا ما تعلم أنّه كما قالت لأن مثل هذا لا يؤخذ بالتأويل إذا قيل نزل في كذا، كما قرئ على أبي بكر محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف القطّان قال: حدّثنا عبيد الله بن الوليد عن محمد بن نافع عن عائشة قالت: نزلت في المؤذنين يعني قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ. وقرئ على أحمد بن محمد الحجاج عن يحيى بن سليمان عن وكيع قال: حدّثنا عبيد الله بن الوليد الوصّافي عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي ومحمد بن نافع عن عائشة في هذه الآية قالت: نزلت في المؤذّنين وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ قال يحيى بن سليمان: وحدّثنا حفص بن عمر قال: حدّثنا الحكم بن أبان عن عكرمة يرفعه قال: أول من يقضى له بالرحمة يوم القيامة المؤذّنون وأول المؤذّنين مؤذّنو مكّة، قال: والمؤذّنون أطول الناس

[سورة فصلت (41) : آية 34]

أعناقا يوم القيامة والمؤذّنون إذا خرجوا من قبورهم أذّنوا فنادوا بالأذان، والمؤذنون لا يدوّدون في قبورهم. قال عكرمة: وقال عمر بن الخطاب رحمه الله قال: ما أبالي لو كنت مؤذّنا أن لا أحجّ ولا أعتمر ولا أجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ، قال: وقالت الملائكة عليهم السلام لو كنّا نزولا في الأرض ما سبقنا إلى الأذان أحد، وبإسناده عن عكرمة في قوله جلّ وعزّ: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ يعني المؤذنين وَعَمِلَ صالِحاً قال: صلّى وصام. قال يحيى بن سليمان: وحدّثنا جرير عن فضيل بن أبي رفيدة قال: قال لي عاصم بن هبيرة وكان من أصحاب ابن مسعود، وكنت مؤذنا: إذا فرغت من الأذان وقلت لا إله إلّا الله فقل وأنا من المسلمين ثم قرأ هذه الآية: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. إنّني على الأصل، ومن قال: «إنّي» حذف لاجتماع النونات، والتقدير عند جماعة من أهل العربية: وقال إنني مسلم من المسلمين، وكذا قال هشام في وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ أي ناصح من الناصحين. وقال بعض أهل النظر: دلّ هذا من قوله جلّ وعزّ أنه حسن أن يقول أنا مسلم بلا استثناء أي قد استسلمت لله جلّ وعزّ وقبلت أمره فحكم لي بأنّي مسلم. [سورة فصلت (41) : آية 34] وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ قال عطاء: الحسنة لا إله إلّا الله، والسيئة الشّرك ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بالحال التي هي أحسن كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. قال أبو زيد: «الحميم» عند العرب: القريب. وقال محمد بن يزيد: «الحميم» الخاص ومنه قول العرب عنده: الخاصة والعامة. [سورة فصلت (41) : آية 35] وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا الكناية عن الحال وعن هذه الكلمة. [سورة فصلت (41) : الآيات 36 الى 38] وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ في موضع جزم بالشرط ودخلت النون توكيدا. وقد ذكرنا خَلَقَهُنَّ وعلى أي شيء يعود الضمير. قال محمد بن يزيد: يَسْأَمُونَ يملّون، وأنشد بيت زهير: [الطويل]

[سورة فصلت (41) : آية 39]

397- ومن لا يزل يستحمل النّاس أمره ... ولا يعفها يوما من الدّهر يسأم «1» أي يملّ. [سورة فصلت (41) : آية 39] وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ في موضع رفع بالابتداء عند سيبويه: «2» وإن كان لا يجيز أن يكون «أن» في أول الكلام ولكن لمّا كان قبلها شيء صلح الابتداء بها والرفع عند المازني بإضمار فعل فيما لا يجوز أن يبتدأ به كما تقول: كيف زيد؟ والتقدير عنده: كيف استقرّ زيد. «خاشعة» منصوبة على الحال: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ من ربا يربو فحذفت الألف لسكونها وسكون التاء بعدها، ويقال: في تثنية ربا ربوان كذا قال سيبويه «3» نصا، والكوفيون يقولون: ربيان بالياء، ويكتبون ربا بالياء. قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يقول: ليس يكفيهم أن يغلطوا في الخطّ حتّى يتجاوزوا ذلك إلى التثنية. قال أبو جعفر: والقرآن يدلّ على ما قال البصريون قال الله جلّ وعزّ: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ [الروم: 39] وقراءة أبي جعفر اهتزّت وربأت وهو مأخوذ من الربيئة، يقال: ربأ يربأ فهو رابئ وربؤ يربؤ فهو ربيء وربيئة على المبالغة إذا ارتفع إلى موضع عال يرقب، فمعنى وربأت ارتفعت. إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى حذفت الضمة من الياء لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين. [سورة فصلت (41) : آية 40] إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) ويُلْحِدُونَ من ألحد وهي بالألف أكثر وأشهر. [سورة فصلت (41) : آية 41] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ في خبر «إنّ» هاهنا أقوال فمن مذاهب الكسائي أنه قد يقدم قبلها ما يدلّ على الخبر من قوله جلّ وعزّ: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ وغيره، وقيل الخبر أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وقيل المعنى: إنّ الّذين كفروا بالذكر لما جاءهم قد كفروا بمعجز ودلّ على هذا أنّ بعده وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ وهذا مذهب الفراء «4» على معنى قوله، وقيل الخبر محذوف فمعناه أهلكوا.

_ (1) الشاهد لزهير في ديوانه 32، والكتاب 3/ 99، وخزانة الأدب 9/ 90، والدرر 5/ 91، وشرح أبيات سيبويه 2/ 64، ولسان العرب (حمل) ، وهمع الهوامع 2/ 63، وبلا نسبة في المقتضب 2/ 65. (2) انظر الكتاب 3/ 141. (3) انظر الكتاب 3/ 428. (4) انظر معاني الفراء 3/ 19.

[سورة فصلت (41) : آية 42]

[سورة فصلت (41) : آية 42] لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ مذهب الضحاك وسعيد بن جبير أن معناه لا يأتيه كتاب من قبله فيبطله ولا من بعده. قال أبو جعفر: والتقدير على هذا لا يأتيه الأمر بالباطل من هاتين الجهتين أو لا يأتيه البطول، ويكون فاعل بمعنى المصدر مثل عافاه الله جلّ وعزّ عافية، وقيل: الباطل هاهنا الشيطان وقد ذكرنا هذا القول تَنْزِيلٌ نعت لكتاب أو بإضمار مبتدأ. [سورة فصلت (41) : آية 43] ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ قال أبو صالح أي من الأذى. [سورة فصلت (41) : آية 44] وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا جعلنا هاهنا متعدّية إلى مفعولين وقد ذكرنا هذه الآية قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ «هدى» في موضع رفع على أنه خبر هو «وشفاء» معطوف عليه وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى. حدّثنا محمد بن الوليد عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد عن حجاج عن شعبة عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قتّة عن ابن عباس رحمه الله ومعاوية وعمرو بن العاص رحمهم الله أنّهم قرءوا وهو عليهم عم «1» وقرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن أبي إسحاق قال: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان بن عيينة قال: سمعت عمرو بن دينار يحدث عن ابن عباس أنه قرأ وهو عليهم عم «2» هذه القراءة مخالفة للمصحف فإن قال قائل: الإسناد صحيح، قيل له: الإجماع أولى على أنّ الإسناد فيه شيء وذلك أنّ عمرو بن دينار لم يقل: سمعت ابن عباس فيخاف أن يكون مرسلا، وسليمان بن قتّة ليس بنظير عمرو بن دينار على أن يعقوب القارئ على محله من الضبط قد قال في هذا الحديث: ما أدري أقرءوا وهو عليهم عم أو وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى على أنه فعل ماض. ومع إجماع الجمع سوى من ذكرناه. والذي في المصحف أنّ المعنى بعمى أشبه لأنه قال جلّ وعزّ: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ فالأشبه بهذا أعمى، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ «الذين» في موضع رفع بالابتداء وخبره في الجملة. ومن العرب من يقول: اللذون في موضع الرفع. والذين أكثر وقد ذكرنا

_ (1) انظر البحر المحيط 7/ 481، ومعاني الفراء 3/ 20. (2) انظر البحر المحيط 7/ 481، ومعاني الفراء 3/ 20.

[سورة فصلت (41) : آية 45]

العلة «1» فيه. وَشِفاءٌ في موضع رفع بالابتداء، والجملة خبره يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ على التمثيل أي لا يتفهّمون ما يقال لهم والعرب تقول لمن يتّفهم: هو يخاطب من قريب. قال مجاهد: مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي بعيد من قلوبهم. [سورة فصلت (41) : آية 45] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مفعولان. فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ «كلمة» مرفوعة بالابتداء عند سيبويه «2» ، والخبر محذوف لا يظهر. وبعض الكوفيين يقول: لولا من الحروف الرافعة. فأما معنى كلمة: فقيل: إنّها تأخير عقوبتهم إلى يوم القيامة وترك أخذهم على المعصية لمّا علم الله عزّ وجلّ في ذلك من الصلاح لأنهم لو أخذوا بمعاصيهم في وقت العصيان لانتهوا ولم يكونوا مثابين ولا ممتحنين على ذلك وفي الحديث المسند «لولا أنكم تذنبون لأتى الله بقوم يذنبون فيغفر لهم» «3» أي أنتم تمتحنون وتؤخّر عقوبتكم لتتوبوا. [سورة فصلت (41) : آية 46] مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ شرط وجوابه الفاء وما بعدها. [سورة فصلت (41) : آية 47] إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ هذه قراءة أهل المدينة «4» ، وقراءة أهل الكوفة من ثمرة «5» وهو اختيار أبي عبيد لأنّ ثمرة تؤدّي عن ثمرات هذا احتجاجه فحمل ذلك على المجاز، والحقيقة أولى وأمضى. فإنه في المصاحف بالتاء. فالقراءة بثمرات أولى. مِنْ أَكْمامِها قال محمد بن يزيد: وهو ما يغطيها، قال: والواحد كمّ ومن قال في الجمع: أكمّة قال في الواحد: كمام. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي أي على قولكم قالُوا آذَنَّاكَ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس «آذنّاك» يقول أعلمناك. ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ «من» زائدة للتوكيد أي ما منا شاهد يشهد أنّ معك إلها.

_ (1) مرّ في إعراب الآية 49- غافر. (2) انظر الإنصاف مسألة (10) . (3) أخرجه الترمذي في سننه- صفة الجنة 10/ 4. (4) انظر تيسير الداني 157، وكتاب السبعة لابن مجاهد 577. (5) انظر تيسير الداني 157، وكتاب السبعة لابن مجاهد 577. [.....]

[سورة فصلت (41) : الآيات 48 إلى 51]

[سورة فصلت (41) : الآيات 48 الى 51] وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ قال الأخفش: ظنّوا استيقنوا. قال: و «ما» حرف فلذلك لا تعمل فيه ظنوا فلذلك ألغي. قال أبو عبيدة «1» : حاص يحيص إذا حاد، وقال غيره: المحيص المذهب الذي ترجى فيه النجاة. [سورة فصلت (41) : آية 52] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ في الكلام حذف أي إن كان من عند الله ثم كفرتم به أمصيبون أنتم في ذلك؟ [سورة فصلت (41) : آية 53] سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ في معناه ثلاثة أقوال: منها سنريهم ما خبّرهم به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سيكون من فتن وفساد وغلبة الروم وفارس وغير ذلك من إخباره حتّى يتبيّن لهم أن كل ما أخبر به هو الحق، فذا قول، وقيل: المعنى: سنريهم اثار صنعتنا في الآفاق الدالة على أنّ لها صانعا حكيما وَفِي أَنْفُسِهِمْ من أنهم كانوا نطفا ثم علقا ثم مضغا إلى أن بلغوا وعقلوا وميّزوا حتّى يتبين لهم أن الله هو الحق لا ما يعبدونه من دونه. والقول الثالث رواه الثوري عن عمرو بن قيس عن المنهال وبعض المحدثين يقول عن المنهال عن سعيد بن جبير أو غيره في قول الله جلّ وعزّ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ قال: ظهور النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الناس «وفي أنفسهم» قال: ظهوره عليهم. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب هذا، ونسق الكلام يدلّ عليه، والقول الأول لا يصح لأنه لم يتقدم للأخبار ذكر فيكنّى عنها أعني أَنَّهُ الْحَقُّ. وفي المضمر ثلاثة أقوال سوى من قال: إنه للخبر: أحدها: أن يكون يعود على اسم الله جلّ وعزّ، والثاني: أن يكون يعود على القرآن فقد تقدّم ذكره في قوله جلّ وعز: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ والثالث: أن يعود على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا أشبهها بنسق الكلام. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فيه ثلاثة أقوال: منها أن يكون المعنى: أو لم يكف بربك بما دلّ به من حكمته وخلقه ففي ذلك كفاية، والثاني: أو لم يكف بربك في معاقبته هؤلاء الكفّار المعاندين ففي الله جلّ وعزّ كفاية منهم، والثالث: أن المعنى: أو لم يكفك يا محمّد ربك أنه شاهد على أعمال هؤلاء عالم بما يخفون فهذا يكفيك وهذا أشبه الأقوال بنسق الآية، والله جلّ وعزّ أعلم. وفي موضع «أنه» من الإعراب ثلاثة أقوال: يجوز أن يكون في موضعها رفعا

_ (1) انظر مجاز القرآن 2/ 198.

[سورة فصلت (41) : آية 54]

بمعنى أو لم يكف أنه على كلّ شيء شهيد على البدل من ربك على الموضع، والموضع موضع رفع بإجماع النحويين، ويجوز أن يكون موضعها خفضا على اللفظ، ويجوز أن يكون موضعها نصبا بمعنى لأنه على كل شيء شهيد. [سورة فصلت (41) : آية 54] أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أي هم في شكّ من لقاء ما وعدوا به من العقاب «وألا» كلمة تنبيه يؤكد بها صحة ما بعدها أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ أي قد أحاط به علما مما يشاهد ويغيب. والتقدير محيط بكلّ شيء جلّ وعزّ. قال في الأصل تمّ الجزء الحادي عشر من أجزاء إعراب القرآن الذي عني بجمعه وتبيينه وشرحه أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس رحمه الله والحمد لله رب العالمين.

42 شرح إعراب سورة حم عسق (الشورى)

42 شرح إعراب سورة حم عسق (الشورى) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الكاف من «كذلك» في موضع نصب نعت لمصدر، واسم الله عزّ وجلّ مرفوع بيوحي. وأصح ما قيل في المعنى أنه كوحينا إليك وإلى الذين من قبلك يوحى إليك، وأبو عبيدة «1» يجيز أن يجعل ذلك بمعنى هذا ومن قرأ يُوحِي إِلَيْكَ «2» جعل الكاف في موضع رفع بالابتداء، والجملة الخبر، واسم ما لم يسمّ فاعله مضمر في يوحى، واسم الله عزّ وجلّ مرفوع بالابتداء أو بإضمار فعل أي يوحيه إليك الله جلّ وعزّ. ومن قرأ نوحي «3» بالنون رفع اسم الله جلّ وعزّ بالابتداء و «العزيز الحكيم» خبره، ويجوز أن يكون العزيز الحكيم نعتا والخبر لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. [سورة الشورى (42) : آية 5] تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ «4» أصحّ ما قيل فيه أن المعنى من أعلاهن، وقيل: من فوق الأرضين. وسمعت علي بن سليمان يقول: الضمير للكفار أي يتفطرن من فوق الكفار لكفرهن. قال أبو جعفر: ولا نعلم أحدا من النحويين أجاز في بني أدم رأيتهنّ إلّا أن يكون للمؤنث خاصة. فهذا يدلّ على فساد هذا القول، وأيضا فلم

_ (1) انظر مجاز القرآن 1/ 28. (2) انظر البحر المحيط 7/ 486، وهذه قراءة مجاهد وابن كثير وعباس ومحبوب كلّهم عن أبي عمرو. (3) انظر البحر المحيط 7/ 486. (4) انظر تيسير الداني 157، والبحر المحيط 7/ 486.

[سورة الشورى (42) : آية 6]

يتقدّم للكفار ذكر يكنى عنهم. وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ يراد به خاصّ، ولفظه عامّ أي للمؤمنين، ودلّ عليه إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. [سورة الشورى (42) : آية 6] وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ رفع بالابتداء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ مبتدأ وخبره في موضع خبر «الذين» . [سورة الشورى (42) : آية 7] وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها «من» في موضع نصب والمعنى لتنذر أهل أم القرى ومن حولها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أي يوم يجمع فيه الناس لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ على الابتداء. وأجاز الكسائي والفراء «1» نصب فريق بمعنى وتنذر فريقا في الجنة وفريقا في السعير يوم الجمع. [سورة الشورى (42) : آية 8] وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي مؤمنين قيل: المعنى لو شاء الله لألجأهم إلى الإيمان فلم يكن لهم ثواب فيه فامتحنهم بأن رفع عنهم الإلجاء وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وهم المؤمنون وَالظَّالِمُونَ مرفوعون بالابتداء، وفي موضع أخر وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً [الإنسان: 31] والفرق بينهما أنّ ذاك بعده أعدّ وليس بعد هذا فعل أي لما أضمر لذاك فعل وواعد الظالمين. [سورة الشورى (42) : آية 9] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ تكون هُوَ زائدة لا موضع لها من الإعراب، ويجوز أن تكون اسما مرفوعا بالابتداء والْوَلِيُّ خبرها. [سورة الشورى (42) : آية 10] وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أي مردود إلى الله إمّا بنصّ وإمّا بدليل. [سورة الشورى (42) : آية 11] فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يكون مرفوعا بإضمار مبتدأ ويكون نعتا. قال الكسائي: ويجوز فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بالنصب على النداء، وقال غيره: على المدح. ويجوز

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 22.

[سورة الشورى (42) : آية 12]

الخفض على البدل من الهاء الّتي في عليه يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال شعبة عن منصور: «يذرؤكم» يخلقكم، وقال أبو إسحاق: يذرؤكم يكثركم، وجعل «فيه» بمعنى به أي يكثركم بأن جعلكم أزواجا، وقال علي بن سليمان: «يذرؤكم» ينبتكم من حال إلى حال أي ينبتكم في الجعل. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب الذي رواه شعبة عن منصور لأن أهل اللغة المتقدمين منهم أبو زيد وغيره رووا عن العرب: ذرأ الله عزّ وجلّ الخلق يذرؤهم أي خلقهم، وقول أبي إسحاق وأبي الحسن على المجاز، والحقيقة أولى ولا سيّما مع جلالة من قال به، وإنه معروف في اللغة. ويكون فيه على بابها أولى من أن تجعل بمعنى به، وإن كان يقال: فلان بمكة فيكون المعنى فالله جعل لكم من أنفسكم أزواجا يخلقكم في الأزواج، وذكر على معنى الجمع. ويكون التقدير: وجعل لكم من الأنعام أزواجا أي ذكرانا وإناثا. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أي لا يقدر أحد على هذا غيره والكاف في كَمِثْلِهِ زائدة للتوكيد لا موضع لها من الإعراب لأنها حرف، ولكن موضع كَمِثْلِهِ موضع نصب. والتقدير: ليس مثله شيء. وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. [سورة الشورى (42) : آية 12] لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لَهُ مَقالِيدُ يقول مفاتيح. إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ خبر «إنّ» والتقدير: إنه عليم بكلّ شيء. [سورة الشورى (42) : آية 13] شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً «ما» في موضع نصب بشرع. وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ عطف عليها. وَما وَصَّيْنا في موضع نصب أيضا أي وشرع لكم. وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ «أن» في موضع نصب على البدل من «ما» أي شرع لكم أن أقيموا الدّين ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي هو وأن أقيموا الدّين ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل من الهاء أي شرع لكم أن تقيموا لله الدّين الّذي ارتضاه ولا تتفرّقوا فتؤمنوا ببعض الرسل وتكفروا ببعض فهذا الذي شرع لكم لجميع الأنبياء صلوات الله عليهم أن يقيموا الدّين الذي ارتضاه، وهو الإسلام وأمة محمّد صلّى الله عليه وسلّم مقتدون بهم. وفي الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «اقتدوا بالّذين من بعدي أبي بكر وعمر» «1» أي اعملوا كما يعملان من اتباع أمر الله جلّ وعزّ

_ (1) أخرجه الترمذي في سننه- المناقب رقم الحديث 3662، والبيهقي في السنن الكبرى (97) ، وأحمد في مسنده 5/ 382، وأبو نعيم في الحلية 9/ 109، والهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 53، والمتقي في كنز العمال (3656) .

[سورة الشورى (42) : آية 14]

وترك خلاف ما أمروا به، وليس معناه في كلّ مسألة. أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ جاز أن يكون أقيموا وهو أمر داخلا في الصلة لأن معناه كمعنى الفعل المضارع. معناه أن تقيموا الدّين فلا تتفرّقوا فيه. ومذهب جماعة من أهل التفسير أنّ نوحا صلّى الله عليه وسلّم أول من جاء بالشريعة من تحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات، وهذا القول داخل في معنى الأول. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أي من إقامة الدّين لله جلّ وعزّ وحده. اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ أي من يشاء أن يجتبيه ثم حذف هذا. وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ حذفت الضمّة من يهدي لثقلها، وأناب رجع أي تاب. [سورة الشورى (42) : آية 14] وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي من بعد ما جاءهم القرآن. بَغْياً مفعول من أجله، وهو في الحقيقة مصدر. [سورة الشورى (42) : آية 15] فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ الفراء «1» يذهب إلى أنّ معنى اللام معنى «إلى» وإلى أن معنى «ذلك» هذا أي فإلى هذا فادع أي إلى أن تقيموا الدّين ولا تتفرقوا فيه. قال أبو جعفر: واللام بمعنى إلى مثل قوله جلّ وعزّ: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: 5] قال العجاج: [الرجز] 398- وحى لها القرار فاستقرّت «2» قال أبو جعفر: وهو مجاز، وقد خولف الفراء فيه، وقيل: اللام على بابها. والمعنى: للذي أوحى إليك من إقامة الدّين وترك التفرّق فيه من أجل ذلك فادع فأما أن يكون ذلك بمعنى هذا فلا يجوز عند النحويين الحذّاق. قال محمد بن يزيد: هذا لمن

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 22. (2) الرجز للعجاج في ديوانه 2/ 408، ولسان العرب (وحى) وتهذيب اللغة 5/ 296، وجمهرة اللغة ص 576، وكتاب العين 3/ 320، وتاج العروس (وحى) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 6/ 93، ومجمل اللغة 4/ 512. وعجزه: «وشدّها بالرّاسيات الثّبّت»

[سورة الشورى (42) : آية 16]

كان بالحضرة وذلك لمن تراخى ففي دخول أحدهما على الآخر بطلان البيان وذلك على بابه أي فإلى ذلك الذي تقدّم فادع، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ جمع هوى مبني على فعل إلّا أنه اعتلّ لأن الياء قلبت ألفا لتحركها وتحرّك ما قبلها فجمع على أصله كما يقال: جمل وأجمال لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ نصب على التبرئة وقد ذكرنا العلّة فيه. وأجاز سيبويه الرفع فجعل «لا» بمعنى ليس. والمعنى أنه قد تبين الحقّ وأنتم معاندون وإنما تثبت الحجّة على من لم يكن هكذا. [سورة الشورى (42) : آية 16] وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) وَالَّذِينَ في موضع رفع بالابتداء وحُجَّتُهُمْ ابتداء ثان، داحِضَةٌ خبر حجتهم والجملة خبر «الذين» ، ويجوز أن تكون حجّتهم بدلا من الذين على بدل الاشتمال وفي المعنى قولان: أحدهما أن المعنى: والذين يحاجّون في الله من بعد ما استجيب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فتكون الهاء مكنيّة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم أي من بعد ما دعا على أهل بدر فاستجيب له ودعا على أهل مكة ومصر بالقحط فاستجيب له ودعا للمستضعفين أن ينجيهم الله عزّ وجلّ من قريش فاستجيب له في أشياء غير هذه، والقول الآخر قول مجاهد، قال: الّذين يحاجّون في الله من بعد ما استجيب له قوم من الكفار يجادلون المؤمنين في الله جلّ وعزّ أي في وحدانيته من بعد ما استجاب له المؤمنون فيجادلون، وهم مقيمون على الكفر ينتظرون أن تجيء جاهليته. وهذا القول أولى من الذي قبله بالصواب، وأشبه بنسق الآية لأنه لم يتقدم للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذكر فيكنى عنه ولا لدعائه. [سورة الشورى (42) : آية 17] اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ اسم الله جلّ وعزّ مرفوع بالابتداء والَّذِي خبره وليس نعت لأن الخبر لا بدّ منه والنعت يستغنى عنه أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي ذكر فيه ما يحقّ على الناس أن يعملوه: وَالْمِيزانَ عطف على الكتاب أي وأنزل الميزان بالحق وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ تهديد لهم لأنهم حاجّوا في الله عزّ وجلّ من بعد ما استجيب له. وقال قريب والساعة مؤنّثة على النسب، وقيل فرقا بينه وبين القرابة، فأما أبو إسحاق فيقول: لأن التأنيث ليس بحقيقي. والمعنى: لعلّ البعث قريب، وذكر وجها أخر قال: يكون لعلّ مجيء الساعة قريب.

[سورة الشورى (42) : الآيات 18 إلى 19]

[سورة الشورى (42) : الآيات 18 الى 19] يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وذلك نحو قولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ [يونس: 48] وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وهكذا وصف أهل الإيمان يخافون من التفريط لئلا يعاقبوا عليه. أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي لفي ضلال عن الحقّ وإنما صار بعيدا لأنهم كفروا معاندة ودفعا للحقّ، ولو كان كفرهم جهلا لم يكن بعيدا لأنه كان يتبين لهم ويرون البراهين. [سورة الشورى (42) : الآيات 20 الى 21] مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ شرط ومجازاة. قال أبو جعفر: قد ذكرنا في معناه أقوالا، ونذكر ما لم نذكره. وهو أن يكون المعنى: من كان يريد بجهاده الآخرة وثوابها نعطه ذلك ونزده، ومن كان يريد بغزوه الغنيمة، وهو حرث الدّنيا على التمثيل، نؤته منها لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يمنع المنافقين من الغنيمة. وهذا قول بيّن إلّا أنه مخصوص وقول عامّ قاله طاوس قال: من كان همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه ولم ينل من الدنيا إلّا ما كتب له، ومن كان يريد الآخرة جعل الله جلّ وعزّ غناه بين عينيه ونور قلبه، وأتاه من الدنيا ما كتب له. [سورة الشورى (42) : آية 22] تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا الظَّالِمِينَ نصب بترى ومُشْفِقِينَ نصب على الحال، والتقدير: من عقاب ما كسبوا. قال جلّ وعزّ: وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ أي العقاب وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ قال مجاهد: الروضة المكان المونق الحسن. وحكى بعض أهل اللغة أنها لا تكون إلّا في موضع مرتفع، كان أحسن لها وأشدّ، وإذا كانت خشنة ولم تكن رخوة كان ثمرها أحسن وألذّ، كما قال جلّ وعزّ: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [البقرة: 265] أي مرتفعة. قال الأعشى: [البسيط] 399- ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل «1» فوصف أنها من رياض الحزن، والحزن: ما غلظ من الأرض، ويقال: الحزم بالميم، لما ذكرناه. ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ أي ذلك الذي تقدّم ذكره للذين آمنوا. و «ذلك» في موضع رفع بالابتداء و «هو» ابتداء ثان، ويجوز أن يكون زائدا بمعنى التوكيد «الفضل» الخبر و «الكبير» من نعته.

_ (1) مرّ الشاهد رقم (337) .

[سورة الشورى (42) : آية 23]

[سورة الشورى (42) : آية 23] ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ مبتدأ وخبره وقراءة الكوفيين يُبَشِّرُ «1» وقد ذكرنا نظيره «2» غير أن أبا عمرو بن العلاء قرأ هذا وحده يُبَشِّرُ «3» وقرأ غيره «يبشّر» «4» وأنكر هذا عليه قوم، وقالوا: ليس بين هذا وبين غيره فرق، والحجّة له ذلك أنه لم يقرأ بشيء شاذ ولا بعيد في العربية ولكن لما كانتا لغتين فصيحتين لم يقتصر على أحدهما فيتوهم السامع أنه لا يجوز غيرها فجاء بهما جميعا، وهكذا يفعل الحذّاق. وفي القرآن نظيره مما قد اجتمع عليه، وهو قوله جلّ وعزّ: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [البقرة: 282] من أملّ يمل وفي موضع أخر فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] من أملى يملي. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى. قال أبو جعفر: قد ذكرنا معناه مستقصى. فأما الإعراب فهذا موضع ذكره «المودّة» في موضع نصب لأنه استثناء ليس من الأول، وسيبويه «5» يمثله بمعنى «لكن» ، وكذا قال أبو إسحاق، قال: «أجرا» تمام الكلام كما قال جلّ وعزّ: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان: 57] ولو لم يكن استثناء ليس من الأول كانت المودة بدلا من أجر وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً شرط يقال: اقترف وقرف إذا كسب، وجواب الشرط. نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً. [سورة الشورى (42) : الآيات 24 الى 25] أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) اختلف العلماء في تفسير هذا فقال أبو إسحاق: معنى يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم. قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله لا يشبه ظاهر الآية. وقال غيره: فإن يشأ الله يختم على قلبك لو اقترفت واختلفوا في معنى يَخْتِمْ فقال بعضهم: أي يمنعك من التمييز. وقال بعضهم: معنى: ختم الله على قلبه جعل عليه علامة من سواد أو غيره تعرف الملائكة بها أنه معاقب، كما قال جلّ وعزّ: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [المطففين: 14] قال أبو جعفر: وفي التفسير أنه إذا عمل العبد خطيئة رين على قلبه فغطي منه شيء فإن زاد زيد في الرّين حتّى يسود قلبه فلا ينتفع بموعظة. وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ منقطع من الأول في موضع رفع. ويجب أن يكتب بالواو

_ (1) انظر تيسير الداني 157، والبحر المحيط 7/ 493. (2) انظر الآية 9- الإسراء والكهف 2. (3) انظر تيسير الداني 157، والبحر المحيط 7/ 493. (4) انظر تيسير الداني 157، والبحر المحيط 7/ 493. [.....] (5) انظر الكتاب 2/ 346.

[سورة الشورى (42) : آية 26]

إلّا أنه وقع في السواد بغير واو كتب على اللفظ في الإدراج وإنما حذفت الواو في الإدراج لسكونها وسكون اللام بعدها فإذا وقفت زالت العلّة في حذفها فعلى هذا لا ينبغي الوقوف عليه لأنه إن أثبت الواو خالف السواد وإن حذفها لحن ونظيره وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ [الإسراء: 11] ، وكذا سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 18] فأما معنى و «يمح الله الباطل» ففيه احتجاج عليهم لنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن معناه أنّ الله جلّ وعزّ يزيل الباطل ولا يثبته، فلو كان ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم باطلا لمحاه الله جلّ وعزّ وأنزل كتابا على غيره، وهكذا جرت العادة في جميع المفترين أنّ الله سبحانه يمحو باطلهم بالحقّ والبراهين والحجج وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أي يبيّن الحقّ. [سورة الشورى (42) : آية 26] وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) يجوز أن يكون الَّذِينَ في موضع رفع بفعلهم أي ويجيب الذين آمنوا ربّهم فيما دعاهم إليه. ويجوز أن يكون الذين في موضع نصب أي ويستجيب الله الذين آمنوا، وحذف اللام من هذا جائز كثير، ومثله وَإِذا كالُوهُمْ [المطففين: 3] أي كالوا لهم. قال أبو جعفر: هذا أشبه بنسق الكلام لأن الفعل الذي قبله والذي بعده لله جلّ وعزّ، وثمّ حديث عن معاذ بن جبل يدل على هذا قال: إنكم تدعون لهؤلاء الصناع غفر الله لك رحمك وبارك عليك، والله جلّ وعزّ يقول: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. يكون على هذا «يزيدهم» على ما دعوا، وتمّ الكلام. وَالْكافِرُونَ مبتدأ والجملة خبره. [سورة الشورى (42) : الآيات 27 الى 29] وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وأجاز الخليل رحمه الله في السين إذا كانت بعدها طاء أن تقلب صادا لقربها منها، وزعم الفراء «1» : أن قوله جلّ وعزّ: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ أنه أراد جلّ وعزّ وما بثّ في الأرض دون السماء وأنّ مثله يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: 22] وإنما يخرجان من الملح، وزعم أن هكذا جاء في التفسير. قال أبو جعفر: والذي قاله لا يعرف في تفسير ولا لغة ولا معقول أي يخبر عن اثنين بخبر واحد، وهذا بطلان البيان والتجاوز إلى ما يحظره الدّين. والعرب تقول: لكل ما تحرّك من شيء دبّ فهو دابّ ثم تدخل الهاء للمبالغة فتقول: دابّة. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: في دابّة لتأنيث الصيغة.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 24.

[سورة الشورى (42) : آية 30]

[سورة الشورى (42) : آية 30] وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ هذه قراءة الكوفيين والبصريين، وكذا في مصاحفهم، وقرأ المدنيون بما بغير فاء، وكذا في مصاحفهم فالقراءة بالفاء بيّنة لأنه شرط وجوابه. والقراءة بغير فاء فيها للنحويين ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون «ما» بمعنى «الذي» فلا تحتاج إلى جواب بالفاء، وهذا مذهب أبي إسحاق. والقول الثاني: أن يكون ما للشرط وتكون الفاء محذوفة كما قال: [البسيط] 400 - من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشّرّ بالشّرّ عند الله مثلان «1» وهذا قول أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش، وزعم أن هذا يدلّ على أن حذف الفاء في الشرط جائز حسن لجلال من قرأ به. والقول الثالث: أن «ما» هاهنا للشرط إلّا أنه جاز حذف الفاء لأنها لا تعمل في اللفظ شيئا وإنما وقعت على الماضي، وهذا أولى الأقوال بالصواب. فأما أن يكون «ما» بمعنى الذي فبعيد لأنّه يقع مخصوصا للماضي، وأما أن يشبّه هذا بالبيت الذي ذكرناه فبعيد أيضا لأن حذف الفاء مع الفعل المستقبل لا يجوز عند سيبويه إلّا في ضرورة الشعر، ولا يحمل كتاب الله عزّ وجلّ إلّا على الأغلب الأشهر. [سورة الشورى (42) : آية 31] وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ قال محمد بن يزيد: أي بسابقين يقال: أعجز إذا عدا فسبق. [سورة الشورى (42) : آية 32] وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) «الجواري» جمع جارية، والجواري في موضع رفع حذفت الضمة من يائها لثقلها. [سورة الشورى (42) : الآيات 33 الى 35] إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ شرط ومجازاة. فَيَظْلَلْنَ عطف، وكذا أَوْ يُوبِقْهُنَّ وكذا وَيَعْفُ وكذا عند سيبويه «2» وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا هذا الاختيار عنده لأنه كلام معطوف بعضه على بعض، ومثله يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [البقرة: 284] ، وكذا قول النابغة «3» : [الوافر] 401- فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع النّاس والبلد الحرام ونمسك بعده بذناب عيس ... أجبّ الظّهر ليس له سنام فجزم «ونمسك» على العطف. ويجوز رفعه ونصبه إلّا أن الرفع عند سيبويه

_ (1) مرّ الشاهد رقم (34) . (2) انظر إعراب الآية 284- البقرة. (3) مرّ الشاهد رقم (179) .

[سورة الشورى (42) : آية 36]

أجود، وهي قراءة المدنيين وَيَعْلَمَ الَّذِينَ «1» على أنه مقطوع مما قبله مرفوع، والنصب عنده بعيد، وهي قراءة الكوفيين، والصحيحة من قراءة أبي عمرو، وشبّهه سيبويه في البعد بقول الشاعر: [الوافر] 402- سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا «2» إلّا أن النصب في الآية أمثل لأنه شرط وهو غير واجب، وأنشد «3» : [الطويل] 403- ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع أقوام مجرّا ومسحبا وتدفن منه الصّالحات وإن يسيء ... يكن ما أساء النّار في رأس كبكبا فنصب «وتدفن» ولو رفع لكان أحسن. واختار أبو عبيد النصب وشبّهه بقوله جلّ وعزّ: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [ال عمران: 142] . وهما لا يتجانسان ولا يشتبهان لأن «ويعلم» جواب لما فيه النفي فالأولى به النصب وقوله جلّ وعزّ: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ ليس بجواب فيجب نصبه، وموضع الذين في قوله «ويعلم النّاس» موضع رفع بعلم. [سورة الشورى (42) : آية 36] فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَما عِنْدَ اللَّهِ مبتدأ وخَيْرٌ خبره وَأَبْقى معطوف على خير لِلَّذِينَ آمَنُوا خفض باللام. [سورة الشورى (42) : آية 37] وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ في موضع خفض معطوف على «للذين آمنوا» يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ هذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي كَبائِرَ الْإِثْمِ» والقراءة الأولى أبين لأنه إذا قرأ كبير توهّم أنه واحد أكبرها، وليس المعنى على ذلك عند أحد من أهل التفسير إلّا شيئا قاله الفراء «5» فعكس فيه قول

_ (1) انظر تيسير الداني 158، ومعاني الفراء 3/ 24. (2) الشاهد للمغيرة بن حبناء في خزانة الأدب 8/ 522، والدرر 1/ 240، وشرح شواهد الإيضاح ص 251، وشرح شواهد المغني 497، والمقاصد النحوية 4/ 390، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 39، والدرر 5/ 130، والردّ على النحاة ص 125، ورصف المباني ص 379، وشرح الأشموني 3/ 565، وشرح المفصّل 7/ 55، والمحتسب 1/ 197، ومغني اللبيب 1/ 175، والمقتضب 2/ 24، والمقرب 1/ 263. (3) مرّ الشاهد رقم 317. (4) انظر تيسير الداني 158، وكتاب السبعة لابن مجاهد 581. (5) انظر معاني الفراء 3/ 25.

أهل التفسير، قال: «كبير الإثم» الشرك قال: وكبائر يراد بها كبير، وهذا معكوس إنما يقال: كبير يراد به كبائر. يكون واحدا يدلّ على جمع، وزعم أنه يستحبّ لمن قرأ «كبائر الإثم» أن يقرأ «والفواحش» فيخفض، والقراءة بهذا مخالفة بحجّة الإجماع وأعجب من هذا أنه زعم أنه يستحبّ القراءة به ثم قال: ولم أسمع أحدا قرأ به. والأحاديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الكبائر معروفة كثيرة وعن الصحابة وعن التابعين. ونحن نذكر من ذلك ما فيه كفاية لتبيين هذا. ونبيّن معنى الكبائر والاختلاف فيه إذا كان مما لا يسع أحدا جهله. ونبدأ بما صحّ فيها عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم مما لا مطعن في إسناده وتوليه من قول الصحابة والتابعين وأهل النظر بما فيه كفاية إن شاء الله. فمن ذلك ما حدّثناه محمد بن إدريس بن أسود عن إبراهيم بن مرزوق قال: حدّثنا وهب بن جرير قال: حدّثنا شعبة عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أكبر الكبائر الإشراك بالله جلّ وعزّ وعقوق الوالدين المسلمين وقتل النفس وشهادة الزّور أو قول الزور» «1» وقرئ على أحمد بن شعيب عن عبدة بن عبد الرحيم قال أخبرنا ابن شميل قال: حدّثنا شعبة قال: حدّثنا فراس قال: سمعت الشّعبي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الكبائر الإشراك بالله جلّ وعزّ وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس» «2» قال أحمد: وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم ثنا بقيّة حدثني بحير بن سعد عن خالد بن معد أن أبا رهم السّماعي حدّثه عن أبي أيوب وهو خالد بن زيد الأنصاري بدريّ عقبيّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من جاء لا يشرك بالله شيئا ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان واجتنب الكبائر فإنه في الجنة» «3» فسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الكبائر قال: فقال: «الإشراك بالله جلّ وعزّ وقتل النفس المسلمة والفرار يوم الزحف» قال أحمد: أخبرنا عمرو بن علي قال: حدّثنا يحيى قال: حدّثنا سفيان عن الأعمش ومنصور عن أبي وائل عن أبي ميسرة عن عبد الله قال: قلت يا رسول الله أيّ الذنوب أعظم قال: «أن تجعل لله جلّ وعزّ ندّا وهو خلقك» . قلت: ثمّ أيّ. قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» . قلت: ثمّ أيّ. قال: «أن تزني بحليلة جارك» «4» قال أبو جعفر: فهذه أسانيد مستقيمة وفي حديث أبي أمامة زيادة على ما فيها من الكبائر فيه: أكل مال اليتيم وقذف المحصنة والغلول والسحر وأكل الربا فهذا جميع ما نعلمه، روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الكبائر مفصلا مبينا فأما الحديث المجمل فالذي رواه أبو سعيد

_ (1) أخرجه أحمد في مسنده 3/ 495، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 20، وابن كثير في تفسيره 2/ 241، والطبري في تفسيره 5/ 28. (2) أخرجه الترمذي في سننه- البر والصلة 8/ 97، والدارمي في سننه- الديات 2/ 191. (3) أخرجه أحمد في مسنده 5/ 413، والمتقي في كنز العمال 276. (4) أخرجه أحمد في مسنده 5/ 217، وابن ماجة في سننه- الديات- الحديث رقم (2618) . [.....]

[سورة الشورى (42) : آية 38]

وأبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنها سبع فليس بناقض لهذا لأن قذف المحصنة واليمين الغموس والسحر داخلان في قول الزور وحديث ابن مسعود الذي فيه «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» داخل في قتل النفس المحرمة ولم يقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تكون الكبائر إلا هذه فيجب التسليم. وقد روى مسروق عن عبد الله بن مسعود أنه قال: الكبائر من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية. إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء: 31] فأولى ما قيل في الكبائر وأجمعه ما حدثناه علي بن الحسين قال: قال الحسين بن محمد الزعفراني قال: حدّثنا أبو قطن عن يزيد بن إبراهيم عن محمد بن سيرين قال: سئل ابن عباس عن الكبائر فقال: كلّ ما نهى الله جلّ وعزّ عنه- فهو من الكبائر حتّى ذكر الطرفة، وحدّثناه بكر بن سهل قال: حدّثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الكبائر كل ما ختمه الله جلّ وعزّ بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. قال أبو جعفر: فهذا قول حسن بيّن لأن الله جلّ وعزّ قال: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء: 31] فعقل بهذا أن الصغائر لا يعذّب عليها من اجتنب الكبائر: فإذا أعلم الله جلّ وعزّ أنه يدخل على ذنب النار علم أنه كبيرة وكذا إذا أمر أن يعذّب صاحبه في الدنيا بالحد، وكذا قال الضحاك: كل موجبة أوجب الله تعالى لأهلها العذاب فهي كبيرة وكلّ ما يقام عليه الحدّ فهو كبيرة. فهذا المعنى الذي بيّنا بعد ذكر الأحاديث المسندة فهو شرح أيضا قول الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ وكل ما كان مثله. [سورة الشورى (42) : آية 38] وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ في موضع خفض والمعنى وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا والذين استجابوا لربهم وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي أتمّوها بحدودها بركوعها وسجودها وخشوعها. وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ مبتدأ وخبره. [سورة الشورى (42) : آية 39] وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ في موضع خفض كالأول. هُمْ يَنْتَصِرُونَ وهذا مدح لهم وصفوا أنهم إذا بغى عليهم باغ أو ظلمهم ظالم لم يستسلموا له لأنهم لو استسلموا له لم ينهوا عن المنكر وفعله ذلك بهم منكر. وفي حديث حذيفة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «لا يحلّ للمسلم أن يذلّ نفسه» . قيل: كيف يذلّ نفسه؟ قال: «يتكلّف من البلاء ما لا يطيقه» «1» . [سورة الشورى (42) : آية 40] وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها مبتدأ وخبره. والسيّئة الأولى سيّئة على الحقيقة والثانية

_ (1) الحديث في تنزيه الشرائع لابن عراق 2/ 363، والفوائد المجموعة للشوكاني 378.

[سورة الشورى (42) : آية 41]

على المجاز سمّيت سيّئة لأنها مجازاة على الأولى ليعلم أنه يقتصّ بمثل ما نيل منه فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي فلم يقتصّ فثوابه على الله جلّ وعزّ، كما روى الحسن ومحمد بن المنكدر وعطاء ومحمد يقول: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ينادي مناد يوم القيامة أين من له وعد على الله عزّ وجلّ؟ فليقم، فيقوم من عفا» «1» وقرأ عطاء فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. [سورة الشورى (42) : آية 41] وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ مبتدأ فَأُولئِكَ مبتدأ أيضا، والجملة خبر الأول. [سورة الشورى (42) : آية 42] إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أي سبيل العقوبة. [سورة الشورى (42) : آية 43] وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) أي من أعاليها وأجلّها أن يعفو ويصفح ويتوقّى الشبهات وإن لم تكن محظورة ورعا وطلبا لرضاء الله عزّ وجلّ فهذه معالي الأمور، وهي من عزم الأمور أي التي يعزم عليها الورعون المتّقون. قال أبو جعفر: وفي إشكال من جهة العربية وهو أنّ «لمن صبر وغفر» مبتدأ ولا خبر له في اللفظ فالقول فيه: إن فيه حذفا، والتقدير: ولمن صبر وعفا أنّ ذلك منه لمن عزم الأمور، ومثل هذا في كلام العرب كثير موجود، حكاه سيبويه وغيره: مررت ببرّ قفيز بدرهم أي قفيز منه، ويقال: السّمن منوان بدرهم بمعنى منه. [سورة الشورى (42) : آية 44] وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ أي من يضلّه عن الثواب فما له وليّ ولا ناصر يسأله الثواب. وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ في موضع نصب على الحال. هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ «من» زائدة للتوكيد. [سورة الشورى (42) : آية 45] وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ على الحال وكذا يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ قال محمد بن كعب: يسارقون النظر إلى النار وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ

_ (1) أخرجه الترمذي في سننه 10/ 18.

[سورة الشورى (42) : آية 46]

روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هم الذين خلقوا للنّار وخلقت النار لهم خلّفوا أموالهم وأهاليهم في الدنيا وحرموا الجنة وصاروا إلى النار فخسروا الدنيا والآخرة. [سورة الشورى (42) : آية 46] وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) مِنْ أَوْلِياءَ في موضع رفع اسم كان. [سورة الشورى (42) : آية 47] اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أي من مخلص ولا تنكرون ما وقفتم عليه من أعمالكم. [سورة الشورى (42) : الآيات 48 الى 49] فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثم قال بعد وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ فجاء الضمير لجماعة لأنّ الإنسان اسم للجنس بمعنى الجميع، كما قال جلّ وعزّ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر: 2، 3] فوقع الاستثناء لأن الإنسان بمعنى جمع. يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أي من الأولاد. [سورة الشورى (42) : آية 50] أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً أي يجمع لهم هذا، كما قال محمد بن الحنفية: يعني به التوأم. وقال أبو إسحاق: يزوّجهم يقرن لهم. وكلّ قرينين زوجان. وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً أي لا يولد له. وعقيم بمعنى معقوم. وقد عقمت المرأة إذا لم تحمل فهي امرأة عقيم ومعقومة. [سورة الشورى (42) : آية 51] وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) أَنْ في موضع رفع اسم كان ووَحْياً يكون مصدرا في موضع الحال، كما تقول: جاء فلان مشيا، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مصدر أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ هذه قراءة أكثر الناس، وقرأ نافع أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا «1»

_ (1) انظر تيسير الداني 158، وكتاب السبعة لابن مجاهد 582.

بالرفع فَيُوحِيَ بإسكان الياء، ولا نعلمه يروى إلّا عن نافع إلّا أنه قال: لم أقرأ حرفا يجتمع عليه رجلان من الأئمة فلهذا قال عبد الله بن وهب: قراءة نافع سنّة. قال أبو جعفر: فأما القول في نصب «يرسل» و «يوحي» ورفعهما فقد جاء به سيبويه عن الخليل بما فيه كفاية لمن تدبّره ونمليه نصا كما قال ليكون أشفى. قال سيبويه «1» : سألت الخليل عن قول الله جلّ وعزّ: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ فزعم أن النصب محمول على «أن» سوى هذه ولو كانت هذه الكلمة على «أن» هذه لم يكن للكلام وجه، ولكنه لما قال: إِلَّا وَحْياً كان في معنى إلّا أن يوحي وكان «أو يرسل» فعلا لا يجري على «إلّا» فأجري على «أن» هذه كأنه قال: إلّا أن يوحي أو يرسل لأنه لو قال: إلّا وحيا وإلا أن يرسل كان حسنا: وكان أن يرسل بمنزلة الإرسال فحملوه على «أن» إذ لم يجز أن يقولوا: أو إلا يرسل فكأنه قال: إلّا وحيا أو أن يرسل. وقال الحصين بن حمام المرّي: [الطويل] 404- ولولا رجال من رزام أعزّة ... وآل سبيع أو أسوءك علقما «2» يضمر «أن» وذلك لأنه امتنع أن يجعل الفعل على لولا فأضمر «أن» كأنه قال: لولا ذاك أو لولا أن أسؤك. وبلغنا أن أهل المدينة يرفعون هذه الآية وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ فكأنه- والله أعلم- قال الله لا يكلّم البشر إلّا وحيا أو يرسل رسولا أي في هذه الحال. وهذا كلامه إياهم، كما تقول العرب: تحيّتك الضرب، وعتابك السيف، وكلامك القتل، قال عمرو بن معدي كرب: [الوافر] 405- وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحيّة بينهم ضرب وجيع «3» وسألت الخليل رحمه الله عن قول الأعشى: [البسيط] 406- إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنا معشر نزل «4» فقال: الكلام هاهنا على قولك يكون كذا أو يكون كذا ما كان موضعها لو قال

_ (1) انظر الكتاب 3/ 55. (2) الشاهد للحصين في خزانة الأدب 3/ 324، والكتاب 3/ 55، والدرر 4/ 78، وشرح اختيارات المفضّل 334، وشرح التصريح 2/ 244، وشرح المفصّل 3/ 50، والمقاصد النحوية 4/ 411، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب 1/ 272، والمحتسب 1/ 326، وهمع الهوامع 2/ 10. (3) الشاهد لعمرو بن معد يكرب في ديوانه 149، وخزانة الأدب 9/ 252، والكتاب 2/ 335، وشرح أبيات سيبويه 2/ 200، ونوادر أبي زيد 150، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 345، والخصائص 1/ 368، وشرح المفصل 2/ 80، والمقتضب 2/ 20. (4) مرّ الشاهد رقم (156) .

[سورة الشورى (42) : آية 52]

فيه: أتركبون، لم ينتقض المعنى صار بمنزلة «ولا سابق شيئا» «1» وأما يونس فقال: أرفعه على الابتداء كأنه قال: أو أنتم نازلون، وعلى هذا الوجه فسر الرفع في الآية كأنه قال: أو هو يرسل رسولا، كما قال طرفة: [الطويل] 407- أو أنا مفتدى «2» وقول يونس أسهل. [سورة الشورى (42) : آية 52] وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا الكاف في موضع نصب أي: أوحينا إليك وحيا كذلك الذي قصصنا عليك ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ «ما» في موضع رفع بالابتداء و «الكتاب» خبره والجملة في موضع نصب بتدري. ويجوز في الكلام أن تنصب الكتاب وتجعل «ما» زائدة كما روي: هذا «باب علم ما الكلم من العربية» «3» فنصب «الكلم» وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً ولم يقل: جعلناهما فيكون الضمير للكتاب أو للتنزيل أو الإيمان. وأولاهما أن يكون للكتاب ويعطف الإيمان عليه ويكون بغير حذف وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قال الضحاك: الصراط الطريق والهدى. ويقرأ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي «4» وفي حرف أبيّ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «5» . [سورة الشورى (42) : آية 53] صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) صِراطِ اللَّهِ على البدل. قال أبو إسحاق: ويجوز الرفع والنصب. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ وهي أبدا إليه تعالى. قال الأخفش: يتولّى الله الأمور يوم القيامة دون خلقه، وقد كان بعضها إلى خلقه في الدنيا من الفقهاء والسلاطين وغيرهم.

_ (1) يشير إلى قول زهير: تبيّنت أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيا إذا كان جاثيا (2) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه 36، والكتاب 3/ 54، وشرح أبيات سيبويه 2/ 48: «ولكن مولاي امرؤ هو خالقي ... على الشكر والتساؤل أو أنا مفتدى» (3) انظر الكتاب 1/ 40. (4) انظر البحر المحيط 7/ 505، ومختصر ابن خالويه 134. (5) انظر البحر المحيط 7/ 505، ومختصر ابن خالويه 134.

43 شرح إعراب سورة الزخرف

43 شرح إعراب سورة الزخرف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) الْكِتابِ مخفوض بواو القسم، وهي بدل من الباء لقربها منها ولشبهها بها الْمُبِينِ نعت. وجواب القسم إِنَّا جَعَلْناهُ الهاء التي في جعلناه مفعول أول وقرآنا مفعول ثان فهذه جعلنا التي تتعدى إلى مفعولين بمعنى صيّرنا وليست وجعلنا التي بمعنى خلقنا لأن تلك لا تتعدى إلّا إلى مفعول واحد، نحو قوله جلّ وعزّ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] وفرقت العرب بينهما بما ذكرنا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي تعقلون أمر الله جلّ وعزّ ونهيه إذ أنزل القرآن بلسانكم. [سورة الزخرف (43) : آية 4] وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ أي القرآن في اللوح المحفوظ. لَعَلِيٌّ أي عال رفيع. وقيل: علي أي قاهر معجز لا يؤتى بمثله حَكِيمٌ محكم في أحكامه ورصفه. [سورة الزخرف (43) : آية 5] أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً قال الفرّاء «1» يقال: أضربت عنك وضربت عنك أي أعرضت عنك وتركتك. وفي نصب صفح أقوال منها أن يكون معنى أَفَنَضْرِبُ أفنصفح، كما يقال: هو يدعه تركا لأن معنى يدعه يتركه، ويجوز أن يكون صفحا بمعنى صافحين، كما تقول: جاء زيد مشيا أي ماشيا، ويجوز أن يكون صفحا بمعنى ذوي صفح، كما يقال: رجل عدل أي عادل وكذا رضى. وهذا جواب حسن واختلف العلماء في معنى الذِّكْرَ هاهنا فروى جويبر عن الضحّاك أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ، قال: القرآن. وقال أبو صالح: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ فقال: أفنذر عنكم الذكر

_ (1) انظر معاني الفراء 2/ 28.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 6 إلى 7]

فنجعلكم سدى كما كنتم. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال، وإن كانت مختلفة الألفاظ فإنّ معانيها متقاربة فمن قال: الذّكر العذاب قدّره بمعنى ذكر العذاب وذكر العذاب إذا أنزل قرآن. ومن قال: معناه أفنذر عنكم الذّكر فنجعلكم سدى قدّره أفنترك أن ينزل عليكم الذكر الذي فيه الأمر والنهي فنجعلكم مهملين، قال أبو جعفر: وهذا قول حسن صحيح بيّن أي أفنهملكم فلا نأمركم ولا ننهاكم ولا نعاقبكم على كفركم بعد أن ظهرت لكم البراهين لأن كنتم قوما مسرفين. وهذا على قراءة من فتح «أن» «1» وهي قراءة الحسن وأبي عمرو وابن كثير وعاصم، وسائر القراء على كسر «إن» أي متى أسرفتم فعلنا بكم هذا. [سورة الزخرف (43) : الآيات 6 الى 7] وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) كَمْ في موضع نصب وهي عقيبة ربّ في الخبر، فمن العرب من يحذف «من» وينصب، ومنهم من يخفض وإن حذف «من» كما قال: [السريع] 408 - كم بجود مقرف نال العلى ... وكريم بخله قد وضعه «2» وأفصح اللّغات إذا فصلت أن تأتي بمن، وهي اللغة الّتي جاء بها القرآن، وكذا كلّ ما جاء به القرآن وربما وقع الغلط من بعض أهل اللغة فيما يذكرون من فصيح الكلام. فأما المحققون فلا يفعلون ذلك فمما ذكر بعضهم في الفصيح من الكلام من زعم أنه يقال: أضربت عن الشّيء بالألف، وزعم أنها اللغة الفصيحة. سمعت علي بن سليمان يقول: هذا غلط والفصيح. ضربت عن الشيء، لأن إجماع الحجة في قراءة الفرّاء أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً بفتح النون، وذكر بعضهم أنّ الفصيح: عظّم الله أجرك، وإجماع الحجّة في قراءة القراء وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق: 2] في حروف كثيرة. [سورة الزخرف (43) : آية 8] فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً منصوب على البيان. وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ قال قتادة: أي عقوبة يجوز أن تكون «مثل» هاهنا بمعنى صفة أي صفتهم بأنهم أهلكوا لمّا كذّبوا، ويجوز أن يكون مثل على بابه. [سورة الزخرف (43) : آية 10] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً «3» «الذي» في موضع رفع على النعت للعزيز أو على إضمار مبتدأ لأنه أول آية.

_ (1) انظر تيسير الداني 158. [.....] (2) مرّ الشاهد رقم 45. (3) انظر تيسير الداني 151.

[سورة الزخرف (43) : آية 11]

[سورة الزخرف (43) : آية 11] وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) الكاف في موضع نصب أي تخرجون خروجا مثل ذلك. وبيّن معنى هذا عبد الله بن مسعود، وهو مما لا يؤخذ به إلا بالتوقيف، قال: يرسل الله جلّ وعزّ ماء مثل منيّ الرجال وليس شيء خلق من الأرض إلّا وقد بقي منه شيء فتنبت بذلك الجسمان واللحوم تنبت من الثرى والمطر ثم تلا عبد الله وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ. [سورة الزخرف (43) : آية 12] وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) وَالَّذِي في موضع رفع على العطف. خَلَقَ الْأَزْواجَ جمع زوج جمع على أفعال. وسبيل فعل من غير هذا الجنس أن يجمع على أفعل فكرهوا أن يقولوا: أزوج لأن الحركة في الواو ثقيلة فحوّل إلى جمع فعل لأنّ عدد الحروف واحد فشبّهوا فعلا بفعل كما شبّهوا فعلا بفعل فقالوا: زمن وأزمن كُلَّها توكيد ويسميه بعض النحويين صفة. وباب كلّها الجمع الكثير، والجمع القليل كلهن. وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ إن جعلت «ما» بمعنى الذي فالضمير محذوف لطول الموسم ولو ظهر الضمير لجاز مما تركبونه على لفظ «ما» ومما تركبونها على تأنيث الجماعة، وإن جعلت «ما» مصدرا لم تحتج إلى حذف. [سورة الزخرف (43) : آية 13] لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ قال الفرّاء «1» : ولم يقل ظهورها لأنه بمعنى: كثر الدرهم أي هو بمعنى الجنس. قال أبو جعفر: وأولى من هذا أن يكون يعود على لفظ «ما» لأن لفظها مذكر موحد، وكذا ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ جاء على التذكير. [سورة الزخرف (43) : آية 14] وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) معطوف على ما قبله من القول. [سورة الزخرف (43) : آية 15] وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً ذكر معناه في ثلاثة أقوال روى ابن أبي نجيح عن

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 28.

[سورة الزخرف (43) : آية 16]

مجاهد «جزءا» قال: ولدا وبنات وقال عطاء: يعني نصيبا شركا. وقال زيد بن أسلم: إنّها الأصنام، فهذان قولان. وذكر أبو إسحاق قولا ثالثا وهو أن جزءا للبنات خاصة وأنشد بيتا في ذلك أنشده زعم وهو: [البسيط] 409- إن أجزأت حرّة يوما فلا عجب ... قد تجزئ الحرّة المذكار أحيانا «1» أي تلد إناثا. قال أبو جعفر: الذي عليه جماع الحجّة من أهل التفسير واللغة أنّ الجزء النصيب وهذا مذهب عطاء الذي ذكرناه ومجاهد والربيع بن أنس والضحّاك وهو معنى قول ابن عباس، وقال محمد بن يزيد: الجزء النصيب. وقول زيد بن أسلم جماع الحجّة على غيره أيضا، والرواية تدل على خلافه ونسق الكلام لأن بعده وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً وقيل: هذا أيضا يلي ذاك. [سورة الزخرف (43) : آية 16] أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ فهذا يدلّ على أنّ هذا ليس للأصنام. [سورة الزخرف (43) : آية 17] وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا اسم ظلّ وخبرها، ويجوز في الكلام ظلّ وجهه مسودّ على أن يكون في ظلّ ضمير مرفوع يعود على أحد، ووجهه مرفوع بالابتداء ومسودّ خبره والمبتدأ وخبره خبر الأول، ومثله مما حكاه سيبويه «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصّرانه» «2» وحكى سيبويه الرفع في اللّذين والنصب. [سورة الزخرف (43) : آية 18] أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ «3» قال أبو إسحاق: «من» في موضع نصب والمعنى أو جعلتم من ينشأ، وقال الفرّاء «4» : «من» في موضع رفع على الاستئناف، وأجاز النصب، قال: واذن رددته على أول الكلام على قوله جلّ وعزّ: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا واختلف القراء في قراءة هذا الحرف فقرأ ابن عباس والكوفيون غير عاصم أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وعاصم أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا واحتجّ أبو عبيد للقراءة الأولى بقوله جلّ وعزّ: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً [الواقعة: 35]

_ (1) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (جزأ) وتهذيب اللغة 11/ 145، وتاج العروس (جزأ) والبحر المحيط 8/ 10، وغريب القرآن 396، وروح المعاني 25/ 69، والكشاف 4/ 241. (2) مرّ تخريج الحديث في إعراب الآية 58- النحل. (3) انظر تيسير الداني 158، ينشّأ: قراءة حفص وحمزة والكسائي، والباقون بفتح الياء وسكون النون وتخفيف الشين. (4) انظر معاني الفراء 3/ 29.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 19 إلى 21]

قال أبو جعفر: وهما قراءتان مشهورتان قد روتهما الجماعة، وليس فيما جاء به حجّة لأنّا نعلم أنّه لا ينشأ حتّى ولو لزم ما قال لما قيل: مات فلان لقوله جلّ وعزّ: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ [البقرة: 28، والحج: 66، والروم: 40] فكان يجب أن يقال: أميت وكذا حيي، والفرق على خلاف ما قال عند النحويين وذلك أنّ معنى ينشّأ لمرّة بعد مرّة على التكثير. [سورة الزخرف (43) : الآيات 19 الى 21] وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً مفعولان أي وصفوا أنه هكذا، وحكموا أنه كذا. واختلف في قراءة هذا أيضا فقرأ عبد الله بن عباس والكوفيون وأبو عمرو عِبادُ الرَّحْمنِ «1» وقرأ أهل الحرمين والحسن وأبو رجاء عند الرحمن «2» واحتجّ أبو عبيد لقراءة من قرأ عِبادُ الرَّحْمنِ بأن الإسناد فيها أعلى وأنها ردّ لقولهم: الملائكة بنات الله فقال: ليسوا بنات هم عباد. قال أبو جعفر: وهما قراءتان مشهورتان معروفتان إلّا أن أولاهما «عند» من غير جهة والذي احتجّ به أبو عبيد لا يلزم لأنه احتجّ بأن الإسناد في القراءة بعباد أعلى. ولعمري أنّها صحيحة عن ابن عباس ولكن إذا تدبرت ما في الحديث رأيت الحديث نفسه قد أوجب أن يقرأ (عند) لأن سعيد بن جبير احتجّ على ابن عباس بالمصحف، فقال: في مصحفي «عند» . وهذه حجّة قاطعة لأن جماع الحجّة من كتب المصاحف مما نقلته الجماعة على أنه «عند» . ولو كان «عباد» لوجب أن يكتب بالألف، كما كتب بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء: 26] . واحتجاجه بأنه ردّ لقولهم بنات لا يلزم لأن عبادا إنما هو نفي لمن قال: ولد لأنه يقع للمذكّر والمؤنّث. والأشبه بنسق الآية قراءة من قرأ (عند) لأن المعنى فيه وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن أي لم يروهم إناثا فكيف قالوا هذا وهم عند الرحمن وليسوا عندهم؟ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ «3» قراءة نافع وأما سائر القراء فيما علمنا فإنهم قرءوا أشهدوا وهما قراءتان حسنتان قد نقلتهما الجماعة. والمعنى فيهما متقارب لأنهم إذا شهدوا فقد أشهدوا، وقوله جلّ وعزّ: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ [الصافات: 150] يدلّ على قراءة من قرأ أشهدوا والأخرى جائزة حسنة قال جلّ وعزّ ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الكهف: 51] .

_ (1) انظر تيسير الداني 159، وكتاب السبعة لابن مجاهد 585. (2) انظر تيسير الداني 159، وكتاب السبعة لابن مجاهد 585. (3) انظر البحر المحيط 8/ 11.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 22 إلى 26]

[سورة الزخرف (43) : الآيات 22 الى 26] بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ هذه القراءة التي عليها اجتماع الحجّة واللغة المعروفة. والأمّة: الدّين، ومنه كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [البقرة: 213] أي على دين واحد. وقراءة مجاهد وعمر بن عبد العزيز رحمه الله عَلى أُمَّةٍ «1» بكسر الهمزة. وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ والأصل إننا حذفت النون تخفيفا ومُهْتَدُونَ خبر «إنّ» ويجوز النصب في غير القرآن على الحال، وكذا مُقْتَدُونَ وروى معمر عن قتادة إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها قال: رؤوسهم وأشرافهم. وقرأ يزيد بن القعقاع قل اولو جئناكم «2» واستبعد أبو عبيد هذه القراءة، واحتجّ بأن قبله «قل» ولم يقل: قلنا والحجّة لهذه القراءة أنّ قبله إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فخاطبهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بجئنا لهم عنه وعن الرسل عليهم السلام فقال: أو لو جئناكم. بَراءٌ القراءة التي عليها حجّة الجماعة والسواد، وعن ابن مسعود أنه قرأ إِنَّنِي بَرِيءٌ إلّا أن الفرّاء «3» قال: إنّ مثل هذا يكتب بالألف، وأجاز في كل همزة أن تكتب ألفا. قال أبو جعفر: هذا شاذّ بعيد يلزم قائله أن يكتب يستهزئ بالألف، وهذا فيه من الأشكال ومخالفة الجماعة أغلظ وأقبح من قرأ برآء قال: في الاثنين والجميع أيضا برآء، والتقدير: إنّني ذو برآء مثل لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة: 177] ومن قال: بريء قال في جمعه برءاء أو برآء على وزن كرماء وكرام. وحكى الكوفيون جمعا ثالثا انفردوا به حكوا: برآء على وزن براع وزعموا أنه محذوف من برءاء. [سورة الزخرف (43) : آية 27] إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي في موضع نصب على الاستثناء من قول «ما تعبدون» ويجوز أن يكون استثناء منقطعا. [سورة الزخرف (43) : آية 28] وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) وَجَعَلَها الهاء والألف كناية عن قوله: «إنّني برآء» وما بعده أي وجعل تبرّؤه من كلّ ما يعبدون من دون الله جلّ وعزّ وإخلاصه التوحيد لله عزّ وجلّ. كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ والفاعل المضمر في «جعلها» يجوز أن يكون عائدا على قوله: الَّذِي فَطَرَنِي أي وجعلها الله تعالى كلمة باقية في عقبه وأهل التفسير على هذا

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 12. (2) انظر تيسير الداني 159. (3) انظر معاني الفراء 3/ 30.

[سورة الزخرف (43) : آية 31]

أنّه لا يزال من ولد إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم موحدون. وقيل: الضمير عائد على إبراهيم أي وجعلها كلمة باقية في عقبه أي عرفهم التوحيد والتبرّؤ من كل معبود دون الله جلّ وعزّ فتوارثوه فصار كلمة باقية في عقبه ويقال: «في عقبه» بحذف الكسرة لأنها ثقيلة. [سورة الزخرف (43) : آية 31] وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ على عطف البيان الذي يقوم مقام النعت لهذا، هذا قول سيبويه. وغيره يقول: نعت عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ نعت لرجل وليس الرجل يكون من القريتين، ولكن حقيقته في العربية على رجل من رجلي القريتين ثم حذف مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . فأما قوله جلّ وعزّ: بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ فمعناه لم أهلكهم كما أهلك غيرهم من الكفار. [سورة الزخرف (43) : آية 32] أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ «هم» رفع على إضمار فعل لأن الاستفهام عن الفعل، ويجوز أن يكون موضعه مرفوعا بالابتداء. نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ أي فكذلك فضلنا بعضهم على بعض بالاصطفاء والاختيار. ودَرَجاتٍ في موضع نصب مفعول ثان حذف منه «إلى» ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا أي فضّلنا بعضهم على بعض في الرزق ليسخّر بعضهم لبعض. وكلّ من عمل لرجل عملا فقد سخّر له بأجرة كان أو بغير أجرة. وعن ابن عباس والضّحاك لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا «1» قال: العبيد، قال الفرّاء «2» : يقال سخريّ وسخريّ بمعنى واحد هاهنا وفي قَدْ أَفْلَحَ [المؤمنون: 1] وفي «صاد» «3» . قال أبو جعفر: والأمر كما قال الفرّاء عند جميع أهل اللغة إلّا شيئا ذكره أبو عمرو. [سورة الزخرف (43) : الآيات 33 الى 34] وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً قال الفرّاء: «أن» في موضع رفع، لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ «بيوتهم» فيه غير قول، منه أن المعنى أي على بيوتهم، وقيل: إنه بدل بإعادة الحرف مثل: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الأعراف: 75] . قال أبو جعفر: وهذا القول أولى

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 14. [.....] (2) انظر معاني الفراء 3/ 31. (3) الآية 63.

[سورة الزخرف (43) : آية 35]

بالصواب لأن الحروف لا تنقل عن بابها إلّا بحجة يجب التسليم لها وسقف «1» على الجمع قراءة الحسن ومجاهد وأبي رجاء الأعرج وشيبة ونافع وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي، وأما قراءة أبي عمرو وأبي جعفر وابن كثير وشبل وحميد فسقف «2» على التوحيد. قال أبو جعفر: سقف فيما ذكر أبو عبيد جمع سقف مثل: رهن ورهن، ورأيت علي بن سليمان ينكر هذا لأنه ليس بجمع فعل مطرد. قال: ورهن جمع رهان مثل حمار وحمر، ورهان جمع رهن مثل عبد وعباد، وكذا «سقفا» . وحكى الفرّاء: أن سقفا جمع سقيفة فأما قراءة من قرأ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ فتأوّلها إسماعيل بن إسحاق على أنّ «من» لواحد، قال: والمعنى: لجعلنا لكل من كفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة إلا أنه استبعد هذه القراءة، وحكي أنّ هذا متناول بعيد، واستدلّ على أن القراءة بالجمع أولى لأن بعده ومعارج وسررا وأبوابا فكذا سقف بالجمع أولى. قال أبو جعفر: الذي تأوله بعيد وأولى منه أن يكون سقف بمعنى سقف كما قال جلّ وعزّ: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج: 5] وكما قال الشاعر: [الوافر] 410- كلوا في بعض بطنكم تعفّوا ... فإنّ زمانكم زمن خميص «3» والأحاديث تدلّ على أن القراءة سقف، وكذا نسق الكلام كما حدّثنا بكر بن سهل قال: حدّثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله جلّ وعزّ: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً الآية والتي بعدها قال: يقول سبحانه لولا أن جعل الناس كلّهم كفارا لجعلت للكفار لبيوتهم سقفا من فضّة ومعارج عليها من فضة وزخرفا قال: ذهبا، قال سعيد بن جبير والشعبي: لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً أي جذوعا فهذا كلّه يدل على الجمع. [سورة الزخرف (43) : آية 35] وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَزُخْرُفاً معطوف على سقف. وزعم الفرّاء: أنه يجوز أن يكون معناه سقفا من فضة ومن زخرف ثم حذفت من فنصب. والقول الأول أولى بالصواب. وزعم ابن زيد أن الزخرف متاع البيت فأما أكثر أهل التفسير منهم ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة فقالوا: الزخرف الذهب، وقال الشعبي: الزخرف الذهب والفضة. قال أبو جعفر: والزخرف في اللغة، على ما حكاه محمد بن يزيد، الزينة قال: يقال: بنى داره فزخرفها أي زيّنها وحسّنها. وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فاللام للتوكيد عند البصريين، وعند الكوفيين

_ (1) انظر تيسير الداني 159، وكتاب السبعة لابن مجاهد 585. (2) انظر البحر المحيط 8/ 15، وكتاب السبعة لابن مجاهد 585. (3) الشاهد بلا نسبة في الكتاب 1/ 271، وأسرار العربية ص 323، وتخليص الشواهد 157، وخزانة الأدب 7/ 537، والدرر 1/ 152، وشرح المفصّل 5/ 8، والمقتضب 2/ 172، وهمع الهوامع 1/ 50.

[سورة الزخرف (43) : آية 36]

بمعنى إلّا و «ما» زائدة للتوكيد، وعند بعض النحويين نكرة بمعنى شيء. وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ رفع بالابتداء والتقدير ثواب الآخرة عند ربّك للمتقين. [سورة الزخرف (43) : آية 36] وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ قال محمد بن يزيد: يعش يتعامى، وأصله من الأعشى، وهو الذي قد ركب بصره ضعف وظلمة. ومنه جاء فلان يعشو، إذا جاءه ليلا لما يركب بصره من الظلمة. وقال غيره: عشي عن ذكر الرحمن لم ينتفع بالذكر كما أن الأعشى الذي لا يبصر في الضوء فهو لا ينتفع ببصره كما ينتفع غيره ويَعْشُ في موضع جزم بالشرط وعلامة الجزم فيه حذف الواو وهو مشتق من العشي إلّا أنه يقال: عشي يعشى إذا صار أعشى، وعشا يعشو إذا لحقه ما يلحق الأعشى. وهو من ذوات الواو، والياء في عشي منقلبة من واو، وكذا الألف في عشا الذي هو مصدر. ولهذا قال النحويون: العشا في البصر يكتب بالألف والدليل على ذلك أنه يقال: امرأة عشواء. نُقَيِّضْ لَهُ جواب الشرط. [سورة الزخرف (43) : آية 37] وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ محمول على المعنى لأن شيطانا يؤدّي عن معنى شياطين. [سورة الزخرف (43) : آية 38] حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) حَتَّى إِذا جاءَنا قراءة نافع وعاصم وعبد الله بن عامر وهي البينة لأن الضمير يعود على «من» و «القرين» ، وقراءة أبي عمرو والكوفيين غير عاصم حَتَّى إِذا جاءَنا «1» وهو بمعنى ذلك أي حتّى إذا جاءنا هو وقرينه والعرب تحذف مثل هذا، كما يقال: كحلت عيني، يراد العينان. قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ اسم «ليت» وهي ظرف، كما يقال: يا ليت بيني وبينك بعدا. ويجوز بعد بمعنى ليت مقدار ذلك، فإن قلت: ليت بيني وبينك متباعد رفعت. [سورة الزخرف (43) : الآيات 39 الى 40] وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) «أنّ» في موضع رفع أي لن ينفعكم اشتراككم لأنّ الإنسان في الدنيا إذا أصيب بمصيبة هو وغيره سهلت عليه بعض السهولة وتأسّى به فحرم الله جلّ وعزّ ذلك أهل النار.

_ (1) انظر تيسير الداني 159، وكتاب السبعة لابن مجاهد 586.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 41 إلى 43]

[سورة الزخرف (43) : الآيات 41 الى 43] فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ في موضع جزم بالشرط، والنون للتوكيد ولولا هي لكانت الباء ساكنة وكذا أَوْ نُرِيَنَّكَ في موضع جزم، ولولا النون لحذفت الياء ولكنها بنيت معها على الفتح. [سورة الزخرف (43) : آية 44] وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: إن القرآن لشرف لك ولقومك، وتأوّل هذا مجاهد على أنه شرف لقريش، قال يقال: ممّن الرجل؟ فيقال: من العرب فيقال: من أيّ العرب؟ فيقول: من قريش. وقال غيره: قومه هاهنا من آمن به وكان على منهاجه. وقيل: معنى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ وإنّ الذي أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لذكر أي أنزل لتذكروا به وتعرفوا أمر دينكم. [سورة الزخرف (43) : الآيات 45 الى 48] وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) قال أبو جعفر: في هذه الآية إشكال لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يحتاج مسألة. وقد ذكرنا قول جماعة من العلماء فيها فمنهم من قال: في الكلام حذف، والتقدير: واسأل من أرسلنا إليه من قبلك رسلا من رسلنا، قال: والخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمراد المشركون به. قال أبو جعفر: أما حذف رسل هاهنا فجائز لأن من رسلنا يدلّ عليه، كما قال الشاعر: [الوافر] 411- كأنّك من جمال بني أقيش «1» والتقدير: كأنك جمل من جمال بني أقيش، وأمّا حذف إليه فلا يجوز لو قلت: مررت بالذي ضربت أو بالذي قام وأنت تقدّر حذف حرف الخفض والمضمر لم يجز وإنما يجوز حذف المضمر الذي في الصلة وقوله: المخاطب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمراد به المشركون، كلام فيه نظر. والقول في الآية- والله جلّ وعزّ أعلم- ما قاله قتادة قال: سل أهل الكتاب أأمر الله جلّ وعزّ إلّا بالتوحيد والإخلاص. وشرح هذا من العربية قل: يا محمد لمن عبد الأوثان سل أمم من قد أرسلنا من رسلنا أي من آمن منهم هل أمر الله جلّ وعزّ أن يعبد وثن أو يعبد معه غيره؟ فإنهم لا يجدون هذا في شيء من الكتب، ثم حذفت أمم وأقيمت «من» مقامها، مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . [سورة الزخرف (43) : الآيات 49 الى 50] وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ وقرأ ابن عامر يا أَيُّهَا «2» السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ «الساحر» نعت لأيّ على اللفظ، ولا يجوز النصب إلا في قول المازني على الموضع لأن موضع أي نصب. قال أبو إسحاق: إن قال قائل: كيف قالوا يا أيّها الساحر وقد زعموا أنهم

_ (1) مرّ الشاهد رقم (90) . (2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 583.

[سورة الزخرف (43) : آية 51]

مهتدون؟ فإنما وقع الخطاب على أنه كان عندهم مسمّى بهذا فقالوا: يا أيّها الساحر على ذلك. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا غير هذا الجواب. [سورة الزخرف (43) : آية 51] وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قيل: كان نداؤه كراهة أن يتّبع قومه موسى صلّى الله عليه وسلّم لأنه لمّا دعا كشف عنهم العذاب فتبيّن عجز فرعون عن كشفه فكره أن يتّبعوه فقال: أنا أولى بالاتّباع منه. قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ في موضع خفض، ولم ينصرف عند البصريين «1» لأنها مؤنثة سميت بمذكر، وكذا لو سميت امرأة بزيد لم ينصرف وأجازوا صرف مصر على أن يكون اسما للبلد، وترك الصرف أولى لأن المستعمل في مثلها بلدة فأما الكوفيون فيذهبون إلى أن مصر بمنزلة امرأة سمّيت بهند فكان يجب أن ينصرف إلا أنها منعت من ذلك لقلتها في الكلام. وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي «تجري» في موضع نصب على الحال. ويجوز أن يكون في موضع رفع على خبر هذه أَفَلا تُبْصِرُونَ. [سورة الزخرف (43) : آية 52] أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ قال الفرّاء: هو من الاستفهام الذي جاء بأم لاتصاله بكلام قبله قال: ويجوز أن تردّه على قوله «أليس لي ملك مصر» . وقد شرحناه بأكثر من هذا. وزعم الفرّاء «2» : أنه أخبره بعض المشيخة أنه يقرأ افلا تبصرون أما أنا خير «3» قال أبو جعفر: يقدّره «أما» التي بمعنى «ألا» وحقا، ويكون على هذا أَفَلا تُبْصِرُونَ تمام الكلام. فهذه القراءة خارجة من حجّة الإجماع وكان يجب على هذا أن يكون «أما» بالألف «أنا» مبتدأ وخَيْرٌ خبره وكذا هُوَ مَهِينٌ. وفي معنى «مهين» قولان: قيل معناه الذي يمتهن نفسه في حاجاته ومعاشه ليس له من يكفيه. وقال الكسائي: المهين الضعيف الذليل، وقد مهن مهانة. وهذا أولى بالصواب. [سورة الزخرف (43) : آية 53] فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب هذه قراءة «4» أهل الحرمين وأهل الكوفة وأهل البصرة إلا الحسن وقتادة وشيئا يروى عن عبد الله وأبيّ فأما الحسن وقتادة فقرأ لولا ألقي عليه أسورة «5» والذي روي عن عبد الله وأبيّ فلولا ألقي عليه أساوير قال أبو جعفر: أساورة جمع إسوار. وحكى الكسائي: أسوار وسوار وسوار بمعنى

_ (1) انظر الكتاب 3/ 266. (2) انظر معاني الفراء 3/ 35. (3) انظر البحر المحيط 8/ 23. (4) انظر تيسير الداني 159، والبحر المحيط 8/ 24. (5) انظر تيسير الداني 159، والبحر المحيط 8/ 24.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 54 إلى 55]

واحد، وأساوير وأساورة واحد مثل زنادقة وزناديق إلّا أنه إذا كان بالهاء انصرف لأن الإعراب يقع عليها، وهي بمنزلة اسم ضم إلى اسم. وقال أبو إسحاق: إنما انصرف لأنه له في الواحد نظيرا نحو علانية وعباقية ويجوز أن يكون أساور جمع أسورة أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ على الحال. [سورة الزخرف (43) : الآيات 54 الى 55] فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ أي استخفّهم بذلك القول إلى الكفر بموسى صلّى الله عليه وسلّم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس فَلَمَّا آسَفُونا قال: يقول أسخطونا. [سورة الزخرف (43) : آية 56] فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً «1» قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي سَلَفاً وهو جمع سليف، وقد سمع عن العرب سليف. وروي عن حميد الأعرج أنه قرأ سَلَفاً بضم السين وفتح اللام جمع سلفة وأبو حاتم لا يعرف معناه لشذوذه. وقال أبو إسحاق: سلفة أي فرقة متقدمة ومع إنكار أبي حاتم إياه فإن فيه مطعنا لأن الكسائي رواه عن ابن حميد فذكر إسماعيل بن إسحاق القاضي عن علي بن المديني «2» قال: سألت ابن عيينة عن قراءة حميد سَلَفاً فلم يعرفه فقلت له: إنّ الكسائي رواه عنك فقال: لم نحفظه. [سورة الزخرف (43) : آية 57] وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا لم ينصرف مريم عليها السلام لأنها معرفة واسم مؤنث، ويجوز أن يكون اسما أعجميا فيكون ذلك علّة، ويجوز أن يكون عربيا مبنيا على مفعل جاء على الأصل من رام يريم. إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ «3» قراءة مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وأبي عمرو وعاصم وحمزة، ويروى عن ابن عباس بكسر الصاد. ويَصِدُّونَ «4» بالضم قراءة الحسن وإبراهيم وأبي جعفر وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والكسائي، وتروى عن علي بن طالب رضي الله عنه وأبي عبد الرحمن السلمي وعبيد بن عمير الليثي. قال أبو جعفر: حكى الكسائي والفراء «5» إنّ يصدّون ويصدّون لغتان بمعنى واحد، كما يقال: نمّ ينمّ وينمّ وشدّ يشدّ ويشدّ، وفرّق أبو عبيد القاسم بن

_ (1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 587، وتيسير الداني 159. [.....] (2) علي بن المديني، محدّث، (ت 234 هـ) ترجمته في الأعلام 5/ 118. (3) انظر تيسير الداني 159. (4) انظر البحر المحيط 8/ 25. (5) انظر معاني الفراء 3/ 36.

[سورة الزخرف (43) : آية 58]

سلام بينهما فزعم أن معنى يصدّ يضجّ ومعنى يصدّ من الصدود عن الحق، وزعم أنها لو كانت يصدّ بالضم لكانت إذا قومك عنه يصدّون. قال أبو جعفر: وفي هذا ردّ على الجماعة الذين قراءتهم حجّة وقد خالف بقوله هذا الكسائي والفراء، والذي ذكره من الحجة ليس بواجب لأنه يقال: صددت من قوله أي لأجل قوله وعلى هذا معنى الآية- والله جلّ وعزّ أعلم- إنّما هو «يصدّون» من أجل ذلك القول، وقد يجوز أن يكون مع ذلك الصدود ضجيج فيقول المفسّر: معناه يضجّون. [سورة الزخرف (43) : آية 58] وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ ابتداء وخبر «أم هو» معطوف على الهتنا ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا مفعول من أجله أي لم يقولوا هذا على جهة المناظرة ولا على جهة التثبت فهذا فرق بين الجدل والمناظرة لأن المتناظرين يجوز أن يكون كل واحد منهما يطلب الصواب والجدل الذي جادلوا به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيما روي عن ابن عباس أنه لمّا أنزل الله جلّ وعزّ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء: 98] قالوا: أليس قد عبد عيسى صلّى الله عليه وسلّم وهو عندك رجل صالح فقد جعلته في النار معنا فهذا هو الجدل الذي كان منهم لأن الكلام لا يوجب هذا لأنه قال جلّ وعزّ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ولم يقل من تعبدون و «ما» فإنما هي لغير بني أدم. بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي كثير والخصومة فيما يدفعون به الحق. [سورة الزخرف (43) : آية 59] إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ أي أنعمنا عليه بظهور الآيات على يديه. وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ قال أبو إسحاق: يعني عيسى صلّى الله عليه وسلّم أي يدلّهم على نبوته، وقال غيره وصفناه لبني إسرائيل بأنه مثل لآدم عليه السلام. وقيل: مثل ومثل واحد أي هو بشر مثلهم. [سورة الزخرف (43) : آية 60] وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يقول يخلف بعضهم بعضا. وفي أبي صالح عنه قال: لو نشاء لجعلناهم خلائف وأهلكناهم. [سورة الزخرف (43) : الآيات 61 الى 62] وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ قراءة أكثر الناس، ويروى عن ابن عباس وأبي هريرة أنّهما قرا وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ «1» وزعم الفراء «2» أنهما متقاربتا المعنى. وحكي عن محمد بن

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 26. (2) انظر معاني الفراء 3/ 37.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 63 إلى 64]

يزيد أنه قال: معنى «لعلم» لذكر وتنبيه وتعريف، ومعنى «لعلم» لدلالة وعلامة. قال أبو جعفر: فأما الضمير الذي في وَإِنَّهُ ففي معناه قولان: مذهب ابن عباس وأبي هريرة وأبي مالك ومجاهد والضحاك أنّ الضمير لعيسى صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى: لنزوله، والقول الآخر، وهو قول الحسن، أن الضمير للقرآن أي وإن القرآن لعلم للساعة لأنه لا ينزل كتاب بعده، والقول الأول أبين وعليه أكثر الناس، وقد قيل: في هذا دليل على أنه إذا نزل عيسى صلّى الله عليه وسلّم رفعت المحنة ولم تقبل من أحد توبة. وفي الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما يدلّ على ذلك وهو قوله «فليكسرنّ الصليب وليقتلنّ الخنزير وتلقي الأرض أفلاذ كبدها» «1» ففي هذا دليل أنه لا أحد يأخذ من أحد زكاة، وأنّ المحنة قد ارتفعت وقربت الساعة فَلا تَمْتَرُنَّ بِها قال أبو إسحاق: أي فلا تشكّوا وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ «مستقيم» نعت لصراط، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر. [سورة الزخرف (43) : الآيات 63 الى 64] وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قال أبو إسحاق: أي بالآيات المعجزات قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ قال: أي بالإنجيل وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ قال أبو عبيدة: بعض بمعنى كل وأنشد: [الكامل] 412- أو يخترم بعض النّفوس حمامها «2» قال أبو جعفر: وهذا القول مردود عند جميع النحويين، ولا حاجة عليه من معقول أو خبر لأن بعضا معناها خلاف معنى «كلّ» في كل المواضع. قال أبو إسحاق: المعنى ولأبيّن لكم في الإنجيل بعض الذي تختلفون فيه، وقال غيره: إنما بيّن لهم بعض الذي اختلفوا فيه على الحقيقة وذلك ما سألوه عنه أو كانت لهم في إخباره إياهم منفعة، وقد يجوز أن يختلفوا في أشياء غير ذلك. والبيت الذي أنشده أبو عبيدة لا حجة فيه لأن معنى «أو يخترم بعض النفوس» أنه يعني نفسه وبعض النفوس.

_ (1) أخرجه مسلم في صحيحه ب 71 رقم 243، وذكره الطحاوي في مشكل الآثار 1/ 28، والآجري في الشريعة 380، والمتقي الهندي في كنز العمال 39722، والقرطبي في تفسيره 10/ 315، «لينزلن ابن مريم حكما ... عادلا فليكسرن الصليب ... » (2) الشاهد للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 313، والخصائص 1/ 74، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 772، وشرح شواهد الشافية 415، والصاحبي في فقه اللغة ص 251، ومجالس ثعلب ص 63، والمحتسب 1/ 111، وبلا نسبة في خزانة الأدب 7/ 349، والخصائص 2/ 317. وصدره: «تراك أمكنة إذا لم أرضها»

[سورة الزخرف (43) : الآيات 65 إلى 66]

[سورة الزخرف (43) : الآيات 65 الى 66] فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ قال أبو إسحاق: الأحزاب اليهود والنصارى. [سورة الزخرف (43) : آية 67] الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) الْأَخِلَّاءُ جمع خليل ولم يقل فيه فعلاء كراهة التضعيف بَعْضُهُمْ على البدل من الأخلاء، ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء لِبَعْضٍ عَدُوٌّ الخبر. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) قال: فكلّ خلّة فهي عداوة يوم القيامة إلّا خلّة المتقين إِلَّا الْمُتَّقِينَ نصب على الاستثناء من موجب. [سورة الزخرف (43) : آية 68] يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) من حذف الياء، وهو أكثر في كلام العرب قال: النداء موضع حذف ومن أثبتها قال: هي اسم في موضع خفض فأثبتّها كما أثبت المظهر. [سورة الزخرف (43) : آية 69] الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا في موضع نصب على النعت لعبادي، ويدلّك على أنه نعت له. وتبيين ما رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: بينما الناس في الموقف إذ خرج مناد من الحجب فنادى يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ففرحت الأمم كلّها، وقالت نحن عباد الله كلنا فخرج ثانية فنادى الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ فيئست الأمم كلّها إلا أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن كان مسلما. [سورة الزخرف (43) : آية 70] ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أي يقال لهم ذلك أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ عطف على المضمر في ادخلوا «وأنتم» توكيد تُحْبَرُونَ في موضع نصب على الحال. وعن ابن عباس «تحبرون» تكرمون. [سورة الزخرف (43) : آية 71] يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وحكي في الجمع كوبة وكيبان ويجوز كياب وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ «1» هذه قراءة أهل المدينة وأهل الشام، وكذا في

_ (1) انظر تيسير الداني 160، وكتاب السبعة لابن مجاهد 588.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 72 إلى 73]

مصاحفهم. وقراءة أهل العراق تَشْتَهِي بغير هاء، والقراءتان حسنتان فإثبات الهاء على الأصل وحذفها لطول الاسم غير أنه حكي عن محمّد بن يزيد أنه يختار إثبات الهاء ويقدمه على حذفها في مثل هذا، وعلته في ذلك أنّ الهاء إنما حذفت في الذي لطول الاسم، «وما» أنقص من الذي، وأيضا فإنك إذا حذفت الياء في «الذي» وفي «التي» فقد عرف المذكر من المؤنث، وليس هذا في «ما» . [سورة الزخرف (43) : الآيات 72 الى 73] وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ نعت لتلك التي خبر الابتداء. [سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 75] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ خبر «إنّ» ويجوز النصب في غير القرآن على الحال، وكذا وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ قال الفراء: وفي قراءة عبد الله وهم فيها يريد جهنم. ومن قال «فيه» أراد العذاب. [سورة الزخرف (43) : آية 76] وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) خبر كان. و «هم» عند سيبويه فاصلة لا موضع لها من الإعراب بمنزلة «ما» في قوله جلّ وعزّ فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [النساء: 155 والمائدة: 13] والكوفيون يقولون هم عماد. قال الفراء «1» : وفي حرف عبد الله بن مسعود ولكن كانوا هم الظالمون «2» . قال أبو جعفر: وعلى هذا يكون «هم» في موضع رفع بالابتداء و «الظالمون» خبر الابتداء وخبره خبر كان، كما تقول: كان زيد أبوه خارج. [سورة الزخرف (43) : آية 77] وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قال مجاهد: ما كنا ندري معنى «يا مالك» حتّى سمعنا في قراءة عبد الله ونادوا يا مال «3» . قال أبو جعفر: هذا على الترخيم، والعرب ترخّم مالكا وعامرا كثيرا إلّا أن هذا مخالف للسواد، وفيه لغتان يقال: يا مال أقبل، هذا أفصح اللغتين، كما قال: [البسيط] 413- يا حار لا أرمين منكم بداهية ... لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك «4» ومن العرب من يقول: يا مال أقبل، فيجعلون ما بقي اسما على حاله.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 37. (2) انظر البحر المحيط 8/ 27، ومعاني الفراء 3/ 37. (3) انظر البحر المحيط 8/ 27. (4) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 180.

[سورة الزخرف (43) : آية 80]

[سورة الزخرف (43) : آية 80] أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى والكوفيون يقرءون يَحْسَبُونَ يقال: حسب يحسب وتحسب، لغتان، والقياس الفتح مثل حذر يحذر إلّا أن الكسر أكثر في كلام العرب. ويقال: إنّ لغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الكسر، وفتحت «أن» لأنها في موضع اسم. [سورة الزخرف (43) : الآيات 81 الى 83] قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) إن جعلت «إن» للشرط فكان في موضع جزم وإن جعلتها بمعنى «ما» فلا موضع لكان. وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ قال: يقول: لم يكن للرحمن ولد. قال أبو جعفر: جعل «إن» بمعنى «ما» كما قال جلّ وعزّ: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ [الملك: 20] أي ما الكافرون إلّا في غرور. [سورة الزخرف (43) : الآيات 84 الى 85] وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ قال أبو إسحاق: أي معبود في السماء ومعبود في الأرض. وفي حرف عبد الله وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله. [سورة الزخرف (43) : الآيات 86 الى 87] وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ في موضع نصب على الاستثناء. [سورة الزخرف (43) : الآيات 88 الى 89] وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) وَقِيلِهِ يا رَبِّ هذه قراءة «1» المدنيين وأبي عمرو والكسائي، وقرأ الكوفيون غير الكسائي وَقِيلِهِ بالخفض، وزعم هارون القارئ أنّ الأعرج قرأ وَقِيلِهِ بالرفع. قال أبو جعفر: وَقِيلِهِ بالنصب من خمسة أوجه: قال الأخفش سعيد: «وقيله» بالنصب من وجهين يكون بمعنى أم يحسبون أنا لا نسمع سرّهم ونجواهم وقيله، الوجه الثاني: أن يكون مصدرا. وقال أبو إسحاق: المعنى وعنده علم الساعة ويعلم قيله لأن معنى وعنده علم الساعة ويعلم الساعة أي يعلم وقت الساعة وهو الغيب ويعلم قيله وهو الشهادة. والقول الرابع أن يكون المعنى إلّا من شهد بالحق وهم يعلمون الحقّ وقيله. والقول الخامس ورسلنا لديهم يكتبون ذلك وقيله. قال أبو إسحاق: والخفض بمعنى وعنده علم الساعة وعلم قيله. قال أبو جعفر: والرفع بالابتداء. قال

_ (1) انظر تيسير الداني 160، والبحر المحيط 8/ 30. [.....]

الفراء «1» : كما تقول نداؤه هذه الكلمة وقدّره غيره بمعنى وقيله يا ربّ ويقال: قال قولا وقيلا وقالا بمعنى واحد. والقراءة البينة بالنصب من جهتين: إحداهما: أن المعطوف على المنصوب يحسن أن يفرق بينهما وإن تباعد ذلك لانفصال العامل من المعمول فيه مع المنصوب وذلك في المخفوض إذا فرّقت بينهما قبيح، والجهة الأخرى أنّ أهل التأويل يفسرون الآية على معنى النصب، كما روى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ قال: فأخبر الله جلّ وعزّ عن محمد صلّى الله عليه وسلّم، وروى معمر عن قتادة و «قيله يا رب» قال: قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون، فالهاء في «وقيله» على هذا عائدة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقد قيل: إن الهاء راجعة إلى قوله: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا [الزخرف: 57] أي ويسمع قول عيسى ابن مريم صلّى الله عليه وسلّم لمّا يئس من صلاح قومه وإيمانهم إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ والأولى بالصواب القول الأول أن تكون الهاء عائدة على نبينا صلّى الله عليه وسلّم لجهتين: إحداهما أنّ ذكره أقرب إلى المضمر لأن المعنى: قل يا محمد إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين. والجهة الأخرى أن الذي بعده مخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بإجماع وهو فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أي أعرض عنهم وَقُلْ سَلامٌ أي مسالمة ومتاركة. والتقدير في العربية أمري سلام. زعم الفراء «2» أنّ التقدير سلام عليكم ثم حذف. وهذا خلاف ما قال المتقدمون، وقد ذكر مثل هذا سيبويه، وقال: نزل بمكة من قبل أن يؤمروا بالسلام، وأيضا فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد نهى أن يبدأ اليهود والنصارى بالسلام، وحظر على المسلمين فصحّ أن معنى وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63] أنه ليس من التسليم في شيء، وإنما هو من المتاركة والتسليم. وكذا فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فسوف تعلمون قراءة المدنيين «3» ، وهو على هذا من كلام واحد وقراءة ابن كثير والكوفيين والبصريين فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ بالياء على أنه قد تمّ الكلام عند وَقُلْ سَلامٌ. والمعنى فسوف يعلمون العقوبة على التهديد.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 38. (2) انظر معاني الفراء 3/ 38. (3) انظر البحر المحيط 8/ 30، وكتاب السبعة لابن مجاهد 589.

44 شرح إعراب سورة حم (الدخان)

44 شرح إعراب سورة حم (الدخان) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى عن مهدي بن ميمون قال: حدّثنا عمران القصير عن الحسن قال: من قرأ سورة «الدخان» ليلة الجمعة غفر له. [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) حم (1) وَالْكِتابِ مخفوض بالقسم. الْمُبِينِ من نعته. [سورة الدخان (44) : آية 3] إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ قال أبو جعفر: وقد ذكرنا عن العلماء أنها ليلة القدر. فأما البركة التي فيها فهي نزول القرآن، وقال أبو العالية: هي رحمة كلّها لا يوافقها عبد مؤمن يعمل إحسانا إلّا غفر له ما مضى من ذنوبه. وقال عكرمة: يكتب فيها الحاجّ حاجّ بيت الله جلّ وعزّ فلا يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم أحد فقيل لها: مباركة لثبات الخير فيها ودوامه. والبركة في اللغة. الثبات والدوام. [سورة الدخان (44) : آية 4] فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أي فيه الحكمة من فعل الله جلّ وعزّ. [سورة الدخان (44) : آية 5] أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا في نصبه «1» خمسة أقوال: قال سعيد الأخفش: نصبه على الحال بمعنى أمرين. وقال محمد بن يزيد: نصبه نصب المصادر أي إنّا أنزلناه إنزالا، والأمر مشتمل على الأخبار. قال أبو عمر الجرميّ: هو حال من نكرة، وأجاز على هذا: هذا رجل مقبلا. وقال أبو إسحاق: «أمرا» مصدر، والمعنى فيها يفرق فرقا و «أمرا» بمعنى: فرق، والقول الخامس أن معنى يفرق يؤمر ويؤتمر فصار مثل: هو يدعه تركا.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 34.

[سورة الدخان (44) : آية 6]

[سورة الدخان (44) : آية 6] رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ في نصبه خمسة أقوال: قال الأخفش: هو نصب على الحال. وقدّره الفراء «1» مفعولا على أنه منصوب بمرسلين، وجعل الرحمة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وقال أبو إسحاق: يجوز أن يكون رحمة مفعولا من أجله. وهذا أحسن ما قيل في نصبها. وقيل: هي بدل من أمر، والقول الخامس: أنها منصوبة على المصدر. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يكون «هو» زائدا فاصلا، ويجوز أن يكون مبتدأ و «السميع» خبره والْعَلِيمُ من نعته. [سورة الدخان (44) : الآيات 7 الى 9] رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) رَبِّ السَّماواتِ نعت للسميع، ويجوز أن يكون مرفوعا على إضمار مبتدأ. وهذه قراءة المدنيين والبصريين سوى الحسن فإنه والكوفيين قرءوا رب السماوات «2» على البدل بمعنى رحمة من ربّك ربّ السّموات، وكذا ربكم ورب آبائكم الأولين بالرفع والخفض. [سورة الدخان (44) : آية 10] فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) وسمع من العرب في جمع دخان دواخن. وزعم القتبيّ أنه لم يأت على هذا إلّا دخان وعثان. قال أبو جعفر: وهذا القول ليس بشيء عند النحويين الحذاق وإنما دواخن جمع داخنة وهذا قول الفراء نصا وكلّ من يوثق بعلمه، وحكى الفراء: دخنت النار فهي داخنة إذا أتت بالدخان. [سورة الدخان (44) : الآيات 11 الى 12] يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) قال أبو إسحاق: أي يقول الناس الذين أصابهم الجدب «هذا عذاب أليم» . [سورة الدخان (44) : الآيات 13 الى 14] أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى في موضع رفع بالابتداء على قول سيبويه، وعلى قول غيره بإضمار فعل. قال أبو الحسن بن كيسان: «أنّى» تجتذب معنى «أين» «وكيف» أي من أي المذاهب وعلى أي حال، ومنه قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا [ال عمران: 37] أي من أي المذاهب وعلى أي حال. [سورة الدخان (44) : آية 15] إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) إِنَّا أصله إنّنا فحذفت النون تخفيفا. كاشِفُوا الْعَذابِ الأصل كاشفون حذفت

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 39. (2) انظر تيسير الداني 160، وكتاب السبعة لابن مجاهد 592.

[سورة الدخان (44) : الآيات 16 إلى 17]

النون تخفيفا، ومن يحذف النون لالتقاء الساكنين نصب العذاب قَلِيلًا نصب لأنه نعت لظرف أو لمصدر. قال أحمد بن يحيى: إنكم عائدون إلى الشرك. وقيل إلى عذاب الآخرة. [سورة الدخان (44) : الآيات 16 الى 17] يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) يَوْمَ نَبْطِشُ منصوب بمعنى اذكروا، ولا يجوز أن يكون منصوبا بمنتقمين لأن «أنّ» لا يجوز فيها مثل هذا. وقرأ أبو جعفر وطلحة يَوْمَ نَبْطِشُ «1» وهي لغة معروفة وقراءة أبي رجاء يَوْمَ نَبْطِشُ «2» بضم النون وكسر الطاء على حذف المفعول. يقال: بطش وأبطشه. قال أحمد بن يحيى: وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أي عند ربه جلّ وعزّ، قال: وقال «كريم» من قومه. [سورة الدخان (44) : آية 18] أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ «أن» في موضع نصب والمعنى بأن ونصبت «عباد الله» بوقوع الفعل عليهم أي سلّموا إلى عباد الله أي اطلقوهم من العذاب ويجوز أن تنصب عباد الله على النداء المضاف، ويكون المعنى: أن أدّوا إليّ ما أمركم الله عزّ وجلّ به يا عباد الله. [سورة الدخان (44) : آية 19] وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ معطوفة على «أن» الأولى إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قال أبو إسحاق: أي بحجّة واضحة بيّنة أني نبيّ. [سورة الدخان (44) : الآيات 20 الى 21] وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ ويجوز إدغام الذال في التاء لقربها منها وأن التاء مهموسة أَنْ تَرْجُمُونِ قال الضحاك: أي أن تشتموني وحذفت الياء لأنها رأس آية، وكذا فَاعْتَزِلُونِ. [سورة الدخان (44) : آية 22] فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) من قال: إنّ هؤلاء فالمعنى عنده قال: إنّ هؤلاء. [سورة الدخان (44) : آية 23] فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) فَأَسْرِ بِعِبادِي من سرى، ومن قال: أسرى قال: فأسر لَيْلًا ظرف. [سورة الدخان (44) : آية 24] وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً على الحال. قال محمد بن يزيد: يقال: عيش راه خفض وادع

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 35. (2) انظر البحر المحيط 8/ 35.

[سورة الدخان (44) : آية 25]

فمعنى «رهوا» أي ساكنا حتّى يحصلوا فيه وهو ساكن ولا ينفروا منه. وقيل: الرهو المتفرق. [سورة الدخان (44) : آية 25] كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) «كم» في كلام العرب للتكثير و «ربّ» للتقليل وزعم الكسائي أنّ أصل «كم» كما فإذا قلت: كم مالك؟ فالمعنى كأيّ شيء من العدد مالك، وحذفت الألف من «ما» كما تحذف مع حروف الخفض مثل لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] قيل له: فلم أسكنت الميم؟ قال: لكثرة الاستعمال كما تسكّن في الشعر، وأنشد: [البسيط] 414- فلم دفنتم عبيد الله في جدث ... ولم تعجّلتم ولم تروحونا «1» وذكر أبو الحسن بن كيسان: هذا القول فاسد، واستدلّ على ذلك إنما تستعمله العرب في جواب «كم» لأنهم يقولون في جواب كم مالك؟ ثلاثون وما أشبهه، ولو كان كما قال لكان الجواب بالكاف لأن قائلا لو قال: كمن أخوك؟ لقلت: كمحمد، ولو قال: مثل ما مالك؟ لقلت: مثل الثياب، ولو قال: كأيّ شيء مالك؟ لقلت: كمال زيد. وهذا لا يقال في «كم» فصحّ أنها ليست «ما» دخلت عليها كاف التشبيه، وأنها مثل «من» و «ما» يستفهم بها عن العدد لأنك لو قلت: أمالك ثلاثون أم أربعون؟ لم ينتظم معنى «كم» لاشتماله على ذلك كله. وهي اسم غير معرب لأن فيها معنى الحروف. قال سيبويه: فبعدت عن المضارعة بعد «كم» و «إذ» من المتمكّنة. [سورة الدخان (44) : آية 26] وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) في أبي صالح عن ابن عباس: أنّ المقام الكريم المنازل الحسنة. قال أبو جعفر وهذا معروف في اللغة أن يقال للموضع الذي يقام فيه: مقام كريم، وفي الضحاك عن ابن عباس: أن المقام المنابر، وكذا قال سعيد بن جبير، وهو مروي عن عبد الله بن عمر، وقد ذكرناه بإسناده في سورة «الشعراء» «2» . [سورة الدخان (44) : آية 27] وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) قال يعقوب بن السكّيت: النعمة التنعّم. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: «فكهين» معجبين، وعنه فاكهين فرحين. وحكى أبو عبيد عن أبي زيد الأنصاري أنه يقال: رجل فكه إذا كان طيّب النفس ضحوكا، وزعم الفراء «3» أنّ فكها وفاكها بمعنى واحد، كما يقال: حذر وحاذر. فأما محمد بن يزيد ففرق بين فعل وفاعل في مثل هذا تفريقا لطيفا فقال: الحذر الّذي في خلقته الحذر، والحاذر المستعدّ. قال أبو

_ (1) لم أجده في كتب الشواهد. (2) انظر كتاب معاني القرآن للنحاس في تفسير الآية 58- الشعراء. (3) انظر معاني الفراء 3/ 249.

[سورة الدخان (44) : آية 28]

جعفر: وهذا قول صحيح بيّن يدلّ عليه أن حذرا لا يتعدّى عند النحويين. [سورة الدخان (44) : آية 28] كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) الكاف في موضع رفع أي الأمر ذلك، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى كذلك يفعل بمن يهلكه وينتقم منه. [سورة الدخان (44) : آية 29] فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ أكثر أهل التفسير على أنه حقيقة وأنها تبكي على المؤمن موضع مصلّاه من الأرض وموضع مصعده من السماء. وقيل: هو مجاز والمعنى: وما بكى عليهم أهل السماء ولا أهل الأرض وقول ثالث نظير قول العرب: ما بكاه شيء، وجاء بكت على تأنيث السماء. وزعم الفراء «1» : أنّ من العرب من يذكّرها. [سورة الدخان (44) : آية 30] وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) نعت للعذاب، وزعم الفراء أن في قراءة عبد الله مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ «2» وذهب إلى إضافة الشيء إلى نفسه مثل: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5] . قال أبو جعفر: وإضافة الشيء إلى نفسه عند البصريين «3» محال، والقراءة مخالفة للسواد، ولو صحّت كان تقديرها: من عذاب فرعون المهين ثم أقيم النعت مقام المنعوت ويكون الدليل على الحذف. [سورة الدخان (44) : آية 31] مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) روي عن ابن عباس قال: من المشركين وعن الضحاك قال: من الفتّاكين. [سورة الدخان (44) : آية 32] وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ الضمير يعود على بني إسرائيل أي اخترناهم للرسالة والتشريف عَلى عِلْمٍ لأن من اخترناه منهم للرسالة يقوم بأدائها عَلَى الْعالَمِينَ لكثرة الرسل فيهم وقيل: عالم أهل زمانهم. [سورة الدخان (44) : آية 33] وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) أصحّ ما قيل فيه أن البلاء هاهنا النعمة مثل وجميل بلائه لديك. قال الفراء «4» : وقد يكون البلاء هاهنا العذاب.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 41. (2) انظر معاني الفراء 3/ 41، والبحر المحيط 8/ 37. (3) انظر الإنصاف المسألة رقم (61) . [.....] (4) انظر معاني الفراء 3/ 42.

[سورة الدخان (44) : الآيات 34 إلى 39]

[سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 39] إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي يقولون هذا على العادة بغير حجّة وقد تبيّنت لهم البراهين وظهرت الحجج لهم، ولهذا لم يحتجّ عليهم هاهنا وخوّفوا وهدّدوا فقيل أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ أي فقد علموا أنّهم كانوا أعزّ منهم. وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ عطف على قوم، ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وما بعده خبره، ويجوز أن يكون في موضع نصب بإضمار فعل دلّ عليه أهلكناهم إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ. [سورة الدخان (44) : آية 40] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) وأجاز الكسائي والفرّاء إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ بالنصب. قال أبو إسحاق: يكون يوما منصوب على الظرف، ويكون التقدير: أنّ ميقاتهم في يوم الفصل. قال أبو جعفر: يفرّق بين إنّ واسمها بالظرف فتقول: إنّ حذاءك زيدا، وإنّ اليوم القتال لأن الظرف معناه في الكلام وإن لم تلفظ به فهذا لا اختلاف بين النحويين فيه، واختلفوا في الحال فأجاز الأخفش: تقديمها ومنعه محمد بن يزيد. وأجاز الأخفش: إنّ قائمين فيها إخوتك تنصب قائمين على الحال. «أجمعين» في موضع خفض توكيد للهاء والميم. [سورة الدخان (44) : الآيات 41 الى 42] يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً نصبت يوما على البدل من يوم الأول. قال الضحّاك مَوْلًى عَنْ مَوْلًى أي عن وليّ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ في إعراب «1» من أربعة أوجه: قال الأخفش سعيد: «من» في موضع رفع على البدل، تقديره بمعنى ولا ينصر إلا من رحم الله. ويجوز أن يكون في موضع رفع على الابتداء أي إلّا من رحم الله فيعفى عنه. وقال غيره «من» في موضع رفع بمعنى لا يغني إلّا من رحم الله أي لا يشفع إلّا من رحم الله. وهذا قول حسن لأنه قد صحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه يشفع لأمته حتّى يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من الإيمان، وصح عنه أن المؤمنين يشفعون. والقول الرابع في «من» أنها في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، وهذا قول الكسائي والفراء «2» . [سورة الدخان (44) : الآيات 43 الى 44] إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) وعن أبي الدرداء قال: طعام الفاجر، وهذا تفسير وليس بقراءة لأنه مخالف للمصحف.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 39. (2) انظر معاني الفراء 3/ 42.

[سورة الدخان (44) : الآيات 45 إلى 46]

[سورة الدخان (44) : الآيات 45 الى 46] كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) كالمهل تغلي في البطون قراءة أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة، وقراءة ابن كثير كَالْمُهْلِ يَغْلِي «1» وهو اختيار أبي عبيد. وهو مخالف لحجّة الجماعة من أهل الأمصار. والمعنى فيه أيضا بعيد على ما تأوله أبو عبيد لأنه جعل يغلي للمهل لأنه أقرب إليه، وليس المهل الذي يغلي في البطون إنما المهل يغلي في القدور، كما روي عن عبد الله بن مسعود أنه أخذ فضة من بيت المال فأذابها ثم وجّه إلى أهل المسجد فقال: هذا المهل. وعن ابن عباس قال: المهل: درديّ الزيت. قال أبو جعفر: إلّا أنه لا يكون لدرديّ الزيت إلّا أن يغلي بذلك على ظاهر الآية. [سورة الدخان (44) : آية 47] خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) خُذُوهُ فَاعْتُلُوهُ قراءة أهل المدينة. وقرأ أهل الكوفة فَاعْتِلُوهُ «2» وهما لغتان إلا أنّ القياس الكسر لأنه مثل ضربه يضربه. وأجاز الخليل وسيبويه: «خذوهو فاعتلوهو» بإثبات الواو في الإدراج إلّا أنّ الاختيار حذفها، واختلف النحويون في ذلك فمذهب سيبويه أن الأصل: «خذوهو» بإثبات الواو إلّا أنها حذفت لاجتماع حرفين من حروف المدّ واللين. ومذهب غيره أنّها حذفت من أجل الساكنين. وقال جويبر عن الضحّاك: إنه نزل في أبي جهل «خذوه فاعتلوه» إذا أمر به يوم القيامة. قال الضحّاك: فَاعْتِلُوهُ فادفعوه، إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ أي إلى وسط الجحيم. [سورة الدخان (44) : آية 48] ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) روي عن ابن عباس: الحميم الحارّ الذي قد انتهى حرّه. [سورة الدخان (44) : آية 49] ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) كسرت «إن» لأنها مبتدأة، ومن قرأ ذُقْ إِنَّكَ «3» جعله بمعنى لأنك وبأنك. والقراءة بالكسر عليها حجّة الجماعة، وأيضا فإن الكفر أكثر من قوله: أنا العزيز الكريم لأن تأويل من قرأها بالفتح ذق لأنك كنت تقول: أنا العزيز الكريم. [سورة الدخان (44) : آية 50] إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) قيل: دلّ بهذا على أنهم يعذبون على الشك وقيل: بل كانوا مع شكّهم يجحدون

_ (1) انظر تيسير الداني 160، وكتاب السبعة لابن مجاهد 592، والبحر المحيط 8/ 40. (2) انظر تيسير الداني 160، وكتاب السبعة لابن مجاهد 593. (3) انظر البحر المحيط 8/ 40.

[سورة الدخان (44) : الآيات 51 إلى 53]

ما شكّوا فيه. ومن شك في شيء فجحده فهو عاص لله تعالى. [سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 53] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) «1» قراءة الكوفيين وأبي عمرو، وقرأ المدنيون فِي مَقامٍ بضم الميم. قال الفرّاء «2» مقام أجود في العربية لأنه للمكان. قال أبو جعفر: وهذا ما ينكر على الفراء أن يقال للقراءات التي قد روتها الجماعة عن الجماعة: هذه أجود من هذه لأنها إذا روتها الجماعة عن الجماعة قيل: هكذا أنزل لأنهم لا يجتمعون على ضلالة فكيف تكون إحداهما أجود من الأخرى؟ ومقام بالضم معناه صحيح يكون بمعنى الإقامة كما قال: [الكامل] 415- عفت الدّيار محلّها فمقامها «3» والمقام أيضا الموضع إذا أخذته من أقام، والمقام بالفتح الموضع أيضا إذا أخذته من قام. أَمِينٍ قال الضحّاك: أمنوا فيه الجوع والسقم والهرم والموت وأمنوا الخروج منه. قال مجاهد: عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الصافات: 44] لا يرى بعضهم قفا بعض. [سورة الدخان (44) : الآيات 54 الى 55] كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) كَذلِكَ الكاف في موضع رفع أي الأمر كذلك، ويجوز أن يكون في موضع نصب أي كذلك يفعل بالمتقين. وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ قال الضحّاك: الحور البيض والعين الكبار الأعين. قال الأخفش: ومن العرب من يقول: بحير عين. قال أبو جعفر: هذا على إتباع الأول للثاني، ونظيره من روى «ارجعن مأزورات غير مأجورات» «4» والفصيح البيّن ارجعن «موزورات» و «بحور» فأما «عين» فهو جمع عيناء وهو فعل كسرت منه فاء الفعل لأن بعدها ياء. [سورة الدخان (44) : آية 56] لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى نصب لأنه استثناء ليس من الأول.

_ (1) انظر تيسير الداني 160، قراءة نافع وابن عامر بضم الميم والباقين بفتحها. (2) انظر معاني الفراء 3/ 44. (3) الشاهد للبيد في ديوانه 297، ولسان العرب (خرج) ، و (أبد) ، و (غول) ، (وصل) ، وجمهرة اللغة 961، وتاج العروس (خرج) و (غول) و (رجم) و (مني) و (قوم) ، ومقاييس اللغة 1/ 34، والمخصّص 15/ 176، وبلا نسبة في لسان العرب (رجم) ، وجمهرة اللغة 466، وديوان الأدب 1/ 189. وعجزه: «بمنى تأبد غولها فرجامها» (4) أخرجه أبو داود في سننه في الجنائز- الحديث رقم (3167) ، وابن ماجة في سننه- باب 50- الحديث رقم (1578) .

[سورة الدخان (44) : آية 57]

[سورة الدخان (44) : آية 57] فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَضْلًا منصوب على المصدر، والعامل فيه المعنى، واختلف في ذلك المعنى، فقال أبو إسحاق فيه إنه يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ قال: ويجوز أن يكون العامل فيه إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ، وقال غيره العامل فيه وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ، وجواب رابع أن يكون هذا كلّه عاملا فيه لأن معناه كلّه تفضّل من الله جلّ وعزّ. وكلّه يحتاج إلى شرح. وذلك أن يقال: قد قال جلّ وعزّ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 127، ويوسف: 12] وبِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام: 129] فما معنى التفضل هاهنا ففي هذا غير جواب منها أن تكليف الله جلّ وعزّ الأعمال ليس لحاجة منه إليها، وإنّما كلّفهم ذلك ليعملوا فيدخلوا الجنة فالتكليف وإدخالهم الجنة تفضّل منه جلّ وعزّ. فأصحّ الأجوبة في هذا أنّ للمؤمنين ذنوبا لا يخلون منها، وإن كانت لكثير منهم صغائر فلو أخذهم الله جلّ وعزّ بها لعذّبهم غير ظالم لهم، فلما غفرها لهم وأدخلهم الجنة كان ذلك تفضلا منه جلّ وعزّ، وأيضا فإنّ لله جلّ وعزّ على عباده كلّهم نعما في الدنيا فلو قوبل بتلك النعم أعمالهم لاستغرقها فقد صار دخولهم الجنة تفضلا، كما قال صلّى الله عليه وسلّم «ما أحد يدخل الجنّة بعمله» قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلّا أنا يتغمّدني الله منه برحمة» . [سورة الدخان (44) : آية 58] فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ قيل: معنى يسّرناه علمناكه وحفّظناكه وأوحينا إليك لتتذكّروا به وتعتبروا. [سورة الدخان (44) : آية 59] فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) فَارْتَقِبْ أي فارتقب أن يحكم الله جلّ وعزّ بينك وبينهم إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ فيه قولان: أحدهما أنه مجاز، وأن المعنى أنهم بمنزلة المرتقبين لأن الأمر حال بهم لا محالة، وقيل هو حقيقة أي أنهم مرتقبون ما يؤمّلونه.

45 شرح إعراب سورة الجاثية

45 شرح إعراب سورة الجاثية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) تَنْزِيلُ مرفوع بالابتداء وخبره مِنَ اللَّهِ، ويجوز أن يكون مرفوعا على أنه خبر ابتداء محذوف أي هذا تنزيل الكتاب، ويجوز أن يكون مرفوعا على أنه خبر عن «حم» ، الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ نعت وفيه معنى المدح. [سورة الجاثية (45) : آية 3] إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) لَآياتٍ في موضع نصب، وكسرت التاء لأنه جمع مسلّم ليوافق المؤنّث المذكّر في استواء النصب والخفض. والتاء عند سيبويه «1» بمنزلة الياء والواو، وعند غيره الكسرة بمنزلة الياء، وقيل: التاء والكسرة بمنزلة الياء فأما الألف فزائدة للفرق بين الواحد والجمع. [سورة الجاثية (45) : الآيات 4 الى 5] وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ هذه قراءة المدنيين أبي عمرو، وكذا التي بعدها. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي آيات «2» مخفوضة في موضع نصب، وكذا التي بعدها. واحتج الكسائي لهذه القراءة بأنه في حرف أبيّ لآيات «3» فيهن كلّهنّ باللام فاستدلّ بهذا على أنه معطوف على ما قبله. قال الفرّاء «4» : وفي قراءة عبد الله وفي اختلاف اللّيل والنّهار على أن فيها

_ (1) انظر الكتاب 1/ 45. (2) انظر تيسير الداني 161. (3) انظر معاني الفراء 3/ 45، والبحر المحيط 8/ 43. (4) انظر معاني الفراء 3/ 45. [.....]

[سورة الجاثية (45) : آية 6]

«في» واختيار أبي عبيد ما اختاره الكسائي. قال أبو جعفر: أما قوله جلّ وعزّ: وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ فلا اختلاف بين النحويين فيه أنّ النصب والرفع جيدان فالنصب على العطف أي وإنّ في خلقكم. والرفع من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون معطوفا على الموضع مثل وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها. والوجه الثاني: الرفع بالابتداء وخبره وعطفت جملة على جملة منقطعة من الأول كما تقول: إنّ زيدا خارج وأنا أجيئك غدا. والوجه الثالث: أن تكون الجملة في موضع الحال مثل يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [ال عمران: 154] فأما قوله جلّ وعزّ: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ فقد اختلف النحويون فيه فقال بعضهم: النصب فيه جائز وأجاز العطف على عاملين فممن قال هذا سيبويه والأخفش والكسائي والفرّاء، وأنشد سيبويه: [المتقارب] 416- أكلّ امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقّد باللّيل نارا «1» وردّ هذا بعضهم ولم يجز العطف على عاملين وقال: من عطف على عاملين أجاز: في الدار زيد والحجرة عمرو. وقائل هذا القول ينشد «ونارا» بالنصب. ويقول من قرأ الثالثة «آيات» فقد لحن. وممن قال هذا محمد بن يزيد. وكان أبو إسحاق يحتجّ لسيبويه في العطف على عاملين بأن من قرأ «آيات» بالرفع فقد عطف أيضا على عاملين لأنه عطف «واختلاف» على «وفي خلقكم» وعطف «آيات» على الموضع فقد صار العطف على عاملين إجماعا. والقراءة بالرفع بيّنة لا تحتاج إلى احتجاج ولا احتيال. وقد حكى الفرّاء «2» في الآية غير ما ذكرناه، وذلك أنه أجاز «واختلاف الليل والنهار» بالرفع فيه وفي «آيات» يجعل الاختلاف هو الآيات. وقد كفي المؤونة فيه بأن قال: ولم أسمع أحدا قرأ به. [سورة الجاثية (45) : آية 6] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ مبتدأ وخبره، ويجوز أن يكون آيات الله بدلا من تلك ويكون

_ (1) الشاهد لأبي دؤاد في ديوانه ص 353، والكتاب 1/ 110، والأصمعيات 191، وأمالي ابن الحاجب 1/ 134، وخزانة الأدب 9/ 592، والدرر 5/ 39، وشرح التصريح 2/ 56، وشرح شواهد الإيضاح ص 299، وشرح شواهد المغني 2/ 700، وشرح عمدة الحافظ 500، وشرح المفصل 3/ 26، والمقاصد النحوية 3/ 445، ولعدي بن زيد في ملحق ديوانه 199، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 49، والإنصاف 2/ 473، وخزانة الأدب 4/ 417، ورصف المباني ص/ 348، وشرح الأشموني 2/ 325، وشرح ابن عقيل 399، وشرح المفصل 3/ 79، والمحتسب 1/ 281، ومغني اللبيب 1/ 290، والمقرب 1/ 237، وهمع الهوامع 2/ 52. (2) انظر معاني الفراء 3/ 45.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 7 إلى 10]

الخبر نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ قراءة المدنيين وأبي عمرو، وقرأ الكوفيون تؤمنون بالتاء ورد أبو عبيد قولهم بأن قبله إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وكذا «لقوم يوقنون» و «لقوم يعقلون» فوجب على هذا عنده أن يكون فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ وردّ عليهم أيضا بأن قبله تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ فكيف يكون بعده «فبأيّ حديث بعد الله تؤمنون» قال أبو جعفر: وهذا الردّ لا يلزم لأن قوله جلّ وعزّ: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وإن كان مخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فإنه مبلّغ عن الله عزّ وجلّ كل ما أنزل إليه، فلما كان ذلك كذلك كان المعنى قل لهم «فبأيّ حديث بعد الله وآياته تؤمنون» ، فهذا المعنى صحيح قال الله جلّ وعزّ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: 23] أي يقولون. [سورة الجاثية (45) : الآيات 7 الى 10] وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) روي عن ابن عباس أنه قال: نزلت في النّضر بن كلدة «ويل» مرفوع بالابتداء. وقد شرحناه فيما تقدم «1» . [سورة الجاثية (45) : آية 11] هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) وقرأ أهل مكة وعيسى بن عمر عذاب من رجز أليم «2» بالرفع على أنه نعت لعذاب. قال محمد بن يزيد: الرّجز أغلظ العذاب وأشده وأنشد لرؤبة: [الرجز] 417- كم رامنا من ذي عديد مبزي ... حتّى وقمنا كيده بالرّجز «3» [سورة الجاثية (45) : آية 12] اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ مبتدأ وخبره. [سورة الجاثية (45) : آية 13] وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) جَمِيعاً نصب على الحال وروي عن ابن عباس أنه قرأ جَمِيعاً مِنْهُ «4» نصب على المصدر. وأجاز أبو حاتم جَمِيعاً مِنْهُ «5» بفتح الميم والإضافة على المصدر

_ (1) تقدّم في إعراب الآية 79 من سورة البقرة. (2) انظر البحر المحيط 8/ 45، وفيه: (قرأ طلحة وابن محيصن وأهل مكة وابن كثير وحفص أليم بالرفع نعتا لعذاب، والحسن وأبو جعفر وشيبة وعيسى والأعمش وباقي السبعة بالجر نعتا لرجز) . (3) الرجز لرؤية بن العجاج في ديوانه 64، وتهذيب اللغة 10/ 608، وتفسير الطبري 8/ 223، وبعده: «والصّقع من قاذفة وجرز» (4) انظر مختصر ابن خالويه 138، والبحر المحيط 8/ 45. (5) انظر المحتسب 2/ 262.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 14 إلى 15]

أيضا بمعنى منّا منّه. ويروى عن مسلمة أنه قرأ جَمِيعاً مِنْهُ بالرفع على إضمار مبتدأ. [سورة الجاثية (45) : الآيات 14 الى 15] قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) يَغْفِرُوا في موضع جزم. قال الفرّاء «1» : هذا مجزوم بالتشبيه بالجزم والشرط كأنه كقولك: قم تصب خيرا. وليس كذلك. قال أبو جعفر: يذهب إلى أنه لما وقع في جواب الأمر كان مجزوما وإن لم يكن جوابا. وهذا غير محصّل والأولى فيه ما سمعت عليّ بن سليمان يحكيه عن محمد بن يزيد عن أبي عثمان المازني قال: التقدير قل للّذين آمنوا اغفروا يغفروا. وهذا قول محصّل لا إشكال فيه، وهو جواب كما تقول: أكرم زيدا يكرمك. وتقديره: إن تكرمه يكرمك. وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم لِيَجْزِيَ قَوْماً «2» وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي لنجزي قوما بالنون. وقرأ أبو جعفر القارئ لِيَجْزِيَ قَوْماً. قال أبو جعفر: القراءة الأولى والثانية حسنتان معناهما واحد، وإن كان أبو عبيد يختار الأولى ويحتجّ بأن قبله قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ فيختار «ليجزي قوما» ليعود الضمير على اسم الله جلّ وعزّ. وهذا لا يوجب اختيارا لأنه كلام الله جلّ وعزّ ووحيه فقوله جلّ ثناؤه لنجزي إخبارا عنه جلّ وعزّ فأما لِيَجْزِيَ قَوْماً فقال أبو إسحاق: هو لحن عند الخليل وسيبويه وجميع البصريين وقال الفرّاء «3» : هو لحن في الظاهر، وهو عند البصريين لحن في الظاهر والباطن، وإنما أجازه الكسائي على شذوذ بمعنى: ليجزي الجزاء قوما فأضمر الجزاء ولو أظهره ما جاز فكيف وقد أضمره؟ وقد أجمع النحويون على أنه لا يجوز. ضرب الضرب زيدا، حتّى أنه قال بعضهم: لا يجوز: ضرب زيدا سوطا لأن سوطا مصدر، وإنما يقام المصدر مقام الفاعل مع حروف الخفض «4» «5» إذا نعت فإذا لم يكن منعوتا لم يجز. وهذا أعجب أن يقام المصدر مقام الفاعل غير منعوت مع اسم غير مصدر، وفيه أيضا علة أخرى أنه أضمر الجزاء ولم يتقدم له ذكر على أن «يجزي» يدلّ عليه. وهذا، وإن كان يجوز فإنه مجاز فأما إنشادهم: [الوافر] 418- ولو ولدت قفيرة جرو كلب ... لسبّ بذلك الجرو الكلابا فلا حجة فيه، ورأيت أبا إسحاق يذهب إلى أن تقديره: ولو ولدت قفيرة الكلاب، و «جرو كلب» منصوب على النداء. [سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 18] وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18)

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 45. (2) انظر البحر المحيط 8/ 45. (3) انظر البحر المحيط 8/ 45. (4) انظر تيسير الداني 160، قال: (حمزة وحفص والكسائي بالنصب والباقون بالرفع) . (5) انظر معاني الفراء 3/ 47.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 19 إلى 20]

وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ قال مالك بن دينار: سألت مجاهدا عن الحكم فقال: اللبّ. قال محمد بن يزيد: الشريعة المنهاج والقصد. ومنه شريعة النهر، وطريق شارع أي واضح بيّن. وشرائع الدّين التي شرّعها الله جلّ وعزّ لعباده ليعرفوها. وجمع شريعة شرائع، وحكي أنه يقال: شرع، وحقيقته أن شرعا جمع شرعة. [سورة الجاثية (45) : الآيات 19 الى 20] إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) بَعْضُهُمْ مرفوع بالابتداء وأولياء خبره والجملة خبر «إنّ» ويجوز نصب بعضهم على البدل من الظالمين وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ مبتدأ وخبره، ويجوز النصب بعطفه على «إنّ» قال الكسائي: قال هذا بَصائِرُ ولم يقل: هذه بصائر لأنه أراد القرآن والوعظ. [سورة الجاثية (45) : آية 21] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) الَّذِينَ في موضع رفع بحسب. أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أن وصلتها بمعنى المفعولين، والهاء والميم في موضع نصب مفعول أول لنجعلهم، كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ في موضع المفعول الثاني. سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ مبتدأ وخبره. هذه قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ بنصب سواء. قال أبو عبيد: وكذلك يقرؤها نصبا بوقوع «نجعلهم» عليها. قال أبو إسحاق: وأجاز بعض النحويين سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ «1» وقد قرئ به. قال أبو جعفر: القراءة الأولى سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ هي التي اجتمعت عليها الحجّة من الصحابة والتابعين والنحويين، كما قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن إسحاق عن مسدّد عن يحيى عن عبد الملك عن قيس عن مجاهد في قوله جلّ وعزّ: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ قال: المؤمن يموت على إيمانه ويبعث عليه، والكافر يموت على كفره ويبعث عليه. وعن أبي الدرداء قال: يبعث النّاس على ما ماتوا عليه ونحو هذا عن تميم وحذيفة فاجتمعت الحجة على أنه لا

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 47، وتيسير الداني 161.

[سورة الجاثية (45) : آية 22]

يجوز القراءة إلا بالرفع، وأنّ من نصب فقد خرج من هذه التأويلات وسَواءً مرفوع بالابتداء على هذا لا وجه لنصبه لأن المعنى أنّ المؤمنين مستوون في محياهم ومماتهم، والكافرون مستوون في محياهم ومماتهم، ثم يرجع إلى النصب فهو يكون من غير هذه الجهة وذلك من جهة ذكرها الأخفش سعيد، قال: يكون المعنى: أم حسب الذين اجترحوا السيّئات أن نجعل محياهم ومماتهم مستويا كمحيا المؤمنين ومماتهم. فعلى هذا الوجه يجوز النصب، وعلى هذا الوجه الاختيار عند الخليل وسيبويه رحمهما الله الرفع أيضا، ومسائل النحويين جميعا على الرفع كلهم. تقول ظننت زيدا سواء أبوه وأمّه، ويجيزون النصب ومسائلهم على الرفع. وأعجب ما في هذا إذا كانت مسائل النحويين كذا فكيف قرأ به الكسائي واختاره أبو عبيد؟ فأما القراءة بالنصب «سواء محياهم ومماتهم» ففيها وجهان. قال الفرّاء «1» : المعنى في محياهم وفي مماتهم ثم حذفت «في» يذهب إلى أنه منصوب على الوقت، والوجه الآخر أن يكون «محياهم ومماتهم» بدلا من الهاء والميم التي في «نجعلهم» بمعنى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعل محياهم ومماتهم سواء كالذين آمنوا وعملوا الصّالحات أي كمحيا الذين آمنوا وعملوا الصّالحات ومماتهم. ساءَ ما يَحْكُمُونَ إن جعلت «ما» معرفة فموضعها رفع وإن جعلتها نكرة فموضعها نصب على البيان. [سورة الجاثية (45) : آية 22] وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) لام كي لا بدّ من أن تكون متعلّقة بفعل إما مضمر وإما مظهر، وهو هاهنا مضمر أي ولتجزى كلّ نفس بما كسبت فعل ذلك. [سورة الجاثية (45) : آية 23] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) مَنِ في موضع نصب. وللعلماء في معناها ثلاثة أقوال فمن أجلها ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قال: الكافر اتّخذ دينه بغير هدى من الله جلّ وعزّ ولا برهان. وقال الحسن: هو الذي كلما اشتهى شيئا لم يمتنع منه. وقال سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الشيء فإذا رأى غيره أحسن منه عبده وترك الآخر. قال أبو جعفر: قول الحسن على التشبيه كما قال جلّ وعزّ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31] والأشبه بنسق الآية أن يكون

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 47. [.....]

[سورة الجاثية (45) : آية 24]

للكفار. وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ فيه ثلاثة أقوال: منها أن المعنى أضلّه عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه، والقول الثاني أن المعنى على علم منه بأنّ عبادته لا تنفعه. وهذان القولان لم يقلهما متقدّم وأولى ما قيل في الآية ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ قال: في سابق علمه. قال سعيد بن جبير: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أي على علم قد علمه منه وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ قال أبو جعفر: قد ذكرناه «1» في سورة «البقرة» . وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً «2» وفي قراءة عبد الله وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً مروية بفتح الغين، وهي لغة ربيعة فيما يظنّ الفرّاء. وقراءة عكرمة: غشاوة بضم الغين، وهي لغة عكل. قال أبو الحسن بن كيسان: ويحذف الألف منها فيكون فيها إذا حذفت الألف ثلاث لغات: غشوة وغشوة وغشوة. وأما المعنى فمتقارب، إنما هو تمثيل أي لا يبصر الحقّ فهو بمنزلة من على بصره غشاوة إلّا أن الأكثر في كلام العرب في مثل هذا أن يكون على فعالة وذلك في كل ما كان مشتملا على الشيء نحو عمامة وكذا ولاية. [سورة الجاثية (45) : آية 24] وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا قد ذكرناه إلّا أن علي بن سليمان قال: المعنى ما هي إلّا حياتنا الدنيا نموت ونحيا على قولكم، واستبعد أن يكون المعنى نحيا ونموت على التقديم والتأخير، وقال: إنما يجوز هذا فيما يعرف معناه نحو وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [ال عمران: 43] . قال أبو جعفر: وأهل العربية يخالفونه في هذا، ويجيزون في الواو التقديم والتأخير في كل موضع. قال الفرّاء «3» : معنى وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أي طول الدهر ومرّ الأيام والليالي والشهور والسنين وتكلّم جماعة في معنى الآية فقال بعضهم: هؤلاء قوم لم يكونوا يعرفون الله جلّ وعزّ ولو عرفوه لعلموا أنه يهلكهم ويميتهم. وقال قوم: يجوز أن يكونوا يعرفون الله جلّ وعزّ وعندهم أنّ هذه الآفات التي تلحقهم إنّما هي بعلل ودوران فلك، يقولون هذا بغير حجّة ولا علم. وقال قوم: هؤلاء جماعة من العرب يعرفون الله جلّ وعزّ يدلّ على قولهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] وفيهم من يؤمن بالبعث. قال زهير: [الطويل] 419- يؤخّر فيوضع في كتاب فيدّخر ... ليوم الحساب أو يعجّل فينقم «4»

_ (1) مرّ في إعراب الآية 7- البقرة. (2) انظر البحر المحيط 8/ 49، وتيسير الداني 161، ومختصر ابن خالويه 138. (3) انظر معاني الفراء 3/ 48. (4) الشاهد لزهير في ديوانه ص 18.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 25 إلى 26]

غير أنهم كانوا جهلة لا يعلمون أن الآفات مقدّرة من الله عزّ وجلّ. وهذا أصحّ ما روي في الآية وأشبه بنسقها، وقد قامت به الحجة بالظاهر ولأنه مرويّ عن ابن عباس أنّه قال في قوله جلّ وعزّ: وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ قال: قالوا: لا نبعث، بغير علم فقال الله جلّ وعزّ: وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. [سورة الجاثية (45) : الآيات 25 الى 26] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) ما كانَ حُجَّتَهُمْ خبر كان. إِلَّا أَنْ قالُوا اسمها، ويجوز «ما كان حجّتهم» بالرفع على أنه اسم كان لأن الحجّة والاحتجاج واحد، ويكون الخبر إِلَّا أَنْ قالُوا أي إلّا مقالتهم. قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ حذفت الضمة من الياء لثقلها. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عطف عليه وكذا ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ قيل: أي بمنزلة من لا يعلم، وقيل: عليهم أن يعلموا. [سورة الجاثية (45) : آية 27] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي فهو قادر على أن يحييكم. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ظرف منصوب بيخسر. [سورة الجاثية (45) : آية 28] وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ على الابتداء، وأجاز الكسائي «كلّ أمة» على التكرير على كلّ الأولى. وقد ذكرنا معنى تُدْعى إِلى كِتابِهَا وإنّ أولى ما قيل فيه أنه إلى ما كتب عليها من خير وشر، كما روي عن ابن عباس: يعرض من خميس إلى خميس ما كتبته الملائكة عليهم السلام على بني أدم فينسخ منه ما يجزى عليه من الخير والشر ويلغى سائره. فالمعنى على هذا كلّ أمة تدعى إلى ما كتب عليها وحصّل فتلزمه من طاعة أو معصية، وإن كان كفرا أوقف عليه وأتبع ما كان يعبد، كما قرئ على إسحاق بن إبراهيم بن يونس عن إسحاق بن أبي إسرائيل عن سفيان بن عيينة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله هل نرى ربّنا جلّ وعزّ يوم القيامة فقال: «هل تضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب» قالوا: لا. قال: «فهل تضارّون في الظّهيرة ليس دونها سحاب» قالوا: لا. قال: «فو الذي نفس محمّد بيده لترونّه كما ترونها» ، قال: «ويلقى العبد ربّه يوم القيامة، فيقول: أي قل ألم أكرمك وأسودك وأزوّجك وأسخّر لك الخيل والإبل وأدرك ترأس وتربع فيقول: بل أي ربّ، قال: فيقول هل كنت تعلم أنك ملاقيّ فيقول: لا يا ربّ فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يقول للثاني مثل ذلك فيقول له مثل ذلك ويردّ عليه مثل ذلك، ثم يقول للثالث مثل ذلك فيقول: أي ربّ أمنت بك

وبكتابك وصمت وصلّيت وتصدّقت. قال: فيقول: أفلا تبعث شاهدنا عليك قال: فيكفر في نفسه فيقول: من ذا الذي يشهد عليّ؟ فيختم الله جلّ وعزّ على فيه ويقول لفخذه: انطقي فتنطق فخذه وعظامه ولحمه بما كان، وذلك ليعذر من نفسه وذلك الذي يسخط عليه وذلك المنافق. قال: ثم ينادي مناد ألا اتّبعت كلّ أمّة ما كانت تعبد فيتبع الشياطين والصّلب أولياؤهما، وبقينا أيّها المؤمنون. قال: فيأتينا ربّنا جلّ وعزّ فيقول: من هؤلاء؟ فيقولون: عبادك المؤمنون آمنّا بك ولم نشرك بك شيئا، وهذا مقامنا حتّى يأتينا ربنا جلّ وعزّ فيثيبنا. قال: فينطلقون حتّى يأتوا الجسر وعليه كلاليب من نار تخطف الناس فهناك حلّت الشفاعة أي اللهمّ سلّم فإذا جاوزوا الجسر فكلّ من أنفق زوجا مما يملك من المال في سبيل الله فكلّ خزنة الجنّة تدعوه يا عبد الله يا مسلم. هذا خير، فتعال. قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله إنّ هذا العبد لا ترى عليه يدع بابا ويلج من أخر قال: فضرب كتفه وقال: «والذي نفسي بيده إنّي لأرجو أن تكون منهم» «1» وقرئ على أحمد بن شعيب بن عيسى بن حماد قال: أخبرنا الليث بن سعد عن إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد عن أبي هريرة قال: «قال الناس يا رسول الله هل نرى ربنا جلّ وعزّ يوم القيامة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل تضارّون في الشّمس ليس دونها سحاب؟ وهل تضارّون في القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا. قال: فكذلك ترونه» قال: يجمع الله جلّ وعزّ النّاس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتّبعه فيتبع من يعبد الشمس الشمس، ويتبع من يعبد القمر القمر، ويتبع من يعبد الطّواغيت الطّواغيت وتبقى هذه الأمة بمنافقيها فيأتيهم الله جلّ وعزّ في الصور التي يعرفون فيقول: أنا ربّكم فيقولون: أنت ربّنا فيتّبعونه ويضرب الصراط بين ظهراني جهنّم فأكون أنا وأمّتي أول من يجيز ولا يتكلّم إلّا الرسل عليهم السلام. ودعوة الرسل يومئذ اللهمّ سلّم سلّم، وفي جهنم كلاليب كشوك السّعدان هل رأيتم السعدان؟ فإنه مثل شوك السعدان غير أنه لا يدري ما قدر عظمها إلا الله عزّ وجلّ، فيخطف الناس بأعمالهم، فإذا أراد الله جلّ وعزّ أن يخرج من النار برحمته من شاء أمر الملائكة أن يخرجوا من كان لا يشرك بالله شيئا. فمن يقول لا إله إلّا الله ممن أراد أن يرحمه فيعرفونهم في النار بآثار السجود حرّم الله عزّ وجلّ النار على ابن أدم أن تأكل اثار السجود، فيخرجونهم من النار، وقد امتحشوا فيصبّ عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبّة في حميل السّيل» قال أبو جعفر: فأمّا تفسير «تضارّون» فنمليه مما أخذناه عن أبي إسحاق بشرح كل فيه مما لا يحتاج إلى زيادة. قال: والذي جاء في الحديث مخفّف «تضارون وتضامون» وله وجه حسن في العربية. وهذا موضع يحتاج أن يستقصى تفسيره فإنه أصل في السّنّة والجماعة. ومعناه لا ينالكم ضير ولا ضيم في رؤيته أي ترونه حتّى تستووا في الرؤية فلا يضير بعضكم بعضا. قال: وقال أهل اللغة قولين

_ (1) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 275، 293، 534، وذكره ابن حجر في فتح الباري 11/ 445.

[سورة الجاثية (45) : آية 29]

آخرين قالوا: لا تضارّون بتشديد الراء ولا تضامّون بتشديد الميم مع ضم التاء. قال: وقال بعضهم بفتح التاء وبتشديد الراء والميم على معنى تتضارّون وتتضامّون. وتفسير هذا أنّه لا يضارّ بعضكم بعضا أي لا يخالف بعضكم بعضا في ذلك. يقال: ضاررت الرجل أضارّه مضارّة وضرارا إذا خالفته. ومعنى لا تضامّون في رؤيته، لا ينضمّ بعضكم إلى بعض فيقول واحد للآخر أرينه، كما يفعلون عند النظر إلى الهلال. [سورة الجاثية (45) : آية 29] هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ «ينطق» في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون في موضع رفع على خبر هذا و «كتابنا» بدل من هذا. [سورة الجاثية (45) : آية 30] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) الَّذِينَ في موضع رفع بالابتداء وخبره فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ. [سورة الجاثية (45) : آية 31] وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِينَ في موضع رفع أيضا، وحذف القول كما يحذف في كلام العرب كثيرا، فلما حذف حذفت الفاء معه لأنها تابعة له فَاسْتَكْبَرْتُمْ الاستكبار في اللغة الأنفة من اتّباع الحقّ وقد بيّن الله جلّ وعزّ على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم حين سئل ما الكبر؟ كما قرئ على إسحاق بن إبراهيم بن يونس عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب عن هشام عن محمد عن أبي هريرة «أنّ رجلا أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكان رجلا جميلا فقال: يا رسول الله حبّب إليّ الجمال وأعطيت منه ما ترى حتّى ما أحبّ أن يفوقني أحد. إما قال: بشراك نعل وإمّا قال: بشسع أفمن الكبر ذلك؟ قال: لا ولكن الكبر من بطر الحقّ وغمص الناس» «1» قال إسحاق: وحدّثنا الوليد بن شجاع قال: حدّثنا عطاء بن مسلم الخفّاف عن محمد عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحشر المتكبّرون- أحسبه قال- في صور الذرّ» ؟ «2» قال إسحاق: وحدّثنا محمد بن بكار قال: حدّثنا إسماعيل- يعني ابن عليّة- عن عطاء بن السائب عن الأغرّ عن أبي هريرة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال جلّ وعزّ: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنّم» «3» .

_ (1) أخرجه أبو داود في سننه الحديث رقم 4092، وذكره الحاكم في المستدرك 4/ 181، 182. (2) ذكره الزبيدي في إتحاف السادة المتقين 1/ 309، و 10/ 453، والتبريزي في مشكاة المصابيح 5112، والعجلوني في كشف الخفاء 2/ 551. (3) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 376، وذكره الحاكم في المستدرك 1/ 61، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 8/ 336، والبخاري في الأدب المفرد 253، والألباني في السلسلة الصحيحة 450، وأبو حنيفة في جامع المسانيد 1/ 88، والعجلوني في كشف الخفاء 2/ 151.

[سورة الجاثية (45) : آية 32]

[سورة الجاثية (45) : آية 32] وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها وقرأ الأعمش وحمزة السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها «1» عطفا بمعنى وأنّ الساعة لا ريب فيها. والرفع بالابتداء، ويجوز أن يكون معطوفا على الموضع أي وقيل السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها، ويجوز أن تكون الجملة في موضع الحال. وزعم أبو عبيد أنه يلزم من قرأ بالرفع هاهنا أن يقرأ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [المائدة: 45] وفي هذا طعن على جماع الحجّة لأنه قد قرأها هنا بالرفع وثم بالنصب من يقوم بقراءتهم الحجّة منهم نافع وعاصم قرا وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها وقرا «والعين بالعين» بالنصب، وكذا ما بعده. وفيه أيضا طعن على عبد الله بن كثير وأبي عمرو بن العلاء وأبي جعفر القارئ وعبد الله بن عامر لأنهم قرءوا «والساعة لا ريب فيها» وقرءوا وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ بالنصب، وكذا ما بعده إلّا «والجروح قصاص» والحديث المرويّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ «والعين بالعين» لا يجوز أن يكون في موضع الحال. وقد ذكر أبو عبيد أنّ مثله وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ [لقمان: 27] وهو مخالف له لأنّ والبحر أولى الأشياء به عند النحويين أن يكون في موضع الحال وأبعد الأشياء في «الساعة لا ريب فيها» أن يكون في موضع الحال. قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وهذا من مشكل الإعراب وغامضه لأنه لا يقال: ما ضربت إلّا ضربا، وما ظننت إلّا ظنّا، لأنه لا فائدة فيه أن يقع بعد حرف الإيجاب لأنّ معنى المصدر كمعنى الفعل. فالجواب عن الآية عن محمد بن يزيد على معنيين: أحدهما أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي إن نحن إلّا نظنّ ظنّا، وزعم أنّ نظيره من كلام العرب حكاه أبو عمرو بن العلاء وسيبويه «2» : ليس الطّيب إلّا المسك أي ليس إلّا الطّيب المسك، والجواب الآخر أن يكون التقدير: إن نظنّ إلّا أنّكم تظنّون ظنّا. [سورة الجاثية (45) : الآيات 33 الى 35] وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) قال أبو العباس وَحاقَ بِهِمْ نزل بهم. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الْيَوْمَ نَنْساكُمْ قال: نترككم كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا يكون من النسيان أي تشاغلتم عن يوم القيامة بلذاتكم وأمور دنياكم فوبّخهم

_ (1) انظر تيسير الداني 161، وكتاب السبعة لابن مجاهد 595. (2) انظر الكتاب 1/ 201.

[سورة الجاثية (45) : آية 36]

الله عزّ وجلّ على ذلك. ويجوز أن يكون المعنى كما تركتم العمل للقاء يومكم هذا. وحقيقته في العربية كما تركتم عمل لقاء يومكم مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . [سورة الجاثية (45) : آية 36] فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) على البدل، ويجوز أن يكون نعتا. [سورة الجاثية (45) : آية 37] وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال محمد بن يزيد: الكبرياء الجلال والعظمة وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مبتدأ وخبر.

46 شرح إعراب سورة الأحقاف

46 شرح إعراب سورة الأحقاف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) الَّذِينَ في موضع رفع بالابتداء ومن العرب من يقول: اللّذون في غير القرآن إذا كان موضع رفع. [سورة الأحقاف (46) : آية 4] قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال الفراء «1» : وفي قراءة عبد الله قل أريتم من تدعون من دون الله يعني بالنون، «أريتم» لغة معروفة للعرب كثيرة، وأرأيتم الأصل، ولغة ثالثة أن يخفف الهمزة التي بعد الراء فتجعل بين بين. ومن قرأ «ما تدعون» جاء به على بابه لأنه للأصنام. ومن قرأ من فلأنهم قد عبدوها فأنزلوها منزلة ما يعقل. وعلى هذا أجمعت القراء على أن قرءوا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ ولم يقرءوا خلقن ولا خلقت ولا لهنّ ولا لها. ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ وقرأ أبو عبد الرحمن السّلميّ أو أثرة «2» وحكى الفراء «3» لغة ثالثة وهي (أثرة) بفتح الهمزة وحكى الكسائي لغة رابعة وهي «أو أثرة» بضم الهمزة والمعنى في اللغات الثلاث عند الفراء واحد، والمعنى عند بقيّة من علم. ويجوز أن يكون المعنى عنده شيئا مأثورا من كتب الأولين. فأثارة عنده مصدر كالسّماحة والشّجاعة، وأثرة عنده بمعنى أثر كقولهم: قترة وقتر، وأثرة كخطفة. فأما الكسائي فإنه قال: أثارة وأثرة وأثرة كلّ ذلك تقول العرب،

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 49. (2) انظر البحر المحيط 8/ 56، والمحتسب 2/ 264. (3) انظر معاني الفراء 3/ 50.

[سورة الأحقاف (46) : آية 5]

والمعنى فيهن كلّهن عنده معنى واحد. بمعنى الشيء المأثور. قال أبو جعفر: ومعنى الشيء المأثور المتحدّث به. ومما صحّ سنده عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سمع عمر وهو يقول: وأبي، فقال: «إنّ الله جلّ وعزّ ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله جلّ وعزّ أو ليسكت» «1» قال عمر: فما حلفت بها بعد ذاكرا ولا أثرا. وفي بعض الحديث «من حلف بغير الله جلّ وعزّ فقد أشرك» «2» وفي أخر «فقد كفر» فقوله «ذاكرا» معناه متكلّما بها، وقائلا بها، كما يقال: ذكرت لفلان كذا ومعنى «ولا أثرا» ولا مخبرا بها عن غيري أنه حلف بها. ومن هذا حديث مأثور، يقال: أثر الحديث يأثره، وأثر يفعل ذلك واثر فلان فلانا، إذا فضّله، وأثار التراب يثيره، ووثر الشيء ويؤثر إذا صار وطيئا ومنه قيل: ميثرة انقلبت الواو فيها ياء. وفي معنى قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف بغير الله جلّ وعزّ فقد أشرك» . أقوال: أصحّها أنّ المعنى فقد أشرك في تعظيم الله جلّ وعزّ غير الله لأنه إنما يحلف الإنسان بما يعظّمه أكبر العظمة، وهذا لا ينبغي أن يكون إلّا لله جلّ وعزّ. وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فقد كفر» أقوال: فمن أصحّها أنّ الكفر هو التغطية. والمعنى: فقد غطّى وستر ما يجب أن يظهر من تعظيم الله جلّ وعزّ. [سورة الأحقاف (46) : آية 5] وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي ومن أضلّ عن الحقّ ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة. قال الفراء «3» : وفي قراءة عبد الله ما لا يستجيب له والقول فيه مثل ما تقدّم. [سورة الأحقاف (46) : آية 6] وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً أي يتبرؤون منهم ومن عبادتهم. [سورة الأحقاف (46) : آية 7] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ نصب على الحال.

_ (1) أخرجه البخاري في صحيحه 8/ 33، 164، ومسلم في صحيحه الإيمان 1، 3، والترمذي في سننه (1534) ، والنسائي في سننه 7، 4، 5، وأبو داود في سننه (3249) ، وابن ماجة في سننه (2094) ، وأحمد في مسنده 1/ 18، و 2/ 7، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 28. [.....] (2) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 67، 87، وذكره الطحاوي في مشكل الآثار 358، والتبريزي في مشكاة المصابيح 3419، وابن حجر في فتح الباري 10/ 516، والمتقي الهندي في كنز العمال (46328) ، وابن كثير في تفسيره 4/ 342. (3) انظر معاني الفراء 3/ 50.

[سورة الأحقاف (46) : آية 8]

[سورة الأحقاف (46) : آية 8] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ قال محمد بن يزيد: أي بما تمضون فيه قال: ومنه حديث مستفيض ومستفاض فيه إذا شاع حتّى يتكلم النّاس فيه كَفى بِهِ شَهِيداً نصب على الحال، ويجوز أن يكون نصبا على البيان والباء زائدة جيء بها للتوكيد لأن المعنى: اكتفوا به، قال: فإذا قلت: كفى بزيد، فمعناه كفى زيد. [سورة الأحقاف (46) : آية 9] قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ قال محمد بن يزيد: البدع والبديع الأول. يقال: ابتدع فلان كذا، إذا أتى بما لم يكن قبله، وفلان مبتدع من البدعة وهي التي لم يتقدّم لها شبه، وقال عزّ وجلّ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [البقرة: 117] أي مبتدئهما. وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ حذفت الضمّة من الياء لثقلها، وكذا وإن أدري. [سورة الأحقاف (46) : آية 10] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ قيل: شاهد بمعنى شهود تشهد جماعة من بني إسرائيل ممن أسلم على أنهم قد قرءوا التوراة. وفيها تعريف نزول القرآن من عند الله جلّ وعزّ ومن أجّل ما روي في ذلك ما رواه مالك بن أنس عن أبي النّضر عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، قال: ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشهد لأحد يمشي على الأرض أنه من أهل الجنة إلا عبد الله بن سلام ففيه نزلت وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ قال أبو جعفر: ومع هذا فقد عارض هذا الحديث علماء جلّة منهم مسروق والشّعبي فقالا: لم تنزل في عبد الله بن سلام لأن السورة مكّية وعبد الله بن سلام بالمدينة، وإنما نزلت في غيره. والحديث صحيح السند وقد احتجّ على من أنكر ذلك بأن السورة وإن كانت مكّية فإنه قد يجوز أن يضمّ إليها بعض ما أنزل بالمدينة لأن التأليف من عند الله جلّ وعزّ يأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما أحبّ وأراد. فهذا قول بيّن، وقد قيل: إنّ قريشا وجّهت من مكّة إلى المدينة لأنه كان بها علماء اليهود يسألون عن أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فشهد عبد الله بن سلام بنبوته صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله جلّ وعزّ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ الآية ومع هذا كلّه فإنّ الحديث، وإن كان صحيح السند فقد قيل: إنّ الذي في الحديث من قوله وفيه نزلت ليس من كلام سعد وإنما هو من كلام بعض المحدّثين خلط بالحديث ولم يفصل.

[سورة الأحقاف (46) : آية 11]

[سورة الأحقاف (46) : آية 11] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ روى ابن المبارك عن معمر عن قتادة قال: قال قوم من المشركين: نحن ونحن يفتخرون لو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان يعنون عمّارا وبلالا وصهيبا وضروبهم فأنزل الله جلّ وعزّ: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ [البقرة: 105] . وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ زعم سيبويه «1» أن «إذ» لا يجازى بها حتّى يضمّ إليها «ما» ، وكذا «حيث» . قال أبو جعفر: والعلّة في ذلك أن «ما» يفصلها من الفعل الذي بعدها فتعمل فيه، وإذا لم تأت بما كان متّصلا بها وهي مضافة إليه فلم تعمل فيه فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي تقدّم مثله في سالف الدهور. [سورة الأحقاف (46) : آية 12] وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِماماً منصوب على الحال أي يؤتمّ به وَرَحْمَةً عطف على إمام أي ونعمة. وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا منصوب على الحال والضعيف في العربية يتوهّم أنه حال من نكرة لأن الذي قبله نكرة والحال من النكرة ليس بجيد ولا يقال في كتاب الله جلّ وعزّ ما غيره أجود منه فلسانا منصوب على الحال من المضمر الذي في مصدّق، والمضمر معرفة وجاز نصب لسان على الحال لأنه بمعنى مبين وكان علي بن سليمان يقول: في هذا هو توطئة للحال و «عربيا» منصوب على الحال، كما تقول: هذا زيد رجلا صالحا لتنذر الّذين ظلموا بالتاء، هذه قراءة المدنيين، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا «2» واختيار أبي عبيد لتنذر «3» بالتاء، واحتج بقوله جلّ وعزّ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ [الرعد: 7] . قال أبو جعفر: والمعنى في القراءتين واحد، ولا اختيار فيهما من قرأ «لينذر» جعله للقرآن أو لله جلّ وعزّ، وإذا كان للقرآن فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو المنذر به وكذا إذا كان لله جلّ وعزّ فإذا عرف المعنى لم يقع في ذلك اختيار كما قال جلّ وعزّ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] فقد علم أن الغافر هو الله جلّ وعزّ والقراءة نغفر ويغفر واحد، وكذا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ [البقرة: 58] و «يغفر» واحد ليس أحدهما أولى من الآخر. وَبُشْرى في موضع رفع عطفا على «كتاب» ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على المصدر لِلْمُحْسِنِينَ قال ابن عيينة: الإحسان التفضّل والعدل والإنصاف.

_ (1) انظر الكتاب 3/ 64. (2) انظر تيسير الداني 161. (3) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 596.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 13 إلى 14]

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 13 الى 14] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا أي على طاعة الله جلّ وعزّ ثم أخبر جلّ ثناؤه بما لهم فقال: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي في الآخرة. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوا في الدنيا. كذا قال أهل التفسير، وبعده خبر أخر وهو أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها نصب على الحال. جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ مصدر. [سورة الأحقاف (46) : آية 15] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً هذه قراءة «1» المدنيين والبصريين، وكذا في مصاحفهم، وقرأ حمزة والكسائي إِحْساناً «2» وروي عن عيسى بن عمر أنه قرأ حسنا بفتح الحاء والسين فأما «حسنى» بغير تنوين فلا يجوز في العربية لأن مثل هذا لا تنطق به العرب إلّا بالألف واللام الفضلى والأفضل والحسنى والأحسن. وإحسان مصدر أحسن وحسنا بمعناه، وحسن على إقامة النعت مقام المنعوت أي فعلا حسنا وينشد بيت زهير: [البسيط] 420- يطلب شأو امرأين قدّما حسنا ... فاقا الملوك وبذّا هذه السّوقا «3» أي فعلا حسنا. وهذا مثل هذه القراءة. حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً هذه قراءة حمزة والكسائي «4» ، وهي مروية عن الحسن، وقرأ أبو عبد الرحمن السلميّ وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة ونافع كرها «5» بفتح الكاف. وعارض أبو حاتم السجستاني هذه القراءة بما لو صحّ لوجب اجتنابها لأنه زعم أنّ الكره الغضب والقهر، وأنّ الكره المكروه، واحتجّ بأنّ الجميع قرءوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النساء: 19] ، وذكر أنّ بعض العلماء سمع رجلا يقرأ «حملته أمه كرها ووضعته كرها» فقال: لو حملته كرها لرمت به يذهب إلى أنّ الكره القهر والغضب. قال أبو جعفر: في هذا طعن على من تثبت الحجّة بقراءته، وحكايته عن بعض العلماء لا حجّة فيها لأنه لم يسمه ولا

_ (1) انظر تيسير الداني 161. (2) انظر تيسير الداني 161. (3) مرّ الشاهد رقم (316) . (4) انظر تيسير الداني 161، وكتاب السبعة لابن مجاهد 596. (5) انظر البحر المحيط 8/ 60.

[سورة الأحقاف (46) : آية 16]

يعرف، ولو عرف لما كان قوله حجّة، إلّا بدليل وبرهان. والحجّة في هذا قول من يعرف ويقتدى به. إن الكره والكره لغتان بمعنى واحد بل قد روي عن محمد بن يزيد أنه قال: الكره أولى لأنه المصدر بعينه. وقد حكى الخليل وسيبويه رحمهما الله أنّ كلّ فعل ثلاثي فمصدره فعل، واستدلّا على ذلك أنك إذا رددته إلى المرة الواحدة جاء مفتوحا نحو قام قومة، وذهب ذهبة، فإذا قلت: ذهب ذهابا فإنما هو عندهما اسم للمصدر لا مصدر، وكذلك الكره اسم للمصدر والكره المصدر. وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً التقدير: وقت حمله مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وقرأ أبو رجاء وعاصم الجحدريّ وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ «1» فرويت عن الحسن بن أبي الحسن واحتجّ أبو عبيد للقراءة الأولى بالحديث «لا رضاع بعد فصال» «2» وأبين من هذه الحجّة أنّ فصالا مصدر مثل قتال. وهذا الفعل من اثنين لأن المرأة والصّبيّ كل واحد منهما ينفصل من صاحبه فهذا مثل القتال، وإن كان قد يقال: فصله فصلا وفصالا. حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ جمع شدّة عند سيبويه مثل نعمة. وقد ذكرناه «3» بأكثر من هذا. إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ الأصل إنّني حذفت النون لاجتماع النونات. [سورة الأحقاف (46) : آية 16] أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) أولئك الّذين يتقبّل عنهم أحسن ما عملوا قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ بالنون وكذا «نتجاوز» بالنون أنها أخبار من الله جلّ وعزّ عن نفسه وإنما اختار هذه القراءة لقوله: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ وقرأ الباقون يتقبّل بالياء، وكذا يتجاوز على ما لم يسمّ فاعله وأَحْسَنَ ما عَمِلُوا ومن قرأ بالنون نصب أحسن لأنه مفعول به. وَعْدَ الصِّدْقِ منصوب على المصدر. [سورة الأحقاف (46) : آية 17] وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما قال الفراء «4» : أي قذرا لكما. وقد ذكرنا «5» ما في

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 61. (2) ذكره البيهقي في السنن الكبرى 7/ 319، والطبراني في المعجم الصغير 2/ 68، والزيلعي في نصب الرآية 3/ 219، وابن حجر في المطالب العالية (1707) ، والسيوطي في الدر المنثور 1/ 228. (3) ذكره في إعراب الآية 32 سورة يوسف. (4) انظر معاني الفراء 3/ 53. [.....] (5) انظر إعراب الآية 23- الإسراء.

[سورة الأحقاف (46) : آية 20]

أفّ من اللغات. أَتَعِدانِنِي وذكر بعض الرواة أنّ نافع بن أبي نعيم قرأ أَتَعِدانِنِي «1» بفتح النون الأولى، وذلك غلط غير معروف عن نافع وإنّما فتح نافع الياء فغلط عليه. وفتح هذه النون لحن ولا يلتفت إلى ما أنشد وهو: [الرجز] . 421- أعرف منها الأنف والعينانا «2» وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: إن كان مثل هذا يجوز فليس بين الحق والباطل فرق. يتركون كتاب الله جلّ وعزّ ولغات العرب الفصيحة ويستشهدون بأعرابي بوال. أَنْ أُخْرَجَ وقرأ الحسن أن أخرج «3» وتقديره أن أخرج من قبري. وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أي يسألانه ويطلبان إليه أن يلطف لهما بما يؤمن به. وَيْلَكَ آمِنْ يدلّك على أنهما احتجّا عليه ووعظاه، ونصب ويلك على المصدر. وتوهّم القائل لهذا القول أن الأمم لمّا لم تخرج من قبورها أحياء في الدنيا أنّها لا تبعث فذلك قوله: وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي. [سورة الأحقاف (46) : آية 20] وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) أَذْهَبْتُمْ هذه القراءة مروية عن عمر بن الخطاب رحمة الله عليه، وهي قراءة نافع وأبي عمرو وعاصم وابن أبي إسحاق وحمزة والكسائي. وقرأ يزيد بن القعقاع أذهبتم «4» وهذه القراءة مروية عن الحسن والقراءتان عند الفراء «5» بمعنى واحد. قال الفراء: العرب تستفهم في التوبيخ ولا نستفهم، فيقولون: ذهبت ففعلت وفعلت، ويقولون: أذهبت ففعلت وفعلت، وكلّ صواب. قال أبو جعفر: فأما ما روي عن محمد بن يزيد فتحقيق هذا، وهو أن الصواب عنده ترك الاستفهام فيقرأ «أذهبتم» وفيه معنى التوبيخ، وإن كان خبرا. والمعنى عنده: أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا فذوقوا العذاب. والاستفهام إذا قرأ «أذهبتم» فهو على التوبيخ والتقرير، وإنما اختار أذهبتم

_ (1) انظر تيسير الداني 162. (2) الرجز لرؤبة بن العجاج في ملحق ديوانه 187، ولرؤبة أو لرجل من ضبة في الدرر 1/ 139، والمقاصد النحوية 1/ 184، ولرجل في نوادر أبي زيد ص 15، وبلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 64، وتخليص الشواهد 80، وخزانة الأدب 7/ 452، ورصف المباني ص 24، وسرّ صناعة الإعراب ص 489، وشرح الأشموني 1/ 39، وشرح التصريح 1/ 78، وشرح ابن عقيل ص 42، وشرح المفصل 3/ 129، وهمع الهوامع 1/ 49، وبعده: «ومنخرين أشبها ظبيانا» (3) وهذه قراءة ابن يعمر وابن مصرف والضحاك أيضا، انظر البحر المحيط 8/ 62. (4) انظر تيسير الداني 162. (5) انظر معاني الفراء 3/ 54.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 إلى 24]

بغير استفهام لأن الاستفهام إذا كان فيه معنى التقرير صار نفيا إذا كان موجبا، كما قال جلّ وعزّ: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ [الواقعة: 58، 59] وإن كان نفيا صار موجبا لأن نفي النفي إيجاب كما قال: [الوافر] . 422- ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح «1» إلا أنّه من قرأ «أذهبتم» فليس يحمل معناه عنده على هذا، ولكنّ تقديره: أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدّنيا وتطلبون النّجاة في الآخرة. فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ العامل في اليوم تجزون ينوى به التأخير. بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ أي استكباركم وفسقكم وإذا كانت «ما» هكذا مصدرا لم تحتج إلى عائد. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 24] وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) وَاذْكُرْ أَخا عادٍ صرف عاد لأنه اسم للحيّ ولو جعل اسما للقبيلة لم ينصرف وإن كان على ثلاثة أحرف، وكذا لو سمّيت امرأة بزيد لم ينصرف وإن سمّيتها بهند جاز الصرف عند الخليل وسيبويه «2» والكسائي والفراء إلّا أنّ الاختيار عند الخليل وسيبويه ترك الصرف، وعند الكسائي والفراء الأجود الصّرف. فأما أبو إسحاق فكان يقول: إذا سمّيت امرأة بهند لم يجز الصّرف البتّة. وهذا هو القياس لأنها مؤنّثة وهي معرفة. فأما قول بعض النحويين: إنّك إذا سمّيت بفعل ماض لم ينصرف فقد ردّه عليه سيبويه بالسّماع من العرب خلاف ما قال، وأنّ له نصيرا من الأسماء، وكذا يقال: كتبت أبا جاد بالصرف لا غير إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ قال مجاهد: الأحقاف أرض. وقال ابن أبين نعيم: الأحقاف: اسم أرض. وقال وهب بن منبّه: الأحقاف باليمن الأصنام والأوثان وقد قهروا الناس بكثرتهم وقوتهم. وقال محمد بن يزيد: واحد الأحقاف حقف وهو رمل مكتنز ليس بالعظيم وفيه اعوجاج، قال: ويقال: احقوقف الشيء إذا اعوجّ حتّى كاد يلتقي طرفاه، كما قال: [الرجز] 423- سماوة الهلال حتّى احقوقفا «3» وانصرف الأحقاف وإن كان اسم أرض لأن فيه ألفا ولاما. قال سيبويه: واعلم أن كلّ ما لا ينصرف إذا دخلته ألف ولام أو أضيف انصرف. وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ جمع نذير، وهو الرسول. ويجوز أن تكون النذر اسما للمصدر. قال الفراء: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ

_ (1) مرّ الشاهد رقم 162. (2) انظر الكتاب 3/ 265. (3) الشاهد للعجاج في ديوانه 2/ 232، وشرح أبيات سيبويه 1/ 319، ولسان العرب (حقف) و (زلف) و (وجف) ، و (سما) بلا نسبة في الكتاب 1/ 425، وجمهرة اللغة 553.

[سورة الأحقاف (46) : آية 24]

من قبله وَمِنْ خَلْفِهِ من بعده أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ «أن» في موضع نصب أي بأن إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ نعت لليوم ولو كان نعتا لعذاب لنصب. ولا يجوز الجوار في كتاب الله تعالى وإنما يقع في الغلط. [سورة الأحقاف (46) : آية 24] فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) قال محمد بن يزيد: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً فيه جوابان: يكون التقدير فلمّا رأوا السحاب، وإن كان لم يتقدّم للسّحاب ذكر لأنّ الضمير قد عرف ودل عليه «عارضا» ، والجواب الآخر أن يكون جوابا لقولهم فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أي فلمّا رأوا ما يوعدون عارضا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ يقدّر فيه التنوين، وكذا قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا أو ممطر لنا، كما قال: [البسيط] 424- يا ربّ غابطنا لو كان يطلبكم «1» أي غابط لنا. بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ قال الفراء «2» : وفي حرف عبد الله: قل بل ما استعجلتم به هي ريح فيها عذاب أليم. قال: وهي وهو مثل مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى [القيامة: 37] ويمنى. من قال: هو، ذهب إلى العذاب، ومن قال هي، ذهب إلى الريح. [سورة الأحقاف (46) : آية 25] تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) فأصبحوا لا ترى إلّا مساكنهم هذه قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو والكسائي «3» ، وهي المعروفة من قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس. وقرأ الأعمش وحمزة وعاصم فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ وهي المعروفة من قراءة ابن مسعود ومجاهد، وقرأ الحسن وعاصم الجحدريّ فأصبحوا لا ترى إلّا مساكنهم «4» بالتاء ورفع المساكن على اسم ما لم يسمّ فاعله. وهذه القراءة عند الفراء

_ (1) الشاهد لجرير في ديوانه 163، والكتاب 1/ 492، والدرر 5/ 9، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 457، وشرح التصريح 2/ 28، وشرح شواهد المغني 2/ 712، ولسان العرب (عرض) ، ومغني اللبيب 1/ 511، والمقاصد النحوية 3/ 364، والمقتضب 4/ 150، وهمع الهوامع 3/ 47، وبلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 305، والمقتضب 3/ 227. وعجزه: «لاقى مباعدة منكم وحرمانا» (2) انظر معاني الفراء 3/ 55. (3) انظر تيسير الداني 162، وكتاب السبعة لابن مجاهد 598. (4) انظر البحر المحيط 8/ 65.

[سورة الأحقاف (46) : آية 26]

بعيدة لأنّ فعل المؤنّث إذا تقدّم وكان بعده إيجاب ذكّرته العرب فيما زعم، وحكى: لم يقم إلّا هند لأن المعنى عنده: لم يقم أحد إلّا هند. [سورة الأحقاف (46) : آية 26] وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ قال محمد بن يزيد: «ما» بمعنى الذي و «إن» بمعنى «ما» أي ولقد مكّنّاهم في الذي مكّنّاكم فيه. وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فجاء السمع مفردا وما بعده مجموعا ففيه غير جواب منها أنّه مصدر فلم يجمع لذلك، ومنها أن يكون فيه محذوف أي وجعلنا لهم ذوات سمع، ومنها أن يكون واحدا يدلّ على جمع فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ تكون «ما» نعتا لا موضع لها من الإعراب، وإن جعلتها استفهاما كان موضعها نصبا. قال الفراء «1» : وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي عاد، قال: وأهل التفسير يقولون: أحاط ونزل. [سورة الأحقاف (46) : آية 27] وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى هذه لام توكيد. و «قد» عند الخليل وسيبويه بمعنى التوقّع مع الماضي فإذا كانت مع المستقبل أدّت معنى التقليل، تقول: قد يقوم أي يقلّ ذلك منه. فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ لولا وهلّا واحد، كما قال: [الطويل] 425- بني ضوطرى لولا الكميّ المقنّعا «2»

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 56. [.....] (2) الشاهد لجرير في ديوانه 907، وتخليص الشواهد ص 431، وجواهر الأدب ص 394، وخزانة الأدب 3/ 55، والخصائص 2/ 45، والدرر 2/ 240، وشرح شواهد الإيضاح 72، وشرح شواهد المغني 2/ 669، وشرح المفصل 2/ 38، والمقاصد النحوية 4/ 475، ولسان العرب (أمالا) ، وتاج العروس (لو) ، وللفرزدق في الأزهيّة 168، ولسان العرب (ضطر) ، ولجرير أو للأشهب بن رميلة في شرح المفصّل 8/ 145، وبلا نسبة في الأزهية ص 170، والأشباه والنظائر 1/ 240، والجنى الداني ص 606، وخزانة الأدب 11/ 245، ورصف المباني 293، وشرح الأشموني 3/ 610، وصدره: «تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم»

[سورة الأحقاف (46) : آية 28]

[سورة الأحقاف (46) : آية 28] فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) أي هلّا: قُرْباناً آلِهَةً يكون «قربانا» مصدرا، ويكون مفعولا من أجله، ويكون مفعولا و «الهة» بدل منه بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وإن شئت أدغمت اللّام في الضاد. وزعم الخليل وسيبويه «1» أن الضاد تخرج من الشقّ اليمين ولبعض النّاس من الشقّ الشمال. وَذلِكَ إِفْكُهُمْ «ذلك» في موضع رفع بالابتداء «إفكهم» خبره والهاء والميم في موضع خفض بالإضافة ومثله سواء في الإعراب والمعنى. قال الفراء «2» : إفك وأفك مثل حذر وحذر أي هما بمعنى واحد. ويروى عن ابن عباس أنه قرأ أفكهم «3» على أنه فعل ماض والهاء والميم على هذه القراءة في موضع نصب، وفي إسنادها عن ابن عباس نظر ولكن قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن إسحاق عن سليمان بن حرب عن حمّاد بن سلمة قال: حدّثنا عطاء بن السائب قال: سمعت أبا عياض يقرأ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ فعلى هذه القراءة يكون وَما كانُوا يَفْتَرُونَ في موضع رفع على أحد أمرين إما أن يكون معطوفا على المضمر الذي في «أفكهم» ويكون المعنى وذلك أرداهم وأهلكهم هو وافتراؤهم إلّا أنّ العطف على المضمر المرفوع بعيد في العربية إلّا أن يؤكّد ويطول الكلام لو قلت: قمت وعمرو، كان قبيحا حتّى تقول: قمت أنا وعمرو أو قمت في الدار وعمرو. والوجه الثاني أن يكون «وما كانوا يفترون» معطوفا على ذلك أي وذلك أهلكهم وأضلّهم وافتراؤهم أيضا أهلكهم وأضلّهم. والقراءة البيّنة التي عليها حجّة الجماعة «وذلك إفكهم» أي وذلك كذبهم وما كانوا يفترون على هذه القراءة معطوف على إفكهم أي وذلك إفكهم وافتراؤهم تكون ما والفعل مصدرا فلا تحتاج إلى عائد لأنها حرف فإن جعلتها بمعنى الذي لم يكن بدّ من عائد مضمر أو مظهر. فيكون التقدير والذي كانوا يفترونه ثم تحذف الهاء ويكون حذفها حسنا لعلل منها طول الاسم وأنه لا يشكل مذكّر بمؤنّث وأنه رأس آية وأنه ضمير متّصل، ولو كان منفصلا لبعد الحذف، وإن كان بعضهم قد قرأ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ [الأنعام: 154] بمعنى على الذي هو أحسن، وتأوّل بعضهم قول سيبويه «4» «هذا باب علم ما الكلم» بمعنى الّذي هو الكلم، وروى بعضهم «هذا باب علم ما الكلم» بغير تنوين على أنه حذف أيضا هو وفيه من البعد ما ذكرنا فإذا كان متصلا حسن الحذف كما قرئ وفيها ما تشتهي الأنفس [الزخرف: 71] وتشتهيه، وحكى أبو إسحاق «وذلك أأفكهم» أي أكذبهم.

_ (1) انظر الكتاب 4/ 572. (2) انظر معاني الفراء 3/ 56. (3) انظر البحر المحيط 8/ 66، والمحتسب 2/ 267. (4) انظر الكتاب 1/ 40.

[سورة الأحقاف (46) : آية 29]

[سورة الأحقاف (46) : آية 29] وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ «إذ» في موضع نصب قيل: مضى «صرفنا» وقفناهم لذلك فسمّي صرفا مجازا فَلَمَّا قُضِيَ أي فرغ من تلاوته وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ أي مخوّفين من ترك قبول الحق ونصب «منذرين» على الحال. [سورة الأحقاف (46) : آية 30] قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً وأجاز سيبويه «1» في بعض اللغات فتح «أنّ» بعد القول. أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ «يهدي» في موضع نصب لأنه نعت لكتاب، ويجوز أن يكون منصوبا على الحال، وهو مرفوع لأنه فعل مستقبل. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 31 الى 32] يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ جواب الأمر، وكذا وَيُجِرْكُمْ. [سورة الأحقاف (46) : آية 33] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ ليس من التعب وإنما يقال في التعب: أعيا يعيي وعيي بالأمر يعي وعيّ به إذا لم يتّجه له. بقدر «2» هذه قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وابن كثير وأبي عمرو والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ عبد الرحمن الأعرج وابن أبي إسحاق وعاصم الجحدري يقدر «3» وقد زعم بعض النحويين أن القراءة بيقدر أولى لأن الباء إنما تدخل في النفي وهذا إيجاب وتعجّب من أبي عمرو والكسائي كيف جاز عليهما مثل هذا حتّى غلطا فيه مع محلّهما من العربية قال أبو جعفر: وفي هذا طعن على من تقوم الحجّة بقراءته ومع ذلك فقد أجمعت الأئمة على أن قرءوا أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ [يس: 81] ولا نعلم بينهما فرقا ولا تجتمع الجماعة على ما لا يجوز. وقد تكلّم النحويون في الآية التي أشكلت على قائل هذا فقال الكسائي: إنما دخلت الباء من أجل «لم» وهذا

_ (1) انظر الكتاب 1/ 178، و 3/ 163. (2) انظر البحر المحيط 8/ 67. (3) انظر البحر المحيط 8/ 68.

[سورة الأحقاف (46) : آية 34]

قول صحيح وسمعت علي بن سليمان يشرحه شرحا بيّنا، قال الباء تدخل في النفي فتقول: ما زيد بقائم، فإذا دخل الاستفهام على النفي لم يغيره عمّا كان عليه فتقول: أما زيد بقائم، فكذا «بقادر» لأن قبله حرف نفي وهو «لم» وقال أبو إسحاق: الباء تدخل في النفي ولا تدخل في الإيجاب تقول: ظننت زيدا منطلقا، ولا يجوز: ظننت زيدا بمنطلق فإن جئت بالنفي قلت: ما ظننت زيدا بمنطلق، فكذا قوله جلّ وعزّ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ والمعنى: أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر في رويّتهم وفي علمهم. قال أبو جعفر: فإن قال قائل: لم صارت الباء في النفي ولا تكون في الإيجاب؟ فالجواب عند البصريين أنها دخلت توكيدا للنفي لأنه قد يجوز ألّا يسمع المخاطب «ما» أو يتوهّم الغلط فإذا جئت بالباء علم أنه نفي. وأما قول الكوفيين الباء في النفي حذاء اللام في الإيجاب. [سورة الأحقاف (46) : آية 34] وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ بمعنى واذكر يوما. [سورة الأحقاف (46) : آية 35] فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) بَلاغٌ في معناه قولان: أحدهما أنه بمعنى قليل. يقال: ما معه من الزاد إلّا بلاغ أي قليل، والقول الآخر: أن المعنى فيما وعظوا به بلاغ، كما قال الأخفش. قال بعضهم: البلاغ القرآن. وهو مرفوع على إضمار مبتدأ أي ذلك بلاغ، ومن نصبه جعله مصدرا أو نعتا لساعة. فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ أي من فسق في الدنيا. ويقال: إنّ هذه الآية من أرجى آية في القرآن إلّا أن ابن عباس قال: أرجى آية في القرآن وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرعد: 6] .

47 شرح إعراب سورة محمد صلى الله عليه وسلم

47 شرح إعراب سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) الَّذِينَ في موضع رفع بالابتداء وهو اسم ناقص. كَفَرُوا من صلته «وصدّوا» معطوف عليه وَصَدُّوا بزيادة ألف بعد الواو وللنحويين في ذلك ثلاثة أقوال: فمذهب الخليل رحمه الله أنّ هذه الألف زيدت في الخط فرقا بين واو والإضمار والواو الأصلية نحو «لو» فاختيرت الألف لأنها عند أخر مخرج الواو. وقال الأخفش: لو كتب بغير ألف لقرئ «كفر وصدّ» ففرق بين هذه الواو وبين واو العطف. وقال أحمد بن يحيى: كتب بألف ليفرّق بين المضمر المتصل والمنفصل فيكتب صدّوهم عن المسجد الحرام بغير ألف ويكتب صدوا هم بألف، كما تقول: قاموا هم. قال أبو جعفر: فهذه ثلاثة أقوال أصحّها القول الأول لأن قول الأخفش يعارض بأنه قد يقال: كفر وأفعل فيقع الأشكال أيضا وقول أحمد بن يحيى في الفرق إنما جعله بين المضمرين وليس يقع في قاموا مضمر منصوب فيجب على قوله أن يكتبه بغير ألف وهو لا يفعل هذا ولا أحد غيره. ومذهب الخليل رحمه الله مذهب صحيح. وهذا في واو الجمع خاصة فأما التي في الواحد نحو قولك: هو يرجو فبغير ألف لأنها ليست واو الإضمار وهي لام الفعل بمنزلة الواو من «لو» فكتابتها بالألف خطأ، وإن كان بعض المتأخرين قد ذكر ذلك بغير تحصيل ورأيت أبا إسحاق قد ذكره بالنقصان في النحو وذكر أنه خاطبه فيه. ومن العرب من يقول: اللّذون فيجعله جمعا مسلّما. فأما ما رواه مجاهد عن ابن عباس في قوله جلّ وعزّ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أنّهم كفار أهل مكة فجعل الآية فيهم خصوصا، والظاهر يدلّ على العموم فيجوز أن تكون نزلت في قوم بأعيانهم ثم صارت عامة لكل من فعل فعلهم، وكذا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فقول ابن عباس أنّ هذا نزل في الأنصار خاصة وهو بمنزلة ما تقدّم «والذين» في موضع

[سورة محمد (47) : آية 3]

رفع بالابتداء، والخبر كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ قال مجاهد عن ابن عباس: أي أمرهم. وروى الضحاك عنه: أي شأنهم. قال أبو جعفر: والبال في اللغة يعبّر عنه بالأمر والشأن والحال. قال محمد بن يزيد: وقد يكون للبال موضع أخر يكون بمعنى القلب. يقال: ما يخطر هذا على بالي أي على قلبي. [سورة محمد (47) : آية 3] ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) ذلِكَ في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء وما بعده خبره. ويكون ذلك إشارة إلى الإضلال والهدى. والعرب قد تشير إلى شيئين بذلك فمنهم من يقول ذانك. وسمعت أبا إسحاق يقول في قول سيبويه: ظننت، ولم يعدها إلى مفعول أخر: إنّ ذلك إشارة إلى شيئين، كأن قائلا قال: ظننت زيدا منطلقا، فقال له أخر: قد ظننت ذلك. [سورة محمد (47) : الآيات 4 الى 6] فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ مصدر. أي فاضربوا الرقاب ضربا، وقيل: هو على الإغراء «1» ، هذا قول الفراء. حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ أي لئلا يهربوا أو يلحقكم منهم مكروه. والإثخان المبالغة بالضرب مشتق من قولهم: شيء ثخين أي متكاثف. فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً مصدران وحذف الفعل لدلالة المصدر عليه ولأنه أمر. والفداء يمدّ ويقصر عند البصريين. وأما الفراء فحكى «2» أنه ممدود إذا كسر أوله ومقصور إذا فتح أوله وحكي: قم فدى لك. حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أهل التفسير على أن المعنى حتّى يزول الشرك والضمير عند الفراء يحتمل معنيين: أحدهما حتّى تضع الحرب أوزارها أي آثامهم، والمعنى الآخر أن يعود على الحرب نفسها. قال أبو جعفر: الحرب في كلام العرب مؤنّثة، ويصغّرونها بغير هاء فيقولون: حريب، ومثلها قوس وذود يصغّران بغير هاء سماعا من العرب ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ «ذلك» في موضع رفع أي الأمر ذلك أنه لو شاء الله لانتصر منهم، ولكنه أراد أن يثيب المؤمنين، وكانت الحكمة في ذلك ليقع الثواب والعقاب. وقد بيّن ذلك جلّ وعزّ بقوله:

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 57. (2) انظر المنقوص والممدود 25، 26.

[سورة محمد (47) : آية 7]

وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ «1» هذه قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وابن كثير وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ عاصم الجحدري وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ «2» وقرأ أبو عمرو والأعرج قُتِلُوا وعن الحسن أنه قرأ قتلوا» مشددة. قال أبو جعفر: والقراءة الأولى عليها حجّة الجماعة، وهي أبين في المعنى وقد زعم بعض أهل اللغة أنه يختار أن يقرأ «قاتلوا» لأنه إذا قرأ «قتلوا» لم يكن الثواب إلا لمن قتل، وإذا قرأ قتلوا لم يكن الثواب إلا لمن قتل وإذا قرأ قاتلوا عم الجماعة بالثواب وهذه لعمري احتجاج حسن، غير أن أهل النظر يقولون: إذا قرئ الحرف على وجوه فهو بمنزلة آيات كل واحدة تفيد معنى، وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «أوتيت جوامع الكلم» «4» . [سورة محمد (47) : آية 7] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ قيل: المعنى: إن تنصروا دين الله وأولياءه فجعل ذلك نصرة له مجازا ينصركم في الآخرة أي يدفع الشدائد عنكم. وروى الضحاك عن ابن عباس: ينصركم على عدوكم. وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ قيل: في موضع الحساب بأن يجعل الحجّة لكم. [سورة محمد (47) : آية 8] وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) وَالَّذِينَ كَفَرُوا في موضع رفع بالابتداء، ويجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل يفسّره فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ معطوف على الفعل المحذوف. [سورة محمد (47) : آية 9] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) قال أبو إسحاق: كرهوا نزول القرآن ونبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم. [سورة محمد (47) : آية 10] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا في موضع نصب على أنه جواب، ويجوز أن يكون في موضع جزم على أنه معطوف، والجزم والنصب علامتهما حذف النون. كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ اسم كان ولم يقل: كانت لأنه تأنيث غير حقيقي وخبر «كان» في «كيف» وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها روى الضحاك عن ابن عباس قال: عذاب ينزل من السّماء ولم يكن

_ (1) انظر تيسير الداني 162، وكتاب السبعة لابن مجاهد 600. (2) انظر تيسير الداني 162، وكتاب السبعة لابن مجاهد 600. (3) انظر تيسير الداني 162، وكتاب السبعة لابن مجاهد 600. (4) أخرجه مسلم في صحيحه، المساجد 7، 8، وأحمد في مسنده 2/ 250، وذكره ابن كثير في تفسيره 4/ 72، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 7/ 113، وأبو نعيم في دلائل النبوة 1/ 14، والمتقي الهندي في كنز العمال (32068) . [.....]

[سورة محمد (47) : آية 11]

بعد. وقال أبو إسحاق في الضمير الذي في أمثالها أنه يعود على العاقبة. [سورة محمد (47) : آية 11] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) روى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا قال: ناصرهم. قال الفراء «1» وفي قراءة عبد الله ذلك بأنّ الله وليّ الذين آمنوا وهذه قراءة على التفسير. وقال أبو إسحاق: في معنى ذلك بأن الله يتولّى الذين آمنوا في جميع أمورهم وهدايتهم والنصر على عدوهم. وهذه الأقوال متقاربة ومعروف في اللغة أنّ المولى الوليّ. وهو معنى ما قال ابن عباس: إنّ المولى الناصر، وعلى هذا تؤوّل قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «من كنت مولاه فعليّ مولاه» «2» أي من كنت أتولاه وأنصره فعليّ يتولاه وينصره، وقيل: المعنى من كان يتولاني وينصرني فهو يتولّى عليّا وينصره. ويبيّن ذلك ما حدّثناه علي بن سليمان عن أبي سعيد السكّري عن يونس، عن محمد بن المستنير قال: إن سأل سائل عن قول الله جلّ وعزّ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) فقال الله جلّ وعزّ: مولى كلّ أحد فكيف قال جلّ وعزّ وأن الكافرين لا مولى لهم؟ فالجواب أن المولى هاهنا الولي وليس الله جلّ وعزّ وليّ الكافرين، وأنشد: [الكامل] 426- فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه ... مولى المخافة خلفها وأمامها «3» أي وليّ المخافة. [سورة محمد (47) : آية 12] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَالنَّارُ مرفوعة بالابتداء، و «مثوى» في موضع رفع على أنه الخبر، وأجاز الفراء أن يكون مَثْوىً في موضع نصب ويكون الخبر لهم. [سورة محمد (47) : آية 13] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) التقدير وكم من أهل قرية. وهي أيّ دخلت عليها كاف التشبيه. قال الفراء «4» : في معنى «التي أخرجتك» التي أخرجك أهلها إلى المدينة أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ قال

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 59. (2) أخرجه أحمد في مسنده 5/ 419، وذكره ابن أبي عاصم في السنة 2/ 605، وابن كثير في البداية والنهاية 7/ 339، والترمذي في سننه (3713) . (3) مرّ الشاهد رقم (151) . (4) انظر معاني الفراء 3/ 59.

[سورة محمد (47) : آية 14]

الفراء: جاء في التفسير فلم يكن لهم ناصر حتّى أهلكناهم، قال: فيكون «فلا ناصر لهم» اليوم من العذاب. [سورة محمد (47) : آية 14] أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ على اللفظ ولو كان على المعنى لقيل: كانوا على بيّنة من ربهم، وكذا كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ولم يقل: لهم سوء أعمالهم، وبعده وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ على المعنى، ولو كان على اللفظ لكان واتّبع هواه. [سورة محمد (47) : آية 15] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ وفي معناه أربعة أقوال: قال محمد بن يزيد: قال سيبويه «1» : أي فيما يتلى عليكم ويقصّ عليكم مثل الجنة، وقال يونس: مثل بمعنى صفة ومثله فيما ذكرناه مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ [إبراهيم: 18] قال محمد بن يزيد: وكلا القولين حسن جميل وقال الكسائي: مثل الجنّة كذا وفيها كذا ولهم فيها كذا كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ أي مثل هؤلاء في الخير كمثل هؤلاء في الشرّ أي هؤلاء كهؤلاء. والقول الرابع عن أبي إسحاق قال: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تفسير لقوله جلّ وعزّ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الحج: 14] ثم فسّر تلك الأنهار فالمعنى مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ مما قد عرفتموه في الدنيا من الجنات والأنهار جنّة فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وفي قراءة أهل مكة فيما ذكره أبو حاتم غَيْرِ آسِنٍ «2» على فعل يقال: أسن الماء يأسن ويأسن أسنا وأسونا فهو آسن وأسن يأسن أسنا فهو أسن، وتحذف الكسرة لثقلها، فيقال: أسن، إذا أنتن. فإن تغيّر قالوا أجن الماء يأجن ويأجن وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ نعت خمر بمعنى ذات لذة ويجوز لذّة نعت لأنهار، ويجوز النصب على المصدر، كما تقول: هو لك هبة. كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ الكاف في موضع رفع وهي مرافعة كمثل عند الكسائي كما بيّنّا، وأما الفراء «3» فالتقدير عنده: أمن هو في هذه الجنات كمن هو خالد في النار وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ جمع معى وهو يذكّر ويؤنّث. وروى أبو أمامة الباهلي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قول الله جلّ وعزّ: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ قال: «إذا قرّب منه تكرّهه، وإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ولحم وجهه فيه، فإذا شربه قطّع أمعاءه وخرج من دبره» «4» .

_ (1) انظر الكتاب 1/ 196. (2) انظر تيسير الداني 162. (3) انظر معاني الفراء 3/ 60. (4) انظر البحر المحيط 8/ 79.

[سورة محمد (47) : آية 16]

[سورة محمد (47) : آية 16] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ على لفظ «من» حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ على المعنى. قال عبد الله بن بريدة: قالوا ذلك لعبد الله بن مسعود أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ على المعنى أيضا. [سورة محمد (47) : آية 17] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا أي قبلوا الهدى وعملوا به. زادَهُمْ هُدىً قال أبو جعفر: قد ذكرناه. ومن حسن ما قيل في الضمير أن المعنى زادهم الله جلّ وعزّ هدى بما ينزل من الآيات والبراهين والدلائل والحجج على رسوله صلّى الله عليه وسلّم فيزداد المؤمنون بها بصيرة ومعرفة. [سورة محمد (47) : آية 18] فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً هذه القراءة التي عليها حجّة الجماعة. وقد حكى أبو عبيد: أنّ في بعض مصاحف الكوفيين أن تأتيهم وقرئ على إبراهيم بن محمد بن عرفة عن محمد بن الجهم قال: حدّثنا الفراء قال: حدّثني أبو جعفر الرؤاسي قال: قلت لأبي عمرو بن العلاء ما هذه الفاء في قوله: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها قال: هي جواب للجزاء. قلت إنما هي أَنْ تَأْتِيَهُمْ فقال: معاذ الله إنما هي «إن تأتهم» «1» . قال الفراء: فظننته أخذها عن أهل مكة لأنه عليهم قرأ. قال: وهي في بعض مصاحف الكوفيين «إن تأتهم» بسنة واحدة ولم يقرأ بها أحد منهم. قال أبو جعفر: ولا يعرف هذا عن أبي عمرو إلّا من هذه الطريق. والمعروف عنه أنه قرأ «أن تأتيهم» وتلك ال مع شذوذها مخالفة للسواد، والخروج عن حجّة الجماعة. ومن جهة المعنى ما هو أكثر، وذلك أنه لو كان «إن تأتهم بغتة» لكان المعنى يمكن أن تأتي بغتة وغير بغتة، وقد قال الله جلّ وعزّ: لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف: 187] . فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها جمع شرط أي علاماتها. قال الحسن: موت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من علاماتها، وقال غيره: بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من علاماتها لأنه لا نبيّ بعده إلى قيام الساعة. وقال قال عليه السلام «أنا والسّاعة كهاتين» «2» قال محمد بن يزيد: وإنما قيل: شرط لأن لهم علامات وهيئات ليست للعامة. فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ قال الأخفش: أي فإنّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 80، قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين وكفرسي رهان» . (2) انظر تيسير الداني 69، والبحر المحيط 8/ 81.

[سورة محمد (47) : الآيات 19 إلى 20]

الساعة «ذكراهم» في موضع رفع بالابتداء على مذهب سيبويه، وبالصفة على قول الكوفيين. [سورة محمد (47) : الآيات 19 الى 20] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) فَاعْلَمْ قال أبو إسحاق: الفاء جواب للمجازاة أي قد بيّنّا أن الله جلّ وعزّ واحد فاعلم ذلك. فأما مخاطبة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بهذا، وهو عالم به ففي ذلك غير جواب. قال أبو إسحاق: مخاطبة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مخاطبة لأمته، وعلى مذهب بعض النحويين أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مأمور أن يخاطب بهذا غيره مثل فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ [يونس: 94] وقيل: فاعلم علما زائدا على علمك لأن الإنسان قد يعلم الشيء من جهات وجواب رابع أنّ المعنى تحذير له من المعاصي أي فاعلم أنه لا إله إلّا الله وحده لا يعاقب على العصيان غيره. ويدلّ على هذا أنّ بعده واستغفر لذنبك كما تقول للرجل تحذّره من المعصية: اعلم أنّك ميّت فلست تأمره أن يفعل العلم وإنما تحذّره من المعاصي. قال أبو إسحاق: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ أي متصرّفكم. وَمَثْواكُمْ أي مقامكم في الدنيا والآخرة. قال: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي فرض فَأَوْلى لَهُمْ. [سورة محمد (47) : آية 21] طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فيه أجوبة فقال الخليل وسيبويه جوابان: أحدهما أن تكون طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ مرفوعين بالابتداء أي طاعة وقول معروف أمثل والثاني على خبر المبتدأ أي أمرنا طاعة وقول معروف. وقال غيرهما: التقدير منّا طاعة. وقول رابع أن يكون «طاعة» نعتا لسورة بمعنى ذات طاعة فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي جدّ الأمر. وقيل: هو مجاز أي أصحاب الأمر أي فإذا عزم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الحرب. فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ في القتال. لَكانَ خَيْراً لَهُمْ من التعلّل والهرب، وقال أبو إسحاق: أي لكان صدقهم الله وإيمانهم به خيرا لهم. [سورة محمد (47) : آية 22] فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) فَهَلْ عَسَيْتُمْ «1» إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ هذه القراءة التي عليها الجماعة. قال أبو إسحاق: ولو جاز عسيتم لجاز عسى ربّكم فهي عنده لا تجوز البتة. ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عنه أنه قرأ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي تولّاكم النّاس على ما لم

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 140، والبحر المحيط 8/ 82.

[سورة محمد (47) : الآيات 23 إلى 24]

يسمّ فاعله. أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ (أن) في موضع نصب خبر عسيتم. وهذه اللغة الفصيحة، ومن العرب من يحذف «أن» من الخبر، كما قال: [الوافر] 427- عسى الهمّ الّذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب «1» ومن العرب من يأتي بالاسم في خبرها فينصبه فيقول: عسى زيد قائما. [سورة محمد (47) : الآيات 23 الى 24] أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) ثم قال جلّ وعزّ بعد أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وقد تقدّم وصفهم بالصّمم والعمى، فمن أصحّ ما قيل في هذا وأحسنه أن المعنى: أولئك الذين لعنهم الله فلم ينلهم ثوابا فهم بمنزلة الصمّ لا يسمعون ثناء حسنا عليهم ولا يبصرون ما يسرّون به من الثواب، فهذا جواب بيّن. وقد قيل: إنه دعاء، وقد قيل: إنهم لا يسمعون أي لا يعلمون. وقد تأوّل بعض العلماء حديث أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «إنّ الميّت ليسمع خفق نعالهم» «2» أي ليعلم. وتأويل حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أهل القليب الذين قتلوا يوم بدر حين خاطبهم فقال: «هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا» «3» ثمّ أخبر أنّهم يسمعون ذلك فتأول صاحب ذلك التأويل على أنّهم يعلمونه، واحتج بقول الله عزّ وجلّ: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النمل: 80] وهذا التأويل قد ردّه جماعة من العلماء على متأوليه لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو المبين عن الله عزّ وجلّ، وهو القائل «إنّ الميّت ليسمع خفق نعالهم» والمخبر بعذاب القبر ومساءلة الميّت وكذا أكثر أصحابه على ذلك يخبرون بتأدية الأعمال إلى الموتى فالصواب من ذلك أن يقال: إنّ الله جلّ وعزّ يؤدّي إلى الموتى من بني أدم ما شاء على ما شاء ويعذب من شاء ممن يستحقّ بما يشاء فأما قوله جلّ وعزّ: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر: 22] وإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النمل: 80] .

_ (1) الشاهد لهدبة بن خشرم في الكتاب 3/ 181، وخزانة الأدب 9/ 328، وشرح أبيات سيبويه 1/ 142، والدرر 2/ 145، وشرح التصريح 1/ 206، وشرح شواهد الإيضاح 97، وشرح شواهد المغني 443، واللمع 225، والمقاصد النحوية 2/ 184، وبلا نسبة في أسرار العربية 128، وتخليص الشواهد 326، وخزانة الأدب 9/ 316، والجنى الداني ص 462، وشرح ابن عقيل 165، وشرح عمدة الحافظ 816، والمقرب 1/ 98، وشرح المفصل 7/ 117، ومغني اللبيب ص 152، والمقتضب 3/ 70، وهمع الهوامع 1/ 130. (2) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 445، وذكره الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 2/ 46، والسيوطي في الدر المنثور 4/ 82، والقرطبي في تفسيره 7/ 377، والهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 54. (3) أخرجه البخاري في صحيحه 5/ 97، 98، ومسلم في صحيحه، الجنة 76، والنسائي في سننه 4/ 101، وأحمد في مسنده 2/ 38، 130، و 3/ 104، 145، و 4/ 9، وذكره ابن أبي شيبة في مصنّفه 14/ 377، والبيهقي في دلائل النبوة 3/ 48، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 5/ 23. [.....]

[سورة محمد (47) : آية 25]

فليس فيه مخالفة لهذا: وإنما المعنى- والله أعلم- إنك لا تسمع الموتى بقدرتك ولا بقوتك، ولكن الله جلّ وعزّ يسمعهم كيف يشاء ويدلّ على هذا أنّ بعده وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ [النمل: 81] أي لست تهديهم أنت بقدرتك ولكن الله جلّ وعزّ يهدي من يشاء بلطفه وتوفيقه. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أي فيعملون بما فيه ويقفون على دلائله أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها أي أقفال تمنعها من ذلك. [سورة محمد (47) : آية 25] إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) قال أبو إسحاق: أي رجعوا بعد سماع الهدى وتبيينه إلى الكفر الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ هذه قراءة أكثر الأئمة، وقرأ أبو عمرو والأعرج وشيبة وعاصم الجحدري وأملي لهم «1» على ما لم يسمّ فاعله، وقرأ مجاهد وسلام ويعقوب وأملي لهم «2» بإسكان الياء فالقراءة الأولى بمعنى وأملى الله جلّ وعزّ لهم، والقراءة الثانية تؤول إلى هذا المعنى لأنه قد علم أنّ الله تبارك وتعالى هو الذي أملى لهم، والقراءة الثالثة بيّنة أخبر الله جلّ وعزّ أنه يملي لهم. والكوفيون يميلون وَأَمْلى لَهُمْ لأن الألف منقلبة من الياء ومعنى أملى له مدّ له في العمر ولم يعاجله بالعقوبة وهو مشتق من الملاوة، وهي القطعة من الدهر ومنه ملاك الله جلّ وعزّ نعمته وتملّ حبيبك والملوان: الليل والنهار. [سورة محمد (47) : آية 26] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ قال أبو إسحاق: أي الأمر ذلك الإضلال فإنهم قالوا لليهود سنطيعكم في بعض الأمر أي في التضافر على عداوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ «3» هذه قراءة أكثر الأئمة، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي والله يعلم إسرارهم وهذا مصدر من أسرّ، والأول جمع سرّ. [سورة محمد (47) : آية 27] فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ فيه حذف أي فكيف تكون حالهم يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ

_ (1) انظر تيسير الداني 163، وكتاب السبعة لابن مجاهد 600. (2) انظر تيسير الداني 163، وكتاب السبعة لابن مجاهد 600. (3) انظر البحر المحيط 8/ 83، وتيسير الداني 163.

[سورة محمد (47) : آية 28]

قال مجاهد: أي وأستاههم ولكن الله جلّ وعزّ كريم يكنّى. [سورة محمد (47) : آية 28] ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ أي ذلك جزاؤهم بأنّهم اتّبعوا الشيء أسخط الله من ترك متابعة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ أي اتّباع شريعته والإيمان به فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أي فأحبط ذلك، ويجوز أن يكون المعنى: فأحبط الله جلّ وعزّ ما عملوا من خير بكفرهم. [سورة محمد (47) : آية 29] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ عن ابن عباس قال: هم المنافقون قال: والمرض الشكّ والتكذيب أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ قال: عداوتهم للمؤمنين قال محمد بن يزيد: الضغن ما تضمره من المكروه وقد ضغنت عليه واضطغنت. [سورة محمد (47) : آية 30] وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ويقال في معناه سيمياء وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ عن ابن عباس قال: فما رأى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم منافقا فخاطبه إلا عرفه قال محمد بن يزيد: في لحن القول في فحواه وفي قصده من غير تصريح، قال: وقريب من معناه التعريض. وفي الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «إنكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم يكون ألحن بحجّته من صاحبه فأقضي له على قدر ما أسمع. فمن قضيت له بشيء من حقّ أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار» «1» قال محمد بن يزيد: معنى «ألحن بحجّته» أقصد وأمضى فيها. قال: ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للسّعدين «2» حين وجّههما إلى بني قريظة «إن أصبتماهم على العهد فأعلنا ذلك وإن أصبتماهم على غير ذلك فالحنا لي لحنا أعرفه ولا تفتّا في أعضاد المسلمين» «3» . [سورة محمد (47) : الآيات 31 الى 33] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) الابتلاء في اللغة الاختبار فقيل: المعنى: لنشدّدنّ عليكم في التعبّد، وذلك في الأمر بالجهاد، والنهي عن المعاصي. يدلّ على ذلك حتّى نعلم المجاهدين منكم

_ (1) أخرجه البخاري في صحيحه 3/ 235، و 9/ 32، ومسلم في الأقضية 4، وأحمد في مسنده 6/ 203، وذكره السيوطي في جمع الجوامع (7534) ، والشافعي في مسنده 150، والمتقي الهندي في كنز العمال 14536. (2) السعدان: هما سعد بن معاذ وسعد بن عبادة. (3) انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/ 221.

[سورة محمد (47) : آية 34]

والصابرين. وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي ما عملتم فيما تعبّدتم به. [سورة محمد (47) : آية 34] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) دخلت الفاء في خبر «إنّ» لأن اسمها الذين وصلته فعل فأشبه المجازاة فدخلت فيه الفاء، ولو قلت: إنّ زيدا فمنطلق، لم يجز. [سورة محمد (47) : آية 35] فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) فَلا تَهِنُوا الأصل توهنوا حذفت الواو تباعا وَتَدْعُوا عطف عليه، ويجوز أن يكون جوابا. قال محمد بن يزيد: السلم والسّلم والمسالمة واحد وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ قال مجاهد: الغالبون. وَاللَّهُ مَعَكُمْ أي ينصركم وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ قال الضّحاك: أي لن يظلمكم وقدّره أبو إسحاق على حذف أي لن ينقصكم ثواب أعمالكم. وروى يونس عن الزهري عن سالم عن أبيه وعنبسة يقول: عن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» «1» أي نقص وسلب. قال أبو جعفر: وفي اشتقاقه قولان: مذهب الفراء «2» أنه مشتقّ من الوتر، وهو الذّحل وهو قتل الرجل وأخذ ماله فالذي تفوته صلاة العصر لما فاته من الأجر والثواب بمنزلة من أخذ أهله وماله أي هو بمنزلة الذي وتر. والاشتقاق الآخر أن يكون من الوتر وهو الفرد كأنّه بمنزلة من قد بقي منفردا وخصّت بهذا، لأنها في وقت أشغالهم ومعائشهم والأصل في يتركم يوتركم حذفت إلى مفعولين مثل وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الأعراف: 155] والتقدير عند الأخفش ولن يتركم في أعمالكم. [سورة محمد (47) : آية 36] إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ مبتدأ وخبره وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا. قال أبو إسحاق: وقد عرّفهم أنّ أجورهم الجنة، قال: ويجوز وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ يريد على أن يجعله خبرا والجزم على العطف. قيل: المعنى: ولا يأمركم أن تنفقوا أموالكم كلّها في الجهاد ومواساة الفقراء. [سورة محمد (47) : آية 37] إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا أي تمتنعوا مما يجب عليكم. قال أبو جعفر: وكذا البخل في اللغة وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ قيل: أي ويخرج ذلك البخل أضغانكم أي ما تضمرونه من امتناع النفقة خوف الفقر.

_ (1) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 102. (2) انظر معاني الفراء 3/ 64.

[سورة محمد (47) : آية 38]

[سورة محمد (47) : آية 38] ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما شرط وجوابه فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أي إنما يعود الضرر عليه والعقوبة وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ أي فلم يكلّفكم ذلك لمّا علمه منكم وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ قيل: إن تتولّوا عن نصرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يأتي بقوم آخرين بدلا منكم ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ فيما فعلتموه.

48 شرح إعراب سورة الفتح

48 شرح إعراب سورة الفتح بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفتح (48) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) الأصل إنّنا حذفت النون لاجتماع النونات. والنون والألف في «إنّا» في موضع نصب، وفي «فتحنا» في موضع رفع وعلامات المضمر تتّفق كثيرا إذا كانت متصلة، والفتح هاهنا فتح الحديبيّة. وقد توهّم قوم أنه فتح مكّة ممّن لا علم لهم بالآثار. وقد صحّ عن ابن عباس والبرآء وسهل بن حنيف أنّهم قالوا: هو فتح الحديبيّة وهو صحيح عن أنس بن مالك كما قرئ على أحمد بن شعيب عن عمرو بن علي قال: حدّثنا يحيى قال: حدّثنا شعبة قال: حدّثنا قتادة عن أنس بن مالك إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال: الحديبية. وصحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال عند منصرفه من الحديبيّة «لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها» ثمّ تلا إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) «1» الآية فإن قيل: لم يكن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحب الدنيا، فكيف قال في هذا الفضل العظيم الخطير أحبّ إليّ من الدنيا؟ وإنما تقول العرب: هذا في الشيء الجليل فيقولون: هو أسخى من حاتم طيّئ، والدنيا لا مقدار لها. وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين مرّ بشاة ميّتة «والله للدّنيا أهون على الله جلّ وعزّ من هذه على أهلها» «2» ففي ذلك غير جواب منها أنّ المعنى لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها لو كانت لي فأنفقتها في سبيل الله جلّ وعزّ. وقيل: خوطبوا بما يعرفون «فتحا» مصدر «مبينا» من نعته. [سورة الفتح (48) : آية 2] لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ لام كي، والمعنى لأن. قال مجاهد ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ قبل النّبوة. وَما تَأَخَّرَ بعد النبوة، وقال الشعبي مثله إلّا أنه قال: إلى أن مات. وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ

_ (1) أخرجه مسلم في صحيحه، الجهاد ب 34 رقم 97، والقرطبي في تفسيره 16/ 259. (2) أخرجه الترمذي في سننه- الزهد 9/ 198، وابن ماجة في سننه رقم الحديث (4110) .

[سورة الفتح (48) : آية 3]

عطف قيل: يتم نعمته عليه في الدنيا بالنصر وفي الآخرة بالثواب وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً قيل: طريق الجنة. قال محمد بن يزيد: الصراط المنهاج الواضح. قال أبو جعفر: التقدير: إلى صراط ثم حذفت إلى. [سورة الفتح (48) : آية 3] وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ عطف. نَصْراً عَزِيزاً مصدر «عزيزا» من نعته. [سورة الفتح (48) : آية 4] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: السكينة الرحمة، قال محمد بن يزيد: السكينة فعيلة من السكون، ومن السكينة الحلم والوقار وترك ما لا يعني. وروى مالك بن أنس عن الزهري عن علي بن الحسين وبعضهم يقول عن الحسين رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» «1» ، ومن الرحمة الحديث أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبّل الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال له الأقرع بن حابس: إنّ لي لعشرة أولاد ما قبّلت واحدا منهم قطّ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «من لا يرحم لا يرحم» «2» . وفي بعض الحديث «أرأيت إن كان الله سبحانه قلع الرحمة من قلبك فما ذنبي» «3» . وفي ابن أبي طلحة عن ابن عباس لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ قال: بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بشهادة أن لا إله إلا الله ثم زاد الصلاة ثمّ زاد الصيام ثم أكمل لهم دينهم. [سورة الفتح (48) : الآيات 5 الى 6] لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ مفعولان خالِدِينَ على الحال وَيُكَفِّرَ عطف، كذا وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ نعت. وقرأ مجاهد وأبو عمرو دائرة السوء «4» بضم السين، وفتح السين، وإن كانت القراءة به أكثر فإنّ ضمّها فيما زعم الفراء في هذا أكثر. والسّوء اسم الفعل، والسّوء الشيء بعينه.

_ (1) أخرجه مالك في الموطّأ- الحديث (3) ، والترمذي في سننه- الزهد 9/ 196. (2) أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 170. (3) أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 170. (4) انظر تيسير الداني 163، ومعاني الفراء 3/ 65. [.....]

[سورة الفتح (48) : آية 8]

[سورة الفتح (48) : آية 8] إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) حال مقدّرة. [سورة الفتح (48) : آية 9] لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليؤمنوا «1» مردودة على هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ليؤمنوا. والقراءة بالتاء على معنى قل لهم، وقيل إنّ المخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم مخاطبة لأمته، وَتُعَزِّرُوهُ على التكثير، ويقال عزره يعزره. قال الحسن والضحاك: «وتعزّروه» أي تنصروه وتعظّموه. وَتُسَبِّحُوهُ أي تسبّحوا الله عزّ وجلّ. وقال قتادة: «تعزّروه» تعظّموه وَتُوَقِّرُوهُ تسوّدوه وتشرّفوه، وتأوّله محمد بن يزيد على أنه للمبالغة قال: ومنه عزّر السلطان الإنسان أي بالغ في أدبه فيما دون الحدّ. قال أبو جعفر: ورأيت علي بن سليمان يتأوّله بمعنى المنع، قال: فعزّرت الرجل الجليل منعت منه ونصرته، وعزّرت الرجل ضربته دون الحدّ. واشتقاقه منعته من أن يعود إلى ما ضربته من أجله. [سورة الفتح (48) : آية 10] إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ اسم «إنّ» ويجوز أن يكون الخبر إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ ويجوز أن يكون الخبر يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وقرأ ابن أبي إسحاق وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ «2» جاء به على الأصل ويجوز فسنؤتيه أجرا عظيما كالأول، فسنؤتيه بإثبات الواو في الإدراج، ويجوز فسنؤتيهي بإثبات الياء في الإدراج تبدل من الواو ياء. حكى هذا كلّه سيبويه وغيره. [سورة الفتح (48) : آية 11] سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ ويجوز إدغام اللام وإن كان فيه جمع بين ساكنين لأن الأول منهما حرف مدّ ولين، ولا يجوز الإدغام في فَاسْتَغْفِرْ لَنا عند الخليل وسيبويه لأن في الراء تكريرا فإن أدغمتها في اللام ذهب التكرير. يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ جمع على أنّ اللسان مذكّر ومن أنّثه قال: ألسن. قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا هذه قراءة أكثر القراء، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي

_ (1) انظر تيسير الداني 163، وكتاب السبعة لابن مجاهد 603. (2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 603.

[سورة الفتح (48) : الآيات 12 إلى 14]

ضرا» ففرّق بينهما جماعة من أصحاب الغريب منهم أبو عبيد فقال: الضّرّ: ضدّ النفع والضرّ: البؤس كما قال: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ [الأنبياء: 83] فعلى هذا يجب أن يكون الضرّ هنا أولى ولكن حكى النحويّون أنّ ضرّه ضرّا وضرّا جائز مثل شرب شربا وشربا. [سورة الفتح (48) : الآيات 12 الى 14] بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً يقال: إنّ البور في لغة أزد عمان الفاسد، وحكى الفراء: أن البور في كلام العرب لا شيء، وأنه يقال: أصبحت أعمالهم بورا أي لا شيء. [سورة الفتح (48) : الآيات 15 الى 16] سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي كلم الله «2» جمع كلمة، وقول سيبويه «هذا باب علم ما الكلم من العربيّة» يريد به جمع كلمة يريد ثلاثة أنحاء من الكلام اسما وفعلا وحرفا. والكلام اسم للجنس، وقد أجاز بعض النحويين أن يكون الكلام بمعنى التكليم، وأجاز: سمعت كلام زيد عمرا. قال أبو جعفر: وحقيقة الفرق بين الكلام والتكليم أن الكلام قد يسمع بغير متكلّم به، والتكليم لا يسمع إلّا من متكلّم به. قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ وهو قوله جلّ وعزّ: وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التوبة: 83] ثم قال جلّ ثناؤه بعد هذا قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يقال: كيف تدعون إلى القتال، وقد قال وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا وردّ عليهم قولهم ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ؟ فالجواب عن هذا أنه إنما قال: لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا وهؤلاء لم يدعوا في وقت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدلك على ذلك أنّ بعده. وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ ويعضد هذا الجواب جماعة الحجّة أن أبا بكر وعمر رحمهما الله هما اللذان دعيا الأعراب إلى القتال، كما قال ابن عباس في قوله جلّ وعزّ: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: إلى بني حنيفة أصحاب مسيلمة، قال: ويقال إلى فارس

_ (1) انظر تيسير الداني 163، وكتاب السبعة لابن مجاهد 604. (2) انظر تيسير الداني 163.

[سورة الفتح (48) : آية 17]

والروم. قال مجاهد وعطية العوفي: إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: فارس. قال أبو جعفر: فكانت في هذه الآية دلالة على إمامة أبي بكر وعمر وفضلهما رضي الله عنهما وأنهما أخذا الإمامة باستحقاق لقول الله جلّ وعزّ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً ولا يجوز أن يعطى الله جلّ وعزّ أجرا حسنا إلّا لمن قاتل على حقّ مع إمام عادل. قال الكسائي: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ على النسق. وقال أبو إسحاق: «أو يسلمون» مستأنف، والمعنى أو هم يسلمون. قال الكسائي: وفي قراءة أبيّ بن كعب أو يسلموا «1» بمعنى حتّى يسلموا، والبصريون يقولون: بمعنى إلى أن كما قال: [الطويل] 428- أو نموت فنعذرا «2» [سورة الفتح (48) : آية 17] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أصل الحرج في اللغة الضيق. وعن ابن عباس: أن هذا في الجهاد، وأنه كان في وقعة الحديبية فيمن تخلّف عنها. [سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 19] لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ قال جابر كنا ألفا وأربع مائة بايعنا على أن لا نفرّ. وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً أكثر أهل التفسير على أنه خيبر كانت لأهل الحديبية، وقيل: هو فتح الحديبية. قال الزهري: وكان فتحا عظيما. [سورة الفتح (48) : آية 20] وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ فأهل التفسير على أنها خيبر وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ عن ابن عباس والحسن قال: هو عيينة بن حصن الفزاري وقومه وعوف بن مالك النضري ومن معه جاءوا لينصروا أهل خيبر، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم محاصر لهم فألقى في قلوبهم الرعب قال جلّ وعزّ: وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وقيل: المعنى: ولتكون المغانم آية أي دلالة على صدق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وإخباره بالغيب.

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 142، والبحر المحيط 8/ 94. (2) مرّ الشاهد رقم 148.

[سورة الفتح (48) : آية 21]

[سورة الفتح (48) : آية 21] وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَأُخْرى في موضع نصب أي وعدكم أخرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها أي علم أنها ستكون. [سورة الفتح (48) : آية 22] وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ عن ابن عباس والحسن أيضا أنه في عيينة وعوف. [سورة الفتح (48) : آية 23] سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) سُنَّةَ اللَّهِ مصدر لأن معنى لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ سنّ الله عزّ وجلّ ذلك. قال أبو إسحاق: ويجوز «سنّة الله» بالرفع أي تلك سنة الله. [سورة الفتح (48) : الآيات 24 الى 25] وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ رويت فيه روايات فمن أحسنها أنه في يوم فتح مكّة كفّ الله جلّ وعزّ أيدي الكفار بالرعب الذي ألقاه في قلوبهم وكفّ أيدي المؤمنين بأنه لم يأمرهم بقتالهم يدلّ على هذا قوله عزّ وجلّ: بِبَطْنِ مَكَّةَ ولم تنصرف مكة لأنها معرفة اسم للمؤنث ثم بيّن جلّ وعزّ أنه لم يترك أمرهم بقتالهم لأنهم مؤمنون وأخبر أنّهم كفار فقال: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ معطوف على الكاف والميم وصدّوا الهدي مَعْكُوفاً على الحال. أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ «أن» في موضع نصب أي عن أن يبلغ محلّه ثم بيّن جلّ وعزّ لم لم يأمرهم بقتالهم فقال: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ «أن» في موضع رفع بدل والمعنى ولولا أن تطئوهم أي تقتلوهم بالوطء، وقيل: لأذن لكم في دخول مكة ولكنه حال بينكم وبين ذلك لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ من أهل مكة بالوطء، وقيل: المعنى أنّ الله سبحانه علم أنّ هؤلاء الكفّار من يسلم ومن يولد له من يسلم فلم يأمر بقتلهم ويقال: إنّ على هذا نهى الله جلّ وعزّ عن قتل أهل الكتاب إذا أدّوا الجزية قال الله جلّ وعزّ: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ. فأما معنى فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ فقيل لئلا يقتل المسلمون خطأ فتؤخذ الديات وقيل: معرّة أي عيب فيقال: لم يتقوا إذ قتلوا أهل دينهم قال الله سبحانه: لَوْ تَزَيَّلُوا

[سورة الفتح (48) : آية 26]

لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي لو انمازوا لأمرناكم أن تعذبوهم بالقتل. [سورة الفتح (48) : آية 26] إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ روي عن ابن عباس قال: هم المشركون صدّوا عن المسجد الحرام ومنعوا الهدي أن يبلغ محلّه فأما حقيقة الحميّة في اللغة فهي الأنفة والإنكار فإن كانت لما يجب فهي حسنة ويقال فاعلها حامي الذمار، كما قال: [الكامل] 429- حامي الذّمار على محافظة ... الجليّ أمين مغيّب الصّدر «1» وإن كانت لما لا يجب فهي ضلال وغلوّ كما قال جلّ وعزّ: حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فأما وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى فللعلماء فيه قولان: روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى «لا إله إلّا الله» وهي رأس كلّ تقوى وكذلك يروى عن علي وابن عمر وأبي هريرة وسلمة بن الأكوع رحمهم الله قالوا: كلمة التقوى «لا إله إلا الله» وروى محمد بن إسحاق عن الزهري عن المسور ومروان وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى قال: يعني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال الزهري: لمّا كتب الكتاب بالمقاضاة وأملاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (بسم الله الرحمن الرحيم) أنكروا ذلك، وقالوا: ما نعرف إلا «باسمك اللهمّ» فأمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكتب كما قالوا. وهذان القولان ليسا بمتناقضين، لأن الله جلّ وعزّ قد ألزم المؤمنين التوحيد وبسم الله الرحمن الرّحيم. وقد كانوا أنكروا في هذا الكتاب «من محمد رسول الله» وقالوا من محمد عبد الله. وَكانُوا أَحَقَّ بِها خبر كان أي أحقّ بها من غيرهم لأنهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين اختارهم الله جلّ وعزّ له. [سورة الفتح (48) : آية 27] لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ثم بيّن الرؤيا بقوله عزّ وجلّ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وتكلّم العلماء في معنى «إن شاء الله» هنا لأن الاستثناء لا يكون في البشارة فيكون فيه فائدة إنما الاستثناء من المخلوقين لأنهم لا يعرفون عواقب الأمور فقيل الاستثناء من امنين. وقيل: إنما حكي ما كان من الرؤيا وقيل خوطب الناس بما يعرفون ومن حسن ما فيه

_ (1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 90.

[سورة الفتح (48) : آية 28]

أن يكون الاستثناء لمن قتل منهم أو مات، وقد زعم بعض أهل اللغة أنّ المعنى لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله. وزعم أنه مثل قوله: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 278] وأنّ مثله: وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون. وهذا قول لا يعرّج عليه، ولا يعرف أحد من النحويين «إن» بمعنى «إذ» وإنّما تلك «أن» فغلط وبينهما فصل في اللغة والأحكام عند الفقهاء والنحويين مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ نصب على الحال، وهي حال مقدرة. وزعم الفراء «1» أنه يجوز «محلّقون رؤوسكم ومقصّرون» بمعنى بعضكم كذا وبعضكم كذا وأنشد: [البسيط] 430- وغودر البقل ملويّ ومحصود «2» [سورة الفتح (48) : آية 28] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ قيل: بالحجج والبراهين، وقيل: لا بد أن يكون هذا، وقيل: وقد كان لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث والأديان أربعة فقهرت كلّها في وقته، وفي خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وفي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن المعنى ليظهره على أمر الدّين كلّه أي ليبينه له. قال أبو جعفر: هذا من أحسن ما قيل في الآية لأنه لا معارضة فيه. [سورة الفتح (48) : آية 29] مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مبتدأ وخبره وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ مثله. وروى قرّة عن الحسن أنه قرأ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «3» بالنصب على الحال وخبر «الذين» «تراهم» ، ويجوز أن يكون الذين في موضع نصب بإضمار فعل يفسّره تراهم. رُكَّعاً سُجَّداً على الحال. سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ أي علامتهم. وأصحّ ما قيل فيه أنّهم يوم القيامة يعرفون بالنور الّذي في وجوههم. وفي الحديث «تأتي أمتي غرّا محجّلين» «4» ذلِكَ مَثَلُهُمْ مبتدأ وخبره فِي التَّوْراةِ تمام الكلام على

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 68. (2) مرّ الشاهد رقم (384) . (3) انظر البحر المحيط 8/ 100، ومختصر ابن خالويه 142. (4) أخرجه مالك في الموطأ باب- الحديث 28، وابن ماجة في سننه- الطهارة باب 6 الحديث (283) .

قول الضّحاك وقتادة، ويكون مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ مبتدأ، وخبره كَزَرْعٍ، وعلى قول مجاهد التمام وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ تعطف مثلا على مثل ثم تبتدئ «كزرع» أي هم كزرع. أَخْرَجَ شَطْأَهُ عن ابن عباس قال: السنبلة بعد أن كانت وحدها تخرج معها سبع سنابل وأكثر وروى حميد عن أنس أَخْرَجَ شَطْأَهُ «1» قال: نباته وفراخه. قال أبو جعفر: إن خفّفت الهمزة قلت شطه فألقيت حركتها على الطاء وحذفتها فَآزَرَهُ «2» قال أهل اللغة: أي لحق بالأمهات. وأصل أزره قوّاه فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ جمع ساق على فعول حذف منه يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ قيل: الكفار هاهنا الزراع لأنهم يغطون الزّرع، وقيل: هم الذين كفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وهذا أولى لأنه لا يجوز يعجب الزراع ليغيظ بهم الزراع. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً تكون «منهم» لبيان الجنس أولى لأنها إذا جعلت للتبعيض كان معنى آمنوا ثبتوا، وذلك مجاز ولا يحمل الشيء على المجاز ومعناه صحيح على الحقيقة.

_ (1) انظر تيسير الداني 164، والبحر المحيط 8/ 101. (2) انظر تيسير الداني 164.

49 شرح إعراب سورة الحجرات

49 شرح إعراب سورة الحجرات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحجرات (49) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يا حرف ينادى به، وأي مضمومة لأنها نداء مفرد، وها للتنبيه، الَّذِينَ في موضع رفع نعت لأيّ. ومن العرب من يقول: اللّذون آمَنُوا صلة «الذين» . لا تُقَدِّمُوا جزم بالنهي، وبعض النحويين يقول: جزم بلا لشبهها بلم، وبعضهم يقول: لقوتها في قلب الفعل إلى المستقبل لا غيره. وروي في نزول هذه الآية أقوال فمن أصحّها سندا وأبينهما ما حدّثناه علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال: حدّثنا حجّاج عن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبرهم: أنه قدم ركب من بني تميم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال أبو بكر رضي الله عنه: أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر رضي الله عنه بل أمّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إليّ أو إلى خلافي؟ فقال: ما أردت خلافك، فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما فنزل في ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) . قال الحسن: وحدّثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا سفيان بن حسين عن الحسن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قال: لا تذبحوا قبل الإمام. وروى الضحاك عن ابن عباس لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قال: هذا في القتال والشرائع لا تقضوا حتّى يأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة بل بعضها يشدّ بعضا، لأن هذه الأشياء إذا كانت ونزلت الآية تأولها القوم على ظاهرها في كراهة تقديم القول بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم من قبل أن يتشاوروا، وتأولها قوم على منع الذبح قبل الإمام، ودلّ على هذا أنّ فعل الطاعات قبل وقتها لا يجوز تقديم الصلاة ولا الزكاة. وقراءة ابن عباس

[سورة الحجرات (49) : آية 2]

والضحاك لا تُقَدِّمُوا «1» وزعم الفراء «2» أن المعنى فيهما واحد. قال أبو جعفر: وإن كان المعنى واحدا على التساهل فثمّ فرق بينهما من اللغة قدّمت يتعدّى فتقديره لا تقدّموا القول والفعل بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتقدّموا ليس كذا، لأن تقديره لا تقدموا بالقول والفعل. [سورة الحجرات (49) : آية 2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قال إبراهيم التيمي: فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله لا أكلمك إلا أخا السّرار. قال ابن أبي مليكة قال عبد الله بن الزبير: فكان عمر بعد نزول هذه الآية لا يسمّع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلامه حتّى يستفهمه. وقال أنس: تأخّر ثابت بن قيس في منزله، وقال: أخاف أن أكون من أهل النار حتّى أرسل إليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لست من أهل النار» «3» وعمل جماعة من العلماء على أن كرهوا رفع الصوت عند قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبحضرة العلماء وفي المساجد، وقالوا: هذا أدب الله جلّ وعزّ ورسوله عليه السلام، واحتجّوا في ذلك بحديث البراء وغيره، كما قرئ على بكر بن سهل عن عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن زاذان أبي عمرو عن البرآء قال: خرجنا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولم يلحد فجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجلسنا حوله كأنّ رؤوسنا الطير، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم مكبّ في الأرض فرفع رأسه وقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» «4» مرّتين أو ثلاثا، وذكر الحديث. فكان فيما ذكرناه فوائد: منها خروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فدلّ هذا على أنه لا ينبغي لإمام ولا لأمير ولا قاض أن يتأخر عن الحقوق من أجل ما هو فيه، وفيه مجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجلسنا حوله كأنّ على رؤوسنا الطير، أي ساكنين إجلالا له فدلّ هذا على أنه كذا ينبغي لمن جالس عالما أو واليا يجب أن يجلّ، كما روى عبادة بن الصامت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليس منّا من لم يجلّ كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا» «5» . وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ الكاف في وضع

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 105، والمحتسب 2/ 278. [.....] (2) انظر معاني الفراء 3/ 69. (3) انظر البحر المحيط 8/ 106. (4) أخرجه أحمد في مسنده 4/ 287 و 6/ 362، وأبو داود في سننه (4753) ، والترمذي في سننه (3604) ، وذكره التبريزي في مشكاة المصابيح (1630) ، والهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 49، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 10/ 400، وأبو نعيم الحلية 8/ 118. (5) ذكره الحاكم في المستدرك 1/ 122، والطبراني في المعجم الكبير 8/ 196، والهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 14، والمتقي الهندي في كنز العمال (5980) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 6/ 259، والطحاوي في مشكل الآثار 2/ 133.

[سورة الحجرات (49) : آية 3]

نصب أي جهرا كجهر بعضكم لبعض. أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ «أن» في موضع نصب فقال بعض أهل اللغة: أي لئلا تحبط أعمالكم، وهذا قول ضعيف إذا تدبّر علم أنه خطأ، والقول ما قاله أبو إسحاق هو غامض في العربية قال: المعنى لأن تحبط وهو عنده مثل: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] . وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ قيل: أي لا تشعرون أنّ أعمالكم قد حبطت. [سورة الحجرات (49) : آية 3] إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ اسم إنّ، ويجوز أن يكون الخبر أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ويكون «أولئك» مبتدأ، و «الذين» خبره، ويجوز أن يكون الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى خبر إنّ و «أولئك» نعتا للذين، ويجوز أن يكون خبر إنّ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ. [سورة الحجرات (49) : آية 4] إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ اسم «إنّ» والخبر أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ويجوز أن تنصب أكثرهم على البدل من الذين وقرأ يزيد بن القعقاع الْحُجُراتِ بفتح الجيم. وقد ردّه أبو عبيد على أنه جمع الجمع على التكثير. جمع حجرة على حجر ثمّ جمع حجرا على حجرات. قال أبو جعفر: وهذا خلاف قول الخليل وسيبويه، ومذهبهما أنه يقال: حجرة وحجرات وغرفة وغرفات فتزاد منها فتحة فيقال: حجرات وركبات وتحذف فيقال: حجرات وركبات، كما يقال: عضد عضد. وروى الضحاك عن ابن عباس: إنّ الّذين ينادونك من وراء الحجرات إعراب من بني تميم منهم عيينة ابن حصن صاحوا ألا تخرج إلينا يا محمد، اخرج إلينا يا محمد. أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ما في هذا من القبح. [سورة الحجرات (49) : آية 5] وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا أي عند النداء حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً أي لكان الصبر خيرا لهم، ودلّ صبروا على المضمر. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ غفر لهم ورحمهم لأنهم لم يقصدوا بهذا استخفافا، وإنما كان منهم سوء أدب.

[سورة الحجرات (49) : آية 6]

[سورة الحجرات (49) : آية 6] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) يقرأ فتثبّتوا وهما قراءتان «1» معروفتان إلّا أن «فتبيّنوا» أبلغ لأن الإنسان قد يثبّت ولا يتبيّن. أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عطفا على تصيبوا. [سورة الحجرات (49) : الآيات 7 الى 8] وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) العلماء من أهل السنّة يقولون: معنى حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وفّقكم له، وفعل أفاعيل تحبّون معها الإيمان وتستحسنونه فلما أحبّوه واستحسنوه نسب الفعل إليه، وكذا فعل أفاعيل كرهوا معها الكفر والفسق والعصيان. فأما أن يكون معنى «حبّب» أمركم أن تحبّوه فخطأ من كل جهة منها أنه إنما يقال: حبّب فلان إليك نفسه أي أنه فعل أفعالا أحببته من أجلها، ومنها أنه قول مبتدع مخالف صاحبه لنصّ القرآن قال جلّ وعزّ: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ [هود: 88] ومنه قوله: اهْدِنَا [الفاتحة: 6] من هذا بعينه، ومنها أنّ نص الآية يدلّ على خلاف ما قال جلّ وعزّ: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فلا اختلاف في هذا أنه يرجع إلى الذين حبّب إليهم الإيمان وزيّنه في قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان. فلو كان معنى حبّب أمرهم أن يحبوه كان الكفار وأهل المعاصي داخلين في هذا. وهذا خارج من الملّة و «الراشدون» الذين رشدوا للإيمان وتركوا المعاصي ثم بيّن جلّ وعزّ أنّ ذلك فضل منه ونعمة فقال جلّ وعزّ: فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً قال أبو إسحاق: «فضلا» مفعول من أجله أي للفضل. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي عليم بمصالح عباده ومنافعهم، حكيم في أفعاله. [سورة الحجرات (49) : آية 9] وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) طائِفَتانِ مرفوعتان بإضمار فعل أي وإن اقتتلت طائفتان، ويجوز أن يكون المضمر كان ولا بدّ من إضمار لأن «إن» لا يليها إلا الفعل لأنها للشرط، وجوابه فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى شرط أيضا، والجواب فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي ترجع فإن قلت: تفي بغير همز فمعناه تكثر. وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ

_ (1) انظر تيسير الداني ص 80.

[سورة الحجرات (49) : آية 10]

قال محمد بن يزيد: قسط إذا جار وأقسط إذا عدل، مأخوذ منه أي أزال القسوط وفي الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كثيرا المقسطون الذين يعدلون في حكمهم وما ولّوا على منابر من نور على يمين الرحمن جلّ وعزّ» «1» . [سورة الحجرات (49) : آية 10] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ مبتدأ وخبره لمّا اتّفقوا في الدّين رجعوا إلى أصلهم لأنهم جميعا من بني آدم. وقراءة عبد الرحمن بن أبي بكرة وابن سيرين فأصلحوا بين إخوانكم «2» ، وقراءة يعقوب فأصلحوا بين إخوتكم «3» وأخ وإخوة لأقلّ العدد وإخوان للكثير وبَيْنَ أَخَوَيْكُمْ «4» بين كلّ مسلمين اقتتلا فقد صار عامّا. [سورة الحجرات (49) : آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ جزم بالنهي. وروى الضّحاك عن ابن عباس أن بعضهم كان يقول لبعض: أنّك لغير رشيد، وما أشبه ذلك، يستهزئ به فنزل هذا، وهو من بني تميم وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ نهي أيضا. قال عكرمة عن ابن عباس: أي لا يعب بعضكم بعضا. وسمعت علي بن سليمان يقول: اللّمز في اللغة أن يعيب بالحضرة، والهمز في الغيبة. وقال أبو العباس محمد بن يزيد: اللّمز يكون باللسان والعين يعيبه ويحدّد إليه النظر وتشير إليه بالاستنقاص، والهمز لا يكون إلّا باللسان في الحضرة والغيبة، وأكثر ما يكون في الغيبة، فهذا شرح بيّن، وقد أنشد أبو العباس لزياد الأعجم: [البسيط] 431- إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة ... وإن تغيّبت كنت الهامز اللّمزه «5» قال محمد بن يزيد: واللّمز كالغيبة قال: والنبز اللّقب الثابت: قال: والمنابزة الإشاعة والإذاعة به. قال أبو جعفر: فأما اللّقب فقد جاء التوقيف فيه عمّن حضر التنزيل وعرف نزول الآية فيم نزلت، كما قرئ على أحمد بن شعيب عن حميد بن مسعدة قال: أخبرنا بشر عن داود عن الشعبي قال: قال أبو جبيرة فينا نزلت هذه الآية

_ (1) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 159، 160. (2) انظر البحر المحيط 8/ 111. (3) انظر البحر المحيط 8/ 111. (4) انظر البحر المحيط 8/ 111. (5) الشاهد لزياد الأعجم في ديوانه 78، وبهجة المجالس 1/ 404، وبلا نسبة في لسان العرب (همز) ، وجمهرة اللغة ص 727، ومقاييس اللغة 6/ 66، ومجمل اللغة 4/ 488، وديوان الأدب 1/ 256، وأساس البلاغة (لمز) ، وإصلاح المنطق 428، وتاج العروس (همز) ، وكتاب العين 4/ 17.

[سورة الحجرات (49) : آية 12]

في بني سلمة، قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وللرجل منا اسمان وثلاثة فكان يدعى باسم منها فيقال: يا رسول الله إنه يغضب منه فنزلت وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ فأما حديث الضّحاك عن ابن عباس كان الرجل يقول للآخر: يا كافر يا فاسق، فنزلت: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ فإسناد الأول أصحّ منه، ولو صحّ هذا لم يكن ناقضا للأول، لأن المعنى في اللّقب على ما قال محمد بن يزيد وغيره: أنه كلّما كان ذائعا يغضب الإنسان منه ويكره قائله أن يلقى صاحبه به ويكرهه المقول له به فمحظور التنابز به. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ رفع بالابتداء والتقدير الفسوق بعد أن امنتم بئس الاسم وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال الضّحاك عن ابن عباس: من لم يتب من هذا القول. [سورة الحجرات (49) : آية 12] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ فسّر ابن عباس الإثم فيم هو؟ قال: إن تقول بعد أن تظنّ، فإن أمسكت فلا إثم والبيّن في هذا أنّ الظنّ الذي هو إثم، وهو حرام على فاعله، أن يظنّ بالمسلم المستور شرا، وأما الظن المندوب إليه فأن تظنّ به خيرا وجميلا، كما قال جلّ وعزّ: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النور: 12] قال: وَلا تَجَسَّسُوا أي لا تبحث عن عيب أخيك بعد أن ستره الله جلّ وعزّ عنه: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بيّن الله جلّ وعزّ الغيبة على لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، كما قرئ على أحمد بن شعيب عن علي بن حجر قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله جلّ وعزّ ورسوله أعلم قال: أن تذكر أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان ذلك في أخي؟ قال: إن كان فيه فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهتّه» «1» فهذا حديث لا مطعن في سنده ثم جرت العلماء عليه، فقال محمد بن سيرين: إن علمت أن أخاك يكره أن تقول ما أشدّ سواد شعره، ثم قلته من ورائه فقد اغتبته. فقالت عائشة رضي الله عنها: قلت بحضرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في امرأة ما أطول درعها فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «قد اغتبتها فاستحلّي منها» «2» . وقال أبو نضرة عن جابر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الغيبة أشدّ من الزنا، لأن الرجل يزني فيتوب فيتوب الله عليه والرجل يغتاب الرجل فيتوب فلا يتاب عليه حتّى يستحلّه» «3» . قال أبو جعفر: وفي الغيبة ما لا يقع فيه

_ (1) أخرجه مالك في الموطّأ باب 4 الحديث رقم (10) ، والترمذي في سننه- البر والصلة 8/ 120، والدارمي في سننه 2/ 299، وأبو داود في سننه الحديث رقم (4874) . (2) أخرجه أبو داود في سننه- الأدب- الحديث رقم (4875) . (3) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 91، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 7/ 533، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4874) ، والسيوطي في الحاوي للفتاوى 1/ 172، والمنذري في الترغيب والترهيب 3/ 511، وابن أبي حاتم الرازي في علل الحديث (2474) .

[سورة الحجرات (49) : آية 13]

استحلال، وهو أعظم، كما روي أن رجلا قال لمحمد بن سيرين: إنّي قد اغتبتك فحلّلني فقال: إنّي لا أحلّ ما حرّم الله تعالى. وروى عقيل عن ابن شهاب أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّما كرهت أن تقوله لأخيك في وجهه ثم قلته من ورائه فقد اغتبته» «1» . أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً هذا الأصل ثم من خفّف قال: ميتا فَكَرِهْتُمُوهُ قال الكسائي: المعنى فكرهتموه فينبغي أن تكرهوا الغيبة. وقال محمد بن يزيد: أي فكرهتم أن تأكلوه فحمل على المعنى مثل: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ [الشرح: 1] . [سورة الحجرات (49) : آية 13] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى عامّ والذي بعده خاص لأن الشعوب والقبائل في العرب خاصّة إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ روى عبد الرحمن في العرب خاصة قيل: يا رسول الله من خير الناس؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله» ؟ «2» وقالت درّة: سئل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: من خير الناس؟ قال: «أمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرّحم وأتقاهم» «3» قال ابن عباس: ترك الناس هذه الآية: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ وقالوا: بالنسب. وقال أبو هريرة: ينادي مناد يوم القيامة إني جعلت نسبا وجعلهم نسبا. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ليقم المتّقون فلا يقوم إلّا من كان كذلك. [سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 15] قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قال محمد بن يزيد: هذا على تأنيث الجماعة أي قالت جماعة الأعراب قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا والإسلام في اللغة الخضوع والتذلّل لأمر الله جلّ وعزّ والتسليم له والإيمان والتصديق بكلّ ما جاء من عند الله جلّ وعزّ فإذا خضع لأمر الله سبحانه وتذلّل له فهو مصدّق، وإذا كان مصدّقا فهو مؤمن، ومن كان على هذه الصفة فهو مسلم مؤمن إلّا أن للإسلام موضعا أخر وهو الاستسلام خوف

_ (1) أخرجه مالك في الموطأ باب 4- الحديث (10) . [.....] (2) أخرجه الترمذي في سننه (2329) ، وأحمد في مسنده 4/ 188، و 5/ 40، والدارمي في سننه 2/ 308، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 371. (3) أخرجه القرطبي في تفسيره 4/ 47.

[سورة الحجرات (49) : آية 16]

القتل وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً هذه قراءة أكثر الناس، وبها قامت الحجّة وقرأ أبو عمرو والأعرج لا يألتكم «1» وهي مخالفة للسواد إلا أن من قرأ بها يحتجّ بإجماع الجميع على وَما أَلَتْناهُمْ [الطور: 21] والقول في هذا: إنّهما لغتان معروفتان مشهورتان، فإذا كان الأمر كذلك فاتباع السواد أولى. [سورة الحجرات (49) : آية 16] قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ على التكثير من تعلمون. [سورة الحجرات (49) : آية 17] يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا «أن» في موضع نصب بمعنى يمنون عليك إسلامهم، ويجوز أن يكون التقدير بأن ثم حذفت الباء. بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ أي بأن ولأن ثمّ حذف الحرف فتعدّى الفعل. [سورة الحجرات (49) : آية 18] إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ مبتدأ وخبر أي عالم به، وإذا علمه جازى عليه.

_ (1) انظر تيسير الداني 164، والبحر المحيط 8/ 116.

50 شرح إعراب سورة ق

50 شرح إعراب سورة ق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة ق (50) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) ق غير معربة لأنها حرف تهجّ. قال أبو جعفر: قد ذكرنا معناها. وَالْقُرْآنِ خفض بواو القسم. الْمَجِيدِ من نعته. قال سعيد بن جبير: «المجيد» الكريم، فأما جواب القسم ففيه أربعة أجوبة: قال الأخفش سعيد: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ق: 4] وقال أبو إسحاق: الجواب محذوف أي والقرآن المجيد لتبعثنّ، وقيل: بل المحذوف ما ذلّ عليه سياق الكلام لأنهم قالوا: إنّ هذا النبيّ عجيب تعجّبوا من أن يبعث إليهم رجل من بني أدم فوقع الوعيد على ذلك أي والقرآن المجيد لتعلمنّ عاقبة تكذيبكم يوم القيامة فقالوا: أَإِذا مِتْنا. قال أبو جعفر: فهذان جوابان، ومن قال: معنى قضي الأمر والله فليس يحتاج إلى جواب، لأن القسم متوسّط، كما تقول: قد كلّمتك والله اليوم. والجواب الرابع أن يكون «ق» اسما للجبل المحيط بالأرض. قال ذلك وهب بن منبّه. فيكون التقدير: هو قاف والله، فقاف على هذا في موضع رفع. قال أبو جعفر: وأصحّ الأجوبة أن يكون الجواب محذوفا للدلالة لأن إذا متنا جواب فلا بدّ من أن يكون «إذا» متعلّقة بفعل أي أنبعث إذا، فأما أن يكون الجواب قد علمنا فخطأ لأن «قد» ليست من جواب الأقسام، وقاف إذا كان اسما للجبل فالوجه فيها الإعراب. [سورة ق (50) : آية 2] بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ أي لم يكذّبوك لأنّهم لا يعرفونك بالصدق بل عجبوا أن جاءهم برسالة رب العالمين. فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ. [سورة ق (50) : آية 3] أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) أَإِذا مِتْنا أي أنبعث إذا متنا. وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ومعنى بعيد عند الفراء لا يكون. وذلك معروف في اللغة.

[سورة ق (50) : آية 4]

[سورة ق (50) : آية 4] قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أي من لحومهم وأبدانهم وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ بمعنى حافظ لأنه لا يندرس ولا يتغير. [سورة ق (50) : آية 5] بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ أي لم يكذّبوك لشيء ظهر عندهم. فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ روي عن ابن عباس: «مريج» منكر. وعنه: مريج في ضلالة، وعنه: مريج مختلف، وقال مجاهد وقتادة: مريج ملتبس، وقال الضّحاك وابن زيد: مريج مختلط. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال، وإن كانت ألفاظها مختلفة فمعانيها متقاربة لأن الأمر إذا كان مختلفا فهو ملتبس منكر في ضلالة لأن الحقّ بيّن واضح. [سورة ق (50) : آية 6] أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) أي أفلم ينظر هؤلاء المشركون الذين أنكروا البعث وجحدوا قدرتنا على إحيائهم بعد البلى إلى قدرتنا على خلق السماء حتّى جعلناها سقفا محفوظا. وَزَيَّنَّاها أي بالكواكب. وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ يكون جمعا ويكون واحدا أي من فتوق وشقوق. [سورة ق (50) : آية 7] وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أي بسطناها ونصبت الأرض بإضمار فعل أي وبسطنا الأرض، والرفع جائز إلّا أن النصب أحسن لتعطف الفعل على الفعل. وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي جبالا رست في الأرض أي ثبتت. وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي نوع. قال ابن عباس: بَهِيجٍ حسن. [سورة ق (50) : آية 8] تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) تَبْصِرَةً مصدرا، ومفعول له أي فعلنا ذلك لنبصّركم قدرة الله سبحانه وَذِكْرى أي ولتذكروا عظمة الله وسلطانه فيعلموا أنه قادر على أن يحيي الموتى ويفعل ما يريد. لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي راجع إلى الإيمان وطاعة الله جلّ وعزّ. [سورة ق (50) : آية 9] وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً وهو المطر. فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ زعم الفراء «1» : أنّ الشيء أضيف إلى نفسه لأن الحب هو الحصيد عنده. قال أبو جعفر:

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 76.

[سورة ق (50) : آية 10]

سمعت علي بن سليمان يحكي عن البصريين منهم محمد بن يزيد أن إضافة الشيء إلى نفسه محال، ولكن التقدير حبّ النبت الحصيد. [سورة ق (50) : آية 10] وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ أي وأنبتنا النخل طوالا، وهي حال مقدرة «باسقات» على الحال لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رفعت طلعا بالابتداء وإنه كان نكرة لما فيه من الفائدة. [سورة ق (50) : آية 11] رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) رِزْقاً لِلْعِبادِ قال أبو إسحاق: رزقا مصدر، ويجوز أن يكون مفعولا من أجله. وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أي مجدبة، ليس فيها زرع ولا نبات كَذلِكَ الْخُرُوجُ مبتدأ وخبره أي الخروج من قبوركم كذا يبعث الله جلّ وعزّ ماء فينبت به الناس كما ينبت الزّرع «1» ، وقال أبو إسحاق: المعنى كما خلقنا هذه الأشياء نبعثكم. [سورة ق (50) : الآيات 12 الى 14] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ أي كذّبت قبل هؤلاء المشركين الذين كذّبوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم قوم نوح، والتاء لتأنيث الجماعة وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) . وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ قال مجاهد: الرّسّ: بئر. وقال قتادة: الأيكة الشجر الملتفّ وَقَوْمُ تُبَّعٍ عطف كلّه. قال أبو مجلز سأل عبد الله بن عباس كعبا عن تبّع فقال: كان رجلا صالحا أخذ فتية من الأحبار فاستبطنهم فأسلم فأنكر ذلك قومه عليه. وفي حديث سهل بن سعد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تلعنوا تبّعا فإنه كان أسلم» كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ التقدير عند سيبويه: كلّهم ثم حذف لدلالة كلّ، وأجاز النحويون جميعا: كلّ منطلق، بمعنى كلّهم. قال أبو جعفر سمعت محمد بن الوليد يجيز حذف التنوين فيقول: كلّ منطلق بمعنى كلّهم. يجعله غاية مثل قبل وبعد. قال علي بن سليمان: هذا كلام من لم يعرف لم بني قبل وبعد، ونظير هذا من الألفاظ لأن النحويين قد خصّوا الظروف للعلّة التي فيها ليست في غيرها. قال أبو جعفر: وهذا كلام بين عند أهل العربية صحيح. وحذفت الياء من وَعِيدِ لأنه رأس آية لئلا يختلف الآيات، فأما من أثبتها في الإدراج وحذفها في الوقف فحجّته أنّ الوقف موضع حذف، الدليل على ذلك أنك تقول: لم يمض، فإذا وصلت كسرت الضاد لا غير ومعنى فَحَقَّ وَعِيدِ فوجب الوعيد من الله جلّ وعزّ للكفار بالعذاب في الآخرة والنقمة.

_ (1) مرّ الحديث في الآية 10- الزخرف.

[سورة ق (50) : آية 15]

[سورة ق (50) : آية 15] أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) أَفَعَيِينا «1» بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ يقال: عيينا بالأمر وعييّ به إذا لم يتجه، ولم يحسنه، وإذا قلت: عيينا لم يجز الإدغام لأن الحرف الثاني ساكن فلو أدغمته في الأول التقى ساكنان. فأما المعنى فإنه قيل لهؤلاء الذين أنكروا البعث فقالوا (ذلك رجع بعيد) أفعيينا بالابتداء الخلق فنعيا بإحيائكم بعد البلى. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أفعيينا بالخلق الأول، قال: يقول لم نعي به. قال أبو جعفر: وهكذا الاستفهام الذي فيه معنى التقرير والتوبيخ يدخله معنى النفي أي لم يعي بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ أي من البعث. [سورة ق (50) : آية 16] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ الضمير الذي في به يعود على «ما» ، وأجاز الفراء» أن يعود على الإنسان أي ويعلم ما توسوس إليه نفسه. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ قال ابن عباس: الوريد حبل العنق، وللنحويين فيه تقديران: قال الأخفش سعيد: ونحن أقرب إليه بالمقدرة من حبل الوريد، وقال غيره: أي ونحن أقرب إليه في العلم بما توسوس به نفسه من حبل الوريد. [سورة ق (50) : آية 17] إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ولم يقل: قعيدان ففيه أجوبة: فمذهب سيبويه والكسائي أن المعنى عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ثم حذف. ومذهب الأخفش والفراء أن «قعيد» واحد يؤدي عن اثنين، وأكثر منهما، كما قال جلّ وعزّ: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر: 67] . وقال محمد بن يزيد: إنّ التقدير في قَعِيدٌ أن يكون ينوى به التقديم أي عن اليمين قعيد ثم عطف عليه وعن الشمال. قال أبو جعفر: وهذا بيّن حسن ومثله وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] . وقول رابع أن يكون قعيد بمعنى الجماعة، كما يستعمل العرب في فعيل، قال جلّ وعزّ: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] . [سورة ق (50) : آية 18] ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ الضمير الذي فيه يعود على الإنسان أي ما يلفظ الإنسان من قول فيتكلّم به إلّا عند لفظ به. رَقِيبٌ أي حافظ يحفظ عليه. عَتِيدٌ معدّ. يكون هذا من متصرّفات فعيل يكون بمعنى الجمع وبمعنى مفعل وبمعنى مفعول مثل قتيل، وبمعنى فاعل، مثل قدير بمعنى قادر.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 122. (2) انظر معاني الفراء 3/ 77.

[سورة ق (50) : آية 19]

[سورة ق (50) : آية 19] وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ أي شدّته وغلبته على فهم الإنسان حتّى يكون كالسكران من الشراب أو النوم. بِالْحَقِّ أي بأمر الآخرة الذي هو حقّ حتّى يتبيّنه عيانا، وقول أخر أن يكون الحقّ هو الموت أي وجاءت سكرة الموت بحقيقة الموت. وصحّ عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قرأ وجاءت سكرة الحقّ بالموت «1» وكذا عن عبد الله بن مسعود رحمة الله عليه. قال: وهذه قراءة على التفسير. وفي معناها قولان: يكون الحقّ هو الله جلّ وعزّ أي وجاءت سكرة الله بالموت، والقول الآخر قول الفراء تكون السّكرة هي الحق، وجاءت السكرة الحقّ أضيف الشّيء إلى نفسه. ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي تلك السكرة ما كنت منه تهرب. فأما التذكير فبمعنى ذلك السّكر. [سورة ق (50) : آية 20] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) أي ما وعد الله عزّ وجلّ الكفار وأصحاب المعاصي بالنار. [سورة ق (50) : آية 21] وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) محمول على المعنى، ولو كان على اللفظ لكان وجاء كلّ نفس معه والتقدير ومعها حذفت الواو للعائد والجملة في موضع نصب على الحال. [سورة ق (50) : آية 22] لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا اختلف أهل العلم في هذه المخاطبة لمن هي فقالوا فيها ثلاثة أقوال: قال زيد بن أسلم وعبد الرحمن بأنّ هذه المخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وحكى عبد الله بن وهب عن يعقوب عن عبد الرحمن قال: قلت لزيد بن أسلم وهذه المخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما أنكرت من هذا وقد قال الله سبحانه: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضحى: 6، 7] . قال: فهذا قول، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا قال: هذا مخاطبة للكفار، وكذا قال مجاهد، وقال الضحاك: مخاطبة للمشركين وقال صالح بن كيسان بعد أن أنكر على زيد بن أسلم ما قاله، وقال: ليس عالما بكلام العرب ولا له وإنما هذه مخاطبة للكفار. فهذان قولان، والقول الثالث ما قاله الحسن بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال: هذا مخاطبة للبرّ والفاجر، وهو قول قتادة. قال أبو جعفر: أما قول زيد بن أسلم فتأويله على أن الكلام تم عنده عند قوله جلّ وعزّ: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 78، والمحتسب 2/ 283.

[سورة ق (50) : آية 23]

ثم ابتدأ يا محمد لقد كنت في غفلة من هذا الدّين ومما أوحي إليك من قبل أن تبعث إذ كنت في الجاهلية فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ أي فبصّرناك فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي فعلمك نافذ. والبصر هاهنا بمعنى العلم. وأولى ما قيل في الآية أنها على العموم للبرّ والفاجر يدلّ على ذلك وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ فهذا عامّ لجميع الناس برّهم وفاجرهم، فقد علم أنّ معنى وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ وجاءتك أيّها الإنسان سكرة الموت ثم جرى الخطاب على هذا في لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا أي لقد كنت أيّها الإنسان في غفلة مما عاينت فإن كان محسنا ندم إذ لم يزدد، وإن كان مسيئا ندم إذ لم يقلع هذا لما كشف عنهما الغطاء، فبصرك اليوم نافذ لما عاينت. وقال الضحاك: فبصرك لسان الميزان: قيل: فتأوّل بعض العلماء هذا على التمثيل بالعدل أي أنت أعرف خلق الله جلّ وعزّ بعملك، فبصرك به كلسان الميزان الذي يعرف به الزيادة والنقصان. [سورة ق (50) : آية 23] وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) وَقالَ قَرِينُهُ قال عبد الرحمن بن زيد: «قرينه» سائقه الذي وكّل به هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ قال: هذا ما أخذه وجاء به، هذا في موضع رفع بالابتداء وما خبر الابتداء وعَتِيدٌ خبر ثان، ويجوز أن يكون مرفوعا على إضمار مبتدأ، ويجوز أن يكون بدلا من «ما» ، ويجوز أن يكون نعتا لما على أن تجعل «ما» نكرة، ويجوز النصب في غير القرآن مثل وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: 72] . [سورة ق (50) : آية 24] أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) اختلف النحويون في قوله ألقيا، فقال قوم: هو مخاطبة للقرين أي يقال للقرين: ألقيا. فهذا قول الكسائي والفراء، وزعم «1» : أنّ العرب تخاطب الواحد بمخاطبة الاثنين فيقول: يا رجل قوما، وأنشد: [الطويل] . 432- خليليّ مرّا بي على أمّ جندب ... لنقضي حاجات الفؤاد المعذّب «2» وإنّما خاطب واحدا واستدلّ على ذلك قوله: [الطويل] 433- ألم تر أنّي كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب وقال قوم: «قرين» للجماعة والواحد والاثنين مثل وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] . قال أبو جعفر: وحدّثنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد عن بكر بن محمد المازني، قال: العرب تقول للواحد: قوما على شرط إذا أرادت تكرير الفعل أي

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 78. (2) هذا الشاهد والذي بعده لامرئ القيس في ديوانه ص 41، والأشباه والنظائر 8/ 85، ولسان العرب (ندل) و (محل) .

[سورة ق (50) : آية 25]

قم قم، فجاؤوا بالألف لتدلّ على هذا المعنى، وكذا «ألقيا» وقول أخر: يكون مخاطبة لاثنين. قال عبد الرحمن بن زيد: معه السائق والحافظ جميعا. قال مجاهد وعكرمة: العنيد المجانب للحقّ والمعاند لله جلّ وعزّ. قال محمد بن يزيد: عنيد بمعنى معاند مثل ضجيع وجليس. [سورة ق (50) : آية 25] مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي لما يجب عليه من زكاة وغيرها. والخير المال. ومُعْتَدٍ على الناس بلسانه ويده. قال قتادة: مُرِيبٍ شاك. [سورة ق (50) : آية 26] الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ يكون «الذي» في موضع نصب بدلا من كلّ وبمعنى أعني، ويكون رفعا بإضمار مبتدأ، وبالابتداء وخبره فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ. [سورة ق (50) : آية 27] قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ أي ما جعلته طاغيا أي متعدّيا إلى الكفر. وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي في طريق جائر عن الحق. [سورة ق (50) : آية 28] قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: اعتذروا بغير عذر فأبطل عليهم حجّتهم وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أي بالوعيد الذي لا حيف فيه، ولا خلف له فلا تختصموا لديّ. [سورة ق (50) : آية 29] ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ قال مجاهد: أي قد قضيت ما أنا قاض. وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي لا أخذ أحدا بجرم أحد. [سورة ق (50) : آية 30] يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ والعامل في يوم ظلام وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ في معناه قولان: أحدهما أنّ المعنى: ما في مزيد، ويحتج صاحب هذا القول بقوله جلّ وعزّ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [السجدة: 13، ص: 85] . وهذا قول عكرمة، ونظيره الحديث حين قيل للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ألا تنزل دارا من دورك؟ فقال: «وهل ترك لنا عقيل من دار» «1» أي ما

_ (1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6/ 34، والمتقي الهندي في كنز العمال (30429) و (30685) .

[سورة ق (50) : آية 31]

ترك لنا دارا حتّى باعها وقت الهجرة فهذا قول، والقول الآخر فهل من مزيد على الاستدعاء للزيادة. وهذا قول أنس بن مالك، ويدلّ عليه الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال جهنّم تقول هل من مزيد فيقول ربّ العالمين سبحانه وتعالى فيجعل قدمه فيها فيقول قط قط» «1» . قال أبو جعفر: فهذا الحديث صحيح الإسناد، ويدلّ على خلاف القول الأول. والله جلّ وعزّ أعلم. [سورة ق (50) : آية 31] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) أي قريب للمتقين، أي للمتقين معاصي الله جلّ وعزّ. [سورة ق (50) : آية 32] هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) هذا ما تُوعَدُونَ أي: هذا الذي وصفناه للمتّقين الذي توعدون لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ قال ابن زيد لكل تائب راجع إلى الله لطاعته: وعن ابن عباس أَوَّابٍ مسبّح، وعنه حَفِيظٍ حفظ ذنوبه حتّى تاب منها. وقال قتادة: «حفيظ» حافظ لما ائتمنه الله جلّ وعزّ عليه، ومعنى هذا أنه حفظ جوارحه عن معاصي الله تعالى. [سورة ق (50) : الآيات 33 الى 34] مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ في موضع خفض على البدل من «كلّ» ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء وخَشِيَ في موضع جزم بالشرط، والتقدير: خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ فيقال لهم: ادْخُلُوها على معنى من، وما قبله على لفظها ومُنِيبٍ تائب راجع إلى الله جلّ وعزّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ أي ذلك الذي وصفناه للمتقين يوم لا يزولون عنه. [سورة ق (50) : آية 35] لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها أي لهم ما يريدون وزيادة في الكرامة وفسّر أنس بن مالك معنى وَلَدَيْنا مَزِيدٌ فلما لا يجوز أن يؤخذ باقتراح ولا يؤخذ إلّا عن النبيّ عليه السلام في وَلَدَيْنا مَزِيدٌ قال: قال: «يتجلّى لهم ربّ العالمين فيقول وعزّتي لأتجلّينّ لكم حتّى تنظروا إليّ فيقول: مرحبا بعبادي وجيراني وزواري ووفدي انظروا إليّ» «2» فذلك نهاية العطاء وفضل المزيد.

_ (1) أخرجه الترمذي في سننه (3272) ، وأحمد في مسنده 3/ 134، وذكره ابن حجر في فتح الباري 11/ 545، وأبو نعيم في حلية الأولياء 7/ 204. (2) ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (4615) ، وابن الجوزي في زاد المسير 8/ 21.

[سورة ق (50) : آية 36]

[سورة ق (50) : آية 36] وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي قبل مشركي قريش الذين كذّبوك. هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً المهلكون أشد من الذين كذّبوك. منصوب على البيان فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ أثّروا وحقيقته في اللغة طوّفوا وتوغّلوا. هَلْ مِنْ مَحِيصٍ قال الفراء: أي فهل كان لهم من الموت من محيص، وحذف كان للدلالة وقراءة يحيى بن يعمر فَنَقَّبُوا شاذّة خارجة عن الجماعة وهي على التهديد. [سورة ق (50) : آية 37] إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى أي إن في إهلاكنا القرون التي أهلكناها وقصصنا خبرها. لَذِكْرى يتذكّر بها من كان له قلب يعقل به أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي أصغى. وَهُوَ شَهِيدٌ متفهّم غير ساه، والجملة في موضع نصب على الحال. [سورة ق (50) : آية 38] وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) أثبت الهاء في ستة لأنه عدد لمذكر، وفرقت بينه وبين المؤنث. ومعنى يوم: وقت فلذلك ذكر قبل خلق النهار وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ من لغب يلغب ويلغب إذا تعب. [سورة ق (50) : الآيات 39 الى 40] فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ فأنا لهم بالمرصاد وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ قال أهل التفسير: يعني به اليهود لأنهم قالوا استراح يوم السبت، قال جلّ وعزّ: فاصبر على ما يقولون فأنا لهم بالمرصاد وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ حمله أهل التفسير على معنى الصلاة، وكذا وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ قال ابن زيد: العتمة. وقال مجاهد: الليل كلّه. قيل: يعني المغرب والعشاء الآخرة. قال: وهذا أولى لعموم الليل في ظاهر الآية وَأَدْبارَ السُّجُودِ «1» فيه قولان: قال ابن زيد: النوافل. قال: وهذا قول بيّن لأن الآية عامة فهي على العموم إلّا أن يقع دليل غير أن حجّة الجماعة جاءت لأن معنى وَأَدْبارَ السُّجُودِ ركعتان بعد المغرب. قال ذلك عمر وعلي والحسن بن عليّ وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، ومن التابعين الحسن ومجاهد والشّعبيّ وقتادة والضحاك، وبعض المحدثين يرفع حديث علي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (وإدبار السجود) قال: «ركعتان بعد المغرب» . وقرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي

_ (1) انظر تيسير الداني 164، والبحر المحيط 8/ 128. [.....]

[سورة ق (50) : آية 41]

وَأَدْبارَ السُّجُودِ بفتح الهمزة جعلوه جمع دبر، ومن قال: إدبار جعله مصدرا من أدبر وأجمعوا جميعا على الكسر في وَإِدْبارَ النُّجُومِ [الطور: 49] فذكر أبو عبيد أنّ السجود لا ادبار له. وهذا مما أخذ عليه، لأن معنى وأَدْبارَ السُّجُودِ وما بعده وما يعقبه فهذا للسجود، والنجوم والإنسان واحد. وقد روى المحدّثون الجلّة تفسير وَأَدْبارَ السُّجُودِ وَإِدْبارَ النُّجُومِ فلا نعلم أحدا منهم فرّق ما بينهما. [سورة ق (50) : آية 41] وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) وقرأ عاصم والأعمش وحمزة والكسائي يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ «1» بغير ياء في الوصل والوقف، وهو اختيار أبي عبيد اتباعا للخط. وقد عارضه قوم فقالوا: ليس في هذا تغيير للخط لأن الياء لام الفعل فقد علم أن حقّها الثبات. قال سيبويه: والجيّد في مثل هذا إثبات الياء في الوقف والوصل قال: ويجوز حذفها في الوقف. قال أبو جعفر: ذلك أنك تقول مناد ثم تأتي بالألف واللام فلا تغيّر الاسم عن حاله، فأما معنى وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) . فقيل فيه: أي حين يوم. قال كعب: المنادي ملك ينادي من مكان قريب، من صخرة بيت المقدس بصوت عال يا أيّتها العظام البالية والأوصال المتقطعة اجتمعي لفصل القضاء. [سورة ق (50) : آية 42] يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ أي بالاجتماع للحساب ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ من قبورهم. [سورة ق (50) : آية 43] إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ حذف المفعول أي نحيي الموتى ونميت الأحياء وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ أي المرجع. [سورة ق (50) : آية 44] يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً العامل في «يوم» المصير أي وإلينا مصيرهم يوم تتشقّق وتَشَقَّقُ أدغمت التاء في الشين، ومن قال: تشقّق حذف التاء، سِراعاً على الحال، قيل: من الهاء والميم، وقيل لا يجوز الحال من الهاء والميم لأنه لا عامل فيها، ولكن التقدير فيخرجون سراعا ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أي سهل.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 129.

[سورة ق (50) : آية 45]

[سورة ق (50) : آية 45] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ أي من الافتراء والتكذيب بالبعث وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي بمسلّط. قال الفراء: جعل جبّار في موضع سلطان، ومن قال بجبّار معناه لست تجبرهم على ما تريد فمخطئ لأن فعّالا لا يكون من أفعل، وإن كان الفراء «1» قد حكى أنه يقال: درّاك من أدرك فهذا شاذّ لا يعرف، وحكى أيضا جبرت الرجل، وهذا من الشذوذ، وإن كان بعض الفقهاء مولعا بجبرت. فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ أي وعيدي لمن عصاني وخالف أمري.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 81.

51 شرح إعراب سورة الذاريات

51 شرح إعراب سورة الذاريات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الذاريات (51) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) وَالذَّارِياتِ خفض بواو القسم والواو بدل من الباء. ذَرْواً مصدر، والتقدير والرّياح الذاريات. يقال: ذرت الريح الشيء: إذا فرّقته فهي ذارية وأذرت، فهي مذريّة. [سورة الذاريات (51) : آية 2] فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْحامِلاتِ عطف على الذّاريات، والتقدير: فالسحاب الحاملات المطر هذا التفسير صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقيل الحاملات السفن، وقيل الرياح لأنها تحمل السحاب وِقْراً كلّ ما حمل على الظهر فهو وقر. [سورة الذاريات (51) : آية 3] فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْجارِياتِ عطف أي فالسفن الجاريات. يُسْراً نعت لمصدر أي جريا يسرا. [سورة الذاريات (51) : آية 4] فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) فَالْمُقَسِّماتِ عطف أيضا أي فالملئكة المقسّمات ما أمروا به أمرا. [سورة الذاريات (51) : آية 5] إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) أي من الحساب والثواب والعقاب. وهذا جواب القسم. [سورة الذاريات (51) : آية 6] وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) عطف. قال ابن زيد: «لواقع» لكائن. [سورة الذاريات (51) : الآيات 7 الى 8] وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) وَالسَّماءِ خفض بالقسم. وقيل التقدير: وربّ السّماء، وكذا لكلّ ما تقدّم ذاتِ

[سورة الذاريات (51) : آية 9]

الْحُبُكِ «1» نعت. قال الأخفش: الواحد حباك. وقال الكسائي والفراء «2» : حباك وحبيكة. وجواب القسم إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) قال قتادة: في معنى مختلف منكم مصدّق بالقرآن ومكذب به. وقال ابن زيد: يقول بعضهم: هذا سحر، ويقول بعضهم: شيئا أخر قولا مختلفا ففي أي شيء الحقّ. [سورة الذاريات (51) : آية 9] يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قال «3» الحسن يصرف عن الإيمان والقرآن من صرف، وقيل: يصرف عن القول أي من أجله لأنهم كانوا يتلقّون الرجل إذا أراد الإيمان فيقولون له: سحر وكهانة فيصرف عن الإيمان. [سورة الذاريات (51) : آية 10] قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله جلّ وعزّ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) قال: يقول: لعن المرتابون، وقال ابن زيد: يخترصون الكذب يقولون: شاعر وساحر وجاء بسحر، وكاهن وكهانة وأساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا فيخترصون الكذب. [سورة الذاريات (51) : آية 11] الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) الَّذِينَ في موضع رفع نعت للخراصين، وهي مبتدأ، وساهُونَ خبره والجملة في الصلة وفي غير القرآن يجوز نصب ساهين على الحال. وفِي غَمْرَةٍ أي في تغطية الباطل والجهل: ومنه: فلان غمر وماء غمر يغطّي من دخله، ومنه الغمرة. قال ابن زيد: ساهون عن ما أنزله الله وعن أمره ونهيه. [سورة الذاريات (51) : آية 12] يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) عن ابن عباس: يقولون: متى يوم الحساب. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي إيان «4» بكسر الهمزة وهي لغة. [سورة الذاريات (51) : آية 13] يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) اختلف النحويون في نصب «يوم» فقال أبو إسحاق: موضعه نصب، والمعنى يقع الجزاء يوم هم على النار يفتنون، والنحويون غيره يقولون: يوم في موضع رفع على

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 133. (2) انظر معاني الفراء 3/ 82. (3) انظر البحر المحيط 8/ 134. (4) انظر مختصر ابن خالويه 145.

[سورة الذاريات (51) : آية 14]

البدل من قوله: أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ وتكلّموا في نصبه فقال الفراء «1» : لأنه أضيف إلى شيئين، وأجاز الرفع فيه على أصله. وقال غيره: لأنها إضافة غير محضة. ومذهب الخليل وسيبويه أنّ ظروف الزمان غير متمكنة فإذا أضيف إلى غير معرب أو إلى جملة مثل هذه بنيت على الفتح، وأجازا: مضى يوم قام، وأنشد النحويون وأصحاب الغريب لامرئ القيس: [الطويل] 434- ويوم عقرت للعذارى مطيتي «2» بنصب «يوم» وموضعه رفع على من روى «ولا سيّما يوم» «3» وخفض على من روى «ولا سيّما يوم» . قال أبو جعفر: ولا نعلم أحدا رفعه ولا خفضه، والقياس يوجب إجازة هذين. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) قال: يعذّبون. وقال محمد بن يزيد: هو من قولهم: فتنت الذهب والفضة إذا أحرقتهما لتختبرهما وتخلصهما. وقال بعض المتأخرين: لما كانت الفتنة في اللغة هي الاختبار لم تخرج عن بابها والمعنى عليها صحيح، والتقدير: يوم هم على النار يختبرون فيقال: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: 42] . [سورة الذاريات (51) : آية 14] ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) الذين هم قال مجاهد وعكرمة وقتادة: أي عذابكم هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ مبتدأ وخبر لأنهم كانوا يستعجلون في الدنيا بالعذاب تهزّؤا وإنكارا. [سورة الذاريات (51) : آية 15] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) أي إن الذين اتقوا الله تعالى بترك معاصيه وأداء طاعته في بساتين وأنهار فكذا المتّقي إذا كان مطلقا، فإن كان متقيا للسّرق غير متّق للزنا لم يقل له متّق، ولكن يقال له: متّق للسّرق فكذا هذا الباب كلّه. [سورة الذاريات (51) : آية 16] آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) آخِذِينَ نصب على الحال، ويجوز رفعه في غير القرآن على خبر «إن» . فأما معنى ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ ففيه قولان: أحدهما في الجنّة، والآخر أنّهم عاملون في الدنيا بطاعة الله سبحانه وبما افترضه عليهم فهم آخذون به غير متجاوزين له كما روي عن ابن

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 83. (2) مرّ الشاهد رقم (214) . (3) إشارة إلى قول امرئ القيس في معلقته: «ولا سيّما بدارة جلجل»

[سورة الذاريات (51) : آية 17]

عباس في قوله جلّ وعزّ: آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ قال: الفرائض، وعنه إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ قال: قبل أن يفرض عليهم الفرائض. [سورة الذاريات (51) : آية 17] كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) تكون «ما» زائدة للتوكيد، ويكون المعنى كانوا يهجعون قليلا أي هجوعا قليلا ويجوز أن يكون «ما» مع الفعل مصدرا ويكون «ما» في موضع رفع وينصب «قليلا» على أنه خبر «كان» أي كانوا قليلا من الليل هجوعهم قال محمد بن يزيد: إن جعلت «ما» اسما رفعت «قليلا» . وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس يهجعون ينامون. [سورة الذاريات (51) : آية 18] وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) تأوله جماعة على معنى يصلّون لأن الصلاة مسألة استغفار، وتأوله بعضهم على أنهم يصلون من أول الليل ويستغفرون اخره واستحبّ هذا لأن الله سبحانه أنثى عليهم به. وقال عبد الرحمن بن زيد: السّحر: السدس الآخر من الليل. [سورة الذاريات (51) : آية 19] وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) حَقٌّ رفع بالابتداء لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ قال أبو جعفر: وقد ذكرنا أقوال جماعة من العلماء في المحروم ثمّ. وحدثنا الزهري محمد بن مسلم أنّه قال: المحروم الذي لا يسأل، وأكثر الصحابة على أنه المحارف. وليس هذا بمتناقض، لأن المحروم في اللغة الممنوع من الشيء فهو مشتمل على كل ما قيل فيه. [سورة الذاريات (51) : آية 20] وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) أي عبر وعظات للموقنين تدلّ على بارئها ووحدانيته. [سورة الذاريات (51) : آية 21] وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي أَنْفُسِكُمْ قال ابن زيد: وفي خلقه إياكم، قال: وفيها أيضا آيات للسان والعين والكلام، والقلب فيه العقل هل يدري أحد ما العقل وما كيفيته؟ ففي ذلك كلّه آيات أَفَلا تُبْصِرُونَ أي أفلا تتفكّرون فتستدلّوا على عظمة الله جلّ وعزّ وقدرته. [سورة الذاريات (51) : آية 22] وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ رفع بالابتداء. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: رِزْقُكُمْ وفي الرزق ما هو هل هو الحلال والحرام أم الحلال خاصة؟ فقال الضحاك: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ أي المطر، وقال سعيد بن جبير: الثلج وكلّ عين ذائبة، وتأويل ذلك واصل

[سورة الذاريات (51) : آية 23]

الأحدب على أن المعنى: ومن عند الله الذي في السّماء صاحب رزقكم. وقال قول: كلّ ما كسبه الإنسان سمّي رزقا. وقال قوم: لا يقال رزقه الله جلّ وعزّ إلا كما كان حلالا، واستدلوا على هذا في القرآن فقال الله عزّ وجلّ: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ [المنافقون: 10] ولا يأمر بالنفقة إلّا من الحلال. واختلف أهل التأويل في وَما تُوعَدُونَ فقال الضحاك: الجنّة والنار، وقال غيره: توعدون من وعد، ووعد إنما يكون للخير فما توعدون للخير فأما في الشّرّ فيقال: أوعد، وقال آخرون: هو من أوعد لأن توعدون في العربية يجوز أن يكون من أوعد ومن وعد. والأحسن فيه ما قال مجاهد، قال: ما توعدون من خير وشرّ لأن الآية عامة فلا يخصّ بها شيء إلا بدليل قاطع. [سورة الذاريات (51) : آية 23] فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ خفض على القسم. إِنَّهُ لَحَقٌّ أي إن قولنا. وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ برفع «مثل» قراءة الكوفيين وابن أبي إسحاق «1» على النعت لحق، وقرأ المدنيون وأبو عمرو مثل ما بالنصب. وفي نصبه أقوال أصحّها ما قال سيبويه أنه مبني لما أضيف إلى غير متمكّن فبني ونظيره وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ [هود: 66] . وقال الكسائي: «مثل ما» منصوب على القطع، وقال بعض البصريين هو منصوب على أنه حال من نكرة، وأجاز الفراء «2» أن يكون التقدير حقّا مثل ما، وأجاز أن يكون «مثل» منصوبة بمعنى كمثل ثم حذف الكاف ونصب، وأجاز: زيد مثلك، ومثل من أنت؟ ينصب «مثل» على المعنى على معنى كمثل فألزم على هذا أن يقول: عبد الله الأسد شدّة، بمعنى كالأسد فامتنع منه، وزعم أنه إنما أجازه في مثل لأن الكاف تقوم مقامها، وأنشد: [الوافر] 435- وزعت بكالهراوة اعوجّي ... إذا ونت الرّكاب جرى وثابا «3» قال أبو جعفر: وهذه أقوال مختلفة إلّا قول سيبويه. وفي الآية سؤال أيضا وهو أن يقال: جمع ما بين «ما» و «إنّ» ومعناهما واحد. قال أبو جعفر: ففي هذا جوابان للنحويين الكوفيين أحدهما أنه لما اختلف اللفظان جاز ذلك كما قال: [الوافر] 436- فما إن طبّنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا «4»

_ (1) انظر تيسير الداني 164، وكتاب السبعة لابن مجاهد 609. (2) انظر معاني الفراء 3/ 85. (3) الشاهد لابن غادية السلميّ في الاقتضاب ص 429، وبلا نسبة في أدب الكاتب 505، وجمهرة اللغة 1318، ورصف المباني 196، وسرّ صناعة الإعراب 286، ولسان العرب (ثوب) و (وثب) والمقرّب 1/ 196، والمخصص 14/ 86. (4) الشاهد لفروة بن مسيك في الأزهيّة 51، والجنى الداني 327، وخزانة الأدب 4/ 112، والدرر 2/ 100، وشرح أبيات سيبويه 2/ 106، وشرح شواهد المغني 1/ 81، ولسان العرب (طبب) ، ومعجم ما استعجم 650، والكميت في شرح المفصل 8/ 129، وللكميت أو لفروة في تلخيص الشواهد ص 278، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص 207، وخزانة الأدب 11/ 141، والخصائص 3/ 108، ورصف المباني 110، وشرح المفصل 5/ 120، والمحتسب 1/ 92، والمقتضب 1/ 51، والمنصف 3/ 128، وهمع الهوامع 1/ 123.

[سورة الذاريات (51) : آية 24]

فجمع ما بين «ما» و «إن» ومعناهما واحد. قال الله جلّ وعزّ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ [فاطر: 40] بمعنى ما يعد الظالمون. والجواب الآخر أنّ زيادة «ما» تفيد معنى لأنه لو لم تدخل «ما» كان المعنى أنه لحقّ لا كذب فإذا جئت بما صار المعنى أنه لحقّ، مثل ما إنّ الآدميّ ناطق، كما تقول: الحقّ نطقك، بمعنى أحقّ أم كذب؟ وتقول: أحقّ إنّك تنطق؟ فتفيد معنى آخر. [سورة الذاريات (51) : آية 24] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) ولم يقل أضياف لأنّ ضيفا مصدر، وحقيقته في العربية حديث ذوي ضيف، مثل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . [سورة الذاريات (51) : آية 25] إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ أي حين دخلوا. فَقالُوا سَلاماً منصوب على المصدر، ويجوز أن يكون منصوبا بوقوع الفعل عليه. ويدلّ على صحّة هذا الجواب أنّ سفيان روى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. فَقالُوا سَلاماً قال سدادا. قالَ سَلامٌ «1» مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف أي سلام عليكم، ويجوز أن يكون مرفوعا على خبر الابتداء والابتداء محذوف أي أمري سلام، وقرأ حمزة والكسائي قالَ سَلامٌ «2» وفيه تقديران: أحدهما أن يكون سلام وسلّم بمعنى واحد مثل حلّ وحلال، ويجوز أن يكون التقدير نحن سلم. قَوْمٌ مُنْكَرُونَ على إضمار مبتدأ وإنما أنكرهم فيما قبل لأنه لم يعرف في الأضياف مثلهم. [سورة الذاريات (51) : آية 26] فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ أي رجع، وحقيقته رجع في خفية. فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ التقدير: فجاء أضيافه ثم حذف المفعول. [سورة الذاريات (51) : آية 27] فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) الفاء تدلّ على أنّ الثاني يلي الأول و «ألا» تنبيه. [سورة الذاريات (51) : آية 28] فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أي ستر ذلك وأضمره قالُوا لا تَخَفْ حذفت الضمة للجزم

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 137. [.....] (2) انظر البحر المحيط 8/ 137.

[سورة الذاريات (51) : آية 29]

والألف لالتقاء الساكنين وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي يكون عالما وحكى الكوفيون أنّ عليما إذا كان للمستقبل قيل عالم، وكذا نظائره يقال: ما هو كريم وإنه لكارم غدا، وما مات وإنه لمائت وهذا وإن كان يقال فالقرآن قد جاء بغيره. [سورة الذاريات (51) : آية 29] فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: في صيحة، وكذا قال مجاهد والضحاك وابن زيد وابن سابط، وقيل «في صرّة» في جماعة نسوة يتبادرن لينظرن إلى الملائكة. فَصَكَّتْ وَجْهَها قال مجاهد: ضربت جبهتها تعجبا وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ زعم بعض العلماء أنّ عجوزا بإضمار فعل أي أتلد عجوز. قال أبو جعفر: وهذا خطأ لأن حرف الاستفهام لا يحذف والتقدير على قول أبي إسحاق: قالت أنا عجوز عقيم أي فكيف ألد. [سورة الذاريات (51) : آية 30] قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ أي كما قلنا لك، وليس هذا من عندنا. إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ في تدبيره الْعَلِيمُ أي مصالح خلقه وبما كان وبما هو كائن. [سورة الذاريات (51) : آية 31] قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قال إبراهيم لضيفه ما شأنكم يا أيها، وحذفت يا، كما يقال: زيد أقبل و «أي» نداء مفرد، وهو اسم تام، والْمُرْسَلُونَ من نعمته. [سورة الذاريات (51) : آية 32] قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) أي قد أجرموا بالكفر، ويقال: جرموا، إلّا أنّ أجرموا بالألف أكثر. [سورة الذاريات (51) : آية 33] لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) أي لنمطر عليهم. [سورة الذاريات (51) : آية 34] مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) مُسَوَّمَةً في معناه قولان: أهل التأويل على أنّ معناه معلّمة. قال ابن عباس: يكون الحجر أبيض وفيه نقطة سوداء ويكون الحجر أسود وفيه نقطة بيضاء. والقول الآخر أن يكون معنى مسومة مرسلة من سوّمت الإبل لِلْمُسْرِفِينَ أي للمتعدين لأمر الله جلّ وعزّ. [سورة الذاريات (51) : آية 35] فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) كناية عن القرية، ولم يتقدّم لها ذكر لأنه قد عرف المعنى، ويجوز أن يكون كناية عن الجماعة.

[سورة الذاريات (51) : آية 36]

[سورة الذاريات (51) : آية 36] فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) قال مجاهد لوط صلّى الله عليه وسلّم وابنتاه لا غير. [سورة الذاريات (51) : آية 37] وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) قول الفراء «1» إنّ «في» زائدة. والمعنى ولقد تركناها آية ومثله عنده لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ [يوسف: 7] وهذا المتناول البعيد مستغنى عنه قال أبو إسحاق ولقد تركنا في مدينة قوم لوط عليه السلام آية للخائفين. [سورة الذاريات (51) : آية 38] وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) وَفِي مُوسى أي وفي موسى آية واعتبار إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة بيّنة يتبين من رآها أنّها من عند الله سبحانه. قال قتادة: بسلطان مبين أي بعذر مبين. [سورة الذاريات (51) : آية 39] فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَتَوَلَّى فأعرض عن ذكر الله وأدبر بِرُكْنِهِ فيه قولان قال أهل التأويل: المعنى بقومه قال ذلك مجاهد وقتادة، وقال ابن زيد: بجماعته. والقول الآخر حكاه الفراء «2» (بركنه) بنفسه، قال وحقيقة ركنه في اللغة بجانبه الذي يتقوى به وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ على إضمار مبتدأ. وأبو عبيدة «3» يذهب إلى أن «أو» بمعنى الواو، قال: وهذا تأويل عند النحويين الحذّاق خطأ وعكس المعاني، وهو مستغنى عنه ولأو معناها، وقد أنشد أبو عبيدة لجرير: [الوافر] 437- أثعلبة الفوارس أو رياحا ... عدلت بهم طهيّة والخشابا «4» فهذا أيضا على ذاك محمول. [سورة الذاريات (51) : آية 40] فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) َخَذْناهُ وَجُنُودَهُ عطف على الهاء. نَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ أي فألقيناهم في البحر. هُوَ مُلِيمٌ والأصل مليم ألقيت حركة الياء على اللام اتباعا.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 87. (2) انظر معاني الفراء 3/ 87. (3) انظر مجاز القرآن 2/ 227. (4) الشاهد لجرير في ديوانه 814، والكتاب 1/ 156، والأزهيّة 214، وأمالي المرتضى 2/ 57، وجمهرة اللغة 290، وخزانة الأدب 11/ 69، وشرح أبيات سيبويه 1/ 288، وشرح التصريح 1/ 300، ولسان العرب (خشب) ، و (طها) والمقاصد النحوية 2/ 533، وبلا نسبة في الرد على النحاة 105، وشرح الأشموني 1/ 190.

[سورة الذاريات (51) : آية 41]

[سورة الذاريات (51) : آية 41] وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) أي وفي عاد آية والمعنى معقومه فلذلك حذفت الهاء. [سورة الذاريات (51) : آية 42] ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ حذفت الواو من تذر لأنها بمعنى تدع، وحذفت من يدع لأن الأصل فيها يودع فوقعت بين ياء وكسرة فحذفت إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ قال الفراء «1» : الرميم النّبت إذا يبس وديس. وقال محمد بن يزيد: أصل الرميم العظم البالي المتقادم، ويقال له: رمّة. [سورة الذاريات (51) : آية 43] وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) وَفِي ثَمُودَ أي آية إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ زعم الفراء أن الحين هاهنا ثلاثة أيام، وذهب إلى هذا لأنه قيل لهم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام. [سورة الذاريات (51) : آية 44] فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي غلوا وتركوا أمر ربّهم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ويروى عن عمر بن الخطاب رحمه الله أنه قرأ فأخذتهم الصاعقة «2» وإسناده ضعيف لأنه لا يعرف إلا من حديث السّدّي ويدلّك على أن الصاعقة أولى قوله جلّ وعزّ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ [الرعد: 13] فهذا جمع صاعقة. وجمع صعقة صعقات وصعاق. وَهُمْ يَنْظُرُونَ قيل: المعنى: ينتظرون ذلك لأنهم كانوا ينتظرون العذاب لمّا تغيّرت ألوانهم في الأيام الثلاثة. [سورة الذاريات (51) : آية 45] فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ أي نهوض بالعقوبة. قال الفراء: مِنْ قِيامٍ أي ما قاموا بها وأجاز في الكلام من إقامة كأنه تأوله بمعنى ما استطاعوا أن يقوموا بها. وزعم أن مِنْ قِيامٍ مثل وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي ما كانوا يقدرون على أن يستفيدوا ممن عاقبهم. وقال قتادة في معنى وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ وما كانت لهم قوة يمتنعون بها من العقوبة. [سورة الذاريات (51) : آية 46] وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ قراءة أهل المدينة وعاصم، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 88. (2) انظر البحر المحيط 8/ 139.

[سورة الذاريات (51) : آية 47]

والكسائي وقوم نوح «1» بالخفض معطوفا على وفي ثمود، والمعنى في الخفض وفي قوم نوح آية وعبرة. والنصب من غير جهة فللفراء «2» فيه قولان، وبعدهما ثالث عنه أيضا وهما أن يكون التقدير فأخذتهم الصاعقة وأخذت قوم نوح، والتقدير الثاني أن يكون التقدير: وأهلكنا قوم نوح، والثالث الذي بعدهما أن يكون التقدير واذكروا قوم نوح. قال أبو جعفر: ورأيت أبا إسحاق قد أخرج قوله هذا الثالث وفيه من كلامه، وليس هذا بأبغض إليّ من الجوابين، وهو يتعجّب من هذا ويقول: دلّ بهذا الكلام على أن الأجوبة الثلاثة بغيضة إليه. قال: وفي هذه الآية قول رابع حسن يكون وقوم نوح معطوفا على أَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ لأن معناه فأغرقناهم وأغرقنا قوم نوح. فأمّا القراءة بالنصب فهي البيّنة عند النحويين سوى من ذكرنا ممن قرأ بغيرها، فاحتجّ أبو عبيد للنصب بأن قبله فيما كان مخفوضا من القصص كلها بيان ما نزل بهم نحو وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ وليس هذا في قوم نوح فدلّ هذا على أنه ليس معطوفا على الخفض لأنه مخالف له. قال: فكيف يكون وفي قوم نوح ولا يذكر ما نزل بهم، وقال غيره: أيضا العرب إذا تباعد ما بين المخفوض وما بعده لم يعطفوه عليه ونصبوه قال الله جلّ وعزّ: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ [هود: 60] ولا نعلم أحدا خفض، وقال جلّ وعزّ: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71] فرفع أكثر القراء ولم يعطفوه على ما قبله وحجة ثالثة ذكرها سيبويه وهو أن المعطوف إلى ما هو أقرب إليه أولى وحكي: خشنت بصدره وصدر زيد، وأن الخفض أولى لقربه فكذا هذا فأخذتهم الصاعقة وأخذت قوم نوح أقرب من أن تردّه إلى ثمود إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ نعت لقوم أي خارجين عن الطاعة. [سورة الذاريات (51) : آية 47] وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالسَّماءَ نصب بإضمار فعل أي وبنينا السماء. بَنَيْناها بِأَيْدٍ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس (بأيد) بقوة. [سورة الذاريات (51) : آية 48] وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها بإضمار أيضا. فَنِعْمَ الْماهِدُونَ رفع بنعم. والمعنى: فنعم الماهدون نحن ثم حذف.

_ (1) انظر تيسير الداني 165، وكتاب السبعة لابن مجاهد 609. (2) انظر معاني الفراء 3/ 88.

[سورة الذاريات (51) : آية 49]

[سورة الذاريات (51) : آية 49] وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ قيل: التقدير ومن كلّ شيء خلقنا خلقنا زوجين. قال مجاهد: في الزوجين: الشقاء والسعادة والهدى والضلالة والإيمان والكفر. وقال ابن زيد: الزوجان: الذكر والأنثى. وجمعهما الفراء «1» فقال: الزوجان والحيوان الذكر والأنثى ومن غيرهم الحلو والحامض وما أشبه ذلك. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي فتعتبرون وتعلمون أنّ العبادة لا تصلح إلا لمن خلق هذه الأشياء. [سورة الذاريات (51) : آية 50] فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي إلى طاعته ورحمته من معصيته وعقابه إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي مخوف عقابه من عصاه. [سورة الذاريات (51) : آية 51] وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي معبودا آخر إذا كانت العبادة لا تصلح إلّا له إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي أخوف من عبد غيره عذابه وجاء إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ مرتين، وليس بتكرير لأنه خوّف في الثاني من عبد غير الله جلّ وعزّ وفي الأول من لم يفرّ إلى طاعة الله ورحمته فهذا قد يكون للموحدين. [سورة الذاريات (51) : آية 52] كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) تكون الكاف في موضع رفع أي الأمر كذلك، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى كذلك فعل الذين من قبل قريش ما أتاهم من رسول إلّا قالوا له هذا. [سورة الذاريات (51) : آية 53] أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) أَتَواصَوْا بِهِ أي هل أوصى بعضهم بعضا بهذا بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ المعنى: لم يتواصوا به بل هم قوم طغوا واعتدوا فخالفوا أمر الله جلّ وعزّ ونهيه. [سورة الذاريات (51) : آية 54] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ قال مجاهد: أي أعرض والتقدير: أعرض عنهم حتّى يأتيك أمرنا فيهم فأتاه الأمر بقتالهم. فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ أي لا تلحقك لائمة من ربّك جلّ وعزّ في تفريط كان منك في إنذارهم فقد أنذرتهم وبلّغتهم.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 89.

[سورة الذاريات (51) : آية 55]

[سورة الذاريات (51) : آية 55] وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَذَكِّرْ أي عظهم. فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ويجوز ينفع لأن الذكرى والذكر واحد. [سورة الذاريات (51) : آية 56] وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) قيل: يراد هاهنا المؤمنون خاصة. واحتجّ صاحب هذا القول بأنه يلي المؤمنين فأن يكون الضمير يليهم أولى. ومعنى هذا يروى عن زيد بن أسلم قال: وهذا مذهب أكثر أصحاب الحديث، وقال القتبي: هو مخصوص فهذا هو ذلك القول إلا أن العبارة عنه ليست بحسنة. وقيل في الآية: ما روي عن ابن عباس أن العبادة هنا الخضوع والانقياد، وليس مسلم ولا كافر إلا وهو خاضع لله جلّ وعزّ منقاد لأمره طائعا أو كارها فيما جبله عليه من الصحّة والسقم والحسن والقبح والضيق والسعة. [سورة الذاريات (51) : آية 57] ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ «ما» في موضع نصب و «من» زائدة للتوكيد. وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ حذفت النون علامة النصب، وحذفت الياء لأن الكسرة دالة عليها، وهو رأس آية فحسن الحذف. [سورة الذاريات (51) : آية 58] إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ أي الرّزاق خلقه المتكفل بأقواتهم. ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ بالرفع قرأ به من تقوم بقراءته الحجّة على أنه نعت للرزاق ولذي القوة أو على أنه خبر بعد خبر أو على إضمار مبتدأ أو نعت لاسم «إنّ» على الموضع. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس الْمَتِينُ الشديد. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ «1» بالخفض على النعت للقوة. وزعم أبو حاتم أن الخفض على قرب الجوار. قال أبو جعفر والجوار لا يقع في القرآن ولا في كلام فصيح، وهو عند رؤساء النحويين غلط ممن قاله من العرب. ولكن القول في قراءة من خفض أنه تأنيث غير حقيقي. والتقدير فيه عند أبي إسحاق: ذو الاقتدار المتين لأن الاقتدار والقوة واحد، وعند غيره بمعنى ذو الإبرام المتين. [سورة الذاريات (51) : آية 59] فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59)

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 141، ومعاني الفراء 3/ 90.

[سورة الذاريات (51) : آية 60]

فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً اسم «إنّ» . مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ نعت. فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أي به. [سورة الذاريات (51) : آية 60] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا رفع بالابتداء، ويجوز النصب أي ألزمهم الله ويلا. مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي يوعدون فيه بنزول العذاب ...

52 شرح إعراب سورة الطور

52 شرح إعراب سورة الطور بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الطور (52) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ (1) خفض بواو القسم. [سورة الطور (52) : آية 2] وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) واو عطف، وليست واو قسم. قال الضّحاك وقتادة: مَسْطُورٍ مكتوب. وأجاز النحويون: مصطور تقلب السين صادا تقريبا إلى الطاء. [سورة الطور (52) : آية 3] فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) من صلة مسطور أي كتب في رق به وقال الراجز: 438- إنّي وأسطار سطرن سطرا «1» [سورة الطور (52) : آية 4] وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) عطف أي المعمور بمن يدخله. يقال: عمر المنزل فهو عامر، وعمرته فهو معمور، وإن أردت متعدي عمر المنزل قلت: أعمرته. [سورة الطور (52) : الآيات 5 الى 8] وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) معطوف، وكذا وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) . وجواب القسم إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) قال قتادة: أي يوم القيامة أي حالّ بالكافرين.

_ (1) الشاهد لرؤبة في ديوانه 174، وخزانة الأدب 2/ 219، والخصائص 1/ 340، والدرر 4/ 22، وشرح شواهد الإيضاح 243، وشرح المفصّل 2/ 3، ولسان العرب (نصر) ، وبلا نسبة في أسرار العربية 297، والأشباه والنظائر 4/ 86، والدرر 6/ 26، ولسان العرب (سطر) ، ومغني اللبيب 2/ 388، والمقاصد النحوية 4/ 209، والمقتضب 4/ 209، وهمع الهوامع 247.

[سورة الطور (52) : آية 9]

[سورة الطور (52) : آية 9] يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: تحرّكا. قال أبو جعفر: يقال: مار الشيء إذا دار، وينشد بيت الأعشى: [البسيط] 439- كأنّ مشيتها من بيت جارتها ... مور السّحابة لا ريث ولا عجل «1» ويروى عن ابن عباس: تمور تشقّق. [سورة الطور (52) : آية 10] وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) وَتَسِيرُ الْجِبالُ أي من أمكنتها سَيْراً. [سورة الطور (52) : آية 11] فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) دخلت هذه الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة، ومثله فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى فالتقدير إذا انتبهت له فهو كذا وكذا الآية التقدير فيها إذا كان هذا فويل يومئذ للمكذّبين. [سورة الطور (52) : آية 12] الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) أي في فتنة واختلاط يلعبون أي غافلين عما يراد بهم، والَّذِينَ في موضع خفض نعته للمكذبين. [سورة الطور (52) : آية 13] يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) نصب يوم على البدل من يومئذ. وروى قابوس عن أبيه عن ابن عباس يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا «2» قال: يدفع في أعناقهم حتّى يردّوا إلى النار. [سورة الطور (52) : الآيات 14 الى 15] هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) أي يقال لهم فحذف هذا. [سورة الطور (52) : آية 16] اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) اصْلَوْها أي قاسوا حرّها وشدّتها. فَاصْبِرُوا أَوْ لا أي على ألمها وشدّتها. تَصْبِرُوا سَواءٌ مبتدأ أي سواء عليكم الصبر والجزع. عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.

_ (1) الشاهد للأعشى في ديوانه ص 105، ولسان العرب (مور) ، وتهذيب اللغة 1/ 372، و 2/ 256، وتاج العروس (مور) . (2) انظر البحر المحيط 8/ 145. [.....]

[سورة الطور (52) : آية 17]

[سورة الطور (52) : آية 17] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي الّذين اتقوا الله جلّ وعزّ في اجتناب معاصيه وأداء فرائضه. فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ في موضع خبر «إنّ» . [سورة الطور (52) : الآيات 18 الى 19] فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) فَكِهِينَ على الحال. ويجوز الرفع في غير القرآن على أنه خبر «إنّ» بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ بما أعطاهم ورزقهم وَوَقاهُمْ والمستقبل منه معتلّ من جهتين من فائه ولامه. قال أبو جعفر: فأمّا اعتلاله من فائه فإن الأصل فيه: يوقيه حذفت الواو لأنها بين ياء وكسرة واعتلاله من لامه لأنها سكنت في موضع الرفع ولثقل الضمة فيها، والتقدير: يقال لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) ونصب هَنِيئاً على المصدر. ومعناه بلا أذى ولا غمّ ولا غائلة يلحقكم في أكلكم ولا شربكم. [سورة الطور (52) : آية 20] مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) مُتَّكِئِينَ نصب على الحال. عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ جمع سرير، ويجوز سرر «1» لثقل الضمّة. مَصْفُوفَةٍ نعت. وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي قرنّاهم بهنّ. قال أبو عبيدة: الحور شدّة سواد العين وشدّة بياض بياض العين. قال أبو جعفر: الحور في اللغة البياض، ومنه الخبز الحوّاريّ، وعِينٍ جمع عيناء وهو على فعل أبدل من الضمة كسرة لمجاورتها الياء. [سورة الطور (52) : آية 21] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَالَّذِينَ مبتدأ. آمَنُوا صلته. وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ داخل معه في الصلة أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ خبر الابتداء. وهذه القراءة مأثورة عن عبد الله بن مسعود، وهي متّصلة الإسناد من حديث المفضّل الضبّي عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أنه رد على رجل وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ بالتوحيد فيهما جميعا مقدار عشرين مرة وهذه قراءة الكوفيين وقرأ الحسن وأبو عمرو ذرياتهم «2» بالجمع فيها جميعا. وقرأ المدنيون وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «3» والمعاني في هذا متقاربة وإن كان التوحيد القلب إليه أميل لما روي عن عبد الله بن مسعود، وعن ابن عباس وقد احتج أبو عبيد للتوحيد بقوله جلّ وعزّ: مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ [مريم: 58]

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 146، وهذه قراءة أبي السمال. (2) انظر البحر المحيط 8/ 147، وتيسير الداني 165، وكتاب السبعة لابن مجاهد 612. (3) انظر البحر المحيط 8/ 147، وتيسير الداني 165، وكتاب السبعة لابن مجاهد 612.

[سورة الطور (52) : آية 22]

ولا يكون أكثر من ذرية أدم عليه السلام قال: وهذا إجماع فسبيل المختلف فيه أن يردّ إليه وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يقال: ألته يألته ولاته يليته إذا نقصه و «من» في عَمَلِهِمْ للتبعيض وفي مِنْ شَيْءٍ بمعنى التوكيد. كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ مبتدأ وخبره أي كل إنسان مرتهن بما عمل لا يؤخذ أحد بذنب أحد. [سورة الطور (52) : آية 22] وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وهم هؤلاء المذكورون. وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي يشتهونه، وحذفت الهاء لطول الاسم. [سورة الطور (52) : آية 23] يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) هذه قراءة أهل الحرمين وأهل المصرين إلّا أبا عمرو ويروى عن الحسن لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ «1» . فالرفع من جهتين: أحداهما أن يكون «لا» بمنزلة «ليس» . والأخرى أن ترفع بالابتداء وشبّهه أبو عبيد بقوله جلّ وعزّ: لا فِيها غَوْلٌ [الصافات: 47] واختار الرفع. قال أبو جعفر: وليس يشبهه عند أحد من النحويين علمته لأنك إذا فصلت لم يجز إلّا الرفع، وكذا لا فِيها غَوْلٌ وإذا لم تفصل جاز الرفع والنصب بغير تنوين فكذلك لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ ولو كانا كما قال واحدا لم يجز. لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ وقد قرأ به أبو عمرو بن العلاء وهو جائز حسن عند الخليل وسيبويه وعيسى بن عمر والكسائي والفراء ونصبه على التبرية عند الكوفيين. فأما البصريون فإنهم جعلوا الشيئين شيئا واحدا. [سورة الطور (52) : آية 24] وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ أي في الصفاء. مَكْنُونٌ فهو أصفى له وأخلص بياضا. [سورة الطور (52) : آية 25] وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) روى ابن طلحة عن ابن عباس قال: هذا عند النفخة الثانية. [سورة الطور (52) : آية 26] قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) خبر كان أي قبل هذا وجعلت «قبل» غاية ... [سورة الطور (52) : آية 27] فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) منّ الله عليهم بغفران الصغائر وترك المحاسبة لهم بالنعم المستغرقة للأعمال،

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 147، وتيسير الداني 69، قال (بالنصب من غير تنوين في الكلّ والباقون بالرفع والتنوين) .

[سورة الطور (52) : آية 28]

كما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل أحد الجنّة بعمله» قيل: ولا أنت يا رسول الله قال: «ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله منه برحمته» «1» . [سورة الطور (52) : آية 28] إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) هذه قراءة أبي عمرو وعاصم والأعمش وحمزة، وقرأ أبو جعفر ونافع والكسائي إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ «2» قال أبو جعفر: والكسر أبين لأنه إخبار بهذا فالأبلغ أن يبتدأ، والفتح جائز ومعناه ندعوه لأنه أو بأنه. وقد عارض أبو عبيد هذه القراءة لأنه اختار الكسر ولأن معناها ندعوه لهذا، وهذه المعارضة لا توجب منع القراءة بالفتح لأنهم يدعونه لأنه هكذا. وهذا له جلّ وعزّ دائم لا ينقطع. فنظير هذا لبّيك أنّ الحمد والنعمة لك، بفتح إن وكسرها. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ قال: اللطيف بعباده، وقال غيره: الرحيم بخلقه ولا يعذّبهم بعد التوبة. [سورة الطور (52) : آية 29] فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ قال أبو إسحاق: أي لست تقول قول الكهان. وَلا مَجْنُونٍ عطف على بكاهن، ويجوز النصب على الموضع في لغة أهل الحجاز، ويجوز الرفع في لغة بني تميم على إضمار مبتدأ. [سورة الطور (52) : آية 30] أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ على إضمار مبتدأ. نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قال أبو جعفر: قد ذكرناه. [سورة الطور (52) : آية 31] قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) قُلْ تَرَبَّصُوا أي تمهّلوا وانتظروا. فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ حتّى يأتي أمر الله جلّ وعزّ فيكم. [سورة الطور (52) : آية 32] أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا قال ابن زيد: كانوا في الجاهلية يسمّون أهل الأحلام فالمعنى أم تأمرهم أحلامهم بأن يعبدوا أوثانا صمّا بكما، وقيل: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ أن يقولوا لمن جاءهم بالحق والبراهين والنهي عن المنكر والأمر بالمعروف شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ. وزعم الفراء أن الأحلام هاهنا العقول والألباب أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ

_ (1) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 256، وذكره ابن حجر في فتح الباري 2/ 332. (2) انظر البحر المحيط 8/ 147، وهذه قراءة الحسن أيضا، وتيسير الداني 165.

[سورة الطور (52) : آية 33]

أي لم تأمرهم أحلامهم بهذا بل جاوزوا الإيمان إلى الكفر. [سورة الطور (52) : آية 33] أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) أي ليس يأتون ببرهان أنه تقوّل واختلقه بل لا يصدّقون والكوفيون يقولون إنّ «بل» لا تكون إلا بعد نفي فهم يحملون الكلام على هذه المعاني فإن لم يجدوا ذلك لم يجيزوا أن يأتي بعد الإيجاب. [سورة الطور (52) : آية 34] فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أي إن كانوا صادقين في أنه تقوّله فهم أهل اللسان واللغة فليأتوا بقرآن مثله. [سورة الطور (52) : آية 35] أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ فيه أجوبة فمن أحسنها أم خلقوا من غير أب ولا أم فيكونوا حجارة لا عقول لهم يفهمون بها. وقيل المعنى: أم خلقوا من غير صانع صنعهم فهم لا يقبلون من أحد. أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أي هم الأرباب فللربّ الأمر والنهي. [سورة الطور (52) : آية 36] أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي هل هم الذين خلقوا السموات والأرض فلا يقرّوا بمن لا يشبهه شيء بَلْ لا يُوقِنُونَ قيل المعنى لا يعلمون ولا يستدلّون، وقيل: فعلهم فعل من لا يعلم. ومن أحسن ما قيل فيه أنّ المعنى: لا يوقنون بالوعيد وما أعدّ الله جلّ وعزّ من العذاب للكفّار يوم القيامة فهم يكفرون ويعصون لأنهم لا يوقنون بعذاب ذلك. [سورة الطور (52) : آية 37] أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أي فيستغنوا بها. أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المسيطرون المسلّطون. والمسيطر «1» في كلام العرب المتجبّر المتسلط المستكبر على الله جلّ وعزّ، مشتقّ من السطر كأنه الذي يخطر على الناس منعه مما يريد. وأصله السين ويجوز قلب السين صادا لأن بعدها طاء، وعلى هذا السواد في هذا الحرف. [سورة الطور (52) : آية 38] أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38)

_ (1) انظر تيسير الداني 165، والبحر المحيط 8/ 149 (قراءة الجمهور بالصاد وهشام وقنبل وحفص بالسين) .

[سورة الطور (52) : آية 39]

أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ أي يستمعون فيه الوحي من السماء فيدّعون أنّ الذي هم عليه قد أوحى به فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجّة بيّنة كما أتى بها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. [سورة الطور (52) : آية 39] أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) كما تقولون فتلك قسمة جائرة. [سورة الطور (52) : آية 40] أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) مَغْرَمٍ مصدر أي أم تسألهم مالا فهم من أن يغرموا شيئا مثقلون أي يثقل ذلك عليهم. [سورة الطور (52) : آية 41] أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي هم لا يعلمون الغيب فكيف يقولون: لا نؤمن برسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ويقولون شاعر نتربّص به ريب المنون؟ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أي يكتبون للناس من الغيب ما أرادوا، ويخبرونهم به. [سورة الطور (52) : آية 42] أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً أي احتيالا على إذلال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وإهلاكه وعلى المؤمنين. فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ أي المذلّون المهلكون الصابرون إلى عذاب الله جلّ وعزّ. [سورة الطور (52) : آية 43] أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ أي معبود يستحقّ العبادة. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تنزيها لله جلّ وعزّ مما يعبدونه من دونه. [سورة الطور (52) : آية 44] وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً جمع كسفة مثل سدرة وسدر. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس كسفا قال: يقول: قطعا يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ على إضمار مبتدأ أي يقولوا: هذا الكسف سحاب مركوم. [سورة الطور (52) : آية 45] فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) فَذَرْهُمْ من يذر حذفت منه الواو وإنما تحذف من يفعل لوقوعها بين ياء وكسرة أو من يفعل إذا كان فيه حرف من حروف الحلق وليس في «يذر» من هذا شيء يوجب حذف الواو، وقال أبو الحسن بن كيسان: حذفت منه الواو لأنه بمعنى يدع فأتبعه. حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ وقرأ الحسن وعاصم يُصْعَقُونَ «1» قال الحسن أي

_ (1) انظر تيسير الداني 165، والبحر المحيط 8/ 150، (عاصم وابن عامر بضمّ الياء والباقون بفتحهما) .

[سورة الطور (52) : آية 46]

يماتون، وحكى الفراء «1» عن عاصم يُصْعَقُونَ وهذا لا يعرف عنه قال: يقال: صعق يصعق، وهي لغة معروفة كما قرأ الجميع فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 68] ولم يقرءوا فصعق، ويقال: صعق يصعق وأصعق متعدّي صعق. [سورة الطور (52) : آية 46] يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً بدل من اليوم الأول. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي ولا يستقيد لهم أحد ممن عاقبهم ولا يمنع منهم. [سورة الطور (52) : آية 47] وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ أجلّ ما قيل فيه إسنادا ما رواه أبو إسحاق عن البرآء وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ قال: عذاب القبر. وقال ابن زيد: المصائب في الدنيا، ومعنى دُونَ ذلِكَ دون يوم يصعقون وهو يوم القيامة. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون أنّهم ذائقوا ذلك العذاب، وقيل: فعلهم فعل من لا يعلم. [سورة الطور (52) : آية 48] وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي لحكمه الذي قضى عليك وامض لأمره ونهيه وبلّغ رسالته فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا أي نراك ونرى عملك ونحوطك ونحفظك، وجمعت عين على أعين، وهي مثل بيت، ولا يقال: أبيت لثقل الضمة في الياء إلّا أن هذا جاء في عين لأنّها مؤنثة. وأفعل في جمع المؤنث كثير. قالوا شمال أشمل وعناق أعنق. وقد قيل: أعيان كأبيات وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ في معناه أقوال فقول الضّحاك إنّ معناه حين تقوم إلى الصلاة بعد تكبيرة الإحرام، تقول: سبحانك اللهمّ وبحمدك تبارك واسمك وتعالى جدّك، وقيل التسبيح هاهنا تكبيرة الإحرام التي لا تتمّ الصلاة إلا بها، لأن معنى التسبيح في اللغة تنزيه الله جلّ وعزّ من كل سوء نسبه إليه المشركون وتعظيمه، ومن قال: الله أكبر فقد فعل هذا، وقول ثالث يكون المعنى حين تقوم من نومك، ويكون هذا يوم القائلة يعني صلاة الظهر لأن المعروف من قيام الناس من نومهم إلى الصلاة إنما هو من صلاة الفجر، وصلاة الظهر وصلاة الفجر مذكورة بعد هذا. فأما قول الضّحاك إنه في افتتاح الصلاة فبعيد لاجتماع الحجة لأن الافتتاح في الصلاة غير واجب ولو أمر الله جلّ وعزّ به لكان واجبا إلّا أن تقوم الحجة أنّه على الندب والإرشاد. [سورة الطور (52) : آية 49] وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ قال ابن زيد: صلاة العشاء، وقال غيره: صلاة المغرب والعشاء

_ (1) انظر معاني الفراء 613.

وَإِدْبارَ النُّجُومِ فيه قولان: أحدهما أنه لركعتي الفجر، وقال الضّحاك وابن زيد: صلاة الصبح. قال وهذا أولى لأنه فرض من الله تعالى. ونصب وَإِدْبارَ النُّجُومِ على الظرف أي وسبّحه وقت إدبار النجوم، كما: أنا أتيك مقدم الحاجّ، ولا يجوز أنا أتيك مقدم زيد، إنما يجوز هذا فيما عرف. وهذا قول الخليل وسيبويه.

53 شرح إعراب سورة النجم

53 شرح إعراب سورة النجم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَالنَّجْمِ خفض بواو القسم، والتقدير وربّ النجم. إِذا هَوى في موضع نصب أي حين هوى، وجواب القسم ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ أي ما زال عن القصد وَما غَوى قيل: أي وما خاب فيما طلبه من الرحمة. [سورة النجم (53) : الآيات 3 الى 4] وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى قيل: المعنى وما ينطق فيما يخبر به من الوحي، ودلّ على هذا إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى أي ما الذي يخبر به إلا وحي يوحى. ويوحى يرجع إلى الياء، ولو كان من ذوات الواو لتبع المستقبل الماضي. [سورة النجم (53) : آية 5] عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) أي الأسباب، وحكى الفراء أنه يقرأ شَدِيدُ الْقُوى بكسر القاف لأن فعلة وفعلة يتضارعان. قال قتادة: شديد القوى جبريل عليه السلام. [سورة النجم (53) : آية 6] ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) ذُو مِرَّةٍ قال مجاهد: جبرائيل عليه السلام ذو قوة. وقال ابن زيد: المرّة القوة. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ذُو مِرَّةٍ أي منظر حسن. قال أبو جعفر: حقيقة المرّة في اللغة اعتدال الخلق والسلامة من الآفات والعاهات، فإذا كان كذا كان قويا. فَاسْتَوى قيل: فاعتدل بعد أن كان ينزل مسرعا. [سورة النجم (53) : آية 7] وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) في موضع الحال أي فاستوى عاليا، هذا قول من تجب به الحجّة من العلماء،

[سورة النجم (53) : آية 8]

والمعنى عليه، والإعراب يقويه. وزعم الفراء «1» أن المعنى فاستوى محمد صلّى الله عليه وسلّم وجبريل عليه السلام فجعل «وهو» كناية عن جبرائيل عليه السلام وعطف به على المضمر. قال أبو جعفر: في هذا من الخطأ ما لاحقا به عطف على مضمر مرفوع لا علامة له ومثله مررت بزيد جالسا وعمرو، ويعطف به على المضمر المرفوع. وهذا ممنوع من الكلام حتّى يؤكّد المضمر أو يطول الكلام ثم شبّهه بقوله: أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا [النمل: 67] وهذا التشبيه غلط من جهتين، إحداهما أنه قد طال الكلام هاهنا وقام المفعول به مقام التوكيد. والجهة الأخرى أنّ النون والألف قد عطف عليهما هاهنا، وقولك: قمنا وزيد أسهل من قولك: قام وزيد، وأيضا فليس المعنى على ما ذكر. [سورة النجم (53) : آية 8] ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) شبّهه الفراء «2» بقوله جلّ وعزّ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1] لأن المعنى: انشقّ القمر واقتربت الساعة. قال أبو جعفر: وهذا التشبيه غلط بيّن لأن حكم الفاء خلاف حكم الواو لأنها تدلّ على أن الثاني بعد الأول، فالتقدير ثم دنا فزاد في القرب. [سورة النجم (53) : آية 9] فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) قال أبو جعفر: وهذا أيضا مما يشكل في العربية لأن «أو» لا يجوز أن تكون بمعنى الواو لاختلاف ما بينهما، ولا بمعنى «بل» لما ذكرنا. وأن الاختصار يوجب غير ذلك فالتقدير فكان بمقدار ذلك عندكم لو رأيتموه قدر قوسين أو أدنى، كما روي عن ابن مسعود قال: فكان قدر ذراع أو ذراعين. قال أبو جعفر: القاد والقيد والقاب والقيب والقدر والقدر. [سورة النجم (53) : آية 10] فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) في معناه قولان: روى هشام الدستوائي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: عبده محمد صلّى الله عليه وسلّم فتأوّل هذا على المعنى فأوحى إلى عبده محمد صلّى الله عليه وسلّم. والقول الأخر أن المعنى فأوحى جبرائيل إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم عبد الله وهو قول جماعة من أهل التفسير منهم ابن زيد قال: وهذا أشبه بسياق الكلام لأن ما قبله وما بعده أخبار عن جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم ومحمد صلّى الله عليه وسلّم فلا يخرج ذلك عنهما إلى أحد إلّا بحجة يجب التسليم بها. [سورة النجم (53) : آية 11] ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) «3»

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 95. (2) انظر معاني الفراء 3/ 96. (3) انظر القراءات في البحر المحيط 8/ 156، وتيسير الداني 166.

[سورة النجم (53) : آية 12]

هذه قراءة أكثر القراء، وقرأ الحسن وقتادة ويزيد بن القعقاع وعاصم الجحدري ما كَذَبَ الْفُؤادُ «1» مشدّدا. التقدير في التخفيف ما كذب فؤاد محمد محمدا فيما راه وحذفت في كما حذفت «من» في قوله جلّ وعزّ من: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الأعراف: 155] . لأنه مما يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف. قال أبو جعفر: وهذا شرح بيّن ولا نعلم أحدا من النحويين بيّنه، ومن قرأ كذّب فزعم الفراء أنه يجوز أن يكون أراد صاحب الفؤاد. وأجاز أن يكون معنى «ما كذب» صدّق. والقراءة بالتخفيف أبين معنى، وبالتشديد يبعد لأن معناها قبله وإذا قبله الفؤاد أي علمه فلا معنى للتكذيب. والقراءة بالتخفيف بيّنة أي صدقه. واختلف أهل التأويل في معنى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى فقال ابن عباس وجماعة معه: رأى ربه جلّ وعزّ قال: وخصّ الله إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم بالخلّة وموسى بالتكليم ومحمدا صلّى الله عليه وسلّم بالرؤية كما جاء في الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت ربّي جلّ وعزّ فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى» «2» . والقول الأخر قول ابن مسعود وعائشة رضي الله عنهما أنه رأى جبرائيل على صورته وقد رفعه زرّ عن عبد الله أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «رأيت جبرائيل على صورته له ستمائة جناح عند سدرة المنتهى» «3» ورفعته عائشة أيضا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وردّت على ابن عباس ما قاله. [سورة النجم (53) : آية 12] أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) «4» صحيحه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وابن مسعود وابن عباس ومرويّه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهي قراءة مسروق وأبي العالية ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وبها قرأ النخعي غير أن أبا حاتم حكى أنه قال: لم يماروه وإنما جحدوه قال: وفي هذا طعن على جماعة من القراء تقوم بقراءتهم الحجة منهم الحسن وشريح وأبو جعفر والأعرج وشيبة ونافع وأبو عمرو وابن كثير والعاصمان. والقول في هذا أنهما قراءتان مستفيضتان قد قرأ بهما الجامعة غير أن الأولى من ذكرناه من الصحابة. فأما أن يقال: لم يماروه فعظيم لأن الله جلّ وعزّ قد أخبر أنّهم قد جادلوا، والجدال هو المراء ولا سيما في هذه القصة، وقد ماروه فيها حتّى قالوا له: سرت في ليلة واحدة إلى بيت المقدس فصفه لنا، وقالوا: لنا عير بالشام فأخبرنا خبرها، قال محمد بن يزيد: يقال مراه بحقّه يمريه إذا دفعه به ومنعه منه، قال و «على» بمعنى «عن» . قال أبو

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 96. (2) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير 7/ 155، وذكر في مناهل الصفا (32) ، ومختصر العلو للعلي الغفار- تحقيق الألباني 119. [.....] (3) أخرجه أحمد في مسنده 1/ 407، وابن كثير في البداية والنهاية 1/ 44. (4) انظر تيسير الداني 166، والبحر المحيط 8/ 156.

[سورة النجم (53) : الآيات 13 إلى 14]

جعفر: وذلك معروف في اللغة، وقد ذكرنا أن لغة بني كعب بن ربيعة رضي الله عليك أي عنك. [سورة النجم (53) : الآيات 13 الى 14] وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) أحسن ما قيل فيه وأصحّه أن الضمير يعود على شديد القوى، كما حدّثنا الحسن بن غليب قال: حدثنا محمد بن سوّار الكوفي قال: حدثنا عبدة بن سليمان عن سعيد عن أبي معشر عن إبراهيم عن مسروق قال: قالت عائشة رضي الله عنها: ثلاث من قال واحدة منهن فقد أعظم على الله جلّ وعزّ الفرية: من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم الفرية على الله وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً [لقمان: 34] . ومن زعم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم كتم شيئا من أمر الوحي فقد أعظم على الله الفرية والله جلّ وعزّ يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [المائدة: 67] ، ومن زعم أنّ محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله جل وعز الفرية والله جلّ ثناؤه يقول: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشورى: 51] والله يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] قلت: يا أمّ المؤمنين ألم يقل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: 23] قالت: أنا سألت عن ذلك نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «رأيت جبرائيل عليه السلام نزل سادّا الأفق على خلقه وهيبته أو خلقه وصورته» «1» . وقال الفراء «2» : «نزلة أخرى» مرّة أخرى. قال أبو جعفر: «نزلة» مصدر في موضع الحال، كما تقول: جاء فلان مشيا أي ماشيا، والتقدير ولقد راه نازلا نزلة أخرى أي في نزوله عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) متّصل براه. قال عكرمة عن ابن عباس: سألت كعبا عن سدرة المنتهى فقال: إليها ينتهي علم العلماء لا يعلم أحد ما وراءها إلّا الله جلّ وعزّ، وقال الربيع بن أنس: سمّيت سدرة المنتهى لأنه تنتهي إليه أرواح المؤمنين ومذهب الضّحاك أنه ينتهي إليها ما كان من أمر الله من فوقها أو من تحتها. قال أبو جعفر: وليس قول من هذه إلّا وهو محتمل لذلك، ولا خبر يقطع العذر في ذلك، والله جلّ وعزّ أعلم. [سورة النجم (53) : آية 15] عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) قال كعب: مأوى أرواح الشهداء، وقال قتادة: مأوى أرواح المؤمنين. ويقال: إنها الجنة التي أوى إليها أدم عليه السلام، وإنها في السماء السابعة. فأعلم الله جلّ وعزّ أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد أسري به إلى السماء السابعة على هذا. فأما من قرأ

_ (1) أخرجه الترمذي في سننه- التفسير 11/ 188، وفي البحر المحيط 8/ 157. (2) انظر معاني الفراء 3/ 96.

[سورة النجم (53) : الآيات 16 إلى 17]

جَنَّةُ الْمَأْوى «1» فتقديره جنّة سواد الليل. وهي قراءة شاذة قد أنكرها الصحابة سعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن عمر. وقال ابن عباس: هي مثل جَنَّاتُ الْمَأْوى [السجدة: 19] حجّة بيّنة مع إجماع الجماعة الذين تقوم بهم الحجة، وأيضا فإنه يقال: أجنّة الليل، وجنّ عليه، ولغة شاذة جنّة الليل. [سورة النجم (53) : الآيات 16 الى 17] إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) إِذْ متصلة براه. قال الربيع بن أنس: غشيها نور الرب والملائكة واقعة على الأشجار كالغربان، وكذا قال أبو العالية ويقال: إنه عن أبي هريرة مثله وزاد فيه. فهنالك كلّمه ربه جلّ وعزّ قال له سل: ما زاغَ الْبَصَرُ أي ما حاد يمينا وشمالا متحيّرا. وَما طَغى أي وما تجاوز ذلك من غير أن يتبيّنه. [سورة النجم (53) : آية 18] لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) قال ابن زيد: رأى جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم على صورته في السماء. [سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 20] أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) قال الكسائي: الوقوف عليه اللّاه، وقال غيره: الوقوف عليه اللّات. اشتقّوه من اسم الله جلّ وعزّ. وهو مكتوب في الصحف بالتاء. واشتقّوا العزّى من العزيز وَمَناةَ «2» من منى الله عزّ وجلّ عليه الشيء أي قدّره الثَّالِثَةَ الْأُخْرى نعت لمناة. [سورة النجم (53) : آية 21] أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) يجوز أن يكون مقدّما ما ينوى به التأخير، ويكون المعنى إن الّذين لا يؤمنون بالاخرة ليسمّون الملائكة تسمية الأنثى. أي يقولون هم بنات الله عزّ وجلّ ألكم الذكر الذي ترضوانه وله الأنثى التي لا ترضونها. [سورة النجم (53) : آية 22] تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) يقال: ضازه يضيزه ويضوزه إذا جار عليه.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 157 (وقرأ علي وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزرّ ومحمد بن كعب وقتادة (جنّه) بها الضمير، وجنّ فعل ماض، والهاء ضمير يعود إلى النبيّ، أي: عندها ستره إيواء الله تعالى وجميل صنعه) . (2) انظر تيسير الداني 166 (ابن كثير «ومناءة» بالمدج والهمز والباقون بغير مدّ ولا همز) .

[سورة النجم (53) : آية 23]

[سورة النجم (53) : آية 23] إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ قولهم الأوثان الهة والملائكة بنات الله. ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي من حجّة ولا وحي، وإنما هو شيء اخترفتموه. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أي ما يتّبعون في هذه التسمية إلّا الظنّ وهواهم. وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أي البيان بأن لا معبود سواه وأن عبادة هذه الأشياء شرك وكفر. [سورة النجم (53) : آية 24] أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) قيل: أي ليس له ذلك، وقال ابن زيد: أي إن كان محمد صلّى الله عليه وسلّم تمنّى شيئا فهو له. وشرح هذا القول إن كان محمد صلّى الله عليه وسلّم تمنّى الرسالة فقد أعطاه الله جلّ وعزّ فلا تنكروه. [سورة النجم (53) : آية 25] فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) يعطي من شاء ما يشاء. [سورة النجم (53) : آية 26] وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لو حذفت «من» لخفضت أيضا لأنه خبر و «كم» تخفض ما بعدها في الخبر مثل «ربّ» إلا أنّ «كم» للكثير وربّ للقليل. لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى في هذا تنبيه لهم وتوبيخ لأنهم قالوا ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] فأخبر الله جلّ وعزّ أنّ الملائكة صلوات الله عليهم وسلّم الذين هم أفضل الخلق عند الله جلّ وعزّ وأكثرهم عملا بالطاعة لا تغني شفاعتهم شيئا إلّا من بعد إذن الله عزّ وجلّ ورضاه فكيف تشفع الأصنام لهم. [سورة النجم (53) : الآيات 27 الى 28] إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) هو قولهم هم بنات الله عزّ وجلّ. ما لهم بذلك من علم مِنْ زائدة للتوكيد والموضع موضع رفع إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي لا ينفع من الحقّ ولا يقوم مقامه. [سورة النجم (53) : آية 29] فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) أي فدع من تولّى عن ذكرنا ولم يؤمن ولم يوحّد ولم يرد ثواب الآخرة ولم يرد إلا زينة الحياة الدنيا. [سورة النجم (53) : آية 30] ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ قال ابن زيد: ليس لهم علم إلّا الّذي هم فيه من الشرك

[سورة النجم (53) : آية 31]

والكفر ومكابرتهم ما جاء من عند الله جلّ وعزّ، وقال غيره: ذلك مبلغهم من العلم أنّهم اثروا ما يفنى من زينة الدنيا ورئاستها على ما يبقى من ثواب الآخرة إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ يكون أعلم بمعنى عالم ويجوز أن يكون على بابه بالحذف وسبيل الإسلام. وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى أي إلى طريق الحق وهو الإسلام وذلك في سابق علمه. [سورة النجم (53) : آية 31] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) تكون لام كي متعلقة بالمعنى أي ولله ما في السّموات وما في الأرض من شيء يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا أي كفروا وعصوا بِما عَمِلُوا، ويجوز أن يكون اللام متعلّقة بقوله جلّ وعزّ: لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسئوُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى عطف. قيل: الحسنى الجنة. وقال زيد بن أسلم. الَّذِينَ أَساؤُا الكفار والَّذِينَ أَحْسَنُوا المؤمنون. [سورة النجم (53) : آية 32] الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) الَّذِينَ بدل من الذين قبله يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ «1» الْإِثْمِ قال أبو جعفر: قد ذكرناه في سورة «حم عسق» . وَالْفَواحِشَ عطف على الكبائر إِلَّا اللَّمَمَ قد ذكرنا ما فيه من قول أهل التفسير. وهو منصوب على أنه استثناء ليس من الأول. ومن أصحّ ما قيل فيه وأجمعه لأقوال العلماء أنّه الصغائر ويكون مأخوذا من لممت بالشيء إذا قلّلت نيله. إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ أي لأصحاب الصغائر، ونظيره إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء: 31] هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ أي هو أعلم بما تعملون وما أنتم صائرون إليه حين ابتدأ خلق أبيكم من تراب، وحين أنتم أجنة في بطون أمهاتكم منكم لما أن كبرتم، ويجوز أن يكون اعلم بمعنى عالم فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ قال زيد بن أسلم: أي لا تبرئوها من المعاصي. قال: وشرح هذا لا تقولوا إنّا أزكياء. هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى المعاصي وخاف وأدى الفرائض. [سورة النجم (53) : آية 33] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) أي عن الإيمان. قال ابن زيد: نزلت في رجل أسلم فلقيه صاحبه فغيره وقال له:

_ (1) انظر تيسير الداني 158 (حمزة والكسائي بكسر الباء من غير ألف ولا همزة، والباقون بفتح الباء وبألف وهمزة بعدها) .

[سورة النجم (53) : آية 34]

أضللت أباك ونسبته إلى الكفر وأنت بتنصيرهم أولى فقال: خفت عذاب الله، فقال: أعطني شيئا وأنا أتحمّل عنك العذاب فأعطاه شيئا قليلا فتعاسر وأكدى، وكتب له كتابا وأشهد له على نفسه أنه يتحمّل عنه العذاب فنزلت أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى. [سورة النجم (53) : آية 34] وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أي عاسره، وعن ابن عباس «أكدى» منع، وقال مجاهد: قطع. [سورة النجم (53) : آية 35] أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أي أعلم أن هذا يتحمّل عنه العذاب، كما قال ويرى بمعنى يعلم حكاه سيبويه. [سورة النجم (53) : الآيات 36 الى 37] أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ أنه لا يعذّب أحد من أحد. وروى عكرمة عن ابن عباس وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى «1» قال: كان قبل إبراهيم عليه السلام فيؤخذ موضع رفع أي ذلك أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، والتقدير عند مجاهد: وفّى بما افترض عليه. قال محمد بن كعب: وفّى بذبح ابنه. وأولى ما قيل في معنى الآية بالصواب ما دلّ عليه عمومها أي وفّى بكل ما افترض عليه بشرائع الإسلام، ووفّى في العربية للتكثير. [سورة النجم (53) : آية 38] أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) «أن» في موضع نصب على البدل من «ما» ، ويجوز أن يكون في موضع رفع أي ذلك أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى والتقدير عند سيبويه أنه لا تزر وازرة. يقال: وزر يزر حمل الوزر. [سورة النجم (53) : آية 39] وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) بمعنى وأنه أيضا أي يجازى إنسان إلا بما عمل. [سورة النجم (53) : آية 40] وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) أن يظهر الناس يوم القيامة على ما عمله من خير أو شرّ لأنه يجازى عليه. قال أبو إسحاق: ويجوز وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) قال: وهذا عند الكوفيين لا يجوز منعوا أنّ زيدا ضربت، واعتلوا في ذلك بأنه خطأ لأنه لا يعمل في زيد عاملان وهما «أنّ»

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 164 (قرأ الجمهور وفّى بتشديد الفاء، وقرأ أبو أمامة الباهلي وسعيد بن جبير وأبو مالك الغفاري وابن السميفع وزيد بن علي بتخفيفها) .

[سورة النجم (53) : آية 41]

و «ضربت» وأجاز ذلك الخليل وسيبويه وأصحابهما ومحمد بن يزيد. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: سألت محمد بن يزيد فقلت له: أنت لا تجيز زيد ضربت وتخالف سيبويه فيه فكيف أجزت أنّ زيدا ضربت «وأنّ» تدخل على المبتدأ، فقال: هذا مخالف لذاك لأن «إنّ» لمّا دخلت اضطررت إلى إضمار الهاء لأن في الكلام عاملين. [سورة النجم (53) : آية 41] ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ مصدر، والهاء كناية عن السعي الأوفى لأن الله عزّ وجلّ أوفى لهم بما وعد وأوعد. [سورة النجم (53) : آية 42] وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) في موضع نصب اسم «أنّ» ألّا أنه مقصور لا يتبيّن فيه الإعراب، والمعنى: وأنّ إلى ربّك انتهاء جميع خلقه ومصيرهم فيجازيهم بأعمالهم الحسنة والسيّئة. [سورة النجم (53) : آية 43] وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) «هو» زائدة للتوكيد، ويجوز أن تكون صفة للهاء. فأما معنى أضحك وأبكى فقيل فيه: أضحك أهل الجنة بدخولهم الجنّة وأبكى أهل النار بدخولهم النار، وقيل: أضحك من شاء من الدنيا بأن سرّه وأبكى من شاء بأن غمّه والآية عامة. [سورة النجم (53) : آية 44] وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) أي أمات من مات وأحيا من حيي بأن جعل فيه الروح بعد أن كان نطفة. [سورة النجم (53) : آية 45] وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) كلّ واحد منهما زوج لصاحبه، والذكر والأنثى بدل من الزوجين. [سورة النجم (53) : آية 46] مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) أي إذا أمناها الرجل والمرأة. وقيل: هو من منى الله عليه الشيء إذا قدّره له. فالأول من «أمنى» ، وهذا من «منى» ويفعل في الثلاثي والرباعي واحد، لأن الرباعي يحذف منه حرف فتقول هو يكرم والأصل يؤكرم فحذفت الهمزة اتباعا لقولك: أنا أكرم وحذفت من أكرم لأنه لا يجتمع همزتان. [سورة النجم (53) : آية 47] وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) أي عليه أن ينشئ الزوجين بعد الموت.

[سورة النجم (53) : آية 48]

[سورة النجم (53) : آية 48] وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أقنى أرضى، وقال ابن زيد: أغنى بعض خلقه وأفقر بعضهم. قال أبو جعفر: يقال: أقنيت الشيء أي اتخذته عندي وجعلته مقيما فأقنى جعل له مالا مقيما. [سورة النجم (53) : آية 49] وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) قال مجاهد: هي الشّعرى التي خلف الجوزاء، وقال غيره: هما شعريان فالتي عبرت هي الشّعرى العبور الخارجة عن المجرة التي عبدها أبو كبشة في الجاهلية، وقال: رأيتها قد عبرت عن المنازل. [سورة النجم (53) : آية 50] وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) قراءة الكوفيين وبعض المكيين، وهي القراءة البيّنة في العربية حرّك التنوين لالتقاء الساكنين. وقراءة أبي عمرو وأهل المدينة وأنه أهلك عدا الولي «1» بإدغام التنوين في اللام. وتكلّم النحويون في هذا فقال محمد بن يزيد: هو لحن وقال غيره: لا يخلو من إحدى جهتين أن يصرف عادا فيقول: عادا الأولى، أو يمنعه الصرف يجعله اسما للقبيلة فيقول عاد الأولى. فأما عادا الأولى فمتوسط، فأما الاحتجاج بقراءة أهل المدينة وأبي عمرو فنذكره عن أبي إسحاق، قال: فيه ثلاثة لغات يقال: الأولى بتحقيق الهمزة ثم تخفّف الهمزة فتلقى حركتها على اللام فتقول: «الولي» ولا تحذف ألف الوصل لأنها تثبت مع ألف الاستفهام نحو آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يونس: 59] فخالفت ألفات الوصل فلم تحذف أيضا هاهنا. واللغة الثالثة أن يقال: «لولى» فتحذف ألف الوصل لأنها إنما اجتلبت لسكون اللام فلما تحركت اللام حذفت فعلى هذا قراءته عادا الولي أدغم التنوين في اللام. قال: وسمعت محمد بن الوليد يقول: لا يجوز إدغام التنوين في هذه اللام لأن هذه اللام أصلها السكون والتنوين ساكن فكأنه جمع بين ساكنين قال: وسمعته يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: ما علمت أن أبا عمرو بن العلاء لحن في صميم العربية في شيء من القرآن إلّا في يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [ال عمران: 75] وفي وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى قال: وأبى هذا أبو إسحاق واحتجّ بما قدّمنا. فأما الأولى فيقال: لا يكون أولى إلّا وثمّ أخرى فهل كان ثمّ عاد آخرة؟ فتكلّم في هذا جماعة من العلماء. فمن أحسن ما قيل فيه ما ذكره محمد بن إسحاق قال: عاد الأولى عاد بن إرم بن عوض بن سام بن نوح صلّى الله عليه وسلّم، وعاد الثانية بنو لقيم بن هزّال بن هزيل

_ (1) انظر تيسير الداني 166، وكتاب السبعة لابن مجاهد 615، والبحر المحيط 8/ 166.

[سورة النجم (53) : آية 51]

من ولد عاد الأكبر وكانوا بمكة في وقت أهلكت عاد الأولى مع بني عملاق. قال أبو إسحاق: فبقوا بعد عاد الأولى حتّى بغى بعضهم على بعض وقتل بعضهم بعضا. قال: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: عاد الآخرة ثمود، واستشهد على ذلك بقول زهير: [الطويل] 440- كأحمر عاد ثمّ ترضع فتفطم «1» يريد عاقر الناقة، وجواب ثالث أنه قد يكون شيء له أول ولا أخر له من ذلك نعيم أهل الجنة. [سورة النجم (53) : آية 51] وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) قال بعض العلماء: أي فلم يبقهم على كفرهم وعصيانهم حتّى أفناهم وأهلكم وهذا القول خطأ لأن الفاء لا يعمل ما بعدها فيما قبلها فلا يجوز أن تنصب ثمودا بأبقى، وأيضا فإن بعد الفاء «ما» وأكثر النحويين لا يجيز أن يعمل ما بعد ما فيما قبلها، والصواب أن ثمودا منصوب على العطف على عاد. [سورة النجم (53) : آية 52] وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَقَوْمَ نُوحٍ عطف أيضا. مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء. إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى أي أظلم لأنفسهم من هؤلاء وأطغى وأشدّ تجاوزا للظلم وقد بين ذلك قتادة وقال: كان الرجل منهم يمشي بابنه إلى نوح عليه السلام فيقول: يا بنيّ لا تقبل من هذا، فإنّ أبي مشى بي إليه وأوصاني بما أوصيتك به فوصفهم الله جلّ وعزّ بالظلم والطغيان. [سورة النجم (53) : آية 53] وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) وَالْمُؤْتَفِكَةَ منصوبة بأهوى. [سورة النجم (53) : آية 54] فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) الفائدة هي هذا معنى التعظيم أي ما غشّى مما قد ذكر لكم. قال قتادة: غشّاها الصخور أي بعد ما رفعها وقلبها.

_ (1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 20، ولسان العرب (سكف) ، و (شأم) ، وجمهرة اللغة (1328) ، وأساس البلاغة (شأم) ، وتاج العروس (كشف) ، و (شأم) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 11/ 436، وصدره: «فتنتج لكم غلمان أشأم كلّهم»

[سورة النجم (53) : آية 55]

[سورة النجم (53) : آية 55] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) أي قل يا محمد لمن يشك ويجادل بأيّ نعم ربّك تمتري أي تشكّ، وواحد الالاء إلى، ويقال: ألى وإلي وأليّ، أربع لغات قال قتادة: أي فبأي نعم ربك تتمارى المعنى يا أيها الإنسان فبأيّ نعم ربّك تتشكّك لأن المريّة الشكّ. [سورة النجم (53) : آية 56] هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) هذا نَذِيرٌ مبتدأ وخبره. ومذهب قتادة أن المعنى هذا محمد نذير، وشرحه أنّ المعنى: هذا محمد من المنذرين أي منهم في الجنس والصدق والمشاكلة وإذا كان مثلهم فهو منهم. ومذهب أبي مالك أن المعنى: هذا الذي أنذرتكم به من هلاك الأمم نذير. مِنَ النُّذُرِ الْأُولى قال أبو جعفر: وهذا أولى بنسق الآية لأن قبله أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [الآية: 3] فالتقدير هذا الذي أنذرتكم به من النذر المتقدّمة. [سورة النجم (53) : آية 57] أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: «الآزفة» من أسماء القيامة. قال: يقال أزف الشيء إذا قرب، كما قال: [الكامل] 441- أزف التّرحّل غير أنّ ركابنا ... لمّا نزل برحالنا وكأن قد «1» [سورة النجم (53) : آية 58] لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) قيل: معنى «كاشفة» المصدر أي كشفت مثل لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الواقعة: 2] وقال أبو إسحاق: «كاشفة» من يتبيّن متى هي، وقيل «كاشفة» من يكشف ما فيها من الجهد أي لوقعتها كاشف إلّا الله عزّ وجلّ ولا يكشفه إلّا عن المؤمنين، وتكون الهاء للمبالغة. [سورة النجم (53) : آية 59] أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) أي من أن أوحى إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم تعجبون.

_ (1) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 89، والأزهيّة 211، والأغاني 11/ 8، والجنى الداني 146، وخزانة الأدب 7/ 197، والدرر اللوامع 2/ 202، وشرح التصريح 1/ 36، وشرح شواهد المغني 490، وشرح المفصل 8/ 148، ولسان العرب (قدد) ، ومغني اللبيب 171، والمقاصد النحوية 1/ 80، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 56، وأمالي ابن الحاجب 1/ 455، وخزانة الأدب 9/ 8، ورصف المباني 72، وسرّ صناعة الإعراب 334، وشرح الأشموني 1/ 12، وشرح ابن عقيل 18، وشرح قطر الندى 160، وشرح المفصّل 10/ 110، ومغني اللبيب 342، والمقتضب 1/ 42، وهمع الهوامع 1/ 143.

[سورة النجم (53) : آية 60]

[سورة النجم (53) : آية 60] وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَتَضْحَكُونَ استهزاء. وَلا لما فيه من الوعيد وذكر العقاب. [سورة النجم (53) : آية 61] وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) أي لاهون معرضون عن آياته. [سورة النجم (53) : آية 62] فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) قال أبو إسحاق: المعنى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ ولا تسجدوا للات والعزّى ومناة وَاعْبُدُوا أي واعبدوا الله جلّ وعزّ وحده.

54 شرح إعراب سورة القمر

54 شرح إعراب سورة القمر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القمر (54) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ كسرت التاء لالتقاء الساكنين، ووجب أن تكون التاء ساكنة لأنها حرف جاء لمعنى، هذا قول البصريين. فأما قول الكوفيين فإنه لما كانت التاءات أربعا فضمّت تاء المخاطب وفتحت تاء المخاطب المذكّر وكسرت تاء المخاطبة المؤنثة فلم تبق حركة فسكّنت تاء المؤنثة الغائبة. والمعنى: اقتربت الساعة التي تقوم فيها القيامة فاحذروا منها لئلا تأتيكم فجأة وأنتم مقيمون على المعاصي وَانْشَقَّ الْقَمَرُ معطوف على اقتربت معناه المضيء. [سورة القمر (54) : آية 2] وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا شرط وجوابه. والمعنى أنّهم سألوا آية فأروا القمر منشقّا فرأوا آية تدل على حقيقة أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأن ما جاء به صدق فأعرضوا عن التصديق وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ على إضمار مبتدأ أي هذا سحر مستمر. [سورة القمر (54) : آية 3] وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أي كذّبوا بحقيقة ما رأوه وتيقّنوه واثروا اتباع أهوائهم في عبادة الأوثان وترك ما أمرهم الله به أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ مبتدأ وخبر. والمعنى: وكلّ أمر من خير أو شرّ مستقرّ قراره ومتناه منتهاه. [سورة القمر (54) : آية 4] وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) أي ولقد جاء هؤلاء المشركين من أخبار الأمم الذين فعلوا كفعلهم فأهلكوا ما فيه منتهى عمّا هم عليه، كما قال مجاهد: مزدجر منتهى. والأصل عند سيبويه «1» مزتجر

_ (1) انظر الكتاب 4/ 600.

[سورة القمر (54) : الآيات 5 إلى 6]

بالتاء إلّا أن التاء مهموسة والزاي مجهورة فثقل الجمع بينهما فأبدل من التاء ما هو من مخرجها وهو الدال. قال أبو جعفر: وهذا من أوجز قوله ولطيفه. [سورة القمر (54) : الآيات 5 الى 6] حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) حِكْمَةٌ بدل من «ما» والتقدير ولقد جاءهم حكمة بالِغَةٌ أي ليس فيها تقصير، ويجوز أن تكون حكمة مرفوعة على إضمار مبتدأ فَما تُغْنِ النُّذُرُ ويجوز أن تكون «ما» في موضع نصب بتغني. والتقدير: فأيّ شيء تغني النذر عمّن اتّبع هواه وخالف الحقّ، ويجوز أن تكون ما نافية لا موضع لها. وزعم قوم أن الياء حذفت من تغن في السواد لأن «ما» جعلت بمنزلة «لم» . قال أبو جعفر: هذا خطأ قبيح لأن «ما» ليست من حروف الجزم، وهي تقع على الأسماء والأفعال فمحال أن تجزم ومعناهما أيضا مختلف: لأنّ «لم» تجعل المستقبل ماضيا و «ما» تنفي الحال. فأما حذف الياء من «تغن» في السواد فإنه على اللفظ في الإدراج ومثله يوم يدع الداعي إلى شيء نكر «1» تكتب بغير واو على اللفظ في الإدراج. فأما الداعي إذا حذفت منه الياء فالقول فيه أنه بني على نكرته. فأما البيّن فأن يكون هذا كله مكتوبا بغير حذف. [سورة القمر (54) : الآيات 7 الى 8] خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) خُشَّعاً «2» منصوب على الحال. أَبْصارُهُمْ مرفوع بفعله هذه قراءة أهل الحرمين، وقرأ أهل الكوفة وأهل البصرة خاشعا أبصارهم وعن ابن مسعود خاشعة أبصارهم فمن قال خاشعا وحّد، لأنه بمنزلة الفعل المتقدم، ومن قال: خاشعة أنّث كتأنيث الجماعة، ومن قال خشّعا جمع لأنه جمع مكسّر فقد خالف الفعل، ولو كان في غير القرآن جاز الرفع على التقديم والتأخير. يَخْرُجُونَ في موضع نصب على الحال أيضا مِنَ الْأَجْداثِ واحدها جدث، ويقال: جدف للقبر، مثل فوم وثوم كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ في موضع نصب على الحال وكذا قوله: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ مبتدأ وخبره. [سورة القمر (54) : آية 9] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ على تأنيث الجماعة. فَكَذَّبُوا عَبْدَنا يعني نوحا. وَقالُوا مَجْنُونٌ على إضمار مبتدأ وَازْدُجِرَ أي زجر وتهدّد بقولهم: لئن لم تنته لنرجمنّك «3» .

_ (1) انظر تيسير الداني 166 (قرأ ابن كثير «نكر» بإسكان الكاف والباقون بضمّها) ... (2) انظر القراءات المختلفة في البحر المحيط 8/ 173، وتيسير الداني 167، ومعاني الفراء 3/ 105، وكتاب السبعة لابن مجاهد 618. [.....] (3) يشير إلى الآية 116، من سورة الشعراء: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ.

[سورة القمر (54) : آية 10]

[سورة القمر (54) : آية 10] فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ أي بأني قد غلبت وقهرت، وقرأ عيسى بن عمر فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ «1» بكسر الهمزة. قال سيبويه أي قال: إني مغلوب فَانْتَصِرْ أي لي بعقابك إياهم. [سورة القمر (54) : آية 11] فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ التقدير: فنصرناه ففتحنا أبواب السماء: لأن ما ظهر من الكلام يدلّ على ما حذف. بِماءٍ مُنْهَمِرٍ أي مندفق. قال سفيان منهمر ينصبّ انصبابا، وقال الشاعر: [الرمل] 442- راح تمريه الصّبا ثم انتحى ... فيه شؤبوب جنوب منهمر «2» [سورة القمر (54) : آية 12] وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً جمع عين في العدد، وقراءة الكوفيين عُيُوناً بكسر العين، والأصل الضمّ فأبدل من الضمة كسرة استثقالا للجمع بين ضمة وياء فَالْتَقَى الْماءُ «3» والتقى لا يكون إلّا الاثنين. المعنى: فالتقى ماء الأرض وماء السماء، وهما جميعا يقال لهما ماء لأنّ ماء اسم للجنس. قال أبو الحسن بن كيسان: الأصل في ماء ماه فأبدلوا من الهاء همزة فإذا جمعوا ردّوه إلى أصله فقالوا: أمواه ومياه، ومويه في التصغير عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ «4» قيل: أي قدّره الله جلّ وعزّ في اللوح المحفوظ، وقيل: قدر ماء الأرض كماء السّماء. [سورة القمر (54) : آية 13] وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ أي على سفينة ذات ألواح وَدُسُرٍ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الدّسر المسامير، وكذا قال محمد بن كعب وقتادة وابن زيد، وقال الحسن: الدّسر صدر السفينة، وقال الضحاك: الدّسر طرف السفينة. قال: وأصل هذا من دسره يدسره ويدسره دسرا إذا شدّه ودفعه. [سورة القمر (54) : آية 14] تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أي بمرأى منّا ومسمع، وقيل بأمرنا. وأعين جمع في القليل،

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 147، والبحر المحيط 8/ 175. (2) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص 145. (3) انظر البحر المحيط 8/ 175 (وقرأ علي والحسن ومحمد بن كعب والجحدري «الماءان» ، وقرأ الحسن «الماوان» ) . (4) انظر البحر المحيط 8/ 176 (وقرأ أبو حيوة «قدّر» بشدّ الدال، والمجهور بتخفيفها) .

[سورة القمر (54) : آية 15]

ويقال: أعيان، مثل بيت وأبيات. جَزاءً مصدر. لِمَنْ كانَ كُفِرَ في معناه أقوال. قال ابن زيد: «من» بمعنى «ما» ، وتقديره عنده للذي كفر من النعم وجحد. قال: وهذا يمنعه أهل العربية جميعا، ومذهب مجاهد. أن المعنى جزاء لله. قال أبو جعفر: وهذا قول حسن أي عاقبناهم وعرفناهم جزاء لله جلّ وعزّ حين كفروا به وجحدوا وحدانيته فقالوا لا تذرنّ الهتكم ولا تذرنّ ودّا ولا سواعا، وقيل: جزاء لمن كان كفر على لفظ «من» ، ولو كان في غير القرآن لجاز على هذا القول كفروا على المعنى. [سورة القمر (54) : آية 15] وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً قيل: المعنى: ولقد تركنا هذه العقوبة لمن كفر وجحد الأنبياء صلّى الله عليه وسلّم عظة وعبرة، ومذهب قتادة ولقد تركنا السفينة آية. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ هذه قراءة الجماعة وهي صحيحة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما رواه شعبة وغيره عن ابن إسحاق عن الأسود عن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ بالدال غير معجمة، وقال يعقوب القارئ: قرأ قتادة فهل من مذّكر «1» بالذال معجمة. قال أبو جعفر: مدّكر أولى لما ذكرنا من الاجتماع في العربية والأصل عند سيبويه «2» مذتكر فاجتمعت الذال وهي مجهورة أصلية والتاء وهي مهموسة زائدة فأبدلوا من التاء حرفا مجهورا من مخرجها فصار مذدكر، فأدغمت الذال في الدال فصار مدّكر، ممن قال مذّكر أدغم الدال في الذال، وليس على هذا كلام العرب إنما يدغمون الأول في الثاني. [سورة القمر (54) : آية 16] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) أي فكيف كان عقابي لمن كفر بي وعصاني وبإنذاري وتحذيري من الوقوع في مثل ذلك. [سورة القمر (54) : آية 17] وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ قال ابن زيد: أي بيّنا، وقال مجاهد: هوّنّا، وقيل: التقدير: ولقد سهّلنا القرآن بتبييننا إياه وتفصيلنا لمن أراد أن يتذكّره فيعتبر به. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يتذكّر ما فيه، وقيل هل من طالب خيرا أو علما فيعان عليه، فهذا قريب من الأول لأن الأول أبين على ظاهر الآية. [سورة القمر (54) : آية 18] كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) كَذَّبَتْ عادٌ قال أبو جعفر: في هذا حذف قد عرف معناه أي كذّبت عاد هودا

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 176. (2) انظر الكتاب 4/ 601.

[سورة القمر (54) : آية 19]

كما كذّبت قريش محمدا صلّى الله عليه وسلّم فليحذروا مثل ما نزل بهم فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ «فكيف» في موضع نصب على خبر كان إلّا أنها مبنية لأن فيها معنى الاستفهام وفتحت لالتقاء الساكنين. [سورة القمر (54) : آية 19] إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أهل التفسير يقولون: الصّرصر الباردة، وقال بعض أهل اللغة: إنما يقال لها صرصر إذا كان لها صوت شديد من قولهم صرّ الشيء إذا صوّت، والأصل صرر فأبدل من إحدى الراءات صاد. فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ قال بعض أهل التفسير: النحس الشديد، ولو كان كما قال لكان يوم منونا ولقيل: نحس ولم يضف. [سورة القمر (54) : آية 20] تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) تَنْزِعُ النَّاسَ قيل: تنزعهم من الحفر التي كانوا حفروها كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ النخل تذكّر وتؤنّث لغتان جاء بها القرآن وزعم محمد بن جرير «1» أنّ في الكلام حذفا، وأن المعنى تنزع النّاس فتتركهم كأعجاز نخل. قال: فتكون الكاف على هذا في موضع نصب بالفعل المحذوف، وهذا لا يحتاج إلى ما قاله من الحذف. والقول فيه ما قاله أبو إسحاق قال: هو في موضع نصب على الحال أي تنزع الناس أمثال نخل منقعر أي في هذه الحال. قال أبو جعفر: وهذا القول حقيقة الإعراب فإن كان على تساهل المعنى فالمعنى يؤول إلى ما قاله محمد بن جرير. وقد روى محمد بن إسحاق قال: لمّا هاجت الريح قام نفر سبعة من عاد فاصطفوا على باب الشّعب فسدّوا الريح عمّن في الشّعب من العيال، فأقبلت الريح تجيء من تحت واحد واحد ثم تقلعه فتقلبه على رأس فتدقّ عنقه حتّى أهلكت ستّة وبقي واحد يقال له: الخلجان فجاء إلى هود صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ما هؤلاء الذين أراهم كالبخاتي «2» تحت السحاب قال: هؤلاء الملائكة عليهم السلام قال: إن أسلمت فما لي قال: تسلم قال: أيقيدني ربّك من هؤلاء الذين في السحاب؟ قال: ويلك هل رأيت ملكا يقيد من جنده؟ قال: لو فعل ما رضيت قال: فرجع إلى موضعه، وأنشأ يقول: [الراجز] 443- لم يبق إلّا الخلجان نفسه ... يا شرّ يوم قد دهاني أمسه «3» ثم لحقه ما لحق أصحابه فصاروا كما قال جلّ وعزّ: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ. وقال مجاهد في تشبيههم بأعجاز نخل منقعر: لأنه قد بانت أجسادهم من رؤوسهم

_ (1) انظر تفسير الطبري 27/ 99. (2) البخاتي: جمع البختيّة، وهي جمال طوال الأعناق (تاج العروس «بخت» ) . (3) الشاهد بلا نسبة في تفسير الطبري 27/ 99.

[سورة القمر (54) : الآيات 21 إلى 22]

فصاروا أجساما بلا رؤوس، وقال بعض أهل النظر: التشبيه للحفر التي كانوا فيها قياما صارت الحفر كأنها أعجاز نخل. قال أبو جعفر: وهذا القول قول خطأ، ولو كان كما قال كان كأنّها أو كأنّهن، وأيضا فإنّ الحفر لم يتقدّم لها ذكر فيكنى عنها. وأيضا فالتشبيه بالقوم أولى ولا سيما وهو قول من يحتجّ بقوله. [سورة القمر (54) : الآيات 21 الى 22] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) أي فكيف كان عذابي إيّاهم على الكفر وإنذاري إيّاكم أن ينزل بكم ما نزل بهم. قال أبو إسحاق: نذر جمع نذير. [سورة القمر (54) : آية 23] كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) لم يصرف ثمود: لأنه اسم للقبيلة ويجوز صرفه على أنه اسم للحيّ. [سورة القمر (54) : آية 24] فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ نصبت بشرا بإضمار فعل والمعنى: أنتّبع بشرا منّا واحدا ونحن جماعة؟ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أي في حيرة عن الطريق المستقيم وأخذ على العوج، ولا تعمل إذن إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها. وَسُعُرٍ يكون جمع سعير، ويكون مصدرا من قولهم سعر الرجل إذا طاش. [سورة القمر (54) : آية 25] أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا استفهام فيه معنى التوقيف. بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ الكوفيون يقولون: «بل» لا تكون إلّا بعد نفي فيحملون مثل هذا على المعنى لأن معنى ألقي عليه الذكر لم يلق عليه. [سورة القمر (54) : الآيات 26 الى 27] سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) سَيَعْلَمُونَ غَداً الأصل عند سيبويه غدو حذفت منه الواو. مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ مبتدأ وخبره في موضع نصب بسيعلمون، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة ستعلمون غدا «1» وأبو عبيد يميل إلى القراءة بالياء لأن بعده إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ ولم يقل: لكم. قال أبو جعفر: التقدير لمن قرأ بالياء قال الله جلّ وعزّ: سَيَعْلَمُونَ غَداً، والقول يحذف كثيرا. والأصل إنّا مرسلون حذفت النون تخفيفا وأضيف فتنة

_ (1) انظر تيسير الداني 167، وكتاب السبعة لابن مجاهد 618، والبحر المحيط 8/ 179.

[سورة القمر (54) : آية 28]

لهم. قال أبو إسحاق: فتنة مفعول له، وقال غيره: هو مصدر أي فتناهم بذلك وابتليناهم. وكان ابتلاؤهم في ذلك أنّ الناقة خرجت لهم من صخرة صماء ناقة عظيمة فآمن بعضهم وكانت لعظمها كثيرة الأكل فشكوا ذلك إلى صالح صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: قد أفنت الحشائش والأعشاب ومنعتنا من الماء، فقال: ذروها تأكل في أرض الله ولا تمسّوها بسوء، ترد الماء يوما، وتردون يوما فكانت هذه الفتنة. فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ أي فاصبر على ارتقابك إيّاهم، والأصل واصتبر أبدل من التاء طاء لأن الطاء أشبه بالصاد لأنهما مطبقتان. قال أبو إسحاق: ينطبق الحنك على اللسان بهما، قال أيضا: وهما أيضا مطبقتان في الخطّ. [سورة القمر (54) : آية 28] وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ أي ذو قسمة مثل قولك: رجل عدل. كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ مبتدأ وخبر. أي تحضر الناقة يوما وهم يوما، وغلّب المذكّر على المؤنّث فقيل بينهم. [سورة القمر (54) : آية 29] فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ وهم التسعة الذين انفردوا لعقر الناقة فنادى ثمانية منهم قدارا، فقالوا: هذه الناقة قد أقبلت فَتَعاطى فَعَقَرَ قيل: أي فتعاطى قتلها وحقيقته في اللغة فتناول الناقة فقتلها، من قولهم عطوت إذا تناولت، كما قال: [الطويل] 444- وتعطو برخص غير شثن كأنّه ... أساريع ظبي أو مساويك إسحل «1» [سورة القمر (54) : آية 30] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي أي عقابي إيّاهم على عصيانهم أي فاحذروا المعاصي. وَنُذُرِ أي إنذاري إياكم أن ينزل بكم ما نزل بهم. [سورة القمر (54) : آية 31] إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وهذا من التمثيل العجيب لأن الهشم ما يبس من الشجر وتهشّم فصار يحظر به بعد أن كان أخضر ناضرا أي صاروا بعد النعمة رفاتا، وبعد البهجة حطاما كهيئة الشجر. وروي عن ابن عباس «كهشيم المحتظر» أي كالعظام المحترقة. قال أبو جعفر: وحقيقة هذا القول في اللغة كهشيم قد حظر به وأحرق: وقال ابن زيد: هو الشوك

_ (1) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 17، وجمهرة اللغة 363، وشرح المفصّل 6/ 92، و 7/ 144، ولسان العرب (سرع) و (سحل) و (ششن) ، و (ظبا) ، والمنصف 3/ 58، وتاج العروس (سحل) ، و (ششن) ، و (ظبا) .

[سورة القمر (54) : آية 33]

تجعله العرب حوالى الغنم مخافة السبع. والتقدير في العربية كهشيم الرجل المحتظر، ومن قرأ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ «1» فتقديره كهشيم الشيء الذي قد احتظر. [سورة القمر (54) : آية 33] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) أي بالآيات التي أنذروا بها. [سورة القمر (54) : آية 34] إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً أي حجارة تحصبهم. إِلَّا آلَ لُوطٍ نصب على الاستثناء، وال الرجل كلّ من كان على دينه ومذهبه كما قال جلّ وعزّ لنوح صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: 46] وهو ابنه وال بمعنى واحد، إلّا أن النحويين يقولون: الأصل في ال أهل، والدليل على ذلك أنّ العرب إذا صغّرت الا قالت: أهيل. نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ قال الفراء «2» : سحر هاهنا يجري لأنه نكرة كقولك: نجّيناهم بليل. قال أبو جعفر: وهذا القول قول جميع النحويين لا نعلم فيه اختلافا إلّا أنه قال بعده شيئا يخالف فيه قال: فإذا ألقت العرب من سحر الباء لم يجروه فقالوا: فعلت هذا سمر يا هذا. قال أبو جعفر: وقول البصريين أنّ سحر إذا كان نكرة انصرف وإذا كان معرفة لم ينصرف، ودخول الباء وخروجها واحد. والعلّة فيه عند سيبويه «3» أنه معدول عن الألف واللام لأنه يقال: أتيتك أعلى السّحر فلما حذفت الألف واللام وفيه نيتهما اعتلّ فلم ينصرف تقول: سير بزيد سحر يا هذا، غير مصروف. ولا يجوز رفعه لعلّة ليس هذا موضع ذكرها. [سورة القمر (54) : آية 35] نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا قال أبو إسحاق: نصبت نعمة لأنها مفعول لها، قال: ويجوز الرفع بمعنى تلك نعمة من عندنا. كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ الكاف في موضع نصب أي نجزي من شكر جزاء كذلك النجاء. [سورة القمر (54) : آية 36] وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا أي التي بطشنا بهم. فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ أي كذّبوا بها شكّا، كما قال قتادة في فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ أي لم يصدّقوا بها. [سورة القمر (54) : آية 37] وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37)

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 180، ومعاني الفراء 3/ 108. (2) انظر معاني الفراء 3/ 109. [.....] (3) انظر الكتاب 3/ 314.

[سورة القمر (54) : الآيات 38 إلى 40]

وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ «وضيف» بمعنى أضياف لأنه مصدر فلذلك لا تكاد العرب تثنيه ولا تجمعه، وحقيقته في العربية عن ذوي ضيفه. فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ يقال: طمس عينه وعلى عينه إذا فعل بها فعلا يصير بها مثل وجهه لا شقّ فيها ويقال طمست الريح الأعلام إذا سفت عليها التراب فغطّتها به، كما قال: [البسيط] 445- من كلّ نضّاخة الذّفرى إذا عرقت ... عارضها طامس الأعلام مجهول «1» فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أي فقالت لهم الملائكة عليهما السلام: فذوقوا عذاب الله وعقابه ما أنذركم به. [سورة القمر (54) : الآيات 38 الى 40] وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) قال سفيان: كان مع الفجر صرفت بكرة هاهنا لأنها نكرة، وزعم الفراء «2» أن غدوة وبكرة يجريان ولا يجريان، وزعم أنّ الأكثر في غدوة ترك الصرف، وفي بكرة الصرف. قال أبو جعفر: قول البصريين أنهما لا ينصرفان في المعرفة وينصرفان في النكرة فإن زعم زاعم أنّ الأولى ما قال الفراء لأن بكرة هاهنا مصروف قيل له: هذا لا يلزم لأن بكرة هاهنا نكرة وكذا سحر، والدليل على ذلك أنه لم يقل: أهلكوا في يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا بكرة فتكون معرفة فلما وجب أن تكون نكرة لم يكن فيها ذكر حجّة ولا سيما وفيه الهاء قيل: عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ أي يستقرّ عليهم حتّى أهلكهم. [سورة القمر (54) : آية 41] وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) أي أهل دينه والقائلين بقوله كما مرّ. «قد» إذا وقعت مع الماضي دلّت على التوقّع وإذا كانت مع المستقبل دلّت على التقليل نقول: قد يكرمنا فلان أي ذلك يقلّ منه. [سورة القمر (54) : آية 42] كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها في معناه قولان: أحدهما أن المعنى: كذّبوا بآياتنا التي أريناهم إيّاها كلّها والآخر أنه على التكثير، كما حكى سيبويه ما بقي منهم مخبّر. فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ قال قتادة: عزيز في انتقامه، وقال لي غيره: عزيز لا يغلب مقتدر على ما يشاء.

_ (1) الشاهد لكعب بن زهير في ديوانه ص 9، ولسان العرب (نضخ) ، و (عرض) ، وتاج العروس (نضخ) و (عرض) . (2) انظر معاني الفراء 3/ 109.

[سورة القمر (54) : آية 43]

[سورة القمر (54) : آية 43] أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ مبتدأ وخبره قال: وهذا على التوقيف كما حكى سيبويه: الشّقاء أحبّ إليك أم السعادة؟ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ أي أكتب لكم أنكم لا تعذّبون. [سورة القمر (54) : آية 44] أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) على اللفظ ولو كان على المعنى قيل: منتصرون. [سورة القمر (54) : آية 45] سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ قال أهل التفسير: ذلك يوم بدر. وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ واحد بمعنى الجمع: كما يقال: كثر الدّرهم. [سورة القمر (54) : آية 46] بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ من قال: «بل» لا يكون إلا بعد نفي قال: المعنى: ليس الأمر كما يقولون إنهم لا يبعثون بل الساعة موعدهم. وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ أي من هزيمتهم وتولّيهم. [سورة القمر (54) : آية 47] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ أي ذهب عن الحق. وَسُعُرٍ أي نار تسعّر. [سورة القمر (54) : آية 48] يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ وفي قراءة ابن مسعود إلى النار «1» وهذه القراءة على التفسير، كما روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه «يحضر المقتول بين يدي الله جلّ وعزّ فيقول له: فيم قتلت؟ فيقول: فيك، فيقول: كذبت أردت أن يقال: فلان شجاع فقد قيل: فيؤمر به فيسحب على وجهه إلى النار» «2» . ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أي يقال لهم. [سورة القمر (54) : آية 49] إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) «3» فدلّ بهذا على أنّهم يعذّبون على كفرهم بالقدر. وزعم سيبويه أن نصب «كلّ»

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 110، والبحر المحيط 8/ 181. (2) أخرجه الترمذي في سننه- الزهد 9/ 225. (3) انظر البحر المحيط 8/ 181 (قراءة الجمهور بالنصب، وقرأ أبو السمال وقوم من أهل السنة بالرفع) .

[سورة القمر (54) : آية 50]

على لغة من قال: زيدا ضربته. وفي نصبه قولان آخران: أما الكوفيون فقالوا: «إنّا» تطلب الفعل والفعل بها أولى من الاسم، والمعنى إنا خلقنا كلّ شيء، قالوا: وليس هذا مثل قولنا: زيدا ضربته: لأنه ليس هاهنا حرف هو بالفعل أولى. ألا ترى أنك تقول: أزيدا ضربته فيكون النصب أولى: لأن هاهنا حرف هو بالفعل أولى والقول الثالث أنه إنما جاز هذا بالنصب وخالف زيد ضربته ليدل ذلك على خلق الأشياء فيكون فيه ردّ على من أنكر خلق الأفعال. [سورة القمر (54) : آية 50] وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ مبتدأ وخبره. وقال علي بن سليمان: المعنى إلّا أمرة واحدة. وزعم الفراء: أنه روي وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ «1» بالنصب كما يقال: ما فلان إلّا ثيابه ودابّته أي إلّا يتعهّد ثيابه ودابته وكما حكى الكسائي: ما فلان إلّا عمّته أي يتعهّد عمّته. كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أي في سرعته. [سورة القمر (54) : آية 51] وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) فيه قولان: أحدهما أن أشياعهم هم الذين أهلكوا من قبلهم لأنهم كفروا كما كفروا فهل من متّعظ بذلك، وسمّوا أشياعهم لأنهم كذّبوا كما كذّبوا. والقول الآخر أن أشياعهم هم الذين كانوا يعاونونهم على عداوة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين فأهلكوا فهل من متّعظ منكم بذلك. والقول الأول عليه أهل التأويل. [سورة القمر (54) : آية 52] وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) الهاء في فعلوه تعود على الأشياع في الزبر مكتوب عليهم قد كتبته الحفظة. [سورة القمر (54) : آية 53] وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) يقال: سطر واستطر إذا كتب سطرا. [سورة القمر (54) : آية 54] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي الذين اتقوا عقاب الله جلّ وعزّ باجتناب محارمه وأداء فرائضه فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ قال أبو إسحاق: «نهر» بمعنى أنهار. قال أبو جعفر: وأنشد الخليل وسيبويه: [الرجز] 446- في حلقكم عظم وقد شجينا «2»

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 111. (2) الرجز بلا نسبة في الكتاب 1/ 270، ولطفيل في جمهرة اللغة ص (1041) ، والمحتسب 2/ 87، وللمسيب بن زيد مناة في شرح أبيات سيبويه 1/ 212، ولسان العرب (شجا) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب 7/ 559، وشرح المفصّل 6/ 32، ولسان العرب (نهر) وسمع و (أمم) و (مأى) والمقتضب 2/ 172. وقبله: «لا تنكروا لقتل وقد سبينا» .

[سورة القمر (54) : آية 55]

[سورة القمر (54) : آية 55] فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ أي في مجلس حقّ لا لغو فيها ولا باطل. عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ أي يقدر على ما يشاء.

55 شرح إعراب سورة الرحمن

55 شرح إعراب سورة الرحمن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) الرَّحْمنُ (1) رفع بالابتداء وخبره عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) أي من رحمته علّم القرآن فبصّر به رضاه الذي يقرّب منه وسخطه الذي يباعد منه ومن رحمته. [سورة الرحمن (55) : الآيات 3 الى 4] خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) فهو خبر بعد خبر. [سورة الرحمن (55) : آية 5] الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مبتدأ، وقيل: الخبر محذوف أي يجريان بِحُسْبانٍ وقيل: الخبر بِحُسْبانٍ. [سورة الرحمن (55) : آية 6] وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: النجم ما تبسّط على الأرض من الزرع يعني البقل ونحوه، قال: والشجر ما كان على ساق. قال أبو جعفر: وهذا أحسن ما قيل في معناه أي يسجد له كل شيء أي ينقاد لله جلّ وعزّ. [سورة الرحمن (55) : آية 7] وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) وَالسَّماءَ رَفَعَها نصبت بإضمار فعل يعطف ما عمل فيه لفعل على مثله وَوَضَعَ الْمِيزانَ قال الفراء «1» : أي العدل، وقال غيره: هو الميزان الذي يوزن به.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 113.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 8 إلى 9]

[سورة الرحمن (55) : الآيات 8 الى 9] أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) «أن» في موضع نصب، والمعنى: بأن لا تطغوا، وتَطْغَوْا في موضع نصب بأن، ويجوز أن يكون «أن» بمعنى أي فلا يكون لها موضع من الإعراب، ويكون تطغوا في موضع جزم بالنهي. قال أبو جعفر: وهذا أولى لأن بعده وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وقرأ بلال بن أبي بردة وَلا تُخْسِرُوا «1» بفتح التاء. وهي لغة معروفة. [سورة الرحمن (55) : آية 10] وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) نصب الأرض بإضمار فعل. [سورة الرحمن (55) : آية 11] فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) فِيها فاكِهَةٌ مبتدأ. وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ عطف عليه. الواحد كمّ وهو ما أحاط بها من ليف وسعف وغيرهما. [سورة الرحمن (55) : آية 12] وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) وَالْحَبُّ مرفوع على أنه عطف على فاكهة أي وفيها الحبّ. ذُو الْعَصْفِ نعت له. وَالرَّيْحانُ عطف أيضا. وقراءة الأعمش وحمزة والكسائي. ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ «2» بالخفض بمعنى وذو الريحان. [سورة الرحمن (55) : آية 13] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: فبأيّ نعم ربّكما. قال أبو جعفر: فإن قيل: إنما تقدّم ذكر الإنسان فكيف وقعت المخاطبة لشيئين؟ ففي هذا غير جواب منها أن الأنام يدخل فيه الجنّ والإنس فخوطبوا على ذلك، وقيل: لمّا قال جلّ وعزّ: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ [الحجر: 27] وقد تقدم ذكر الإنسان خوطب الجميع وأجاز الفراء «3» . أن يكون على مخاطبة الواحد بفعل الاثنين، وحكى ذلك عن العرب. [سورة الرحمن (55) : آية 14] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الصّلصال الطين اليابس. فالمعنى على هذا خلق الإنسان من طين يابس يصوّت كما يصوّت الطين الذين قد مسّته النار. وهو الفخار. وقيل: الصلصال المنتن فعلان، من صلّ اللحم إذا أنتن، ويقال أصلّ.

_ (1) انظر مختصر ابن خالويه 149، والبحر المحيط 8/ 188، وهذه قراءة زيد بن علي أيضا. (2) انظر البحر المحيط 8/ 189، وهذه قراءة حمزة والكسائي والأصمعي عن أبي عمرو. (3) انظر معاني الفراء 3/ 114.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 15 إلى 16]

[سورة الرحمن (55) : الآيات 15 الى 16] وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) قيل: المارج مشتقّ من مرج الشيء إذا اختلط، والمارج من بين أصفر وأخضر وأحمر، وكذا لسان النار. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ قال: هو من خالص النار. [سورة الرحمن (55) : آية 17] رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) رفع على إضمار مبتدأ يجوز أن يكون بدلا من المضمر الذي في «خلق» ، ويجوز الخفض «1» بمعنى: فبأيّ آلاء ربّكما ربّ المشرقين وربّ المغربين، ويجوز النصب بمعنى أعني. [سورة الرحمن (55) : آية 18] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) ليس بتكرير لأنه إنما أتى بعد نعم أخرى سوى التي تقدّمت. [سورة الرحمن (55) : آية 19] مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: مرج أرسل. واختلف العلماء في معنى البحرين هاهنا فقال الحسن وقتادة: هما بحر الروم وبحر فارس، وقال سعيد بن جبير وابن أبزى: هما بحر السماء وبحر الأرض، وكذا يروى عن ابن عباس إلّا أنه قال: يلتقيان كلّ عام. وقول سعيد بن جبير وابن أبزى يذهب إليه محمد بن جرير لعلّة أوجبت ذلك عنده نذكرها بعد هذا. [سورة الرحمن (55) : الآيات 20 الى 21] بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) قال بعض أهل التفسير: لا يبغيان على الناس، وقال بعضهم: لا يبغي أحدهما على الآخر. وظاهر الآية يدل على العموم. [سورة الرحمن (55) : الآيات 22 الى 23] يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وقراءة يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة يَخْرُجُ «2» والضمّ أبين لأنه إنما يخرج إذا أخرج. وتكلّم العلماء في معنى يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ فمذهب الفراء «3» أنه إنما

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 189 (قرأ الجمهور بالرفع، وأبو حيوة وابن أبي عبلة بالخفض بدلا من «ربّكما» ) . (2) انظر البحر المحيط 8/ 190 (قرأ الجمهور «الخرج» مبنيا للفاعل، ونافع وأبو عمرو وأهل المدينة مبنيا للمفعول، والجعفي عن أبي عمرو بالياء مضمومة وكسر الراء) . [.....] (3) انظر معاني الفراء 3/ 115.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 24 إلى 25]

يخرج من أحدهما وجعله مجازا. وفي هذا من البعد ما لا خفاء به على ذي فهم أن يكون «منهما» من أحدهما. وقيل: يخرج إنما هو للمستقبل فيقول: إنه يخرج منهما بعد هذا. وقيل: يخرج منهما حقيقة لا مجازا لأنه إنما يخرج من المواضع التي يلتقي فيها الماء الملح والماء العذب. وقول رابع هو الذي اختاره محمد بن جرير وحمله على ذلك التفسير لما كان من تقوم الحجّة بقوله قد قال في قوله جلّ وعزّ: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ أنهما بحر السماء وبحر الأرض، وكان اللؤلؤ والمرجان إنما يوجد في الصّدف إذا وقع المطر عليه، ويدلّك على هذا الحديث عن ابن عباس قال: «إذا مطرت السماء فتحت الصدف أفواهها» . [سورة الرحمن (55) : الآيات 24 الى 25] وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) الجواري في موضع رفع، حذفت الضمة من الياء لثقلها، وحذفه الياء بعيد، ومن حذف الياء قال الكسرة تدلّ عليها، وقد كانت تحذف قبل دخول الألف واللام. وقراءة الكوفيين غير الكسائي وله الجواري المنشئات «1» يجعلونها فاعلة و «المنشأات» قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وهي أبين. فأما ما روي عن عاصم الجحدري أنه قرأ المنشيّات فغير محفوظ لأنه إن أبدل الهمزة قال: المنشيات وإن خفّفها جعلها بين الألف والهمزة فقال: المنشاءات وهذا المحفوظ من قراءته. كالأعلم في موضع نصب على الحال. [سورة الرحمن (55) : آية 26] كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) الضمير يعود على الأرض وضعها أي كلّ من على الأرض يفنى ويهلك. والأصل: فاني استثقلت الحركة في الياء فسكّنت ثم حذفت لسكونها وسكون التنوين بعدها. [سورة الرحمن (55) : الآيات 27 الى 28] وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) ذُو من نعت وجه لأن المعنى ويبقى ربّك، كما تقول: هذا وجه الأرض. وفي قراءة ابن مسعود ويبقى وجه ربك ذي «2» الجلال والإكرام من نعت ربّك. [سورة الرحمن (55) : آية 29] يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مذهب قتادة وليس بنصّ قوله يفزع إليه أهل السموات

_ (1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 620، والبحر المحيط 8/ 191، وتيسير الداني 167 (قرأ حمزة وأبو بكر المنشئات بكسر الشين، والباقون بفتحها) . (2) وهي قراءة أبيّ أيضا، انظر البحر المحيط 8/ 191.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 31 إلى 32]

وأهل الأرض في حاجاتهم لا غناء بهم عنه. كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أي في شأنهم وصلاحهم وتدبير أمورهم. [سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 32] سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) فيه خمس قراءات «1» ذكر أبو عبيد منها اثنتين قد قرأ بكل واحدة منهما خمسة قراء وهما (سنفرغ) و (سيفرغ) فقرأ بالأولى أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو وعاصم، وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي (سيفرغ) ولم يذكر أبو عبيد طلحة، وقرأ عبد الرحمن الأعرج وقتادة (سنفرغ لكم) بفتح النون والراء. وقرأ عيسى بن عمر (سنفرغ) بكسر النون وفتح الراء، وذكر الفراء أنه يقرأ (سيفرغ) بضم الياء وفتح الراء. قال أبو جعفر: القراءتان الأوليان بمعنى واحد. وحكى أبو عبيد أن لغة أهل الحجاز وتهامة فرغ يفرغ وأنّ لغة أهل نجد فرغ يفرغ وأنه لا يعرف أحدا من القراء قرأ بها. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا من قرأ بها. فمن قال: فرغ يفرغ جاء به على الأصل لأن فيها حرفا من حروف الحلق وحروف الحلق الهمزة والعين والغين والحاء والخاء والهاء، وحروف الحلق يأتي منها فعل يفعل كثيرا نحو ذهب يذهب وصنع يصنع، ويأتي ما فيه لغتان نحو صبغ يصبغ ويصبغ ورعف يرعف ويرعف، ويأتي منهما ما لا يكاد يفتح نحو نحت ينحت وإنما يرجع في هذا إلى اللغة. [سورة الرحمن (55) : الآيات 33 الى 34] يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نداء مضاف. إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا على مذهب الضّحاك أن المعنى «سنفرغ لكم أيّها الثقلان» فيقال لكم: يا معشر الجن والإنس وذكر أنّ هذا يوم القيامة تنزل ملائكة سبع السموات فيحيطون بأقطار الأرض فيأتي الملك الأعلى جلّ وعزّ. وقرأ الضحاك: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] ثم يؤتى بجهنّم فإذا راها الناس هربوا وقد اصطفّت الملائكة على أقطار الأرض سبعة صفوف. وقرأ الضحاك: يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ [غافر: 32، 33] ، وقرأ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا، وروي عنه أنه قال: إن استطعتم أن تهربوا من الموت وروي عن ابن عباس أن استطعتم أن تعلموا ما في السموات وما في الأرض لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ

_ (1) انظر القراآت المختلفة في البحر المحيط 8/ 192، وكتاب السبعة لابن مجاهد 620، ومختصر ابن خالويه 149، وتيسير الداني 167، ومعاني الفراء 3/ 116.

[سورة الرحمن (55) : آية 35]

قال عكرمة: أي بحجة قال: وكل سلطان في القرآن فهو حجة، وقال قتادة: بسلطان أي بملكة. [سورة الرحمن (55) : آية 35] يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ هذه قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وأبي عمرو وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ ابن كثير وابن أبي إسحاق وهي مروية عن الحسن (شواظ) «1» بكسر الشين. والفراء يذهب إلى أنهما لغتان بمعنى واحد، كما يقال: صوار وصوار. (ونحاس) «2» قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع والكوفيين بالرفع، وقرأ ابن كثير وابن أبي إسحاق وأبو عمرو (ونحاس) «3» بالخفض، وقرأ مجاهد (ونحاس) بكسر النون والسين، وقرأ مسلم بن جندب (ونحس) بغير ألف وبالرفع. قال أبو جعفر: الرفع في و «نحاس» أبين في العربية لأنه لا اشكال فيه يكون معطوفا على «شواظ» ، وإن خفضت عطفته على نار، واحتجت إلى الاحتيال، وذلك أن أكثر أهل التفسير منهم ابن عباس يقولون: الشّواظ اللهب، والنحاس الدخان فإذا خفضت فالتقدير شواظ من نار ومن نحاس. والشواظ لا يكون من النحاس كما أن اللهب لا يكون من الدخان إلا على حيلة واعتذار والذي في ذلك من الحيلة، وهو قول أبي العباس محمد بن يزيد، أنه لمّا كان اللهب والدخان جميعا من النار كان كلّ واحد منهما مشتملا على الآخر، وأنشد للفرزدق: [الطويل] 447- فبتّ أقدّ الزاد بيني وبينه ... على ضوء نار مرّة ودخان «4» فعطف ودخان على نار، وليس للدخان ضوء لأن الضوء والدخان من النار وإن عطفت ودخان على ضوء لم تحتج إلى الاحتيال، وأنشد غيره في هذا بعينه: [الرجز] 448- شراب ألبان وتمر وأقط «5» وإنما الشروب الألبان ولكنّ الحلق يشتمل على هذه الأشياء، وقال أخر في مثله. [مجزوء الكامل] 449- يا ليت زوجك قد غدا ... متقلّدا سيفا ورمحا «6»

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 117، والبحر المحيط 8/ 193، وتيسير الداني 167. (2) انظر البحر المحيط 8/ 193. (3) انظر مختصر ابن خالويه 149. (4) الشاهد للفرزدق في ديوانه 329، وفي الحماسة لابن الشجري 208، والمقاصد النحوية 1/ 462. (5) الرجز بلا نسبة في الإنصاف 2/ 613، ولسان العرب (زجج) ، و (طفل) ، والمقتضب 2/ 51، والكامل للمبرد 289. (6) مرّ الشاهد رقم (122) .

[سورة الرحمن (55) : آية 36]

لأنهما محمولان وقد قال الحسن ومجاهد وقتادة في قوله جلّ وعزّ: وَنُحاسٌ قالوا يذاب النحاس فيصبّ على رؤوسهم. فَلا تَنْتَصِرانِ أي ممن عاقبكما بذلك ولا تستفيدان منه. [سورة الرحمن (55) : آية 36] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) أي: فبأيّ نعم ربّكما الذي جعل الحكم واحدا في المنع من النقود، ولم يخصص بذلك أحدا دون أحد. [سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 38] فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ وهو يوم القيامة. فَكانَتْ وَرْدَةً قال قتادة: هي اليوم خضراء ويوم القيامة حمراء، وزاد غيره وهي من حديد. كَالدِّهانِ أصح ما قيل فيه، وهو قول مجاهد والضحاك، أنه جمع دهن أي صافية ملساء. [سورة الرحمن (55) : الآيات 39 الى 42] فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) فَيَوْمَئِذٍ جواب إذا. لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ قول ابن عباس لا يسألون سؤال اختبار، لأنّ الله جلّ وعزّ قد حفظ عليهم أعمالهم، وقول قتادة أنّهم يعرفون بسواد الوجوه وزرق الأعين، ويدلّ على هذا أن بعده يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ والسيما والسيمياء العلامة. فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ يكون بالنواصي في موضع رفع اسم لم يسمّ فاعله ويجوز أن يكون مضمرا. [سورة الرحمن (55) : آية 43] هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) أي يقال لهم: هذه جهنم التي كانوا يكذبون بها في الدنيا. [سورة الرحمن (55) : آية 44] يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) يَطُوفُونَ بَيْنَها أي بين أطباقها. وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ حكى عبد الله بن وهب عن ابن زيد قال: الاني الحاضر. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ قال يقول: قد انتهى حرّه. قال أبو جعفر: وكذا هو في كلام العرب قال النابغة: [الوافر] 450- وتخضب لحية غدرت وخانت ... بأحمر من نجيع الجوف ان [سورة الرحمن (55) : آية 45] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) أي: فبأيّ نعم ربكما التي أنعم بها عليكم فلم يعاقب منكم إلّا المجرمين،

[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 إلى 47]

وجعل لهم سيمياء يعرفون بها حتّى لا يختلط بهم غيرهم. [سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 47] وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) رفع بالابتداء وبإضمار فعل بمعنى تجب أو تستقرّ، والتقدير: ولمن خاف مقام ربّه فأدّى فرائضه واجتنب معاصيه خوف المقام الذي يقفه الله تعالى للحساب، ويبيّن هذا قوله: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: 40] ولا يقال لمن اقتحم على المعاصي: خائف، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ قال: وعد الله المؤمنين الذين أدّوا فرائضه الجنة. [سورة الرحمن (55) : الآيات 48 الى 49] ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) نعت للجنتين، والجنة عند العرب البستان. قال أبو جعفر: واحد الأفنان فنن على قول من قال: هي الأغصان، ومن قال: هي الألوان ألوان الفاكهة فواحدها وعندهم فن والأول أولى بالصواب لأن أكثر ما يجمع فنّ فنون فيستغنى بجمعه الكثير، كما يقال: شسع وشسوع. ومنه أخذ فلان في فنون من الحديث. [سورة الرحمن (55) : الآيات 50 الى 51] فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) أي في خلالهما نهران يجريان. [سورة الرحمن (55) : الآيات 52 الى 53] فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) أي من كل نوع من الفاكهة صنفان. [سورة الرحمن (55) : الآيات 54 الى 55] مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) نصب مُتَّكِئِينَ على الحال، والعالم فيه من غامض النحو. قال أبو جعفر: ولا أعلم أحدا من النحويين ذكره إلّا شيئا ذكره محمد بن جرير قال: هو محمول على المعنى أي: يتنعمون متكئين، وجعل ما قبله يدلّ على المحذوف. قال أبو جعفر: ويجوز أن يكون بغير حذف، ويكون راجعا إلى قوله جلّ وعزّ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ كما تقول: لفلان تجارة حاضرا، أي في هذه الحال. ومُتَّكِئِينَ على معنى «من» ولو كان على اللفظ لكان متّكئا. وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ في موضع رفع بالابتداء. دانٍ خبره. [سورة الرحمن (55) : الآيات 56 الى 57] فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) فِيهِنَّ قال أبو جعفر: قد ذكرنا هذا الضمير وعلى من يعود. وفيه إشكال قد

[سورة الرحمن (55) : الآيات 58 إلى 59]

بيّناه والتقدير: فيهن حور. قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ، وقراءة طلحة لَمْ يَطْمِثْهُنَّ «1» وهما لغتان معروفتان. [سورة الرحمن (55) : الآيات 58 الى 59] كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) أن في موضع خفض بالكاف، والكاف في موضع رفع بالابتداء والخبر محذوف «وهنّ» في موضع نصب اسم «أنّ» ، وشددت لأنها بمنزلة حرفين في المذكّر، الْياقُوتُ خبر، وَالْمَرْجانُ عطل عليه. [سورة الرحمن (55) : الآيات 60 الى 61] هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) مبتدأ وخبره أي على جزاء من أحسن في الدنيا إلّا أن يحسن إليه في الآخرة. [سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 63] وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) في معناه قولان: أحدهما ومن دونهما في الدرج. وهذا مذهب ابن عباس، وتأوّل أنّ هاتين الجنتين هما اللتان قال الله جلّ وعزّ فيهما: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] ، والقول الآخر ومن دونهما في الفضل وهذا مذهب ابن زيد، قال: وهم لأصحاب اليمين. [سورة الرحمن (55) : الآيات 64 الى 65] مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) قال أبو حاتم: ويجوز في الكلام مدهمّتان لأنه يقال: ادهمّ وادهامّ، ومدهامتان من نعت الجنتين. [سورة الرحمن (55) : الآيات 66 الى 67] فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ضَّاخَتانِ قال: فيّاضتان وقال الضحاك: ممتلئتان، وقال سعيد بن جبير: نضّاختان بالماء والفاكهة، قال أبو جعفر: والمعروف في اللغة أنهما بالماء. [سورة الرحمن (55) : الآيات 68 الى 69] فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فيها ثلاثة أقوال: منها أنه قيل: إنّ النخل والرمان ليسا من الفاكهة لخروجهما منها في هذه الآية، وقيل هما منها ولكن أعيد إشادة بذكرهما لفضلهما. وقيل: العرب تعيد الشيء بواو العطف اتّساعا لا لتفضيل، والقرآن نزل بلغتهم والدليل على ذلك أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الحج: 18] ثم قال جلّ

_ (1) انظر تيسير الداني 167، وكتاب السبعة لابن مجاهد 621، والبحر المحيط 8/ 196.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 70 إلى 71]

وعزّ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وقال جلّ ثناؤه: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: 238] قال أبو جعفر: وهذا بيّن لا لبس فيه. [سورة الرحمن (55) : الآيات 70 الى 71] فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) وحكى الفراء «1» : خيّرات وخيرات. فأما البصريون فقالوا: خيرة بمعنى خيّرة فخفّف، كما قيل: ميّت وميت «وفيهن» يعود على الأربع الأجنّة. [سورة الرحمن (55) : الآيات 72 الى 73] حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) حُورٌ بدل وإن شئت كان نعتا. مَقْصُوراتٌ قال مجاهد: قصرن طرفهنّ وأنفسهنّ على أزواجهن فلا يردن غيرهم، وقال أبو العالية: «مقصورات» محبوسات، وقال الحسن: مقصورات محبوسات لا يطفن في الطرق. قال أبو جعفر: والصواب في هذا أن يقال: إن الله جل وعز وصفهنّ بأنهنّ مقصورات فعمّ فنعمّ كما عمّ جلّ وعزّ فيقول: قصرن طرفهنّ وأنفسهن على أزواجهن فلا يرين غيرهم وهن محبوسات في الخيام ومصونات. [سورة الرحمن (55) : الآيات 74 الى 75] لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) فدلّ بهذا على أن الجنّ يطئون. [سورة الرحمن (55) : الآيات 76 الى 77] مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ فخضر جمع أخضر، ورفرف لفظه لفظ واحد، وقد نعت بجمع لأنه اسم للجمع كما قال: مررت برهط كرام وقوم لئام وكذا: هذه إبل حسان وغنم صغار. وَعَبْقَرِيٍّ مثله غير أنه يجوز أن يكون جمع عبقرية، وقد قرأ عاصم الجحدري متكئين على رفارف خضر وعباقريّ حسان «2» وقد روى بعضهم هذه القراءة عن عاصم الجحدري عن أبي بكرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وإسنادها ليس بالصحيح، وزعم أبو عبيد أنها لو صحّت لكانت وعباقريّ بغير إجراء، وزعم أنه هكذا يجب في العربية. قال أبو جعفر: وهذا غلط بين عند جميع النحويين لأنهم قد أجمعوا جميعا أنه يقال: رجل مدائني بالصرف، وإنما توهّم أنه جمع، وليس في كلام العرب جمع بعد ألفه أربعة أحرف لا اختلاف بينهم أنك لو جمعت عبقرا لقلت عباقر، ويجوز على بعد عباقير، ويجوز عباقرة. فأما عباقريّ في الجمع فمحال والعلّة في امتناع جواز عباقريّ أنه لا يخلو من أن يكون منسوبا إلى عبقر فيقال: عبقريّ أو يكون منسوبا إلى

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 120. (2) انظر البحر المحيط 8/ 198، ومختصر ابن خالويه 15.

[سورة الرحمن (55) : آية 78]

عباقر فيردّ إلى الواحد فيقال أيضا. عبقريّ كما شرط النحويون جميعا في النسب إلى الجمع أنك تنسب إلى واحدة فتقول في النسب إلى المساجد: مسجديّ وإلى العلوم علميّ وإلى الفرائض فرضيّ فإن قال قائل فما يمنع من أن يكون عباقرا اسم موضع ثم ينسب إليها كما يقال: معافريّ؟ قيل له: إن كتاب الله جلّ وعزّ لا يحمل على ما لا يعرف وتترك حجّة الإجماع. [سورة الرحمن (55) : آية 78] تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ أي البركة في اسمه جلّ وعزّ والبركة في اللغة بقاء النعمة وثباتها. فحضهم بهذا على أن يكثروا ذكر اسمه جلّ وعزّ ودعاءه، وأن يذكروه بالإجلال والتعظيم له فقال: ذي الجلل والإكرام «1» أي الجليل الكريم وفي الحديث «ألظّوا بيا ذا الجلال والإكرام» «2» .

_ (1) قرأ ابن عامر (ذو الجلال) بالواو والباقون بالياء، انظر تيسير الداني 168، والبحر المحيط 8/ 198. [.....] (2) أخرجه الترمذي (3524) ، وأحمد في المسند 4/ 177، والحاكم في المستدرك 1/ 498، والطبراني في الكبير 5/ 60، والبخاري في التاريخ 3/ 280، وذكره السيوطي في الدرر 6/ 153، والهيثمي في المجمع 10/ 158.

56 شرح إعراب سورة الواقعة

56 شرح إعراب سورة الواقعة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الواقعة (56) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) إِذا في موضع نصب لأنها ظرف زمان، والعامل فيها وقعت لأنها تشبه حروف الشرط، وإنما يعمل فيها ما بعدها. وقد حكى سيبويه «1» : أن من العرب من يجزم بها، قال: وشبهها بحروف الشرط متمكن قوي، وذلك أنها تقلب الماضي إلى المستقبل وتحتاج إلى جواب غير أنه لا يجازى بها إلّا في الشعر. فأما مخالفتها حروف المجازاة فإن ما بعدها يكون محدّدا تقول: أجيئك إذا احمرّ البسر ولا يجوز هاهنا «أن» وكسرت التاء من «وقعت» لالتقاء الساكنين، لأنها حرف فحكمها أن تكون ساكنة، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الواقعة والطامّة والصاخّة «2» ونحو ذلك من أسماء القيامة عظمها الله جلّ وعزّ وحذّرها عباده، وقال غيره: هي الصيحة وهي النفخة الأولى. [سورة الواقعة (56) : آية 2] لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) اسم ليس وذكّرت كاذبة عند أكثر النحويين لأنها بمعنى الكذب أي ليس لوقعتها كذب. قال الفرّاء «3» : مثل عاقبة وعافية. [سورة الواقعة (56) : آية 3] خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) على إضمار مبتدأ، والتقدير الواقعة خافضة رافعة، وقرأ اليزيدي خافِضَةٌ رافِعَةٌ «4» بالنصب. وهذه القراءة شاذة متروكة من غير جهة منها أنّ

_ (1) انظر الكتاب 3/ 67. (2) انظر الطبري 27/ 96، وزاد المسير 8/ 130. (3) انظر معاني الفراء 3/ 121. (4) انظر البحر المحيط 8/ 203 (وهي قراءة زيد بن علي وعيسى وأبي حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم والزعفراني أيضا) .

[سورة الواقعة (56) : الآيات 4 إلى 5]

الجماعة الذين تقوم بهم الحجّة على خلافها، ومنها أنّ المعنى على الرفع في قول أهل التفسير والمحقّقين من أهل العربية. فأما أهل التفسير فإن ابن عباس قال: خفضت أناسا ورفعت آخرين فعلى هذا لا يجوز إلّا الرفع: لأن المعنى خفضت قوما كانوا أعزاء في الدنيا إلى النار ورفعت قوما كانوا أذلّاء في الدنيا إلى الجنة، فإذا نصب على الحال اقتضت الحال جواز أن يكون الأمر على غير ذلك كما أنك إذا قلت: جاء زيد مسرعا، فقد كان يجوز أن يجيء على خلاف هذه الحال، وقال عكرمة والضحّاك: خافِضَةٌ رافِعَةٌ خفضت فأسمعت الأدنى، ورفعت فأسمعت الأقصى فصار الناس سواء. قال أبو جعفر: وأما أهل العربية فقد تكلّم منهم جماعة في النصب. فقال محمد بن يزيد: لا يجوز، وقال الفرّاء «1» : يجوز بمعنى إذا وقعت الواقعة وقعت خافضة رافعة فأضمر وقعت وهو عند غيره من النحويين بعيد قبيح، ولو قلت: إذا جئتك زائرا، تريد إذا جئتك جئتك زائرا. لم يجز هذا الإضمار لأنه لا يعرف معناه، وقد يتوهّم السامع أنه قد بقي من الكلام شيء. وأجاز أبو إسحاق النصب على أن يعمل في الحال «وقعت» ، قد بيّنا فساده على أن كل من أجازه فإنه يحمله على الشذوذ فهذا يكفي في تركه. [سورة الواقعة (56) : الآيات 4 الى 5] إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) إِذا في موضع نصب. قال أبو إسحاق: المعنى إذا وقعت الواقعة في هذا الوقت، رَجًّا مصدر، وكذا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. (5) [سورة الواقعة (56) : آية 6] فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) هَباءً خبر كان. مُنْبَثًّا من نعته. وأصحّ ما قيل في معناه ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: الهباء المنبثّ رهج الدواب، وعن ابن عباس هو الغبار، وعنه هو الشرر الذي يطير من النار. [سورة الواقعة (56) : آية 7] وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) عن ابن عباس قال: أصنافا ثلاثة. قال أبو إسحاق: يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أزواج واحدها زوج، كما يقال: زوج من الخفاف لأحد الخفّين. [سورة الواقعة (56) : الآيات 8 الى 9] فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ رفع الابتداء. ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مبتدأ وخبره في موضع خبر الأول، وقيل: التقدير ما هم فلذلك صلح أن يكون خبرا عن الأول لمّا عاد عليه ذكره وكذا الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ [القارعة: 1، 2] يظهر الاسم على سبيل التعظيم

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 121.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 10 إلى 11]

والتشديد. وهذا قول حسن لأن إعادة الاسم فيه معنى التعظيم، وكذا فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) قيل: إنما قيل لهم: أصحاب الميمنة لأنّهم أعطوا كتبهم بإيمانهم، وقيل: لأنهم أخذ بهم ذات اليمين. وهذه علامة في القيامة لمن نجا، وقيل: إن الجنة على يمين الناس يوم القيامة، وعلى هذا وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) لأن اليد اليسرى يقال لها الشّومى. [سورة الواقعة (56) : الآيات 10 الى 11] وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) قال محمد بن سيرين: السابقون الذين صلّوا القبلتين، وأبو إسحاق يذهب إلى أنّ فيه تقديرين في العربية: أحدهما أن يكون السابقون الأول مرفوعا بالابتداء والثاني من صفته، وخبر الابتداء أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) ، ويجوز عنده أن يكون السابقون الأول مرفوعا بالابتداء والسابقون خبره وتقديره والسابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله، قال: أولئك المقربون صفة. قال أبو جعفر: قوله: أولئك صفة غلط عندي لأن ما فيه الألف واللام لا يوصف بالمبهم. لا يجوز عند سيبويه: مررت بالرجل ذلك، ولا مررت بالرجل هذا، على النعت، والعلّة فيه أن المبهم أعرف مما فيه الألف واللام، وإنما ينعت الشيء عند الخليل وسيبويه بما هو دونه في التعريف، ولكن يكون أولئك المقربون بدلا أو خبرا بعد خبر. [سورة الواقعة (56) : آية 12] فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) من صلة المقرّبين، أو خبر أخر. [سورة الواقعة (56) : آية 13] ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) قال أبو إسحاق: المعنى: هم ثلّة من الأولين. [سورة الواقعة (56) : آية 14] وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عطف عليه. [سورة الواقعة (56) : آية 15] عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) عَلى سُرُرٍ من العرب من يقول: سرر لثقل الضمّة وتكرير الحرف وفي الراء أيضا تكرير. مَوْضُونَةٍ نعت. [سورة الواقعة (56) : آية 16] مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) قال أبو إسحاق: هما منصوبان على الحال.

[سورة الواقعة (56) : آية 17]

[سورة الواقعة (56) : آية 17] يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) ذكر الفرّاء «1» معناه على سنّ واحد لا يتغيّرون كأنه مشتقّ من الولادة إلّا أنه يقال: وليد بين الولادة بفتح الواو. [سورة الواقعة (56) : آية 18] بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) بِأَكْوابٍ اجتزئ بالجمع القليل عن الكثير. وَأَبارِيقَ لم ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد. وَكَأْسٍ واحد يؤدي عن الجمع، وروى عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ قال: الخمر، وقال الضحّاك: كل كأس في القرآن فهي الخمر، وقال قتادة: من معين من خمر ترى بالعيون. [سورة الواقعة (56) : آية 19] لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ «2» فنفى عن الخمر ما يلحق من آفاتها من السكر والصداع، وقيل: «يصدّعون عنها» يفرّقون عن قلّى. [سورة الواقعة (56) : آية 20] وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) أي يتخيّرونها وحذفت الهاء لطول الاسم. [سورة الواقعة (56) : آية 21] وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) أهل التفسير منهم من يقول: يخلق الله جلّ وعزّ لهم لحما على ما يشتهون من شواء أو طبيخ من جنس الطير، ومنهم من يقول: بل هو لحم طير على الحقيقة. وبهذا جاء الحديث عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما هو إلّا أن تشتهي الطائر في الجنّة وهو يطير فيقع بين يديك مشويّا» «3» . [سورة الواقعة (56) : الآيات 22 الى 23] وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) وَحُورٌ عِينٌ (22) قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وشيبة ونافع، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي وَحُورٌ عِينٌ «4» بالخفض، وحكى سيبويه والفرّاء أنّ في قراءة أبيّ بن كعب وحورا عينا «5» بالنصب، وزعم سيبويه «6» أنّ الرفع محمول على

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 122. (2) انظر تيسير الداني 168، والبحر المحيط 8/ 205 (قرأ الجمهور «ولا ينزفون» مبنيا للمفعول) . (3) انظر تفسير القرطبي 17/ 34. (4) انظر البحر المحيط 8/ 206، وتيسير الداني 168. (5) انظر معاني الفراء 3/ 124. (6) انظر الكتاب 1/ 228.

المعنى لأن المعنى فيها أكواب وأباريق وكأس من معين وفاكهة ولحم طير وحور أي ولهم حور عين وأنشد «1» : [الكامل] : 451- بادت وغيّر ايهنّ مع البلى ... إلّا رواكد جمرهنّ هباء ومشجّج أمّا سوعاء قذاله ... فبدا وغيّر ساره المعزاء فرفع ومشجّج على المعنى لأن المعنى بها رواكد وبها مشجّج. والقراءة بالرفع اختيار أبي عبيد لأن الحور لا يطاف بهن، واختار الفرّاء «2» الخفض واحتج بأن الفاكهة واللحم أيضا لا يطاف بهما وإنما يطاف بالخمر. وهذا الاحتجاج لا ندري كيف هو إذ كان القراء قد أجمعوا على القراءة بالخفض في قوله جلّ وعزّ: وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) فمن أين له أنه لا يطاف بهذه الأشياء التي ادّعى أنه لا يطاف بها؟ وإنما يسلّم في هذا لحجّة قاطعة أو خبر يجب التسليم له. واختلفوا في قوله جلّ وعزّ: وَحُورٌ عِينٌ (22) كما ذكرت والخفض جائز على أن يحمل على المعنى لأن المعنى ينعمون بهذه الأشياء وينعمون بحور عين، وهذا جائز في العربية كثير. كما قال: [الكامل] 452- علفتها تبنا وماء باردا ... حتّى شتت همّالة عيناها «3» فحملت على المعنى، وقال أخر: [مجزوء الكامل] 453- يا ليت زوجك قد غدا ... متقلّدا سيفا ورمحا «4» وقال أخر: [الوافر] 454- إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزجّجن الحواجب والعيونا «5» والعيون لا تزجّج فحمله على المعنى. فأما «وحورا عينا» فهو أيضا محمول على المعنى لأن معنى الأول يعطون هذا ويعطون حورا، كما قال «6» : [البسيط] 455- جئني بمثل بني بدر لقومهم ... أو مثل أسرة منظور بن سيّار

_ (1) مرّ الشاهد رقم (36) . (2) انظر معاني الفراء 3/ 124. [.....] (3) الشاهد لذي الرمة في ديوانه 664، والخزانة 1/ 499، وبلا نسبة في معاني الفراء 1/ 14، وديوان المفضليات 248، واللسان (علف) . (4) مرّ الشاهد رقم (122) . (5) الشاهد للراعي النميري في ديوانه 269، والدرر 3/ 158، وشرح شواهد المغني 2/ 775، ولسان العرب (زجج) ، والمقاصد النحوية 3/ 91، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 3/ 212، والإنصاف 2/ 610، وأوضح المسالك 2/ 432، وتذكرة النحاة ص 617، والخصائص 2/ 432، والدرر 6/ 80، وشرح الأشموني 1/ 226، وشرح التصريح 1/ 346، وشرح عمدة الحافظ ص 635. (6) مرّ الشاهد رقم (135) .

[سورة الواقعة (56) : آية 24]

أو عامر بن طفيل في مركّبه ... أو حارثا يوم نادى القوم يا حار قال الحسن البصري: الحور الشديدات سواد سواد العين. وهذا أحسن ما قيل في معناهن. والحور البياض، ومنه الحوّاريّ وروي عن مجاهد أنه قال: قيل حور لأن العين تحار فيهن، وقال الضحّاك: العين العظيمات الأعين. قال أبو جعفر: عين جمع عيناء وهو على فعل إلّا أن الفاء كسرت لئلا تنقلب الياء واوا فيشكل بذوات الواو، وقد حكى الفرّاء أن من العرب من يقول: حير عين على الإتباع. وروي عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ: كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) قال: «كصفاء الدرّ الذي في الصّدف الذي لا تمسّه الأيدي» «1» . [سورة الواقعة (56) : آية 24] جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) قال أبو إسحاق: نصبت جزاء لأنه مفعول له أي لجزاء أعمالهم. قال: ويجوز أن يكون مصدرا لأن معنى يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) يجزيهم ذلك جزاء أعمالهم. [سورة الواقعة (56) : آية 25] لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) اللّغو ما يلغى قيل: معناه لا يسمعون فيها صخبا ولا ضجرا ولا صياحا. فنفى الله عزّ وجلّ عن أهل الجنة كلّ ما يلحق الناس في الدنيا في نعيمهم من الضجر وفي كلّ ما يلحق في طعامهم وشرابهم من الآفات وكل ما يلحقهم من العناء والتعب وفي المأكول والمشروب في هذه السورة. وفي بعض الحديث «من داوم قراءة سورة الواقعة كلّ يوم لم يفتقر أبدا» «2» . [سورة الواقعة (56) : آية 26] إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) قال أبو إسحاق: إِلَّا قِيلًا منصوب بيسمعون أي لا يسمعون إلّا قيلا، وقال غيره: هو منصوب على الاستثناء سَلاماً سَلاماً يكون نعتا لقيل أي إلّا قيلا يسلم فيه من الصياح والصخب وما يؤثم فيه، ويجوز أن يكون منصوبا على المصدر، ويجوز وجه ثالث وهو أن يكون منصوبا بقيل، ويكون معنى قيل أن يقولوا، وأجاز الكسائي والفرّاء الرفع في في سلام بمعنى: سلام عليكم، وأنشد الفرّاء: [الطويل] 456- فقلنا السّلام فاتّقت من أميرها ... فما كان إلّا ومؤها بالحواجب «3»

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 206. (2) انظر الترغيب والترهيب للمنذري 2/ 448. (3) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (ومأ) و (صفح) و (سلم) ، والتنبيه والإيضاح 1/ 34، والمخصّص 13/ 155، وتهذيب اللغة 15/ 644، وتاج العروس (ومأ) و (صفح) .

[سورة الواقعة (56) : آية 27]

[سورة الواقعة (56) : آية 27] وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ في معناه ثلاثة أقوال: منها أنه إنما قيل لهم أصحاب اليمين لأنهم أعطوا كتبهم بأيمانهم، ومنها أنه يؤخذ بهم يوم القيامة ذات اليمين وذلك أمارة من نجا، والقول الثالث أنّهم الذين أقسم الله جلّ وعزّ أن يدخلهم الجنة. ما أَصْحابُ الْيَمِينِ مبتدأ وخبره في موضع خبر الأول، وقول قتادة: إن المعنى: أيّ شيء هو وما أعدّ لهم من الخيرات. [سورة الواقعة (56) : الآيات 28 الى 29] فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) «مخضود» أصحّ ما قيل فيه أنه خضد شوكه، وقيل: هو مخلوق كذا، والعرب تعرف الطّلح أنه الشجر كثير الشوك. قال أبو إسحاق يجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل عنه الشوك. وأهل التفسير يقولون: إن الطلح الموز. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: يجوز أن يكون هذا مما لم ينقله أصحاب الغريب وأسماء النبت كثيرة حتّى إن أهل اللغة يقولون: ما يعاب على من صحّف في أسماء النبت لكثرتها. [سورة الواقعة (56) : الآيات 30 الى 31] وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) أي لا يتعب في استقائه. [سورة الواقعة (56) : الآيات 32 الى 33] وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ نعت. وجاز أن يفرق بين النعت والمنعوت بقولك لا لكثرة تصرّفها وأنها تقع زائدة. قال قتادة: في معنى وَلا مَمْنُوعَةٍ لا يمنع منها شوك ولا بعد. [سورة الواقعة (56) : آية 34] وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) أي عالية ومنه بناء رفيع. [سورة الواقعة (56) : آية 35] إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) قال مجاهد: خلقن من زعفران. قال أبو إسحاق: إنشاء من غير ولادة. [سورة الواقعة (56) : آية 36] فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) مفعول ثان. وقال أبو عبيدة: في الضمير الذي في «أنشأناهنّ» أنّه يعود على «وحور عين» ، وقال الأخفش سعيد: هو ضمير لم يجر له ذكر إلّا أنه قد عرف معناه.

[سورة الواقعة (56) : آية 37]

[سورة الواقعة (56) : آية 37] عُرُباً أَتْراباً (37) عُرُباً «1» جمع عروب، ولغة تميم ونجد عربا يحذفون الضمة لثقلها. أَتْراباً جمع ترب. [سورة الواقعة (56) : الآيات 38 الى 40] لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) المعنى: إنّا أنشأناهنّ لأصحاب اليمين، وفي الحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر رحمة الله عليهما أنّهما قالا: أصحاب اليمين أطفال المؤمنين. وقدّره الفرّاء «2» بمعنى لأصحاب اليمين ثلّة من الأولين وثلّة من الآخرين، وقدّره غيره: المعنى هم ثلّة من الأولين أي جماعة ممن تقدّم قبل مبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجماعة من أتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وقال صاحب هذا القول: إنما قيل في الأول ثلّة من الأولين وقليل من الآخرين، وفي الثاني ثلّة من الأولين وثلّة من الآخرين لأن الأول للسابقين إلى اتباع الأنبياء صلّى الله عليه وسلّم والسابقون إلى اتّباعهم قبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أكثر من السابقين إلى اتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. يدلّك على صحة هذا أن قوم يونس صلّى الله عليه وسلّم آمنوا، وهم مائة ألف أو يزيدون، والسحرة اتّبعوا موسى صلّى الله عليه وسلّم وهم يروى أكثر من هؤلاء فلهذا قيل: وقليل من الآخرين، والثلة الثانية لأصحاب اليمين وليست للسابقين، وأصحاب اليمين قد يدخل فيهم المسلمون إلى يوم القيامة هذا على هذا القول، وقد ذكرنا غيره. والله جلّ وعزّ أعلم. [سورة الواقعة (56) : آية 41] وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) وَأَصْحابُ الشِّمالِ أي الّذين أعطوا كتبهم في شمالهم، وقيل: الذين أخذ بهم ذات الشمال. قال قتادة ما أَصْحابُ الشِّمالِ أي ماذا لهم وما أعدّ لهم. [سورة الواقعة (56) : آية 42] فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) أي في حسر النار وما يلحق من لهبها، وحكى ابن السكيت في جمع سموم سمام. وقال أبو جعفر: فهذا على حذف الزائد وهو الواو «وحميم» وهو ما يعذّبون به من الماء الحار يجرّعونه ويصبّ على رؤوسهم كما قال جلّ وعزّ: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: 44] . [سورة الواقعة (56) : آية 43] وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) ينصرف في المعرفة والنكرة لأنه ليس في الأفعال يفعول. [سورة الواقعة (56) : آية 44] لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) لا بارِدٍ أي لا ظلّ له يستر. وَلا كَرِيمٍ لأنه مؤلم وخفضت. لا بارِدٍ على

_ (1) انظر تيسير الداني 168. (2) انظر معاني الفراء 3/ 126.

[سورة الواقعة (56) : آية 45]

النعت ولم تفرق «لا» بين النعت والمنعوت لتصرّفها وَلا كَرِيمٍ عطف عليه، وأجاز النحويون الرفع على إضمار مبتدأ كما قال: [الكامل] 457- وتريك وجها كالصّحيفة لا ... ظمآن مختلج ولا جهم «1» [سورة الواقعة (56) : آية 45] إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) أي في الدنيا، روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: منعّمين. [سورة الواقعة (56) : آية 46] وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يُصِرُّونَ قال ابن زيد: لا يتوبون ولا يستغفرون. والإصرار في اللغة الإقامة على الشيء وترك الإقلاع عنه. عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ قال الفرّاء: يقول الشرك هو الحنث العظيم. [سورة الواقعة (56) : آية 47] وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ تعجّبوا من هذا فلذلك جاء بالاستفهام. قال أبو جعفر: من قال إذا متنا جاء بالهمزة الثانية بين بين فهي متحرّكة كما كانت قبل التخفيف. وهكذا قال محمد بن يزيد، وقال أحمد بن يحيى ثعلب: همزة بين بين لا متحرّكة ولا ساكنة. قال أبو جعفر: فأما كتابها فبالألف لا غير لأنها مبتدأة ثم دخلت عليها ألف الاستفهام. فإذا في موضع نصب على الظرف، ولا يجوز أن يعمل فيه لمبعوثون لأنه خبر «إنّ» فلا يعمل فيما قبله والعامل فيه متنا. ويقال: متنا على لغة من قال: مات يموت وهي فصيحة ومن قال: متنا فهو على لغة من قال: مات يمات مثل خاف يخاف، وقد قيل: هو على فعل يفعل جاء شاذا. [سورة الواقعة (56) : آية 48] أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) معطوف على الموضع، ويجوز أن يكون معطوفا على المضمر المرفوع. [سورة الواقعة (56) : الآيات 49 الى 50] قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) حكى سيبويه «2» عن العرب سماعا: ادخلوا الأول فالأول. وزعم أنه منصوب على الحال وفيه الألف واللام. وقال ابن كيسان: لا نعلم شيئا يصحّ في كلام

_ (1) الشاهد للمخبّل السعدي في ديوانه 313، ولسان العرب (ظمأ) و (خلج) ، وتاج العروس (ظمأ) و (خلج) ، وأساس البلاغة (جهم) ، والمفضليات 213، وبلا نسبة في المخصّص 1/ 91. (2) انظر الكتاب 1/ 466.

[سورة الواقعة (56) : آية 51]

العرب منصوبا على الحال وفيه الألف واللام إلّا هذا والعلة فيه أنه وقع فرقا بين معنيين لأنك إذا قلت: دخلوا أولا أولا فمعناه دخلوا متفرقين فإذا قلت: دخلوا الأول فالأول فمعناه أعرفهم الأول فالأول، وقال محمد بن يزيد: التعريف إنما وقع بعد فلذلك جيء بالألف واللام زائدتين كسائر الزوائد. وحكى سيبويه عن عيسى بن عمر: أدخلوا الأول فالأول يحمله على المعنى وقد خطأه سيبويه لأنه لا يجوز: ادخلوا الأول فالأول فالأول أي إنما يقال باللام، واحتج غيره لعيسى بن عمر: لأنه محمول على المعنى، كما روي عن أبيّ بن كعب أنه قرأ فبذلك فلتفرحوا [يونس: 58] ، وكان يجب أن ينطق في الأول بفعل لأنه بمنزلة الأفضل، ولكن يردّ ذلك لأن فاءه وعينه من موضع واحد، ولا يوجد في كلام العرب فعل هكذا، وهو في الأسماء قليل. قالوا: كوكب لمعظم الشيء، وقالوا للهو واللعب: ددا وددن ودد، وقالوا للسيف الكليل ددان لا يعرف في الدال غير هذه. وفي الحديث عن عمر رضي الله عنه «حتّى يصير النّاس ببّانا واحدا» «1» أي شيئا واحدا «وبيّة» لقب. لا يعرف غير هذين في كلام العرب في الباء. أما قولهم في الطائر ببّغاء ولسبع ببر فأعجميان ولا يكاد يعرف ذلك في غير هذه الحروف إلا يسيرا إن جاء فقد قالوا لضرب من النبت آء ولا يعرف له نظير فلهذا لم يستعمل في أول فعل. وحكى سيبويه «2» أنّ «أول» يجوز أن يصرف على أنه اسم غير نعت كما يقال: ما ترك أولا ولا اخرا. وحكي ترك الصرف على أنه نعت. [سورة الواقعة (56) : آية 51] ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ أي الجائرون عن طريق الهدى. الْمُكَذِّبُونَ بالوعيد والبعث. [سورة الواقعة (56) : الآيات 52 الى 53] لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا على تأنيث الجماعة، ولو كان منه على تذكير الجميع لجاز. الْبُطُونَ جمع بطن وهو مذكر. فأما قول الشاعر: [الطويل] 458- فإنّ كلابا هذه عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر «3» فمؤنث لتأنيث القبيلة محمول على المعنى، ولو ذكر على اللفظ لجاز.

_ (1) انظر اللسان (بب) . (2) انظر الكتاب 3/ 217. (3) الشاهد لرجل من بني كلاب في الكتاب 4/ 43، وللنواح الكلابي في الدرر 6/ 196، والمقاصد النحوية 4/ 484، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 105، وأمالي الزجاجي 118، وخزانة الأدب 7/ 395، والخصائص 2/ 417، وشرح الأشموني 3/ 620، وشرح عمدة الحافظ 520، ولسان العرب (كلب) و (بطن) ، والمقتضب 2/ 148، وهمع الهوامع 2/ 149. [.....]

[سورة الواقعة (56) : آية 54]

[سورة الواقعة (56) : آية 54] فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) عَلَيْهِ على الشجر على تذكير الجميع، ويجوز أن يكون على الجمع الأكل. [سورة الواقعة (56) : آية 55] فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذه قراءة أكثر القراء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والكسائي فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ «1» بفتح الشين، وزعم أبو عبيد أنها لغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلام هائل. فقال بعض العلماء: قوله لغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلام هائل لا ينبغي لأحد أن يقوله إلّا بتيقّن والحديث الذي رواه أصحاب الحديث والناقلون له عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقولون فيه: «إنّها أيام أكل وشرب» بضم الشين سواه، أو من قال منهم. ونظير هذا قوله لغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «الحرب خدعة» «2» وقد سمع خدعة وخدعة. والقول في هذا على قول الخليل وسيبويه أن شربا بفتح الشين مصدر وشربا بضمها اسم للمصدر يستعمل هاهنا أكثر، ويستعمل شرب في جمع شارب، كما قال: [البسيط] 459- فقلت للشّرب في درنا وقد ثملوا ... شيموا وكيف يشيم الشّارب الثّمل «3» «والهيم» جمع هيماء وأهيم وهو على فعل كسرت الهاء لأنها لو ضمّت انقلبت الياء واوا. وقد أجاز الفرّاء «4» أن يكون الهيم جمع هائم. [سورة الواقعة (56) : آية 56] هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) هذا نُزُلُهُمْ أي الذي ينزلهم الله إيّاه يوم القيامة وهو يوم الدّين الذي يجازي الناس فيه بأعمالهم. [سورة الواقعة (56) : آية 57] نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أي نحن خلقناكم ولم تكونوا شيئا فأوجدناكم بشرا فلولا تصدّقون من فعل ذلك أنه يحييكم ويبعثكم. [سورة الواقعة (56) : آية 58] أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَفَرَأَيْتُمْ أي أيّها المكذبون بالبعث والمنكرون لقدرة الله جلّ وعزّ على إحيائهم.

_ (1) انظر تيسير الداني 168، والبحر المحيط 8/ 209. (2) أخرجه مسلم في صحيحه (1361) ، وأبو داود في سننه (2636) ، وأحمد في مسنده 1/ 90، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 40، والهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 320. (3) مرّ الشاهد رقم (314) . (4) انظر معاني الفراء 3/ 128.

[سورة الواقعة (56) : آية 59]

ما تُمْنُونَ في أرحام النساء. قال الفرّاء: يقال أمنى ومنى وأمنى أكثر. [سورة الواقعة (56) : آية 59] أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أي أنتم تخلقون ذلك المنيّ حتّى تصير فيه الروح أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ. [سورة الواقعة (56) : آية 60] نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ «1» أي فمنكم قريب الأجل وبعيده كل ذلك بقدر. وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي في آجالكم وما يفتات علينا فيها بل هي على ما قدّرنا. [سورة الواقعة (56) : آية 61] عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ أحسن ما قيل في معناه نحن قدّرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم أي نجيء بغيركم من جنسكم وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ أحسن ما قيل في معناه وننشئكم في غير هذه الصّور فينشئ الله جلّ وعزّ المؤمنين يوم القيامة في أحسن الصور وإن كانوا في الدنيا قبحاء وينشئ الكافرين والفاسقين في أقبح الصور وإن كانوا في الدنيا نبلاء. [سورة الواقعة (56) : آية 62] وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ «2» أي علمتم أنّا أنشأناكم ولم تكونوا فهلا تذّكّرون فتعلمون أن الذي فعل ذلك لقادر على إحيائكم، والأصل تتذكّرون فأدغمت التاء في الذال. [سورة الواقعة (56) : آية 63] أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) تكون ما مصدرا أي حرثكم، ويجوز أن يكون بمعنى الذي أي أفرأيتم الحرث الذي تحرثون. [سورة الواقعة (56) : آية 64] أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) معنى تزرعونه تجعلون زرعا، ولهذا جاء الحديث عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. قال: «لا تقل زرعت ولكن قل حرثت» ثمّ تلا أبو هريرة أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ.

_ (1) انظر تيسير الداني 168 (ابن كثير بتخفيف الدال والباقون بتشديدها) . (2) انظر تيسير الداني 140.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 65 إلى 66]

[سورة الواقعة (56) : الآيات 65 الى 66] لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً أي متهشّما لا ينتفع به. فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ اختلف العلماء في معناه، فقال الحسن وقتادة: تفكّهون أي تندّمون على ما سلف منكم من المعاصي التي عوقبتم من أجلها بهذا وقال عكرمة: تفكّهون تلاومون أي على ما فاتكم من طاعة الله جلّ وعزّ، وقيل: تفكّهون تنعمون فيكون على التقدير على هذا: أرأيتم ما تحرثون فظلتم به تفكّهون. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال ما قاله مجاهد. قال: تفكّهون تعجّبون أي يعجب بعضكم بعضا مما نزل به وأصله من تفكّه القوم بالحديث إذا عجب بعضهم بعضا منه، ويروى أنها قراءة عبد الله فَظَلْتُمْ «1» بكسر الظاء. والأصل ظللتم كما قال: [الطويل] 460- ظللت بها أبكي وأبكي إلى الغد «2» فمن قال: ظلتم حذف اللام المكسورة تخفيفا ومن قال: ظلتم ألقى حركة اللام على الظاء بعد حذفها والأصل تتفكّهون، والمعنى تقولون إِنَّا لَمُغْرَمُونَ قال عكرمة: إنّا لمولع بنا، وقال قتادة: لمعذبون، وقيل: قد غرمنا في زرعنا، وقول قتادة حسن بيّن لأنه معروف في كلام العرب، إنه يقال للعذاب والهلاك: غرام. قال الأعشى: [الخفيف] 461- إن يعاقب يكن غراما وإن يعط ... جزيلا فإنّه لا يبالي «3» [سورة الواقعة (56) : آية 67] بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أي ليس نحن مغرمين لكنا قد حرمنا وحورفنا. [سورة الواقعة (56) : آية 68] أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) الَّذِي في موضع نصب وتَشْرَبُونَ صلته والتقدير: تشربونه حذفت الهاء لطول الاسم وحسن ذلك لأنه رأس آية. [سورة الواقعة (56) : آية 69] أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ الأصل: أأنتم خفّفت الهمزة الثانية فجيء بها بين بين. والدليل على أنها متحركة وهي بين بين أن النون بعدها ساكنة والاختيار عند الخليل

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 211. (2) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه ص 5، وشرح القصائد السبع الطوال لابن الأنباري 132، وصدره: «لخولة أطلال برقة ثهمد» . (3) الشاهد للأعشى في ديوانه ص 9.

[سورة الواقعة (56) : آية 70]

وسيبويه «1» أن يؤتى بها بين بين لثقل اجتماع الهمزتين. أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ مبتدأ وخبره. [سورة الواقعة (56) : آية 70] لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً قال الفرّاء: الأجاج الملح الشديد المرارة. فَلَوْلا تَشْكُرُونَ أي فهلّا تشكرون الذي لم نجعله ملحا فلا تنتفعون به في مشرب ولا زرع. [سورة الواقعة (56) : آية 71] أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) قال بعض العلماء: أي ترونها بأبصاركم. قال أبو جعفر: وهذا غلط ولو كان كما قال لكان ترون إنما هو من أوريت الزند أوريه إذا قدحته. [سورة الواقعة (56) : آية 72] أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أي اخترعتموها وأحدثتموها. أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ وإن شئت جئت بهمزة بين بين أي بين الهمزة والواو، ولهذا قال محمد بن يزيد: لا يجوز أن تكتب إلّا بالواو أي بواوين، وكذا «يستهزئون» ، ومن كتبها بالياء فقد أخطأ عنده، لأن الضمة أقوى الحركات فإذا كانت الهمزة مضمومة متوسّطة لم يكن قبلها حكم، ومن أبدل من الهمزة قال المنشوون والمستهزوون، قال أبو جعفر: وهذه لغة رديئة شاذّة لا توجد إلّا في يسير من الشعر، وسمعت علي بن سليمان يحكي أن الصحيح من قول سيبويه أنه لا يجيز إبدال الهمزة يعني في غير الشعر، قال: لأن أبا زيد قال له: من العرب من يقول قرا بغير همزة فقال له سيبويه: فكيف يقولون في المستقبل فقال: يقرا فقال: هذا إذن خطأ لأنه كان يجب أن يقولوا: يقري حتّى يكون مثل رمى يرمي. قال أبو الحسن: فهذا من سيبويه يدلّ على أنه لا يجيزه. [سورة الواقعة (56) : آية 73] نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً مفعولان أي ذات تذكرة. وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المقوون المسافرون، وقال ابن زيد: المقوي الجائع. قال أبو جعفر: أصل هذا من أقوت الدّار أي خلت، كما قال عنترة: [الكامل] 462- حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم «2» ويقال: أقوى إذا نزل بالقيّ أي الأرض الخالية، وأقوى إذا قوي أصحابه أي خلوا من الضعف.

_ (1) انظر الكتاب 4/ 31. (2) الشاهد لعنترة في ديوانه 189، ولسان العرب (شرع) ، وتهذيب اللغة 1/ 424، وتاج العروس (شرع) ، والمقاصد النحوية 3/ 188.

[سورة الواقعة (56) : آية 74]

[سورة الواقعة (56) : آية 74] فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) أي بذكره وأسمائه الحسنى. [سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 80] فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ «1» قول ابن عباس أنه نزول القرآن، واستدلّ الفرّاء «2» على صحة ذلك لأن بعده وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) وقول الحسن أي بمساقط النجوم، وزعم محمد بن جرير أن هذا القول أولى بالصواب لأنه المتعارف من النجوم أنها هي الطالعة إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) أي مصون. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) من نعت الكتاب. تَنْزِيلٌ من نعت القرآن أي ذو تنزيل أي منزّل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. [سورة الواقعة (56) : آية 81] أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) أي تلينون الكلام لمن كفر بهذا الكتاب المكنون. [سورة الواقعة (56) : آية 82] وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ وتجعلون شكركم أنكم تكذّبون «3» وعن ابن عباس وتجعلون شكركم أنكم تكذّبون. قال أبو جعفر: وهاتان القراءتان على التفسير، ولا يتأوّل على أحد من الصحابة أنه قرأ بخلاف ما في المصحف المجمع عليه، وكذا التفسير. والمعنى على قراءة الجماعة وتجعلون شكر رزقكم ثمّ حذف مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ، وقد فسر ابن عباس هذا التكذيب كيف كان منهم قال: يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا، وقد سمّى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذا كفرا، قال أبو إسحاق: ونظيره قول المنجّم إذا طلع نجم كذا ثمّ سافر إنسان كان كذا فهذا التكذيب بإنذار الله جلّ وعزّ. [سورة الواقعة (56) : الآيات 84 الى 83] مخاطبة لمن حضر ميتا: فالتقدير: فلا ترجعونها إن كنتم صادقين، يقال: رجع

_ (1) انظر تيسير الداني 168 (قرأ حمزة والكسائي «بموقع» بإسكان الواو من غير ألف والباقون بفتح الواو وألف بعدها) . (2) انظر معاني الفراء 3/ 129. (3) انظر المحتسب 2/ 310، والبحر المحيط 8/ 214. [.....]

[سورة الواقعة (56) : الآيات 89 إلى 88]

ورجعته فعلى هذا قال تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) في أنكم لستم مملوكين مدبّرين. قال أبو جعفر: هكذا حكى الفرّاء «1» في معنى مَدِينِينَ قال: مملوكين، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس غَيْرَ مَدِينِينَ أي غير محاسبين، وقال الحسن: غير مبعوثين، وقيل: غير مجازين من قوله عزّ وجلّ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] فأما جواب لولا الثانية ففيه قولان: قال الفرّاء «2» : أجيبتا جميعا بجواب واحد، وقيل: حذف من أحدهما ودلّ عليه الآخر. [سورة الواقعة (56) : الآيات 89 الى 88] فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ «3» أي فأما إن كان المتوفّى من المقرّبين إلى رحمة الله جلّ وعزّ فله روح وريحان. قال أبو جعفر: وهذا الموضع مشكل من الإعراب لأن «أما» تحتاج إلى جواب ويسأل لم صار لا يلي «أما» إلّا الاسم وهي تشبه حروف المجازاة؟ وإنما يلي حروف المجازاة الفعل، وهذا أشكل ما فيها. فأما جواب «أما» و «إن» ففيه اختلاف بين النحويين فقول الأخفش والفراء: أنهما أجيبا بجواب واحد وهو الفاء وما بعدها، وأما قول سيبويه فإنّ «إن» لا جواب لها هاهنا، لأنّ بعدها فعلا ماضيا كما تقول: أنا أكرمتك إن جئتني، وقول محمد بن يزيد: إنّ جواب «إن» محذوف لأن بعدها ما يدلّ عليه. قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يسأل عن معنى «أما» فقال: هي للخروج من شيء إلى شيء أي دع ما كنا فيه وخذ في شيء أخر. فأما القول في العلّة لم لا يليها إلا الاسم: فذكر فيه أبو الحسن بن كيسان أن معنى «أما» مهما يكن من شيء فجعلت أما مؤدية عن الفعل، ولا يلي فعل فعلا فوجب أن يليها الاسم. وتقديره أن يكون بعد جوابها فإذا أردت أن إعراب الاسم الذي يليها فاجعل موضعها «مهما» وقدّر الاسم بعد الفاء تقول: أما زيدا فضربت معناه مهما يكن من شيء فضربت زيدا. وروى بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قرأ فَرَوْحٌ بضم الراء، وهكذا قرأ الحسن البصري. قال أبو جعفر: وهذا الحديث إسناده صالح وبعضهم يقول فيه: عن بديل عن أبي الجوزاء عن عائشة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومعنى الضمّ حياة دائمة. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ قال: مستراح، وقال سعيد بن جبير: الرّوح الفرح، وروى هشيم عن جويبر عن الضحّاك: فروح قال: استراحة، وروى غيره عن الضحّاك فروح قال: مغفرة ورحمة. قال: والروح عند أهل اللغة الفرح، كما قال سعيد بن جبير والمغفرة والرحمة من الفرح. فأما وريحان ففي معناه ثلاثة أقوال: منها أنه الرزق، ومنها أنه الراحة، ومنها أنه الريحان الذي يشمّ. هذا قول الحسن وقتادة وأبي العالية وأبي الجوزاء، وهو يروى عن عبد الله بن عمر قال: إذا قرب خروج روح المؤمن جاءه الملك بريحان فشمّه فتخرج روحه. قال أبو إسحاق:

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 131. (2) انظر معاني الفراء 3/ 131. (3) انظر البحر المحيط 8/ 215.

[سورة الواقعة (56) : آية 90]

الأصل في ريحان ريحان والياء الأولى منقلبة من واو. وأصله روحان، أدغمت الواو في الياء ثم خفّفت، كما يقال: ميت إلّا أنه لا يؤتى به على الأصل إلا على بعد لأن فيه ألفا ونونا زائدتين. وَجَنَّةُ نَعِيمٍ أي وله مع ذلك جنّة نعيم. [سورة الواقعة (56) : آية 90] وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) أي ممن أخذ به ذات اليمين إلى الجنة. [سورة الواقعة (56) : آية 91] فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) فيه أقوال: قال قتادة فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ سلموا من عذاب الله جلّ وعزّ وسلّمت عليهم الملائكة وقيل فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) أي لك منهم سلام أي يسلّمون عليك. وهذا قول نظري لأن المخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلا يخرج إلى غيره إلّا بدليل قاطع، وقيل فَسَلامٌ لَكَ فمسلّم لك أنك من أصحاب اليمين، وحذفت «أنّ» والمعنى لأنك من أصحاب اليمين. وحذف «أنّ» خطأ في العربية لأن ما بعدها داخل في صلتها وإن كان قائل هذا القول الفرّاء «1» وقد ذهب إليه محمد بن جرير. [سورة الواقعة (56) : آية 92] وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) أي الجائرين عن الطريق. [سورة الواقعة (56) : آية 93] فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) فَنُزُلٌ أي عذاب مِنْ حَمِيمٍ وهو الماء الحار. [سورة الواقعة (56) : آية 94] وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) أي إحراقه. [سورة الواقعة (56) : آية 95] إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) الكوفيون «2» يجيزون إضافة الشيء إلى نفسه ويجعلون هذا منه، وذلك عند البصريين خطأ لأنه يبين الشيء بغيره، والمضاف إليه يبيّن به. قال مجاهد: حقّ اليقين حقّ الخبر اليقين، وقال أبو إسحاق: المعنى أن هذا الذي قصصناه في هذه السورة يقين حقّ اليقين، كما تقول: فلان عالم حقّ العالم، إذا بالغت في التوكيد. [سورة الواقعة (56) : آية 96] فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) أي فنزّه الله جلّ وعزّ عن كفرهم بأسمائه الحسنى.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 131. (2) انظر الإنصاف المسألة رقم (1141) .

57 شرح إعراب سورة الحديد

57 شرح إعراب سورة الحديد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحديد (57) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) سَبَّحَ عظّم ورفّع مشتق من السباحة وهي الارتفاع، والتقدير: ما في السّموات وما في الأرض، وحذفت «ما» على مذهب أبي العباس وهي نكرة لا موصولة لأنه لا يحذف الاسم الموصول، وأنشد النحويون: [الرجز] 463- لو قلت ما في قومها لم تيثم ... يفصلها في حسب وميسم «1» فالتقدير: من يفضلها «2» . وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مبتدأ وخبره أي العزيز في انتقامه ممن عصاه الذي لا ينتصر منه من عاقبه من أعدائه الحكيم في تدبّره خلقه الذي لا يدخل في تدبيره خلل. [سورة الحديد (57) : آية 2] لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رفع بالابتداء. يُحْيِي وَيُمِيتُ في موضع نصب على الحال، ومرفوع لأنه فعل مستقبل. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مبتدأ وخبره. [سورة الحديد (57) : آية 3] هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ مثله. ولم ينطق من الأول بفعل، وهو على أفعل لأن فاءه وعينه من موضع واحد فاستثقل ذلك والآخر ليس بجار على الفعل لأنه من تأخّر.

_ (1) الرجز لحكيم بن معيّة في خزانة الأدب 5/ 62، وله أو لحميد الأرقط في الدرر 6/ 19، ولأبي الأسود الحماني في شرح المفصّل 3/ 59، والمقاصد النحوية 4/ 71، ولأبي الأسود الجمالي (وهذا تصحيف) في شرح التصريح 2/ 118، وبلا نسبة في الكتاب 2/ 364، والخصائص 2/ 370، وشرح الأشموني 2/ 400، وشرح عمدة الحافظ 547، وهمع الهوامع 2/ 120. (2) انظر الكتاب 2/ 364 (يريد: ما في قومها أحد، فحذفوا) .

[سورة الحديد (57) : آية 4]

وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ قيل: معنى الظاهر الذي ظهرت صنعته وحكمته، وقيل العالم بما ظهر وما بطن. ومن أحسن ما قيل فيه أنه من ظهر أي قوي وعلا، فالمعنى الظاهر على كل شيء العالي فوقه فالأشياء دونه. الباطن جميع الأشياء فلا شيء أقرب إلى شيء منه، ومثله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] ويدلّ على هذا أن بعده وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي لا يخفى عليه شيء. [سورة الحديد (57) : آية 4] هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) يكون الَّذِي في موضع رفع على إضمار مبتدأ لأنه أول آية. قال: ويجوز أن يكون نعتا لما تقدم ويجوز أن يكون في موضع نصب على المدح أعني بهذا المدح الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش. يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها يقال: ولج يلج إذا دخل. والأصل يولج حذفت الواو لأنها بين ياء وكسرة. وَهُوَ مَعَكُمْ نصب على الظرف، والعامل فيه المعنى أي وهو شاهد معكم حيث كنتم. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي بما تعملونه من حسن وسيّئ وطاعة ومعصية حتّى يجازيكم عليها. [سورة الحديد (57) : آية 5] لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي سلطانهما فأمره وحكمه نافذ فيهما وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي إليه مصيركم ليجازيكم بأعمالكم. [سورة الحديد (57) : آية 6] يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أي نقصان الليل في النهار فتكون زيادة وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يدخل نقصان النهار في الليل فتكون زيادة فيه، كما قال عكرمة وإبراهيم هذا في القصر والزيادة ولم يحذف الواو من يولج وهي بين ياء وكسرة لأن الفعل رباعي لا يجوز أن يغير هذا التغيير وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما تخفونه في صدوركم من حسن وسيئ أو تهمّون به في أنفسكم. وفي الحديث «إنّ الدعاء يستجاب بعد قراءة هذه الآيات السّت» «1» . [سورة الحديد (57) : آية 7] آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أي يخلفون من كان قبلهم، وحضّهم على الإنفاق لأنهم يفنون كما فني الذين من

_ (1) انظر تفسير القرطبي 17/ 235.

[سورة الحديد (57) : الآيات 8 إلى 9]

قبلهم ويورثون. فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا فالذين مبتدأ أي الذين آمنوا منكم بالله ورسوله. لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ أي ثواب عظيم. [سورة الحديد (57) : الآيات 8 الى 9] وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ في موضع نصب على الحال، والمعنى أيّ شيء لكم إن كنتم تاركين الإيمان؟ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ قد أظهر البراهين والحجج. لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ قال الفرّاء «1» : القرّاء جميعا على وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ قال: ولو قرئت وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ لكان صوابا. قال أبو جعفر: هذا كلامه نصا في كتابه وهو غلط، وقد قرأ أبو عمرو وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ «2» غير أن أبا عبيد قال: والقراءة عندنا هي الأولى وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ لأن الأمة عليها ولأن ذكر الله جلّ وعزّ قبل الآية وبعدها. قال أبو جعفر: أما قوله: لأن الأمة عليها، فحجة بيّنة لأن الأمة الجماعة، وأما قوله: لأن ذكر الله عزّ وجلّ اسمه قبل الآية وبعدها، فلا يلزم لأنه قد عرف المعنى. وللعلماء في أخذ الميثاق قولان: أحدهما أنه أخذ الميثاق حين أخرجوا من ظهر أدم صلّى الله عليه وسلّم بأن الله عزّ وجلّ ربّهم لا إله لهم سواه، وهذا مذهب العلماء من أصحاب الحديث منهم مجاهد، والقول الآخر أنه مجاز لما كانت آيات الله جلّ وعزّ بيّنة والدلائل واضحة وحكمته ظاهرة، يشهد بها من راها كان علمه بذلك بمنزلة أخذ الميثاق منه. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قيل: المعنى إن كنتم عازمين على الإيمان فهذا أوانه لما ظهر لكم من البراهين والدلائل، ويدل على هذا أن بعده هو الذي ينزّل على عبده آيات بيّنات. لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، كما قال مجاهد من الضلالة إلى الهدى. وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي حين بيّن لكم هداكم. [سورة الحديد (57) : آية 10] وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ «أن» في موضع نصب على المعنى وأي عذر لكم في

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 132. (2) انظر تيسير الداني 168 (قرأ أبو عمرو «أخذ» بضمّ الهمزة وكسر الخاء و «ميثاقكم» بالرفع، والباقون بفتح الهمزة والخاء والنصب) .

[سورة الحديد (57) : آية 11]

أن لا تنفقوا في سبيل الله وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فحضّهم بهذا على الإنفاق لأنهم يموتون ويخلّفون ما بخلوا به ويورّثونه. لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ اختلف العلماء في معنى هذا الفتح فقال قتادة: الذين أنفقوا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل فتح مكة وقاتلوا، أفضل من الذين أنفقوا من بعد فتح مكة وقاتلوا، وكذا قال زيد بن أسلم، وقال الشّعبي: الذين أنفقوا قبل الحديبية وقاتلوا أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد فتح الحديبية وقاتلوا. قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بالصواب لأن عطاء بن يسار روى عن أبي سعيد الخدري قال: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح الحديبية: «يأتون أقوام تحقرون أعمالكم مع أعمالهم» قلنا: يا رسول الله أمن قريش هم؟ قال: «لا هم أهل اليمن أرقّ أفئدة وألين قلوبا» . قلنا: يا رسول الله أهم خير منا؟ قال «لا لو أنّ لأحدهم جبل ذهب ثم أنفقه ما بلغ مدّ أحدكم ولا نصيفه. هذا فضل ما بعيننا وبين الناس» «1» لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. حكى أبو حاتم وكلّ وعد الله الحسنى» بالرفع. قال أبو جعفر: وقد أجاز سيبويه مثل هذا على إضمار الهاء، وأنشد: [المتقارب] 464- فثوب نسيت وثوب أجرّ «3» وأبو العباس محمد بن يزيد لا يجيز هذا في منثور ولا منظوم إلّا أن يكون يجوز فيه غير ما قدّره سيبويه، وهو أن يكون الفعل نعتا فيكون التقدير: فثمّ ثوب نسيت فعلى هذا لا يجوز في ثوب إلّا الرفع، ولا يجيز زيد ضربت لأنه ليس فيه شيء من هذا فيكون كلّ بمعنى وأولئك كلّ وعد الله فيكون نعتا. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مبتدأ وخبره أي من إنفاق وبخل حتّى يجازيكم عليه. [سورة الحديد (57) : آية 11] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) مَنْ في موضع رفع بالابتداء وذَا خبره والَّذِي نعت لذا وفيه قولان آخران: أحدهما أن يكون «ذا» زائدا مع الذي، والقول الآخر أن يكون «ذا» زائدا مع

_ (1) انظر المعجم المفهرس لونسنك 1/ 487. (2) انظر تيسير الداني 169. (3) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 159، والكتاب 1/ 139، والأشباه والنظائر 3/ 110، وخزانة الأدب 1/ 373، وشرح شواهد المغني 2/ 866، والمقاصد النحوية 1/ 545، وبلا نسبة في المحتسب 2/ 124، ومغني اللبيب 2/ 472، وصدره: «فأقبلت زحفا على الرّكبتين» .

[سورة الحديد (57) : آية 12]

«من» ، وهذا قول الفرّاء «1» ، وزعم أنه رأى في بعض مصاحف عبد الله، «منذا» بوصل النون مع الذال جعلا شيئا واحدا، ولا يجيز البصريون أن تزاد «ذا» مع «من» ويجيزون ذلك مع «ما» ، لأن «ما» مبهمة فذا تجانسها، وعلى هذا قرئ وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219] بالنصب، وزيادة «ذا» مع «الذي» أقرب ألا ترى أن «الذي» تصغّر كما تصغّر «ذا» فيقال: اللّذيّا، يقال: ذيّا وقد عورض سيبويه في قوله: الذي بمنزلة العمي فقيل: كيف هذا؟ وإنما يقال في تصغير العمي: العميّ، ويقال في تصغير الذي: اللذيّا، ويقال: اللّذيان والعميان فيوخذ هذا كلّه مختلفا فكيف يكون الذي بمنزلة العمي؟ وهذا لا يلزم منه شيء، وليس هذا موضع شرحه. «قرضا» منصوب على أنه اسم للمصدر كما يقال: أجابه إجابة، ويجوز أن يكون مفعول به كما تقول: أقرضته مالا، «حسنا» من نعت قرض. قيل: معنى الحسن هاهنا الحلال فإن الإقراض أن ينفق محتسبا لله عزّ وجلّ مبتغيا ما عنده فَيُضاعِفَهُ لَهُ قال الفرّاء «2» : جعله عطفا على يقرض. كما تقول: من يجيء فيكرمني ويحسن إليّ، وقال أبو إسحاق: يجوز أن يكون مقطوعا من الأول مستأنفا، ومن قرأ فيضعفه «3» جعله جواب الاستفهام فنصبه بإضمار «أن» عند الخليل، وسيبويه والجرمي ينصبه بالفاء. وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ قيل: الجنة. [سورة الحديد (57) : آية 12] يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) نصبت يوما على الظرف أي لهم أجر في ذلك اليوم، و «ترى» في موضع خفض بالإضافة «يسعى» في موضع نصب على الحال فأما قوله جلّ وعزّ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ولم يذكر الشمائل فللعلماء فيه ثلاثة أقوال: قال الضحّاك: نورهم هداهم، ومال إلى هذا القول محمد بن جرير قال: لأن المؤمنين نورهم حواليهم من كل جهة فلما خص الله جلّ وعزّ بين أيديهم وبأيمانهم علم أنه ليس بالضياء، والباء بمعنى «في» وقال بعض نحويي البصريين هي بمعنى عن قال أبو جعفر: وقيل النور هاهنا نور كتبهم وإنما يعطون كتبهم بأيمانهم من بين أيديهم فلهذا وقع الخصوص. قال أبو جعفر: وأجلّ ما قيل في هذا ما قاله عبد الله بن مسعود رحمة الله عليه، قال: يعطى المؤمنون أنوار على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نورا مثل الجبل، وأقل ذلك أن يعطى نورا على إبهامه يضيء مرة ويطفأ مرة. بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي يقال لهم، وحذف القول

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 123. [.....] (2) انظر معاني الفراء 3/ 132. (3) انظر البحر المحيط 8/ 219، وتيسير الداني 69.

[سورة الحديد (57) : آية 13]

«بشراكم» في موضع رفع بالابتداء «جنات» خبره، وأجاز الفرّاء: في «جنّات» النصب من جهتين، إحداهما على القطع ويكون اليوم في موضع الخبر وإن كان ظرفا، وأجاز رفع «اليوم» على أنه خبر «بشراكم» ، وأجاز أن يكون «بشراكم» في موضع نصب يعني يبشّرونهم بالبشرى، وأن ينصب «جنات» «بالبشرى» قال أبو جعفر: ولا نعلم أحدا من النحويين ذكر هذا غيره وهو متعسّف لأن جَنَّاتٌ إذا نصبها على القطع، وليست بمعنى الفعل بعد ذلك وإن نصبها بالبشرى، فإن كان نصبها ببشراكم فهو خطأ بين، لأنها داخلة في الصلة فيفرق بين الصلة والموصول باليوم، وليس هو في الصلة، وهذا لا يجوز عند أحد النحويين، وإن نصبت «جنات» بفعل محذوف فهو شيء متعسّف ومع هذا فلم يقرأ به أحد، خالِدِينَ نصب على الحال. ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. قال الفرّاء «1» : وفي قراءة عبد الله ذلك الفوز العظيم ليس فيها «هو» . قال أبو جعفر: «ذلك» مبتدأ، و «هو» زائدة للتوكيد. الْفَوْزُ الْعَظِيمُ خبر ذلك، ويجوز أن يكون «هو» مبتدأ ثانيا والجملة خبر ذلك. [سورة الحديد (57) : آية 13] يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) نصبت يوما على الظرف أي وذلك الفوز العظيم في ذلك اليوم، ويجوز أن يكون بدلا من اليوم الذي قبله، انْظُرُونا من نظر ينظر بمعنى النظر. وهذه القراءة البيّنة. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة. وأنظرونا «2» بفتح الهمزة، وزعم أبو حاتم أن هذا خطأ، قال: وإنما يأتينا هذا من شقّ الكوفة. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: إنما لحن حمزة في هذا لأن الذي لحنه قدّر «أنظرنا» بمعنى أخّرنا وأمهلنا، فلم يجز ذلك هاهنا. وهو عندي يحتمل غير هذا لأنه يقال: أنظرني بمعنى تمهّل عليّ وترفّق، فالمعنى على هذا يصحّ. نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ مجزوم لأنه جواب. قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً أي قال المؤمنون للمنافقين ارجعوا إلى الموضع الذي كنا فيه فاطلبوا ثمّ النور. قال أبو جعفر: وشرح هذا ما روي عن ابن عباس قال: يغشى الناس ظلمة المؤمنين والمنافقين والكافرين، فيبعث الله جلّ وعزّ نورا يهتدي به المؤمنون إلى الجنة فإذا تبعه المؤمنون تبعهم المنافقون، فيضرب الله جلّ وعزّ بينهم بسور باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، فينادي المنافقون المؤمنين انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ فيقول لهم المؤمنون: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ إلى الموضع الذي كنا فيه وفيه الظلمة فجاء النور

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 133. (2) انظر تيسير الداني 169 (قرأ حمزة «انظرون» بقطع الهمزة وفتحها في الحالين وكسر الظاء والباقون بالألف الموصولة ويبتدئونها بالضمّ وضمّ الظاء) .

[سورة الحديد (57) : آية 14]

فالتمسوا منه النور. قال أبو جعفر: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسمّ فاعله والباء زائدة، وعلى قول محمد بن يزيد هي متعلقة بالمصدر الذي دلّ عليه الفعل، وضمّت الضاد في «ضرب» للفرق فإن قيل: فلم لا كسرت؟ فالجواب عند بعض النحويين أنها ضمّت كما ضمّ أول الاسم في التصغير وهذا الجواب يحتاج إلى جوابين: أحدهما الجواب لم ضمّ أول الاسم المصغّر؟ ولم ضمّ أول فعل ما لم يسمّ فاعله؟ والجواب أن أول فعل ما لم يسم فاعله ضمّ لأنه لمّا وجب الفرق بينه وبين الفعل الذي سمّي فاعله لم يجز أن يكسر إلا لعلّة أخرى لأن بينه ما سمّي فاعله قد يأتي مكسورا في قول بعضهم: أنت تعلم ونحن نستعين، ويأتي مفتوحا، وهو الباب فلم يبق إلّا الضم، وليس هذا موضع جواب التصغير. لَهُ بابٌ قال كعب الأحبار: باب الرحمة الذي في بيت المقدس هو الذي ذكره الله جلّ وعزّ. قال قتادة: باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ الجنة وما فيها. وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ النار. [سورة الحديد (57) : آية 14] يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي نصلّي معكم ونصوم ونوارثكم ونناكحكم، قالُوا بَلى أي قد كنتم معنا كذلك وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ قال مجاهد: بالنفاق. وَتَرَبَّصْتُمْ قال ابن زيد: بالإيمان وَارْتَبْتُمْ قال: شكّوا، وقال غيره: ارتبتم فعلتم فعل المرتابين بوعد الله جلّ وعزّ ووعيده وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ أي خدعتكم أمانيّ أنفسكم فصددتم عن سبيل الله جلّ وعزّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قيل: قضاؤه بمناياكم وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ قال مجاهد وقتادة: الغرور الشيطان. قال أبو جعفر: فعول في كلام العرب للتكثير، وهو يتعدى عند البصريين. تقول: هذه غرور زيدا. وغفور الذنب، وأنشد سيبويه في تعدّيه إلى مفعول: [الرمل] 465- ثمّ زادوا أنّهم في قومهم ... غفر ذنبهم غير فجر «1» [سورة الحديد (57) : آية 15] فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وقرأ يزيد بن القعقاع تؤخذ «2» بالتاء لأن الفدية مؤنثة،

_ (1) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه 55، والكتاب 1/ 168، وخزانة الأدب 8/ 188، والدرر 5/ 274، وشرح أبيات سيبويه 1/ 68، وشرح التصريح 2/ 69، وشرح عمدة الحافظ 682، وشرح المفصل 6/ 74، والمقاصد النحوية 3/ 548، ونوادر أبي زيد 10. (2) انظر تيسير الداني 169، والبحر المحيط 8/ 221.

[سورة الحديد (57) : آية 16]

ومن ذكّرها فلأنها والفداء واحد وهي البدل والعوض وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي لا يؤخذ من الذين كفروا بدل ولا عوض من عذابهم مَأْواكُمُ النَّارُ أي مسكنكم النار مبتدأ وخبره، وكذا هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي وبئس المصير النار ثم حذف هذا. [سورة الحديد (57) : آية 16] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) وعن الحسن أَلَمْ يَأْنِ «1» يقال: أإن يئين وأني يأنى وحان يحين، ونال ينال وأنال ينيل بمعنى واحد و «أن» في موضع رفع بيأن. وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ «ما» في موضع خفض أي ولما نزل، هذه قراءة شيبة ونافع، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير والكوفيون وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ «2» وعن عبد الله بن مسعود أنه قرأ وما أنزل من الحقّ وأبو عبيد يختار التشديد لأن قبله ذكر الله جلّ وعزّ. قال أبو جعفر: والمعنى واحد لأن الحق لا ينزل حتّى ينزله الله عزّ وجلّ، وليس يقع في هذا اختيار وله جاز أن يقال في مثل هذا اختيار لقيل: الاختيار نزل: لأن قبله لِذِكْرِ اللَّهِ ولم يقل لتذكير الله. وَلا يَكُونُوا «3» كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ يكونوا في موضع نصب معطوف على «تخشع» أي وألا يكونوا، ويجوز أن تكون في موضع جزم. والأول أولى لأنها واو عطف، ولا يقطع ما بعدها ممّا قبلها إلّا بدليل فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ قال مجاهد الدّهر. فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ أي لم تلن ولم تقبل الوعظ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ مبتدأ وخبره ولم يعمّوا بالفسق لأن منهم من قد آمن، ومنهم من لم تبلغه الدعوة، وهو مقيم على ما جاء به نبيه صلّى الله عليه وسلّم. [سورة الحديد (57) : آية 17] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قيل: فالذي فعل هذا هو الذي يهدي ويسدّد من أراد هدايته ومن ضلّ عن طريق الحقّ. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي بالحجج والبراهين لتكونوا على رجاء من أن تعقلوا ذلك، هذا قول سيبويه. وغيره يقول: «لعلّ» بمعنى «كي» ولو كان كذلك لكان تعقلوا بغير نون.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 222. (2) انظر تيسير الداني 169 (قرأ نافع وحفص «وما نزل» مخفّفا والباقون مشدّدا) . (3) انظر البحر المحيط 8/ 222 (بالياء قراءة الجمهور، وبالتاء قراءة أبي حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر وعن شيبة ويعقوب وحمزة) .

[سورة الحديد (57) : آية 18]

[سورة الحديد (57) : آية 18] إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ الأصل المتصدقين ثم أدغمت التاء في الصاد. وفي قراءة أبيّ إنّ المتصدقين «1» وفي قراءة ابن كثير وعاصم إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ «2» أي المؤمنين من التصديق، والأول من الصدقة وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ قيل. الجنة. [سورة الحديد (57) : آية 19] وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ مبتدأ. أُولئِكَ يكون مبتدأ ثانيا، ويجوز أن يكون بدلا من الذين، ولا يكون نعتا لأن المبهم لا يكون نعتا لما فيه الألف واللام لا يجوز مررت بالرجل هذا، على النعت عند أحد علمته، ولو قلت: مررت بزيد هذا على النعت لجاز، وخير الابتداء الصِّدِّيقُونَ قال أبو إسحاق: صدّيق على التكثير أي كثير التصديق، وقال غيره: هذا خطأ لأن فعيلا لا يكون إلا من الثلاثي مثل سكّيت من سكت، وصدّيق للكثير الصّدق. ومن هذا قيل لأبي بكر رضي الله عنه: الصّدّيق، حتّى كان يعرف بذلك في وقت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إنّ الله جلّ وعزّ سمّى أبا بكر صدّيقا» . وَالشُّهَداءُ على هذا معطوفون على الصديقين يدلّ على صحة ذلك ما رواه بن عجلان عن زيد بن أصمّ عن البرآء عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مؤمنو أمتي شهداء» «3» ثم تلا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ الآية. قال أبو جعفر: فهذا القول أولى من جهة الحديث والعربية لأن الواو واو عطف فسبيل ما بعدها أن يكون داخلا فيما قبلها إلّا أن يمنع مانع من ذلك أن يكون حجّة قاطعة وقد قيل: إن التمام أولئك هم الصديقون وإن الشهداء ابتداء. وهذا يروى عن ابن عباس وهذا اختيار محمد بن جرير وزعم أنه أولى بالصواب لأن المعروف من معنى الشهداء أنه المقتول في سبيل الله جلّ وعزّ ثم استثنى فقال: إلّا أن يراد بالشهداء أنه يشهد لنفسه عند ربّه بالإيمان، قال أبو جعفر: وإذا كان و «الشهداء» مبتدأ فخبره عِنْدَ رَبِّهِمْ ويجوز أن يكون خبره. لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وهذا عطف جملة على جملة والأول على خلاف هذا يكون «والشهداء» معطوفا على الصّدّيقين ويكون لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ للجميع. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا مبتدأ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ مبتدأ وخبره في موضع خبر الأول.

_ (1) انظر تيسير الداني 169، ومختصر ابن خالويه 152، وكتاب السبعة لابن مجاهد 626. (2) انظر تيسير الداني 169، ومختصر ابن خالويه 152، وكتاب السبعة لابن مجاهد 626. (3) انظر تفسير القرطبي 27/ 231.

[سورة الحديد (57) : آية 20]

[سورة الحديد (57) : آية 20] اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ «ما» كافة لأنّ عن العمل ولو جعلتها صلة لنصبت الحياة والدنيا من نعتها، لَعِبٌ خبر، والمعنى: مثل لعب أي يفرح الإنسان بحياته فيها كما يفرح باللعب ثم تزول حياته كما يزول لعبه وزينته وما يفاخر به الناس ويباهيهم به من كثرة الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ. قال أبو إسحاق: الكاف في موضع رفع على أنها نعت أي وتفاخر مثل غيث قال: ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر. والكفّار الزرّاع. وإذا أعجب الزراع كان على نهاية من الحسن. قال: ويجوز أن يكونوا الكفار بأعيانهم، لأن الدنيا للكفار أشدّ إعجابا لأنهم لا يؤمنون بالبعث قال: و «يهيج» يبتدئ في الصفرة ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً قال: متحطّما. فضرب الله جلّ وعزّ هذا مثلا للحياة الدنيا وزوالها ثمّ خبر جلّ وعزّ بما في الآخرة فقال: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ قال محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لموضع سوط في الجنّة خير من الدنيا وما فيها فاقرؤوا إن شئتم» : وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ «1» . [سورة الحديد (57) : آية 21] سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي سابقوا بالأعمال التي توجب المغفرة إلى مغفرة من ربكم وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ قال أبو جعفر: قد تكلّم قوم من العلماء في معنى هذا فمنهم من قال: العرض هاهنا السعة ومنهم من قال: هو مثل الليل والنهار إذا ذهبا فالله جلّ وعزّ أعلم أين يذهبان، وأجاب بهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومنهم من قال: هذه هي الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة، والسماء مؤنثة ذكر ذلك الخليل رحمه الله وغيره من النحويين سوى الفرّاء وبذلك جاء القرآن إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1] وحكى الفرّاء أنها تؤنّث وتذكّر، وأنشد: [الوافر] 466- فلو رفع السّماء إليه قوما ... لحقنا بالسّماء مع السّحاب «2» وهذا البيت لو كان حجّة لحمل على غير هذا، وهو أن يكون يحمل على تذكير

_ (1) أخرجه أحمد في مسنده 3/ 433، والدارمي في سننه 2/ 333، والسيوطي في الدر المنثور 2/ 107، وابن كثير في تفسير 2/ 255. (2) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (سما) ، والمذكر والمؤنث للأنباري ص 367، والمذكر والمؤنث للفراء ص 102، والمخصص 17/ 22. [.....]

[سورة الحديد (57) : آية 22]

الجميع ذكر محمد بن يزيد: أن سماء تكون جمعا لسماوة وأنشد هو وغيره: [الوافر] 467- سماوة الهلال حتّى احقوقفا «1» ويدلّ على صحة هذا قوله جلّ وعزّ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ [البقرة: 29] وإذا كانت السماء واحدة فتأنيثها كتأنيث عناق، وتجمع على ستة أوجه منهن جمعان مسلّمان، وجمعان مكسّران لأقل العدد، وجمعان مكسّران لأكثره، وذلك قولك: سموات وسماءات وأسم وأسمية وسمايا وسميّ وإن شئت كسرت السين من سميّ، وقد جاء فيها أخر في الشّعر كما قال: [الطويل] 468- سماء الإله فوق سبع سمائيا «2» فعلى هذا جمع سماء على سماء وفيه من الأشكال والنحو اللطيف غير شيء، فمن ذلك أنه شبه سماء برسالة لأن الهاء في رسالة زائدة. ووزن فعال وفعال واحد، فكان يجب على هذا أن يقول: سمايا فعمل شيئا أخر فجمعها على سماء على الأصل لأن الأصل في خطايا خطاء ثم عمل شيئا ثالثا كان يجب أن يقول: فوق سبع سماء، فأجرى المعتلّ مجرى السالم وجعله بمنزلة ما لا ينصرف من السالم، وزاد الألف للإطلاق. والأرض مؤنّثة، وقد حكي فيها التذكير، كما قال: [المتقارب] 469- فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل ابقالها «3» قال أبو جعفر: وقد ردّ قوم هذا، ورووا «ولا أرض أبقلت ابقالها» بتخفيف الهمزة. قال ابن كيسان: في قولهم أرضون حركوا هذه الراء لأنهم أرادوا: أرضات فبنوه على ما يجب من الجمع بالألف والتاء، قال: وجمعوه بالواو والنون عوضا من حذف الهاء في واحدة ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ مبتدأ وخبره أي ذلك الفضل من التوفيق والهداية والثواب فضل الله يؤتيه من يشاء أي يؤتيه إياه من خلقه. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مبتدأ وخبره. [سورة الحديد (57) : آية 22] ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)

_ (1) مرّ الشاهد رقم (423) . (2) الشاهد لأمية بن أبي الصلت في ديوانه 70، وخزانة الأدب 1/ 244، وشرح أبيات سيبويه 2/ 304، ولسان العرب (سما) ، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 349، والأشباه والنظائر 2/ 337، والخصائص 1/ 211، وما ينصرف وما لا ينصرف 115، والمقتضب 1/ 144، والممتع في التصريف 2/ 513، والمنصف 2/ 66. وصدره: «له ما رأت عين البصير وفوقه» (3) مرّ الشاهد رقم (152) .

[سورة الحديد (57) : الآيات 23 إلى 24]

قال قتادة: فِي الْأَرْضِ يعني السنين أي الحرب والقحط. وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ الأوصاب والأمراض إلّا في كتاب. مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها يكون من قبل أن نخلق الأنفس هذا قول ابن عباس والضحّاك والحسن وابن زيد، وقيل: الضمير للأرض، وقيل: للمصائب والأول أولاها لأن الجلّة قالوا به، وهو أقرب إلى الضمير. وقال بعض العلماء: هذا معنى قضاء الله وقدره أنه كتب كلّ ما يكون ليعلم الملائكة عظيم قدرته جلّ وعزّ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لأنه جلّ وعزّ إنما يقول للشيء: كن فيكون. [سورة الحديد (57) : الآيات 23 الى 24] لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ أي من أمر الدنيا إذ أعلمكم الله جلّ وعزّ أنه مفروغ منه مكتوب. وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وهو الفرح الذي يؤدي إلى المعصية، وقرأ أبو عمرو ولا تفرحوا بما آتاكم «1» وهو اختيار أبي عبيد، واحتجّ أنه لو أتاكم لكان الأول أفاتكم. قال أبو جعفر: وهذا الاحتجاج مردود عليه من العلماء وأهل النظر لأن كتاب الله عزّ وجلّ لا يحمل على المقاييس، وإنما يحمل بما تؤديه الجماعة فإذا جاء رجل فقاس بعد أن يكون متّبعا، وإنما تؤخذ القراءة كما قلنا أو كما قال نافع بن أبي نعيم: ما قرأت حرفا حتّى يجتمع عليه رجلان من الأئمة أو أكثر. فقد صارت قراءة نافع عن ثلاثة أو أكثر ولا نعلم أحدا قرأ بهذا الذي اختاره أبو عبيد إلّا أبا عمرو، ومع هذا فالذي رغب عنه معروف المعنى صحيح قد علم كلّ ذي لبّ وعلم أن ما فات الإنسان أو أتاه فالله عزّ وجلّ فاته إياه أو أتاه إياه، ولو لم يعلم هذا إلّا من قوله جلّ وعزّ: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها والله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أي في مشيته تكبّرا وتعظّما فخور على الناس بماله ودنياه، وإنما ينبغي أن يتواضع لله جلّ وعزّ ويشكره ويثني عليه. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ أي بحقوق الله جلّ وعزّ عليهم وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ أي بما يفعلونه من ذلك وفي إعراب الَّذِينَ «2» خمسة أوجه منها ثلاثة للرفع واثنان للنصب. يكون الَّذِينَ في موضع رفع على إضمار مبتدأ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على الابتداء وخبره محذوف يدلّ عليه الاخبار عن نظائره، والوجه الثالث أن يكون

_ (1) انظر تيسير الداني 169 (قرأ أبو عمرو «بما أتاكم» بالقصر والباقون بالمدّ) . (2) انظر البحر المحيط 8/ 224.

[سورة الحديد (57) : آية 25]

مرفوعا بالابتداء ودلّ على خبره ما بعده من الشرط والمجازاة لأنه في معناه. ويجوز أن يكون في موضع نصب على البدل من كلّ أو بمعنى أعني. وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي الغني عن خلقه وعما ينفقونه، الحميد إليهم بإنعامه عليهم. ومن قرأ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «1» جعل «هو» زائدة فيها معنى التوكيد أو مبتدأ، وما بعدها خبرا، والجملة خبر «إن» . [سورة الحديد (57) : آية 25] لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ أي بالدلائل والحجج وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ أي بالأحكام والشرائع. وَالْمِيزانَ قال ابن زيد، هو الميزان الذي يتعامل الناس به، وقال قتادة: الميزان الحق لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ منصوب بلام كي، وحقيقته أنها بدل من «أن» . وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ أي للناس فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ قال ابن زيد: البأس الشديد السلاح والسيوف يقاتل الناس بها، قال: والمنافع التي يحفر بها الأرضون والجبال. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ معطوف على الهاء. بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أي قويّ على الانتصار ممن بارزه بالمعاداة عزيز في انتقامه منه لأنه لا يمنعه منه مانع. [سورة الحديد (57) : آية 26] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ إلى قومهما. وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ أي متّبع لطريق الهدى مستبصر. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي خارجون إلى الكفر والمعاصي. [سورة الحديد (57) : آية 27] ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا أي أتبعنا، ويكون الضمير يعود على الذريّة أو على نوح وإبراهيم عليهما السلام لأن الاثنين جمع وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي أتبعنا. وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ يروى أنه نزل جملة. وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 224، وتيسير الداني 169، (قرأ ابن عامر ونافع بغير هو، والباقون بزيادة هو) .

[سورة الحديد (57) : آية 28]

ويقال: رأفة وقد رؤف ورأف وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها نصبت رهبانية بإضمار فعل أي فابتدعوا رهبانية أي أحدثوها، وقيل: هو معطوف على الأول. ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ قال ابن زيد: أي ما افترضناها. إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ نصب على الاستثناء الذي ليس من الأول ويجوز أن يكون بدلا من المضمر أي ما كتبناها عليهم إلّا ابتغاء رضوان الله فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها لفظه عام ويراد به الخاص لا نعلم في ذلك اختلافا، ويدلّ على صحته فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وفي الذين لم يرعوها قولان: مذهب الضحّاك وقتادة أنّهم الذين ابتدعوها تهوّد منهم قوم وتنصّروا، وهذا يروى عن أبي أمامة، فأما الذي روي عن ابن عباس فإنهم كانوا من بعد من ابتدعها بأنهم كفار ترهّبوا، وقالوا: نتبع من كان قبلنا ويدلّ على صحّة هذا حديث ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ قال: «من آمن بي» . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ قال: من جحدني. [سورة الحديد (57) : آية 28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قال الضحّاك: من أهل الكتاب. اتَّقُوا اللَّهَ أي في ترك معاصيه وأداء فرائضه. وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ يعني حظّين، كما روى أبو بردة عن أبيه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، من كان من أهل الكتاب فآمن بالتوراة والإنجيل ثم آمن بالقرآن، ورجل كانت له جارية فأدّبها فأحسن أدبها ثم تزوّجها، وعبد نصح مولاه وأدّى فرض الله جلّ وعزّ عليه» وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ عن ابن عباس قال: القرآن واتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال مجاهد: الهدى، قال أبو إسحاق: ويقال إنه النور الذي يكون للمؤمنين يوم القيامة وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي يصفح عنكم ويستر عليكم ذنوبكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ذو مغفرة ورحمة لا يعذّب من تاب. [سورة الحديد (57) : آية 29] لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) لا زائدة للتوكيد ودلّ على هذا ما قبل الكلام وما بعده أي لأن يعلم ويروى عن ابن عباس أنه قرأ لأن يعلم أهل الكتاب وكذا يروى عن عاصم الجحدري وعن ابن مسعود لكي يعلم أهل الكتاب «1» وكذا عن سعيد بن جبير، وهذه قراءات على التفسير لا يقدرون فرفعت الفعل لأن المعنى أنه لا يقدرون يدلّ على هذا أن بعده:

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 227، ومعاني الفراء 3/ 137.

وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ، وبعض الكوفيين يقول «لا» بمعنى «ليس» ، والأول قول سيبويه، وروى المعتمر عن أبيه عن ابن عباس قال: اقرءوا بقراءة ابن مسعود ألّا يقدروا «1» بغير نون فهذا على أنه منصوب بأن. قال أبو جعفر: وهذا بعيد في العربية أن تقع أَنَّ معملة بعد يَعْلَمَ وهو من الشواذ، ومن الشواذ أنه روي عن الحسن أنه قرأ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ بالرفع ومجازه ما ذكرناه من أن التقدير فيه أنه وأن الفضل بيد الله أي بيد الله دونهم لأنه كما روي قالوا: الأنبياء منّا فكفروا بعيسى صلّى الله عليه وسلّم وبمحمد فأعلم الله جلّ وعزّ أنّ الفضل بيده يرسل من شاء وينعم على من أراد إلّا أن قتادة قال: لمّا أنزل الله جلّ وعزّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ حسد اليهود المسلمين فأنزل الله جلّ وعزّ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أي من خلقه وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أي على عباده.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 228.

58 شرح إعراب سورة المجادلة

58 شرح إعراب سورة المجادلة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المجادلة (58) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها قال أبو جعفر بن محمد: إن شئت أدغمت الدال في السين فقلت: قد سمع، لأن مخرج الدال والسين جميعا من طرف اللسان، وإن شئت بيّنت فقلت: قد سمع الله لأن الدال والسين وإن كانتا من طرف اللسان فليستا من موضع واحد لأن الدال والتاء والطاء من موضع واحد، والسين والصاد والزاي من موضع واحد. يسمّين حروف الصفير، وأيضا فإن السين منفصلة من الدال. وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ أي تشتكي المجادلة إلى الله جلّ وعزّ ما بظهار زوجها وتسأله الفرج. وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما أي تحاور النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمجادلة إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ أي لما يقولانه وغيره. بَصِيرٌ بما يعملانه وغيره. [سورة المجادلة (58) : آية 2] الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) الَّذِينَ رفع بالابتداء، ويجوز على قول سيبويه أن يكون في موضع نصب ببصير يظّهارون «1» قراءة الحسن وأبي عمرو ونافع، وقرأ أبو جعفر وشيبة ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي يظهرون وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعاصم يَظْهَرُونَ وحكى الكسائي أنّ في حرف أبيّ يتظاهرون حجة لمن قرأ يظهرون لأن التاء مدغمة في الظاء وأصحّ من هذا ما رواه نصر بن علي عن أبيه عن هارون قال: في حرف أبيّ يتظهّرون حجّة لمن قرأ

_ (1) انظر تيسير الداني 169، والبحر المحيط 8/ 231.

[سورة المجادلة (58) : آية 3]

يظّهرون لأن التاء أدغمت في الظاء أيضا. مّا هنّ أمّهاتهم «1» خبر «ما» شبّهت بليس، وقال الفرّاء: بأمهاتهم فلما حذفت الباء بقي لها أثر فنصب الاسم. إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ مبتدأ وخبر، و «إن» بمعنى «ما» وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ أي ما لا يصحّ. وَزُوراً قال قتادة: أي كذبا ونصبت منكرا وزورا ويقولون لو رفعته لانقلب المعنى وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ أي ذو عفو وصفح عمن تاب. غَفُورٌ له لا يعذّبه بعد التوبة، وقيل هذا لأنهم كانوا يطلّقون في الجاهلية بالظّهار. قال أبو قلابة: كان الرجل في الجاهلية إذا ظاهر من امرأته فهو طلاق بتات فلا يعود إليه أبدا، فأنزل الله عزّ وجلّ هذا. [سورة المجادلة (58) : آية 3] وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) قال أبو جعفر: اختلف العلماء في معنى العود فقال قوم ممن يقول بالظاهر: لا يجب عليه الكفّارة حتّى يظاهر مرة ثانية، وحكوا ذلك عن بكير بن عبد الله بن الأشجّ، وقال قتادة: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا هو أن يعزم بعد الظّهار على وطئها وغشيانها، وقال بعض الفقهاء: عوده أن يمسكها ولا يطلّقها بعد الظهار فتجب عليه الكفارة، وقال القتبيّ: هو أن يعود لما كان يقال في الجاهلية وقال أبو العالية: لِما قالُوا أي فيما قالوا، وقال الفرّاء «2» : لما قالوا وإلى ما قالوا وفيما قالوا واحد، يريد يرجعون عن قولهم، وقال الأخفش: فيه تقديم وتأخير أي فتحرير رقبة لما قالوا. ومن أبينها قول قتادة أي ثم يعودون إلى ما قالوا من التحريم فيحلّونه. فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أو فعليهم تحرير رقبة، ويجوز عند النحويين البصريين فتحرير رقبة. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا من قبل أن يمسّ الرجل المرأة، ومن قبل أن تمسّ المرأة الرجل، وهذا عام غير أن سفيان كان يقول: له ما دون الجماع. [سورة المجادلة (58) : آية 4] فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) مِنْ في موضع رفع بالابتداء أي فمن لم يجد الرقبة والمفعول يحذف إذا عرف المعنى فعليه صيام شهرين، ويجوز صيام شهرين على أن شهرين ظرف، وإن شئت كان

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 231 (قرأ الجمهور بالنصب على لغة الحجاز، والمفضل عند عاصم بالرفع على لغة تميم، وابن مسعود بأمهاتهم بزيادة الباء) . (2) انظر معاني الفراء 3/ 139.

[سورة المجادلة (58) : آية 5]

مفعولا على السعة فإذا قلت: صيام شهرين لم يجز أن يكون ظرفا. وعلى هذا حكى سيبويه فيما يتعدّى إلى مفعولين: [الرجز] 470- يا سارق اللّيلة أهل الدار «1» فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أي فمن لم يستطع الصوم لهرم أو زمانة فعليه إطعام ستين مسكينا، ويجوز تنوين إطعام، وليس هاهنا من قبل أن يتماسّا ولكنه يؤخذ من جهة الإجماع ذلك ليؤمنوا بالله ورسوله. قال أبو إسحاق: أي ذلك التغليظ، وقال غيره: فعلنا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله أي لتصدّقوا بما جاءكم فتؤمنوا. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أي هذه فرائض الله جلّ وعزّ التي حدّها وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ أي لمن كفر بها. [سورة المجادلة (58) : آية 5] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي يخالفون الله ورسوله ويصيرون في حدّ أعدائه. كُبِتُوا أي غيظوا، وقال بعض أهل اللغة: أي هلكوا، قال: والأصل كبدوا من قولهم: كبده إذا أصابه بوجع في كبده كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الكاف في موضع نصب لأنّها نعت لمصدر ولهم عذاب مهين. [سورة المجادلة (58) : آية 6] يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ العامل في يوم «عذاب» ، ولا يجوز عند البصريين أن يكون مبنيا إذا كان بعده فعل مستقبل وإنما يبنى إذا كان بعده ماض أو ما ليس بمعرب فإذا كان هكذا بني، لأنه لما كان يحتاج إلى ما بعده ولا بد له منه أجري مجراه. فأما الكوفيون فيقولون: إنما بني لأنه بمعنى إذا فيبنى لبنائها. جَمِيعاً منصوب على الحال أي يوم يبعثهم الله من قبورهم إلى القيامة في حال اجتماعهم. فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أي فيخبرهم بما أسرّوه وأخفوه وغير ذينك من أعمالهم أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ أي عدّه وأثبته وحفظه ونسيه عاملوه. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي على كل شيء من أعمالهم شاهد عالم به.

_ (1) الرجز بلا نسبة في الكتاب 1/ 233، وخزانة الأدب 3/ 108 و 4/ 233، والدرر 3/ 98، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 655، وشرح المفصل 2/ 45، والمحتسب 2/ 295، وهمع الهوامع 1/ 203.

[سورة المجادلة (58) : آية 7]

[سورة المجادلة (58) : آية 7] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أي ألم تنظر بعين قلبك فتعلم أن الله جلّ وعزّ يعلم ما في السّموات وما في الأرض لا يخفى عليه شيء من صغيرة ولا كبيرة فكيف يخفى عليه أعمال هؤلاء ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ قال مقاتل بن حيان عن الضحاك قال: هو تعالى فوق عرشه وعلمه معهم. وخفض ثلاثة على البدل من «نجوى» ويجوز أن يكون مخفوضا بإضافة نجوى إليه، ويجوز رفعه على موضع نجوى، ويجوز نصبه على الحال من المضمر الذي في نجوى إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ مبتدأ وخبره، وحكى الفراء «1» أن في حرف عبد الله ولا أربعة إلّا هو خامسهم وحكى أبو حاتم أن في حرف عبد الله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلّا الله رابعهم ولا خمسة إلّا الله سادسهم ولا أقلّ من ذلك ولا أكثر إلّا الله معهم إذا انتجوا. قال أبو جعفر: وهذه القراءة إن صحّت فإنما هي على التفسير لا يجوز أن يقرأ بها إلا على ذلك وقرأ يزيد بن القعقاع ما تكون «2» من نجوى ثلاثة وهذه القراءة وإن كانت مخالفة لحجة الجماعة فهي موافقة للسواد جائزة في العربية لأن نجوى مؤنثة باللفظ و «من» فيها زائدة، كما تقول: ما جاءني من رجل، وما جاءتني من امرأة، والتقدير: ولا يكون من نجوى أربعة إلّا هو خامسهم، وحكى هارون عن عمرو عن الحسن أنه قرأ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ «3» إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ عطفه على الموضع ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ أي ثم ينبئهم بما تناجوا به إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ من نجواهم وسرارهم وغير ذلك من أعمالهم وأعمال عباده. [سورة المجادلة (58) : آية 8] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) قال مجاهد: هم قوم من اليهود وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة «4» ينتاجون بالإثم والعدوان ويتناجون أبين لأنهم قد أجمعوا على أن قرءوا

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 140. (2) انظر البحر المحيط 8/ 233. [.....] (3) انظر معاني الفراء 3/ 140، والبحر المحيط 8/ 233 (قرأ الجمهور «ولا أكثر» عطفا على لفظ المخفوض، والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش وأبو حياة وسلام ويعقوب بالرفع عطفا على موضع نجوى) . (4) انظر البحر المحيط 8/ 234، وتيسير الداني 169.

[سورة المجادلة (58) : آية 9]

إذا تناجيتم فلا تتناجوا إلّا شيئا روي عن ابن مسعود أنه قرأ أيضا وينتجون بالإثم والعدوان وعصيان الرسول وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ. قال أبو جعفر: قد ذكرنا معناه. وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أي هلّا يعاقبنا على ذلك في وقت قولنا حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ مبتدأ وخبره، وحكى النحويون أنه يقال: حسبك ولا يلفظ له بخبر لأنه قد عرف معناه، وقيل: فيه معنى الأمر لأن معناه اكفف فلما كان الأمر لا يؤتى له بخبر حذف خبر ما هو بمعناه. [سورة المجادلة (58) : آية 9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ فيه ثلاثة أجوبة فلا تتناجوا بتاءين، ولا تناجوا بتاء واحدة ولا تناجوا بإدغام التاء في التاء. فمن جاء به بتاءين، قال: هي كلمة مبتدأ بها وهي منفصلة مما قبلها، ومن جاء به بتاء واحدة حذف لاجتماع التاءين مثل تذكرون وتتذكّرون، ومن أدغم قال: اجتمع حرفان مثلان وقبلهما ألف والحرف المدغم قد يأتي بعد الألف مثل دواب وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ أي بما يقربكم من الله جلّ وعزّ وَالتَّقْوى أي باتّقائه بأداء فرائضه واجتناب ما نهى عنه. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي الذي إليه مصيركم ومجمعكم فيجزيكم بأعمالكم. [سورة المجادلة (58) : آية 10] إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ أصحّ ما قيل فيه قول قتادة قال: كان المنافقون يتناجون بحضرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيسوء ذلك المسلمين ويكبر عليهم فأنزل الله جلّ وعزّ: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا الآية ويدلّ على صحّة هذا القول ما قبله وما بعده من القرآن. وقال ابن زيد: كان الرجل يناجي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الحاجة ويفعل ذلك ليرى الناس أنه ناجى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيوسوس إبليس للمسلمين فيقول: إنما هذه المناجاة لجموع قد اجتمعت لكم وأمر قد حضر ترادون به فيحزنون لذلك. وفي الآية قول ثالث ذكره محمد بن جرير، قال: حدّثنا محمد بن حميد قال: حدّثنا يحيى بن واضح قال: حدّثنا يحيى بن داود البجلي قال: سئل عطية العوفي وأنا أسمع عن الرؤيا فقال: الرؤيا على ثلاثة منازل منها ما يوسوس به الشيطان فذلك قول الله جلّ وعزّ: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ومنها ما يحدث الرجل به نفسه فيراه في منامه ومنها أخذ باليد، ويقرأ لِيَحْزُنَ والأول أفصح. وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قال محمد بن جرير: أي بقضاء الله وقدره، وقيل: بِإِذْنِ اللَّهِ بما أذن الله جلّ وعزّ فيه، وهو غمّهم

[سورة المجادلة (58) : آية 11]

بالمؤمنين لأنه جلّ ثناؤه قد أذن في ذلك وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي ليكلوا أمرهم إليه ولا تحزنهم النجوى وما يتسارّ به المنافقون إذا كان الله جلّ وعزّ يحفظهم ويحوطهم. [سورة المجادلة (58) : آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) في المجلس «1» وروي عن الحسن وقتادة أنهما قرأ إذا قيل لكم تفاسحوا قال الفراء «2» : مثل تعهدت ضيعتي وتعاهدت، وقال أهل اللغة: تعهّدت أفصح لأنه فعل من واحد، وقال الخليل: لا يقال إلّا تعهّدت لأنه فعل من واحد. وقرأ الحسن وعاصم فِي الْمَجالِسِ وقراءة العامة في المجلس وقال أبو جعفر: واختلف العلماء في معناه فصحّ عن مجاهد أنه قال: هو مجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصة، وصح عن قتادة أنه قال: كان الناس يتنافسون في مجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يكاد بعضهم يوسع لبعض فأنزل الله جلّ وعزّ يعني هذا، وروي عن قتادة أنه في مجلس الذكر، وقال الحسن «3» ويزيد بن أبي حبيب: هذا في القتال خاصة. قال أبو جعفر: وظاهر الآية للعموم، فعليه يجب أن يحمل ويكون هذا لمجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصة وللحرب ولمجالس الذكر ولا نعلم قولا رابعا والمعنى يؤدّي عن معنى مجالس، وأيضا فإن الإنسان إذا خوطب أن يوسع مجلسه ومعه جماعة قد أمروا بما أمر به فقد صارت مجالس. يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ جواب الأمر، وفيه معنى المجازاة ومكان فسيح أي واسع. وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا قراءة أبي جعفر ونافع وشيبة وقراءة ابن كثير وأبي عمرو وأهل الكوفة انْشُزُوا فَانْشُزُوا «4» وهما لغتان بمعنى واحد، وأبو عبيد يختار الثانية. ولو جاز أن يقع في هذا اختيار لكان الضم أولى لأنه فعل لا يتعدى مثل قعد يقعد لأن الأكثر في كلام العرب فيما لا يتعدى أي يأتي مضموما وفيما يتعدّى أن يأتي مكسورا مثل ضرب يضرب. وأما المعنى فأصح ما قيل فيه أنه النشوز إلى كل خير من أمر بمعروف ونهي عن منكر أو قتال عدو أو تفرّق عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لئلا يلحقه أذى. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ قيل: أي يرفعهم في الثواب والكرامة، وقيل: يرفعهم من الارتفاع أي يرفعهم على غيرهم ممن لا يعلم ليبيّن فضلهم وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي يخبره فيجازي عليه.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 235، وتيسير الداني 169 (قرأ عاصم «في المجالس» بألف على الجمع والباقون بغير على ألف على التوحيد) . (2) انظر معاني الفراء 3/ 141. (3) انظر البحر المحيط 8/ 235. (4) انظر تيسير الداني 169.

[سورة المجادلة (58) : آية 12]

[سورة المجادلة (58) : آية 12] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كانوا قد آذوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بكثرة سرارهم فأراد الله جلّ وعزّ أن يخفّف عنه فأمرهم بهذا فتوقّفوا عن السّرار ثم وسّع عليهم ولم يضيّق. قال مجاهد: لم يعمل أحد بهذه الآية إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه تصدّق بدينار ثم سار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم نسخت، وقال رحمة الله عليه: بي خفّف عن هذه الأمة. قال لي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما ترى أيتصدّق من سارّ بدينار قلت: لا، قال: فبدرهم قلت: لا، قال: بكم؟ قلت: بحبة من شعير، فقال: إنك لزهيد» «1» ثم نزل التخفيف فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لا يكلّف من لا يجد. [سورة المجادلة (58) : آية 13] أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) أصل الإشفاق في اللغة الحذر والخوف ومن هذا لا يحلّ لأحد أن يصف الله جلّ وعزّ بالاشفاق ولا يقول: يا شفيق. قال مجاهد: أأشفقتم أي أشقّ عليكم فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فإذا تاب عليكم لم يؤاخذهم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة أي فافعلوا ما لم يسقط عنكم فرضه وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي فيما أمركم به وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي فيجازيكم عليه. [سورة المجادلة (58) : آية 14] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي ألم تنظر بعين قلبك فتراهم. ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ الضمير يعود على الذين وهم المنافقون ليسوا من المؤمنين أي من أهل دينهم وملّتهم ولا من الذين غضب الله عليهم وهم اليهود وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يحلفون أنّهم مؤمنون. [سورة المجادلة (58) : آية 15] أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) ما في موضع رفع أي ساء الشيء الذين يعملونه، وهو غشّهم المؤمنين، ونصحهم الكافرين. [سورة المجادلة (58) : آية 16] اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً أي اتخذوا حلفهم للمؤمنين أنّهم منهم حاجزا لدمائهم وأموالهم، وهذا معنى فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لأن سبيل الله جلّ وعزّ في أهل الأوثان أن

_ (1) أخرجه الترمذي في التفسير 12/ 186.

[سورة المجادلة (58) : آية 17]

يقتلوا، وفي أهل الكتاب أن يقتلوا إلّا أن يؤدّوا الجزية فلما أظهر هؤلاء الإيمان وهم كفار صدّوا المؤمنين بما أظهروه عن قتلهم. [سورة المجادلة (58) : آية 17] لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) أي لن تنتفعوا بالأموال فتفتدوا بها، ولن ينفعهم أولادهم فينصروهم ويستنقذوهم مما هم فيه من العذاب. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ويجوز النصب على الحال في غير القرآن. [سورة المجادلة (58) : آية 18] يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ أي فيحلفون له على الباطل، وهذا دليل بيّن على بطلان قول من قال: إنّ أحدا لا يتكلّم يوم القيامة إلّا بالحق لما يعاين. وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أي على شيء ينفعهم. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ كسرت إنّ لأنها مبتدأة، وسمعت علي بن سليمان يجيز فتحها لأن معنى ألا حقا. [سورة المجادلة (58) : آية 19] اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ هذا مما جاء على أصله ولو جاء على الإعلال لكان استحاذ، كما يقال: استصاب فلان رأي فلان ولا يقال: استصوب. قال أبو جعفر: إنما جاء على أصله مما يؤخذ سماعا من العرب لا مما يقاس عليه، وقيل: يعلّ الرباعي اتباعا للثلاثي فلما كان يقال: استحوذ عليه إذا غلبه ولا يقال حاذ في هذا المعنى، وإنما يقال: حاذ الإبل إذا جمعها فلمّا لم يكن له ثلاثيّ جاء على أصله. أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ حزبه أولياؤه وأتباعه وجموعه والخاسر الذي قد خسر في صفقته. [سورة المجادلة (58) : آية 20] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قال قتادة: يعادونه وقال مجاهد: يشاقون، وقيل: معناه يخالفون حدود الله جلّ وعزّ فيما أمر به. وحقيقته في العربية يصيرون في حدّ غير حدّه الذي حدّه، والأصل يحاددون فأدغمت الدال في الدال. أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أي ممن يلحقه الذل، وأولئك وما بعد خبر عن الذين. [سورة المجادلة (58) : آية 21] كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي قيل: أي كتب في اللوح المحفوظ، وجعله

[سورة المجادلة (58) : آية 22]

الفراء «1» مجازا جعل كتب بمعنى «قال» أي الله لأغلبنّ أنا ورسلي أي من حادّنا، «ورسلي» معطوف على المضمر الذي في «لأغلبن» و «أنا» توكيد. قال أبو جعفر: وهذه اللغة الفصيحة، وأجاز النحويون جميعا في الشعر: لأقومنّ وزيد، وأجاز الكوفيون وجماعة من أهل النظر أن يعطف على المضمر المرفوع من غير توكيد لأنه يتّصل وينفصل فخالف المضمر المخفوض إِنَّ «2» اللَّهَ قَوِيٌّ أي ذو قوّة وقدرة على أن كتب فيمن خالفه وخالف رسله عَزِيزٌ في انتقامه لا يقدر أحد أن ينتصر منه. [سورة المجادلة (58) : آية 22] لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) أصحّ ما روي في هذا أنه نزل في المنافقين الذين والوا اليهود لأنهم لا يقرّون بالله جلّ وعزّ على ما يجب الإقرار به ولا يؤمنون باليوم الآخر فيخافون العقوبة ويُوادُّونَ في موضع نصب لأنه خبر تجد أو نعت لقوم. وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أي ولو كان الذين حادّوا الله ورسوله آباءهم، جمع أب على الأصل، والأصل فيه أبو والتثنية أيضا على الأصل عند البصريين لا غير، وحكى الكوفيون: جاءني أبان أَوْ أَبْناءَهُمْ جمع ابن على الأصل والأصل فيه: بني الساقط منه ياء، والساقط من أب واو فأما أب فقد دل عليه التثنية وأما ابن فدلّ عليه الاشتقاق. قال أبو إسحاق: هو مشتقّ من بناه أبوه يبينه. قال أبو جعفر: وقد غلط بعض النحويين فقال: الساقط منه واو لأنه قد سمع البنوة. أَوْ إِخْوانَهُمْ جمع أخ على الأصل، كما تقول: ورل وورلان أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ قيل: هو مجاز، و «في» بمعنى اللام أي كتب لقلوبهم الإيمان، وقد علم أن المعنى كتب لهم، وقيل: هو حقيقة أي كتب في قلوبهم سمة الإيمان ليعلم أنّهم مؤمنون وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ قيل: بنور وهدى وقيل بجبرائيل صلّى الله عليه وسلّم ينصرهم ويؤيّدهم ويوفّقهم وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها على الحال. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أي بطاعتهم في الدنيا. وَرَضُوا عَنْهُ بإدخالهم الجنة. أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أي جنده وجماعته. وتحزّب القوم تجمّعوا أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قيل: أي الذين ظفروا بما أرادوا.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 142. (2) انظر تيسير الداني 170 (فتحها نافع وابن عامر) .

59 شرح إعراب سورة الحشر

59 شرح إعراب سورة الحشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحشر (59) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) أي في انتقامه ممن عصاه. الْحَكِيمُ في تدبيره، وهُوَ مبتدأ والْعَزِيزُ خبره والْحَكِيمُ نعت للعزيز، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا. [سورة الحشر (59) : آية 2] هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بمحمد صلّى الله عليه وسلّم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من اليهود وهم بنو النضير مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ صرفت أولا لأنه مضاف، ولو كان مفردا كان ترك الصرف فيه أولى على أنه نعت، ومن جعله غير نعت صرفه ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا «أن» في موضع نصب بظننتم، وهي تقوم مع صلتها مقام المفعولين عند النحويين إلّا محمد بن يزيد فإن أبا الحسن حكى لنا عنه أن المفعول الثاني محذوف، وكذا القول في وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا أي لم يظنّوا من قولهم: ما كان هذا في حسباني أي في ظني، ولا يقال: في حسابي لأنه لا معنى له هاهنا، ويجوز أن يكون معنى «لم يحتسبوا» لم يعلموا، وكذا قيل في قول الناس: حسيبه الله أي العالم بخبره والذي يجازيه الله جلّ وعزّ، وقيل معنى قولك: حسيبك الله كافيّ إياك الله. من قولهم: أحسبه الشيء، إذا كفاه، وقيل: حسيبك أي محاسبك مثل شريب بمعنى مشارب، وقيل: حسيبك أي مقتدر عليك، ومنه وكان الله على كل شيء حسيبا. وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ومن قال: في قلوبهم الرّعب جاء به على الأصل «1»

_ (1) انظر تيسير الداني 170 (قرأ أبو عمرو مشدّدا والباقون مخفّفا) .

يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ويخرّبون على التكثير، وقد حكى سيبويه أنّ فعّل يكون بمعنى أفعل كما قال: [الطويل] 471- ومن لا يكرم نفسه لا يكرم «1» فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ أي فاتعظوا واستدلّوا على صدق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأن الله جلّ وعزّ ناصره لما يريكم في أعدائه وبصدق ما أخبركم به. واشتقاقه من عبر إلى كذا إذا جاز إليه، والعبرة هي المتجاوزة من العين إلى الخدّ. قال الأصمعي: وقولهم: فلان عبر أي يفعل أفعالا يورث بها أهله العبرة وفي معنى يا أُولِي الْأَبْصارِ قولان: أحدهما أنه من بصر العين، والآخر أنه من بصر القلب. قال أبو جعفر: وهذا أولى بالصواب، لأن الاعتبار إنما يكون بالقلب، وهو الاتّعاظ والاستدلال بما مرّ. فقد قيل: إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خبّرهم بهذا أنه يكون فكان على ما وصف فيجب أن تعتبروا بهذا وغيره، كما قال جلّ وعزّ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] فكان كما قال، وقال جلّ ذكره: سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ [المسد: 3] ذلك وقال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة: 95] فلم يتمنه أحد منهم، وكذا وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: 87] فقالوا ذلك، وكذا وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم: 3] كذا قوله صلّى الله عليه وسلّم لعمّار: «تقتلك الفئة الباغية» «2» وقوله عليه السلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم كتب: «من محمد رسول الله» فساموه محوها فاستعظم ذلك علي رضي الله عنه فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّك ستسام مثلها» «3» فكان ذلك على ما قال، وكذلك قوله في ذي الثديّة «ومن ينجو من الخوارج» «4» فكان الأمر كما قال، وكذلك قوله في كلاب الحوأب قولا محدّدا، وكذلك قوله في فتح المدينة البيضا وفي فتح مصر، وأوصى بأهلها خيرا فهذا كله مما يعتبر به وقال جلّ وعزّ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] فعصمه حتّى مات على فراشه، وقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور: 55] فاستخلف ممّن خوطب بهذا أربعة أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم، وكان هذا موافقا لقوله صلّى الله عليه «الخلافة بعدي ثلاثون» ومما يعتبر به تمثيلاته التي لا تدفع، منها حديث أبي رزين العقيلي أنه قال: يا رسول الله كيف يحيي

_ (1) انظر الفهارس العامة. (2) أخرجه مسلم في صحيحه- الفتن 70، وأحمد في مسنده 2/ 161، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 189، والطبراني في المعجم الكبير 1/ 300، والمتقي في كنز العمال (23736) . (3) أخرجه الترمذي في سننه- المناقب 13/ 209. (4) أخرجه ابن ماجة في سننه باب 12 الحديث (167) ، وأبو داود في سننه، الحديث رقم (4763) . [.....]

[سورة الحشر (59) : آية 3]

الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ فقال: «يا أبا رزين أما مررت بوادي أهلك محلا ثم مررت به يهتزّ خضرا فكذلك يحيي الله الموتى وكذلك آيته تعالى في خلقه» فهذا التشبيه الباهر الذي لا يلحق، ولذلك قوله في تمثيل الميّت بالنائم وبعثه باليقظة. وهذا أشكل شيء بشيء، فبهذا يعتبر أولو الأبصار. [سورة الحشر (59) : آية 3] وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) حكى أهل اللغة أنه يقال: جلا القوم عن منازلهم وأجليتهم هذا الفصيح، وحكى أحمد بن يحيى ثعلب أجلوا، وحكى غيره جلوا عن منازلهم يجلون، واستعمل فلان على الجالية والجالّة، وقرأ أكثر الناس، وهي اللغة الفصيحة المعروفة من كلام العرب التي نقلتها الجماعة التي تجب بها الحجّة، وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ بكسر الهاء وضم الميم، فمن قرأ بها: أبو جعفر وشيبة ونافع وعبد الله بن عامر وعاصم، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ بضم الهاء والميم وقرأ أبو عمرو بن العلاء عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ بكسر الهاء والميم. قال أبو جعفر: والقراءة الأولى كسرت فيها الهاء لمجاوزتها الياء فاستثقلت ضمة بعد ياء، وأيضا فإن آخر مخرج الهاء عند مخرج الياء وضمّت الميم لأن أصلها الضم فردّت إلى أصلها، وهذه القراءة البينة والقراءة الثانية على الأصل إلّا أن الأعمش والكسائي لا يقرآن عليهم إلّا أن يلقى الميم ساكن، ولا يعرف عن أحد من القراء من جهة صحيحة أنه قرأ عليهم إلا حمزة ثم إنه خالف ذلك فقرأ فيهم ولم يضمّ إلّا في عليهم وإليهم ولديهم إلا ابن كيسان احتجّ له في تخصيصه هذه الثلاثة، فقال: عليهم وإليهم ولديهم ليست الياء فيهنّ ياء محضة، وأصلها الألف، لأنك تقول: على القوم، فلهذا أقرّوها على ضمتها لأن الياء أصلها الألف، والياء في «في» ياء محضة. قال: وسألت أبا العباس لم قرأ الكسائي عليهم بكسر الهاء فلما قال: (عليهم) ضمّها؟ فقال: إنما كسرها اتباعا للياء لأن الكسرة أخت الياء فلما اضطرّ إلى ضمّ الميم لالتقاء الساكنين لأن الضم أصلها كان الأولى أن يتبع الهاء الميم فيضمّها أي لأن أصلها الضم وبعدها مضموم. قال أبو جعفر: وهذا أحسن ما قيل في هذا، فأما قراءة أبي عمرو عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ ففيها حجتان إحداهما أنه كسر الميم لالتقاء الساكنين. وهذه حجة لا معنى لها لأنه إنما يكسر لالتقاء الساكنين ما لم يكن له أصل في الحركة فأما أن تدع الأصل وتجتلب حركة أخرى فغير جائز، والحجة الأخرى صحيحة، وهو إنما كسر الهاء اتباعا للياء لأنه استثقل ضمة بعد ياء، وكذلك أيضا استثقل ضمة بعد كسرة فأبدل منها كسرة اتباعا كما فعل بالهاء فقال عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ أي مع الخزي الذي لحقهم في الدنيا من الجلاء. قال قتادة: الجلاء الخروج من بلد إلى بلد،

[سورة الحشر (59) : آية 4]

وقيل: معنى كتب حتم وهو مجاز، وقيل: كتبه في اللوح المحفوظ. [سورة الحشر (59) : آية 4] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) يكون ذلِكَ في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك، ويجوز أن يكون في موضع نصب أي فعلنا بهم ذلك، ويجوز أن يكون في موضع رفع أيضا أي ذلك الخزي وعذاب النار لهم بأنهم خالفوا الله ورسوله وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ في موضع جزم بالشرط، وكسرت القاف لالتقاء الساكنين، ويجوز فتحها لثقل التشديد والكسر إلّا أنّ الفتح إذا لم يلقها ساكن أجود مثل مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ [المائدة: 54] وإذا لقيها ساكن كان الكسر أجود، كما قال: [الوافر] 472- فغضّ الطّرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا «1» فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ جواب الشرط أي شديد عقابه لمن حادّه وحادّ رسوله. [سورة الحشر (59) : آية 5] ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) في معنى «اللّينة» ثلاثة أقوال عن أهل التأويل: روى سفيان عن داود بن أبي هند عن عكرمة بن عباس قال: اللينة النخل سوى العجوة، وهذا قول سعيد بن جبير وعكرمة والزهري ويزيد بن رومان، وقول مجاهد وعمر بن ميمون: إنه لجميع النخل، وكذا روى ابن وهب عن ابن زيد قال: اللّينة النخل كانت فيها عجوة أو لم تكن، وقال سفيان: هي كرائم النخل. وهذه الأقوال صحيحة لأن الأصمعي حكى مثل القول الأول فيكون لجميع النخل، ويكون ما قطعوا منها مخصوصا فتتفق الأقوال. ولينة مشتقّة عند جماعة من أهل العربية من اللون، وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وفي الجمع ليان كما قال: [المتقارب] 473- وسالفة كسحوق اللّبا ... ن أضرم فيها الغويّ السّعر «2» وقال بعضهم: هي مشتقّة من لان يلين، ولو كانت من اللون، قيل في الجميع لو أن. وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ أي وليذلّ من خرج من طاعته جلّ وعزّ. [سورة الحشر (59) : آية 6] وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) هذا عند أهل التفسير في بني النضير لأنه لم يوجف عليهم بخيل ولا جمال،

_ (1) مرّ الشاهد رقم (167) . (2) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 165، ولسان العرب (لبن) ، وجمهرة اللغة 674، وتاج العروس (لون) وبلا نسبة في لسان العرب (سحق) وتهذيب اللغة 4/ 25، والمخصّص 11/ 132.

[سورة الحشر (59) : آية 7]

وإنما صولحوا على الجلاء فملّك الله تعالى مالهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحكم فيه بما أراد وكان فيه فدك فصحّ عن الصحابة منهم عمر رضي الله عنه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يأخذ منه ما يكفيه وأهله ويجعل الباقي في السلاح الذي يقاتل به العدوّ وفي الكراع. فلما توفّي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم طالبت فاطمة رضي الله عنها على أنه ميراث فقال لها أبو بكر رضي الله عنه: أنت أعزّ الناس عليّ غير أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» «1» ولكنّي أقرّه على ما كان يفعله فيه، وتابعه أصحابه بالشهادة على أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كذا قال حتّى صار ذلك إجماعا، وعمل به الخلفاء الأربعة لم يغيروا منه شيئا وأجروه مجراه في وقت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأما معنى «لا نورث ما تركنا صدقة» فقد تكلّم فيه العلماء فقال بعضهم: معنى «لا نورث» كمعنى لا أورث كما يقول الرجل الجليل: فعلنا كذا، وقيل: هو لجميع الأنبياء لأنه لم يورث أحد منهم شيئا من المال، وقالوا: معنى خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي [مريم: 5] معناه خفت ألا يعملوا بطاعة الله جلّ وعزّ. ويدل على هذا وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم: 6] . ومعنى يَرِثُنِي النبوة والشريعة وكذلك وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل: 16] ومعنى «ما تركنا صدقة» فيه أقوال: فمن أصحّها أنه بمنزلة الصدقة لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يملك شيئا. وإنما أباحه الله جلّ وعزّ هذا فكان ينفق منه على نفسه ومن يعوله، ويجعل الباقي في سبيل الله. فهذا قول، وقيل: بل قد كان تصدق بكل ما يملكه، وقيل: «ما» بمعنى الذي أي لا نورث الذي تركناه صدقة وحذفت الهاء لطول الاسم ويقال: «وجف» إذا أسرع، وأوجفه غيره وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ أي كما سلّطه على بني النضير. [سورة الحشر (59) : آية 7] ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) في هذه الآية أربعة أقوال: منها أنه الفيء الأول وأنّ ما صولح عليه المسلمون من غير قتال فهذا حكمه، وقيل: بل هذا غير الأول، وهذا حكم ما كان من الجزية ومال الخراج أن يقسم. وهذا قول معمر، وقيل: بل هذا ما قوتل عليه أهل الحرب. وهذا قول يزيد بن رومان. والقول الرابع أن هذا حكم ما أوجف عليه بخيل وركاب، وقوتل عليه فكان هذا حكمه حتّى نسخ بالآية التي في سورة «الأنفال» «2» والصواب أن يكون هذا الحكم مخالفا للأول لأنه قد صحّ عمن تقوم به الحجّة أن الأول في بني النّضير وأنه جعل حكمه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا الثاني على خلاف ذلك لأنه فيه

_ (1) انظر التمهيد لابن عبد البر 8/ 175. (2) سورة الأنفال، الآية: 1.

لِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ويدلّك على هذا حديث عمر مع صحّة إسناده واستقامة طريقته قرئ على أحمد بن شعيب عن عبيد الله بن سعيد ويحيى بن موسى وهارون بن عبد الله قالوا: حدّثنا سفيان عن عمرو عن الزهري عن مالك بن أويس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في السلاح والكراع عدّة في سبيل الله. فقد دلّ هذا على أن الآية الثانية حكمها خلاف حكم الأولى لأن الأولى تدلّ على هذا إن ذلك شيء للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والآية الثانية، على خلاف ذلك قال الله جلّ وعزّ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ قيل: هذا افتتاح كلام، وكلّ شيء لله: والتقدير فلسبل الله وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وهم بنو هاشم وبنو المطّلب وَالْيَتامى وهم الّذين لم يبلغوا الحلم وقد مات آباؤهم، وَالْمَساكِينِ وهم الذين قد لحقهم ذلّ المسكنة مع الفاقة، وَابْنِ السَّبِيلِ وهم المسافرون في غير معصية المحتاجون كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ الضمير الّذي في يكون يعود على ما أي لا يكون ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى دولة يتداوله الأغنياء فيعملون فيه ما يحبون، فقسمه الله جلّ وعزّ هذا القسم. وقرأ يزيد بن القعقاع كي لا تكون دولة «1» بالرفع وتأنيث «تكون» دولة اسم «تكون» «بين الأغنياء» الخبر، ويجوز أن يكون بمعنى يقع فلا يحتاج إلى خبر مثل إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [البقرة: 282، والنساء: 29] «وأغنياء» جمع غنيّ، وهكذا جمع المعتل وإن كان سالما جمع على فعلاء وفعال نحو كريم وكرماء وكرام، وقد قالت العرب في السالم: نصيب وأنصباء شبه بالمعتل وشبهوا بعض المعتل أيضا بالسالم. حكى الفرّاء «2» : نفي ونفواء بالفاء شبّه بالسالم وقلبت ياؤه واوا. وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا حكى بعض أهل التفسير أنّ هذا في الغنائم واحتجّ بأن الحسن قال: وما أتاكم الرسول من الغنائم فخذوه وما نهاكم عنه من الغلول قال أبو جعفر: فهذا ليس يدلّ على أن الآية فيه خاصة بل الآية عامة. وعلى هذا تأولها أصحاب رسول الله فقال عبد الله بن مسعود: إن الله لعن الواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمّصة، فقيل له: قد قرأنا القرآن فما رأينا فيه هذا فقال: قد لعنهنّ رسول الله وقال الله وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وعن ابن عباس نحو من هذا في النهي عن الانتباذ في النّقير والمزفّت. وَاتَّقُوا اللَّهَ أي احذروا عقابه في عصيانكم رسوله. إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي شديد عقابه لمن خالف رسوله صلّى الله عليه وسلّم.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 244، وتيسير الداني 170. (2) انظر المنقوص والممدود 14.

[سورة الحشر (59) : آية 8]

[سورة الحشر (59) : آية 8] لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ قيل: هو بدل ممن قد تقدّم ذكره بإعادة الحرف مثل لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا [سبأ: 32] لمن آمن منهم، وقيل: التقدير كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم لكي يكون للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم أي أخرجهم المشركون. يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً في موضع نصب على الحال، وكذا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ مبتدأ وخبره.. [سورة الحشر (59) : آية 9] وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) الَّذِينَ في موضع خفض أي للذين، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ أي انتقل إليهم وإذا كان الذين في موضع خفض كان يحبّون في موضع نصب على الحال أو مقطوعا مما قبله وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا معطوف عليه، وكذا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي فاقة إلى ما اثروا به. وكلّ كوّة أو خلل في حائط فهو خصاصة. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ «1» جزم بالشرط فلذلك حذفت الألف منه، ولا يجوز إثباتها إذا كان شرطا عند البصريين، ويجوز عند الكوفيين وشبّهوه بقول الشاعر: 474- ألم يأتيك والأنباء تنمي «2» والفرق بين ذا والأول أن الألف لا تتحرك في حال والياء والواو قد يتحرّكان وهذا فرق بيّن ولكن الكوفيين خلطوا حروف المدّ واللين فجعلوا حكمها حكما واحدا، وتجاوزوا ذلك من ضرورة الشعر إلى أن أجازوه في كتاب الله جلّ وعزّ، وحملوا قراءة حمزة لا تخف دركا ولا تخشى [طه: 77] عليه في أحد أقوالهم. وأهل التفسير على أنّ الشحّ أخذ المال بغير الحقّ، وقد ذكرنا أقوالهم. والمعروف في كلام العرب أن الشّحّ أزيد من البخل، وأنه يقال: شحّ فلان يشحّ إذا اشتدّ بخله ومنع فضل المال، كما قال: [الوافر] 475- ترى اللّحز الشّحيح إذا أمرّت ... عليه لماله فيها مهينا «3»

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 246 (قرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «شحّ» بكسر الشين، والجمهور بإسكان الواو وتخفيف القاف، وضمّ الشين) . (2) مرّ الشاهد رقم (299) . (3) الشاهد لعمرو بن كلثوم في ديوانه 65، ولسان العرب (سخن) وخزانة الأدب 3/ 178، وشرح ديوان امرئ القيس 320، وشرح القصائد السبع 373، وشرح القصائد العشر 322، وشرح المعلقات السبع 166، وتاج العروس (سخن) ، وبلا نسبة في لسان العرب (لحز) ، ومقاييس اللغة 5/ 237.

[سورة الحشر (59) : آية 10]

[سورة الحشر (59) : آية 10] وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) يكون الَّذِينَ في موضع خفض معطوفا على ما قبله أي والذين، وعلى هذا كلام أهل التفسير والفقهاء، كما قال مالك ليس لمن شتم أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الفيء نصيب لأن الله تعالى قال: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا الآية، وقال قتادة: لم تؤمروا بسب أصحاب النبيّ وإنما أمرتم بالاستغفار لهم، وقال ابن زيد في معنى قوله وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا لا تورّث قلوبنا غلا لمن كان على دينك. رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي بخلقك. رَحِيمٌ لمن تاب منهم. [سورة الحشر (59) : آية 11] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا حذفت الألف للجزم، والأصل فيه الهمز لأنه من رأى والأصل يرأى يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ «يقولون» في موضع نصب على الحال. وعن ابن عباس الَّذِينَ نافَقُوا عبد الله بن أبيّ وأصحابه وإخوانهم من أهل الكتاب بنو النضير لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ أي من دياركم ومنازلكم لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ من ديارنا. وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً أي لا نطيع من سألنا خذلانكم. وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ كسرت إن لمجيء اللام، وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد أنه أجاز فتحها في خبرها اللام لأن اللام للتوكيد فلا تغيّر هاهنا شيئا. [سورة الحشر (59) : آية 12] لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ أي لئن أخرج بنو النضير لا يخرج المنافقون معهم فخبر بالغيب، وكان الأمر على ذلك. وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ فخبّر جلّ وعزّ بما يعلمه فإن قيل: فما وجه رفع لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وظاهره أنه جواب الشرط وأنت تقول: إن أخرجوا لا يخرجوا معهم، ولا يجوز غير ذلك، واللام توكيد فلم رفع الفعل؟ فالجواب عن هذا، وهو قول الخليل وسيبويه رحمهما الله على معناهما أنه قسم. والمعنى والله لا يخرجون معهم إن أخرجوا، كما تقول: والله لا

[سورة الحشر (59) : آية 13]

يقومون، ودخلت اللام في الأول لأنه شرط للثاني، وكذا ما بعده، وكذا ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ معطوف عليه، ويجوز أن يكون مقطوعا منه. [سورة الحشر (59) : آية 13] لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) أي في صدور بني النضير من اليهود، ونصبت رهبة على التمييز. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي من أجل أنّهم قوم لا يفقهون قدر عظمة الله جلّ وعزّ فهم يجترءون على معاصيه ولا يتخوّفون عقابه. [سورة الحشر (59) : آية 14] لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) نصبت جَمِيعاً على الحال، وقرية وقرى عند الفرّاء شاذّ كان يجب أن يكون جمعه قراء مثل غلوة وغلاء. قال أبو جعفر: وأنكر أبو إسحاق هذا وأن يقال شاذّ لما نطق به القرآن، ولكنه مثل ضيعة وضيع جاء بحذف الألف. وقيل: هو اسم للجميع. أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ وقرأ أبو عمر وابن كثير أو من وراء جدار «1» وحكي عن المكيين أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بفتح الجيم وإسكان الدال، ويجوز جدر على أن الأصل جدر فحذفت الضّمة لثقلها. وجدر لغة بمعنى جدار، وجدار واحد يؤدّي عن جمع إلا أن الجمع أشبه بنسق الآية لأن قبله إِلَّا فِي قُرىً ولم يقل: إلّا في قرية تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً مفعول ثان لتحسب، وليس على الحال. وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى قال قتادة: أهل الباطل مختلفة أهواؤهم مختلفة أعمالهم، وهم مجتمعون على معاداة أهل الحقّ. قال مجاهد: وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى لأن بني النضير يهود والمنافقين ليسوا بيهود. وفي حرف «2» ابن مسعود وقلوبهم أشتّ يكون أفعل بمعنى فاعل أو يحذف منه «من» ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ أي لا يعقلون ما لهم فيه الحظّ مما عليهم فيه النّقص. [سورة الحشر (59) : آية 15] كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ المعنى مثلهم كمثل الذين من قبلهم حين تمادوا على العصيان فأهلكوا. واختلف أهل التأويل في الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هاهنا فقال ابن عباس: هم بنو قينقاع، وقال مجاهد هم أهل بدر. والصواب أن يقال في هذا: إنّ الآية عامة

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 247. انظر تيسير الداني 170 (قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الجيم وألف بعد الدال، وأمال أبو عمرو فتحة الدال والباقون «جدر» بضم الجيم والدال) . (2) انظر البحر المحيط 8/ 248.

[سورة الحشر (59) : آية 16]

وهؤلاء جميعا ممن كان قبلهم. قَرِيباً نعت لظرف ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي ذاقوا عذاب الله على كفرهم وعصيانهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي في الآخرة. [سورة الحشر (59) : آية 16] كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) الكاف في موضع رفع أي مثل المنافقين في غرورهم بني النضير ومثل بني النضير في قلوبهم منهم كمثل الشيطان. وفي معناه قولان: أحدهما أنه شيطان بعينه غرّ راهبا. وفي هذا حديث مسند قد ذكرناه، وهكذا روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والقول الآخر أن يكون الشيطان هاهنا اسما للجنس، وكذا الإنسان، كما روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هي عامّة. [سورة الحشر (59) : آية 17] فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) عاقِبَتَهُما خبر كان وأن وصلتها اسمها. وقرأ الحسن فَكانَ عاقِبَتَهُما بالرفع، جعلها اسم كان، وذكّرها لأن تأنيثها غير حقيقي خالِدَيْنِ فِيها على الحال. وقد اختلف النحويون في الظرف إذا كرّر فقال سيبويه «1» : هذا باب ما يثنّى فيه المستقرّ توكيدا فعلى قوله نقول: إن زيدا في الدار جالسا فيها وجالس لا يختار أحدهما على صاحبه، وقال غيره: الاختيار النصب لئلا يلغى الظرف مرتين، وقال الفرّاء: «2» إنّ النصب هاهنا هو كلام العرب قال: تقول: هذا أخوك في يده درهم قابضا عليه، والعلّة عنده في وجوب النصب أنه لا يجوز أن يقدّم من أجل الضمير فإن قلت: هذا أخوك في يده درهم قابض على دينار، جاز الرفع والنصب، وأنشد في ما يكون منصوبا: [الكامل] 476- والزّعفران على ترائبها ... شرقا به اللّبّات والنّحر «3» قال أبو جعفر: وهذا التفريق عند سيبويه لا يلزم منه شيء، وقد قال سيبويه: لو كانت التثنية تنصب لنصبت. في قولك: عليك زيد حريص عليك. وهذا من أحسن ما قيل في هذا وأبينه لأنه بيّن أن التكرير لا يعمل شيئا. وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ قيل: يعني به بني النضير لأن نسق الآية فيهم، وكلّ كافر ظالم.

_ (1) انظر الكتاب 2/ 123. (2) انظر معاني الفراء 3/ 147. (3) الشاهد للمخبّل السعدي في ديوانه 293، ولسان العرب (شرق) ، وتاج العروس (شرق) ، وبلا نسبة في تاج العروس (ترب) ، ولسان العرب (ترب) ، والمخصص 2/ 20. [.....]

[سورة الحشر (59) : آية 18]

[سورة الحشر (59) : آية 18] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ والأصل ولتنظر حذفت الكسرة لثقلها واتصالها بالواو أي لتنظر نفس ما قدّمت ليوم القيامة من حسن ينجيها أو قبيح يوبقها. والأصل في غد غدو وربما جاء على أصله ثم كرّر توكيدا فقال جلّ وعزّ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. [سورة الحشر (59) : آية 19] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) يكون نسي بمعنى ترك أي تركوا طاعة الله جلّ وعزّ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ قال سفيان: أي فأنساهم حظّ أنفسهم. ومن حسن ما قيل فيه أنّ المعنى أنّ الله لما عذّبهم شغلهم عن الفكرة في أهل دينهم أو في خواصهم، كما قال فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 54] . أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي الخارجون عن طاعة الله جلّ وعزّ. [سورة الحشر (59) : آية 20] لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لا يَسْتَوِي أي لا يعتدل. أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ وفي حرف ابن مسعود ولا أصحاب الجنّة تكون «لا» زائدة للتوكيد. أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ أي الذين ظفروا بما طلبوا. [سورة الحشر (59) : آية 21] لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) مُتَصَدِّعاً نصب على الحال أي فزعا لتعظيمه القرآن. مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ودلّ بهذا على أنه يجب أن يكون من معه القرآن خائفا حذرا معظّما له منزها عمن يخالفه. وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ أي يعرفهم بهذا. لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فينقادون إلى الحق. [سورة الحشر (59) : آية 22] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ مبتدأ، ومن العرب من يسكّن الواو فمن أسكنها حذفها هاهنا لالتقاء الساكنين، اسم الله جلّ وعزّ خبر الابتداء، الَّذِي من نعته. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ في الصلة أي الذي لا تصلح الألوهة إلّا له لأن كل شيء له هو خالقه فالألوهة له وحده عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ نعت، ولو كان بالألف واللام في الأول لكان الثاني منصوبا، وجاز الخفض هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ والرحمة من الله جلّ وعزّ التفضل والإحسان إلى من يرحمه.

[سورة الحشر (59) : آية 23]

[سورة الحشر (59) : آية 23] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ومن نصب قال: إلّا إياه وأجاز الكوفيون إلّاه على أن الهاء في موضع نصب، وأنشدوا: [البسيط] 477- فما نبالي إذا ما كنت جارتنا ... ألّا يجاورنا إلّاك ديّار «1» قال أبو جعفر: وهذا خطأ عند البصريين لا يقع بعد «إلّا» ضمير منفصل لاختلافه، وأنشد محمد بن يزيد: «ألّا يجاورنا سواك ديّار» الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ نعت والملك مشتقّ من الملك والمالك مشتقّ من الملك، و «القدّوس» مشتقّ من القدس وهو الطهارة كما قال حسان بن ثابت: [الوافر] 478- وجبريل أمين الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء «2» قال كعب: روح القدس جبرائيل عليه السلام. قال أبو زيد: القدس الله جلّ وعزّ وكذا القدوس وقال غيره: قيل لجبرائيل صلّى الله عليه وسلّم: روح الله لأنه خلقه من غير ذكر وأنثى ومن هذا قيل لعيسى صلّى الله عليه وسلّم: روح الله جلّ وعزّ لأنه خلقه من غير ذكر، والله القدوس أي مطهّر مما نسبه إليه المشركون. وقرأ أبو الدينار الأعرابي الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ بفتح القاف. قال أبو جعفر: ونظير هذا من كلام العرب جاء مفتوحا نحو سمّور وشبّوط ولم يجيء مضموما إلّا «السّبّوح» و «القدّوس» وقد فتحا السَّلامُ أي ذو السلامة من جميع الآفات. والسلام في كلام العرب يقع على خمسة أوجه: السلام التحيّة، والسلام السّواد من القول قال الله تعالى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63] ليس يراد به التحية، والسلام جمع سلامة، والسلام بمعنى السلامة كما تقول: اللّذاذ واللّذاذة، «السلام» اسم الله من هذا أي صاحب السلامة والسلام شجر قوي واحدها سلامة. قال أبو إسحاق: سمّي بذلك لسلامته من الآفات. الْمُؤْمِنُ «3» فيه ثلاثة أقوال: منها أن معناه الذي آمن عباده من جوره، وقيل: المؤمن الذي آمن أولياءه من عذابه، وقال أحمد بن يحيى ثعلب الله جلّ وعزّ: المؤمن لأنه يصدّق عباده

_ (1) الشاهد بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 129، وأمالي ابن الحاجب 385، وأوضح المسالك 1/ 83، وتخليص الشواهد 100، وخزانة الأدب 5/ 278، والخصائص 1/ 307، والدرر 1/ 176، وشرح الأشموني 1/ 48، وشرح شواهد المغني 844، وشرح ابن عقيل 52، ومغني اللبيب 2/ 441. (2) الشاهد لحسّان بن ثابت في ديوانه ص 75، ولسان العرب (كفأ) و (جبر) ، وكتاب العين 5/ 414، وتهذيب اللغة 10/ 389، والتنبيه والإيضاح 2/ 96، وتاج العروس (كفأ) ، و (جبر) ، وأساس البلاغة (كفأ) . (3) انظر البحر المحيط 8/ 249.

[سورة الحشر (59) : آية 24]

المؤمنين. قال أبو جعفر: ومعنى هذا أن المؤمنين يشهدون على الناس يوم القيامة فيصدّقهم الله جلّ وعزّ الْمُهَيْمِنُ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المهيمن الأمين، وبهذا الإسناد قال: الشهيد، وقال أبو عبيدة: المهيمن الرقيب الحفيظ. قال أبو جعفر: وهذه كلها من صفات الله جلّ وعزّ فالله شاهد أعمال عباده حافظ لها أمين عليها لا يظلمهم ولا يلتهم من أعمالهم شيئا، وحكى لنا علي بن سليمان عن أبي العباس قال: الأصل مؤيمن، وليس في أسماء الله تعالى شيء مصغّر إنما هو مثل مسيطر أبدل من الهمزة هاء، لأن الهاء أخفّ. الْعَزِيزُ أي العزيز في انتقامه المنيع فلا ينتصر منه من عاقبه الْجَبَّارُ فيه أربعة أقوال: قال قتادة: الجبّار الذي يجبر خلقه على ما يشاء، قال أبو جعفر: وهذا خطأ عند أهل العربية، لأنه إنما يجيء من هذا مجبر ولا يجيء فعّال من أفعل، وقيل: «جبّار» من جبر الله خلقه أي نعتهم وكفاهم. وهذا قول حسن لا طعن فيه، وقيل: جبار من جبرت العظم فجبر أي أقمته بعد ما انكسر فالله تعالى أقام القلوب لتفهّمها دلائله، وقيل: هو من قولهم تجبّر النخل إذا علا وفات اليد كما قال: [الطويل] 479- أطافت به جيلان عند قطاعه ... وردّت عليه الماء حتّى تجبّرا «1» فقيل: جبار لأنه لا يدركه أحد الْمُتَكَبِّرُ أي العالي فوق خلقه سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ نصبت سبحان على أنه مصدر مشتقّ من سبّحته أي نزّهته وبرّأته مما يقول المشركون، وهو إذا أفردته يكون معرفة ونكرة فإن جعلته نكرة صرفته فقلت سبحانا وإن جعلته معرفة كما قال: [السريع] 480- أقول لمّا جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر «2» [سورة الحشر (59) : آية 24] هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ معنى خلق الشيء قدره كما قال: [الكامل] 481- ولأنت تفري ما خلقت وبعض ... القوم يخلق ثم لا يفري «3»

_ (1) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 58، وجمهرة اللغة 1044، ومقاييس اللغة 1/ 499، ومجمل اللغة 1/ 457، وبلا نسبة في اللسان (جيل) وتهذيب اللغة 11/ 191، والمخصص 16/ 30. (2) الشاهد للأعشى في ديوانه 193، والكتاب 1/ 388، وأساس البلاغة (سبح) ، والأشباه والنظائر 2/ 109، وجمهرة اللغة 278، وخزانة الأدب 1/ 185، والخصائص 2/ 435، والدرر 3/ 70، وشرح أبيات سيبويه 1/ 157، وشرح شواهد المغني 2/ 905. (3) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 94، والكتاب 4/ 299، والدرر 6/ 297، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 471، وشرح أبيات سيبويه 2/ 344، وشرح شواهد الإيضاح 270، وشرح المفصّل 9/ 79، ولسان العرب (خلق) و (فرا) ، والمنصف 2/ 74، وبلا نسبة في شرح شافية ابن الحاجب 2/ 302.

إلّا أن محمد بن إبراهيم بن عرفة قال: معنى خلق الله الشيء قدّره مخترعا على غير أصل بلا زيادة ولا نقصان فلهذا ترك استعماله الناس هذا معنى قوله: الْبارِئُ قيل: معنى البارئ الخالق، وهذا فيه تساهل لضعف من يقوله في العربية أو على أن يتساهل فيه لأنه قبله الخالق، وحقيقة هذا أن معنى برأ الله الخلق سوّاهم وعدّلهم ألا ترى اتساق الكلام أن قبله خلق أي قدّر وبعده برى أي عدّل وسوّى وبعده الْمُصَوِّرُ فالصورة بعد هذين، وقد قيل: إن المصور مشتق من صار يصير، ولو كان كذا لكان بالياء، ولكنه مشتق من الصورة وهي المثال. لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. قال أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لله تسعة وتسعون اسما» «1» يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لأنه دالّ على أن له محدثا ومدبّرا لا نظير له فقد صار بهيئته يسبّح لله أي منزّها له عن الأشياء وَهُوَ الْعَزِيزُ أي في انتقامه ممن كفر به الْحَكِيمُ فيما خلقه لأن حكمته لا يرى فيها خلل، وقيل: الحكيم بمعنى الحاكم.

_ (1) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 314، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 2/ 21، والسيوطي في الدر المنثور 3/ 148، والبيهقي في الأسماء والصفات 15.

60 شرح إعراب سورة الممتحنة

60 شرح إعراب سورة الممتحنة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الممتحنة (60) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) أي نداء مفرد والَّذِينَ من نعته في موضع رفع، وبعض النحويين يجيز النصب على الموضع وقال بعضهم: «أيّ» اسم ناقص وما بعده صلة له، وهذا خطأ على قول الخليل وسيبويه «1» ، والقول عندهما أنه اسم تام إلا أنه لا بدّ له من النعت مثل «من» و «ما» إذا كانتا نكرتين، وأنشد سيبويه: [الكامل] 482- فكفى بنا فضلا على من غيرنا ... حبّ النّبيّ محمّد إيّانا «2» قوله غيرنا نعت لمن لا يفارقه. لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ بمعنى أعدائي فعدوّ يقع للجميع والواحد والمؤنث على لفظ واحد، لأنه غير جار على الفعل، وإن شئت جمعته وأنثته. أَوْلِياءَ مفعول ثان ولم يصرف أولياء لأن في اخره ألفا زائدة وكلّ ما كان في اخره ألف زائدة فهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة نحو عرفاء وشهداء وأصدقاء وأصفياء ومرضى، وتعرف أن الألف زائدة أن نظر فعله فإن وجدت بعد اللام من فعله ألفا فهي زائدة. ألا ترى أن عرفاء فعلاء وأصفياء أفعلاء فبعد اللام ألف، وكذلك مرضى فعلى وما كان من الجمع سوى هذا من الجمع فهو ينصرف نحو غلمان ورجال وأعدال وفلوس وشباب إلّا أن أشياء وحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة لثقل التأنيث فاستثقلوا أن يزيدوا التنوين مع زيادة حرف التأنيث لأنها أريد بها أفعلاء نحو أصدقاء كأنهم أرادوا أشياء، وهو الأصل فثقل لاجتماع الياء والهمزتين فحذفوا إحدى

_ (1) انظر الكتاب 2/ 190. (2) مرّ الشاهد رقم (30) .

[سورة الممتحنة (60) : آية 2]

الهمزتين، وما أشبهها مصروف في المعرفة والنكرة نحو أسماء وأحياء وأفياء ينصرف لأنه أفعال فمن ذلك أعدال وأجمال، وكذلك عدوّ وأعداء مصروف، وكذلك قوله تعالى: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً مصروف لأنه أفعال ليس فيه ألف زائدة: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ مذهب الفراء أن الباء زائدة وأن المعنى تلقون إليهم المودة. قال أبو جعفر: «تلقون» في موضع نصب على الحال، ويكون في موضع نعت لأولياء. قال الفراء «1» : كما تقول: لا تتّخذ رجلا تلقي إليه كلّ ما عندك. وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ عطف على الرسول أي ويخرجونكم أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ في موضع نصب أي لأن تؤمنوا وحقيقته كراهة أن تؤمنوا بالله ربّكم. إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي نصبت جهادا لأنه مفعول من أجله أو على المصدر أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في طريقي الذي شرعته وديني الذي أمرت به وابْتِغاءَ مَرْضاتِي عطف تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ مثل تلقون. وَأَنَا أَعْلَمُ قراءة أهل المدينة يثبتون الألف في الإدراج، وقراءة غيرهم وأن أعلم بحذف الألف في الإدراج وهذا هو المعروف في كلام العرب لأن الألف لبيان الحركة فلا تثبت في الإدراج، لأن الحركة قد ثبتت وأَعْلَمُ بمعنى عالم كما يقال: الله أكبر الله أكبر بمعنى كبير، ويجوز أن يكون المعنى وأنا أعلم بكم بما أخفاه بعضكم من بعض وبما أعلنه وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ ومن يلق إليهم بالمودة ويتخذهم أولياء فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي عن قصد طريق الجنة ومحجّتها. [سورة الممتحنة (60) : آية 2] إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً شرط ومجازاة فلذلك حذفت النون وكذا وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ تمّ الكلام. [سورة الممتحنة (60) : آية 3] لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ لأن أولادهم وأقرباءهم كانوا بمكة فلذلك تقرّب بعضهم إلى أهل مكّة وأعلمهم الله جلّ وعزّ أنّهم لن ينفعوهم يوم القيامة. يكون العامل في الظرف على هذا لن تنفعكم ويكون يفصل بينكم في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون العامل في الظرف يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ «2» وهذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة، وقد عرف أن المعنى يفصل الله جلّ وعزّ بينكم، وقرأ عبد الله بن عامر

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 149. (2) انظر تيسير الداني 170 (قرأ عامر «يفصل» بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الصاد مخفّفة، وابن عامر بضمّ الياء وفتح الفاء والصاد مشدّدة، وحمزة والكسائي كذلك إلّا أنهما كسرا الصاد، والباقون بضمّ الياء وإسكان الفاء وفتح الصاد مخفّفة) .

[سورة الممتحنة (60) : آية 4]

يفصّل على التكثير، وقرأ عاصم يفصل وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي يفصّل بينكم على تكثير يفصل وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ مبتدأ وخبره. [سورة الممتحنة (60) : آية 4] قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وحكى الفراء في جمعها أسى بضمّ في الجمع، وإن كانت الواحدة مكسورة ليفرق بين ذوات الواو وذوات الياء، وعند البصريين أنه يجوز الضم على تشبيه فعلة بفعلة، ويجوز الكسر على الأصل فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ قال عبد الرحمن بن زيد: الَّذِينَ مَعَهُ الأنبياء عليهم السلام قالُوا لِقَوْمِهِمْ أي حين قالوا لقومهم إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ هذه القراءة المعروفة التي قرأ بها الأئمة كما تقول: كريم وكرماء، وأجاز أبو عمرو وعيسى إنا براء منكم «1» وهي لغة معروفة فصيحة كما تقول: كريم وكرام، وأجاز الفراء إنا برآء منكم. قال أبو جعفر: وهذا صحيح في العربية يكون برآء في الواحد والجميع على لفظ واحد، مثل إنني برآء منكم وحقيقته في الجمع أنا ذوو برآء. كما تقول: قوم رضى فهذه ثلاث لغات معروفة وحكى الكوفيون لغة رابعة. وحكي أن أبا جعفر قرأ بها وهو أنا برآء منكم على تقدير براع وهذه لا تجوز عند البصريين لأنه حذف شيء لغير علة. قال أبو جعفر: وما أحسب هذا عن أبي جعفر إلا غلطا لأنه يروى عن عيسى أنه قرأ بتخفيف الهمزة أنّا برأ وأحسب أن أبا جعفر قرأ كذا. وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ معطوف بإعادة حرف الخفض، كما تقول: أخذته منك ومن زيد، ولا يجوز أخذته منك وزيد. ألا ترى كيف السواد فيه ومما، ولو كان على قراءة من قرأ والأرحام [النساء: 1] لكان: وما تعبدون من دون الله بغير من كَفَرْنا بِكُمْ أي أنكرنا كفركم. وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً لأنه تأنيث غير حقيقي أي لا نودكم. حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ استثناء ليس من الأول أي لا تستغفروا للمشركين وتقولوا يتأسّى بإبراهيم صلّى الله عليه وسلّم إذ كان إنما فعل ذلك عن موعدة وعدها إياه قيل: وعده أنه يظهر إسلامه ولم يستغفر له إلا بعد أن أسلم. وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي ما أقدر أن أدفع عنك عذابه وعقابه. رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا في معناه قولان: أحدهما أن هذا قول إبراهيم ومن معه من الأنبياء، والآخر أن المعنى: قولوا ربنا عليك توكّلنا أي وكلنا أمورنا كلّها إليك، وقيل: معنى التوكل على الله جلّ وعزّ أن يعبد وحده ولا يعبى ويوثق بوعده لمن أطاعه. وَإِلَيْكَ أَنَبْنا أي رجعنا مما

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 149، والبحر المحيط 8/ 252.

[سورة الممتحنة (60) : آية 5]

تكره إلى ما تحبّ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي مصيرنا ومصير الخلق يوم القيامة. [سورة الممتحنة (60) : آية 5] رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: تقول: لا تسلّطهم علينا فيفتنونا وَاغْفِرْ لَنا ولا يجوز إدغام الراء في اللام لئلا يذهب تكرير الراء. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ في انتقامك ممن انتقمت منه الْحَكِيمُ في تدبير عبادك. [سورة الممتحنة (60) : آية 6] لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ولم يقل: كانت لأن التأنيث غير حقيقي معناه التأسي لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ أي ثوابه وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي نجاته وَمَنْ يَتَوَلَّ جزم بالشرط فلذلك حذفت منه الياء، والجواب فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. [سورة الممتحنة (60) : آية 7] عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) أَنْ يَجْعَلَ ومن العرب من يحذف «أن» بعد «عسى» قال ابن زيد: ففتحت مكة فكانت المودة بإسلامهم وَاللَّهُ قَدِيرٌ أي على أن يجعل بينكم وبينهم مودة. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن اتخذهم أولياء وألقى إليهم بالمودة إذا تاب رحيم به لمن يعذبه بعد التوبة. والرحمة من الله جلّ وعزّ قبول العمل والإثابة عليه. [سورة الممتحنة (60) : آية 8] لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) قال أبو جعفر: قد ذكرناه. وليس لقول من قال: إنها منسوخة معنى: لأن البرّ في اللغة إنما هو لين الكلام والمواساة، وليس هذا محظورا أن يفعله أحد بكافر. وكذا الإقساط إنما هو العدل والمكافأة بالحسن عن الحسن. ألا ترى أن بعده إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وأن في موضع خفض على البدل من الَّذِينَ ويجوز أن يكون في موضع نصب أي لا ينهاكم كراهة هذا. [سورة الممتحنة (60) : آية 9] إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) أَنْ تَوَلَّوْهُمْ والأصل تتولّوهم. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ أي ينصرهم ويودّهم فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي الذين جعلوا المودة في غير موضعها. والظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه.

[سورة الممتحنة (60) : آية 10]

[سورة الممتحنة (60) : آية 10] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ على تذكير الجمع مُهاجِراتٍ نصب على الحال. فَامْتَحِنُوهُنَّ، أي اختبروهن هل خرجن لسبب غير الرغبة في الإسلام اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ أي منكم ثم حذف لعلم السامع فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ مفعول ثان. فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ وذلك لسبب هدنة كانت بينهم. لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ لأنه لا تحلّ مسلمة لكافر بحال. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي له أن ينكحها إذا أسلمت وزوجها كافر، لأنه قد انقطعت العصمة بينهما وذلك بعد انقضاء العدة، وكذا إذا ارتدّ وأتوهم ما أنفقوا، وهو المهر وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وقرأ أبو عمرو ولا تمسكوا «1» يكون بمعناه أو على التكثير، وعن الحسن ولا تمسّكوا «2» والأصل تتمسّكوا حذفت التاء لاجتماع التاءين، وعصم جمع عصمة يقال: أخذت بعصمتها أي بيدها، وهو كناية عن الجماع، والْكَوافِرِ جمع كافرة مخصوص به المؤنث. وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا وذلك في المهر ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قال الزهري: فقال المسلمون رضينا بحكم الله جلّ وعزّ وأبى الكفار أن يرضوا بحكم الله ويقرّوا أنه من عنده. [سورة الممتحنة (60) : آية 11] وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) في معناه قولان، قال الزهري: الكفار هاهنا هم الذين كانت بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الذمة، وقال مجاهد وقتادة: هم أهل الحرب ممن لا ذمّة له فَعاقَبْتُمْ وقرأ حميد الأعرج وعكرمة فعقّبتم «3» هما عند الفراء بمعنى واحد، مثل «ولا تصاعر» وَلا تُصَعِّرْ [لقمان: 18] وحكي أنّ في حرف عبد الله وإن فاتكم أحد من أزواجكم وإذا كان للناس صلح فيه أحد وشيء، وإذا كان لغير الناس لم يصلح فيه أحد، وعن مجاهد فأعقبتم «4» وكله مأخوذ من العاقبة، والعقبى وهو ما يلي الشيء.

_ (1) انظر تيسير الداني 170 (قرأ أبو عمرو مشدّدا، والباقون مخفّفا) . (2) انظر البحر المحيط 8/ 254، والإتحاف 256. [.....] (3) نظر البحر المحيط 8/ 255. (4) نظر البحر المحيط 8/ 255.

[سورة الممتحنة (60) : آية 12]

فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا اختلف العلماء في حكمها فقال الزهري أيعطي الذي ذهبت امرأته إلى الكفار الذين لهم ذمّة مثل صداقها ويؤخذ ممن تزوج امرأة ممن جاءت منهم فتعطاه، وقال مسروق ومجاهد وقتادة: بل يعطى من الغنيمة. قال أبو جعفر: وهذا التأويل على أن تذهب امرأته إلى أهل الحرب ممن لا ذمّة له. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ أي اتّقوه فيما أمركم به ونهاكم عنه. [سورة الممتحنة (60) : آية 12] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ في موضع نصب على الحال. عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً أي على ألا يعبدن معه غيره ولا يتّخذن من دونه إلها ويُشْرِكْنَ في موضع نصب بأن، ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى على أنهنّ، وكذا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ وهذا الفعل كله مبني فلذلك كان رفعه ونصبه وجزمه كله واحدا، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ يقول: لا ينحن، وقال ابن زيد: لا يعصينك في كل ما تأمرهنّ به من الخير فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ولا يجوز إدغام الراء في اللام ويجوز الإخفاء، وهو الصحيح عن أبي عمرو، ويتوهّم من سمعه أنه إدغام. [سورة الممتحنة (60) : آية 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قال ابن زيد: هم اليهود. قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ «1» مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ قد ذكرناه. فمن أحسن ما قيل فيه، وهو معنى قول ابن زيد، وقد يئسوا من ثوب الآخرة لأنهم كفروا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجحدوا صفته، وهي مكتوبة عندهم، وقد وقفوا عليها، كما يئس الكفار الذين قد ماتوا من ثواب الآخرة أيضا، لأنهم قد كفروا وجحدوا لكفر هؤلاء.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 256 (قرأ ابن أبي الزناد «الكافر» على الإفراد، والجمهور على الجمع) .

61 شرح إعراب سورة الصف

61 شرح إعراب سورة الصف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الصف (61) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) قال أبو جعفر: قوله سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي أذعن له وانقاد ما أراد جلّ وعزّ فهذا داخل فيه كل شيء لأن ما عامة في كلام العرب. وَهُوَ الْعَزِيزُ في انتقامه ممن عصاه. الْحَكِيمُ في تدبيره. [سورة الصف (61) : آية 2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) لِمَ الأصل لما حذف الألف لاتصال الكلمة بما قبلها وأنه استفهام. [سورة الصف (61) : آية 3] كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) نصبت مَقْتاً على البيان والفاعل مضمر في كبر أي كبر ذلك القول أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ «أن» في موضع رفع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ والذي يخرج من هذا ألّا يقول أحد شيئا إلا ما يعتقد أن يفعله، ويقول: إن شاء الله لئلا يخترم دونه. [سورة الصف (61) : آية 4] إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) والمحبة منه جلّ وعزّ قبول العلم والإثابة عليه. صَفًّا في موضع الحال قيل: فدلّ بهذا على أن القتال في سبيل الله جلّ وعزّ والإنسان راجلا أفضل منه راكبا. كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ أي قد أحكم وأتقن فليس فيه شيء يزيد على شيء، وقيل: مرصوص مبني بالرصاص. [سورة الصف (61) : آية 5] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أي واذكر. يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي نداء مضاف وحذفت

[سورة الصف (61) : آية 6]

الياء، لأن النداء موضع حذف. وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ والأصل أنّني فَلَمَّا زاغُوا أي مالوا عن الحقّ. أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ مجازاة على فعلهم، وقيل: أزاغ قلوبهم عن الثواب. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي لا يوفق للصواب من خرج من الإيمان إلى الكفر. روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأبي أمامة أنّ هؤلاء هم الحرورية. [سورة الصف (61) : آية 6] وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) أي واذكر هذا. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ منصوب على الحال، وكذا وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وابن كثير، وقراءة ابن محيصن وحمزة والكسائي من بعد اسمه أحمد حذف الياء في الوصل لسكونها وسكون السين بعدها، وهو اختيار أبي عبيد، واحتج في حذفها بأنك إذا ابتدأت قلت: اسمه فكسرت الهمزة. وهذا من الاحتجاج الذي لا يحصل منه معنى، والقول في هذا عند أهل العربية أن هذه ياء النفس فمن العرب من يفتحها ومنهم من يسكّنها، قد قرئ بهاتين القراءتين، وليس منهما إلّا صواب غير أن الأكثر في ياء النفس إذا كان بعدها ساكن أن تحرّك لئلا تسقط وإذا كان بعدها متحرك أن تسكّن، ويجوز في كلّ واحدة منهما ما جاز في الأخرى. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي فلما جاءهم أحمد بالبيّنات أي بالبراهين والآيات الباهرة قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ «1» . [سورة الصف (61) : آية 7] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) أي ومن أشدّ ظلما ممّن قال لمن جاءه بالبيّنات هو ساحر، وهذا سحر مبين أي مبين لمن راه أنه سحر. وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وهو إذا دعي إلى الإسلام قال: هذا سحر مبين، وقراءة طلحة وهو يدّعي إلى الإسلام «2» وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وهم الذين يقولون في البيّنات هذا سحر مبين. [سورة الصف (61) : آية 8] يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ أي بقولهم هذا. وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ أي مكمل الإسلام ومعليه. هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ ابن كثير والأعمش وحمزة والكسائي متمّ نوره والأصل التنوين والحذف على التخفيف وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ وحذف المفعول.

_ (1) انظر تيسير الداني 83، والبحر المحيط 8/ 259. (2) انظر المحتسب 2/ 321، والبحر المحيط 8/ 259.

[سورة الصف (61) : آية 9]

[سورة الصف (61) : آية 9] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) قول أبي هريرة في هذا: أنه يكون إذا نزل المسيح صلّى الله عليه وسلّم وصار الدّين كلّه دين الإسلام. [سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) قال قتادة: فلولا أنه بيّن التجارة لطلبت قال: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وكان أبو الحسن علي بن سليمان يذهب إلى هذا ويقول «تؤمنون» على عطف البيان الذي يشبه البدل، وحكى لنا عن محمد بن يزيد أن معنى «تؤمنون» آمنوا على جهة الإلزام. قال أبو العباس: والدليل على ذلك يَغْفِرْ لَكُمْ جزم لأنه جواب الأمر وعطف عليه وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. فأما قول الأخفش سعيد: إنّ وَأُخْرى في موضع خفض على أنه معطوف على تجارة فهو يجوز، وأصحّ منه قول الفراء: إنّ «أخرى» في موضع رفع بمعنى ولكم أخرى يدلّ على ذلك نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ بالرفع ولم يخفضا وعلى قول الأخفش الرفع بإضمار مبتدأ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي بالنصر والفتح. والنصر في اللغة المعونة. [سورة الصف (61) : آية 14] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وقرأ الكوفيون كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ بالإضافة وهو اختيار أبي عبيد وحجته في ذلك قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ ولم يقولوا: أنصار الله. وهذه الحجة لا تلزم لأنها مختلفان لأن الأول كونوا ممن ينصرون الله فمعنى هذا النكرة فيجب أن يكون أنصارا لله وإن كانت الإضافة فيه تجوز أي كونوا الذين يقال لهم: هذا، والثاني معناه المعرفة. ألا ترى أنك إذا قلت: فلان ناصر لله فمعناه ممن يفعل هذا، وإذا عرفته فمعناه المعروف بهذا، كما قال: [البسيط] 483- هو الجواد الذي يعطيك نائله ... حينا ويظلم أحيانا فيظّلم «1»

_ (1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 152، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 219، والكتاب 4/ 600، وسمط اللئالي ص 467، وشرح أبيات سيبويه 2/ 403، وشرح التصريح 2/ 391، وشرح شواهد الشافية 493، وشرح المفصّل 10/ 47، 149، ولسان العرب (ظلم) ، والمقاصد النحوية 4/ 582، وبلا نسبة في الخصائص 2/ 141، وشرح الأشموني 3/ 873، وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 189، ولسان العرب (ظنن) .

فأما قول القتبي معنى مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي مع الله فلا يصحّ ولا يجوز: قمت إلى زيد مع زيد. قال أبو جعفر: وتقديره من يضم نصرته إياي إلى نصرة الله إياي فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ قد بيّناه قال مجاهد: فَأَيَّدْنَا فقوّينا. قال إبراهيم النخعي في معنى فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أيّدهم الله محمد صلّى الله عليه وسلّم وتصديقه إياهم أن عيسى صلّى الله عليه وسلّم كلمة الله.

62 شرح إعراب سورة الجمعة

62 شرح إعراب سورة الجمعة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) يُسَبِّحُ يكون للمستقبل والحال. الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ نعت. وفيه معنى المدح، ويجوز النصب في غير القرآن بمعنى أعني، ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ، ويجوز على غير إضمار ترفعه بالابتداء والذي الخبر، وقد يكون التقدير هو الملك القدوس ويكون الَّذِي نعتا للملك فإذا خفضت كان هُوَ مرفوعا بالابتداء والَّذِي خبره، ويجوز أن يكون «هو» مرفوعا على أنه توكيد لما في الحكيم ويكون «الذي» نعتا للحكيم بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ داخل في الصلة يَتْلُوا عَلَيْهِمْ في موضع نصب أي تاليا عليهم نعت لرسول وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ معنى يزكيهم يدعوهم إلى طاعة الله عزّ وجلّ فإذا أطاعوه فقد تزكّوا وزكّاهم وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ويجوز إدغام اللام في اللام. [سورة الجمعة (62) : آية 3] وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ في موضع خفض لأنه عطف على الأميين، ويجوز أن يكون في موضع نصب معطوفا على «هم» من يعلّمهم أو على «هم» من يزكيهم، ويجوز أن يكون معطوفا على معنى يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي يعرّفهم بها لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ. قال ابن زيد: أي لمن يأتي من العرب والعجم إلى يوم القيامة، وقال مجاهد: لمن ردفهم من الناس كلّهم. قال أبو جعفر: هذا أصحّ ما قيل به لأن الآية عامة ولمّا هي «لم» زيدت إليها «ما» توكيدا. قال سيبويه «1» : «لمّا» جواب لمن قال: قد فعل، و «لم» جواب لمن قال:

_ (1) انظر الكتاب 4/ 135.

[سورة الجمعة (62) : آية 4]

فعل. قال أبو جعفر: إلّا أن الجازم عند الجميع لم ولذلك حذفت النون. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ومن أسكن الهاء قال: الضمة ثقيلة وقد اتصل الكلام بما قبله. [سورة الجمعة (62) : آية 4] ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أي ذلك الذي أعطيه هؤلاء تفضل من الله جلّ وعزّ يؤتيه من يشاء. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أي لا يذمّ في صرف من صرفه عنه، لأنه لم يمنعه حقّا له قبله ولا ظلمه بمنعه إياه ولكنه علم أن غيره أولى به منه فصرفه إليه. [سورة الجمعة (62) : آية 5] مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ أي حملوا القيام بها والانتهاء إلى ما فيها. ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أي لم يفعلوا ذلك كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «يحمل» في موضع نصب على الحال أي حاملا فإن قيل: فكيف جاز هذا ولا يقال: جاءني غلام هند مسرعة؟ فالجواب أنّ المعنى مثلهم مثل الّذين حملوا التوراة، وزعم الكوفيون أنّ يحمل صلة للحمار، لأنه بمنزلة النكرة وهم يسمون نعت النكرة صلة ثمّ نقضوا هذا فقالوا: المعنى كمثل الحمار حاملا أسفارا. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي هذا المثل ثم حذف هذا، لأنه قد تقدم ذكره. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ المعنى لا يوفقّهم ولا يرشدهم إذ كان في علمه أنّهم لا يؤمنون، وقيل: لا يهديهم إلى الثواب. [سورة الجمعة (62) : آية 6] قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا يقال: هاد يهود إذا تاب وإذا رجع. إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ أي سواكم فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إن كنتم صادقين أنكم أولياء فإنه لا يعذّب أولياءه فتمنّوه لتستريحوا من كرب الدنيا وهمّها وغمّها وتصيروا إلى روح الجنة. [سورة الجمعة (62) : آية 7] وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً فكان حقا كما قال جلّ وعزّ وكفّوا عن ذلك. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي من الآثام. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أي ذو علم بمن ظلم نفسه فأوبقها وأهلكها بالكفر.

[سورة الجمعة (62) : آية 8]

[سورة الجمعة (62) : آية 8] قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ أي تأبون أن تتمنوه. الَّذِي في موضع نصب نعت للموت. فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ خبر إن وجاز أن تدخل الفاء ولا يجوز: إنّ أخاك فمنطلق لأن في الكلام معنى الجزاء، وأجاز الكوفيون «1» : إنّ ضاربك فظالم لأن في الكلام معنى الجزاء عندهم، وفيه قول أخر ويكون الذي تفرون منه خبر إن الموت هو الذي تفرون منه ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ عطف جملة على جملة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ عطف على تردون. [سورة الجمعة (62) : آية 9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) وقرأ الأعمش الْجُمُعَةِ «2» بإسكان الميم ولغة بني عقيل «من يوم الجمعة» بفتح الميم فمن قرأ الْجُمُعَةِ «3» قدّره تقديرات منها أن يكون الأصل الجمعة ثمّ حذف الضمة لثقلها، ويجوز أن تكون هذه لغة بمعنى تلك، وجواب ثالث يكون مسكنا لأن التجميع فيه فهو يشبه المفعول به كما يقال: رجل هزأة أي يهزأ به ولحنة أي يلحن ومن قال: الْجُمُعَةِ نسب الفعل إليها أي يجمع للناس، كما يقال: رجل لحنة أي يلحّن الناس وقراء أي يقرئ الناس. فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ قال قتادة: أي بقلوبكم وأعمالكم أي امضوا وَذَرُوا الْبَيْعَ ولا يقال في الماضي: وذر. قال سيبويه «4» : استغنوا عنه بترك، وقال غيره: لأن الواو ثقيلة فعدّلوا إلى ترك لأن معناه ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي السعي إلى ذكر الله. قال سعيد بن المسيب: وهي الخطبة خير لكم من البيع والشراء. قال الضحّاك: إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء، وقال غيره: ظاهر القرآن يدلّ على أن ذلك إذا أذّن المؤذّن والإمام على المنبر. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما فيه منفعتكم ومضرتكم. [سورة الجمعة (62) : آية 10] فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) أي صلاة الجمعة. فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ أي أن شئتم يدلّ على ذلك ما قبله، وإن أهل التفسير قالوا: هو إباحة وفي الحديث عن أنس بن مالك مرفوعا فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ قال أبو جعفر: لعيادة مريض أو شهود جنازة أو زيارة أي في الله.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 156. (2) وهذه قراءة أبي عمرو وزيد بن علي أيضا، وهي لغة تميم، انظر البحر المحيط 8/ 264. (3) هذه قراءة الجمهور بضم الميم، انظر البحر المحيط 8/ 264. (4) انظر الكتاب 4/ 226.

[سورة الجمعة (62) : آية 11]

وظاهر الآية يدلّ على إباحة الانتشار في الأرض لطلب رزق في الدنيا أو ثواب في الآخرة. وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي لما عليكم ووفّقكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي تدخلون الجنة فتقيمون فيها، والفلاح البقاء. [سورة الجمعة (62) : آية 11] وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها اختلف العلماء في اللهو هاهنا، فروى سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: كانت المرأة إذا أنكحت حرّكت لها المزامير فابتدر الناس إليها فأنزل الله جلّ وعزّ هذا. وقال مجاهد: اللهو الطبل. قال أبو جعفر: والقول الأول أولى بالصواب لأن جابرا مشاهد للتنزيل، ومال الفرّاء «1» إلى القول الثاني لأنهم فيما ذكر كانوا إذا وافت تجارة ضربوا لها بطبل، فبدر الناس إليها. وكان الفرّاء يعتمد في كتابه في المعاني على الكلبيّ والكلبي متروك الحديث. فأما قوله جلّ وعزّ انْفَضُّوا إِلَيْها ولم يقل: إليهما فتقديره على قول محمد بن يزيد وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها ثمّ عطف الثاني على الأول فدخل فيما دخل فيه. وزعم الفرّاء «2» أن الاختيار أن يعود الضمير على الثاني، ولو كان كما قال فكان انفضوا إليه، ولكنه يحتجّ في هذا بأن المقصود التجارة. وهذا كله جائز أن يعود على الأول أو على الثاني أو عليهما. قال جلّ وعزّ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً [النساء: 112] فعاد الضمير على الثاني، وقال جلّ وعزّ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما [النساء: 135] فعاد عليهما جميعا وَتَرَكُوكَ قائِماً نصب على الحال أي قائما تخطب. قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ أي ما عنده من الثواب. وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي فإيّاه فاسألوا وإليه فارغبوا أن يوسّع عليكم.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 157. (2) انظر معاني الفراء 3/ 157.

63 شرح إعراب سورة المنافقين

63 شرح إعراب سورة المنافقين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المنافقون (63) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) إِذا في موضع نصب بجاءك إلا أنها غير معربة لتنقّلها وفي اخرها ألف، والألف لا تحرّك، وجواب إذا قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ كسرت «إن» لدخول اللام وانقطع الكلام فصارت إنّ مبتدأة فكسرت وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ وأعيد اسم الله تعالى ظاهرا لأن ذلك أفخم قيل: أكذبهم الله جلّ وعزّ في ضميرهم. ومن أصحّ ما قيل في ذلك أنّهم أخبروا أنّ أنفسهم تعتقد الإيمان وهم كاذبون فأكذبهم الله. [سورة المنافقون (63) : آية 2] اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً قال الضّحاك: هو حلفهم بالله أنّهم لمنكم، وقال قتادة: جنّة إنّهم يعصمون به دماءهم وأموالهم، وقرأ الحسن اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ «1» أي تصديقهم سترة يستترون به كما يستتر بالجنّة في الحرب فامتنع من قتلهم وسبي ذراريهم لأنهم أظهروا الإيمان فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يجوز أن يكون المفعول محذوفا أي صدّوا الناس، ويجوز أن يكون الفعل لازما أي أعرضوا عن سبيل الله أي دينه الذي ارتضاه وشريعته التي بعث بها نبيّه صلّى الله عليه وسلّم إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من حلفهم على الكذب ونفاقهم، و «ما» في موضع رفع على قول سيبويه أي ساء الشيء وفي موضع نصب على قول الأخفش أي ساء شيئا يعملون.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 267 (قرأ الجمهور «أيمانهم» بفتح الهمزة، والحسن بكسرها مصدر أمن) . [.....]

[سورة المنافقون (63) : آية 3]

[سورة المنافقون (63) : آية 3] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) ذلِكَ في موضع رفع أي ذلك الحلف والنفاق من أجل أنهم. آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فطبع على قلوبهم، ويجوز إدغام العين في العين، وترك الأدغام أجود لبعد مخرج العين فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ حقّا من باطل ولا صوابا من خطأ لغلبة الهوى عليهم. [سورة المنافقون (63) : آية 4] وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وأجاز النحويون جميعا الجزم بإذا وان تجعل بمنزلة حروف المجازاة لأنها لا تقع إلّا على فعل وهي تحتاج إلى جواب وهكذا حروف المجازاة، وأنشد الفرّاء: [الكامل] 484- واستغن ما أغناك ربّك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمّل «1» وأنشد الآخر: [البسيط] 485- نارا إذا ما خبت نيرانهم تقد «2» والاختيار عند الخليل وسيبويه والفرّاء «3» أن لا يجزم بإذا لأن ما بعدها موقت فخالفت حروف المجازاة في هذا، كما قال: [الكامل] 486- وإذا تكون شديدة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب «4» وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ لأن منطقهم كمنطق أهل الإيمان كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ أي لا يفهمون ولا عندهم فقه ولا علم، فهم كالخشب، وهذه قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وعاصم وحمزة، وقرأ أبو عمرو والأعمش والكسائي خشب «5» بإسكان الشين وإليه يميل أبو عبيد، وزعم أنه لا يعرف فعلة تجمع على فعل بضم الفاء والعين. قال أبو جعفر: وهذا غلط وطعن على ما روته الجماعة وليس يخلو ذلك من إحدى جهتين إمّا أن يكون خشب جمع خشبة كقولهم: ثمرة وثمر فيكون غير ما قال من جمع فعلة على فعل، أو يكون كما قال حذّاق النحويين خشبة وخشاب مثل جفنة وجفان وخشاب

_ (1) مرّ الشاهد رقم (103) . (2) الشاهد لعبد قيس بن خفاف الدرر 3/ 102، وشرح اختيارات المفضّل ص 1558، وشرح شواهد المغني 1/ 271، ولسان العرب (كرب) والمقاصد النحوية 2/ 203، ولحارثة بن بدر الغداني في أمالي المرتضى 1/ 383، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 335، وشرح الأشموني 3/ 583، وشرح عمدة الحافظ 374، ومغني 1/ 93، وهمع الهوامع 1/ 206. (3) انظر معاني الفراء 3/ 158. (4) الشاهد لابن أحمر الكناني في الأزهية ص 185، ولسان العرب (حيس) ، وتاج العروس (حيس) ، وبلا نسبة في شرح المفضل 2/ 110، وكتاب اللامات ص 106، وتاج العروس (حيس) . (5) انظر تيسير الداني 171.

[سورة المنافقون (63) : آية 5]

وخشب مثل حمار وحمر أيضا فقد سمع أكمة وأكم وأكم وأجمة وأجم. فأما خشب فقد يجوز أن يكون الأصل فيه خشبا حذفت الضمة لثقلها، ويجوز وهو أجود أن يكون مثل أسد وأسد في المذكر. قال سيبويه ومثل خشبة وخشب بدنة وبدن ومثل مذكّرة وثن ووثن قال: وهي قراءة، وأحسب من تأول على سيبويه، وهي قراءة يعني «كأنّهم خشب» لأن قوله: وهي قراءة تضعيف لها ولكنه يريد فيما يقال: «إن تدعون من دونه إلّا وثنا» فهذه قراءة شاذة تروى عن ابن عباس يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ أي لجبنهم وقلة يقينهم وإنهم يبطنون الكفر كلما نزل الوحي فزعوا أن يكونوا قد فضحوا. هُمُ الْعَدُوُّ لأن ألسنتهم معكم وقلوبهم مع الكفار فهم عين لهم وعدو بمعنى أعداء. فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أي عاقبهم فأهلكهم فصاروا بمنزلة من قتل. أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي من أين يصرفون عن الحق بعد ظهور البراهين. [سورة المنافقون (63) : آية 5] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ هذا على إعمال الفعل الثاني كما تقول: أقبل يكلمك زيد فإن أعملت الأول قلت أقبل يكلمك إلى زيد، وتعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ يكون للقليل ولوّوا على التكثير. وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ في موضع الحال. وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أي معرضون عن المصير إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليستغفر لهم. [سورة المنافقون (63) : آية 6] سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) سَواءٌ عَلَيْهِمْ رفع بالابتداء: أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ في موضع الخبر، والمعنى الاستغفار وتركه. لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لأنهم كفار وإنّما استغفر لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأن ظاهرهم الإسلام فمعنى استغفاره لهم اللهم اغفر لهم إن كانوا مؤمنين إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ قيل: أي لا يوفّقهم، وقيل: لا يهديهم إلى الثواب والجنّة. [سورة المنافقون (63) : آية 7] هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَنْفَضُّوا أي يتفرقوا. قال قتادة: الذي قال هذا عبد الله بن أبيّ، قال: لولا أنكم تنفقون عليهم لتركوه وخلّوا عنه. قال أبو الحسن علي بن سليمان: «هم» كناية عنهم وعن من قال بقوله. قال أبو جعفر: وهذا أحسن من قوله من قال «هم» كناية عن واحد. وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي بيده مفاتيح خزائن السماوات والأرض فلا

[سورة المنافقون (63) : آية 8]

يعطي أحد أحدا شيئا إلا بإذنه ولا يمنعه إلا بمشيئته. وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ أن ذلك كذا، فلهذا يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضوا. [سورة المنافقون (63) : آية 8] يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وحكى الكسائي والفرّاء «1» أنه يقرأ لنخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ «2» بالنون وأن ذلك بمعنى لنخرجنّ الأعز منها ذليلا، وحكى الفرّاء: ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، بمعنى ذليلا أيضا وأكثر النحويين لا يجيز أن تكون الحال بالألف واللام غير أن يونس أجاز: مررت به المسكين، وحكى سيبويه «3» : دخلوا الأوّل فالأوّل، وهي أشياء لا يجوز أن يحمل القرآن عليها إلّا أن علي بن سليمان قال: يجوز أن يكون «ليخرجنّ» تعمل عمل لتكونن فيكون خبره معرفة، والأعز والعزيز واحد أي القوي الأمين المنيع كما قال: [الطويل] 487- إذا ابتدر القوم السّلاح وجدتني ... عزيزا إذا بلّت بقائمة يدي «4» ويروى «منيعا» والمعنى واحد. وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ أي فكذلك قالوا هذا. [سورة المنافقون (63) : آية 9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) أي لا توجب لكم اللهو كأنّه من ألهيته فلهي، كما قال: [الطويل] 488- ومثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول «5» وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي المغبونون الرحمة والثواب. [سورة المنافقون (63) : آية 10] وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ قيل: دلّ بهذا على أنه لا يقال رزقه الله جلّ وعزّ إلّا

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 160. (2) انظر البحر المحيط 8/ 270. (3) انظر الكتاب 1/ 466. (4) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه ص 38، وكتاب العين 8/ 319، وتاج العروس (بلل) وأساس البلاغة (بلل) . (5) مرّ الشاهد رقم (385) .

الحلال مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ جواب وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ عطف على موضع الفاء لا على ما بعد الفاء، وقرأ الحسن وابن محيصن وأبو عمرو وأكون «1» بالنصب عطفا على ما بعد الفاء وقد حكي أنّ ذلك في قراءة أبيّ وابن مسعود كذا وأكون إلّا أنه مخالف للسواد الذي قامت به الحجّة، وقد احتج بعضهم فقال: الواو تحذف من مثل هذا كما يقال: «كلمن» فتكتب بغير واو. وحكي عن محمد بن يزيد معارضة هذا القول بأن الدليل على أنه ليس بصحيح أنّ كتب المصحف في نظيره على غير ذلك نحو يكون وتكون ونكون كلها بالواو في موضع الرفع والنصب ولا يجوز غير ذلك، وقال غيره: حكم «كلمن» غير هذا لأنه إنما حذف منه الواو لأنهم إنما أرادوا أن يروا أن صورة الواو متصلة فلما تقدّمت في «هوّز» لم تحتج إلى إعادتها وكذلك لم يكتبوها في قولهم «أبجد» فأما في الكلام فلا يجوز من هذا شيء، ولا يحتاج إليه لأن العطف على الموضع موجود في كلام العرب كثير. قال سيبويه: لو لم تكن الفاء لكان مجزوما يعني لأنه جواب الاستفهام الذي فيه معنى التمني، كما قال أنشد غير سيبويه: [الوافر] 489- فأبلوني بليّتكم لعلّي ... أصالحكم وأستدرج نويّا «2» وأنشد سيبويه في العطف على الموضع: [الطويل] 490- فإن لم تجد من دون عدنان والدا ... ودون معدّ فلتزعك العواذل «3» لأن معنى من دون عدنان دون عدنان، وأنشد: [الوافر] 491- معاوي إنّنا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا «4»

_ (1) انظر تيسير الداني 171، والبحر المحيط 8/ 270. (2) الشاهد لأبي دؤاد الإيادي في ديوانه 350، والخصائص 1/ 176، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 701، وشرح شواهد المغني 2/ 839، وللهذليّ في مغني اللبيب 2/ 477، وبلا نسبة في لسان العرب (علل) ، ومغني اللبيب 2/ 423. (3) الشاهد للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 255، والكتاب 1/ 114، وأمالي المرتضى 1/ 171، وخزانة الأدب 2/ 252، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 131، وشرح أبيات سيبويه 1/ 22، وشرح شواهد المغني 1/ 151، والمعاني الكبير (1211) ، والمقاصد النحوية 1/ 8، والمقتضب 4/ 152، وبلا نسبة في رصف المباني ص 82، وشرح التصريح 1/ 288، وشرح شواهد المغني 2/ 866، والمحتسب 2/ 43، ومغني اللبيب 2/ 472. (4) الشاهد لعقبة أو لعقيبة الأسدي في الكتاب 1/ 113، والإنصاف 1/ 332، وخزانة الأدب 2/ 260، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 131، وسمط اللآلي ص 148، وشرح أبيات سيبويه 300، وشرح شواهد المغني 2/ 870، ولسان العرب (غمز) ، ولعمر بن أبي ربيعة في الأزمنة والأمكنة 2/ 317، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 4/ 313، وأمالي ابن الحاجب ص 160، ورصف المباني 122. [.....]

[سورة المنافقون (63) : آية 11]

وكذا قوله: [الكامل] 492- لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب «1» وكذا قوله: [السريع] 493- لا نسب اليوم ولا خلّة ... اتّسع الخرق على الرّاقع «2» على الموضع وإن جئت به على اللفظ قلت ولا خلّة ومثله من القرآن مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ [الأعراف: 186] على موضع الفاء وبالرفع على ما بعد الفاء، وأصل فأصّدّق فأتصدق أدغمت التاء في الصاد، وحسن ذلك لأنهما في كلمة واحدة ولتقاربهما، وروى الضحّاك عن ابن عباس «فأصّدّق» وأزكّي وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ أحجّ، وقال غيره: أكن من الصالحين أؤدي الفرائض وأجتنب المحارم، والتقدير: وأكن صالحا من الصالحين. [سورة المنافقون (63) : آية 11] وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها نصب بلن عند سيبويه وعند الخليل الأصل «لا أن» وحكي عنه لا ينتصب فعل إلّا بأن مضمرة أو مظهرة، وردّ سيبويه ذلك بأنه يجوز: زيدا لن أضرب، ولا يجوز: زيدا يعجبني أن تضرب، لأنه داخل في الصلة فلا يتقدّم. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: لا يجوز عندي: زيدا لن أضرب لأن «لن» لا يتصرّف فلا يتقدم عليها ما كان من سبب ما عملت فيه كما لا يجوز: زيدا إنّ عمرا يضرب، وكذا «لم» عنده، وحكيت هذا لأبي إسحاق فأنكره وقال: لم يقل هذا أحد، وزعم أبو عبيدة أن من العرب من يجزم بلن وهذا لا يعرف. يُؤَخِّرَ مهموز لأن أصله من أخّر وتكتب الهمزة واوا وإن كانت مفتوحة لعلتين إحداهما أن قبلها ضمة والضمة أغلب لقوتها، والأخرى أنه لا يجوز أن تكتب ألفا لأن الألف لا ينون قبلها إلا مفتوحا، ومن خفّف الهمزة قلبها واوا فقال: يؤخّر، فإن قيل: لم لا تجعل بين بين؟ فالجواب أنها لو جعلت بين بين نحي بها نحو الألف فكان ذلك خطأ لأن الألف لا

_ (1) الشاهد لرجل من بني مذحج في الكتاب 2/ 302، ولضمرة بن جابر في خزانة الأدب 2/ 38، وهو لرجل من مذحج أو لضمرة بن ضمرة أو لهمام أخي جساس ابني مرّة في تخليص الشواهد 405، وهو لهنيّ بن أحمر أو لزرافة الباهلي في لسان العرب (حيس) ، ولابن أحمر في المؤتلف والمختلف ص 38، والمقاصد النحوية 2/ 339، ولهمام بن مرّة في الحماسة الشجرية 1/ 256، وبلا نسبة في جواهر الأدب 241، والأشباه والنظائر 4/ 162، وأمالي ابن الحاجب 593، وأوضح المسالك 2/ 16، وصدره: «هذا لعمركم الصّغار بعينه» (2) مرّ الشاهد رقم (40) .

يكون ما قبلها إلا مفتوحا إِذا جاءَ أَجَلُها على تحقيق الهمزتين، فإن شئت خفّفت، وأبو عمرو يحذف للدلالة لما كانت حركتهما واحدة وكانت الهمزة مستقلة. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي ذو خبرة بعملكم، فهو يحصيه عليكم وليجازيكم عليه. وهذا ترتيب الكلام أن يكون الخافض والمخفوض طرفا لأنهما تبيين فإن تقدم من ذلك شيء فهو ينوى به التأخير ولهذا أجمع النحويون أنه لا يجوز: لبست ألينها من الثياب لأن الخافض والمخفوض متأخران في موضعهما فلا يجوز أن ينوى بهما التقديم، وتصحيح المسألة لبس من الثياب ألينها، فإن قدرت «ما» بمعنى الذي فالهاء محذوفة أي خبير بما تعملونه. حذفت لطول الاسم، وإن قدّرت «ما» بمعنى المصدر لم تحتج إلى حذف أي والله ذو خبرة بعملكم.

64 شرح إعراب سورة التغابن

64 شرح إعراب سورة التغابن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التغابن (64) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يكون هذا تمام الكلام، وقد يكون متصلا ويكون له ما في السموات، ويكون لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ في موضع الحال أي سلطانه وأمره وقضاؤه نافذ فيهما. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي ذو قدرة على ما يشاء يخلق ما يشاء ويحيي ويميت ويعزّ ويذلّ لا يعجزه شيء لأنه ذو القدرة التامة. [سورة التغابن (64) : آية 2] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ إن شئت أدغمت القاف في الكاف فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ أي مصدّق يوقن أنه خالقه وإلهه لا إله له غيره وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي عالم بأعمالكم فلا تخالفوا أمره ونهيه فيسطو بكم. [سورة التغابن (64) : آية 3] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي بالعدل والإنصاف. وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وعن أبي رزين صَوَّرَكُمْ شبّه فعلة بفعلة كما أنّ فعلة تشبه بفعلة قالوا: كسوة وكسى ورشوة ورشى ولحية ولحى أكثر، وقالوا: قوّة وقوى. قال أبو جعفر وهذا لمجانسة الضمة الكسرة وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي مصير جميعكم فيجازيكم على أفعالكم. [سورة التغابن (64) : آية 4] يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ويجوز إدغام الميم في الميم، وكذا وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ والمعنى: ويعلم ما تسرّونه وما تعلنونه بينكم من قول وفعل وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي عالم بضمائر صدوركم وما تنطوي عليه نفوسكم الذي هو أخفى من السرّ.

[سورة التغابن (64) : آية 5]

[سورة التغابن (64) : آية 5] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ الأصل يأتيكم حذفت الياء للجزم، ومن قال: ألم يأتيك الأصل عنده يأتيك فحذفت الضمة للجزم إلّا أن اللغة الفصيحة الأولى. قال سيبويه: واعلم أن الآخر إذا كان يسكن في الرفع حذف في الجزم. قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يقول: قرأنا على محمد بن يزيد واعلم أن الآخر إذا كان يسكن في الرفع والجر حذف في الجزم لئلا يكون الجزم بمنزلة الرفع والجر فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي مستهم العقوبة بكفرهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي في الآخرة. [سورة التغابن (64) : آية 6] ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) ذلِكَ بِأَنَّهُ الهاء كناية عن الحديث وما بعده مفسّر له خبر عن أنّ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج والبراهين فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فقال: يهدوننا، ولفظ بشر واحد. تكلّم النحويون في نظير هذا فقال بعضهم: يهدوننا على المعنى ويهدينا على اللفظ، وقال المازني: وذكر عللا في مسائل في النحو منها أن النحويين أجازوا أن يقال: جاءني ثلاثة نفر، وثلاثة رهط، وهما اسمان للجميع ولم يجيزوا جاءني ثلاثة قوم ولا ثلاثة بشر، وهما عند بعض النحويين اسمان للجميع فقال المازني: إنما جاز جاءني ثلاثة نفر وثلاثة رهط لأن نفرا ورهطا لأقل العدد فوقع في موقعه. وبشر للعدد الكثير وقوم للقليل والكثير، فلذلك لم يجز فيهما هذا وخالفه محمد بن يزيد في اعتلاله في بشر ووافقه في غير فقال: بشر يكون للواحد والجميع. قال الله جلّ وعزّ: ما هذا بَشَراً [يوسف: 31] قال: فلذلك لم يجز جاءني ثلاثة بشر فَكَفَرُوا أي جحدوا أنبياء الله جلّ وعزّ وآياته وَتَوَلَّوْا أي أدبروا عن الإيمان وَاسْتَغْنَى اللَّهُ عن إيمانهم وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن جميع خلقه حَمِيدٌ أي محمود عندهم بما يعرفونه من نعمه وتفضّله. [سورة التغابن (64) : آية 7] زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) أَنْ وما بعدها تقوم مقام مفعولين قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ من قبوركم ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ أي تخبرون به وتحاسبون عليه وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي سهل لأنه لا يعجزه شيء. [سورة التغابن (64) : آية 8] فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا أي القرآن. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مبتدأ وخبره.

[سورة التغابن (64) : آية 9]

[سورة التغابن (64) : آية 9] يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ العامل في يوم لتنبّؤنّ والضمير الذي في يجمعكم يعود على اسم الله، ولا يجوز أن يعود على اليوم لو قلت: جئت يوم يوافقك، لم يجز، لا يضاف اليوم إلى فعل يعود عليه منه ضمير لعلّة ليس هذا موضع ذكرها ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ مبتدأ وخبره، ويجوز في غير القرآن نصب يوم على الظرف وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً معطوف، ويجوز رفع ويعمل على أنه في موضع الحال يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ أي نمحو عنه سيّئاته وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نصب على الحال أَبَداً على الظرف ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ مبتدأ وخبره والفوز النجاء. [سورة التغابن (64) : آية 10] وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي بدلائلنا وحججنا وأي كتابنا وَالَّذِينَ رفع بالابتداء أُولئِكَ مبتدأ ثان أَصْحابُ النَّارِ خبر الثاني والجملة خبر الذين خالِدِينَ فِيها على الحال وَبِئْسَ الْمَصِيرُ رفع ببئس المصير مصيرهم إلى النار. [سورة التغابن (64) : آية 11] ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ما هاهنا نفي لا موضع له من الإعراب وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وقراءة عكرمة يَهْدِ قَلْبَهُ «1» بفتح الدال ورفع قلبه على أن الأصل فيه يهدى قلبه أي يسكّن فأبدل من الهمزة ألفا ثمّ حذفها للجزم، كما قال: [الطويل] 494- سريعا وإلّا يبد بالظّلم يظلم «2» وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي بما كان وبما هو كائن. [سورة التغابن (64) : آية 12] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) وَأَطِيعُوا اللَّهَ أي فيما أمركم به ونهاكم عنه الرَّسُولَ عطف فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي أدبرتم واستكبرتم عن طاعته وعصيتموه فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي أن يبلّغ والمحاسبة والعقوبة إلى الله جلّ وعزّ.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 275. (2) مرّ الشاهد رقم (16) .

[سورة التغابن (64) : آية 13]

[سورة التغابن (64) : آية 13] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا تصلح الألوهية إلّا له وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أمر، والأصل كسر اللام. [سورة التغابن (64) : آية 14] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) عَدُوًّا اسم «إنّ» وعدوّ يكون بمعنى أعداء. قيل: أي يأمرونكم بالمعاصي وينهونكم عن الطاعة، وهذا أشد العداوة. فَاحْذَرُوهُمْ أي أن تقبلوا منهم وَإِنْ تَعْفُوا حذفت النون للجزم وَتَصْفَحُوا عطف عليه، وكذا وَتَغْفِرُوا أي إن تعفوا عما سلف منهم، وتصفحوا عن عقوبتهم وتغفروا ذنوبهم من غير ذلك. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن تاب رحيم أي يعذبه بعد التوبة. [سورة التغابن (64) : آية 15] إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) َّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ قال قتادة: أي بلاء، روى ابن زيد عن أبيه قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يخطب فرأى الحسن والحسين يعبران فنزل من على المنبر وضمّهما إليه وتلانَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ قال قتادة: اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أي الجنة. [سورة التغابن (64) : آية 16] فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «ما» في موضع نصب أي فاتقوا الله قدر ما استطعتم أي قدر استطاعتكم مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وقول قتادة إنّ هذه الآية ناسخة لقوله جلّ وعزّ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [ال عمران: 102] قول لا يصحّ، ولا يقع الناسخ والمنسوخ إلا بالتوقيف أو إقامة الحجة القاطعة، والآيتان متفقتان لأن الله جلّ وعزّ لا يكلف ما لا يستطاع. فمعنى اتقوا الله حقّ تقاته هو فيما استطعتم. وَاسْمَعُوا أي ما تؤمرون به وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ في نصب «خيرا» أربعة أقوال: مذهب سيبويه أن المعنى وأتوا خيرا لأنفسكم، وقيل: المعنى يكن خيرا لأنفسكم والقول الثالث إنفاقا خيرا لأنفسكم، والقول الرابع أن تنصب خيرا بأنفقوا ويكون الخير المال وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وحكى الفراء أنه قرئ ومن يوق شح نفسه «1» بكسر الشين، وهي شاذة. فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الذين ظفروا بما طلبوا.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 160، والبحر المحيط 8/ 276.

[سورة التغابن (64) : آية 17]

[سورة التغابن (64) : آية 17] إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي بإنفاقكم في سبيله يُضاعِفْهُ لَكُمْ مجازاة وَيَغْفِرْ لَكُمْ عطف، ويجوز رفعه بقطعه من الأول ونصبه على الصرف وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ أي يشكر من أنفق في سبيله، ومعنى شكره إياه إثابته له وقبوله عمله حَلِيمٌ في ترك العقوبة في الدنيا. [سورة التغابن (64) : آية 18] عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) يجوز أن يكون الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هو نعت اسم الله جلّ وعزّ، ويكون عالم الغيب خبرا ثانيا أو نعتا إن كان بمعنى المضيّ لأنه يكون معرفة، ويجوز أن يكون كلّه بدلا لأن المعرفة تبدل من النكرة.

65 شرح إعراب سورة الطلاق

65 شرح إعراب سورة الطلاق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الطلاق (65) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ نعت لأيّ فإن همزته فهو مشتقّ من أنبأ أي أخبر، وإن لم تهمز جاز أن يكون من أنبأ وخفّفت الهمزة وفيه شيء لطيف من العربية وذلك أن سبيل الهمزة إذا خففت وقبلها ساكن أن تلقى حركتها على ما قبلها، ولا يجوز ذلك هاهنا. والعلّة فيه أن هذه الياء لا تتحرك بحال فلما لم يجز تحريكها قيل: نبيّ وخطيّة ولو كان على القياس لقيل خطيّة وإن جعلته من نبا ينبو لم يهمز وكانت الياء الأخيرة منقلبة من واو. إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ أي إذا أردتم ذلك وهو مجاز. فأما القول في إِذا طَلَّقْتُمُ وقبله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ فقد ذكرنا فيه أقوالا، وقد قيل: هو مخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمخاطبة الجميع على الإجلال له كما يقال للرجل الجليل: أنتم فعلتم، والمعنى: إذا طلقتم النساء اللاتي دخلتم بهن. فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ فبين الله جلّ وعزّ هذا على لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بأنه الطلاق في الطهر الذي لم يجامعها فيه. وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ قال السدي: أي احفظوها. وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ أي لا تتجاوزوا ما أمركم به لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ ثم استثنى إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ «أن» في موضع نصب واختلف العلماء في هذه الفاحشة ما هي؟ فمن أجمع ما قيل في ذلك أنها معصية الله جلّ وعزّ، فهذا يدخل فيه كل قول لأنها إن زنت أو سرقت فأخرجت لإقامة الحدّ فهو داخل في هذا، وكذلك إن بذؤت أو نشزت. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أي الأشياء التي حدّها من الطّلاق والعدّة وألّا تخرج الزوجة وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ حذفت الألف للجزم فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ قيل: أي منعها مما كان أبيح له. لأنه إذا طلّقها ثلاثا على أي حال كان لم يحلّ له أن يرتجعها حتّى تنكح زوجا غيره فقد ظلم نفسه بهذا الفعل لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً أكثر أهل التفسير على أن المعنى إنه إذا طلّقها واحدة كان أصلح له لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً من محبّته لها.

[سورة الطلاق (65) : آية 2]

[سورة الطلاق (65) : آية 2] فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي قاربن ذلك فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي بما يجب لهن عليكم من النفقة وترك البذاء وغير ذلك أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ بدفع صداقهنّ إليهن وما يجب لهن وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أكثر أهل التفسير على أن هذا في الرجعة، وعن ابن عباس يشهد على الطلاق والرجعة إلّا أنه إن لم يشهد لم يكن عليه شيء وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ أي اشهدوا بالحقّ إذا شهدتم وإذا أديتم الشهادة كما قال السدّي ذلك في الحق. ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ «ذلكم» مخاطبة لجميع وإخبار عن واحد لأن أخر الكلام لمن تخاطبه وأوله لمن تخبر عنه أو تسأل وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً أهل التفسير على أن المعنى أنه إن اتّقى الله جلّ وعزّ وطلّق واحدة فله مخرج إن أراد أن يتزوّج تزوّج وإن لم يتّق الله جلّ وعزّ وطلّق ثلاثا فلا مخرج له: وهذا قول صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس بالأسانيد التي لا تدفع. روى ابن عليّة عن أيّوب عن عبد الله بن كثير عن مجاهد، قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: يا ابن عباس إني طلّقت امرأتي ثلاثا فأطرق ابن عباس مليّا ثمّ رفع رأسه إلى الرجل فقال: يأتي أحدكم الحموقة ثمّ يقول: يا ابن عباس طلّقت ثلاثا فحرمت عليك حتّى تنكح زوجا غيرك، ولم يجعل الله لك مخرجا ولو اتقيته لجعل لكم مخرجا ثمّ تلا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي لا تدفع صحته أنه قال رضي الله عنه في الحرام: إنه ثلاث لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره. [سورة الطلاق (65) : آية 3] وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ قال قتادة: من حيث يرجو ولا يأمل وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي كافيه. وأحسبني الشيء كفاني. وهذا تمام الكلام ثمّ قال: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قال مسروق: أي بالغ أمره توكّل عليه أم لم يتوكّل أي منفذ قضاؤه. قال هارون القارئ: في عصمة يقرأ «1» إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ وهذا على حذف التنوين تخفيفا، وأجاز الفراء إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ «2» بالرفع بفعله بالغ، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره في موضع خبر «إنّ» قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أي للطلاق والعدّة منتهى ينتهي إليه.

_ (1) انظر تيسير الداني 172 (قرأ حفص «بالغ» بغير تنوين و «أمره» بالخفض والباقون بالتنوين ونصب «أمره» ) . (2) انظر معاني الفراء 3/ 163.

[سورة الطلاق (65) : آية 4]

[سورة الطلاق (65) : آية 4] وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) اللَّائِي في موضع رفع بالابتداء فمن جعل إن ارتبتم متعلقا بقوله: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ فخبر الابتداء عنده فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ ومن جعل التقدير على ما روي أن أبيّ بن كعب قال: يا رسول الله الصغار والكبار اللائي يئسن من المحيض وَأُولاتُ الْأَحْمالِ لم يذكر عدتهن في القرآن، فأنزل الله جلّ وعزّ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ الآية قال: خبر الابتداء «إن ارتبتم» وما بعده، ويكون المعنى إن لم تعلموا وارتبتم في عدّتهن فحكمهن هذا. وأما قول عكرمة في معنى «إن ارتبتم» انه إن ارتبتم في الدم فلم تدروا أهو دم حيض أم استحاضة؟ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ يقول: قد رد من غير جهة، وذلك أنه لو كان الارتياب بالدم لقيل: إن ارتبتنّ لأن الارتياب بالدم للنساء، وأيضا فإن اليأس في العربية انقطاع الرجاء، والارتياب وجود الرجاء فمحال أن يجتمعا وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ معطوف على الأول وتم الكلام ثمّ قال: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. قال أبو جعفر: في هذا قولان: أحدهما أنه لكل حامل مطلقة مدخول بها أو متوفى عنها زوجها إذا ولدت فقد حلّت وهذا قول أبيّ بن كعب بن مسعود، والقول الثاني أنّ هذا للمطلقات فقط وأنّ المتوفى عنها زوجها إذا ولدت قبل انقضاء الأربعة الأشهر والعشر لم تحلل حتّى تنقضي أربعة أشهر وعشر، وكذا إن انقضت أربعة أشهر ولم تلد لم تحلل حتّى تلد. وهذا قول علي وابن عباس رضي الله عنهما، والقول الأول أولى بظاهر الكلام: لأنه قال جلّ وعزّ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ على العموم فلا يقع خصوص إلّا بتوقيف من الرسول صلّى الله عليه وسلّم أُولاتُ الْأَحْمالِ رفع بالابتداء أَجَلُهُنَّ مبتدأ ثان أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ خبر الثاني والجملة خبر الأول، ويجوز أن يكون أجلهن بدلا من أولات والخبر «أن يضعن حملهنّ» وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أهل التفسير على أن المعنى من يتّق الله إذا أراد الطلاق فيطلق واحدة كما حدّ له يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً بأن يحلّ له التزوج لا كمن طلق ثلاثا. [سورة الطلاق (65) : آية 5] ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) ذلِكَ أي ذلك المذكور من أمر الطلاق والحيض والعدد أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ لتأتمروا به وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ أي يخفه بأداء فرائضه واجتناب محارمه يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ أي يمح عن ذنوبه وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً أي يجزل له الثواب. قال أبو جعفر ولا نعلم أحدا قرأ إلا هكذا على خلاف قول: عظّم الله أجرك.

[سورة الطلاق (65) : آية 6]

[سورة الطلاق (65) : آية 6] أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) أَسْكِنُوهُنَّ قيل: هذا الضمير يعود على النساء جمع المدخول بهنّ وقيل على المطلقات أقل من ثلاث وإن المطلقات ثلاثا لا سكن لهن ولا نفقة. وبذلك صحّ الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويستدل على ذلك أيضا بقوله وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فخص الحوامل وحدهن، وأيضا فإنهن إذا طلّقن ثلاثا فهن أجنبيّات فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ شرط ومجازاة. وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ قال سفيان: أي ليحثّ بعضكم بعضا وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ قال السّدي: أي إن قالت المطلقة لا أرضعه لم تكره قال تعالى: فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى. [سورة الطلاق (65) : آية 7] لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ جاءت لام الأمر مكسورة على بابها وسكنت في فَلْيُنْفِقْ لاتصالها بالفاء ويجوز كسرها أيضا فأجاز الفراء «1» ومن قدر «2» عليه رزقه فلينفق ممّا آتيه الله أي على قدر ما رزقه الله من التضييق وقد روي عن ابن عباس فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ إن كان له ما يبيعه من متاع البيت باعه وأنفقه. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها قال السدي: لا يكلّف الله الفقير نفقة الغني، وقال ابن زيد: لا يكلّف الفقير أن يزكّي ويصدّق سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أي إمّا في الدنيا وإما في الآخرة ليرغب المؤمنون في فعل الخير. [سورة الطلاق (65) : آية 8] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) أي مخفوض بالكاف، وصارت كأيّ بمعنى كم للتكثير، والمعنى: وكم من أهل قرية عتوا عن أمر ربهم ثمّ أقيم المضاف إليه مقام المضاف. وقال ابن زيد: عتوا هاهنا عصوا كفروا. والعتو في اللغة التجاوز في المخالفة والعصيان. وقد روى عمرو بن أبي سلمة عن عمر بن سليمان في قوله جلّ وعزّ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها الآية قال: هؤلاء قوم عذّبوا في الطلاق فَحاسَبْناها أي بالنعم والشكر. حِساباً مصدر. شَدِيداً من نعته. قال ابن زيد: الحساب الشديد: الذي ليس فيه من العفو شيء وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً أي ليس بمعتاد. قال الفراء «3» : فيه للتقديم والتأخير أي عذّبناها عذابا نكرا في الدنيا وحاسبناها حسابا شديدا في الآخرة.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 164. (2) انظر البحر المحيط 2/ 282 (قرأ الجمهور «قدر» مخفّفا وابن أبي عبلة مشدّد الدال) . (3) انظر معاني الفراء 3/ 164.

[سورة الطلاق (65) : آية 9]

[سورة الطلاق (65) : آية 9] فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها قال السدّي: أي عقوبة أمرها. وأمرها الكفر والعصيان وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً أي غبنا لأنهم باعوا نعيم الآخرة بحظّ خسيس من الدنيا باتباع أهوائهم. [سورة الطلاق (65) : آية 10] أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً وهو عذاب النار. فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ نداء مضاف والَّذِينَ آمَنُوا في موضع نصب على النعت لأولي الألباب. قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً قال السدي: الذكر القرآن والرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم. والتقدير في العربية على هذا ذكرا ذا رسول ثمّ حذف مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ، ويجوز أن يكون رسول بمعنى رسالة مثل أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ [مريم: 19] فيكون رسولا بدلا من ذكر، ويجوز أن يكون التقدير أرسلنا رسولا فدلّ على الضمر ما تقدّم من الكلام، ويجوز في غير القرآن رفع رسول لأن قوله «ذكرا» رأس آية، والاستئناف بعد مثل هذا أحسن، كما قال جلّ وعزّ: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة: 17، 18] وكذا. إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ [التوبة: 11] فلمّا كملت الآية قال جلّ وعزّ: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ [التوبة: 111، 112] ، وكذا ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [البروج: 16] . [سورة الطلاق (65) : آية 11] رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ نعت لرسول. لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من الكفر إلى الإيمان وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ جزم بالشرط وَيَعْمَلْ عطف عليه، ويجوز رفعه على أن يكون في موضع الحال. صالِحاً أي بطاعة الله جلّ وعزّ: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ مجازاة. خالِدِينَ فِيها على الحال أَبَداً ظرف زمان قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً أي وسع عليه في المطعم والمشرب. [سورة الطلاق (65) : آية 12] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ يكون اسم الله تعالى بدلا أو على إضمار مبتدأ والذي نعت، ويجوز أن يكون «الله خلق سبع سموات» مبتدأ وخبره وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ عطف، وحكى أبو حاتم أن عاصما قرأ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ «1» قطعه من الأول ورفع

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 283، ومختصر ابن خالويه 158.

بالابتداء. يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ قيل: الضمير يعود على السموات. والأكثر في كلام العرب أن ما كان بالهاء والنون فهو للعدد القليل، فعلى هذا يكون الضمير يعود على السموات. وعلى قول مجاهد يعود على السّموات والأرض. لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تكون لام كي متعلقة بيتنزّل ويجوز أن تكون متعلقة بخلق أي خلق السموات والأرض لتعلموا كنه قدرته وسلطانه، وإنه لا يتعذّر عليه شيء أراده، ولا يمتنع منه شيء شاءه. وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً أي ولتعلموا مع علمكم بقدرته أنه يعلم جميع ما يفعله خلقه فاحذروا أيّها المخالفون أمره وسطوته لقدرته عليكم وأنه عالم بما تفعلون، وجاز إظهار الاسم ولم يقل: وأنه وقال: وأن الله أفخم، وعلى هذا يتأوّل قول الشاعر: [الخفيف] 495- لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا «1»

_ (1) مرّ الشاهد رقم (70) .

66 شرح إعراب سورة التحريم

66 شرح إعراب سورة التحريم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التحريم (66) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ هذه «ما» دخلت عليها اللام فحذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر وأنها قد اتصلت باللام. والوقوف عليها في غير القرآن: لمه ويؤتى بالهاء لبيان الحركة وفي القرآن لا يوقف عليها. واختلفوا في الذي حرّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم قال: حرّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم إبراهيم، وقال: والله لا أمسّك. قال أبو جعفر: فعلى هذا القول إنما وقعت الكفّارة لليمين لا لقوله: أنت عليّ حرام، وكذا قال مسروق والشّعبي، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: من قال في شيء حلال: هو عليّ حرام فعليه كفّارة يمين، وكذا قال قتادة وقال مسروق: إذا قال لامرأته: أنت عليّ حرام فلا شيء عليه من الكفارة ولا الطلاق لأنه كاذب في هذا، وقيل: عليه كفّارة يمين، وتأول صاحب هذا القول الآية وقيل: هي طالق ثلاثا، إذا كانت مدخولا بها وواحدة إذا لم يدخل بها، وقيل: هي واحدة بائنة وقيل: واحدة غير بائنة. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما كان حرّم على نفسه عسلا. وروى داود بن أبي هند عن الشّعبي عن مسروق عن عائشة قالت: حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والى فعوتب في التحريم وعاتب في الإيلاء. قال أبو جعفر: ولا يعرف في لغة من اللغات أن يقال فيمن جعل الحلال حراما: حالف تَبْتَغِي في موضع نصب على الحال. مَرْضاتَ أَزْواجِكَ هذه تاء التأنيث ولو كانت تاء جمع لكسرت وَاللَّهُ غَفُورٌ أي لخلقه وقد غفر لك رَحِيمٌ لا يعذب من تاب. [سورة التحريم (66) : آية 2] قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أي بيّنها. وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ مبتدأ وخبره أي يتولاكم بنصره وَهُوَ الْعَلِيمُ بمصالح عباده الْحَكِيمُ في تدبيره.

[سورة التحريم (66) : آية 3]

[سورة التحريم (66) : آية 3] وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وحذف المفعول أي نبّأت به صاحبتها، وهما عائشة وحفصة لا اختلاف في ذلك، واختلفوا في الذي أسرّه إليها فقيل: هو الذي خبّرها به من شربه العسل عند بعض أزواجه، وقيل: هو ما كان بينه وبين أم إبراهيم، وقيل: هو إخباره إياها بأن أبا بكر الخليفة بعده وقد ذكرناه بإسناده. فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ وحذف المفعول أيضا عرّفها بعضه فقال: قد عرفت كذا بالوحي وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فلم يذكره تكرّما واستحياء، وقراءة الكسائي عرف بعضه «1» وردّها أبو عبيد ردا شنيعا، قال: لو كان كذا لكان عرف بعضه وأنكر بعضا. قال أبو جعفر: وهذا الردّ لا يلزم، والقراءة معروفة عن جماعة منهم أبو عبد الرحمن السلمي. وقد بيّنّا صحّتها. فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا نبّأ وأنبأ بمعنى واحد فجاء باللغتين جميعا وبعده قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ. [سورة التحريم (66) : آية 3] وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أي مالت إلى محبة ما كرهه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من تحريمه ما أحلّ له. وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ والأصل تتظاهرا أدغمت التاء في الظاء، وقرأ الكوفيون تظاهرا «2» بحذف التاء، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ أي وليه بالنصرة. وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ واختلفوا في صالح المؤمنين فمن أصحّ ما قيل فيه: إنه لكل صالح من المؤمنين، ولا يخصّ به واحد إلّا بتوقيف، وقد روي أنه يراد به عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وهو كان الداخل في هذه القصة المتكلّم فيها، ونزل القرآن ببعض ما قاله في هذه القصة، وقيل: هو أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وقيل: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد ذكرنا ذلك بإسناده. ومذهب الفرّاء القول الذي بدأنا به قبله واحد يدلّ على جميع، وكذا وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ يكون ظهير يؤدّي عن الجمع وقد ذكرنا فيه غير هذا.

_ (1) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 640، وتيسير الداني 172 ( «عرف» قرأ الكسائي بتخفيف الراء والباقون بتشديدها) . (2) انظر تيسير الداني 172. [.....]

[سورة التحريم (66) : آية 5]

[سورة التحريم (66) : آية 5] عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) إِنْ في موضع نصب بعسى، والشرط معترض، وقراءة الكوفيين أن يبدله «1» أزواجا خيرا منكنّ وقيل: خيرا منكن إنهن لو دمن على الذي كان حتّى يحوجنه إلى طلاقهنّ لأبدل خيرا منهن. مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ كله نعت لأزواج. والواحدة زوج ولغة شاذة زوجة. وَأَبْكاراً عطف داخل في النعت أيضا. [سورة التحريم (66) : آية 6] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً الفعل من هذا وقى يقي عند جميع النحويين والأصل عندهم وقى يوقي ثم اختلفوا في العلّة لحذف الواو، فقال البصريون: حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، وهي ساكنة ولم تحذف في يؤجل، لأن بعدها فتحة والفتحة لا تستثقل، وقال الكوفيون: حذفت الواو للفعل المتعدي وأثبت في اللازم فرقا فقالوا في المتعدّي وعد يعد وفي اللازم وجل يوجل، وعارضوا البصريين بقول العرب وسع يسع فحذفت الواو بعدها فتحة وكذا ولغ يلغ والاحتجاج للبصريين أن الأصل وسع يوسع وحذفت الواو لما تقدّم وفتحت السين لأن فيه حرفا من حروف الحلق، وقال الكوفيون: حذفت الواو لأنه فعل متعدّ، وردّ عليهم البصريون بقول العرب: ورم يرم فهذا لازم قد حذفت منه الواو وكذا يثق فقد انكسر قولهم إنه إنما يحذف من المتعدي. قال أبو جعفر: وهذا ردّ بيّن ولو جاء «قوا» على الأصل لكان ايقيوا. أَنْفُسَكُمْ منصوب بقوا، كما يقال: أكرم نفسك ولا يجوز أكرمك فقول سيبويه: لأنهم استغنوا عنه بقولهم: أكرم نفسك، وقال محمد بن يزيد: لم يجز هذا لأنه لا يكون الشيء فاعلا مفعولا في حال. فأما الكوفيون فخلطوا في هذه فمرة يقولون: لا يجوز كما يقول البصريون، ومرة يحكون عن العرب إجازته حكوا عدمتني، ولا يجيز البصريون من هذا شيئا. وَأَهْلِيكُمْ في موضع نصب معطوف على أنفسكم. ومن مسائل الفرّاء في «وأهليكم» «2» لم صار مسكنا وهو في موضع النصب؟ فالجواب إن الياء علامة النصب كقولك: رأيت الزيدين وحذفت النون للإضافة وحكى الفرّاء «3» أن من العرب من يقول: أهله في المؤنث «نارا» مفعول ثان وَقُودُهَا النَّاسُ مبتدأ وخبره في موضع نصب نعت للنار وَالْحِجارَةُ عطف على الناس عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ أي غلاظ على العصاة أشدّاء عليهم، وقيل: «شداد» أقوياء لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ مفعولان على حذف الحرف أي فيما أمرهم وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ وحذف المضمر الذي يعود على «ما» وإن جعلتها مصدرا لم تحتج إلى عائد.

_ (1) انظر تيسير الداني ص 118. (2) انظر البحر المحيط 8/ 287. (3) انظر المذكّر والمؤنث للفراء 108.

[سورة التحريم (66) : آية 7]

[سورة التحريم (66) : آية 7] يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ حذفت النون للجزم بالنهي. إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في «إنما» معنى التحقيق والإيجاب. [سورة التحريم (66) : آية 8] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) تَوْبَةً مصدر. نَصُوحاً من نعته أي تنصحون لأنفسكم فيها عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وأجاز الفرّاء «1» وَيُدْخِلَكُمْ على الموضع بالجزم لأن عسى في موضع جزم في المعنى لأنها جواب الأمر، وقدّره بمعنى فعسى وعطف «ويدخلكم» على موضع الفاء. قال أبو جعفر: وهذا تعسّف شديد يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ «الذين» في موضع نصب على العطف، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قيل: هذا التمام، والمعنى وَبِأَيْمانِهِمْ يعطون كتبهم، وقد روي معنى هذا عن ابن عباس يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا ظهر التضعيف لمّا سكن الثاني وَاغْفِرْ لَنا ولا يجوز إدغام الراء في اللام لما فيها من التكرير. إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ خبر «إن» و «كلّ» مخفوض حقّه أن يكون في أخر الكلام لأنه تبيين. [سورة التحريم (66) : آية 9] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) قيل: مجاهدة المنافقين باللسان والانقباض وأنّه كذا يجب أن يستعمل مع أهل المعاصي إذا لم يوصل إلى منعهم منها لأن الانبساط إليهم يجرّئهم على إظهارها فأمر الله جلّ وعزّ بمجاهدتهم بهذا وأصل المجاهدة في اللغة بلوغ الجهد في رضوان الله جلّ وعزّ. وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي هي منزلهم ومسكنهم. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي بئس الذي يصلون إليه النار. [سورة التحريم (66) : آية 10] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ مفعولان.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 168.

[سورة التحريم (66) : آية 11]

كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فكانت الفائدة في هذا أنه لا ينفع أحدا إيمان أحد ولا طاعة أحد بنسب ولا غيره إذا كان عاصيا الله جلّ وعزّ كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمته صفية: «إني لا أغني عنكم من الله شيئا» «1» وكذا قال لفاطمة رضي الله عنها وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ولم يقل: مع الداخلات لأن المعنى مع القوم الداخلين. [سورة التحريم (66) : آية 11] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) فلم يضرها كفر فرعون شيئا، والأصل «ربّي» حذفت الياء لأن النداء موضع حذف وإثباتها وفتحها جائز. [سورة التحريم (66) : آية 12] وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ عطف أي وضرب الله للذين آمنوا مثلا مريم ابْنَتَ من نعتها، وإن شئت على البدل. يقال: ابنة وبنت. الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا الهاء تعود على الفرج. قال أبو جعفر: قد ذكرنا في معناه قولين: أحدهما أنه جيبها، والآخر أنه الفرج بعينه. والحجّة لمن قال: إنه الفرج بعينه «استعمال العرب» أحصنت فرجها على هذا النعت. والحجّة لمن قال: هو جيبها أن معنى «أحصنت فرجها» منعت جيبها حتّى قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا [مريم: 81] ، ومِنْ رُوحِنا فيه قولان: أحدهما من الروح الذي لنا والذي نملكه، كما يقال: بيت الله، والآخر من روحنا من جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم. قال جلّ ثناؤه نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 193] . وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ «2» من وحّده قال: لأنه مصدر، ومن جمعه جعله على اختلاف الأجناس وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ أي من القوم القانتين، أقيمت الصفة مقام الموصوف.

_ (1) أخرجه الدارمي في سننه 2/ 305. (2) انظر تيسير الداني 172.

67 شرح إعراب سورة الملك

67 شرح إعراب سورة الملك بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الملك (67) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) أي يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء ودلّ على هذا الحذف وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. [سورة الملك (67) : آية 2] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ في موضع رفع على البدل من الذي الأول أو على إضمار مبتدأ، ويجوز النصب بمعنى أعني. لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي مرفوع بالابتداء، وهو اسم تام وأَحْسَنُ خبره، والتقدير: ليبلوكم فينظر أيكم أحسن عملا. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ مبتدأ وخبره. [سورة الملك (67) : آية 3] الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ فيه مثل الذي في الأول، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر وأن يكون نعتا للعزيز. طِباقاً نعت لسبع، ويكون جمع طبقة مثل رحبة ورحاب أو جمع طبق مثل جمل وجمال، ويجوز أن يكون مصدرا مّا ترى في خلق الرّحمن من تفوت قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم، وقراءة يحيى والأعمش وحمزة والكسائي من تفوت «1» وهو اختيار أبي عبيد. ومن أحسن ما قيل فيه قول الفرّاء «2» : إنهما لغتان بمعنى واحد، ولو جاز أن يقال في هذا اختيار لكان الأول أولى لأنه المشهور في الله أن يقال: تفاوت الأمر مثل تباين أي خالف بعضه بعضا فخلق الله جلّ وعزّ غير متباين ولا متفاوت لأنه كلّه دالّ على حكمة لا على عبث وعلى بارئ له فَارْجِعِ الْبَصَرَ

_ (1) انظر تيسير الداني 172، والبحر المحيط 8/ 292. (2) انظر معاني الفراء 3/ 170.

[سورة الملك (67) : آية 4]

وليس قبله فانظر ولكنّ قبله ما يدلّ عليه وهو ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ في موضع نصب. [سورة الملك (67) : آية 4] ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ بمعنى المصدر أو الظرف ينقلب «1» إليك البصر جواب الأمر. خاسِئاً نصب على الحال. وَهُوَ حَسِيرٌ مبتدأ وخبره في موضع نصب على الحال. [سورة الملك (67) : آية 5] وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ على لغة من قال مصباح وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ يكون «رجوما» مصدر يرجم، ويجوز أن يكون جمع راجم على قول من قال: النجوم هي التي يرجم بها، والقول الآخر على قول من قال: إنّ النجوم لا تزول من مكانها وإنما يرجم بالشهب وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ أي مع ذلك. [سورة الملك (67) : آية 6] وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ رفع بالابتداء، وحكى هارون عن أسيد أنه قرأ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ «2» عطفه على الأول. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ربع ببئس. [سورة الملك (67) : الآيات 7 الى 8] إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً أي صوتا مثل الشهيق تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ الأصل تتميز. قال الفرّاء «3» : أي تقطّع. كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ نصب على الظرف بمعنى إذا سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ أي قالوا لهم. [سورة الملك (67) : آية 9] قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) نَذِيرٌ بمعنى منذر. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ «إن» بمعنى ما.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 293 (قرأ الجمهور «ينقلب» جزما على جواب الأمر، والخوارزمي عن الكسائي برفع الباء أي فينقلب على حذف الفاء أو على أنه موضع حال مقدّرة) . (2) انظر البحر المحيط 8/ 294. (3) انظر معاني الفراء 3/ 170.

[سورة الملك (67) : آية 10]

[سورة الملك (67) : آية 10] وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فيه قولان: أحدهما لو كان نقبل كما يقال: سمع الله لمن حمده أي قيل «أو نعقل» أي نفكر ونتبين، والقول الآخر أنهم إذا سمعوا لم ينتفعوا بما سمعوا فهم بمنزلة الصم. [سورة الملك (67) : آية 11] فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ ولم يقل: بذنوبهم لأنه مصدر يؤدّي عن الجنس فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ «1» . [سورة الملك (67) : آية 12] إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) من أحسن ما قيل فيه أن المعنى إن الذين يخشون ربهم إذا غابوا عن أعين الناس لأنه الوقت الذي تكثر فيه المعاصي فإذا خشوا ربهم جلّ وعزّ عند غيبة الناس عنهم فاجتنبوا المعاصي كانوا بحضرة الناس أكثر اجتنابا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ خبر «إنّ» . [سورة الملك (67) : آية 13] وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ كسرت الواو لالتقاء الساكنين واختير لها الكسر لأنها أصلية. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بحقيقتها. [سورة الملك (67) : آية 14] أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ قال أبو جعفر: ربما توهّم الضعيف في العربية أنّ «من» في موضع نصب ولو كان موضعها نصبا لكان: ألا يعلم ما خلق: لأنه راجع إلى بِذاتِ الصُّدُورِ وإنما التقدير ألا يعلم من خلقها سرّها وعلانيتها وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ مبتدأ وخبره. [سورة الملك (67) : الآيات 15 الى 16] هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) وكذلك هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا أي سهلة تمشون عليها. يقال: ذلول بيّنة الذلّ، وذليل بيّن الذّل فَامْشُوا فِي مَناكِبِها جمع منكب وهو الناحية وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ حذف منه، ولو كان على قياس نظائره لقيل: أوكلوا كما تقول: أوجروا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ رفع بالابتداء. أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ «2» وحكى الفراء أن لغة بني تميم أن يزيد وألفا بين الألفين. قال أبو جعفر: يعني يزيدون ألفا لئلا يجمعوا بين همزتين فيقولون: أاأمنتم من في السماء. أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ في موضع نصب على أنها مفعولة. فَإِذا هِيَ تَمُورُ في موضع رفع، ويجوز النصب أي فإذا هي مائرة.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 294، وتيسير الداني 172 (قرأ الكسائي بضمّ الحاء والباقون بإسكانها) . (2) انظر معاني الفراء 3/ 171، وتيسير الداني 172.

[سورة الملك (67) : الآيات 17 إلى 18]

[سورة الملك (67) : الآيات 17 الى 18] أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) وهو التراب والحصى، ويكون السحاب الذي فيه البرد والصواعق فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ في موضع رفع لأن الاستفهام لا يعمل فيما قبله وحذفت الياء لأنه رأس آية، وكذا وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) . [سورة الملك (67) : آية 19] أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ نصب على الحال. وَيَقْبِضْنَ عطف عليه، ويجوز أن ينون مقطوعا منه ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ لأنه جلّ وعزّ خلق الجو فاستمسكن فيه إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ خبر «إنّ» . [سورة الملك (67) : آية 20] أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أي يدفع عنكم إن أراد بكم سوءا. إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أي ما الكافرون في ظنهم أي عبادتهم غير الله جلّ وعزّ ينفعهم إلا في غرور. [سورة الملك (67) : آية 21] أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ وحذف جواب الشرط لأن الأول يدلّ عليه أي إن أمسك رزقه فهل يرزقكم من تعبدون من دونه بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ والأصل لججوا ثم أدغم. [سورة الملك (67) : آية 22] أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) من في موضع رفع بالابتداء أهدى خبره أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ عطف عليه. [سورة الملك (67) : آية 23] قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مبتدأ وخبره وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ولم يقل: الأسماع لأن السمع في الأصل مصدر. [سورة الملك (67) : آية 24] قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ مثل الأول. [سورة الملك (67) : آية 25] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) مَتى في موضع رفع لأنها خبر الابتداء هذَا على قول سيبويه وعلى قول

[سورة الملك (67) : آية 26]

غيره في موضع نصب لأنه لا يرفع هذا بالابتداء. وأبو العباس يرفعه بمعنى متى يستقرّ هذا الوعد. [سورة الملك (67) : آية 26] قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ رفعت العلم بالابتداء، ولا يجوز النصب عند سيبويه على أن يجعل «ما» زائدة، وكذا وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. [سورة الملك (67) : آية 27] فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً يجوز أن تكون الهاء تعود على الوعد سِيئَتْ «1» وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أصحّ ما قيل فيه أنه تفتعلون من الدعاء ثم أدغم، قال أبو عبيد: تدّعون مشتق من يدعون. [سورة الملك (67) : آية 28] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) أَرَأَيْتُمْ وإن خفّفت همزة أرأيتم جئت بها بين بين والياء ساكنة بحالها فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ «من» في موضع رفع بالابتداء، وهو اسم تام. [سورة الملك (67) : آية 29] قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا أي خالقكم ورازقكم والفاعل لهذه الأشياء الرحمن فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «2» «من» في موضع رفع بالابتداء والجملة خبره لأنها استفهام، ولا يعمل في الاستفهام ما قبله، ويجوز أن يكون في موضع نصب ويكون بمعنى الذي. [سورة الملك (67) : آية 30] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً قال الفراء «3» لا يثنّى غور ولا يجمع لأنه مصدر مثل: رضى وعدل فيقال: ماءان غور. قال أبو جعفر: بابه ألا يثنّى ولا يجمع فإن أردت اختلاف الأجناس ثنّيت وجمعت والتقدير: إن أصبح ماؤكم ذا غور مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ، وقيل غور بمعنى غائر. فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ يكون فعيلا من معن الماء إذا كثر، ويجوز أن يكون مفعولا ويكون الأصل فيه معيونا مثل مبيع ويكون معناه على هذا الماء يرى بالأعين.

_ (1) انظر تيسير الداني 102. [.....] (2) انظر تيسير الداني 173 (قرأ الكسائي «فسيعلمون من هو» بالياء والباقون بالتاء) . (3) انظر معاني الفراء 3/ 712.

68 شرح إعراب سورة ن (القلم)

الجزء الخامس 68 شرح إعراب سورة ن (القلم) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) ن في هذه الكلمة نيف وثلاثون جوابا منها ستة معان وستّ قراءات في إحداهنّ ستة أجوبة. روى الحكم بن ظهير عن أبيه عن أبي هريرة قال: الأرضون على نون ونون على الماء والماء على الصخرة والصخرة لها أربعة أركان على كلّ ركن منها ملك قائم في الماء. وروى يزيد عن عكرمة عن ابن عباس قال: المر وحم ون حروف الرحمن مقطّعة. وفي حديث معاوية بن قرّة عن أبيه مرفوعا قال: ن لوح من نور. وقال قتادة: نون الدواة. قال أبو جعفر: فهذه أربعة أقوال، وقيل: التقدير وربّ نون، وقيل: هو تنبيه كما تقدّم في «ألم» . وأما القراءات فهي ستّ كما ذكرنا. قرأ أكثر الناس ن وَالْقَلَمِ «1» ببيان نون، وقرئ بإخفائها، وقرئ بإدغامها بغنّة وبغير غنّة، وروي عن عيسى بن عمر أنه قرأ «ن والقلم» وقرأ ابن إسحاق «نون والقلم» بالخفض. فهذه ستّ قراءات، في المنصوبة منها ستة أجوبة: منها أن تكون منصوبة بوقوع الفعل عليها أي أذكر نون. ولم تنصرف لأنها اسم للسورة، وجواب ثان أن تكون لم تنصرف لأنها اسم أعجميّ هذان جوابان عن الأخفش سعيد، وقول سيبويه «2» إنها شبّهت بأين وكيف وقول الفراء «3» إنها شبهت بثمّ، وقيل: شبّهت بنون الجميع، وقال أبو حاتم: حذفت منها واو القسم فانتصبت بإضمار فعل، كما تقول: الله لقد كان كذا. قال أبو جعفر: فهذه ثمانية عشر جوابا. وفي إسكانها قولان فمذهب سيبويه «4» أن حروف المعجم إنما سكّنت لأنها بعض حروف الأسماء فلم يجز إعرابها كما لا يعرب وسط الاسم، وردّ عليه هذا القول بعض الكوفيين فقال: إذا قلت زاي فقد زدت على الحرف ألفا

_ (1) انظر تيسير الداني ص 148. (2) انظر الكتاب 3/ 286. (3) انظر معاني الفراء 1/ 368. (4) انظر الكتاب 3/ 294.

[سورة القلم (68) : آية 3]

وياء، وقال أصحّ من هذا قول الفراء «1» قال: لم تعرب حروف المعجم لأنك إنما أردت تعليم الهجاء. قال أبو جعفر: وهذا قول صحيح لأنك إذا أردت تعليم الهجاء لم يجز أن تزيد الإعراب فيزول ذلك عن معنى الهجاء إلا أن تنعت أو تعطف فتعرب. ومن بيّن النون قال: سبيل حروف الهجاء أن يوقف عليها، وأيضا فإن النون بعيدة المخرج من الواو فأشبهت حروف الحلق، ولهذا لم يقرأ أحد بتبيين النون في «كهيعص» لقرب الصاد من النون فأدغمها الكسائي لأنه بنى الكلام على الوصل، ومن أدغم بغنّة أراد ألا يزيل رسم النون، ومن حذف الغنة قال المدغم قد صار حكمه حكم ما أدغم فيه، ومن قرأ «نون والقلم» كسر لالتقاء الساكنين. قال أبو حاتم: أضمر واو القسم. وإن جمعت نون قلت: نونات على أنه حرف هجاء، فإن جمعته على أنه اسم للحوت قلت في الجمع الكثير: نينان، وفي القليل: أنوان، ويجوز نونة مثل كوز وكوزة وَالْقَلَمِ خفض بواو القسم، وهو القلم الذي يكتب به غير أن التوقيف جاء أنه القلم الذي كتب به في اللّوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة روى ذلك القاسم بن أبي بزّة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ومعاوية بن قرّة عن أبيه يرفعه وَما يَسْطُرُونَ واو عطف لا واو قسم، وما والفعل مصدر، ويجوز أن يكون بمعنى الذي، وجواب القسم ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ أي ما أنت بما أنعم الله عليك من العقل والفهم إذا كان أعقل أهل زمانه بِمَجْنُونٍ، وهو المستور العقل. ومن هذا جنّ عليه الليل وأجنّه، ومنه قيل: جنين وللقبر جنن وللترس مجنّ. قال عمر بن أبي ربيعة: [الطويل] 496- وكان مجنّي دون من كنت أتّقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر «2» وقيل: جنّ لأنهم مستترون عن أعين الناس مسموع من العرب على غير قياس: أجنّ فهو مجنون، والقياس مجنّ. قال أبو جعفر: وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد أنه كان يذهب إلى القياس في هذا كأنه يقال: مجنون من جنّ. [سورة القلم (68) : آية 3] وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً أي على أداء الرسالة غَيْرَ مَمْنُونٍ قيل: لا يمنّ به عليك وقيل: غير مقطوع.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 368. (2) الشعر لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص 100، والكتاب 4/ 45، والأشباه والنظائر 5/ 48، والأغاني 1/ 90، وأمالي الزجاجي 118، والإنصاف 2/ 770، وخزانة الأدب 5/ 320، والخصائص 2/ 417، وشرح التصريح 2/ 271، وشرح شواهد الإيضاح 313 ولسان العرب (شخص) ، والمقاصد النحوية 4/ 483، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 104، وشرح الأشموني 3/ 620، وشرح التصريح 2/ 275، وشرح عمدة الحافظ 519، وعيون الأخبار 2/ 174، والمقتضب 2/ 148، والمقرّب 1/ 307.

[سورة القلم (68) : آية 4]

[سورة القلم (68) : آية 4] وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس. قال: على دين. قال أبو جعفر: فيكون هذا مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» «1» أي أحسنهم دينا وطريقة ومذهبا وطاعة. وسئلت عائشة رضي الله عنها ما الخلق العظيم الذي كان عليه؟ قالت: القرآن، وقيل: هو ما كان فيه من البشاشة والسعي في قضاء حاجات الناس وإكرامهم والرفق بهم. [سورة القلم (68) : الآيات 5 الى 6] فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ أي يوم القيامة. قال محمد بن يزيد: سألت أبا عثمان المازني عن هذا فقال: هذا التمام. وقال الأخفش: المعنى: فستبصر ويبصرون بأيكم الفتنة. وقال محمد بن يزيد: التقدير: بأيّكم فتنة المفتون. وقال الفراء «2» : الباء بمعنى «في» . قال أبو جعفر: فهذه أقوال النحويين مجموعة. ونذكر أقوال أهل التأويل. روى سفيان عن خصيف عن مجاهد بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ قال: بأيّكم المجنون. وقال الحسن والضحاك: بأيّكم الجنون، وقول قتادة: أيّكم أولى بالشيطان. فهذه ثلاثة أقوال لأهل التأويل. فقول مجاهد تكون الباء فيه بمعنى «في» كما يقال: فلان بمكة وفي مكة والمعنى عليه فستعلم وسيعلمون في أي الفريقين المجنون الذي لا يتّبع الحقّ أفي فريقك أم في فريقهم. وعلى قول «3» الحسن والضحاك فستعلم وسيعلمون بأيكم الفتنة. والمفتون بمعنى الفتنة والفتون، كما يقال: ليس له معقول ولا معقود رأي. قال أبو جعفر: وهذا من أحسن ما قيل فيه، وقول قتادة أن الباء زائدة. [سورة القلم (68) : آية 7] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) أي هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله من كفار قريش. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ بك وبمن اتّبعك. [سورة القلم (68) : الآيات 8 الى 9] فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) معطوف، وليس بجواب ولو كان جوابا حذفت منه النون. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ قال يقول: لو ترخّص لهم فيرخّصون. والمعنى

_ (1) أخرجه أبو داود في سننه رقم (4682) ، وأحمد في مسنده 2/ 250، وذكره الحاكم في المستدرك 1/ 3، والهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 303، وابن حجر في المطالب العالية (2541) ، وأبو نعيم في الحلية 9/ 248، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3264) . (2) انظر معاني الفراء 3/ 173. (3) انظر البحر المحيط 8/ 303.

[سورة القلم (68) : آية 10]

على هذا: ودّوا لو تلين لهم فلا تنكر عليهم الكفر والمعاصي فيلينون لك وينافقونك ويجترءون على المعاصي، وفي اللين في مثل هذا فساد الدين، وهو مأخوذ من الدّهن شبّه التليّن به. [سورة القلم (68) : آية 10] وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) أي كل معروف بالحلف على الكذب فإذا كان كذلك كان مهينا عند الله جلّ وعزّ وعند المؤمنين. قال مجاهد: مَهِينٍ ضعيف. قال أبو جعفر: يكون مهين فعيل على بابه من هذا القول فيجوز أن يكون بمعنى مهان. [سورة القلم (68) : آية 11] هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) هَمَّازٍ من همزه إذا عابه وأصل الهمز الغمز. مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ «مشّاء» ممدود، لأنها ألف بعدها همزة فالألف خفيّة والهمزة لبعد مخرجها تخفى فقوّيت بالمدة وكذا الواو إذا كان ما قبلها مضموما مثل السّوأى، وكذلك الياء إذا كان ما قبلها مكسورا نحو: سيء بهم. هذا في المتصل، فللنحويين فيه ثلاثة أقوال: منهم من قال: لا مدّ فيه إذا كان منفصلا، ومنهم من قال: هو ممدود بمنزلة المتصل، وإلى هذا كان يذهب أبو إسحاق، ومنهم من قال: المدّ في المنفصل أولى منه في المتصل ليبيّن بالمد انفصال الحرف من الآخر نحو قوله جلّ وعزّ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [البقرة: 4] وكذا فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ [يوسف: 96] وفي الواو والياء قُوا أَنْفُسَكُمْ [التحريم: 6] وَفِي أَنْفُسِكُمْ [الذاريات: 21] والقراء من أحوج الناس إلى معرفة هذا. وربما وقع الغلط فيه فكان ذلك لحنا فمن قرأ دائِرَةُ السَّوْءِ [التوبة: 98] لم يجز له أن يمدّ هذا لأن الواو ما قبلها مفتوح، ومن قرأ «دائرة السّوء» مدّ لأن الواو ما قبلها مضموم، وإنما وجب هذا في الواو إذا انضمّ ما قبلها والياء إذا انكسر ما قبلها لأنهما أشبهتا الألف فصارتا حرفي مدّ ولين كالألف فوجب فيهما المد كما كان في الألف ولما انضمّ ما قبل الواو وانكسر ما قبل الياء فصارت الحركة التي قبلهما منهما ضعفتا فقوّيتا بالمدّة ومن قرأ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا [البقرة: 103] لم يجز له أن يمدّ هذا لانفتاح ما قبل الواو، ويقال: إنّ أكثر من يغلط في هذا من القرّاء الذين يقرءون بقراءة حمزة. قال أبو جعفر: من قال: نميم قال: قد نمّ ثلاثة أنمة، ومن قال: نميمة قال: نمائم. [سورة القلم (68) : آية 12] مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) مَنَّاعٍ نعت وكذا مُعْتَدٍ ولو كانا منصوبين لجاز على النعت لكلّ أي معتد على الناس في معاملاتهم. أَثِيمٍ مخالف لربّه في أمره ونهيه، كما قال قتادة: أثيم بربه.

[سورة القلم (68) : آية 13]

[سورة القلم (68) : آية 13] عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) عُتُلٍّ قال أهل التأويل منهم أبو رزين والشعبي: العتلّ الشديد، وقال الفراء: أي شديد الخصومة بالباطل، وقال غيره: هو شديد الكفر الجافي وجمعه عتالّ. بَعْدَ ذلِكَ قيل: أي مع ذلك. زَنِيمٍ نعت أيضا. [سورة القلم (68) : آية 14] أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) أَنْ في موضع نصب أي بأن كان، وقرأ الحسن وأبو جعفر وحمزة «أأن كان ذا مال وبنين» «1» قال أبو جعفر: هذا على التوبيخ أي الآن كان ذا مال وبنين يكفر أو تطيعه. [سورة القلم (68) : آية 15] إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) استهزاء وإنكارا. [سورة القلم (68) : آية 16] سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) قال أبو جعفر: قد ذكرنا فيه أقوالا منها ما رواه معمر عن قتادة قال: على أنفه ومما يذكره أن سعيدا روى عن قتادة سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) قال شين لا يفارقه، وهذا من أحسن ما قيل فيه أي سنبيّن أمره ونشهره حتى يتبيّن ذلك ويكون بمنزلة الموسوم على أنفه على أنه قد روي عن ابن عباس سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ قال: قاتل يوم بدر فضرب بسيف ضربة فكانت سمة له. [سورة القلم (68) : آية 17] إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) إِنَّا بَلَوْناهُمْ أي تعبّدناهم بالشكر على النّعم وإعطاء الفقراء حقوقهم التي أوجبناها في أموالهم. كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ. قال ابن عباس: هم أهل كتاب إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها أي ليجذنّها. والجذاذ القطع ومنه صرم فلان فينا وسيف صارم. مُصْبِحِينَ نصب على الحال. وأصبح دخل في الإصباح. [سورة القلم (68) : آية 18] وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) ولا يقولون: إن شاء الله فذمّوا بهذا لأن الإنسان إذا قال: لأفعلنّ كذا لم يأمن أن يصرم عن ذلك فيكون كاذبا فعليه أن يقول إن شاء الله. [سورة القلم (68) : آية 19] فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) قيل: أرسلت عليها نار فأحرقت حروثهم. وَهُمْ نائِمُونَ في موضع الحال.

_ (1) انظر تيسير الداني 173 (وهذه قراءة أبي بكر أيضا، وقراءة ابن عامر بهمزة ومدّة، وابن زكوان في المدّ، والباقون بهمزة واحدة مفتوحة على الخبر) .

[سورة القلم (68) : آية 20]

[سورة القلم (68) : آية 20] فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) أي كالشيء المصروم المقطوع. وصريم بمعنى مصروم مثل قتيل بمعنى مقتول. [سورة القلم (68) : آية 21] فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) نصب على الحال. [سورة القلم (68) : آية 22] أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) أَنِ في موضع نصب أي بأن، ويجوز أن يكون لا موضع لها تفسيرا إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ كنتم في موضع جزم بالشرط استغني عن الجواب بما تقدّم لأنه فعل ماض. [سورة القلم (68) : آية 23] فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) في موضع الحال. [سورة القلم (68) : آية 24] أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) الجواب في أَنْ كما تقدّم وفي قراءة عبد الله بغير «أن» لأن معنى يَتَخافَتُونَ يقولون سرا. [سورة القلم (68) : آية 25] وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) أصحّ ما قيل في معناه على قصد، كما قال مجاهد: قد أسّسوا ذلك بينهم أي عملوه على قصد وتأسيس ومؤامرة بينهم قادرين عليه عند أنفسهم. [سورة القلم (68) : آية 26] فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) أي قد ضللنا الطريق، وليست هذه جنّتنا لمّا رأوها محترقة. [سورة القلم (68) : آية 27] بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قيل: فقال من يعرفها ويعلم أنهم لم يضلّوا الطريق، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) أي حرمنا ثمارها لما فعلنا. [سورة القلم (68) : آية 28] قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أعدلهم أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ أي هلّا. [سورة القلم (68) : آية 29] قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29)

[سورة القلم (68) : آية 30]

قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا نصب على المصدر إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي جعلنا الشيء في غير موضعه بمنعنا ما يجب علينا، وكذا الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه. [سورة القلم (68) : آية 30] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) في موضع نصب على الحال. [سورة القلم (68) : آية 31] قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) قالُوا يا وَيْلَنا نداء مضاف والفائدة فيه أنّ معناه هذا وقت حضور الويل. إِنَّا كُنَّا طاغِينَ أي في مخالفتنا أمر ربّنا وتجاوزنا إياه. [سورة القلم (68) : آية 32] عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) وحكى سيبويه «1» ، أنّ من العرب من يحذف «أن» مع عسى تشبيها بلعل إِلى رَبِّنا راغِبُونَ أي في أن يبدلنا خيرا منها. [سورة القلم (68) : آية 33] كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) كَذلِكَ الْعَذابُ مبتدأ وخبره، وكذا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ وسمّيت آخرة لأنها آخرة بعد أولى وقيل: لتأخرها على الناس لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «لو» لا يليها إلّا الفعل لشبهها بحروف الشرط. [سورة القلم (68) : آية 34] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) جَنَّاتِ نصب بإن وعلامة النصب كسرة التاء إلّا أنّ الأخفش كان يقول: هي مبنية غير معربة في موضع النصب. [سورة القلم (68) : آية 35] أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) كَالْمُجْرِمِينَ الكاف في موضع نصب مفعول ثان. [سورة القلم (68) : آية 36] ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) ما في موضع رفع بالابتداء، وهي اسم تام ولَكُمْ الخبر وكَيْفَ في موضع نصب بتحكمون. [سورة القلم (68) : آية 37] أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)

_ (1) انظر الكتاب 1/ 92.

[سورة القلم (68) : الآيات 38 إلى 39]

أي هل لكم كتاب جاءكم من عند الله تدرسون فيه. [سورة القلم (68) : الآيات 38 الى 39] إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أي لأنفسكم علينا. وكسرت «إن» لمجيء اللام بعدها، وكذا أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي أم لكم أيمان حلفنا لكم بها منتهية إلى يوم القيامة إنّ لكم حكمكم. وفي قراءة الحسن «بالغة» «1» بالنصب. قال الفراء «2» : على المصدر أي حقا، وقال غيره: على الحال من المضمر الذي في علينا. [سورة القلم (68) : آية 40] سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) زَعِيمٌ أي ضمين. [سورة القلم (68) : آية 41] أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) أي شركاء يعينونهم ويشهدون لهم. [سورة القلم (68) : آية 42] يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ هذه القراءة التي عليها جماعة الحجة وما يروى من غيرها يقع فيه الاضطراب، وكذا أكثر القراءات الخارجة عن الجماعة، وإن وقعت في الأسانيد الصحاح إلا أنها من جهة الآحاد. فمن ذلك ما قرئ على إبراهيم بن موسى عن محمد بن الجهم قال: حدّثنا الفراء قال: حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قرأ «يوم تكشف عن ساق» «3» يريد القيامة والساعة لشدّتها. قال أبو جعفر: وهذا إسناد مستقيم ثم وقع فيه ما ذكرناه، كما قرئ على أحمد بن محمد بن الحجاج عن أبي عبد الله المخزومي وجماعة من أصحاب سفيان قالوا: حدّثنا سفيان عن عمرو عن ابن عباس أنه قرأ «يوم نكشف عن ساق» بالنون. وروى سفيان الثوري عن سلمة كهيل عن أبي صادق عن ابن مسعود أنه قرأ: «يوم نكشف عن ساق» بالنون. وروى سفيان الثوري عن سلمة أيضا عن أبي الزعراء عن ابن مسعود أنه قرأ «يوم يكشف عن ساق» بفتح الياء وكسر الشين. والذي عليه أهل التفسير أن المعنى يوم يكشف عن شدّة. وذلك معروف في كلام العرب، ويجوز أن يكون المعنى يوم يكشف الناس عن

_ (1) وهذه قراءة زيد بن علي أيضا، انظر البحر المحيط 8/ 308. [.....] (2) انظر معاني الفراء 3/ 176. (3) انظر البحر المحيط 8/ 309 (قرأ الجمهور «يكشف» بالياء مبنيا للمفعول، وقرأ عبد الله بن أبي عبلة بفتح الياء مبنيا للفاعل، وابن عباس وابن مسعود وابن هرمز بالنون، وابن عباس «يكشف» بفتح الياء مبنيا للفاعل وعنه أيضا بالياء مضمومة) .

[سورة القلم (68) : آية 43]

سوقهم لشدّة ما هم فيه، ذلك مستعمل في كلام العرب، وساق مؤنّثة تصغّر بالهاء. وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ قيل: إنما يدعون إلى السجود ليوبّخوا بذلك فيقال لهم: قد دعيتم إلى السجود الذي ينفعكم في الدنيا فأبيتم فهلمّ فاسجدوا الساعة لأنها ليست دار محنة ولا ينفع فيها السجود فيكون المعنى على هذا وهم لا يستطيعون أن يسجدوا سجودا ينتفعون به، وقيل: بل تجفّ أصلابهم عقوبة فلا يستطيعون السجود. [سورة القلم (68) : آية 43] خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) خاشِعَةً نصب على الحال. أَبْصارُهُمْ رفع بالخشوع، ويجوز رفعهما جميعا على المبتدأ وخبره. تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ في موضع نصب أيضا على الحال، ويجوز قطعه من الأول. وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ أي في الدنيا. [سورة القلم (68) : آية 44] فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) مَنْ في موضع نصب عطف، وإن شئت كان مفعولا معه الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ في معناه قولان: أحدهما سنمتّعهم ونوسع عليهم في الدنيا حتى يتوهموا أن لهم خيرا ويغتروا بما هم فيه من النعمة والسّرور فنأخذهم بغتة كما روى أبو موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله عزّ وجلّ ليمهل الظّالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ «1» وقيل: سنستدرجهم من قبورهم إلى النار. [سورة القلم (68) : آية 45] وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) وَأُمْلِي لَهُمْ بإسكان الياء والأصل ضمها لأنه فعل مستقبل فحذفت الضمة لثقلها. إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي قوي شديد. [سورة القلم (68) : آية 46] أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) وقراءة نافع بضم الميم الأولى وإسكان الثّانية. قال أبو جعفر: جاء بالأولى على الأصل فاختار هذا لأنها إذا لقيت ألف وصل ضمّت لا غير فأجرى ألف القطع مجراها، وقيل: جاء باللغتين جميعا كما قرأ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا [الشورى: 28] وقرأ: لا تَقْنَطُوا [الزمر: 53] وقل من يحتجّ له من أصحابه أو غيرهم. [سورة القلم (68) : آية 47] أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)

_ (1) ذكره البغوي في شرح السنة 14/ 358، والبيهقي في الأسماء والصفات 41، والمتقي الهندي في كنز العمال (21398) ، والعجلوني في كشف الخفاء 2/ 65.

[سورة القلم (68) : آية 48]

قال أبو جعفر: وهذه الآية من أشكل ما في السورة وتحصيل معناها فيما قيل والله أعلم: أم عندهم اللوح المحفوظ الذي فيه الغيوب كلها فهم يكتبون منه ما يجادلونك به ويدّعون أنهم مع كفرهم بالله جلّ وعزّ وردّهم عليك بعد البراهين خير منك وأنهم على الحقّ. [سورة القلم (68) : آية 48] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي اصبر على أداء الرسالة واحتمل أذاهم ولا تستعجل لهم العذاب وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ في ما عمله من خروجه عن قومه وغمّه بتأخر العذاب عنهم إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس وَهُوَ مَكْظُومٌ قال: مغموم. قال أبو جعفر: والمكظوم في كلام العرب الذي قد اغتمّ لا يجد من يتفرّج إليه فقد كظم غيظه أي أخفاه. [سورة القلم (68) : آية 49] لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ وفي قراءة ابن مسعود «لولا أن تداركته» «1» على تأنيث النعمة والتذكير: لأنه تأنيث غير حقيقي وروي عن الأعرج «لولا أن تدّاركه» بتشديد الدال، والأصل تتداركه أدغمت التاء في الدال. لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ في موضع نصب على الحال. [سورة القلم (68) : آية 50] فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) قيل: المعنى فوصفه جلّ وعزّ أنه من الصالحين. وقد حكى سيبويه جعل بمعنى وصف، وقيل: فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وفّقه الله تعالى لطاعته حتى صلح. [سورة القلم (68) : آية 51] وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) الكوفيون يقولون: إِنْ بمعنى «ما» واللام بمعنى إلّا، والبصريون يقولون: هي إن المشدّدة لما خفّفت وقع بعدها الفعل ولزمته لام التوكيد ليفرق بين النّفي والإيجاب. وذكر بعض النحويين الكوفيين أن هذا من إصابة العين، واستجهله بعض العلماء وقال: إنما كانوا يقولون: إنّا نصيب بالعين ما نستحسنه ونتعجّب من جودته. وهذا ليس من ذاك إنّما كانوا ينظرون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم نظر الإبغاض والنفور. فالمعنى على هذا أنهم لحدّة نظرهم إليه يكادون يزيلونه من مكانه. يقال: أزلق

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 311 (قرأ الجمهور «تداركه» ماضيا ولم تلحقه علامة التأنيث، وقرأ عبد الله وابن عباس «تداركته» بتاء التأنيث، وابن هرمز والحسن والأعمش بشدّ الدال) .

[سورة القلم (68) : آية 52]

الحجّام الشّعر وزلّفه إذا حلقه، وقد قرئ لَيُزْلِقُونَكَ «1» من أزلق وزلق أي باللغتين جميعا. [سورة القلم (68) : آية 52] وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) مبتدأ وخبره، والضمير يعود على الذكر المتقدّم.

_ (1) انظر تيسير الداني 173، والبحر المحيط 8/ 311.

69 شرح إعراب سورة الحاقة

69 شرح إعراب سورة الحاقة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحاقة (69) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ (1) رفع بالابتداء. [سورة الحاقة (69) : الآيات 2 الى 3] مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) مَا الْحَاقَّةُ (2) مبتدأ وخبره وهما خبر عن الحاقة، وفيه معنى التعظيم. والتقدير: الحاقة ما هي؟ إلا أن إعادة الاسم أفخم، وكذا وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) . [سورة الحاقة (69) : آية 4] كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) عادٌ منوّن لخفته وثَمُودُ لا ينوّن على أنه اسم للقبيلة، وينوّن على أنه اسم للحي. قال قتادة: بالقارعة أي بالساعة. قال غيره: لأنها تقرع قلوب الناس بهجومها عليهم. [سورة الحاقة (69) : الآيات 5 الى 6] فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) وقال قتادة: بعث الله جلّ وعزّ عليهم صيحة فأهدتهم، وقيل: فأهلكوا بالطغيان، وقيل: بالجماعة الطاغية. قال أبو جعفر: وقول قتادة أصحّها أخبر الله بالمعنى الذي أهلكهم به لا بالسبب الذي أهلكهم من أجله كما أخبر في قصة عاد فقال جلّ ثناؤه: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ قال قتادة: أي باردة، وقال غيره: أي شديد الصوت عاتِيَةٍ زائدة على مقدار هبوبها. [سورة الحاقة (69) : آية 7] سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) وَثَمانِيَةَ أنثت الهاء في ثمانية، وحذفت من سبع فرقا بين المذكر والمؤنّث

[سورة الحاقة (69) : آية 8]

حُسُوماً أصحّ ما قيل فيه متتابعة لصحّته عن ابن مسعود وابن عباس، «وحسوم» نعت ومن قال: معناه أتباع جعله مصدرا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى في موضع نصب على الحال. كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ قال قتادة: أصول النخل، وقال غيره: كأنهم أسافل النخل قد تأكّلت وخوت وتبدّدت خاوِيَةٍ على تأنيث النخل. [سورة الحاقة (69) : آية 8] فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) أي من جماعة باقية، وقيل: من بقاء. [سورة الحاقة (69) : آية 9] وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ «1» قراءة الحسن وأبي رجاء وعاصم الجحدري وأبي عمرو والكسائي، وهو اختيار أبي عبيد، وقراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وابن كثير والأعمش وحمزة وَمَنْ قَبْلَهُ وهما منصوبان على الظرف قال الحسن: «ومن قبله» ومن معه. ورد أبو عبيد على من قرأ «ومن قبله» لأنه قد كان فيهم مؤمنون. قال أبو جعفر: وهذا لا يلزم لأنه قد عرف المعنى بقوله جلّ وعزّ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ. [سورة الحاقة (69) : آية 10] فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) نعت أي زائدة. [سورة الحاقة (69) : آية 11] إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) مجاز لأن الجارية سفينة نوح صلى الله عليه وسلم، والمخاطبون بهذا إنما حمل أجدادهم فيها فكانوا بمنزلة من حمل معهم. [سورة الحاقة (69) : آية 12] لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً قال قتادة: بقيت السفينة عظة وآية وتذكرة حتى راها أوائل هذه الأمة. وَتَعِيَها أي التذكرة، ويروى عن عاصم أنه قرأ «وتعيّها» «2» وهو لحن لأنه من وعى يعي، وعن طلحة أنه قرأ: «وتعيها» بإسكان العين حذف الكسرة لثقلها، وهو مثل أَرِنِي [البقرة 260 والأعراف: 143] . أُذُنٌ واعِيَةٌ ويقال: أذن وهي مؤنثة تصغيرها أذينة.

_ (1) انظر تيسير الداني 173. (2) انظر البحر المحيط 8/ 317، وتيسير الداني 173.

[سورة الحاقة (69) : آية 13]

[سورة الحاقة (69) : آية 13] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) نَفْخَةٌ واحِدَةٌ لمّا نعت المصدر حسن رفعه، ولو كان غير منعوت كان منصوبا لا غير. [سورة الحاقة (69) : آية 14] وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) لأنهما جمعان، ولو قيل: فدككن أو فدكّت في الكلام لجاز. [سورة الحاقة (69) : آية 15] فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) العامل في الظرف وقعت. [سورة الحاقة (69) : آية 16] وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) مبتدأ وخبره. [سورة الحاقة (69) : آية 17] وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها أي على أرجاء السماء والرجا الناحية مقصور يكتب بالألف، والرجاء من الأمل ممدود، وَالْمَلَكُ بمعنى الملائكة يدلّك على ذلك وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ روى السديّ عن أبي مالك عن ابن عباس قال: ثمانية صفوف لا يعلم عددهم إلّا الله جلّ وعزّ، وكذا قال الضحاك، وقال ابن إسحاق وابن زيد: ثمانية أملاك وهم اليوم أربعة. [سورة الحاقة (69) : آية 18] يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) على تأنيث اللفظ، وقراءة الكوفيين «يخفى» «1» لأنه تأنيث غير حقيقي، وقد فصل بينه وبين فعله. [سورة الحاقة (69) : الآيات 19 الى 21] فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. رفع بالابتداء، وخبره فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ قال بعض أهل اللغة: الأصل هاكم ثم أبدل من الكاف. وروى ابن طلحة عن ابن عباس إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) قال: أيقنت. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) على النسب أي ذات رضىّ.

_ (1) انظر تيسير الداني 173، والبحر المحيط 8/ 318 (قرأ الجمهور «لا تخفى» بتاء التأنيث وعلي وابن وثاء وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وغيرهم بالياء) .

[سورة الحاقة (69) : آية 22]

[سورة الحاقة (69) : آية 22] فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) بدل بإعادة الحرف. [سورة الحاقة (69) : آية 23] قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) روى شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال: يأكل من فواكهها وهو قائم. [سورة الحاقة (69) : آية 24] كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وهي أيام الدنيا من «خلا» إذا مضى. [سورة الحاقة (69) : آية 25] وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) ومن العرب من يقول: ليتني فيحذف النون كما يحذفها في «إن» . [سورة الحاقة (69) : آية 26] وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) بإثبات الهاء في الوقف، وكذا ما لبيان الحركة وإثباتها في الوصل لحن لا يجوز عند أحد من أهل العربية علمته. ومن اتّبع السواد وأراد السلامة من اللّحن وقف عليها فكان مصيبا من الجهتين. [سورة الحاقة (69) : الآيات 27 الى 28] يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ اسم كان فيها مضمر، والتاء ليست باسم إنما هي علامة للتأنيث. ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ «ما» في موضع نصب بأغنى، ويجوز أن تكون نافية لا موضع لها. [سورة الحاقة (69) : آية 29] هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) «1» كما تقدّم في حسابيه. [سورة الحاقة (69) : الآيات 30 الى 31] خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ويجوز إثبات الواو على الأصل ومن حذفها فلسكون الواو، والهاء ليست بحاجز حصين «2» . [سورة الحاقة (69) : الآيات 32 الى 34] ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34)

_ (1) انظر تيسير الداني 174. (2) الرجز لحميد الأرقط في شرح شواهد الإيضاح 341، والمقاصد النحوية 4/ 504، وشرح التصريح 2/ 286، وبلا نسبة في ديوان الأدب 1/ 118، وإصلاح المنطق ص 310، وأوضح المسالك 4/ 286، وجمهرة اللغة 1314، وخزانة الأدب 1/ 214، والمخصّص 1/ 167، ومقاييس اللغة 1/ 26، وشرح عمدة الحافظ ص 576، والخصائص 2/ 307، ولسان العرب (ذرع) و (فرع) و (رمى) ، وأدب الكاتب 507، والأزهيّة 276، والأشباه والنظائر 5/ 219 وقبله: «ما لك لا ترمي وأنت أنزع ... أرمي عليها وهي فرع أجمع»

[سورة الحاقة (69) : آية 35]

الذراع مؤنثة كما قال: 497- وهي ثلاث أذرع وإصبع «1» وحكى الفراء «2» : إن بعض عكل يذكّرها، وقد حكى ذلك غيره. إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) في موضع نصب، ورفع لأنه فعل مستقبل وكذا وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) . [سورة الحاقة (69) : آية 35] فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) قال أبو زيد: الحميم القريب في كلام العرب. [سورة الحاقة (69) : آية 36] وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) يجوز أن يكون استثناء من الأول. [سورة الحاقة (69) : آية 37] لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37) وقراءة موسى بن طلحة إِلَّا الْخاطِؤُنَ على إبدال الهمزة وهي لغة شاذة. [سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 39] فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) «لا» زائدة للتوكيد. [سورة الحاقة (69) : آية 40] إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) قيل: هو مجاز لأنه سمعه منه الرسول صلّى الله عليه وسلّم. [سورة الحاقة (69) : الآيات 41 الى 42] وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) نصب قَلِيلًا لأنه نعت لمصدر أو لظرف وكذا. وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ. [سورة الحاقة (69) : آية 43] تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43)

_ (1) انظر المذكر والمؤنّث للفراء 77. (2) انظر البحر المحيط 8/ 321، والمحتسب 2/ 329.

[سورة الحاقة (69) : آية 44]

على إضمار مبتدأ. [سورة الحاقة (69) : آية 44] وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) أي من الباطل. [سورة الحاقة (69) : آية 45] لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) في معناه قولان: أحدهما بالقوة، والآخر: أهنّاه كما تقول: خذ بيده فأقمه. [سورة الحاقة (69) : آية 46] ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فأخبر الله جلّ وعزّ بحكمه في أوليائه ومن يعز عليه ليعتبر غيرهم. [سورة الحاقة (69) : آية 47] فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) نعت لأحد على المعنى. [سورة الحاقة (69) : آية 48] وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) قال قتادة: القرآن. [سورة الحاقة (69) : آية 49] وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) اسم «أنّ» . [سورة الحاقة (69) : آية 50] وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) أي يتحسرون يوم القيامة على تركهم الإيمان به. [سورة الحاقة (69) : آية 51] وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) أي محضه وخالصه. والكوفيون يقولون: هذا إضافة الشيء إلى نفسه. [سورة الحاقة (69) : آية 52] فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) أي نزّهه وبرّئه مما نسب إليه من الأنداد والأولاد والشّبه «العظيم» الذي كلّ شيء صغير دونه.

70 شرح إعراب سورة سأل سائل (المعارج)

70 شرح إعراب سورة سأل سائل (المعارج) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المعارج (70) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) سَأَلَ سائِلٌ هذه قراءة أهل الكوفة وأهل البصرة يهمزها جميعا، وقرأ أبو جعفر والأعرج ونافع سَأَلَ سائِلٌ «1» الأول بغير همز والثاني مهموز، وهذه القراءة لها وجهان: أحدهما أن يكون «سال» من السيل أي انصبّ، والآخر أن يقال: سال بمعنى سأل لا أنه منه لأن هذا ليس بتخفيف الهمز لو كان منه إنما يكون على البدل من الهمز، وذلك بعيد شاذّ. قال أبو جعفر: ورأيت علي بن سليمان يذهب إلى أنه من الهمز، وإنه إنما غلط فيه على نافع وإنه إنما كان يأتي بالهمزة بين بين. قال أبو جعفر: وهذا تأويل بعيد وتغليط لكل من روى عن نافع، والقول فيه أن سيبويه حكى: سلت أسأل بمعنى سألت فالأصل في سال سول فلما تحركت الواو وتحرك ما قبلها قلبت ألفا، ومثله خفت. وسائل مهموز على أصله إن كان من سأل وإن كان من سال فالأصل في ساول فاعل فقلبت الواو ألفا وقبلها ألف ساكنة ولا يلتقي ساكنان فأبدل من الألف همزة مثل صائم وخائف بِعَذابٍ واقِعٍ. [سورة المعارج (70) : آية 2] لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) لِلْكافِرينَ قول الفراء «2» أن التقدير بعذاب للكافرين، ولا يجوز عنده أن يكون للكافرين متعلقا بواقع. قال أبو جعفر: وظاهر القرآن على غير ما قال وأهل التأويل على غير قوله. قال مجاهد: وواقع في الآخرة، وقال الحسن: أنزل الله جلّ وعزّ: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ فقالوا لمن هو على من يقع؟ فأنزل الله تعالى: لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 326، وتيسير الداني 174. (2) انظر معاني الفراء 3/ 183. [.....]

[سورة المعارج (70) : آية 3]

[سورة المعارج (70) : آية 3] مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) قيل: المعارج درج الجنّة، وروى ابن نجيح عن مجاهد قال: السماء. [سورة المعارج (70) : آية 4] تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) وفي قراءة عبد الله «يعرج» «1» على تذكير الجميع. فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قال أبو جعفر: قد ذكرنا فيه أقوالا، وأعلى ما قيل فيه عن ابن عباس أنه قال: هو يوم القيامة، وأن المعنى مقدار محاسبة الله جلّ وعزّ الخلق فيه وإثابته ومعاقبته إياهم مقدار ذلك خمسون ألف سنة لو كان غيره المحاسب، ويدلّ على هذا حديث أبي سعيد الخدري قيل: يا رسول الله ما أطول هذا اليوم فقال: «إنّه على المؤمن أخفّ من صلاة مكتوبة يصلّيها» «2» . [سورة المعارج (70) : آية 5] فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) فَاصْبِرْ على أذاهم. صَبْراً جَمِيلًا لا جزع فيه. [سورة المعارج (70) : آية 6] إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) لأنهم لا يؤمنون به. قيل: الضمير في «إنهم» للكافرين وفي «يرونه» للعذاب. [سورة المعارج (70) : آية 7] وَنَراهُ قَرِيباً (7) لأنه كائن، وكلّ كائن قريب. [سورة المعارج (70) : آية 8] يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) يكون التقدير: يقع هذا أو يبصرونهم يوم تكون السّماء كالمهل، وأضيف يوم إلى الفعل، لأنه بمعنى المصدر وعطف عليه. [سورة المعارج (70) : آية 9] وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) جمع عهنة، ويقال عهون. [سورة المعارج (70) : الآيات 10 الى 11] وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) يُبَصَّرُونَهُمْ في هذا المضمر اختلاف عن العلماء فعن ابن عباس يبصّر الحميم حميمه أي يراه ويعرفه ثم يفرّ منه. فهذا قول، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد يبصر

_ (1) انظر تيسير الداني 174، ومعاني الفراء 3/ 184، والبحر المحيط 8/ 327. (2) انظر البحر المحيط 8/ 327.

[سورة المعارج (70) : الآيات 12 إلى 13]

المؤمنون الكافرين وعن ابن زيد يبصّر في النار التابعون للمتبوعين. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب القول الأول لأنه قد تقدّم ذكر الحميم فيكون الضمير راجعا عليه أولى من أن يعود على ما لم يجر له ذكر يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ بنيت «يومئذ» » لمّا أضيفت إلى غير معرب، وإن شئت خفضتها بالإضافة فقرأت مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. [سورة المعارج (70) : الآيات 12 الى 13] وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَفَصِيلَتِهِ والجمع فصائل وفصل وفصلان. [سورة المعارج (70) : آية 14] وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) أي ثم ينجيه الافتداء لأن يَفْتَدِي يدلّ على الافتداء. [سورة المعارج (70) : الآيات 15 الى 16] كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) كَلَّا تمام حسن إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى بين النحويين في هذا اختلاف تكون لظى في موضع نصب على البدل من قولك «ها» ونزّاعة خبر «إنّ» ، وقيل: لَظى في موضع رفع على خبر «إن» ونَزَّاعَةً خبر ثان أو بدل على إضمار مبتدأ، وقيل: إنّ «ها» كناية عن القصة ولَظى نَزَّاعَةً مبتدأ وخبره وهما خبر عن «إنّ» وأجاز أبو عبيد نَزَّاعَةً «2» بالنصب، وحكى أنه لم يقرأ به. قال أبو جعفر: وأبو العباس محمد بن يزيد لا يجيز النصب في هذا لأنه لا يجوز أن يكون إلا نزاعة للشوى، وليس كذا سبيل الحال. [سورة المعارج (70) : آية 17] تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) مجاز لأنه يروى أن خزنتها ينادون: ائتونا بمن أدبر وتولّى عن طاعة الله، وروى سعيد عن قتادة: تدعو من أدبر عن طاعة الله وتولّى عن كتابه وحقّه. [سورة المعارج (70) : آية 18] وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) أي جعل المال في وعاء ولم يؤدّ منه الحقوق. ويقال: وعيت العلم وأوعيت المتاع. [سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 21] إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)

_ (1) انظر تيسير الداني 174 (قرأ نافع والكسائي بفتح الميم والباقون بخفضها) . (2) انظر تيسير الداني 174، والبحر المحيط 8/ 328.

[سورة المعارج (70) : آية 22]

خُلِقَ في موضع خبر «إنّ» ونصبت هَلُوعاً على الحال المقدّرة والهلوع فيما حكاه أهل اللغة الذي يستعمل في حال الفقر ما لا ينبغي أن يستعمله من الجزع وقلة التأسّي وفي الغنى ما لا ينبغي أن يستعمله من منع الحقّ الواجب وقلة الشكر. وقد بين هذا بقوله: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ونصبت جَزُوعاً ومَنُوعاً على النعت لهلوع، ويجوز أن يكون التقدير صار كذا. [سورة المعارج (70) : آية 22] إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) نصب على الاستثناء. [سورة المعارج (70) : آية 23] الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) نعت. [سورة المعارج (70) : آية 24] وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) عطف عليه روى سعيد بأن قتادة قال: الصدقة المفروضة، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس: وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ قال: يقول سوى الصدقة يصل بها رحما ويقوّي بها ضعيفا أو يحمل بها كلّا أو يعين بها محروما. [سورة المعارج (70) : آية 25] لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) قال أبو جعفر: صح عن ابن عباس قال: المحروم المحارف، وعن قتادة السائل الذي يسأل بكفّه، والمحروم المتعفّف أي الذي لا يسأل، ولكل عليك حقّ يا ابن آدم، وعن ابن زيد «المحروم» الذي احترق زرعه. [سورة المعارج (70) : الآيات 26 الى 34] وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ في موضع نصب كله معطوف على نعت المصلين وكذا وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ وكذا وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ قال أبو جعفر وقراءة أبي عبد الرحمن والحسن بِشَهاداتِهِمْ «1» قال أبو جعفر: شهادة مصدر فذلك قرأها جماعة على التوحيد، ويجوز أن يكون واحدا يدل على جمع، وكذا وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ.

_ (1) انظر تيسير الداني 174.

[سورة المعارج (70) : آية 35]

[سورة المعارج (70) : آية 35] أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) مبتدأ وخبره. [سورة المعارج (70) : آية 36] فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) نصب على الحال وكذا عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ جمع عزة جمع بالواو والنون وفيه علامة التأنيث عوضا مما حذف منه، وفيه لغة أخرى يقال: مررت بقوم عزين، يجعل الإعراب في النون. [سورة المعارج (70) : آية 38] أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) وقراءة الحسن وطلحة أَنْ يُدْخَلَ «1» بفتح الياء وضم الخاء. قال أبو جعفر: والآية مشكلة. فمما قيل فيها إن المعنى فما للذين كفروا قبلك مسرعين بالتكذيب لك، وقيل: بالاستماع منك ليعيبوك عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ أي متفرّقين في أديانهم وهم مخالفون للإسلام أيطمع كل امرئ منهم أن يثاب على هذا فيدخل الجنة، وقيل: أيطمع كلّ امرئ منهم أن ينجو من العذاب على هذا الفعل لأن معنى يدخل الجنة ينجو من العذاب. [سورة المعارج (70) : آية 39] كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) كَلَّا ردّ عليهم إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ذكّرهم مهانتهم وأنهم إنما خلقوا من نطفة فكيف يستحقّون الثواب إذا لم يعملوا عملا صالحا، كما قال قتادة: خلقت من قذر يا ابن آدم فاتّق الله جلّ وعزّ. [سورة المعارج (70) : آية 40] فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ. قال أبو ظبيان عن ابن عباس: للشمس كلّ يوم مشرق ومغرب لم يكونا لها بالأمس فذلك قوله جلّ وعزّ: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ولا زائدة للتوكيد لا نعلم في ذلك اختلافا فإنما اختلفوا في «لا أقسم» لأنه أول السورة فكرهوا أن يقولوا: زائد في أول السورة وقد أجمع النحويون أنه لا تزاد «لا» و «ما» في أول الكلام فكان الكلام في هذا أشدّ، وجواب القسم: إِنَّا لَقادِرُونَ. [سورة المعارج (70) : آية 41] عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) أي ليس يعجزوننا ولا يفوتوننا لأن من فاته الشيء ولم يلحقه فقد سبقه.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 186، والبحر المحيط 8/ 330.

[سورة المعارج (70) : آية 42]

[سورة المعارج (70) : آية 42] فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا جواب، وفيه معنى الشرط وفي موضع آخر ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام: 91] لأن هذا ليس بجواب، وزعم الأخفش سعيد أن الفرق بينهما أنه إذا كان بالنون فهم في تلك الحال وإذا لم يكن بالنون فهو للمستقبل يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ. [سورة المعارج (70) : آية 43] يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) يَوْمَ يَخْرُجُونَ بدل منه. مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً نصب على الحال. كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ وقراءة الحسن إِلى نُصُبٍ «1» وكذا يروى عن زيد بن ثابت وأبي العالية: أي إلى غايات يستبقون، وقال الحسن: كانوا يجتمعون غدوة فيجلسون فإذا طلعت الشمس تبادروا إلى أنصابهم. فقال الأعرج: إلى نصب إلى علم. قال أبو جعفر: وتقديره في العربية إلى علم قد نصب نصبا. [سورة المعارج (70) : آية 44] خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ أي ذليلة خاضعة لما نزل بهم ونصب خاشعة بترهقهم أو بيخرجون تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي تغشاهم ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ «2» قيل: الذي كانوا مشركو قريش يوعدون به فلا يصدّقون ذلك.

_ (1) انظر تيسير الداني 174 (قرأ ابن عامر وحفص بضم النون والصاد والباقون بفتح النون وإسكان الصاد) . (2) انظر البحر المحيط 8/ 330 (قرأ الجمهور «ذلة» منوّنا، و «ذلك اليوم» برفع الميم مبتدأ وخبره، وقرأ عبد الرحمن بن خلاد عن داود بن سالم عن يعقوب والحسن بن عبد الرحمن عن التمار «ذلة» بغير تنوين مضافا إلى «ذلك» ، واليوم بخفض الميم) .

71 شرح إعراب سورة نوح عليه السلام

71 شرح إعراب سورة نوح عليه السّلام بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة نوح (71) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) إِنَّا الأصل إنّنا حذفت النون تخفيفا أَرْسَلْنا سكّنت اللام في الأصل لاجتماع الحركات وأنه مبنيّ نُوحاً اسم أعجمي انصرف لأنه على ثلاثة أحرف. إِلى قَوْمِهِ اسم للجمع، وقيل: قوم جمع قائم مثل تاجر وتجر أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ «أن» بمعنى التبيين تقول: أي أنذر قومك، ويجوز أن يكون في موضع نصب، ويكون المعنى بأن أنذر قومك مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ خفضت قبل بمن وأعربتها لأنها مضافة إلى «أن» . [سورة نوح (71) : الآيات 2 الى 3] قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ يكون أن أيضا بمعنى «أي» ، ويكون بمعنى نذير بأن اعبدوا الله وصلتها اعبدوا وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ عطف عليه. [سورة نوح (71) : آية 4] يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ جزم لأنه جواب الأمر وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى عطف عليه إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لم يجزم بلو الفعل المستقبل لمخالفتها حروف الشرط في أنها لا تردّ الماضي إلى المستقبل. [سورة نوح (71) : آية 5] قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) على الظرف. [سورة نوح (71) : آية 6] فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) مفعول ثان.

[سورة نوح (71) : الآيات 7 إلى 8]

[سورة نوح (71) : الآيات 7 الى 8] وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ منصوب على الظرف و «ما» متصلة مع «كل» إذا كانت بمعنى إذا، والجواب جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ الواحدة إصبع مؤنثة ويقال: إصبع. وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا عطف عليه قال الفراء «1» : أَصَرُّوا سكتوا على الكفر. وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً مصدر فيه معنى التوكيد، وكذا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ويجوز أن يكون التقدير: ذا جهار. [سورة نوح (71) : آية 9] ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) إِسْراراً مصدر أيضا فيه معنى التوكيد. [سورة نوح (71) : آية 10] فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أي استدعوا منه المغفرة. إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً أي ستّارا على عقوبات الذنوب لمن تاب. [سورة نوح (71) : آية 11] يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ جواب الأمر. مِدْراراً نصب على الحال من السماء، ومفعال للمؤنّث بغير هاء لأنه جار على الفعل يقال: امرأة مذكار ومئناث بغير هاء. [سورة نوح (71) : آية 12] وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) يروى أنهم قيل لهم هذا لأنهم كانوا شديدي المحبة للمال. [سورة نوح (71) : آية 13] ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) قد ذكرناه. [سورة نوح (71) : آية 14] وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) أكثر أهل التفسير على أن الأطوار خلقكم نطفة ثم علقة ثم مضغة، وقيل: اختلاف المناظر لأنك ترى الخلق فتميّز بينهم في الصور والكلام، ولا بدّ من فرق وإن اشتبهوا. وذلك دالّ على مدبر وصانع. [سورة نوح (71) : آية 15] أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) طِباقاً مصدر، ويجوز أن يكون نعتا لسبع، وأجاز الفراء «2» الخفض في غير القرآن.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 188. (2) انظر معاني الفراء 3/ 188.

[سورة نوح (71) : آية 16]

[سورة نوح (71) : آية 16] وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً قال أبو جعفر: أجلّ ما روي فيه قول عبد الله بن عمرو: إنّ وجه القمر إلى السموات فهو فيهن على الحقيقة وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً مفعولان ... [سورة نوح (71) : آية 17] وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ومصدر أنبت إنبات إلّا أن التقدير فنبتهم نباتا قيل: هذا لأن آدم صلّى الله عليه وسلّم خلق من طين، وقيل: النطفة مخلوقة من تراب. [سورة نوح (71) : آية 18] ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها بالإقبار وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً إلى البعث. [سورة نوح (71) : آية 19] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) ويجوز بصاد لأن بعدها طاء. [سورة نوح (71) : آية 20] لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس سُبُلًا فِجاجاً قال: طرقا مختلفة. [سورة نوح (71) : آية 21] قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وقرأ الكوفيون وأبو عمرو وَوَلَدُهُ «1» ويجوز والده مثل «أقّتت» وروى شبل عن مجاهد قال: ولده زوجه وأهله وروى خارجة عن أبي عمرو بن العلاء قال: ولده عشيرته وقومه. قال أبو جعفر: أما أهل اللغة سوى هذه الرواية عن أبي عمرو فيقولون: ولد وولد مثل بخل وبخل وفلك وفلك، ويجوز عندهم أن يكون ولد جمع ولد وثن ووثن. [سورة نوح (71) : آية 22] وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وكُبَّاراً «2» هي قراءة بمعنى واحد. [سورة نوح (71) : آية 23] وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً. هذه قراءة أهل المدينة، وقرأ الكوفيون

_ (1) انظر تيسير الداني 174، والبحر المحيط 8/ 334. (2) انظر معاني الفراء 3/ 189، والبحر المحيط 8/ 325 (قرأ الجمهور بتشديد الباء وهو بناء فيه مبالغة، وقرأ عيسى وابن محيصن وأبو السمال بتخفيف الباء، وقرأ زيد بن علي وابن محيصن «كبارا» بكسر الكاف وفتح الباء) .

[سورة نوح (71) : آية 24]

وأبو عمرو وَدًّا بفتح الواو وهو اختيار أبي عبيد واحتجّ بقولهم عبد ودّ وأن الصنم اسمه ودّ. قال أبو جعفر: وهذا من الاحتجاجات الشاذة، والمتعارف عكس ما قال إنما يقال: عبد ودّ فإن كان من جهة التعارف فهو هذا، وإن كان من جهة الأشبه فالأشبه أن يسمّى بودّ مشتقّ من الوداد، وهو السهولة واللين، ومنه وددت الرجل أحببته ووددته إذا بررته، ووددت أن ذلك الشيء لي أي تمنيت بسهولة وتسميتهم الصنم ودّا من هذا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً لم ينصرف يغوث ويعوق لشبههما الفعل المستقبل، وقرأ الأعمش «ولا يغوث ويعوق» بالصرف، وفي حرف عبد الله فيما روى وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً قال أبو جعفر: هذا عند الخليل وسيبويه لحن وهو أيضا مخالف للسواد الأعظم وزعم الفراء «1» : أنّ ذلك يجوز صرفه لكثرته أو كأنه نكرة، وهذا ما لا يحصل لأنه ليس إذا كثر الشيء صرف فيه ما لا ينصرف على أنه لا معنى لقوله: لكثرته في اسم صنم، ولا معنى لأن يكون نكرة ما كان مخصوصا مثل هذا. وقد زاد الكسائي على هذا فقال: العرب تصرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل منك. قال محمد بن يزيد: هذا خطأ لأنهم قد صرفوا خيرا منك وشرّا منك ومعها منك. [سورة نوح (71) : آية 24] وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً ويجوز في غير القرآن وقد أضللن وقد أضلّت وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا قيل: المعنى: لا توفقهم، وقيل: إلا ضلالا عن الثواب وطريق الجنة. [سورة نوح (71) : آية 25] مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) «ما» زائدة للتوكيد، ولا يجوز عند البصريين غير ذلك، والكوفيون يقولون: صلة ثم يرجعون في بعض المواضع إلى الحقّ وهذا منها زعم الفراء «2» أن «ما» هاهنا تفيد لأن المعنى من أجل خطيئاتهم أغرقوا واحتجّ بأنّ «ما» تدل على المجازاة، وذكر حيثما تكن أكن، وذكر كيف وأين هذا في كتابه «في معاني القرآن» ومذهبه في هذا حسن لولا ما فيه من التخطيط. ذكر حيثما وهي لا يجازى بها إلّا ومعها «ما» وذكر «كيف» وهي لا يجازى بها البتة، وذكر «أين» وهي يجازى بها مع «ما» وبغير «ما» ، فجمع بين ثلاثة أشياء مختلفة. [سورة نوح (71) : آية 26] وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) أي أحدا وهو من دار يدور أي أحدا يدور، وقيل: ديّار صاحب دار. [سورة نوح (71) : آية 27] إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27)

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 189. (2) انظر معاني الفراء 3/ 189. [.....]

[سورة نوح (71) : آية 28]

إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ شرط يُضِلُّوا عِبادَكَ مجازاة وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً عطف عليه. [سورة نوح (71) : آية 28] رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ بفتح الياء لأنها ياء النفس لا يجوز كسرها وهي نظيرة بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم: 22] وكذا قراءة من قرأ «ولوالدي» «1» ومن قرأ «ولوالدي» جاز أن يسكن الياء وأن يفتحها. وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ عطف بإعادة الحرف وَالْمُؤْمِناتِ عطف بغير إعادة الحرف وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً قال الفراء «2» : إلّا ضلالا، وأولى منه قول مجاهد: إلّا هلاكا، مشتق من التّبر وتبرت الشيء وتبرته كسرته.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 337. (2) انظر معاني الفراء 1/ 190.

72 شرح إعراب سورة الجن

72 شرح إعراب سورة الجنّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الجن (72) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) قرأ جويّة بن عائذ الأسدي «قل أحي إليّ» «1» قال أبو جعفر: هذا على لغة من قال: وحى يحي. قال العجاج: [الرجز] 498- وحى لها القرار فاستقرّت «2» والأصل: وحي إليّ فأبدل من الواو همزة مثل أُقِّتَتْ «أنه» في موضع رفع اسم ما لم يسمّ فاعله. والنفر ثلاثة وأكثر. فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً كسرت «إن» لأنها بعد القول فهي مبتدأة. ومعنى عجب عجيب في اللغة على ما ذكره محمد بن يزيد أنه الشيء يقلّ ولا يكاد يوجد مثله. [سورة الجن (72) : آية 2] يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) «لن» تدلّ على المستقبل، والأصل فيهما عند الخليل «3» : لا أن، وزعم أبو عبيدة أنه قد يجزم بها. [سورة الجن (72) : آية 3] وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا هذه قراءة المدنيين «4» في السورة كلّها إلّا في قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ وفي وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الآية: 18] وفي وأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ [الآية: 16] . وقد زعم بعض أهل اللغة قراءة المدنيين لا يجوز غيرها، وطعن على من قرأ بالفتح لأنه توهم أنه معطوف على أَنَّهُ اسْتَمَعَ. قال أبو جعفر: وذلك غلط لأنه

_ (1) انظر البحر المحيط 8: 339، معاني الفراء 3/ 190. (2) مرّ الشاهر رقم (398) . (3) انظر الكتاب 3/ 3. (4) انظر تيسير الداني 175، والبحر المحيط 8/ 341.

[سورة الجن (72) : آية 4]

قد قرأ بالفتح من تقوم الحجة بقراءته. روى الأعمش عن إبراهيم بن علقمة أنه قرأ و «أن» في السورة كلها. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي بالفتح في السورة كلها إلى قوله: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي [الواقعة: 20] فلمّا أشكل عليه هذا عدل إلى قراءة أهل المدينة لأنها بينة واضحة. والقول في الفتح أنه معطوف على المعنى، والتقدير فآمنّا به وآمنّا أنه تعالى جدّ ربنا فإنه في موضع نصب. وأحسن ما روي في معنى «جدّ ربّنا» قول ابن عباس: إنه الغنى والعظمة والرفعة، وأصل الجدّ في اللّغة الارتفاع. من ذلك الجدّ أبو الأب. ومنه الجدّ الحظ وباللغة الفارسية البخت. ويقال: إنّ الجنّ قصدوا إلى هذا وأنهم أرادوا الرفعة والحظ أي ارتفع ربنا عن أن ينسب إلى الضعف الذي في خلقه من اتّخاذ المرأة وطلب الولد والشهوة. يدلّ على هذا أن بعده مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً وقد زعم بعض الفقهاء أنه يكره أن تقول: وتعالى جدّك، واحتجّ بأن هذا إخبار عن الجنّ. وذلك غلط لأنه قد صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك ولم يذمّ الله الجنّ على هذا القول. وروي عن عكرمة: «وأنه تعالى جدّا ربّنا» . [سورة الجن (72) : آية 4] وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) السّفه رقة الحلم، وثوب سفيه أي رقيق، وفتح أن أيضا حملا على المعنى أي صدّقنا وشهدنا. والشطط البعد، كما قال: [الكامل] 499- شطّت مزار العاشقين فأصبحت «1» [سورة الجن (72) : آية 5] وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) لاستعظامهم ذلك، والظنّ هاهنا الشك. [سورة الجن (72) : آية 6] وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) اسم كان وخبرها يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً مفعول ثان. [سورة الجن (72) : آية 7] وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ وإن فتحت أن حملته أيضا على المعنى أي علمنا أنهم ظنوا كما ظننتم أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً «أن» وما بعدها في موضع المفعولين لظننتم إن أعملته وإن أعملت الأول نويت بها التقدّم.

_ (1) الشاهد لعنترة في ديوانه 109، ولسان العرب (زأر) و (زور) و (شطط) ، وتاج العروس (زور) و (شطط) و (ركل) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 42. وعجزه: عسرا عليّ طلابها ابنة مخرم»

[سورة الجن (72) : آية 8]

[سورة الجن (72) : آية 8] وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) إن عدّيت وجدنا إلى مفعولين فملئت في موضع المفعول الثاني وإن عديتهما إلى واحد أضمرت «قد» . قال أبو جعفر: والأول أولى وشهب في الكثير، وفي القليل أشهبة. [سورة الجن (72) : آية 9] وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ لم ينصرف لأنه لا نظير له في الواحد وهو نهاية الجمع. فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً شرط ومجازاة. [سورة الجن (72) : آية 10] وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) أحسن ما قيل فيه إن المعنى: لا ندري أشرّا أراد الله بمن في الأرض حين منعنا الاستماع من السماء أم أراد بهم ربهم أن يرسل إليهم رسولا فيرشدهم هذا مذهب ابن زيد، وكانت هذه من علامات نبوته صلّى الله عليه وسلّم أنه شدّد على الشياطين في استماعهم من السماء ورموا بالشهب. [سورة الجن (72) : آية 11] وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) لمّا سكنت النون من «من» استغنيت عن زيادة نون أخرى فإذا قلت: منّي فالاسم الياء وزدت النون لئلا تكسر نون «من» كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً الواحدة طريقة ويقال: طريق وطريقة، وفلان على طريقة فلان: وفلان طريقة القوم أي رئيسهم والقوم طريقة أيضا، وإن شئت جمعت. [سورة الجن (72) : آية 12] وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ الظن هاهنا يقين. وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً مصدر في موضع الحال. [سورة الجن (72) : آية 13] وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ على تذكير الهدى، وهي اللغة الفصيحة. وقد تؤنث فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً وقراءة يحيى بن وثاب والأعمش فَلا يَخافُ «1» على النهي. [سورة الجن (72) : آية 14] وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ قسط إذا جار، هذا الأصل ثم يزاد عليه الألف فيقال: أقسط إذا أزال القسوط أي عدل.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 344.

[سورة الجن (72) : آية 16]

[سورة الجن (72) : آية 16] وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) وقراءة يحيى بن وثاب والأعمش وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا بضم الواو لالتقاء الساكنين ولأن الضمة تشبه الواو إلا أن سيبويه «1» لا يجيز إلا الكسر في الواو الأصلية فرقا بينها وبين الزائد لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً حكى أبو عبيدة «2» سقيته وأسقيته لغة، وأما الأصمعي فقال: سقيته لفيه وأسقيته جعلت له شربا. قال أبو جعفر: وعلى ما قال الأصمعي اللغة الفصيحة، منها لأسقيناهم أي أدمنا لهم ذلك، غير أن أبا عبيدة أنشد للبيد وهو غير مدافع عن الفصاحة: [الوافر] 500- سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال «3» فسئل الأصمعي عن هذا البيت فقال: هو عندي معمول ولا يكون مطبوع يأتي للغتين في بيت واحد. [سورة الجن (72) : آية 17] لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ حكى أبو زيد وأبو عبيدة: فتنته وأفتنته. قال أبو زيد: لغة بني تميم أفتنته. قال الأصمعي: فتنه يفتنه فهو فاتن وفتان قال الله جلّ وعزّ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ [الصافات: 162] قال: ولا يقال: أفتنه وأنكر هذه اللغة ولم يعرفها، فأنشدهم: [الطويل] 501- لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت ... سعيدا فأمسى قد قلا كلّ مسلم «4» قال أبو جعفر: وهذا شعر قديم، غير أن الأصمعي قال: لا بأس هذا قد سمعناه من مخنّث فلا يلتفت إليه، وإن كان قد قيل قديما. قال أبو جعفر: قد حكى الجلّة من أهل اللغة ممن يرجع إلى قوله في الصدق فتنه وأفتنه غير أن سيبويه فرّق بينهما فذهب إلى أن المعتدي أفتن، وأن معنى فتنه جعل فيه فتنة، كما تقول: كحلّه. وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً وقرأ مسلم بن جندب نَسْلُكُهُ «5» بضم النون. قال أبو جعفر: سلكه وأسلكه لغتان عند كثير من أهل اللغة، وقال الأصمعي: سلكه بغير

_ (1) انظر الكتاب 4/ 268. (2) انظر مجاز القرآن 1/ 349. (3) مرّ الشاهد رقم/ 239) . (4) الشاهد لأعشى همدان في لسان العرب (فتن) والمخصّص 4/ 62، وتاج العروس (فتن) ، ولابن قيس الرقيات في الخصائص 3/ 315، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في لسان العرب (فتن) ، وتهذيب اللغة 14/ 289، وجمهرة اللغة 406، ومقاييس اللغة 4/ 473، وديوان الأدب 2/ 334، وكتاب العين 8/ 128. (5) انظر تيسير الداني 175 (قرأ الكوفيون بالياء والباقون بالنون) .

[سورة الجن (72) : آية 18]

ألف. قال الله جلّ وعزّ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: 42] وكما قال الشاعر: [البسيط] 502- أمّا سلكت سبيلا كنت سالكها ... فاذهب فلا يبعدنك الله منتشر «1» وسلك وسلكته مثل رجع ورجعته وأسلكته لغة معروفة أنشد أبو عبيدة وغيره لعبد مناف بن ربع: [البسيط] 503- حتّى إذا أسلكوهم في قتائدة ... شلّا كما تطرد الجمّالة الشّردا «2» ولم يطعن الأصمعي في هذا البيت غير أنه قال: أسلكه حمله على أن يسلك، وزعم أبو عبيدة أن الجواب محذوف وخولف في هذا، وقيل: الجواب شلّوا وشلّا يقوم مقامه. [سورة الجن (72) : آية 18] وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ «أنّ» في موضع نصب بمعنى ولأن وعلى قول بعضهم في موضع رفع عطفا على قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ. فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً نهي لجماعة وحذفت منه النون للجزم. [سورة الجن (72) : آية 19] وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس «لبدا» أعوانا، وقال مجاهد: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) لبدا جماعات ومالا لبدا كثيرا. قال أبو جعفر: وهذا قول بيّن وإن كان هذا قد قرئ لِبَداً «3» فهو بعيد، والمعنى على الجماعة الأعلى الكثرة كما قال مجاهد: من تلبد الشيء على الشيء إذا تجمّع عليه ولصق به وعليه لبدة أي شعر وما أشبهه كما قال: [الطويل] 504- لدى أسد شاكي السّلاح مقاذف ... له لبد أظفاره لم تقلّم «4»

_ (1) الشاهد لأعشى باهلة في الأصمعيات 93، والخزانة 1/ 97. [.....] (2) الشاهد لعبد مناف بن ربع الهذليّ في الأزهيّة 203، والإنصاف 2/ 461، وجمهرة اللغة 854، وخزانة الأدب 7/ 39، والدرر 3/ 104، وشرح أشعار الهذليين 2/ 675، وشرح شواهد الإيضاح ص 431، ولسان العرب (شرد) و (قتد) ، و (سلك) ، و (إذا) ، ومراتب النحويين ص 85، ولابن أحمر في ملحق ديوانه 179، ولسان العرب (حمر) ، وبلا نسبة في أدب الكاتب 434، والأشباه والنظائر 5/ 25، وجمهرة اللغة 390، والصاحبي في فقه اللغة 139، وهمع الهوامع 1/ 207. (3) انظر تيسير الداني 175، والبحر المحيط 8/ 346. (4) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 24، ولسان العرب (قذف) و (مكن) ، وتهذيب اللغة 9/ 76، وجمهرة اللغة 974، وتاج العروس (قذف) .

[سورة الجن (72) : آية 20]

[سورة الجن (72) : آية 20] قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) ويقرأ قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي «1» والقراءة يقال متّسقة ويقال منقطعة، والمعنيان صحيحان أي قل لهم فقال: إنما أدعو ربي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً نسق ويجوز أن يكون مستأنفا. [سورة الجن (72) : آية 21] قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) أي لا أملك أن أضرّكم في دينكم ولا دنياكم إلا أن أرشدكم كرها أي إلّا أن أبلغكم، وفيه قول آخر يكون نصبا على إضمار فعل، ويكون مصدرا أي: قل إني لن يجيرني من الله أحد إلا أن أبلغ رسالته فيكون «أن» منفصلة من لا. والمعنى: إلّا بلاغا ما أتاني من الله ورسالاته. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً شرط ومجازاة، وهو في كلام العرب عام لكل من عصى الله جلّ وعزّ إلّا من استثني بآية من القرآن أو توقيف من الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو بإجماع من المسلمين، والذي جاء مستثنى منه من تاب وآمن ومن عمل صغيرة واجتنب الكبائر وسائر ذلك داخلون في الآية إلّا ما صحّ عن النبي من خروج الموحّدين من النار. [سورة الجن (72) : آية 22] قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) لَنْ تجعل الفعل مستقبلا لا غير وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي ملجأ ألجأ إليه وأميل. واللحد في القبر من هذا لأنه مائل ناحية منه، ويمال الميت إليه. [سورة الجن (72) : آية 23] إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ نصب على الاستثناء، والمعنى فيه إذا كان استثناء. [سورة الجن (72) : آية 24] حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) إذا ظرف ولا تعرب لشبهها بالحروف بتنقّلها وأن فيها معنى المجازاة، وجوابها فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً «من» في موضع رفع لأنها استفهام، ولا يعمل في الاستفهام ما قبله هذا الوجه وإن جعلتها بمعنى الذي كانت في موضع نصب وأضمرت مبتدأ وكان أَضْعَفُ خبره وَأَقَلُّ عطف عليه عَدَداً نصب على البيان. [سورة الجن (72) : آية 25] قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) أَدْرِي في موضع رفع حذفت الضمة منه، ومن نصبه فقد لحن لحنا لا يجوز أَمْ يَجْعَلُ لَهُ عطف عليه.

_ (1) انظر تيسير الداني 175.

[سورة الجن (72) : آية 26]

[سورة الجن (72) : آية 26] عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) عالِمُ الْغَيْبِ نعت فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. [سورة الجن (72) : آية 27] إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ في موضع نصب على الاستثناء من أحد لأن أحدا بمعنى جماعة فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً بمعنى جماعة أي ذوي رصد من الملائكة يحفظونه ويحفظون ما ينزل من الوحي لا يغيّر ولا يسترق. [سورة الجن (72) : آية 28] لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ قد ذكرناه وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ عطف جملة لأن الذي قبله مستقبل وهو ماض وكذا وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً.

73 شرح إعراب سورة المزمل

73 شرح إعراب سورة المزّمّل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المزمل (73) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) الأصل المتزمّل أدغمت التاء في الزاي، وفي معناه ثلاثة أقوال. فمذهب الزهري أنه تزمّل من فزع أصابه أول ما رأى الملك، ومذهب قتادة أنه تزمّل متأهّبا للصلاة، تأوّلا على قتادة وليس بنصّ قوله، ومذهب عكرمة أن المعنى: يا أيها المتزمّل النبوة والرسالة مجازا وتأوّلا على عكرمة، ونصّ قوله: قد زمّلت هذا الأمر فقم به. قال أبو جعفر: والبيّن قول الزهري. قال إبراهيم النخعيّ: كان متزمّلا في قطيفة. [سورة المزمل (73) : الآيات 2 الى 3] قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) كسرت الميم لالتقاء الساكنين ولم تردد الواو لأن الحركة ليست بلازمة. في معنى قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ثلاثة أقوال: إنّ هذا ليس بفرض. يدلّ على ذلك أن بعده نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا وليس كذلك تكون الفروض، والقول الثاني إنه منسوخ، نسخه آخر السورة وهذا قول ابن عباس، والقول الثالث إنه كان فرضا فالمخاطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يقل عزّ وجلّ قوموا، «نصفه» منصوب على إضمار فعل أي قسم نصفه، أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ضمّت الواو لالتقاء الساكنين وإن شئت كسرت على الأصل. [سورة المزمل (73) : آية 4] أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ تخيير وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا حقيقته في كلام العرب تلبّث في قراءته وافصل الحرف من الحرف الذي بعده، ولا تستعجل فيدخل بعض الحروف في بعض. مشتقّ من الرتل. قال الأصمعي: وفي الأسنان الرتل وهو أن يكون بين الأسنان الفرج، لا يركب بعضها بعضا، يقال ثغر رتل. قال أبو جعفر: وهذا قول صحيح بيّن، وقيل: هو من الرّتل الذي هو الضعف واللين. فالمعنى: ليّن القراءة ولا تستعجل بالانكماش.

[سورة المزمل (73) : آية 5]

[سورة المزمل (73) : آية 5] إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) في معناه قولان: قال عروة: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أوحي إليه وهو على ناقته ثقل عليها حتى تضع جرانها، وقيل: لما فيه من الفرائض والمنع من الشهوات كما قال قتادة: ثقله في الميزان كثقله على الإنسان في الدنيا. [سورة المزمل (73) : آية 6] إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ من نشأ إذا ابتدأ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً «1» كذا يقرأ أكثر القراء، وهذا نصب على البيان. ووطأ مصدر واطأ مواطأة ووطاء وَأَقْوَمُ قِيلًا بيان أيضا. [سورة المزمل (73) : آية 7] إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وعن يحيى بن يعمر أنه قرأ «سبخا» «2» بخاء معجمة أي راحة ونوما. وفي الحديث «لا تسبّخي عنه» أي لا تخفّفي. [سورة المزمل (73) : آية 8] وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) تبتيل مصدر بتّل لأن المعنى واحد، وقد تبتّل تبتّلا. [سورة المزمل (73) : آية 9] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ بالرفع والكوفيون يقرءون «رب المشرق والمغرب» «3» بالخفض. والرفع حسن لأنه أول الآية بمعنى هو ربّ المشرق ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ولو كان خبره فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا لكان النصب أولى به. [سورة المزمل (73) : آية 10] وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي مما يؤذيك. وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا وهو الهجر في ذات الله جلّ وعزّ، كما قال: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام: 68] . [سورة المزمل (73) : آية 11] وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ. عطف على النون والياء، ويجوز أن يكون مفعولا معه أُولِي النَّعْمَةِ كتبت بزيادة واو بعد الألف فرقا بين أولي وإلى وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا نعت لمصدر أو ظرف.

_ (1) انظر تيسير الداني 175. (2) انظر البحر المحيط 8/ 355 (وهذه قراءة عكرمة وابن أبي عبلة أيضا) . (3) انظر تيسير الداني 175، والبحر المحيط 8/ 355.

[سورة المزمل (73) : آية 13]

[سورة المزمل (73) : آية 13] وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا اسم «إنّ» الواحد نكل وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) نسق كلّه، والمعنى عندنا هذا. [سورة المزمل (73) : آية 14] يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) قال الفراء «1» : هلت التراب إذا حرّكت أسفله فسقط أعلاه، وقال أبو عبيد: يقال لكلّ شيء أرسلته، إرسالا من رمل أو تراب أو طعام أو نحوه: قد هلته أهيله هيلا إذا أرسلته فهو مهيل. قال أبو جعفر: الأصل مهيول فاعلّ فألقيت حركة الياء على الهاء فالتقى ساكنان، واختلف النحويون بعد هذا فقال الخليل وسيبويه «2» : حذفت الواو لالتقاء الساكنين لأنها زائدة وكسرت الهاء لمجاورتها الياء فقيل: مهيل، وزعم الكسائي والفراء والأخفش أن هذا خطأ والحجة لهم أن الواو جاءت لمعنى فلا تحذف ولكن حذفت الياء فكان يلزمهم على هذا أن يقولوا: مهول فاحتجّوا بأن الهاء كسرت لمجاورتها الياء فلمّا حذفت الياء انقلبت الواو ياء لمجاورتها الكسرة. قال أبو جعفر: وهذا باب التصريف وغامض النحو، وقد أجمعوا جميعا على أنه يجوز مهيول ومبيوع ومكيول ومغيوم. قال أبو زيد: هي لغة لتميم، وقال علقمة بن عبدة: [البسيط] 505- يوم رذاذ عليه الدّجن مغيوم «3» فهذا جائز في ذوات الياء، ولا يجيزه البصريون في ذوات الواو، ولا يجوز عندهم خاتم مصووغ ولا كلام مقوول، لثقل هذا لأنه قد اجتمعت واوان وضمة، وهم يستثقلون الواحدة ويفرّون منها. قال جلّ وعزّ: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ [المرسلات: 11] كذا في المصحف المجتمع عليه. قال الشاعر: [الرجز] 506- لكلّ دهر قد لبست أثؤبا «4»

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 198. (2) انظر الكتاب 4/ 491. (3) الشاهد لعلقمة بن عبدة في ديوانه 59، وجمهرة اللغة 963، وخزانة الأدب 11/ 295، والخصائص 1/ 261، وشرح المفصّل 10/ 78، والمقتضب 1/ 101، والممتع في التصريف 2/ 460، والمنصف 1/ 286، وبلا نسبة في شرح الأشموني 3/ 866. (4) الرجز لمعروف بن عبد الرّحمن في شرح أبيات سيبويه 2/ 390، ولسان العرب (ثوب) ، وله أو لحميد بن ثور في شرح التصريح 2/ 301 والمقاصد النحوية 4/ 522، وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب 2/ 804، والكتاب 4/ 65، وشرح الأشموني 3/ 672، ولسان العرب (ملح) ، ومجالس ثعلب 439، والمقتضب 1/ 29، والممتع في التصريف 1/ 336، والمنصف 1/ 284.

[سورة المزمل (73) : آية 15]

فأبدل من الواو همزة، وأجاز النحويون رمل مهول وثوب مبوع ينوه على بوع الثوب فأبدل من الياء واو لضمة ما قبلها، وأنشد الفراء: [الطويل] 507- ألم تر أنّ الملك قد شون وجهه ... ونبع بلاد الله قد صار عوسجا «1» يريد «شين» ، وأنشد الكسائي والفراء: [الطويل] 508- ويأوي إلى زغب مساكين دونهم ... فلا لا تخطّاه الرّكاب مهوب «2» واللغة العالية التي جاء بها القرآن. قال عائذ بن محصن بن ثعلبة: [الوافر] 509- فأبقى باطلي والحدّ منها ... كدكّان الدّرابنة المطين «3» [سورة المزمل (73) : آية 15] إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا النون والألف الثانية في موضع رفع والأولى في موضع نصب واتّفق المكنيان لأنهما غير معربين شاهِداً عَلَيْكُمْ نعت لرسول. كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا الكاف في موضع نصب. [سورة المزمل (73) : الآيات 16 الى 17] فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ رسول الأول نكرة لأنه لم يتقدّم ذكره والثاني معرفة لأنه قد تقدّم ذكره ولهذا يكتب في أول الكتب «سلام عليك» وفي آخرها «والسّلام» ، ولهذا اختار بعض العلماء في التسليمة الأولى من الصلاة: سلام عليكم، وفي الثانية: السّلام عليكم وذلك المختار في كلام العرب فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا نعت لأخذ. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس «وبيلا» أي شديدا. قال أبو جعفر: يقال كلأ مستوبل أي لا يستمرأ. قال الفراء «4» : وفي قراءة ابن مسعود: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً قال أبو جعفر: وهذه القراءة على التفسير، وفي يجعل ضمير يعود على اليوم،

_ (1) البيت غير موجود في معاني الفراء، ولم أجده في المصادر التي بين يديّ. (2) الشاهد لحميد بن ثور في ديوانه ص 54، ولسان العرب (هيب) و (فلا) ، والتنبيه والإيضاح 1/ 153، وبلا نسبة في تاج العروس (هيب) و (فلا) . (3) الشاهد للمثقّب العبدي في ديوانه 200، ولسان العرب (دكك) ، و (دربن) و (طين) ، وجمهرة اللغة 1324، وتاج العروس (دكك) و (دربن) ، و (طين) ، وشرح اختيارات المفضّل ص 1264، ومقاييس اللغة 2/ 258، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 14/ 247، ومجمل اللغة 2/ 282، والمخصص 14/ 42، وجمهرة اللغة 680. [.....] (4) انظر معاني الفراء 3/ 198.

[سورة المزمل (73) : آية 18]

ويجوز أن يكون الضمير يعود على اسم الله ويكون في الكلام حذف أي يجعل الولدان فيه شيبا. [سورة المزمل (73) : آية 18] السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ولم يقل: منفطرة والسماء مؤنثة في هذا ثلاثة أقوال: قال الخليل رحمه الله: وهو كما تقول معضّل يريد على النسب، وقيل: حمل التذكير على معنى السقف، والقول الثالث قول الفراء «1» إن السماء تؤنث وتذكّر فجاء هذا على التذكير، وأنشد: [الوافر] 510- فلو رفع السّماء إليه قوما ... لحقنا بالنّجوم مع السحاب «2» كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا أي ليس لوعده خلف، وقد وعد بكون هذه الأشياء في القيامة. [سورة المزمل (73) : آية 19] إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ أي هذه الأشياء التي تكون في القيامة عظة وقال قتادة: يعني القرآن. فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا قال: أي بطاعتهم. [سورة المزمل (73) : آية 20] إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ عطف على ثلثي الليل، وهي قراءة الحسن وأبي عمرو وأبي جعفر وشيبة ونافع، وقرأ عاصم والأعمش وحمزة والكسائي نِصْفَهُ وَثُلُثَهُ «3» عطفا على أدنى، وقرأ ابن كثير وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ حذف الضمة لثقلها واختار أبو عبيد الخفض واحتجّ أن بعده عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ قال: فكيف يقومون نصفه؟ قال أبو جعفر: القراءتان قد قرأ بهما الجماعة، وتقدير الخفض ويا قوم أدنى من نصفه وأدنى من ثلثه. وتقدير النصب أدنى من ثلثي الليل وذلك أكثر من النصف مرة وتقوم نصفه مرة وتقوم ثلثه مرة والاحتجاج بعلم أن لن تحصوه لا معنى له لأنه لم يخبر أنّهم قالوا: قمنا نصفه

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 199. (2) مرّ الشاهد رقم 466. (3) انظر تيسير الداني 175، والبحر المحيط 8/ 358.

وإنما أخبر بحقيقة ما يعلمه، وقد عكس الفراء «1» قوله فاختار النصب لأن المعنى عنده عليه أولى لأنه يستبعد وأقلّ من نصفه: لأنه إنما يبين القليل عنده لا أقلّ القليل، ولو كان كما قال لكان نصفه بغير واو حتى يكون تبيينا لأدنى، والسلامة من هذا عند أهل الدين إذا صحّت القراءتان عن الجماعة أن لا يقال إحداهما أجود من الأخرى لأنهما جميعا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيأثم من قال ذلك. وكان رؤساء الصحابة رحمهم الله ينكرون مثل هذا وقد أجاز الفراء «2» . إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ نصب «ثلثه» عطفا على «أدنى» وخفض نِصْفَهُ عطفا على ثُلُثَيِ اللَّيْلِ واحتجّ بالحديث: انتهت صلاة النبي إلى ثلث الليل «3» وهذا أيضا مما يكره أن تعارض به قراءة الجماعة بما لم يقرأ به وبحديث إن صح لم تكن فيه حجّة وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ احتجّ بعض العلماء بهذا واستدل على أن صلاة الليل ليست بفرض. قال: ولو كانت فرضا لقاموا كلّهم. وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي يقدّر ساعاتهما وأوقاتهما عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ قال الحسن وسعيد بن جبير: أن لن تطيقوه، وقال الفراء: أن لن تحفظوه فَتابَ عَلَيْكُمْ رجع لكم إلى ما هو أسهل عليكم. والتوبة في اللغة الرجوع فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى والتقدير عند سيبويه أنّثه وذكّر سيكون لأنه تأنيث غير حقيقي وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عطف على «مرضى» وكذا وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ فلهذا استحبّ جماعة من العلماء من العلماء قيام الليل، ولو كان أدنى شيء والحديث فيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مؤكد. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال ابن زيد: النوافل سوى الزكاة. وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً أي مما أنفقتم ونصبت «خيرا» لأنه خبر «تجدوه» وهُوَ زائدة للفصل وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ أي من ذنوبكم وتقصيركم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ أي على سائر عقوبة من تاب رَحِيمٌ به لا يعذّبه بعد التّوبة.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 199. (2) انظر معاني الفراء 3/ 199. (3) انظر تفسير الطبري 19/ 33.

74 شرح إعراب سورة المدثر

74 شرح إعراب سورة المدّثّر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المدثر (74) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) الأصل المتدثر أدغمت التاء في الدال لأنها من موضع واحد. قال إبراهيم النخعي: كان متدثّرا بقطيفة. وقال عكرمة: أي دثّرت هذا الأمر فقم به. [سورة المدثر (74) : آية 2] قُمْ فَأَنْذِرْ (2) قال قتادة: أي أنذر عذاب الله وقائعه بالأمم. قال أبو جعفر: فالتقدير على قول قتادة فأنذرهم بهذه الأشياء ثم حذف هذا للدلالة. [سورة المدثر (74) : آية 3] وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) أي عظّمه بعبادته وحده، وهو نصب بكبّر. [سورة المدثر (74) : الآيات 4 الى 5] وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) نصب بطهّر وَالرُّجْزَ نصب ب فاهجر ولو كانت في الأفعال الهاء لكان النصب أولى أيضا لأن الأمر بالفعل أولى. [سورة المدثر (74) : آية 6] وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلا تَمْنُنْ جزم بالنهي، وأظهرت التضعيف لسكون الثاني ولو كان في الكلام لجاز لا تمنّ بفتح النون وكسرها وضمها، وروى حصيف عن مجاهد قال: لا تَمْنُنْ لا تضعف، قال أبو جعفر: ويكون مأخوذا من المنين وهو الضعيف، ويكون التقدير ولا تضعف أن تستكثر من الخير فحذفت «أن» ورفع الفعل، وقال ابن زيد: ولا تمنن على الناس بتأدية الرسالة لتستكثر منهم. قال أبو جعفر: وأولى ما قيل في المعنى والله جلّ وعزّ أعلم- ولا تَمْنُنْ بطاعتك وتأديتك الرسالة تَسْتَكْثِرُ ذلك، وهذا معنى

[سورة المدثر (74) : آية 7]

قول الحسن «1» . قال أبو جعفر: فقلنا: هذا أولى لأنه أشبه بسياق الكلام لأن في الكلام تحذيرا وأمرا بالصبر والجدّ في الطاعة. [سورة المدثر (74) : آية 7] وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) أي على طاعته. [سورة المدثر (74) : آية 8] فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) اسم ما لم يسمّ فاعله على قول سيبويه: في الناقور، وعلى قول أبي العباس مضمر دل عليه الفعل. [سورة المدثر (74) : الآيات 9 الى 10] فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) فَذلِكَ مبتدأ يَوْمَئِذٍ يكون بدلا منه وفتح لأنه مبني كما قرئ مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ [المعارج: 11] ، ويجوز أن يكون منصوبا بمعنى أعني، يَوْمٌ خبر الابتداء عَسِيرٌ من نعته وكذا غَيْرُ يَسِيرٍ. [سورة المدثر (74) : آية 11] ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) مَنْ في موضع نصب على أنها مفعول معه أو عطف على النون والياء وَحِيداً نصب على الحال. [سورة المدثر (74) : آية 12] وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) لَهُ في موضع المفعول الثاني. [سورة المدثر (74) : آية 13] وَبَنِينَ شُهُوداً (13) لما تحرّكت حذفت ألف الوصل، وعلى هذا قالوا: في النسب بنويّ وأجاز سيبويه «2» : «ابنيّ» ، ومنعه بعض الكوفيين. [سورة المدثر (74) : آية 14] وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) مصدر مؤكّد. [سورة المدثر (74) : الآيات 15 الى 16] ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) كَلَّا ردّ لطعمه وردع له إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً بمعنى معاند. [سورة المدثر (74) : آية 17] سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17)

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 364. (2) انظر الكتاب 3/ 395.

[سورة المدثر (74) : الآيات 18 إلى 19]

روى عطية عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يكلّف صعود عقبة إذا جعل يده عليها ذابت وإذا جعل رجله عليها ذابت» «1» . [سورة المدثر (74) : الآيات 18 الى 19] إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) أي فكّر في ردّ آيات الله جلّ وعزّ، وقد رجع مرة بعد مرة ينظر هل يقدر أن يردّها وهو الوليد بن المغيرة بلا اختلاف. قال قتادة: زعموا أنه فكر فيما جاء به النبي فقال: والله ما هو بشعر، وإن له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وما هو عندي إلا سحر. فأنزل الله تعالى: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) قال أبو جعفر: قول الفراء قتل بمعنى لعن. قال أبو جعفر: هذا يجب على كلام العرب أن يكون قتل بمعنى أهلك لأن المقتول مهلك. [سورة المدثر (74) : الآيات 21 الى 22] ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) أي قبض بين عينيه وقطّب لمّا عسر عليه الردّ على النبي صلّى الله عليه وسلّم. [سورة المدثر (74) : آية 23] ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) ثُمَّ أَدْبَرَ عن الحق وَاسْتَكْبَرَ فأخبر الله بجهله أنه تكبّر أن يصدّق بآيات الله ورسوله بعد أن يتهيأ له ردّ ما جاء به، ولم يتكبّر أن يسجد لحجارة لا تنفع ولا تضر. [سورة المدثر (74) : الآيات 24 الى 25] فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) لما لم يجد حجّة كفر ثم قال إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) فزاد في جهله ما لم يخف لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قد تحدّاهم وهم عرب مثله على أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا عن ذلك، ولو كان قول البشر لساغ لهم ما ساغ له. [سورة المدثر (74) : آية 26] سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) قيل: لم ينصرف لأنها اسم لمؤنث، وقيل: إنها اسم أعجمي والأول الصّواب لأن الأعجمي إذا كان على ثلاثة أحرف انصرف وإن كان متحرّك الأوسط، وأيضا فإنه اسم عربيّ مشتقّ يقال: سقرته الشمس إذا أحرقته، والسّاقور حديدة تحمى ويكوى بها الحمار. [سورة المدثر (74) : آية 27] وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) الجملة في موضع نصب بإدراك إلّا أن الاستفهام لا يعلم فيه ما قبله. [سورة المدثر (74) : آية 28] لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) يقال: لم حذفت الواو من «تذر» ؟ وإنما تحذف في «يذر» ؟ فإن قيل: أصله يفعل

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 366.

[سورة المدثر (74) : آية 29]

قيل: فتح وليس فيه حرف من حروف الحلق؟ فالجواب قاله ابن كيسان: لمّا كان يذر بمعنى يدع في أنه لا ينطق منه بماضي ومعناهما واحد اتبعوه إياه. [سورة المدثر (74) : آية 29] لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) على إضمار مبتدأ أي هي لوّاحة للبشر أي للخلق، ويجوز أن يكون جمع بشرة. [سورة المدثر (74) : آية 30] عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) في موضع رفع بالابتداء إلا أنه فتح لأن واو العطف حذفت منه فحرّك بحركتها، وقيل: ثقل فأعطي أخفّ الحركات لأنهما اسمان في الأصل واختلف النحويون في النسب إليهما فمذهب سيبويه «1» وجماعة من النحويين أنك إذا نسبت إليهما حذفت الثاني ونسبت إلى الأول فقلت: تسعيّ، وأحدي إلى أحد عشر وبعلي في النسب إلى بعلبكّ، والقول الآخر أن النسب إليهما جميعا لا غير وأنه يقال تسعة عشريّ وبعلبكيّ وردّ أبو العباس أحمد بن يحيى القول الأول وقال: هما اسمان يؤدّيان عن معنى فإذا أسقطت الثاني ذهب معناه ولم يجز إلا النسب إليهما جميعا، واحتجّ بما أجمع عليه النحويون من قولهم: هذا حبّ رمانيّ وجحر ضبيّ فأضاف إلى الثاني ولم يحذف، وكذا هذا أبو عمريّ. قال أحمد بن يحيى: فهذا في النسب أوكد. يعني هذا تسعة عشريّ ومعدي كربيّ وبعلبكيّ. وأجاز الفراء «2» : جاءني أحد عشر بإسكان العين، وكذا ثلاثة عشر إلى تسعة عشر، ولا يجيز هذا في اثني عشر لئلا يجمع بين ساكنين، ولا يجيزه في المؤنّث لئلا يجمع بين ساكنين. قال أبو جعفر: والذي قاله لا يبعد قد روي عن أبي جعفر أنه قرأ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ «3» . [سورة المدثر (74) : الآيات 31 الى 32] وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) أَصْحابَ جمع صاحب على حذف الزائد لأن أفعالا ليس بجمع فاعل بغير حذف، وأفعال جمع ثمانية أمثلة ليس منها فاعل ولا فعل وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي شدّة وتعبدا ليكفروا فيعلموا أن الله قادر على تقوية هؤلاء الملائكة وتأييدهم لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لام كي وأصلها أنها لام الخفض لأن المعنى: لاستيقان الذين

_ (1) انظر الكتاب 3/ 412. (2) انظر معاني الفراء 3/ 203. (3) انظر المحتسب 2/ 338، والبحر المحيط 8/ 368.

[سورة المدثر (74) : الآيات 33 إلى 34]

أوتوا الكتاب وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً عطف على الأول، وكذا وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ثم أعيدت اللّام، ولو لم يؤت بها لجاز في وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا «ما» في موضع نصب بأراد، وهي وذا بمنزلة شيء واحد فإن جعلت «ذا» بمعنى الذي فما في موضع رفع بالابتداء وذا خبره وما بعده صلة له كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ الكاف في موضع نصب نعت لمصدر. وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ رفع بيعلم، ولا يجوز النصب على الاستثناء، وكذا وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ قال مجاهد: أي وما النار إلا ذكرى للبشر، وذكر محمد بن جرير أن التمام كَلَّا على أن المعنى ليس القول على ما قال المشرك لأصحابه المشركين أنا أكفيكم أمر خزنة النار وَالْقَمَرِ قسم أي وربّ القمر. [سورة المدثر (74) : الآيات 33 الى 34] وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) «1» قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وأبي جعفر وشيبة وابن كثير وأبي عمرو وعاصم، وقرأ الحسن وابن محيصن وحمزة ونافع وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ. قال أبو جعفر: الصحيح أن دبر وأدبر بمعنى واحد. على هذا كلام أهل التفسير وأكثر أهل اللغة. و «إذا» للمستقبل و «إذ» للماضي. وأما قول أبي عبيد أنه يختار «إذا دبر» لأن بعده وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ لأن الله تعالى يقسم بما شاء ولا يتحكّم في ذلك بأن يكونا جميعا مستقبلين أو ماضيين. [سورة المدثر (74) : آية 35] إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) أن إن النار لإحدى الأمور العظام قال أبو رزين: «إنها» أي إن جهنّم والْكُبَرِ بالألف واللام لا يجوز حذفهما عند أحد من النحويين، ولم يجيء في كلام العرب شيء من هذا بغير الألف واللام إلّا أخر، ولذلك منعت من الصرف. [سورة المدثر (74) : آية 36] نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) قال الحسن: ليس نذير أدهى من النار أو معنى هذا. قال أبو رزين: يقول الله تعالى أنا نذير للبشر، وقال ابن زيد: محمد صلّى الله عليه وسلّم نذير للبشر. قال أبو جعفر: فهذه أقوال أهل التأويل وقد يستخرج الأقراب منها. وفي نصب نذير سبعة أقوال: يكون حالا من المضمر في «أنا» ، ويجوز أن يكون حالا من إحدى الكبر. وهذان القولان مستخرجان من قول الحسن لأنه جعل النار هي المنذرة، ويجوز أن يكون التقدير: وما يعلم جنود ربّك إلا هو نذيرا للبشر، ويجوز أن يكون التقدير: صيّرها الله جلّ وعزّ

_ (1) انظر تيسير الداني 176، وكتاب السبعة لابن مجاهد 659، والبحر المحيط 8/ 369. [.....]

[سورة المدثر (74) : آية 37]

كذلك نذيرا للبشر، وهذان القولان مستخرجان من قول أبي رزين وقال الكسائي: أي قم نذيرا. وهذا يرجع إلى قول ابن زيد. ويجوز أن يكون نذير بمعنى إنذار كما قال: «فكيف كان نذير» «1» ويكون التقدير: وما جعلنا أصحاب النار إلّا ملائكة إنذارا. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: يكون التقدير: أعني نذيرا. قال أبو جعفر: وحذف الياء من نذير إذا كان للنار بمعنى النسب. [سورة المدثر (74) : آية 37] لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) بدل بإعادة اللام، ولو كان بغير اللام لجاز. [سورة المدثر (74) : آية 38] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) رَهِينَةٌ محمول على المعنى، ولو كان على اللفظ كان رهين. [سورة المدثر (74) : الآيات 39 الى 42] إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) نصب على الاستثناء وقد صحّ عن رجلين من أصحاب النبي أنه يراد بأصحاب اليمين هاهنا الملائكة والأطفال، ويدلّ على هذا أن بعده يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ فهذا كلام من لم يعمل خطيئة، وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال سمعت ابن الزبير يقرأ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ يا فلان ما سلكك في سقر وهذه القراءة على التفسير، والإسناد بها صحيح. [سورة المدثر (74) : الآيات 42 الى 44] ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ حذفت النون لكثرة الاستعمال ولو جيء بها لكان جيدا في غير القرآن، وقال محمد بن يزيد: أشبهت النون التي تحذف في الجزم في قولنا: يقومان ويقومون، وقال أحمد بن يحيى ثعلب: أخطأ، ولو كان كما قال لحذفت في قولنا: لم يصن زيد نفسه. [سورة المدثر (74) : الآيات 45 الى 47] وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ جيء بالكاف مضمومة ليدلّ ذلك على أنها من ذوات الواو فنقل فعل إلى فعل، وكذا وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ أي إلى أن و «أن» مضمرة بعد «حتى» . [سورة المدثر (74) : آية 48] فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) أي ليس يشفع فيهم الشافعون ودلّ بهذا على أن الشفاعة تنفع غيرهم.

_ (1) هذه ليست آية وإنما الآية فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك: 17] .

[سورة المدثر (74) : آية 49]

[سورة المدثر (74) : آية 49] فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) منصوب على الحال. [سورة المدثر (74) : آية 50] كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) قراءة أهل المدينة والحسن، وقراءة ابن كثير وعاصم والأعمش وحمزة وأبي عمرو مُسْتَنْفِرَةٌ «1» وعن الكسائي القراءتان جميعا. قال أبو جعفر: «مستنفرة» في هذا أبين أي مذعورة ومستنفرة مشكل لأن أكثر ما يستعمل استفعل إذا استدعى الفعل، كما تقول: استسقى إذا استدعى أن يسقى والحمر لا تستدعي هذا، ولكن مجاز القراءة أن يكون استنفر بمعنى نفر فيكون المعنى نافرة. [سورة المدثر (74) : آية 51] فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) فعولة من القسر. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا ما قال أهل التفسير فيها. [سورة المدثر (74) : آية 52] بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً على تأنيث الجماعة ووحّد لأنه أكثر في العدد. [سورة المدثر (74) : آية 53] كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) لا يجوز إلا الإدغام لأن الأول ساكن. [سورة المدثر (74) : آية 55] فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) أي إنّ القرآن. [سورة المدثر (74) : آية 56] وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) «وما تذكرون» قراءة نافع على تحويل المخاطبة، وأكثر الناس يقرأ وَما يَذْكُرُونَ ليكون مردودا على ما تقدّم وما تشاؤون إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ على حذف المفعول لعلم السامع هُوَ أَهْلُ التَّقْوى مبتدأ وخبره وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ أعيدت «أهل» للتوكيد والتفخيم، ولو لم تعد لجاز.

_ (1) انظر تيسير الداني 176، والبحر المحيط 8/ 74.

75 شرح إعراب سورة القيامة

75 شرح إعراب سورة القيامة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القيامة (75) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) كذا يقرأ أكثر القراء، وعن الحسن والأعرج «لأقسم بيوم القيامة» «1» على أنها لام قسم لا ألف فيها قال أبو جعفر: وهذا لحن عند الخليل وسيبويه وإنما يقال بالنون: لأقومن والقراءة الأولى فيها أقوال منها أنّ «لا» زائدة للتوكيد مثل ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12] وهذا القول عند الفراء «2» خطأ من جهتين: إحداهما أن «لا» إذا كانت زائدة لم يبتدأ بها، والأخرى أنه أن «لا» إنما تزاد في النفي، كما قال: [البسيط] 511- ما كان يرضى رسول الله فعلهما ... والطيّبان أبو بكر ولا عمر «3» أي أبو بكر وعمر و «لا» زائدة. قال أبو جعفر: أما قوله إنّ «لا» لا تزاد في أول الكلام فكما قال، لا اختلاف فيه لأن ذلك يشكل ولكنه قد عورض فيما قال، كما سمعت علي بن سليمان يقول، إن هذا القول صحيح. يعني قول من قال إن «لا» زائدة قال: وليس قوله بأنها في أول الكلام مما يردّ هذا القول لأن القرآن كلّه بمنزلة سورة واحدة، وعلى هذا نظمه ورصفه وتأليفه. وقد صحّ عن ابن عباس: أن الله جلّ وعزّ أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في شهر رمضان ثم نزل متفرّقا من السماء، وإنما يردّ هذا الحديث أهل البدع. قال أبو جعفر: وأما قول الفراء إنّ «لا» لا تزاد إلا في النفي فمخالف فيه. حكى ذلك من يوثق بعلمه من البصريين منهم أبو عبيدة «4» . وأنشد: [الرجز] 512- في بئر لا حور سرى وما شعر «5»

_ (1) انظر تيسير الداني 176، والمحتسب 2/ 341. (2) انظر معاني الفراء 3/ 207. (3) الشاهد لجرير في ديوانه 263، والكامل 125، وبلا نسبة في رصف المباني 273 ولسان العرب (لا) . (4) انظر مجاز القرآن 1/ 25. (5) الرجز للعجاج في ديوانه 20، والأزهيّة 154، والأشباه والنظائر 2/ 164، وخزانة الأدب 4/ 51، وشرح المفصل 8/ 136 وتاج العروس (حور) و (لا) ، وتهذيب اللغة 5/ 228، وبلا نسبة في لسان العرب (حور) و (غير) ، وخزانة الأدب 11/ 224، والخصائص 2/ 477، وجمهرة اللغة 525، ومجمل اللغة 2/ 120.

[سورة القيامة (75) : آية 2]

قال: يريد في بئر حور أي هلكة فزاد «لا» في الإيجاب، وخالفه الفراء في هذا فجعل «لا» نفيا هاهنا أي في بئر لا ترد شيئا وزعم الفراء «1» أن «لا» من قوله «لا أقسم» ردّ لكلامهم كما تقول: لا والله ما أفعل فالوقوف عنده لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) مستأنف. [سورة القيامة (75) : آية 2] وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) لا اختلاف في هذا أن الألف فيه بعد «لا» فقول الحسن أنّ «لا» نافية وقد بيّنا قول غيره. [سورة القيامة (75) : آية 3] أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) وقراءة الكوفيين أَيَحْسَبُ والماضي حسب بلا اختلاف فالقياس في المستقبل يحسب إلا أنه روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الكسر «2» . [سورة القيامة (75) : آية 4] بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) قادِرِينَ في موضع نصب، وفي نصبه أقوال: منها أنه قيل: التقدير: بلى نقدر فلمّا حوّل نقدر إلى قادرين نصب كما قال الفرزدق: [الطويل] 513- على حلفة لا أشتم الدّهر مسلما ... ولا خارجا من فيّ زور كلام «3» بمعنى ولا يخرج فلما حوّل يخرج إلى خارج نصبه. وهذا خطأ لأن لكلّ إعرابه تقول: جاءني زيد يضحك، وجاءني زيد ضاحكا، ومررت برجل يضحك، وبرجل ضاحك، «ولا خارجا» معطوف على موضع «لا أشتم» قال أبو جعفر: هذا أصحّ ما قيل فيه، وقيل التقدير: بلى نقوى على ذلك قادرين، هذا قول الفراء «4» وقال سيبويه: أي بلى نجمعها قادرين. وقول الفراء مستخرج من هذا، وبنان جمع بنانة. ومن حسن ما قيل فيه قول ابن عباس: نحن نقدر أن نجعل بنانه شيئا واحدا كخفّ البعير وحافر

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 207. (2) انظر إعراب الآية 88- النمل. (3) الشاهد للفرزدق في ديوانه 212، والكتاب 1/ 411، وأمالي المرتضى 1/ 63، وتذكرة النحاة 85، وخزانة الأدب 1/ 223 وشرح أبيات سيبويه 1/ 170، وشرح المفصل 2/ 59، ولسان العرب (خرج) والمحتسب 1/ 57، والمقتضب 4/ 313 وبلا نسبة في شرح شافية ابن الحاجب 1/ 177 ولسان العرب (رتج) ، والمقتضب 3/ 269. (4) انظر معاني الفراء 3/ 208.

[سورة القيامة (75) : آية 5]

الحمار فلا يقدر يأكل بها كالبهائم فتفضّل الله جلّ وعزّ عليه وفضّله، وقال الحسن: كنا نقدّر أن نجعل أصابعه قدرا واحدا ولا يكون لها حسن ولا يكاد ينتفع بها. [سورة القيامة (75) : آية 5] بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) هذه لام كي وقولهم لام «إنّ» لا معنى له، ولكن يريد يدلّ على الإرادة أي إرادته ليفجر أمامه. [سورة القيامة (75) : آية 6] يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) التقدير أي وقت يوم القيامة، وفتحت النون من إيان لالتقاء الساكنين. [سورة القيامة (75) : الآيات 7 الى 8] فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) قراءة أبي عمرو وعاصم وشيبة وحمزة والكسائي، وقرأ نصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو جعفر ونافع فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ «1» بفتح الراء ومعنى الكسر بيّن أي حار وفزع من الموت ومن أمر القيامة وبرق ولمع. قال الحسن وقتادة: وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) ذهب ضوءه. [سورة القيامة (75) : آية 9] وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يقال: الشّمس مؤنثة بلا اختلاف فكيف لم يقل، وجمعت ففي هذا أجوبة منها أن التقدير وجمع بين الشمس والقمر فحمل التذكير على بين، وقيل: لما كان وجمع الشمس لا يتمّ به الكلام حتى يقال: والقمر وكان القمر مذكّرا كان المعنى جمعا فوجب أن يذكر فعلهما في التقديم كما يكون في التأخير. وأولى ما قيل فيه قول الكسائي، قال: المعنى: وجمع النوران أي الضياءان وفي موضع آخر: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي [الأنعام: 78] وأما محمد بن يزيد فيقول: هذا كلّه تأنيث غير حقيقي لأنه لم يؤنّث للفرق بين شيء وشيء فلك تذكيره لأنه بمعنى شخص وشيء. [سورة القيامة (75) : آية 10] يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) فهذا مصدر بلا اختلاف أي أين الفرار؟ وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعت ابن عباس يقرأ أَيْنَ الْمَفَرُّ «2» قال أبو جعفر: هذا إسناد مستقيم، وهو عند البصريين اسم للمكان وزعم الفراء «3» : إنه يجيز في المصدر الكسر.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 209، وتيسير الداني 176. (2) انظر مختصر ابن خالويه 16، والبحر المحيط 8/ 377. (3) انظر معاني الفراء 3/ 210. [.....]

[سورة القيامة (75) : آية 11]

[سورة القيامة (75) : آية 11] كَلاَّ لا وَزَرَ (11) وهو الملجأ فقيل: وزير مشتقّ من هذا لأن صاحبه قد سلم إليه أموره فلجأ إليه واعتمد عليه، وقيل: لأن أوزار ما يتقلّده صاحبه بيده والأوزار ما كان من الذهب والفضة وغيرهما. [سورة القيامة (75) : آية 12] إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) قال قتادة: المنتهى. [سورة القيامة (75) : آية 13] يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) من أحسن ما قيل فيه قول قتادة قال: بما قدّم من طاعة الله جلّ وعزّ وأخّر من حقّه ينبأ به كلّه، وقد روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس بما قدّم من خير أو شرّ بعده. [سورة القيامة (75) : آية 14] بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) مشكل الإعراب والمعنى، فقول ابن عباس سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه شاهدة عليه. قال أبو جعفر: فعلى هذا القول الْإِنْسانُ مرفوع بالابتداء وبَصِيرَةٌ ابتداء ثان و «على نفسه» خبر الثاني والجملة خبر الأول. وشرحه بل الإنسان على نفسه من نفسه رقباء تحفظه وتشهد عليه فهذا قول وقول سعيد بن جبير وقتادة: إن الإنسان هو البصيرة. قال سعيد بن جبير: الإنسان والله بصيرة على نفسه، وقال قتادة: تراه والله عارفا بذنب غيره وعيبه متغافلا عن نفسه فعلى هذا القول «الإنسان» مرفوع بالابتداء و «بصيرة» خبره فإن قيل: لم دخلت الهاء والإنسان مذكّر؟ ففيه جوابان أحدهما أن الهاء للمبالغة كما يقال: رجل راوية وعلّامة وقيل: دخلت الهاء لأن المعنى بل الإنسان حجّة على نفسه. [سورة القيامة (75) : آية 15] وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) جمع على غير قياس عند سيبويه «1» لأن عذرا ليس جمعه معاذير وإنما معاذير جمع معذار. [سورة القيامة (75) : الآيات 16 الى 17] لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فيضمن الله جلّ وعزّ جمعه فبهذا كفّر الفقهاء من زعم أنه قد بقي منه شيء لأنه ردّ على ظاهر التنزيل، وسئل سفيان بن عيينة كيف غيّرت التوراة والإنجيل وهما من عند الله؟ فقال: إن الله جلّ وعزّ وكل حفظهما إليهم فقال جل ثناؤه بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ [المائدة: 44] ولم يكل حفظ القرآن إلى أحد

_ (1) انظر الكتاب 3/ 250.

[سورة القيامة (75) : آية 18]

فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] وما حفظه لم يغيّر. [سورة القيامة (75) : آية 18] فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) اختلف العلماء في معنى هذا. فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: فإذا أنزلناه فاستمع له، وقال قتادة: أي فاتبع حلاله وحرامه. ومن حسن ما قيل فيه ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس فَإِذا قَرَأْناهُ قال: يقول: فإذا بيّناه فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ قال: يقول: فاعمل بما فيه. [سورة القيامة (75) : آية 19] ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) قال قتادة: بيان الحلال من الحرام عن ابن عباس بَيانَهُ بلسانك. [سورة القيامة (75) : آية 20] كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) أي الحال العاجلة أو الدنيا العاجلة. [سورة القيامة (75) : آية 21] وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) لأنها بعد الأولى. [سورة القيامة (75) : الآيات 22 الى 23] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وُجُوهٌ رفع بالابتداء ناضِرَةٌ نعت لها وناظِرَةٌ خبر الابتداء، ويجوز أن يكون «ناضرة» خبر «وجوه» وناظِرَةٌ خبرا ثانيا، ويجوز أن يكون ناضرة نعتا لناظرة أو لوجوه ويقال: أجوه وهو جمع للكثير وللقليل أوجه وفي ناظِرَةٌ ثلاثة أقوال: منها أن المعنى منتظرة ومنها أن المعنى إلى ثواب ربّها، ومنها أنها تنظر إلى الله جلّ وعزّ. قال: ويعرف الصواب في هذه الأجوبة من العربية فلذلك وغيره أخّرنا شرحه لنذكره في الإعراب. قال أبو جعفر: أما قول من قال: معناه منتظرة فخطأ. سمعت علي بن سليمان يقول: نظرت إليه بمعنى انتظرته وإنما يقال: نظرته وهو قول إبراهيم بن محمد بن عرفة وغيره ممن يوثق بعلمه وأما من قال: إن المعنى إلى ثواب ربّها فخطأ أيضا على قول النحويين الرؤساء لأنه لا يجوز عندهم ولا عند أحد علمته نظرت زيدا أي نظرت ثوابه. ونحن نذكر الاحتجاج في ذلك من قول الأئمة والعلماء وأهل اللغة إذا كان أصلا من أصول السنة، ونذكر ما عارض به أهل الأهواء ونبدأ بالأحاديث الصحيحة عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا كان المبين عن الله جلّ وعزّ. كما قرئ على أحمد بن شعيب بن علي عن إسحاق بن راهويه ثنا بقيّة بن الوليد ثنا بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن عمرو بن الأسود أن قتادة بن أبي أمية حدثهم عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إني حدّثتكم عن المسيح الدجّال حتى خفت ألّا تعقلوه إنه قصير أفحج جعد أعور مطموس العين اليسرى ليست بناتئة ولا جحرا فإن التبس عليكم فاعلموا أن ربكم

ليس بأعور إنكم لن تروا ربّكم جلّ ثناؤه حتى تموتوا» «1» . قال أحمد بن شعيب: ثنا محمد بن بشار قال: ثنا أبو عبد الصمد ثنا أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس الأشعري عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «جنّتان من فضّة آنيتهما وما فيهما، وجنّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم جلّ ثناؤه إلّا رداء الكبرياء على وجهه في جنّة عدن» «2» . وقرئ على أبي القاسم عبد الله بن محمد البغويّ عن هدبة بن خالد عن حمّاد بن سلمة عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنّة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيّض وجوهنا ويدخلنا الجنّة ويجرنا من النار فيكشف لهم عن الحجاب، فينظرون إلى الله عزّ وجلّ فما شيء أعطوه أحبّ إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة» «3» . قال أبو القاسم وحدّثني جدّي قال: ثنا يزيد بن هارون إن حماد بن سلمة بإسناده مثله. قال أبو القاسم وحدّثني هارون بن عبد الله، قال: سمعت يزيد يعني ابن هارون لما حدّث بهذا الحديث قال: من كذّب بهذا الحديث فهو زنديق أو كافر. قال أبو القاسم: حدثنا عبد الله بن عمر وأبو عبد الرّحمن الكوفي عن حسين بن علي الجعفي عن زائدة ثنا بيان البجليّ عن قيس بن أبي حازم قال: حدثنا جرير قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إنّكم ترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته» «4» يعني القمر. قال حسين الجعفي: على رغم أنف جهيم والمريسي. قال أبو القاسم: وحدّثنا أحمد بن إبراهيم العبدي وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حدّثنا عبد الله بن إدريس ثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدريّ قال: قلنا يا رسول الله أنرى ربّنا جلّ ثناؤه قال: «أتضارون في رؤية الشمس في الظهيرة في غير سحاب؟» قلنا لا. قال: أفتضارّون في رؤية القمر ليلة البدر في غير سحاب؟» قلنا: لا قال: «فإنكم لا تضارّون في رؤيته كما لا تضارّون في رؤيتهما» . قال أبو القاسم: وحدّثت عن أحمد بن حنبل عن يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش. قال: قال الأعمش: لا تضارّون يعني لا تمارون. قال أبو القاسم: وحدّثنا هدبة بن خالد ثنا وهيب بن خالد ثنا مصعب بن محمد عن أبي صالح السمّان عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله أكلنا يرى ربه جل ذكره يوم القيامة؟ قال:

_ (1) انظر تيسير الداني 176 (قرأ الكوفيون ونافع «تحبون» و «تذرون» بالتاء والباقون بالياء) . (2) انظر حلية الأولياء 5/ 157، ومشكاة المصابيح (5485) . (3) أخرجه البخاري في صحيحه 6/ 181، ومسلم في صحيحه، الإيمان 296، وابن ماجة في سننه 186، والحديث في إتحاف السادة المتقين 10/ 524، وتفسير ابن كثير 4/ 115. (4) أخرجه الترمذي في سننه 11/ 269.

«أكلّكم يرى الشّمس نصف النهار وليس في السماء سحابة؟» قالوا نعم. قال: «أفكلكم يرى القمر ليلة البدر وليس في السماء سحابة؟» قالوا: نعم. قال: «فو الذي نفسي بيده لترونّ ربكم جلّ وعزّ يوم القيامة لا تضارّون في رؤيته كما لا تضارون في رؤيتهما» قال أبو القاسم: وحدّثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا أبو أسامة: ثنا الأعمش أخبرني خيثمة بن عبد الرّحمن عن عديّ بن حاتم الطائي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أحد منكم إلّا سيكلّمه ربه جلّ وعزّ ليس بينه وبينه ترجمان ولا حاجب يحجبه فينظر أيمن منه فلا يرى إلّا شيئا قدمه ثم ينظر أشأم منه فلا يرى إلّا شيئا قدمه ثم ينظر أمامه فلا يرى شيئا إلّا النار فاتقوا النار ولو بشقّ تمرة» «1» لم يقل في هذا الحديث عن الأعمش: ولا حاجب يحجبه، إلا أبو أسامة وحده. ومن ذلك ما حدّثناه أحمد بن علي بن سهيل ثنا زهير يعني ابن حرب ثنا إسماعيل عن هشام الدستوائي عن قتادة عن صفوان بن محرّر قال: قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: «يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه جلّ وعزّ حتى يضع عليه كنفه فيقرّره بذنوبه فيقول: هل تعرف فيقول: ربّ أعرف قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم- قال فيعطى صحيفة حسابه وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله» «2» . قال أبو جعفر: وهذا الباب عن أنس وعن أبي رزين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه عن الصحابة رضي الله عنهم منهم أبو بكر الصديق وحذيفة عن التابعين إلا إنّا كرهنا الإطالة إذ كان ما ذكرناه من الحديث كفاية. وقد حدّثنا عبد الله بن أحمد بن عبد السّلام سمعت محمد بن يحيى النيسابوري يقول: السّنّة عندنا وهو قول أئمتنا مالك بن أنس وأبي عبد الرّحمن بن عمر، والأوزاعي وسفيان بن سعيد الثوري وسفيان بن عيينة الهلالي وأحمد بن حنبل وعليه عهدنا أهل العلم أنّ الله جلّ وعزّ يرى في الآخرة بالأبصار يراه أهل الجنة، فأما سواهم من بني آدم فلا قال: والحجة في ذلك أحاديث مأثورة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قيل له: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة وذكر الحديث. قال محمد بن يحيى: وإن الإيمان بهذه الأحاديث المأثورة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رؤية الربّ في القيامة والقدر والشفاعة وعذاب القبر والحوض والميزان والدّجال والرجم ونزول الربّ تبارك وتعالى في كلّ ليلة بعد النصف أو الثلث الباقي والحساب والنار والجنة أنّهما مخلوقتان غير فانيتين، وأنه ليس أحد سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان يترجم له ونحوها من الأحاديث،

_ (1) ذكره ابن كثير في تفسيره 8/ 305. وابن أبي عاصم في السنة 1/ 196، والبغوي في شرح السنة 2/ 224، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 10/ 553. (2) أخرجه الترمذي في صفة القيامة 9/ 252، وابن ماجة باب 13 حديث 185.

والتصديق بها لازم للعباد أن يؤمنوا بها وإن لم تبلغه عقولهم ولم يعرفوا تفسيرها فعليهم الإيمان بها والتسليم بلا كيف ولا تنفير ولا قياس لأن أفعال الله لا تشبّه بأفعال العباد. قال أبو جعفر: فهذا كلام العلماء في كل عصر المعروفين بالسّنة حتى انتهى ذلك إلى أبو جعفر محمد بن جرير، فذكر كلام من أنكر الرؤية واحتجاجه وتمويهه وردّ ذلك عليه وبيّنه ونحن نذكر كلامه «1» نصا إذ كان قد بلغ فيه المراد إن شاء الله فذكر اعتراضهم بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام: 103] فأما قوله جلّ وعزّ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي [الأعراف: 143] فمما لا يحتاج إلى حجّة لأن فيه دليلا على النظر إذ كان موسى صلّى الله عليه وسلّم مع محلّه لا يجوز أن يسأل ما لا يكون فدلّ على أن هذا جائز أن يكون، وكان الوقت الذي سأله في الدنيا، فالجواب أنه لا يراه في الدنيا أحد واحتجّ في تمويههم بقوله عزّ وجلّ لا تدركه الأبصار بقول عطية العوفي في قول الله جلّ وعزّ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قال: هم ينظرون إلى الله عزّ وجلّ لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره يحيط بهم فذلك قوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ قال: واعتلّ قائلو هذه المقالة بقوله جلّ وعزّ: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ [يونس: 90] والغرق غير موصوف بأنه رآه قالوا: فمعنى «لا تدركه الأبصار» من معنى لا تراه بعيدا لأن الشيء قد يدرك الشيء ولا يراه مثل «حتّى إذا أدركه الغرق» فكذا قد يرى الشيء الشيء ولا يدركه ومثله: قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61] وقد كان أصحاب فرعون رأوهم ولم يدركوهم وقد قال جلّ ثناؤه لا تَخافُ دَرَكاً [طه: 77] فإذا كان الشيء قد يرى الشيء لا يدركه ويدركه ولا يراه علم أنّ «لا تدركه الأبصار» من معنى لا تراه الأبصار بمعزل، وأن معنى ذلك لا تحيط به الأبصار لأن الإحاطة به غير جائزة. والمؤمنون وأهل الجنة يرون ربهم جلّ وعزّ ولا تدركه أبصارهم بمعنى لا تحيط به إذ كان غير جائز أن يكون يوصف الله بأن شيئا يحيط به ونظير جواز وصفه بأنه يرى ولا يدرك جواز وصفه بأنه يعلم ولا يحاط به. قال تبارك وتعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ [البقرة: 255] ومعنى العلم هنا المعلوم فلم يكن في نفيه عن خلقه أن يحيطوا بشيء من علمه إلا بما شاء نفي عن أن يعلموه وإنما هو نفي الإحاطة به، كذا ليس في نفي إدراك الله جلّ وعزّ البصر في رؤيته له نفي رؤيته له فكما جاز أن يعلم الخلق شيئا ولا يحيطون به علما كذا جاز أن يروا ربهم بأبصارهم ولا تدركه أبصارهم إذ كان معنى الرؤية غير معنى الإدراك، ومعنى الإدراك غير معنى الرؤية لأن معنى الإدراك الإحاطة كما قال ابن عباس: لا تحيط به الأبصار وهو يحيط بها. فإن قيل: وما أنكرتم أن يكون معنى «لا تدركه الأبصار» لا

_ (1) أخرجه ابن ماجة في سننه باب 13 الحديث 183.

تراه؟ قلنا له: أنكرنا ذلك لأن الله أخبر في كتابه أن وجوها في القيامة إلى الله سبحانه ناظرة، وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم سيرون ربهم جلّ وعزّ يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر وكما يرون الشمس ليس دونها سحابة. فكتاب الله يصدّق بعضه بعضا، فعلم أن معنى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ غير معنى إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. قال: وقيل المعنى لا تدركه أبصار الخلق في الدنيا وتدركه في الآخرة فجعلوا هذا مخصوصا. قال «1» : وقيل: المعنى لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة وتدركه أبصار المؤمنين، وقيل: «لا تدركه الأبصار» بالنهاية والإحاطة. فأما الرؤية فنعم، وقيل: لا تدركه الأبصار كإدراكه الخلق، لأن أبصارهم ضعيفة، وقال آخرون: الآية على العموم ولن يدرك الله جلّ ثناؤه بصر أحد في الدنيا والآخرة، ولكن الله جلّ وعزّ يحدث لأوليائه يوم القيامة حاسة سادسة سوى حواسهم الخمس فيرونه بها. والصواب من القول في ذلك عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم سترون ربكم فالمؤمنون يرونه والكافرون عند يومئذ محجوبون» «2» . ولأهل هذه المقالة أشياء يلبسون بها فمنهم من يدفع الحديث مكابرة وطعنا على أهل الإسلام، ومنهم من يأتي بأشياء نكره ذكرها. قال محمد بن جرير: وإنما ذكرنا هذا ليعرف من نظر نعني فيه أنهم لا يرجعون من قولهم إلّا إلى ما لبّس عليهم الشيطان مما يسهل على أهل الحق البيان عن فساده، ولا يرجعون في قولهم إلى آية من التنزيل، ولا رواية عن الرسول صحيحة ولا سقيمة، فهم في الظلماء يخبطون وفي العمياء يترددون نعوذ بالله من الحيرة والضلالة. قال أبو جعفر: فأما شرح «تضارون» واختلاف الرواية فيه فنمليه. فيه ثمانية أوجه: يروى «تضارون» بالتخفيف و «تضامون» مخففا، ويجوز تضامّون وتضامّون بضم التاء وتشديد الميم والراء، ويجوز تضامّون على أن الأصل تتضامّون حذفت التاء كما قال جلّ وعزّ وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] ، ويجوز تضّامّون تدغم التاء في الضاد، ويجوز تضارّون على حذف التاء، ويجوز تضّارّون على إدغام التاء في الضاد والذي رواه المتقنون مخفّف تضامون وتضارون. سمعت أبا إسحاق يقول: معناه لا ينالكم ضيم ولا ضير في رؤيته أي ترونه حتى تستووا في الرؤية فلا يضيم بعضكم بعضا، ولا يضير بعضكم بعضا وقال أهل اللغة قولين آخرين قالوا: لا تضارّون بتشديد الراء، ولا تضامّون بتشديد الميم مع ضم التاء، وقال بعضهم: بفتح التاء وتشديد الراء والميم على معنى تتضامّون وتتضارّون، ومعنى هذا أنه لا يضار بعضكم بعضا أي لا يخالف بعضكم بعضا في ذلك. يقال ضاررت فلانا أضارّه مضارّة وضرارا إذا خالفته. ومعنى لا تضامّون في رؤيته أنه لا يضمّ بعضكم إلى بعض فيقول واحد للآخر أرنيه كما يفعلون عند النظر إلى الهلال.

_ (1) انظر تفسير الطبري 7/ 299. (2) انظر تفسير الطبري 7/ 302.

[سورة القيامة (75) : آية 24]

قال أبو جعفر: الذي ذكرناه من تفسير الأعمش أن معناه لا تضارّون يوجب أن تكون روايته لا تضارّون والأصل لا تضارون ثم أدغمت الراء في الراء، ومن قال معناه لا تضارّون فالأصل عنده لا تضارون ثم أدغم، وهذا كله من ضارّه إذا خالفه كما حكاه أبو إسحاق وخالفه وما رآه واحد. ويقال: نضر وجهه نضرا ونضارة ونضرة ونضره الله ينضره وأنضره ينضره من الإشراق والنعمة وحسن العيش والغنى. [سورة القيامة (75) : آية 24] وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) مبتدأ وخبره. [سورة القيامة (75) : آية 25] تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) ولا يجوز رفع يفعل وجاز في وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ [المائدة: 71] لأن «لا» عوض، والفاقرة الداهية والأمر العظيم. [سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 27] كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) كَلَّا تكون بمعنى حقا، وتكون مبتدأ على هذا هاهنا. وزعم محمد بن جرير «1» أن التمام هنا «كلا» وأن المعنى ليس الأمر كما يقول المشركون من أنهم لا يجازون على شركهم ومعصيتهم إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ يكون العامل في إذا «باسرة» أو «بلغت» فإذا كان العامل فيها «بلغت» كان الجواب فيما بعد وحذفت الياء من مَنْ راقٍ «2» لسكونها وسكون التنوين وأثبتت في التراقي لأنه لا تنوين فيه. [سورة القيامة (75) : آية 30] إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) في موضع جواب إذا. [سورة القيامة (75) : الآيات 31 الى 32] فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى لا هاهنا نفي، وليست بعاطفة، ولا يجوز عند النحويين: ضربت زيدا لا ضربت عمرا، والعلّة في ذلك أنه كره أن يشبه الثاني الدعاء. وفي الآية المعنى لم يصدّق ولم يصلّ يدل على هذا وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. [سورة القيامة (75) : آية 33] ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أي ذهب معرضا عن طاعة الله جلّ وعزّ متهاونا بالموعظة ويَتَمَطَّى في موضع نصب على الحال.

_ (1) انظر تفسير الطبري 29/ 162. (2) انظر البحر المحيط 8/ 381.

[سورة القيامة (75) : الآيات 34 إلى 35]

[سورة القيامة (75) : الآيات 34 الى 35] أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) يقال لمن وقع في هلكة أو قاربها. [سورة القيامة (75) : آية 36] أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) في موضع نصب أيضا على الحال، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أن معنى «أن يترك سدّى» يقول مهملا. [سورة القيامة (75) : آية 37] أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) على تذكير المني، وهو أقرب إليه و «تمنى» «1» للنطفة. [سورة القيامة (75) : آية 38] ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) أي فخلقه الله جلّ وعزّ فسوّاه بشرا ناطقا سميعا بصيرا. [سورة القيامة (75) : آية 39] فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) قيل: المعنى فجعل من الإنسان أولادا ذكورا وإناثا، الذكر والأنثى على البدل من الزوجين. [سورة القيامة (75) : آية 40] أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) فدلّ جلّ وعزّ دلالة بيّنة أنّ إحياءه إيّاه بعد الموت ليس بأكثر من خلقه إياه من نطفة ثم سوّاه إنسانا إلى أن ولد له، وأجاز الفراء «2» عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بقلب حركة الياء الأولى على الحاء ويدغم الياء في الياء. وهذا خطأ عند الخليل وسيبويه «3» والعلّة في ذلك، وهو معنى كلام أبي إسحاق أنك إذا قلت: «يحيي» لم يجز الإدغام بإجماع النحويين لئلا يلتقي ساكنان فإذا قلت: أن يحيي لم يجز الإدغام أيضا لأن الياء وإن كانت قد تحركت فحركتها عارضة وأيضا فكيف يجوز أن يكون حرف واحد يدغم في موضع لعامل دخل عليه غير ملازم، ولا يجوز أن يدغم وهو في موضع رفع، والرفع الأصل.

_ (1) انظر تيسير الداني 176. (2) انظر معاني الفراء 3/ 213. [.....] (3) انظر الكتاب 4/ 540.

76 شرح إعراب سورة هل أتى [الإنسان]

76 شرح إعراب سورة هل أتى [الإنسان] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) الإنسان الأول عند أهل التفسير يراد به آدم عليه السّلام، وقد يجوز أن يراد به الجنس والثاني للجنس لا غير. والنطفة عند العرب الماء القليل في وعاء أَمْشاجٍ من نعت نطفة على غير حذف، في قول من قال: الأمشاج العروق التي تكون في النطفة كما تقول: الإنسان أعضاء مجموعة، ومن قال: الأمشاج ماء الرجل وماء المرأة فهو على هذا أيضا سماها جميعا نطفة، وهما يختلطان ويخلق الإنسان منهما. ومن قال: الأمشاج العلقة والمضغة فالتقدير عنده من نطفة ذات أمشاج. وواحدتهما مشيج مثل شريف وأشراف، ويقال: مشج مثل عدل وأعدال نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً قال الفراء: هو على التقديم والتأخير، والمعنى عنده جعلنا الإنسان سميعا بصيرا لنبتليه أي لنختبره. وقال من خالفه في هذا: هو خطأ من غير جهة فمنها أنه لا يكون مع الفاء تقديم ولا تأخير لأنها تدلّ على أن الثاني بعد الأول، ومنها أن الإنسان إنما يبتلى أي يختبر ويؤمر وينهى إذا كان سوي العقل كان سميعا بصيرا ولم يكن كذلك، ومنها أن سياق الكلام يدلّ على غير ما قال: وليس في الكلام لام كي، وإنما سياق الكلام تعديد الله جلّ وعزّ نعمه علينا ودلالته إيّانا على نعمه. [سورة الإنسان (76) : آية 3] إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) منصوبان على الحال أي إنّا خلقنا الإنسان شاكرا أو كفورا. ومعنى إمّا أو وإن كانت تجيء في أول الكلام ليدلّ على المعنى ويدلك على ذلك قول أهل التفسير أن المعنى إنّا هديناه السبيل إما شقيّا وإما سعيدا والشقاء والسعادة بفرع منهما وهو في بطن أمه وهكذا خبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هي حال مقدرة، وأجاز الفراء «1» أن يكون «ما»

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 389.

[سورة الإنسان (76) : آية 4]

هاهنا زائدة وتكون «أن» للشرط والمجازاة على أن يكون المعنى إنّا هديناه السبيل إن شكر أو كفر. قال أبو جعفر: وهذا القول ظاهره خطأ لأن «إن» التي للشرط لا تقع على الأسماء وليس في الآية إما شكر إنما فيها إما شاكرا وإما كفورا. فهذان اسمان، ولا يجازى بالأسماء عند أحد من النحويين. [سورة الإنسان (76) : آية 4] إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) هذه قراءة أبي عمرو وحمزة بغير تنوين إلّا أن الصحيح عن حمزة أنه كان يقف «سلاسلا» «1» بالألف اتباعا للسواد لأنها في مصاحف أهل المدينة وأهل الكوفة بالألف، وقراءة أهل المدينة وأهل الكوفة غير حمزة «إنّا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا» والحجّة لأبي عمرو وحمزة أن «سلاسل» لا ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد، وهو نهاية الجمع فثقل فمنع الصرف، والوقوف عليه بالألف والحجة فيه أن الرؤاسي والكسائي حكيا عن العرب الوقوف على ما لا ينصرف بالألف لبيان الفتحة فقد صحّت هذه القراءة من كلام العرب. والحجّة لمن لوّن ما حكاه الكسائي وغيره من الكوفيين أن العرب تصرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل منك. فهذه حجة وحجة أخرى أن بعض أهل النظر يقول: كل ما يجوز في الشعر فهو جائز في الكلام لأن الشعر أصل كلام العرب فكيف نتحكّم في كلامها ونجعل الشعر خارجا عنه؟ وحجة ثالثة أنه لما كان إلى جانبه جمع ينصرف فأتبع الأول الثاني. [سورة الإنسان (76) : آية 5] إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) واحد الأبرار برّ ربّما غلط الضعيف في العربية فقال: هو جمع فعل شبّه بفعل وذلك غلط. إنما هو جمع فعل يقال: بررت والدي فأنا بارّ وبرّ فبرّ فعل مثل حذرت فأنا حذر، وفعل وأفعال قياس صحيح. وقيل: إنما سمّوا أبرارا لأنهم برّوا الله جلّ وعزّ بطاعته في أداء فرائضه واجتناب محارمه. وقيل: معنى كانَ مِزاجُها كافُوراً في طيب ريحها. [سورة الإنسان (76) : آية 6] عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) عَيْناً في نصبها غير وجه أني سمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: نظرت في نصبها فلم يصحّ لي فيه إلا أنها منصوبة بمعنى أعني، وكذا الثانية فهذا وجه، ووجه ثان أن يكون بمعنى الحال من المضمر في مزاجها، ووجه رابع يكون مفعولا بها، والتقدير يشربون عينا يشرب بها عباد الله كان مزاجها كافورا. وفي

_ (1) انظر تيسير الداني 176، والبحر المحيط 8/ 387.

[سورة الإنسان (76) : آية 7]

يشرب بها وجهان: قال الفراء «1» : يشرب بها ويشربها واحد. قال أبو جعفر: وأحسن من هذا أن يكون المعنى يروى بها. وقد ذكرته يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً مصدر. ويروى أن أحدهم إذا أراد أن ينفجر له الماء شق ذلك الموضع بعود يجري فيه الماء. [سورة الإنسان (76) : آية 7] يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ وهو كل ما وجب على الإنسان أن يفعله نذره أو لم ينذره، قال جلّ وعزّ: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج: 29] . قال عنترة: [الكامل] 514- الشّاتمي عرضي ولم أشتمهما ... والنّاذرين إذا لم القهما دمي «2» وقول الفراء «3» : كان فيه إضمار «كان» أي كانوا يوفون بالنذر في الدنيا، وكذا يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً. [سورة الإنسان (76) : آية 8] وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) اختلف العلماء في الأسير هاهنا، فقال بعضهم: هو من أهل الحرب لأنه لم يكن في ذلك الوقت أسير إلّا منهم، وقال بعضهم: هو لأهل الحرب وللمسلمين، وهذا أولى بعموم الآية فلا يقع فيها خصوص إلا بدليل قاطع فيكون لمن كان في ذلك الوقت ولمن بعد، كما كان يُوفُونَ بِالنَّذْرِ. [سورة الإنسان (76) : آية 9] إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أي يقولون لا نريد منكم جزاء ولا شكورا يكون جمع شكر، ويكون مصدرا. [سورة الإنسان (76) : آية 10] إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) قال الفراء: القمطرير والقماطر الشديد وأنشد: [الطويل] 515- بني عمّنا هل تذكرون بلاءنا ... عليكم إذا ما كان يوم قماطر «4» «5»

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 215. (2) الشاهد لعنترة في ديوانه 222، والأغاني 9/ 212، وشرح التصريح 2/ 69، والشعر والشعراء 1/ 259، والمقاصد النحوية 3/ 551، وبلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 225، وشرح الأشموني 2/ 309. (3) انظر معاني الفراء 3/ 216. (4) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (قمطر) ، وتاج العروس (قمطر) ، وديوان الأدب 2/ 57، ومعاني الفراء 3/ 216، وتفسير الطبري 29/ 21. (5) انظر البحر المحيط 8/ 388.

[سورة الإنسان (76) : آية 11]

[سورة الإنسان (76) : آية 11] فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ نعت لذلك وإن شئت كان بدل. وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً قال الحسن: النضرة في الوجه، والسرور في القلب. [سورة الإنسان (76) : آية 12] وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) قال قتادة: بما صبروا عن المعاصي. فهذا أصحّ قول يقال لمن صبر عن المعاصي صابر مطلقا فإن أردت لغير المعاصي قلت صابر على كذا. [سورة الإنسان (76) : آية 13] مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ قال الفراء: نصب. مُتَّكِئِينَ على القطع وهو عند البصريين منصوب على الحال من التاء والميم، والعامل فيه جزاء ولا يجوز أن يعمل فيه صبروا لأن مُتَّكِئِينَ إنما هو في الجنة، والصبر في الدنيا، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه نعت لجنة، ولذلك حسن لأنه قد عاد الضمير عليها لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً القول فيه كالقول في «متكئين» ، ويكون معناه غير رائعين. [سورة الإنسان (76) : الآيات 14 الى 15] وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها فيه ستة أوجه يجوز أن يكون معطوفا على جَنَّةً أقيمت الصفة مقام الموصوف أي وجزاهم جنّة دانية عليهم ظلالها، ويجوز أن يكون معطوفا على متكئين، ويجوز أن يكون معطوفا على لا يرون لأن معناه غير رائين ويجوز أن يكون منصوبا على المدح مثل وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء: 162] وإن كان نكرة فهو يشبه المعرفة فهذه أربعة أوجه. وفي قراءة ابن مسعود «ودانيا عليهم ظلالها» «1» على تذكير الجمع، وفي قراءة أبيّ «ودان عليهم ظلالها» «دان» في موضع رفع أصله داني استثقلت الحركة في الياء فحذفت الضمة، وحذفت الياء لسكونها وسكون التنوين، ولم تستثقل الحركة في ودانيا لخفة الفتحة ظِلالُها مرفوع بالدنو من قول من نصب الأول، ومن قال: «ودان ظلالها» عنده مرفوع بالابتداء، ودان خبره. كما تقول: مررت بزيد جالس أبوه أي أبوه جالس. وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا عطف جملة على جملة فذلك صلح أن يأتي بالماضي وقبله اسم الفاعل، وبعده وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ أهل التفسير منهم مجاهد: يقولون: الكوب الكوز الذي لا عروة له إلا قتادة فإنه قال: هو

_ (1) انظر تيسير الداني 177.

[سورة الإنسان (76) : آية 16]

القدح كانَتْ قَوارِيرَا «1» قراءة أبي عمرو الثاني بغير ألف وفرق بينهما لجهتين: أحداهما أنه كذا في مصاحف أهل البصرة، والثانية أن الأولى رأس آية فحسن إثبات الألف فيها. فأما حمزة فقرأ «كانت قوارير قوارير من فضّة» لأنهما لا ينصرفان فهذا شيء بيّن لولا مخالفة السواد، وقرأ المدنيون فيهما جميعا، والذي يحتجّ به لهم لا يوجد إلا من قول الكوفيين وهو أن الكسائي والفراء أجازا صرف ما لا ينصرف إلّا أفعل منك واحتجّ الفراء بكثرة ذلك في الشعر. [سورة الإنسان (76) : آية 16] قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) قَدَّرُوها تَقْدِيراً عن الشّعبي وقتادة وابن أبزى وعبد الله بن عبيد بن عمير أنهم قرءوا قَدَّرُوها «2» أي قدّروا عليها أي على قدر ربّهم لا يزيد ذلك ولا ينقص. [سورة الإنسان (76) : آية 17] وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً قال أبو الحسن بن كيسان: لا يقال للقدح: كأس حتّى تكون فيه الخمر وكذا لا يقال: مائدة للخوان حتى يكون عليه طعام، وكذا الظعينة كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا أي كالزّنجبيل في لذعه وكانوا يستطيبون ذلك فخوطبوا على ما يعرفون. [سورة الإنسان (76) : آية 18] عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) عَيْناً قد تقدّم ما يغني عن الكلام في نصبها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا فعلليل من السّلاسة، ومن قال: هو اسم العين صرف ما لا يجب أن ينصرف. [سورة الإنسان (76) : آية 19] وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي بما يحتاجون إليه. إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً أهل التفسير على أن المعنى في هذا التشبيه لكثرتهم وحسنهم، وقال عبد الله بن عمر: ما أحد من أهل الجنة إلّا له إلف غلام كلّ غلام على عمل ليس عليه صاحبه. [سورة الإنسان (76) : آية 20] وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ لأهل العربية فيه ثلاثة أقوال: فأكثر البصريين يقول: «ثمّ» ظرف، ولم تعدّ رأيت كما تقول: ظننت في الدار فلا تعدّى ظننت على قول سيبويه «3» ، وقال الأخفش، وهو أحد قولي الفراء «4» : «ثمّ» مفعول بها أي فإذا نظرت ثمّ وقول آخر

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 217، والبحر المحيط 8/ 389. (2) انظر الكتاب 1/ 180. (3) انظر معاني الفراء 3/ 218. (4) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 13، والطبري في تفسيره 19/ 120، وابن كثير في تفسيره 8/ 305.

[سورة الإنسان (76) : آية 21]

للفراء قال: التقدير: وإذا رأيت ما ثمّ وحذف «ما» . قال أبو جعفر: «وثمّ» عند جميع النحويين مبنيّ غير معرب لتنقّله وحذف «ما» خطأ عند البصريين لأنه يحذف الموصول ويبقى الصلة فكأنه جاء ببعض الاسم رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً جواب «إذا» ، ويبيّن لك معنى هذا كما حدّثنا أحمد بن علي بن سهل قال: حدّثنا زهير يعني ابن حرب ثنا محمد بن حازم ثنا عبد الملك بن أبجر عن ثوير بن أبي فاختة عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أدنى أهل الجنّة منزلة لينظر في ملكه ألفي عام ينظر أزواجه وسرره وخدمه وإنّ أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله جلّ وعزّ في كل يوم مرتين» «1» . [سورة الإنسان (76) : آية 21] عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ مبتدأ وخبره، والأصل عاليهم حذفت الضمة لثقلها. وهذه قراءة بيّنة، وهي قراءة أبي جعفر ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة، وقرأ أبو عبد الرّحمن والحسن وأبو عمرو والكسائي وابن كثير وعاصم عالِيَهُمْ بالنصب على أنه ظرف، ومثّله الفراء «2» بقوله: زيد داخل الدار. قال أبو جعفر: أما عاليهم فبيّن أنه منصوب على الظرف، وفي معناه قولان: أحدهما أن الخضرة تعلو ثياب أهل الجنة، والقول الآخر أن هذه النبات الخضر فوق حجالهم لا عليهم وأما زيد داخل الدار فلا يجوز عند جماعة من النحويين كما لا يقال: زيد الدار، ولكن لو قلت: زيد خارج الدار جاز، وروى عبد الوارث عن حميد عن مجاهد أنه قرأ «عليهم ثياب سندس» قال أبو جعفر: وهذا لا يحتاج إلى تفسير، وفي قراءة ابن مسعود «عاليتهم ثياب سندس» «3» على تأنيث الجماعة، وقرأ الحسن ونافع «ثياب سندس خضر وإستبرق» «4» وقرأ الأعمش وحمزة «ثياب سندس خضر وإستبرق» بخفضهما، وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر «ثياب سندس خضر وإستبرق» برفع «خضر» وخفض «إستبرق» ، وقرأ ابن كثير وعاصم «ثياب سندس خضر وإستبرق» قرأ ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الألف وبغير تنوين. قال أبو جعفر: القراءة الأولى حسنة متّصل الرفع بعضه ببعض فخضر نعت للثياب وإستبرق معطوف عليها: وانصرف لأنه نكرة وقطعت الألف لأنه اسم ولو سمّيت رجلا باستكبر لقلت: جاءني استكبر. هذا قول الخليل وسيبويه والقراءة الثانية على أن من قرأ بها نعت سندسا بخضر. وفي ذلك بعد لأنه إنّما يقال: هذا سندس أخضر كما يقال. هذا حرير أخضر إلا أن ذلك جائز لأنه جنس والجنس يؤدّي عن الجميع كقولك:

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 219. [.....] (2) انظر معاني الفراء 3/ 219. (3) انظر تيسير الداني 177، والبحر المحيط 8/ 391. (4) انظر معاني الفراء 3/ 219.

[سورة الإنسان (76) : آية 22]

سندس وسندسات واحد، وعطف وإستبرق على سندس أي وثياب وإستبرق، والقراءة الثالثة حسنة أيضا جعله خُضْرٌ نعتا للثياب، وهو الوجه البين الحسن، وخفض إستبرق نسقا على سندس أيضا. والقراءة الرابعة خفض فيها خضر على أنها نعت لسندس كما مر ورفع وإستبرق لأنه عطف على ثياب، وقراءة ابن محيصن عند كل من ذكر القراءات ممن علمناه من أهل العربية لحن لأنه منع إستبرق من الصرف وهو نكرة، ولا يخلو منعه إياه من إحدى وجهين: إما أن يكون منعه من الصرف لأنه أعجمي، وإما أن يكون ذلك لأنه على وزن الفعل، والعجمي وما كان على وزن الفعل ينصرفان في النكرة، وأيضا فإنه وصل الألف، وذلك خطأ عند الخليل وسيبويه لما ذكرنا ونصب «إستبرق» وإن كان هذا يتهيّأ أن يحتال في نصبه فهذا ما فيه مما قد ذكر بعضه. قال أبو جعفر: ولو احتيل فيه فقيل: هو فعل ماض أي وبرق هذا الجمع لكان ذلك عندي شيئا يجوز وإن كنت لا أعلم أحدا ذكره. وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وقد طعن في هذا بعض الملحدين. إما لجهله باللغة وإما لقصده الكفر اجتراء على الله عزّ وجلّ وأخذ شيء من حطام الدنيا وذلك أن الجنة لا بيع فيها ولا شراء ولا معنى لطعنه لقلة قيمة الفضة، ولأن هذا لا يحسن للرجال فجهل معنى التفسير لأن في التفسير أن هذا يكون لأزواجهن، ولو كان لهم ما دفع حسنه، وقد طعن في الإستبرق ولم يدر معناه أو داره وتعمّد الكفر. والإستبرق عنه العرب ما كان متينا وغلظ في نفسه لا غلظ خيوطه. قال أبو جعفر: فقد ذكرنا أن هذا الإستبرق يكون فوق حجالهم وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً أي طاهرا من الأقذار والأدناس والأوساخ. [سورة الإنسان (76) : آية 22] إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً ويجوز رفع جزاء على خبر «إنّ» وتكون «كان» ملغاة وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً خبر «كان» ولو كان مرفوعا جاز أن يكون اسم كان فيها مضمرا ولا تغلى إذا كانت مبتدأة لأن الكلام مبنيّ عليها. [سورة الإنسان (76) : آية 23] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ يكون «نحن» في موضع نصب صفة لاسم إنّ، ويجوز أن تكون فاصلة لا موضع لها، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر «نزّلنا» تَنْزِيلًا مصدر جيء به للتوكيد. [سورة الإنسان (76) : آية 24] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي اصبر على أذاهم، وكان السبب في نزول هذا على ما ذكر قتادة أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمدا صلّى الله عليه وسلّم لأطأنّ عنقه وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً قال

[سورة الإنسان (76) : آية 25]

الفراء «1» «أو» بمنزلة «لا» أي لا تطع من أثم ولا كفر. قال أبو جعفر: و «أو» تكون في الاستفهام والمجازاة والنفي بمنزلة «لا» . قال أبو جعفر: ويجوز أن يكون المعنى لا تطيعنّ من أثم وكفر بوجه فتكون قريبة المعنى من الواو. قال أبو جعفر: فالقول الأول صواب على قول سيبويه، والثاني خطأ لا يكون «أو» بمعنى الواو لأنك إذا قلت: لا تكلّم زيدا أو عمرا، فمعناه لا تكلّم واحدا منهما ولا تكلّمهما إن اجتمعا وليس كذا الواو إذا قلت: لا تكلّم المأمور واحدا منهما لم يكن عاصيا أمره، «أو» إذا كلّم واحدا منهما كان عاصيا أمره وكذا الآية لا يجوز أن يطاع الآثم ولا الكفور. [سورة الإنسان (76) : آية 25] وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) بُكْرَةً يكون معرفة فلا ينصرف ويكون نكرة فينصرف. فهي هاهنا نكرة فلذلك صرفت لأن بعدها وَأَصِيلًا وهو نكرة ولا تكون معرفة إلا أن تدخل فيه الألف واللام. [سورة الإنسان (76) : آية 26] وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ التقدير فاسجد له من الليل وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا قيل: هو منسوخ بزوال فرض صلاة الليل، وقيل: هو على الندب وقيل: هو خاص للنبي صلّى الله عليه وسلّم. [سورة الإنسان (76) : آية 27] إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي يحبون خير الدنيا. وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا قال سفيان: يعني الآخرة. قال أبو جعفر: وقيل: وراء بمعنى قدّام ومن يمنع من الأضداد يجيز هذا لأن وراء مشتقّ من توارى فهو يقع لما بين يديك وما خلفك. وقيل: التقدير: ويذرون وراءهم عمل يوم ثقيل. أي لا يعملون للآخرة. [سورة الإنسان (76) : آية 28] نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ عن أبي هريرة قال: المفاصل. وقال ابن زيد: القوة، وقيل: هو موضع الحديث. ومن أحسن ما قيل فيه قول ابن عباس ومجاهد وقتادة قالوا: أسرهم خلقهم. قال أبو جعفر: يكون من قولهم: ما أحسن أسر هذا الرجل أي خلقه ومن هذا أخذه بأسره أي بجملته وخلقته لم يبق منه شيئا وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا قال ابن زيد يعني بني آدم الذين خالفوا طاعة الله جلّ وعزّ وأمثالهم من بني آدم أيضا.

_ (1) قرأ الكوفيون ونافع بالتاء والباقون بالياء، انظر تيسير الداني 177.

[سورة الإنسان (76) : آية 29]

[سورة الإنسان (76) : آية 29] إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ قيل: أي هذه الأمثال والقصص فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي فمن شاء اتّخذ إلى رضاء ربه طريقا بطاعة الله عزّ وجلّ والانتهاء عن معاصيه. [سورة الإنسان (76) : آية 30] وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) وَما تَشاؤُنَ «1» اتّخاذ السبيل إلا بأن يشاء الله ذلك لأن المشيئة إليه، وحذفت الباء فصارت «أن» في موضع نصب ومن النحويين من يقول: هي في موضع خفض. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً أي بما يشاء أن يتّخذ إلى رضاه طريقا حَكِيماً في تدبيره، لا يقدر أحد أن يخرج عنه. [سورة الإنسان (76) : آية 31] يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي بأن يوفّقه للتوبة فيتوب فيدخل الجنة. وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً نصب الظالمين عند سيبويه بإضمار فعل يفسره ما بعده أي ويعذّب الظالمين. وأما الكوفيون فقالوا: نصبت لأن الواو ظرف للفعل أي ظرف لأعدّ. قال أبو جعفر: وهذا يحتاج إلى أن يبيّن ما الناصب، وقد زاد الفراء «2» في هذا إشكالا فقال: يجوز رفعه وهو مثل وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشعراء: 224] . قال أبو جعفر: وهذا لا يشبه من ذلك شيئا إلا على بعد. لأن قبل هذا فعلا فاختير فيه النصب ليضمر فعلا ناصبا فيعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل، والشعراء ليس يليهم فعل، وإنما يليهم مبتدأ وخبره. قال جلّ وعزّ: وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ [الشعراء: 223] وهاهنا يدخل من يشاء في رحمته ويجوز الرفع على أن يقطعه من الأول. قال أبو حاتم حدثني الأصمعي. قال: سمعت من يقرأ: «والظّالمون أعدّ لهم عذابا أليما» بالرفع، وفي قراءة عبد الله «وللظّالمين أعدّ لهم عذابا أليما» «3» بتكرير اللام.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 220. (2) انظر معاني الفراء 3/ 220، والبحر المحيط 8/ 393. (3) مرّ الشاهد رقم (51) .

77 شرح إعراب سورة المرسلات

77 شرح إعراب سورة المرسلات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) قال أبو جعفر: قد ذكرنا في هذه الآيات أقوالا، ونزيد ذلك شرحا وبيانا. قرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى ثنا وكيع عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن أبي العبيدين عن ابن مسعود في قول الله عزّ وجلّ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) قال: الرياح فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) قال: الريح وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) قال: الريح. قال أبو جعفر: وقد روي عن ابن مسعود أنه قال الْمُرْسَلاتِ الملائكة: والقول بأنها الرياح قول ابن عباس وأبي صالح ومجاهد وقتادة وفَالْعاصِفاتِ الرياح وذلك عن ثلاثة من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وَالنَّاشِراتِ قد روي عن ابن مسعود أنها الملائكة والرواية الأولى أنها الريح قول ابن عباس، وعن أبي صالح أن النَّاشِراتِ المطر. [سورة المرسلات (77) : آية 4] فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) عن ابن مسعود وابن عباس أنها الملائكة، وروى سعيد عن قتادة فَالْفارِقاتِ فَرْقاً قال القرآن فرّق بين الحقّ والباطل، والتقدير على هذا: فالآيات الفارقات. [سورة المرسلات (77) : آية 5] فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عن ابن مسعود وابن عباس قالا: الملائكة. قال قتادة: الملائكة تلقي الذّكر إلى الأنبياء عليهم السّلام، وعن أبي صالح في بعض هذه، قال الأنبياء. قال أبو جعفر: قد ذكرنا أن الصفة في هذا أقيمت مقام الموصوف فلهذا وقع الاختلاف فإذا كان التقدير: وربّ المرسلات فالمعنى واحد والقسم بالله جلّ وعزّ، وإذا زدنا هذا شرحا قلنا قد ذكرنا ما قيل إنها الرياح وأنها الملائكة وأنها الرسل عليهم السّلام ولم نجد حجّة قاطعة تحكم لأحد هذه الأقوال فوجب أن يردّ إلى عموم الظاهر فيكون عاما لهذه الأشياء

[سورة المرسلات (77) : آية 6]

كلها. عُرْفاً منصوب على الحال إذا كان معناه متتابعة وإذا كان معناه والملائكة المرسلات بالعرف أي بأمر الله جلّ وعزّ وطاعته وكتبه، فالتقدير بالعرف فحذف الباء فتعدّى الفعل، كما أنشد سيبويه: [البسيط] 516- أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب «1» عَصْفاً ونَشْراً وفَرْقاً مصادر تفيد التوكيد فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً مفعول به. [سورة المرسلات (77) : آية 6] عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) قراءة أبي عمرو والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ أهل الحرمين وابن عامر وعاصم عُذْراً بإسكان الذال «أو نذرا» بضم الذال، ويروى عن زيد بن ثابت والحسن «عذرا أو نذرا» «2» بضم الذالين فإسكانهما جميعا على أنهما مصدران كما تقول: شكرته شكرا، ويجوز أن يكون الأصل فيهما الضمّ فحذفت الضمة استثقالا لها، وضمهما جميعا على أنهما جمع عذير ونذير، ويجوز أن يكونا مصدرين مثل شغلته شغلا. وعذير بمعنى اعذار كما قال: [الوافر] 517- أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد «3» أي إعذارك وكما قال: [الهزج] 518- نذير الحيّ من عدوان ... كانوا حيّة الأرض «4» قال أبو جعفر: هكذا ينشد هذان البيتان بالنصب، وأنشد سيبويه: [الطويل] 519- عذيرك من مولى إذا نمت لم ينم ... يقول الخنا أو تعتريك زنابره «5» أي عذيرك من هذا.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 222، والبحر المحيط 8/ 396، وتيسير الداني 177. (2) الشاهد لعمرو بن معدي كرب في ديوانه 107، والكتاب 1/ 332، والأغاني 10/ 26، وحماسة البحتري 74، والحماسة الشجرية 1/ 40، وخزانة الأدب 6/ 361، والدرر 3/ 8، وسمط اللآلي 63، وشرح أبيات سيبويه 1/ 295، وعجزه لعلي بن أبي طالب في لسان العرب (عذر) ، وبلا نسبة في شرح المفصّل 2/ 26، وهمع الهوامع 1/ 169. (3) الشاهد لذي الإصبع العدواني في ديوانه 46، والاشتقاق 269، والأغاني 3/ 85، وأمالي الزجاجي 1/ 221، والحيوان 4/ 233، وخزانة الأدب 5/ 286، وشرح أبيات سيبويه 1/ 298، والشعر والشعراء 2/ 712، ولسان العرب (عذر) و (جيا) ، والمقاصد النحوية 4/ 364، وبلا نسبة في الكتاب 1/ 303، ولسان العرب (عدا) ، وأمالي المرتضى 1/ 250. (4) الشاهد بلا نسبة في الكتاب 1/ 374، وشرح الشواهد للشنتمري 1/ 158. (5) انظر الكتاب 3/ 119.

[سورة المرسلات (77) : آية 7]

[سورة المرسلات (77) : آية 7] إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) أي من البعث والحساب والمجازاة. وهذا جواب القسم و «ما» هاهنا بمعنى الذي مفصولة من «إنّ» ، ولا يجوز أن تكون هاهنا فاصلة و «لا» زائدة ألا ترى أن في خبرها اللام المؤكدة لخبر إنّ وحذفت الهاء لطول الاسم، والتقدير أن الذي توعدونه لواقع من الحساب والثواب والعقاب. [سورة المرسلات (77) : آية 8] فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) رفعت النجوم بإضمار فعل مثل هذا لأن إذا هاهنا بمنزلة حروف المجازاة فإن قال قائل: قد قال سيبويه «1» في قول الله جلّ وعزّ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم: 36] «إذا» جواب بمنزلة الفاء، وإنما صارت جوابا بمنزلة الفاء لأنها لا يبتدأ بها كما لا يبتدأ بالفاء. فقد ابتدئ بها هاهنا، وأنت تقول: إذا قمت قمت مبتدأ. قال أبو جعفر: فلم أعلم أحدا غلط سيبويه في هذا، والحجة له أنّ «إذا» كانت للمفاجأة لم يبتدأ بها نحو قوله: إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ وإذا كانت بمعنى المجازاة ابتدئ بها ولكن قد عوض سيبويه بأن الفاء تدخل عليها فكيف تكون عوضا منها؟ فالجواب أنها إنما تدخل توكيدا، وجواب فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وقيل الفاء محذوفة، وقيل الجواب محذوف. [سورة المرسلات (77) : آية 11] وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ «2» بهمزة وتشديد القاف، وقرأ عيسى بن عمر النحوي وخالد بن إلياس أُقِّتَتْ بهمزة وتخفيف القاف، وقرأ أبو عمرو «وقّتت» بواو وتشديد القاف، وقرأ الحسن وأبو جعفر «وقتت» بواو وتخفيف القاف. قال أبو جعفر: الأصل فيها الواو لأنه مشتق من الوقت قال جلّ وعزّ: كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [النساء: 103] فهذا من وقتت مخففة إلّا أن الواو تستثقل فيها الضمة فتبدل فيها همزة، وقد ذكر سيبويه اللغتين وقّتت وأقّتت فلم يقدّم إحداهما على الأخرى فإذا كانتا فصيحتين فالأولى اتباع السواد. [سورة المرسلات (77) : الآيات 12 الى 13] لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) لِيَوْمِ الْفَصْلِ قيل: حذف الفعل الذي تتعلق به اللام والتمام لأي يوم أجّلت ثم أضمر فعل أجلت ليوم الفصل، وقيل: ليوم الفصل بدل وأعدت اللام مثل لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وقيل: اللام بمعنى إلى.

_ (1) انظر القراءات المختلفة في تيسير الداني 177، والبحر المحيط 8/ 396، ومعاني الفراء 3/ 222. (2) انظر البحر المحيط: 8/ 397. [.....]

[سورة المرسلات (77) : آية 14]

[سورة المرسلات (77) : آية 14] وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) «ما» الأولى والثانية في موضع رفع بالابتداء. [سورة المرسلات (77) : آية 15] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أي الذين يكذبون بيوم القيامة وما فيه. [سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 17] أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) وقرأ الأعرج أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ «1» جزم نُتْبِعُهُمُ لأنه عطف على نهلك قال أبو جعفر: هذا لحن، وقال أبو حاتم: هذا لحن، وذكر إسماعيل أنه لا يجوز. قال أبو جعفر: «ثم» من حروف العطف وإنما معناه من جهة المعنى وهو في المعنى غير مستحيل لأنه قد قيل في معنى أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ أنهم قوم نوح وعاد وثمود، وأن الآخرين قوم إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم وأصحاب مدين وفرعون. قال أبو جعفر: فعلى هذا تصحّ القراءة بالجزم. [سورة المرسلات (77) : آية 18] كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) أي كذلك سنتي فيمن أقام على الإجرام أن أهلكه بإجرامه. [سورة المرسلات (77) : آية 19] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أي لمن كذّب بما أخبر الله جلّ وعزّ وبقدرته على ما يشاء. [سورة المرسلات (77) : الآيات 20 الى 23] أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) ويجوز إدغام القاف في الكاف وعن ابن عباس «مهين» ضعيف. وقرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش وحمزة فَقَدَرْنا «2» مخفّفة، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع والكسائي فَقَدَرْنا مشددة والأشبه التخفيف لأن بعده فَنِعْمَ الْقادِرُونَ وليس بعده المقدّرون على أن القراءة بالتشديد حسنة لأنه قد حكي أنهما لغتان بمعنى واحد. يقال: قدر وقدره. وقد قال: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ [الواقعة: 60] ولا ينكر أن تأتي لغتان بمعنى واحد في موضع واحد، قال: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق: 17] وقال الشاعر: [البسيط] 520- وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلّا الشّيب والصّلعا «3»

_ (1) انظر تيسير الداني 177. (2) مرّ الشاهد رقم (218) . (3) انظر مختصر ابن خالويه 167.

[سورة المرسلات (77) : آية 24]

وقد قيل: معنى فقدرنا النطفة والعلقة والمضغة، وقال الضحاك: فقدرنا فملكنا. فَنِعْمَ الْقادِرُونَ رفع بنعم، والتقدير: فنعم القادرون نحن. [سورة المرسلات (77) : آية 24] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) بقدرة الله جلّ وعزّ على هذه الأشياء وغيرها. [سورة المرسلات (77) : آية 25] أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) يقال: كفته إذا جمعه وأحرزه فالأرض تجمع الناس على ظهرها أحياء وفي بطنها أمواتا. واشتقاق هذا من الكفتة وهي وعاء الشيء وكذا الكفتة. [سورة المرسلات (77) : آية 26] أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) نصب على الحال أي نكفتهم في هذه الحال، ويجوز أن يكون منصوبا بوقوع الفعل عليه أي تكفت الأحياء والأموات. [سورة المرسلات (77) : آية 27] وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يقول جبالا مشرفات، قال: وماءً فُراتاً عذبا وروى عنه عكرمة «ماء فراتا» سيحان وجيحان والفرات والنيل، قال: وكل ماء عذب في الدنيا فمن هذه الأنهار الأربعة. [سورة المرسلات (77) : الآيات 28 الى 29] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) أي يقال لهم، وزعم يعقوب الحضرمي أن بعض القراء قرأ «انطلقوا» بفتح اللام على أنه فعل ماضي، وأما الأول فلم يختلف فيها. [سورة المرسلات (77) : آية 31] لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) لا ظَلِيلٍ نعت لظلّ أي غير ظليل من الحرّ ولا يقي لهب النار. [سورة المرسلات (77) : آية 32] إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ لغة أهل الحجاز كما قال: [الوافر] 521- وتوقد ناركم شررا ويرفع ... لكم في كلّ مجمعة لواء «1»

_ (1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 85، ولسان العرب (جمع) ، وتاج العروس (جمع) ، وديوان المفضليات 56.

ولغة بني تميم شرار، كَالْقَصْرِ «1» يقرأ على ثلاثة أوجه فقراءة العامة كَالْقَصْرِ، وعن ابن عباس وجماعة من أصحابه كَالْقَصْرِ بفتح الصاد، وعن سعيد بن جبير روايتان في إحداهما كَالْقَصْرِ والأخرى كَالْقَصْرِ كما قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن إسحاق قال نصر بن علي قال: ثنا يزيد بن زريع ثنا يونس عن الحسن أنها ترمي بشرر كَالْقَصْرِ بكسر القاف. قال نصر: وحدّثنا أبي ثنا يونس عن الحسن بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ قال: أصول النخل. قال أبو جعفر: والقصر بفتح القاف وإسكان الصاد في معناه قولان. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كَالْقَصْرِ قال: يقول: كالقصر العظيم وكذا قال محمد بن كعب هو القصر من القصور. وقال أبو عبيد عن حجاج عن هارون قال: القصر الخشب الجزل مثل جمرة وجمر وتمر وتمر. قال أبو جعفر: وأصحّ من هذا عن الحسن كما قرئ على إبراهيم ابن موسى عن إسماعيل عن نصر قال: ثنا يزيد ثنا يونس عن الحسن قال: «كالقصر» واحد القصور. قال أبو جعفر: فهذا قول بيّن والعرب تشبه الناقة والجمل بالقصر كما قال: [البسيط] 522- كأنها برج روميّ يشيّده ... بان بجصّ وآجرّ وأحجار «2» فأما القصر فقال مجاهد وقتادة: هو أصول النخل، وروى عبد الرّحمن بن عابس عن ابن عباس قال: القصر الخشبة تكون ثلاثة أذرع أو أكثر ودون ذلك. قال أبو جعفر: وهذا أصح ما قيل فيه ومنه قيل: قصّار لأنه يعمل بمثل هذا الخشب، والقصر بهذا المعنى يكون جمع قصرة وقد سمع من العرب حاجة وحوج، ويجوز أن يكون جمع قصرة وقد سمع حلقة وحلق فقال: الشرر جماعة والقصر واحد فكيف شبهت به؟ الجواب أن يكون واحدا يدلّ على جمع أو جمع قصرة أو يراد به الفعل أي كعظيم القصر وتكلم الفراء «3» في أن الأولى أن يقرأ «كالقصر» بإسكان الصاد لأن الآيات على هذا. ألا ترى أن بعده «صفر» ، واحتجّ بقراءة القراء: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ [القمر: 6] بضم الكاف لأن الآيات كذا، وفي موضع آخر فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً [الطلاق: 8] بإسكان الكاف فقال: فقد أجمع القراء على تحريك الأولى وإسكان الثانية قال أبو جعفر: وهذا غلط قبيح قد قرأ عبد الله بن كثير يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ بإسكان الكاف. وهذا الذي جاء به من اتفاق الآيات لا يستتب ولا ينقاس.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 398. (2) الشاهد للأخطل التغلبي في ديوانه 76، وتفسير الطبري 19/ 30. (3) انظر معاني الفراء 3/ 224.

[سورة المرسلات (77) : آية 33]

[سورة المرسلات (77) : آية 33] كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بن عيسى وطلحة وحمزة والكسائي «كأنه جماله صفر» «1» وعن ابن عباس «جمالات صفر» «2» بضم الجيم فالقراءة الأولى تكون جمع جمال أو جمالة وجمالة جمع جمل كحجر وحجارة، وجمالات يجوز أن يكون بمعنى جمال كما يقال: رخل ورخال وظئر وظؤار والتاء لتأنيث الجماعة إلا أن أهل التفسير يقولون: هي حبال السفن منهم ابن عباس وسعيد بن جبير إلّا أن علي بن أبي طلحة روى عن ابن عباس، قال: قطع النحاس ويجوز أن يكون مشتقا من الشيء المجمل. [سورة المرسلات (77) : آية 35] هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) مبتدأ وخبره، وزعم الفراء «3» أن القراء اجتمعت على رفع يوم. قال أبو جعفر: وهذا قريب مما تقدّم. روي عن الأعرج والأعمش أنهما قرءا هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ بالنصب وفي نصبه قولان: أحدهما أنه ظرف أي هذا الذي ذكرنا في هذا اليوم، والقول الآخر ذكره الفراء يكون «يوم» مبنيا. وهذا خطأ عند الخليل وسيبويه «4» لا تبنى الظروف عندهما مع الفعل المستقبل لأنه معرب وإنما يبنى مع الماضي، كما قال: [الطويل] 523- على حين عاتبت المشيب على الصّبا «5» [سورة المرسلات (77) : آية 36] وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) عطف، وزعم الفراء «6» أنه اختير فيه الرفع لتتفق الآيات. [سورة المرسلات (77) : آية 38] هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) مبتدأ وخبره جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ نسق على الكاف والميم. [سورة المرسلات (77) : آية 39] فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) حذفت الياء لأن النون صارت عوضا منها لأنها مكسورة وهو رأس آية. [سورة المرسلات (77) : آية 41] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) ومن كسر العين كره الضمة مع الياء.

_ (1) انظر تيسير الداني 177. (2) انظر البحر المحيط 8/ 398، ومعاني الفراء 3/ 225. (3) انظر معاني الفراء 3/ 225. (4) انظر الكتاب 3/ 136. (5) مرّ الشاهد رقم (129) . (6) انظر معاني الفراء 3/ 226.

[سورة المرسلات (77) : آية 42]

[سورة المرسلات (77) : آية 42] وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) الأصل يشتهونه حذفت الهاء الاسم. [سورة المرسلات (77) : آية 43] كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) أي يقال لهم هذا. [سورة المرسلات (77) : آية 44] إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) الكاف في موضع نصب أي جزاء كذلك. [سورة المرسلات (77) : الآيات 45 الى 46] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا متصل بما يليه أي قيل للمكذبين كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا أي وقتا قليلا وتمتعا قليلا. [سورة المرسلات (77) : آية 48] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) قال الفراء: وإذا قيل لهم صلّوا، وقال غيره: كان الركوع أشدّ الأشياء على العرب حتى أسلم بعضهم وامتنع من أن يركع. [سورة المرسلات (77) : آية 50] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) وقعت الباء قبل أي والاستفهام له صدر الكلام لأن حروف الخفض مع ما بعدها بمنزلة شيء واحد. ألا ترى أن قولك: نظرت إلى زيد، ونظرت زيدا بمعنى واحد؟

78 شرح إعراب سورة عم يتساءلون (النبأ)

78 شرح إعراب سورة عمّ يتساءلون (النبأ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النبإ (78) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) الأصل «عن ما» حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر لأن المعنى: عن أي شيء يتساءلون، وحكى الفراء: أن المعنى لأي شيء يتساءلون. قال أبو جعفر: و «عن» بمعنى اللام لا يعرف والتقدير: يتساءلون عن النبأ العظيم، وحذف لدلالة الكلام. [سورة النبإ (78) : آية 3] الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) في موضع خفض. [سورة النبإ (78) : آية 4] كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) كَلَّا قيل: هو التمام أي ليس الأمر على ما زعم المشركون من إنكار البعث. «ستعلمون» «1» تهديد لهم على قراءة الحسن التقدير قل لهم: ستعلمون. «ثم كلا ستعلمون» يعلمون معطوف عليه وقراءة العامة بالياء. [سورة النبإ (78) : آية 6] أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) يكون واحدا، ويكون جمع مهده. [سورة النبإ (78) : آية 7] وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) معطوف عليه جمع وتد ومن أدغم قال ودّ. ولا يجوز الإدغام في الجميع لأن الألف قد فصلت بين الحرفين. [سورة النبإ (78) : آية 8] وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8)

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 227. [.....]

[سورة النبإ (78) : الآيات 9 إلى 10]

نصب على الحال أي أصنافا أي ذكورا وإناثا وقصارا وطوالا فنبههم جلّ وعزّ على قدرته. [سورة النبإ (78) : الآيات 9 الى 10] وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) مفعولان وكذا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) أي يغشيكم ويغطيكم كالثياب أي فعلنا هذا لتناموا فيه وتسكنوا كما قال قتادة: لباسا سكنا. [سورة النبإ (78) : آية 11] وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) أي ذا معاش أي جعلناه مضيئا ليعيشوا فيه ويتصرّفوا كما قال مجاهد: معاشا تتصرفون فيه وتبتغون من فضل الله جلّ وعزّ. [سورة النبإ (78) : آية 12] وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) حذفت الهاء لأن اللغة الفصيحة تأنيث السماء شِداداً جمع شديدة ولا تجمع على فعلاء استثقالا للتضعيف. [سورة النبإ (78) : آية 13] وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَجَعَلْنا سِراجاً روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس وَهَّاجاً أي مضيئا. [سورة النبإ (78) : آية 14] وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ قال أبو جعفر: قد ذكرنا قولين لأهل التفسير: أن المعصرات الرياح والسحاب وأولاهما أن يكون السحاب لقوله جلّ وعزّ: الْمُعْصِراتِ ولم يقل: بالمعصرات، وكما قرئ على أحمد بن شعيب عن الحسين بن حريث قال: حدّثني علي بن الحسين عن أبيه قال: حدّثني الأعمش عن المنهال عن قيس بن السكن عن ابن مسعود قال: يرسل الله سبحانه الرياح فتأخذ الماء فتجريه في السحاب فتدر كما تدرّ اللّقحة. وروي عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس ماءً ثَجَّاجاً قال يقول: منصبّا، وقال ابن يزيد: ثجّاجا كثيرا. قال أبو جعفر: القول الأول المعروف في كلام العرب يقال: ثجّ الماء ثجوجا إذا انصبّ وثجّه فلان ثجا إذ صبّه صبّا متتابعا. وفي الحديث «أفضل الحجّ العجّ والثجّ» «1» فالعجّ رفع الصوت بالتلبية، والثجّ صبّ دماء الهدي. [سورة النبإ (78) : آية 15] لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15)

_ (1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 224، وابن حجر في المطالب العالية 1200، وابن كثير في تفسيره 8/ 327، والزيلعي في نصب الراية 3/ 33، وابن حجر في تلخيص الحبير 2/ 239، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 4/ 388، والمتقي الهندي في كنز العمال (11883) .

[سورة النبإ (78) : آية 16]

فالحبّ كلّ ما كان قشر والنبات الحشيش والكلأ ونحوهما. [سورة النبإ (78) : آية 16] وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) وَجَنَّاتٍ أي ثمر جنات. أَلْفافاً قال أبو جعفر: قد ذكرنا قول من قال: هو جمع لفّ وقول من قال: هو جمع الجمع أراد أنه يقال لفّاء وألفّ مثل حمراء وأحمر ثم تقول: ألف كما يقال: حمر ثم يجمع لفّا ألفافا كما تقول: خفّ وأخفاف والقول الأول أولى بالصواب لأن أهل التفسير قالوا: وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) أي جميعا، لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك فهذا جمع لفّ، ويقال: لفيف بمعناه، ونخلة لفّاء معناه غليظة فلهذا قلنا الأول أولى بالصواب. [سورة النبإ (78) : آية 17] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) خبر كانَ ولو كان في غير القرآن جاز الرفع على إلغاء كان. [سورة النبإ (78) : آية 18] يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بدل. فَتَأْتُونَ أَفْواجاً على الحال، ويقال: فوج وفوجة. [سورة النبإ (78) : الآيات 19 الى 20] وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) في معناه قولان: قيل: معناه انشقّت فكانت طرقا، وقيل: تقطّعت فكانت قطعا كالأبواب ثم حذفت الكاف، كما تقول: رأيت فلانا أسدا أي كالأسد، وكذا وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) . [سورة النبإ (78) : آية 21] إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) أي ترصد من عصى الله سبحانه وترك طاعته. وقال الحسن: لا يدخل أحد الجنة حتى يرد النار ومرصاد في العربية من رصدت فأنا راصد ومرصاد على التكثير. وقال «كانت» ولم يقل مرصادة لأنه غير جار على الفعل فصار على النّسب. [سورة النبإ (78) : آية 22] لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) أي مرجعهم إليها. وآب يؤوب رجع كما قال: [مخلّع البسيط] 524- وكلّ ذي غيبة يئوب ... وغائب الموت لا يؤوب «1» [سورة النبإ (78) : الآيات 23 الى 24] لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24)

_ (1) مرّ الشاهد رقم (379) .

لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) هذه قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وأبي عمرو وعاصم والكسائي، وقرأ علقمة ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة «لبثين» «1» بغير ألف. وقد اعترض في هذه القراءة فقيل: هي لحن لا يجوز: هو حذر زيدا، وإن كان سيبويه قد أجازه وأنشد: [الكامل] 525- حذر أمورا لا تضير وآمن ... ما ليس منجيه من الأقدار «2» وأنشد الفراء: [الكامل] 526- أو مسحل عمل عضادة سمحج ... بسراته ندب لها وكلوم «3» إلّا أن سيبويه أنشده «أو مسحل شنج» ، وقال قوم: هو لحن لأنه إنما يقال: حذر، وكذا باب فعل لمن كان في خلقته الحذر، فأما اللّابث فليس من ذلك في شيء. قال أبو جعفر: أما القول الأول فغلط ولا يشبه هذا قولك: حذر زيدا لأن أحقابا ظرف وما لا يتعدّى يتعدى إلى الظرف، وأما الثاني فهو يلزم إلّا أنه يجوز على بعد. والقراءة بلابثين بيّنة حسنة. فأما حجة من احتجّ بلبثين بما رواه شعبة عن أبي إسحاق قال: في قراءة عبد الله «لبثين» فلا حجة فيه لأن أبا إسحاق لم يلق عبد الله، ولو كان إسناده متصلا كانت فيه حجة، وهذه الأشياء تؤخذ من قراءة عبد الله بما لا تقوم به حجة من إسناد منقطع أو من صحف قد يكتب لابثين بغير ألف فيتوهّم قارئه أنه «لبثين» . وفي هذه الآية إشكال لقوله جلّ وعزّ: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً وهم لا يخرجون منها. فمن أحسن ما قيل فيها أن قتادة قال: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً لا انقطاع لها فعلى هذا التقدير يكون الجمع وحقبة حقب، وأحقاب جمع الجمع كما قال: [الطويل] 527- وكنّا كندماني جذيمة حقبة ... من الدّهر حتّى قيل لن يتصدّعا «4» ويجوز أن يكون أحقاب جمع حقب وقد ذكرنا ما قال أهل التفسير في معناه. فأما أهل اللغة فقولهم إن الحقب والحقبة يقعان للقليل من الدهر والكثير. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: سألنا أبا العباس محمد بن يزيد عن قول الله جلّ وعزّ: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً فقال: ما معنى هذا التحديد؟ ونحن إذا حددنا الشيء فقلنا: أنا أقيم عندك يوما، كان في قوة الكلام أنك لا تقيم بعد اليوم ثم لم يجبنا عنها مذ نيف وثلاثون سنة ونظرت فيها فوقع لي أنه يعني به الموحدون العصاة ثم نظرت فإذا

_ (1) انظر تيسير الداني 177. (2) مرّ الشاهد رقم (120) . (3) الشاهد للبيد في ديوانه 125، وخزانة الأدب 8/ 169 وشرح أبيات سيبويه 1/ 24، وشرح المفصل 6/ 72، ولسان العرب (عضد) ، و (عمل) ، والمقاصد النحوية 3/ 513، وبلا نسبة في الكتاب 1/ 167. (4) الشاهد لمتمم بن نويرة في ديوانه 111، وتاج العروس (حبر) و (صدع) ، وديوان المفضليات 535، والكامل (1237) .

[سورة النبإ (78) : آية 25]

بعده أنهم كانوا لا يرجون حسابا فعلمت أن ذلك ليس هو الجواب قال: فالجواب عندي أن المعنى لابثين في الأرض أحقابا، فعاد الضمير على الأرض لأنه قد تقدم ذكرها والضمير في لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً يعود على النار لأنه قد تقدّم أيضا ذكرها. قال: ولم أعرف لأبي العباس فيها جوابا. قال أبو جعفر: فسألت أبا إسحاق عنها فقال: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: المعنى لابثين فيها أحقابا هذه صفتها أي يعذبون بهذا العذاب في هذه الأحقاب لا يذوقون فيها إلا الحميم والغسّاق ويعذبون بعد هذا العذاب بأصناف من العذاب غير هذا. وهذا جواب نظري بيّن، وهو قول ابن كيسان يكون «لا يذوقون» من نعت الأحقاب، واختلف العلماء في قوله جلّ وعزّ: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً فقيل أي لا يذوقون فيها بردا يبرد عنهم السعير، وقيل: نوما كما قال الشاعر: [الكامل] 528- بردت مراشفها عليّ فصدّني ... عنها وعن قبلاتها البرد «1» أي النوم والنعاس وقد يكون البرد الهدو والثبات، كما قال الشاعر: [الرجز] 529- اليوم يوم بارد سمومه «2» وقد يكون البرد ما ليس فيه شدة كما روي «الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة» «3» وهي التي ليس فيها حرّ السلاح. ويقال: بردت حرّه كما قال: [الطويل] 530- وعطّل قلوصي في الرّكاب فإنّها ... ستبرد أكبادا وتبكي بواكيا «4» وأصحّ هذا الأقوال القول الأول لأن البرد ليس باسم من أسماء النوم وإنما يحتال فيه فيقال للنوم: برد لأنه يهدي العطش، والواجب أن يحمل تفسير كتاب الله جلّ وعزّ على الظاهر والمعروف من المعاني إلّا أن يقع دليل على غير ذلك. [سورة النبإ (78) : آية 25] إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) قال أبو رزين وإبراهيم: الغسّاق ما يسيل من صديد، وقال عبد الله بن بردة:

_ (1) الشاهد بلا نسبة في جمهرة اللغة 295، والاشتقاق ص 478 والأزمنة والأمكنة 2/ 15، وهو في ديوان امرئ القيس 231. (2) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (برد) وتاج العروس (سمم) ، وتهذيب اللغة 12/ 320، وجمهرة اللغة 294، مقاييس اللغة 1/ 243، ومجمل اللغة 1/ 260، المخصص 17/ 23. وبعده: «من جزع اليوم فلا تلومه» (3) انظر اللسان (برد) . (4) الشاهد لمالك بن الريب في ديوانه ص 47، ولسان العرب (برد) ، والتنبيه والإيضاح 2/ 9، وبلا نسبة في جمهرة اللغة 295، ومقاييس اللغة 1/ 242، ومجمل اللغة 1/ 260، وأساس البلاغة (برد) و (قود) .

[سورة النبإ (78) : آية 26]

الغساق المنتن، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: الغساق الزمهرير. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة لأنه يكون ما يسيل من جلودهم منتنا شديد البرد وسمعت علي بن سليمان يقول: غساق بالتشديد أولى، لأنه يقال: غسقت عينه أي دمعت، فغساق مثل سيّال تكثير غاسق، وقال غيره: من هذا قيل لليل: غاسق، لتغطيته وهجومه كما يهجم السيل، وقيل الحميم مستثنى من الشراب، والغسّاق مستثنى من البرد. [سورة النبإ (78) : آية 26] جَزاءً وِفاقاً (26) جَزاءً مصدر دلّ على فعله ما قبله. وِفاقاً من نعته. [سورة النبإ (78) : آية 27] إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) قيل: يرجون بمعنى يخافون لأن من رجا شيئا يلحقه خوف من فواته فغلب إحدى الخيفتين كما قال: [الطويل] 531- إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عوامل «1» وقيل: الرجاء هاهنا على بابه أي لا يرجون ثواب الحساب. [سورة النبإ (78) : آية 28] وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) مصدر، وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً «2» بتخفيف الأول والثاني، وهي رواية شاذّة ولكنه قد صحّ عن الكسائي أنه قرأ الثانية بالتخفيف كما قال: [مجزوء الكامل] 532- فصدقتهم وكذّبتهم ... والمرء ينفعه كذابه «3» وكذّاب التشديد على قول بعض الكوفيين لغة يمنية وهذا ما لا يحصل منه كثير فائدة ولكن قول سيبويه «4» أنه مصدر كذّب على الحقيقة وأن كان الكلام يكذّب تكذيبا كثيرا. وفيه من النحو ما يدق من المجيء بهذه التاء في تكذيب وليس لها في الفعل أصل ويقال: ما الدليل على أن الأصل كذّاب؟ ونحن نشرحه على مذهب سيبويه إن شاء الله. سبيل الفعل إذا كان رباعيا أن يزاد على ماضيه ألف في المصدر فتقول: أكرم

_ (1) الشاهد لأبي ذؤيب الهذليّ في ديوان الهذليين 1/ 143، وشرح أشعار الهذليين 1/ 144، واللسان (رجا) . (2) انظر معاني الفراء 3/ 229. (3) الشاهد للأعشى في شرح شواهد الإيضاح 606، ولسان العرب (صدق) ، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في شرح المفصل 6/ 44. (4) انظر الكتاب 4/ 193. [.....]

[سورة النبإ (78) : الآيات 29 إلى 30]

إكراما وانطلق انطلاقا فهذا قياس مستتب وكذا كذّب كذّابا وتكلم كلاما ثم إنهم قالوا كذب تكذيبا فقال سيبويه: أبدلوا من العين الزائدة تاء وقلبوا الألف ياء فغيّروا أوله كما غيّروا آخره. قال أبو جعفر: فأما تكلّم تكلما فجاؤوا بالماضي ولم يزيدوا ألفا لكثرة حروفه وضموا اللام قال سيبويه: لأنه ليس في الأسماء تفعل. [سورة النبإ (78) : الآيات 29 الى 30] وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ نصب كلّ بإضمار فعل ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل كما قال «1» : [مخلع البسيط] 533- أصبحت لا أحمل السّلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا والذّئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرّياح والمطرا ويجوز الرفع بالابتداء والكوفيون يقولون: بالعائد عليه. كِتاباً مصدر فمن النحويين من يقول: العامل فيه مضمر أي كتبناه كتابا أي كتبنا عدده ومبلغه ومقداره فلا يغيب عنا منه شيء كتابا. وقيل: العامل فيه «أحصيناه» لأن أحصيناه وكتبناه واحد. قال الحسن: سألت أبا بردة عن أشد آية في القرآن على أهل النار فقال: تلا رسول الله فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً (30) فقال: أهلك القوم بمعصيتهم لله جلّ وعزّ، وقال عبد الله ابن عمر: ولم ينزل على أهل النار أشدّ من قوله: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً (30) . [سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 32] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) حَدائِقَ بدل من «مفاز» والمفاز الظفر بما يحبّه الإنسان. قال ابن عباس: الحدائق الشجر الملتفّ، وقال الضحاك: الذي عليه الحيطان. قال أبو جعفر: وكذلك هو في اللغة وقد حدق بالقوم كما قال: [الخفيف] 534- وقد حدقت بي المنيّة «2» [سورة النبإ (78) : آية 33] وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) معطوف الواحدة كاعب وكواعب للجمع والمؤنث. [سورة النبإ (78) : آية 34] وَكَأْساً دِهاقاً (34) أي ممتلئة. مشتقّ من دهقه إذا تابع عليه الشدّة.

_ (1) مرّ الشاهد رقم (113) . (2) الشاهد مقطع من بيت للأخطل التغلبي في ديوانه 83، واللسان (حدق) ، وتمامه: «المنعمون بنو حرب وقد حدقت ... بي المنيّة واستبطأت أنصاري»

[سورة النبإ (78) : آية 35]

[سورة النبإ (78) : آية 35] لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) وقرأ الكسائي «كذابا» «1» وهي خارجة من قراءة الجماعة يجوز أن يكون مصدرا من كاذب كذابا ويجوز أن يكون مصدرا من كذب كما تقول: صام صياما، وهذا أشبه أي لا يسمعون فيها باطلا يلغى ولا كذبا. [سورة النبإ (78) : آية 36] جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) جَزاءً مصدر، وكذا عَطاءً حِساباً من نعته أي عطاء كافيا كما قال: [الطويل] 535- ونغني وليد الحيّ إن كان جائعا ... ونحسبه إن كان ليس بجائع «2» وقال مجاهد: حسابا بأعمالهم. [سورة النبإ (78) : آية 37] رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) «3» قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وأبي عمرو، وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق، وعاصم بخفضهما جميعا، وقرأ ابن محيصن ويحيى بن وثاب وحمزة بخفض الأول ورفع الثاني، وهو اختيار أبي عبيد لقرب الأول وبعد الثاني، وخالفه قوم من النحويين قالوا ليس بعده مما يوجب الرفع لأنه لم يفرق بينهما ما يوجب هذا فرفعهما جميعا على أن يكون الأول مرفوعا بالابتداء والثاني نعت له والخبر لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً، ويجوز أن يكون الأول مرفوعا بإضمار هو، ومن خفض الاثنين جعلهما نعتا أو بدلا من الاسم المخفوض، ومن خفض الأول ورفع الثاني جعل الثاني مبتدأ أو أضمر مبتدأ. يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الروح ملك عظيم الخلق، وروى عنه غيره قال: الروح أرواح الناس تقوم مع الملائكة في ما بين النفختين من قبل أن ترد إلى الأبدان. وقال الشعبي والضحاك: الروح جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم، وقال الحسن وقتادة: الروح بنو آدم، وقال ابن زيد: الروح القرآن، وقال مجاهد: الروح على صور بني آدم وليسوا منهم. قال أبو جعفر: لا دليل فعلمه يدلّ على أصحّ هذه الأقوال يكون

_ (1) انظر تيسير الداني 178، والبحر المحيط 8/ 406. (2) الشاهد لامرأة من بني قشير في التنبيه والإيضاح 1/ 63، ومقاييس اللغة 2/ 60، وتاج العروس (حسب) ولسان العرب (حسب) ، وبلا نسبة في لسان العرب (قفا) ، ومجمل اللغة 2/ 64، والمخصص 14/ 57، وأساس البلاغة (قفو) وتاج العروس (قفا) . (3) انظر تيسير الداني 178.

[سورة النبإ (78) : آية 39]

قاطعا من توقيف من الرسول أو دلالة بينة، وهو شيء لا يضرّ الجهل به ولو قال قائل: هذه الأشياء التي ذكرها العلماء ليست بمتناقضة ويجوز أن يكون هذا كلها لها لما عنّف. وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا نصب على الحال، وكذا لا يَتَكَلَّمُونَ في موضع نصب. إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ يكون «من» في موضع رفع على البدل من الواو، وفي موضع نصب على الاستثناء أي إلا من أذن له الرّحمن في الكلام وَقالَ صَواباً من الحق وتأوّل عكرمة المعنى على غير هذا. قال أبو جعفر: وقال صوابا في الدنيا أي قال: لا إله إلا الله. [سورة النبإ (78) : آية 39] ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ نعت لليوم أي ذو الحقّ. فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً أي نجاء مآب أي عملا صالحا في الدنيا. [سورة النبإ (78) : آية 40] إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40) َّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً نعت لعذاب أو لظرف أي وقتا قريباوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ الجملة في موضع خفض أي يوم نظره يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً خبر كنت، وأجاز بعض النحويين: ليتني قائما. قال: لأن «كان» تنثر بعد ليت فحذفت.

79 شرح إعراب سورة النازعات

79 شرح إعراب سورة النازعات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النازعات (79) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّازِعاتِ خفض بواو القسم، وقيل التقدير وربّ النازعات، وروى شعبة عن سليمان عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله و «النازعات» قال: الملائكة وروى شعبة عن السّدّي عن أبي صالح عن ابن عباس والنَّازِعاتِ قال: ينزع نفسه فصار التقدير والملائكة النازعات غَرْقاً مصدر. قال سعيد بن جبير: تنزع نفوسهم ثم تغرق ثم تحرق ثم يلقى بها في النار. والتقدير ورب النازعات والمعنى: فتغرق النفوس فتغرق غرقا، وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] . [سورة النازعات (79) : آية 2] وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالنَّاشِطاتِ معطوف على النازعات أي الجاذبات الأرواح بسرعة يقال: نشطه إذا جذبه بسرعة إلا أن الفراء «1» حكى نشطه إذا ربطه، وأنشطه حلّه وحكي عن العرب: كأنما أنشط من عقال وخولف في هذا واستشهد مخالفه بقوله: [الرجز] 536- أضحت همومي تنشط المناشطا «2» [سورة النازعات (79) : آية 3] وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) معطوف أي: والملائكة السابحات أي السريعات، وقال عطاء: السَّابِحاتِ السفن سَبْحاً مصدر. [سورة النازعات (79) : آية 4] فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 230. (2) الشاهد لهيمان بن قحافة في تفسير الطبري 30/ 29، واللسان (نشط) ، وتمامه: «أمست همومي تنشط المناشطا ... الشام بي طورا وطورا واسطا»

[سورة النازعات (79) : آية 5]

فَالسَّابِقاتِ معطوف أي: والملائكة السابقات الشياطين بالوحي، وقال عطاء: السابقات الخيل سَبْقاً مصدر. [سورة النازعات (79) : آية 5] فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) فَالْمُدَبِّراتِ عطف أي والملائكة. قال: ولا اختلاف بين أهل العلم في هذا أنه يراد به الملائكة وهو مجاز لأن الله جلّ وعزّ هو المدبر الأشياء. قال: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ [السجدة: 5] فلما كانت الملائكة صلوات الله عليهم ينزلون بالوحي والأحكام وتصريف الأمطار قيل لهم مدبرات على المجاز. قال الفراء «1» : كما قال فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ [البقرة: 97] فنسب التنزيل إلى جبرائيل عليه السّلام والله الذي نزله، وكذا نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 193] . أَمْراً منصوب على المصدر، ويجوز أن يكون التقدير فالمدبّرات بأمر من الله حذفت الباء فتعدى الفعل، وأنشد سيبويه: [البسيط] 537- أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب «2» فأما جواب القسم ففيه أربعة أقوال أصحها وأحسنها أنه محذوف دلّ عليه دلالة واضحة، والمعنى والنازعات لتبعثنّ فقالوا: أنبعث إذا كنا عظاما نخرة فقولهم: أَإِذا كُنَّا يدلّ على ذلك المحذوف، وقيل: الجواب إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) وهذا بعيد لأنه قد تباعد ما بينهما، وقيل حذفت اللام فقط. والتقدير: ليوم ترجف الراجفة وهذا أيضا أبعد من ذاك لأن اللام ليست مما يحذف لأنها تقع على أكثر الأشياء فلا يعلم من أين حذفت ولو جاز حذفها لجاز والله زيد منطلق، بمعنى اللام. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس الرَّاجِفَةُ النفخة الأولى، والرَّادِفَةُ الثانية روى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بينهما أربعون. [سورة النازعات (79) : آية 8] قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) مبتدأ وخبر. قال عطاء: واجفة متحركة، وقال غيره: خائفة. [سورة النازعات (79) : آية 9] أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) مبتدأ وخبره أنهم أذلاء لفضيحتهم يوم القيامة من معاصيهم وتم الكلام. [سورة النازعات (79) : آية 10] يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) يَقُولُونَ أي في الدنيا. أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ روى ابن أبي طلحة عن ابن

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 230. (2) مرّ الشاهد رقم (51) .

[سورة النازعات (79) : آية 11]

عباس فِي الْحافِرَةِ قال: يقول في الحياة، وقال ابن زيد: في النار، وقال مجاهد: في الأرض والتقدير على قول مجاهد في الأرض المحفورة أي في القبر مثل مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطارق: 6] أي مدفوق، وحقيقته في العربية من ماء ذي دفق وعلى قول ابن عباس فِي الْحافِرَةِ نحيا كما حيينا أو لا مرة. [سورة النازعات (79) : آية 11] أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) صحيحة عن ابن عباس رواها ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس وصحيحة عن ابن الزبير ومروية عن عمر، وابن مسعود، فهؤلاء أربعة من الصحابة وهي مع هذا قراءة ابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي. وهي أشبه برءوس الآيات التي قبلها وبعدها. وقراءة نَخِرَةً «1» أهل الحرمين والحسن وأبو عمرو فالقراءتان حسنتان لأن الجماعة نقلتهما. [سورة النازعات (79) : آية 12] قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) قيل: المعنى رجعة وردة وجعلوها خاسرة لأنهم وعدوا فيها بالنار. [سورة النازعات (79) : الآيات 13 الى 14] فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) قال سفيان: الساهرة أرض بالشام، وقال سعيد عن قتادة: الساهرة جهنم، قال أبو جعفر: والساهرة في كلام العرب الأرض الواسعة المخوفة التي يسهر فيها للخوف، وزعم أبو حاتم: أن التقدير فإذا هم بالسّاهرة والنّازعات. وهذا غلط بيّن، لأن الفاء لا يبتدأ بها والنازعات أول السورة وهذا القول الرابع في جواب القسم. [سورة النازعات (79) : آية 15] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) تكون هَلْ بمعنى «قد» وقد حكى ذلك أهل اللغة وقد تكون على بابها. [سورة النازعات (79) : آية 16] إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) طُوىً بالتنوين وضم الطاء قراءة ابن عامر والكسائي، وقراءة أهل المدينة وأبي عمرو بغير تنوين وبضم الطاء، وقراءة الحسن طُوىً «2» بكسر الطاء والتنوين ومعناه عنده بالوادي الذي قدّس مرتين ونودي فيه. والقراءة بضم الطاء والتنوين على أنه اسم للوادي وليس بمعدول إنما هو مثل قولك: حطم فلذلك صرف، ومن لم يصرفه جعله كعمر معدولا إلا أن الفراء «3» ينكر ذلك لأنه زعم أنه لا يعرف في كلام العرب اسما من

_ (1) انظر تيسير الداني 178. (2) انظر تيسير الداني 122، والبحر المحيط 8/ 413. (3) انظر معاني الفراء 3/ 233.

[سورة النازعات (79) : آية 18]

ذوات الياء والواو معدولا من فاعل إلى فعل. قال أبو جعفر: يجوز أن يكون ترك الصرف على أنه اسم للبقعة فيكون على غير ما تأول، وقد قرأ به غير منوّن من تقوم الحجة بقوله. اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) من قال في المستقبل: يطغى قال: طغيت وهو الطغيان ومن قال: يطغو قال: طغوت. [سورة النازعات (79) : آية 18] فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) قراءة أهل المدينة وقراءة أبي عمرو تَزَكَّى «1» بتخفيف الزاي، والمعنى والتقدير في العربية واحد. لأن أصل تزكى تتزكى فحذفت التاء. ومن قال: تزّكّى أدغمها. ولا يعرف التفريق بينهما. قال ابن زيد: «تزكّى» تسلم، قال: وكلّ تزكية في القرآن إسلام. [سورة النازعات (79) : آية 19] وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ عطف وكذا فَتَخْشى أي فتخشى عقابه بترك معاصيه. [سورة النازعات (79) : آية 20] فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) مما لا يجوز حذف الألف واللام منه ولا يؤتى به نكرة. [سورة النازعات (79) : آية 21] فَكَذَّبَ وَعَصى (21) معنى الفاء أنها تدلّ على أن الثاني بعد الأول. والواو للاجتماع. هذا أصلها. [سورة النازعات (79) : آية 22] ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) في موضع الحال. [سورة النازعات (79) : الآيات 23 الى 24] فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَحَشَرَ وحذف المفعول أي وحشر قومه ما قال ابن زيد: جمع قومه فَنادى فيهم فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) . [سورة النازعات (79) : آية 25] فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) قال الفراء: أي فأخذه الله أخذا نكالا للآخرة والأولى. [سورة النازعات (79) : آية 26] إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أي يخشى عقاب الله كما نزل بغيره لما عصى؟ [سورة النازعات (79) : آية 27] أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ أي لم تنكرون البعث وخلق السماء أشد من بعثكم. [سورة النازعات (79) : آية 28] رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) أي سقفا للأرض.

_ (1) انظر تيسير الداني 178، والبحر المحيط 8/ 413.

[سورة النازعات (79) : آية 29]

[سورة النازعات (79) : آية 29] وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَأَغْطَشَ لَيْلَها إضافة مجاز لأن معنى اللّيل ذهاب الشمس فلمّا كانت تغيب في السماء قيل ليلها كما يقال: سرج الدّابة، وكذا وَأَخْرَجَ ضُحاها. [سورة النازعات (79) : آية 30] وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) وَالْأَرْضَ منصوب بإضمار فعل أي ودحا الأرض، وزعم الفراء «1» : أن النصب والرفع جائزان وأنه مثل وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس: 39] يعني في الرفع والنصب. قال أبو جعفر: بينهما فرق. لأن قوله: الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ الرفع فيه حسن لأن تقديره وآية لهم القمر. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) الرفع فيها بعد لأن قبلها ما عمل فيه الفعل ولا يتعلق بشيء مرفوع فهذا فرق بيّن ولا نعلم أحدا قرأ «والأرض» بالرفع «والقمر» بالرفع قرأ به الأئمة. وفي الآية إشكال لأنه قال تعالى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصّلت: 9] وبعده ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فدلّ على خلق السماء كان بعد خلق الأرض وهاهنا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) فمن أصحّ ما قيل في هذا وأحسنه ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: خلق الله جلّ وعزّ الأرض قبل السماء فقدّر فيها أقواتها، ولم يدحها، ثم خلق السماء ثم دحا الأرض بعدها، وقال مجاهد والسديّ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أي مع ذلك دحاها، كما قال جلّ وعزّ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [القلم: 13] قال أبو جعفر: القول الأول أولى أن يكون الشيء على بابه. ومعنى الدّحو في اللغة البسط، يقال: دحوت أدحو ودحيت أدحي ومن الثاني سمي دحية. [سورة النازعات (79) : آية 32] وَالْجِبالَ أَرْساها (32) على إضمار فعل أيضا. [سورة النازعات (79) : آية 33] مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) قال الفراء «2» أي خلق ذلك منفعة لكم ومتعة قال: ويجوز الرفع مثل مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمران: 197] . [سورة النازعات (79) : آية 34] فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: القيامة عظم الله أمرها وحذّر منه. قال أبو جعفر: العرب إذا عظّمت الشيء وصفته بالطامة. [سورة النازعات (79) : آية 35] يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) أي إذا قرأ كتابه ورأى محلّه تذكّر عمله.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 233. [.....] (2) انظر معاني الفراء 3/ 223.

[سورة النازعات (79) : آية 36]

[سورة النازعات (79) : آية 36] وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) أنّث الجحيم لمعنى النار، وهو نعت لها هاهنا. [سورة النازعات (79) : الآيات 37 الى 39] فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) مَنْ في موضع رفع بالابتداء وخبره فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) والتقدير عند الكوفيين فهي مأواه، والألف بدل من الضمير والتقدير عند البصريين هي المأوى له. [سورة النازعات (79) : آية 40] وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي مقام الحساب على معاصيه. وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى وهو الميل إلى ما لا يحسن. [سورة النازعات (79) : آية 41] فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) كالذي تقدّم. [سورة النازعات (79) : آية 42] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) قال الفراء «1» : يقال إنما الإرساء للسفينة والجبال وما أشبههن فكيف وصفت الساعة بالإرساء؟ فالجواب أنها كالسفينة إذا جرت ثم رست ورسوها قيامها وليس كقيام القائم على رجله ونحوه ولكن كما تقول: قام العدل، وقام الحقّ أي ظهر وثبت. [سورة النازعات (79) : آية 43] فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) أي ليس إليك ذكرها لأنك لم تعرف وقتها. والأصل «في ما» حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر فإنّ قبل ما حرفا خافضا، والوقوف عليه فيمه لا يجوز غيره لئلا تذهب الألف وحركة الميم، والصواب أن لا يوقف عليه لئلا يخالف السواد في زيادة الهاء أو يلحن إن وقف عليه بغير الهاء. [سورة النازعات (79) : آية 44] إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) في موضع رفع بالابتداء أي منتهى علمها. [سورة النازعات (79) : آية 45] إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وطلحة مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها «2» بالتنوين وهو الأصل وإنما يحذف تخفيفا. [سورة النازعات (79) : آية 46] كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) أي زال عنهم ما كانوا فيه فلم يفكروا في ما مضى وقلّ عندهم، وكان في هذا معنى التنبيه لمن اغتر بالدنيا وسلامته فيها في أنه سيتركها عن قليل ويذهب عنه ما كان يجد فيها من اللّذة والسرور فكأنه لم يلبث فيها إلا عشيّة أو ضحاها.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 234. (2) انظر البحر المحيط 8/ 416.

80 شرح إعراب سورة عبس

80 شرح إعراب سورة عبس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة عبس (80) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) ويقال في التكثير: عبّس. [سورة عبس (80) : آية 2] أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) أَنْ في موضع نصب أي لأن، ومن النحويين من يقول: موضعها خفض على إضمار اللام، ومنهم من يقول: «أن» بمعنى «إذ» . [سورة عبس (80) : آية 3] وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) والأصل يتزكّى أدغمت التاء في الزاي. [سورة عبس (80) : آية 4] أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) الأصل يتذكر أدغمت التاء في الذال لقربها منها فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى وزعم الفراء «1» أنه يجوز النصب ولم يقرأ به. قال أبو جعفر: الرواية معروفة عن عاصم أنه قرأ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى «2» بالنصب، والكوفيون يقولون: هو جواب لعلّ ولا يعرف البصريون جواب لعلّ بالنصب، وقد حكوا هم والكوفيون وإيجاب النصب وهو الأمر والنهي والنفي والتمني والاستفهام، وزاد الكوفيون الدعاء، ولم يذكروا جواب لعل مع هذه الأجوبة. وسألت عنها أبا الحسن علي بن سليمان فقال: ما أعرف للنصب وجها وإن كان عاصم مع جلالته قد قرأ به إلا أن «أو» يجوز أن تنصب ما بعدها كما قال: [الطويل] 538- فقلت له لا تبك عينك إنّما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا «3» فقد يجوز أن يعطفه على ما ينتصب بعد «أو» . [سورة عبس (80) : الآيات 5 الى 6] أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى قراءة المدنيين، والأصل تتصدّى ثم أدغم، وقراءة الكوفيين وأبي عمرو تَصَدَّى «4» بحذف التاء لئلا يجمع بين تاءين.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 235. (2) انظر تيسير الداني 178. (3) مرّ الشاهد رقم (148) . (4) انظر البحر المحيط 8/ 419، وتيسير الداني 178.

[سورة عبس (80) : آية 7]

[سورة عبس (80) : آية 7] وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) والأصل يتزكّى. [سورة عبس (80) : آية 8] وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) في موضع نصب على الحال وكذا [سورة عبس (80) : آية 9] وَهُوَ يَخْشى (9) ويجوز أن تكون الجملة خبرا آخر. [سورة عبس (80) : آية 10] فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) والأصل تتلهّى أي تتشاغل وفعل هذا صلّى الله عليه وسلّم طلبا منه لإسلام المشرك. [سورة عبس (80) : آية 11] كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) خبر «إنّ» . [سورة عبس (80) : آية 12] فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) لأنه تأنيث غير حقيقي. [سورة عبس (80) : الآيات 13 الى 15] فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) قيل: يعني به اللوح المحفوظ. هذا على تفسير ابن عباس لأن سعيد بن جبير روي عنه في معنى بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) أنهم الملائكة. وروى عنه علي بن أبي طلحة أنهم الكتبة، وقال قتادة: هم القراء. والصحيح القول الأول، ومعروف في كلام العرب أنه يقال: سفر الرجل بين القوم إذا ترسّل بينهم بالصلح. والملائكة سفرة لأنهم رسل الله تعالى إلى أنبيائه صلوات الله عليهم، وهم أيضا كتبة يكتبون أفعال العباد. فهذا كله غير متناقض إلّا أن وهب بن منبّه قال: السّفرة الكرام البررة أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وبررة جمع بار، وأبرار جمع بر. [سورة عبس (80) : آية 17] قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) قال مجاهد: إذا قال الله تعالى: قتل الإنسان أو فعل به فهو الكافر. ومعنى قتل أهلك لأن المقتول مهلك، وقيل: قتل لعن ما أكفره الأولى أن تكون «ما» استفهاما أي ما الذي أكفره مع ظهور آيات الله جلّ وعزّ وانعامه عليه، وقيل هو تعجب. [سورة عبس (80) : الآيات 18 الى 20] مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ أي وإنما خلق من قذر، وإنما ينبل بطاعة الله. وأولى ما قيل في معنى ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) قول عبد الله بن الزبير رحمه الله أنّه يسّره أي سهل عليه حتى خرج من الرحم، والتقدير في العربية: ثم للسبيل وحذف اللام لأنه ممّا يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف. [سورة عبس (80) : آية 21] ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) أي صيّره ذا قبر أي أن نقبر، وأما الدافن فيقال له: قابر كما قال: [السريع]

[سورة عبس (80) : آية 22]

539- لو أسندت ميتا إلى نحرها ... عاش ولم يتنقل إلى قابر» [سورة عبس (80) : آية 22] ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) أي أحياه، والتقدير: إذا شاء أنشره. يقال أنشره الله فنشر فهو منشر وناشر كما قال: [السريع] 540- حتّى يقول النّاس ممّا رأوا ... يا عجبا للميّت النّاشر «2» [سورة عبس (80) : آية 23] كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) من النحويين من يجعل «كلّا» تماما في جميع القرآن أي كلا ليس الأمر كما يقول الكافر قد قضيت ما عليّ، ومن النحويين من يجعلها في جميع القرآن مبتدأة، ومنهم من يفصلها وهذا يمرّ في التمام مشروحا إن شاء الله. [سورة عبس (80) : الآيات 24 الى 26] فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) تمام على قراءة المدنيين وأبي عمرو وعلى قراءة الكوفيين ليس بتمام لأنهم يقرءون أَنَّا «3» بمعنى لأنّا، ولا يجوز أن يكون بدلا من طعام على ما تأوّله أبو عبيد لأن وجوه البدل قد بينها النحويون ولا يدخل فيها هذا. ومعنى صَبًّا وشَقًّا التوكيد، وكذا هذه المصادر. [سورة عبس (80) : الآيات 27 الى 31] فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) وعن ابن عباس أنه قال بين يدي عمر: نبات الأرض السبعة فقال له ما أفهم ما تقول، فقال فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) أي ملتفة وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) أي مرعى الأنعام. قال عمر: هكذا فتكلّموا كما تكلّم هذا الفتى وروى عنه ابن أبي طلحة الأب ما لأن من الثمار. [سورة عبس (80) : آية 32] مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) نصب على المصدر. [سورة عبس (80) : آية 33] فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال القيامة، وقال عكرمة النفخة الأولى، وقال الحسن: يصيخ لها كلّ شيء أي يصمت لها كلّ شيء.

_ (1) الشاهد للأعشى في ديوانه 189، ومقاييس اللغة 5/ 47 والبحر المحيط 8/ 420، وتفسير الطبري 30/ 56، والخزانة 2/ 110. (2) مرّ الشاهد رقم (58) . (3) انظر تيسير الداني 178.

[سورة عبس (80) : الآيات 34 إلى 36]

[سورة عبس (80) : الآيات 34 الى 36] يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) قيل: يفرون لما بينهم من المطالبة فيخافون ذلك، وقيل: يفرّون لأن بعضهم يستحي من بعض فيكره أن يرى ما ينزل به من الفضيحة. [سورة عبس (80) : آية 37] لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) أي يشغله عن غيره. [سورة عبس (80) : آية 38] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ رفع بالابتداء وإن كان نكرة للفائدة التي فيه، والخبر مُسْفِرَةٌ. [سورة عبس (80) : آية 39] ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) نعت. قال ابن زيد: القترة «1» ما علا من الغبار، ويروى أنه إذا قيل للبهائم: كوني ترابا صار ذلك التراب غبرة في وجوه الكفار. [سورة عبس (80) : آية 42] أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) تكون هم فاصلة أو مبتدأة والْفَجَرَةُ خبر والجملة خبر أولئك.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 421 (قرأ الجمهور «قترة» بفتح التاء وابن أبي عبلة بإسكانها) .

81 شرح إعراب سورة إذا الشمس كورت (التكوير)

81 شرح إعراب سورة إذا الشمس كورت (التكوير) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التكوير (81) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) رفعت الشّمس بإضمار فعل مثل الثاني لأن إِذَا بمنزلة حروف المجازاة لا يليها إلا الفعل مظهرا أو مضمرا. وعن أبيّ بن كعب كُوِّرَتْ ذهب ضوءها، وعن ابن عباس أظلمت. قال أبو جعفر: يقال: كوّر الشيء وكبّر الشيء إذا لفّ ورمي به، وفي الحديث «نعوذ بك من الحور بعد الكون» «1» أي من الرجوع بعد أن كان أمرنا ملتئما، ويروى «بعد الكور» . [سورة التكوير (81) : آية 2] وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) رفعت النجوم بإضمار فعل أيضا. قال أبيّ: انْكَدَرَتْ تناثرت، وقال ابن عباس: بعثرت. [سورة التكوير (81) : آية 3] وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) بإضمار فعل أيضا. [سورة التكوير (81) : آية 4] وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) «2» عُطِّلَتْ قال: أي أهملت. قال الأصمعي: العشراء النّاقة إذا أتى عليها من حملها عشرة أشهر، وقال أبو عبيدة: الناقة إذا أتى عليها من حملها ستة أشهر إلى أن تضع وبعد ذلك وهم يتفقدونها وتعزّ عليهم. [سورة التكوير (81) : آية 5] وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) فيه قولان: أحدهما حشرت يوم القيامة ليعوّضها الله مما لحقها من الألم في الدنيا وقال قتادة: حشرت جمعت.

_ (1) أخرجه ابن ماجة في سننه الباب 20 الحديث رقم (3888) ، والدارمي في سننه 2/ 87، والترمذي، الدعاء 1/ 526. (2) انظر البحر المحيط 8/ 423 (قرأ الجمهور بتشديد الطاء، ومضر عن اليزيدي بتخفيفها) .

[سورة التكوير (81) : آية 6]

[سورة التكوير (81) : آية 6] وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وقرأ أبو عمرو سُجِّرَتْ «1» مخففا واحتجّ بالبحر المسجور وخالفه جماعة من أهل العلم من أهل اللغة قالوا: البحر المسجور واحد، والبحار جمع الجمع أولى بالتكثير والتشديد قالوا: والبحر المسجور بحر هذه صفته، وليس هذا مثل وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا معناه ومعروف في اللغة أن يقال: سجرت الشيء ملأته كما قال: [الكامل] 541- فتوسّطا عرض السّريّ وصدّعا ... مسجورة متجاورا قلّامها «2» وقال: [المتقارب] 542- إذا شاء طالع مسجورة ... يرى حولها النّبع والسّاسما «3» أي مملوءة، وقيل: هذه بحار في جهنم إذا كان يوم القيامة. سجّرت أي ملئت بأنواع العذاب إلّا أن أبا العالية قال: إذا الشمس كوّرت إلى ستّ منها يراها الناس قبل أن تقوم القيامة وستّ في الآخرة بعد قيام القيامة، قال: وحدثني أبيّ بن كعب قال: بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينا هم على ذلك تناثرت النجوم، وبيناهم على ذلك إذ وقعت الجبال وتزلزلت الأرض وهربت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن وعطلت العشار أي أهملها أهلها، واختلطت الوحوش بالناس فذلك حشرها، وقالت الجن للإنس نحن نعرف لكم الخبر فمضوا إلى البحار فوجدوها قد سعّرت نيرانا ثم تصدّعت الأرض إلى الأرض السفلى إلى السماء العليا ثم أرسلت عليهم الريح فأماتتهم. [سورة التكوير (81) : الآيات 7 الى 8] وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) أي قرّبت الصالح مع الصالح هذا معنى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) يقال: وأدها يئدها وأدا فهو وائد وهي موءودة إذا دفنها حية وألقى عليها التراب. واشتقاقه من وأده إذا أثقله قال هارون القارئ في حرف أبيّ وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ «4» قال أبو عبيد: هذا أبين معنى. قال أبو جعفر: خولف في هذا

_ (1) انظر تيسير الداني 179. [.....] (2) الشاهد للبيد في ديوانه 307، ولسان العرب (سجر) و (عرض) و (صدع) ، و (قلم) ، وتهذيب اللغة 9/ 181، وجمهرة اللغة 747، وتاج العروس (عرض) و (صدع) ، وكتاب العين 1/ 276، ومقاييس اللغة 4/ 275، ومجمل اللغة 3/ 470، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 457. (3) الشاهد للنمر بن تولب في ديوانه 380، ولسان العرب (سمسم) ، وتاج العروس (سمسم) وبلا نسبة في جهرة اللغة 457، والمخصّص 10/ 37. (4) انظر البحر المحيط 8/ 424، ومعاني الفراء 3/ 240.

[سورة التكوير (81) : آية 10]

لأنها قراءة شاذّة مخالفة للمصحف مشكلة. لأنه يجوز أن يكون التقدير سألت ربها جلّ وعزّ، وسألت قاتلها. فهذا معنى مستغلق فكيف يكون بيّنا وفي معنى سئلت قولان: أحدهما أن المعنى طلب منها من قتلها توبيخا له فقيل لها: من قتلك؟ والمعنى الآخر أنها سئلت فقيل لها لم قتلت بغير ذنب توبيخا لقاتلها؟ كما يقال لعيسى صلّى الله عليه وسلّم: أأنت قلت للناس اتّخذوني وأمي إلهين من دون الله. وزعم الفراء «1» أن مثل هذا قوله: [الكامل] 543- الشّاتمي عرضي ولم أشتمهما ... والناذرين إذا لم القهما دمي «2» ليس المعنى أنهما إذا لقياه فعلا هذا، وإنما المعنى والنادرين يقولان إذا لقيناه قتلناه، وصحّ عن ابن عباس أنه استدلّ بهذه الآية على أن الأطفال كلّهم في الجنة قال: لأن الله جلّ وعزّ قد انتصر لهم ممن ظلمهم. قال صلّى الله عليه وسلّم: «الله أعلم بما كانوا عاملين» . [سورة التكوير (81) : آية 10] وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) كذا قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم «3» ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي نُشِرَتْ والحجة لهم صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر: 52] وهذا ليس من الحجج الموجبة لترك ما قرأ به من تقوم بقراءته الحجّة لأن نشرت يقع للقليل والكثير عند النحويين والقراءتان صحيحتان. [سورة التكوير (81) : آية 11] وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وقال الفراء: نزعت وطويت قال: وكذا قشطت كما تقول: كافور وقافور. [سورة التكوير (81) : آية 12] وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وقراءة أبي عمرو والكوفيين سُعِّرَتْ «4» ويحتجّ لهم بأن الجحيم واحد ويحتج عليهم بأن الجحيم وإن كان واحدا فالتكثير أولى به لكثرة سعّرت. قال أحمد بن عبيد يقال: جحمت النار أي أكثرت وقودها، وقال الفراء: جحمت الجمر جعلت بعضه على بعض ورجل جاحم بخيل ضنين. [سورة التكوير (81) : الآيات 13 الى 14] وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) بإضمار فعل كالثاني، وجواب «إذا» عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) قيل: معناه ما وجدته حاضرا كما تقول: أحمدت فلانا أي أصبته محمودا قال قتادة: ما أحضرت من عمل. [سورة التكوير (81) : آية 15] فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) «لا» زائدة للتوكيد أي فأقسم بالخنس وفي معنى الخنس ثلاثة أقوال قد مر منها ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنها النجوم الخمسة، وروى سعيد عن سماك

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 240. (2) مرّ الشاهد رقم (514) . (3) انظر البحر المحيط 8/ 425. (4) انظر تيسير الداني 179 (قرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الجيم والباقون بتشديدها) .

[سورة التكوير (81) : آية 16]

قال: سمعت خالد بن عرعرة يقول: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: «الخنّس» النجوم تخنس بالنهار وتكنس بالليل. فظاهر هذا القول عام لجميع النجوم، وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة وبكر بن عبد الله المزني وعبد الرّحمن بن زيد. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: الخنّس الظباء، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك وقال جابر بن زيد وإبراهيم النخعي: الخنس بقر الوحش. قال أبو جعفر: إذا كان التقدير: فأقسم بربّ الخنس، فالمعنى واحد إلا أن القول الأول أجلها وأعرفها، وإنما يقال لبقر الوحش والظباء خنّس الواحد أخنس وخنساء كما قال: [الكامل] 544- خنساء ضيّعت الغرير فلم ترم ... عرض الشّقائق طرفها ويغامها «1» وواحد الخنس خانس والجمع خنس وخناس. [سورة التكوير (81) : آية 16] الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) «الجواري» في موضع خفض حذفت الكسرة من الياء لثقلها فإن كان بغير ألف ولام حذفت الياء لسكونها وسكون التنوين إذ كان جمع جارية وكذا إن سمّيت به على قول الخليل وسيبويه «2» ، وأما الكوفيون ويونس فيقولون إذا سمّيت رجلا بجوار لم تصرفها في النصب والخفض فقلت: رأيت بواري ومررت بجواري، وقيل في الرفع هؤلاء جواري بإسكان الياء. قال الخليل: هذا خطأ لأنه كان يجب أن يقال على هذا: هذا جواري فأعلم بضم الياء، قال: ولا يكون أثقل من فواعل إذا سميت به. قال سيبويه «3» : سألت الخليل عن امرأة تسمى بقاض فقال: هي مجراة في الرفع والخفض، تقول: مررت بقاض وهذه قاض. قال أبو جعفر: وقول يونس والكوفيين: مررت بقاضي وهذا قاضي فاعلم الْكُنَّسِ جمع كانس ويقال: كنّاس. [سورة التكوير (81) : الآيات 17 الى 18] وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) وَاللَّيْلِ عطف على «الخنس» ، وليست الواو واو قسم إِذا عَسْعَسَ قال الفرّاء: أجمع المفسرون على أنه إذا أقبل، وهذا غلط. روى مجاهد عن ابن عباس «إذا عسعس» إذا أدبر. قال الضحّاك إِذا تَنَفَّسَ إذا أضاء وأقبل. [سورة التكوير (81) : آية 19] إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) جواب القسم، وأجاز الكسائي «أنه» بالفتح أي أقسم أنه وتابعه على ذلك محمد بن يزيد النحويّ.

_ (1) الشاهد للبيد في ديوانه 308، ولسان العرب (بغم) ، وتاج العروس (خنس) و (شفق) و (بغم) ومقاييس اللغة 3/ 172، والمخصّص 8/ 41، وبلا نسبة في كتاب العين 4/ 199. (2) انظر الكتاب 3/ 344. (3) انظر الكتاب 3/ 344.

[سورة التكوير (81) : آية 20]

[سورة التكوير (81) : آية 20] ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) ذِي قُوَّةٍ نعت لرسول أي ذي قوة على أمر الله جلّ وعزّ وطاعته عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ نعت أيضا أي ذي منزلة رفيعة. [سورة التكوير (81) : آية 21] مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) مُطاعٍ ثَمَّ أي مطاع في السموات أَمِينٍ على وحي الله جلّ وعزّ ورسالاته فهذا التمام. [سورة التكوير (81) : آية 22] وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) أي ليس خطابه ولا بيانه ولا فعله فعل مجنون. [سورة التكوير (81) : آية 23] وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) والهاء تعود على الرسول وهو جبريل صلّى الله عليه وسلّم كما قرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى عن يزيد بن هارون ثنا داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين الله تعالى يقول: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) فقالت أنا أول من سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ذاك جبريل صلّى الله عليه وسلّم لم أره على صورته التي خلق عليها إلا مرتين قد هبط من السماء قد سدّ عظم خلقه ما بين السماء والأرض» «1» . [سورة التكوير (81) : آية 24] وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع ويحيى والأعمش وحمزة، ويقال: إنها في حرف أبيّ بن كعب كذلك وقرأ ثلاثة من الصحابة «بظنين» «2» كما قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل عن علي بن عبد الله المديني عن سفيان عن عمرو، قال: سمعت ابن عباس يقرأ «بظنين» بالظاء، وروى شعبة عن مغيرة عن مجاهد قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقرأ بظنين بالظاء، وقال عروة سمعت عائشة تقرأ بالظاء. وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي، ولا اختلاف بين أهل التفسير واللغة أن معنى «بظنين» بمتّهم و «بضنين» ببخيل فالقراءتان صحيحتان قد رواهما الجماعة إلّا أنه في السواد بالضاد، وعدل أبو عمرو والكسائي وهما نحويا القراءة إلى القراءة. «بظنين» لأنه يقال: فلان ظنين على كذا أيّ متّهم عليه، وظنين بكذا وإن كانت حروف الخفض يسهل فيها مثل هذا، وعدل أبو عبيد أيضا إليها لأنه ذكر أنه جواب لأنهم كذّبوه. وهذا الّذي احتجّ به لا نعلم أحدا من أهل العلم يعرفه ولا يرى أنه جواب، ولا هو عندهم

_ (1) مرّ في إعراب الآيات 11- 13 من سورة النجم. (2) انظر البحر المحيط 8/ 426، وتيسير الداني 179.

[سورة التكوير (81) : آية 25]

إلا مبتدأ وخبر، وقد قلنا: إن القراءتين صحيحتان ومجاز «ضنين» أنّ من العلماء من يضن بعلمه، وفي الحديث «من كتم علما لجمه الله بلجام من نار» «1» فأخبر الله عن نبيه صلّى الله عليه وسلّم أنه ليس بضنين بشيء من أمر الدين، وأنه لا يخصّ به أحدا دون أحد على خلاف ما يقول قوم أنه خصّ الإمام بما لم يلقه إلى غيره. [سورة التكوير (81) : آية 25] وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) لو حذفت الباء لنصبت لشبه «ما» بليس. [سورة التكوير (81) : آية 26] فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) ذكر الفرّاء «2» أن المعنى فإلى أين تذهبون وحذفت «إلى» كما يقال: ذهبت الشام وذهبت إلى الشام، وانطلقت إلى السوق وانطلقت السّوق، وخرجت الشام وإلى الشام، وحكى الكسائي: انطلق به الغور، والتقدير عنده: إلى الغور فحذفت «إلى» فجعل الكوفيون هذه الأفعال الثلاثة انطلق وذهب وخرج يجوز معها حذف إلى، وقاسوا على ما سمعوا من ذلك زعموا. فأما سيبويه فحكى منها واحدا ولا يجيز غيره وهو ذهبت الشام، ولا يجيز ذهبت مصر، وعلى هذا قول البصريين لا يقيسون من هذا شيئا. وروى أبو العباس على هذا شيئا فزعم أن قولهم: ذهبت الشام ومعناه الإبهام أي ذهبت شامة الكعبة، غير أن هذا إنما يرجع فيه إلى قول من حكى ذلك عن العرب ولم يحكه سيبويه إلا على أنه الشام بعينها. [سورة التكوير (81) : آية 27] إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) أي ما في القرآن إلا عظة وتذكرة للعالمين. [سورة التكوير (81) : آية 28] لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) لِمَنْ بدل من العالمين على إعادة اللام، ولو كان بغير لام لجاز. قال مجاهد: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) أي أن يتبع الحق. [سورة التكوير (81) : آية 29] وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) وَما تَشاؤُنَ في معناه قولان أحدهما وما تشاؤون أن تستقيموا أي تتّبعوا الحقّ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ والقول الآخر أنه منهم أي ما تشاؤون يشاء من الطاعة والمعصية إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ذلك منكم، ولو لم يشأ لحال بينكم وبينه.

_ (1) أخرجه ابن ماجة في سننه باب 24 الحديث (261) والدارمي في سننه 1/ 73، وأبو داود في سننه الحديث (3658) . (2) انظر معاني الفراء 3/ 243. [.....]

82 شرح إعراب سورة انفطرت (الانفطار)

82 شرح إعراب سورة انفطرت (الانفطار) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) لتأنيث السماء على اللغة الفصيحة، وقد حكى الفرّاء «1» فيها التذكير، فمن أنثها صغرها سميّة وإن كانت رباعية في الأصل لأنه قد حذف منها حرف، والسماء مرفوعة بإضمار فعل، وكذا وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وكذا وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) ولا يجوز أن تكون مرفوعة بالفعل الآخر إلا على شيء حكاه لنا علي بن سليمان عن أحمد بن يحيى ثعلب، قال: زيد قام مرفوع بفعله ينوى به التأخير قيل: معنى وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) فجر بعضها إلى بعض لاضطراب الأرض بزوال الجبال والزلازل فاختلط بعض البحار ببعض. [سورة الانفطار (82) : آية 4] وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يقول بحثرت وتأوّله الفرّاء على أنّ الأرض بحثرت فألقت ما فيها من الكنوز والموتى، واحتجّ الحديث «تلقي الأرض أفلاذ كبدها» «2» . قال أبو جعفر: وهذا غلط وليس في القرآن وإذا الأرض وفيه خصوص القبور «وتلقي أفلا كبدها» لا اختلاف بين أهل العلم أنه في آخر الزمان وليس هو يوم القيامة. [سورة الانفطار (82) : آية 5] عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) تمام الكلام، وهو جواب «إذا» وفي معناه قولان: قال ابن زيد ما قدمت ما عملت وما أخّرت تركت وضيّعت وأخرت مما أمرت بتقديمه من أمر الله جلّ وعزّ، والقول الآخر أن معنى ما أخّرت ما سنّت من سنّة فعمل بها بعدها. قال أبو جعفر: هذا عن ابن عباس، وهو أولى، وبه يقول أصحاب الحديث، وينكره بعض أهل الأهواء.

_ (1) انظر معاني الفراء 1/ 128. (2) انظر أمالي المرتضى 1/ 95.

[سورة الانفطار (82) : آية 6]

والدليل على صحته أن الإنسان إذا ضيع ما أمر به وأخره كان ذلك مما قدم من الشرّ لا مما أخّره. [سورة الانفطار (82) : آية 6] يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) ما في موضع رفع بالابتداء، وهو اسم تام والكاف في موضع نصب بغرّ. [سورة الانفطار (82) : آية 7] الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة وأهل الشام، وقرأ الكوفيون فَعَدَلَكَ «1» مخففا، واستبعدها الفرّاء وإن كانت قراءة أصحابه لأنه إنما يقال: عدلته إلى كذا وصرفته إليه، ولا يكاد يقال: عدّلته في كذا ولا صرّفته. قال أبو جعفر فيه: وهذا غلط لأن الكلام تام عند «فعدلك» و «في» متعلقة بركّبك لا بعدلك فيكون كما قال. ومعنى عدلك في اللغة خلقك معتدلا لا يزيد رجل على رجل، وكذا سائر خلقك. وقد يكون عدّلك تكثير عدلك فيكونان بمعنى واحد كما قال ابن الزبعرى: [الرمل] 545- وعدلنا مثل بدر فاعتدل «2» أي قتلنا منهم مثل من قتلوا منا، وقد قيل: عدلك أمالك إلى ما شاء من حسن وقبيح وقبح وصحة وسقم. [سورة الانفطار (82) : آية 8] فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) ما زائدة قال مجاهد: في صورة أب أو أمّ أو عمّ أو خال. كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) [سورة الانفطار (82) : آية 9] كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وحكى الفرّاء «3» عن بعض أهل المدينة «بل يكذبون» وردّها لأن بعدها [سورة الانفطار (82) : آية 10] وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) قال أبو جعفر: ولا أعرف ما حكاه عن بعض أهل المدينة، ولا أعلم أحدا رواه غيره. [سورة الانفطار (82) : الآيات 11 الى 12] كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) كِراماً كاتِبِينَ (11) نعت لحافظين وكذا يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) . [سورة الانفطار (82) : آية 13] إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)

_ (1) انظر تيسير الداني 179، والبحر المحيط 8/ 428. (2) الشاهد عجز بيت لعبد الله بن الزبعرى في ديوانه 93، وبلا نسبة في لسان العرب (عدل) ، وتهذيب اللغة 2/ 211، وتاج العروس (عدل) . وصدره: «ليت أشياخي ببدر شهدوا» (3) انظر معاني الفراء 3/ 244.

[سورة الانفطار (82) : الآيات 14 إلى 15]

أي الذين برّوا بطاعة الله واجتناب معاصيه، وقال الحسن: الأبرار الذين لا يؤذون الذرّ. [سورة الانفطار (82) : الآيات 14 الى 15] وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) على تأنيث النار وإن كان الجحيم مذكرا. [سورة الانفطار (82) : آية 16] وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) قال الفرّاء «1» : أي إذا أدخلوها فليسوا بخارجين منها. قال قتادة: يوم يدان الناس بأعمالهم. [سورة الانفطار (82) : آية 17] وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) قيل: ليس هذا تكريرا. والمعنى: وما أدراك ما في يوم الدين من العذاب والنكال للفجار ثم ما أدراك ما في يوم الدين من النعيم للأبرار. [سورة الانفطار (82) : آية 19] يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وابن كثير وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي وقال الفرّاء «2» : «في كتابه في المعاني» اجتمع القرّاء على نصب «يوم لا تملك» . قال أبو جعفر. وهذا غلط. قرأ أبو عمرو وعبد الله بن أبي إسحاق وعبد الرّحمن الأعرج وهو أحد أستاذي نافع يَوْمَ لا تَمْلِكُ «3» بالرفع فمن رفع فتقديره هو يَوْمَ لا تَمْلِكُ، ويجوز أن يكون بدلا مما قبله ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ومن نصب فتقديره: الدين يوم لا تملك ومثله وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ [القارعة: 3، 4] أي القارعة يوم يكون الناس، ويجوز أن يكون التقدير: يصلونها يوم الدين يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً فهذان قولان الأول أولاهما، وللفرّاء قول ثالث أجاز أن يكون «يوم» في موضع رفع فبناه كما قال: [الطويل] 546- على حين عاتبت المشيب على الصّبا «4» قال أبو جعفر: وهذا غلط لا يجوز أن يبنى الظروف عند الخليل وسيبويه مع شيء معرب والفعل المستقبل معرب فأما الكسائي فأجاز ذلك في الشعر على الاضطرار ولا يحمل كتاب الله جلّ وعزّ على مثل هذا، ولكن تبنى ظروف الزمان مع الفعل الماضي كما مرّ في البيت لأن ظروف الزمان منقضية غير ثابتة فلك أن تبنيها مع ما

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 244. (2) انظر معاني الفراء 3/ 244. (3) انظر تيسير الداني 179. (4) مرّ الشاهد رقم (129) .

بعدها إذا كان غير معرب، وأن تعربها على أصلها نحو قول الله جلّ وعزّ وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ [هود: 66] بإعراب يوم، وإن شئت وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ وعلى هذا تبنى يوم مع «إذ» في موضع الرفع والخفض والنصب على الفتح، وكذا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ.

83 شرح إعراب سورة المطففين

83 شرح إعراب سورة المطففين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المطففين (83) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) رفعت ويلا بالابتداء «للمطففين» خبره أي تأنيب، ويجوز النصب في غير القرآن لأن ويلا بمعنى المصدر، وكان الاختيار الرفع لأنه لا ينطق منه بفعل إلا شيئا شاذا أنشده محمد بن الوليد وهو: [الهزج] 547- فما وال ولا واح ... ولا واس أبو هند «1» فإن كان مشتقا من فعل فالاختيار النصب عند النحويين نحو: بؤسا له، وإن لم يأت بالخبر في الأول نصبت فقلت: ويله وويحه. [سورة المطففين (83) : آية 2] الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) الَّذِينَ في موضع خفض نعت للمطففين أو نصب على الذمّ وهو أولى بالآية وربما توهّم الضعيف في العربية أن معنى اكتلت عليه واكتلت منه واحد وتقديرهما مختلف فمعنى اكتلت عليه أخذت ما عليه، ومعنى اكتلت منه استوفيت منه. [سورة المطففين (83) : آية 3] وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) اختلف النحويون في موضع الهاء والميم فقال جلتهم أبو عمرو بن العلاء والكسائي والأخفش وغيرهم: موضع الهاء والميم موضع نصب، وهو مذهب سيبويه قياسا على قوله: كلتك وصدتك ولا يجيز وهبتك لأنه يشكل فإن قلت: وهبتك دينارا جاز. وقال عيسى بن عمر: الهاء والميم في موضع رفع، وعبرّ عنه أبو حاتم بأن المعنى عنده: هم إذا كالوا أو وزنوا يخسرون لأن عيسى قال: الوقف «وإذا كالوا» ثم تبتدئ «هم أو وزنوا» ، وعبرّ غيره: أن «هم» توكيد كما تقول: قاموا هم. قال أبو

_ (1) الشاهد بلا نسبة في شرح التصريح 1/ 330، والممتع في التصريف 2/ 567، والمنصف 2/ 198 وشرح مشكلات الحماسة 312.

[سورة المطففين (83) : آية 4]

جعفر: والصواب أن الهاء والميم في موضع نصب لأنه في السواد بغير ألف، ونسق الكلام يدل على ذلك لأن قبله إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ فيجب أن يكون بعده وإذا كالوا لهم، وحذفت اللام كما قال، أنشده أبو زيد: [الكامل] 548- ولقد جنيتك أكموءا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر «1» وحرف الخفض يحذف فيما يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف كما قال: [البسيط] 549- أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب «2» وقال آخر: [الطويل] 550- نبّيت عبد الله بالجوّ أصبحت ... كراما مواليها لئيما صميمها «3» وقال الآخر: [البسيط] 551- أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... ربّ العباد إليه الوجه والعمل «4» [سورة المطففين (83) : آية 4] أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) أنّ وما عملت فيه في موضع المفعولين. [سورة المطففين (83) : الآيات 5 الى 6] لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) في نصبه أقوال: يكون التقدير: لمبعوثون يوم يقوم النّاس لربّ العالمين، وقال الأخفش سعيد هو مثل قولك: الآن وجعله الفرّاء «5» مبنيا. قال أبو جعفر: وذلك غلط أن يبنى مع الفعل المستقبل، ويجوز في العربية خفضه على البدل، ورفعه بإضمار مبتدأ فهذا ما فيه من الإعراب. وقرئ على بكر بن سهل عن عبد الله بن يوسف عن عيسى بن يونس عن ابن عون عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في

_ (1) الشاهد بلا نسبة في الاشتقاق ص 402، والإنصاف 1/ 319، وأوضح المسالك 1/ 180، وتخليص الشواهد 167، وجمهرة اللغة 331، والخصائص 3/ 58، ورصف المباني ص 78، وسرّ صناعة الإعراب 366، وشرح الأشموني 1/ 85، وشرح التصريح 1/ 151، وشرح شواهد المغني 1/ 166 وشرح ابن عقيل 96، ولسان العرب (جوت) و (حجر) و (سور) و (وبر) و (جحش) ، والمحتسب 2/ 224 ومغني اللبيب 1/ 52، والمقاصد النحوية 1/ 498 والمقتضب 4/ 28، والمنصف 3/ 134. (2) مرّ الشاهد رقم (51) . (3) مرّ الشاهد رقم (321) . (4) الشاهد بلا نسبة في أدب الكاتب 524، والكتاب 1/ 71، والأشباه والنظائر 4/ 16، وأوضح المسالك 2/ 283، وتخليص الشواهد 405 وخزانة الأدب 3/ 111، والدرر 5/ 186، وشرح أبيات سيبويه 1/ 420، وشرح التصريح 1/ 394 وشرح المفصّل 7/ 63، والصاحبي في فقه اللغة 181، ولسان العرب (غفر) ، والمقاصد النحوية 3/ 226، والمقتضب 2/ 321، وهمع الهوامع 2/ 82. [.....] (5) انظر معاني الفراء 3/ 246.

[سورة المطففين (83) : آية 7]

قول الله تعالى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) قال: «يقومون في رشحهم إلى أنصاف آذانهم» «1» قال أبو جعفر: فهذا حديث مجمل صحيح الإسناد، وروى عقبة بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مشروحا قال: «تدنو الشمس يوم القيامة من الأرض فمن الناس من يغرق إلى كعبيه ومنهم من يغرق إلى أنصاف ساقيه ومنهم من يغرق إلى منكبيه ومنهم من يغرق إلى عنقه ومنهم من يغرق إلى نصف فمه ملجما به ومنهم يشتمله الغرق» . [سورة المطففين (83) : آية 7] كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) من قال: إنّ كَلَّا تمام في كل القرآن، قال: المعنى ليس الأمر كما يذهب إليه الكافرون من أنهم لا يبعثون ولا يعذّبون، وتكلم العلماء في معنى سجّين فقال أبو هريرة: سِجِّينٍ جبّ في جهنم مفتوح، وقال سعيد بن جبير: «سجين» تحت حد إبليس، وقيل «سجين» من السجل والنون مبدلة من اللام أي في ما كتب عليهم، وقال أبو عبيدة: في سجين في حبس فقيل من السجن، وقال بعض النحويين: «سجين» الصخرة التي تحت الأرض السفلى، وزعم أن هذا يروى وأنه صفة لأنه لو كان اسما للصخرة لم ينصرف، قال: ويجوز أن تجعله اسما للحجر فتصرفه. قال أبو جعفر: وأولى ما قيل في سجين، ما صحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما قرئ على أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان عن ابن فضيل وأبي معاوية عن الأعمش عن المنهال عن زاذان عن البراء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ العبد الكافر أو الفاجر إذا مات صعد بروحه إلى السّماء الدنيا فيقول الله جلّ وعزّ اكتبوا كتابه في سِجِّينٍ «2» قال: وهي الأرض السفلى. [سورة المطففين (83) : آية 8] وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) على التعظيم، وهو مبتدأ وخبره. [سورة المطففين (83) : آية 9] كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) إضمار مبتدأ أي هو كتاب مرقوم. [سورة المطففين (83) : الآيات 10 الى 11] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) نعت للمكذبين ويجوز النصب على ما مرّ. [سورة المطففين (83) : آية 12] وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) قال الحسن بن واقد: أي معتد في قوله أثيم عند ربّه. [سورة المطففين (83) : آية 13] إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)

_ (1) انظر تفسير الطبري 30/ 92. (2) انظر تفسير القرطبي 17/ 255.

[سورة المطففين (83) : آية 14]

على إضمار مبتدأ. [سورة المطففين (83) : آية 14] كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) بإدغام اللام في الراء وترك الإمالة قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وأبي عمرو، وقرأ الأعمش وعاصم وحمزة والكسائي بإدغام غير أنهم أمالوا، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق بَلْ رانَ «1» بغير إدغام. قال أبو جعفر: والإدغام في هذا أولى لقرب اللام من الراء وترك الإمالة أولى لأنه لا ياء فيه ولا كسرة، وإنما الإمالة محمولة على المعنى لأنه من ران يرين مشتق من الرّين كما قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل عن عارم قال: سألت الأصمعي عن حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم «إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله عزّ وجلّ مائة مرة» «2» فقال: التوقي في الكلام في حديث رسول الله كالتوقي في القرآن ولكن العرب تسمي الغيم إذا كان دون الغيم رقيقا الغين والرّين. قال أبو جعفر: فهذا الإعراب والاشتقاق فأما المعنى فقال فيه مجاهد: للقلب أصابع فإذا أذنب عبد انقبض منها إصبع ثم إن أذنب انقبضت منها أخرى حتى تنقبض كلّها، ويطبع على قلبه فلا ينفع فيه موعظة. قال أبو جعفر: وأولى ما قيل في هذا ما صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كما قرئ على أحمد بن شعيب عن قتيبة عن الليث عن محمد بن عجلان عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي قال: «إذا أخطأ العبد خطيئة وكت في قلبه وكتة يعني سوداء فإن نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتّى يعلو قلبه فذلك الرين الذي ذكره جلّ وعزّ كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) «3» . [سورة المطففين (83) : آية 15] كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) في معناه قولان: أحدهما أنه دلّ بهذا على أنّ المؤمنين لا يحجبون عن النظر إليه جلّ وعزّ. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا ما قاله مالك بن أنس في ذلك وسئل الشافعي رحمه الله عن النظر إلى الله جلّ وعزّ يوم القيامة فقال: يدل عليه كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) والقول الآخر أنّ التقدير: عن كرامة ربّهم مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . قال أبو جعفر: وهذا خطأ على مذهب النحويين منهم الخليل وسيبويه، ولا يجوز عندهما ولا عند غيرهما من النحويين: جاءني زيد، بمعنى جاءني غلامه وجاءتني كرامته. [سورة المطففين (83) : آية 16] ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ لأنه للمستقبل فمن حذف النون تخفيفا قال: لصالو الجحيم بالخفض على الإضافة ومن حذفها لالتقاء الساكنين نصب.

_ (1) انظر تيسير الداني 179. (2) انظر إتحاف السادة المتقين 8/ 517. (3) انظر مستدرك الحاكم 1/ 5، وتفسيري الطبري 30/ 62، وكنز العمال (1288) .

[سورة المطففين (83) : آية 17]

[سورة المطففين (83) : آية 17] ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) اسم ما لم يسمّ فاعله على قول سيبويه «1» في الجملة وكذا قال في ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ [يوسف: 35] في موضع الفاعل. وهذا عند أبي العباس خطأ لأن الجملة لا تقوم مقام الفاعل ولكن الفعل دلّ على المصدر، وقام المصدر مقام الفاعل. [سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 19] كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) فيه خمسة أقوال وفي إعرابه قولان فأكثر أهل التفسير منهم كعب ومجاهد وزيد بن أسلم يقولون: علّيّون السماء السابعة، وحكى الفرّاء «2» إنه السماء الدنيا، وقال قتادة: قائمة العرش اليمنى، وقال الضحّاك: علّيّون سدرة المنتهى وقيل: علّيّون الملائكة. قال أبو جعفر. القول الأول عليه الجماعة فأما الإعراب فالقولان اللذان فيه أحدهما أن عليين أشبه عشرين وما أشبهها لأنه لا واحد له، وإنما هو بمعنى من علوّ إلى علو فأعرب كإعراب عشرين. قال أبو جعفر: فهذا قول موافق لتأويل الذين قالوا علّيّون السماء السابعة، والقول الآخر أن عليين صفة للملائكة فلذلك جمع بالواو والنون. [سورة المطففين (83) : آية 20] كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) أي ذلك الكتاب كتاب أي مكتوب وفسّر ذلك الضحّاك قال: إذا خرج روح المؤمن أخذه الملك فصعد به إلى السماء الدنيا فتبعه الملائكة المقربون ثم كذلك من سماء إلى سماء حتى ينتهي به إلى السماء السابعة إلى سدرة المنتهى فيوافيهم كتاب من الله جلّ وعزّ مختوم فيه أمان من الله لفلان ابن فلان من عذاب النار يوم القيامة وبالفوز بالجنة. قال ابن زيد: المقربون الملائكة. [سورة المطففين (83) : آية 22] إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) قيل: سمّوا أبرارا لكثرة ما يأتونه من الصدق لأن الصدق يقال له برّ. [سورة المطففين (83) : الآيات 23 الى 24] عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) أي إلى ما لهم من القصور والحور وغير ذلك. قال أبو جعفر: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) وأجاز الفرّاء «3» يعرف لأنه تأنيث غير حقيقي. [سورة المطففين (83) : آية 25] يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)

_ (1) انظر الكتاب 3/ 124. (2) انظر معاني الفراء 3/ 247. (3) انظر معاني الفراء 3/ 248.

[سورة المطففين (83) : آية 26]

مِنْ رَحِيقٍ في موضع نصب على خبر ما لم يسمّ فاعله على غير قول الأخفش. [سورة المطففين (83) : آية 26] خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) خِتامُهُ مِسْكٌ مبتدأ وخبره. هذه قراءة أكثر الناس. وقرأ الكسائي رواه عنه أبو عبيد «خاتمه مسك» «1» وزعم أن هذه القراءة قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وذكر إسماعيل بن إسحاق أنه لم يجد أحدا يعرف هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقرئ على إبراهيم بن موسى عن محمد بن الجهم عن يحيى بن زياد عن محمد بن الفضل عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرّحمن السلميّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ «خاتمه مسك» «2» قال أبو جعفر: ختامه بمعنى واحد إلا أن ختاما مصدر وخاتم اسم الفاعل، وأكثر كلام العرب في الناس وما أشبههم هو خاتمهم كما قال جلّ وعزّ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] ، وكذا خاتم وفي غير الناس ختام كما قال: [الكامل] 552- أغلي السّباء بكلّ أدكن عاتق ... أو جونة قدحت وفضّ ختامها «3» وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أي فليحرص وليطلب. وأصل هذا من نفست عليه بالشيء أي أردت أن يكون لي دونه، واشتقاقه من النّفس أي الذي تفرح به النفس وتميل إليه. [سورة المطففين (83) : الآيات 27 الى 28] وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) في نصب عين خمسة أقوال: قول الأخفش إنها منصوبة بيسقون، وقال محمد بن يزيد حكاه لنا علي بن سليمان: لا يصحّ لي أن تكون منصوبة إلّا بمعنى أعني، وقال الفرّاء «4» : أي من تسنيم عين ثم نوّنت فتنصب مثل أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ [البلد: 14] والقول الرابع «تسنيم عينا» ، والقول الخامس أن يكون تسنيم اسما للماء معرفة وعين نكرة فنصب لذلك. قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بالصواب لأنه صحيح على قول أهل التأويل، كما قرأ محمد بن جعفر عن حفص بن يوسف بن موسى ثنا سلمة ثنا نهشل عن الضحّاك قال: «تسنيم» عين تتسنّم من أعلى الجنة ليس في الجنة عين أشرف منها. قال أبو جعفر:

_ (1) انظر تيسير الداني 179، ومعاني الفراء 3/ 248. (2) انظر تيسير الداني 179، ومعاني الفراء 3/ 248. (3) الشاهد للبيد بن ربيعة في ديوانه 314، وأسرار العربية 303، وخزانة الأدب 3/ 105، وسرّ صناعة الإعراب 632، وشرح المفصّل 8/ 92 ولسان العرب (قدح) و (عتق) ، و (دكن) ، والمعاني الكبير 1/ 452، والمقاصد النحوية 4/ 125، وأساس البلاغة (سبأ) ، وكتاب العين 7/ 315، وبلا نسبة في جمهرة اللغة 402، ورصف المباني ص 411. (4) انظر معاني الفراء 3/ 249.

[سورة المطففين (83) : آية 29]

وقول مجاهد أيضا يدلّ على هذا قال: تسنيم علو وكذا الاشتقاق يقال: تسنّمت الماء أتسنّمه تسنيما إذا أجريته من موضع عال، وقبر مسنم أي مرتفع، ومن هذا سنام البعير فإن قال قائل فلم انصرف تسنيم وهو معرفة اسم للمؤنث؟ قيل: تقديره أنه اسم لمذكّر للماء الجاري من ذلك الموضع العالي ومعنى عينا جاريا فقد صارت في موضع الحال. [سورة المطففين (83) : آية 29] إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أي اكتسبوا الإثم. يقال: جرم وأجرم إذا اكتسب إلا أنّ الأكثر في اكتساب الإثم أجرم وفي غيره جرم. الَّذِينَ اسم إنّ أَجْرَمُوا صلته كانُوا خارج من الصلة لأنه خبر «إن» أي كانوا في الدنيا مِنَ الَّذِينَ صدقوا بتوحيد الله يَضْحَكُونَ استهزءوا بهم ويروى أن أبا جهل وأصحابه ضحكوا واستهزءوا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابه. [سورة المطففين (83) : آية 30] وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) استهزءوا بهم. [سورة المطففين (83) : آية 31] وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) «1» وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس فاكهين يقول معجبين. قال أبو جعفر: أي معجبين بما يفعلون مسرورين به، وقال ابن زيد: فاكهين ناعمين، وزعم الفرّاء «2» أن فاكهين بمعنى واحد وحكى أبو عبيد أن أبا زيد الأنصاري حكى عن العرب أن الفكه الضحوك الطيب النفس. قال محمد بن يزيد: كان الأصمعي يرفع بأبي زيد في اللغة ويذكر محلّه وتقدّمه ويذكر صدقه وأمانته قال: وكان خلف بن حيان أبو محرز على جلالته يحضر حلقته. [سورة المطففين (83) : آية 32] وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) هذا قول الكفار في الدنيا أي لضالّون عن طريق الصواب. [سورة المطففين (83) : آية 33] وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) أي لم يرسلوا ليحفظوا عليهم أعمالهم وإنما أمروا بطاعة الله تعالى. [سورة المطففين (83) : الآيات 34 الى 36] فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) وذلك بعد دخولهم الجنة. قال ابن عباس: يفتح لهم أبواب إلى النار فينظرون إلى الذين كانوا يسخرون في الدنيا

_ (1) انظر تيسير الداني 179، والبحر المحيط 8/ 435. [.....] (2) انظر معاني الفراء 3/ 249.

ويضحكون بهم فإذا رأوهم في النار سرّوا بانتقام الله تعالى من أعدائه وضحكوا بهم إذ ذاك عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) إليهم. وقال غيره: على الأرائك ينظرون إلى قصورهم وأزواجهم، ويقول بعضهم لبعض هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وقيل هَلْ مبتدأة منقطعة مما قبلها أي هل جزي الكفار بأعمالهم، وما في موضع نصب على هذا المعنى.

84 شرح إعراب سورة انشقت (الانشقاق)

84 شرح إعراب سورة انشقت (الانشقاق) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الانشقاق (84) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) إِذَا في موضع نصب وقد ذكرنا قول النحويين في جواب «إذا» ، وقد قيل: المعنى: اذكروا إذا السّماء انشقّت، فعلى هذا لا تحتاج إلى جواب أي اذكر خبر ذلك الوقت. [سورة الانشقاق (84) : آية 2] وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) قال سعيد بن جبير: حقّ لها أن تأذن. قال أبو جعفر: حقيقة هذا أن المعنى حقّق الله جلّ وعزّ عليها فانقادت إلى أمره وانشقت أي تصدّعت فصارت أبوابا. [سورة الانشقاق (84) : آية 3] وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) رفعت الأرض بإضمار فعل يفسره الثاني. [سورة الانشقاق (84) : الآيات 4 الى 5] وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) معطوف على الأول، وكذا وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) . [سورة الانشقاق (84) : آية 6] يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ نعت لأي، والأخفش يقول صلة لأنه لا بدّ منه إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً مصدر فيه معنى التوكيد فَمُلاقِيهِ في موضع رفع والأصل ضمّ الياء فحذفت الضمة لثقلها. فهذا قول، وقيل: حذفت لأن الياء هاهنا حرف مد ولين فأشبهت الألف فحذفت منه الضمة والكسرة، ومن العرب من يحذف منها الفتحة فيجريها مجرى الألف فلا يحركها بحال. [سورة الانشقاق (84) : الآيات 7 الى 8] فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) أي يثاب بحسناته ويتجاوز عن سيئاته. [سورة الانشقاق (84) : آية 9] وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 10 إلى 11]

نصب على الحال. [سورة الانشقاق (84) : الآيات 10 الى 11] وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) مفعول به أي يقول يا ثبوراه. قال سيبويه: في نظير هذا أي احضر فهذا من إبانك. [سورة الانشقاق (84) : آية 12] وَيَصْلى سَعِيراً (12) «1» من صلي يصلى ويصلى من صلاه يصليه إذا أحرقه، وكذا أصلاه. [سورة الانشقاق (84) : آية 13] إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) خبر كان، ويبعد أن يكون منصوبا على الحال إلّا أنه جائز كما نقول: زيد في أهله ضاحكا. [سورة الانشقاق (84) : آية 14] إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) أَنْ وما بعدها تقوم مقام المفعولين، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أَنْ لَنْ يَحُورَ قال: يقول: أن لن يبعث، وقال مجاهد: أن لن يرجع إلينا. يقال: حار يحور إذا رجع وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «اللهمّ إني أعوذ بك من الحور بعد الكور» «2» قيل: معناه أعوذ بك من الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان، وقيل أعوذ بك من النقصان بعد الزيادة. [سورة الانشقاق (84) : آية 15] بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) أي بلى ليحورنّ وليبعثنّ أنّ ربه كان به بصيرا بعمله وبما يصير إليه لأنه كان يرتكب المعاصي مجترئا عليها إذ كان عنده أنه لا يبعث. [سورة الانشقاق (84) : آية 16] فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) الباء هي الأصل في القسم، وتبدل منها الواو. [سورة الانشقاق (84) : الآيات 17 الى 18] وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) وَاللَّيْلِ واو عطف لا واو قسم وَما وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) كلّه معطوف. [سورة الانشقاق (84) : الآيات 19 الى 20] لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) مفتوحة الباء صحيحة عن ابن عباس كما قرئ على

_ (1) انظر تيسير الداني 179 (قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو «ويصلى» بفتح الياء وإسكان الصاد مخفّفا والباقون بضمّ الياء وفتح الصاد وتشديد اللام) . (2) انظر تفسير الطبري 30/ 75، والقرطبي 19/ 273.

[سورة الانشقاق (84) : آية 20]

إبراهيم بن موسى عن إسماعيل عن علي بن عبد الله عن سفيان عن عمرو عن ابن عباس أنه قرأ لَتَرْكَبُنَّ «1» بفتح الباء، وهي قراءة عبد الله بن مسعود والشعبي ومجاهد والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ المدنيون لَتَرْكَبُنَّ بضم الباء، وهي قراءة الحسن وأبي عمرو، وقال الفرّاء: وقرئت «ليركبنّ» قال أبو جعفر: القراءة الأولى مخاطبة للواحد وبني الفعل مع النون على الفتح لخفّته، وأكثر أهل التفسير يقول: المخاطبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ومنهم من يقول المخاطبة لجميع الناس، والمعنى: يا أيّها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) أي حالا بعد حال، وقيل: سماء بعد سماء إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم. والكادح العامل وقد كدح لأهله إذا اكتسب لهم، وأنشد سيبويه: [الطويل] 553- وما الدّهر إلّا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح «2» و «لتركبنّ» بضم الباء مخاطبة للجماعة والضمة تدلّ على الواو المحذوفة، وليركبن إخبار عن جماعة لأن بعده [سورة الانشقاق (84) : آية 20] فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وقبله ذكر من يؤتى كتابه بيمينه، ومن يؤتاه كتابه من وراء ظهره: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) في موضع نصب على الحال. [سورة الانشقاق (84) : آية 21] وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) أهل التفسير على أن المعنى لا يخضعون ولا يذلّون بالانتهاء إلى طاعة الله جلّ وعزّ. [سورة الانشقاق (84) : آية 22] بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) بالخروج من حديث إلى حديث يقع بعد الإيجاب والنفي عند البصريين. [سورة الانشقاق (84) : آية 23] وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) من أوعى الشيء إذا جمعه، ووعى حفظه. [سورة الانشقاق (84) : الآيات 24 الى 25] فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) الصَّالِحاتِ الَّذِينَ في موضع نصب استثناء من الهاء والميم، ويجوز أن يكون استثناء ليس من الأول، كما روى عكرمة عن ابن عباس إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، قال الشيخ الكبير إذا كبر وضعف وقد كان يعمل شيئا من الخير وقت قوته كتب له مثل أجر ما كان يعمل قال: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي لا يمنّ به عليهم.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 440، ومعاني الفراء 3/ 251. (2) مرّ الشاهد رقم (52) .

85 شرح إعراب سورة البروج

85 شرح إعراب سورة البروج بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البروج (85) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالسَّماءِ خفض بواو القسم ذاتِ الْبُرُوجِ نعت للسماء، واختلف النحويون في جواب القسم فمنهم من قال: هو محذوف، ومنهم من قال: التقدير لقتل أصحاب الأخدود وحذفت اللام، ومنهم من قال: الجواب إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) ، وقال أبو حاتم: التقدير قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج. قال أبو جعفر: وهذا غلط بيّن وقد أجمع النحويون على أنه لا يجوز والله قام زيد بمعنى قام زيد والله وأصل هذا في العربية أنّ القسم إذا ابتدئ به لم يجز أن يلغى ولا ينوى به التأخير، وإذا توسّط أو تأخّر جاز أن يلغى، وفيها جواب خامس أن يكون التقدير وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الآية: 10] وما اعترض بينهما معطوف وتوطئة للقسم قال محمد بن يزيد: واعلم أن القسم قد يؤكد بما يصدّق الخبر قبل ذكر المقسم عليه ثم يذكر ما يقع عليه القسم فمن ذلك وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) ثم ذكر قصّة أصحاب الأخدود، وإنما وقع القسم على قوله إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) . [سورة البروج (85) : الآيات 2 الى 3] وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) واو عطف لا واو قسم، وكذا وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قال أبو جعفر: قد ذكرنا معناه، وقد قيل: لا يخلو الناس يوم القيامة من شاهد ومشهود فالمعنى وربّ الناس. [سورة البروج (85) : الآيات 4 الى 5] قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) خفض على بدل الاشتمال. وفيه تقديران: أحدهما نارها والألف واللام عوض من المضمر، والآخر النار التي فيها، وهذا بدل الاشتمال. وفي معنى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) قولان: أحدهما أنهم المؤمنون قتلهم الكفار، والآخر أنهم الكفار، ويكون معنى قتلوا أو لعنوا أو أهلكوا. وأجاز «النحويون» قتل أصحاب

[سورة البروج (85) : آية 6]

الأخدود النار ذات الوقود، بالرفع كما قرأه أبو عبد الرّحمن السلمي وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الأنعام: 137] . قال أبو جعفر: وهذا باب من النحو دقيق قد ذكره سيبويه وذلك أنه يجوز: ضرب زيد عمرو لأنك إذا قلت: ضرب زيد، دل على أنه له ضاربا، والتقدير ضربه عمرو، وكذا قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) قتلتهم النار، وأنشد سيبويه: [الطويل] 554- ليبك يزيد ضارع لخصومة ... وأشعث ممّن طوّحته الطّوائح «1» أي يبكيه ضارع. قال الأخفش: الوقود بالفتح الحطب، والوقود بالضم الفعل: يريد المصدر أي الإيقاد. [سورة البروج (85) : آية 6] إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) قال قتادة: المؤمنون، وهذا على أحد التّأويلين. [سورة البروج (85) : آية 7] وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) أي ليس هم بغيب. [سورة البروج (85) : آية 8] وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ ويقال: نقموا أي وما وجدوا عليهم في شيء إلا في إيمانهم بالله العزيز الحميد بانتقامه الْحَمِيدِ أي المحمود عند عباده بأفعاله الجميلة. [سورة البروج (85) : آية 9] الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ نعت فيه معنى المدح في موضع خفض، ويجوز أن يكون في موضع نصب على المدح، ورفع على إضمار مبتدأ. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي قد شهد على فعلهم وفعل غيرهم وعلمه ليجازيهم عليه. [سورة البروج (85) : آية 10] إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ قال قتادة: أحرقوهم ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا أي من فعلهم ذلك فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ قال محمد بن إسحاق احترقوا في الدنيا، وكذا قال أبو العالية ولهم عذاب جهنم في الآخرة. [سورة البروج (85) : آية 11] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي أمروا بتوحيد الله سبحانه. وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ انتهوا إلى أمر الله ونهيه. لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهي أنهار الماء وأنهار الخمر واللبن والعسل ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ أي الظفر بما طلبوا.

_ (1) مرّ الشاهد رقم (132) .

[سورة البروج (85) : آية 12]

[سورة البروج (85) : آية 12] إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) أي كما بطش بأصحاب الأخدود تحذيرا منه عقابه. [سورة البروج (85) : الآيات 13 الى 14] إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) في معناه قولان قال ابن زيد: يبتدئ خلق الخلق ثم يعيدهم يوم القيامة، وعن ابن عباس يبدئ العذاب في الدنيا ثم يعيده عليهم في الآخرة. قال أبو جعفر: وهذا أشبه بالمعنى لأن سياق القصة أنهم أحرقوا في الدنيا ولهم عذاب جهنم فإن قيل: كيف يوافق هذا الحديث من عوقب في الدنيا فإن الله أكرم من أن يعيد عليه العقوبة؟ فالجواب عن هذا أنه ينقص من عقوبته يوم القيامة بمقدار ما لحقه في الدنيا لا أنّ الكلّ يزال عنه يوم القيامة، ويدلّ على ذلك الجواب المروي عن ابن عباس أن بعده وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) مبتدأ وخبره. [سورة البروج (85) : آية 15] ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) «1» بالرفع قراءة أبي جعفر ونافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم، وقرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ بالخفض فبعض النحويين يستبعد الخفض لأن المجيد معروف من صفات الله جلّ وعزّ فلا يجوز الجواب في كتاب الله بل على مذهب سيبويه «2» لا يجوز في كلام ولا شعر وإنما هو غلط في قولهم: هذا جحر ضبّ خرب، ونظيره في الغلط الإقواء، ولكن القراءة بالخفض جائزة على غير الجوار على أن يكون التقدير إنّ بطش ربك الْمَجِيدُ نعت. [سورة البروج (85) : آية 16] فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) يكون خبرا بعد خبر كما حكى سيبويه «3» : هذا حلو حامض، ويجوز أن يكون مرفوعا على إضمار مبتدأ ولا يكون نعتا لأنه نكرة: ولكن يجوز أن يكون بدلا أيضا. [سورة البروج (85) : آية 17] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) أي الذين تجنّدوا على عصيان الله جلّ وعزّ والردّ على رسله. [سورة البروج (85) : آية 18] فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بدل. [سورة البروج (85) : آية 19] بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) مبتدأ وخبره، وكذا [سورة البروج (85) : آية 20] وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) وكذا [سورة البروج (85) : الآيات 21 الى 22] بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

_ (1) انظر تيسير الداني 179. (2) انظر الكتاب 1/ 500. (3) انظر الكتاب 1/ 500.

بالخفض قراءة أبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو وعاصم ويحيى وحمزة والكسائي، وهو المعروف في الحديث والروايات إنه اللوح المحفوظ أي المحفوظ من أن يزاد فيه أو ينقص منه مما رسمه الله فيه، وقرأ نافع وابن محيصن فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «1» بالرفع على أنه نعت لقرآن أي بل هو قرآن مجيد محفوظ من أن يغير ويزاد فيه أو ينقص منه قد حفظه الله جلّ وعزّ من هذه الأشياء. فقد صحّت القراءة أيضا بالرفع ولهذا قال كثير من العلماء: من زعم أن القرآن قد بقي شيء منه فهو رادّ على الله كافر بذلك، والنص الذي لا اختلاف فيه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] فنظير هذا «محفوظ» بالرفع.

_ (1) انظر تيسير الداني 179، والبحر المحيط 8/ 446.

86 شرح إعراب سورة الطارق

86 شرح إعراب سورة الطارق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الطارق (86) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَالسَّماءِ خفض بواو القسم. وَالطَّارِقِ عطف عليها من قولهم طرق طروقا إذا أتى ليلا. [سورة الطارق (86) : الآيات 2 الى 3] وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) النَّجْمُ بمعنى هو النجم الثاقب، ويجوز أن يكون الثَّاقِبُ نعتا للطارق، وأصحّ ما قيل في معنى الثاقب ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس الثاقب قال: يقول: المضيء، وحكى الفراء: ثقب أي ارتفع وأنه زحل، قيل له: الثاقب لارتفاعه، وقال غيره: لطلوعه من المشرق كأنه يثقب موضعه. [سورة الطارق (86) : آية 4] إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا «1» عَلَيْها حافِظٌ قراءة أبي عمرو ونافع والكسائي، وقرأ أبو جعفر والحسن إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) قال أبو جعفر: القراءة الأولى بيّنة في العربية تكون ما زائدة و «إن» مخففة من الثقيلة هذا مذهب سيبويه، وهو جواب القسم، والقراءة الثانية تكون «لمّا» بمعنى إلا عليها. قال أبو جعفر: حكى سيبويه «2» ، أقسمت عليك لمّا فعلت، بمعنى ألا فعلت. [سورة الطارق (86) : آية 5] فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) من نظر القلب والأصل فلينظر حذفت الكسرة لثقلها وجزم الفعل بلام الأمر وكسرت الراء لالتقاء الساكنين. مِمَّ خُلِقَ الأصل مما حذفت الألف لأنها استفهام، وتم الكلام.

_ (1) انظر تيسير الداني 180، والبحر المحيط 8/ 448. (2) انظر الكتاب 3/ 122.

[سورة الطارق (86) : آية 6]

[سورة الطارق (86) : آية 6] خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) قال أبو جعفر: قول الكسائي والفراء أن معنى دافق مدفوق قال: وأهل الحجاز أفعل الناس لهذا يأتون بفاعل بمعنى مفعول إذا كان نعتا مثل «ماء دافق» وسرّ كاتم أي مكتوم. قال أبو جعفر: فاعل بمعنى مفعول فيه بطلان البيان، ولا يصح ولا ينقاس، ولو جاز هذا لجاز ضارب بمعنى مضروب، والقول عند البصريين أنه على النسب، كما قال: [الطويل] 555- كليني لهم يا أميمة ناصب «1» وكما قال: [الطويل] 556- وليس بذي سيف فيقتلني به ... وليس بذي رمح وليس بنبّال «2» [سورة الطارق (86) : آية 7] يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) وقرأ عيسى مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وحكى الأصمعي: الصّلب بمعنى الصلب. وَالتَّرائِبِ جمع تربية، ويقال: تريب واختلف العلماء في معناه فمن أصح ما قيل فيه ما رواه عطيّة عن ابن عباس قال: الترائب موضع القلادة، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الترائب بين ثدي المرأة، وقال سعيد بن جبير: الترائب الأضلاع إلى أسفل الصلب وقال مجاهد: ما بين المنكبين والصدر، وقال الضحاك: الترائب اليدان والرجلان والعينان، وقال قتادة: الترائب نحو الصلب وروى الليث بن سعد عن معمر بن أبي حبيبة قال: الترائب غضارة القلب ومنه يكون الولد، قال أبو جعفر: هذه الأقوال ليست بمتناقضة لأنه يروى أن الماء يخرج من البدن كلّه حتى من كل شعره إلا أن القول الأول مستعمل في كلام العرب كما قال: [الوافر] 557- ومن ذهب يلوح على تريب ... كلون العاج ليس بذي غضون «3» وكما قال: [الطويل] 558- مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسّجنجل «4»

_ (1) مرّ الشاهد رقم (226) . (2) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 33، وشرح أبيات سيبويه 3/ 221، والكتاب 3/ 422، وشرح شواهد المغني 1/ 341، وشرح المفصّل 6/ 14، ولسان العرب (نبل) ، والمقاصد النحوية 4/ 540، وبلا نسبة في شرح الأشموني 3/ 745، ومغني اللبيب 1/ 111، والمقتضب 3/ 162. [.....] (3) الشاهد للمثقب العبد في شعره ص 32، وديوان المفضليات 579، وتفسير الطبري 30/ 145. (4) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 15، ولسان العرب (سجل) ، وتهذيب اللغة 5/ 377، وتاج العروس (ترب) و (فيض) ، و (هفف) ، و (سجل) وبلا نسبة في لسان العرب (ترب) و (هفف) وديوان الأدب 2/ 86.

[سورة الطارق (86) : آية 8]

وزعم الفراء «1» أن معنى بين الصلب والترائب من الصلب والترائب لا يجعل بين زائدة ولكن كما يقول: فلان هالك بين هذين. [سورة الطارق (86) : آية 8] إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) اختلف العلماء في هذا الضمير. فمن أصحّ ما قيل فيه قول قتادة قال: على بعثه وإعادته فالضمير على هذا للإنسان. قال أبو جعفر: وقرئ على إبراهيم بن موسى عن محمد بن الجهم عن يحيى بن زياد عن مندل بن علي عن ليث عن مجاهد إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ قال على ردّ الماء في الإحليل. وهو مذهب ابن زيد قال على رجعه لقادر على حبسه حتى لا يخرج. هذان قولان، وعن الضحاك كمعناهما، وعنه قول ثالث: على رجعه لقادر قال: على رجعه بعد الكبر إلى الشباب وبعد الشباب إلى الصبا وبعد الصبا إلى النطفة. قال أبو جعفر: والقول الأول أبينهما واختاره محمد بن جرير غير أنه احتجّ بحجة لتقويته هي خطأ في العربية. زعم أن قوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ من صلة رجعه يقدره أنه على رجعه يوم تبلى السرائر لقادر. قال أبو جعفر: وهذا غلط، ولو كان كذا لدخل في صلته رجعه ولفرقت بين الصلة والموصول بخبر «إن» ، وذلك غير جائز ولكن يعمل في «يوم» ناصر. [سورة الطارق (86) : الآيات 9 الى 10] يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) أي تختبر وتظهر. قيل: يعني الصلاة والصيام وغسل الجنابة. فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ قال قتادة: من قوة تمنعه من الله عزّ وجلّ: وَلا ناصِرٍ ينصره منه، وقال الثوري: مِنْ قُوَّةٍ من عشيرة وَلا ناصِرٍ حليف. [سورة الطارق (86) : آية 11] وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) قال أبو جعفر: أهل التفسير على أنه المطر لأنه يرجع كل عام إلا ابن زيد فإنه قال: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ شمسها وقمرها ونجومها. وجمع رجع رجعان سماع من العرب على غير قياس، ولو قيس لقيل أرجع ورجوع. [سورة الطارق (86) : آية 12] وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) لأنها تصدع بالنبات. [سورة الطارق (86) : الآيات 13 الى 14] إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) جواب القسم الثاني أي ذو فصل وكذا وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) . [سورة الطارق (86) : آية 15] إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) أي للنبي صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين. [سورة الطارق (86) : آية 16] وَأَكِيدُ كَيْداً (16) أمهلهم. [سورة الطارق (86) : آية 17] فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) نعت لمصدر أي إمهالا رويدا. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس «رويدا» قال: يقول: قريبا، وقال الحسن: قليلا.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 255.

87 شرح إعراب سورة سبح (الأعلى)

87 شرح إعراب سورة سبّح (الأعلى) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأعلى (87) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) قال الفراء «1» : سبّح اسم ربك وسبّح باسم ربّك كلّ صواب. قال أبو جعفر: إن كان قدّر هذا على حذف الباء فلا يجوز: مررت زيدا، وإن كان قدّره مما يتعدّى بحرف وغير حرف فالمعنى واحد فليس كذلك لأن معنى سبّح باسم ربّك ليكن تسبيحك باسم ربّك وقد تكلّم العلماء في معنى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى بأجوبة كلّها مخالف لمعنى ما فيه الباء. فمنهم من قال: معناه نزّه اسم ربك الأعلى وعظّمه عن أن تنسبه إلى ما نسبه إليه المشركون لأنه الأعلى أي القاهر لكلّ شيء أي العالي عليه، ومنهم من قال: أي لا تقل العزّى لأنها مشتقّة من العزيز، ولا اللات لأنهم اشتقوا من قولهم الله، ومنهم من قال: معنى سبّح اسم ربّك أي اذكر اسم ربك وأنت معظم له خاشع متذلّل ومنهم من قال معناه سبح اسم ربّك في صلاتك متخشعا مشغولا بها. قال أبو جعفر: والجواب الأول أبينها كما قرئ على محمد بن جعفر عن يوسف بن موسى عن وكيع ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) قال: سبحان ربي الأعلى. الْأَعْلَى في موضع خفض نعت لربك أو لاسم، والأولى أن يكون نعتا لما عليه. [سورة الأعلى (87) : آية 2] الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) الَّذِي خَلَقَ في موضع جرّ نعت للأعلى وإن شئت لربك، وجاز أن ينعت النعت، لأنه المنعوت في المعنى وعلى هذا جاز: يا يزيد الكريم ذو الجمّة. ومعنى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى الذي خلق الخلق فعدّل خلقه فصار كلّه حسنا في المفعول. وَالَّذِي قَدَّرَ «2» أي قدر صورهم وأرزاقهم وأعمالهم فَهَدى قيل: فبيّن لهم،

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 256. (2) انظر البحر المحيط 8/ 453 (وقرأ الكسائي «قدر» مخفّف الدال من القدرة) .

[سورة الأعلى (87) : آية 4]

وقيل: المعنى: فهدى وأضل، وقيل: فهداهم إلى مصالحهم. [سورة الأعلى (87) : آية 4] وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) في موضع خفض عطف والمرعى ما تأكله البهائم. [سورة الأعلى (87) : آية 5] فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) مفعولان وفيه قولان: أحدهما والذي أخرج المرعى أحوى أي أخضر يضرب إلى السواد فجعله غثاء، والقول الآخر والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أسود. وهذا أولى بالصواب، وإنما يقع التقديم والتأخير إذا لم يصحّ المعنى على غيره ولا سيما وقد روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس فجعله غثاء أحوى يقول: هشيما متغيّرا. [سورة الأعلى (87) : آية 6] سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) فيه قولان أحدهما فلا تترك، والآخر أن يكون من النسيان. فهذا أولى لأن عليه أهل التأويل. قال مجاهد: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في نفسه لئلا ينسى، وقال عبد الله بن وهب: حدّثني مالك بن أنس في قوله سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى قال: تحفظ «إلّا ما شاء الله» والمعنى في القولين جميعا فليس تنسى، وهو خبر وليس بنهي، ولا يجوز عند أكبر أهل اللغة أن ينهى إنسان عن أن ينسى لأن النسيان ليس إليه. [سورة الأعلى (87) : آية 7] إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ في موضع نصب على الاستثناء، وفي معناه أقوال فعلى الجواب الأول لست تترك شيئا مما أمرك الله به إلا ما شاء الله جلّ وعزّ أن ننسخه فيأمرك بتركه فتتركه، وقيل: فلست تنسى إلا ما شاء الله أن تنساه ولا يشاء الله أن تنسى منه شيئا. وهذا قول الفراء وشبهه بقوله خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ [هود: 107] وقيل المعنى فلست تنسى إلا ما شاء الله مما يلحق الآدميين، وقيل: لست تنسى إلا ما شاء الله أن يرفعه ويرفع تلاوته فهذه أربعة أجوبة، وجواب خامس أن يكون المعنى فجعله غثاء أحوى إلا ما شاء الله والله أعلم بما أراده. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ أي ما ظهر وعلن وَما يَخْفى ما كتم وما ستر أي فلا تعملوا بمعاصيه فإنه يعلم ما ظهر وما بطن. [سورة الأعلى (87) : آية 8] وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) أي للحال اليسرى. [سورة الأعلى (87) : آية 9] فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) فيه قولان أحدهما فذكّر في كل حال إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع مثل سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] والجواب الآخر أن الذكرى تنفع بكلّ حال فيكون المعنى كما تقول: فذكّر إن كنت تفعل ما أمرت به.

[سورة الأعلى (87) : آية 10]

[سورة الأعلى (87) : آية 10] سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) قال الحسين بن واقد: هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال: [سورة الأعلى (87) : آية 11] وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) قال: عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف. [سورة الأعلى (87) : آية 12] الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) قال: جهنم، وقال الفراء: السفلى من أطباق النار. [سورة الأعلى (87) : آية 13] ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) في معناه أقوال: قيل: نفوس أهل النار في حلوقهم لا تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواضعها من أجسادهم فيحيوا، وقيل: لا يموتون فيستريحوا ولا يحيون حياة ينتفعون بها، وقيل: هو من قول العرب إذا كان في شدة شديدة ليس بحيّ ولا ميت كما قال: [الخفيف] 559- ليس من مات فاستراح بميت ... إنّما الميت ميّت الأحياء «1» [سورة الأعلى (87) : آية 14] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) في معناه قولان: روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: من تزكّى من الشرك أي تطهر، وقال الحسن «2» : من تزكى من كان عمله زاكيا والقول الآخر عن قتادة قال: من تزكّى أدّى زكاة ماله. [سورة الأعلى (87) : آية 15] وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال وحده قال: فَصَلَّى يقول: فصلى الصلوات الخمس، وقال غيره صلّى هاهنا دعا، والصواب عند محمد بن جرير أن يكون المعنى صلّى فذكر اسم ربّه في صلاته بالتحميد والتمجيد. قال أبو جعفر: وهذا غلط على قول أهل العربية لأنه جعل ما قبل الفاء بعدها، وهذا عكس ما قاله النحويون، والصواب قول ابن عباس. [سورة الأعلى (87) : آية 16] بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وإن شئت أدغمت اللام في التاء، وفي قراءة أبيّ «بل أنتم تؤثرون الحياة الدنيا» «3» وهذه قراءة على التفسير وقرأ أبو عمرو «بل يؤثرون» بالياء على أنه مردود على الأشقى. [سورة الأعلى (87) : آية 17] وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) مبتدأ وخبره. [سورة الأعلى (87) : آية 18] إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18)

_ (1) مرّ الشاهد رقم (352) . (2) انظر البحر المحيط 8/ 454. (3) انظر معاني الفراء 3/ 257، والبحر المحيط 8/ 455.

[سورة الأعلى (87) : آية 19]

في معناه ثلاثة أقوال: أحدها أن قوله جلّ وعزّ والآخرة خير وأبقى في الصحف الأولى، وهذا كأنه مذهب قتادة، وقيل الفلاح لمن تزكى وذكر اسم ربه فصلى في الصحف الأولى، والقول الثالث أنه يعني به السورة كما قرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى عن وكيع عن شريك عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سبّح اسم ربّك الأعلى من صحف إبراهيم وموسى والله أعلم بما أراد إلا أن قول قتادة حسن لأنه لما يليه، وسبيل الشيء أن يكون لما يليه إلّا أن تأتي حجة قاطعة تغير ذلك. [سورة الأعلى (87) : آية 19] صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) على البدل والصحيفة الكتاب.

88 شرح إعراب سورة الغاشية

88 شرح إعراب سورة الغاشية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الغاشية (88) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) أهل التفسير على أن معنى حديث وخبر واحد، ودلّ هذا على أن معنى حدثنا وأخبرنا واحد، ويدلّ على هذا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها [الزلزلة: 4] لأن معنى تحدّث وتخبّر واحد. ولأهل التأويل في الغاشية قولان: روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الغاشية من أسماء يوم القيامة، وقال سعيد بن جبير: الغاشية النار. قال أبو جعفر: والقولان متقاربان لأن القيامة تغشى الناس بأهوالها والنار في القيامة تغشى الناس بما فيها. [سورة الغاشية (88) : الآيات 2 الى 3] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) مبتدأ وخبره. قال قتادة: خاشعة في النار يعني ذليلة. واختلف أهل التأويل في قوله جلّ وعزّ: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) فمنهم من قال: عاملة ناصبة في الدنيا، وهذا يتأول لأنه قول عمر رضي الله عنه وتقديره في العربية وجوه يومئذ خاشعة وتمّ الكلام ثم قال: عاملة أي هي في الدنيا «عاملة ناصبة» ، ويجوز أن يكون التقدير: وجوه عاملة ناصبة يومئذ خاشعة أي يوم القيامة خاشِعَةٌ خبر الابتداء، وجاز أن يبدأ بنكرة لأن المعنى للكفار وإن كان الخبر جرى عن الوجوه، وقال عكرمة: عاملة في الدنيا بمعاصي الله جلّ وعزّ ناصبة في النار. التقدير على هذا أن يكون التمام عاملة. وقول الحسن وقتادة إن هذه الوجوه في القيامة خاشعة عاملة ناصبة وإنها لما لم تعمل في الدنيا أعملها الله في النار وأنصبها. فعلى هذا يكون عاملة ناصبة من نعت خاشعة أو يكون خبرا، وهو جواب حسن لأنه لا يحتاج فيه إلى إضمار ولا تقديم ولا تأخير. [سورة الغاشية (88) : آية 4] تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)

[سورة الغاشية (88) : آية 5]

قراءة الجماعة إلا أبا عمرو فإنه قرأ تَصْلى «1» لا نعلم غيره قرأ به واحتجّ بتسقى والمعنيان واحد لأنها تصلى فتصلي. [سورة الغاشية (88) : آية 5] تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) قال عطاء: قد انتهى حرّها، وقال ابن زيد: آنية حاضرة. قال أبو جعفر. والمعروف القول الأول وآنية هاهنا مخالفة للتقدير لقوله: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ [الإنسان: 15] وإن كان اللفظ بها واحدا لأن بآنية الألف الثانية فيها بدل من الهمزة والألف في غير الآنية زائدة، ووزنها فاعلة ووزن تلك أفعلة. [سورة الغاشية (88) : آية 6] لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) اختلف أهل التأويل في تفسير الضريع فروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الضريع شجر من نار، وقال ابن زيد: الضريع الشوك من النار. وهو عند العرب شوك يابس لا ورق فيه وعن عكرمة الضريع الحجارة. وعن الحسن قولان: أحدهما الضريع الزقوم، والآخر أن الضريع الذي يضرع ويذلّ من أكله لمرارته وخشونته. قال أبو جعفر: وهذا القول جامع للأقوال كلها وقد قال عطاء: الضريع الشبرق. قال أبو جعفر: وهذا القول الذي حكاه أهل اللغة. الشبرق: شجر كثير الشوك تعافه الإبل. [سورة الغاشية (88) : آية 7] لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) أي لا يشبع. [سورة الغاشية (88) : آية 8] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) مبتدأ وخبره، وجاء بغير واو ولو كان بالواو كان عطف جملة على جملة. [سورة الغاشية (88) : آية 9] لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) قال أبو جعفر: يكون التقدير: بثواب عملها راضية يجوز النصب في راضية. [سورة الغاشية (88) : آية 10] فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) أي بستان رفيع. [سورة الغاشية (88) : آية 11] لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) قال أبو جعفر: فيها أربع قراءات «2» إحداها شاذة وأربعة أقوال أحدها شاذ. قرأ

_ (1) انظر تيسير الداني 180، والبحر المحيط 8/ 457. (2) انظر تيسير الداني 180، والبحر المحيط 8/ 458.

[سورة الغاشية (88) : آية 12]

ابن كثير ونافع لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً بالتاء ورفع لاغية وقرأ ابن محيصن «لا يسمع فيها لاغية» بالياء والرفع وقرأ أبو جعفر وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً بفتح التاء، والقراءة الشاذة لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً بمعنى لا تسمع الوجوه فيها والمراد أصحابها، وقد تقدم ذكر الوجوه والقراءة الأولى أجمعها للمعاني، والقراءة الثانية بالتذكير لأن لاغية ولغوا واحد، والقراءة الثالثة لا تسمع الوجوه والأقوال الأربعة منها عن ابن عباس لاغية أذى وباطل، وقال مجاهد: لاغية شتم، وقال قتادة لاغية باطل وتأثم، وقال أبو جعفر: وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعاني أي كله لغو باطل، وقيل: لاغية على المجاز: قال الأخفش سعيد: كما قال الحطيئة: [مجزوء الكامل] 560- وغررتني وزعمت أنّ ... ك لابن بالصّيف تامر «1» وقال الفراء «2» لاغية أي حالفا بكذب. قال أبو جعفر: وهذا القول شاذ لأنه خارج عن قول أهل التفسير ولا يطلق لأحد أن يخرج عن جملتهم في ما قالوه وإن كان قوله محتملا. [سورة الغاشية (88) : آية 12] فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) العين مؤنّثة، وقد حكى تذكيرها، كما قال: [البسيط] 561- والعين بالإثمد الحاريّ مكحول «3» ولا يعرف الأصمعي في العين إلا التأنيث. قال أبو جعفر: وهو الصحيح، وفي هذا البيت قولان: قال محمد بن يزيد: ما لم يكن فيه علامة التأنيث وكان غير حقيقي التأنيث فلك تذكيره نحو: هذا نار وذاك دار، وأما الأصمعي فقال: مكحول للحاجب لأنه قد تقدّم ذكره. [سورة الغاشية (88) : آية 13] فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) أي لينظروا إلى الله من فوق سريره إلى ما خوّله الله جلّ وعزّ من نعمه.

_ (1) الشاهد للحطيئة في ديوانه 33، والكتاب 3/ 420، وأدب الكاتب 327، والخصائص 3/ 282، وشرح أبيات سيبويه 2/ 230، وشرح المفصّل 6/ 13، ولسان العرب (لبن) ، وبلا نسبة في رصف المباني ص 72، والصاحبي في فقه اللغة 181. (2) انظر معاني الفراء 3/ 257. (3) الشاهد لطفيل الغنويّ في ديوانه ص 55، والكتاب 2/ 43، وشرح أبيات سيبويه 1/ 187، وشرح شواهد الإيضاح 342، ولسان العرب (صرخد) ، وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب 2/ 669، وشرح المفصّل 1/ 18، ولسان العرب (هجج) ، وصدره: «إذ هي أحوى من الرّبعيّ حاجبه»

[سورة الغاشية (88) : آية 14]

[سورة الغاشية (88) : آية 14] وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) قيل: على جوانب العين مملوءة. [سورة الغاشية (88) : آية 15] وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) أي بعضها إلى جنب بعض. [سورة الغاشية (88) : الآيات 16 الى 17] وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) الواحد زريبة. قال الفراء «1» : هي الطنافس التي لها خمل، قال: مبثوثة كثيرة. أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) في معناها قولان: أحدهما أنها السحاب والصحيح أنها الجمال وذلك المعروف في كلام العرب. قال قتادة: لمّا نعت الله نعيم الجنة عجب أهل الضلالة من ذلك فأنزل الله جلّ وعزّ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وكانت الإبل من عيش العرب ومرجوّهم. قال أبو جعفر: المعنى: أفلا يفكرون فيعلموا أن من خلق هذه الأشياء قادر على خلق ما يريد. [سورة الغاشية (88) : آية 18] وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) أي كيف رفعت فوقهم بغير عمد يرونها ليستدلّوا على عظيم قدرته. [سورة الغاشية (88) : آية 19] وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) أي أقيمت منتصبة لا تسقط. [سورة الغاشية (88) : الآيات 20 الى 21] وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) قال قتادة: بسطت. فَذَكِّرْ وحذف المفعول لعلم السامع أي فذكّر عبادي حججي وآياتي إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ أي ليس عليك إلا التذكير. [سورة الغاشية (88) : آية 22] لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) «2» قال ابن زيد: أي لست تردّهم إلى الإيمان، وعن ابن عباس بمسيطر بجبار ... قال أبو جعفر: أصله السين مشتق من السطر لأن معنى السطر هو الّذي لا يخرج عن الشيء قد منع من ذلك. ويقال: تسيطر إذا تسلّط وتبدل من السين صاد لأن بعدها طاء، وقيل: إنها منسوخة بقوله جلّ وعزّ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] ، وقيل: ليست منسوخة لأنهم إذا أظهروا الإسلام تركوا على جملتهم ولم يتسلّط عليهم كما قرئ على أحمد بن شعيب عن عمرو بن منصور عن أبي نعيم عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها وحسابهم على الله» ثم تلا إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) بمسيطر» «3» .

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 258. [.....] (2) انظر تيسير الداني 180. (3) أخرجه البخاري في صحيحه 1/ 13، ومسلم في الإيمان 32، 33، والنسائي في سننه 7/ 77، والترمذي في سننه (2606) ، وأحمد في مسنده 1/ 11، 19.

[سورة الغاشية (88) : آية 23]

[سورة الغاشية (88) : آية 23] إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى في موضع نصب استثناء ليس من الأول أي لكن من تولى وأعرض عن ذكر الله وَكَفَرَ يعذّبه الله ويجوز أن يكون في موضع نصب استثناء من المفعول المحذوف أي فذكر عبادي إلا من تولّى وكفر كما تقول: عظ الناس إلا من تولّى عنك ولم يقبل منك، ويجوز أن يكون استثناء بمعنى أنت مذكّر الناس إلا من تولّى، وقول رابع أن يكون من في موضع خفض على البدل من الهاء والميم في عليهم. [سورة الغاشية (88) : آية 24] فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) وهو عذاب جهنّم. [سورة الغاشية (88) : آية 25] إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) وقرأ أبو جعفر إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ بالتشديد، وقيل: هو لحن لأنه من آب يئوب فلو كان مشددا كان إوّابهم وكان يكون إيوابهم كما يقال: ديوان الأصل دوّان فالدليل على ذلك قولهم في الجمع دواوين. [سورة الغاشية (88) : آية 26] ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) أي حسابهم على كفرهم ليجازيهم على ذلك.

89 شرح إعراب سورة الفجر

89 شرح إعراب سورة الفجر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفجر (89) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) خفض بواو القسم وعن ابن عباس في معناه ثلاثة أقوال: منها أنه فجر السنة المحرّم، وإنه النهار، وأنه صلاة الفجر، وأما مسروق فقال: هو فجركم هذا، قال: واختلف العلماء في الفجر فأهل الكوفة يقولون: هو البياض، وأهل المدينة يقولون: هو الحمرة، وقد حكي عن العرب: ثوب مشفق ومشفّق أي مصبوغ بالحمرة. وَلَيالٍ عطف والأصل فيها ليالي ولو جاء على الأصل لقلت: وليالي يا هذا، لا ينصرف كما قال الشاعر: [الرجز] 562- قد عجبت منّي ومن يعيليا «1» فكره أن يختلف المعتلّ فجيء بالتنوين بعد أن حذفت الياء عوضا منها، وقيل: من الحركة عَشْرٍ نعت لليال. [سورة الفجر (89) : آية 3] وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) قراءة «2» أبي جعفر وشيبة ونافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قال أبو جعفر: هو اختيار أبي عبيد واحتجّ بأشياء منها أنه الأكثر في عادة الناس وأنّ المحدّثين كذا يقولونه. قال أبو جعفر: لو قال قائل: الأكثر في عادة الناس الفتح لكان أشبه وإن كان له حجة في كليهما ولا في

_ (1) الرجز للفرزدق في الدرر 1/ 102، وشرح التصريح 2/ 228، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 348، والخصائص 1/ 6، وشرح الأشموني 2/ 541، ولسان العرب (علا) و (قلا) ، وما ينصرف وما لا ينصرف ص 114، والمقتضب 1/ 142، والممتع في التصريف 2/ 557، والمنصف 2/ 68، وهمع الهوامع 1/ 36. (2) انظر تيسير الداني 180، والبحر المحيط 8/ 463.

[سورة الفجر (89) : آية 4]

قول المحدثين لأن المحدث لا يضبط مثل هذا، ولا يحتاج إلى ضبطه. ولو قال قائل: إنّ الفتح أولى لأن قبله والشفع وهو مفتوح لكان قد قال قولا يشبه الاحتجاجات، ولكنهما لغتان حسنتان كما قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن إسحاق قال: قرأت على أبي عثمان المازني وأبي إسحاق الزيادي عن الأصمعي قال: كل فرد وتر أهل الحجاز يفتحون الوتر ويكسرون الوتر من الذّحل، ومن تحتهم من قيس وتميم يسوّون بينهما. قال أبو جعفر: وقد بيّن الأصمعي أنهما لغتان وفي حديث عمر وابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «الذي تفوته صلاة العصر كأنّما وتر أهله وماله» «1» يجوز أن يكون مشتقا من الوتر وهو الذحل فيكون المعنى فكأنما سلب أهله وماله بما فاته من الفضل بأن فاتته صلاة. يقال: وتره يتره وترا وترة إذا سلبه، والاسم الوتر، ويجوز أن يكون مشتقا من الوتر أي الفرد فيكون المعنى كأنما نقص أهله وماله أي بقي فردا. وخص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة العصر بهذا في ما قيل لأنها كانت وقت أشغالهم ومبايعاتهم فكان حضورها يصعب عليهم وقال: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: 238] الصحيح أنها صلاة العصر وذلك موافق للحديث. [سورة الفجر (89) : آية 4] وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) والأصل يسري حذفت الياء في الخط لأنها رأس آية، ومن أثبتها في الإدراج جاء بها على الأصل وحذفت في الوقف اتّباعا للمصحف الذي لا يحلّ خلافه، وحسن ذلك لأن كل ما يوقف عليه يسقط إعرابه ومن حسن ما قيل في معنى يسري أنه إذا أقبل عند إدبار النهار. [سورة الفجر (89) : آية 5] هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) قيل: أي مقنع. ومن حسن ما قيل فيه أن المعنى هل في ذلك مما يقسم به أهل العقل تعظيما لما أقيم به وتوكيدا لما أقسم عليه، واستدلّ بعض العلماء بهذا وبتعظيمه على أن المعنى وربّ الفجر لأن أهل العقل والإيمان لا يقيمون إلا بالله جلّ وعزّ، وقد حظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول أحد والكعبة بل خبر عن الله جلّ وعزّ كما روى عمر وابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» «2» قال عمر فما حلفت بها ذاكرا ولا آثرا. وفي حديث آخر «من حلف بغير الله فقد أشرك» «3» وفي آخر «فقد كفر» . قال أبو جعفر: قوله فما حلفت بها كناية عن

_ (1) مرّ تخريجه في إعراب الآية 35- محمد. (2) أخرجه البخاري في صحيحه 8/ 33، ومسلم في الإيمان 1، 3، والترمذي في سننه (1534) ، وأحمد في مسنده 1/ 18. (3) مرّ تخريجه في إعراب الآية 4- الأحقاف.

[سورة الفجر (89) : الآيات 6 إلى 7]

اليمين ولم يتقدّم لها ذكر لعلم السامع، وقوله ذاكرا أي قائلا كما يقال: ذكر لي فلان كذا، ولا آثرا أي مخبرا ومعنى «من حلف بغير الله فقد أشرك» فعل فعل المشركين. وكذا فقد كفر. فهذا قول، وقيل: فقد أشرك فقد جعل لله شريكا في التعظيم، وقيل: معنى «فقد كفر» فقد غطّى وستر أمر الله لأنه أمر أن لا يحلف إلّا بالله. [سورة الفجر (89) : الآيات 6 الى 7] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) «1» صرف عادا جعله اسما للحقّ، وقراءة الضحاك بِعادٍ بغير صرف جعله اسما للقبيلة، وفي قراءة الحسن بِعادٍ إِرَمَ أضاف عاد إلى إِرَمَ ولم يصرف إرم. وهذه الآية مشكلة على كثير من أهل العربية يقول كثير من الناس إنّ إرم اسم موضع فكيف يكون نعتا لعاد أو بدلا منه؟ ويقال: كيف صرف عاد ولم يصرف إرم؟ فقد زعم محمد بن كعب القرطبيّ أن إرم الإسكندرية، وقال المقبريّ: إرم دمشق وكذا قال مالك بن أنس بلغني أنها دمشق رواه عنه ابن وهب، وقال مجاهد: إرم القديمة، وقد روي عنه غير هذا، وعن ابن عباس إرم الهالك، وعن قتادة إرم القبيلة. قال أبو جعفر: والكلام في هذا من جهة العربية أن أبين ما فيه قول قتادة: إن ارم قبيل من عاد فأما أن يكون إرم الإسكندرية أو دمشق فبعيد لقول الله تعالى: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ [الأحقاف: 21] والحقف ما التوى من الرمل، وليس كذا دمشق ولا الإسكندرية. وقد قيل إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ مدينة عظيمة موجودة في هذا الوقت فإن صحّ هذا فتلخيصه في النحو أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ صاحبة إرم مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ذاتِ الْعِمادِ نعت لعاد على معنى القبيلة أو لأرم وكذا. [سورة الفجر (89) : آية 8] الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وفي قراءة ابن الزبير الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ أي لم يخلق ربّك مثل عاد في البلدان على عظم أجسادهم وقوتهم فلم يغن ذلك عنهم شيئا لمّا خالفوا أمر الله جلّ وعزّ فأهلكهم. «وثمود» في موضع خفض، والتقدير وبثمود لم ينصرف لأنه اسم للقبيلة، ومن صرفه جعله اسما للحي، ومن خفضه بغير تنوين حذف التنوين لالتقاء الساكنين «الذين» في موضع خفض على النعت، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أعني، وفي موضع رفع بمعنى هم الذين جابوا الصخر بالوادي. وجابوا من ذوات الواو جاب

_ (1) انظر القراءات في البحر المحيط 8/ 464، والمحتسب 2/ 359، والإتحاف 270.

[سورة الفجر (89) : آية 12]

الشيء يجوبه إذا قطعه ودخل فيه، وحذفت الياء من الواو لأنه رأس آية والكسرة تدل عليها. وَفِرْعَوْنَ في موضع خفض، والمعنى وبفرعون، ولم ينصرف لأنه اسم أعجمي ذِي الْأَوْتادِ من نعته وعن ابن عباس ذِي الْأَوْتادِ ذي الجنود. قال أبو جعفر: قد ذكرنا فيه غير هذا أي ذي الجنود الكثيرة المحتاجة لضرب الأوتاد في أسفارها. الَّذِينَ طَغَوْا أي تجاوزوا أمر الله جلّ وعزّ في البلاد أي الذين كانوا فيه. [سورة الفجر (89) : آية 12] فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) على تأنيث الجماعة يكون جمع بلد، والتذكير جائز يراد به الجمع أو الواحد. [سورة الفجر (89) : آية 13] فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) ويجوز بالصاد لأن بعد السين طاء. [سورة الفجر (89) : آية 14] إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) من أحسن ما قيل فيه إنه مجاز أي يرصد أعمال العباد أي لا يفوته شيء، وقال سفيان: المرصاد القنطرة الثالثة من جهنم. [سورة الفجر (89) : آية 15] فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ أي اختبره فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ في معنى هذا وما بعده قولان: أحدهما وهو قول قتادة أن الإنسان إذا أنعم الله عليه ووسع قال: أكرمني ربّي بهذا فإذا ضيق عليه رزقه قال: أهانني فزجر الله الإنسان عن هذا وعرفه أنه ليس التوسيع عليه من إكرامه ولا التضييق عليه من إهانته. قال قتادة: وإنما إكرامه إياه بطاعته وإهانته إليه بمعصيته، والقول الآخر إن الإنسان إذا واسع الله عليه حمد الله جلّ وعزّ فإذا ضيّق عليه لم يحمده فزجره الله، لأنه يجب أن يحمده في الحالين، والزجر في قوله: كَلَّا ويدلّ على صحة الجواب الأول ما بعد الآية بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وما بعده أي فبهذا الإهانة وبضدّه الكرامة. [سورة الفجر (89) : آية 18] وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) «1» حذف المفعول لعلم السامع أي ولا تحضّون الناس، ومن قرأ تَحَاضُّونَ قدّره بمعنى تتحاضون، حذفت إحدى التائين كما قال وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] .

_ (1) انظر تيسير الداني 180، والبحر المحيط 8/ 466.

[سورة الفجر (89) : آية 19]

[سورة الفجر (89) : آية 19] وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) التاء مبدلة من الواو لأنها أقرب الزوائد إليها أَكْلًا مصدر لَمًّا من نعته. قال الفراء «1» : شديدا. [سورة الفجر (89) : الآيات 20 الى 21] وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) قال: كثيرا. قال أبو جعفر كَلَّا تماما في كلّ القرآن قال: المعنى: لا ينبغي أن يكونوا هكذا وانزجروا عن هذا الفعل. إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا عن ابن عباس أي حرّكت وهو مصدر مؤكّد، وكذا الذي بعده. [سورة الفجر (89) : آية 22] وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا يعني الملائكة صَفًّا صَفًّا مصدر في موضع الحال. [سورة الفجر (89) : آية 23] وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ في موضع اسم ما لم يسمّ فاعله، ويجوز أن يكون الاسم المصدر يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ويجوز إدغام التاء في الذال وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى قال الضحاك التوبة، وقيل: المعنى من أيّ جهة له منفعة الذّكرى. يَقُولُ يا لَيْتَنِي ومن العرب من يقول: ليتي يشبّهه بأنّي. قال الضحاك: قَدَّمْتُ لِحَياتِي في الآخرة. قال الحسن: علم أنّ ثمّ حياة لا نفاذ لها. [سورة الفجر (89) : آية 25] فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) هذه قراءة أبي عبد الرّحمن السلمي والحسن وأبي جعفر وشيبة ونافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم والأعمش وحمزة. وهي القراءة التي قامت بها الحجة من جهة الإجماع وقرأ الكسائي فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ «2» قال: وهذا اختيار أبي عبيد، واحتج بحجتين واهيتين إحداهما الحديث زعم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال أبو جعفر: والحديث لا يصحّ سنده حدّثناه محمد بن الوليد عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال: ثنا هشام وعبّاد بن عبّاد عن خالد عن أبي قلابة عمن أقرأه النبي صلّى الله عليه وسلّم فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ بفتح الذال والثاء. قال أبو جعفر: وهذا الحديث بيّن لأنه إذا وقع في الحديث مجهول لم يحتجّ به في غير القرآن فكيف في كتاب الله ومعارضته الجماعة الذين قراءتهم عن النبي؟ وحجته الأخرى

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 262. (2) انظر تيسير الداني 180.

[سورة الفجر (89) : آية 27]

أنه قد علم المسلمون أنه ليس أحد يوم القيامة يعذّب إلا الله فكيف يكون لا يعذّب أحد عذابه، هذه حجّته. قال أبو جعفر: وأغفل ما قاله العلماء في تأويل الآية لأنهم قالوا، منهم الحسن: لا يعذّب أحد في الدنيا بمثل عذاب الله يوم القيامة. وتأوّل أبو عبيد معنى لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ لا يعذّب عذاب الكافر أحد. وخولف أيضا في هذا التأويل، وممن خالفه الفراء «1» ذهب إلى أن المعنى: لا يعذّب أحد في الدنيا مثل عذاب الله في الآخرة، وفيه قول ثالث أنه يراد به رجل بعينه. [سورة الفجر (89) : آية 27] يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ويجوز يا أيّها لإبهام أيّ النَّفْسُ نعت لأيّ والْمُطْمَئِنَّةُ نعت للنفس فإن جعلتها نعتا لأي جاز نصبها، لأن قد تمّ الكلام كما تقول: يا زيد الكريم أقبل. والمعنى المطمئنة بوعد الله جلّ وعزّ ووعيده. [سورة الفجر (89) : آية 28] ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ في معناه قولان قال سعيد بن جبير: إلى جسدك فالمعنى على هذا أن النفس خوطبت. قال الضحاك: إلى الله فالمعنى على هذا أن المخاطبة للإنسان وإليه يذهب الفراء، وإلى أنّ المعنى أنّ الملائكة تقول لهم إذا أعطوا كتبهم بأيمانهم هذا أي ارجعي إلى ثواب ربك. فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) أي في عبادي الصالحين أي كوني معهم. قال الفراء «2» : وقرأ ابن عباس وحده «فادخلي في عبدي» «3» . قال أبو جعفر: وهذا غلط: أعني قوله وحده، هذه قراءة مجاهد وعكرمة وأبي جعفر والضحاك. وتقديرها في العربية على معنى الجنس أي لتدخل كلّ روح في عبد وقيل: هو واحد يدلّ على جمع وعلامة الجزم في ادخلي عند الكوفيين حذف النون، والبصريون يقولون: ليس بمعرب لأنه غير مضارع ولا عامل معه فيجزمه، وزعم الفراء أن العامل فيه اللام وهي محذوفة.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 262. (2) انظر معاني الفراء 3/ 263. (3) انظر البحر المحيط 8/ 467. [.....]

90 شرح إعراب سورة البلد

90 شرح إعراب سورة البلد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البلد (90) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) في لا ثلاثة أقوال: قال الأخفش: تكون صلة فهذا قول، وقيل: هي بمعنى ألا ذكره أيضا الأخفش، والقول الثالث قول أهل التأويل، روى الحسن «1» عن مجاهد قال: «لا» ردّ لكلامهم ثم ابتدأ أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ. قال أبو جعفر: في قوله جلّ وعزّ الْبَلَدِ ثلاثة أقوال: يكون نعتا لهذا، ويكون بدلا، وأولاها الثالث أن يكون عطف البيان والنحويون يذكرون عطف البيان على جملته وما علمت أن أحدا بيّنه والفرق بينه وبين البدل إلا ابن كيسان، قال: الفرق بينهما أن معنى البدل أن تقدّر الثاني في موضع الأول وكأنك لم تذكر الأول، ومعنى عطف البيان أن يكون تقدر أنك إن ذكرت الاسم الأول لم يعرف إلا بالثاني وإن ذكرت الثاني لم يعرف إلا بالأول فجئت مبينا للأول قائما له مقام النعت والتوكيد. قال: وبيان هذا في النداء يا أخانا زيد أقبل على البدل كأنك رفعت الأول وقلت: يا زيد: فإن أردت عطف البيان قلت: يا أخانا زيدا أقبل. [سورة البلد (90) : آية 2] وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) قال الأخفش: حلّ وحلال وحرم وحرام. [سورة البلد (90) : آية 3] وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) وَوالِدٍ واو عطف لا واو قسم، وكذا وَما وَلَدَ وقال أبو عمران الجوني: وَوالِدٍ إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم وولده، وروي عن ابن عباس الوالد الذي ولد، وَما وَلَدَ ولده. قال أبو جعفر: وهذا على أنه عام وكأنه أبين ما يقال: ويكون التقدير ووالد وولادته حتى يكون «ما» للمصدر.

_ (1) انظر الطبري 30/ 195.

[سورة البلد (90) : آية 4]

[سورة البلد (90) : آية 4] لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) قال أبو جعفر: قد ذكرناه، ومن أبين ما قيل في معناه قول عطاء قال: في كبد في مكابدة للأمور. قال الحسن: يكابد السرّاء والضرّاء، وليس أحد يكابد الأمور ما يكابد ابن آدم، وقال سعيد بن أبي الحسن: يكابد أمر الدنيا وأمر الآخرة وقال مجاهد: يكون نطفة وعلقة ولا يزال في مكابدة. فهذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد، وهو أبين ما قيل فيها أي يكابد الأمور ويعالجها. فهذا الظاهر من كلام العرب في معنى كبد. قال ذو الإصبع العدواني: [البسيط] 563- لي ابن عمّ لو أنّ النّاس في كبد ... لظلّ محتجرا بالنّبل يرميني «1» وقال لبيد: [المنسرح] 564- قمنا وقام الخصوم في كبدي «2» [سورة البلد (90) : آية 5] أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) قيل يعني بهذا الكافر أي أيحسب أن لن يقدر الله عليه فيعاقبه فخبر جلّ ثناؤه بجهله. [سورة البلد (90) : آية 6] يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) قيل: يدافع بهذا عن فعل الخيرات، وقيل: قال هذا تندّما، ويدلّ على هذا الجواب ما بعده. قال أبو جعفر: يكون لبد جمع لبدة، وقد يكون واحدا مثل حطم، وروي عن أبي جعفر أنه قرأ لبدا جمع لا بد، وعن مجاهد أنه قال قرأ لبدا جمع لبود، ولا نعلم اختلافا في معناه أنه الكثير. [سورة البلد (90) : آية 7] أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) والأصل يرأه قلبت حركة الهمزة على الراء فانفتحت وسقطت الهمزة. قال أبو جعفر: وما علمت أحدا من النحويين تكلّم في علّة الهمزة لم تسقط إذا ألقيت حركتها على ما قبلها إلّا علي بن سليمان، سألته عنه قال: لمّا سقطت حركة الهمزة وسكنت وكانت الراء قبلها ساكنة فحرّكت حركة عارضة فكان حكمها حكم الساكن وبعدها ساكن فحذف ما بعدها وهو الهمزة.

_ (1) الشاهد في ديوان المفضليات 326، والمقاصد النحوية 3/ 288. (2) الشاهد للبيد في ديوانه 160، وتذكرة النحاة ص 118، والخصائص 3/ 318، ولسان العرب (كبد) ، وبلا نسبة في الخصائص 2/ 205 ولسان العرب (عدل) ، وصدره: «يا عين هلّا بكيت أربد إذ»

[سورة البلد (90) : الآيات 8 إلى 9]

[سورة البلد (90) : الآيات 8 الى 9] أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) اللّسان يذكّر ويؤنّث فمن ذكره جمعه ألسنة، ومن أنّثه قال: ألسن. قال: وفي تصغيره لسيّن بتشديد الياء ولسينة بتخفيفها. والأصل في شفة شفهة، والدليل على ذلك جمعها وتصغيرها واشتقاق الفعل منها. [سورة البلد (90) : آية 10] وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) مفعول ثان حذفت منه إلى على قول البصريين، وكذا أنشد سيبويه: [الكامل] 565- كما عسل الطّريق الثّعلب «1» عنده أنه حذف منه الحرف، وعند الكوفيين أنه ظرف مثل أمام وقدام. [سورة البلد (90) : آية 11] فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) يقال: سبيل «لا» في مثل هذا أن تأتي متكررة مثل فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة: 31] ، وأن سيبويه قد أجاز إفرادها، وأنشد: [مجزوء الكامل] 566- من صدّ عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح «2» وخالفه محمد بن يزيد وجعل هذا اضطرارا. فأما الآية ففيها معنى التكرير لأنه جلّ وعزّ قد بيّن معنى العقبة بما هو مكرّر. قال قتادة: النار عقبة دون الجنة. [سورة البلد (90) : الآيات 12 الى 13] وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) التقدير اقتحام العقبة أن يفكّ رقبة كما روى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من أعتق رقبة أعتق الله سبحانه بكل عضو منها عضوا منه من النار» «3» قال أبو هريرة: حتّى ذكره بذكره، وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو عمرو وابن كثير والكسائي فَكُّ «4» رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ثم تكلّم النحويون في هذا فاختار الفرّاء «5» هذه القراءة واحتج بأن بعده ثم كانّ أي فلمّا عطف بكان وهي فعل ماض على الأول وجب أن يكون «فكّ» ليعطف فعلا ماضيا على فعل ماض، واختار الأخفش وأبو حاتم وأبو عبيد القراءة الأخرى. قال أبو جعفر: الديانة تحظر الطعن على القراءة التي قرأ بها الجماعة، ولا يجوز أن تكون مأخوذة إلا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال عليه السّلام: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» «6» فهما قراءتان حسنتان لا

_ (1) مرّ الشاهد رقم (145) . (2) مرّ الشاهد رقم (3) . (3) أخرجه البخاري في صحيحه 8/ 181، والترمذي في سننه 1541، والبغوي في شرح السنة 9/ 351، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق 5/ 202. (4) انظر تيسير الداني 181. (5) انظر معاني الفراء 3/ 265. (6) أخرجه الترمذي في سننه- القراءات 11/ 60 وأبو داود الحديث رقم (1475) .

[سورة البلد (90) : آية 17]

يجوز أن تقدّم إحداهما على الأخرى. فأما اعتراض الفرّاء «1» بكان وبالنسق على الأول فلا يلزم لأنه لا يجوز أن يكون معطوفا على المعنى: لأن المعنى فعل هذا، وقد نقض هو قوله بأن أجاز القراءة الأخرى على إضمار «أن» ، وأنشد: [الطويل] 567- ألا أيّهذا اللّائمي أحضر الوغى ... وأن أشهد اللّذّات هل أنت مخلدي «2» يريد أن أحضر، ولو كان الأمر كما قال لنصب أحضر. وإضمار «أن» لا يجوز إلا بعوض لأنها بعض اسم. واعترض أبو عبيد فقال: الاختيار «فكّ رقبة» لأنه يتبين للعقبة، وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال كلّ ما قال جلّ وعزّ وما أدراك فقد بيّنه، وما قال فيه وما يدريك فلم يبيّنه. قال أبو جعفر: فهذا غلط قد قال الله عزّ وجلّ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ [القارعة: 3] وقال تعالى ذكره: ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 3] وليس بعد هذا يتبين. وروي عن الحسن وأبي رجاء أنهما قرءا «وأطعم في يوم ذا مسغبة» «3» قال الفرّاء «4» وإن كان لم يذكر من قرأ «ذا مسغبة» هو صفة ليتيم أي يتيما ذا مسغبة. قال أبو جعفر: والغلط في هذا بين جدا لأنه لا يجوز أن تتقدّم الصفة قبل الموصوف، ولست أدري كيف وقع هذا له حتى ذكره في كتاب «المعاني» ؟ ولكن يكون «ذا مسغبة» منصوبا بأطعم ويتيما بدلا منه. [سورة البلد (90) : آية 17] ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أي ثبت على الإيمان، وقيل: ثم للإخبار وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أعيد الفعل والباء توكيدا. [سورة البلد (90) : آية 18] أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) أي يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وبأهل النار ذات الشمال إلى النار. [سورة البلد (90) : آية 20] عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) «5» من أخذه من أصد فسبيله أن يهمز، ومن أخذه من أوصد لم يجز همزه.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 265. (2) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه 32، والكتاب 3/ 115، والإنصاف 2/ 560، وخزانة الأدب 1/ 119، والدرر 1/ 74، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 285، وشرح شواهد المغني 2/ 800، ولسان العرب (أنن) و (دنا) ، والمقاصد النحوية 4/ 402، والمقتضب 2/ 85، وبلا نسبة في خزانة الأدب 1/ 463، والدرر 3/ 33، ورصف المباني 113، وشرح ابن عقيل ص 597، وشرح المفصل 2/ 7 ومجالس ثعلب 383، ومغني اللبيب 2/ 383. (3) انظر الإتحاف 271. (4) انظر معاني الفراء 3/ 265. (5) انظر تيسير الداني 181. [.....]

91 شرح إعراب سورة الشمس

91 شرح إعراب سورة الشمس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشمس (91) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) المعروف في اللغة أن الضحى أول طلوع الشمس إذا أشرقت وإن كان مجاهد قد قال: الضحى النهار، وهو قول الفرّاء «1» . [سورة الشمس (91) : آية 2] وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) المعروف في اللغة أن تلاها تبعها، وإن كان الفرّاء «2» قد حكى تلاها أخذ منها، يذهب إلى أن القمر أخذ من ضوء الشمس. [سورة الشمس (91) : آية 3] وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها (3) الظاهر من معناه والبيّن إذا جلّى الشّمس أي إذا أظهرها وأبداها لأن الشمس لا تكون إلّا فيه وإن كان الفرّاء قد قال: والنهار إذا جلّى الظلمة. هو قول بعيد لأن الظلمة لم يتقدّم لها ذكر. [سورة الشمس (91) : آية 4] وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) يعود الضمير على الشمس أيضا. [سورة الشمس (91) : الآيات 5 الى 6] وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) ما في موضع خفض أي وبنائها، وكذا وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) . روى إسماعيل عن أبي خالد عن أبي صالح طحاها بسطها، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس طحاها قسمها.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 266. (2) انظر معاني الفراء 3/ 266.

[سورة الشمس (91) : آية 7]

[سورة الشمس (91) : آية 7] وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) أي تسويتها. قال أبو جعفر: ومن قال: المعنى الذي سواها أراد الله جلّ وعزّ، ولو كان كما قال لكان ومن. [سورة الشمس (91) : آية 8] فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) مفعولان. [سورة الشمس (91) : آية 9] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قد أفلح من زكّى الله نفسه. [سورة الشمس (91) : آية 10] وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) فأضلّها، وقال قتادة: قد أفلح من زكى نفسه بالعمل الصالح. قال أبو جعفر: في هذا شيء من النحو غامض لم يذكره الفرّاء وإن كان قد ذكر القولين في المعنى، وذلك أنه إذا كان الضمير يعود على الله جلّ وعزّ لم يعد على من من صلته شيء إلّا على حيلة بعيدة، وذلك أنك إذا قدّرت قد أفلح الإنسان الذي زكّى النفس لم يعد على الذي شي من صلته، وإن قدّرته قد أفلح الإنسان الذي زكّى الله نفسه لم يجز أن يكنّى عن النفس، لأنه لا يعود على النفس شيء، ولو قدّرت «من» للنفس كان بعيدا لأن من لا تكاد تقع في مثل هذا، والحيلة التي يجوز عليه أن يحمل على المعنى أن تؤنّث «من» بمعنى النفس أو يكون المعنى قد أفلحت الفرقة التي زكاها الله فيكون «من» للجميع ومعنى زكاها الله طهّرها بالتوفيق لطاعته، وزكّى فلان ماله، في اشتقاقه قولان: أحدهما أنه من زكا الزرع إذا زاد ونما أي كثر ماله بإخراجه الزكاة والقول الآخر بيّن حسن يكون زكى ماله طهّره وخلّصه بإخراج سهمان المساكين منه. ومنه: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً [الكهف: 74] أي طاهرة مخلصة من الذنوب، ومنه عبد زكي أي طاهر «وقد خاب» أي لم يظفر بما يريد من دسى نفسه الله أي خذلها فارتكبت المعاصي. وعلى القول الآخر من دسّى نفسه أي سترها لركوب المعصية. فاشتقاقه من دسّ ودسس فأبدل، من أحد السينين ياء كما قال: [الطويل] 568- رأت رجلا أيما إذا الشّمس عارضت «1» يريد أما. [سورة الشمس (91) : آية 11] كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11)

_ (1) مرّ الشاهد رقم (11) .

[سورة الشمس (91) : آية 12]

الطّغوى الطغيان واحد إلا أن عطاء الخراساني روى عن ابن عباس قال: بطغواها بعذابها، والطّغوى اسم العذاب. قال أبو جعفر: وهذا يصحّ على حذف أي بعذاب طغواها مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] . [سورة الشمس (91) : آية 12] إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) حكى الفرّاء أنهما اثنان، وأنشد: [الطويل] 569- ألا بكّر النّاعي بخيري بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسّيّد الصّمد «1» يريد أنه جعل خبر الاثنين، وشبهه بقولهم: هذان أفضل الناس، وهذان خير الناس. قال أبو جعفر: هذا الذي حكاه خلاف ما قال الله جلّ وعزّ، وقاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقاله أهل التأويل قال الله: أشقاها. فخبّر عن واحد فحكي أنهما اثنان وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: انتدب لها رجل، ولم يقل رجلان، وقال أهل التأويل انتدب لها قدار بن سالف. قال أبو جعفر: وله نظير أو أعظم منه في سورة الرّحمن. [سورة الشمس (91) : آية 13] فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) أي احذروا ناقة الله. قال الفرّاء «2» : ولو قرأ قارئ «ناقة الله» بالرفع أي هذه ناقة الله لجاز. قال أبو جعفر: ولا يجوز الابتداع في القراءات. [سورة الشمس (91) : آية 14] فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها قال الفرّاء: أراد فعقروها فكذبوه. وهذا خطأ في الفاء لأنها تدلّ على أن ثانيا بعد الأول، وهذا عكس اللغة، ومع هذا فليست ثم حال يضطر إليه لأنهم كذّبوا صالحا بأن قال لهم: إن عقرتموها انتقم الله منكم فكذبوه في ما قال فعقروها، وقد قيل: «فكذبوه» كلام تام ثم عطف عليه فعقروها. قال أبو جعفر: وفي هذا من المشكل أن يقال: قد كانوا آمنوا وصدقوا، وجعلوا للناقة يوما ولهم يوما في الشرب فزعم الفرّاء «3» إن الجواب عن هذا أنهم أقروا به ولم يؤمنوا. وهذا القول الذي قاله مما لا يجب أن يجترأ عليه إلا برواية لأنه مغيّب، والرواية بخلافه. روى سعيد عن قتادة قال: توقّف أحيمر ثمود عن عقر الناقة حتى اجتمعوا كلّهم معه على تكذيب صالح صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم فلهذا عمّم الله بالعذاب فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ قال الفرّاء «4» : أي أرجف، وقال غيره: أي عذّبهم، فَسَوَّاها قال أبو جعفر:

_ (1) الشاهد لسبرة بن عمرو الأسدي في التنبيه والإيضاح 2/ 119، وجمهرة اللغة 657، وسمط اللآلي 933، وبلا نسبة في لسان العرب (صمد) و (خير) ، والمخصّص 12/ 301، وديوان الأدب 1/ 209 وتهذيب اللغة 12/ 150، وإصلاح المنطق 49، وأمالي القالي 2/ 288. (2) انظر معاني الفراء 3/ 268. (3) انظر معاني الفراء 3/ 269. (4) انظر معاني الفراء 3/ 269.

[سورة الشمس (91) : آية 15]

سألت علي بن سليمان عن هذا الضمير فقال: يعود على الدمدمة التي دلّ عليها دمدم، وقال غيره: أي سوّى بينهم في العقوبة فأهلكهم جميعا. [سورة الشمس (91) : آية 15] وَلا يَخافُ عُقْباها (15) هكذا قرأ أهل البصرة وأهل الكوفة وقرأ أهل الحجاز «1» وَلا يَخافُ عُقْباها، وزعم الفرّاء «2» أن الواو أجود. وهذا عظيم من القول أن يقال في ما قرأت به الجماعة ووقع للسواد المنقول عن الصحابة الذين أخذوه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أجود أو خير. والقراءتان جميعا نقلهما الجماعة عن الجماعة، فهما بمنزلة آيتين لأن معناهما مختلف. قال أبو جعفر: سمعت إبراهيم بن محمد نفطويه يقول: من قرأ بالفاء فالمعنى لله لا غير، وهذا كما قال، وعليه أهل التأويل وهو صحيح عن ابن عباس قال إبراهيم بن محمد: ومن قرأ بالواو ذهب إلى أن المعنى للعاقر أي انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها أي وهذه حاله. والذي قال حسن غير أنه لا يجوز أن يكون بالواو لله جلّ وعزّ الذي قاله بيّن والله أعلم بما أراد.

_ (1) انظر تيسير الداني 181 (قرأ نافع وابن عامر بالفاء والباقون بالواو) . (2) انظر معاني الفراء 3/ 270.

92 شرح إعراب سورة الليل

92 شرح إعراب سورة الليل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الليل (92) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) حذف المفعول كما يقال: ضرب زيد، ولا يجيء بالمضروب إمّا لمعرفة السامع وإمّا أن تريد أن تبهم عليه. قيل: المعنى والليل إذا يغشى كل شيء بظلمته فيصير له كالغشاء، وليس كذا النهار، وعلى هذا قول الذبياني: [الطويل] 570- فإنّك كاللّيل الّذي هو مدركي ... وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع «1» [سورة الليل (92) : آية 2] وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) خفض على العطف وليست بواو قسم. [سورة الليل (92) : آية 3] وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) ما مصدر أي وخلقه الذكر والأنثى، قيل «ما» بمعنى الذي، وأجاز الفرّاء: وما خلق الذكر والأنثى بمعنى والذي خلق الذكر والأنثى. قال أبو جعفر: وجه بعيد أن تكون «ما» بمعنى «من» وأيضا لا نعرف أحدا قرأ به، ولكن روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «والنّهار إذا تجلّى وما خلق الذكر والأنثى» وهو عطف. [سورة الليل (92) : آية 4] إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) جواب القسم. قال محمد بن كعب: سعيكم عملكم. [سورة الليل (92) : الآيات 5 الى 6] فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) مَنْ في موضع رفع بالابتداء عند البصريين، وعند الكوفيين بالهاء العائدة

_ (1) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 38، ولسان العرب (طور) و (نأى) ، وكتاب العين 8/ 393، وتاج العروس (نأى) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 5/ 378، ومجمل اللغة 4/ 368.

[سورة الليل (92) : آية 7]

عليه. قال الحسين بن واقد: فأما من أعطى زكاته واتّقى ربّه. ومن أحسن ما قيل في معنى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ما قرئ على محمد بن جعفر بن حفص بن راشد عن يوسف بن موسى عن ابن عليّة قال: أخبرنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى قال: بالحلف فهذا إسناد مستقيم، ومعنى ملائم لسياق الكلام. [سورة الليل (92) : آية 7] فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) قال جويبر عن الضحّاك قال: للجنة. [سورة الليل (92) : آية 8] وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) على ذلك القول بخل بزكاته واستغنى عن ثواب ربه جلّ وعزّ. [سورة الليل (92) : آية 10] فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) قال الضحّاك: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) قال: النار، فإن قيل: التيسير إنما يكون للخير فكيف جاء للعسر؟ فالجواب أنه مثل فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21] أي اجعل ما يا قوم لهم مقام البشارة وأنشد سيبويه: [الوافر] 571- تحيّة بينهم ضرب وجيع «1» هذا قول البصريين، وقول الفرّاء إنه إذا اجتمع خير وشرّ فوقع للخير تبشير جاز أن يقع للشرّ مثله. [سورة الليل (92) : آية 11] وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) ما في موضع نصب بيغني أي وأيّ شيء يدفع عنه ماله إذا سقط في النار، وذهب مجاهد إذا هلك وإنما يقال في الهلاك. ردى يردي وتردّى إذا سقط وردؤ الرجل يردؤ رداءة وهو رديء مردئ. [سورة الليل (92) : آية 12] إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) لام توكيد دخلت على الهدى فحذف الألف لئلا يشبه «لا» التي للنفي ولاتصال اللام بما بعدها. [سورة الليل (92) : آية 13] وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) وكذا وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) [سورة الليل (92) : آية 14] فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14)

_ (1) مرّ الشاهد رقم (405) .

[سورة الليل (92) : الآيات 15 إلى 16]

فعل مستقبل الأصل تتلظّى وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير أنه قرأ «تتلظّى» «1» وبعض الحفّاظ يروي عن ابن عيينة بهذا الإسناد إدغام التاء في التاء. قال أبو جعفر: ويجب أن يحرّك التنوين لالتقاء الساكنين. قال مجاهد: تلظّى توهج. [سورة الليل (92) : الآيات 15 الى 16] لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (15) فيه قولان: قال أبو عبيدة الْأَشْقَى بمعنى الشقي، وقال الفرّاء «2» : الأشقى الشقيّ في علم الله سبحانه، فالقول الآخر: فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلّا أشقى أهل النار، وأشقى أهل النار الكفار. ودلّ بهذا على أن غير الكفار يدخلون النار بذنوبهم. قال الفرّاء: الَّذِي كَذَّبَ أي قصّر أخذه من قول العرب: حمل فلان على فلان فما. [سورة الليل (92) : الآيات 17 الى 18] وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) أي يتطهّر من الذنوب. [سورة الليل (92) : آية 19] وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) أي ليس يتصدّق ليكافئ إنسانا على نعمة أنعم بها عليه. وفي معناه قول آخر ذكره الفرّاء يكون للمستقبل أي ليس يتصدّق ليكافأ على صدقته. على أنّ الفراء «3» جعله من المقلوب بمعنى وما له عند أحد نعمة تجزى، وأنشد: [الطويل] 572- وقد خفت حتّى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل «4» وتأوّله بمعنى حتى ما تزيد مخافة وعل على مخافتي. قال أبو جعفر: لا يجوز أن يحمل كتاب الله على القلب والاضطرارات البعيدة. [سورة الليل (92) : الآيات 20 الى 21] إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) منصوب لأنه استثناء ليس من الأول لم يذكر البصريون غير هذا. وأجاز الفرّاء «5» أن يكون التقدير: ما ينفق إلا ابتغاء وجه ربّه، وأجاز

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 272، والبحر المحيط 8/ 478. (2) انظر معاني الفراء 3/ 272. (3) انظر معاني الفراء 3/ 272. [.....] (4) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 144، وأما لي المرتضى 1/ 202، ومعجم ما استعجم 1026، وبلا نسبة في أما لي المرتضى 1/ 216، والإنصاف 1/ 372، ولسان العرب (خوف) ، ومجالس ثعلب ص 618 والمقتضب 3/ 231. (5) انظر معاني الفراء 3/ 273.

إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ «1» بالرفع لأن المعنى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربّه. قال أبو جعفر: ولم يقرأ بهذا، وهو أيضا بعيد وإن كان النحويون قد أجازوه، كما قال: [الرجز] 573- وبلدة ليس بها أنيس ... إلّا اليعافير وإلّا العيس «2» وأنشد بعضهم للنابغة «3» : [البسيط] 574- وقفت فيها أصيلا كي أسائلها ... عيّت جوابا وما بالرّبع من أحد إلّا أواريّ لأيا ما أبيّنها ... والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد والرفع في هذا مثل وما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وهذا مجاز أي إلّا طلب رضوانه. وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) أي بالثواب.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 479. (2) مرّ الشاهد رقم (110) . (3) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 14، 15، والكتاب 2/ 332، وخزانة الأدب 4/ 122 والدرر 1/ 274، وجمهرة اللغة 934، وشرح أبيات سيبويه 2/ 54، والصاحبي في فقه اللغة 215، وشرح شواهد الإيضاح 191، والمقاصد النحوية 4/ 315، والمحتسب 1/ 251، والمقتضب 4/ 414، وبلا نسبة في رصف المباني 452، وشرح الأشموني 2/ 493، وشرح التصريح 1/ 140، ولسان العرب (سند) ، وشرح المفصل 8/ 129.

93 شرح إعراب سورة الضحى

93 شرح إعراب سورة الضحى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) قال الفرّاء «1» وَالضُّحى (1) النهار كلّه. قال أبو جعفر: والمعروف عند العرب ما رواه أبو روق عن الضحّاك قال: الضّحى ضحى النهار. قال أبو جعفر: قال محمد بن يزيد: والضّحى يكتب بالألف لا غير، لأنه من ضحا يضحو. قال أبو جعفر: وقول الكوفيين إنه بالياء لضمّ أوله، وهذا قول لا يصحّ في معقول ولا قياس لأنه إن كتب على اللفظ فلفظه الألف، وإن كتب على المعنى فهو راجع إلى الواو وعلى أنه قد حدثنا علي بن سليمان قال: سمعت محمد بن يزيد يقول لا يجوز أن يكتب شيء من ذوات الياء مثل رمى وقضى إلّا بالألف، والعلة في ذلك بيّنة من جهة المعقول والقياس واللغة لأنا قد عقلنا أن الكتابة إنما هي نقل ما في اللفظ كما أن اللفظ نقل ما في القلب فإذا قلنا رمى فليس في اللفظ إلّا الألف. فإن قيل: أصلها الياء فكتبها بالياء قيل: هذا خطأ من غير جهة فمنها أنه لو وجب أن تكتب على أصلها لوجب أن تكتب غزا بالواو لأن أصلها الواو، وأيضا فقد أجمعوا على أن كتبوا رماه بالألف والألف منقلبة من ياء. وهذه مناقضة، وأيضا فإن في هذا بابا من الإشكال لأنه يجوز أن يقال: رمي ثم نقضوا هذا كلّه فكتبوا ذوات الواو بالياء نحو ضحىّ وكسىّ جمع كسوة. قال أبو إسحاق: وهذا معنى كلامه، وما أعظم هذا الخطأ يعني قولهم: يكتب ذوات الياء بالياء وذوات الواو بالألف، فلا هم اتّبعوا اللفظ كما يجب في الخط، ولا هم اتبعوا المصحف فقد كتب في المصحف ما زكي بالياء. قال أبو إسحاق: وأعظم من خطأهم في الخطّ خطؤهم في التثنية لأنهم يثنّون ربا ربيان، وهذا مخالف على كتاب الله جلّ وعزّ قال: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم: 39] أي فجاء القرآن بالواو وجاءوهم بالياء. قال أبو جعفر: وسمعت

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 273.

[سورة الضحى (93) : آية 3]

علي بن سليمان يقول: قلت لأبي العباس محمد بن يزيد لمّا احتجّ بهذه الحجج التي لا تدفع: ما هذا الذي قد وقع للكتّاب وأنس به الخاصّ والعامّ من كتب ذوات الياء بالياء حتى صار التعارف عليه فقال: الأصل في هذا أن أبا الحسن الأخفش كان رجلا محتالا لشيء يأخذه، فقال لأبي الحسن الكسائي: قد استغنى من نحتاج إليه من النحو فنحتاج أن نجتمع على شيء نضطرهم إليه فاتّفقا على هذا وأحدثاه، ولم يكن قبلهما، وشاع في الناس لتمكن الكسائي من السلطان. ولعلّ بعض من لا يحصّل يتوهّم أنّ هذا مذهب سيبويه لأنه أشكل عليه شيء من كلامه في مثله قوله الياء في مثل سكرى وإنما أراد سيبويه أنها تثنّى بالياء، وليس من كلام سيبويه الاعتلال في الخطوط. قال أبو جعفر: ثم رجعنا إلى الإمالة فحمزة يميل ما كان من ذوات الياء ويفخم ما كان من ذوات الواو، والكسائي يميل الكل وأبو عمرو بن العلاء يتبع بعض الكلام بعضا فإن كانت السورة فيها ذوات الياء وذوات الواو أمال الكل، والمدنيون يتوسطون فلا يميلون كلّ الميل ولا يفخمون كل التفخيم. قال أبو جعفر: وليس في هذه المذاهب خطأ لأن ذوات الواو في الأفعال جائز إمالتها لأنها ترجع إلى الياء فيجوز «والضحى» وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ممالا، وإن كان يقال: سجا يسجو لأنه يرجع إلى الياء في قولك: سجيت. [سورة الضحى (93) : آية 3] ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) قال الضحّاك: وما قلاك. قال أبو جعفر: العرب تحذف من الثاني لدلالة الأولى. يقال: أعطيتك وأكرمت، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ما ودّعك ربّك وما قلى قال: يقول: ما تركك وما أبغضك وحكى أبو عبيدة «1» : ودعك مخفّفا، ومنع سيبويه «2» أن يقال: ودع، قال: استغنوا عنه بترك. قال أبو جعفر: والعلّة عند غيره أن العرب تستثقل الواو في أول الكلمة لثقلها يدلّ على ذلك أنها لا توجد زائدة في أوّل الكلام، وتوجد أختها الياء نحو يعملة ويربوع، وأنك إذا صغّرت واصلا قلت: أو يصل لا غير، وفي الجمع أواصل، ويقال: قلاه يقلّيه إذا أبغضه، ويقال أيضا: يقلاه. [سورة الضحى (93) : آية 4] وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) الأصل أخير ثم خفّف لكثرة الاستعمال. [سورة الضحى (93) : آية 5] وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5)

_ (1) انظر مجاز القرآن 2/ 302، والبحر المحيط 8/ 480. (2) انظر الكتاب 1/ 50.

[سورة الضحى (93) : الآيات 6 إلى 7]

وفي حرف عبد الله «وسيعطيك» «1» وهما واحد عند سيبويه، وقال الفرّاء: حذفت الواو والفاء كما قالوا: أيش عندها وكما قالوا: لاب لشانئك، ولاب لك، يريدون: لا أب لشانئك ولا أب لك. قال أبو جعفر: حذف المفعول الثاني، كما تقول: أعطيت زيدا، ولا تبيّن العطية. [سورة الضحى (93) : الآيات 6 الى 7] أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) مفعول لا يجد. ويجد في كلام العرب تنقسم أقساما منها أن يكون بمعنى يرى وتعلم وكذا وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) . [سورة الضحى (93) : آية 8] وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) وقد عال يعيل عيلة إذا افتقر وأعال يعيل إذا كثر عياله لا نعلم بين أهل اللغة فيه اختلافا. [سورة الضحى (93) : الآيات 9 الى 10] فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) فَأَمَّا الْيَتِيمَ نصب بتقهر، ولو كان تقهره بالهاء لكان الاختيار النصب أيضا لأنه نهي، وكذا وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) [سورة الضحى (93) : آية 11] وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) قيل أي بلّغ أي أظهرها واحمد الله عزّ وجلّ عليها فإن ذلك من الشكر.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 247.

94 شرح إعراب سورة ألم نشرح (الشرح)

94 شرح إعراب سورة ألم نشرح (الشرح) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشرح (94) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) نَشْرَحْ جزم بلم، وعلامة الجزم حذف الضمة. من النحويين من يقول: «ألم» من حروف الجزم، وذلك خطأ لأن الألف للاستفهام. والمعنى على الإيجاب لأن ألف الاستفهام هاهنا يؤدي عن معنى التقرير والتوقيف فيصير النفي إيجابا والإيجاب نفيا. قال الفرّاء: أي ألم نلن لك قلبك، وقال الحسين بن واقد: ألم نوسّع لك صدرك. قال أبو جعفر: وهذا قول بيّن، ومنه يقال: فلان ضيّق الصدر، وصدره واسع وقد شرح الله صدور الأنبياء صلوات الله عليهم والمؤمنين ثوابا على أعمالهم الحسنة فصاروا يقبلون الحق ولا تضيق له صدورهم. ومن هذا الحديث المستقيم الإسناد، رواه يونس عن الزهري عن أنس عن أبي ذرّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ثم أتى بطست مملوءة حكمة وإيمانا فأقرّه في صدري ثم عرج بي إلى السّماء» «1» لَكَ الكاف في موضع جر باللام، وفتحت اللام على أصلها. ومن النحويين من يقول: أصلها الكسر ولكن فتحت في قولهم له لئلا يجمع بين كسرة وضمّة ثم أتبع «لك» له، وإن لم يكن فيه تلك العلّة صَدْرَكَ منصوب بنشرح. وقال العلماء: الصدر محل القرآن والعلم، واستدلّوا في ذلك بقول الله عزّ وجلّ بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: 49] . [سورة الشرح (94) : آية 2] وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) قال الحسن: وزره ذنبه في الجاهلية. يقال: وزر يزر وزرا والمفعول موزور، وفي الحديث «ارجعن موزورات غير مأجورات» «2» ومن أهل الحديث

_ (1) أخرجه البخاري في صحيحه 1/ 97، ومسلم في الإيمان 263، وأحمد في مسنده 5/ 122، والهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 65، والمتّقي في كنز العمال 31839، وابن كثير في تفسيره 5/ 15. (2) أخرجه ابن ماجة في سننه 1578، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 77، والبغوي في شرح السنة 5/ 465، والمتقي في كنز العمال 42581، والمنذري في الترهيب والترغيب 4/ 359.

[سورة الشرح (94) : آية 3]

من يقول: «مأزورات» فإن صح نقله فهو اتباع. [سورة الشرح (94) : آية 3] الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) أهل التفسير يقولون: أثقله فإن قال قائل: كيف وصف هذا الوزر بالثقل وهو مغفور غير مطالب به؟ فالجواب أن سبيل الأنبياء صلوات الله عليهم والصالحين إذا ذكروا ذنوبهم أن يشتدّ غمّهم وبكاؤهم، فلهذا وصف ذنوبهم بالثقل. قال أبو جعفر: وهذا الجواب عن سؤال السائل: لم يغتمّ الصالحون إذا ذكروا ذنوبهم التي قد تابوا منها وقد علموا أن المغفرة بعد التوبة واجبة؟ وفي هذا جواب آخر وهو أنهم يخافون أن يكونوا قد بقي عليهم شيء يلزمهم من تمام التوبة. [سورة الشرح (94) : آية 4] وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) بيان هذا في الحديث المسند عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: قال لي جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم: «إن ربّي وربّك عزّ وجلّ يقول لك كيف رفعت ذكرك؟ قال قلت الله أعلم، قال إذا ذكرت معي» «1» . [سورة الشرح (94) : الآيات 5 الى 6] فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) وقرأ عيسى بن عمر بضمّ السين فيهما. قيل: المعنى أن نعم الله تعالى، وهي اليسر أكثر من الشدائد، وهي العسر، وقيل: خوطب النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه سيظفر فذلك الظفر، وهو اليسر بالمشركين الذين لحقت منهم الشدة. [سورة الشرح (94) : آية 7] فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) قال أبو جعفر: وقد ذكرنا ما قيل في التكرير وما قيل في معنى فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) «2» ومن أحسن ما قيل فيه، وهو جامع لجميع الأقوال، أنه ينبغي إذا فرغ الإنسان من شغله أن ينتصب لله جلّ وعزّ وأن يرغب إليه وأن لا يشتغل بما يلهيه عن ذكر الله سبحانه فهذا أدب الله عزّ وجلّ. وقد قال عبد الله بن مسعود: ما يعجبني الإنسان أراه فارغا لا يشتغل بأمر الدنيا، ولا بأمر الآخرة.

_ (1) انظر تفسير القرطبي 2/ 106. (2) انظر البحر المحيط 8/ 484 (قرأ الجمهور بفتح الراء، وأبو السمال بكسرها) .

95 شرح إعراب سورة التين

95 شرح إعراب سورة التين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التين (95) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) أدغمت اللام في التاء والزاي لقربها منهما، ولا يجوز الإظهار مع لام التعريف لكثرتها في الكلام، ويجوز في غيرها وإن كانت هذه اللام قد قيل: إنها مع ما هي هاهنا اسم علم. قال محمد بن كعب: «التين» مسجد أصحاب الكهف، والزيتون «مسجد إيليا» فإن أصلها التعريف ثم وقعت التسمية وكذا قول من قال: التين دمشق، والزيتون بيت المقدس، وقول من قال: هما مسجدان أحدهما الذي كلّم الله عزّ وجلّ عليه موسى صلّى الله عليه وسلّم. فأما داود بن أبي هند فروى عن عكرمة وعن ابن عباس قال: التين تينكم هذا، والزيتون زيتونكم، قال أبو جعفر: وهذه الأقوال إذا حصّلت آلت إلى معنى واحد لأن القسم إنما هو بربّ العالمين جلّ وعزّ فالتقدير: وربّ التين والزيتون. [سورة التين (95) : آية 2] وَطُورِ سِينِينَ (2) قيل: هو طور سينا بلغات، وقيل: غير هذا مما ذكرناه «1» . [سورة التين (95) : آية 3] وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) وهذه اللغة الفصيحة. والاسم منه ذا عند البصريين، وها للتنبيه، وعند الكوفيين الاسم الذال. ولم يعرب لأنه اسم غير متمكّن ينتقل فأشبه الحروف لأنه غير ثابت على مسمّى فوجب أن لا يعرب، وقال بعض النحويين: لأن في آخره ألفا والألف لا يتحرك. قال الفرّاء: ولو حرّكت صارت همزة، وقال الخليل رحمه الله: الألف حرف هوائي فمحال أن يحرك لأنه بمنزلة الحركة ولا تحرك الحركة. قال أبو جعفر: و «ذا» اسم ظاهر يدلّ على ذلك كسر اللام معه. وقد قال بعض النحويين- جوابا لمن سأل لم

_ (1) انظر إعراب الآية 130- الصافات. [.....]

[سورة التين (95) : آية 4]

حرّكت المضمرات ولم تحرّك المبهمة؟: إن المضمرات في مواضع الأسماء المعربة وكانت لها مزيّة فحرّكت. قال أبو جعفر: وسمعت أبا بكر بن شقير يحكي هذا، وهو جواب حسن محصّل فأما الفرّاء فخلط الجميع فقال: من قال: هو زيد، بإسكان الواو قال: هذا زيد، ومن قال: هو زيد، قال: هذا أي زيد، ومن قال: هو زيد، بتشديد الواو قال هذاه زيد. قال أبو جعفر: وبيان التخطيط في هذا بيّن لأن قولك: هو بإسكان الواو لغة شاذة، وقولك: هذا لغة بها جاء القرآن فكيف تحاذي إحداهما الأخرى إلا أن يتجازيا من جهة أخرى على قوله وذلك أن قولك: هو، الاسم منه عنده الهاء، والاسم من هذا الذال، وهذا قوله بلا اختلاف عنه. ومن التخليط أن قولك هذّاه الهاء عنده فيه لبيان الحركة وقد أثبتها في الوصل. وزعم الفرّاء: أن الدليل على أن الاسم الذال في هذا قول العرب في التثنية هذان فأسقطوا الألف. وهذا لا يلزم لأن الألف إنما سقطت في التثنية لالتقاء الساكنين ولم يجز قلبها فيقال: هذيان ولا هذوان لأنه لا يعلم أنها منقلبة من ياء، ولا واو فتقلب إلى إحداهما فلم يبق إلا الحذف. الْبَلَدِ الْأَمِينِ نعت وإن شئت بدل، وإن شئت عطف البيان. وزعم الفرّاء «1» إن الأمين بمعنى الآمن، وأنشد: [الطويل] 575- ألم تعلمي يا أسم ويحك أنّني ... حلفت يمينا لا أخون أميني «2» قال أبو جعفر: وخولف الفرّاء في هذا فقيل: أمين بمعنى مأمون في الآية والبيت جميعا. [سورة التين (95) : آية 4] لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) تكلّم العلماء في معناه فعن ابن عباس قال: خلق كل شيء منكبّا إلّا الإنسان وقال عكرمة فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ الشباب والقوة والجلد، وقال مجاهد والنخعي فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ في أحسن صورة. وهذا أحسن ما قيل فيه لأن التقدير في العربية: في تقويم أحسن تقويم أقيم مقام المنعوت أي في تقويم أعدل تقويم وصورة. [سورة التين (95) : آية 5] ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) فيه اختلاف أيضا. فعن ابن عباس إلى أرذل العمر، وعن عكرمة إلى النار، وزعم محمد بن جرير: إن الصّواب إلى أرذل العمر أي إلى الهرم، ويكون هذا لخاص من الناس، واستدل على صواب هذا إن الله جلّ وعزّ إنما عدد ما شاهدوه من قدرته من

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 276. (2) الشاهد بلا نسبة في مقاييس اللغة 1/ 134، وتاج العروس (أمن) ، ومعاني الفراء 3/ 276، وتفسير الطبري 30/ 241.

[سورة التين (95) : آية 6]

خروج الإنسان من الشباب إلى الهرم ولا يعدّد عليهم ما لا يقرون به من دخول النار. وقال غيره: هذا لا يلزم لأن حجج الله ظاهرة، وقد ظهرت آيات نبيه صلّى الله عليه وسلّم فوجب أن يكون كل ما أخبر به بمنزلة المعاين. [سورة التين (95) : آية 6] إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) من قال: المعنى إلى أسفل سافلين إلى النار جعل الَّذِينَ آمَنُوا في موضع نصب استثناء من الهاء التي في رددناه لأنها بمعنى جمع، ومن قال إلى أسفل سافلين: إلى أرذل العمر جعل «الذين» استثناء ليس من الأول، وقيل في الكلام حذف الاستثناء منه. والتقدير ثم رددناه إلى الهرم والخرف حتى صار لا يقدر على عبادة الله جلّ وعزّ وأداء فرائضه، ولا يكتب له شيء لهم مثل ما كانوا يعملون. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قال يقول غير منقوص. [سورة التين (95) : آية 7] فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) تكلّم النحويون في هذه الكلمة وفي بيانها واختلاف حركتها وتنوينها وغير تنوينها ببضعة عشر جوابا: فمن ذلك أن النحويين مجمعون على أن قبل وبعد إذا كانا غايتين فأصلهما إلا يعربا، وأجابوا في علّة ذلك بأجوبة فمن أصحّها أن سبيل تعريف الأسماء أن تكون الألف واللام أو بالإضافة إلى معرفة فلمّا كانتا قد عرّفتا بغير تعريف الأسماء وجب بناؤهما، وقال علي بن سليمان: لمّا كانتا متعلّقتين بما بعدهما، وقيل: لما لم يتصرّفا بوجوه الإعراب ولم يتمكّنا وجب لهما البناء، فهذه ثلاثة أجوبة فإن قيل: لم وجبت لهما الحركة؟ فالجواب أن سيبويه «1» قال: وأما المتمكن الذي جعل في موضع بمنزلة غير المتمكّن فقولهم: ابدأ بهذا أوّل، ويا حكم أقبل، وشرح هذا أن أول وقبل وبعد لما وجب ألا يعربن في موضع وقد كنّ يعربن في غيره كره أن يخلين من حركة فضممن فإن قيل: فلم لا فتحن أو كسرن؟ في هذا السؤال خمسة أجوبة منها أن الظروف يدخلها النصب والخفض إذا لم تعتلّ فلا يدخلها الرفع فلما اعتلّت ضمّت لأن الضمة من جنس الرفع الذي لا يدخلها في حال سلامتها، وقيل: لمّا أشبهت المنادى المفرد أعطيت حركته، وقيل: لما كانت غاية أعطيت غاية الحركات، فهذه ثلاثة أجوبة في الضم للبصريين لا نعلم لهم غيرها، والجوابان الآخران للكوفيين: قال الفرّاء «2» : لما تضمّنت قبل وبعد معنيين ضمّتا. قال أبو جعفر: وشرح هذا أنهما تضمّنتا معناهما في أنفسهما ومعنى ما بعدهما فأعطيتا أثقل الحركات، وقال هشام: لم يجز أن يفتحا فيكونا كأنهما مضافتان إلى ما بعدهما ولا يكسران فيكونا كالمضاف إلى

_ (1) انظر الكتاب 3/ 319. (2) انظر معاني الفراء 2/ 321.

[سورة التين (95) : آية 8]

المخاطب فلم يبق إلّا الضم. قال أبو جعفر: فهذه تسعة أجوبة، وأجاز الفرّاء آتيك بعد يا هذا، بالضم والتنوين وأنشد: [الطويل] 576- ونحن قتلنا الأزد أزد شنوءة ... فما شربوا بعد على لذّة خمرا «1» قال أبو جعفر: وهذا خارج عما جاء به القرآن وكلام العرب والمعقول لا حجّة له في البيت إن كان يعرف قائله لأنه بغير تنوين جائز عند أهل العلم بالعروض، كما أنشدوا: [الطويل] 577- شاقتك أحداج سليمى بعاقل ... فعيناك للبين تجودان بالدّمع «2» وأجاز أيضا رأيتك بعدا يا هذا. قال أبو جعفر: فهذا نظير. ذلك أن يكون أراد النكرة وأجاز هشام رأيتك بعد يا هذا، جعله منصوبا وأضمر المضاف إليه فكأنه زعم أن قد نطق به لما كان في النية، وزعم الفراء والأخفش: أنّ المعنى فمن يكذبك بعد بالدين. قال أبو جعفر: وهذا لا يعرج عليه، ولا تقع «ما» بمعنى «من» إلا في شذوذ، والمعنى هاهنا صحيح أي فما يحملك يا أيّها المكذب فأيّ شيء يحملك على التكذيب بعد ظهور البراهين والدلائل بالدين الذي جاء بخبره من أظهر البراهين. [سورة التين (95) : آية 8] أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) أي في تدبيره وصنعه لا يدخل دينك فساد ولا تفاوت، وليس كذا غيره.

_ (1) الشاهد بلا نسبة في إصلاح المنطق 146، وأوضح المسالك 3/ 158، وخزانة الأدب 6/ 501، والدرر 3/ 109، وشرح الأشموني 2/ 322، وشرح التصريح 2/ 50، وشرح شذور الذهب 137، ولسان العرب (بعد) و (خفا) والمقاصد النحوية 3/ 436، وهمع الهوامع 1/ 209، ومعاني الفراء 2/ 321. وفي رواية «الأسد أسد خفيّة» . (2) لم أعثر عليه في المراجع التي بين يديّ.

96 شرح إعراب سورة القلم (العلق)

96 شرح إعراب سورة القلم (العلق) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العلق (96) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ في موضع جزم على قول الكوفيين. والعامل فيه عند الفرّاء لام محذوفة، وعلامة الجزم حذف الضمة. وهو عند البصريين غير معرب لأنه لا يضارع الأسماء فيعرب، وحكى أبو زيد والكسائي «أقر» «1» على بدل الهمزة فيصير كقولك: اخش، ومثل هذا قول زهير: [الطويل] 578- وإن لا يبد بالظّلم يظلم «2» وقد قيل: إن على هذا قراءة الجماعة أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة: 61] وأنه مأخوذ من الدناءة. الَّذِي خَلَقَ في موضع خفض نعت لربك أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ أو في موضع نصب بمعنى أعني. [سورة العلق (96) : آية 2] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) الإنسان بمعنى جماعة فلذلك قال: علّق وهو جمع علقة. [سورة العلق (96) : آية 3] اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) وحذف المفعول أي اقرأ ما أنزل إليك وربك الأكرم لا يخليك من الثواب على قراءتك. [سورة العلق (96) : آية 4] الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) نعت للذي الأول.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 488، والإتحاف 272. (2) مرّ الشاهد رقم (16) .

[سورة العلق (96) : الآيات 5 إلى 6]

[سورة العلق (96) : الآيات 5 الى 6] عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) مفعولان. ومن قال: إن كَلَّا تمام في جميع القرآن قال: المعنى ليس يجب أن يدعوا التفكّر فيما بيّنه الله من خلقكم مما يدلّ على وحدانيته، وأنه لا شبه له. إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى جاء على فعل يفعل لأنّ فيه الغين. [سورة العلق (96) : آية 7] أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) «1» فجاء المفعول متصلا، ولم يستعمل رأى نفسه، لأنه من أخوات ظننت. [سورة العلق (96) : آية 8] إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) في موضع نصب ولم يتبيّن فيه الإعراب لأن في آخره ألفا. [سورة العلق (96) : الآيات 9 الى 12] أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) وحذف الجواب لعلم السامع، وكذا أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) . [سورة العلق (96) : آية 13] أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أي مع منعه من الصلاة إن كذّب الله ورسوله وتولّى عن طاعته. [سورة العلق (96) : الآيات 14 الى 16] أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) أي يراه ويعلم فعله فيعاقبه عليه ومن قال كَلَّا التمام قال: المعنى: ليس الأمر على ما قدره من أنه يتهيّأ له أن يمنعه من الصلاة لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ حذفت الياء للجزم، ومن أثبتها في غير القرآن قدّرها متحركة لَنَسْفَعاً «2» الوقف عليه بالألف فرقا بينه وبين النون الثقيلة ولأنه بمنزلة قولك: رأيت زيدا، كما قال: [الطويل] 579- ولا تحمد الشّيطان والله فاحمدا «3» بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) . على البدل. والفراء «4» على التكرير، وأجاز ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ لأنها نكرة بعد معرفة. [سورة العلق (96) : آية 17] فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17)

_ (1) انظر تيسير الداني 181 (قرأ قنبل بقصر الهمزة والباقون بمدّها) . (2) انظر البحر المحيط 8/ 490. (3) مرّ الشاهد رقم (173) . (4) انظر معاني الفراء 3/ 279، والبحر المحيط 8/ 491.

[سورة العلق (96) : آية 18]

حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه اتّساعا أي أهل ناديه. [سورة العلق (96) : آية 18] سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كتب بغير واو على الإدراج، ولا يجوز الوقف عليه. [سورة العلق (96) : آية 19] كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) كَلَّا لا تُطِعْهُ أي في ما ينهاك عنه من الضلالة وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ إلى الله جلّ وعزّ بطاعته فإنه يعظّمك ويمنع منك. وفي الحديث «أقرب ما يكون العبد من الله تعالى إذا كان ساجدا فأكثروا من الدعاء في السجود فإنه قمن أن يستجاب لكم» «1» .

_ (1) ذكره البغوي في شرح السنة 3/ 151، والمتقي الهندي في كنز العمال (3328) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء 2/ 690.

97 شرح إعراب سورة ليلة القدر (القدر)

97 شرح إعراب سورة ليلة القدر (القدر) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القدر (97) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) إِنَّا أصله إنّنا فحذفت النون لاجتماع النونات ولأنها زائدة أَنْزَلْناهُ النون والألف في موضع رفع بالفعل، وأسكنت اللام لاتصالها بالمضمر المرفوع اتباعا لما تتوالى فيه الحركات والهاء في موضع نصب، وحذفت الواو بعدها لسكونها وسكون الألف، وإن الهاء ليست بحاجز حصين لخفائها وبعدها، وقيل: لاجتماع حرفي مدّ ولين فحذف أحدهما، والهاء كناية عن القرآن، وإن كان لم يتقدم له ذكر في هذه السورة، وأكثر النحويين يقولون: لأنه قد عرف المعنى، كما قال: [الطويل] 580- ألا ليتني أفديك منها وأفتدي «1» ومن العلماء من يقول: جازت الكناية في أول السورة لأن القرآن كلّه بمنزلة سورة واحدة لأنه أنزل جملة إلى السماء الدنيا وسنذكر هذا بإسناده، وقول ثالث بيّن حسن وهو: إنّا أنزلناه يدلّ على الإنزال والمنزل، كما حكى النحويون «2» : من كذب كان شرّا له، لأن كذب يدلّ على الكذب، وأخفيت ليلة القدر على الناس إلّا ما جاء في الحديث من أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان فقيل: إنما أخفيت لفضل العمل فيها لئلا يدع الناس العمل في غيرها والاجتهاد ويتّكلوا على فضل العمل فيها، وقيل: لأنها مختلفة تكون في سنة لثلاث وعشرين ثم يكون في غيرها. وأما الحديث في تنزيل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر فصحيح غير مدفوع عند أهل السّنّة وإنّما يدفعه قول من أهل الأهواء كما قرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال: حدثنا جرير عن منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في

_ (1) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه 29، والدرر 2/ 269، وبلا نسبة في الإنصاف 1/ 96 وصدره: «على مثلها أمضي إذا قال صاحبي» [.....] (2) انظر الكتاب 2/ 412.

[سورة القدر (97) : آية 2]

قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا فكان بموقع النجوم، وكان الله ينزله على رسوله بعضه في إثر بعض فقالوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32] . فأما تسميتها بليلة القدر ففيه قولان: أحدهما أنها ليلة الجلالة والتعظيم من قولهم: لفلان القدر، والقول الآخر، وهو الذي عليه العلماء المتقدمون، أنّها سمّيت ليلة القدر لأنها تقدّر فيها آجال العباد وأرزاقهم كما قال قتادة: يقدّر في ليلة القدر ما يكون إلى السنة الأخرى من الآجال والأرزاق. [سورة القدر (97) : آية 2] وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) ما في موضع رفع بالابتداء وأَدْراكَ فعل ماض في موضع الخبر والكاف في موضع نصب ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ مبتدأ وخبره، فيه معنى التعظيم. [سورة القدر (97) : آية 3] لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) مبتدأ وخبره أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. هذا البين، وإن كان قد روي عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه قال: هي ألف شهر وليت فيها بنو أمية. قال: وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أريهم على المنابر فهاله ذلك فأحصيت ولايتهم بعد ذلك فكانت كذلك. فهذا حديث مرويّ ليس في ظاهر التلاوة ما يدلّ عليه والله أعلم. [سورة القدر (97) : الآيات 4 الى 5] تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ الأصل تتنزّل فحذفت التاء لاجتماع تاءين، وقال أهل التفسير: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بأمر ربهم مِنْ كُلِّ أَمْرٍ هذا تمام الكلام عند النحويين منهم الفراء، والمعنى على قولهم: تنزّل الملائكة والروح فيها بأمر ربهم أي ينزلون بأمر الله الذي فيه الآجال والأرزاق إلى السماء الدنيا من كلّ أمر أي من كلّ أمر فيه الرزق والأجل والحجّ لمن يحجّ وغير ذلك، وحكى أبو عبيد أنه روي عن ابن عباس وعكرمة أنهما قرءا «من كلّ امرى» «1» قال إسماعيل بن إسحاق: لم يذكر أبو عبيد إسناده ولعلّه ضعيف. قال أبو جعفر: إسناده ضعيف بغير لعلّ: رواها الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد لا يعرّج عليه، وهو مخالف للمصحف الذي تقوم به الحجّة فمن جاء به هكذا قال التمام: من كل امرئ سلام، كما قال الشعبي من كل امرئ من الملائكة سلام على المؤمنين والمؤمنات، وقيل: المعنى من كل أمر مخيف سلام أي سلامة، وعلى قراءة الجماعة سَلامٌ مرفوع على خبر هي كما تقول: قائم زيد أي هي

_ (1) انظر البحر المحيط 2/ 368، والبحر المحيط 8/ 493.

سلام أي دار سلامة أي ذات سلامة، كما قرئ على محمد بن حفص عن يوسف بن موسى قال حدّثنا جرير عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى «سلام هي» قال: لا تعمل فيها الشياطين، ولا يجوز فيها السّحر ولا يحدث فيها شيء إلى الفجر قال يوسف وحدّثنا تميم بن زياد قال: حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية «سلام هي» قال: خير كلّها إلى مطلع الفجر، وروى الضحّاك عن ابن عباس قال تصفد فيها مردة الشّياطين، وتقبل فيها التوبة فهذه أقوال المتقدمين من أهل التفسير، وقال بعد المتأخرين: معنى «سلام هي» إنما يقضى فيها الخير من الأرزاق والحجّ والشرّ يقضى في غيرها يذهب إلى أن ليلة النصف من شعبان قد جاء فيها حديث من تقدير الأشياء فهذه أقوال المتقدمين والمتأخرين والله أعلم بما أراد. حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ «1» بفتح اللام قراءة العامة، وقال الفراء «2» : وقرأ يحيى بن وثّاب وحده حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ. قال أبو جعفر: وهي قراءة أبي رجاء العطارديّ. وأحسن ما قيل في هذا قول سيبويه «3» قال: وقد كسروا المصدر قالوا: أتيتك عند مطلع الشمس أي عند طلوع الشمس. هذه لغة بني تميم، وأما أهل الحجاز فيقولون: مطلع والمطلع المكان. قال أبو جعفر: شرح هذا أنه ما كان على فعل يفعل فالباب فيه أن يكون المصدر منه واسم المكان مفعلا بالفتح، وكان يجب أن يكون اسم المكان منه بالضم إلا أنه ليس في كلام العرب مفعل فلم يكن بدّ من تحويله إلى الفتحة أو الكسرة فكانت الفتحة أولى لأنها أخفّ والدليل على ما قلناه أنه ما كان على فعل يفعل فالمصدر منه مفعل بالفتح، اسم المكان والزمان بالكسر قالوا: جلس مجلسا وهو في مجلسك، وفي الزمان أتت الناقة على مضربها بالكسر فهذا يبيّن لك أن الأصل مطلع في المكان ثم حوّل إلى الفتح ثم سمع من العرب أشياء تؤخذ سماعا بغير قياس قالوا: مطلع للمكان الذي تطلع فيه الشمس، وقال بعضهم: مطلع للمصدر والفتح أولى لأن الفتح في المصدر قد كان لفعل يفعل فكيف يكون في فعل يفعل وأيضا فإنّ قراءة الجماعة الذين تقوم بهم الحجة «حتّى مطلع» هذا في قوّته في العربية وشذوذ الكسر وخروجه من القياس. قال أبو حاتم: وفي حرف أبيّ «سلام هي إلى مطلع الفجر» قال أبو جعفر: وهذه القراءة على التفسير، ولا يجوز لأحد أن يقرأ بها لمخالفتها السواد الأعظم.

_ (1) انظر تيسير الداني 182، ومعاني الفراء 3/ 280. (2) انظر معاني الفراء 3/ 280. (3) انظر الكتاب 4/ 205.

98 شرح إعراب سورة لم يكن (البينة)

98 شرح إعراب سورة لم يكن (البيّنة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البينة (98) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) يَكُنِ في موضع جزم بلم، وعلامة الجزم فيه حذف الضمة من النون وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. فإن قيل: قد تحرّكت النون فلم لأردت الواو؟ فالجواب أنها حركة عارضة، غير ثابتة فكأنها لم يكن ولا تعرّج على قول من قال: حذفت الواو والضمة للجزم، ولا يجوز عند الخليل وسيبويه والكسائي والفراء. حذف النون على لغة من قال: لم يك زيد جالسا لأنها قد تحرّكت وأجاز غيرهم حذفها كما قال: [الطويل] 581- ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل «1» وَالْمُشْرِكِينَ عطف على أهل، ولو كان عطفا على الذين لكان مرفوعا مُنْفَكِّينَ خبر يكن في معناه قولان: قال عطاء: منفكين بارحين، وبرح وزال في منهاج واحد. وقال غيره: «منفكّين» متفرّقين. قال أبو جعفر: معنى القول الأول: لم يكن الكفار زائلين عما هم عليه حتى يجيئهم الرسول فيبيّن لهم ضلالتهم، ومعنى القول الثاني: لم يكن الكفار متفرّقين إلا من بعد أن جاءهم الرسول لأنهم فارقوا ما عندهم من صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم فكفروا بعد البيان. وهذا القول في العربية أولى لأن منفكّين لو كان بمعنى زائلين لاحتاج إلى خبر ولكن يكون من انفكّ الشيء من الشيء أي فارقه، كما قال ذو الرمّة: [الطويل] 582- قلائص ما تنفكّ إلّا مناخة ... على الخسف أو يرمي بها بلدا قفرا «2»

_ (1) مرّ الشاهد رقم (55) . (2) الشاهد لذي الرمة في ديوانه 173، والكتاب 3/ 52، وتخليص الشواهد 270، وخزانة الأدب 9/ 247، وشرح شواهد المغني 1/ 219، ولسان العرب (فكك) ، والمحتسب 1/ 329، وهمع الهوامع 1/ 120، وبلا نسبة في أسرار العربية ص 142، والأشباه والنظائر 5/ 173، والجنى الداني 521، وشرح الأشموني 1/ 121، ومغني اللبيب 1/ 73 وهمع الهوامع 1/ 230.

[سورة البينة (98) : آية 2]

وزعم الأصمعي أن ذا الرمة أخطأ في هذا. قال أبو جعفر: تأول الأصمعي «ما تنفكّ» ما تزال، والصواب ما قال المازني قال: أخطأ الأصمعيّ وما تنفكّ كلام تامّ ثم قال: إلّا مناخة على الاستثناء المنقطع حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ. [سورة البينة (98) : آية 2] رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ على البدل، ويجوز أن يكون بمعنى هي رسول من الله. قال الأخفش سعيد: وفي حرف أبيّ «رسولا من الله» «1» على الحال. قال الضحاك: الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً قال: القرآن. [سورة البينة (98) : آية 3] فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) قال ابن زيد: مستقيمة معتدلة. [سورة البينة (98) : آية 4] وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) يدلّ على أن الجواب الثاني في منفكين. [سورة البينة (98) : آية 5] وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ من القراء من يقول: هذه لام أن أي إلّا أن يعبدوا الله وأصل هذا للفراء. فأما البصريون فهي عندهم لام كي أي أمروا بهذا كي يعبدوا الله مخلصين له الدين حُنَفاءَ على الحال. قال قتادة: الحنفيّة الختان وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمّات والمناسك. قال الضحاك: الحجّ. قال أبو جعفر: أصل هذا أن الحنف الميل: فقيل: حنيف للمائل إلى الإسلام ميلا لا خلل فيه ولا رجوع وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ وهذا دليل قاطع على أن الإسلام قول وعمل. قال جل وعز: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: 19] ويبيّن أن إقام الصّلاة وإيتاء الزكاة دين القيّمة. قال الفراء «2» : وفي حرف ابن مسعود «الدين القيّمة» وزعم أنه إضافة الشيء إلى نفسه، وذلك محال عند البصريين لأنك إنما تضيف الشيء إلى ما تبيّنه به فتضمه إليه فمحال أن تبيّنه بنفسه أو تضمه إلى نفسه فالتقدير عندهم دين الجماعة القيمة، وقيل: دين الملّة القيمة، ولهذا وقع التأنيث. [سورة البينة (98) : الآيات 6 الى 7] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 495، ومعاني الفراء 3/ 282. (2) انظر معاني الفراء 3/ 282.

[سورة البينة (98) : آية 8]

وَالْمُشْرِكِينَ في موضع خفض عطف على أهل، ويجوز النصب عطفا على الذين فِي نارِ جَهَنَّمَ في موضع الخبر خالِدِينَ فِيها على الحال أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ خبر بعد خبر، ويجوز أن تكون الجملة خبر «إن» مثل إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) بغير همز قراءة الجماعة، وهو المعروف من كلام العرب، وقرأها نافع بالهمز. أخذها من برأ الله الخلق، ومن لم يهمزها أخذها من البرا، وهو التراب وترك الهمز، وهو الأصل عنده، والبريّة الخلق كما قرئ على أحمد بن شعيب بن علي عن أبي كريب ثنا عبد الله بن إدريس سمعت المختار بن فلفل سمعت أنس بن مالك يقول: قال رجل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا خير البريّة فقال: «ذلك إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم» «1» . قال أبو جعفر: ولا معنى لاحتجاج من احتجّ بأن الأنبياء صلوات الله عليهم والمؤمنين أفضل من الملائكة صلوات الله عليهم بهذه الآية لأن الملائكة من الذين آمنوا وعملوا الصالحات. [سورة البينة (98) : آية 8] جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ مبتدأ وخبره. قال ابن مسعود: جَنَّاتُ عَدْنٍ بطنان الجنة أي وسطها. قال أبو جعفر: يقال: عدن بالمكان إذا أقام به خالِدِينَ فِيها حال أَبَداً ظرف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ من ذوات الواو انقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها. والرضى بالألف والتثنية بالواو ورضوان، ولا معنى لحكاية من حكى رضيان. ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ قيل: أي لمن اتّقى الله في الدنيا في سرّه وعلانيته فأدّى فرائضه واجتنب معاصيه.

_ (1) أخرجه أبو داود في سننه الحديث رقم (4672) .

99 شرح إعراب سورة إذا زلزلت (الزلزلة)

99 شرح إعراب سورة إذا زلزلت (الزلزلة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الزلزلة (99) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) إِذا في موضع نصب ظرف زمان، والعامل فيها زلزلت زِلْزالَها مصدر كما قال: أكرمتك كرامتك والمعنى كرامة، وكذا المعنى زلزلت زلزالا. وحسنت الإضافة لتتفق الآيات. والكسائي والفراء «1» يذهبان إلى أن الزلزال مصدر والزلزال اسم وأنه يقال: وسوسة وسواسا، والوسواس الاسم. وقرأ عاصم الجحدري وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [الأحزاب: 11] بالفتح، وقرأ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها «2» . [سورة الزلزلة (99) : آية 2] وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) جمع ثقل والثقل في الأذن. [سورة الزلزلة (99) : آية 3] وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) ما في موضع رفع بالابتداء، وهو اسم تام. [سورة الزلزلة (99) : آية 4] يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) قال أبو جعفر: لأن معنى تحدّث وتخبّر واحد. ودل هذا على أن معنى حدّثنا وأخبرنا واحد. [سورة الزلزلة (99) : آية 5] بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) ويقال: وحى له وإليه فيهما. [سورة الزلزلة (99) : آية 6] يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً نصب على الحال. قال الفراء «3» : اجتمع القراء على لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ «4» قال أبو جعفر: حكى أبو حاتم أن عبّاد بن كثير قال: بلغني أنّ

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 283. (2) انظر البحر المحيط 8/ 496. (3) انظر معاني الفراء 3/ 248. (4) انظر البحر المحيط 8/ 498. [.....]

[سورة الزلزلة (99) : الآيات 7 إلى 8]

النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ «1» . قال أبو جعفر: في الكلام تقديم وتأخير عند النحويين أي يومئذ تحدّث أخبارها ليروا أعمالهم. [سورة الزلزلة (99) : الآيات 7 الى 8] فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) فَمَنْ في موضع رفع بالابتداء، وهو اسم تام. ويعمل جزم بالشرط وخَيْراً منصوب على البيان أو بدل من مثقال «يره» جواب الشرط حذف الألف منه للجزم، وكذا وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) فدلّ ظاهر الكلام على أنّ كلّ من عمل شيئا رآه من مؤمن وكافر، وأنّ الكافر يجازى على عمله الحسن في الدنيا من دفع مكروه، وكذا الأحاديث على هذا. أن الكافر يجازى على حسن عمله في الدنيا، ولا يكون له في الآخرة خير، وأن المؤمن على الضدّ من ذلك نصيبه المصائب في الدنيا وأجره موفّر عليه في الآخرة.

_ (1) انظر تيسير الداني 182 ( «يره» قرأ هشام بإسكان الهاء والباقون بصلتها) .

100 شرح إعراب سورة العاديات

100 شرح إعراب سورة العاديات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) وَالْعادِياتِ خفض بواو القسم. وللعلماء في معناها قولان: روى مجاهد وعكرمة عن ابن عباس أنها الخيل، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنها الإبل وكذا قال ابن مسعود، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس سألني رجل عن وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فقلت: هي الخيل، فمضى إلى علي بن أبي طالب فأخبره فبعث لي فأحضرني فقال لي: أتتكلّم في كتاب الله بغير علم؟ والله إن أول غزوة كانت لبدر، وما كان معنا إلّا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود إنّما العاديات من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منّى. ونظير هذا ما حدّثناه البهلول بن إسحاق بن البهلول بن حسان ثنا إسماعيل بن أبي أويس ثنا كثير بن عبد الله المزنيّ قال: كنت عند محمد بن كعب القرظيّ فجاءه رجل فقال: يا أبا حمزة إني رجل صرورة لم أحجج قطّ فعلّمني مما علّمك الله سبحانه. قال: أتقرأ القرآن؟ قال: نعم. قال: فاستفتح فاقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ خمس آيات وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) أتدري ما هذا؟ قال: لا. قال: «والعاديات ضبحا» الرفع من عرفة فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) إلى المزدلفة فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) لا تغير حتى تصبح فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) يوم منى. قال أبو جعفر: اختلف العلماء في معنى فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فمذهب علي بن أبي طالب وابن مسعود أنها الإبل، وروى مجاهد وعكرمة عن ابن عباس قال: الناس يورون النار ليراها غيرهم، وروى غيرهما عن ابن عباس الخيل، وقال قتادة: الخيل تشعل الحرب، وقال عكرمة: الموريات الألسن. قال أبو جعفر: ولا دليل يدلّ على تخصيص شيء من هذه الأقوال فالصواب أن يقال ذلك لكل من أورى على أن المعنى واحد إذا كان التقدير: وربّ العاديات ونصبت ضَبْحاً لأنه مصدر في موضع الحال. وعن ابن عباس الضّبح نفخها

[سورة العاديات (100) : آية 6]

بمشافرها. ونصبت قَدْحاً على المصدر لأن معنى «فالموريات» فالقادحات «فالمغيرات» عن ابن عباس أنها الخيل وعن ابن مسعود أنها الإبل «ضبحا» ظرف زمان فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) قال الفراء: الهاء كناية عن الوادي، ولم يتقدّم له ذكر لأنه قد عرف المعنى، وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس: النقع الغبار. وسطن ووسّطن وتوسّطن واحد. وعن ابن عباس فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) من العدو. عن ابن مسعود «جمعا» المزدلفة. [سورة العاديات (100) : آية 6] إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) أهل التفسير على أن معناه لكفور أي كفور لنعمه. قال الحسن: يتسخّط على ربه جلّ وعزّ ويلومه فيما يلحقه من المصائب، وينسى النعم. [سورة العاديات (100) : آية 7] وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ أي وإنه ربه عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ. [سورة العاديات (100) : آية 8] وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) وَإِنَّهُ أي وإن الإنسان لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ في معناه أقوال: قيل: لشديد القوى، وقول الفراء «1» : أن المعنى أن الإنسان للخير لشديد الحب فالتقدير عنده إنه لحبّ الخير لشديد الحب ثم حذف ما بعد شديد، والقول الثالث سمعت علي بن سليمان يقول كما تقول: أنا أكرم فلانا لك أي من أجلك أي وإنه من أجل حبّ الخير أي المال لشديد أي لبخيل. [سورة العاديات (100) : آية 9] أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) لا يجوز أن يعمل في «إذا» «يعلم» ، ولا «لخبير» ، ولكن العامل فيها عند محمد بن يزيد «بعثر» ، وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. [سورة العاديات (100) : آية 10] وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) يقول أبرز. [سورة العاديات (100) : آية 11] إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) كسرت «إنّ» من أجل اللام. حكى علي بن سليمان عن محمد بن يزيد أنه يجوز فتحها مع اللام لأنها زائدة، دخولها كخروجها إلّا أنها أفادت التوكيد.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 285.

101 شرح إعراب سورة القارعة

101 شرح إعراب سورة القارعة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القارعة (101) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ (1) مرفوعة بالابتداء والخبر في الجملة وقيل: هي مرفوعة بإضمار فعل والتقدير: ستأتي القارعة. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس: الْقارِعَةُ من أسماء القيامة عظّم الله وحذّر منه. [سورة القارعة (101) : آية 3] وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) قال أبو جعفر: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) تعظيم لها ونصب يَوْمَ: ستأتي على قول من أضمره، ومن لم يضمره فالتقدير عنده: القارعة. [سورة القارعة (101) : الآيات 4 الى 5] يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) الكاف في موضع نصب خبر يكون، وكذا: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) وفي قراءة عبد الله (كالصوف) والعهن جمع عهنة. [سورة القارعة (101) : آية 6] فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) مَنْ في موضع رفع بالابتداء والجملة الخبر. قال الفراء «1» : موازينه أي وزنه. [سورة القارعة (101) : آية 7] فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) قال مجاهد: يرضى بها. قال أبو جعفر: التقدير في العربية: ذات رضى على النسب. [سورة القارعة (101) : الآيات 8 الى 9] وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) قول الأخفش: إن معنى أمّه مستقرّه، وهاوية نار وأنشد: [الطويل]

_ (1) انظر معاني الفرّاء 3/ 287.

[سورة القارعة (101) : آية 10]

583- هوت أمّه ما يبعث الصّبح غاديا ... وماذا يؤدّي اللّيل حين يؤوب «1» وقال غيره: «فأمّه هاوية» أصله هاو أي هالك لأن أمّ الشيء أصله ومعظمه ومنه قيل للحمد: أمّ القرآن، ومنه قول الشاعر: [الوافر] 584- لأمّ الأرض ويل ما أجنّت ... غداة أضرّ بالحسن السّبيل «2» [سورة القارعة (101) : آية 10] وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) جيء بالهاء لأن من العرب من يقول: هي بإسكان الياء فتثبت الهاء على لغة من حرّكها ليفرق بينها وبين لغة من أسكن فإن وصلت لم يجز إثبات الهاء لأن الحركة قد ثبتت، والصواب أن يوقف عليه يتّبع السواد ولا يلحن، وسمعت علي بن سليمان يقول: من قال: أصل وأريد الوقوف فقد أخطأ لأنه يلزمه أن لا يعرب الأسماء في الأدراج ويريد الوقوف. قال أبو جعفر: وهذا حجّة بيّنة صحيحة. [سورة القارعة (101) : آية 11] نارٌ حامِيَةٌ (11) بإضمار مبتدأ.

_ (1) الشاهد لكعب بن سعد الغنويّ في الأصمعيات ص 95، ولسان العرب (أمم) و (هوا) ، وتهذيب اللغة 15/ 602، وجمهرة اللغة 229، والأصمعيات 95، وسمط اللآلي ص 773، وجمهرة أشعار العرب 703، وتاج العروس (أم) و (هوى) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 6/ 492، والمخصّص 12/ 182، ولسان العرب (هبل) . (2) الشاهد لعبد الله بن عنمة الضبيّ في لسان العرب (ضرر) و (حسن) ، والتنبيه والإيضاح 2/ 153، وتهذيب اللغة 4/ 316، وجمهرة اللغة 535، ولعنمة بن عبد الله الضبيّ في تاج العروس (حسن) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة 122، ومقاييس اللغة 2/ 58، ومجمل اللغة 2/ 62، وأساس البلاغة (سلف) .

102 شرح إعراب سورة التكاثر

102 شرح إعراب سورة التكاثر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) أصوب ما قيل في معناه أنّ المعنى: ألهاكم التكاثر عن طاعة الله جلّ وعزّ إلى أن صرتم إلى المقابر فدفنتم، ودلّت هذه الآية على عذاب القبر لا بعدها كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) أي إذا صرتم إلى المقابر. وروي عن زرّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نزل في عذاب القبر ألهاكم التكاثر، وقرأ إلى كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) قال الفراء: واحد المقابر مقبرة ومقبرة وبعض أهل الحجاز يقول: مقبرة، وقد سمعت مشرقة ومشرقة ومشرقة. [سورة التكاثر (102) : الآيات 3 الى 4] كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) تكرير عند الفراء. وأحسن منه ما قاله الضحاك قال: الأولى للكفار، وذهب إلى أن الثانية للعصاة من المؤمنين. [سورة التكاثر (102) : الآيات 5 الى 6] كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) مصدر، وحذف جواب لو. والتقدير: لو تعلمون أنكم ترون الجحيم لمّا تكاثرتم في الدنيا بالأموال وغيرها. قال الكسائي: جواب لَوْ في أول السورة أي لو تعلمون علم اليقين ما ألهاكم التكاثر. وقرأ الكسائي لَتَرَوُنَّ «1» بضمّ التاء. حكاه أبو عبيد عنه، وقرئ على إبراهيم بن موسى عن محمد بن الجهم عن أبي عبد الرّحمن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه قرأ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها «2» الأولى بضمّ التاء والثانية بفتحها. قال أبو جعفر: والأولى عند الفرّاء «3» وأبي عبيد فتحها، لأن التكرير يكون متفقا. قال أبو جعفر: والأحسن ألا يكون تكريرا، ويكون المعنى لترونّ الجحيم في موقف القيامة.

_ (1) انظر تيسير الداني 182. (2) انظر البحر المحيط 8/ 506. (3) انظر معاني الفراء 3/ 288.

[سورة التكاثر (102) : آية 7]

[سورة التكاثر (102) : آية 7] ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها إذا دخلتم النار عَيْنَ الْيَقِينِ مصدر لأن المعنى لتعايننّها عيانا. [سورة التكاثر (102) : آية 8] ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) قيل: أي عن النعيم الذي يشغل عن طاعة الله جلّ وعزّ. وظاهر الكلام يدلّ على أنه عام، وأنّ الإنسان مسؤول عن كل نعيم تنعّم به في الدنيا من أين اكتسبه؟ وما قصد به؟ وهل فعل ما غيره أولى منه؟ ويسند الظاهر للأحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كما قرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال: حدّثنا هشام بن عبد الملك قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة قال: حدّثنا عمّار بن أبي عمّار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: جاءني النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخرجنا أو قدمنا إليه رطبا أو بسرا وماء فقال: «هذا من النّعيم الذي تسألون عنه» «1» . وحدّثنا علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال: حدّثنا داود بن مهران عن داود بن عبد الرّحمن عن محمد بن عيثم عن ابن عباس ثم لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال: الأمن والصحّة.

_ (1) أخرجه النسائي في سننه الوصايا ب 4، وأحمد في مسنده 3/ 338، وموارد الظمآن للهيثمي (2531) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 1/ 120، والهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 317.

103 شرح إعراب سورة العصر

103 شرح إعراب سورة العصر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العصر (103) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) التقدير: وربّ العصر، ويدخل فيه كلّ ما يسمى بالعصر لأنه لم يقع اختصاص تقوم به حجة فالعصر الدهر، والعصر العشي، والعصر الملجأ. [سورة العصر (103) : آية 2] إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) الإنسان بمعنى الناس، والخسر دخول النار. فهو أكبر الخسران. [سورة العصر (103) : آية 3] إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) الَّذِينَ في موضع استثناء من موجب آمَنُوا صلته، وكذا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ لأنه معطوف.

104 شرح إعراب سورة الهمزة

104 شرح إعراب سورة الهمزة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الهمزة (104) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) وَيْلٌ رفع بالابتداء ويجوز نصبه لأنه بمعنى المصدر كما يجوز قبوحا له منصوب إلّا أن الرفع في «ويل» أحسن لأنه غير مأخوذ من فعل والنصب في قبوح أجود لأنه مأخوذ من فعل. وفي نصب «ويل» قول آخر، يكون التقدير قولوا الزم الله ويلا لكل همزة، وهذا مذهب سيبويه «1» . قال مجاهد: ليست هذه خاصّا لأحد. قال أبو جعفر: وهذا قول صحيح في العربية لأن سبيل كل أن تكون غير خاصة. قال أبو العالية: «الهمزة» الذي يعيب الناس في وجوههم، واللّمزة الذي يعيبهم من ورائهم. وسمعت علي بن سليمان يستحسن هذا القول. وقال ابن زيد: الهمزة الذي يهمز الناس ويضربهم بيده، واللّمز الذي يلمزهم ويعيبهم بلسانه. [سورة الهمزة (104) : آية 2] الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) الَّذِي في موضع رفع بمعنى هو الذي، ويجوز النصب بمعنى أعني الذي، ويجوز الخفض على البدل من كلّ. قرأ أبو جعفر ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي «جمع» «2» بالتشديد. وقرأ الحسن وابن كثير وعاصم وأبو عمرو وشيبة ونافع جَمَعَ. قال أبو جعفر: «جمع» بالتخفيف يكون للقليل والكثير، وجمّع لا يكون إلا للكثير. وروي عن الحسن وَعَدَّدَهُ بالتخفيف، وهي قراءة شاذة إن كان يريد عدّه ثم أظهر التضعيف كما قال: [البسيط] 585- إنّي أجود لأقوام وإن ضننوا «3»

_ (1) انظر الكتاب 1/ 396. (2) انظر تيسير الداني 182، والبحر المحيط 8/ 510. (3) مرّ الشاهد رقم (176) .

[سورة الهمزة (104) : الآيات 3 إلى 4]

وهو بعيد، وإنما يجوز في الشعر وإن كان يريد جمع مالا وجمع عدده على أنه مفعول أي أحصى عدده فهو جائز. [سورة الهمزة (104) : الآيات 3 الى 4] يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) يقال: هي لغة النبي صلّى الله عليه وسلّم بكسر السين جاء على فعل يفعل، وله نظائر يسيرة قد ذكرناها. «أنّ» وما عملت فيه في موضع المفعولين، والمعروف من قراءة الحسن «لينبذانّ في الحطمة» «1» بعينه وماله، وقد روي عنه (لينبذنّ) بضم الذال. فقيل لا يجوز لأنه إنما تقدّم ذكر اثنين، وقيل: هو للهمزة واللمزة والذي جمع مالا. [سورة الهمزة (104) : آية 5] وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) قال الفراء: اسم للنار، ولو كانت بغير ألف ولام لم تنصرف. قال أبو جعفر: يقال: حطمه إذا كسّره كما قال: [الرجز] 586- قد لفّها اللّيل بسوّاق حطم «2» ورجل حطم أي أكول. [سورة الهمزة (104) : الآيات 6 الى 7] نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) نارُ اللَّهِ أي هي نار الله «الموقدة» نعت للنار، وكذا الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) اطّلعت على فلان وطلعت أي بلغت وواحد الأفئدة فؤاد. [سورة الهمزة (104) : آية 8] إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) خبر «إن» يقال: آصدت أوصد فمن قال: أوصدت قال: موصدة فلم يهمز، ومن قال: آصدت قال: مؤصدة، وجاز أن يخفّف الهمزة فيقول: موصدة واللغتان حسنتان كثيرتان، وكذا أكّدت ووكدت وهو التأكيد والتوكيد، وكذا أرّخت وورّخت وهو التأريخ والتوريخ، وأكفت وأوكفت وهو الاكاف والوكاف. [سورة الهمزة (104) : آية 9] فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) فِي عَمَدٍ هكذا روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود وزيد بن

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 510، ومختصر ابن خالويه 179، ومعاني الفراء 3/ 290. (2) الشاهد لرشيد بن رميض في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 355، والأغاني 15/ 199، وللأغلب العجلي في الحماسة الشجرية 1/ 144، وللحطم القيسي في الكتاب 3/ 246، وشرح المفصّل 1/ 62، وله أو لأبي زغيبة الأنصاري في شرح أبيات سيبويه 2/ 286، وله أو لأبي زغبة الخزرجي أو لرشيد بن رميض في لسان العرب (حطم) ، وبلا نسبة في أساس البلاغة (حطم) وجمهرة اللغة 830، وسمط اللآلي 59، وشرح المفصّل 6/ 112. [.....]

ثابت وهي قراءة عاصم ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ المدنيون وأبو عمرو فِي عَمَدٍ «1» وإذا جاء الشيء على هذا الاجتماع حظر في الديانة أن يقال: إحداهما أولى من الأخرى. وأجود ما قيل هكذا أنزل كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف» «2» ولكن تلخّص القراءات من العربية فيقال: عمود وعمد فهكذا فعول وفعيل وفعال يجمعن على فعل نحو كتاب وكتب ورغيف ورغف، وقد قالوا: أديم وأدم، وهذا كعمود وعمد اسم للجميع لا جمع على الحقيقة وكذا أفيق وأفق وإهاب وأهب ونعيم ونعم، وقال: خادم وخدم فأما معنى «في عمد» فقد تكلّم فيه أهل التفسير وأهل العربية. قال عطاء الخراساني يعني عمدا من نار ممددة عليهم، وقال ابن زيد: فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ أي هم مغلّلون بعمد من حديد قد احترقت فصارت نارا، وقيل: توصد عليهم الأبواب أي تطبق ويقام عليها عمد من حديد ليكون ذلك أشدّ ليأسهم من الخروج، وقيل «في عمد» أي بين عمد، كما تقول: فلان في القوم أي بينهم، وقيل مع عمد، كما قال: [الطويل] 587- وهل ينعمن من كان آخر عهده ... ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال «3» أي مع، وسمعت علي بن سليمان يقول: «في» على بابها أي ثلاثين شهرا داخلة في ثلاثة أحوال. قال أبو جعفر ومن أجلّ ما يروى في الآية ما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أتدرون كيف أبواب النار؟ قلنا: مثل أبوابنا هذه فقال: لا، إنّ بعضها فوق بعض «ممدّدة» بالخفض نعت لعمد، وبالرفع نعت لموصدة أو خبر بعد خبر.

_ (1) انظر تيسير الداني 182، والبحر المحيط 8/ 510 ومعاني الفراء 3/ 290. (2) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 232، والهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 150، وابن كثير في تفسيره 2/ 9، والهيثمي في موارد الظمآن (1779) . (3) مرّ الشاهد رقم (396) .

105 شرح إعراب سورة الفيل

105 شرح إعراب سورة الفيل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفيل (105) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) حذفت الألف من ترى للجزم، والأصل الهمزة فألقيت حركة الهمزة على الراء فحذفت الهمزة «كيف» في موضع نصب بفعل، وهي غير معربة لأنها في معنى الحروف وإن كانت اسما، وفتحت الفاء لالتقاء الساكنين. [سورة الفيل (105) : آية 2] أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) أي في تضليل عما أرادوه. [سورة الفيل (105) : آية 3] وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) من أحسن ما روي فيه عن المتقدمين ما حدّثناه علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال: حدثنا عفّان قال: حدّثنا حماد عن عاصم عن زرّ عن عبد الله طَيْراً أَبابِيلَ قال: فرقا. وقرئ على محمد بن جعفر عن يوسف بن موسى قال: حدّثنا شهاب عن إبراهيم عن حميد عن أبي خالد عن أبي صالح «طيرا أبابيل» قال: جمعا بعد جمع. قال أبو جعفر: ومعروف في كلام العرب جاءوا أبابيل أي جماعة بعد جماعة عظيمة كثيرة بعد جماعة. مشتق من أبل عليه إذا كثر وجمع ومنه سمّيت الإبل لعظم خلقها، وقد قيل: إنّ معنى أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: 17] أنها السحاب لعظمها وإن كان القتبي ردّ هذا التفسير بغير حجّة تثبت. وأصح ما قيل في واحد الأبابيل ما قاله محمد بن يزيد قال: واحدها ابّيل كسكّين وسكاكين. [سورة الفيل (105) : آية 4] تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) جمعه سجاجيل. [سورة الفيل (105) : آية 5] فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) الكاف في موضع نصب مفعول ثان أي مأكول ما فيه، وهو قشر الحنطة، ويجوز أن يكون بمعنى مأكول للبهائم.

106 شرح إعراب سورة لإيلاف (قريش)

106 شرح إعراب سورة لإيلاف (قريش) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) مذهب الأخفش أن المعنى فعل بهم ذلك ليؤلف قريشا. وهذا القول الخطأ فيه بين، ولو كان كما قال لكانت لإيلاف بعض آيات «الم تر» وفي إجماع المسلمين على الفصل بينهما ما يدلّ على غير ما قال، وأيضا فلو كان كما قال لم يكن آخر السورة تماما، وهذا غير موجود في شيء من السور، وقيل في الكلام حذف والمعنى أعجبوا لإيلاف قريش. رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. وتركهم عبادة رب هذا البيت وهذا أعني الحذف مذهب الفراء «1» ، ويحتجّ له بأن العرب تقول: لله أبوك فيكون في اللام معنى التعجب وأصبح من هذين القولين، وهو قول الخليل بن أحمد، أن المعنى لأن يؤلف الله قريشا إيلافا. [سورة قريش (106) : آية 3] فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) أي لهذا فليعبدوه. قال أبو جعفر: فهذا لا حذف فيه وهو من حسن النحو ودقيقه، وإن كان أصحاب كتب المعاني قد أغفلوه. «إلفهم» مخفوض على البدل كما تقول: عجبت من إحسانك إحسانك إلى زيد، فأبدلت الثاني من الأول، وزدت في الفائدة للبيان وروي عن يزيد بن القعقاع أنه قرأ «إلفهم» «2» وروي عنه «إلافهم» وهما مصدران من ألف يألف على فعل وفعال ففعل مثل قولهم: حلم حلما وعلم علما وسخر سخرا، وفعال مثل لقيته لقاء وصمت صياما وكتبت كتابا، أجاز الفراء «3» لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ على المصدر. قال أبو جعفر: ويجوز النصب أيضا في إلفهم وإيلافهم بمعنى يألفون إلفا. رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ منصوبة بإيلاف وأجاز الفراء إيلافهم

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 293. (2) انظر تيسير الداني 182، ومختصر ابن خالويه 180. (3) انظر معاني الفراء 3/ 293.

[سورة قريش (106) : آية 4]

رحلة الشتاء والصّيف. قال أبو جعفر: يكون هذا على البدل، وتقديره: إيلافهم إيلاف رحلة الشتاء والصيف. ْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) وإن شئت كسرت اللام على الأصل. [سورة قريش (106) : آية 4] الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) الَّذِي في موضع نصب نعت لربّ، ويجوز أن يكون في موضع رفع أي هو الذي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ صلة الذي وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ داخل في الصلة.

107 شرح إعراب سورة أرأيت (الماعون)

107 شرح إعراب سورة أرأيت (الماعون) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الماعون (107) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) هذه القراءة البيّنة، ويجوز أن تأتي الهمزة بين بين فتقول: أرأيت ويجوز أريت بحذف الهمزة، وعن عبد الله بن مسعود أَرَأَيْتَكَ «1» والكاف زائدة للخطاب وهمزة بين بين متحركة بوزنها مخففة، كذا قال سيبويه، فأما قول من قال: هي لا ساكنة ولا متحركة فمحال لأنها إذا لم تكن ساكنة فهي متحرّكة وإذا لم تكن متحرّكة فهي ساكنة فيجب على قوله أن تكون ساكنة متحرّكة. والدليل على أنها متحركة قوله: [البسيط] 588- أأن رأت رجلا أعشى أضرّ به ... ريب المنون ودهر مفند خبل «2» فلو قلت: أأن لكان الوزن واحدا. وهمزة بين بين كثيرا ما يغلط فيها، وهي من أصعب ما في النحو، ومن دليل ما قلنا قوله عزّ وجلّ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ [البقرة: 6] فلو كانت همزة بين بين ساكنة لاجتمع ساكنان، وكذا أرأيت الياء ساكنة وهمزة بين بين متحركة، ومن أسكنها وكسر الياء فقد جاء بما لا يجوز وما لا وجه له ولا تقدير في العربية، ويجوز أن يكون «أرأيت» من رؤية العين فلا يكون في الكلام حذف وأن يكون من رؤية القلب فيكون التقدير: أرأيت الذي يكذّب بالدين بعد ما ظهر له من البراهين أليس مستحقا عذاب الله. [سورة الماعون (107) : آية 2] فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وقرأ أبو رجاء يَدُعُّ الْيَتِيمَ مخفّفة أي يتركه. [سورة الماعون (107) : آية 3] وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3)

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 517، ومعاني الفراء 3/ 294. (2) الشاهد للأعشى في ديوانه 105، والكتاب 3/ 176، وجمهرة اللغة 872، وشرح أبيات سيبويه 2/ 75، وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 45، وشرح شواهد الإيضاح ص 262، وشرح شواهد الشافية 332، ولسان العرب (قبل) و (منن) ، وبلا نسبة في شرح المفصّل 3/ 83، والمقتضب 1/ 155.

[سورة الماعون (107) : الآيات 4 إلى 5]

قال الفراء: أي لا يحافظ على طعام المسكين ولا يأمر به. [سورة الماعون (107) : الآيات 4 الى 5] فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) قال أبو العالية: هو الّذي يسجد ويقول هكذا وهكذا أو التفت عن يمينه وشماله. قال أبو جعفر: وأولى من هذا القول، لعلوّ من قال به ولصحّته في العربية، ما حدثناه علي بن الحسين عن الحسين عن الحسن بن محمد قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن طلحة بن مصرّف عن مصعب بن سعد عن سعد بن مالك قال له رجل: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) أهو حديث النفس في الصلاة؟ قال: كلّنا نجد ذلك، ولكنه يضيّعها لوقتها. وفي غير رواية طلحة بن مصرف أن سعدا قال: سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الذين هم عن صلاتهم ساهون قال: الذين يؤخّرونها عن وقتها. [سورة الماعون (107) : آية 6] الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) أي لا يصلّون خوفا من عقاب ولا رجاء لثواب، ولكن لينظرهم المسلمون فلا يسفكون دماءهم وهم المنافقون. [سورة الماعون (107) : آية 7] وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) قد تكلّم العلماء في معناه كما قرئ على إبراهيم بن موسى عن محمد بن الجهم عن الفراء «1» حدّثني قيس بن الربيع عن السدّي عن عبد خير عن علي رضي الله عنه، قال: الماعون الزكاة، ويروى هذا عن ابن عمر وابن عباس باختلاف، وعن ابن عباس: الماعون ما يتعاطاه الناس، وحكى الفراء عن بعض العرب الماعون الماء، وأنشد: [الوافر] 589- يمجّ صبيره الماعون صبّا «2» صبيره: سحابه. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال ترجع إلى أصل واحد، وإنما هو الظن بالشيء اليسير الذي يجب ألّا يضنّ به مشتقّ من المعن، وهو الشيء القليل. والله أعلم.

_ (1) انظر معاني الفراء 3/ 259. (2) الشاهد بلا نسبة في معاني الفراء 3/ 295، وتفسير الطبري 30/ 214.

108 شرح إعراب سورة الكوثر

108 شرح إعراب سورة الكوثر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الكوثر (108) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) النون والألف الأوليان في موضع نصب اسم إن والأخريان في موضع رفع والْكَوْثَرَ مفعول ثان وهي في اللغة فوعل من الكثرة وقد اختلف العلماء في معناه فعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه الحوض ولما قال سعيد بن جبير: الكوثر الخير الكثير قيل له فقد قيل: إنه الحوض فقال: الحوض من الخير الكثير، وقال الحسن وقتادة: الكوثر القرآن، وقرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى ثنا عبيد الله بن موسى ثنا شعبة عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة قال: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» (1) قال: النبوة والقرآن. [سورة الكوثر (108) : آية 2] فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) اختلف العلماء في معناها فمن أجلّ ذلك ما حدّثنا محمد بن أحمد بن جعفر قال: ثنا أبو بكر بن شيبة ثنا وكيع عن يزيد بن أبي زيادة بن أبي الجعد عن عاصم الجحدري عن عقبة بن ظهير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قول الله جلّ وعزّ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة. قال أبو جعفر: وقد اختلف عنه في ذلك فروي عنه أنه قال: يضع اليمين على الساعد الأيسر على صدره، وعنه وعن أبي هريرة يجعلهما تحت السرّة وهذا مذهب الكوفيين، ويحتجّ للقول الأول أنه أشبه بالآية لأن معنى وانحر أي اجعل يدك نحو نحرك، وقد روى سفيان لشعبة عن عاصم بن كليب عن ابنه عن وائل بن حجر. قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم اجعل يدك نحو نحرك، وقد روى سفيان وشعبة عن عاصم بن أنس عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على اليسرى في الصلاة. قال أبو جعفر: فعلى هذا القول فصلّ لربك أي الصلوات كلّها وانحر اجعل يدك نحو نحوك فهذا قول وعن أبي جعفر محمد بن علي وَانْحَرْ ارفع يدك نحو نحرك إذا كبّرت للإحرام، وقال الضحاك: وَانْحَرْ واسأل، وقول رابع «وانحر»

[سورة الكوثر (108) : آية 3]

واستقبل القبلة بنحرك كما حكي عن العرب هما يتناحران أي يتقاتلان. قال أبو جعفر: وليس هذا قول أحد من المتقدمين، وقول خامس عن أنس بن مالك قال: كان النبي ينحر ثم يصلّي حتى نزلت فصلّ لربك وانحر فصار يصلّي ثم ينحر، وقول سادس عليه أكثر التابعين، قال الحسن وعطاء أي صلّ العيد وانحر البدن. قال أبو جعفر: وهذا قول مجاهد وسعيد بن جبير، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه وبعض أهل النظر يميل إليه لأنه ظاهر المعنى أي انحر البدن، ولا تذبحها، وبعض الفقهاء يردّه لأن صلاة العيد ليست بفرض عند أحد من المسلمين، الضحية ليست بواجبة عنه أكثر العلماء كما روي أن أبا بكر وعمر كانا لا يضحيّان مخافة أن يتوهّم الناس أنّها واجبة، وكذا ابن عباس قال: ما ضحّيت إلا بلحم اشتريته، وفي الآية قول سابع، وهو أبينها، وهو مذهب محمد بن كعب قال: أخلص صلاتك لله وانحر له وحده. وهو قول حسن لأن الله جل وعز عرفه ما أكرمه به وأعطاه إياه فأمره أن يشكره على ذلك لئلا يفعل كما يفعل المشركون وأن تكون صلاته خالصة لله وحده ويكون نحره قاصدا به ما عنده الله جلّ وعزّ لا كما يفعل الكفار. [سورة الكوثر (108) : آية 3] إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) إِنَّ شانِئَكَ قال ابن عباس: عدوك أبا جهل، وقيل العاصي بن وائل هُوَ الْأَبْتَرُ أي المنقطع الذّكر من الخير لا أحد يا قوم بدينه، ولا يذكره بخير. فكان هذا من علامات نبوته صلّى الله عليه وسلّم أنه خبر بما لم يقع فكان كما أخبر به، وقد قيل: لما أنزل الله إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) لم يولد له بعد ذلك، والأول أصحّ، وأصله من بتره أي قطعه.

109 شرح إعراب سورة الكافرين

109 شرح إعراب سورة الكافرين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الكافرون (109) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) قُلْ في موضع جزم عند الفراء على حذف اللام، وسمعت علي بن سليمان يقول: لو كان كما قال لكان بالتاء. وهو عند البصريين غير معرب يا أَيُّهَا «يا» حرف نداء وضممت أيا لأنه منادى مفرد قد مرت العلة فيه الْكافِرُونَ نعت لأي أو عطف البيان. قال محمد بن يزيد: ليس في هذا تكرير وإنما جهل من قال: إنه مكرّر اللغة، والمعنى قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) [سورة الكافرون (109) : الآيات 2 الى 5] لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) في هذا الوقت، وكذا وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) انقضى هذا، ثم قال وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) فيما استقبل وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) مثله، وكان في هذا دلالة على نبوته صلّى الله عليه وسلّم لأن كل من خاطبه بهذا المخاطبة ثم لم يسلم منهم أحد، وكذا الذين خاطبهم بقولهم سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 6] . أَنْتُمْ عابِدُونَ مبتدأ وخبر، وكذا أَنا عابِدٌ على حذف الواو، ومعناها ولم تنصب «لا» كما تنصب «ما» لأن «ما» أدخل في شبه ليس فنصبت كما نصبت ليس. [سورة الكافرون (109) : آية 6] لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) لَكُمْ دِينُكُمْ مبتدأ، وكذا وَلِيَ دِينِ «1» وحذفت الياء من ديني لأنه رأس آية فحسن الحذف لتتفق الآيات، ومن فتح الياء في قوله «ولي» قال: هي اسم فكرهت أن أخلّ به، ومن أسكنها قال: قد اعتمدت على ما قبلها في موضع نصب.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 523 (قرأ سلام «ديني» بالياء وصلا ووقفا، وحذفها القرّاء السبعة) .

110 شرح إعراب سورة إذا جاء نصر الله (النصر)

110 شرح إعراب سورة إذا جاء نصر الله (النصر) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النصر (110) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) إِذا ظرف زمان نصب بجاء نَصْرُ اللَّهِ رفع بجاء ويجمع على أنصار، والقياس أنصر وَالْفَتْحُ عطف عليه. [سورة النصر (110) : آية 2] وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ «يدخلون» في موضع نصب على الحال أو على خبر رأيت أَفْواجاً نصب على الحال جمع فوج، والقياس فوج أفوج استثقل الحركة في الواو فشبّهوا فعلا بفعل. [سورة النصر (110) : آية 3] فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي اجعل تسبيحك بالحمد وَاسْتَغْفِرْهُ وكان يقول صلّى الله عليه وسلّم: «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرّة» «1» إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً خبر كان، والجملة خبر إنّ وكانت في هذه السورة دلالة على نبوّته صلّى الله عليه وسلّم لأنها نزلت قبل الفتح، قال ابن عباس: فعرف أنه إذا كان الفتح فعددنا أجله صلّى الله عليه وسلّم. قال قتادة: نزلت سورة الفتح إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ بالمدينة.

_ (1) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 397، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 52، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 5/ 75.

111 شرح إعراب سورة تبت (المسد)

111 شرح إعراب سورة تبّت (المسد) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المسد (111) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) في «تبّ» الأولى قولان: أحدهما أنه دعاء، والآخر أنه خبر. وفي إسكان التاء قولان: أحدهما أنها لما كانت حرفا وجب لها السكون، والآخر أنه لم تبق لها حركة فأمسكت يَدا فيه قولان: أحدهما أنه مجاز أي تبّ، والآخر أنه على الحقيقة كما يروى أن أبا لهب أراد أن يرمي النبي صلّى الله عليه وسلّم فمنعه الله جلّ وعزّ من ذلك، وأنزل تبّت يدا أبي لهب، أي خسرت يدا أبي لهب، فيه قولان: أحدهما أن علامة الخفض الياء، والقول الآخر أنه معرب من جهتين هذا قول الكوفيين وَتَبَّ فيه قولان: أحدهما أن فيه قد مضمرة كما روي عن ابن مسعود أنه قرأ «تبّت يدا أبي لهب «1» وقد تب» ، والقول الآخر أنه خبر وأن «قد» لا تضمر لأنها حرف معنى. [سورة المسد (111) : آية 2] ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ في «ما» قولان أحدهما أنها في موضع نصب بأغنى، والقول الآخر أنها لا موضع لها من الإعراب وأنها نافية. وَما كَسَبَ فيه قولان: أحدهما أنه يراد به ولده هذا قول ابن عباس، والقول الآخر ما كسبه من شيء. [سورة المسد (111) : آية 3] سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) فيه قولان: أحدهما أن الوقوف عليه ذاه بالهاء لأن تأنيث الأسماء بالهاء، والآخر أن الوقوف ذات لأنه لا ينفصل مما بعده في المعنى. [سورة المسد (111) : آية 4] وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) وَامْرَأَتُهُ فيه قولان: أحدهما أنها مرفوعة لأنها معطوفة على المضمر الذي في سيصلى، وحسن العطف على المضمر لطول الكلام والقول الآخر أنها مرفوعة بالابتداء

_ (1) انظر تيسير الداني 183 (قرأ ابن كثير «لهب» بإسكان الهاء والباقون بفتحها) .

[سورة المسد (111) : آية 5]

حَمَّالَةَ الْحَطَبِ «1» بالرفع فيه قولان أحدهما أنه نعت لامرأته والآخر أنه خبر الابتداء. وفي نعتها هذا قولان، وهي أم جمل أخت أبي سفيان بن حرب أحد القولين أنها نعتت بهذا تخسيسا لها عقوبة لإيذائها النبي صلّى الله عليه وسلّم، والقول الآخر أن يكون له زوجات غيرها فنعتت بهذا للفرق بينها وبينهنّ وفي موضع الجملة قولان: أحدهما أنها في موضع الحال، والتقدير ما أغنى عنه ماله وما كسب وامرأته حمالة الحطب، والقول الآخر أنها خبر «ما» في موضع الحال، ومن قرأ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ «2» ففي قراءته قولان: أحدهما أنه منصوب على الحال لأنه يجوز أن تدخل فيه الألف واللام فلما حذفتهما نصب على الحال، والقول الآخر أنه منصوب على الذمّ أي أعني حمالة الحطب كما قال: [الرجز] 590- نحن بني ضبّة أصحاب الجمل «3» وقال رؤبة: [الرجز] 591- أنا ابن سعد أكرم السّعدينا «4» [سورة المسد (111) : آية 5] فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) فِي جِيدِها فيه قولان: أحدهما أنه خبر بعد خبر عن «وامرأته» ، والقول الآخر أن يكون خبرا منقطعا من الأول حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ فيه قولان أحدهما أنه يراد به السلسلة التي تكون في عنقها في النار، والآخر أنه الحبل الذي كانت تحمل به الحطب.

_ (1) انظر تيسير الداني 183، والبحر المحيط 8/ 527. [.....] (2) انظر تيسير الداني 183، والبحر المحيط 8/ 527. (3) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (ندس) و (جمل) و (قحل) وجمهرة اللغة 269، وتاج العروس (بجل) و (جمل) والكامل للمبرد 99. (4) الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه 191، والكتاب 2/ 155، وشرح المفصّل 1/ 47، وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب 460، وشرح المفصّل 1/ 46، والمقتضب 2/ 223.

112 شرح إعراب سورة قل هو الله أحد (الإخلاص)

112 شرح إعراب سورة قل هو الله أحد (الإخلاص) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الإخلاص (112) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) هُوَ في موضع رفع بالابتداء كناية عن الحديث على قول أكثر البصريين والكسائي أي الحديث الذي هو الحق الله أحد. [سورة الإخلاص (112) : آية 2] اللَّهُ الصَّمَدُ (2) فيه ست تقديرات «1» : أحسنها أن يكون قولك اللَّهُ رفعا بالابتداء الصَّمَدُ نعته وما بعده خبره، والقول الثاني أن يكون الصمد الخبر، والقول الثالث أن يكون على إضمار مبتدأ، والرابع أن يكون خبرا بعد خبر، والخامس أن يكون بدلا من أحد، والسادس أن يكون بدلا من قولك الله الأول فإن قيل: ما معنى التكرير؟ فالجواب أن فيه التعظيم هكذا كلام العرب كما قال: [الخفيف] 592- لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا «2» فعظّم أمر الموت لما كرره ولم يضمره، ومثله وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل: 20] فلا يجيز الفراء أن يكون كناية عن الحديث إلا أن يكون قبلها شيء. وهذا تحكّم على اللغة، وقال الله جلّ وعزّ يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النمل: 9] وإنّي الابتداء وإنّ إنما تدخل على المبتدأ بإجماع، وأيضا فإن «هو» إن لم يكن كناية عن الحديث فهي مبتدأة في أول السورة فإن قال القائل: فعلام تعود؟ فحجّته الحديث أن اليهود سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصف لهم ربّه جلّ وعزّ وينسبه فأنزل الله جلّ وعزّ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. قال أبو جعفر: وقد أمليت هذا الحديث ليعرف على ما سمعته، وفيه أشياء منها أنه من حديث جرير عن الضحاك لم يسمع عن ابن عباس، وقال أحمد بن شعيب جويبر بن سعيد خراساني يروي عن الضحاك متروك الحديث، وفيه إسماعيل بن زياد ضعيف، وذكرناه على ما فيه ليعرف وفيه البعلبكي

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 529. (2) مرّ الشاهد رقم (70) .

على ما قال الشيخ والأجود البعلي، وهذا جائز عند الكوفيين وقد بيّنّا في قوله جلّ وعزّ: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 30] والأخفش سعيد قوله كقول الفراء في أنه كناية عن مفرد «الله» خبر قال الأخفش «أحد» بدل من «الله» . قرأ نصر بن عاصم وعبد الله بن أبي إسحاق أَحَدٌ اللَّهُ بغير تنوين، وكذا يروى عن أبان بن عثمان حذفوا التنوين لالتقاء الساكنين، وأنشد سيبويه: [المتقارب] 593- ولا ذاكر الله إلّا قليلا «1» وأنشد الفراء «2» : [الخفيف] 594- كيف نومي على الفراش ولمّا ... تشمل الشّام غارة شعواء تذهل الشّيخ عن بنيه وتلوي ... عن خدام العقلة العذراء يريد عن خدام العقيلة فحذف التنوين لالتقاء الساكنين كما قرءوا أَحَدٌ اللَّهُ والأجود تحريك التّنوين لالتقاء الساكنين، لأنه علامة فحذفه قبيح، وقراءة الجماعة أولى. وفي «أحد» ثلاثة أقوال منها: أن يكون أحد بمعنى وحد، ووحد بمعنى واحد، كما قال: [البسيط] 595- كأنّ رحلي وقد زال النّهار بنا ... يوم الجليل على مستأنس وحد «3» فأبدل من الواو همزة. والقول الثاني أن يكون الأصل واحدا أبدل من الواو همزة، وحذفت الهمزة لئلا يلتقي همزتان، والقول الثالث أن أحدا بمعنى أوّل كما تقول: اليوم الأحد، واليوم الأول مسموع من العرب، وقال بعض أهل النظر في أحد من الفائدة ما ليس في واحد لأنك إذا قلت: فلان لا يا قوم له واحد، جاز أن يا قوم له اثنان وأكثر فإذا قلت. فلان لا يا قوم له أحد، تضمن معنى واحد وأكثر. قال أبو جعفر: وهذا غلط لا اختلاف بين النحويين أن أحدا إذا كان كذا لم يقع إلا في النفي كما قال: [البسيط] 596- وقفت فيها أصيلا كي أسائلها ... عيّت جوابا وما بالرّبع من أحد «4» فإذا كان بمعنى واحد وقع في الإيجاب تقول: ما مرّ بنا أحد، أي واحد فكذا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.

_ (1) مرّ الشاهد رقم 73. (2) الشعر لعبيد الله بن قيس الرقيّات في ديوانه 95، وتاج العروس (شمل) و (شعى) ، ولسان العرب (شمل) و (خدم) و (شعا) ، ومقاييس اللغة 3/ 190، ومجمل اللغة 3/ 161، وأساس البلاغة (شعو) ، والشعر والشعراء 546، وسمط اللآلي 1/ 294. (3) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 31، والخصائص 3/ 262، والخزانة 1/ 521. (4) مرّ الشاهد رقم (574) .

[سورة الإخلاص (112) : آية 3]

[سورة الإخلاص (112) : آية 3] لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) ثبتت الواو في الثاني، وحذفت في الأول لأنها في الأول وقعت بين ياء وكسرة، وفي الثاني وقعت بين ياء وفتحة. [سورة الإخلاص (112) : آية 4] وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) وقراءة حمزة «كفوا» وزعم هارون القارئ أن سليمان بن علي الهاشمي قرأ «ولم يكن له كفئا أحد» «1» والمعنى واحد، كما قال: [البسيط] 597- لا تقذفنّي بركن لا كفاء له ... وإن تأثّفك الأعداء بالرّفد «2» وكذا كفيّ وجمعها أكفية فإذا قلت: كفوءا وكفء فجمعها أكفاء. يقال: فلان يمنع بناته إلا من الأكفاء فيجوز أن يكون كفو وكفء لغتين بمعنى واحد، ويجوز أن يكون كفء مخففا من كفؤ كما يقال: رسل وكتب «كفوا» خبر يكن و «أحد» اسم يكن. هذا قول أكثر النحويين على أن محمد بن يزيد غلّط سيبويه في اختياره أن يكون الظرف خبرا إذا قدّم لأنه يختار: إنّ في الدار زيدا جالسا، فخطّأه بالآية لأنه لو كان «له» الخبر لم ينصب «كفوا» على أنه خبر يكن على أن سيبويه قد أجاز أن يقدّم الظرف ولا يكون خبرا، وأنشد: [الرجز] 598- ما دام فيهنّ فصيل حيّا «3» والقصيدة منصوبة، وفي نصب كفو قول آخر ما علمت أن أحدا من النحويين ذكره وهو أن يكون منصوبا على أنه نعت نكرة متقدّم فنصب على الحال كما تقول: جاءني مسرعا رجل، وكما قال: [مجزوء الوافر] 599- لميّة موحشا طلل «4» ولكن ذكر الفراء أنه يقال: ما كان ثمّ أحد نظير لزيد، فإن قدّمت قلت: ما كان ثمّ نظيرا لزيد أحد، ولم يذكر العلّة التي أوجبت هذا.

_ (1) انظر البحر المحيط 8/ 530، وتيسير الداني 183. (2) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه 26، ولسان العرب (أثف) ، و (ركن) ، ومقاييس اللغة 1/ 57، وجمهرة اللغة 1036، وتهذيب اللغة 10/ 190 وتاج العروس (أثف) ومجمل اللغة 1/ 167، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 173، والمنصف 1/ 193، وبلا نسبة في شرح شواهد الإيضاح 612. (3) مرّ الشاهد رقم (276) . (4) الشاهد لكثير عزّة في ديوانه 506 والكتاب 2/ 120، وخزانة الأدب 2/ 211 وشرح التصريح 1/ 375، وشرح شواهد المغني 1/ 249، ولسان العرب (وحش) ، والمقاصد النحوية 3/ 163، وبلا نسبة في أسرار العربية 147، وأوضح المسالك 2/ 310، وتمامه: «لعزّة موحشا طلل ... يلوح كأنّه خلل»

113 شرح إعراب سورة الفلق

113 شرح إعراب سورة الفلق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفلق (113) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) قد اختلف العلماء في معناه فقال جابر بن عبد الله: هو الصبح، وقال أبو عبد الرّحمن الحبليّ هي جهنّم، وقيل: هو الخلق وقيل: هو واد في جهنم. قال أبو جعفر: وإذا وقع الاختلاف وجب أن يرجع إلى اللسان الذي نزل به القرآن، والعرب تقول: هو أبين من فلق الصبح وفرقه، يعنون الفجر. [سورة الفلق (113) : آية 2] مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) تكون ما مصدرا فلا تحتاج إلى عائد، ويجوز أن تكون بمعنى الذي فتكون الهاء العائدة عليه محذوفة. [سورة الفلق (113) : آية 3] وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) تكلّم العلماء في معنى الغاسق فعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه القمر وقد ذكرناه بإسناده. وروى عقيل عن الزهري قال: الغاسق إذا وقب الشمس إذا غربت. قال أبو جعفر: وأكثر أهل التفسير أن الغاسق الليل، ومنهم من قال: الكواكب فإذا رجع إلى اللغة عرف منها أنه يقال: غسق إذا أظلم فاتّفقت الأقوال لأن الشمس إذا غربت دخل الليل، والقمر بالليل يكون، والكواكب لا يكاد يطلع إلّا ليلا. فصار المعنى ومن شرّ الليل إذا دخل بظلمته فغطّى كل شيء. يقال: وقب إذا دخل، وقول قتادة: وقب ذهب لا يعرف. [سورة الفلق (113) : آية 4] وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) جمع نفّاثة وفي المكسّر نوافث يقال: أنّهنّ نساء سواحر كنّ في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بالاستعاذة منهن لأنهنّ يوهمن أنهنّ ينفعن أو يضررن فربّما لحق الإنسان في دينه ما يأثم به. فأما السحر فباطل.

[سورة الفلق (113) : آية 5]

[سورة الفلق (113) : آية 5] وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) قال ابن زيد: هم اليهود، وقال غيره: هو لبيد بن أعصم وبناته هنّ السواحر. قال أبو جعفر: أولى ما قيل في هذا قول قتادة قال: هو لكلّ من.... «1» ...

_ (1) موضع النقط بياض في الأصل. [.....]

114 شرح إعراب سورة الناس

114 شرح إعراب سورة الناس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الناس (114) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) الأصل عند سيبويه أناس والألف واللام بدل من الهمزة. [سورة الناس (114) : آية 2] مَلِكِ النَّاسِ (2) نعت يقال: ملك بيّن الملك، ومالك بيّن الملك والملك. [سورة الناس (114) : آية 3] إِلهِ النَّاسِ (3) نعت أو بدل. [سورة الناس (114) : آية 4] مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ هو الذي يوسوس الصدور كما قال الأعشى: [البسيط] 600- تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرق زجل «1» الْخَنَّاسِ عن ابن عباس روايتان إحداهما أنه يوسوس ويجثم على صدر الإنسان فإذا ذكر الله جلّ وعزّ يخنس، والرواية الأخرى أنه يوسوس فإذا أطيع انخنس، القولان متفقان. [سورة الناس (114) : آية 5] الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) في موضع خفض على النعت ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ. [سورة الناس (114) : آية 6] مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)

_ (1) الشاهد للأعشى في ديوانه 105، ولسان العرب (وسس) ، و (عشرق) ، و (زجل) ، وتهذيب اللغة 3/ 277، وتاج العروس (وسس) و (عشرق) و (زجل) ، وإعراب ثلاثين سورة لابن خالويه 239.

يقال: جنّيّ وجنّ وجنّة الهاء لتأنيث الجماعة، مثل حجار وحجارة. قال أبو جعفر: وسألت علي بن سلمان عن قوله عزّ وجلّ وَالنَّاسِ فكيف يعطفون على الْجِنَّةِ وهم لا يوسوسون؟ فقال: هم معطوفون على الوسواس، والتقدير: قل أعوذ بربّ الناس من شرّ الوسواس والناس. والذي قال حسن لأن التقديم والتأخير في الواو جائز حسن كثير كما قال: [الطويل] 601- جمعت وفحشا غيبة ونميمة ... ثلاث خصال لست عنها بمرعوي «1» وقال حسّان «2» : [الطويل] 602- وما زال في الإسلام من آل هاشم ... دعائم غرّ ما ترام ومفخر وهم جبل الإسلام والنّاس حولهم ... رضام إلى طود يروق ويقهر بهاليل منهم جعفر وابن أمّه ... عليّ ومنهم أحمد المتخيّر فبدأ اللفظ بجعفر ثم جاء بعده بعليّ ثم جاء بعده بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو المقدم على الحقيقة. صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين وسلم تسليما كثيرا تم كتاب شرح إعراب القرآن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلّم تسليما حسبنا الله وكفى ونعم الوكيل.

_ (1) الشاهد ليزيد بن الحكم بن العاص في أمالي القالي 1/ 67، والخزانة 1/ 495، والمقاصد النحوية 3/ 86.

§1/1