إعجاز القرآن للباقلاني
الباقلاني
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة جرت سنة الله في ابتعاث رسله إلى خلقه، لتبصيرهم بعظمته وجمعهم على عبادته، أن يؤيدهم بأمور حسية تخالف السنن الكونية، وتشذ عن النواميس الطبيعية، وتكون من قبيل ما استحكم في زمانهم، وغلب على خاصتهم، وعظم في نفوس عامتهم، لتكون معجزة الرسول المرسل إليهم مفحمة لاعجب الامور في أنظارهم، ومبطلة لاقوى الاشياء في حسبانهم، ولئلا يجد المبطلون متعلقا يتشبثون به، ولا سبيلا يتخذونه إلى اختداع الضعفاء فقد أيد الله جل جلاله موسى عليه السلام - وكان عصره عصر سحر - بفلق البحر، وانقلاب العصا حية تسعى، وانبجاس الحجر الصلد بعيون الماء الرواء. وأيد عيسى عليه السلام - وكان عهده عهد طب - بإبراء الاكمه والابرص وخلق الطير من الطين، وإحياء الموتى بإذنه. ولما أرسل رسوله محمدا، صلى الله عليه وسلم، إلى الناس أجمعين، وجعله خاتم النبيين - أيده بمعجزات حسية كمعجزات من سبقه من المرسلين، وخصه بمعجزة عقلية خالدة، وهى إنزال القرآن الكريم، الذى لو اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثله لم يستطيعوا ولم يقاربوا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وكان ذلك في زمان سما فيه شأن البيان، وجلت مكانته في صدور أهله، وعرفوا باللسن والفصاحة، وقوة العارضة في الاعراب عن خوالج النفوس، والابانة عن مشاعر القلوب. وظل رسول الله صلوات الله عليه، يتحداهم بما كانوا يعتقدون في أنفسهم القدرة عليه، والتمكن منه، ولم يزل يقرعهم ويعجزهم، ويكشف عن نقصهم، حتى استكانوا وذلوا، وطبع عليهم الخزى بطابعه، وصاروا حيال فصاحته في أمر مريج.
وقد أدهش القرآن العرب لما سمعوه، وحير ألبابهم وعقولهم بسحر بيانه، وروعة معانيه، ودقة ائتلاف ألفاظه ومبانيه، فمنهم من آمن به ومنهم مكفر، وافترقت كلمة الكافرين على وصفه، وتباينت في نعته، فقال بعضهم، هو شعر، وقال فريق: إنه سحر، وزعمت طائفة أنه أساطير الاولين اكتتبها محمد، فهى تملى عليه بكرة وأصيلا، وذهب قوم أنه إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون. وقال غير هؤلاء وهؤلاء: لو نشاء لقلنا مثل هذا. ولكنهم لم يقولوا هم ولا غيرهم لان تأليف القرآن البديع، ووصفه الغريب، ونظمه العجيب، قد أخذ عليهم منافذ البيان كلها وقطع أطماعهم في معارضته، فظلوا مقموعين مدحورين ثلاثة وعشرين عاما، يتجرعون مرارة الاخفاق، ويهطعون لقوارع التبكيت، وينغضون رؤوسهم تحت مقارع التحدي والتعيير، مع أنفتهم وعزتهم، واستكمال عدتهم وكثرة خطبائهم وشعرائهم، وشيوع البلاغة فيهم، والتهاب قلوبهم بنار عداوته، وترادف الحوافز إلى مناهضته، وعرفانهم أن معارضته بسورة واحدة أو آيات يسيرة أنقض لقوله، وأفعل في إطفاء أمره، وأنجع في تحطيم دعوته، وتفريق الناس عنه - من مناجزته، ونصبهم الحرب له، وإخطارهم بأرواحهم وأموالهم، وخروجهم عن أوطانهم وديارهم. وقد ندب الله المسلمين إلى تلاوة القرآن، وقراءة ما تيسر منه، وحضهم على ادكار معانيه، وتدبر أغراضه ومراميه، ليهتدوا ببصائره وهداه، وليستضيئوا بأنواره في الحياة، حتى تكون كلمتهم فيها هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى. فأقبل عليه علماؤهم يتدبرونه ويفسرونه، ويجلون آياته على أعين الناس لعلهم يشهدون ما فيها من المنافع لهم، فيأتمروا حيث أمر، وينتهوا حيث زجر. وأقبل عليه غيرهم، من أعدائه وأعدائهم، فاتبعوا ما تشابه من آيه ابتغاء الفتنة بتأويلها، وتحريف كلمه عن مواضعها، وخيلت لهم أفهامهم الكليلة، وأذهانهم العليلة، أن في نظمه فسادا، وفى أسلوبه لحنا، وفى معانيه تناقضا، وفى نقله اضطرابا، فنفوا عنه صفة الاعجاز، وسددوا نحوه المطاعن، وبثوا حوله الشكوك. وكان الناجمون الاولون منهم يخافتون بأقوالهم، ويجمجمون بآرائهم، ويستخفون بمذاهبهم
ويصطنعون الحذر والدهاء في كل ما يأتون وما يذرون، خوفا من بطش الخلفاء الراشدين، ومن تلاهم من خلفاء الامويين. وخلف من بعد هؤلاء خلف كانوا أكثر ثقافة، وأعزر علما، وأحسن بيانا فأصحروا بآرائهم، وجاهروا بمعتقداتهم، وبثوا شكوكهم في المجالس والاندية، وسطروها في الكتب والرسائل التى أسرفوا في تحسينها، وبالغوا في تزيينها، وغالوا في انتقاء ورقها ومدادها واستجادة خطها، ليحسن وقعها في الانظار، وتصبو إليها أنفس القراء. وقد ساعدهم على جهرهم هذا ومكن لهم منه، تبدل الزمان وتغير الحال، بتسامح الخلفاء في غير ما يمس سلطانهم ويعرض لدولتهم، وامتلاك غير العرب لزمام الامور في الدولة، وانتشار الكتب المترجمة، وازدياد اتصال العرب بغيرهم من أهل المذاهب والنحل الاخرى، وكثرة الجدال بين المذاهب الاسلامية، واشتعال نار العداوة بين الفرق الكلامية ولما كثرت المطاعن في القرآن، وأوشكت الشبهات أن تأخذ سبيلها إلى نفوس الاغرار والاحداث -: نهض فريق من العلماء يدرءون عنه، وينافحون دونه ويرمون من ورائه بالحجج النيرة، والادلة الواقعة، فشرعوا أقلامهم لتأليف الكتب والرسائل في الرد عليهم، وتبيين مفترياتهم. وفى طليعة هؤلاء أبو محمد عبد الله ابن مسلم بن قتيبة الدينورى، فقد عمد إلى مطاعنهم فيه فجمعها، ثم كر عليها بالنقض في كتابه الجليل: " تأويل مشكل القرآن " وكانت مسألة الاعجاز من أبرز المسائل التى تعاورها العلماء بالبحث في أثناء تفسيرهم للقرآن، وردهم على منكري النبوة، وخوضهم في علم الكلام، كعلى بن ربن كاتب المتوكل في كتاب: " الدين والدولة " وكأبي جعفر الطبري في تفسيره: " جامع البيان عن وجوه تأويل آى القرآن " وكأبي الحسن الاشعري في " مقالات الاسلاميين " وأبى عثمان الجاحظ في كتاب: " الحجة في تثبيت النبوة " وكان علماء الاعتزال أكثر المثيرين للكلام في إعجاز القرآن، فقد ذهب النظام - من بينهم - إلى أن القرآن نفسه غير معجز، وانما كان إعجازه بالصرفة
فصل في أن نبوة النبي معجزتها القرآن
وقال " ان الله ما أنزل القرآن ليكون حجة على النبوة، بل هو كسائر الكتب المنزلة لبيان الاحكام من الحلال والحرام. والعرب إنما يعارضوه، لان الله تعالى صرفهم عن ذلك، وسلب علومهم به وذهب هشام الفوطى، وعباد بن سليمان إلى أن القرآن لم يجعل علما للنبى وهو عرض من الاعراض، والاعراض لا يدل شئ منها على الله ولا على نبوة النبي. وكان ذلك وغيره من أقوال أئمتهم، منبعا غزيرا للقول في إعجاز القرآن وقد انبرى كثير منهم للرد على من أنكر إعجازه جملة، كأبى الحسين الخياط وأبى على الجبائى، اللذين نقضا على " ابن الراوندي " كتابه " الدامع " الذى طعن فيه على نظم القرآن وما يحتويه من المعاني، وقال: إن فيه سفها وكذبا وكذلك رد كثير منهم على من خالف عن قول جماعتهم: بأن تأليف القرآن ونظمه معجز، وأنه علم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كالجاحظ الذى رد على النظام رأيه في الصرفة، في كتاب: " نظم القرآن ". ألف الجاحظ كتابه في الاحتجاج لنظم القرآن وغريب تأليفه، وبديع تركيبه، على حد قوله في مقدمة كتاب الحيوان. وهو من كتبه الضائعة. وقد أشار إليه الباقلانى في إعجاز القرآن، إذ يقول ص 7: " وقد صنف الجاحظ في نظم القرآن كتابا لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله، ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى " وأخشى أن يكون الباقلانى قد حاف في حكمه على نظم القرآن، وحملته العصبية المذهبية على تنقصه. فقد وصف الجاحظ نظم القرآن في كتابه " حجج النبوة " حيث يقول في صفحة 147 مخاطبا من كتب له الكتاب: " وفهمت - حفظك الله - كتابك الاول، وما حثثت عليه من تبادل العلم، والتعاون على البحث والتحاب في الدين، والنصيحة لجميع المسلمين. وقلت اكتب إلى كتابا تقصد فيه إلى حاجات النفوس، وإلى صلاح القلوب، وإلى معتلجات الشكوك وخواطر الشبهات، دون الذى عليه أكثر المتكلمين من التطويل،. ومن التعمق والتعقيد، ومن تكلف ما لا يجب، وإضاعة ما يجب. وقلت: كن كالمعلم اللوحة رقم: 1 عنوان نسخة المتحف البريطاني المرموز لها بحرف: م اللوحتان: 2، 3 الصفحتان الاولى والاخيرة من نسخة المتحف البريطاني المرموز لها بحرف: م اللوحة: 4 عنوان نسخة كوبريللى المرموز لها بحرف: ك اللوحة: 5 الصفحة الاولى من نسخة كوبر يللى المرموز لها بحرف: ك اللوحة: 6 آخر صفحة من نسخة كوبر يللى المرموز لها بحرف: ك اللوحة: 7 الصفحة الاخيرة من نسخة الاسكوريال المرموز لها بحرف: 1
الرفيق، والمعالج الشفيق الذى يعرف الداء وسببه، والدواء وموقعه، ويصبر على طول العلاج، ولا يسأم كثرة التردد. وقلت: اجعل تجارتك التى إياها تؤمل، وصناعتك التى إياها تعتمد - إصلاح الفاسد، ورد الشارد. وقلت: ولابد من استجماع الاصول، ومن استيفاء الفروع، ومن حسم كل خاطر، وقمع كل ناجم، وصرف كل هاجس، ودفع كل شاغل، حتى تتمكن من الحجة، وتتهنأ بالنعمة، وتجد رائحة الكفاية، وتثلج ببرد اليقين، وتفضي إلى حقيقة الامر. وقلت: ابدأ بالاخف فالاخف، وبكل ما كان آنق في السمع وأحلى في الصدور، وبالباب الذى يؤتى منه الريض المتكلف، والجسور المتعجرف، وبكل ما كان أكثر علما، وأنفذ كيدا..فكتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسي، وبلغت منه أقصى ما يمكن مثلى في الاحتجاج للقرآن، والرد على كل طعان، فلم أدع فيه مسألة لرافضي ولا لحديثي، ولا لحشوى، ولا لكافر مباد، ولا لمنافق مقموع، ولا لاصحاب " النظام " ولمن نجم بعد " النظام " ممن يزعم: أن القرآن حق وليس تأليفه بحجة، وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة، فلما طننت أنى قد بلغت أقصى محبتك، وأتيت على معنى صفتك - أتانى كتابك تذكر أنك لم ترد الاحتجاج لنظم القرآن، وإنما أردت الاحتجاج لخلق القرآن وكانت مسألتك مبهمة فكتبت لك أشق الكتابين وأثقلهما، وأغمضهما معنى، وأطولهما طولا.." ولست أعرف نقلا عن كتاب: " نظم القرآن " ولا حديثا عنه، ولا وصفا له غير وصف الجاحظ هذا، وأحسبه فيه من الصادقين وقد قلد الجاحظ في هذه التسمية أبو بكر: عبد الله بن أبى داود السجستاني، المتوفى سنة 316 في كتابه: " نظم القرآن ". وأبو زيد البلخى: أحمد بن سليمان، المتوفى سنة 322 هـ قال أبو حيان في كتاب " البصائر والذخائر ": قال أبو حامد القاضى: لم أر كتابا في القرآن مثل كتاب لابي زيد البلخى، وكان فاضلا يذهب في رأى الفلاسفة، لكنه تكلم في القرآن بكلام لطيف دقيق في مواضع، وأخرج سرائره وسماه: " نظم القرآن " ولم يأت على جميع المعاني فيه.
وكذلك أبو بكر: أحمد بن على، المعروف بابن الاخشيد، المعتزلي، المتوفى سنة 36 هـ، فإنه قد ألف كتابا أسماه: " نظم القرآن ". وأول كتاب علمناه، يشتمل عنوانه على كلمة الاعجاز هو كتاب: " إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه " لابي عبد الله: محمد بن يزيد الواسطي، المعتزلي، المتوفى سنة 306 هـ. وهو من الكتب التى لا نعرف عنها غير أسمائها المجردة. وقد بقى من الكتب المؤلفة في القرن الرابع عن إعجاز القرآن، ثلاثة كتب. أولها: كتاب الرماني، وثانيها: كتاب الخطابى، وثالثها: كتاب الباقلانى. وهى التى نعرض لها بالبيان والتحليل، فيما يلى: إعجاز القرآن للرماني: ولد أبو الحسن: على بن عيسى الرماني المعتزلي في سنة 276، ومات سنة 384 وكان يعرف أيضا بالاخشيدى، نسبة إلى أستاذه ابن الاخشيد، وبالوراق، لانه كان يحترف الوراقة. وقال عنه ياقوت في معجم الادباء 24 / 74: " كان إماما في علم العربية، علامة في الادب، في طبقة أبى على الفارسى، وأبى سعيد السيرافى وله تصانيف في جميع العلوم: من النحو واللغة والنجوم والفقه والكلام، على رأى المعتزلة. وكان يمزج كلامه في النحو بالمنطق، حتى قال أبو على الفارسى: إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شئ، وإن كان ما نقوله نحن، فليس معه منه شئ ". وقال عنه أبو حيان التوحيدي في الامتاع والمؤانسة 1 / 133: " وأما على بن عيسى فعالى الرتبة في النحو واللغة والكلام والعروض والمنطق، وعيب به، لانه لم يسلك طريق واضح المنطق، بل أفرد صناعة، وأظهر براعة وقد عمل في القرآن كتابا نفيسا. هذا مع الدين الثخين، والعقل الرصين " وقال عنه في تقريظ الجاحظ، كما قال ياقوت، في معجم الادباء 14 / 76 -: " لم ير مثله قط..علما بالنحو، وغرازة في الكلام، وبصرا بالمقالات، واستخراجا للعويص، وإيضاحا للمشكل، مع تأله وتنزه ودين ويقين، وفصاحة وفقاهة وعفافة ونظافة "
والكتاب النفيس الذى أشار التوحيدي إليه، هو كتاب: " الجامع لعلم القرآن " وقد ذكره الرماني في إعجاز القرآن. بدأ الرماني كتابه ببيان وجوه إعجاز القرآن، فقال: إنها تظهر من سبع جهات وهى: ترك المعارضة مع توفر الدواعى وشدة الحاجة، والتحدى للكافة والصرفة، والبلاغة، والاخبار الصادقة عن الامور المستقبلة، ونقض العادة وقياسه بكل معجزة. ثم قسم البلاغة إلى ثلاث طبقات، وقال: إن ما كان في أعلاها معجز، وهو بلاغة القرآن. ثم عرف البلاغة بأنها إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ، وأعلاها طبقة في الحسن بلاغة القرآن. ثم قسم البلاغة إلى عشرة أقسام، وهى: الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل والتجانس والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان. ثم فسرها بابا بابا، على ترتيبها تفسيرا وافيا شافيا. فهو - مثلا - عند ما عرض لباب الاستعارة عرفها، وفرق بينها وبين التشبيه. ثم بين أركانها، وقال: إن كل استعارة حسنة توجب بلاغة بيان لا تنوب منابة الحقيقة، وذلك أنه لو كان يقوم مقامه كانت الحقيقة أولى به، ولم تجز الاستعارة. ثم ذكر ما جاء في القرآن من الاستعارة على جهة البلاغة، وبدأ بقول الله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فجعلناه هباء منثورا) ، فقال: " حقيقة،، قدمنا،، هنا: عمدنا و " قدمنا " أبلغ منه لانه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفر، لانه من أجل إمهاله لهم كمعاملة الغائب عنهم، ثم قدم فرآهم على خلاف ما أمرهم. وفى هذا تحذير من الاغترار بالامهال. والمعنى الذى يجمعهما العدل، لان العمد إلى إبطال الفاسد عدل، والقدوم أبلغ لما بينا " وجملة الآيات التى ذكرها في هذا الباب على ذلك النحو العظيم - أربع وأربعون آية. وبعد أن فرغ الرماني من تفسير أبواب البلاغة العشر، عاد إلى البيان عن الوجوه السبعة التى ذكرها في أول الكتاب، وقال: إنها مظاهر إعجاز القرآن.
فأبان عن أوجه دلالتها على الاعجاز. ويعنينا أن نذكر هنا ما قاله عن توفر الدواعى، و " الصرفة " لما للاولى من دلالة خاصة، ولاهمية الثانية. قال: " وأما توفر الدواعى فتوجب الفعل مع الامكان لا محالة، في واحد كان أو جماعة. والدليل على ذلك أن إنسانا لو توفرت دواعيه إلى شرب الماء بحضرته، من جهة عطشه واستحسانه لشربه، وكل داع يدعو إلى مثله، وهو مع ذلك ممكن له، فلا يجوز أن لا يقع شربه منه حتى يموت عطشا لتوفر الدواعى على ما بينا. فإن لم يشربه مع توفر الدواعى له دل ذلك على عجزه عنه، فكذلك توفر الدواعى إلى المعارضة على القرآن لما لم تقع المعارضة دل ذلك على العجز عنها " وقال عن الصرفة: " وأما الصرفة فهى صرف الهمم عن المعارضة. وعلى ذلك يعتمد بعض أهل العلم في أن القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن معارضته وذلك خارج عن العادة كخروج سائر المعجزات التى دلت على النبوة. وهذا عندنا أحد وجوه الاعجاز التى تظهر منها للعقول " وختم كتابه بالاجابة عن سؤال أورده، فقال: " فإن قيل: فلم اعتمدتم على الاحتجاج بعجز العرب دون المولدين، وهو عندكم معجز للجميع، مع أنه يوجد للمولدين من الكلام البليغ شئ كثير؟ قيل له: لان العرب كانت تقيم الاوزان والاعراب بالطباع، وليس في المولدين من يقيم الاعراب بالطباع كما يقيم الاوزان بالطباع، والعرب على البلاغة أقدر لما بينا من فطنتهم لما لم يفطن له المولدون من إقامة الاعراب بالطباع. فإذا عجزوا عن ذلك فالمولدون عنه أعجز " وقد ذهب الرماني إلى نفى السجع من القرآن، وتسمية ما فيه من ذلك فواصل لان الاسجاع عيب، والفواصل بلاغة، لان الفواصل تابعة للمعانى، وأما الاسجاع فالمعاني تابعة لها، وهو قلب ما توجبه الحكمة في الدلالة. أعجاز القرآن للخطابي: ولد أبو سليمان: حمد بن محمد بن ابراهيم بن الخطاب البستى سنة 319 وتوفى سنة 388 هـ وهو من أعلام الفكر الاسلامي في القرن الرابع الذين امتازت كتبهم
بغزارة المادة، وعمق الفكرة، ودقة الاستنباط وروعة البيان، وظهرت فيها شخصيتهم واضحة المعالم، بينة القسمات. ومن كتب الخطابى الجليلة: كتاب " غريب الحديث " و " معالم السنن في شرح سنن أبى داود " و " أعلام السنن في شرح البخاري " وإعجاز القرآن " وهو أصغرها حجما. بدأ الخطابى كتابه بقوله: " قد أكثر الناس الكلام في هذا الباب قديما وحديثا، وذهبوا فيه كل مذهب من القول، وما وجدناهم - بعد - صدروا عن رى، وذلك لتعذر معرفة وجه الاعجاز في القرآن، ومعرفة الامر في الوقوف على كيفيته " ثم عرض للاقوال التى قيلت قبله في وجوه الاعجاز، وبدأ برأى القائلين بأن النبي صلى الله عليه وسلم، قد تحدى العرب قاطبة بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا عنه، وانقطعوا دونه. وعقب عليه بقوله: " وهذا - من وجوه ما قيل فيه - أبينها دلالة، وأيسرها مؤونة، وهو مقنع لمن لم تنازعه نفسه مطالعة كيفية وجه الاعجاز فيه. ثم ثنى برأى القائلين بأن العلة في إعجازه " الصرفة " أي صرف الهمم عن المعارضة، وإن كانت مقدورا عليها، غير معجوز عنها، إلا أن العائق من حيث كان أمرا خارجا عن مجارى العادات - صار كسائر المعجزات. وعلق عليه بقوله: " وهذا أيضا وجه قريب، إلا أن دلالة الآية تشهد بخلافه، وهى قوله سبحانه: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) . فأشار في ذلك إلى أمر طريقه التكلف والاجتهاد، وسبيله التأهب والاحتشاد، والمعنى في الصرفة التى وصفوها لا يلائم هذه الصفة فدل على أن المراد غيرها " ثم ذكر رأى الطائفة التى زعمت أن إعجازه إنما هو فيما تضمنه من الاخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان، وصدقت أقوالها مواقع أكوانها. ثم نقده بقوله: " ولا يشك في أن هذا وما أشبهه من أخباره، نوع من أنواع إعجازه، ولكنه ليس بالامر العام الموجود في كل سورة من سور القرآن. وقد جعل سبحانه في صفة كل سورة أن تكون معجزة بنفسها، لا يقدر أحد من الخلق أن يأتي بمثلها،
فقال: (فَأتُواْ بِسُورَةٍ مِن مِّثْلِهِ، وَادْعُواْ شَهدَاءَكُمِ مِنْ دون الله إن كنتم صادقين) من غير تعيين. فدل على أن المعنى فيه غير ما ذهبوا إليه " ثم ذكر الرأى الرابع الذى ذهب إليه الاكثرون من علماء أهل النظر، وهو أن إعجازه من جهة " البلاغة " وقال: " ووجدت عامة أهل هذه المقالة، قد جروا في تسليم هذه الصفة للقرآن على نوع من التقليد، وضرب من غلبة الظن، دون التحقيق له، وإحاطة العلم به. ولذلك صاروا إذا سئلوا عن تحديد هذه البلاغة التى اختص بها القرآن، وعن المعنى الذى يتميز به عن سائر أنواع الكلام الموصوف بالبلاغة - قالوا: لا يمكننا تصويره، ولا تحديده بأمر ظاهر نعلم به مباينة القرآن غيره من الكلام: وإنما يعرفه العالمون به عند سماعه ضربا من المعرفة، لا يمكن تحديده. وأحالوا على سائر أجناس الكلام الذى يقع فيه التفاضل، فتقع في نفوس العلماء به - عند سماعه - معرفة ذلك، ويتميز في أفهامهم قبيل الفاضل من المفضول منه. وقد يخفى سببه عند البحث، ويظهر أثره في النفس، حتى لا يلتبس على ذوى العلم والمعرفة به. وقد توجد لبعض الكلام عذوبة في السمع، وهشاشة في النفس، لا يوجد مثلها لغيره، والكلامان معا فصيحان، ثم لا يوقف لشئ من ذلك على علة " ثم عقب الخطابى على ذلك بقوله: " وهذا لا يقنع في مثل هذا العلم، ولا يشفى من داء الجهل به، وإنما هو إشكال أحيل به على إبهام " ثم ذكر أن دقيق النظر، وشاهد العبر، قد دلاه على ما يباين به القرآن سائر الكلام، وأن العلة في ذلك: " أن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة، ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية. فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز المطلق الرسل. وهذه أقسام الكلام الفاضل. فالقسم الاول أعلى طبقات الكلام وأرفعه، والقسم الثاني أوسطه وأقصده، والقسم الثالث أدناه وأقربه. فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الاقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الاوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة. وهما على الانفراد في نعوتهما
كالمتضادين، لان العذوبة نتاج السهولة، والجزالة والمتانة في الكلام تعالجان نوعا من الوعورة. فكان اجتماع الامرين في نظمه - مع نبو كل واحد منهما عن الآخر - فضيلة خص بها القرآن " ثم قال: " وإنما تعذر على البشر الاتيان بمثله، لامور: منها أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية، وبأوضاعها التى هي ظروف المعاني، والحوامل لها. ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الاشياء المحمولة على تلك الالفاظ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التى بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصلوا باختيار الافضل عن الاحسن من وجوهها، إلى أن يأتوا بكلام مثله. وإنما يقوم الكلام بهذه الاشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنى قائم به، ورباط لهما ناظم. وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الامور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئا من الالفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه. وأما المعاني فلا خفاء على ذى عقل أنها هي التى تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها، والترقى إلى أعلى درجات الفضل من نعوتها وصفاتها. وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام، فأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه، فلم توجد إلا في كلام العليم القدير، الذى أحاط بكل شئ علما، وأحصى كل شئ عددا. فتفهم الآن، واعلم أن القرآن أنما صار معجزا لانه جاء بأفصح الالفاظ، في أحسن نظوم التأليف، مضمنا أصح المعاني: من توحيد له - عزت قدرته - وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته: من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف، ونهى عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الاخلاق، وزجر عن مساويها. واضعا كل شئ منها موضعه الذى لا يرى شئ أولى منه، ولا يرى في صورة العقل أمر أليق منه، مودعا أخبار القرون الماضية، وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم، منبئا عن الكوائن المستقبلة في الاعصار الباقية من الزمان، جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج له، والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه، وإنباء عن وجوب
فصل في بيان وجه الدلالة على أن القرآن معجز
ما أمر به ونهى عنه. ومعلوم أن الاتيان بمثل هذه الامور، والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق - أمر تعجز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قدرهم: فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله، أو مناقضته في شكله " وأنى لهم ذلك وأمر معاناة المعاني التى تحملها الالفاظ، شديد بالغ الشدة لانها نتائج العقول، وولائد الافهام، وبنات الافكار. وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر، لانها لجام الالفاظ وزمام المعاني، وبه يتصل أخذ الكلام، ويلتئم بعضه ببعض، فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان " ثم ذكر أقوال المعاندين للقرآن، لما عجزوا عن معارضته، وقال: " إن عمود هذه البلاغة التى تجتمع لها هذه الصفات، هو وضع كل نوع من الالفاظ التى تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الاخص الاشكل به. الذى إذا أبدل مكانه غيره جاء منه: إما تبدل المعنى الذى يكون منه فساد الكلام، وإما ذهاب الرونق الذى يكون معه سقوط البلاغة. ذلك أن في الكلام ألفاظا متقاربة في المعاني يحسب أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب، كالعلم والمعرفة والحمد والشكر. والامر فيها وفى ترتيبها عند علماء اللغة بخلاف ذلك، لان لكل لفظة منها خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها، وإن كانا قد يشتركان في بعضها ". ثم مضى يبين الفروق بين معاني الكلمات التى ذكرها، وأتبعها بطائفة الاعتراضات التى وجهت إلى القرآن، أو التى يمكن أن توجه إليه، كتأليف معظم كلامه من ألفاظ مبتذلة في مخاطبات العرب، مستعملة في محاوراتهم، وقلة حظه من الغريب المشكل، بالاضافة إلى واضحه الكثير، وقلة عدد الفقر والغرور من ألفاظه، بالقياس إلى مباذله ومراسيله. والقول بأن كثيرا من العبارات الواقعة في القرآن، لم تقع في أفصح وجوه البيان وأحسنها، وأنه قد عرض فيه سوء التأليف من نسق الكلام على ما ينبو عنه ولا يليق به، وإدخاله بين الكلامين ما ليس من جنسهما، مع ما فيه من الحذف والاختصار، ومضاعفة التكرار، وغير ذلك مما يشكل معه الكلام ويستغلق معناه، ويخرج به عن الفصاحة العالية والبلاغة السامية.
ثم كر على تلك الاعتراضات فنقضها، وفصل القول في تأويل الآيات الكثيرة التى أوردها. وبين أسرار بلاغتها تبيينا ترتاح إليه القلوب، وتطمئن له العقول. ثم قال: " وفى إعجاز القرآن وجه آخر، ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم. وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى - ما يخلص منه إليه. تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها من الوجيب والقلق، وتغشاها من الخوف والفرق ما تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب. يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها. فكم من عدو للرسول، صلى الله عليه وسلم، من رجال العرب وفتاكها، أقبلوا يريدون إغتياله وقتله، فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الاول، وأن يركنوا إلى مسالمته ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة وكفرهم إيمانا " ثم أورد من المثل التاريخية، والآيات القرآنية ما هو مصداق لما وصفه من أمر القرآن. وكان ذلك خاتمة الكتاب. ثم ألف بعد الرماني والخطابى معاصرهم أبو بكر الباقلانى، كتابه " إعجاز القرآن " * * * الباقلانى وإعجاز القرآن: هو أبو بكر: محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم، المعروف بالباقلانى، أو ابن الباقلانى. ولد بالبصرة، ولم يعين أحد من المؤرخين عام ولادته، وقد تلقى العلم على أعلامها، ثم رحل إلى بغداد فأخذ من علمائها، ثم اتخذها دارا لاقامته، حتى قضى نحبه فيها ولم يذكر أحد كذلك متى رحل إليها أول ما رحل، ولا متى اتخذها مستقرا؟ وقد أتيح للباقلاني أن يتتلمذ لطائفة من العلماء الذين جمعوا بين العلم والعمل،
وشهروا بالورع والتقوى. ونحن نشير إلى م اوقفنا عليه منهم، فيما يلى: (1) فمنهم أبو بكر الابهري: محمد بن عبد الله (289 - 375 هـ) شيخ المالكية في عصره، وقد أخذ عنه الباقلانى الفقه، وصحبه فأطال صحبته. ومما يؤثر عن الابهري أنه أخرج في آخر حياته ثلاثة آلاف مثقال، وفرقها على تلامذته، وكانوا جماعة وافرة، وآثر الباقلانى فأعطاه منها مائة مثقال. (2) أبو بكر: أحمد بن جعفر بن مالك القطيعى راوي مسند الامام أحمد (274 - 368) وقد أخذ عنه الحديث. (3) أبو محمد: عبد الله بن إبراهيم بن أيوب بن ماسى (274 - 369) (4) أبو عبد الله: محمد بن خفيف الشيرازي المتوفى سنة 371. وقد أخذ عنه الباقلانى علم الاصول. (5) ابن بهته: محمد بن عمر، البزاز، المتوفى سنة 374 (6) أبو أحمد: الحسين بن على النيسابوري (293 - 375) (7) أبو أحمد: الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري (293 - 382) (8) أبو محمد: عبد الله بن أبى زيد القيرواني المتوفى سنة 386 عن ست وسبعين سنة. (9) أبو عبد الله الطائى: محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مجاهد. البصري، صاحب أبى الحسن الاشعري. وقد درس عليه الباقلانى الاصول والكلام وكان من أخص تلاميذه. (10) أبو الحسن الباهلى البصري صاحب أبى الحسن الاشعري، قال الباقلانى: " كنت أنا وأبو إسحاق الاسفرايينى، وابن فورك معا في درس الشيخ الباهلى، وكان يدرس لنا في كل يوم جمعة مرة واحدة، وكان منا في حجاب، يرخى الستر بيننا وبينه كى لا نراه. وكان من شدة اشتغاله بالله مثل واله أو مجنون، لم يكن يعرف مبلغ درسنا حتى نذكره ذلك ". ولم يكن الباهلى يحتجب عن هؤلاء الثلاثة فقط، بل كان يحتجب عن كل الناس، حتى عن الجارية التى كانت تخدمه. وقد سأله تلاميذه في أول عهدهم به عن سبب إرساله الحجاب بينه وبينهم
فقال: " إنكم ترون السوقة، وهم أهل الغفلة، فترونى بالعين التى ترون أولئك بها "! وذكر ابن شاكر في " عيون التواريخ " أن الباهلى مات سنة 370. وكان الباهلى وابن مجاهد، أعرف العلماء بمذهب الاشعري، وأشدهم فقها له. وأقواهم حجة في الدفاع عنه، لانهما كانا من أقرب تلاميذه إليه. وقد سجل المؤرخون للاشعري: أن أخص تلاميذه به أربعة: أبو بكر بن مجاهد، وأبو الحسن الباهلى، وأبو الحسن الطبري، وخادمه بندار بن الحسين الشيرازي المتوفى سنة 353 هـ. وقد تلقى الباقلانى عليهما أصول المذهب، فتعشقه واندفع في نصرته، بما عرف عنه من قوة الحجة، وبراعة المحاورة، وسرعة البديهة، وطلاقة اللسان، وغزارة البيان. فطار صيته في الآفاق، وهو ما زال بعد في ريعان الصبا وفتاء الشباب، حتى وصل إلى أعلام المعتزلة بشيراز. وكانت شيراز في ذلك الوقت حاضرة ملك أبى شجاع فنا خسرو بن ركن الدولة البويهى. الذى آل إليه ملك فارس بعد وفاة عمه عماد الدولة في سنة 338، فتلقب بعضد الدولة. وكان عضد الدولة أميرا عظيم الهيبة، غزير العقل، شديد التيقظ، كثير الفضل، واسع الثقافة، مشاركا في العلوم، وقد تعلم على أحسن المعلمين. فكان يقدر العلم والعلماء، ويحب الادب والادباء، ويؤثر مجالستهم عن مجالسة الامراء، ويجرى الجرايات على الفقهاء والمحدثين، والنحاة والمفسرين، والشعراء والمتكلمين، والاطباء والمهندسين. وكانت له خزانة كتب عظيمة، عنى بها عناية فائقة، يدل عليها وصف المقدسي لها بأنها " حجرة على حدة، عليها وكيل وخازن ومشرف. ولم يبق كتاب صنف إلى وقت عضد الدولة من أنواع العلوم إلا وحصله فيها. وهى أزج طويل في صفة كبيرة، فيه خزائن من كل وجه، وقد ألصق إلى جميع حيطان الازج والخزائن بيوتا طولها قامة في عرض ثلاثة أذرع من الخشب المزوق، عليها أبواب تنحدر من فوق! والدفاتر منضدة على الرفوف، لكل نوع بيوت وفهرستات فيها أسامي الكتب، ولا يدخلها إلا كل وجبة ".
وكان يقرض الشعر ويتمثل به، ويحكم على معانيه بعد التقرير له، فقصده العلماء من كل فج، وصنفوا له الكتب، كأبى على الفارسى الذى ألف له كتاب " الايضاح " وكتاب " التكملة " في النحو. وارتحل إليه الشعراء كأبى الطيب المتنبي الذى ورد عليه بشيراز في جمادى الاولى سنة 354، وأنشده قصيدته الهائية التى يقول فيها: وقد رأيت الملوك قاطبة * وسررت حتى رأيت مولاها ومن مناياهم براحته * يأمرها فيهم وينهاها أبا شجاع بفارس عضد الد * دولة فنا خسرو شهنشاها أساميا لم تزده معرفة * وإنما لذة ذكرناها وقد أفرد عضد الدولة في داره لاهل الخصوص والحكماء والفلاسفة، موضعا يقترب من مجلسه، فكانوا يجتمعون فيه للمفاوضة والمذاكرة، آمنين من السفهاء ورعاع العامة. وكان مجلسه هذا يحتوى على شياطين المعتزلة، كأبى سعد: بشر بن الحسين قاضى قضاة شيراز، المتوفى سنة 380، والاحدب رئيس المعتزلة ببغداد وأبى إسحق النصيبينى رئيسهم بالبصرة، وأبى الحسن: محمد بن شجاع. وقد لا حظ عضد الدولة خلو مجلسه من أهل السنة، فقال: هذا ليس مجلس عامر بالعلماء، إلا إنى لا أرى فيه واحدا من أهل الاثبات والحديث، أما لهؤلاء المثبتة من ناصر؟ فقال القاضى بشر بن الحسين: ليس لهم ناصر، وإنما هم عامة، أصحاب وتقليد ورواية، يروون الخبر وضده ويعتقدونهما جميعا، لا يعرفون النظر والمعتزلة هم فرسان الجدل والمناظرة. فقال عضد الدولة: محال أن يخلو مذهب طبق الارض من ناصر! فانظر إلى موضع فيه مناظر يكتب فيه فيجلب. فلما تبين القاضى العزم في حديثه، قال: سمعت أن بالبصرة شيخا وشابا، الشيخ يعرف بأبى الحسن الباهلى، والشباب يعرف بابن الباقلانى. فكبت عضد الدولة يومئذ إلى عامله بالبصرة ليبعثهما إليه، وأرسل إليهما خمسة آلاف درهم من الفضة، فلما وصل الكتاب إليهما قال الشيخ: هؤلاء الديلم قوم كفرة فسقة روافض، لا يحل
لنا أن نطأ بساطهم، وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال: إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم، ولو كان ذلك خالصا لله لنهضت. وشايعه على ذلك بعض أصحابه. ولكن الباقلانى لم يعجبه رأى شيخه فقال له: كذا قال ابن كلاب والحارث ابن أسد المحاسبى ومن في عصرهم: إن المأمون فاسق ظالم لا نحضر مجلسه، حتى ساق أحمد بن حنبل، وجرى عليه بعد مما عرف، ولو ناظروه لكفوه عن هذا الامر، وتبين له ما هم عليه بالحجة. وأنت أيضا - أيها الشيخ - تسلك سبيلهم حتى يجرى على الفقهاء ما جرى على أحمد، ويقولوا: بخلق القرآن ونفى الرؤية وها أنا خارج إن لم تخرج. فقال الشيخ: أما إذا شرح الله صدرك لذلك فافعل. قال الباقلانى: فخرجت إلى شيراز، فلما دخلت المدينة استقبلني ابن خفيف في جماعة من الصوفية وأهل السنة، فلما جلسنا في موضع كان ابن خفيف يدارس فيه أصحابه " اللمع " للشيخ أبى الحسن الاشعري، فقلت له: تماد على التدريس كما كنت، فقال لى: أصلحك الله، إنما أنا بمنزلة المتيمم عند عدم الماء، فإذا وجد الماء فلا حاجة إلى التيمم. فقلت له: جزاك الله خيرا، وما أنت بمتيمم، بل لك حظ وافر من هذا العلم، وأنت على الحق، والله ينصرك. ثم قلت: متى الدخول إلى فنا خسرو؟ فقالوا لى: يوم الجمعة لا يحجب عنه صاحب طيلسان. فدخلت والناس قد اجتمعوا، والملك قاعد على سرير ملكه، والناس صفوف على يسار الملك، وفوق الكل قاضى القضاة: بشر بن الحسين، وكان يدخل مع الوزراء في وزارتهم، ويصغى الملك إلى رأيه في أمر الدولة، فلما رأيت ذلك كرهت أن أتقدم على الناس وأتخطى رقابهم، من غير أن أرفع، ولم تدعني نفسي أن أقعد في أخريات الناس. وكان عن يمين الملك المجلس خاليا، ولا يقعد هناك إلا وزير وملك عظيم. فمضيت وقعدت عن يمينه، بحذاء قاضى القضاة، فوجدوا من ذلك، وفزعوا واضطربوا، لانه كان عندهم من الجنايات العظام، ونظر الملك لقاضي القضاة نظرا منكرا، وما في المجلس من يعرفني إلا رجل واحد. فقال للقاضى: هذا هو الرجل الذى طلبه الملك من البصرة، فأعلم الملك بذلك، فقال قاضى القضاة: أطال الله بقاء مولانا، هذا هو الرجل
الذى كتبت فيه، وهو لسان المثبتة. فنظر الملك إلى الغلمان والحجاب فطاروا من بين يديه، ثم قال: اذكروا له مسألة، وكان في المجلس رئيس البغداديين من المعتزلة، وهو الاحدب. وكان أفصح من عندهم وأعلمهم، وعدد كثير من معتزلة البصرة، أقدمهم أبو إسحاق النصيبينى، فقال الاحدب لبعض تلاميذه: سله، هل لله أن يكلف الخلق ما لا يطيقون، أو ليس له ذلك؟ - وكان غرضه تقبيح صورتنا عند الملك - فقلت له: إن أردتم بالتكليف القول المجرد فقد وجد ذلك، لان الله تعالى قال: (قل: كونوا حجارة أو حديدا) ونحن لا نقدر أن نكون حجارة ولا حديدا. وقال تعالى: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم) فطالبهم بما لا يعلمون. وقال تعالى: (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون) . وهذا كله أمر بما لا يقدر عليه الخلق. وإن أردتم بالتكليف الذى نعرفه، وهو ما يصح فعله وتركه، فالكلام متناقض، وسؤالك فاسد، فلا تستحق جوابا، لانك قلت: تكليف، والتكليف: اقتضاء فعل ما فيه مشقة على المكلف، وما لا يطاق لا يفعل لا بمشقة ولا بغير مشقة. فسكت السائل، وأخذ الكلام الاحدب فقال: أيها الرجل، أنت سئلت عن كلام مفهوم فطرحته في الاحتمالات، وليس ذلك بجواب، وجوابه إذا سئلت أن تقول: نعم أو لا. فأحفظنى كلامه لما لم يوقرني توقير الشيوخ ولم يخاطبني بما يليق. وقلت له: يا هذا أنت نائم ورجلاك في الماء: إنما طرحت السؤال في الاحتمالات، وقد بينت لك الوجوه المحتملة، فإن كان معك في المسألة كلام فهاته، وإلا تكلم في غيرها. فقال الملك للاحدب: أيها الشيخ، قد بين الاحتمال، وليس لك أن تعيد عليه، ولا أن تغالطه، ثم إنى ما جمعتكم إلا للفائدة لا للمهاترة، ولما لا يليق بالعلماء. ثم التفت إلى وقال لى: تكلم على المسألة. فقلت: ما لا يطاق على ضربين: أحدهما لا يطاق للعجز عنه، والآخر لا يطاق للاشتغال عنه بضده، كما يقال: فلان لا يطيق التصرف لاشتغاله بالكتابة وما أشبه ذلك، وهذا سبيل الكافر: أنه لا يطيق الايمان، لا لانه عاجز عن الايمان، لكنه لا يطيقه لاشتغاله بضده الذى
هو الكفر، فهذا يجوز تكليفه بما لا يطاق. وأما العاجز فما ورد في الشريعة تكليفه، ولو ورد لكان جائزا وصوابا، وقد أثنى الله تعالى على من سأله أن يكلفه ما لا يطيق، فقال عز وجل: (ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) ، لان الله تعالى له أن يفعل في ملكه ما يريد. ثم تجاوز الاحدب الكلام إلى غيره، ومال الملك إلى قولى. ثم سألني النصيبينى عن مسألة الرؤية: هل يرى الباري سبحانه بالعين؟ وهل تجوز الرؤية عليه أو تستحيل؟ وقال: كل شئ يرى بالعين، فيجب أن يكون في مقابلة العين. فالتفت الملك إلى وقال: تكلم أيها الشيخ في المسألة. فقلت: لو كان الشئ يرى بالعين لوجب أن يكون في مقابلة العين على ما قال: ولكن لا يرى الله بالعين. فتعجب الملك من قولى، والتفت إلى قاضى القضاة، فقال: إذا لم ير الشئ بالعين، فبأى شئ يرى؟ فقال: يسأله الملك. فقال أيها الشيخ فبأى شئ يرى إذا لم ير بالعين؟ فقلت: يرى بالادراك الذى في العين، ولو كان الشئ يرى بالعين لكان يجب أن ترى كل عين قائمة، وقد علمنا أن الاجهر عينه قائمة ولا يرى شيئا. فزاد الملك تعجبا، وقال للنصيبينى: تكلم. فقال: إنى لم أعلم أنه يقول هذا، ولا بنيت إلا على ما نعرف، وظننت أنه يسلم أن الشئ يرى بالعين! فغضب الملك وقال: ما أنت مثل الرجل، لانك بنيت المسألة على الظن. ثم التفت إلى وقال لى: تكلم أنت. فقلت: العين لا ترى، وإنما ترى الاشياء بالادراك الذى يحدثه الله تعالى فيها، وهو البصر، ألا ترى أن المحتضر يرى الملائكة ونحن لا نراهم؟ وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يرى جبريل عليه السلام ولا يراه من يحضره؟ والملائكة يرى بعضهم بعضا ولا نراهم نحن؟ والدليل على جواز رؤية الباري تعالى أنه ليس فيها قلب للحقائق، ولا إفساد للادلة، ولا إلحاق صفة نقص بالقديم تعالى، فوجب أن يكون كسائر الموجودات، لانه تعالى موجود، والشئ إنما يرى لانه موجود، لان المرئى لم يكن مرئيا لانه جنس، لانا نرى سائر الاجناس المختلفة، ولا لقيام معنى بالمرئى، لانا نرى الاعراض التى لا تحمل المعاني، وقد ثبت بالنص وجوب رؤية الحق سبحانه في الدار الآخرة. ثم جرى
في المجلس كلام كثير، وقال الملك على إثره لقاضي القضاة: ألم أقل لك: إن مذهبا طبق الارض لابد له من ناصر. ولما انقضى المجلس صحبني بعض الحجاب إلى منزل هيئ لى فيه جميع ما أحتاج إليه، فسكنته. ولما خرج الباقلانى قال الملك لقاضيه: فكرت بأى قتلة أقتله لجلوسه حيث جلس بغير أمرى، وأما الآن فقد علمت أنه أحق بمكانى منى. ثم دفع ابنه صمصام الدولة، ليعلمه مذهب أهل السنة، فعلمه وألف له كتاب " التمهيد " ولم يزل الباقلانى مع عضد الدولة، إلى أن أقدم بغداد. وكان دخوله أياها في سنة 367، وظل الباقلانى أثيرا لديه، حتى إنه جعله رئيس البعثة التى أوفدها في سنة 371 إلى ملك الروم. وقد قال الاستاذ " محمود محمد الخضيرى " والدكتور " محمد عبد الهادى أبو ريدة " في مقدمتهما لكتاب التمهيد: " إن هذه المناظرة جرت في مجلس الامبراطور باسيليوس الثاني، الذى حكم من سنة 365 إلى سنة 416 هـ ". ثم قالا: " ومهما يكن أمر سفارة الباقلانى بين عضد الدولة وبين ملك الروم، فنحن لا نعرف ظروفها التاريخية، وربما كان ملك الروم قد أراد من يبين له أمر الاسلام، أو يجيب عن أسئلة النصارى بشأن ما يعتقده المسلمون. ويتبين من تفصيل المناقشات أن مهمة الباقلانى كانت مدنية علمية، هي أشبة ببعثة تبادل الآراء ومعرفة وجهات النظر الدينية، ولا سيما أنه ليس عندنا في التاريخ ما يدل على اتصال وثيق بين عضد الدولة وبين الروم من شأنه أن يكون داعيا لبعثات سياسية أو حربية أو أشبه ذلك، وأن المؤرخين يشيرون إلى هذه السفارة باختصار، أو هم يذكرون ما يدل على صبغتها الفكرية الدينية الخالصة. على أنه من الجائز أن يكون ظهور شأن السلطان الفاتح عضد الدولة، بعد حروب دامت طويلا بين البيزنطيين والمسلمين وبعد تمرد أحد قواد الروم على الامبراطور في الشرق، كان مما دعا الامبراطور البيزنطى إلى عقد صلات التعارف مع عضد الدولة " ثم قالا: " إن الغرض الذى رمى إليه عضد الدولة من بعثة الباقلانى إلى بيزنطة هو إرضاء شعور
المسلمين بالسعي في تحرير أسراهم المعذبين لدى الروم " وكان خليقا بالاستاذين الفاضلين ألا يكتبا هذا الكلام البيزنطى بعد نقلهما لقول ابن الاثير: إن عضد الدولة أرسل الباقلانى إلى ملك الروم في جواب رسالة وردت منه. وكان حسبهما أن يسجلا على أنفسهما عدم " معرفة ظروفها التاريخية " فإن ذلك كان أسلم لهما، وكان يمنعهما من أن يتورطا فيما تورطا فيه، فليس صحيحا ما قالاه من أنه " ليس في التاريخ ما يدل على اتصال وثيق بين عضد الدولة وبين الروم من شأنه أن يكون داعيا لبعثات سياسية أو حربية ". وليس صحيحا كذلك أن المؤرخين أشاروا إلى هذه السفارة باختصار، ودلوا على صبغتها الدينية الخالصة. وليس صحيحا مرة ثالثة أن عضد الدولة قد قصد من بعثة الباقلانى إرضاء شعور المسلمين بالسعي في تحرير أسراهم. أجل إن هذه الاقوال كلها ليست من الصحة والصواب في شئ، فقد بين المؤرخون لتلك الفترة من الزمان الاتصال الوثيق بين عضد الدولة وملك الروم، وأن البعثات السياسية قد تبو دلت بينهما عدة مرات منذ سنة 369 حتى وفاة عضد الدولة في شوال سنة 372، وأن وفد الروم الثالث أدرك وفاة عضد الدولة وحضر مجلس صمصام الدولة وتسلم منه الهدايا وتمم عقد المعاهدة. ومجمل ما فصله المؤرخون في ذلك: أنه لما توفى أرمانوس ملك الروم وقام بعده ابناه باسيل وقسطنطين، افترقت كلمة الروم، وطمع كبار القواد في الاستئثار بالملك. وكان ممن طمع في ذلك السقلاروس المعروف بورد الرومي، فجمع الجموع واستجاش بالمسلمين من الثغور وكاتب أبا تغلب بن حمدان وواصله وصاهره، وأخرج إليه الملكان عسكرا بعد عسكر فكسرهم، وجرت بين الفريقين معارك طاحنة، انتهت في يوم الاحد لثمان بقين من شعبان سنة 368 هـ بانهزام السقلاروس، وقد توجه بعد هزيمته إلى ديار بكر، ونزل بظاهر ميافارقين، وأنفذ أخاه قسطنطين إلى عضد الدولة يستنصره على ملكى الروم، ويعده ببذل الطاعة وحمل الخراج إذا انتصر، فأحسن عضد الدولة استقباله، ووثق إليه بخطه ووعده بجميل إنجاده، وتطاول مقام قسطنطين لدى عضد الدولة، وانتهى خبره إلى الملكين الاخوين بقسطنطينية، فأنفذا إلى عضد
الدولة كاتبا لهما وجيها أريبا، يسمى نقفور ويعرف بالاورانوس، ليفسد ما شرع فيه مع السقلاروس، واجتمع الرسولان على بساط عضد الدولة يتنافسان في التقرب إليه، ويستبقان إلى التماس الذمام منه، ولم ينصرفا إلى أن انسلخت سنة تسع وستين وثلثمائة. وذلك أمر لم يكن مثله قط، ويعده المؤرخون من مآثر عضد الدولة. وكان طلب الاورانوس ينحصر في تسليم السقلاروس ولو بابتياعه، والوعد بتأمينه ومن معه، وإخراج كل أسير للمسلمين في بلاد الروم. فمال عضد الدولة إلى ذلك، واحتال حتى حمل إليه عامله على ديار بكر السقلاروس مقبوضا عليه، فأكرمه بعد أن احتاط عليه، ووعده بإطلاقه وتجريد عساكر معه لنصرته، ثم وعد الاورانوس خيرا، وأخرج معه الباقلانى بجواب الرسالة، وعاد الباقلانى بمشروع معاهدة، ومعه رسول يعرف بابن قونس ليأخذ إمضاء عضد الدولة عليها، ولكن عضد الدولة بدا له أن يظفر في المعاهدة باسترجاع بعض الحصون، فأعاد ابن قونس وأرسل معه أبا إسحاق بن شهرام، ورجع ابن شهرام بمشروع المعاهدة الاخير، ومعه رسول يعرف بنقفور الكانكلى، ولكن وصولهما صادف اشتداد العلة على عضد الدولة وموته في الثامن من شوال. ووقع المعاهدة صمصام الدولة على شرطين: أولهما عقد الهدنة لمدة عشر سنوات، وتسليم الحصون التى اشترط ابن شهرام استرجاعها، وثانيهما إطلاق نقفور بعد أخذ خط ملك الروم بتأمينه، وإرجاعه إلى مرتبته. ذلك مجمل ما كان من أمر الصلة بين عضد الدولة وبين ملك الروم، والبعثات العديدة التى وكانت بينهما، والتى قال الاستاذ الخضيرى والدكتور أبو ريدة: إنه إنه ليس في التاريخ ما يدل عليها. ورتبا على ذلك ما رتبا من شتى الفروض والاحتمالات، ولو قد فطنا لقول ابن الاثير في حوادث سنة 70: (إن عضد الدولة أرسل الباقلانى إلى ملك الروم في جواب رسالة) وقدرا قوله هذا حق قدره، ورجعا إلى كلامه في حوادث سنة 69 - لالفياه يفصل القول في السبب الذى دعا ملك الروم إلى مراسلة عضد الدولة ومفاوضتة، وطلب عقد الهدنة 8، 255 - 256.
وعند ما تهيأ الباقلانى للخروج إلى القسطنطينية، قال له أبو القاسم: المطهر بن عبد الله، وزير عضد الدولة: الطالع خروجك. فسأله عن معنى هذا الكلام، فلما فسر له مراده، قال الباقلانى: لا أقول بهذا، لان السعد والنحس كله والشر والخير بيد الله عزوجل، وليس للكواكب ههنا مثقال ذرة من القدرة، وإنما وضعت كتب المنجمين ليتعيش بها الجاهلون من العامة، ولا حقيقة لها. فقال الوزير: أحضروا إلى أبا سليمان المنطقي، فليست المناظرة من شأني، ولا أنا قائم بها، وأنما أنا أحفظ علم النجوم وأقول: إذا كان من النجوم كذا كان كذا، وأما تعليله فهو من علم المنطق. فأحضر وأمر بمكالمة الباقلانى، فقال أبو سليمان للوزير: هذا القاضى يقول: إن الباري - سبحانه - قادر على أن يركب عشرة أنفس في ذلك المركب الذى في دجلة، فإذا وصلوا الجانب الآخر يكون الله قد زاد فيهم آخر فيكونون أحد عشر، ويكون الحادى عشر قد خلقه الله في ذلك الوقت. ولو قلت أنا: لا يقدر على ذلك، أو هو محال - قطعوا لساني وقتلوني، وإن أحسنوا إلى كتفوني ورموني في الدجلة. وإذا كان الامر كما ذكرت لم يكن لمناظرتي معه معنى! فالتفت الوزير إلى الباقلانى وقال: ما تقول أيها القاضى؟ فقال: ليس كلامنا ههنا في قدرة الباري تعالى: والبارى قادر على كل شئ، وإن جحده هذا الجاهل، وإنما كلامنا في تأثيرات هذه الكواكب، فاتتقل إلى ما ذكر لعجزه وقلة معرفته، وإلا فأى تعلق للكلام في قدرة الباري عز وجل في مسألتنا؟ وأنا وإن قلت: إن القديم، تعالى، قادر على ذلك، ما أقول: إنه يخرق العادة ويفعل هذا، لانه لا يجوز عندنا أن يخلق اليوم إنسانا من غير أبوين، فإذا كان كذلك، فقد علم الوزير أن هذا فرار من الزحف. فقال الوزير: هو كما ذكرت. وقال أبو سليمان المنطقي: المناظرات دربة وتجربة، وأنا لا أعرف مناظرات هؤلاء القوم، وهم لا يعرفون مواضعاتنا وعباراتنا، ولا تجمل المناظرة بين قوم هذا حالهم. فقال له الوزير: قبلنا إعتذارك، والحق أبلج. ثم مال إلى الباقلانى بوجهه، وقال له: سر في رعاية الله. قال الباقلانى: " فخرجت فدخلنا بلاد الروم حتى وصلنا إلى ملك الروم بالقسطنطينية، وأخبر الملك بمقدمنا
فأرسل. إلينا من يلقانا، وقال: لا تدخلوا على الملك بعمائمكم حتى تنزعوها، إلا أن تكون مناديل لطافا، وحتى تنزعوا أخفافكم. فقلت: لا أفعل، ولا أدخل إلا بما أنا عليه من الزى واللباس، فإن رضيتم، وإلا فخذوا الكتب تقرءونها، وأرسلوا بجوابها، وأعود بها. فأخبر بذلك الملك، فقال: أريد معرفة سبب هذا، وامتناعه عما مضى عليه رسمى من الرسل؟ فسئلت عن ذلك، فقلت: أنا رجل من علماء المسلمين، وما تحبونه منا ذل وصغار، والله تعالى قد رفعنا بالاسلام، وأعزنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأيضا فإن من شأن الملوك إذا بعثوا رسلهم إلى ملك آخر رفع أقدارهم، لا إذلالهم، سيما إذا كان الرسول من أهل العلم، ووضع قدره إنهدام جانبه عند الله تعالى، وعند المسلمين. فعرف الترجمان الملك بذلك، فقال دعوه يدخل ومن معه كما يشاءون. فدخل الباقلانى ومن معه كما أرادوا، وسأله الملك عن السبب في امتناعه عن اتباع ما جرى به رسمه مع الرسل من قبل، فشرح وجهة نظره، وذكره: أن رسوله قد دخل بملابسه على أمير المؤمنين الطائع، وأدخل بها على السلطان عضد الدولة، ثم قال: " فما تنكرون على هذا، وأنا رجل من علماء المسلمين؟ فإن دخلت بغير هيئتي، ورجعت إلى حكمك أهنت العلم ونفسي، وذهب عند المسلمين جاهى " فقال الملك لترجمانه: قل له: قد قبلنا عذرك، ورفعنا منزلتك، وليس محلك عندنا كسائر الرسل، وإنما محلك عندنا محل الابرار الاخيار، وقد أخبرنا صاحبكم في كتابه أنك لسان المسلمين، والمناظر عنهم، وأنا أشتهى أن أعرف ذلك منك، كما ذكروه عنك. فقلت: إذا أذن الملك. فقال: انزلوا حيث أعددت لكم، ويكون بعد هذا الاجتماع. فنهضنا إلى موضع أعد لنا فلما كان يوم الاحد بعث الملك في طلبى، وقال لى من بعثه: من شأن الرسول حضور مائدة الملك، فيجب أن تجيب إلى طعامنا، ولا تنقض كل رسومنا. فقلت له: أنا من علماء المسلمين، ولست كالرسل من الجند وغيرهم الذى يعرفون ما يجرى في هذا الموطن عليهم، والملك يعلم أن العلماء لا يقدرون أن يدخلوا في هذه الاشياء وهم يعلمون، وأخشى أن يكون على مائدته من لحوم الخنازير، وما حرمه الله تعالى، على رسوله وعلى المؤمنين. فذهب الترجمان وعاد
على، وقال: يقول لك الملك: ليس على مائدتي، ولا في شئ من طعامي شئ تكرهه، وقد استحسنت ما أتيت به، وما أنت عندنا كسائر الرسل، بل أعظم وما كرهت من لحوم الخنازير إنما هو خارج من حضرتي، بينى وبينه حجاب. فنهضت على كل حال، وجلست وقدم الطعام، ومددت يدى وأوهمت الاكل ولم آكل منه شيئا، مع أنى لم أر على مائدته ما يكره. فلما فرغ من الطعام بخر المجلس وعطره، ثم قال: هذا الذى تدعونه في معجزات نبيكم: من انشقاق القمر، كيف هو عندكم؟ فقلت: هو صحيح عندنا، انشق القمر على عهد رسول الله حتى رأى الناس ذلك، وإنما رآه الحضور ومن اتفق نظره إليه في تلك الحال. فقال الملك: وكيف: ولم يره جميع الناس؟ ! قلت لان الناس لم يكونوا على أهبة ووعد لشقوقه وحضوره فقال: وهذا القمر بينكم وبينه نسبة قرابة؟ لاى شئ لم تعرفه الروم وغيرها من سائر الناس، وإنما رأيتموه أنتم خاصة؟ ! قلت: فهذه المائدة بينكم وبينها نسبة؟ وأنتم رأيتموها دون اليهود والمجوس والبراهمة وأهل الالحاد، وخاصة يونان جيرانكم، فإنهم كلهم منكرون لهذا الشأن، وأنتم رأيتموها دون غيركم؟ فتحير الملك، وقال بكلامه: سبحان الله. وأمر بإحضار فلان القسيس ليكلمني، وقال: نحن لا نطيقه، لان صاحبه قال: ما في مملكتي مثله، ولا للمسلمين في عصره مثله. فلم أشعر إذ جاء برجل كالذئب، أشقر الشعر، فقعد، وحكيت عليه المسألة، فقال: الذى قاله المسلم لازم، وهو الحق، لا أعرف له جوابا إلا ما ذكره فقلت له: أتقول: إن الخسوف إذا كان يراه جميع أهل الارض؟ أم يراه أهل الاقليم الذى بمحاذاته؟ قال: لا يراه إلا من كان في محاذاته. فقلت: فما أنكرت من إنشقاق القمر إذا كان في ناحية أن لا يراه أهل تلك
الناحية ومن تأهب للنظر له، فأما من أعرض عنه، أو كان في الامكنة التى لا يرى القمر منها فلا يراه. فقال: كما قلت لا يدفعك عنه دافع، وإنما الكلام في الرواة الذين نقلوه، فأما الطعن في غير هذا الوجه فليس بصحيح. فقال الملك: وكيف يطعن في النقلة؟ فقال القسيس: شبه هذا من الآيات - إذا صح وجب أن ينقله الجم الغفير حتى يتصل بنا العلم الضرورى به، ولما لم نعلم ذلك بالضرورة، دل على أن الخبر مفتعل باطل. فالتفت الملك إلى، وقال: الجواب؟ قلت: يلزمه في نزول المائدة، ما يلزمنى في إنشقاق القمر، ويقال: لو كان نزول المائدة صحيحا لوجب أن ينقله العدد الكثير، فلا يبقى يهودى ولا نصراني ولا وثنى إلا ويعلم هذا بالضرورة، ولما لم يعلموا ذلك بالضرورة دل أن الخبر مكذوب فبهت القسيس والملك ومن ضمه المجلس، وانفصل المجلس على هذا * * * قال الباقلانى: ثم سألني الملك في مجلس ثان، فقال: ما تقولون في المسيح عيسى بن مريم؟ قلت: روح الله وكلمته وعبده، ونبيه ورسوله، كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كن. فيكون، وتلوت عليه النص. فقال: يا مسلم، تقولون: المسيح عبد؟ فقلت: نعم، كذا نقول، وبه ندين. قال: ولا تقولون إنه ابن الله؟ قلت: معاذ الله، (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ، وَمَا كَانَ معه من إله) ، إنكم لتقولون قولا عظيما، فإذا جعلتم المسيح ابن الله فمن أبوه وأخوه وجده وعمه وخاله؟ وعددت عليه الاقارب - فتحير وقال:
يا مسلم: العبد يخلق ويحيى ويميت، ويبرئ الاكمه والابرص؟ فقلت: لا يقدر العبد على ذلك، وإنما ذلك كله من فعل الباري عز وجل قال: وكيف يكون المسيح عبد الله وخلقا من خلقه، وقد أتى بهذه الآيات، وفعل ذلك كله؟ قلت: معاذ الله، ما أحيا المسيح الموتى، ولا أبرأ الاكمه والابرص. فتحير وقل صبره، وقال: يا مسلم. تنكر هذا مع اشتهاره في الخلق، وأخذ الناس له بالقبول؟ فقلت: ما قال أحد من أهل الفقه والمعرفة: إن الانبياء - عليهم السلام - يفعلون المعجزات من ذاتهم، وإنما هو شئ يفعله الله تعالى على أيديهم، تصديقا لهم يجرى مجرى الشهادة. فقال: قد حضر عندي جماعة من أولاد نبيكم، وأهل دينكم، المشهورين فيكم، وقالوا: إن ذلك في كتابكم. فقلت: أيها الملك، في كتابنا أن ذلك كله بإذن الله تعالى. وتلوت عليه قوله تعالى (إذ قال الله: يا عيسى بن مريم، اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك، إذ أيدتك بروح القدس، تكلم الناس في المهد وكهلا،. وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل، وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذنى، فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذنى، وتبرئ الاكمه والابرص بإذنى وإذا تخرج الموتى بإذنى) . وقلت: إنما فعل ذلك كله بالله وحده لا شريك له، لا من ذات المسيح ولو كان المسيح يحيى الموتى، ويبرئ الاكمه والابرص من ذاته، لجار أن يقال: إن موسى فلق البحر، وأخرج يده بيضاء من غير سوء من ذاته، وليس معجزات الانبياء، عليهم السلام، من ذاتهم وأفعالهم دون إرادة الخالق، فلما لم يجز هذا: لم يجز أن تسند المعجزات التى ظهرت على يد المسيح إليه. فقال الملك: وسائر الانبياء كلهم من آدم إلى من بعده - كانوا يتضرعون للمسيح حتى يفعل ما يطلبون! قلت: أو في لسان اليهود عظم، لا يقدرون أن يقولوا: إن المسيح كان
يتضرع إلى موسى؟ وكل صاحب نبى يقول: إن المسيح كان يتضرع إلى نبيه؟ ! فلا فرق بين الموضعين في الدعوى. وانفصل المجلس على هذا. قال الباقلانى: وفى تكلمنا في مجلس ثالث، قلت: لم أتحد اللاهوت بالناسوت؟ فقال: أراد أن ينجى الناس من الهلاك، فقلت: وهل درى بأنه يقتل ويصلب ويفعل به كذا، ولم يأمن من اليهود؟ فإن قلت: إنه لم يدر ما أراد اليهود، بطل أن يكون إلها: وإذا بطل أن يكون إلها: وإذا بطل أن يكون إلها بطل أن يكون إبنا. وإن قلت: قد درى ودخل في الامر على بصيرة، فليس بحكيم، لان الحكمة تمنع التعرض للبلاء. فبهت، وكان آخر مجلس لى معه. * * * ومما جرى في تلك المجالس: أن الباقلانى قال لبعض المطارنة: كيف أنت؟ وكيف الاهل والاولاد؟ فقال له الملك وقد عجب من قوله: ذكر من أرسلك في كتاب الرسالة أنك لسان الامة، ومتقدم على علماء الملة! أما علمت أننا ننزه هؤلاء عن الاهل والولد؟ فقال الباقلانى: أنتم لا تنزهون الله، سبحانه وتعالى. عن الاهل والاولاد، وتنزهونهم؟ ! فكأن هؤلاء عندكم أقدس وأجل أعلى من الله، سبحانه وتعالى! فسقط في أيديهم ولم يردوا جوابا. ثم قال له الملك: أخبرني عن قصة عائشة زوج نبيكم، وما قيل فيها؟ فقال: هما اثنتان، قيل فيهما ما قيل: زوج نبينا ومريم ابنة عمران، فأما زوج نبينا فلم تلد، وأما مريم فجاءت بولد تحمله على كتفها، وكل قد برأها الله مما رميت به. فانقطع الملك ولم يحر جوابا. ويروى القاضى عياض: أن الملك قال للبطرك: ما ترى في أمر هذا الشيطان؟ فقال: تقضى حاجته، وتلاطف صاحبه، وتبعث بالهدايا إليه، وتخرج هذا عن
فصل في جملة وجوه إعجاز القرآن
بلدك من يومك إن قدرت، وإلا لم آمن الفتنة به على النصرانية. ففعل الملك ذلك، وأحسن جواب عضد الدولة وهداياه، وعجل تسريحه، ومعه عدة من أسارى المسلمين والمصاحف، ووكل الباقلانى من جنده من يحفظه حتى يصل إلى مأمنه. ويروى الخطيب البغدادي بسنده: أن الباقلانى لما ورد على ملك الروم مدينته، وعرف خبره، وبين له محله من العلم -: " أفكر في أمره، وعلم أنه لا يكفر له إذا دخل عليه، كما جرى رسم الرعية، أن تقبل الارض بين يدى الملوك. ثم نتجت له الفكرة أن يضع سريره الذى يجلس عليه، وراء باب لطيف لا يمكن أحد أن يدخل منه إلا راكعا، ليدخل القاضى منه على تلك الحال، فيكون عوضا عن تكفيره بين يديه. فلما وضع سريره في ذلك الموضع أمر بإدخال القاضى من الباب، فسار حتى وصل إلى المكان،، فلما رآه تفكر فيه، ثم فطن بالقصة، فأدار ظهره، وحنا رأسه راكعا، ودخل من الباب وهو يمشى إلى خلفه قد استقبل الملك بدبره، حتى صار بين يديه، ثم رفع رأسه، ونصب ظهره، وأدار وجهه حينئذ إلى الملك. فعجب من فطنته، ووقعت له الهيبة في نفسه " ولست أشك في أن هذه الرواية أسطورة من الاساطير التى نسجت خيوطها حول رحلة الباقلانى إلى القسطنطينية. وفيما قصه الباقلانى، من امتناعه من خلع عمامته ونزع خفه، وتهديده بعدم الدخول على الملك، ونزول الملك على رأيه وقوله: دعوه يدخل ومن معه كما يشاءون -: ما يجعل هذه الفكرة الساذجة، بعيدة الوقوع. ولو قد وقعت لتحدث بها الباقلانى، فيما حدث به من أخبار رحلته * * * وعاد الباقلانى إلى بغداد، وظل مع عضد الدولة حتى مات في شوال سنة 372، وتولى بعده ابنه صمصام الدولة ولسنا نعرف متى تولى الباقلانى وظيفة القضاء بالثغر؟ ولامن الذى ولاه؟ وقد جاء في ترجمة أبى حامد: أحمد بن أحمد الاستوائي (358 - 434) الشافعي الاشعري: أنه " ولى القضاء بعكبرا من قبل أبى بكر بن الطيب الباقلانى "
وقد وقف الباقلانى حياته على أمرين، ملكا عليه أقطار نفسه، وشغفاه حبا وهما: التدريس، والتأليف. أما " التدريس " فقد اجتمعت له كل أدواته، ولم يصرفه عنه صارف، حتى إنه في أثناء مقامه مع عضد الدولة بشيراز، وتدريسه لابنه الامير أبى كاليجار المرزبان، لم يمتنع عنه، بل عقد دروسا عامة لاهل السنة. ومن الكتب التى درسها لهم كتاب " اللمع " لابي الحسن الاشعري. وقد " تتلمذ " عليه كثيرون في البصرة وبغداد وغيرهما، ونحن نشير إلى بعضهم فيما يلى: (1) القاضى أبو محمد: عبد الوهاب بن نصر، البغدادي المالكى (362 - 422) . قيل له: مع من تفقهت؟ قال: صحبت الابهري، وتفقهت مع أبى الحسن بن القصار، وأبى القاسم بن الجلاب، والذى فتح أفواهنا، وجعلنا نتكلم: أبو بكر بن الطيب (2) أبو عمران: موسى بن عيسى بن أبى حجاج العفجومى، وقد أثبت سماعه من الباقلانى إملاء في رمضان سنة 402، وقال: رحلت إلى بغداد، وكنت قد تفقهت بالمغرب والاندلس عند أبى الحسن القابسى، وأبى محمد الاصيلى، وكانا عالمين بالاصول. فلما حضرت مجلس القاضى أبى بكر، ورأيت كلامه في الاصول والفقه مع المؤالف والمخالف، حقرت نفسي، وقلت: لا أعلم من العلم شيئا ورجعت عنه كالمبتدئ ". وقال عنه أبو حاتم بن محمد: كان أبو عمران من أحفظ الناس وأعلمهم، لم ألق أحدا أوسع منه علما، ولا أكثر رواية. وذكر أن الباقلانى كان يعجبه حفظه، ويقول له: لو اجتمعت في " مدرستي " أنت وعبد الوهاب - وكان إذ ذاك بالموصل - لاجتمع علم مالك، أنت تحفظه، وهو ينظره. وتوفى أبو عمران سنة 430 عن خمس وستين سنة. وكانت رحلته. إلى بغداد في سنة 399. (3) أبو ذر الهروي عبد بن أحمد (355 - 434) المالكى الاشعري قال له بعض الشيوخ: أنت من هراة، فمن أين تمذهبت لمالك والاشعرى؟ فقال:
سبب ذلك أنى قدمت بغداد لطلب الحديث، فلزمت الدارقطني (306 - 385) وكنت مرة ماشيا معه، فمر بنا شاب، فأقبل الشيخ عليه وعظمه، وأكرمه ودعا له، فلما فارقه قلت: أيها الشيخ الامام، من هذا الذى أظهرت من إكرامه ما رأيت؟ فقال: أو ما تعرفه؟ قلت: لا. فقال: هذا أبو بكر بن الطيب الاشعري، ناصر السنة، وقامع المعتزلة. ثم أفاض في الثناء عليه. فكان ذلك سبب اختلافي إليه، وأخذى عنه. (4) أبو الحسن على بن عيسى السكرى الفارسى (347 - 413) الشاعر الذى استفرغ شعره في مدح الصحابة، والرد على الرافضة، والنقض على شعرائهم وقد صحب الباقلانى، ودرس عليه الكلام، ومدحه بقصيدة طويلة، أوردها الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 5 / 381 - 382، وابن عساكر في تبيين كذب المفترى ص 224 - 226. وهى من أشعار العلماء، وفيها يقول: اليعربى فصاحة وبلاغة * والاشعرى إذا اعتزى للمذهب قاض إذا التبس القضاء على الحجى * كشفت له الآراء كل مغيب وإذا الكلام تطاردت فرسانه * وتحامت الاقران كل مجرب ألفيته من لبه وجنانه * ولسانه وبيانه في مقنب (5) أبو الحسن الحربى: على بن أحمد المالكى، 365 - 437) (6) القاضى أبو جعفر: محمد بن أحمد السمنانى، الحنفي (361 - 444) . (7) أبو الحسن البغدادي: رافع بن نصر المتوفى سنة 447. (8) أبو طاهر الواعظ محمد بن على، المعروف بابن الانباري (375 - 448) (9) أبو عبد الله: الحسين بن حاتم الازدي، المتوفى غريبا بالقيروان. وهو أحد الذين رووا عن الباقلانى وصفه لمناظراته في مجلس ملك الروم. وقد جاء في تبيين كذب المفترى ص 216: أن أبا الحسن بن داود الاشعري، المتوفى سنة 402 " لما كان يصلى في جامع دمشق، تلكم فيه بعض الحشوية، فكتب إلى القاضى أبى بكر: محمد بن الطيب بن الباقلانى يعرفه ذلك، ويسأله أن يرسل إلى
دمشق من أصحابه من يوضح لهم الحق بالحجة. فبعث القاضى تلميذه أبا عبد الله: الحسين بن حاتم الازدي، فعقد مجلس التذكير في جامع دمشق، في حلقة أبى الحسن بن داود، وذكر التوحيد، ونزه المعبود، ونفى عنه التشبيه والتحديد. فخرج أهل دمشق من مجلسه يقولون: أحد أحد. وأقام أبو عبد الله الازدي بدمشق مدة، ثم توجه إلى المغرب، فنشر العلم بتلك الناحية، واستوطن القيروان إلى أن مات بها رحمه الله " وإليه وإلى أبى طاهر الواعظ: يرجع الفضل في انتشار مذهب الباقلانى في المغرب. (10) أبو عبد الرحمن السلمى: محمد بن الحسين الصوفى (330 - 412) . وقد أخذ عن الباقلانى في أثناء إقامته مع عضد الدولة بشيراز، وقرأ عليه كتاب " اللمع " لابي الحسن الاشعري. (11) أبو محمد بن أبى نصر. قال القاضى عياض: " وتفقه عنه القاضى: أبو محمد بن [أبى] نصر، وعلق عنه، وحكى في كتبه ما شاهد من مناظرته في الفقه - بين يدى ولى العهد ببغداد - للمخالفين " (12) أبو حاتم: محمود بن الحسن الطبري، المعروف بالقزوينى، المتوفى سنة 414 بمدينة " آمل " التى ولد فيها، وكان قد قدم بغداد، ودرس على الباقلانى أصول الفقه. (13) القاضى أبو محمد: عبد الله بن محمد الاصبهاني، المعروف بابن اللبان الشافعي المتوفى بأصبهان سنة 446، وقد صحب الباقلانى ودرس عليه كتاب: " المقدمات في أصول الديانات " وكتاب: " أصول الفقه ". (14) أبو بكر بن الحسين الاسكافي. وهو الذى روى عن الباقلانى، خبر رحلة ابن خفيف الصوفى من شيراز إلى البصرة، لسماع أبى الحسن الاشعري كما في تبيين كذب المفترى ص 95 (15) أبو على: الحسن بن شاذان (339 - 426) (16) أبو القاسم: عبيد الله بن أحمد الصيرفى (355 - 435)
(17) أبو الفضل: عبيد الله بن أحمد المقرى (370 - 451) وقد تتلمذ له جماعة كثيرة غير هؤلاء، وكان أكثرهم من العراق وخراسان * * * أما " التأليف " فقد أسهم فيه الباقلانى بنصيب موفور. وكان من عادته أنه إذا صلى العشاء. وقضى ورده، وضع دواته بين يديه، وكبت خمسا وثلاثين ورقة، فإذا صلى الفجر دفع إلى بعض أصحابه ما صنفه ليلته، وأمره بقراءته عليه، وأملى عليه من الزيادات ما يلوح له فيه. وقد تسنى له أن يؤلف نيفا وخمسين كتابا، لم يصل إلينا منها إلا عدد يسير. ونحن نشير إلى ما عرفناه منها، وما علمناه من حديثها، فيما يلى: (1) كتاب: " إعجاز القرآن " ويأتى الحديث عنه فيما بعد. (2) كتاب " التمهيد " وقد ألفه - في أثناء مقامه بشيراز - للامير أبى كاليجار المرزبان، ابن عضد الدولة، وولى عهده. وهو من أهم الكتب الكلامية، التى تعلق بها أهل السنة تعلقا شديدا، لانه أجمع كتاب يبصرهم بمسائل الخلاف بينهم وبين مخالفيهم في الرأى والعقيدة، ويرشدهم إلى أقوى الادلة الجدلية، وأحكم البراهين العقلية، التى تعضد مذهبهم، وتظهر مناعته ورجاحته على المذاهب الاخرى، إسلامية كانت أو غير إسلامية. وخير ما يعرف بهذا الكتاب ويدل على قيمته، قول مؤلفه في مقدمته: " أما بعد، فقد عرفت إيثار سيدنا الامير..لعمل كتاب جامع مختصر، مشتمل على ما يحتاج إليه في الكشف عن معنى العلم وأقسامه، وطرقه ومراتبه، وضروب المعلومات، وحقائق الموجودات، وذكر الادلة على حدث العالم، وإثبات محدثه، وأنه مخالف لخلقه، وعلى ما يجب كونه عليه، من وحدانيته، وكونه حيا عالما قادرا في أزله، وما جرى مجرى ذلك من صفات ذاته، وأنه عادل حكيم فيما أنشأه من مخترعاته، من غير حاجة منه إليها، ولا محرك وداع وخاطر وعلل دعته إلى إيجادها، تعالى عن ذلك. وجواز إرساله رسلا إلى خلقه، وسفراء بينه وبين عباده، وأنه قد فعل ذلك، وقطع العذر في إيجاب تصديقهم بما أبانهم
به من الآيات، ودل به صدقهم من المعجزات. وجمل من الكلام على سائر أهل الملل المخالفين لملة الاسلام، من اليهود والنصارى، والمجوس، وأهل التثنية، وأصحاب الطبائع، والمنجمين. ونعقب ذلك بذكر أبواب الخلاف بين أهل الحق، وأهل التجسيم والتشبيه، وأهل القدر والاعتزال، والرافضة، والخوارج، وذكر جمل من مناقب الصحابة، وفضائل الائمة الاربعة، وأثبات إمامتهم، ووجه التأويل فيما شجر بينهم، ووجوب موالاتهم. ولن آلو جهدا فيما يميل إليه سيدنا الامير - حرس الله مهجته، وأعلى كعبه - من الاختصار، وتحرير المعاني والادلة والالفاظ، وسلوك طريق العون على تأمل ما أودعه هذا الكتاب وإزالة الشكوك فيه والارتياب. وأنا - بحول الله وقوته - أسارع إلى امتثال ما رسمه، وأقف عنده، وإلى الله - جل ذكره - أرغب في حسن التوفيق، والامداد بالتأييد والتسديد " وقد أشار الباقلانى إلى " التمهيد "، في كتاب " هداية المسترشدين " حيث يقول " وقد تكلمنا في " التمهيد " بجمل على اليهود والنصارى والمجوس، تغنى الناظر فيها ". كما أشار إليه أبو المظفر الاسفرايينى في " التبصير " ص 119، وابن قيم الجوزية في كتاب " اجتماع الجيوش الاسلامية على غزو المعطلة والجهمية " ص 119، 120. وقد طبع كتاب " التمهيد " في سنة 1366 هـ بتحقيق الاستاذين محمود محمد الخضيرى، ومحمد عبد الهادى أبو ريدة. وقد تسرعا في نشره عن نسخة واحدة في مكتبة باريس، وهى نسخة تنقص فصولا كثيرة من الكتاب، يزيد عددها على عشرين بابا، كبابى " التعديل والتجوير "، و " القول في الامامة " اللذين نص الباقلانى على أنه قد عقدهما في كتابه! فهو يقول في ص 97: " وسنتكلم على هذا الباب وما يتصل به، في باب التعديل والتجوير من كتابنا هذا، إن شاء الله " ويقول في ص 140: " وسنقول في تفصيل الاخبار. وغير ذلك من أحكام الاخبار، في باب القول في الامامة، إن شاء الله ". (3) كتاب: " هداية المسترشدين، والمقنع في معرفة أصول الدين ". يقول
القاضى عياض عنه: إنه كتاب كبير. ويشير إليه أبو المظفر الاسفرايينى، في " التبصير " ص 119، وابن تيمية في " رسالة الفرقان بين الحق والباطل " ص 130، وفى الرسالة التسعينية من فتاويه 5 / 241. وقد بقى من هذا الكتاب مجلد، في مكتبة الازهر، يحتوى على 248 ورقة، كتبه محمد بن عبد الله العدوى بمدينة صور في سنة 459. ولكن يد البلى قد عاثت فيه، وأتلفت كثيرا من أوراقه، وقد تركز إفسادها في أوراق متتالية (86 - 105) فخرقت أوساطها، وجعلتها في حكم الاوراق المفقودة. ويشتمل هذا المجلد على أحد عشر جزءا من تجزئة المؤلف، تبتدئ بأول الجزء السادس، وتنتهى بانتهاء الجزء السابع عشر. وهذه الاجزاء كلها مقصورة على القول في النبوات. وأهم ما فيها وأورعه، تلك الابحاث الجليلة الطويلة، التى أدار الباقلانى الكلام فيها على " إعجاز القرآن " وملا بها ستا وخمسين ومائة ورقة (61 - 217) وهى أكبر حجما من كتاب " إعجاز القرآن " وأغزر مادة، وأكثر تفصيلا، وأعمق بحثا، وأدق بيانا. وكنت على نية إفرادها ونشرها مستقلة، لولا أن بعض أصدقائى المغاربة أشار على بالتريث حتى يحضر لى صورة من نسخة ناقصة، قال: إنه رآها في بعض المكاتب هناك. فامتثلت لاشارته، رجاء أن يكون في تلك النسخة ما يصلح مواطن الفساد في نسخة الازهر. (4) كتاب: " الانتصار لصحة نقل القرآن، والرد على من نحله الفساد بزيادة أو نقصان ". وقد قال في مقدمته: " أما بعد فقد وقفت - تولى الله عصمتكم، وأحسن هدايتكم وتوفيقكم - على ما ذكرتموه من شدة حاجتكم إلى الكلام في نقل القرآن، وإقامة البرهان على استفاضة أمره، وإحاطة السلف بعلمه، وانقطاع العذر في نقله، وقيام الحجة على الخلق به، وإبطال ما يدعيه أهل الضلال من تحريفه وتغييره، ودخول الخلل فيه، وذهاب شئ كثير منه وزيادة أمور فيه. وما يدعيه أهل الالحاد وشيعتهم من منتحلى الاسلام - من تناقض كثير منه، وخلو بعضه من الفائدة، وكونه غير متناسب. وما ذكروه
من فساد النظم، ودخول اللحن فيه، وركاكة التكرار، وقلة البيان، وتأخير المقدم وتقديم المؤخر، إلى غير ذلك من وجوه مطاعنهم. وذكر جمل مما روى من الحروف الزائدة، والقراءات المخالفة لمصحف الجماعة، والابانة عن وهاء نقل ذلك وضعفه وأن الحجة لم تقم بشئ منه. وعرفت ما وصفتموه من كثرة استضرار الضعفاء بتمويههم، وعظم موقع الاستبصار والانتفاع بنقض شبههم. ونحن بحول الله وعونه نأتى في ذلك بجمل تزيل الريب والشبهة، وتوقف على الواضحة. ونبدأ بالكلام في نقل القراءات، وقيام الحجة به، ووصف توفر همم الامة على نقله وحياطته، ثم نذكر ابتداء أبى بكر، رضى الله عنه، لجمعه على ما أنزل عليه، بعد تفرقه في المواضع التى كتب فيها، وفى صدور خلق حفظوا جميعه، وخلق لم يحيطوا بحفظ جميعه، واتباع عمر رضى الله عنه والجماعة له على ذلك وصوابه فيما صنعه، وسبقه إلى الفضيلة به، والسبب الموجب لذلك. ثم نذكر جمع عثمان رضى الله عنه - الناس على مصحف واحد، وحرف زيد بن ثابت، ونبين أنه لم يقصد في ذلك قصد أبى بكر في جمع القرآن في صحيفة واحدة على ترتيب ما أوحى به، إذ كان ذلك أمرا قد استقر وفرغ منه قبل أيامه. ونبين صواب عثمان رضى الله عنه في جمع الناس على حرف، وحظره ومنعه لما عداه من القراءات، وأن الواجب على كافة الناس اتباعه، وحرام عليهم - بعد - قراءة القرآن بالاحرف والقراءات التى حظرها عثمان ومنع منها، وأن له أخذ المصاحف المخالفة لمصحفه، ومطالبة الناس بها، ومنعهم من نشرها والنظر فيها. ونذكر ما يتعلق به من ادعاء نقصان القرآن، وتغيير نظمه وتحريفه - من الروايات الشاذة الباطلة، عن عمر وعثمان وعلى وأبى عبد الله بن مسعود، وما يرويه قوم من الرافضة في ذلك عن أهل البيت خاصة. ونكشف عن تكذب هذه الروايات، ونبين أيضا ما خالف فيه عبد الله بن مسعود عثمان والجماعة، وهل كان ذلك على جهة الحيطة، ونسبته إياهم إلى زيادة فيه أو نقصان منه، أو تغيير لنطمه وما أنزل عليه؟ أو التصويب لما فعلوه، وإن استجاز مع ذلك قراءته والتمسك بحرفه. ونذكر ما شجر بينه وبين عثمان رضى الله عنه، ونصف رجوعه إلى مذهب الجماعة
وخنوعه لعثمان، وقدر ما نقمه من أمر زيد بن ثابت، وعيب عليه وعلى الجماعة لاجله. ثم نبين أن القرآن معجزة للرسول، صلى الله عليه وسلم، ودلالة على صدقه، وشاهد لنبوته. ثم نبين أن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف، ونوضح ما هذه السبعة أحرف، والروايات الواردة فيها، وجنس اختلافها، ونذكر خلاف الناس في تأويلها، ونفسد من ذلك ما ليس بصواب، وندل على صحة ما نرغب فيه ونجتبيه، ونذكر حال قراءة القراء: وهل قراءتهم هي السبعة الاحرف التى أنزل القرآن بها، أو بعضها؟ وهل هم بأسرهم متبعون لمصحف عثمان وحرف زيد، أو مختلفون في ذلك وقارئون أو بعضهم بغير قراءة الجماعة؟ ونصف جملا من مطاعن الملحدين وأتباعهم من الرافضة في كتاب الله عز وجل. ونكشف عن تمويه الفريقين بما يوضح الحق. ونذكر في كل فصل من هذه الفصول بمشيئة الله وتوفيقه - ما فيه بلاغ للمهتدين، وشفاء وتبصرة للمسترشدين توخيا لطاعة الله عز وجل، ورغبة في جزيل ثوابه. وما توفيقنا إلا بالله، وهو المستعان " وقد ذكره في " هداية المسترشدين "، حيث يقول (ورقة 141 - ا) : " وقد ذكرنا في كتاب " الانتصار لصحة نقل القرآن " جميع مطاعن الملحدة وكل من خالف عن الملة - على القرآن، وكشفنا عن فساد توهمهم وتمويههم ودعواهم لتناقض آيات منه واختلافها، وما طعنوا به من كثرة التكرار، وما قالوه: من أنه قد ذكر فيه أشياء لا يعرفها أهل اللغة، من نحو قوله: (وفاكهة وأبا) وقولهم: إن فيه ما ليس من لغة العرب. وقولهم: إن فيه كلمات ملحونة لا تجوز في الاعراب. وأبطلنا أيضا قدحهم فيه بكونه مثبتا على غير تاريخ نزوله، وأنه قد قدم منه ما يجب تأخيره، وأخر ما يجب تقديمه. وأفسدنا أيضا قدحهم فيه بإنزال بعضه متشابها، مع الاخبار بإلحاد قوم فيه واتباع المتشابه منه. وأبطلنا أيضا قول من قال: إن فيه تحريفا وتغييرا وتبديلا، وزيادة ونقصانا وإنه إنما أثبته السلف بأخبار الآحاد، وشهادة الاثنين، ومن جرى مجراهما، وإن الداجن والغنم آكلا كثيرا منه فضاع ودثر. وأبطلنا أيضا قول من قال: إنه ليس فيه
ما يدل على شئ بظاهره، وإن علم ذلك يجب أخذه عن الرسول والامام ولا يسوغ أن يفسره سواهما، وما تقوله الباطنية وتهذى به وتموه في هذا الباب. واعترضنا أيضا على قول من زعم أن القرآن يجب الايمان به، والتسليم بصحته، دون معرفة معناه وتأويله. وأبطلنا أيضا طعنهم على القرآن باختلاف خطوط المصاحف واختلاف القراءات، وذكر الشواذ، وبينا ما ثبت من ذلك، وما يجب إبطاله. وذكرنا قدحهم فيه بما روى من قوله عليه السلام: " تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهم لترتجي " إلى غير ذلك من وجوه اعتراضاتهم على صحة القرآن. وأوردناه في ذلك الكتاب، وطرفا منه في " أصول الفقه " بما يغنى يسيره الناظر فيه، إن شاء الله ". وتوجد نسخة من الجزء الاول من هذا الكتاب في مكتبة " قرا مصطفى باشا " بإستنبول. وقد نقل منه ابن حزم في الفصل 4 / 218، 220، 221، 222 نقولا رماه من أجلها بالكفر، والكيد للدين، وتكذيب الله، وغير ذلك مما رماه به! كما نقل منه السيوطي في الاتقان 1 / 48، 103، 106، 107، 122، 134، 2 / 42. (5) كتاب " الفرق بين معجزات النبيين، وكرامات الصالحين " ذكره في " هداية المسترشدين " مرتين، قال في أولاهما: " وقد بينا في كتاب: الفرق بين معجزات النبيين وكرامات الصالحين، معنى وصف النبي أنه نبى، وأن من الناس من قال: إنه مشتق ومأخوذ من الانباء عن الاشياء، والاخبار عن الله عز وجل ". ومن هذا الكتاب قسم في مكتبة " تينجن " بألمانيا. (6) كتاب: " مناقب الائمة، ونقض المطاعن على سلف الامة " أشار إليه في " التمهيد " ص 229، وفى الخزانة الظاهرية بدمشق، نسخة من الجزء الثاني، كتب تحت عنوانها: " تأليف القاضى أبى بكر بن الطيب ". وقد علق على هذه العبارة الدكتور يوسف العش - في فهرس مخطوطات الظاهرية ص 84 - بقوله: " ولا شك أن أحمد بن على الباقلانى المتوفى سنة 403 هـ " وقد أحطأ
الدكتور في اسم الباقلانى واسم أبيه، فهو: " محمد بن الطيب، لا " أحمد ابن على ". (7) كتاب: " إكفار المتأولين ". أشار إليه في كتاب التمهيد في باب ذكر ما يوجب خلع الامام وسقوط فرض طاعته ص 186 حيث يقول: " وقد ذكرنا ما في هذا الباب، في كتاب إكفار المتأولين، وذكرنا ما روى في معارضتها، وقلنا في تأويلها بما يغنى الناظر فيه ". (8) كتاب: " الامامة الكبير " وقد أشار إليه في " هداية المسترشدين " في آخر حديثه عن آية انشقاق القمر، إذ يقول: " وقد تقصينا القول في ذلك في كتاب الامامة - بما يغنى عن متأمله ". وقد ذكره ابن حزم في الفصل 4 / 225، ونقل منه في ص 166. (9) كتاب: " الاصول الكبير في الفقه " أشار إليه أبو المظفر الاسفرايينى في كتاب التبصير ص 119، وقال: إنه يشتمل على عشرة آلاف ورقة. وذكره الباقلانى في كتابي: " التمهيد " و " هداية المسترشدين ". (10) كتاب " كيفية الاستشهاد "، " في الرد على أهل الجحد والعناد " أشار إليه في كتاب " التمهيد " ص 40 (11) كتاب: " نقض النقض ". ذكره أبو المظفر الاسفرايينى في التبصير ص 119. (12) كتاب: " كشف الاسرار، وهتك الاستار، في الرد على الباطنية ". ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 11 / 346 فقال: " وقد صنف القاضى الباقلانى كتابا في الرد على هؤلاء، وسماه كشف الاسرار، وهتك الاستار، بين فيه فضائحهم وقبائحهم، ووضح أمرهم لكل أحد..وقد كان الباقلانى يقول في عبارته عنهم: هم قوم يظهرون الرفض، ويبطنون الكفر المحض ". وقد نقل منه ابن تغرى بردى في النجوم الزاهرة 4 / 75 في كلامه عن نسب المعز وآبائه، فقال: " وقال القاضى أبو بكر بن الباقلانى: القداح، جد عبيد الله، كان مجوسيا، ودخل عبيد الله المغرب، وادعى أنه علوى، ولم يعرفه
أحد من علماء النسب، وكان باطنيا خبيثا، حريصا على إزالة ملة الاسلام أعدم الفقه والعلم، ليتمكن من إغراء الخلق، وجاء أولاده أسلوبه، وأباحوا الخمر والفروج، وأشاعوا الرفض، وبثوا دعاة فأفسدوا عقائد جبال الشام، كالنصيرية والدروزية. وكان القداح كاذبا محترفا، وهو أصل دعاة القرامطة " وقد أشار إلى هذا الكتاب السيوطي، في حسن المحاضرة 2 / 28، والسبكي في طبقات الشافعية 4 / 192، أثناء في ترجمته لنجم الدين الخبوشانى، المتوفى سنة 587 والذى كان على يده خراب بيت العبيديين الرافضة، الذين يزعمون أنهم فاطميون. وأشار إليه ابن البطليوسى في الانتصار 47 وابن تيمية في الرد على المنطقيين ص 142 (13) كتاب: " الايجاز ". ذكره أبو عذبة في كتاب " الروضة البهية، فيما بين الاشاعرة والماتريدية "، ثلاث مرات، قال في أولاها ص 18: إن القاضى أبا بكر ذكر في كتاب الايجاز أن المحبة والارادة، والمشيئة والاشاءة، والرضى والاختيار، كلها بمعنى واحد، كما أن العلم والمعرفة شئ واحد. وقال في الثانية ص 35: إنه يقول في هذا الكتاب: إن أحكام الدين على ثلاثة أضرب: ضرب لا يعلم إلا بالدليل العقلي: كحدوث العالم وإثبات محدثه، وما هو عليه من صفاته المتوقف عليها بالفعل، كقدرته تعالى وإرادته، وعلمه وحياته، ونبوة رسله. وضرب لا يعلم إلا من جهة الشرع، وهو الاحكام المشروعة، من الواجب والحرام والمباح. وضرب يصح أن يعلم تارة بدليل العقل، وتارة بالسمع، نحو الصفات التى لا تتوقف على العقل، كالسمع له تعالى والبصر والكلام، والعلم بجواز رؤيته تعالى، وجواز الغفران للمذنبين، وما أشبه ذلك. وقال في الثالثة ص 58: إن القاضى أبا بكر ذكر في كتاب الايجاز أن نبينا صلى الله عليه وسلم معصوم فيما يؤديه عن الله تعالى: وكذا سائر الانبياء، وأن الصغيرة تجوز على الانبياء بعد الوحى مطلقا، لا على سبيل السهو وحده. (14) كتاب: " الابانة عن إبطال مذهب أهل الكفر والضلالة ". وقد نقل منه ابن تيمية: في " رسالة الفتوى الحموية الكبرى " ص 76، 77 وابن قيم الجوزية في كتاب " اجتماع الجيوش الاسلامية، على غزو المعطلة والجمهية " ص 120
(15) كتاب: " دقائق الكلام والرد على من خالف الحق من الاوائل ومنتحلي الاسلام ". ذكره في " هداية المسترشدين " وأشار إليه ابن تيمية، في كتاب " بيان موافقة صريح المعقول، لصحيح المنقول " 1 / 88 في أثناء كلامه على كثرة الاختلاف بين طوائف الفلاسفة، إذ يقول: " واعتبر هذا بما ذكره أرباب المقالات عنهم في العلوم الرياضية والطبيعية، كما نقله الاشعري في كتابه: في مقالات غير الاسلاميين وما ذكره القاضى أبو بكر عنهم، في كتابه في الدقائق. فإن في ذلك من الخلاف عنهم - أضعاف أضعاف ما ذكره الشهرستاني وأمثاله ممن يحكى مقالاتهم ". وذكره أيضا في كتاب الرد على المنطقيين ص 334 حيث يقول: " وأما اختلاف الفلاسفة فلا يحصره أحد. وقد ذكر أبو الحسن الاشعري في كتاب المقالات: مقالات غير الاسلاميين " عنهم من المقالات ما لم يذكره الفارابى وابن سينا، وأمثالهما. وكذلك القاضى أبو بكر بن الطيب في كتاب " الدقائق " الذى رد فيه على الفلاسفة والمنجمين، ورجح فيه منطق المتكلمين من العرب على منطق اليونان " وقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية 11 / 350 أن للباقلاني كتابا اسمه: " دقائق الحقائق " ولا أدرى أهو اسم لهذا الكتاب أم اسم لكتاب آخر؟ (16) كتاب: " رسالة الحرة ". ومبلغ علم الباحثين عنه أنه من كتب الباقلانى المفقودة، التي لا يعرفون موضوعها، ولا يفقهون معنى تسميتها. ومن أعجب العجب أن الكتاب موجود بين أيديهم، مطبوع يقرءون فيه! لكنه يحمل اسما آخر لم يضعه له الباقلانى، وهو: " الانصاف " الذى طبع بالقاهرة في سنة 1369 بتحقيق المرحوم الشيخ محمد زاهد الكوثري. وإنى لا قطع بأن كتاب " الانصاف " هذا إنما في حقيقة الامر كتاب " رسالة الحرة " وأن ذلك الاسم الذى طبع به، اسم دخيل عليه، قد وضع على نسخته المخطوطة المحفوظة بدار الكتب المصرية. والذى دفعني إلى ذلك القطع، قول الباقلانى في أول مقدمته: " أما بعد، فقد وفقت على ما التمسته " الحرة " الفاضلة الدينة - أحسن الله توفيقها - لما تتوخاه
من طلب الحق ونصرته، وتنكب الباطل وتجنبه، واعتماد القربة باعتقاد المفروض في أحكام الدين، واتباع السلف الصالح من المؤمنين، من ذكر جمل ما يجب على المكلفين اعتقاده، ولا يسع الجهل به، وما إذا تدين به المرء صار إلى التزام الحق المفروض، والسلامة من البدع والباطل المرفوض. وإنى - بحول الله تعالى وعونه، ومشيئته وطوله - أذكر " لها " جملا مختصرة، تأتى على البغية من ذلك، ويستغنى بالوقوف عليها من الطلب، واشتغال الهمة بما سواه. فنقول وبالله التوفيق: إن الواجب على المكلف.." وقول الباقلانى هذا، يدل دلالة قاطعة على أنه يقدم لرسالة الحرة، لا لكتاب الانصاف. ولست أدرى كيف مر محقق الكتاب على هذا الكلام، دون أن ينتبه لدلالته الناطقة باسمه، مع علمه بأن القاضى عياضا قد ذكر " رسالة الحرة " ضمن مؤلفات الباقلانى، ولم يذكر " الانصاف "! ولست أدرى كيف فاته مع ذلك أن يتنبه إلى النصين الدخيلين على كلام الباقلانى في هذا الكتاب - في ص 58، 64 - والمصدرين بقول كاتبهما: " قال الشيخ لاجل الامام جمال الاسلام: ووقع لى أنا دليل..". و" قال الشريف الاجل جمال الاسلام: ووقع لى جواب أخصر من هذا وأجود..؟ ! " ولا مراء في أن هذين النصين من تعليق بعض قراء النسخة على هامشها، فأدخلهما ناسخها أو طابعها في صلب الكتاب. وقد نقل ابن حزم - في الفصل 4 / 216 - قولا زعم أن الاشاعرة قالوه في كتبهم وهو: " أن الروح تنتقل عند خروجها من الجسم إلى جسم آخر "، وعقب عليه بقوله: " هكذا نص الباقلانى في أحد كتبه وأظنه الرسالة، المعروفة بالحرة. وهذا مذهب التناسخ بلا كلفة ". ولقد كذب على ابن حزم ظنه، فليس في رسالة الحرة ما يشير إلى هذا القول المزعوم من قريب أو بعيد، ولم يرد في رسالة الحرة - من حديث الروح - إلا قوله ص 45: " ويجب أن يعلم أن كل ما ورد به الشرع من عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، ورد الروح إلى الميت عند السؤال، ونصب الصراط والميزان، والحوض، والشفاعة للعصاة
من المؤمنين - كل ذلك حق وصدق، يجب الايمان والقطع به، لان جميع ذلك غير مستحيل في العقل ". ولقد نقل ابن قيم الجوزية في كتاب " اجتماع الجيوش الاسلامية، على غزو المعطلة والجهمية " أقوالا من كتب الباقلانى في صفات الله، ختمها بقوله ص 120: " ذكر قوله في رسالة الحرة. قال في كلام ذكره في الصفات: إن له وجها ويدين، وإنه ينزل إلى سماء الدنيا. ثم قال، وإنه استوى على عرشه، فاستولى على خلقه. ففرق بين الاستواء الخاص، والاستيلاء العام ". وما أشار إليه ابن قيم الجوزية من قول الباقلانى في الوجه واليدين، والاستواء على العرش مذكور في رسالة الحرة المسماة بالانصاف ص 21، 22 ونص عبارته في ذلك: "..وأخبر الله أنه ذو الوجه الباقي بعد تقضى الماضيات. واليدين اللتين نطق بإثباتهما القرآن. وأنهما ليستا جارحتين، ولا ذوى صورة وهيئة. وأن الله جل ثناؤه مستو على العرش، ومستول على جميع خلقه، كما قال تعالى: " الرحمن على العرش استوى ". بغير مماسة وكيفية، ولا مجاورة، وأنه في السماء إله وفى الارض إله، كما أخبر بذلك " وقد نقل منها ابن قيم الجوزية في كتاب تهذيب سنن أبى داود 7 / 103 وذلك قوله: " وقال أبو بكر بن الطيب المالكى الاشعري في رسالته المشهورة التى سماها " رسالة الحرة " وأن الله سبحانه مريد، كما قال: (فعال لما يريد) وقال: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقال: (إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له: كن فيكون) وأن الله مستو على عرشه ومستول على جميع خلقه، كما قال: (الرحمن على العرش استوى) بغير مماسة ولا كيفية ولا مجاورة " وما نقله ابن قيم الجوزية موجود بنصه في رسالة الحرة المطبوعة باسم الانصاف ص 22. وهذا دليل آخر يؤيد ما ذهبت إليه من أن كتاب " الانصاف " إنما هو " رسالة الحرة " (17) كتاب: " التقريب والارشاد " في أصول الفقه. قال القاضى عياض: إنه كتاب كبير. وذكره أبو المظفر الاسفرايينى في كتاب التبصير ص 119،
فصل في شرح ما بينا من وجوه إعجاز القرآن
وأشار إليه السيوطي في الاتقان 1 / 48 (18) كتاب " التبصرة ". ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 11 / 350. (19) كتاب: " البيان عن فرائض الدين وشرائع الاسلام، ووصف ما يلزم من جرت عليه الاقلام، من معرفة الاحكام ". (20) كتاب " الحدود " في الرد على أبى طاهر: محمد بن عبد الله بن القاسم (21) كتاب: " تصرف العباد، والفرق بين الخلق والاكتساب ". (22) كتاب: " الرد على المعتزلة، فيما اشتبه عليهم من تأويل القرآن ". (23) كتاب: " الدماء التى جرت بين الصحابة " (24) كتاب: " المقدمات في أصول الديانات " (25) كتاب: " المقنع في أصول الفقه ". (26) كتاب: " الاصول الصغير ". (27) كتاب: " مسائل الاصول ". (28) كتاب: " مختصر التقريب والارشاد الصغير ". (29) كتاب: " مختصر التقريب والارشاد الاوسط ". (30) كتاب: " المسائل التى سأل عنها ابن عبد المؤمن ". (31) كتاب: " رسالة الامير ". (32) كتاب: " المسائل القسطنطينية ". (33) جواب أهل فلسطين. (34) البغداديات. (35) الاصبهانيات. (36) النيسابوريات. (37) الجرجانيات. (38) كتاب: " الكرامات ". (39) كتاب الاحكام والعلل ". (40) كتاب: " إمامة بنى العباس ". ذكره القاضى عياض.
(41) كتاب: " نقض النقض على الهمداني ". ذكره في " هداية المسترشدين " (42) كتاب: " الامامة الصغير ". (43) كتاب: " التعديل والتجوير ". (44) شرح اللمع لابي الحسن الاشعري. ذكره في " الانتصار ". (45) كتاب: " شرح أدب الجدل ". (46) كتاب: " أمالى إجماع أهل المدينة ". (47) كتاب: " في أن المعدوم ليس بشئ ". (48) كتاب: " فضل الجهاد ". (49) كتاب: " المسائل والمجالسات المنثورة ". (50) كتاب: " الرد على المتناسخين ". (51) نقض الفنون للجاحظ. (52) كتاب: " الكسب ". ذكره أبو المظفر الاسفرايينى في التبصير ص 119. (53) كتاب: " في الايمان " أشار إليه ابن تيمية في رسالته " الفرقان بين الحق والباطل " في أثناء حديثه عن الايمان، حيث يقول ص 43: " وكلام الناس في هذا الاسم ومسماه كثير، وقد رأيت لابن الهيضم فيه مصنفا في: أنه قول اللسان فقط. ورأيت لابن الباقلانى فيه مصنفا: أنه تصديق القلب فقط. وكلاهما في عصر واحد، وكلاهما يرد على المعتزلة والرافضة ". (54) كتاب: " النقض الكبير " ومنه هذا النص الذى أورده إمام الحرمين في الشامل: " قال أبو بكر الباقلانى في النقض الكبير: من زعم أن السين من بسم الله بعد الباء، والميم بعد السين الواقعة بعد الباء، لا أول له - فقد خرج عن المعقول. وجحد الضرورة، وأنكر البديهة. فإن اعترف بوقوع شئ بعد شئ، فقد اعترف بأوليته، فإن ادعى أنه لا أول له، فقد سقطت محاجته، وتعين لحوقه بالسفسطة. وكيف يرجى أن يرشد بالدليل من يتواقح في جحد الضرورى؟ ! " (55) كتاب: " الرد على الرافضة والمعتزلة، والخوارج والجهمية " ذكره الصلاح الصفدى في " الوافى بالوفيات " 3 / 177.
آراء العلماء في الباقلانى: (1) روى ابن عساكر في تبيين كذب المفترى - عن أبى علقمة، عن أبى هريرة -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يبعث لهذه الامة على رأس كل مائة سنة، من يجدد لها دينها ": ثم قال ص 53: " وسمعت الشيخ الامام أبا الحسن على بن مسلم - على كرسيه بجامع دمشق - يقول وذكر حديث أبى علقمة هذا: " كان على رأس المائة الاولى: عمر بن عبد العزيز، وكان على رأس المائة الثانية: محمد بن إدريس الشافعي، وكان على رأس المائة الثالثة: الاشعري، وكان على رأس المائة الرابعة: ابن الباقلانى ". (2) قال الصاحب ابن عباد في وصفه ووصف زميليه -: أبى بكر بن فورك المتوفى سنة 406، وأبى إسحاق الاسفرايينى، المتوفى سنة 418 -: وابن الباقلانى بحر مغرق، وابن فورك صل مطرق، والاسفرايينى نار تحرق ". وقد علق ابن عساكر على هذا القول في تبيين كذب المفترى ص 244 - فقال: " وكأن روح القدس نفث في روعه، حيث أخبر عن حال هؤلاء الثلاثة، بما هو حقيقة الحال فيهم ". (3) قال الخطيب البغدادي 5 / 379: " كان الباقلانى ثقة. وأما الكلام فكان أعرف الناس به، وأحسنهم خاطرا، وأجودهم لسانا، وأوضحهم بيانا، وأصحهم عبارة ". (4) قال القاضى عياض في " ترتيب المدارك، وتقريب المسالك، لمعرفة أعلام مذهب الامام مالك ": " ومن أهل العراق والمشرق: أبو بكر: محمد بن الطيب بن محمد، القاضى، المعروف بابن الباقلانى، الملقب بشيخ السنة، ولسان الامة، المتكلم على مذهب المثبتة وأهل الحديث، وطريقة أبى الحسن الاشعري. قال الخطيب. وقال أبو الحسن بن جهضم الهمداني: كان شيخ المالكيين في وقته، وعالم عصره المرجوع. إليه فيما أشكل على غيره. قال غيره: وإليه انتهت رياسة المالكيين في وقته، وكان حسن الفقه، عظيم الجدل، وكانت له ببغداد حلقة عظيمة، وكان ينزل الكرخ. ذكر أبو عبد الله بن سعدون الفقيه: أن
فصل في نفى الشعر من القرآن
سائر الفرق رضيت بالقاضي أبى بكر في الحكم بين المتناظرين " (5) قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: " ابن الباقلانى الامام العلامة. أوحد المتكلمين، مقدم الاصوليين، صاحب التصانيف، كان يضرب المثل بفهمه. وكان بحق إماما بارعا، صنف في الرد على المعتزلة والرافضة، والخوارج والجهمية والكرامية. وانتصر لطريقة أبى الحسن الاشعري، وقد يخالفه في مضايق، فإنه من نظرائه، وقد أخذ علم النظر عن أصحابه..". (6) قال ابن العماد في شذرات الذهب 3 / 168: " القاضى أبو بكر ابن الباقلانى محمد بن الطيب بن محمد بن محمد بن جعفر، البصري، المالكى الاصولي المتكلم، صاحب المصنفات، وأوحد وقته في فنه..وكانت له بجامع المنصور حلقة عظيمة..وقال ابن الاهدل: سيف السنة: القاضى أبو بكر بن الباقلانى الاصولي الاشعري المالكى، مجدد الدين على رأس المائة الرابعة. ". (7) قال ابن تيمية في رسالة الفتوى الحموية الكبرى ص 76: " وقال القاضى أبو بكر: محمد بن الطيب الباقلانى المتكلم - وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الاشعري، ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده - قال في كتاب الابانة..". (8) قال ابن خلكان 3 / 400: " القاضى أبو بكر: محمد بن الطيب ابن محمد بن جعفر بن القاسم، المعروف بالباقلانى، البصري، المتلكم المشهور، كان على مذهب الشيخ أبى الحسن الاشعري، ومؤيدا اعتقاده، وناصرا طريقته،. وصنف التصانيف الكثيرة المشهورة في علم الكلام وغيره، وكان أوحد زمانه، وانتهت إليه الرياسة في مذهبه: وكان موصوفا بجودة الاستنباط، وسرعة الجواب وسمع الحديث. وكان كثير التطويل في المناظرة، مشهورا بذلك عند الجماعة " (9) قال الصفدى في الوافى بالوفيات 3 / 177: " أبو بكر الباقلانى البصري، صاحب التصانيف في علم الكلام. وكان ثقة عارفا بالكلام، صنف الرد على الرافضة والمعتزلة، والخوارج والجهمية. جرى بينه وبين أبى سعيد الهاروني مناظرة، فأكثر الباقلانى الكلام فيها، ووسع العبارة، وزاد في الاسهاب، ثم التفت إلى الحاضرين، وقال: اشهدوا على أنه إن أعاد ما قلت لم أطالبه بالجواب،
فقال الهاروني: اشهدوا على أنه إن أعاد كلام نفسه سلمت له ما قال " وذكره الصفدى أيضا في ترجمة أبى الحسن المتكلم، محمد بن شجاع المعتزلي، حيث يقول 3 / 147: " حضر مجلس عضد الدولة، وكلم أبا بكر الباقلانى الاشعري في مسألة كلامية، فطول في بعض نوبه، فلما أخذ أبو الحسن الكلام في نوبته، قال له القاضى أبو بكر: قد أخللت بالجواب عن فصل يا شيخ. وأخذ الباقلانى الكلام على نوبته فزاد في الطول، فقال له أبو الحسن: علاوتك أثقل من حملك. فضحك عضد الدولة من ذلك ". (10) قال ابن عمار الميورقى: " كان ابن الطيب مالكيا فاضلا متورعا ممن لم تحفظ عليه زلة قط، ولا نسبت إليه نقيصة. وكان يلقب بشيخ السنة، ولسان الامة، وكان فارس هذا العلم، مباركا على هذه الامة. وكان حصنا من حصون المسلمين، وما سر أهل البدع بشئ كسرورهم بموته ". (11) قال أبو القاسم: عبد الواحد بن على بن برهان النحوي، المتوفى سنة 456: " من سمع مناظرة القاضى أبى بكر، لم يستلذ بعدها بسماع كلام أحد من المتكلمين والفقهاء والخطباء والمسترسلين، ولا الاغانى أيضا، من طيب كلامه وفصاحته، وحسن نظامه وإشارته " (12) قال أبو عمران الفارسى (368 - 430) : " القاضى أبو بكر: سيف أهل السنة في زمانه، وإمام متكلمي أهل الحق في وقتنا ". (13) قال أبو عبد الله الصيرفى: " كان صلاح القاضى أكثر من علمه، وما نفع الله هذه الامة بكتبه، وبثها فيهم إلا بحسن نيته، واحتسابه بذلك. وكان يدرس نهاره وأكثر ليله ". (14) قال أبو حاتم الطبري: محمود بن الحسن القزويني: " إن ما كان يضمره القاضى الامام أبو بكر الاشعري رضى الله عنه، من الورع والديانة، والزهد والصيانة، أضعاف ما كان يظهره، فقيل له في ذلك؟ فقال: إنما أظهر ما أظهره غيظا لليهود والنصارى، والمعتزلة والرافضة والمخالفين، لئلا يستحقروا علماء الحق والدين، فأضمر ما أضمره، فإنى رأيت آدم - مع جلالته - نودى عليه
بذوقة، وداود بنظرة، ويوسف بهمة، ومحمدا بخطرة، عليهم السلام ". (15) قال أبو الفرج: محمد بن عمران الخلال: " وكان ورد القاضى أبى بكر محمد بن الطيب، في كل ليلة، عشرين ترويحة، ما يتركها في حضر ولا سفر ". (16) قال أبو بكر الخوارزمي، محمد بن العباس، المتوفى سنة 383 -: " كل مصنف ببغداد إنما ينقل من كتب الناس إلى تصانيفه، سوى القاضى أبى بكر، فإن صدره يحوى علمه وعلم الناس ". (17) قال أبو محمد: عبد الله بن محمد الخوارزمي البافى: المتوفى سنة 398: " لو أوصى رجل بثلث ماله أن يدفع إلى أفصح الناس، لوجب أن يدفع لابي بكر الاشعري ". (18) قال على بن محمد بن الحسن الحربى، المالكى: " كان القاضى أبو بكر الاشعري، يهم أن يختصر ما يصنفه، فلا يقدر على ذلك، لسعة علمه، وكثرة حفظه. وما صنف أحد خلافا إلا احتاج أن يطالع كتب المخالفين، غير القاضى أبى بكر، فإن جميع ما كان يذكر خلاف الناس فيه، صنفه من حفظه ". (19) روى الامام أبو عبد الله: الحسن ابن أحمد الدامغاني: قال: " لما قدم القاضى الامام أبو بكر الاشعري بغداد، دعاه الشيخ أبو الحسن التميمي الحنبلى (371) إمام عصره في مذهبه، وشيخ مصره في رهطه، وحضر الشيخ أبو عبد الله ابن مجاهد (370) والشيخ أبو الحسين محمد بن أحمد بن سمعون (387) ، وأبو الحسن الفقيه، فجرت مسألة الاجتهاد - بين القاضى أبى بكر، وبين أبى عبد الله بن مجاهد، وتعلق الكلام بينهما إلى أن انفجر عمود الصبح، وظهر كلام القاضى عليه. وكان أبو الحسن التميمي الحنبلى يقول لاصحابه: تمسكوا بهذا الرجل فليس للسنة عنه غنى أبدا ". (20) أما أبو حامد الاسفرايينى (344 - 406) فقد كان شديد الانكار على أصحاب الكلام عامة، وعلى الاشاعرة والباقلاني خاصة، حتى إنهم رووا أن الباقلانى كان يخرج إلى الحمام متبرقعا خوفا منه. وقد نقل ابن تيمية في فتاويه 5 / 239: أن أبا الحسن الكرخي قال في كتابه " الفصول في الاصول ":
" وسمعت شيخي الامام أبا منصور، الفقيه الاصبهاني، يقول: سمعت شيخنا الامام أبا بكر الزاذاقانى يقول: كنت في درس الشيخ أبى حامد الاسفرايينى وكان ينهى أصحابه عن الكلام، وعن الدخول على الباقلانى. فبلغه أن نفرا من أصحابه يدخلون عليه خفية لقراءة الكلام، فظن أنى معهم ومنهم، وذكر قصة قال في آخرها: إن الشيخ أبا حامد قال لى: يا بنى، بلغني أنك تدخل على هذا الرجل - يعنى الباقلانى - فإياك وإياه، فإنه مبتدع يدعوا الناس إلى الضلالة وإلا فلا تحضر مجلسي، فقلت: أنا عائذ بالله مما قيل! وتائب إليه! واشهدوا على أنى لا أدخل عليه! " وأعجب مما سبق قوله أيضا: " كان الشيخ أبو حامد: أحمد بن أبى طاهر الاسفرايينى - إمام الائمة الذى طبق الارض علما وأصحابا - إذا سعى إلى الجمعة من قطيعة الكرخ إلى جامع المنصور، يدخل الرباط المعروف بالروزى المحاذي للجامع، ويقبل على من حضر ويقول: اشهدوا على بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، كما قاله أحمد بن حنبل، لا كما يقوله الباقلانى، وتكرر ذلك منه في جمعات، فقيل له في ذلك، فقال: حتى ينتشر في الناس وفى أهل الصلاح، ويشيع الخبر في البلاد: أنى برئ مما هم عليه - يعنى الاشاعرة - وبرئ من مذهب أبى بكر الباقلانى، فإن جماعة من المتفقهة الغرباء، يدخلون على الباقلانى خفية فيقرءون عليه، فيفتون بمذهبه، فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة، فيظن ظان أنهم منى تعلموه وأنا قلته، وأنا برئ من مذهب الباقلانى وعقيدته ". هذا قول الاسفرايينى في معاصره الباقلانى، وهو قول سداه الاسراف والتجنى، ولحمته الهوى والعصبية، وما كان الباقلانى مبتدعا يدعوا الناس إلى الضلالة، وما كان مذهبه فاسدا، ولا عقيدته مدخولة، بحيث يتبرأ منهما مسلم، ولكن العصبية قاهرة غلابة، والتعاصر مع التماثل في الصناعة مدرجة العداوة والبغضاء. (21) ذكر أبو حيان التوحيدي في كتاب: " الامتاع والمؤانسة " 1 / 143
أن الوزير أبا عبد الله العارض، سأله في الليلة الثامنة، وقال له: " فما تقول في ابن الباقلانى؟ قلت: فما شر الثلاثة أم عمرو * * بصاحبك الذى لا تصحبينا يزعم أنه ينصر السنة، ويفحم المعتزلة، وينشر الرواية، وهو في أضعاف ذلك على مذهب الخرمية، وطرائق الملحدة! قال: والله إن هذا لمن المصائب الكبار، والمحن الغلاظ، والامراض التى ليس لها علاج ". ولست أرتاب في أن أبا حيان قد جاء بالافك، حين رمى الباقلانى بأنه كان على مذهب الخرمية وطريق الملحدة، ولو كان لذلك الاتهام نصيب من الصحة لجرد له قلمه الجبار، وذهب يبين عن مظاهره ومصادره، ويفيض في الطعن عليه، ولبادر إلى ثلبه والتشهير به أعداؤه من شتى المذاهب والنحل التى نقض أقوالها، وأتى على معتقداتها من القواعد، ولتسابقوا إلى تأليب الناس عليه وتحريض السلطان على إهدار دمه وصلبه، كما صلب بابك الخرمى. فإن الخرمية فرقة مبتدعة، لا يعدها أحد في زمرة المسلمين، لانها تستحل كل محرم، وتذهب إلى شركة الناس جميعا في الاموال والنساء، ويجتمع رجالها ونساؤها في ليال مخصوصة، يفنونها في احتساء الخمر والرقص، ثم يطفئون كل سراج منير، وكل نار موقدة، ويعكف كل واحد منهم على المرأة التى اتفق جلوسها بجانبه " وهم يدينون بألوهية بابك الخرمى، ويدعون أنه كان لهم ملك في الجاهلية اسمه " شيروين " ينوحون على موتاهم باسمه، ويفضلونه على الانبياء جميعا. ولست أدرى كيف يكون الباقلانى على مذهب هؤلاء الخرمية، ويخفى أمره على أعدائه المتربصين به، وعلى أوليائه الملتفين حوله، ولا يظهر إلا لابي حيان وحده! فيتفرد بتسجيله عليه! ثم لا ينقله عنه ناقل، ولا ينبزه به نابز " إن في ذلك لآية على إفكه، ودليلا على اختلافه عليه، وعداوته له. ولعل من أسباب عداوة أبى حيان للباقلاني، بغضه للكلام والمتكلمين، الذى أفصح عنه بقوله: " ولم أر متكلما في مدة عمره بكى خشية، أو دمعت عينه خوفا أو أقلع عن كبيرة رغبة، يتناظرون مستهزئين، ويتحاسدون متعصبين،
ويتلاقون متخادعين، ويصنفون متحاملين، جذ الله عروقهم، واستأصل شأفتهم، وأراح البلاد والعباد منهم، فقد عظمت البلوى بهم، وعظمت آفاتهم على صغار الناس وكبارهم، ودب داؤهم، وعسر دواؤهم، وأرجو ألا أخرج من الدنيا حتى أرى بنيانهم متضعضعا، وساكنه متجعجعا ". وقد يكون أبو حيان مدفوعا إلى تلك العداوة بتأثير العداوة بين الباقلانى وبين أستاذه أبى سليمان المنطقي من جهة، وبينه وبين أبى أحمد الاسفرايينى من جهة أخرى، وكلاهما له في نفس أبى حيان منزلة سامية، وإجلال بالغ. ومهما يكن من أمر عداوة أبى حيان للباقلاني، وأيا كان مبعثها ومأتاها، فلا مراء في أنه قد ظلمه ظلما مبينا، إذ نسبه إلى طائفة الخرمية، وهو منها برئ براءة الذئب من دم ابن يعقوب. (22) وثالثه الاثافي التى رمى بها الباقلانى، تلك الاقوال المنكرة التى قالها عنه ابن حزم الظاهرى (384 - 456) في كتاب: " الفصل في الملل والاهواء والنحل " فهو عنده: " كافر أصلع الكفر! مشرك يقدح في النبوات! ملحد خبيث المذهب ملعون، يلحد في أسماء الله، ويخالف القرآن ويكذب الله! نذل يوجب الشك في الله وفى صحة النبوة! مظلم الجهالة، من أهل الضلالة، ممرور فاسق أحمق، يكيد للاسلام ويسخف به! قد صدق فيه قول القائل: شهدت بأن ابن المعلم هازل * بأصحابه والباقلاني أهزل وما الجعل الملعون في ذاك دونه * وكلهم في الافك والكفر منزل " هذه بعض أقوال ابن حزم في الباقلانى، نقلتها بألفاظها كما أثبتها في مواضع مختلفة من كتابه. ولو صدق بعض هذه الاقوال عليه لوجب على المسلمين البراءة منه، ونبذ كتبه، وعده في طليعة أعداء الاسلام، فكيف إذا صدقت كلها؟ ! ويجدر بنا - قبل أن نعرض للحكم عليها - أن نتبين: هل كان ابن حزم نزيها في حكمه، منصفا في قوله، أمينا في نقله، سليم الصدر من دواعى الهوى والعصبية؟ أم كان غير ذلك؟
فصل في نفي السجع من القرآن
ومما يدعوا إلى الدهشة والعجب حقا، ويملا النفس بالاسف الممض، أن يكون ابن حزم عريا عن ذلك كله، متنكبا سبيل العلم والاخلاق والدين في حديثه عن الباقلانى لانه أشعرى، وهو ظاهري يبغض الاشاعرة جميعا، ويصفهم بخبث المقالة وفساد الدين واستسهال الكذب على الله جهارا، وعلى رسوله بلا رهبة، ويقول عنهم: " والحمد لله الذى لم يجعلنا من أهل هذه الصفة المرذولة، ولا من هذه العصابة المخذولة " ويحمد الله على ضعفهم في عصره، فيقول: " وأما الاشاعرة فكانوا ببغداد والبصرة، ثم قامت لهم سوق بصلقية والقيروان والاندلس، ثم رق أمرهم، والحمد لله رب العالمين! " وهو ينسب إليهم أقوالا لم يقولوها، ومذاهب لم يذهبوا إليها، ثم يندفع في تكفيرهم، وكيل الشتائم لهم، كما صنع في باب الرد على من زعم أن الانبياء والرسل ليسوا اليوم أنبياء ولا رسلا، حيث يقول 1 / 88: " حديث فرقة مبتدعة، تزعم أن محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، ليس هو الآن رسول الله، ولكنه كان رسول الله. وهذا قول ذهب إليه الاشعرية. وهذه مقالة خبيثة، مخالفة لله تعالى ولرسوله، ولما أجمع عليه جميع أهل الاسلام منذ كان الاسلام إلى يوم القيامة. ونعوذ بالله من هذا القول، فإنه كفر صراح لا ترداد فيه " ثم اندفع في إبطال هذا القول في شدة وعنف، ونسى أو تناسى أن هذا القول لم يقل به أحد من الاشاعرة، وإنما نسبه إليهم بعض الكرامية، واشتد نكيرهم على من نسبه إليهم، وبينوا إنه مختلق على إمامهم الاجل أبى الحسن الاشعري. وفى ذلك يقول أبو القاسم القشيرى (376 - 475) في كتابه: " شكاية أهل السنة " -: " فأما ما حكى عنه وعن أصحابه أنهم يقولون: إن محمدا صلى الله عليه وسلم، ليس بنبى في قبره، ولا رسول بعد موته، فبهتان عظيم، وكذب محض، لم ينطق به أحد منهم، ولا سمع في مجلس مناظرة ذلك عنهم، ولا وجد ذلك في كتاب لهم. " وليس أدل على كذب هذا القول على الاشاعرة من قول الباقلانى عنه - في كتاب رسالة الحرة المسمى بالانصاف ص 55: " ويجب أن يعلم أن نبوات
الانبياء، صلوات الله عليهم، لا تبطل ولا تنخرم بخروجهم عن الدنيا وانتقالهم. إلى دار الآخرة، بل حكمهم في حال خروجهم من الدنيا كحكمهم في حالة نومهم، وحالة اشتغالهم إما بأكل أو شرب، أو قضاء وطر. والدليل عليه: أن حقيقة النبوة لو كانت ثابتة لهم في حالة اشتغالهم بأداء الرسالة، دون غيرها من الحالات - لكانوا في غيرها من الاحوال غير موصوفين بذلك. وقد غلط من نسب إلى المحققين من الموحدين - إبطال نبوة الانبياء عليهم السلام بخروجهم من دار الدنيا. وليس ذلك بصحيح، لان مذهب المحققين، أن الرسول ما استحق شرف الرسالة بتأدية الرسالة، وإنما صار رسولا، واستحق شرف الرسالة والنبوة، بقول مرسله - وهو الله تعالى -: أنت رسولي ونبيى، وقول الله تعالى قديم لا يزول ولا يتغير. والدليل على صحة هذا أيضا: أنه صلى الله عليه وسلم، سئل فقيل له: متى كنت نبيا؟ فقال: " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " فحاصل الجواب في هذا: أن شرف النبوة وكمال المنصب ثابت للانبياء، صلوات الله عليهم أجمعين الآن حسب ما كان ثابتا لهم في حال الحياة، لم ينثلم ولم ينتقض، سواء نسخت شرائعهم أو لم تنسخ. ومن راجع نفسه، ولم يغالط حسه، عرف وتحقق أن النبي، صلى الله عليه وسلم، الآن لم يخاطب شفاها، ولا يأمرهم، ولا يكلمهم من غير واسطة، لكن حكم شريعته وصحة نبوته، ثابت لم ينتقض لاجل خروجه من الدنيا، ولم تزل مرتبته، ولا انخرمت رسالته، ولا بطلت معجزته. فاعلم ذلك وتحققه ". ولست أدرى: كيف يقرأ ابن حزم كلام الباقلانى هذا في كتابه هذا، ثم يستسيغ ضميره أن يزعم بعد ذلك أن الاشاعرة قالوا هذه المقالة الخبيثة، مع قوله: إن الباقلانى كبيرهم؟ حقا إن هذا لشئ عجاب! وما أكثر التهم التى ألصقها ابن حزم بالاشاعرة إلصاقا، وما أوفر عبارات القذف والسباب التى قذفهم بها وسبهم، والتى بلغت أقصى حدود الافحاش والاقذاع، وقد اختص الباقلانى منها بأعظم قسط، وأجزل نصيب. ولعل مرد ذلك إلى أن الباقلانى قد نقد داود الظاهرى (200 - 270) ، كما يشعر بذلك قول
ابن حزم في الفصل 4 / 225: " ومن العجب أن هذا النذل الباقلانى قطع بأن دواد خالف الاجماع في قوله بإبطال القياس، أفلا يستحى هذا الجاهل من أن يصف العلماء بصفته، مع عظيم جهله؟ ولكن من يضلل الله فلا هادى له " ومما أحفظه عليه أيضا، وأرث نار عداوته في صدره، أنه كان لا يعبأ بالظاهرية، ولا يعدهم من العلماء، وقد نقل شيخ الازهر الشيخ حسن العطار، (المتوفى سنة 1250) في حاشيته على شرح الجلال المحلى على جمع الجوامع 2 / 221 - أن أبا إسحاق الاسفرايينى قال: " كل مسلك يختص به أصحاب الظاهر عن القياسيين، فالحكم بحسبه منقوض، وبحق قال حبر الاصول القاضى أبو بكر: إنى لا أعدهم من علماء الامة، ولا أبالى بخلافهم ولا وفاقهم ". ولست أربد أن أقبس هنا سائر ما أورده من قول، وما نحله من رأى، ثم أبين ما صنعه فيه من تحريف كلمه عن مواضعها، ولى عباراته عن معانيها، وقطع مقدماته عن نتائجها، وأخذه من ظاهر لفظه ما يتفق وهوى نفسه، ويتسق وما يريد أن يلزمه من إلزامات شائنة، تذهب بسمعته ومكانته. لست أريد ذلك لان بيانه يحتاج إلى بسط وإطناب لا سبيل إليهما في هذا المقام. ولكني أذكر من ذلك ما لا مناص من ذكره، وهو ما يتعلق بقوله في القرآن. قال ابن حزم في معرض حديثه عن الاشاعرة 4 / 221: " ومن شنعهم قول هذا الباقلانى في كتابه المعروف بالانتصار في القرآن، إن تقسيم آيات القرآن، وترتيب مواضع سوره، شئ فعله الناس وليس هو من عند الله، ولا من أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقد كذب هذا الجاهل وأفك، أتراه ما سمع قول الله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، في آية الكرسي: وآية الكلالة، والخبر: أنه عليه السلام كان يأمر إذا نزلت آية كذا، أن تجعل في سورة كذا، وموضع كذا. ولو أن الناس رتبوا سوره، لما تعدوا أحد وجوه ثلاثة:. إما أن يرتبوها على الاول فالاول نزولا، أو الاطول فما دونه، أو الاقصر فما فوقه. فإذا ليس ذلك كذلك، فقد صح أنه أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذى لا يعارض، عن الله عز وجل، لا يجوز غير ذلك أصلا ".
وما كذب الباقلانى ولا أفك في مسألتي ترتيب الآيات، وترتيب مواضع السور في القرآن، وما خرج بقوله فيهما عما قاله أعلام الائمة وأجمعوا عليه. فقد أجمعوا جميعا على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة فيه، وأيد إجماعهم ما تاردف في ذلك من النصوص. ولم تجتمع كلمتهم على أن ترتيب السور توقيفي، فمنهم من قال به، ومنهم من قال: إنه باجتهاد من الصحابة، كمالك بن أنس. وأنصع دليل على صدق الباقلانى وبراءته مما رماه به ابن حزم، قوله في كتاب: " الانتصار لنقل القرآن ": " ترتيب الآيات أمر واجب، وحكم لازم، فقد كان جبريل يقول: ضعوا آية كذا موضع كذا ". وقوله أيضا في ذلك الكتاب (ورقة 4 - ب) : " والذى نذهب إليه في ذلك أن جميع القرآن الذى أنزله الله، وأمر بإثبات رسمه، ولم ينسخه، ويرفع تلاوته بعد نزوله - هو هذا الذى بين الدفتين، الذى حواه مصحف عثمان، وأنه لم ينقص منه شئ، ولا زيد فيه، وأن ترتيبه ونظمه ثابت على ما نظمه الله تعالى، ورتبه عليه رسوله، من آى السور، لم يقدم من ذلك مؤخرا، ولا أخر منه مقدما، وأن الامة ضبطت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ترتيب آى كل سورة ومواضعها، وعرفت مواقعها: كما ضبطت عنه نفس القراءات وذات التلاوة، وأنه يمكن أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم، قد رتب سوره على ما انطوى عليه مصحف عثمان، ويمكن أن يكون قد وكل ذلك إلى الامة بعده، ولم يتول ذلك بنفسه. وأن هذا القول الثاني أقرب وأشبه أن يكون حقا ". ولن يمترى إنسان - بعد قراءة هذا الكلام - في تكذيب ابن حزم في قوله، إن الباقلانى يقول: " إن ترتيب الآيات والسور شئ فعله الناس، وليس هو من عند الله ولا من أمر رسول الله. فقد كذب هذا الجاهل وأفك! " ولن يمترى كذلك في أنه نص صريح في تكذيب ابن حزم في قوله عن الاشاعرة: " وقالوا كلهم: إن القرآن لم ينزل به قط جبريل على قلب محمد، عليه الصلاة والسلام، وإنما نزل عليه بشئ آخر هو العبارة عن كلام الله، وإن القرآن ليس عندنا ألبتة إلا على هذا المجاز، وإن الذى نرى في المصاحف ونسمع
من القراء، ونقرأ في الصلاة، ونحفظ في الصدور - ليس هو القرآن ألبتة، ولا شئ منه كلام الله ألبتة، بل شئ آخر، وإن كلام الله لا يفارق ذاته. وإن قول هذه الفرقة في هذه المسألة نهاية الكفر بالله عز وجل، ومخالفة القرآن والنبى، صلى الله عليه وسلم، ومخالفة جميع أهل الاسلام قبل حدوث هذه الطائفة الملعونة ". وهذا افتراء قصد به التشنيع والتلبيس على الناس، يدحضه قول الباقلانى في " رسالة الحرة " ص 62: " اعلم أن الله تعالى متكلم له كلام عند أهل السنة والجماعة، وأن كلامه قديم ليس بمخلوق، ولا مجعول، ولا محدث، بل كلامه قديم، صفة من صفات ذاته، كعلمه وقدرته وإرادته، ونحو ذلك من صفات الذات. ولا يجوز أن يقال: كلام الله عبارة ولا حكاية، ولا يوصف بشئ من صفات الخلق، ولا يجوز أن يقول أحد: لفظي بالقرآن مخلوق ولا غير مخلوق، ولا إنى أتكلم بكلام الله ". وقوله ص 82: " ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف على الحقيقة كما قال: (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون) ، وهو في مصاحفنا مكتوب على الوجه الذى هو مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) . لكن نحن نعلم وكل عاقل أن كلام الله الذى هو مكتوب في اللوح المحفوظ، هو والقرآن المكتوب في مصاحفنا شئ واحد، لا يختلف ولا يتغير، وأن اللوح غير أوراق مصاحفنا، وأن الخط الذى فيه غير الخطوط التى في مصاحفنا، وأن القلم الذى كتب في اللوح المحفوظ غير أقلامنا. وكذلك ما اختلف وغاير غيره، واختص بمكان دون مكان، وزمان دون زمان فهو مخلوق مربوب، وكل ما هو على صفة واحدة لا يختلف ولا يتغير، ولا يجوز عليه شئ من صفات الخلق. فكذلك هو كلام الله تعالى القديم وجميع صفات ذاته. وكذلك القرآن محفوظ بالقلوب على الحقيقة، كما قال تعالى: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) . لكن نعلم قطعا أن زيدا الحافظ غير عمرو الحافظ، وأن قلب هذا غير قلب هذا، وأن حفظ هذا غير حفظ هذا، لكن المحفوظ لهذا بحفظه هو المحفوظ للآخر بحفظه، وهو شئ واحد لا يختلف ولا يتغير،
إذ هو صفة لله تعالى، قديم غير مخلوق. وكذلك نقول: إنه مقروء بألسنتنا، نتلو بها على الحقيقة، لكن نعلم أن زيدا القارئ غير عمرو القارئ، وأن لسان زيد غير لسان عمرو، وأن قراءة زيد غير قراءة عمرو، ولكن المقروء لزيد هو المقروء لعمرو، شئ واحد لا يختلف ولا يتغير، بل هو كلام الله القديم الذى ليس بمخلوق ولا يجوز عليه صفات الخلق. وهذا كما قال تعالى: (أنما أنزل بعلم الله) يعلمه زيد بعلمه، ويعلمه عمرو بعلمه، ويعبده زيد بعبادته، ويعبده عمرو بعبادته، ويدعوه زيد بدعائه، ويدعوه عمرو بدعائه، ويذكره زيد بذكره، ويذكره عمرو بذكره، ويسبحه زيد بتسبيحه، ويسبحه عمرو بتسبيحه، فزيد غير عمرو، وذكره غير ذكر عمرو، وعبادته غير عبادة عمرو، ولكن المعبود لهذا هو المعبود لهذا، والمذكور لهذا هو المذكور لهذا، والمسبح لهذا هو المسبح لهذا، والله تعالى هو القديم الواحد الذى ليس كمثله شئ، وهو السميع البصير ". وقوله ص 83، 85: " ويحب أن يعلم أن كلام الله تعالى مسموع لنا على الحقيقة، لكن بواسطة، وهو القارئ..ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى منزل على قلب النبي صلى بالله عليه وسلم، نزول إعلام وإفهام، لا نزول حركة وانتقال "، و " أن جبريل عليه السلام علم كلام الله وفهمه، وعلمه الله النظم العربي الذى هو قراءته، وعلم هو القراءة نبينا، صلى الله عليه وسلم، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ولم يزل ينقل الخلف عن السلف ذلك، إلى أن اتصل بنا فصرنا نقرأ بعد أن لم نكن نقرأ ". ويستبين من سائر هذه النصوص أن ابن حزم لم يكن أمينا في نقله، ولا صادقا في قوله، وإنما خان أمانة العلم، وكذب فيما ادعاه على الباقلانى والاشاعرة، ليتسنى له تكفيرهم، وسبهم بما يرضى نفسه الظامئة إلى الطعن والسباب. وقد عرف ذلك عنه، حتى قال فيه ابن العريف: " كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقين " وسجل عليه ذلك المؤرخون له، كابن خلكان، الذى يقول في وفيات الاعيان: " وكان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين، لا يكاد يسلم أحد من لسانه، فنفرت عنه القلوب، واستهدف لفقهاء وقته، فتماثلوا على بغضه، وردوا
قوله، وأجمعوا على تضليله، وشنعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامهم عن الدنو إليه والاخذ عنه، فأقصته الملوك وشردته عن بلاده ". وكالحافظ الذهبي الذى قال عنه في سير أعلام النبلاء: " لم يتأدب مع الائمة في الخطاب، بل فجج العبارة، وسب وجدع، فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الائمة وهجروها، ونفروا منها، وأحرقت في وقته " وإذا كان ذلك كذلك فيجب ألا يلتفت إنسان إلى قول ابن حزم في الباقلانى، ولا ينظر بعين الاعتبار إلى طعنه عليه، وتكفيره له. (23) قال ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد (732 - 808) في مقدمته، في أثناء حديثه في فصل علم الكلام ص 465: "..وكثر أتباع الشيخ أبى الحسن الاشعري، واقتفى طريقته من بعده تلاميذه، كابن مجاهد وغيره، وأخذ عنهم القاضى أبو بكر الباقلانى، فتصدر للامامة في طريقتهم وهذبها، ووضع المقدمات العقلية التى تتوقف عليها الادلة والانظار، وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد والخلاء، وأن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمانين، وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم، وجعل هذه القواعد تبعا للعقائد الايمانية في وجوب اعتقادها، لتوقف تلك الادلة عليها وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول. وحملت هذه الطريقة، وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية، إلا أن صور الادلة تعتبر بها الاقيسة، ولم تكن حينئذ ظاهرة في الملة، ولو ظهر منها بعض الشئ، فلم يأخذ به المتكلمون، لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد الشرعية بالجملة، فكانت مهجورة عندهم لذلك. ثم جاء بعد القاضى أبى بكر الباقلانى إمام الحرمين أبو المعالى، فأملى في الطريقة كتاب الشامل، وأوسع القول فيه، ثم لخصه، في كتاب الارشاد، واتخذه الناس إماما لعقائدهم. ". (24) قال ابن تيمية في كتاب " بغية المرتاد " ص 107 في معرض حديثه عن مصادر معارف أبى حامد الغزالي (450 - 505) وأستاذه أبى المعالى الجوينى، إمام الحرمين (419 - 478) -: " وأبو حامد مادته الكلامية من كلام شيخه في " الارشاد " و " الشامل " ونحوهما، مضموما إلى ما تلقاه من القاضى أبى بكر
الباقلانى، لكنه في أصول الفقه سلك في الغالب مذهب ابن الباقلانى، مذهب الواقفة وتصويب المجتهدين، ونحو ذلك، وضم إلى ذلك ما أخذه من كلام أبى زيد الدبوسي وغيره في القياس ونحوه. وأما في الكلام فطريقته طريقة شيخه دون القاضى أبى بكر. وأما شيخه أبو المعالى فمادته الكلامية أكثر من كلام القاضى أبى بكر ونحوه واستمد من كلام أبى هاشم الجبائى، على مختارات له. وكان قد فسر الكلام على أبى قاسم الاسكافي. عن أبى إسحاق الاسفراينى. ولكن القاضى هو عندهم أولى. ولقد خرج عن طريقة القاضى وذويه في مواضع إلى طريقة المعتزلة ". (25) ومن ألد أعداء الاشعري والاشاعرة: أبو على الحسن بن على بن إبراهيم بن يزداد بن هرمز، الاهوازي (362 - 446) وقد ألف في مثالب الاشعري كتابا، رماه فيه بكل ما أمكنه ذكره من الامر الشنيع والوصف القبيح، كما رمى كبار أصحابه، وأعلام مذهبه، وقد نقض عليه كتابه الحافظ ابن عساكر في كتاب " تبيين كذب المفترى " ص 364 - 420 ومن قوله في ص 398: " وأما ما ذكره في حق القاضى أبى بكر بن الباقلانى رحمه الله من أنه كان أجير الفامى، وأنه إنما ارتفع قدره بمداخلة السلاطين لا بالعلم - فعين الجهل والتعامى. وهل ينكر فضل القاضى أبى بكر في العلم والفهم من شم أدنى شمة من العلم؟ وتصانيفه في الخلق مبثوثة، وعلومه عنه مستفادة موروثة. وقد كان يدرس المدة الطويلة في دار السلام، ويصنف الكتب الجليلة في قواعد الاسلام، ويؤخذ عنه علم الفقه على مذهب مالك بن أنس، وينتفع بدروسه في أصول الدين والفقه كل مقتبس، والرحلة من الشرق والغرب، فقوله في حقه قول من لا يتحاشى من الكذب ". والذى حدا بالأهوازي إلى الطعن في الاشعري ومتابعيه، أنه كان مشبها مجسما يقول بالظاهر، ويذهب مذهب السالمية، وهى فرقة من المشبهة، يقولون: إن الله سبحانه يرى في صورة آدمى، وإنه يقرأ على لسان كل قارئ، وإنهم إذا سمعوا القرآن من قارئ يرون أنهم يسمعونه من الله. ويعتقدون أن الميت يأكل في قبره
ويشرب. وقد اتهم العلماء الاهوازي بالوضع والاختلاق، وقد قال عنه تلميذه الخطيب البغدادي: " أبو على الاهوازي كذاب في الحديث والقرآن جميعا "! الباقلانى وابن المعلم: وكان يعاصر الباقلانى إمام الرافضة ولسان الامامية أبو عبد الله: محمد بن محمد ابن النعمان بن سعيد، البغدادي الكوفى، المعروف بابن المعلم، والملقب عند الشيعة بالشيخ المفيد (336 - 413) وكان ابن المعلم جليل المكانة في الدولة البويهية، وكان عضد الدولة يزوره في داره، وكان قويا في الكلام والفقه والجدل، مولعا بمناظرة أهل كل عقيدة. قال الخطيب البغدادي 5 / 379: " إن ابن المعلم شيخ الرافضة ومتكلمها، حضر بعض مجالس النظر مع أصحاب له، إذ أقبل القاضى أبو بكر الاشعري، فالتفت ابن المعلم إلى أصحابه، وقال لهم: قد جاءكم الشيطان، فسمع القاضى كلامهم - وكان بعيدا من القوم - فلما جلس أقبل على ابن المعلم وأصحابه وقال لهم: قال الله تعالى: (إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) أي إن كنت شيطانا فأنتم كفار، وقد أرسلت عليكم! " قال القاضى: وحكى غير الخطيب أن الحكاية جرت للباقلاني مع أهل مجلس فنا خسرو الملك، من شيوخ المعتزلة، وأنه كان داخلا إذ سمعهم يذكرون أمره، فقال لهم بعضهم: ما هو إلا شيطان؟ فوصل إليهم وهو يتلو الآية. قال: وسمعت بعض الشيوخ يحكى: أن ابن المعلم تكلم معه يوما فلما احتد الكلام بينهما، رماه ابن المعلم بكف باقلاء (فول) أعده له، يعرض له بما ينسب إليه، ليخجله بذلك ويحصره، فرد القاضى للحين يده في كمه ورماه بدرة أعدها له، فعجب من فطنته وإعداده للامور أشباهها قبل وقتها! وفاة الباقلانى: حدث الخطيب البغدادي 5 / 382 عن على بن أبى على المعدل، قال: مات القاضى أبو بكر: محمد بن الطيب، في يوم السبت لسبع بقين من ذى الحجة سنة ثلاث وأربعمائة.
فصل في ذكر البديع من الكلام
وقال أبو الحجاج: يوسف بن عبد العزيز اللخمى: توفى القاضى الباقلانى سنة أربع وأربعمائة. وقد نقل القاضى عياض في " ترتيب المدارك " ما حكاه الخطيب، ثم قال: " ووجدت عن غيره: سنة أربع، أيام بهاء الدولة، والخليفة القادر بالله، وهذا خطأ والاول أصح ". وقد صلى على الباقلانى ابنه الحسن، وكان شابا مرجوا، واخترمته المنية بعد أبيه. ودفن القاضى في داره، ثم نقل بعد ذلك فدفن في مقبرة باب حرب، في تربة بقرب قبر أحمد بن حنبل، ونقش على شاهد تربته ما نصه: " هذا قبر القاضى الامام السعيد، فخر الامة، ولسان الملة وسيف السنة، عماد الدين، ناصر الاسلام، أبى بكر: محمد بن الطيب البصري، قدس الله روحه، وألحقه بنبيه محمد صلوات الله عليه وسلامه، ويزار ويستسقى ويتبرك به ". وقد حضر أبو الفضل التميمي الحنبلى (341 - 410) يوم وفاته العزاء حافيا مع إخوته وأصحابه، وأمر أن ينادى بين يدى جنازته: " هذا ناصر السنة والدين، هذا إمام المسلمين، هذا الذى كان يذب عن الشريعة ألسنة المخالفين، هذا الذى صنف سبعين ألف ورقة ردا على الملحدين ". وقعد للعزاء ثلاثة أيام فلم يبرح وكان يزور تربته كل يوم جمعة في الدار. وكان يزورها أيضا للترحم عليه أبو الفضل: عبيد الله بن أحمد بن على المقرئ (370 - 451) وأبو علي: الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان (339 - 426) وأبو القاسم: عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفى (355 - 435) . وقد رثى الباقلانى بعض الشعراء فقال: انظر إلى جبل تمشى الرجال به * * وانظر إلى القبر ما يحوى من الصلف وانظر إلى صارم الاسلام منغمدا * * وانظر إلى درة الاسلام في الصدف
كتاب إعجاز القرآن وهو أول كتب الباقلانى نشرا، وأشهرهم ذكرا، وهو أعظم كتاب ألف في الاعجاز إلى اليوم، وإن كره ذلك بعض المتعصبين على المعهد العتيق. ولقد حدثنى من أثق بصدق حديثه: أن دارا للنشر والطبع استشارت كبيرا منهم في طبع هذا الكتاب بتحقيقي، فكتب إليها بخط يده يقول: " أنا لا أنصح بطبع كتاب إعجاز القرآن للباقلاني، لانه ليس أنفس كتاب في موضوعه "! ! ولما لقيت كاتب هذا التقرير العجيب قذفت سامعتيه بهذا التحدي: " دلنى على كتاب واحد في إعجاز القرآن تربو قيمته على كتاب الباقلانى أو تضارعه "! فأبلس ولم يحر جوابا..* * * ذكر الباقلانى في مقدمته أن الذين ألفوا في " معاني القرآن " من علماء اللغة والكلام، لم يبسطوا القول في الابانة عن وجه معجزته، والدلالة على مكانه، مع أن الحاجة إلى ذلك البيان أمس، والاشتغال به أوجب، فهو أحق بالتصنيف من الجزء والطفرة والاعراض وغريب النحو وبديع الاعراب. وأن ما صنفه العلماء في هذا المعنى جاء غير كامل في بابه، قد أخل بتهذيبه، وأهمل ترتيبه، وقد التمس لبعضهم العذر فيما وقع منه من تفريط، لان بيان وجه الاعجاز " مما لا يمكن بيانه إلا بعد التقدم في أمور عظيمة المقدار، دقيقة المسلك، لطيفة المأخذ ". وقال: إن الجاحظ " صنف في نظم القرآن كتابا لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله، ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى ". ثم قال: إن سائلا سأله أن يذكر جملة من القول جامعة، تسقط الشبهات وتزيل الشكوك التى تعرض للجهال، وتنتهى إلى ما يخطر لهم، ويعرض لافهامهم، من الطعن في وجه المعجزة. فأجابه إلى ذلك، وألف هذا الكتاب، وذكر أنه أشار إلى ما سبق بيانه من غيره، ولم يبسط القول فيه، لئلا يكون ما ألفه مكررا
ومقولا. وقال: إنه لا يزعم أنه يمكنه أن يبين ما رام بيانه، وأراد شرحه وتفصيله، إلا لمن كان " من أهل صناعة العربية، وقد وقف على جمل من محاسن الكلام ومتصرفاته ومذاهبه، وعرف جملة من طرق المتكلمين ونظر في شئ من أصول الدين ". ثم بين في الفصل الاول أن نبوة محمد، صلى الله عليه وسلم، مبينة على دلالة معجزة القرآن، واستدل على ذلك بآيات كثيرة، وقال: إنه ما من سورة من السور المفتتحة بذكر الحروف المقطعة إلا وقد أشبع فيها بيان ذلك " وكثير من هذه السور إذا تأملته، فهو من أوله إلى آخره مبني على لزوم حجة القرآن، والتنبيه على معجزته ". وفصل القول في نظم سورتي غافر وفصلت، وبين دلالته على ذلك. * * * وعقد الفصل الثاني ص 21 لبيان وجه دلالة معجزة القرآن على نبوة النبي وبنى ذلك على أصلين: أولهما: وقوع العلم الضرورى بأن القرآن المتلو المحفوظ المرسوم في المصاحف - هو الذي جاء به النبي من عند الله تعالى، وأنه تلاه على من في عصره ثلاثاً وعشرين سنة، وقام به في المواقف، وكتب به إلى البلاد وتحمله عنه إليها من تابعه، حتى ظهر فيهم الظهور الذي لا يشتبه. والاصل الثاني: إنه تحداهم إلى أن يأتوا بمثله، وقرعهم على ترك الاتيان طول تلك السنين فلم يأتوا بذلك، واستدل على هذا الاصل بآيات كثيرة، منها آية استدل بها على بطلان قول من زعم أن وحدانية الله لا تعلم إلا من جهة العقل، ولا يمكن أن تعلم من القرآن، وهى قوله تعالى: (أم يَقُولُونَ افتَراهُ، قُلْ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُورٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، وَادعُواْ مَن اسْتَطَعْتُم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُم فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُّنْزِلَ بِعِلِمِ اللَّهِ، وأَنْ لاَّ إلهَ إلاَّ هُوَ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون؟) . وقد عقب عليها بقوله ص 23: " فجعل عجزهم عن الإتيان بمثله دليلاً على أنه منه، ودليلا على وحدانيته ". ثم كشف عن المعاني التى استقصى أهل العلم الكلام فيها قبله، وما جاء به بعدهم، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف كون القرآن معجزا حين أوحى إليه من قبل أن يقرأه على غيره أو يتحدى إليه سواه. وأفاض في إبطال قول
القائلين بالصرفة، وقال: إن التوراة والانجيل وغيرهما من كلام الله يشارك القرآن في الاعجاز بما تضمنه من الاخبار عن الغيوب، ويباينه في أنه ليس بمعجز في النظم والتأليف، لان الله لم يصفه بما وصف به القرآن، ولم يقع به التحدي كما وقع بالقرآن، ولان الالسنة التى نزل بها لا يتأتى فيها من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذى ينتهى إلى حد الاعجاز. وقال: إن كتاب زرادشت وكتاب مانى ليس يقع فيهما إعجاز، وإنه لا يوجد لابن المقفع كتاب يدعي مدع أنه عارض فيه القرآن. * * * والفصل الثالث ص 48 في جملة وجوه إعجاز القرآن. وقد ذكر في مستهله أن الاشاعرة وغيرهم ذكروا في ذلك ثلاثة أوجه: أولها: ما تضمنه القرآن من الاخبار عن الغيوب، وذلك مما يقدر عليه البشر، ولا سبيل لهم إليه. والوجه الثاني: أنه أتى بجمل ما وقع وحدث من عظيمات الأمور ومهمات السير من حين خلق الله آدم إلى مبعثه، مع أنه كان أمياً لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ، ولم يكن يعرف شيئاً من كتب المتقدمين وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم. والوجه الثالث: " أنه بديع النظم عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه " وقال: إن الذى أطلقه العلماء في هذا الوجه هو على هذه الجملة، أما هو فقد كشف الجملة التى أطلقوها، وفصل ذلك بعض التفصيل، حيث يقول ص 51: " فالذي يشتمل عليه بديع نظمه المتضمن للإعجاز وجوه: منها ما يرجع إلى الجملة، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه، وتباين مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به، ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد ". ومنها ص 53 " أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة والتشابه في البراعة، على هذا الطول، وعلى هذا القدر. وهذا المعنى هو غير المعنى الاول، فتأمله تعرف الفصل ". والمعنى الثالث ص 54: أن عجيب نظمه، وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين، على ما يتصرف إليه من الوجوه التى يتصرف فيها ويشتمل عليها " وإنما هو على حد
واحد في حسن النظم، وبديع التأليف والرصف، لا تفاوت فيه ولا انحطاط عن المنزلة العليا، ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا. وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف. وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة، تفاوتا بينا، ويختلف اختلافا كثيرا. ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت بل هو على نهاية البلاغة، وغاية البراعة، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر ". والمعنى الرابع: أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتاً بيناً في الفصل والوصل والعلو والنزول، والتقريب والتبعيد، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم، ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع. وكذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شئ إلى شئ، والتحول من باب إلى باب. والقرآن على اختلاف فنونه، وما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة، والطرق المختلفة - يجعل المختلف كالمؤتلف، والمتباين كالمتناسب، والمتنافر في الأفراد إلى حد الآحاد. وهذا أمر عجيب، تبين به الفصاحة وتظهر به البلاغة، ويخرج معه الكلام عن حد العادة، ويتجاوز العرف ". والمعنى الخامس: أن نظم القرآن وقع موقعاً في البلاغة يخرج عن عادة كلام الجن، كما يخرج عن عادة كلام الانس، فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا، ويقصرون دونه كقصورنا ". والمعنى السادس ص 62: " أن الذى ينقسم إليه الخطاب، من البسط والاقتصار، والجمع والتفريق، والاستعارة والتصريح، والتجوز والتحقيق، ونحو ذلك من الوجوه التي توجد في كلامهم - موجود في القرآن، وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم في الفصاحة والابداع والبلاغة ". والمعنى السابع ص 63: " أن المعاني التى تضمنها في أصل وضع الشريعة والأحكام والاحتجاجات في أصل الدين، والرد على الملحدين، على تلك الألفاظ البديعة، وموافقة بعضها بعضاً في اللطف والبراعة مما يتعذر على البشر ويمتنع ".
والمعنى الثامن: أن الكلام يتبين فضله ورجحان فصاحته، بأن تذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام، أو تقذف ما بين شعر، فتأخذها الاسماع وتتشوف إليها النفوس، ويرى وجه رونقها باديا، غامرا سائر ما تقرن به، كالدرة التي ترى في سلك من خرز، وكالياقوتة في واسطة العقد. وأنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير، وهى غرة جميعه، وواسطة عقده، والمنادى على نفسه بتميزه، وتخصصه برونقه وجماله، واعتراضه في حسنه ومائه ". ثم قال في ص 64: " ولولا هذه التي بيناها، لم يتحير فيه أهل الفصاحة، ولكانوا يفزعون إلى التعمل للمقابلة، والتصنع للمعارضة..فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك - علم أن أهل المعرفة منهم بالصنعة إنما عدلوا عن هذه الأمور، لعلمهم بعجزهم عنه، وقصور فصاحتهم دونه ". والمعنى التاسع ص 66: " أن الحروف التي بني عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفاً، وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمانية وعشرون سورة وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة، وهو أربعة عشر حرفاً، ليدل بالمذكور على غيره، وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم ". والمعنى العاشر: " أنه سهل سبيله، فهو خارج عن الوحشي المستكره والغريب المستنكر، وعن الصنعة المتكلفة. وجعله قريباً إلى الإفهام، يبادر معناه لفظه إلى القلب، ويسابق المغزى منه عبارته إلى النفس. وهو مع ذلك ممتنع المطلب، عسير المتناول، غير مطمع مع قربه في نفسه، ولا موهم مع دنوه في موقعه - أن يقدر عليه، أو يظفر به ". ثم قال في ص 70: " وقد يمكن في تفاصيل ما أوردنا من المعاني الزيادة والإفراد فإنا جمعنا بين أمور، وذكرنا المزية المتعلقة بها. وكل واحد من تلك الامور مما يمكن اعتماده في إظهار الاعجاز فيه ". ثم ختم كلامه في هذا الفصل بالاجابة على سؤال هام أورده في ص 71 وهو: " فإنه قيل: فهل تزعمون أنه معجز، لأنه حكاية لكلام القديم سبحانه،
أو لأنه عبارة عنه، أو لأنه قديم في نفسه؟ " قيل: " لسنا نقول بأن الحروف قديمة، فكيف يصح التركيب على الفاسد؟ ولا نقول أيضاً: إن وجه الاعجاز في نظم القرآن من أجل أنه حكاية عن كلام الله، لأنه لو كان كذلك لكانت التوراة والإنجيل وغيرها من كتب الله عز وجل - معجزات في النظم والتأليف. وقد بينا أن إعجازها في غير ذلك. وكذلك يجب أن تكون كل كلمة مفردة معجزة بنفسها ومنفردها. وقد ثبت خلاف ذلك ". * * * والفصل الرابع ص 72: عقده لشرح ما بينه من وجوه إعجاز القرآن الثلاثة السابقة، وهى الاخبار عن الغيوب، والانباء عن قصص الاولين وسير المتقدمين وبراعة النظم والتأليف والرصف. * * * والفصل الخامس ص 76: مقصور على نفى الشعر من القرآن. وأما الفصل السادس فقد عقده لنفى السجع من القرآن. وقد استهله بقوله: " ذهب أصحابنا كلهم إلى نفي السجع من القرآن. وذكره الشيخ أبو الحسن الاشعري في غير موضع من كتبه. وذهب كثير ممن يخالفهم إلى اثبات السجع في القرآن، وزعموا أن ذلك مما يبين به فضل الكلام، وأنه من الاجناس التى يقع فيها التفاضل في البيان والفصاحة، كالتجنيس والالتفات، وما أشبه ذلك من الوجوه التى تعرف بها الفصاحة. وأقوى ما يستدلون به عليه: اتفاق الكل على أن موسى أفضل من هارون، عليهما السلام، ولمكان السجع قيل في موضع: " هارون وموسى " ولما كانت الفواصل في موضع آخر بالواو والنون، قيل: " موسى وهارون " ثم قال الباقلانى: " وهذا الذي يزعمونه غير صحيح. ولو كان القرآن سجعاً لكان غير خارج عن أساليب كلامهم، ولو كان داخلاً فيها لم يقع بذلك إعجاز. ولو جاز أن يقولوا: هو سجع معجز، لجاز أن يقولوا: شعر معجز، وكيف والسجع مما كان يألفه الكهان من العرب، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفي الشعر؟ لأن الكهانة تنافي النبوات، وليس كذلك الشعر. وقد روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال للذين جاءوه وكلموه في شأن الجنين: كيف ندى من لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل، أليس دمه قد يطل؟ فقال: " اسجاعة كسجاعة الجاهلية؟ " وفي بعضها: " أسجعاً كسجع الكهان؟ " فرأى ذلك مذموماً لم يصح أن يكون في دلالته. والذي يقدرونه أنه سجع فهو وهم، لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع وإن لم يكن سجعاً، لأن ما يكون به الكلام سجعاً يختص ببعض الوجوه دون بعض، لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع، وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع، لان اللفظ يقع فيه تاليا للمعنى ". ثم قال: " ويقال لهم: لو كان الذي في القرآن على ما تقدرونه سجعاً لكان مذموماً مرذولاً، لأن السجع إذا تفاوتت أوزانه، واختلفت طرقه: كان قبيحاً من الكلام. وللسجع منهج مرتب محفوظ، وطريق مضبوط متى أخل به المتكلم وقع الخلل في كلامه، ونسب إلى الخروج عن الفصاحة ". ثم قال: " فلو رأوا أن ما تُلِيَ عليهم من القرآن سجعا لقالوا: نحن نعارضه بسجع معتدل، فنزيد في الفصاحة على طريقة القرآن، ونتجاوز حده في البراعة والحسن " ويقول ص 90: " ولو كان الكلام الذي هو في صورة السجع منه لما تحيروا فيه، ولكانت الطباع تدعوا إلى المعارضة، لان السجع ممتنع عليهم، بل هو في عادتهم، فكيف تنقض العادة بما هو نفس العادة، وهو غير خارج عنها ولا متميز منها؟ " ثم مضى في حديثه عن السجع، وذكر فيما ذكر اختلاف العلماء في الشعر كيف اتفق للعرب قوله أو لا؟ وهل كان اتفاقا غير مقصود إليه؟ أم تواضعوا على هذا الوجه من النظم؟ وأن الله عرفهم محاسن الكلام، ودلهم على كل طريقة عجيبة. ثم أعلمهم عجزهم عن الاتيان بمثل القرآن " ووجدوا أن هذا لما تعذر عليهم مع التحدي والتقريع الشديد والحاجة الماسة إليه، مع علمهم بطريق وضع النظم والنثر، وتكامل أحوالهم فيه - دل على أنه اختص به، ليكون دلالة على
النبوة، ومعجزة على الرسالة ". وختم الباقلانى كلامه في هذا الفصل بإلزام عجيب لمخالفيه حيث يقول في ص 99: " ولا بد لمن جوز السجع فيه وسلك ما سلكوه من أن يسلم ما ذهب إليه النظّام، وعباد بن سليمان، وهشام الفوطي، ويذهب مذهبهم، في أنه ليس في نظم القرآن وتأليفه إعجاز، وأنه يمكن معارضته، وإنما صرفوا عنه ضرباً من الصرف. ويتضمن كلامه تسليم الخبط في طريقة النظم، وأنه منتظم من فرق شتى، ومن أنواع مختلفة ينقسم إليها خطابهم ولا يخرج عنها. ويستهين ببديع نظمه وعجيب تأليفه الذي وقع التحدي إليه! وكيف يعجزهم الخروج عن السجع والرجوع إليه، وقد علمنا عادتهم في خطبهم وكلامهم، أنهم كانوا لا يلزمون أبداً طريقة السجع والوزن، بل كانوا يتصرفون في أنواع مختلفة. فإذا ادعوا على القرآن مثل ذلك، لم يجدوا فاصلة بين نظمى الكلامين! " هذا مجمل ما قاله الباقلانى في هذا الفصل الذى عقده لبيان نفى السجع من القرآن، وهو أخف فصول الكتاب وزنا، وأقلها قدرا، وأحفلها بالخطأ البين في أصل الفكرة، وفى كيفية نصرتها والدفاع عنها، والحجاج دونها، والرد على مخالفيها ومرد ذلك - فيما يلوح لى - إلى أن الباقلانى قد اندفع في كلامه بدافع المناصرة لمذهب الاشاعرة الذى كان يدين به. والذى حدا شاعرنا إلى نفى السجع من القرآن أنهم ظنوا، بل تيقنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذم السجع في حديث الجنين. ومن قصة هذا الحديث أن حمل بن مالك بن النابغة كان قد تزوج بامرأتين، يقال لاحداهما: مليكة بنت ساعدة، وللاخرى: أم عفيفة بنت مسروح، فتغايرتا كما هو الشأن دائما بين الضرتين، فضربت أم عفيفة مليكة بمسطح أو بعمود فسطاطها، وهى حامل فألقت جنينها، ورفعت قضيتها إلى النبي فقضى على عاقلة الضاربة بغرة: عبد أو أمة. فقال أخوها العلاء بن مسروح: يا رسول الله، أنغرم من لا أكل ولا شرب ولا نطق ولا استهل، فمثل هذا يطل؟ ! فقال عليه السلام: " أسجع كسجع الجاهلية؟ " وقد روى قول النبي بعدة روايات، منها: " أسجع كسجع
الجاهلية وكهانتها؟ ". ومنها: " دعني من أراجيز الاعراب ". ومنها: " أسجاعة بك؟ ". ومنها: " أسجع كسجع الجاهلية؟ قيل: يا رسول الله، إنه شاعر. ومنها: " لسنا من أساجيع الجاهلية في شئ " ومنها. " إنما هذا من إخوان الكهان ". ومنها: " إن هذا ليقول بقول شاعر، بل فيه - أي في الجنين - غرة " ومنها: " أسجع كسجع الاعراب؟ " وقد فهم كثير من العلماء أن هذا الحديث إنما ورد في ذم السجع، والتنفير منه. ولا شك أنهم واهمون في ذلك. ولو كان النبي أراد إلى ذمه لقال: " أسجعا " فقط. وإنما أراد النبي بقوله هذا، كما يتضح من سياق الحديث، إنكار تشادق هذا الساجع في دفعه حقا وجب عليه وعلى عاقلته، وقعقعته بالسجع على طريقة الكهان في الجاهلية. وقد أغرب الباقلانى في استنباطه من هذا الحديث ص 88: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن السجع مذموم، فلا يصح أن يكون في دلالته على نبوته! وكيف يذم النبي السجع وكثير من كلامه مسجوع؟ يقول: " أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الارحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام؟ " وقد أخطأ الباقلانى في قوله: إن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذى يؤدى السجع. فليس السجع كذلك على الاطلاق، وإنما هذا نوع من السجع ردئ لا يقع إلا في كلام الضعفاء. ومنه نوع آخر يقع فيه اللفظ موقعه الرائع، وهو مع ذلك تابع للمعانى. وهذا هو النوع المحمود منه الذى جاء في المأثور الصحيح عن بلغاء الجاهلية، وفصحاء الاسلام، وورد في أحاديث الرسول على أكمل وجه وأتم نسق اتفق وجوده في كلام البشر، وإليه يريغ المثبتون للسجع في القرآن، القائلون بأن ما كان منه كذلك هو نهاية النهايات، وأبعد الغايات في البلاغة، وقد بان بطلاوته وصفاء لفظه وتمكن معناه - عن جميع ما جرى هذا المجرى من كلام الخلق. ولو قد تدبر الباقلانى ما حكاه من قول المثبتين للسجع في القرآن: إنه مما يبين
به فضل الكلام، وأنه من الأجناس التي يقع فيها التفاضل في البيان والفصاحة، كالتجنيس والالتفات، وما أشبه ذلك من الوجوه التى تعرف بها الفصاحة لو تدبر هذا القول، ولم يكن مدفوعا إلى معارضته لمخالفته مذهب أصحابه - لرآه قولا وجيها، ولما وجد بين السجع وبين أنواع البديع التى ذكرها من فرق، ولقال عنه مثل قوله عن البديع ص 170: " ولكن قد يمكن أن يقال في البديع الذي حكيناه وأضفناه إليهم: إن ذلك باب من أبواب البراعة، وجنس من أجناس البلاغة، وأنه لا ينفك القرآن عن فن من فنون بلاغاتهم، ولا وجه من وجوه فصاحاتهم، وإذا أورد هذا المورد، ووضع هذا الموضع، كان جديرا " ولو صنع ذلك لاهتدى إلى سواء الصراط، ولما ذهب يتمحل العلل الواهية لنفى السجع من القرآن، كقوله: " لو كان الذي في القرآن على ما تقدرونه سجعاً لكان مذموماً مرذولاً، لأن السجع إذا تفاوتت أوزانه، واختلفت طرقه - كان قبيحاً من الكلام! وللسجع منهج مرتب محفوظ، وطريق مضبوط، متى أخل به المتكلم وقع الخلل في كلامه، ونسب إلى الخروج عن الفصاحة..فلو كان ما تلى عليهم من القرآن سجعا لقالوا، نحن نعارضه بسجع معتدل، فنزيد في الفصاحة على طريقة القرآن، ونتجاوز حده في البراعة والحسن ". وفوق ما في كلامه هذا من خطأ وتهافت، فإن فيه هفوة أخرى، إذ حكم قواعد البلاغة في القرآن، مع أن القرآن هو الاساس الذى يجب أن تحاكم إليه قواعد البلاغة، وأن تجرى على سننه، ووفق أحكامه. وكقوله: " ولا بد لمن جوز السجع في القرآن وسلك ما سلكوه، من أن يسلم ما ذهب إليه النظام وعباد وهشام، ويذهب مذهبهم في أنه ليس في نظم القرآن وتأليفه إعجاز، وأنه يمكن معارضته، وإنما صرفوا عنه ضرباً من الصرف! ويتضمن كلامه تسليم الخبط في طريقة النظم، وأنه منتظم من فرق شتى، ومن أنواع مختلفة ينقسم إليها خطابهم ولا يخرج عنها! ويستهين ببديع نظمه، وعجيب تأليفه الذي وقع التحدي إليه "! ! وهذه إلزامات عجيبة لا تلزم المثبتين للسجع في القرآن بحال من الاحوال،
لانهم يرون أن السجع الرائع مظهر من مظاهر الاقتدار على البلاغة، والامتلاك لزمام الفصاحة، وأن السجع الكثير في القرآن قد جاء في أرفع صور البيان، وباين كل أسجاع الساجعين، كما يؤمنون بأن سر إعجاز القرآن نظمه البديع، وبلاغته الرائعة المجاوزة لجميع بلاغات العرب. وأى فارق بين مشاركة القرآن كله لغيره من الكلام في كونه كلاما عربيا مؤلفا من ألفاظ فصيحة بليغة، وبين مشاركة بعض آية في كونها جاءت مسجوعة؟ وكيف يكون السجع المحمود من أمارات الفصاحة المعدودة، التى يقصد إليها أعلام البلغاء في بعض كلامهم لتوشيته وتزيينه، وتحسينه بعقد المناسبة بين ألفاظه ثم نجرد القرآن منه، وننفيه عنه بزعمنا، مع ادعائنا أنه قد اشتمل على أنواع البلاغة والفصاحة جميعا؟ ولئن قال الباقلانى: " إن السجع عيب يجب تفيه عن القرآن، فإنى أقول: إن السجع من الميزات البلاغية التى يجدر بنا أن ننزه القرآن عن خلوه منها. * * * والفصل السابع من فصول إعجاز القرآن ص 101 في ذكر البديع من الكلام، بدأه الباقلانى بقوله: إن سأل سائل فقال: هل يمكن أن يعرف إعجاز القرآن من جهة تضمنه البديع؟ قيل: ذكر أهل الصنعة ومن صنف في هذا المعنى من صفة البديع ألفاظاً نحن نذكرها، ثم نبين ما سألوه عنه، ليكون الكلام وارداً على أمر مبين، وباب مقرر مصور ". ثم نقل جملة من بديع الشعر، بعضها من كتابي البديع لابن المعتز، ونقد الشعر لقدامة بن جعفر، وقال ص 162: " وقد قدر مقدرون أنه يمكن استفادة إعجاز القرآن من هذه الأبواب التي نقلناها، وأن ذلك مما يمكن الاستدلال به عليه. وليس كذلك عندنا، لأن هذه الوجوه إذا وقع التنبيه عليها أمكن التوصل إليها بالتدريب والتعود والتصنع لها، والوجوه التي نقول: إن إعجاز القرآن يمكن أن يعلم منها، فليس مما يقدر البشر على التصنع له والتوصل إليه بحال ". وختم كلامه في هذا الفصل بقوله: " إنا لا نجعل الإعجاز متعلقاً بهذه الوجوه الخاصة، ووقفاً عليها، ومضافاً إليها، وإن صح أن تكون
هذه الوجوه مؤثرة في الجملة، آخذة بحظها من الحسن والبهجة، متى وقعت في الكلام على غير وجه التكلف المستبشع، والتعمل المستشنع ". * * * والفصل الثامن في كيفية الوقوف على إعجاز القرآن. وعنده: أن إعجاز القرآن لا يخفى على العربي البليغ الذى قد تناهى في معرفة اللسان العربي، ووقف على طرقها ومذاهبها، ولا يشتبه على ذي بصيرة، ولا يخيل عند أخى معرفة. وأما من لم يبلغ في الفصاحة الحد الذي يتناهى إلى معرفة أساليب الكلام، ووجوه تصرف اللغة، فهو كالأعجمي في أنه لا يمكنه أن يعرف إعجاز القرآن إلا بأن يعلم أن العرب قد عجزوا عنه، وإذا عجز هؤلاء عنه فهو عنه أعجز. ثم نقل الباقلانى نصوصا من خطب النبي وكتبه، وكلام أبى بكر وعمر وعثمان وعلى وابن عباس وعبد الله بن مسعود ومعاوية وعمر بن عبد العزيز والحجاج وقس ابن ساعدة وأبى طالب. وقد استغرقت هذه النصوص من ص 196 - إلى ص 234. وثم قال: إنه نسخ لقارئ كتابه جملاً من كلام الصدر الأول ومحاوراتهم وخطبهم، ليتأملها بسكون طائر، وخفض جناح، وتفريغ لب، وجمع عقل حتى يقع له الفصل بين كلام الآدميين،. وبين كلام رب العالمين، ويعلم أن نظم القرآن يخالف نظمهم، ويتبين الحد الذى يتفاوت بين كلام البليغين والخطيبين والشاعرين، وبين نظم القرآن جملة. ثم عقد بابا جليل الشأن عظيم الخطر ص 236، لبيان أن نظم القرآن يزيد في فصاحته على كل نظم، قال فيه: " إذا أردنا تحقيق ما ضمناه لك، فمن سبيلنا أن نعمد إلى قصيدة متفق على كبر محلها. وصحة نظمها، ووجوه بلاغتها، ورشاقة معانيها، وإجماعهم على إبداع صاحبها فيها، مع كونه من الموصوفين بالتقدم في الصناعة والمعروفين بالحذق في البراعة، فنقفك على مواضع خللها، وعلى تفاوت نظمها، وعلى اختلاف فصولها، وعلى كثرة فضولها، وعلى شدة تعسفها، وبعض تكلفها، وما تجمع من كلام رفيع، يقرن بينه وبين كلام وضيع، وبين لفظ سوقي، يقرن بلفظ ملوكي ". وبعد أن عرض لكلام مسيلمة، رجع إلى ما ضمنه من الكلام على الأشعار
المتفق على جودتها. فمهد لذلك بالكلام على جودة شعر امرئ القيس وبراعته وفصاحته، وما ابتدعه في طرق الشعر، ثم عرض لنقد معلقته حيث يقول ص 243: " ونظم القرآن جنس متميز، وأسلوب متخصص، وقبيل عن النظير متخلص، فإذا شئت أن تعرف عظم شأنه، فتأمل ما نقوله في هذا الفصل لامرئ القيس في أجود أشعاره، وما نبين لك من عواره على التفصيل ". ثم مضى في نقد المعلقة، وانتهى منه في ص 277 بعد أن بين أن " هذه القصيدة قد ترددت بين أبيات سوقية مبتذلة، وأبيات متوسطة، وأبيات ضعيفة مرذولة، وأبيات وحشية غامضة مستكرهة، وأبيات معدودة بديعة، وأن وحشيها مستنكر يروع السمع، ويهول القلب، ويكد اللسان، ويعبس معناه في وجه كل خاطر ويكفهر مطلعه على كل متأمل أو ناظر، ولا يقع بمثله التمدح والتفاصح ". ثم قال ص 277: " وقد بينا لك أن هذه القصيدة ونظائرها تتفاوت في أبياتها تفاوتاً بيناً في الجودة والرداءة، والسلاسة والانعقاد، والسلامة والانحلال والتمكن والاستصعاب، والتسهل والاسترسال، والتوحش والاستكراه، وله شركاء في نظائرها، ومنازعون في محاسنها، ومعارضون في بدائعها. ولا سواء كلام ينحت من الصخر تارة، ويذوب تارة، ويتلون تلون الحرباء، ويختلف اختلاف الأهواء، ويكثر في تصرفه اضطرابه، وتتقاذف به أسبابه، وبين قول يجري في سبكه على نظام، وفي رصفه على منهاج، وفي وضعه على حد. وفي صفائه على باب، وفي بهجته ورونقه على طريق، مختلفة مؤتلف، ومؤتلفه متحد، ومتباعده متقارب، وشارده مطيع، ومطيعه شارد، وهو على متصرفاته واحد لا يستصعب في حال، ولا يتعقد في شأن ". ثم عرض لنظم القرآن ونهجه، فقال: " فأما نهج القرآن ونظمه، وتأليفه ورصفه، فإن العقول تتيه في جهته، وتحارفى بحره، وتضل دون وصفه. ونحن نذكر لك في تفصيل هذا ما تستدل به على الغرض، وتستولي به على الأمد، وتصل به إلى المقصد، وتتصور إعجازه كما تتصور الشمس، وتتيقن تناهي بلاغته كما تتيقن الفجر، وأقرب عليك الغامض، وأسهل لك العسير ".
ثم ذكر آيات كثيرة، وبين أسرار إعجازها بيانا شافيا كافيا، على نحو رائع جميل، كقوله في ص 294: " ما رأيك في قوله تعالى: (إن فرعون علا في الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيعَاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُم، يُذَبِّحُ أَبناءَهُم ويَسْتَحْييِ نِسَاءَهُم، إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين) ؟ هذه تشتمل على ست كلمات، سناؤها وضياؤها على ما ترى، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد، ورونقها على ما تعاين، وفصاحتها على ما تعرف. وهي تشتمل على جملة وتفصيل، وجامعة وتفسير: ذكر العلو في الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان وسبي النساء، وإذا تحكم في هذين الامرين فما ظنك بما دونهما؟ ! لان النفوس لا تطمئن على هذا الظلم، والقلوب لا تقر على هذا الجور. ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد، وكفت في التظليم، وردت آخر الكلام على أوله، وعطفت عجزه على صدره. ثم ذكر وعده تخليصهم بقوله: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنْ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ) . وهذا من التأليف بين المؤتلف، والجمع بين المستأنس ". وقد استغرق كلامه على تلك الآيات من ص 281 - إلى 322، ثم رجع إلى حديثه عن امرئ القيس وعمن عارض القرآن بشعره، ثم قال ص 227: " فإن قال قائل: أجدك تحاملت على امرئ القيس، ورأيت أن شعره يتفاوت بين اللين والشراسة، وبين اللطف والشكاسة، وبين التوحش والاستئناس، والتقارب والتباعد، ورأيت الكلام الأعدل أفضل، والنظام المستوثق أكمل، وأنت تجد البحتري يسبق في هذا الميدان، ويفوت الغاية في هذا الشأن، وأنت ترى الكتاب يفضلون كلامه على كل كلام، ويقدمون رأيه في البلاغة على كل رأي، وكذلك تجد لأبي نواس من بهجة اللفظ، ودقيق المعنى، ما يتحير فيه أهل الفضل..فكيف يعرف فضل ما سواه عليه؟ " ثم خلص من الاجابة عن هذا السؤال، وقال في ص 333: " ونحن نعمد إلى بعض قصائد البحتري فنتكلم عليها، كما تكلمنا على قصيدة امرئ القيس، ليزداد الناظر في كتابنا بصيرة، ويستخلص من سر المعرفة سريرة، ويعلم كيف تكون الموازنة، وكيف تقع المشابهة والمقاربة. ونجعل تلك القصيدة التى نذكرها
أجود شعره " وهى التى مطلعها: أهلاً بذلكم الخيالِ المقبلِ * * فعل الذي نهواه أو لم يفعل ثم أخذ في نقدها حتى قال في ص 373: " وإنما اقتصرنا على ذكر قصيدة البحتري، لأن الكتاب يفضلونه على أهل دهره، ويقدمونه على من في عصره. ومنهم من يدّعي له الإعجاز غلواً، ويزعم أنه يناغي النجم في قوله علوا. فبينا قدر درجته، وموضع رتبته، وحد كلامه. وهيهات أن يكون المطموع فيه كالمأيوس منه، وأن يكون الليل كالنهار، والباطل كالحق، وكلام رب العالمين ككلام البشر " والحق أن نقد الباقلانى لمعلقة امرئ القيس وقصيدة البحترى، من نماذج النقد الادبى الرائعة، وصوره الرفيعة البارعة، غير أنه شان حسنها، وشاب صفاءها، بتحامله عليهما، وإسرافه في نقد أبياتهما، كقوله في نقد قول امرئ القيس ص 253: ويوم دخلتُ الخِدْرَ خدِرَ عُنَيْزَةٍ * * فقالت: لكَ الويلات إنك مرجلى قوله: " دخلت الخدر خدر عنيزة " ذكره تكريراً لإقامة الوزن، لا فائدة فيه غيره، ولا ملاحة له ولا رونق! وقوله: " فقالت: لك الويلات إنك مرجلي " كلام مؤنث من كلام النساء، نقله من جهته إلى شعره! وليس فيه غير هذا! وكقوله ص 235 في نقد قول البحترى: أهلاً بذلكم الخيالِ المقبلِ * * فعل الذي نهواه أو لم يفعلِ برق سرى في بطنِ وجرة فاهتدت * * بسناه أعناق الركاب الضلل البيت الأول في قوله: " ذلكم الخيال " ثقل روح وتطويل وحشو، وغيره أصلح له. وأخف منه قول الصَّنَوْبَرِي: أهلاً بذاك الزَّورِ من زَوْرِ * * شمس بدت في فلك الدورِ وعذوبة الشعر تذهب بزيادة حرف أو نقصان حرف، فيصير إلى الكزازة، وتعود ملاحته بذلك ملوحة، وفصاحته عياً، وبراعته تكلفاً، وسلاسته تعسفاً،
وملاسته تلويا وتعقدا، فهذا فصل. وفيه شئ آخر وهو: أن هذا الخطاب إنما يستقيم مهما خوطب به الخيال حال أقباله، فأما أن يحكي الحال التي كانت وسلفت على هذه العيادة، ففيه عهدة، وفي تركيب الكلام عن هذا المعنى عقدة. وهو لبراعته وحذقه في هذه الصنعة - يعلق نحو هذا الكلام، ولا ينظر في عواقبه، لأن ملاحة قوله تغطي على عيون الناظرين فيه نحو هذه الأمور. ثم قوله: " فعل الذي نهواه أو لم يفعل "، ليست بكلمة رشيقة، ولا لفظة ظريفة، وإن كانت كسائر الكلام ". ولست أشك في أن الباقلانى قد حاد عن جادة الصواب عند ما حكم بأن بيت الصنوبرى أخف من بيت البحترى. وغنى عن البيان أن بيت الصنوبرى ثقيل بالغ الثقل، وحسبه أن يجتمع في شطره الاول " الزور من زور " وأن يكون في شطره الثاني كلمة " الدور "، ليأخذ سبيله إلى مستقره في حضيض الشعر الاوهد. وأما نقد الباقلانى لبيت البحترى الثاني، فإنى أورده ليكون بيانا لمنهجه في نقده ولانه استطرد فيه إلى نقد امرئ القيس بنقد لطيف ذهب به، ولم يسبقه أحد إليه. قال: " فأما بيته الثاني، فهو عظيم الموقع في البهجة، وبديع المأخذ، حسن الرواء، أنيق المنظر والمسمع، يملا القلب والفهم، ويفرح الخاطر، وتسرى بشاشته في العروق. وكان البحتري يسمي نحو هذه الأبيات عروق الذهب، وفي نحوه ما يدل على براعته في الصناعة، وحذقه في البلاغة. ومع هذا كله فيه ما نشرحه من الخلل، مع الديباجة الحسنة، والرونق المليح. وذلك أنه جعل الخيال كالبرق لإشراقه في مسراه، كما يقال: إنه يسري كنسيم الصبا، فيطيب ما مر به كذلك يضئ ما مر حوله، وينور ما مر به. وهذا غلو في الصنعة، إلا أن ذكره " بطن وجرة " حشو، وفي ذكره خلل، لأن النور القليل يؤثر في بطون الأرض وما اطمأن منها، بخلاف ما يؤثر في غيرها، فلم يكن من سبيله أن يربط ذلك ببطن وجرة. وتحديده المكان - على الحشو - أحمد من تحديد امرئ القيس من ذكر " سقط اللوى بين الدخول فحومل، فتوضح فالمقراة " لم يقنع بذكر حد، حتى حده بأربعة حدود، كأنه يريد بيع المنزل فيخشى أن أخلَّ
بحد أن يكون بيعة فاسداً أو شرطه باطلاً! فهذا باب. ثم إنما يذكر الخيال بخفاء الأثر، ودقة المطلب، ولطف المسلك. وهذا الذى ذكره يضاد هذا الوجه، ويخالف ما وضع عليه أصل الباب. ولا يجوز أن يقدر مقدر أن البحتري قطع الكلام الأول، وابتدأ بذكر برق لمع من ناحية حبيبه من جهة بطن وجرة، لان هذا القطع إن كان فعله، كان خارجاً به، عن النظم المحمود، ولم يكن مبدعاً، ثم كان لا تكون فيه فائدة، لأن كل برق شعل وتكرر وقع الاهتداء به في الظلام، وكان لا يكون بما نظمه مفيداً ولا متقدماً. وهو على ما كان من مقصده، فهو ذو لفظ محمود، ومعنى مستجلب غير مقصود، ويعلم بمثله أنه طلب العبارات، وتعليق القول بالاشارات. وهذا من الشعر الحسن الذى يحلو لفظه، وتقل فوائده ". ومن شواهد تجنى الباقلانى على البحترى قوله في ص 240: " وأما قوله: ما الحسنُ عندك يا سعاد بمُحْسِنٍ * * فيما أتاه ولا الجمال بِمُجْمِلِ عذل المشوق وإن من سيما الهوى * * في حيث يجهله لجاج العذل قوله في البيت الأول: " عندك " حشو، وليس بواقع ولا بديع، وفيه كلفة، والمعنى الذي قصده، أنت تعلم أنه متكرر على لسان الشعراء. وفيه شئ آخر، لأنه يذكر أن حسنها لم يحسن في تهييج وجده. وتهييم قلبه، وضد هذا المعنى هو الذي يميل إليه أهل الهوى والحب. وبيت كشاجم أسلم من هذا وأبعد من الخلل، وهو قوله: بحياة حُسنك أَحْسني، وبحقِّ من * * جَعَل الجمالَ عليك وقفاً أَجْمِلي " ولست أرى رأى الباقلانى في أن كلمة " عندك " قد وقعت حشوا متكلفا، ليست بواقعة ولا بديعة، وإنما هي في هذا المقام قد وقعت موقعها الطبيعي البديع ولم يجتلبها التكلف حشوا لا يغنى غناءه في تأدية المعنى، وإنما هي أصيلة في أصل المعنى، ولا يؤدى معناها غيرها. ولست أشك كذلك في أن بيت البحترى أمثل من بيت كشاجم. ويخيل إلى أن الباقلانى قد ضل عنه معنى بيت البحترى، إذ فهم أنه " يذكر
أن حسنها لم يحسن في تهييج وجده وتهييم قلبه ". وإنى أفهم أن المعنى الذى أراغ إليه البحترى: أن حسنها لم يحسن إليه بما يود الحبيب من حبيبه أن يحسن إليه به، مما يمتع نفسه، ويروى ظمأ حبه، وأن جمالها لم يجمل بإصفاء المودة، وإنالة جنى الحب المشتهى. وبذلك يتسق معنى البيت، مع المعنى الذى يميل إليه أهل الهوى. والحب. ولئن كان الباقلانى قد أخطأ في نقد بيت البحترى الاول، وضل عن معناه، فإنه أصاب في نقده للبيت الثاني، حيث يقول: " وأما البيت الثاني فإن قوله: " في حيث " حشا بقوله كلامه، ووقع ذلك مستنكراً وحشياً نافراً عن طبعه، جافياً في وضعه، فهو كرقعة من جلد في ديباج حسن! فهو يمحو حسنه، ويأتي على جماله. ثم في المعنى شئ، لأن لجاج العذل لا يدل على هوى مجهول، ولو كان مجهولاً لم يهتدوا للعذل عليه. فعلم أن المقصد استجلاب العبارات. ثم لو سلم من هذا الخلل لم يكن في البيت معنى بديع، ولا شئ يفوت قول الشعراء في العذل، فإن ذلك جملهم الذلول، قولهم المكرر المقول " * * * ثم قال الباقلانى في ص 374 " وأما الغرض الذي صنفنا فيه، في التفصيل والكشف عن إعجاز القرآن، فلم نجده على التقريب الذي قصدنا، وقد رجونا أن يكون ذلك مغنيا ووافيا. وقد قصدنا فيما أمليناه الاختصار، ومهدنا الطريق ". ثم عرض لنقد الجاحظ في ص 377: بأن كلامه قريب، ومنهاجه معيب ونطاق قوله ضيق. ومن أجل ذلك يستعين بكلام غيره، ويفزع إلى ما يوشح به كلامه، من بيت سائر، ومثل نادر، وحكمة منقولة، وقصة مأثورة، فإذا أطال ولم يستعن بكلام غيره، كان كلامه ككلام غيره. ثم زعم أن أبا الفضل بن العميد قد سلك مسلكه، ونازعه طريقته، فلم يقصر عنه. ولعله قد بان تقدمه عليه، لأنه يأخذ في الرسالة الطويلة فيستوفيها على حدود مذهبه، ولا يقتصر على أن يأتي بالأسطر من نحو كلامه، كما ترى الجاحظ يفعل
في كتبه، متى ذكر من كلامه سطراً أتبعه من كلام الناس أوراقاً، وإذا ذكر منه صفحة بنى عليه من قول غيره كتابا ". وفى هذا الكلام حق كثير، وظلم مبين، وأين كلام ابن العميد من سحر الجاحظ؟ هيهات هيهات أن يقارنه أو يقاربه. * * * ثم عقد فصلا في ص 380 لبيان أن عجز سائر أهل الاعصار عن الاتيان بمثل القرآن ثابت، كعجز أهل العصر الاول. ثم أعقبه بفصل في التحدي ووجه الحاجة إليه في باب القرآن ص 382. وتلاه بفصل في قدر المعجز من القرآن عند الاشاعرة والمعتزلة ص 386. " فذهب عامة الاشاعرة إلى أن أقل ما يعجز عنه من القرآن: السورة، قصيرة كانت أو طويلة، أو ما كان بقدرها. قال الاشعري: فإذا كانت الآية بقدر حروف سورة، وإن كانت سورة الكوثر، فذلك معجز، ولم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة في أقل من هذا القدر. وذهبت المعتزلة إلى أن كل سورة برأسها فهي معجزة ". وبعده فصل في أنه هل يعلم إعجاز القرآن ضرورة؟ ص 393 وقد ذهب إلى أن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا استدلالا، وكذلك غير البليغ من العرب، فأما البليغ الذى أحاط بمذاهب العربية وغرائب الصنعة، فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه عن الاتيان بمثله، ويعلم عجز غيره بمثل ما يعرف عجز نفسه. وجعل الفصل الذى يليه ص 394 فيما يتعلق به الاعجاز: أهو الحروف المنظومة؟ أم الكلام القائم بالذات؟ أم غير ذلك؟ وذهب إلى أن التحدي واقع إلى أن يأتوا بمثل الحروف المنظومة، التي هي عبارة عن كلام الله تعالى، في نظمها وتأليفها، وهي حكاية لكلامه، ودلالات عليه، وأما رات له، على أن يكونوا مستأنفين لذلك، لا حاكمين لما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر فصلا في وصف وجوه من البلاغة، بدأه بقوله: " ذكر بعض أهل الأدب والكلام: أن البلاغة على عشرة أقسام..". وهذا البعض الذى لم يشأ
أن يصرح باسمه، هو معاصره أبو الحسن: على بن عيسى الرماني المعتزلي وقد نقل الباقلانى هذا الفصل الطويل بأمثلته من كتابه: " النكت في إعجاز القرآن "، وعلق عليه تعليقات شتى. وقد ذيلت كل مثال نقله بما قاله الرماني فيه، لتتم فائدة القارئ، وليستبين الفرق بين الرجلين. ثم عقد الباقلانى فصلا في حقيقة المعجز ص 436، فبين معنى إعجازه على أصول الاشاعرة بأنه لا يقدر العباد عليه، وإنما ينفرد الله بالقدرة عليه، ولما لم يقدر عليه أحد شبه بما يعجز عنه العاجز، وإنما لا يقدر العباد على مثله، لأنه لو صحّ أن يقدروا عليه بطلت دلالة المعجز، وقد أجرى الله العادة بأن يتعذر فعل ذلك منهم وأن لا يقدروا عليه. ولو كان غير خارج عن العادة لاتوا بمثله، أو عرضوا عليه من كلام فصحائهم وبلغائهم ما يعارضه. فلما لم يشتغلوا بذلك علم أنهم فطنوا لخروج ذلك عن أوزان كلامهم، وأساليب نظامهم، وزالت أطماعهم عنه. وتعرض في هذا الفصل لنظم القرآن ص 43، وأن أصحابه قالوا فيه: إن الله يقدر على نظم هيئة أخرى تزيد في الفصاحة عليه، كما يقدر على مثله وأما بلوغ بعض نظم القرآن الرتبة التى لا مزيد عليها، فقد قال مخالفونا: إن هذا غير ممتنع. والذى نقوله: إنه لا يمتنع أن يقال إنه يقدر الله تعالى على أن يأتي بنظم أبلغ وأبدع من القرآن كله. وأما قدر العباد فهي متناهية في كل ما يقدرون عليه، مما تصح قدرتهم عليه ". وعقد بعد ذلك فصلا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وأمور تتصل بالاعجاز، بين فيه أنه محال أن يكون القرآن من كلامه عليه السلام، ورد فيه على قول من يقول لولا أن كلامه معجز لم يشتبه على ابن مسعود الفصل بين المعوذتين وبين غيرهما من القرآن، وكذلك لم يشتبه دعاء القنوت في أنه هل هو من القرآن أم لا. وقال: إن هذا من تخليط الملحدين، وإن الذى يروونه في ذلك خبر واحد، لا يسكن إليه في مثل هذا ولا يعمل به. وقد جوز أن يكون أبى قد كتب دعاء القنوت على ظهر مصحفه لئلا ينساه، كما جوز أن يكون ابن مسعود قد شذ عن
مصحفه إثبات المعوذتين، أو أن يكون الناقل اشتبه عليه الامر، لان مصحفه مخالف في النظم والترتيب مصحف عثمان. وقال: " ولو كان قد أنكر السورتين على ما ادعوا، لكانت الصحابة تناظره على ذلك، وكان يظهر وينتشر، فقد تناظروا في أقل من هذا، وهذا أمر يوجب التكفير والتضليل فكيف يجوز أن يقع التخفيف فيه؟ ! وقد علمنا إجماعهم على ما جمعوه في المصحف، فكيف يقدح بمثل هذه الحكايات الشاذة المولدة في الاجماع المتقرر، والاتفاق المعروف؟ " ثم قال: " ولو كان القرآن من كلامه، لكان البون بين كلامه وبينه مثل ما بين خطبة وخطبة ينشئهما رجل واحد، وكانوا يعارضونه، لأنا قد علمنا أن القدر الذي بين كلامهم وبين كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لا يخرج إلى حد الإعجاز، ولا يتفاوت التفاوت الكثير، ولا يخفى كلامه من جنس أوزان كلامهم، وليس كذلك نظم القرآن، لانه خارج من جميع ذلك ". ثم أجاب إجابة دقيقة موفقة على اعتراض أورده في ص 446 وهو: " ولو كان القرآن معجزاً لم يختلف أهل الملة في وجه إعجازه؟ " ثم أعقبه بفصل موجز لبيان أن من شرط المعجز أن يعلم أنه أتى به من ظهر عليه. ثم ذكر الباقلانى الفصل الاخير من كتابه ص 452، وقال في مستهله: " قد ذكرنا في الإبانة عن معجز القرآن وجيزاً من القول، رجونا أن يكفي، وأملنا أن يقنع، والكلام في أوصافه - إن استقصى - بعيد الأطراف، واسع الأكناف، لعلو شأنه، وشريف مكانه. والذي سطرناه في الكتاب، وأن كان موجزاً، وما أمليناه فيه، وإن كان خفيفاً، فإنه ينبه على الطريقة، ويدل على الوجه ويهدى إلى الحجة، ومتى عظم محل الشئ فقد يكون الإسهاب فيه عيَّاً، والإكثار في وصفه تقصيرا..ولولا أن العقول تختلف، والأفهام تتباين، والمعارف تتفاضل - لم نحتج إلى ما تكلفنا، ولكن الناس يتفاوتون في المعرفة، ولو اتفقوا فيها لم يجز أن يتفقوا في معرفة هذا الفن، أو يجتمعوا في الهداية إلى هذا العلم، لاتصاله بأسباب خفية، وتعلقه بعلوم غامضة الغور، عميقة القعر، كثيرة المذاهب، قليلة
الطلاب، ضعيفة الاصحاب، وبحسب تأتى مواقعه تقع الإفهام دونه، وعلى قدر لطف مسالكه يكون القصور عنه. فإذا كان نقد الكلام كله صعباً، وتمييزه شديداً، والوقوع على اختلاف فنونه متعذراً، وهذا في كلام الآدميين، فما ظنك بكلام رب العالمين؟ " ثم قال: " وقد بينا في نظم القرآن أن الجملة تشتمل على بلاغة منفردة، والأسلوب يختص بمعنى آخر من الشرف ". وأطلق لقلمه العنان في وصف القرآن وما اشتمل من جوامع المعاني وعظيم البلاغة وعجيب النظم المفارق لسائر النظوم، فأتى في ذلك بما يلذ ويشوق. ويعجب ويطرب، ومن قوله في هذا المعنى: " تجد فيه الحكمة وفصل الخطاب مجلوة عليك في منظر بهيج، ونظم أنيق، ومعرض رشيق، غير معتاص على الأسماع، ولا مغلق على الأفهام، ولا مستكره في اللفظ ولا مستوحش في المنظر، غريب في الجنس، غير غريب في القبيل، ممتلئ ماء ونضارة، ولطفاً وغضارة، يسري في القلب كما يسري السرور، ويمر إلى مواقعه كما يمر السهم، ويضئ كما يضئ الفجر، ويزخر كما يزخر البحر، طموح، العباب، جموح على المتناول المنتاب، كالروح في البدن، والنور المستطير في الافق،. والغيث الشامل، والضياء الباهر، (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ، من توهم أن الشعر يلحق شأوه بان ضلاله، ووضح جهله، إذ الشعر سمت قد تناولته الألسن، وتداولته القلوب، وانثالت عليه الهواجس، وضرب الشيطان فيه بسهمه، وأخذ منه بحظه. وما دونه من كلامهم فهو أدنى محلاً، وأقرب مأخذاً، وأسهل مطلبا. والقرآن كتاب دل على صدق متحمله، ورسالة دلت على صحة قول المرسل بها، وبرهان شهد له براهين الانبياء المتقدمين،. وبينة على طريقة ما سلف إلى الاولين. تحداهم به. إذ كان من جنس القول الذى زعموا أنهم أدركوا فيه النهاية، وبلغوا فيه الغاية، فعرفوا عجزهم، كما عرف قوم عيسى نقصانهم فيما قدروا من بلوغ أقصى الممكن في العلاج، والوصول إلى أعلى مراتب الطب، فجاءهم بما بهرهم من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وكما أتى موسى بالعصا التي تلقفت ما برعوا فيه من سحرهم، وأتت
على ما أجمعوا عليه من أمرهم، وكما سخر لسليمان الريح والطير والجن حين كانوا يولعون به من فائق الصنعة وبدائع اللطف. ثم كانت هذه المعجزة مما يقف عليه الأول والآخر وقوفاً واحداً، ويبقى حكمها إلى يوم القيامة..فتأمل ما عرفناك في كتابنا، وفرغ له قلبك. واجمع عليه لبك، ثم اعتصم بالله يهدك، وتوكل عليه يعنك ويجرك،. واسترشده يرشدك، وهو حسبي وحسبك، ونعم الوكيل " * * * رأى الرافعى في إعجاز القرآن: قال في كتاب " تاريخ آداب العرب " 2 / 153: " وجاء القاضى أبو بكر الباقلانى المتوفى سنة 403 فوضع كتابه المشهور " إعجاز القرآن " الذى أجمع المتأخرون من بعده على أنه باب في الاعجاز على حدة، والغريب أنه لم يذكر فيه كتاب الواسطي، ولا كتاب الرماني، ولا كتاب الخطابى الذى كان يعاصره، وأومأ إلى كتاب الجاحظ بكلمتين لا خير فيهما، فكأنه هو ابتدأ التأليف في الاعجاز بما بسط في كتابه واتسع، وفى ذلك ما يثبت لنا أن عهد هذا التأليف لا يرد في نشأته إلى غير الجاحظ. على أن كتاب الباقلانى وإن كان فيه الجيد الكثير، وكان الرجل قد هذبه وصفاه وتصنع له، إلا أنه لم يملك فيه بادرة عابها هو من غيره، ولم يتحاش وجها من التأليف لم يرضه من سواه، وخرج كتابه كما قال هو في كتاب الجاحظ: " لم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى ". فإن مرجع الاعجاز فيه إلى الكلام، وإلى شئ من المعارضة البيانية بين جنس وجنس من القول، ونوع وآخر من فنونه، وقد حشر إليه أمثلة من كل قبيل من النظم والنثر، ذهبت بأكثره، وغمرت جملته، وعدها في محاسنه وهى من عيوبه، وكان الباقلانى، رحمه الله وأثابه، واسع الحيلة في العبارة، مبسوط اللسان إلى مدى بعيد، يذهب في ذلك مذهب الجاحظ ومذهب مقلده ابن العميد، على بصر وتمكن وحسن تصرف، فجاء كتابه وكأنه في غير ما وضع له، لما فيه من الاغراق في الحشد، والبالغة في الاستعانة، والاستراحة إلى النقل إذ كان أكبر
غرضه في هذا الكتاب أن " ينبه على الطريقة، ويدل على الوجه، ويهدي إلى الحجة " وهذه ثلاثة لو بسطت لها كل علوم البلاغة وفنون الادب - لوسعتها، وهى مع ذلك حشو ووصل. على أن كتابه قد استبد بهذا الفرع من التصنيف في الاعجاز، واحتمل المؤنة فيه بجملتها من الكلام والعربية والبيان والنقد، ووفى بكثير مما قصد إليه من أمهات المسائل والاصول التى أوقع الكلام عليها، حتى عدوه الكتاب وحده، لا يشرك العلماء معه كتابا آخر في خطره ومنزلنه، وبعد غوره، وإحكام ترتيبه، وقوة حجته، وبسط عبارته، وتوثيق سرده، فانظر ما عسى أن يكون غيره مما سبقه أو تلاه. وما زاد الباقلانى، رحمه الله، على أن ضمن كتابه روح عصره، وعلى أن جعله في هذا الباب كالمستحث للخواطر الوانية، والهمم المتثاقلة في أهل التحصيل والاستيعاب الذين لم يذهبوا عن معرفة الادب، ولم يغفلوا عن وجه اللسان ولم ينقطعوا دون محاسن الكلام وعيونه، ولم يضلوا في مذاهبه وفنونه، حتى قال: " إن الناقص في هذا الصنعة كالخارج عنها، والشادي فيها كالبائن منها " وقد كانت علوم البلاغة لم تهذب لعهده، ولم يبلغ منها الاستنباط العلمي ولم تجرد فيها الامهات والاصول، ككتب عبد القاهر ومن جاء بعده، فبسط الرجل من ذلك شيئا، وأجمل شيئا، وهذب شيئا، ونحا في الانتقاد منحى الذين سبقوه من العلماء بالشعر وأهل الموازنة بين الشعراء، وكانت تلك العصور بهم حفيلة. وبالجملة فقد وضع ما لم يكن يمكن أن يوضع أوفى منه في عصره "
وقد طبع كتاب " إعجاز القرآن " عدة طبعات: الاولى بمطبعة الاسلام بمصر في سنة 1315. والثانية على هامش كتاب الاتقان للسيوطي المطبوع بالمطبعة الميمنية بالقاهرة سنة 1317. والثالثة على هامشه كذلك في المطبعة الازهرية بالقاهرة سنة 1318. والطبعة الرابعة في المطبعة السلفية سنة 1349، وهى بتحقيق الاستاذ محب الدين الخطيب. وقد عارضها بنسخة مخطوطة في دار الكتب المصرية، وصدرها بكلمة طيبة عن الباقلانى. ومع أن هذه الطبعة أحسن طبعات الكتاب جميعا، فإنها لم تخل من شوائب التصحيف والتحريف، والنقص الكثير: وفيها ما هو أكثر من ذلك. فقد كرر فيها كلام الباقلانى من السطر الحادى عشر من صفحة 17 إلى السطر الاول من ص 19، فأعيد بنصه وفصه ابتداء من السطر الثاني والعشرين من صفحة 217 إلى السطر التاسع من صفحة 219، مع أنه مقحم في هذا الموضع إقحاما يأباه المقام. ومن أمثلة النقص الواقع فيها: ما جاء في ص 41: " وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة. فرأيناه غير مختلف " وقد ورد هذا الكلام في طبعتنا كاملا ص 56 ". عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتا بينا، ويختلف اختلافا كبيرا. ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة فرأيناه غير مختلف ". ومنها في ص 70 وكقول على " حين سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنما قال ذلك والدين في قل ". وهو في طبعتنا: " حين سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود -: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك والدين في قل ". ومنها ما جاء في ص 77 " ومن البليغ عندهم الغلو، كقول النمر بن تولب " وهو في طبعتنا: " ومن البليغ عندهم الغلو والافراط في الصفة، كقول النمر بن تولب ". ومنها في ص 83 " إذا فريق منكم بربهم يشركون. ويعدون من البديع الموازنة.
وفى طبعتنا ص 133 "..يشركون. ومن هذا الجنس قول هند بنت النعمان للمغيرة بن شعبة، وقد أحسن إليها: برتك يد نالتها خصاصة بعد ثروة، وأغناك الله عن يد نالت ثروة بعد فاقة. ويعدون من البديع الموازنة ". ومنها في ص 87 " ونحوه صحة التفسير، كقول القائل ". وفى طبعتنا ص 143 " ونحوه صحة التفسير، وهو أن توضع معان تحتاج إلى شرح أحوالها، فإذا شرحت أثبتت تلك المعاني من غير عدول عنها، ولا زيادة ولا نقصان، كقول القائل ". وفى نفس الصفحة منها: " ومن البديع التكميل والتتميم، كقول نافع بن خليفة ". وهو في صفحتنا نفسها: " ومن البديع التكميل والتتميم وهو أن يأتي بالمعنى الذى بدأ به بجميع المعاني المصحة المتممة لصحته، المكملة لجودته، من غير أن يخل ببعضها، ولا أن يغادر شيئا منها. كقول القائل: وما عسيت أن أشكرك عليه من مواعيد لم تشن بمطل، ومرافد لم تشب بمن، وبشر لم يمازجه ملق، ولم يخالطه مذق. وكقول نافع بن خليفة ". ومنها في ص 220 " وكذلك لم يشتبه دعاء القنوت في أنه هل هو من القرآن أم، ولا يجوز أن يخفى عليهم " وهو في طبعتنا ص 242 "..هو من القرآن أم لا، قيل: هذا من تخليط الملحدين، لان عندنا أن الصحابة لم يخف عليهم ما هو من القرآن، ولا يجوز أن يخفى عليهم ". وقد رمزت إلى طبعة السلفية برمز " س " ووضعت كل زيادة عليها بين هاتين العلامتين [] . وأمثلة التحريف والتصحيف كثيرة مبينة في أماكنها من الكتاب، ولكنا نذكر منها: جاء في ص 66 منها " وفطنوا لحسنه فتتبعوه من بعد، وبنوا عليه وطلبوه، ورتبوا فيه المحاسن التي يقع الاضطراب بوزنها، وتهش النفوس إليها ". والصواب في طبعتنا ص 97 " التى يقع الاطراب بوزنها ". وجاء في ص 97 " كامرئ القيس، وزهير، والنابغة وإلى يومه، ونحن نبين تميز كلامهم ". والصواب في طبعتنا ص 167 " والنابغة، وابن هرمة، ونحن
نبين تميز كلامهم ". وجاء في ص 131 " وإنما قرع له الأصمعي إلى إفادته هذه الفائدة خشية أن يعاب عليه ". والصواب في طبعتنا ص 245 " وإنما فزع الأصمعي إلى إفادته هذه الفائدة، خشية أن يعاب عليه ". وجاء في ص 114 " هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو: اصطلحنا على وضع الحرب عن الناس عشرين سنة يأمن فيه الناس ". والصواب في طبعتنا ص 205 " اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيها الناس ". وجاء في ص 130 في كلام الباقلانى عن امرئ القيس: " ثم ترى أنفس الشعراء تتشوق إلى معارضته، وتساويه في طريقته، وربما عثرت في وجهه على أشياء كثيرة، وتقدمت عليه في أسباب عجيبة ". والصواب في طبعتنا ص 242 ". وربما غيرت في وجهه أشياء كثيرة ". وجاء في كلام الباقلانى على بيت امرئ القيس: وما ذرفت عيناكِ إلا لتضربي * * بسهميكِ في أعشار قلب مقتل ص 138 " لأنه إن كان محتاجاً - على ما وصف به نفسه من الصبابة فقلبه كله لها، فكيف يكون بكاؤها هو الذي يخلص قلبه لها؟ " والصواب كما في طبعتنا ص 260 " لانه إن كان محبا - على ما وصف به نفسه من الصبابة. " ص 100 " ثم ترى أنفس الشعراء تتشوق إلى معارضته، وتساويه في طريقته وربما عثرت في جهة على أشياء كثيرة، وتقدمت عليه في أسباب عجيبة " والصواب كما في طبعتنا ص 242 ". وربما غبرت في وجهه أشياء كثيرة. " ومن أجل ذلك وأمثاله رأيت أن أنشر الكتاب نشرة علمية قويمة، تقوم أوده، وتكمل نقصه، وكان لى ما أردت، بحمد الله وتوفيقه.
وقد اعتمدت في نشره على أربع نسخ خطية: فالنسخة الاولى: صورتها عن نسخة المتحف البريطاني رقم 7749 وعدد أوراقها 139 ورقة، وخطها نسخ جميل وقد ضبطت كلماتها بالحركات. وكتب في آخرها بخط يخالف خطها: " هذا ما كتبه المؤلف لخزانة كتب عضد الدولة، وطالع فيه الحسن ابن المؤلف، سنة تسع وتسعين بعد الثلثمائة ". ولست أمترى في أن هذه العبارة مزورة. قد كتبها كاتب ليضفى على النسخة قيمة تاريخية ليتسنى له بيعها بثمن مرتفع. وبعيد أن يكتب الباقلانى هذه النسخة لمكتبة عضد الدولة، ويكون فيها: " خطبة لقس بن ساعدة الايادي رضى الله عنه! "، ولا يعنى بتصحيحها وهذه النسخة مترعة بالتحريف، وتنقص بعض النصوص، كما هو مبين في أماكنه من الكتاب. وقد رمزت إلى هذه النسخة بالرمز " م ". والنسخة الثانية: صورتها عن نسخة مكتبة " كوبريلى " بالآستانة، وهى تقع في 104 ورقات، ومقاسها 5، 8 25 X، 16 وخطها نسخ مشكول بالحركات، وهى مخرومة من وسطها، وقد كتب في آخرها بخط ناسخها: " وكان الفراغ من نسخه سلخ الشهر المعظم رجب سنة ثمانية عشر وستمائة. علقه الشريف حسن بن الشريف محمد، بن الشريف على بن الشريف حسين، الحسينى، السمرقندى الناسخ، وصلوات الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما " وقد رمزت إليها بالحرف " ك ". والنسخة الثالثة: مخطوطة خاصة مجهولة التاريخ، وليس عليها ما يدل على اسم ناسخها، وهى مكتوبة بخط مغربي دقيق، غير مضبوطة وتقع في 112 ورقة وقد فقدت منها الورقة الاولى، وقد رمزت إليها بالحرف " ب ". والنسخة الرابعة صورتها عن النسخة المحفوظة بمكتبة " الاسكوريال " بأسبانيا تحت رقم 1435 وهى تقع في 125 ورقة، وقد جاء في آخرها: " وكان الفراغ منه في غرة ذى الحجة سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، نسخته من أصل الفقيه الامام أبى الحجاج: يوسف بن عبد العزيز اللخمى، الذى عليه خط شيخه عمدة أهل الحق، أبى عبد الله التميمي. وأخبرني أنه نسخها من نسخة صحيحة عليها
مكتوب: فرغ من نسخها في جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعمائة. وقال لى: توفى القاضى المؤلف، رحمه الله، سنة أربع وأربعمائة. وعارضت نسختي هذه بالاصل، وقرأتها عليه وهو يمسك أصله، والحمد لله رب العالمين " وقد رمزت إلى هذه النسخة بحرف " ا ". * * * وبعد، فإنى أحمد الله سبحانه أن وفقني لاخراج الكتاب على هذا النحو، فإن كنت أصبت فالخير أردت، وإن تكن الاخرى فحسبي أننى بذلت فيه وسعى، وفى لفتات النقاد ما يكمل النقص ويسد الخلل، والله ولى التوفيق. السيد أحمد صقر القاهرة يوم الخميس (18 من المحرم سنة 1374 هـ (16 من سبتمبر 1954 م
إعجاز القرآن للباقلاني أبى بكر محمد بن الطيب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المنعم على عباده بما هداهم إليه من الايمان، والمتمم إحسانه بما أقام لهم من جلى البرهان، الذى حمد نفسه بما (1) أنزل من القرآن، ليكون بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وهاديا إلى ما ارتضى لهم من دينه، وسلطانا أوضح وجه تبيينه (2) ، ودليلا على وحدانيته، ومرشدا إلى معرفة عزته وجبروته، ومفصحا عن صفات جلاله، وعلو شأنه وعظيم (3) سلطانه، وحجة لرسوله الذى أرسله به، وعلما على صدقه، وبينة على أنه أمينه على وحيه، وصادع بأمره. فما أشرفه من كتاب يتضمن صدق متحمله، ورسالة تشتمل على قول مؤديها. بين فيه سبحانه أن حجته كافية هادية، لا يحتاج مع وضوحها إلى بينة تعدوها، أو (4) حجة تتلوها، وأن الذهاب عنها كالذهاب عن الضروريات، والتشكك في المشاهدات. ولذلك قال عز ذكره: (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم / لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) (5) . وقال عز وجل: (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون. لقالوا: إنما سكرت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون) (6) . فله الشكر على جزيل إحسانه، وعظيم مننه. والصلاة على محمد المصطفى وآله، وسلم ومن أهم ما يجب على أهل دين الله كشفه، وأولى ما يلزم بحثه،
ما كان لاصل دينهم قواما، ولقاعدة توحيدهم عمادا (1) ونظاما وعلى صدق نبيهم، صلى الله عليه وسلم، برهانا، ولمعجزته ثبتا وحجة (2) . ولا سيما أن الجهل ممدود الرواق، شديد النفاق (3) ، مستول على الآفاق، والعلم إلى عفاء ودروس، وعلى خفاء وطموس، وأهله في جفوة الزمن البهيم (4) ، يقاسون من عبوسه لقاء الاسد الشتيم (5) حتى صار ما يكابدونه قاطعا عن الواجب من سلوك مناهجه، والاخذ في سبله. / فالناس بين رجلين: ذاهب عن الحق، ذاهل عن الرشد، وآخر مصدود عن نصرته، مكدود في صنعته. فقد أدى ذلك إلى خوض الملحدين، في أصول الدين، وتشكيكهم أهل الضعف في كل يقين. وقد قل أنصاره، واشتغل عنه أعوانه، وأسلمه أهله. فصار عرضة لمن شاء أن يتعرض فيه، حتى عاد مثل الامر الاول على ما خاضوا فيه عند ظهور أمره. فمن قائل قال: إنه سحر (6) ، وقائل يقول: إنه شعر (7) ، وآخر يقول: إنه أساطير الاولين (8) ، وقالوا: لو نشاء لقلنا مثل هذا (9) . إلى الوجوه التى حكى الله عز وجل عنهم أنهم قالوا فيه، وتكلموا به، فصرفوه إليه. وذكر لى عن بعض جهالهم أنه جعل يعدله ببعض الاشعار، ويوازن
بينه وبين غيره من الكلام، ولا يرضى بذلك حتى يفضله عليه! وليس هذا ببديع من ملحدة هذا العصر، وقد سبقهم إلى عظم (1) / ما يقولونه إخوانهم من ملحدة قريش وغيرهم. إلا أن أكثر من كان طعن فيه في أول أمره استبان رشده، وأبصر قصده، فتاب وأناب، وعرف من (2) نفسه الحق بغريزة طبعه، وقوة إتقانه، لا لتصرف لسانه، بل لهداية (3) ربه وحسن توفيقه. والجهل في هذا الوقت أغلب، والملحدون (4) فيه عن الرشد أبعد، وعن الواجب أذهب. وقد كان يجوز أن يقع ممن عمل الكتب النافعة في معاني القرآن، وتكلم في فوائده من أهل صنعة العربية وغيرهم من أهل صناعة الكلام، أن يبسطوا القول في الابانة عن وجه معجزته، والدلالة على مكانه. فهو أحق بكثير مما صنفوا فيه من القول في الجزء {والطفرة} (5) ، ودقيق الكلام في الاعراض، وكثير من بديع الاعراب وغامض النحو. فالحاجة إلى هذا أمس، والاشتغال به أوجب. وقد قصر بعضهم في هذه المسألة، حتى أدى ذلك إلى تحول قوم منهم إلى مذاهب البراهمة فيها، ورأوا أن عجز أصحابهم عن نصرة هذه المعجزة يوجب أن لا مستنصر (6) فيها، ولا وجه لها، حين رأوهم قد برعوا في لطيف ما أبدعوا، وانتهوا إلى الغاية فيما أحدثوا / ووضعوا. ثم رأوا ما صنفوه في هذا المعنى غير كامل في بابه، ولا مستوفى في وجهه، قد أخل بتهذيب طرقه، وأهمل ترتيب بيانه. وقد يعذر بعضهم في تفريط يقع منه فيه، وذهاب عنه، لان هذا الباب مما لا يمكن إحكامه إلا بعد (7) التقدم في أمور شريفة المحل، عظيمة المقدار، دقيقة المسلك لطيفة المأخذ.
وإذا انتهينا إلى تفصيل القول فيها، استبان ما قلناه من الحاجة إلى هذه المقدمات، حتى يمكن بعدها إحكام القول في هذا الشأن. وقد صنف " الجاحظ " في نظم القرآن كتابا، لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله، ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى. * * * وسألنا سائل أن نذكر جملة من القول جامعة، تسقط الشبهات، وتزيل الشكوك التى تعرض للجهال، وتنتهى إلى ما يخطر لهم، ويعرض لافهامهم من الطعن في وجه المعجزة. فأجبناه إلى ذلك، متقربين إلى الله عز وجل، ومتوكلين عليه وعلى حسن توفيقه ومعونته. ونحن نبين ما سبق فيه البيان من غيرنا، ونشير إليه ولا نبسط القول، لئلا يكون ما ألفناه مكررا ومقولا، بل يكون مستفادا من جهة هذا الكتاب خاصة. / ونصف ما يجب وصفه من القول في تنزيل متصرفات الخطاب، وترتيب وجوه الكلام، وما تختلف فيه طرق البلاغة، وتتفاوت من جهته سبل البراعة، وما يشتبه له ظاهر الفصاحة، ويختلف فيه المختلفون من أهل صناعة العربية، والمعرفة بلسان العرب في أصل الوضع. ثم ما اختلفت به مذاهب مستعمليه في فنون ما ينقسم إليه الكلام، من شعر ورسائل وخطب، وغير ذلك من مجارى الخطاب. وإن كانت هذه الوجوه الثلاثة أصول ما يبين فيه التفاصح، وتقصد فيه البلاغة، لان هذه أمور يتعمل لها في الاغلب، ولا يتجوز فيها. ثم من بعد هذا (1) الكلام الدائر في محاوراتهم. والتفاوت فيه أكثر،
لان التعمل فيه أقل، إلا من غزارة طبع، أو فطانة تصنع وتكلف. ونشير إلى ما يجب في كل واحد من هذه الطرق، ليعرف عظيم محل القرآن، وليعلم ارتفاعه عن مواقع هذه الوجوه، وتجاوزه الحد الذى يصح أو يجوز أن يوازن بينه وبينها، أو يشتبه ذلك على متأمل. ولسنا نزعم أنه يمكننا أن نبين ما رمنا بيانه، وأردنا شرحه وتفصيله، لمن كان عن معرفة الادب ذاهبا (1) وعن وجه اللسان غافلا، لان ذلك / مما لا سبيل إليه، إلا أن يكون الناظر فيما نعرض عليه مما قصدنا إليه من أهل صناعة العربية، قد وقف على جمل من محاسن الكلام ومتصرفاته ومذاهبه، وعرف جملة من طرق المتكلمين، ونظر في شئ من أصول الدين. وإنما ضمن الله عز وجل فيه البيان لمثل من وصفناه، فقال: (كِتَابٌ فَصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (2) . وقال: (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) (3) .
/ فصل في أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم معجزتها القرآن الذي يوجب الاهتمام التام بمعرفة إعجاز القرآن، أن بنوة نبينا عليه السلام بنيت (1) على هذه المعجزة، وإن كان قد أيد بعد ذلك بمعجزات كثيرة. إلا أن تلك المعجزات قامت في أوقات خاصة، وأحوال خاصة، وعلى أشخاص خاصة. ونقل بعضها نقلاً متواتراً يقع به العلم وجوداً. وبعضها مما نقل نقلاً خاصاً، إلا أنه حكى بمشهد من الجمع العظيم وأنهم شاهدوه، فلو كان الأمر على خلاف ما حكى لا نكروه، أو لا نكره بعضهم، فحل محل المعنى الأول، وإن لم يتواتر أصل النقل فيه. وبعضها مما نقل من جهة الآحاد، وكان وقوعه بين يدي الآحاد. فأما دلالة القرآن فهي عن معجزة عامة، عمت الثقلين، وبقيت بقاء العصرين. ولزوم الحجة بها في أول وقت ورودها إلى يوم القيامة على حد واحد، وإن كان قد يعلم بعجز أهل العصر الأول عن الاتيان / بمثله - وجه دلالته، فيغني ذلك عن نظر مجدد في عجز أهل هذا العصر عن الإتيان (2) بمثله. وكذلك قد يغني عجز أهل هذا العصر عن الإتيان بمثله، عن النظر في حال أهل العصر الأول. وإنما ذكرنا هذا الفصل، لما حكي عن " بعضهم " أنه زعم أنه وإن كان قد عجز عنه أهل العصر الأول فليس أهل هذا العصر بعاجزين عنه، ويكفي عجز أهل العصر الأول في الدلالة، لانهم خصوا بالتحدى دون غيرهم (3) .
ونحن نبين خطأ هذا القول في موضعه، إن شاء الله. فأما الذي يبين ما ذكرناه من أن الله تعالى حين ابتعثه جعل معجزته القرآن، وبنى أمر نبوته عليه - فسور كثيرة وآيات نذكر بعضها، وننبه بالمذكور على غيره، فليس يخفى بعد التنبيه على طريقه. فمن ذلك قوله تعالى: (الّر. كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِليكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظًّلًمَاتِ إِلى النُّورِ بإِذْنِ رَبِّهمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (1) فأخبر أنه أنزله ليقع الاهتداء به، ولا يكون كذلك إلا وهو حجة، ولا يكون حجة إن لم يكن معجزة. / وقال عز وجل: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكينَ استَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ) (2) فلولا أن سماعه إياه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه. ولا يكون حجة إلا وهو معجزة. وقال عز وجل: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) . وهذا بيّن جداً فيما قلناه، من إنه جعله سبباً لكونه منذراً. ثم أوضح ذلك بأن قال: (بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُّبِينٍ) (3) . فلولا أن كونه بهذا اللسان حجة، لم يعقب كلامه الأول به. وما من سورة افتتحت بذكر الحروف المقطعة إلا وقد أشبع فيها بيان ما قلناه. ونحن نذكر بعضها لتستدل بذلك على ما بعده. وكثير من هذه السور إذا تأملته فهو من أوله إلى آخره مبني على لزوم حجة القرآن، والتنبيه على وجه معجزته. فمن ذلك سورة المؤمن (4) . قوله عز وجل: (حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم) ثم وصف نفسه بما هو أهله من قوله تعالى: (غَافِرِ الذَّنبِ، وَقَابِلِ التَّوْبِ، شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الَّطْولِ، لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ، إِليْهِ الْمَصِيرُ. مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إَلا الَّذينَ كفروا فلا يغررك / تقلبهم في
البلاد) فدلّ على أن الجدال في تنزيله كفرٌ وإلحاد. ثم أخبر بما وقع (1) من تكذيب الأمم برسلهم، بقوله عز وجل: (كَذْبَتْ قَبْلَهُم قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِم، وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهمْ لِيَأْخُذُوهُ، وَجَادَلُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق) فتوعدهم بأنه آخذهم في الدنيا بذنبهم في تكذيب الانبياء. ورد براهينهم فقال تعالى: (فَأَخَذْتُهُم فَكيْفَ كَانَ عِقَابِ) . ثم توعدهم بالنار، فقال تعالى: (وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) . ثم عظّم شأن المؤمنين بهذه الحجة، بما أخبر من استغفار الملائكة لهم، وما وعدهم عليه من المغفرة، فقال تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد رَبِّهمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ للَّذِينَ آمنوُا: رَبَّنَا وسعت كل شئ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ للَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبعُوا سَبيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجحيمِ) . فلولا أنه برهان قاهر لم يذم الكفار على العدول عنه، ولم يحمد المؤمنين على المصير إليه. ثم ذكر تمام الآيات في دعاء الملائكة للمؤمنين، ثم عطف على وعيد الكافرين، فذكر آيات، ثم قال: (هُوَ الَّذي يُرِيكُمْ آياتِهِ) . فأمر بالنظر في آياته وبراهينه، إلى أن قال: (رَفِيعُ الَّدرَجاتِ ذو العرش، يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده، لينذر يوم التلاق) / فجعل القرآن والوحي به كالروح، لأنه يؤدي إلى حياة الأبد، ولأنه لا فائدة للجسد من دون الروح. فجعل هذا الروح سبباً (2) للانذار، وعلماً عليه، وطريقاً إليه. ولولا أن ذلك برهان بنفسه لم يصح أن يقع به الانذار والأخبار عما يقع عند مخالفته، ولم يكن الخبر عن الواقع في الآخرة عند ردهم دلالته (3) من الوعيد - حجة ولا معلوماً صدقه، فكان لا يلزمهم قبوله. فلما خلص من الآيات في ذكر الوعيد على ترك القبول، ضرب لهم
المثل بمن خالف الآيات، وجحد الدلالات والمعجزات، فقال: (أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبةُ الَّذينَ كَانُواْ مِنْ قَبْلهِمْ، كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الارض، فأخذهم الله بذنوبهم، وما كان لهم من الله من واق) . ثم بين أن عاقبتهم صارت إلى السوأى، بأن رسلهم كانت تأتيهم بالبينات، وكانوا لا يقبلونها منهم. فعلم أن ما قدم ذكره في السورة بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر قصة موسى ويوسف عليهما السلام، ومجيئهما بالبينات، ومخالفتهم حكمها، إلى أن قال تعالى: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْر سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ وَعِندَ الَّذينَ آمنُواْ، كَذَلِكَ يَطْبَعَ اللهُ / عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارِ) . فأخبر أن جدالهم في هذه الآيات لا يقع بحجة، وإنما يقع عن جهل، وإن الله يطبع على قلوبهم، ويصرفهم عن تفهم وجه البرهان. لجحودهم وعنادهم واستكبارهم. ثم ذكر كثيراَ من الاحتجاج على التوحيد، ثم قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذينَ يُجَادِلُونَ في آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) . ثم بين هذه الجملة، وإن من آياته الكتاب، فقال: (الَّذِينَ كَذَّبَوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) . إلى أن قال: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يأتي بآية إلا بإذن الله) . فدل على أن الآيات على ضربين: أحدهما كالمعجزات التي هي أدلة (1) في دار التكليف، والثاني الآيات التي ينقطع عندها العذر، ويقع عندها العلم الضروري، وإنها إذا جاءت ارتفع التكليف، ووجب الاهلاك. إلى أن قال تعالى: (فلم يك ينفعهم إيمانهم لَمَّا رَأَوْا بَأسَنَا) . فأعلمنا أنه قادر على هذه الآيات، ولكنه إذا أقامها زال التكليف، وحقت العقوبة على الجاحدين.
وكذلك ذكر في (حم) السجدة (1) على هذا المنهاج الذي شرحنا، فقال عز وجل: (حم. تنزيل الكتاب مِنَ الرحَّمْنِ الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فَصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً) فلولا أنه جعله / برهاناً لم يكن بشيراً ولا نذيراً، ولم يختلف بأن يكون عربياً مفصلاً أو بخلاف (2) ذلك. ثم أخبر عن جحودهم وقلة قبولهم، بقوله تعالى: (فَأعْرَضَ أَكْثَرُهُم فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) . ولولا أنه حجة لم يضرهم الإعراض عنه. وليس لقائل أن يقول: قد يكون حجة ولكن (3) يحتاج في كونه حجة إلى دلالة أخرى، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم حجة، ولكنه يحتاج إلى دلالة على صدقه، وصحة نبوته. وذلك: أنه إنما احتج عليهم بنفس هذا التنزيل، ولم يذكر حجة غيره. ويبين ذلك: أنه قال عقيب هذا: (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحُى إِلَيَّ) . فأخبر أنه مثلهم لولا الوحي. ثم عطف عليه بحمد المؤمنين به المصدقين له، فقال: (إِنَّ الَّذينَ آمنَوُا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونِ) . ومعناه: الذين آمنوا بهذا الوحي والتنزيل، وعرفوا هذه الحجة. ثم تصرف في الاحتجاج على الوحدانية والقدرة، إلى أن قال: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عادِ وثَمُودَ) . فتوعدهم بما أصاب من قبلهم من المكذبين بآيات الله من قوم عاد / وثمود في الدنيا. ثم توعدهم بأمر الآخرة، فقال: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) ، إلى انتهاء ما ذكره فيه. ثم رجع إلى ذكر القرآن، فقال: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهذَا القُرْآنِ والْغَوْا فيه لعلكم تغلبون) .
ثم أثنى بعد ذلك على من تلقاه بالقبول، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوْا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ الملائِكَةُ ألاَّ تَخَافُوا ولا تَحْزَنُوا وَأَبشِروا) . ثم قال: (وَإمَّا ينزغنك من الشيطان نزع فاستعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَليمُ) . وهذا ينبه على أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف إعجاز القرآن، وأنه دلالة له على جهة الاستدلال، لأن الضروريات لا يقع فيها نزع الشيطان. ونحن نبين ما يتعلق بهذا الفصل في موضعه. ثم قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنَا) ، إلى أن قال: (إَنَّ الَّذِينَ كفرا بِالذِّكْرِ لّمَّا جَاءَهُمْ، وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لاَّ يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خَلْفِهِ) . وهذا وإن كان متأولاً على أنه لا يوجد فيه غير الحق مما يتضمنه من أقاصيص الأولين وأخبار المرسلين، وكذلك لا يوجد خلف فيما يتضمنه (1) من الأخبار عن الغيوب وعن الحوادث التي أنبأ أنها تقع في الاتى - فلا يخرج عن أن يكون متأولاً على ما يقتضيه نظام الخطاب، مع أنه لا يأتيه ما يبطله من شبهة سابقة / تقدح في معجزته أو تعارضه في طريقه. وكذلك لا يأتيه من بعده قط أمر يشكك في وجه دلالته [وإعجازه] . وهذا أشبه بسياق الكلام ونظامه. ثم قال: (وَلَوْ جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا: لولا فصلت آياته، أأَعْجمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) (2) فأخبر أنه لو كان أعجمياً لكانوا يحتجون في رده: إما بأن ذلك خارج عن عرف خطابهم، أو كانوا يعتذرون بذهابهم عن معرفة معناه وبأنهم لا يبين (3) لهم وجه الإعجاز فيه. لأنه ليس من شأنهم ولا من لسانهم، أو بغير ذلك من الأمور، وأنه إذا تحداهم إلى ما هو من لسانهم وشأنهم فعجزوا عنه - وجبت الحجة عليهم به، على ما نبينه في وجه هذا الفصل. إلى أن قال: (قُلْ أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به، من أضل ممن هو في شقاق بعيد) .
والذى ذكرناه من نظم هاتين السورتين ينبه على غيرهما من السور، فكر هنا سرد القول فيها. فليتأمل المتأمل ما دللناه عليه يجده كذلك. ثم مما يدل على هذا قوله عز وجل: (وقالوا: لولا أنزل عليه آيات من ربه، قل إنما الآيات عند الله، وإنما أنا نذير مبين. أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) (1) فأخبر أن الكتاب آية من / آياته، وعلم من أعلامه، وإن ذلك يكفي في الدلالة، ويقوم مقام معجزات غيره وآيات سواه من الأنبياء، صلوات الله عليهم. ويدل عليه قوله عز وجل: (تبارك الذي نزل الفرقان عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً، الَّذِي لَهُ ملك السموات والارض) (2) . ويدل عليه قوله: (أم يقولون افترى على الله كذبا، فإن يشإ الله يختم على قلبك، ويمحوا الله الباطل ويحق الحق بكلماته) (3) . فدل على أنه جعل قلبه مستودعاً لوحيه، ومستنزلاً لكتابه، وأنه لو شاء صرف ذلك [عنه} إلى غيره. وكان له حكم دلالته على تحقيق الحق، وإبطال الباطل مع صرفه عنه. ولذلك أشباه كثيرة تدل على نحو الدلالة التي وصفناها. فبان بهذا وبنظائره (4) ما قلناه، من أن بناء نبوته صلى الله عليه وسلم على دلالة القرآن ومعجزته، وصار له من الحكم في دلالته على نفسه وصدقه أنه يمكن أن يعلم أنه كلام الله تعالى، وفارق حكمه حكم غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء، لأنها لا تدل على أنفسها إلا بأمر زائد عليها، ووصف منضاف (5) إليها، لأن نظمها ليس معجزاً (6) ، وإن / كان ما تتضمنه (7) من الأخبار عن الغيوب (8) معجزاً. وليس كذلك القرآن، لأنه يشاركها في هذه الدلالة، ويزيد عليها
في أن نظمه معجز، فيمكن أن يستدل به عليه، وحل في هذا من وجه محل سماع الكلام من القديم سبحانه وتعالى، لأن موسى عليه السلام لما سمع كلامه علم أنه في الحقيقة كلامه. وكذلك من يسمع القرآن يعلم أنه كلام الله، وإن اختلف الخال في ذلك من بعض الوجوه، لأن موسى عليه السلام سمعه من الله عز وجل، وأسمعه نفسه متكلماً، وليس كذلك الواحد منا. وكذلك قد يختلفان في غير هذا الوجه، وليس ذلك قصدنا بالكلام في هذا الفصل. والذى نرومه الآن ما بيناه من اتفاقهما في المعنى الذى وصفناه، وهو: أنه عليه السلام يعلم أن ما يسمعه كلام الله من جهة الاستدلال، وكذلك نحن نعلم ما نقرؤه (1) من هذا على جهة الاستدلال.
/ فصل في [بيان وجه] الدلالة على أن القرآن معجز قد ثبت بما بينا في الفصل الأول أن نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم مبنية على دلالة معجزة القرآن. فيجب أن نبين وجه الدلالة من ذلك: قد ذكر العلماء أن الأصل في هذا هو: أن يعلم أن القرآن، الذى هو متلو محفوظ مرسوم في المصاحف، هو الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه هو الذي تلاه على من في عصره ثلاثا وعشرين سنة. والطريق إلى معرفة ذلك هو النقل المتواتر، الذي يقع عنده العلم الضروري به. وذلك أنه قام به في المواقف، وكتب به إلى البلاد، وتحمله عنه إليها من تابعه، وأورده على غيره ممن لم يتابعه، حتى ظهر فيهم الظهور الذي لا يشتبه على أحد، ولا يخيل أنه قد خرج من أتى بقرآن يتلوه، ويأخذه على غيره، ويأخذه غيره على الناس، حتى انتشر ذلك في أرض العرب كلها، وتعدى إلى الملوك المصاقبة لهم، كملك الروم والعجم والقبط والحبش، وغيرهم من ملوك الاطراف. ولما ورد ذلك مضاداً لأديان أهل ذلك العصر كلهم، ومخالفاً لوجوه اعتقاداتهم المختلفة في الكفر - وقف جميع أهل الخلاف على جملته، ووقف جميع أهل دينه الذين أكرمهم الله بالإيمان على جملته / وتفاصيله، وتظاهر بينهم، حتى حفظه الرجال، وتنقلت به الرحال، وتعلمه الكبير والصغير، إذ كان عمدة دينهم، وعلماً عليه، والمفروض تلاوته في صلواتهم، والواجب استعماله في أحكامهم.
ثم تناقله خلف عن سلف هم (1) مثلهم في كثرتهم وتوفر دواعيهم على نقله، حتى انتهى إلينا، على ما وصفناه من حاله. فلن يتشكك أحد، ولا يجوز أن يتشكك، مع وجود هذه الأسباب، في أنه أتى بهذا القرآن من عند الله تعالى. فهذا أصل. وإذا ثبت هذا الأصل وجوداً، فإنا نقول: إنه تحداهم إلى (2) أن يأتوا بمثله، وقرعهم على ترك الإتيان به، طول السنين التي وصفناها، فلم يأتوا بذلك. [وهذا أصل ثان] . والذي يدل على هذا الأصل: أنا قد علمنا أن ذلك مذكور في القرآن في المواضع الكثيرة، كقوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبِ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأتُواْ بِسُورَةٍ مِن مِّثْلِهِ، وَادْعُواْ شَهدَاءَكُمِ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينْ. فَإِن لَّم تَفْعَلُواْ وَلَنْ تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتي وَقُودُها النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ للِّكَافِرِينَ) (3) . وكقوله: (أم يَقُولُونَ افتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُورٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، وَادعُواْ مَن اسْتَطَعْتُم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن / لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُم فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُّنْزِلَ بِعِلِمِ اللَّهِ، وأَنْ لاَّ إلهَ إلاَّ هُوَ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون) (4) . فجعل عجزهم عن الإتيان بمثله دليلاً على أنه منه، ودليلاً على وحدانيته. وذلك يدل عندنا على بطلان قول من زعم أنه لا يمكن أن تعلم بالقرآن الوحدانية، وزعم أن ذلك مما لا سبيل إليه إلا من جهة العقل، لأن القرآن كلام الله عز وجل، ولا يصح أن يعلم الكلام حتى يعلم المتكلم أو لا. فقلنا: إذا ثبت بما نبينه إعجازه، وأن الخلق لا يقدرون عليه - ثبت أن الذي أتى به غيرهم، وأنه إنما يختص بالقدرة عليه من يختص بالقدرة عليهم، وأنه صدق. وإذا كان كذلك كان ما يتضمنه صدقاً، وليس إذا أمكن معرفته من جهة العقل امتنع أن يعرف من [طريق القرآن، بل
يمكن عندنا أن يعرف من] الوجهين. وليس الغرض تحقيق القول في هذا الفصل، لأنه خارج عن مقصود كلامنا، ولكنا ذكرناه من جهة دلالة الآية عليه. ومن ذلك قوله عز وجل: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتو ابمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كَانَ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ ظَهيراً) (1) وقوله: (أمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ، بَلْ لاَّ يُؤْمِنْونَ. فَلْيَأْتُواْ بِحَديثٍ / مِّثْلِهِ إن كانوا صادقين) (2) فقد ثبت بما بيناه أنه تحداهم إليه، ولم يأتوا بمثله. وفي هذا أمران: أحدهما التحدي إليه. والآخر أنهم لم يأتوا له بمثل (3) . والذي يدل على ذلك النقل المتواتر الذي يقع به العلم الضروري، فلا يمكن جحود واحد من هذين الامرين. وإن قال قائل: لعله لم يقرأ عليهم الآيات التي فيها ذكر التحدي، وإنما قرأ عليهم ما سوى ذلك من القرآن -: كان ذلك قولا باطلا، يعلم بطلانه بمثل (4) ما يعلم به بطلان قول [من زعم] أن القرآن أضعاف هذا! وهو يبلغ حمل جمل! وأنه كتم، وسيظهره [المهدي] ! ! ! أو يدعي أن هذا القرآن ليس هو الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو شئ وضعه عمر أو عثمان، رضي الله عنهما، حيث وضع (5) المصحف. أو يدعى فيه زيادة أو نقصانا. وقد ضمن الله حفظ كتابه أن يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، ووعده الحق. وحكاية قول من قال ذلك يغني عن الرد عليه. لأن العدد الذين / أخذوا القرآن في الأمصار وفي البوادي، وفي الاسفار والحضر، وضبطوه حفظا،
من بين صغير وكبير، وعرفوه حتى صار لا يشتبه على أحد منهم حرف - لا يجوز عليهم السهو والنسيان، ولا التخليط فيه والكتمان. ولو زادوا أو نقصوا أو غيروا لظهر. وقد علمت أن شعر امرئ القيس وغيره - على أنه لا يجوز أن يظهر ظهور القرآن، ولا أن يحفظ كحفظه، ولا أن يضبط كضبطه، ولا أن تمس الحاجة إليه إمساسها (1) إلى القرآن - لو زيد فيه بيت، أو نقص منه بيت، لا، بل لو غير فيه لفظ - لتبرأ منه أصحابه، وأنكره أربابه. فإذا كان ذلك مما لا يمكن [أن يكون] في شعر امرئ القيس ونظرائه، مع أن الحاجة إليه تقع لحفظ العربية، فكيف يجوز أو يمكن ما ذكروه في القرآن، مع شدة الحاجة إليه في [الصلاة التى هي] أصل الدين، ثم في الأحكام والشرائع، واشتمال الهمم المختلفة على ضبطه: فمنهم من يضبطه لإحكام قراءته ومعرفة وجوهها، وصحة أدائها. ومنهم من يحفظه للشرائع والفقه. ومنهم من يضبطه ليعرف تفسيره ومعانيه. ومنهم من يقصد بحفظه الفصاحة والبلاغة. / ومن الملحدين من يحصله لينظر في عجيب شأنه. وكيف يجوز على أهل هذه الهمم المختلفة والآراء المتباينة - على كثرة أعدادهم، واختلاف بلادهم، وتفاوت أغراضهم - أن يجتمعوا على التغيير والتبديل والكتمان؟ ! ويبين ذلك: أنك إذا تأملت ما ذكر في أكثر السور مما بينا، ومن نظائره في رد قومه عليه ورد غيرهم، وقولهم: (لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا) (2) [وقول بعضهم: إن ذلك سحر] ، وقول بعضهم: (ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة، إِنْ هَذَا إلاَّ اخْتِلاقٌ) (3) إلى الوجوه التي يصرف إليها قولهم في الطعن عليه.
فمنهم من يستهين بها (1) ويجعل ذلك سبباً لتركه الإتيان بمثله. ومنهم من يزعم أنه مفترى، فلذلك لا يأتي بمثله ومنهم من يزعم أنه دارس، وأنه أساطير الاولين. وكرهنا أن نذكر كل آية تدل على تحديه، لئلا يقع التطويل. ولو جاز أن يكون بعضه مكتوما لجاز على كله. ولو جاز أن يكون بعضه موضوعا لجاز ذلك في كله. فثبت بما بيناه أنه تحداهم به، وأنهم لم يأتوا بمثله (2) . وهذا الفصل قد بينا أن الجميع قد ذكروه وبنوا عليه. / فإذا ثبت هذا وجب أن يعلم بعده أن تركهم للإتيان بمثله كان لعجزهم عنه. والذي يدل على أنهم كانوا عاجزين عن الإتيان بمثل القرآن: أنه تحداهم إليه حتى طال التحدي، وجعله دلالة على صدقه ونبوته، وضمن (3) أحكامه استباحة دمائهم وأموالهم وسبي ذريتهم، فلو كانوا يقدرون على تكذيبه لفعلوا، وتوصلوا إلى تخليص أنفسهم وأهليهم وأموالهم من حكمه، بأمر قريب، هو عادتهم في لسانهم، ومألوف من خطابهم، وكان ذلك يغنيهم عن تكلف القتال، وإكثار المراء والجدال، وعن الجلاء عن الأوطان، وعن تسليم الأهل والذرية للسبي. فلما لم تحصل هناك معارضة منهم، علم أنهم عاجزون عنها. يبين ذلك أن العدو يقصد لدفع قول (4) عدوه بكل ما قدر عليه من المكايد، لا سيما مع استعظامه ما بدهه بالمجئ من (5) خلع آلهته، وتسفيه رأيه في ديانته، وتضليل آبائه، والتغريب عليه بما جاء به، وإظهار أمر يوجب الانقياد لطاعته، والتصرف على حكم إرادته، والعدول عن إلفه وعادته، والانخراط، في سلك الاتباع بعد أن كان متبوعاً، والتشييع بعد
أن كان مشيعاً، وتحكيم الغير في ماله، وتسليطه إياه على جملة أحواله، والدخول تحت تكاليف شاقة، / وعبادات متعبة، بقوله، وقد علم أن بعض هذه الاحوال مما يدعو إلى سلب النفوس دونه. هذا، والحمية حميتهم، والهمم الكبيرة هممهم، وقد بذلوا له السيف فأخطروا (1) بنفوسهم وأموالهم. فكيف يجوز أن لا يتوصلوا إلى الرد عليه وإلى تكذيبه بأهون سعيهم ومألوف أمرهم، وما يمكن تناوله من غير أن يعرق فيه (2) جبين، [أو ينقطع دونه وتين] ، أو يشتمل به خاطر، وهو لسانهم الذي يتخاطبون به، مع بلوغهم في الفصاحة النهاية التي ليس وراءها متطلع، والرتبة التى ليس فوقها (3) منزع؟ ! ومعلوم أنهم لو عارضوه بما تحداهم إليه لكان فيه توهين أمره، وتكذيب. قوله، وتفريق جمعه، وتشتيت أسبابه، وكان من صدق به يرجع على أعقابه، ويعود في مذهب أصحابه. فلما لم يفعلوا شيئاً من ذلك، مع طول المدة، ووقوع الفسحة، وكان أمره يتزايد حالاً فحالاً، ويعلو شيئاً فشيئاً، وهم على العجز عن القدح في آيته، والطعن [بما يؤثر] في دلالته - علم مما (4) بينا أنهم كانوا لا يقدرون على معارضته، ولا على توهين حجته. / وقد أخبر الله تعالى عنهم: أنهم (قوم خصمون) (5) وقال: (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوماً لُدّاً) (6) ، وقال: (خَلَقَ الإنْسَانَ مِن نٌطْفَةٍ فإِذَا هُوَ خَصيمٌ مُبينٌ) (7) . وعلم أيضا ما كانوا (8) يقولونه من وجوه اعتراضهم على القرآن، مما حكى الله عز وجل عنهم في قولهم: (لَوْ نَشَاءُ لُقُلنَا مِثْلَ هَذَا، إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَّوَّلينَ) (9) وقولهم: (مَا هَذَا إلا سحر مفترى، وما سمعنا
بِهَذا في آبائِنَا الأَّوَّلينَ) (1) وقالوا: (يَا أَيُّها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (2) وقالوا: (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (3) وقالوا: (أَئِنَّا لَتَارِكُواْ آلهتنا لشاعر مجنون) (4) ، وقال: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ: إِنْ هّذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرونَ، فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً، وَقَالُواْ: أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً / وَأَصِيلاُ) (5) ، (وَقَالَ الظَّالِمُونَ: إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً) (6) ، وقوله: (الَّذِينَ جَعَلُواْ القُرآنَ عِضِيَن) (7) . إلى آيات كثيرة في نحو هذا، تدل على أنهم كانوا متحيرين في أمرهم، متعجبين من عجزهم، يفزعون إلى نحو هذه الأمور: من تعليل وتعذير، ومدافعة بما وقع التحدي إليه، ووجد (8) الحث عليه. وقد علم منهم أنهم ناصبوه الحرب، وجاهدوه (9) ونابذوه، وقطعوا الأرحام، وأخطروا بأنفسهم، وطالبوه بالآيات والاتيان [بالملائكة] وغير ذلك من المعجزات، يريدون تعجيزه ليظهروا عليه بوجه من الوجوه. فكيف يجوز أن يقدروا على معارضته القريبة السهلة عليهم - وذلك يدحض حجته، ويفسد دلالته، ويبطل أمره - فيعدلون عن ذلك إلى سائر ما صاروا إليه من الامور التى ليس عليها مزيد في المنابذة والمعاداة، ويتركون الأمر الخفيف؟ ! هذا مما يمتنع وقوعه في العادات، ولا يجوز اتفاقه (10) من العقلاء. وإلى هذا [الموضع] قد استقصى أهل العلم الكلام، وأكثروا في هذا المعنى وأحكموه. / ويمكن أن يقال: إنهم لو كانوا قادرين على معارضته والإتيان بمثل ما أتى به، لم يجز أن يتفق منهم ترك المعارضة، وهم على ما هم عليه من
الذرابة والسلاقة (1) ، والمعرفة بوجوه الفصاحة، وهو يستطيل عليهم بأنهم عاجزون عن مباراته، وأنهم يضعفون عن مجاراته. ويكرر (2) فيما جاء به ذكر عجزهم عن مثل ما يأتي به، ويقرّعهم ويؤنبهم عليه، ويدرك آماله فيهم، وينجح ما سعى له في تركهم (3) المعارضة. وهو يذكر فيما يتلوه تعظيم شأنه، وتفخيم أمره، حتى يتلو قوله تعالى: (قُلْ لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهيراً) (4) ، وقوله: (يُنَزّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنا فَاتَّقُونِ) (5) ، وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِن الْمَثانِي وَالْقُرآنَ الْعَظِيمَ) ، (6) وقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (7) ، وقوله: (وَإِنَّهُ لَذِكرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوفَ تُسْئَلُونَ) (8) وقوله: (هُدىً لّلْمُتَّقِينَ) (9) ، وقوله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) (10) . إلى غير ذلك من الآيات التي تتضمن تعظيم شأن القرآن. فمنها ما يتكرر في السورة في مواضع منها، ومنها ما ينفرد فيها. وذلك مما يدعوهم إلى المباراة، ويحضهم على المعارضة، وإن لم يكن متحدياً إليه. ألا ترى أنهم قد ينافر شعراؤهم بعضهم بعضاً؟ ولهم في ذلك مواقف معروفة، وأخبار مشهورة، وآثار منقولة مذكورة (11) . وكانوا يتنافسون على الفصاحة والخطابة والذلاقة، ويتبجحون بذلك، ويتفاخرون بينهم.
فلن يجوز - والحال هذه - أن يتغافلوا عن معارضته لو كانوا قادرين عليها تحداهم أو لم يتحدهم إليها. ولو كان هذا القبيل مما يقدر عليه البشر، لوجب في ذلك أمر آخر، وهو: أنه لو كان مقدورا للعباد لكان قد اتفق إلى وقت مبعثه من هذا لقبيل ما كان يمكنهم أن يعارضوه به، وكانوا لا يفتقرون إلى تكلف وضعه، وتعمل نظمه في الحال. / فلما لم نرهم احتجوا عليه بكلام سابق، وخطبة متقدمة ورسالة سالفة، ونظم بديع، ولا عارضوه به فقالوا: هذا أفصح مما جئت به وأغرب منه أو هو مثله - علم أنه لم يكن إلى ذلك سبيل، وأنه لم يوجد له نظير. ولو كان وجد له مثل لكان ينقل إلينا، ولعرفناه، كما نقل إلينا أشعار أهل الجاهلية، وكلام الفصحاء والحكماء من العرب، وأدى إلينا كلام الكهان وأهل الرجز والسجع والقصيد، وغير ذلك من أنواع بلاغاتهم، وصنوف فصاحاتهم. فإن قيل: الذي بنى عليه الأمر في تثبيت معجزة القرآن: أنه وقع التحدي إلى الإتيان بمثله، وأنهم عجزوا عنه بعد التحدي إليه، فإذا نظر الناظر وعرف وجه النقل المتواتر في هذا الباب - وجب له العلم بأنهم كانوا عاجزين عنه. وما ذكرتم يوجب سقوط تأثير التحدي، وإن ما أتى به قد عرف العجز عنه بكل حال. قيل: إنما احتيج إلى التحدي لإقامة الحجة، وإظهار وجه البرهان [على الكافة] . لأن المعجزة إذا ظهرت فإنما تكون حجة بأن يدعيها من ظهرت عليه، ولا تظهر على مدعٍ لها إلا وهي معلومة أنها من عند الله. فإذا كان يظهر وجه الإعجاز فيها للكافة بالتحدي وجب فيها التحدي. لانه تزول بذلك الشبهة عن الكل، وينكشف للجميع أن / العجز واقع في المعارضة. وإلا كان (1) مقتضى ما قدمناه من الفصل أن من كان يعرف وجوه الخطاب، ويفتن في مصارف (2) الكلام، وكان كاملاً في فصاحته، جامعاً للمعرفة بوجوه الصناعة - لو أنه احتج عليه بالقرآن، وقيل له، إن الدلالة على النبوة والآية للرسالة ما تلوته (3) عليك منه،
لكان ذلك بالغا (1) في إيجاب الحجة [عليه] ، وتماما في إلزامه فرض المصير إليه. ومما يؤكد هذا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا الآحاد إلى الإسلام، محتجا عليهم بالقرآن، لانا نعلم [ضرورة] أنه لم يلزمهم تصديقه تقليداً، ونعلم أن السابقين الاولين إلى الاسلام لم يقلدوه، إنما دخلوا على بصيرة. ولم نعلمه قال لهم: إرجعوا إلى جميع الفصحاء، فإن عجزوا عن الاتيان بمثله فقد ثبت حجتي. بل لما رآهم يعلمون إعجازه، ألزمهم حكمه فقبلوه، وتابعوا الحق، وبادروا إليه مستسلمين، ولم يشكوا في صدقه، ولم يرتابوا في وجه دلالته. فمن كانت بصيرته أقوى، ومعرفته أبلغ، كان إلى القبول منه / أسبق. ومن اشتبه عليه وجه الاعجاز، أو خفى (2) عليه بعض شروط المعجزات وأدلة النبوات - كان أبطأ إلى القبول، حتى تكاملت أسبابه، واجتمعت له بصيرته وترادفت عليه مواده. وهذا فصل يجب أن يتمم القول فيه [من] بعد، فليس هذا بموضع له. ويبين ما قلناه: أن هذه الآية علم يلزم الكل قبوله والانقياد له، وقد علمنا تفاوت الناس في إدراكه، ومعرفة وجه دلالته، لأن الأعجمي لا يعلم أنه معجز إلا بأن يعلم عجز العرب عنه. وهو يحتاج في معرفة ذلك إلى أمور لا يحتاج إليها من كان من أهل صنعة الفصاحة. فإذا عرف عجز أهل الصنعة حل محلهم، وجرى مجراهم في (3) توجه الحجة عليه. وكذلك لا يعرف المتوسط من أهل اللسان، من هذا الشأن، ما يعرفه العالي في هذه الصنعة. فربما حل في ذلك محل الأعجمي، في أن لا تتوجه عليه الحجة حتى يعرف عجز المتناهي في الصنعة عنه. وكذلك لا يعرف المتناهي في معرفة الشعر وحده، أو الغاية في معرفة الخطب أو الرسائل وحدهما -[من] غور هذا الشأن - ما يعرف من استكمل معرفة
جميع تصاريف الخطاب ووجوه / الكلام وطرق البراعة. فلا تكون الحجة قائمة على المختص ببعض هذه العلوم بانفرادها دون تحققه لعجز (1) البارع في هذه العلوم كلها عنه. فأما من كان متناهياً في معرفة وجوه الخطاب وطرق البلاغة والفنون التي يمكن فيها إظهار الفصاحة، فهو متى سمع القرآن عرف إعجازه. وإن لم نقل ذلك أدى هذا القول إلى أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف إعجاز القرآن حين أوحي إليه، حتى سبر الحال بعجز أهل اللسان عنه! وهذا خطأ من القول. فصح من هذا الوجه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أوحي إليه القرآن عرف كونه معجزا، أو عرف - بأن (2) قيل له: إنه دلالة وعلم على نبوتك. - إنه كذلك، من قبل أن يقرأه على غيره أو يتحدى إليه سواه. ولذلك قلنا: إن المتناهي في الفصاحة والعلم بالأساليب التي يقع فيها التفاصح، متى سمع القرآن عرف أنه معجز، لأنه يعرف من حال نفسه أنه لا يقدر عليه، وهو يعرف من حال غيره مثل ما يعرف من حال نفسه، فيعلم أن عجز غيره كعجزه هو. وإن كان يحتاج بعد هذا إلى / استدلال آخر على أنه علم على نبوته، ودلالة على رسالته (3) بأن يقال له: إن هذه آية لنبى، وإنها (4) ظهرت عليه، وادعاها معجزة له، وبرهاناً على صدقه. فإن قيل: فإن من الفصحاء من يعلم عجز نفسه عن قول الشعر، ولا يعلم مع ذلك عجز غيره عنه. فكذلك البليغ، وإن علم عجز نفسه عن مثل القرآن، فهو يخفى عليه عجز غيره. قيل: هو مع مستقر العادة، وإن عجز عن قول الشعر، وعلم أنه مفحم، فإنه يعلم أن الناس لا ينفكون من وجود الشعراء فيهم. ومتى علم البليغ المتناهي في صنوف البلاغات عجزه عن القرآن، علم عجز غيره عنه، وأنه كهو، لأنه (5) يعلم أن حاله وحال غيره في هذا الباب سواء.
إذ ليس في العادة مثل للقرآن يجوز أن (1) يعلم قدرة أحد من البلغاء عليه. فإذا لم يكن لذلك مثل في العادة - وعرف هذا الناظر جميع أساليب الكلام، وأنواع الخطاب، ووجد القرآن مبايناً لها - علم خروجه عن العادة، وجرى مجرى ما يعلم أن إخراج اليد البيضاء من الجيب خارج عن العادات، فهو لا يجوزه من نفسه، وكذلك لا يجوز وقوعه من غيره، إلا على وجه نقض العادة، بل يرى وقوعه / موقع المعجزة. وهذا وإن كان يفارق فلق البحر، وإخراج اليد البيضاء ونحو ذلك من وجه، فهو (2) أنه يستوي الناس في معرفة عجزهم عنه، بكونه (3) ناقضاً للعادة، من غير تأمل شديد، ولا نظر بعيد. فإن النظر في معرفة إعجاز القرآن يحتاج إلى تأمل، ويفتقر إلى مراعاة مقدمات، والكشف عن أمور نحن ذاكروها بعد هذا الموضع. فكل واحد منهما (4) يؤول إلى مثل حكم صاحبه، في الجمع الذى قدمناه..ومما يبين ما قلناه -: من أن البليغ المتناهي في وجوه الفصاحة يعرف إعجاز القرآن، وتكون معرفته حجة عليه، إذا تحدى إليه وعجز عن مثله، وإن لم ينتظر وقوع التحدي في غيره، وما لذى يصنع ذلك بالغير. - فهو ما روي في الحديث أن جبير بن مطعم ورد على النبي صلى الله عليه وسلم في معنى حليف له، أراد أن يفاديه، فدخل والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة (وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ) في صلاة الفجر، قال: فلما انتهى إلى قوله: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ، مَّا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) ، قال: خشيت أن يدركني العذاب. فأسلم (5) . وفي حديث آخر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع سورة (طه) فأسلم (6) . وقد رُوي أن قوله عز وجل في أول (حم) السجدة إلى قوله (فأعرض أكثر هم فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) (7) نزلت في شيبة وعتبة ابني ربيعة، وأبي سفيان بن حرب، وأبي جهل. وذكر أنهم بعثوا هم وغيرهم من وجوه قريش، بعتبة بن ربيعة
إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليكلمه، وكان حسن الحديث، عجيب البيان (1) بليغ الكلام،. وأرادوا أن يأتيهم بما عنده فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة (حم) السجدة، من أولها حتى انتهى إلى قوله: (فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُم صَاعِقةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) ، فوثب مخافة العذاب، فاستحكوه ما سمع فذكر أنه لم يفهم (2) منه كلمة واحدة، ولا اهتدى لجوابه. ولو كان ذلك من جنس كلامهم لم يخف عليه وجه الاحتجاج والرد. فقال له عثمان بن مظعون: لتعلموا أنه من عند الله، إذ لم يهتد لجوابه (3) . وأبين من ذلك قول الله عز وجل: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكينَ استَجَارَكَ فَأَجِرْهُ، حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (4) فجعل سماعه حجة عليه بنفسه، فدل على أن فيهم من يكون سماعه إياه حجة عليه. فإن قيل: لو كان [كذلك] على ما قلتم، لوجب أن يكون حال / الفصحاء الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، على طريقة واحدة في إسلامهم عند سماعه. قيل له: لا يجب ذلك، لأن صوارفهم كانت كثيرة، منها أنهم كانوا يشكون: ففيهم (5) من يشك في إثبات الصانع، وفيهم من يشك في التوحيد، وفيهم من يشك في النبوة. ألا ترى أن أبا سفيان بن حرب، لما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم عام الفتح، قال له النبي عليه السلام: أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى. فشهد، قال: أما آن لك أن تشهد أني رسول الله؟ قال: أما هذه ففي النفس منها شئ؟ ! فكانت وجوه شكوكهم مختلفة، وطرق شبههم متباينة، فمنهم من قلت شبههه، وتأمل الحجة حق تأملها ولم يستكبر، فأسلم. ومنهم من كثرت شبهه، أو أعرض (6) عن تأمل الحجة حق تأملها، أو لم يكن في البلاغة على حدود النهاية، فتطاول عليه الزمان إلى أن نظر واستبصر، وراعى واعتبر، واحتاج إلى أن يتأمل (7) عجز غيره عن الاتيان بمثله، فلذلك وقف أمره.
ولو كانوا في الفصاحة على مرتبة واحدة، وكانت صوارفهم وأسبابهم متفقة - لتوافوا إلى القبول جملة واحدة. / فإن قيل: فكيف يعرف البليغ الذي وصفتموه إعجاز القرآن؟ وما الوجه الذي يتطرق به إليه، والمنهاج الذي يسلكه، حتى يقف به على جلية الأمر فيه؟ قيل: هذا سبيله أن يفرد له فصل. * * * فإن قيل: فلم زعتم أن البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله مع قدرتهم على صنوف البلاغات، وتصرفهم في أجناس الفصاحات؟ وهلاّ قلتم: إن من قدر على جميع هذه الوجوه البديعة بوجه (1) من هذه الطرق الغريبة - كان على مثل نظم القرآن قادراً، وإنما يصرفه الله عنه ضرباً من الصرف، أو يمنعه من الإتيان بمثله ضرباً من المنع، أو تقصر دواعيه [إليه] دونه، مع قدرته عليه. ليتكامل ما أراده الله من الدلالة، ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة، لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين، لم يعجز عن نظم مثلها، وإذا قدر على ذلك قدر على ضم الثانية إلى الأولى، وكذلك الثالثة، حتى يتكامل قدر الآية والسورة؟ فالجواب: أن لو صح ذلك لصح لكل من أمكنه نظم ربع بيت، أو مصراع من بيت - أن ينظم القصائد ويقول الأشعار، وصح لكل ناطق - قد يتفق في كلامه الكلمة البديعة - نظم الخطب البليغة والرسائل العجيبة! ومعلوم أن ذلك غير سائغ ولا ممكن. على أن ذلك لو لم يكن معجزاً على ما وصفناه من جهة نظمه / الممتنع، لكان مهما حط من رتبة البلاغة فيه، ومنع (2) من مقدار الفصاحة في نظمه، [كان] أبلغ في الاعجوبة (3) ، إذا صرفوا عن الاتيان بمثله، ومنعوا من (4) معارضته، وعدلت دواعيهم عنه، فكان يستغني عن إنزاله على النظم البديع، وإخراجه في (5) المعرض الفصيح العجيب.
على أنه لو كانوا صرفوا على ما ادعاه، لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وعجيب الرصف. لأنهم لم يتحدوا إليه، ولم تلزمهم حجته. فلما لم يوجد في كلامه من قبله مثله، علم أن ما ادعاه القائل " بالصرفة " ظاهر البطلان. وفيه معنى آخر، وهو: أن أهل الصنعة في هذا الشأن إذا سمعوا كلاماً مطمعاً لم يخف عليهم، ولم يشتبه لديهم. ومن كان متناهياً في فصاحته لم يجز أن يطمع في مثل هذا القرآن بحال. فإن قال صاحب السؤال: إنه قد يطمع في ذلك. قيل له: أنت تزيد على هذا فتزعم أن كلام الآدمي قد يضارع القرآن، وقد يزيد / عليه في الفصاحة ولا يتحاشاه، ويحسب أن ما ألفه (1) في الجزء والطفرة هو أبدع وأغرب من القرآن لفظاً ومعنى! ولكن ليس الكلام على ما يقدره مقدر في نفسه، ويحسبه ظان من أمره. والمرجوع في هذا إلى جملة الفصحاء دون الآحاد. ونحن نبين بعد هذا وجه امتناعه عن الفصيح البليغ، ونميزه في ذلك عن سائر أجناس الخطاب، ليعلم أن ما يقدره من مساواة كلام الناس به تقدير ظاهر الخطأ ببين الغلط، وإن هذا التقدير من جنس من حكى الله تعالى قوله في محكم كتابه: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتَلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرَ) (2) فهم يعبرون عن دعواهم: أنهم يمكنهم أن يقولوا مثله، وأن (3) ذلك من قول البشر، لأن ما كان من قولهم فليس يقع فيه التفاضل إلى الحد الذى يتجاوز إمكان معارضته. ومما يبطل ما ذكروه من القول " بالصرفة " أنه لو كانت المعارضة ممكنة - وإنما منع منها " الصرفة " - لم يكن الكلام معجزاً. وإنما يكون المنع هو المعجز (4) ، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه.
/ وليس هذا بأعجب مما ذهب إليه فريق منهم: أن الكل قادرون على الإتيان بمثله، وإنما يتأخرون عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه به. ولا بأعجب من قول فريق منهم: إنه لا فرق بين كلام البشر وكلام الله تعالى في هذا الباب، وإنه يصح من كل واحد منهما الاعجاز على حد واحد. * * * فإن قيل: فهل تقولون بأن غير القرآن من كلام الله عز وجل معجز، كالتوراة والانجيل والصحف؟ قيل: ليس شئ من ذلك بمعجز (1) في النظم والتأليف، وإن كان معجزاً كالقرآن فيما يتضمن من الأخبار عن الغيوب (2) . وإنما لم يكن معجزاً لأن الله تعالى لم يصفه بما وصف به القرآن، ولأنا قد علمنا أنه لم يقع التحدي إليه كما وقع التحدي إلى القرآن. ولمعنى آخر، وهو أن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة، ما يقع به التفاضل الذي ينتهي إلى حد الإعجاز، ولكنه يتقارب. وقد رأيت أصحابنا يذكرون هذا في سائر الألسنة، ويقولون: ليس / يقع فيها من التفاوت ما يتضمن التقديم العجيب. ويمكن بيان ذلك بأنا (3) لا نجد في القدر الذى نعرفه من الالسنة للشئ الواحد، من الاسماء ما نعرف من اللغة، وكذلك لا نعرف فيها الكلمة الواحدة تتناول المعاني الكثيرة على ما تتناوله العربية، وكذلك التصرف في الاستعارات والإشارات، ووجوه الاستعمالات البديعة، التى يجئ تفصيلها بعد هذا. ويشهد لذلك من القرآن: أن الله تعالى وصفه بأنه: (بِلسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (4) . وكرر ذلك في مواضع كثيرة، وبين أنه رفعه عن أن يجعله أعجميا. فلو كان يمكن في لسان العجم إيراد مثل فصاحته، لم يكن ليرفعه عن هذه المنزلة. وإنه وإن كان يمكن أن يكون من فائدة قوله: إنه عربي مبين، أنه مما يفهمونه ولا يفتقرون فيه إلى الرجوع إلى غيرهم، ولا يحتاجون في تفسيره إلى سواهم (5) ، فلا يمتنع أن يفيد ما قلناه أيضا، كما أفاد بظاهره ما قدمناه. ويبين ذلك أن كثيراً من المسلمين قد عرفوا تلك الالسنة، وهم من أهل
البراعة فيها، وفى العربية، فقد وقفوا على أنه ليس فيها / من التفاضل والفصاحة، ما يقع في العربية. ومعنى آخر، وهو إنا لم نجد أهل التوراة والإنجيل ادعوا الإعجاز لكتابهم، ولا ادعى لهم المسلمون. فعلم أن الإعجاز مما يختص به القرآن. ويبين هذا أن الشعر لا يتأتى في تلك الألسنة، على ما قد اتفق في العربية. وإن كان قد يتفق منها صنف أو أصناف ضيقة، لم يتفق فيها من البديع ما يمكن ويتأتى في العربية، وكذلك لا يتأتى في الفارسية جميع الوجوه التى تتبين فيها الفصاحة على ما يتأتى في العربية. فإن قيل: فإن المجوس تزعم أن كتاب زرادشت، وكتاب ماني معجزان؟ قيل: الذي يتضمنه كتاب مانى، من طرق النيرنجات (1) ، وضروب من الشعوذة، ليس يقع فيه إعجاز. ويزعمون أن في كتاب الحكم، وهي حكم منقولة، متداولة على الألسن (2) ، لا تختص بها أمة دون أمة، وإن كان بعضهم أكثر اهتماماً بها، وتحصيلاً لها، وجمعا لابوابها. وقد ادعى قوم أن " ابن المقفع " عارض القرآن، وإنما فزعوا إلى " الدرة " و " التليمية ". وهما كتابان: أحدهما يتضمن حكماً منقولة، توجد عند / حكماء كل أمة مذكورة بالفضل. فليس فيها (3) شئ بديع من لفظ ولا معنى. والآخر في شئ من الديانات، وقد تهوس فيه بما لا يخفى على متأمل. وكتابه الذي بيناه في الحكم، منسوخ من كتاب بزرجمهر في الحكمة. فأي صنع له في ذلك؟ وأي فضيلة حازها فيما جاء به؟ وبعد، فليس يوجد له كتاب يدعى مدع انه عارض فيه القرآن، بل يزعمون أنه اشتغل بذلك مدة، ثم مزق ما جمع، واستحيا لنفسه من إظهاره. فإن كان كذلك، فقد أصاب وأبصر القصد، ولا يمتنع أن يشتبه عليه الحال في الابتداء ثم يلوح له رشده، ويتبين له أمره، وينكشف له عجزه. ولو كان بقي على اشتباه الحال عليه، لم يخف علينا موضع غفلته، ولم يشتبه لدينا وجه شبهته. ومتى أمكن أن تدعى الفرس في شئ من كتبها أنه معجز في حسن تأليفه، وعجيب نظمه؟
/ فصل في جملة وجوه إعجاز القرآن ذكر أصحابنا وغيرهم في ذلك ثلاثة أوجه من الإعجاز: أحدها: يتضمن الإخبار عن الغيوب، وذلك مما لا يقدر عليه البشر، ولا سبيل لهم إليه. فمن ذلك ما وعد الله تعالى نبيه، عليه السلام، أنه سيظهر دينه على الأديان، بقوله عزّ وجلّ: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الْحقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كله، ولو كره المشركون) (1) ، ففعل ذلك. وكان أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، إذا أغزى جيوشه عرّفهم ما وعدهم الله، من إظهار دينه. ليثقوا بالنصر، ويستيقنوا بالنجح. وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه يفعل كذلك في أيامه، حتى وقف أصحاب جيوشه عليه، فكان سعد بن أبي وقاص، رحمه الله، وغيره من أمراء الجيوش، من جهته، يذكر ذلك لأصحابه، ويحرضهم / به، ويوثق لهم، وكانوا يلقون الظفر في متوجهاتهم (2) ، حتى فتح إلى آخر أيام عمر رضي الله عنه، إلى بلخ، وبلاد الهند، وفتح في أيامه مرو الشاهجان، ومرو الروذ، ومنعهم من العبور إلى جيحون (3) ، وكذلك فتح في أيامه فارس إلى اصطخر (4) ، وكرمان، ومكران، وسجستان، وجميع ما كان من مملكة كسرى، وكل ما كان يملكه ملوك فارس، بين البحرين من الفرات إلى جيحون، وأزال ملك ملوك الفرس، فلم يعد إلى اليوم ولا يعود أبداً، إن شاء الله تعالى، ثم إلى حدود أرمينية، وإلى باب الأبواب. وفتح أيضا ناحية الشام، والأردن، وفلسطين، وفسطاط مصر، وأزال ملك قيصر عنها، وذلك من الفرات إلى بحر مصر، وهو ملك قيصر. وغزت الخيول في أيامه إلى عمورية، فأخذ الضواحي كلها، ولم يبق
منها (1) إلا ما حجز دونه بحر، أو حال عنه جبل منيع، أو أرض خشنة، أو بادية غير مسلوكة. وقال الله عز وجل: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُون وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (2) ، فصدق فيه. / وقال في أهل بدر: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَينِ أَنَّها لَكُم) (3) . ووفى لهم بما وعد. وجميع الآيات التي يتضمنها القرآن، من الأخبار عن الغيوب، يكثر جداً، وإنما أردنا أن ننبه بالبعض على الكل. * * * والوجه الثاني: أنه كان معلوماً من حال النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان أمياً لا يكتب، ولا يحسن أن يقرأ. وكذلك كان معروفاً من حاله أنه لم يكن يعرف شيئاً من كتب المتقدمين، وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم، ثم أتى بجمل ما وقع وحدث من عظيمات الأمور، ومهمات السير، من حين خلق الله آدم عليه السلام، إلى حين مبعثه، فذكر في الكتاب، الذي جاء به معجزة له: قصة آدم عليه السلام، وابتدأ خلقه. وما صار أمره إليه من الخروج من الجنة. ثم جملاً من أمر ولده وأحواله وتوبته، ثم ذكر قصة نوح عليه السلام، وما كان بينه وبين قومه، وما انتهى إليه أمرهم (4) . وكذلك أمر إبراهيم عليه السلام، إلى ذكر سائر الأنبياء المذكورين في القرآن، والملوك والفراعنة الذين كانوا في أيام الأنبياء، صلوات الله عليهم. / ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه، إلا عن تعلم، وإذ كان معروفاً أنه لم يكن ملابساً لأهل الآثار وحملة الأخبار، ولا متردداً إلى التعلم منهم، ولا كان ممن يقرأ، فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه - علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي. ولذلك قال الله عز وجل: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْ قَبْلِهِ من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لا رتاب الْمُبْطلونَ) (5) وقال: (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ) (6) . وقد بينا أن من
كان يختلف إلى تعلم علم، ويشتغل بملابسة أهل صنعة، لم يخف على الناس أمره، ولم يشتبه (1) عندهم مذهبه، وقد كان يعرف فيهم من يحسن هذا العلم، وإن كان نادراً، وكذلك كان يعرف من يختلف إليه للتعلم، وليس يخفى في العرف عالم كل صنعة ومتعلمها، فلو كان منهم لم يخف أمره. والوجه الثالث: أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه. والذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة، ونحن نفصل ذلك بعض التفصيل، ونكشف الجملة التي أطلقوها. فالذي يشتمل عليه بديع نظمه، المتضمن للاعجاز وجوه: منها ما يرجع إلى الجملة، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه، / وتباين (2) مذاهبه - خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد. وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم، تنقسم إلى أعاريض الشعر، على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالاً، فتطلب فيه الإصابة والإفادة، وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع، ترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلاً في وزنه، وذلك شبيه (3) بجملة الكلام الذي لا يتعمل [فيه] ، ولا يتصنع له. وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه، ومباين لهذه الطرق. ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من باب السجع، ولا فيه شئ منه، وكذلك ليس من قبيل الشعر، لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع، ومنهم من يدعى (4) فيه شعرا كثيرا. والكلام عليهم يذكر بعد هذا الموضع. فهذا إذا تأمله المتأمل تبين - بخروجه عن أصناف كلامهم، وأساليب خطابهم - أنه خارج عن العادة، وأنه معجز. وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن، وتميز حاصل في جميعه. * * *
/ ومنها أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة. والتشابه في البراعة، على هذا الطول، وعلى هذا القدر. وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم (1) قصائد محصورة، يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف، ويشملها (2) ما نبديه من التعمل والتكلف، والتجوز والتعسف. وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسباً في الفصاحة، على ما وصفه الله تعالى به، فقال عز من قائل: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها، مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) * (3) وقوله: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (4) فأخبر سبحانه أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت، وبان عليه الاختلال. وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره، فتأمله تعرف الفصل (5) . * * * / وفي ذلك معنى ثالث: وهو أن عجيب نظمه، وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين، على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها: من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة، وشيم رفيعة، وسير مأثورة. وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها. ونجد كلام البليغ الكامل، والشاعر المفلق، والخطيب المصقع - يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور. فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو. ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح. ومنهم من يسبق في التقريط دون التأبين. ومنهم من يجود في التأبين دون التقريط.
ومنهم من يغرب في وصف الإبل أو الخيل، أو سير الليل، أو وصف الحرب، أو وصف الروض، أو وصف الخمر، أو الغزل، أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعر ويتناوله (1) الكلام، ولذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وبزهير إذا رغب. ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام. ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ، رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها، فيأتي بالغاية في البراعة في معنى، / فإذا جاء إلى غيره قصر عنه، ووقف دونه، وبان الاختلاف على شعره، ولذلك ضرب المثل بالذين سميتهم، لأنه لا خلاف في تقدمهم (2) في صنعة الشعر، ولا شك في تبريزهم في مذهب النظم. فإذا كان الاختلال يتأتى في شعرهم، لاختلاف ما يتصرفون فيه، ستغنينا عن ذكر من هو دونهم. وكذلك يستغنى به عن تفصيل نحو هذا في الخطب والرسائل ونحوها. ثم نجد من الشعراء من يجود في الرجز، ولا يمكنه نظم القصيد أصلاً. ومنهم من ينظم القصيد، ولكن يقصر [تقصيرا عجيبا (3) ، ويقع ذلك من رجزه موقعا بعيدا. ومنهم من يبلغ في القصيدة الرتبة العالية، ولا ينظم الرجز، أو يقصر] فيه مهما تكلفه أو تعمله (4) . ومن الناس من يجود في الكلام المرسل، فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصانا بينا (5) . ومنهم من يوجد بضد ذلك. وقد تأملنا نظم القرآن، فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها، على حد واحد، في حسن النظم، وبديع التأليف والرصف، لا تفاوت (6) فيه، ولا انحطاط عن المنزلة العليا، ولا / إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا. وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب، من الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف. وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة [تفاوتا بينا، ويختلف اختلافا كبيرا. ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة] فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت
بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة. فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر، لأن الذي يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير، عند التكرار وعند تباين الوجوه، واختلاف الاسباب التى يتضمن. * * * ومعنى رابع: وهو أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتاً بيناً في الفصل والوصل، والعلو والنزول، والتقريب والتبعيد، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم، ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع. ألا ترى أن كثيراً من الشعراء قد وصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره، والخروج من باب إلى سواه. حتى أن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري، مع جودة نظمه، وحسن وصفه - في الخروج من النسيب إلى المديح. وأطبقوا على أنه لا يحسنه، ولا يأتي فيه بشئ، وإنما اتفق له - في (1) مواضع معدودة - خروج يرتضى، وتنقل يستحسن. / وكذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شئ إلى شئ، والتحول من باب إلى باب. ونحن نفصل بعد هذا، ونفسر هذه الجملة، ونبين (2) أن القرآن - على اختلاف [فنونه و] ما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة والطرق المختلفة - يجعل المختلف كالمؤتلف، والمتباين كالمتناسب، والمتنافر في الأفراد إلى حد الآحاد. وهذا أمر عجيب، تبين به الفصاحة، وتظهر به البلاغة، ويخرج معه الكلام عن حد العادة، ويتجاوز العرف. * * * ومعنى خامس: وهو أن نظم القرآن وقع موقعاً في البلاغة يخرج عن عادة كلام (3) [الجن، كما يخرج عن عادة كلام الانس] . فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا، ويقصرون دونه كقصورنا، وقد قال الله عز وجل: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (4)) .
فإن قيل: هذه دعوى منكم، وذلك أنه لا سبيل لنا إلى أن نعلم عجز الجن عن [الاتيان] بمثله، وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله، وإن كنا عاجزين، كما أنهم قد يقدرون على أمور لطيفة، / وأسباب غامضة دقيقة، لا نقدر نحن عليها، ولا سبيل لنا - للطفها - إليها. وإذا كان كذلك، لم يكن إلى علم ما ادعيتم سبيل. قيل: قد يمكن أن نعرف ذلك بخبر الله عز وجل. وقد يمكن أن يقال: إن هذا الكلام خرج على ما كانت العرب تعتقده من مخاطبة الجن، وما يروون لهم من الشعر، ويحكون عنهم من الكلام، وقد علمنا أن ذلك محفوظ عندهم منقول عنهم. والقدر الذى نقلوه [من ذلك] قد تأملناه، فهو في الفصاحة لا يتجاوز حد فصاحة الإنس، ولعله يقصر عنها. ولا يمتنع أن يسمع كلامهم، ويقع بينهم وبينهم محاورات في عهد الأنبياء، صلوات الله عليهم، وذلك الزمان مما لا يمتنع فيه وجود ما ينقض العادات. على أن القوم إلى الآن يعتقدون مخاطبة الغيلان، ولهم أشعار محفوظة مدونة (1) في دواوينهم. قال تأبط شراًّ (2) : وأدهم قد جُبْت جِلبابه * كما اجتابت الكاعُب الخيعلا (3) إلى أن حدا الصبحُ أثناءَه * ومزَّق جِلبابه الأليلا (4) / على شَيْم نار تَنَوَّرَتُها * فبتُّ لها مُدبِراً مُقبِلا (5) فأصبحت والغولُ لي جارةٌ * فيا جارتا أنتِ ما أهولا وطالبتها بُضعَها، فالتوت * بوجه تهوّلَ واستغولا (6) فمن سال أين ثوت جارتي * فإن لها باللوى منزلا وكنت إذا ما هممت اعتزم * - ت وأحر إذا قلت أن أفعلا
وقال آخر (1) : عَشَوْا ناري فقلتَ: منُون أنتم؟ * فقالوا: الجن، قلت: عموا ظلاما فقلت إلى الطعامِ فقال منهم * زعيم يحسدُ الإنسَ الطعاما (2) ويذكرون لامرئ القيس قصيدة مع عمرو الجنى، وأشعارا لهما، كرهنا نقلها (3) لطولها. وقال عبيد بن أيوب: / فلله درُّ الغولِ أي رفيقةٍ * لصاحب قفرٍ خائف يتقفّرُ (4) أرنَّت بلحن بعد لحن وأوقدت * حوالى نيرانا تلوح وتزهر (5) وقال ذو الرمة (6) بعد قوله: قد أعسِفُ النازحَ المجهولَ معْسِفُه * في ظل أخضرَ يدعوا هامَهُ البُومُ (7) للجن بالليلِ في حافاتها زَجَلٌ * كما تَنَاوحُ يومَ الريح عَيشُوم (8) دوّية ودُجى ليلٍ كأنهما * يَمٌ تراطنُ في حافاته الرُّوم (9) وقال أيضا: وكم عرست بعد السرى من معرس * به من كلام الجن أصوات سامر (10)
/ وقال: ورمل عزيف الجن في عقباته * هزير كتضراب المغنين بالطبل (1) وإذا كان القوم يعتقدون كلام الجن ومخاطباتهم، ويحكون عنهم، وذلك القدر المحكي لا يزيد أمره على فصاحة العرب - صح ما وصف عندهم من عجزهم عنه كعجز الإنس. ويبين ذلك من القرآن: أن الله تعالى حكى عن الجن ما تفاوضوا فيه من القرآن فقال: (وإِذْ صَرَفْنَا إلَيُكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرآنَ. فَلَمَّا حَضَرُوهُ ٌقَالُواْ أَنْصِتُواْ، فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّواْ إِلَى قَوْمِهِمِ مُنْذِرِينَ) (2) إلى آخر ما حكى عنهم فيما يتلوه. فإذا ثبت أنه وصف كلامهم، ووافق ما يعتقدونه من نقل خطابهم، صح أن يوصف الشئ المألوف بأنه ينحط عن درجة القرآن في الفصاحة. وهذان الجوابان أسدُّ عندي من جواب " بعض المتكلمين " عنه، بأنه عجز الإنس (3) عن القرآن يثبت له حكم الإعجاز، فلا يعتبر غيره. / ألا ترى أنه لو عرفنا من طريق المشاهدة عجز الجن عنه، فقال لنا قائل: فدلوا على أن الملائكة تعجز عن الإتيان بمثله، لم يكن لنا في الجواب غير هذه الطريقة التي قد بيناها. وإنما ضعفنا هذا الجواب، لأن الذي حكى وذكر عجز الجن والإنس (4) عن الإتيان بمثله - فيجب أن نعلم عجز الجن عنه، كما علمنا عجز الإنس عنه. ولو كان وصف عجز الملائكة عنه، لوجب أن نعرف ذلك أيضا بطريقه. فإن قيل: أنتم (5) قد انتهيتم إلى ذكر الاعجاز في التفاصيل، وهذا الفصل إنما يدل على الإعجاز في الجملة؟ قيل: هذا كما أنه يدل على الجملة، فإنه يدل على التفصيل أيضاً، فصح (6) أن يلحق هذا القبيل. كما كان يصح أن يلحق بباب الجمل. * * *
ومعنى سادس: وهو أن الذي ينقسم عليه الخطاب، من البسط والاقتصار، والجمع والتفريق، والاستعارة والتصريح، والتجوز والتحقيق، ونحو ذلك من الوجوه التى توجد في كلامهم - موجودة في القرآن. وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم، في الفصاحة / والإبداع والبلاغة. وقد ضمنا بيان ذلك [من] بعد، لأن الوجه ههنا ذكر المقدمات، دون البسط والتفصيل. * * * ومعنى سابع، وهو أن المعاني التى تضمنها (1) في أصل وضع الشريعة والأحكام، والاحتجاجات في أصل الدين، والرد على الملحدين، على تلك الألفاظ البديعة، وموافقة بعضها بعضاً في اللطف والبراعة، مما يتعذر على البشر ويمتنع، وذلك (2) أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة، والأسباب الدائرة بين الناس، أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة، وأسباب مؤسسة مستحدثة، فإذا برع اللفظ في المعنى البارع، كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر، والأمر المتقرر المتصور، ثم انضاف إلى ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه، ويراد تحقيقه - بأن التفاضل في البراعة والفصاحة، ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى، والمعاني وفقها، لا يفضل أحدهما على الآخر - فالبراعة أظهر، والفصاحة أتم. * * * ومعنى ثامن، وهو أن الكلام يتبين فضله ورجحان فصاحته، / بأن تذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام، أو تقذف ما بين شعر، فتأخذها (3) الاسماع، وتتشوف إليها النفوس، ويرى وجه رونقها باديا غامرا سائر ما تقرن (3) به، كالدرة التي ترى في سلك من خرز، وكالياقوتة في واسطة العقد. وأنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير، وهى غرة جميعه، وواسطة عقده، والمنادى على نفسه بتميزه وتخصصه، برونقه وجماله
واعتراضه في حسنه (1) ومائه، وهذا الفصل أيضا مما يحتاج فيه إلى تفصيل وشرح ونص، ليتحقق ما ادعيناه منه. ولولا هذه الوجوه التي بيناها، لم يتحير فيه أهل الفصاحة، ولكانوا يفزعون إلى التعمل للمقابلة، والتصنع للمعارضة، وكانوا ينظرون في أمرهم، ويراجعون أنفسهم، أو كان يراجع بعضهم بعضا في معارضته ويتوقفون لها. فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك، علم أن أهل المعرفة منهم بالصنعة. إنما عدلوا عن هذه الأمور، لعلمهم بعجزهم عنه، وقصور فصاحتهم دونه. ولا يمتنع أن يلتبس - على من لم يكن بارعاً فيهم، ولا متقدماً في الفصاحة منهم - هذا الحال، حتى لا يعلم إلا بعد نظر وتأمل، وحتى / يعرف حال عجز غيره. إلا أنا رأينا صناديدهم وأعيانهم ووجوههم سلموا ولم يشتغلوا بذلك، تحققاً بظهور العجز وتبيناً له. وأما قوله تعالى حكاية عنهم: (لو نشاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا) (2) فقد يمكن أن يكونوا كاذبين فيما أخبروا به عن أنفسهم [وقد يمكن أن يكون قاله منهم أهل الضعف في هذه الصناعة دون المتقدمين فيها] ، وقد يمكن أن يكون هذا الكلام إنما خرج منهم، وهو يدل على عجزهم. ولذلك أورده الله مورد تقريعهم، لأنه لو كانوا على ما وصفوا به أنفسهم لكانوا يتجاوزون الوعد إلى الإنجاز، والضمان إلى الوفاء، فلما لم يفعلوا (3) ذلك - مع استمرار التحدي وتطاول زمان الفسحة في إقامة الحجة عليهم بعجزهم عنه - علم عجزهم، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لم يقتصروا على الدعوى فقط. ومعلوم من حالهم وحميتهم أن الواحد منهم يقول في الحشرات والهوام والحيات، وفي وصف الأزمة والأنساع، والأمور التي لا يؤبه لها، ولا يحتاج إليها، ويتنافسون في ذلك أشد التنافس، ويتبجحون به أشد التبجح، فكيف يجوز أن تمكنهم معارضته في هذه المعاني الفسيحة، والعبارات الفصيحة، مع تضمن المعارضة لتكذيبه، والذبّ عن أديانهم القديمة، وإخراجهم أنفسهم من تسفيهه رأيهم، وتضليله إياهم. والتخلص من منازعته، ثم من محاربته ومقارعته.
ثم لا يفعلون شيئاً من ذلك، / وإنما يحيلون أنفسهم على التعاليل، ويعللونها بالاباطيل. [هذا محال] . * * * ومعنى تاسع، وهو: أن الحروف التي بني عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفاً. وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورة. وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة، وهو أربعة عشر حرفاً. ليدل بالمذكور على غيره، وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم. والذى تنقسم إليه هذه الحروف على ما قسمه أهل العربية وبنوا عليها وجوهها - أقسام، نحن ذاكروها: فمن ذلك أنهم قسموها إلى حروف مهموسة وأخرى مهجورة. فالمهموسة منها عشرة، وهي: الحاء، والهاء، والخاء، والكاف، والشين، والثاء، والفاء، والتاء، والصاد، والسين. وما سوى ذلك من الحروف فهي مهجورة. وقد عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور. وكذلك نصف الحروف المجهورة على السواء، لا زيادة ولا نقصان. " والمجهور " معناه: أنه حرف أشبع الاعتماد في موضعه، ومنع أن يجرى معه [النفس] حتى ينقضي الاعتماد، ويجري الصوت. / " والمهموس " كل حرف أضعف الاعتماد في موضعه حتى جرى معه النفس. وذلك مما يحتاج إلى معرفته لتبنى (1) عليه أصول العربية. وكذلك مما يقسمون إليه الحروف، يقولون: أنها على ضربين: أحدهما حروف الحلق، وهي ستة أحرف: العين، والحاء، والهمزة، والهاء، والخاء، والغين. والنصف [الآخر] من هذه الحروف مذكور في جملة الحروف التى تشتمل
عليها الحروف المثبتة (1) في أوائل السور، وكذلك النصف من الحروف التى ليست بحروف الحلق. وكذلك تنقسم هذه الحروف إلى قسمين آخرين: أحدهما حروف غير شديدة، وإلى الحروف الشديدة، وهي التي تمنع الصوت أن يجري فيه، وهي الهمزة، والقاف، والكاف، والجيم، والظاء، والذال، والطاء، والباء (2) . وقد علمنا أن نصف هذه الحروف أيضاً هي مذكورة في جملة تلك الحروف التى بنى عليها تلك السور. ومن ذلك الحروف المطبقة، وهي أربعة أحرف، وما سواها منفتحة. فالمطبقة: الطاء، والظاء، والصاد، والضاد. / وقد علمنا أن نصف هذه [الحروف] في جملة الحروف المبدوء بها في أوائل السور. وإذا كان القوم - الذين قسموا في الحروف هذه الأقسام لأغراض لهم في ترتيب العربية، وتنزيلها بعد الزمان الطويل من عهد النبي صلى الله عليه وسلم - رأوا مباني اللسان على هذه الجهة، وقد نبه بما ذكر في أوائل السور على ما لم يذكر، على حد التنصيف الذي وصفنا - دل على أن وقوعها الموقع الذي يقع التواضع عليه - بعد العهد الطويل - لا يجوز أن يقع إلا من الله عز وجل، لأن ذلك يجري مجرى علم الغيوب. وإن كان إنما تنبهوا على ما بني عليه اللسان في أصله، ولم يكن لهم في التقسيم (3) شئ، وإنما التأثير لمن وضع أصل اللسان، فذلك أيضاً من البديع الذي يدل على أن أصل وضعه وقع موقع الحكمة التي يقصر عنها اللسان. فإن كان أصل اللغة توقيفاً فالأمر في ذلك أبين. وإن كان على سبيل التواضع فهو عجيب أيضاً، لأنه لا يصح أن تجتمع هممهم المختلفة على نحو هذا إلا بأمر من عند الله تعالى. وكل ذلك يوجب إثبات الحكمة في ذكر هذه الحروف على حد يتعلق به الإعجاز من وجه.
وقد يمكن أن تعاد فاتحة كل سورة لفائدة (1) تخصها في النظم، إذا كانت حروفاً، كنحو (الم) لان الألف المبدوء بها هي أقصاها / مطلعاً، واللام متوسطة، والميم متطرفة، لأنها تأخذ في الشفة. فنبه بذكرها على غيرها من الحروف، وبين أنه إنما أتاهم بكلام منظوم مما يتعارفون من الحروف التي تتردد بين هذين الطرفين. ويشبه أن يكون التنصيف وقع في هذه الحروف دون الألف، لأن الألف قد تلغى، وقد تقع الهمزة وهي موقعاً واحداً. * * * ومعنى عاشر، وهو: أنه سهل سبيله، فهو خارج عن الوحشي المستكره، والغريب المستنكر، وعن الصنعة المتكلفة. وجعله قريباً إلى الإفهام، يبادر معناه لفظه إلى القلب، ويسابق المغزى منه عبارته إلى النفس. وهو مع ذلك ممتنع المطلب، عسير المتناول، غير مطمع مع قربه في نفسه، ولا موهم مع دنوه في موقعه أن يقدر عليه، أو يظفر به. فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل، والقول المسفسف، فليس يصح أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة، فيطلب فيه الممتنع (2) ، أو يوضع فيه الإعجاز. ولكن لو وضع في وحشي مستكره، أو غمر بوجوه الصنعة، وأطبق بأبواب التعسف والتكلف - لكان لقائل أن يقول فيه ويعتذر، أو يعيب ويقرع. ولكنه أوضح مناره، وقرب منهاجه، وسهل سبيله، وجعله في ذلك متشابهاً متماثلاً، وبين مع ذلك إعجازهم فيه. / وقد علمت أن كلام فصحائهم، وشعر بلغائهم لا ينفك من تصرف في غريب مستنكر، أو وحشي مستكره، ومعان مستبعدة. ثم عدولهم إلى كلام مبتذل وضيع لا يوجد دونه في الرتبة، ثم تحولهم إلى كلام معتدل بين الامرين، متصرف بين المنزلتين. فمن شاء أن يتحقق هذا نظر في قصيدة امرئ القيس: * قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل *
ونحن نذكر بعد هذا على التفصيل ما تتصرف إليه هذه القصيدة ونظائرها ومنزلتها من البلاغة، ونذكر وجه فوت نظم القرآن محلها، على وجه يؤخذ باليد، ويتناول من كثب، ويتصور في النفس كتصور الاشكال، ليتبين ما ادعيناه من الفصاحة العجيبة للقرآن. واعلم أن من قال من أصحابنا: إن الاحكام معللة بعلل موافقة لمقتضى العقل - جعل هذا وجهاً من وجوه الإعجاز، وجعل هذه الطريقة دلالة فيه، كنحو ما يعللون به الصلاة، ومعظم الفروض وأصولها. ولهم في كثير من تلك العلل طرق قريبة، ووجوه تستحسن. وأصحابنا من أهل " خراسان " يولعون بذلك، ولكن الأصل الذي يبنون عليه عندنا غير مستقيم. وفي ذلك كلام يأتي في " كتابنا في الأصول ". وقد يمكن في تفاصيل ما أوردنا من المعاني الزيادة والإفراد، فإنا جمعنا بين أمور، وذكرنا المزية المتعلقة بها، وكل واحد من تلك / الأمور مما قد يمكن اعتماده في إظهار الاعجاز فيه. فإن قيل: فهل تزعمون أنه معجز، لأنه حكاية لكلام القديم سبحانه، أو لأنه عبارة عنه، أو لأنه قديم في نفسه؟ قيل: لسنا نقول بأن الحروف قديمة، فكيف يصح التركيب على الفاسد؟ ولا نقول أيضاً: إن وجه الاعجاز في نظم القرآن [من أجل] أنه حكاية عن كلام الله (1) ، لأنه لو كان كذلك لكانت التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عز وجل معجزات في النظم والتأليف. وقد بينا أن إعجازها في غير ذلك. وكذلك كان يجب أن تكون كل كلمة مفردة معجزة بنفسها ومنفردها، وقد ثبت خلاف ذلك.
/ فصل في شرح ما بينا من وجوه إعجاز القرآن فأما الفصل الذي بدأنا بذكره من الإخبار عن الغيوب، والصدق والإصابة في ذلك كله - فهو كقوله تعالى: (قُلْ لّلْمُخَلَّفِينْ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) (1) فأغزاهم أبو بكر، وعمر، رضي الله عنهما، إلى قتال العرب والفرس والروم. وكقوله: (آلم. غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونْ فِي بِضْعِ سِنِينَ) (2) . وراهن أبو بكر الصديق رضي الله عنه في ذلك، وصدق الله وعده. وكقوله في قصة أهل بدر: [ (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَينِ أنها لكم) (3) ] [وكقوله] : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُولُّونَ الدُّبُر) (4) وكقوله: (لَقَد صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إن شاء الله آمنين محلقين رءؤسكم ومقصرين، لا تخافون) (5) . / وكقوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وَعَمِلُواْ الصَّالِحاتِ ليستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَليُمكِنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ آَمْناً) (6) . وصدق الله تعالى وعده في ذلك كله. وقال في قصة المخلفين عنه في غزوته: (لَنْ تُخْرُجُواْ مَعِيَ أَبداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً) (7) . فحق ذلك كله وصدق، ولم يخرج من المنافقين (8) الذين خوطبوا بذلك معه - أحد.
وكقوله: (لِيُظْهرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّه) (1) وكقوله: (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنَا وَأَبْنَاءَكُم وَنِسَاءَنا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسنَا وَأَنفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلَ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ) (2) . فامتنعوا من المباهلة، ولو أجابوا إليها اضطرمت عليهم الأودية ناراً، على ما ذكر في الخبر (3) . وكقوله: (قُلْ إِنِ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللًّهِ خَالِصَةً مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهمْ) (4) ولو تمنوه لوقع بهم. فهذا وما أشبهه فصل. * * * / وأما الوجه الثاني الذي ذكرناه، من إخباره من قصص الأولين، وسير المتقدمين فمن العجيب الممتنع على من لم يقف على الإخبار، ولم يشتغل بدرس الآثار (5) . وقد حكى في القرآن تلك الأمور حكاية من شهدها وحضرها. ولذلك قال الله تعالى: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (6) . وقال: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِب الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (7) . وقال: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطّورِ إِذْ نَادَيْنَا، وَلَكِن رَّحْمَةً مِن رَّبِّكَ، لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُمْ مِنْ نّذَيرٍ مِن قَبْلِكَ) (8) . فبين وجه دلالته من إخباره بهذه الامور الغائبة السالفة.
/ وقال: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ، مَا كُنْتَ تُعْلَمُها أَنْتَ وَلاَ قَوْمَكَ مِن قبل هذا، فاصبر، إن العاقبة للمتقين) (1) . * * * فأما الكلام في الوجه الثالث، وهو الذي بيناه من الإعجاز الواقع في النظم والتأليف والرصف، فقد ذكرنا من هذا الوجه وجوهاً: منها: أنا قلنا: إنه نظم خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلامهم، ومباين لأساليب خطابهم. ومن ادعى ذلك لم يكن له بد من أن يصحح أنه ليس من قبيل الشعر، ولا السجع، ولا الكلام الموزون غير المقفى، لأن قوماً من كفار قريش ادعوا أنه شعر. ومن الملحدة من يزعم أن فيه شعراً. ومن أهل الملة من يقول: إنه كلام مسجع، إلا أنه أفصح مما قد اعتادوه من أسجاعهم. ومنهم من يدعي أنه كلام موزون. فلا يخرج بذلك عن أصناف ما يتعارفونه من الخطاب.
/ فصل في نفى الشعر من القرآن قد علمنا أن الله تعالى نفى الشعر عن القرآن وعن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ، إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ) (1) . وقال في ذم الشعراء: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون. أَلَم تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ) (2) إلى آخر ما وصفهم به في هذه الآيات. وقال: (وَمَا هو بقول شاعر) (3) . وهذا يدل على أن ما حكاه عن الكفار - من قولهم: إنه شاعر، وإن هذا شعر - لابد من أن يكون محمولاً على أنهم نسبوه [إلى أنه يشعر بما لا يشعر به غيره من الصنعة اللطيفة في نظم الكلام، لا أنهم نسبوه] في القرآن إلى أن الذي أتاهم به هو من قبيل الشعر الذي يتعارفونه على الأعاريض المحصورة المألوفة. أو يكون محمولاً على ما كان يطلق الفلاسفة على حكمائهم وأهل الفطنة منهم في وصفهم إياهم بالشعر، لدقة نظرهم في وجوه الكلام وطرق لهم في المنطق. وإن كان ذلك الباب خارجاً عما هو عند العرب شعر على الحقيقة. / أو يكون محمولا على أنه أطلقه (4) بعض الضعفاء منهم في معرفة أوزان الشعر. وهذا أبعد الاحتمالات. فإن حمل على الوجهين الأولين كان ما أطلقوه صحيحاً، وذلك أن الشاعر يفطن لما لا يفطن له غيره، وإذا قدر على صنعة الشعر كان على ما دونه - في رأيهم وعندهم - أقدر، فنسبوه إلى ذلك لهذا السبب. فإن زعم زاعم أنه قد وجد في القرآن شعراً كثيراً، فمن ذلك ما يزعمون أنه بيت تام أو أبيات تامة، ومنه ما يزعمون أنه مصراع، كقول القائل: قد قلت لما حاولوا سلوتي * (هيهاتَ هيهاتَ لِما تُوعَدُون) (5) ومما يزعمون أنه بيت، قوله:، (وجِفَانٍ كالجواب وقَدَورٍ رَاسِياتِ) (6) قالوا: هو من الرمل، من البحر الذى قيل فيه:
ساكن الريح نطوف ال * - مزن منحل العزالى (1 / وقوله: (مَنْ تَزَكَّى فإِنما يَتَزكْى لِنَفْسِهِ) (2) . كقول الشاعر من بحر الخفيف: كل يوم بشمسه * وغدٌ مثل أمسه وكقوله عزوجل: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهِ يَجْعَلْ لَّهْ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتسِبُ) (3) قالوا: هو من المتقارب. وكقوله: (وَدَانِيةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلِتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا) (4) . ويشبعون حركة الميم، فيزعمون أنه من الرجز. وذكر عن أبي نواس أنه ضمن ذلك شعراً، وهو قوله (5) : وفتيةٍ في مجلسٍ وجوههم * * ريحانُهم قد عَدِموا التثقيلا (دانيةً عَليْهِمُ ظِلالُها * وذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلا) وقوله عز وجل: (وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (6) . زعموا أنه من الوافر، كقول الشاعر (7) : لنا غنمٌ نُسَوِّقُها غِزار * كانّ قرونَ جلّتها عصيُّ (8) / وكقوله عز وجل: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فّذَلِكَ الَّذِي يَدُعّ الْيَتِيِمَ) (9) ضمنه أبو نواس في شعره ففصل، وقال: " فذاك الذي " وشعره: وقرا مُعلناً ليصدعَ قلبي * والهوى يصدعُ الفؤاد السقيما (10) أرأيت الذي يُكِذّبُ بالدي * - ن فذاك الذي يدع اليتيما
وهذا من الخفيف. كقول الشاعر: وفؤادي كعهده بُسليمى * بهوىً لم يَحُلْ ولم يتغيرْ (1) وكما ضمنه في شعره من قوله: سبحان من سَخّر هذا لنا * (حقَّا) وما كنا له مُقْرنين (2) فزاد فيه حتى انتظم له الشعر. وكما يقولونه في قوله عز وجل: (وَالْعَادِيَاتِ ضبحا، فالموريات قدحا) (3) ونحو ذلك من القرآن كثير، كقوله: (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً. فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً. فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً) (4) . وهو عندهم شعر من بحر البسيط. والجواب عن هذه الدعوى التي ادعوها، من وجوه: / أولها: أن الفصحاء منهم حين أورد عليهم القرآن، لو كانوا يعتقدونه شعراً، ولم يروه خارجاً عن أساليب كلامهم - لبادروا إلى معارضته، لان الشعر مسخر لهم مسهل عليهم، ولهم فيه ما علمت من التصرف العجيب، والاقتدار اللطيف. فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك، ولا عولوا عليه -: علم أنهم لم يعتقدوا فيه شيئاً مما يقدره الضعفاء في الصنعة، والمرمدون في هذا الشأن. وإن استدراك من يجئ الآن على فصحاء قريش وشعراء العرب قاطبة في ذلك الزمان وبلغائهم وخطبائهم، وزعمه أنه قد ظفر بشعر في القرآن [وقد] ذهب أولئك النفر عنه وخفى عليهم مع شدة حاجتهم (5) [عندهم] إلى الطعن في القرآن والغض منه والتوصل إلى تكذيبه بكل ما قدروا عليه - فلن يجوز أن يخفى على أولئك، وأن يجهلوه، ويعرفه من جاء الآن، وهو بالجهل حقيق! إذا كان كذلك، علم أن الذي أجاب به العلماء عن هذا السؤال سديد، وهو أنهم قالوا: أن البيت الواحد وما كان على وزنه لا يكون شعرا، وأقل الشعر
بيتان فصاعدا. وإلى ذلك ذهب أكثر أهل صناعة العربية من أهل الإسلام. وقالوا أيضاً: إن ما كان على وزن بيتين، إلا أنه يختلف وزنهما أو قافيتهما (1) - فليس بشعر. / ثم منهم من قال: إن الرجز ليس بشعر أصلاً، لا سيما إذا كان مشطوراً أو منهوكا. وكذلك ما كان يقاربه (2) في قلة الأجزاء. وعلى هذا يسقط السؤال. ثم يقولون: إن الشعر إنما يطلق، متى قصد القاصد إليه - على الطريق الذى يعتمد ويسلك، ولا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء، دون ما يستوي فيه العامي والجاهل، والعالم بالشعر واللسان وتصرفه وما يتفق من كل واحد، فليس يكتسب اسم الشعر ولا صاحبه اسم شاعر، لأنه لو صح أن يسمى كل من اعترض في كلامه ألفاظ تتزن بوزن الشعر، أو تنتظم انتظام بعض الأعاريض، كان الناس كلهم شعراء، لأن كل متكلم لا ينفك من أن يعرض في جملة كلام كثير يقوله، ما قد يتزن بوزن الشعر وينتظم انتظامه. ألا ترى أن العامي قد يقول لصاحبه: " أغلق الباب وائتني بالطعام ". ويقول الرجل لأصحابه " اكرموا من لقيتم من تميم "؟ ومتى تتبع الانسان هذا [النحو] عرف أنه يكثر في تضاعيف الكلام مثله وأكثر منه (3) . / وهذا القدر الذي يصح فيه التوارد، ليس يعده أهل الصناعة سرقة، إذا لم تعلم فيه حقيقة الأخذ. كقول امرئ القيس: وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيهم * يقولون لا تهلك أسى وتجمل (4)
وكقول طرفة: وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيهم * يقولون لا تهلك أسى وتجلد (1) ومثل هذا كثير. فإذا صح مثل ذلك في بعض البيت ولم يمتنع التوارد فيه، فكذلك لا يمتنع وقوعه في الكلام المنثور اتفاقاً غير مقصود إليه، فإذا اتفق لم يكن ذلك شعراً. وكذلك يمتنع التوارد على بيتين، وكذلك يمتنع في الكلام المنثور وقوع البيتين ونحوهما. فثبت بهذا أن ما وقع هذا الموقع لم يعد شعراً، وإنما يعد شعراً ما إذا قصده صاحبه: تأتَّى له، ولم يمتنع عليه. / فإذا كان هو مع قصده لا يتأتى له، وإنما يعرض في كلامه عن غير قصد إليه - لم يصح أن يقال: إنه شعر، ولا أن صاحبه شاعر، ولا يصح أن يقال: إن هذا يوجب أن مثل هذا لو اتفق من شاعر فيجب أن يكون شعراً، لأنه لو قصده لكان يتأتى له (2) . وإنما لم يصح ذلك، لأن ما ليس بشعر فلا يجوز أن يكون شعراً من أحد، وما كان شعراً من أحد من الناس كان شعراً من كل أحد (3) . ألا ترى أن السوقي (4) قد يقول: " اسقني الماءَ يا غلامُ سريعاً "، وقد يتفق ذلك من الساهي ومن لا يقصد النظم. فأما الشعر (5) إذا بلغ الحد الذي بينا، فلا يصح أن يقع إلا من قاصد إليه. وأما الرجز فإنه يعرض في كلام العوام كثيراً، فإذا كان بيتاً واحداً فليس ذلك بشعر. وقد قيل: إن أقل ما يكون منه شعراً أربعة أبيات، بعد أن تتفق قوافيها، ولم يتفق ذلك في القرآن بحال. فأما دون أربعة أبيات منه أو ما يجري مجراه في قلة الكلمات، فليس بشعر.
وما اتفق في ذلك من القرآن مختلف الروي، ويقولون: إنه / متى اختلف الروي خرج عن أن يكون شعرا. وهذه الطرق التى سلكوها في الجواب، معتمدة أو أكثرها. ولو كان ذلك شعراً لكانت النفوس تتشوف إلى معارضته، لان طريق الشعر غير مستصعب على أهل الزمان الواحد، وأهله يتقاربون فيه، أو يضربون فيه بسهم. * * * فإن قيل: في القرآن كلام موزون كوزن الشعر، وإن كان غير مقفّى، بل هو مزاوج متساوي الضروب، وذلك أحد (1) أقسام كلام العرب. قيل: من سبيل الموزون من الكلام أن تتساوى أجزاؤه في الطول والقصر، والسواكن والحركات. فإن خرج عن ذلك لم يكن موزوناً، كقوله: رب أخٍ كنتُ به مغتبطا * أشد كفى بعرا صحبته تمسكاً مني بالودّ ولا * أحسبُهُ يزهدُ في ذي أملِ (2) تمسكاً مني بالودّ ولا * أحسَبُهُ يُغَيِّرُ العهدَ ولا يحُول عنه أبدا * فخاب فيه أملى وقد علمنا أن القرآن ليس من هذا القبيل، بل هذا قبيل غير ممدوح، / ولا مقصود من جملة الفصيح، وربما كان عندهم مستنكراً، بل أكثره على ذلك. وكذلك (3) ليس في القرآن من الموزون الذى وصفناه أو لا وهو الذي شرطنا فيه التعادل والتساوي في الأجزاء، غير الاختلاف الواقع في التقفية. ويبين (4) ذلك أن القرآن خارج عن الوزن الذي بينا، وتتم فائدته بالخروج منه. وأما الكلام الموزون فإن فائدته تتم بوزنه.
فصل في نفى السجع من القرآن ذهب أصحابنا كلهم إلى نفي السجع من القرآن وذكره [الشيخ] أبو الحسن الاشعري [رضى الله عنه] في غير موضع من كتبه. وذهب كثير ممن يخالفهم إلى اثبات السجع في القرآن. وزعموا أن ذلك مما يبين به فضل الكلام، وأنه من الاجناس التى يقع فيها التفاضل في البيان والفصاحة، كالتجنيس والالتفات، وما أشبه ذلك من الوجوه التى تعرف بها الفصاحة. وأقوى ما يستدلون به عليه: اتفاق الكل على أن موسى أفضل من هرون عليهما السلام، ولمكان (1) السجع قيل في موضع (هرون وموسى) (2) . ولما كانت الفواصل في موضع آخر بالواو والنون، قيل: (موسى وهرون) (3) . قالوا: وهذا يفارق أمر الشعر، لأنه لا يجوز أن يقع في الخطاب إلا مقصوداً إليه، وإذا وقع غير مقصود إليه كان دون القدر الذى نسميه (4) شعراً، وذلك القدر ما يتفق وجوده من المفحم، كما يتفق / وجوده من الشاعر. وأما ما في القرآن من السجع فهو كثير، لا يصح أن يتفق كله غير المقصود إليه. ويبنون الأمر في ذلك على تحديد معنى " السجع ". قال أهل اللغة: هو موالاة الكلام على وزن واحد. وقال ابن دريد: " سجعت الحمامة " معناه: رددت صوتها. وأنشد: طرِبتَ فأبكتك الحمامُ السواجِعُ * تميل بها ضَحْواً غصونُ نوائعُ النوائع: الموائل، من قولهم: جائع نائع، أي متمايل ضعفا (5) . وهذا الذي يزعمونه غير صحيح، ولو كان القرآن سجعاً لكان غير خارج عن أساليب كلامهم، ولو كان داخلاً فيها لم يقع بذلك إعجاز.
ولو جاز أن يقولوا: هو سجع معجز، لجاز لهم أن يقولوا: شعر معجز. وكيف والسجع مما كان يألفه الكهان من العرب، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفي الشعر، لأن الكهانة تنافى النبوات، وليس كذلك الشعر. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذين جاءوه وكلموه في شأن الجنين: كيف ندى من لا شرب ولا أكل (1) ، ولا صاح فاستهل، أليس دمه قد يطل؟ فقال: " اسجاعة كسجاعة الجاهلية؟ " / وفي بعضها: " أسجعاً كسجع الكهان " فرأى (2) ذلك مذموماً لم يصح أن يكون في دلالته. والذي يقدرونه (3) أنه سجع فهو وهم، لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع وإن لم يكن سجعاً، لأن ما يكون به الكلام سجعاً يختص ببعض الوجوه دون بعض، لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع. وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن، لأن اللفظ يقع فيه تابعاً للمعنى. وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ. ومتى ارتبط المعنى بالسجع، كانت إفادة السجع كإفادة غيره، ومتى انتظم (4) المعنى بنفسه دون السجع، كان مستجلبا لتحسين (5) الكلام دون تصحيح المعنى. فإن قيل: فقد يتفق في القرآن ما يكون من القبيلين جميعاً، فيجب أن تسموا أحدهما سجعاً. قيل: الكلام في تفصيل هذا خارج عن غرض كتابنا، وإلا كنا نأتى على فصل فصل من أول القرآن إلى آخره، ونبين في الموضع الذي يدعون الاستغناء عن السجع من الفوائد ما لا يخفى، ولكنه / خارج عن غرض كتابنا. وهذا القدر يحقق الفرق بين الموضعين. ثم إن سلم لهم مسلّم موضعاً أو مواضع معدودة، وزعم أن وقوع ذلك موقع (6) الاستراحة في الخطاب إلى الفواصل لتحسين الكلام بها، وهى الطريقة
التى يباين القرآن بهسائر الكلام، وزعم أن الوجه في ذلك أنه من الفواصل، أو زعم أن ذلك وقع غير مقصود إليه - فإن (1) ذلك إذا اعترض في الخطاب لم يعد سجعا، على ما قد بينا في القليل من الشعر، كالبيت الواحد، والمصراع، والبيتين من الرجز، ونحو ذلك يعرض فيه، فلا يقال إنه شعر، لأنه لا يقع مقصوداً إليه، وإنما يقع مغمورا في الخطاب، وكذلك حال السجع الذى يزعمونه ويقدرونه. ويقال لهم: لو كان الذي في القرآن على ما تقدرونه سجعاً،: لكان مذموماً مرذولاً، لأن السجع إذا تفاوتت أوزانه، واختلفت طرقه، كان قبيحاً من الكلام. وللسجع منهج مرتب محفوظ، وطريق مضبوط (2) ، متى أخل به المتكلم وقع (3) الخلل في كلامه، ونسب إلى الخروج عن الفصاحة. كما أن الشاعر إذا خرج عن الوزن المعهود كان مخطئاً، وكان شعره مرذولاً، وربما أخرجه عن كونه شعراً. / وقد علمنا أن بعض ما يدعونه سجعاً متقارب (4) الفواصل، متداني المقاطع، وبعضها مما يمتد حتى يتضاعف طوله عليه، وترد الفاصلة على ذلك الوزن الأول بعد كلام كثير، وهذا في السجع غير مرضى ولا محمود. فإن قيل: متى خرج السجع [من] المعتدل إلى نحو ما ذكرتموه، خرج من أن يكون سجعاً، وليس على المتكلم أن يلتزم أن يكون كلامه كله سجعاً، بل يأتي به طوراً ثم يعدل عنه إلى غيره، ثم قد يرجع إليه. قيل: متى وقع أحد مصراعي البيت (5) مخالفاً للآخر، كان تخليطاً وخبطاً، وكذلك متى اضطرب أحد مصراعي الكلام المسجع وتفاوت كان خبطاً. [وقد] علم أن فصاحة القرآن غير مذمومة في الأصل، فلا يجوز أن يقع فيها نحو هذا الوجه من الاضطراب (6) .
ولو كان الكلام الذي هو في صورة السجع منه لما تحيروا فيه، ولكانت الطباع تدعو إلى المعارضة، لأن السجع غير ممتنع عليهم، بل هو عادتهم، فكيف تنقض العادة بما هو نفس العادة، وهو غير خارج عنها ولا متميز (1) منها؟ وقد يتفق في الشعر كلام [متزن] على منهاج السجع / وليس بسجع عندهم. وذلك نحو قول البحتري: تَشَكًّى الوَجى، والليل ملتبس الدجا * غريرية الانساب مرت بقيعها (2) وقوله (3) : قريب المدَىَ، حتى يكون إلى الندى * عدو البنى، حتى تكون معالى (4) ورأيت بعضهم يرتكب هذا، فيزعم (5) أنه سجع مداخل! ونظيره من القرآن قوله تعالى: (ثَمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ، وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُم تَشَاقُّونَ فِيهِمْ) (6) . وقوله: (أَمَرْنا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا) (7) . وقوله: (أَحَبَّ إِلَيْكُم مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَجِهَادٍ فِي / سَبِيلِهِ) (8) . وقوله: (وَالتَّوْرَاةَ والاْنجِيلَ، وَرَسُولاً إلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) (9) . وقوله: (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) (10) . ولو كان ذلك عندهم سجعاً لم يتحيروا فيه ذلك التحير، حتى سماه بعضهم سحراً، وتصرفوا فيما كانوا يسمونه به ويصرفونه إليه ويتوهمونه فيه. وهم في الجملة عارفون بعجزهم عن طريقه، وليس القوم بعاجزين عن تلك الأساليب المعتادة عندهم، المألوفة لديهم. والذي تكلمنا به في هذا (11) الفصل كلام على جملة دون التفصيل.
ونحن نذكر بعد هذا في التفصيل، ما يكشف عن مباينة ذلك وجوه السجع. ومن جنس السجع المعتاد عندهم، قول أبي طالب (1) لسيف بن ذي يزن: " أََنْبَتَكَ مَنْبِتاً (2) طابت أرومتُهُ، وعَزَّت جُرْثُومته، وثَبَتَ أصله، وبَسَقَ فرعُه ونبت زَرْعه، في أكرم مَوْطِن، وأطيب مَعْدِن ". وما يجرى هذا المجرى من الكلام. والقرآن مخالف لهذه (3) الطريقة مخالفته للشعر وسائر أصناف كلامهم الدائر بينهم. / ولا معنى لقولهم: إن ذلك مشتق من ترديد الحمامة صوتها على نسق واحد وروي غير مختلف، لأن ما جرى هذا المجرى لا يبنى على الاشتقاق وحده، ولو بني عليه لكان الشعر سجعاً، لأن رويه يتفق ولا يختلف، وتتردد القوافي على طريقة واحدة. وأما الأمور التي يستريح إليها الكلام، فإنها تختلف: فربما كان ذلك يسمى (4) قافية، وذلك إنما يكون في الشعر، وربما كان ما ينفصل عنده (5) الكلامان (6) مقاطع السجع، وربما شمى (7) ذلك فواصل. وفواصل القرآن - مما هو مختص بها (8) لا شركة بينه وبين سائر الكلام فيها ولا تناسب. وأما ما ذكروه من تقديم موسى على هارون عليهما السلام في موضع، وتأخيره عنه في موضع لمكان السجع وتساوى مقاطع الكلام - فليس بصحيح، لأن الفائدة عندنا غير ما ذكروه. وهي (9) : أن إعادة ذكر القصة الواحدة بألفاظ مختلفة، تؤدي معنى واحداً من الامر الصعب، الذى تظهر به الفصاحة، وتتبين به (10) البلاغة. وأعيد كثير من القصص في مواضع [كثيرة] مختلفة، على ترتيبات / متفاوتة، ونبهوا بذلك على عجزهم عن الاتيان بمثله مبتدأ به ومكرراً. ولو كان فيهم تمكن من المعارضة لقصدوا تلك القصة وعبروا عنها بألفاظ
لهم تؤدى تلك المعاني ونحوها (1) ، وجعلوها بازاء ما جاء به، وتوصلوا بذلك إلى تكذيبه، وإلى مساواته فيما [حكى و] جاء به. وكيف وقد قال لهم: (فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثً مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ) (2) . فعلى هذا يكون المقصد - بتقديم بعض الكلمات (3) وتأخيرها - إظهار الإعجاز (4) على الطريقين جميعا، دون السجع (5) الذى توهموه. فإن قال قائل: القرآن مختلط من أوزان كلام العرب، ففيه من جنس خطبهم، ورسائلهم [وشعرهم] وسجعهم، وموزون كلامهم الذي هو غير مقفى، ولكنه أبدع فيه ضرباً من الابداع، لبراعته وفصاحته. قيل: قد علمنا أن كلامهم ينقسم إلى نظم ونثر، وكلام مقفى غير موزون [وكلام موزون غير مقفى] (6) ، ونظم موزون ليس بمقفى كالخطب والسجع، ونظم مقفى موزون له روي. / ومن هذه الأقسام ما هو سجية الأغلب من الناس، فتناوله أقرب، وسلوكه لا يتعذر. ومنه ما هو أصعب تناولا، كالموزون عند بعضهم، والشعر عند الآخرين (7) . وكل هذه الوجوه لا تخرج عن أن تقع لهم بأحد أمرين: إما بتعمل وتكلف وتعلم (8) وتصنع، أو باتفاق من الطبع وقذف من النفس على اللسان للحاجة إليه. ولو كان ذلك مما يجوز اتفاقه من الطبائع، لم ينفك العالم من قوم يتفق ذلك منهم، ويعرض (9) على ألسنتهم، وتجيش به خواطرهم، ولا ينصرف (10) عنه الكل، مع شدة الدواعي إليه. ولو كان طريقه التعلم لتصنعوه ولتعلموه (11) والمهلة لهم فسيحة، والامد واسع.
* * * وقد اختلفوا في الشعر كيف اتفق لهم؟ فقد قيل: إنه اتفق في الأصل غير مقصود إليه، على ما يعرض من أصناف النظام في تضاعيف الكلام، ثم لما استحسنوه واستطابوه ورأوا أنه قد تألفه / الأسماع وتقبله النفوس - تتبعوه (1) من بعد وتعملوه. وحكى لي بعضهم عن أبي عمر: غلام ثعلب عن ثعلب: أن العرب تعلم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول، يوضع على بعض أوزان الشعر كأنه على وزن: * قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * ويسمون ذلك الوضع " المتير " (2) واشتقاقه من المتر، وهو الجذب أو القطع، يقال: مترت الحبل، أي (3) قطعته أو جذبته. ولم يذكر هذه الحكاية عنهم غيره، فيحتمل ما قاله (4) . وأما ما وقع السبق إليه فيشبه أن يكون على ما قدمنا ذكره أولاً. وقد يحتمل - على قول من قال: إن اللغة اصطلاح - أنهم تواضعوا على هذا الوجه من النظم. وقد يمكن أن يقال مثله على المذهب الآخر، وأنهم وقفوا على ما يتصرف إليه القول من وجوه التفاصح، وتواقفوا (5) بينهم على ذلك. / ويمكن أن يقال: إن التواضع وقع على أصل الباب، وكذلك التوقيف، ولم يقع على فنون تصرف الخطاب، وأن الله تعالى أجرى على لسان بعضهم من النظم ما أجرى، وفطنوا لحسنه فتتبعوه من بعد، وبنوا عليه وطلبوه، ورتبوا فيه المحاسن التى يقع الاطراب (6) بوزنها، وتهشُّ النفوس إليها، وجمع دواعيهم وخواطرهم على استحسان وجوه من ترتيبها، واختبار طرق نم تنزيلها، وعرفهم محاسن الكلام، ودلهم على كل طريقة عجيبة، ثم أعلمهم عجزهم عن الاتيان [بمثل] (7) القرآن، [وأن] القدر الذى تتناهى إليه قدرهم هو ما لم يخرج عن لغتهم (8) ، ولم يشذ من جميع كلامهم، بل قد عرض في خطابهم، ووجدوا أن
هذا لما تعذر (1) عليهم مع التحدي والتقريع الشديد والحاجة الماسة إليه، مع علمهم بطريق وضع النظم والنثر، وتكامل أحوالهم فيه - دل على أنه اختص به ليكون دلالة على النبوة ومعجزة على الرسالة. ولولا ذلك لكان القوم إذا اهتدوا في الابتداء إلى وضع هذه الوجوه التي يتصرف إليها الخطاب على براعته وحسن انتظامه، فلأن يقدروا بعد التنبيه على وجهه والتحدي إليه، أولى أن يبادروا إليه، لو كان لهم إليه سبيل. / ولو كان الأمر على ما ذكره السائل: لوجب أن لا يتحيروا في أمرهم، أو لا تدخل عليهم شبهة فيما نابهم (2) ، ولكانوا يسرعون إلى الجواب ويبادون إلى المعارضة. ومعلوم من حالهم أن الواحد منهم يقصد إلى الامور البعيدة عن الوهم، والأسباب التي لا يحتاج إليها، فيكثر فيها من شعر ورجز، ونجد من يعينه على نقله عنه، على ما قدمنا ذكره من وصف الإبل ونتاجها، وكثير من أمرها لا فائدة في الاشتغال به في دين ولا دنيا. ثم كانوا يتفاخرون باللسن والذلاقة والفصاحة والذرابة (3) ، ويتنافرون فيه وتجري بينهم فيه الأسباب المنقولة في الآثار، على ما لا يخفى على أهله. فاستدللنا بتحيرهم في أمر (4) القرآن على خروجه من عادة كلامهم، ووقوعه موقعاً يخرق العادات. وهذه سبيل المعجزات. فبان بما قلنا أن الحروف التي وقعت في الفواصل متناسبة موقع النظائر التي تقع في الأسجاع، لا يخرجها عن حدها، ولا يدخلها في باب السجع. وقد بينا أنهم يذمون كل سجع خرج عن اعتدال الأجزاء، فكان / بعض مصاريعه (5) كلمتين، وبعضها أربع (6) كلمات، ولا يرون في ذلك فصاحة، بل يرونه عجزا. فلو رأوا أن ما تُلِيَ عليهم من القرآن سجع لقالوا: نحن نعارضه بسجع
معتدل، فنزيد في الفصاحة على طريقة القرآن، ونتجاوز حده في البراعة والحسن. ولا معنى لقول من قدر أنه ترك السجع تارة إلى غيره ثم رجع إليه، لأن ما تخلل بين الأمرين يؤذن بأن وضع الكلام غير ما قدروه من التسجيع (1، لأنه لو كان من باب السجع لكان أرفع نهاياته، وأبعد غاياته (2) . ولا بد لمن جوز السجع فيه وسلك ما سلكوه من أن يسلم ما ذهب إليه (3) النظّام، وعباد بن سليمان، وهشام الفوطي، ويذهب مذهبهم، في أنه ليس في نظم القرآن وتأليفه إعجاز، وأنه يمكن معارضته، وإنما صرفوا عنه ضرباً من الصرف (4) . / ويتضمن كلامه تسليم الخبط في طريقة النظم، وأنه منتظم من فرق شتى، ومن أنواع مختلفة ينقسم إليها خطابهم ولا يخرج عنها، ويستهين ببديع نظمه وعجيب تأليفه الذي وقع التحدي إليه. وكيف يعجزهم الخروج عن السجع والرجوع إليه، وقد علمنا عادتهم في خطبهم وكلامهم أنهم كانوا لا يلزمون أبداً طريقة السجع والوزن، بل كانوا يتصرفون في أنواع مختلفة، فإذا ادعوا على القرآن مثل ذلك لم يجدوا فاصلة بين نظمى الكلامين.
فصل / في ذكر البديع من الكلام إن سأل سائل فقال: هل يمكن أن يعرف إعجاز القرآن من جهة ما تضمنه (1) من البديع؟ قيل: ذكر أهل الصنعة ومن صنف في هذا المعنى من صفة البديع ألفاظاً نحن نذكرها، ثم نبين ما سألوا عنه، ليكون الكلام وارداً على أمر مبين، وباب مقرر مصور (2) . ذكروا: أن من البديع في القرآن قوله عز ذكره: (واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) (3) . وقوله: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلّيٌّ حكيم) (4) . وقوله: (واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً (5) وقوله: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هُم مُّظْلِمُونَ) (6) . وقوله: (أَوْ يأتيهم عَذَابُ يَوْمٍ عقيم) (7) . وقوله: (نور على نور) (8) . / وقد يكون البديع في الكلمات الجامعة الحكيمة، كقوله: (ولكم في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) (9) . وفي الألفاظ الفصيحة، كقوله: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيَّاً) (10) . وفي الألفاظ الالهية، كقوله: (وله كل شئ) (11) . وقوله: (وَمَا بِكُمْ من نعمة فَمِنَ اللَّه) (12) . وقوله: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوُمَ؟ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (13) . * * *
ويذكرون من البديع قول النبي صلى الله عليه وسلم " خيرُ الناسِ رجلْ ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، كلما سمع هيعةً طار إليها " (1) . وقوله: " ربنا تقبل توبتي، واغسل حوبتي " (2) . / وقوله: " غلب عليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي حالقة الدين، لا حالقة الشعر " (3) . وقوله: " الناسُ كإبل مائةٍ، لا تجد فيها راحلةً " (4) . وقوله: (وهل يكبُّ الناسَ على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم " (5) . وقوله: " إن مما يُنبت الرَّبيع ما يقتُلُ حبطاً أو يلم " (6) . وكقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، في كلام له قد نقلناه / بعد هذا على
وجهه، وقوله لخالد بن الوليد رضى الله عنه: " احرصْ على الموت توهبْ لك الحياة. وقوله: " فر من الشرف يتبعك الشرف ". وكقول على بن أبى طالب في كتابه إلى ابن عباس، وهو عامله على البصرة: " أرغب راغبهم، واحلُلْ عُقْدَةَ الخوفِ عنهم ". وقوله رضى الله عنه، حين سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " [غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود -: إن النبي صلى الله عليه وسلم] إنما قال ذلك والدين في قُلَّ، فأما وقد اتسع نطاق الاسلام، فكل امرئ وما اختار " (1) . وسأل علي، رضي الله عنه، بعض كبراء فارس، عن أحد ملوكهم عندهم؟ فقال: لأردشير فضيلةُ السبقِ، غير أن أحمدهم أنوشروان. قال: فأي أخلاقه كان أغلب عليه؟ قال: الحلم والأناة. فقال علي رضي الله عنه: " هما تَوْأَمانِ يُنْتِجُهُما عُلُو الهمة " (2) . وقال: " قيمة كل امرئ ما يحسن ". وقال: " العلم قفل، ومفتاح المسألة " (3) . وكتب خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس: " أما بعد، فالحمد لله / الذى فض خَدَمتكم، وفرَّقَ كلمتكم ". والخدمة: الحلقة المستديرة، ولذلك قيل للخلاخيل، خِدام (4) . وقال الحجاج: " دلوني على رجل سمينِ الأمانة " (5) . ولما عقدت الرئاسة لعبد الله بن وهب الراسبي (6) على الخوارج، أرادوه
على الكلام، فقال: " لا خير في الرأي الفطير " (1) ، وقال: " دعوا الرأي يُغِبُّ " (2) . وقال أعرابي في شكر نعمة (3) : " ذاك عُنْوانُ نِعمة الله عز وجل ". / ووصف أعرابي قوماً فقال: " إذا اصطفوا سفرت بينهم السهام، وإذا تصافحوا بالسيوف قعد الحمام " (4) . وسئل أعرابي عن رجل؟ فقال: " صَفِرَتْ عِيابُ الوُدِّ بيني وبينه بعدَ امتلائِها، واكفَهَرَّتْ وجوهٌ كانت بمائِها " (5) . وقال آخر: " من ركب ظَهْرَ الباطلِ نزل دارَ النَّدامة " (6) . وقيل لرؤبة (7) : كيف خلَّفتَ ما وراءك؟ فقال: " التراب يابس، والمال عابس " (8) . * * * ومن البديع في الشعر طرق كثيرة، قد نقلنا منها جملة، لتستدل بها على ما بعدها: فمن ذلك قول امرئ القيس: وقد أغتِدي والطيرُ في وكناتها * بمنْجردٍ قيد الاوابد هيكل (9)
/ قوله: " قيد الأوابد " عندهم من البديع ومن الاستعارة، ويرونه من الألفاظ الشريفة (1) ، وعنى بذلك أنه إذا أرسل هذا الفرس على الصيد صار قيداً لها، وكانت بحالة المقيد من جهة سرعة إحضاره. واقتدى به الناس، واتبعه الشعراء، فقيل: " قيدُ النواظر " و " قيدُ الألحاظ " و " قيد الكلام " و " قيد الحديث " و " قيد الرهان ". وقال الاسود بن يعفر: بمقلص عتد جَهِيزٍ شده * قيدُ الأوابد والرهان جواد (2) وقال أبو تمام: لها منظر قيدُ الأوابدِ لم يَزَل * يروحُ ويغدو في خفارته الحُبُّ (3) / وقال آخر: ألحاظُهُ قيدُ عيونِ الورى * فليس طَرُفٌ يَتَعَدَّاهُ (4) وقال آخر: * قَيَّدَ الحُسْنُ عليه الحَدَقَا (5) * وذكر الاصمعي وأبو عبيد وحماد، وقبلهم أبو عمرو: أنه أحسن في هذه
اللفظة، وأنه اتبع فلم يلحق، وذكروه في باب الاستعارة البليغة. وسماها بعض أهل الصنعة (1) باسم آخر، وجعلوها من باب " الارداف "، وهو: أن يريد الشاعر دلالة على معنى فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى، بل بلفظ هو تابع له وردف (2) . قالوا: ومثله قوله (3) : * نَؤُوم الضُحى لم تَنْتَطِقْ عن تَفَضُّلِ * وإنما أراد ترفهها بقوله: " نؤوم الضحى " (4) . / ومن هذا الباب قول الشاعر (5) : بعيدةُ مَهوى القُرْط إما لنوفلٍ * أبوها، وإما عبدِ شمسٍ وهاشمِ وإنما أراد أن يصف طول جيدها، فأتى بردفه (6) . ومن ذلك قول امرئ القيس: * وليل كموجِ البحر أرخى سُدُوله (7) * وذلك من الاستعارة المليحة. ويجعلون من هذا القبيل ما قدمنا ذكره (8) من القرآن: (وَاشْتَعَلَ الرأسُ
شَيباً) ، (واخْفِضْ لَهما جَنَاحَ الذُلِّ من الرحمةِ) . ومما يعدونه من البديع " الثشبيه الحسن " كقول امرئ القيس: كأن عيون الوحش حول خبائنا * وأرحلنا الجَزْعَ الذي لم يُثَقَّبِ (1) / وقوله: كأن قلوبَ الطيرِ رطباً ويابساً * لدى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البالى (2) واستبدعوا تشبيه شيئين بشيئين على حسن تقسيم، ويزعمون أن أحسن ما وجد في هذا للمحدثين (3) قول بشار: كأن مثار النقع فوق رؤوسهم * وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (4) وقد سبق امرؤ القيس إلى صحة التقسيم في التشبيه، ولم يتمكن بشار إلا من تشبيه إحدى الجملتين بالأخرى، دون صحة التقسيم والتفصيل. وكذلك عدوا (5) من البديع قول امرئ القيس في أذني الفرس: / وسَامِعَتَان يُعرَف العِتْقُ فيهما * كسامعتي مذعورة وسط ربرب (6)
اتبعه طرفة، فقال فيه: وسامعتان يُعرف العِتْقُ فيهما * كسامعتي شاة بحومل مفرد (1) ومثله قول امرئ القيس في وصف الفرس: وعينان كالماويَّتَيْنِ ومَحْجَرٍ * إلى سند مثل الصفيح المنصب (2) وقال طرفة في وصف عيني ناقته: وعينان كالماويتين استكنتا * بكهفي حجاجي صخرة قلت مورد (3) ومن البديع في التشبيه قول امرئ القيس: له أيطلا ظبيٍ وساقا نعامةٍ * وإرخاء سِرْحانٍ وتقريبُ تَتْفُل (4) / وذلك في تشبيه أربعة أشياء بأربعة أشياء، أحسن فيها. * * * ومن التشبيه الحسن في القرآن قوله تعالى: (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبحرِ كَالأَعْلاَمِ) (5) . وقوله تعالى: (كَأَنَّهُنَّ بيض مكنون) (6) . ومواضع نذكرها بعد هذا.
ومن البديع في " الاستعارة " قول امرئ القيس: وليلٍ كموجِ البحرِ أرخى سُدُولُهُ * عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي (1) فقلت له لما تمطى بِصُلبِهِ * وأَردَفَ أعجازاً وناءَ بكلكلِ / وهذه كلها استعارات أتى بها في ذكر طول الليل. ومن ذلك قول النابغة: وصدر أراح الليلُ عازب همه * تضاعف فيه الحزن من كل جانبِ (2) فاستعارة من أراحه الراعي إبله إلى مواضعها التي تأوي إليها بالليل. وأخذ منه ابن الدمينة فقال: اقضى نهاري بالحديث وبالمُنَى * ويجمَعُني والهم بالليل جامعُ (3) ومن ذلك قول زهير: صحا القلبُ عن سلمى وأقصر باطله * وعرى أفراس الصبا ورواحله (4) ومن ذلك قول امرئ القيس: سَمَوتُ. إليها بعدَ ما نام أهلها * سمو حباب الماء حالا على حال (5)
/ وأخذه أبو تمام فقال: * سُمُوَّ عُباب الماء جاشت غواربه * وإنما أراد امرؤ القيس إخفاء شخصه. ومن ذلك قوله: * كأني وأصحابي على قرن أعفرا (2) * يريد أنهم غير مطمئنين. ومن ذلك ما كتب إليَّ الحسن بن عبد الله بن سعيد، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرنا عسل بن ذكوان، أخبرنا (3) أبو عثمان المازني، قال: سمعت الأصمعي يقول: أجمع أصحابنا أنه لم يقل أحسن ولا أجمع من قول النابغة: فإنكَ كالليلِ الذي هو مدركي * وإن خلت أن المنتأى عنك واسع (4) قال الحسن بن عبد الله: وأخبرنا محمد بن يحيى، أخبرنا عون بن / محمد الكندي، أخبرنا قعنب بن محرز، قال (5) : سمعت الأصمعي يقول: سمعت أبا عمرو يقول: كان زهير يمدح السوق، ولو ضرب على أسفل قدميه مئتا دقل صينى (6) على أن يقول كقول النابغة: فإنَّكَ كالليل الذي هو مدركي * وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
- لما قال. يريد أن سلطانه كالليل إلى كل مكان. واتبعه الفرزدق فقال: ولو حملتني الريح ثم طلبتني * لكنت كشئ أدركتني مقادِرُه (1) فلم يأت بالمعنى ولا اللفظ على ما سبق إليه النابغة. ثم أخذه الأخطل فقال: وإن أمير المؤمنين وفعلَهُ * لكالدهرِ لا عار بما فعل الدهر (2) وقد روي نحو هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم: " نُصِرتُ بالرعب، وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي، وليدخلنَّ هذا الدين على ما دخل عليه الليلُ ". / وأخذه علي بن جبلة (3) فقال: وما لامرئ حاولته منك مهرب * ولو رفعته في السماء المطالعُ (4) بلى، هاربٌ لا يهتدي لمكانه * ظلام ولا ضوء من الصبح ساطع (5) ومثله قول سلم الخاسر: فأنت كالدهرِ مبثوثاً حبائله * والدهر لا ملجأ سنه ولا هَرَبُ (6) ولو ملكتُ عِنانَ الريح أصرفُهُ * في كل ناحيةٍ ما فاتك الطَلَبُ فأخذه البحتري فقال: ولو أنهم ركبوا الكواكبَ لم يكنْ * ينجِّيهُمُ عن خوفِ بأسك مَهْرَبُ (7) ومن بديع الاستعارة قول زهير: فلما وردن الماء زرقا جمامه * وضعن عصى الحاضر المتخيم (8)
وقول الأعشى: وإن عتاقَ العِيسِ سوف يزوركم * ثناءٌ على أعجازِهنَّ مُعَلَّقُ (1) / ومنه أخذ نصيب فقال: فعاجوا فأَثْنَوا بالذي أنت أهلُهُ * ولو سكتوا أثنت عليك الحقائبُ (2) ومن ذلك قول تأبط شراً: فخالط سهل الأرضِ لم يكدح الصفا * به كدحة والموت خزيان ينظر (3) ومن الاستعارة في القرآن كثير، كقوله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكْ) (4) يريد ما يكون الذكر عنه شرفاً. وقوله: (صِبْغَةَ اللَّه وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) (5) . قيل: دين الله أراد. وقوله: (اشتَرَوُاْ الضَّلاَلَة بِالهُدَى، فَمَا رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) (6) . * * * ومن البديع عندهم [الغلو والافراط في الصفة] ، كقول النَّمِر بن تَوْلب: / أبقى الحوادثُ والأيامُ من نمر * أسباد سيف قديم بأثره بادي (7) تظلُ تحفرُ عنه إن ضربتَ بِهِ * بعد الذراعين والقيدين والهادي (8) وكقول النابغة: تقدُّ السلوقيّ المضاعف نسجه * ويُوقدن بالصُّفّاح نار الحُباحب (9) وكقول عنترة: فازور من وقع القنا بلبانه * وشكا إلى بعبرة وتحمحم (10)
وكقول أبي تمام: لو يعلمِ الركنُ من قد جاء يلثمه * لخر يلثم منه موطئ القَدَمِ (1) وكقول البحتري: ولو أن مشتاقاً تَكَلَّفَ فوق ما * في وسعه، لمشى إليك المنبرُ (2) ومن هذا الجنس في القرآن: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ) (3) . / وقوله: (إِذَا رَأَتْهُم مِن مَّكَانٍ بَعيدٍ سَمِعُواْ لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) (4) . وقوله: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغيظ) (5) . * * * ومما يعدونه من البديع " المماثلة " وهو ضرب من الاستعارة [سماه قدامة التمثيل، وهو على العكس من الارداف، لان الارداف مبنى على الاسهاب والبسط، وهو مبنى على الايجاز والجمع] (6) . وذلك أن يقصد الإشارة إلى معنى، فيضع ألفاظاً تدل عليه، وذلك المعنى بألفاظه مثال للمعنى الذي قصد الإشارة إليه. نظيره من المنثور: أن يزيد بن الوليد بلغه أن مروان بن محمد يتلكأ عن بيعته، فكتب إليه: " أما بعد، فإني أراك تُقَدِّمُ رِجْلاً وتؤخرُ أخرى، فاعتمِدْ على أيتهما شِئْتً " (7) . وكنحو ما كتب به الحجاج إلى المهلب (8) : " فإن أنت فعلتَ ذاك، وإلا أشرعت إليك الرمح. " فأجابه المهلب: " فإن أشرع الأميرُ الرمحَ، قلبتُ إليه ظهر المجن ".
/ وكقول زهير: ومن بعض أطرافَ الزِّجاج فإنه * يُطيع العوالي ركبت كُلَّ لهذم (1) وكقول امرئ القيس: وما ذرفت عيناكِ إلا لتضربي * بسهميكِ في أعشارِ قلبٍ مُقَتَّلِ (2) وكقول عمرو بن معدي كرب: فلو أنَّ قومي أنطقتني رماحُهُمْ * نطقْتُ ولكنَّ الرماح أجرَّتِ (3) / وكقول القائل (4) بني عمنا لا تذكروا الشعر بعد ما * دفنتم بصحراء الغمير القوافيا (5)
وكقول الآخر (1) : أقول وقد شَدُّوا لساني بنسعةٍ: * أمعشر تيم أطلقوا عن لسانيا ومن هذا الباب (2) في القرآن قوله: (فَمَا أَصْبَرهُمْ عَلَى النَّارِ) (3) وكقوله: (وَثِيابَكَ فَطَهِّر) (4) . قال الأصمعي: أراد البدن، قال: / وتقول العرب: " فدى لك ثوباي ". يريد (5) نفسه. وأنشد: ألا أبلغ حفصٍ رَسُولا * فدى لك من أخي ثقةٍ إزارى (6) . * * * ويرون من البديع أيضاً ما يسمونه " المطابقة "، وأكثرهم على أن معناها أن يذكر الشئ وضده، كالليل والنهار، والسواد والبياض، وإليه ذهب الخليل ابن أحمد والأصمعي، ومن المتأخرين عبد الله بن المعتز. وذكر ابن المعتز من نظائره من المنثور ما قاله بعضهم (7) : " أتيناك لتسلك بنا سبيل التوسع، فأدخلتنا في ضيق الضمان ". ونظيره من القرآن: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) (8) . وقوله: (يُخْرِجُ الْحيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنِ الْحَيِّ) (9) . وقوله: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيلِ) (10) . ومثله كثير جداً.
وكقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: " إنكم تكثُرُون عندَ الفَزَعِ، وَتقِلُّونَ عند الطَمَعِ " (1) . وقال آخرون: بل المطابقة أن يشترك معنيان بلفظة واحدة، وإليه ذهب قدامة ابن جعفر الكاتب (2) . فمن ذلك قول الأفوه الأودي: وأقطعُ الهَوْجَل مستأنسا * بهوجلَ مستأنس عنتريس (3) عنى بالهوجل الأول: الأرض، وبالثاني: الناقة (4) . ومثله قول زياد الاعجم: ونبئتهم يستنصرون بكاهلٍ * وللؤمِ فيهم كاهلٌ وسنامُ (5) / ومثله قول أبى داود: عهدت لها منزلا داثرا * وآلاً على الماءِ يحمِلْنَ آلا (6) فالآل الأول: أعمدة الخيام تنصب على البئر للسقي، والآل الثاني: السراب (7) . وليس عنده قول من قال: المطابقة إنما تكون باجتماع الشئ وضده - بشئ.
ومن المعنى الأول قول الشاعر: أهينُ لهم نفسي لأُّكرمها بهم * ولن تُكرم النفسُ التي لا تهينها (1) ومثله قول امرئ القيس: وتردى على صُم صِلاب ملاطِسٍ * شديداتِ عَقد ليناتِ مِتان (2) / وكقول النابغة: ولا يحسبون الخير لا شر بعده * ولا يحسبون الشرَّ ضربة لازب (3) وكقول زهير، وقد جمع فيه طباقين: بعزمة مأمورٍ مطيعٍ وآمرٍ * مُطاع، فلا يُلفى لحزمهمُ مثلُ (4) وكقول الفرزدق: والشيب ينهض في الشباب كأنه * ليل يصيح بجانبيه نهار (5) ومما قيل فيه ثلاث تطبيقات قول جرير: وباسطِ خيرٍ فيكمُ بيمينه * وقابض شر عنكمُ بشماليا (6) وكقول رجل من بلعنبر (7) : يَجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً * ومن إِساءة أهل السوء إحسانا (8)
/ وروي عن الحسن (1) بن علي، رضي الله عنهما، أنه تمثل بقول القائل: فلا الجود يُفْني المالَ والجَدُّ مقبلٌ * ولا البخلُ يُبقي المال والجَدُّ مُدْبرُ (2) وكقول الآخر: فسِرّي كإعلاني وتلك سجيتي * وظُلمة ليلي مثلُ ضوءِ نهاريا وكقول قيس بن الخطيم: إذا أنت لم تنفع فضُرَّ، فإنما * يُرَجَّى الفتى كيما يضرَّ وينفعا (3) وكقول السموأل: وما ضَرَّنا أنا قليلٌ وجارُنا * عزيزٌ وجارُ الأكثرين ذليلُ (4) فهذا باب يرونه من البديع. * * * وباب آخر وهو " التجنيس ". ومعنى ذلك: أن تأتى بكلمتين متجانستين: فمنه ما تكون الكلمة تجانس الأخرى في تأليف حروفها [ومعناها] (5) . وإليه ذهب الخليل (6) . / ومنهم من زعم أن المجانسة أن تشترك اللفظتان على جهة الاشتقاق (7) كقوله عز وجل: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ الْقَيِّمِ) (8) . وكقوله: (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان) (9) . وكقوله: (يا أسفا على يوسف) (10)
وكقوله: (الذين آمنوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون) (1) . وكقوله: " وهم ينهون عنه وينأون عنه) (2) . وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أَسَلمُ سالمها الله، وغِفارُ غَفَرَ الله لها، وعصيةُ عصت الله ورسوله، [وتجيب أجابت الله ورسُوله] (3) ". وكقوله: " الظُلمُ ظُلُماتُ يومَ القيامةِ (4) . وقوله: " لا يكونُ ذو الوجهين وجيهاً عندَ الله " (5) . / وكتب بعض الكتاب: " العُذْرُ مع التعذرِ واجبٌ، فرأيك فيه " (6) . وقال معاوية لابن عباس: ما لكم يا بني هاشم تُصابون في أبصاركم؟ فقال: كما تصابون في بصائركم (7) . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " هاجِروا ولا تهجروا " (8) . ومن ذلك قول قيس بن عاصم: ونحن حفزنا الحوفزان بطعنةٍ * كسته نجيعاً من دم الجوف أشكلا (9)
وقال آخر (1) : * أملَّ عليها بالبِلى الملوان (2) * / وقال الآخر (3) : وذاكمُ أنَّ ذُل الجار حالفكم * * وأن أنفَكُمُ لا تعرف الأَنَفَا (4) وكتب إلي بعض مشايخنا، قال: أنشدنا الأخفش عن المبرد، عن التوزي (5) :. وقالوا (6) : حمامات فَحُمَّ لقاؤها * وطَلْحٌ، فزيرت والمطى طلوح (7) عقاب بأعقاب من النأى بعد ما * جرت نيةٌ تُنسي المحبَّ طروح (8) وقال صِحابي: هدهدٌ فوق بانةٍ * هُدى وبيانٌ بالنجاح يلوح (9) وقالوا: دمٌ، دامت مواثيقُ عهده * ودام لنا حسن الصفاء صريح (10)
/ وقال آخر (1) : * أقبلن من مصر يبارين البري (2) * وقال القطامي: ولما ردّها في الشَّول شالت * بذيال يكون لها لفاعا (3) وقد (4) يكون التجنيس بزيادة حرف [أو بنقصان حرف] (5) أو ما يقارب ذلك، كقول البحتري: هل لما فات من تلاق تلاف * أم لشاكٍ من الصبابة شافِ (6) ؟ / وقال ابن مقبل: يمشين هَيْلَ النقا مالت جوانبه * ينهالُ حيناً وينهاهُ الثرى حينا (7 وقال زهير: هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا * لا ينكلون إذا ما استحلموا وحموا (8)
ومن ذلك قول أبي تمام: يمدُّون من أيدٍ عواصٍ عواصمٍ * تصول بأسيافٍ قواضٍ قواضبُ (1) وأبو نواس يقصد في مصراعي مقدمات شعره هذا الباب (2) ، كقوله: ألا دارِها بالماء حتى تلينَها * فلن تُكرِمَ الصهباءَ حتى تهينَها وكذلك قوله: ديارُ نوارٍ ما ديارُ نوارِ * كسونك شجواً هُن منه عَوَارِ (3) وكقول ابن المعتز: سأثنى على عهد المطيرة والقصر * وأدعو لها بالساكنين وبالقطر (4) / وكقوله أيضا: هي الدارُ إلا أنها منهم قَفْرُ * وأني بها ثاوٍ وأنهمُ سَفْرُ (5) / وكقوله: للأماني حديثٌ [قد] يقر * ويسوء الدهر من قد يَسرُّ (6) وكقول المتنبي: وقد أراني الشبابُ الروحَ في بدني * وقد أرانى المشيب الروح في بدلى (7) وقد قيل: إن من هذا القبيل قوله عز وجل: (خلق الانسان من عجل سأريكم آيَاتي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ) (8) ، وقوله: (قُلِ اللَّهِ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِيني فَاعْبدُواْ مَا شِئْتُم مِنْ دونه) (9) . * * * ويعدون من البديع " المقابلة "، وهي أن يوفق بين معان ونظائرها والمضاد بضده، وذلك مثل قول النابغة الجعدى:
فتى تم فيه ما يَسُرُّ صديقَهُ * على أن فيه ما يَسوءُ الأعاديا (1) / وقال تأبط شرّاً: أهزُّ به في ندوة الحي عِطْفَهُ * كما هزّ عطفي بالهجان الأواركُ (2) وكقول الآخر: وإذا حديثٌ ساءني لم أكتئب * وإذا حديث سرنى لم أشرز (3) وكقول الآخر: وذى إخوة قطعت أرحام بينهم * كما تركوني واحدا لا أخاليا (4) ونظيره من القرآن: (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ، ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ منكم بربهم يشركون) (5) . [ومن هذا الجنس قول هند بنت النعمان للمغيرة بن شعبة، وقد أحسن إليها: برتك يد نالتها خصاصة بعد ثروة، وأغناك الله عن يد نالت ثروة بعد فاقة] (6) . * * * / ويعدون من البديع " الموازنة "، وذلك كقول بعضهم: اصبر على حر اللقاء، ومضض النزال، وشدة المصاع (7) .
وكقول امرئ القيس: سليم الشظا عبل الشوى شنج النسا * [له حجبات مشرفات على الفال] (1) ونظيره من القرآن: (والسماء ذات البروج. واليوم الموعود وشاهد ومشهود) (2) . * * * ويعدون من البديع " المساواة "، وهي أن يكون اللفظ مساوياً / للمعنى، لا يزيد عليه ولا ينقص عنه. وذلك يعد من البلاغة، وذلك كقول زهير: ومهما تكن عند امرئ من خليقةٍ * وإن خالها تخفَى على الناس تُعْلَمِ (3) وكقول جرير: فلو شاء قومي كان حلميَ فيهمُ * وكان على جُهّال اعدائِهم جهلي (4) وكقول الاخر (5) : اذا انت لم تقصر عن الجهل والخنا * أصبت حليما أو أصابك جاهل وكقول الهذلى (6) : فلا تجز عن من سنة أنت سرتها * وأول راض سنة من يسيرها (7)
وكقول الآخر (1) : فإن هم طاوعوكِ فطاوِعيهم * وإن عاصَوك فاعصي من عصاكِ / ونظير ذلك في القرآن كثير. * * * ومما يعدونه من البديع " الإشارة " وهو اشتمال اللفظ القليل على المعاني الكثيرة. وقال بعضهم (2) في وصف البلاغة: [البلاغة] لمحة دالة. ومن ذلك قول طرفة: فظلَّ لنا يومٌ لذيذٌ بنعمةٍ * فقل في مقيلٍ نحسُهُ متغيَّبُ (3) وكقول زيد الخيل: فخيبة من يخيب علي غَنيّ * وباهلةَ بن أعصَر والرباب (4)
ونظيره من القرآن: (ولو أن قُرآناً سُيِّرَتْ به الجبال أو قطعت به الأرض أو كّلم به الموتى بل للهِ الأمرُ جميعاً) (1) . ومواضع كثيرة. * * * ويعدون من البديع " المبالغة "، و " الغلو ". والمبالغة: تأكيد معاني القول، وذلك كقول (2) الشاعر: ونكرِمُ جارَنا ما كان فينا * ونُتبعُهُ الكرامَةَ حيثُ مالا (3) ومن ذلك قول الآخر (4) : وهم تركُوك أسْلحَ من حُبارى * رأت صقراً وأشْرَدَ من نعامِ / فقوله: " رأت صقراً " مبالغة. ومن الغلو قول أبي نواس: توهمتها في كأسها فكأنما * توهمتُ شيئاً ليس يُدركه العقْلُ فما يرتقي التكييفُ فيها إلى مدى * يُحد به إلا ومن قبلِهِ قبلُ (5) وقول زهير: لو كان يقعُد فوق الشمس من كرمٍ * قومٌ بأولهم أو مجدهم - قعدوا (6) وكقول النابغة: بلغنا السماء مجدُنا وسناؤنا * وأنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا (7)
وكقول الخنساء: وما بلغت كف امرئ متناول * بها المجد إلا حيثما نلت أطولُ (1) وما بلغ المهدون في القول مِدحةً * وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفضلُ (2) / وقول الآخر (3) : له هِمَمٌ لا منتهى لكبارِها * وهمتُهُ الصُّغرى أجلُّ من الدهرِ له راحةٌ لو أن معشارَ جُودها * على البرِّ صار البرُّ أندى من البحر * * * ويرون من البديع " الإيغال " في الشعر خاصة، فلا يطلب مثله في القرآن إلا في الفواصل، كقول امرئ القيس: كأن عيون الوحش حول خبائنا * وأرحلنا الجزع الذى لم يثقب (4) فقد أوغل بالقافية في الوصف وأكد التشبيه بها، والمعنى قد يستقل دونها. * * * ومن البديع عندهم " التوشيح ". وهو أن يشهد (5) أول البيت بقافيته وأول الكلام بآخره، كقول البحتري: / فليس الذي حللته بمحلل * وليس الذي حرمته بحرامِ (6) ومثله في القرآن: (فَمنَ تَابَ مِنَ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عليه إن الله غفور رحيم) (7) . * * *
ومن ذلك " رد عجز الكلام على صدره ". كقول الله عز وجل: (اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَلآخِرَةُ أَكْبرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تفضيلا) (1) وكقوله: (لا تفتروا على الله كذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بعذابٍ، وقد خابَ من افْتَرى) (2) . ومن هذا الباب قول القائل (3) : وإن لم يكن إلا تعللُ ساعةٍ * قليلاً فإني نافعٌ لي قليلُها وكقول جرير: / سقى الرملَ جونٌ مستهلٌ غمامُهُ * وما ذاك إلا حُبّ من حلَّ بالرملِ (4) وكقول الآخر (5) : يَودُّ الفتى طولَ السلامةِ والغِنى * فكيف يرى طولَ السلامةِ يفعلُ وكقول أبي صخر الهذلي: عجبتُ لسعي الدهرِ بيني وبينَها * فلما انقضى ما بيننا سكنَ الدهرُ (6) وكقول الآخر: أصدُّ بأيدي العيس عن قصدٍ أرضِها * وقلبي إليها بالمودة قاصد (7)
وكقول عمرو بن معدي كرب: إذا لم تستطعْ شيئاً فدعْهُ * وجاوزْهُ إلى ما تستطيعُ (1) * * * ومن البديع " صحة التقسيم " ومن ذلك قول نصيب: / فقال فريقُ القوم: لا وفريقُهم: * نعم، وفريقٌ قال: ويَحَك ما ندري (2) وليس في أقسام الجواب أكثر من هذا. وكقول الآخر (3) : فكأنها فيه نهارٌ سَاطِعٌ * وكأنه ليلٌ عليها مظلمُ (4) وقول المقنع الكندى: وإن يأكلوا لحمي وفْرتُ لحومَهم * وإن يهدِموا مجدي بنيتُ لهم مجدا (5) وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم * وإن هم هووا غيى هويتُ لهم رُشدا وإن زجروا طيراً بنحسٍ تَمُّر بي * زجرتُ لهم طيَراً تمرُّ بهم سَعدا وكقول عروة بن حزام: بمن لو أراه عانيا لفديته * ومن لو رأني عانيا لفداني (6) ونحوه قول الله عز وجل: (اللَّهُ ولى الذين آمنوا، يخرجهم من / الظلمات
إلى النور، والذين كفروا أوليائهم الطاغوت، يخرجونهم من النور إلى الظلمات) (1) . * * * ونحوه: " صحة التفسير ". [وهو أن توضع معان تحتاج إلى شرح أحولها، فإذا شرحت أثبتت تلك المعاني من غير عدول عنها ولا زيادة ولا نقصان] (2) . كقول القائل (3) : ولي فرسٌ للحلم بالحلم ملجمٌ * ولى فرس للجهل بالجهل مسرج * * * ومن البديع: " التكميل والتتميم ". [وهو أن يأتي بالمعنى الذى بدأ به بجميع المعاني المصححة المتممة لصحته، المكملة لجودته، من غير أن يخل ببعضها، ولا أن يغادر شيئا منها. كقول القائل: وما عسيت أن أشكرك عليه من مواعيد لم تشن بمطل، ومرافد لم تشب بمن، وبشر لم يمازجه ملق، ولم يخالطه مذق] (4) . / وكقول نافع بن خليفة: رجالٌ إذا لم يَقْبَلُوا الحقَّ منهمُ * ويعطوه عادوا بالسيوفِ القواطع (5) وإنما تم جودة المعنى بقوله: " ويعطوه ". وذلك كقول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) إلى آخر الآية. ثم قال: (إن الله عليم خبير) (6) . * * * ومن البديع: " الترضيع ". وذلك على ألوان (7) .
منها قول امرئ القيس: مخش مجش مقبل مدبر معا * كتيس ظباء الحلب العدوان (1) ومن ذلك كثير من مقدمات أبي نواس: يامنة امتنها السكرُ * ما ينقضي مني لها الشكرُ (2) وكقوله، وقد ذكرناه قبل هذا (3) : / ديارُ نوارٍ ما ديار نوار * كسونك شجوا هن منه عوار * * * ومن ذلك: " الترصيع مع التجنيس "، كقول ابن المعتز: ألم تجزع على الربع المحيلِ * وأطلالٍ وآثار محول (4) ونظيره من القرآن كقوله: (إِنَّ الَّذينَ اتَّقَواْ إِذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ، وإخْوَانُهُم يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ) (5) . وقوله: (مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لأَجْرَاً غَيْرَ مَمْنُونٍ) (6) . وكقوله: (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيرِ لشديد) (7) . وكقوله: (والطور. وكتاب مسطور) (8) . وقوله: (والسابحات سبحا. فالسابقات سبقا) (9) . وقد أولع الشعراء بنحو هذا، فأكثروا فيه. ومنهم من اقتنع / بالترصيع في بعض أطراف الكلام. ومنهم من بنى كلامه [كله] (10) عليه، كقول ابن الرومي: أبدانهن وما لبس * ن من الحرير معا حرير (11)
أرادنهن وما مسس * ن من العبير معا عبير (1) وكقوله: فلراهب أن لا يريث مكانه * ولراغب أن لا يريث نجاحه (2) ومما يقارب الترصيع ضرب يسمى: " المضارعة " وذلك كقول الخنساء: حامى الحقيقة محمود الخليفة مه * دى الطريقة نفاع وضرار (3) جواب قاصية جزاز ناصية * عقاد ألوية للخيل جرار (4) * * * ومن البديع باب: " التكافؤ ". وذلك قريب من " المطابقة " / كقول المنصور: لا تخرجوا من عز الطاعة، إلى ذل المعصية (5) . وقول عمر بن ذر (6) : إنا لم نجد لك إذ عصيت الله فينا خيرا من أن نطيع الله فيك (7) . ومنه قول بشار: إذا أيقظتك حروب العدا * فنبه لها عمرا ثم نم (8) [ومنه قول أعرابي يذم قومه: ألسن عامرة من الوعد، وقلوب خربة من العزم. وقال آخر: وساع في الهوى، وطرب في الحاجة] (9) .
ومن البديع باب: " التعطف " كقول امرئ القيس (1) : * عود على عود على عود خلق (2) * / وقد تقدم مثاله (3) . * * * ومن البديع: " السلب والايجاب " كقول القائل: وننكر إن شئنا على الناس قولهم * ولا ينكرون القول حين نقول (4) * * * ومن البديع " الكناية والتعريض ". كقول القائل: وأحمر كالديباج، أما سماؤه * فريا، وأما أرضه فمحول (5) ومن هذا الباب " لحن القول ". * * * ومن ذلك: " العكس والتبديل " كقول الحسن (6) : إن من خوفك لتأمن خير ممن أمنَّك لتخافَ " وكقوله: " اللهم اغنني / بالفقرِ إليك، ولا تُفقِرْني بالاستغناء عنك " (7) . وكقوله: " بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبعْ آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا " (8) .
وكقول القائل: وإذا الدر زان حسن وجوه * كان للدر حسنُ وجهِكَ زينا (1) وقد يدخل في هذا الباب قوله تعالى: (يُولِجُ اللَّيْلَ في النهار ويولج النهار في الليل) (2) . * * * ومن البديع: " الالتفات " فمن ذلك ما كتب إلى الحسن بن عبد الله العسكري، أخبرنا محمد بن يحيى (3) الصولى، [قال] : حدثني يحيى بن علي المنجم، عن أبيه، عن إسحاق بن إبراهيم، قال: قال لي الأصمعي: أتعرف التفاتات جرير؟ قلت: لا، فما هي؟ قال: أتنسى إذ تودِّعُنا سليمى * بفرعِ بشامةٍ؟ سُقي البشامُ (4) / ومثل ذلك لجرير: متى كان الخيام بذي طلوح * - سقيتِ الغيثَ - أيتُها الخيامُ؟ (5) ومعنى الالتفاتات أنه اعترض في الكلام (6) قوله: " سقيت الغيث "، ولو لم يعترض لم يكن ذلك التفاتاً، وكان الكلام منتظماً، وكان يقول: " متى كان الخيام بذي طلوح أيتها الخيام "؟ فمتى خرج عن الكلام الأول ثم رجع إليه على وجه يلطف - كان ذلك التفاتا. ومثله قول النابعة الجعدي: ألا زعمت بنو سعد بأني * - ألا كذبوا - كبير السن فانى (7)
ومنه قول كثير: لو أن الباذلين، وانت منهم، * رأوك، تعلموا منك المطالا (1) ومثله قول أبى تمام: / وأنجدتم من بعد إتهام داركم * فيا دمع أنجدني على ساكنى نجد (2) وكقول جرير: طرب الحمام بذى الاراك فشاقنى * لا زلت في غلل وأيك ناضر (3) التفت إلى الحمام فدعا لها. ومثله قول حسان: إن التى ناولتنى فرددتها * قتلت قتلت فهاتها ثم تقتل (4) ومثله قول عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر: وأجمل إذا ما كنت لا بد مانعا * وقد يمنع الشئ الفتى وهو مجمل (5) وكقول ابن ميادة: فلا صرمه يبدوا وفى اليأس راحة * ولا وصله يصفوا لنا فنكارمه (6) ونظير ذلك من القرآن ما حكى الله تعالى عن إبراهيم الخليل من قوله: (اعبدوا الله واتقوه، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. إنما / تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا) (7) إلى قوله: (فما كان جواب قومه) (8) .
وقوله عز وجل: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز، وبرزوا لله جميعا) (1) . ومثله قوله: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها ما جاءتها ريح عاصف، وجاءهم الموج من كل مكان، وظنوا أنهم أحيط بهم، دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين) (2) . ومثله قوله: (واتل عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ، إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَث، أو تتركه يلهث) (3) . ومثله قوله: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله، والله عزيز حكيم. فمن تاب من بعد ظلمه) (4) . / ومنهم من لا يعد الاعتراض والرجوع (5) من هذا الباب. ومنهم من يفرده عنه، كقول زهير: قف بالديار التي لم يعفُها القدمُ * نعم، وغيرها الارواح والديم (6) وكقول الاعرابي: أليس قليلا نظرة إن نظرتها * إليك، وكلا ليس منك قليل (7) وكقول ابن هرمة: ليت حظي كلحظة العين منها * وكثير منها القليل المهنا (8) * * *
ومن الرجوع قول القائل: بكل تداوينا فلم يُشْفَ ما بنا * على أن قُرب الدار خيرٌ من البعد (1) وقال الأعشى: / صرمت ولم أصرمْكُمُ وكصارم * أخٍ قد طوى كشحاً وآبَ ليذهبا (2) وكقول بشار: لى حلة فيمن ينم * م وليس في الكذاب حِيلَه (3) من كان يخلُقُ ما يقو * لُ فحيلتي فيه قليله (4) وقال آخر: وما بى انتصار إن عدا الدهر ظالما * عليَّ، بلى إن كان من عندك النصرُ (5) * * * / وباب آخر من البديع يسمى: " التذييل " وهو ضرب من التأكيد، وهو ضد ما قدمنا ذكره من الاشارة (6) ، كقول أبى داود:
إذا ما عقدنا له ذمةً * شددنا العِنَاجَ وعقد الكرب (1) وأخذه الحطيئة فقال: [قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم * شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا (2) . / وكقول الآخر] (3) : فدعوا نزال فكنت أول نازل * وعلام أركبه إذا لم أنزل؟ (4) وكقول جرير: لقد كنت فيها يا فرزدق تابعا * وريش الذنابى تابع للقوادم (5) ومثله قوله عز وجل: (إن فِرْعَونَ علا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيعَاً. يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُم يُذَبِّحُ أَبناءَهُم ويَسْتَحْييِ نِسَاءَهُم، إِنَّهُ كَانَ من المفْسِدِينَ. ونُرِيدُ أن نَمُّنَّ على الذينَ استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) ، إلى قوله: (كانوا خاطئين) (6) . وباب من البديع يسمى " الاستطراد " (7) . فمن ذلك ما كتب إلى الحسن بن
عبد الله قال: أنشدني أبو بكر بن دريد، قال: أنشدنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، لحسان بن ثابت، رضى الله عنه: / إن كنت كاذبة الذى حدثتني * فنجوت منجى الحارث بن هشام (1) ترك الاحبة أن يقاتل دونهم * ونجا برأس طمرة ولجام (2) وكقول السموأل: وإنا لقوم لا نرى القتل سبة * إذا ما رأته عامر وسلول (3) وكقول الآخر: خليلي من كعب أعينا أخا كما * على دهره، إن الكريم معين (4) ولا تبخلا بخل ابن قزعة، إنه * مخافة أن يرجى نداه حزين وكقول الآخر: فما ذر قرن الشمس حتى كأننا * من العى نحكى أحمد بن هشام (5) / وكقول زهير: إن البخيل ملوم حيث كان ول * كن الجواد على علاته هرم (6) وفيما (7) كتب إليَّ الحسن بن عبد الله، قال: أخبرني محمد بن يحيى [قال] :
حدثنى محمد بن على الانباري (1) ، قال: سمعت البحترى يقول: أنشدني أبو تمام لنفسه: وسابح هطل التعداء هتان * على الجزاء أمين غير خوان (2) أظمى الفصوص ولم تظمأ قوائمه * فخل عينيك في ريان ظمآن (3) ولو تراه مشيحا والحصى فلق * بين السنابك من مثنى ووحدان (4) أيقنت - إن لم تثبت - أن حافره * من صخر تدمر أو من وجه عثمان (5) وقال لى: ما هذا من الشعر؟ قلت لا أدرى. قال: هذا المستطرد، أو قال: الاستطراد. قلت: وما معنى ذلك؟ قال: يرى أنه يصف الفرس، ويريد هجاء عثمان (6) . / وقال البحترى: ما إن يُعاف قَذى ولو أوردته * يوماً خلائق حمدوية الاحول (7) قال: فقيل للبحتري: إنك أخذت هذا من أبى تمام، فقال: ما يعاب على أن آخذ منه وأتبعه فيما يقول. ومن هذا الباب قول أبى تمام: صب الفراق علينا صب من كثب * عليه إسحاق يوم الروع منتقما (8)
ومنه قول السرى الرفاء: نزع الوشاة لنا بسهم قطيعة * يرمى بسهم الحين من يرمى به (1) ليت الزمان أصاب حب قلوبهم * بقنا ابن عبد الله أو بحرابه ونظيره من القرآن: (أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون، ولله يسجد ما في السَّمَواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْملائكَةُ وهم لا يستكبرون) (2) ../ كأنه كان المراد من أن يجرى بالقول الاول إلى الاخبار عن أن كل شئ يسجد لله عز وجل، وإن كان ابتداء الكلام في أمر خاص. * * * ومن البديع عندهم: " التكرار " كقول الشاعر: هلاّ سألت جموعَ كن * دةَ يومَ ولّوا أين أينا؟ (3) وكقول الآخر: وكانت فَزارة تَصلى بنا * فأولى فزارة أولى فزارا (4) ونظيره من القرآن [كثير، كقوله تعالى] (5) : (فَإنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسراً) (6) . وكالتكرار في قوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) (7) . وهذا فيه معنى زائد على التكرار، لانه يفيد الاخبار عن الغيب. * * * ومن البديع عندهم ضرب من " الاستثناء " كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بِهِنَّ فلولٌ من قراع الكتائبِ (1) وكقول النابغة الجعدي: فتى كملت أخلاقُهُ غير أنه * جوادٌ فلا يُبقي من المال باقيا. (2) فتى تَمَّ فيه ما يَسُرُّ صديقَهُ * على أن فيه ما يسوءُ الأعاديا وكقول الآخر: حليمٌ إذا ما الحلمُ زّيَّنَ أهله * مع الحلم في عين العدو مهيبُ (3) وكقول أبي تمام (4) : تنصل ربها من غير جرمٍ * إليك سوى النصيحةِ والودادِ (5) * * * ووجوه البديع كثيرة جداً، فاقتصرنا على ذكر بعضها، ونبهنا بذلك على ما لم نذكر، كراهة التطويل، فليس الغرض ذكر جميع أبواب البديع. * * * / وقد قدر مقدرون أنه يمكن استفادة إعجاز القرآن من هذه الأبواب التي نقلناها، وأن ذلك مما يمكن الاستدلال به عليه. وليس كذلك عندنا، لأن هذه الوجوه إذا وقع التنبيه عليها أمكن التوصل إليها بالتدريب والتعود والتصنع لها، وذلك كالشعر الذي إذا عرف الإنسان طريقه صح منه التعمل له وأمكنه نظمه. والوجوه التى تقول: إن إعجاز القرآن يمكن أن يعلم منها، فليس مما يقدر البشر على التصنع له والتوصل إليه بحال. ويبين ما قلنا: أن كثيرا من المحدثين (6)
قد تصنع لأبواب الصنعة، حتى حشى جميع شعره منها، واجتهد ان لا يفوته بيت إلا وهو يملؤه من الصنعة، كما صنع أبو تمام في لاميته: متى أنت عن ذهلية الحى ذاهل * * وصدرك منها مدة الدهر آهل (1) تطل الطلول الدمع في كل موقف * وتمثل بالصبر الديار المواثل (2) دوارس لم يجف الربيع ربوعها * ولا مر في أغفالها وهو غافل (3) / فقد سحبت فيها السحاب ذيولها * وقد أخملت بالنور تلك الخمائل (4) تعفين من زاد العفاة إذا انتحى * على الحى صرف الازمة المتماحل (5) لهم سلف سمر العوالي وسامر * وفيهم جمال لا يغيض وجامل (6) ليالى أضللت العزاء وخزلت * بعقلك آرام الخدور العقائل (7) من الهيف لو أن الخلاخيل صيرت * لها وشحا جالت عليه الخلاخل (8) مها الوحش إلا أن هاتا أوانس * قنا الخط إلا أن تلك ذوايل (9) هوى كان خلسا إن من أطيب الهوى * هوى جلت في أفيائه وهو خامل (10) ومن الادباء من عاب عليه هذه الابيات ونحوها على ما قد تكلف (11) فيها من البديع، وتعمل من الصنعة، فقال: قد أذهب ماء هذا الشعر / ورونقه وفائدته،
اشتغالا بطلب التطبيق وسائر ما جمع فيه (1) . وقد تعصب " عليه أحمد بن عبيد الله بن عمار " وأسرف حتى تجاوز إلى الغض من محاسنه. ولما قد أولع به من الصنعة ربما غطى على بصره حتى يبدع في القبيح، وهو يريد أن يبدع في الحسن. كقوله في قصيدة له أولها: سرت تستجير الدمع خوف نوى غد * وعاد قتادا عندها كل مرقد (3) فقال فيها: لعمري لقد حررت يوم لقيته * لو أن القضاء وحده لم يبرد (4) وكقوله: لو لم تدارك مسن المجد مذ زمن * بالجود والبأس كان المجد قد خرفا (5) فهذا من الاستعارات القبيحة، والبديع المقيت (6) ! ! / وكقوله: تسعون ألفا كآساد الشرى نضجت * أعمارهم قبل نضج التين والعنب (7) وكقوله: لو لم يمتْ بين أطرافِ الرماحِ إذاً * لمات، إذ لم يمتْ، من شدةِ الحزَنَ (8)
وكقوله: * خشنتِ عليه أختَ بني خشين (1) * وكقوله: ألا لا يمد الدهر كفا بسيئ * إلى مجتدى نصر فتقطع من الزِند (2) وقال في وصف المطايا: / لو كان كلّفها عبيد حاجة * يوماً لزنَّى شدقماً وجديلا (3) وكقوله: فضربت الشتاء في أخدعيه * ضربة غادرته عودا ركوبا (4) فهذا وما أشبهه إنما يحدث من غلوه في محبة الصنعة، حتى يعميه عن وجه الصواب، وربما أسرف في المطابق والمجانس ووجوه البديع من الاستعارة وغيرها، حتى استثقل نظمه، واستوخم رصفه، وكان التكلف (5) بارداً، والتصرف جامداً. وربما اتفق مع ذلك في كلامه النادر المليح، كما يتفق البارد القبيح. * * * وأما البحتري فإنه لا يرى في التجنيس ما يراه أبو تمام، ويقل التصنع له. فإذا وقع في كلامه كان في الأكثر حسناً رشيقا، وظريفا جميلا. وتصنعه
للمطابق كثير حسن، وتعمقه في وجوه الصنعة على وجه طلب السلامة، والرغبة في السلاسة، فلذلك يخرج سليماً من العيب في الأكثر. / وأما وقوف الألفاظ به عن تمام الحسنى، وقعود العبارات عن الغاية القصوى، فشئ لا بد منه، وأمر لا محيص عنه. كيف وقد وقف على من هو أجل منه وأعظم قدراً في هذه الصنعة، وأكبر في الطبقة، كامرئ القيس، وزهير، والنابغة، وابن هرمة (1) . ونحن نبين تميز كلامهم، وانحطاط درجة قولهم، ونزول طبقة نظمهم عن بديع نظم القرآن، في باب مفرد، يتصور به ذو الصنعة ما يجب تصوره، ويتحقق (2) وجه الإعجاز فيه، بمشيئة الله وعونه. * * * / ثم رجع الكلام بنا إلى ما قدمناه، من أنه لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من البديع الذي ادعوه في الشعر ووصفوه فيه. وذلك: أن هذا الفن ليس فيه ما يخرق العادة، ويخرج عن العرف، بل يمكن استدراكه بالتعلم والتدرب به والتصنع له، كقول الشعر، ورصف الخطب، وصناعة الرسالة، والحذق في البلاغة. وله طريق يسلك، ووجه يقصد، وسلم يرتقى فيه إليه، ومثال قد يقع طالبه عليه. فرب إنسان يتعود أن ينظم جميع كلامه شعرا، وآخر يتعود (3) أن يكون جميع خطابه سجعاً، أو صنعة متصلة، لا يسقط من كلامه حرفا (4) ، وقد يتأتى له لما قد تعوده (5) . وأنت ترى أدباء زماننا يضعون (6) المحاسن في جزء. وكذلك يؤلفون أنواع البارع، ثم ينظرون فيه إذا أرادوا إنشاء قصيدة أو خطبة فيحسنون (7) به كلامهم. ومن كان قد تدرب وتقدم في حفظ ذلك - استغنى عن هذا التصنيف، ولم يحتج إلى تكلف هذا التأليف، وكان ما أشرف عليه من هذا الشأن باسطاً من باع كلامه، وموشحاً بأنواع البديع ما يحاوله من قوله.
/ وهذا طريق لا يتعذر، وباب لا يمتنع، وكل يأخذ فيه مأخذا ويقف منه موقفا (1) ، على قدر ما معه من المعرفة، وبحسب ما يمده من الطبع. فأما شأو نظم القرآن، فليس له مثال يحتذى عليه (2) ولا إمام يقتدي به، ولا يصح وقوع مثله اتفاقا، كما يتفق للشاعر البيت النادر، والكلمة الشاردة، والمعنى الفذ الغريب، والشئ القليل العجيب، وكما يلحق من كلامه (3) ، بالوحشيات، ويضاف من قوله إلى الأوابد، لأن ما جرى هذا المجرى ووقع هذا الموقع، فإنما يتفق للشاعر في لمع من شعره، وللكاتب في قليل من رسائله، وللخطيب في يسير من خطبه. ولو كان كل شعره نادراً، ومثلاً سائراً، ومعنى بديعاً، ولفظاً رشيقا، وكل كلامه مملوءا من رونقه ومائه، ومحلى (4) ببهجته وحسن روائه، ولم يقع فيه المتوسط بين الكلامين، والمتردد بين الطرفين، ولا البارد (5) المستثقل، والغث المستنكر - لم يبن الإعجاز في الكلام، ولم يظهر (6) التفاوت العجيب بين النظام والنظام. / وهذه جملة تحتاج إلى تفصيل (7) ، ومبهم قد يحتاج في بعضه إلى تفسير (7) . وسنذكر ذلك بمشيئة الله وعونه. ولكن قد يمكن أن يقال في البديع الذي حكيناه وأضفناه إليهم: إن ذلك باب من أبواب البراعة، وجنس من أجناس البلاغة، وأنه لا ينفك القرآن عن فن من فنون بلاغاتهم، ولا وجه من وجوه فصاحاتهم، وإذا (8) أورد هذا المورد، ووضع هذا الموضع - كان جديراً. وإنما لم نطلق القول إطلاقاً، لأنا لا نجعل الإعجاز متعلقاً بهذه الوجوه الخاصة ووقفاً عليها، ومضافاً إليها، وإن صح أن تكون هذه الوجوه مؤثرة في الجملة، آخذة بحظها من الحسن والبهجة، متى وقعت في الكلام على غير وجه التكلف المستبشع والتعمل المستشنع.
فصل في كيفية الوقوف على إعجاز القرآن
/ فصل في كيفية الوقوف على إعجاز القرآن قد بينا أنه لا يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية، من العجم والترك وغيرهم، أن يعرفوا إعجاز القرآن إلا بأن (1) يعلموا أن العرب قد عجزوا عن ذلك. فإذا عرفوا هذا - بأن علموا أنهم قد تحدوا إلى (2) أن يأتوا بمثله، وقرعوا على ترك الإتيان بمثله، ولم يأتوا به - تبينوا أنهم عاجزون عنه. وإذا عجز أهل ذلك اللسان، فهم عنه أعجز. وكذلك نقول:، إن من كان من أهل اللسان العربي - إلا أنه ليس يبلغ في الفصاحة الحد الذي يتناهى إلى معرفة أساليب الكلام، ووجوه تصرف اللغة، وما يعدونه فصيحاً بليغا بارعاً من غيره - فهو كالأعجمي: في أنه لا يمكنه أن يعرف إعجاز القرآن، إلا بمثل ما بينا أن يعرف به الفارسي الذي بدأنا بذكره، وهو ومن ليس من أهل اللسان، سواء. فأما من كان قد تناهى في معرفة اللسان العربي، ووقف على طرقها ومذاهبها - فهو يعرف القدر الذي ينتهي إليه وسع المتكلم من الفصاحة، ويعرف ما يخرج عن الوسع، ويتجاوز حدود القدرة - / فليس يخفى عليه إعجاز القرآن، كما يميز بين جنس الخطب والرسائل والشعر، وكما يميز بين الشعر الجيد والردئ، والفصيح والبديع، والنادر والبارع والغريب. وهذا كما يميز أهل كل صناعة صنعتهم، فيعرف الصيرفي من النقد ما يخفى على غيره، ويعرف البزاز من قيمة الثوب وجودته ورداءته ما يخفى على غيره، وإن كان يبقى مع معرفة هذا الشأن أمر آخر، وربما (3) اختلفوا فيه: لأن من أهل الصنعة من يختار الكلام المتين، والقول الرصين. ومنهم من يختار الكلام الذي يروق ماؤه، وتروع بهجته ورواؤه،
ويسلس مأخذه، ويسلم وجهه ومنفذه، ويكون قريب المتناول، غير عويص اللفظ، ولا غامض المعنى. كما [قد] (1) يختار (2) قوم ما يغمض معناه، ويغرب لفظه، ولا يختار ما سهل على اللسان، وسبق إلى البيان. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصف زهيراً، فقال: كان لا يمدح الرجل إلا بما فيه (3) . وقال لعبد بني الحسحاس حين أنشده: / * كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا (4) *: أما إنه لو قلت مثل هذا لأجزتك عليه (5) . وروي أن جريراً سئل عن أحسن الشعر؟ فقال: قوله: إن الشقي الذي في النار منزله * والفوز فوز الذي ينجو من النار (6) كأنه فضله لصدق معناه. ومنهم من يختار الغلو في قول الشعر والإفراط فيه (7) ، حتى ربما قالوا: أحسن الشعر أكذبه، كقول النابغة: يَقُدُّ السلوقِيَّ المضاعفَ نسجُه * ويوقدن بالصفّاحِ نارَ الحباحبِ (8) وأكثرهم على مدح المتوسط بين المذهبين: في الغلو (9) والاقتصاد، وفي المتانة والسلاسة.
ومنهم من رأى أن أحسن الشعر ما كان أكثر صنعة، وألطف / تعملا، وأن يتخير الالفاظ الرشيقة للمعانى البديعية والقوا في الواقعة، كمذهب البحتري، وعلى ما وصفه عن بعض الكتاب (1) [في قوله] (2) : في نظام من البلاغة ما شك * ك امرؤُ إنه نظام فريد (3) وبديع كأنه الزَّهَرُ الضا * حكُ في رونق الربيعِ الجديد حُزنَ مستعمل الكلام اختياراً * وتجنبْنَ ظلمةَ التعقيد وركبن اللفظ القريب فأدرك * ن به غاية المراد البعيد (4) [كالعذاري غدون في الحلل ال * بيض إذا رحن في الخطوط السود] (5) ويرون أن من تعدى هذا كان سالكاً مسلكاً عامياً، ولم يروه شاعراً ولا مصيباً. / وفيما كتب [إلى] الحسن بن عبد الله: أبو (6) أحمد العسكري، قال: أخبرني محمد بن يحيى، قال: أخبرني عبد الله بن الحسين (7) قال: قال لي البحتري: دعاني " علي بن الجهم " فمضيت إليه، فأفضنا في أشعار المحدثين، إلى أن ذكرنا شعر أشجع [السلمى] ، فقال لي: إنه يُخْلي، وأعادها مرات، ولم أفهمها، وأنفت أن أسأله عن معناها، فلما انصرفت أفكرت في الكلمة ونظرت في شعره، فإذا هو ربما مرت له الأبيات مغسولة ليس فيها بيت رائع،
وإذا هو يريد هذا بعينه: أن يعمل الابيات فلا يصيب فيها بيت نادر (1) ، كما أن الرامي إذا رمى برشقه فلم يصب بشئ (2) ، قيل: قد أخلى. قال (3) : وكان " علي بن الجهم " أحسن الناس علما بالشعر (4) . وقوم من أهل اللغة يميلون إلى الرصين من الكلام، الذي يجمع الغريب والمعاني، مثل أبي عمرو بن العلاء، وخلف الأحمر، والأصمعي. / ومنهم من يختار الوحشي من الشعر، كما اختار المفضل (5) للمنصور من " المفضليات " وقيل: إنه اختار ذلك لميله إلى ذلك الفن. وذكر الحسن بن عبد الله: أنه أخبره بعض الكتاب عن علي بن العباس، قال: حضرت مع البحتري مجلس عبيد الله بن عبد الله بن طاهر (6) ، وقد سأل البحتري عن أبي نواس ومسلم بن الوليد: أيهما أشعر؟ فقال البحتري: أبو نواس أشعر. فقال عبيد الله: إن أبا العباس ثعلباً لا يطابقك على قولك، ويفضل مسلماً. فقال البحتري: ليس هذا من عمل ثعلب وذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون عمله، إنما يعلم ذلك من دفع في مسلك (7) الشعر إلى مضايقه، وانتهى إلى ضرواته (8) . فقال له عبيد الله (9) : وريت بك زنادي يا أبا عبادة، وقد وافق حكمك حكم أخيك بشار بن برد في جرير والفرزدق، [فإن دعبلا حدثنى عن أبى نواس، أنه حضر بشارا، وقد سئل عن جرير والفرزدق، و] (10) أيهما أشعر؟ فقال: جرير أشعرهما. فقيل له: / بماذا؟ فقال: لأن جريراً يشتد، إذا شاء، وليس كذلك الفرزدق، لانه يشتد أبدا. فقيل له: فإن يونس وأبا عبيدة يفضلان الفرزدق على جرير.
فقال: ليس هذا من عمل أولئك القوم، إنما يعرف الشعر من يضطر إلى أن يقول مثله، وفي الشعر ضروب لم يحسنها الفرزدق، ولقد ماتت النوار امرأته فناح عليها بقول جرير: لولا الحياء لعادني استعبار * ولزرت قبرك والحبيب يزار (1) وروي عن أبي عبيدة: أنه قال للفرزدق (2) : مالك لا تنسب كما ينسب جرير؟ فغاب حولاً، ثم جاء فأنشد: يا أخت ناجية بن سامة إنني * أخشى عليك بنى إن طلبوا دمى (3) والاعدل في الاختيار ما سلكه أبو تمام (4) من الجنس الذي جمعه في كتاب " الحماسة "، وما اختاره من " الوحشيات "، وذلك أنه تنكب (5) المستنكر الوحشى، والمبتذل العامي، وأتى بالواسطة. وهذه طريقة من ينصف في الاختيار، ولا يعدل به غرض (6) / يخص، لأن الذين اختاروا الغريب فإنما اختاروه لغرض لهم في تفسير ما يشتبه على غيرهم، وإظهار (7) التقدم في معرفته، وعجز غيرهم عنه، ولم يكن قصدهم جيد الاشعار لشئ يرجع إليها في أنفسها. ويبين هذا: أن الكلام الموضوع للإبانة عن الأغراض التي في النفوس وإذا كان كذلك وجب أن يتخير من اللفظ ما كان أقرب إلى الدلالة على (8) المراد، وأوضح في الإبانة عن المعنى المطلوب، ولم يكن مستكره المطلع على الاذن، و [لا] (9) مستنكر المورد على النفس، حتى يتأبى بغرابته (10) في اللفظ عن الافهام، أو يمتنع بتعويص (11) معناه عن الإبانة. ويجب أن يتنكب ما كان عامى اللفظ (12) ، مبتذل العبارة، ركيك المعنى، سفسافي الوضع، مجتلب
التأسيس (1) على غير أصل ممهد، ولا طريق موطد. وإنما فضلت العربية على غيرها، لاعتدالها في الوضع. لذلك وضع أصلها على أن أكثرها [هو] (2) بالحروف المعتدلة، فقد أهملوا الألفاظ / المستكرهة في نظمها، وأسقطوها من كلامهم، وجعلوا عامة (3) لسانهم على الاعدل. ولذلك صار أكثر كلامهم من الثلاثي، لأنهم بدءوا بحرف وسكتوا على آخر، وحعلوا حرفاً وصلة بين الحرفين، ليتم الابتداء والانتهاء على ذلك. والثنائي أقل. وكذلك الرباعي والخماسي أقل، ولو كان ثنائيا لتكررت الحروف. ولو كان كله رباعيا أو (4) خماسيا لكثرت الكلمات. وكذلك بني أمر الحروف التي ابتدئ بها السور على هذا: فأكثر هذه السور التي ابتدئت بذكر الحروف، ذكر فيها ثلاثة أحرف. وما هو أربعة أحرف سورتان. وما ابتدئ بخمسة أحرف سورتان. فأما ما بدئ بحرف واحد فقد اختلفوا فيه: فمنهم من لم يجعل ذلك حرفا، وإنما جعله فعلا واسما لشئ خاص. ومن جعل ذلك حرفاً قال: أراد أن يحقق الحروف مفردها ومنظومها. ولضيق ما سوى كلام العرب، أو لخروجه عن الاعتدال - يتكرر (5) في بعض الألسنة الحرف الواحد في الكلمة الواحدة والكلمات المختلفة كثيراً (6) ، كنحو تكرر الطاء والسين في لسان / يونان، وكنحو الحروف الكثيرة التى هي (7) اسم لشئ واحد في لسان الترك، ولذلك لا يمكن أن ينظم من الشعر في تلك الألسنة على الأعاريض التي تمكن في اللغة العربية. والعربية أشدها تمكناً، وأشرفها تصرفاً وأعدلها، ولذلك (8) جعلت حلية لنظم القرآن، وعلق بها الإعجاز، وصار دلالة في النبوة (9) . * * *
وإذا كان الكلام إنما يفيد الإبانة عن الأغراض القائمة في النفوس، التي لا يمكن التوصل إليها بأنفسها وهي محتاجة إلى ما يعبر عنها، فما كان أقرب في تصويرها، وأظهر في كشفها للفهم الغائب عنها، وكان مع ذلك أحكم في الإبانة عن المراد، وأشد تحقيقا في الايضاح عن المطلب (1) وأعجب في وضعه، وأرشق في تصرفه، وأبرع في نظمه - كان أولى وأحق بأن يكون شريفاً. وقد شبهوا النطق بالخط، والخط يحتاج مع بيانه إلى رشاقة / وصحة، [وملاحة] (2) ولطف، حتى يحوز الفضيلة ويجمع الكمال. شبهوا الخط والنطق بالتصوير، وقد أجمعوا أن من أحذق المصورين من صور لك الباكي المتضاحك، والباكي الحزين، والضاحك المتباكي، والضاحك المستبشر. وكما أنه يحتاج إلى لطف يد في تصوير هذه الأمثلة، فكذلك يحتاج إلى لطف في اللسان والطبع في تصوير ما في النفس للغير. وفي جملة الكلام ما تقصر (3) عبارته وتفضل معانيه. وفيه ما تقصر معانيه (4) وتفضل العبارات. وفيه ما يقع كل واحد منهما وفقاً للآخر. ثم ينقسم ما يقع وفقا إلى أنه قد يفيدها على [جملة وقد يفيدها على] (5) تفصيل. وكل واحد منهما قد ينقسم إلى ما يفيدها على أن يكون كل واحد منهما بديعاً شريفاً، وغريباً لطيفاَ. وقد يكون كل واحد منهما مستجلباً متكلفاً، ومصنوعاً متعسفاً، وقد يكون [كل] (6) واحد منهما حسناً رشيقاً، وبهيجاً نضيراً (7) . وقد يتفق أحد الامرين دون الآخر. وقدر / يتفق أن يسلم الكلام والمعنى من غير رشاقة ولا نضارة في واحد منهما. [و] (8) إنما يميز من يميز، ويعرف من يعرف. والحكم في ذلك صعب شديد، والفصل فيه شأو بعيد. وقد قل من
يميز أصناف الكلام، فقد حكي عن طبقة أبى عبيدة وخلف الاحمر وغيرهما في زمانهما (1) ، أنهم قالوا: ذهب من يعرف نقد (2) الشعر. وقد بينا قبل هذا اختلاف القوم في الاختيار، وما يجب أن يجمعوا عليه، ويرجعوا عند التحقيق إليه، فكلام المقتدر نمط، وكلام المتوسط (3) باب، وكلام المطبوع له طريق، وكلام المتكلف له منهاج، والكلام المصنوع المطبوع له باب. ومتى تقدم الإنسان في هذه الصنعة، لم تخف عليه هذه الوجوه، ولم تشتبه عنده هذه الطرق: فهو يميز قدر كل متكلم بكلامه (4) ، وقدر كل كلام في نفسه، ويحله محله، ويعتقد فيه ما هو عليه، ويحكم فيه (5) بما يستحق من الحكم. / وإن كان المتكلم يجود في شئ دون شئ، عرف ذلك منه. وإن كان (6) يعم إحسانه، عرف (7) . ألا ترى أن منهم من يجود في المدح دون الهجو. ومنهم من يجود في الهجو وحده (8) ، ومنهم من يجود في المزح (9) والسخف، ومنهم من يجود في الأوصاف. والعالم لا يشذ عنه [شئ من ذلك، ولا تخفى عليه] (10) مراتب هؤلاء، ولا تذهب عليه أقدارهم، حتى أنه إذا عرف طريقة شاعر في قصائد معدودة، فأنشد غيرها من شعره - لم يشك أن ذلك من نسجه، ولم يرتب في في أنها (11) من نظمه، كما أنه إذا عرف خط رجل لم يشتبه عليه خطه حيث رآه (12) من بين الخطوط المختلفة، وحتى يميز بين رسائل كاتب وبين رسائل غيره، وكذلك أمر الخطب.
فإن اشتبه عليه البغض، فهو لاشتباه الطريقين، وتماثل الصورتين، كما قد يشتبه شعر أبي تمام بشعر البحتري: في القليل الذي يترك أبو تمام فيه التصنع، ويقصد فيه التسهل، ويسلك الطريقة الكتابية، / ويتوجه في تقريب الألفاظ وترك تعويض المعاني، ويتفق له مثل بهجة أشعار البحترى وألفاظه. ولا يخفى على أحد يميز هذه الصنعة سبك أبى نواس [من سبك مسلم] (1) ، ولا نسج ابن الرومي من نسج البحتري، وينبهه ديباجة (2) شعر البحتري، وكثرة مائه، وبديع رونقه، وبهجة كلامه، إلا فيما يسترسل فيه، فيشتبه بشعر (3) ابن الرومي، ويحركه ما لشعر (4) أبي نواس من الحلاوة، والرقة، والرشاقة، والسلاسة، حتى يفرق بينه وبين شعر مسلم. وكذلك يميز بين شعر الأعشى في التصرف، وبين شعر امرئ القيس، وبين شعر النابغة وزهير، وبين شعر جرير والأخطل، والبعيث والفرزدق. وكل له منهج معروف، وطريق مألوف. ولا يخفى عليه في زماننا الفصل بين " رسائل عبد الحميد " وطبقته وبين طبقة من بعده (5) ، حتى إنه لا يشتبه عليه ما بين " رسائل ابن العميد " وبين رسائل أهل عصره ومن بعده من برع في صنعة الرسائل، / وتقدم في شأوها، حتى جمع فيها بين طرق المتقدمين وطريقة المتأخرين، [و] حتى خلص لنفسه طريقة (6) ، وأنشأ لنفسه منهاجاً، فسلك تارة " طريقة الجاحظ " وتارة طريقة السجع، وتارة طريقة الأصل، وبرع في ذلك باقتداره، وتقدم بحذقه، ولكنه لا يخفى مع ذلك على أهل الصنعة طريقة من طريق غيره، وإن كان قد يشتبه البعض، ويدق القليل، وتغمض الاطراف، وتشذ النواحى.
وقد يتقارب (1) سبك نفر من شعراء عصر، وتتدانى رسائل كتاب دهر، حتى تشتبه اشتباهاً شديدا، وتتماثل تماثلا قريبا، فيغمض الاصل (2) . وقد يتشاكل الفرع والاصل، وذلك فيما لا يتعذر دراك (3) أمده، ولا يتصعب طلاب شأوه، ولا يمنع بلوغ غايته، والوصول إلى نهايته، لأن الذي ينفق من الفصل (4) بين أهل الزمان إذا تفاضلوا [في سبق] (5) ، وتفاوتوا في مضمار، فصل قريب، وأمر يسير. وكذلك لا يخفى عليهم معرفة سارق الألفاظ و [لا] سارق (6) / المعاني، ولا من يخترعها، ولا من يلم بها، ولا من يجاهر بالأخذ ممن يكاتم به، ولا من يخترع الكلام اختراعاً، ويبتدهه ابتداهاً، ممن يروى (7) فيه، ويجيل الفكر في تنقيحه، ويصبر عليه، حتى يتخلص له ما يريد، وحتى يتكرر نظره فيه. قال أبو عبيدة: سمعت أبا عمرو يقول: زهير والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، لأنهم نقحوه، ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين (8) . وكان زهير يسمى كبر شعره " الحوليات المنقحة ". وقال عدي ابن الرقاع: وقصيدة قد بت أجمع بينها * حتى أقوِّم ميلها وسنادها (9) نظر المثقف في كعوب قناته * حتى يقيم ثقافه مُنآدها وكقول سويد بن كراع: أبيت بأبواب القوافي كأنما * أصادي بها سربا من الوحش نزعا (10)
ومنهم من يعرف بالبديهة وحدة الخاطر، ونفاذ الطبع وسرعة / النظم، يرتجل القول ارتجالاً، ويطبعه (1) عفواً صفواً، فلا يقعد به عن قوم قد تعبوا وكدوا أنفسهم، وجاهدوا خواطرهم. وكذلك لا [يمكن أن] (2) يخفى عليهم الكلام العلوى، واللفظ الملوكى، كما لا يخفى عليهم الكلام العامي، واللفظ السوقى، ثم تراهم ينزلون الكلام تنزيلا، ويعطفونه - كيف تصرف - حقوقه، ويعرفون مراتبه فلا يخفى عليهم ما يختص به كل فاضل تقدم في وجه من وجوه النظم، من الوجه الذي لا يشاركه فيه غيره، ولا يساهمه سواه. ألا تراهم وصفوا زهيراً بأنه أمدحهم وأشدهم أسر شعر (3) ، قاله أبو عبيدة (4) ؟ وروى أن الفرزدق انتحل بيتاً من شعر جرير، وقال: هذا يشبه شعري. فكان هؤلاء لا يخفى عليهم ما قد نسبناه إليهم من المعرفة بهذا الشأن، وهذا كما يعلم البزاز أن (5) هذا الديباج عمل بتستر (6) ، وهذا / لم يعمل بتستر، وأن هذا من صنعة فلان دون فلان، ومن نسج فلان دون فلان، حتى لا يخفى عليه، وإن كان قد يخفى على غيره. ثم إنهم يعلمون أيضاً من له سمت بنفسه، ورفت برأسه، ومن يقتدي في الألفاظ أو في المعاني أو فيهما بغيره، ويجعل سواه قدوة له، ومن يلم في الأحوال بمذهب غيره، ويطور (7) في الاحيان [بجنبات كلامه] (8) . وهذه أمور ممهدة عند العلماء، وأسباب معروفة عند الأدباء، وكما يقولون: إن " البحتري " يغير على " أبي تمام " إغارة، ويأخذ منه صريحاً وإشارة،
ويستأنس بالأخذ منه بخلاف (1) ما يستأنس بالأخذ من غيره، ويألف اتباعه كما لا يألف اتباع سواه، وكما كان أبو تمام يلم بأبي نواس ومسلم، وكما يعلم أن بعض الشعراء يأخذ من كل أحد ولا يتحاشى، ويؤلف ما يقوله من فرق شتى. وما الذي نفع " المتنبي " جحوده الأخذ، وإنكاره معرفة " الطائيين " وأهل الصنعة يدلون على كل حرف أخذه منهما جهاراً، أو ألمّ بهما فيه سراراً؟ ! / وأما ما لم يأخذ عن الغير، ولكن سلك النمط، وراعى النهج، فهم يعرفونه، ويقولون: هذا أشبه به من التمر بالتمرة، وأقرب إليه من الماء إلى الماء، وليس بينهما إلا كما بين الليلة والليلة، فإذا تباينا وذهب أحدهما في غير مذهب صاحبه، وسلك في غير جانبه (2) ، قيل: بينهما ما بين السماء والارض، وماب ين النجم والنون (3) ، وما بين المشرق والمغرب. * * * وإنما أطلت عليك، ووضعت جميعه بين يديك، لتعلم أن أهل الصنعة يعرفون دقيق هذا الشأن وجليله، وغامضه وجليه، وقريبه وبعيده، ومعوجه ومستقيمه. فكيف يخفى عليهم الجنس الذي هو بين الناس متداول، وهو قريب متناول، من أمر يخرج عن أجناس كلامهم، ويبعد عما هو في عرفهم، ويفوت مواقع قدرهم؟ ! وإذا اشتبه ذلك، فإنما يشتبه على ناقص في الصنعة، أو قاصر عن معرفة طرق الكلام الذي يتصرفون فيه ويديرونه (4) بينهم ولا يتجاوزونه، فلكلامهم سبل مضبوطة، وطرق معروفة محصورة. وهذا كما يشتبه على من يدعي الشعر - من أهل زماننا - والعلم بهذا / الشأن، فيدعي أنه أشعر من البحتري، ويتوهم أنه أدق مسلكاً من أبي نواس، وأحسن طريقاً من مسلم! وأنت تعلم أنهما متباعدان، وتتحقق أنهما لا يجتمعان
ولعل أحدهما إنما يلحظ غبار (1) صاحبه، ويطالع ضياء نجمه، ويراعى خفوق (2) جناحه وهو راكد في موضعه، ولا يضر البحترى ظنه، ولا يلحقه بشأوه وهمه (3) . فإن اشتبه على متأدب أو متشاعر أو ناشئ أو مرمد، فصاحة القرآن وموقع بلاغته، وعجيب براعته - فما عليك منه، إنما يخبر عن نقصه (4) ، ويدل على عجزه، ويبين عن جهله، ويصرح (5) بسخافة فهمه، وركاكة عقله. وإنما قدمنا (6) ما قدمناه في هذا الفصل، لتعرف أن ما ادعيناه من معرفة البليغ بعلو شأن القرآن وعجيب نظمه وبديع تأليفه، أمر لا يجوز غيره، ولا يحتمل سواه، ولا يشتبه على ذي بصيرة، ولا يخيل عند (7) أخي معرفة، كما يعرف الفصل بين طبائع (8) الشعراء / من أهل الجاهلية، وبين المخضرمين، وبين المحدثين، ويميز بين من يجري على شاكلة طبعه وغريزة نفسه، وبين من يشتغل بالتكلف والتصنع، وبين من يصير التكلف له كالمطبوع، وبين من كان مطبوعه كالمتعمل (9) المصنوع. هيهات هيهات! ! هذا أمر - وإن دقّ - فله قوم يقتلون علماَ، وأهل يحيطون به فهماً، ويعرفونه (10) إليك إن شئت، ويصورونه لديك إن أردت، ويجلونه على خواطرك إن أحببت، ويعرفونه لفطنتك إن حاولت، وقد قال القائل: للحرب والضرب أقوامٌ لها خُلِقُوا * وللدواوين كتّابٌ وحُسَّابُ ولكل عمل رجال، ولكل صنعة ناس، وفي كل فرقة الجاهل والعالم والمتوسط، ولكل قد قل من يميز في هذا الفن خاصة، وذهب من يحصل في هذا الشأن، إلا قليلا! فإن كنت ممن هو بالصفة التي وصفناها - من التناهى في معرفة الفصاحات،
والتحقق (1) بمجاري البلاغات - فإنما يكفيك التأمل، ويغنيك التصور. وإن كنت في الصنعة مرمداً، وفي المعرفة بها متوسطاً، فلا بد / لك من التقليد، ولا غنى بك عن التسليم. إن الناقص في هذه الصنعة كالخارج عنها، والشادي فيها كالبائن منها. فإن أراد أن نقرب عليه أمرا (2) ، ونفسح له طريقا، ونفتح له بابا - ليعرف به إعجاز القرآن - فإنا نضع بين يديه الأمثلة، ونعرض عليه الأساليب، ونصور له صور (3) كل قبيل من النظم والنثر، ونحضره (4) من كل فن من القول شيئاً يتأمله حق تأمله، ويراعيه حق رعايته (5) ، فيستدل استدلال العالم، ويستدرك استدراك (6) الناقد، ويقع (7) له الفرق بين الكلام الصادر عن الربوبية، الطالع عن الإلهية، الجامع بين الحكم والحكم، والأخبار عن الغيوب والغائبات، والمتضمن لمصالح الدنيا والدين، والمستوعب لجلية اليقين، والمعاني المخترعة في تأسيس أصل الشريعة وفروعها بالألفاظ الشريفة، على تفننها وتصرفها. ونعمد إلى شئ من الشعر المجمع عليه، فنبين وجه النقص فيه، وندل على انحطاط رتبته، ووقوع أبواب الخلل فيه، حتى إذا تأمل ذلك، وتأمل ما نذكره - من تفصيل إعجاز القرآن وفصاحته، وعجيب براعته - انكشف له واتضح، وثبت / ما وصفناه لديه ووضح، وليعرف حدود " البلاغة "، ومواقع البيان " والبراعة " ووجه التقدم في " الفصاحة ". وذكر الجاحظ في كتاب البيان والتبيين (8) : أن الفارسي سئل، فقيل له: ما " البلاغة "؟ فقال: معرفة الفصل من الوصل. وسئل اليوناني عنها؟ فقال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام. وسئل الرومي عنها؟ فقال: حسن الاقتضاب عند البداهة (9) ، والغزازة يوم الاطالة.
وسئل الهندي عنها؟ فقال: وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة. وقال مرة (1) : التماس حسن الموقع والمعرفة بساعات (2) القول، وقلة الخرق بما (3) التبس من المعاني، أو غمض وشرد من اللفظ وتعذر. وزينته (4) أن تكون الشمائل موزونة، والالفاظ معدلة، واللهجة نقية (5) ، وأن (6) لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة، ويكون في قواه فضل (7) التصرف في كل طبقة ولا يدقق المعاني كل التدقيق، ولا ينقح الألفاظ كل التنقيح، و [لا] يصفيها كل التصفية، و [لا] يهذبها بغاية التهذيب (8) . وأما " البراعة " فهى فيما يذكر (9) أهل اللغة: الحذق بطريقة الكلام وتجويده، وقد يوصف بذلك كل متقدم في قول أو صناعة. وأما " الفصاحة " فقد اختلفوا فيها: فمنهم من عبر عن معناها بأنه: ما كان جزل اللفظ، حسن المعنى. وقد قيل: معناها: الاقتدار على الإبانة عن المعاني الكامنة في النفوس، على عبارات جلية، ومعان نقية بهية. * * * والذي يصور عندك ما ضمنا تصويره، ويحصل لديك (10) معرفته - إذا كنت في صنعة الأدب متوسطاً، وفى علم العربية متبينا (11) - / أن تنظر أو لا في
في نظم القرآن، ثم في شئ من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فتعرف الفصل بين النظمين، والفرق بين الكلامين. فإن تبين لك الفصل، ووقعت على جلية الأمر وحقيقة الفرق - فقد أدركت الغرض، وصادفت المقصد. وإن لم تفهم الفرق، ولم تقع (1) على الفصل - فلا بد لك من التقليد، وعلمت أنك من جملة العامة، وإن سبيلك سبيل من هو خارج عن أهل اللسان.
خطبة للنبي
/ خطبة للنبي صلى الله عليه وسلم روى طلحة بن عبيد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على منبره يقول: " ألا أيها (1) الناس، توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا، وبادروا الأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصِلُوا الذي بينكم وبين ربكم - بكثرة ذكركم له، وكثرة الصدقة في السر والعلانية - تُرزقوا وتُؤجروا وتُنصروا. واعلموا أن الله عز وجل قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في عامي هذا، في شهري هذا، إلى يوم القيامة: حياتي ومن بعد (2) موتي، فمن تركها وله إمام - فلا جمع الله له شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا حجَّ له، ألا ولا صوم له، ألا ولا صدقة له، ألا ولا برله. ألا ولا يؤمُ أعرابي مهاجراً، ألا ولا يؤمُ فاجرٌ مؤمناً، إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه ولا سوطه ". / خطبة له صلى الله عليه وسلم " أيها (3) الناسُ، إن لكم معالم، فانتهوا (4) إلى معالمكم، وإن لكم نهايةَ، فانتهوا إلى نهايتكم. إن المؤمن بين مخافتين: بين أجلٍ قد مضى، لا يدري ما اللهُ صانعٌ فيه، وبين أجلٍ قد بقي، لا يدري ما اللهُ تعالى قاضٍ عليه فيه. فليأخذِ العبدُ لنفسه من نفسه، ومن دنياه لآخرتهِ، ومن الشبيبةِ (5) . قبلَ الكِبَرَ، ومن الحياة قبل الموت.
خطبة له
والذي نفسُ محمدٍ بيده: ما بعد الموت من مستعتبٍ، ولا بعدَ الدنيا دارٌ، إلا الجنةُ أو النار ". خطبة له صلى الله عليه وسلم " إن الحمد لله، أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيآت أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك (1) له. / إن أحسنَ الحديث كتابُ الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن (2) الحديث وأبلغه. أحبوا من أحب الله، وأحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تَمَلُّوا كلامَ الله وذكرَهُ، ولا تقسو عليه قلوبُكم، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً. اتقوا الله حق تقاته، وصدقوا صالح ما تعملون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، والسلام عليكم ورحمة الله ". خطبة له صلى الله عليه وسلم في أيام التشريق قال بعد حمد الله: " أيها الناس، أتدرون (3) في أي شهر أنتم؟ وفي أي يوم أنتم؟ وفي أي بلد أنتم؟ قالوا: في يوم حرام، وشهر حرام، وبلد حرام. قال: ألا فإن دماءكم وأموالكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ، كحُرْمةِ يومِكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقونَهُ. ثم قال: اسمعوا منى تعيشوا، ألا لا تظالموا، ألا لا تظالموا، ألا لا تظالموا.
/ ألا إنه لا يحلُّ مالُ امرئ مسلم إلا بطيبِ نفسٍ منه. ألا إن كل دمِ ومالِ ومأثرةِ كانت في الجاهلية، تحت قدمي هذه، ألا وإن أولَ دمِ وُضع دمُ ربيعةَ بن الحارث بن عبد المطلب - كان مسترضعا في بنى ليث، فقتلته هذيل (1) -. ألا وإن كل ربا كان في الجاهلية موضوعٌ، ألا وإن الله تعالى قضى أن أول ربا يُوضع: ربا عمي العباس، لكم (رءوس أموالكم، لا تَظْلِمُون ولا تُظْلَمُون) . ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض (منها أربعةٌ حرم، ذلك الدينُ القيم، فلا تظلموا فيهن أنفسكم) . ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض (3) . / ألا وإن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينكم (4) . اتقوا الله في النساء، فإنهن عندكم عوانِ (5) ، لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإن لهن عليكم حقاً، ولكم عليهن حق: أن لا يُوطِئنَ فرشَكم أحداً غيركم، فإن خفتم نشوزَّهن فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضرباَ غير مبرح، ولهن رزقُهُن وكسوتُهُن بالمعروف، فإنما أخذتموهن بأمانة الله تعالى، واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
خطبته يوم فتح مكة
ألا ومن كانت عنده أمانة، فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. ثم بسط يده، فقال: ألا هل بلغت، ألا هل بلغت، ليبلغِ الشاهدُ الغائبَ، فربَّ مبلغٍ أبلغُ من سامع ". / خطبته صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقف على باب الكعبة، ثم قال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق (1) وعدَهُ، ونصرَ عبدَهُ، وهزمَ الأحزابَ وحدَه. ألا كل مأثرة أو دم أو مال يُدعى - فهو تحت قدميَّ هاتين، إلا سدانة البيتِ، وسقاية الحاج. ألا وقتيل الخطأ العمد بالسوط والعصا - فيه الدية مغلظة، منها أربعون خلفة (2) ، في بطونها أولادها. يا معشر قريشٍ، إن الله قد أذهب عنكم نخوةَ الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم خلق من تراب، ثم تلا هذه الآية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير) (3) . يا معشر قريشِ - أو يا أهل مكة - ما ترون أني فاعلٌ بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ [كريم. ثم] قال: فاذهبوا فأنتم الطُلَقَاءُ ". خطبته صلى الله عليه وسلم بالخيف وروى زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب / بالخيف من منى، فقال (4) :
خطبة له
" نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها (1) ، ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب حاملِ فقهٍ لا فقَه له، وربَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقه منه. ثلاثٌ لا يغُلُّ (2) عليهن قلب المؤمن: اخلاصُ العمل لله، والنصيحةُ لأولي الأمر، ولزوم الجماعة، إن دعوتهم تكون من ورائه. ومن كان همُّهُ الآخرةَ: جمع الله شمله، وجعل غِناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمةٌ. ومن كان همه الدنيا: فرَّق الله أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأتِهِ من الدنيا إلا ما كُتِبَ له ". / خطبة له صلى الله عليه وسلم رواها أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه قال (3) : خطب بعد العصر، فقال: " ألا إن الدنيا خَضِرَةٌ حُلوة (4) ، ألا وإن الله مستخلفُكم فيها، فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء. ألا لا يمنعنَّ رجلاً مخافةُ الناس، أن يقول الحق إذا علمه.
كتاب النبي إلى ملك فارس
قال: ولم يزل يخطب حتى لم تبق من الشمس إلا حُمرةٌ على أطراف السَّعَف، فقال: إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى، إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى ". كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك فارس " من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس: سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله، وأدعوك / بدعاء الله تعالى، فإني أنا رسولُ الله إلى الناس كافةً، لأُنذِرَ من كان حياً، ويحق القول على الكافرين. فأسلم تَسْلَم ". كتاب له صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي " من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة: سلم أنت، فإني أحمد إليك الله الملكَ القدوسَ السلام المؤمن المهيمن. وأشهد أن عيسى ابن مريم روحُ الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول (1) الطيبة، فحملت بعيسى، فحملته من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده ونفخه. وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني. وإني أدعوك وجنودَك إلى الله تعالى، فقد (2) بلغتُ ونصحت، فاقبلوا نُصحي. والسلام على من اتبع الهدى ".
نسخة عهد الصلح مع قريش عام الحديبية
نسخة عهد الصلح مع (1) قريش عام الحديبية " هذا (2) ما صالح عليه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، سهيل / ابن عمرو: اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين (3) ، يأمن فيها الناس، ويكف (4) بعضهم عن بعض على أنه من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش (5) بغير إذن (6) وليِّه، ردَّه عليهم. ومن جاء قريشاً ممن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يردوه عليه (7) ، وإن بيننا عيبةً مكفوفة (8) وأنه لا إسلال (9) ، ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده / دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه، وأنك ترجعُ عنا عامَك هذا، فلا تدخل علينا مكة، فإذا كان عاماً قابلاً خرجنا عنك، فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثاً، وأن معك سلاح الراكب، والسيوف في القُرُب (10) ، فلا تدخلها بغير هذا " * * * ولا أطول عليك، وأقتصر على ما ألقيته إليك (11) ، فإن كان لك في الصنعة حظ، أو كان لك في هذا المعنى حس، أو كنت تضرب في الادب
بسهم، أو في العربية بقسط - وإن قلَّ ذلك السهم، أو نقص ذلك النصيب - فما أحسب أنه يشتبه عليك الفرق بين براعة القرآن، وبين ما نسخناه لك من كلام الرسول، صلى الله صلى الله عليه وسلم، في خطبه ورسائله، وما عساك تسمعه من كلامه، ويتساقط إليك من ألفاظه، وأقدر أنك ترى بين الكلامين بوناً بعيداً، وأمداً مديداً، وميداناً واسعاً، ومكانا شاسعا. * * * فإن قلت: لعله أن يكون تعمل للقرآن، وتصنع لنظمه، وشبه عليك الشيطان ذلك من خبثه - فتثبت في نفسك، وارجع إلى عقلك، / واجمع لُبَّك، وتيقن أن الخطب يحتشد لها في المواقف العظام، والمحافل الكبار، والمواسم الضخام، ولا يتجوز فيها، ولا يستهان بها، والرسائل إلى الملوك مما يجمع لها الكاتب جراميزه (1) ، ويشمر لها عن جد واجتهاد، فكيف يقع بها الاخلال؟ وكيف تعرض (2) للتفريط؟ فستعلم، لا محالة أن نظم القرآن من الأمر الإلهي، وأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم من الامر النبوى. فإذا أردت زيادة في التبين (3) وتقدماً في التعرف، وإشرافا على الجلية وفوزاً بمحكم القضية، فتأمل - هداك الله - ما ننسخه لك من خطب الصحابة والبلغاء، لتعلم أن نسجها ونسج ما نقلنا - من خطب النبي صلى الله عليه وسلم - واحد، وسبكها سبك غير مختلف، وإنما يقع بين كلامه وكلام غيره، ما يقع من التفاوت بين كلام الفصيحين، وبين (4) شعر الشاعرين، وذلك أمر له مقدار معروف، وحد - ينتهى إليه - مضبوط.
خطبة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه
فإذا عرفت أن جميع كلام الآدمي منهاج، ولجملته طريق (1) / وتبينت (2) ما يمكن فيه من (3) التفاوت - نظرت إلى نظم القرآن نظرة أخرى، وتأملته مرة ثانية، فتراعي بعد موقعه، وعالي محله وموضعه، وحكمت بواجب من اليقين، وثلج (4) الصدر بأصل الدين. / خطبة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال (5) : " أما بعد، فإني وليت أمركم، ولست بخيركم، ولكن نزل القرآن، وسنّ النبي صلى الله عليه وسلم، وعلمنا فعلمنا. واعلموا أن أكيس الكَيْس التقى، وإن أحمق الحمق الفجور، وأن أقواكم عندي الضعيف، حتى آخذ له بحقه، وأن أضعفكم عندي القوي، حتى آخذ منه الحق. أيها الناس، إنما أنا متبع، ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوموني " (6) . عهد لأبي بكر الصديق إلى عمر رضي الله عنهما بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخر / عهده بالدنيا، وأول عهده بالآخرة، ساعة يؤمن فيها الكافر، ويتقي فيها الفاجر.
إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل: فذاك ظني به، ورأيي فيه، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت لكم (1) ، ولكل امرئ ما اكتسب من الإثم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (2) . * * * وفي حديث عبد الرحمن بن عوف رحمة الله عليه، قال: دخلت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، في علته التي مات فيها، فقلت: أراك بارئاً يا خليفة رسول الله، فقال: أما إني - على ذلك - لشديد الوجع، ولما لقيت منكم - يا معشر المهاجرين - أشد عليَّ من وجعي. إني وليت أموركم خيركم في نفسي، فكلكم ورِم (3) أنفه أن يكون له الأمر من دونه. والله لتتخذُن نضائد (4) الديباج، وستور الحرير، ولتألُمنَّ النوم / على الصوف الأذربي (5) ، كما يألم أحدكم النوم على حَسَك السعدان (6) ، والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فتضرب رقبته في غير حد، خير له من أن يخوض غمرات الدنيا. يا هادي الطريق جرت (7) ، إنما هو - والله - الفجر أو البجر (8) .
قال: فقلت: خفِّض عليك يا خليفة رسول الله، صلى الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا يهيضك (1) إلى ما بك، فوالله ما زلت صالحاً مصلحاً، لا تأسى على شئ فاتك من أمر الدنيا، ولقد تخليت بالأمر وحدك، فما رأيت إلا خيراً. وله خطب ومقامات مشهورة اقتصرنا منها على ما نقلنا، منها قصة السقيفة. * * * / نسخة كتاب كتبه (2) أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنهم: سلام الله عليك، فإنَّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإنا عهدناك وأمر نفسك لك (3) مهم، فأصبحت وقد وليت أمر هذه الأمة أحمرها، وأسودها، يجلس بين يديك الصديق والعدو، والشريف والوضيع، ولكل حصته من العدل، فانظر كيف أنت - يا عمر - عند ذلك، فإنا نحذرك يوما تعنوا فيه الوجوه، وتجِبُ فيه القلوب. وإنا كنا نتحدث أن أمر هذه الامة يرجع (4) في آخر زمانها: أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة، وأنا نعوذ بالله أن تَنْزِلَ كتابنا سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا، فإنا إنما كتبنا إليك نصيحة لك، والسلام. فكتب إليهما: من عمر بن الخطاب، إلى أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل: سلام عليكما، فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو (5) . / أما بعد، فقد جاءني كتابكما، تزعمان أنه بلغكما أني وليت أمر هذه الأمة: أحمرها وأسودها، يجلس بين يدى الصديق والعدو، والشريف والوضيع، وكتبتما:
عهد من عهود عمر رضي الله عنه
أن أنظر كيف أنت يا عمر عند ذلك؟ وإنه لا حول ولا قوة لعمر - عند ذلك - إلا الله. وكتبتما تحذراني ما حذرت به الأمم قبلنا، وقديماً كان اختلاف الليل والنهار بآجال الناس: يقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويأتيان بكل موعود: حتى يصير الناس إلى منازلهم، من الجنة أو النار، ثم توفّى كل نفسٍ بما كسبت، إن الله سريع الحساب. وكتبتما تزعمان أن أمر هذه الامة يرجع في آخر زمانها: أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة، ولستم بذاك، وليس هذا ذلك الزمان، ولكن زمان ذلك (1) حين تظهر الرغبة والرهبة، فتكون رغبة بعض الناس إلى بعض إصلاح دينهم، ورهبة بعض الناس إصلاح دنياهم. وكتبتما تعوذانني بالله أن أنزل كتابكما مني سوى المنزل الذي نزل من قلوبكما، وإنما كتبتما نصيحة لي، وقد صدقتكما، فتعهداني منكما بكتاب، ولا غنى بي عنكما (2) . / عهد من عهود عمر رضي الله عنه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، إلى عبد الله بن قيس (3) : سلام عليك. أما بعد، فإن القضاء: فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أُدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. آس (4) بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك (5) ، ولا ييأس ضعيف (6) من عدلك.
البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراما، أو حرم حلالا. ولا يمنعنك (1) قضاء قضيته بالأمس - فراجعت فيه عقلك، وهُديت لرشدك - أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. / الفهمَ الفهمَ، فيما تلجلج في صدرك (2) ، مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال، وقِس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أشبهها، بالحق. واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة - أمداً (3) ينتهي إليه، فإن أحضر بينة، أخذت له بحقه، وإلا استحللت عليه القضية، فإنه أنفى للشك، وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلوداً في حد، أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظَنيناً في ولاء أو نسب (4) ، فإن الله تولى منكم السرائر، ودرأ بالايمان والببنات (5) . وإياك والغَلَق (6) والضجر، والتأذي بالخصوم، والتنكر عند / الخصومات (7)
ومن كلام عثمان بن عفان رضي الله عنه
فإن الحق في مواطن الحق يعظِّم الله به الأجر، ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته، وأقبل على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلَّق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه، شانه الله (1) ، فما ظنك بثواب الله عز وجل في عاجل رزقه، وخزائن رحمته، والسلام. ولعمر رضي الله عنه خطب مشهورة مذكورة في التاريخ، لم ننقلها اختصاراً. * * * ومن كلام عثمان بن عفان رضي الله عنه خطبة له (2) رضى الله عنه قال: إن لكل شئ آفة، وإن لكل نعمة عاهة، وإن عاهة (3) هذا الدين عيّابون ظنانون، يظهرون لكم ما تحبون، ويسرون / ما تكرهون، يقولون لكم وتقولون، طَغَام (4) مثل النعام، يتبعون أول ناعق، أحب مواردهم إليهم النازح. لقد أقررتم لابن الخطاب بأكثر مما نقمتم علي، ولكنه وقمكم وقمعكم، وزجركم زجر النعام المخزَّمة (5) . والله إني لأقرب ناصراً، وأعز نفراً (6) ، وأقمن - إن قلت: هلم - أن تجاب دعوتي، من عمر. هل تفقدون من حقوقكم شيئا؟ فما لى لا أفعل في الحق ما أشاء؟ إذاً فلم كنت إماما؟ !
كتابه إلى علي حين حصر رضي الله عنه
كتابة إلى علي حين حصر - رضي الله عنهما أما بعد، فقد بلغ السيل الزبى، وجاوز الحزام الطبيين، وطمع فيَّ من لا يدفع عن نفسه. فإذا أتاك كتابي هذا: فأقبل إلى، على كنت أم لى. / فإن كنت مأكولا: فكن خيرآكل * وإلا فأدركني ولمّا أُمزَّقِ (2) * * * ومن كلام علي بن أبى طالب رضي الله عنه قال: لما قبض أبو بكر رضي الله عنه ارتجت المدينة بالبكاء، كيوم قبض النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء عليّ باكياً مسترجعاً (3) ، وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة، حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر، فقال: رحمك (4) الله أبا بكر، كنت إلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنسه، وثقته وموضع سره، كنت أول القوم إسلاماً، وأخلصهم إيماناً، وأشدهم يقيناً، وأخوفهم لله، وأعظمهم غناء في دين الله، وأحوطهم على رسول الله (5) ، وأثبتهم (6) على الاسلام، وأيمنهم على أصحابه، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، / وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله (7) صلى الله عليه وسلم سنناً (8) وهدياً، ورحمة وفضلاً، وأشرفهم منزلة، وأكرمهم عليه، وأوثقهم عنده.
فجزاك (1) الله عن الإسلام وعن رسوله خيراً، كنت عنده بمنزلة السمع والبصر. صدقت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين كذّبه الناس، فسماك في تنزيله صديقا، فقال: (والذي جاء بالصدق وصدق به) (2) . وآسيته حين بخلوا، وقمت معه عند المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدائد أكرم الصحبة، ثاني اثنين وصاحبه (3) في الغار، والمنزل عليه السكينة والوقار، ورفيقه في الهجرة، وخليفته في دين الله وفى أمته - أحسن الخلافة - حين ارتد الناس، فنهضت حين وهن أصحابك، وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، وقمت بالامر حين فشلوا، ونطقت حين تتعتعوا (4) ، مضيت بنور إذ وقفوا، واتبعوك فهدوا. / وكنت أصوبهم منطقا، وأطولهم صمتاً، وأبلغهم قولاً، وأكثرهم رأياً، وأشجعهم نفساً، وأعرفهم بالأمور، وأشرفهم عملاً. كنت للدين يَعْسُوباً (5) ، أولاً: حين نفر عنه الناس، وآخراً: حين قفلوا (6) ، وكنت للمؤمنين أباً رحيماً، إذ صاروا عليك عيالا، فحملت أثقال ما ضعفوا عنه (7) ، ورعيت ما أهملوا، وحفظت ما أضاعوا، شمّرت إذ خنعوا، وعلوت إذ هلعوا، وصبرت إذ جزعوا، وأدركت أوتار ما طلبوا، وراجعوا رشدهم برأيك فظفروا، ونالوا بك ما لم يحتسبوا. وكنت كما قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم آمن الناس عليه في صحبتك وذات يدك، وكنت كما قال: ضعيفاً في بدنك، قوياً في أمر الله، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند الله، جليلاً في أعين الناس (8) ، كبيرا في أنفسهم.
خطبة أخرى لعلي رضي الله عنه
لم يكن لأحد (1) فيك مغمز، ولا لأحد مطمع، ولا لمخلوق عندك هوادة، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز، حتى تأخذ / له بحقه، والقوي العزيز عندك ضعيف ذليل، حتى تأخذ منه الحق، القريب والبعيد عندك سواء، أقرب الناس إليك أطوعهم لله شأنك الحق والصدق والرفق (2) وقولك حكم وحتم (3) ، وأمرك حلم (4) وحزم، ورأيك علم وعزم، فأبلغت وقد نهج السبيل، وسهل العسير، وأطفأت النيران، واعتدل بك الدين، وقوي الإيمان، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون، وأتعبت من بعدك اتعاباً شديداً وفزت بالخير فوزا عظيما (5) ، فجللت عن البكاء، وعظمت رزيتك في السماء، وهدت مصيبتك الايام فإنّا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله قضاءه، وسلمنا له أمره، فوالله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثلك أبدا، فألحقك الله بنبيه، ولا حرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك. وسكت الناس حتى انقضى كلامه، ثم بكوا حتى علت أصواتهم. * * * / خطبة أخرى لعلي رضي الله عنه أما بعد، فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع، وإن المضمار اليوم، وغداً السباق. ألا وإنكم في أيام مهل، ومن ورائه أجل، فمن أخلص في أيام مهله (6) فقد فاز، ومن قصر في أيام مهله (7) ، قبل حضور أجله، فقد خسر عمله، وضرّه أملُه. ألا فاعملوا لله في الرغبة، كما تعملون له في الرهبة. ألا وإني لم أرَ كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها.
كلام لابن عباس رضي الله عنه
ألا وإنه من لم ينفعه الحق ضره (1) الباطل، ومن لم يستقم (2) به الهدى يجر به الضلال. ألا وإنكم قد أُمرتم بالظعن، ودللتم على (3) الزاد. ألا وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع (4) الهوى، وطول الامل (5) . * * * / وخطب رضى الله عنه، فقال بعد حمد الله: أيها الناس، اتقوا الله، فما خُلِقَ امرؤ عبثاً فيلهو، ولا أهمل سدى فيلغو، ما دنياه التي تحسنت إليه بخلف من الآخرة التي قبحها سوء النظر إليه، وما الخسيس الذي ظفر به - من الدنيا - بأعلى همته (6) ، كالآخر الذى ذهب (7) من الآخرة من سهمته (8) . * * * وكتب علي رضي الله عنه إلى عبد الله بن عباس: رحمة الله عليهما، وهو بالبصرة: أما بعد، فإن المرء يسر (9) بدرك ما لم يكن ليحرمه، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه، فليكن سرورك بما قدمت، من أجر أو منطق، وليكن أسفك فيما فرطت فيه من ذلك. وانظر ما فاتك من الدنيا: فلا تكثر عليه جزعاً، وما نلته: فلا تنعم به فرحاً، وليكن همك لما بعد الموت (10) . / كلام لابن عباس رضي الله عنه قال عتبة بن أبي سفيان لابن عباس: ما منع أمير المؤمنين أن يبعثك مكان أبى موسى، يوم الحكمين؟
خطبة لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه
قال: منعه - والله - من ذلك حاجز القدر، وقصر المدة، ومحنة الابتلاء. أما والله، لو بعثني مكانه لاعترضت له في مدارج نفسه، ناقضاً لما أبرم، ومُبرماً لما نقض، أسفّ إذا طار، وأطير إذا أسفَ، ولكن مضى قدر، وبقي أسف، ومع يومنا غد، والآخرة خير لأمير المؤمنين، من الأولى. * * * خطبة لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، خير الملل ملة إبراهيم، وأحسن السنن سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، خير الأمور أوساطها، وشر الأمور محدثاتها، ما قلّ وكفى، خير مما كثر وألهى، خير الغنى غنى النفس، وخير ما ألقي في القلب اليقين، الخمر جماع الاثم، النساء حبالة (1) الشيطان، الشباب شعبة من الجنون، حب الكفاية مفتاح المعجزة. من / الناس من لا يأتي الجماعة إلا دبراً، ولا يذكر الله إلا هجراً، أعظم الخطايا اللسان الكذوب، سباب المؤمن فسق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية، من يتألَّ على الله يكذبه (2) ، من يَغفر يُغفر له، مكتوب في ديوان المحسنين: من عفا عفي عنه. الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، الأمور بعواقبها. ملاك العمل خواتيمه (3) ، أشرف الموت الشهادة، من يعرف البلاء يصبر عليه، ومن لا يعرف البلاء ينكره. * * *
خطبة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
خطبة لمعاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه قال الراوي: لما حضرته الوفاة قال لولى له: من بالباب؟ فقال: نفر من قريش يتباشرون بموتك! فقال: ويحك، ولمَ؟ ثم أذن للناس، فحمد الله وأثنى عليه (1) فأوجز، ثم قال: / أيها الناس، إنّا قد أصبحنا في دهر عنُود، وزمن شديد، يعد فيه المحسن مسيئاً، ويزداد الظالم فيه عُتُوّاً، لا ننتفع بما علمنا، ولا نسأل عما جهلنا، ولا نتخوف (2) قارعة حتى تحل بنا، فالناس على أربعة أصناف: منهم: من لا يمنعه من الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه، وكلال حده، ونضيض (3) وفره. ومنهم: المصلت (4) لسيفه، والمجلب برجله (5) ، والمعلن (6) بشره، قد أشرط نفسه (7) ، وأوبق دينه، لحطام (8) ينتهزه، أو مقنب (9) يقوده، أو منبر يفرعه (10) وبئس المتجرأن تراها لنفسك ثمنا، ومما لك عند الله عوضاً. / ومنهم: من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه، وقارب من خطوه، وشمر من ثوبه، وزخرف
نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية. ومنهم: من أقعده عن الملك ضئولة في نفسه، وانقطاع سببه، فقصر به الحال عن حال (1) ، فتحلى باسم القناعة، وتزين بلباس الزهاد، وليس من ذلك في مراح ولا مغدى. وبقي رجال أغضُّ أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد (2) ناد، وخائف منقمع (3) ، وساكت مكعوم (4) وداع مخلص، وموجع ثكلان، قد أخملتهم التقية، وشملتهم الذلة، في بحر أجاج، أفواههم دامية (5) ، وقلوبهم قرحة (6) ، قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا، وقتلوا حتى قلوا. / فلتكن الدنيا في عيونكم أقل من حتاتة القرظ (7) ، وقراضة الجلم (8) ، واتعظوا بمن كان قبلكم، قبل أن يتعظ بكم من بعدكم، فارفضوها ذميمة، فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم (9)
خطبة لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
خطبة لعمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه أيها الناس، إنكم ميتون، ثم إنكم مبعوثون، ثم إنكم محاسبون، فلعمري: لئن كنتم صادقين، لقد قصرتم، ولئن كنتم كاذبين، لقد هلكتم. يا أيها الناس، إنه من يقدر له رزق برأس جبل، أو بحضيض / أرض - يأته، فأجملوا في الطلب (1) . خطبة للحجاج بن يوسف حمد الله، وأثنى عليه (2) ، ثم قال: يا أهل العراق، ويا أهل الشقاق والنفاق، ومساوى الأخلاق، وبني اللكيعة، وعبيد العصا، وأولاد الإماء، والفقع بالقرقر (3) ، إني سمعت تكبيراً لا يراد به الله، وإنما يراد به الشيطان، وإنما مثلي ومثلكم،، ما قاله ابن براقة الهمداني (4) : وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم * فهل أنا في ذا، يا لهمدانَ، ظالمُ متى تجمع القلب الذكى وصار ما * وأنفاً حمياً، تجتنبك المظالم (5) أما والله لا تقرع عصا عصا، إلا جعلتها (6) كأمس الدابر.
خطبة لقس بن ساعدة الإيادى
/ خطبة لقس بن ساعدة الأيادي (1) أخبرني محمد بن علي الأنصاري (2) بن محمد بن عامر، قال: حدثنا على ابن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن داود بن عبد الرحمن العمرى، قال: حدثنا الأنصاري علي بن محمد الحنظلي - من ولد حنظلة الغسيل - حدثنا جعفر ابن محمد، عن محمد بن حسان (3) ، عن محمد بن حجاج اللخمي (4) ، عن مجالد (5) ، عن الشعبي، عن ابن عباس، قال: لما وَفَد وفدُ عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيكم يعرف قس بن ساعدة؟ / قالوا: كلنا نعرفه يا رسول الله (6) . قال: لست أنساه بعكاظ، إذ وقف على بعير له أحمر، فقال: أيها الناس اجتمعوا، وإذا اجتمعتم فاسمعوا، وإذا سمعتم فعوا، وإذا وعيتم فقولوا، وإذا قلتم فاصدقوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت. أما بعد، فإن في السماء لخبراً، وإن في الأرض لعبراً، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور، أقسم بالله قس قسما
حقاً لا كاذباً فيه ولا آثماً، لئن كان في الارض رضا ليكونن سخطا (1) ، إن لله تعالى ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، وقد أتاكم أوانه، ولحقتكم مدته. مالى أرى الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أرضوا بالمقام فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم يروى شعره؟ فأنشدوه: / في الذاهبين الأولي * ن من القرون لنا بصائر لما رأيت موارداً * للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها * يسعى الأصاغر والأكابر لا يرجع الماضي إلي * ي ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محا * لة حيث صار القومُ صائر * * * أخبرني الحسن بن عبد الله بن سعيد، حدثنا علي بن الحسين (2) بن إسماعيل، حدثنا محمد بن زكريا، حدثنا عبيد الله بن الضحاك، عن هشام، عن أبيه: أن وفداً من إياد قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم عن حال قس ابن ساعدة، فقالوا: قال قس: يا ناعي الموت والأموات في جدث * عليهم من بقايا بَزِّهم خرق دعهم فإن لهم يوماً يُصاح بهم * كما ينبه من نوماته الصعق (3) منهم عراة ومنهم في ثيابهمُ * منها الجديد ومنها الأورق الخلق (4)
/ مطر ونبات (1) ، وآباء وأمهات، وذاهب وآت. وآيات في إثر آيات، وأموات بعد أموات. ضوء وظلام، وليال وأيام، وغني وفقير، وشقي وسعيد، ومحسن ومسئ. أين الأرباب الفعلة؟ ليصلحن كل عامل عمله. كلا، بل هو الله واحد،، ليس بمولود ولا والد، أعاد (2) وأبدى، وإليه المآب غدا. أما بعد، يا معشر إياد، أين ثمود وعاد؟ وأين الآباء والأجداد؟ أين الحسن الذي لم يشكر؟ أين الظلم الذي لم ينقم (3) ؟ كلا ورب الكعبة ليعودَنَّ مابدا، ولئن ذهب يوم ليعودَنَّ يوم. قال: وهو قس بن ساعدة (4) بن حذاق بن ذهل بن إياد بن نزار. أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية. وأول من توكأ على عصا (5) . وأول من تكلم ب " أما بعد (5) ". / خطبة لأبي طالب الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلدا حراما وبيتا محجوجا، وجعلنا الحكام على الناس. وأن محمد بن عبد الله، ابن أخى، لا يوازن (6) به فتى من قريش إلا رجح به: بركة وفضلاً وعدلاً، ومجداً ونبلاً، وإن كان في المال مُقِلاً، فإن المال عارية مسترجعة، وظل زائل، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أردتم من الصداق فعلى (7) . * * * / قد نسخت لك جملاً من كلام الصدر الاول ومحاوراتهم وخطبهم،
وأحيلك فيما لم أنسخ على التواريخ والكتب المصنفة في هذا الشأن. فتأمل ذلك، وسائر ما هو مسطر من الأخبار المأثورة عن السلف، وأهل البيان واللسن، والفصاحة والفطن، والألفاظ المنثورة، والمخاطبات الدائرة بينهم، والأمثال المنقولة عنهم. ثم انظر - بسكون طائر، وخفض جناح، وتفريغ لب، وجمع عقل - في ذلك، فسيقع لك الفصل (1) بين كلام الناس وبين كلام رب العالمين، وتعلم أن نظم القرآن يخالف نظم (2) كلام الآدميين، وتعلم الحد الذي يتفاوت بين كلام البليغ والبليغ، والخطيب والخطيب، والشاعر والشاعر، وبين نظم القرآن جملة. فإن خيل إليك، أو شبه عليك، وظننت أنه يحتاج أن يوازن بين نظم الشعر والقرآن، لأن الشعر أفصح من الخطب، وأبرع من الرسائل، وأدق مسلكا من جميع أصناف المحاورات - ولذلك (3) قالوا له صلى الله عليه وسلم: هو شاعر أو ساحر - وسول إليك الشيطان أن الشعر أبلغ وأعجب، وأرق (4) وأبرع، وأحسن الكلام وأبدع - فهذا فصل فيه نظر بين المتكلمين، وكلام بين المحققين.
باب (1) سمعت (2) أفضل من رأيت من أهل (3) العلم بالأدب والحذق بهذه الصناعة، مع تقدمه في الكلام - يقول: إن الكلام المنثور يتأتى فيه من الفصاحة والبلاغة ما لا يتأتى في الشعر، لأن الشعر يضيق نطاق الكلام، ويمنع القول من انتهائه، ويصده عن تصرفه على سننه. وحضره من يتقدم في صنعة الكلام، فراجعه في ذلك، وذكر أنه لا يمتنع أن يكون الشعر أبلغ إذا صادف شروط الفصاحة، وأبدع إذا تضمن أسباب البلاغة. ويشهد عندي للقول الأخير: أن معظم براعة كلام العرب في الشعر، ولا نجد في منثور قولهم ما نجد في منظومه، وإن كان قد أحدثت البراعة في الرسائل على حد لم يعهد في سالف أيام العرب، ولم ينقل في دواوينهم (4) وأخبارهم. وهو، وإن ضيق نطاق القول، فهو يجمع حواشيه، ويضم / أطرافه ونواحيه، فهو إذا تهذب في بابه، ووفى (5) له جميع أسبابه - لم يقاربه من كلام الآدميين كلام، ولم يعارضه من خطابهم خطاب. وقد حكي عن " المتنبي " أنه كان ينظر في المصحف، فدخل إليه بعض أصحابه، فأنكر نظره فيه، لما كان رآه (6) عليه من سوء اعتقاده، فقال له: هذا (7) المكي على فصاحته كان مفحماً! ! فإن صحت هذه الحكاية عنه في إلحاده عرف بها (8) أنه كان يعتقد أن الفصاحة في قول الشعر [أمكن] وأبلغ (9) .
وإذا كانت الفصاحة في قول الشعر أو لم تكن، وبينا أن نظم القرآن يزيد في فصاحته على كل نظم، ويتقدم في بلاغته على كل قول، بما يتضح به الأمر اتضاح الشمس، ويتبين به بيان الصبح - وقفت على جلية هذا الشأن. فانظر فيما نعرضه عليك (1) ، وتصور بفهمك ما نصوره، ليقع لك موقع عظيم شأن القرآن، وتأمل ما نرتبه، ينكشف لك الحق. إذا أردنا (2) تحقيق ما ضمناه لك، فمن سبيلنا أن نعمد إلى قصيدة / متفق على كبر محلها، وصحة نظمها، وجودة بلاغتها، ورشاقة (3) معانيها، وإجماعهم على إبداع صاحبها فيها، مع كونه من الموصوفين بالتقدم في الصناعة، والمعروفين بالحذق في البراعة، فنقفك على مواضع (4) خللها، وعلى تفاوت نظمها، وعلى اختلاف فصولها، وعلى كثرة فضولها، وعلى شدة تعسفها، وبعض تكلفها، وما تجمع من كلام رفيع، يقرن بينه وبين كلام وضيع، وبين لفظ سوقي، يقرن بلفظ ملوكي، وغير ذلك من الوجوه التى يجئ تفصيلها، ونبين ترتيبها وتنزيلها. * * * فأما كلام " مسيلمة " الكذاب، وما زعم أنه قرآن، فهو أخس من أن نشتغل به، وأسخف من أن نفكر فيه. وإنما نقلنا منه طرفاً ليتعجب القارئ، وليتبصر الناظر، فإنه (5) على سخافته قد أضل، وعلى ركاكته قد أزل، وميدان الجهل واسع! ومن نظر فيما نقلناه عنه، وفهم موضع جهله، كان جديراً أن يحمد الله على ما رزقه من فهم، وآتاه من علم. فما كان يزعم أنه نزل عليه من السماء: " والليل الاضخم، والذئب / الأدلم، والجذع الأزلم، ما انتهكت أسيد من محرم "! وذلك قد ذكر في خلاف وقع بين قوم أتوه من أصحابه!
وقال أيضاً، " والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس "! وكان يقول: " والشاء وألوانها، وأعجبها السود، وألبهانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تجتمعون " (1) ! وكان يقول: " ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين (2) ، ولا الماء تكدرين، لنا نصف الارض ولقريش نصفها، ولكن قريش (3) قوم يعتدون "! وكان يقول: " والمبديات (4) زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً، إهالة وسمناً، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغي فناوئوه. "! / وقالت سجاج بنت الحارث بن عقبان - وكانت تتنبأ، فاجتمع مسيلمة معها - فقالت له: ما أوحي إليك؟ فقال: " ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى (5) ، ما بين صفاق وحشا "! وقالت: فما بعد ذلك؟ قال: أوحي إلي: " إن الله خلق النساء أفواجاً، وجعل الرجال لهن أزواجاً، فنولج فيهن قعساً إيلاجاً، ثم نخرجها إذا شئنا إخراجاً، فينتجن لنا سخالاً نتاجاً "! فقالت: أشهد أنك نبى (6) ! ! ولم ننقل كل ما ذكر من سخفه، كراهية التثقيل. وروي: أنه سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه أقواماً قدموا عليه من بني حنيفة، عن هذه الألفاظ؟ فحكوا بعض ما نقلناه، فقال أبو بكر: سبحان
الله! ويحكم، إن هذا الكلام لم يخرج عن إل (1) ، فأين كان يذهب بكم؟ ! ومعنى قوله: " لم يخرج عن آل ": أي عن ربوبية. / ومن كان له عقل لم يشتبه عليه سخف هذا الكلام (2) ! * * * فنرجع الآن إلى ما ضمناه من الكلام على الأشعار المتفق على جودتها وتقدم أصحابها في صناعتهم، ليتبين لك تفاوت أنواع الخطاب وتباعد مواقع أنواع (3) البلاغة، وتستدل على مواضع البراعة. وأنت (4) لا تشك في جودة شعر " امرئ القيس " ولا ترتاب في براعته، ولا تتوقف في فصاحته، وتعلم أنه قد (5) أبدع في طرق الشعر أموراً اتبع فيها، من ذكر الديار والوقوف عليها، إلى ما يصل بذلك: من البديع الذي أبدعه، والتشبيه الذي أحدثه، والمليح الذى تجد في شعره (6) ، والتصرف الكثير الذي تصادفه في قوله، والوجوه التي / ينقسم إليها كلامه: من صناعة وطبع، وسلاسة وعفو (7) ، ومتانة ورقة، وأسباب تحمد، وأمور تؤثر وتمدح. وقد ترى الادباء أو لا (8) يوازنون بشعره فلاناً وفلاناً، ويضمون أشعارهم إلى شعره، حتى ربما وازنوا بين شعر من لقيناه وبين شعره في أشياء لطيفة، وأمور بديعة، وربما فضلوهم عليه، أو سووا بينهم وبينه، أو قربوا موضع تقدمه عليهم (9) ، وبرزوه بين أيديهم.
ولما اختاروا قصيدته في " السبعيات (1) ". أضافوا إليها أمثالها، وقرنوا بها نظائرها، ثم تراهم يقولون، لفلان لامية مثلها، ثم ترى أنفس الشعراء تتشوق إلى معارضته، وتساويه في طريقته، وربما غبرت في وجهه في أشياء كثيرة (2) ، وتقدمت عليه في أسباب عجيبة. وإذا جاءوا إلى تعداد محاسن شعره، كان أمراً محصوراً، وشيئاً معروفاً. أنت تجد من ذلك البديع أو أحسن منه في شعر غيره، وتشاهد مثل ذلك البارع في كلام سواه، وتنظر إلى المحدثين كيف توغلوا إلى حيازة المحاسن، منهم من جمع رصانة الكلام إلى سلاسته، / ومتانته إلى عذوبته، والإصابة في معناه إلى تحسين بهجته، حتى إن منهم من قصر عنه في بعض، تقدم عليه في بعض، [وإن وقف دونه في حال، سبقه في أحوال، وإن تشبه به في أمر، ساواه في أمور] (3) لأن الجنس الذي يرمون إليه، والغرض الذي يتواردون عليه، هو (4) مما للآدمي فيه مجال، وللبشري فيه مثال، فكل يضرب فيه بسهم، ويفوز فيه بقدح، ثم قد تتفاوت السهام (5) تفاوتاً، وتتباين تبايناً، وقد تتقارب تقارباً، على حسب مشاركتهم في الصنائع، ومساهمتهم في الحرف. " ونظم القرآن " جنس متميز (6) ، وأسلوب متخصص، وقبيل عن النظير (7) متخلص، فإذا شئت أن تعرف عظم شأنه، فتأمل ما نقوله في هذا الفصل لامرئ القيس في أجود أشعاره، وما نبين لك من عواره، على التفصيل. وذلك قوله: قفا نَبكِ من ذكرى حبيب ومنزل * بسقط اللوى بين الدَّخول فحومَلِ فَتُوضِحَ فالمِقْراة لم يعفُ رسمُها * لما نسجتها من جنوب وشمأل
/ الذين يتعصبون له ويدعون (1) محاسن الشعر، يقولون: هذا من البديع، لأنه وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر العهد والمنزل والحبيب، وتوجع واستوجع، كله في بيت، ونحو ذلك. وإنما بينا هذا لئلا يقع لك ذهابنا على مواضع المحاسن - إن كانت - ولا غفلتنا عن مواضع الصناعة، إن وجدت. تأمل - أرشدك الله - وانظر - هداك الله: أنت تعلم أنه ليس في البيتين شئ قد سبق في ميدانه شاعراً، ولا تقدم به صانعا. وفى لفظه ومعناه خلل: فأول ذلك: أنه استوقف من يبكى لذكر الحبيب (2) ، وذكراه لا تقتضي بكاء الخلي، وإنما يصح طلب الإسعاد في مثل هذا، على أن يبكي لبكائه ويرق لصديقه في (3) شدة برحائه، فإما أن يبكي على حبيب صديقه، وعشيق رفيقه، فأمر محال. فإن كان المطلوب وقوفه وبكاؤه أيضا عاشقا، صح الكلام [من وجه] (4) ، وفسد المعنى من وجه آخر! لأنه من السخف أن لا يغار على حبيبه، وأن يدعو غيره إلى التغازل عليه، والتواجد معه فيه! ثم في البيتين ما لا يفيد، من ذكر هذه المواضع، وتسمية هذه الأماكن: من " الدخول " و " حومل " و " توضح " و " المقراة " وسقط اللوى "، وقد كان يكفيه أن يذكر في التعريف بعض هذا. وهذا التطويل إذا لم يفد كان ضربا من العى! ثم إن قوله: " لم يعف رسمها "، ذكر الأصمعي من محاسنه: أنه باق فنحن نحزن على مشاهدته، فلو عفا لاسترحنا. وهذا بأن يكون من مساويه أولى، لأنه إن كان صادق الودّ، فلا يزيده
عفاء الرسوم إلا جدة عهد، وشدة وجد. وإنما فزع الأصمعي (1) إلى إفادته هذه الفائدة، خشية أن يعاب عليه، فيقال: أي فائدة لأن يعرفنا أنه لم يعف رسم منازل حبيبه؟ وأي معنى لهذا الحشو؟ فذكر ما يمكن أن يذكر، ولكن لم يخلصه - بانتصاره له - من الخلل. ثم في هذه الكلمة خلل آخر، لأنه عقب البيت بأن قال (2) : * فهل عند رسم دارس من معول! * فذكر أبو عبيدة: أنه رجع فأكذب نفسه، كما قال زهير: / قف بالديار التي لم يعفُها القدمُ * نعم، وغيرها الارواح والديم (3) وقال غيره: أراد بالبيت الأول أنه لم ينطمس أثره كله، وبالثاني أنه ذهب بعضه، حتى لا يتناقض الكلامان. وليس في هذا انتصار، لان معنى " عفا " و " درس " واحد، فإذا قال: " لم يعف رسمها " ثم قال: " قد عفا "، فهو تناقض لا محالة! واعتذار " أبي عبيدة " أقرب لو صح، ولكن لم يرد هذا القول مورد الاستدراك كما قاله (4) زهير، فهو إلى الخلل أقرب. وقوله: " لما نسجتها "، كان ينبغي أن يقول: " لما نسجها " ولكنه تعسف فجعل " ما " في تأويل تأنيث (5) ، لأنها في معنى الريح، والأولى التذكير دون التأنيث، وضرورة الشعر قد قادته إلى (6) هذا التعسف. وقوله: " لم يعف رسمها " كان الأولى أن يقول: " لم يعف رسمه " لانه ذكر المنزل، فإن كان رد ذلك إلى هذه البقاع والاماكن
/ التي المنزل واقع بينها، فذلك خلل، لأنه إنما يريد صفة المنزل الذي نزله حبيبه، بعفائه، أو بأنه لم يعف دون ما جاوره. وإن أراد بالمنزل الدار حتى أنث، فذلك أيضاً خلل. ولو سلم من هذا كله ومما نكره ذكره كراهية التطويل - لم نشك في أن شعر أهل زماننا لا يقصر عن البيتين، بل يزيد عليهما ويفضلهما. * * * ثم قال: وقوفاً بها صحبي عليًّ مطيهمُ * يقولون: لا تهلك أسى وتحمل (1) وإن شفائي عبرةٌ مُهراقة * فهل عند رسمٍ دارس من مُعوَّل وليس في البيتين أيضاً معنى بديع، ولا لفظ حسن كالاولين. والبيت الاول منهما متعلق بقوله: " قفا نبك " فكأنه قال: قفا وقوف صحبي بها على مطيهم، أو: قفا حال وقوف صحبي. وقوله " بها ": متأخر في المعنى وإن تقدم في اللفظ، ففي ذلك تكلف وخروج عن (2) اعتدال الكلام. والبيت الثاني مختل من جهة أنه قد جعل الدمع في اعتقاده شافياً / كافياً، فما حاجته بعد ذلك إلى طلب حيلة (3) أخرى، وتحمل ومعول عند الرسوم؟ ولو أراد أن يحسن الكلام لوجب أن يدل (4) على أن الدمع لا يشفيه لشدة ما به من الحزن، ثم (5) يسائل: هل عند الربع من حيلة أخرى؟ * * * وقوله: كدأبك من أمٍٍّ الحُويرثِ قبلها * وجارتِها أمِ الرباب بمأسَل
إذا قامتا تضوَّع المسك منهما * نسيم الصَّبا جاءت بريا القرنفل (1) أنت لا تشك في أن البيت الأول قليل الفائدة، ليس له مع ذلك بهجة، فقد يكون الكلام مصنوع اللفظ، وإن كان منزوع المعنى! وأما البيت الثاني فوجه التكلف فيه قوله: * إذا قامتا تضوع المسك منهما * ولو أراد أن يجود أفاد أن بهما طيباً على كل حال، فأما في حال القيام فقط، فذلك تقصير! ! ! ثم فيه خلل آخر: لأنه بعد أن شبه عرفها بالمسك، شبه ذلك بنسيم القرنفل، وذكر ذلك بعد ذكر المسك نقص. / وقوله: " نسيم الصبا "، في تقدير المنقطع عن المصراع الأول، لم يصله به وصل مثله. * * * وقوله: ففاضت دموعُ العين مني صبابةً * على النحرِ حتى بَلَّ دمعي محمَلي ألا رُبَّ يومٍ لك مِنْهُنَّ صالحٍ * ولا سيما يوم بدارة جلجل (2) / قوله (3) : " ففاضت دموع العين "، ثم استعانته بقوله: " مني " استعانة ضعيفة عند المتأخرين في الصنعة، وهو حشو غير مليح ولا بديع. وقوله: " على النحر "، حشو آخر، لأن قوله: " بلَّ دمعي محملي " (4) يغني عنه، ويدل عليه، وليس بحشو حسن ثم قوله: " حتى بل محملي " (4) إعادة ذكره الدمع حشو آخر، وكان يكفيه أن يقول: " حتى بلت (5) محملي، فاحتاج لإقامة الوزن إلى هذا كله. ثم تقديره أنه (6) قد أفرط في إفاضة الدمع حتى بل محمله، تفريط
منه وتقصير، ولو كان أبدع لكان يقول: حتى بل دمعي مغانيهم وعراصهم ويشبه أن يكون غرضه إقامة الوزن والقافية: لان (1) / الدمع يبعد أن يبل المحمل، وإنما يقطر من الواقف والقاعد على الأرض أو على الذيل! ! وإن بله فلقلته وإنه لا يقطر. وأنت تجد في شعر الخبزرزي (2) ما هو أحسن من هذا البيت وأمتن (3) وأعجب منه. والبيت الثاني خال من المحاسن والبديع، خاو (4) من المعنى، وليس له لفظ يروق، ولا معنى يروع، من طباع (5) السوقة! فلا يرعك تهويله باسم موضع غريب. * * * وقال: ويوم عقرتُ للعذارى مطيتي * فيا عجباً من رحلها المتحمَّلِ فظل العذارى يرتمينَ بلحمِها * وشحم كهداب الدمقس المفتل / تقديره: اذكر يوم عقرت مطيتي، أو يرده (6) على قوله: " يوم بدارة جلجل "، وليس في المصراع الأول من هذا البيت إلا سفاهته (7) ! ! قال (8) بعض الأدباء: قوله " يا عجباً " يعجبهم من سفهه في شبابه: من نحره لهن (9) . وإنما أراد أن لا يكون الكلام من هذا المصراع منقطعاً عن الأول، وأراد أن يكون الكلام ملائماً له. وهذا الذي ذكره بعيد. وهو منقطع عن الأول، وظاهره أنه يتعجب من
تحمل العذارى رحله! وليس في هذا تعجب كبير، ولا في نحر الناقة لهن تعجب! وإن كان يعنى به أنهن حملن رحله، وأن بعضهن حمله (1) ، فعبر عن نفسه برحله، فهذا قليلاً يشبه أن يكون عجباً، لكن الكلام لا يدل عليه، ويتجافى عنه. ولو سلم البيت من العيب لم يكن فيه شئ غريب (2) ، ولا معنى بديع، أكثر من سفاهته (3) ، مع قلة معناه، وتقارب أمره، ومشاكلته طبع المتأخرين من أهل زماننا! / وإلى هذا الموضع لم يمر له بيت رائع، وكلام رائق. وأما البيت الثاني فيعدونه حسناً، ويعدون التشبيه مليحا واقعا. وفيه شئ: وذلك أنه عرف اللحم ونكر الشحم، فلا يعلم (4) أنه وصف شحمها، وذكر تشبيه أحدهما بشئ واقع [للعامة، ويجرى على ألسنتهم] (5) ! وعجز عن تشبيه القسمة الأولى فمرت مرسلة! وهذا نقص في الصنعة، وعجز عن إعطاء الكلام حقه. وفيه شئ آخر من جهة (6) المعنى: وهو: أنه وصف طعامه الذي أطعم من أضاف بالجودة، وهذا قد يعاب. وقد يقال: إن العرب تفتخر بذلك ولا يرونه عيباً، وإنما الفرس هم الذين يرون هذا عيبا شنيعا. وأما تشبيه الشحم بالدمقس، فشئ يقع للعامة ويجرى على ألسنتهم، فليس بشئ قد سبق إليه، وإنما زاد " المفتل " للقافية، وهذا (7) مفيد، ومع ذلك فلست أعلم العامة تذكر هذه الزيادة، ولم يعد أهل الصنعة ذلك من البديع، ورأوه قريبا. وفيه شئ آخر [من جهة المعنى (8) ] : وهو: أن تبجحه بما أطعم للأحباب مذموم، وإن سوغ التبجح بما أطعم للأضياف، إلا أن
/ يورد الكلام مورد المجون، وعلى طريق (1) أبي نواس في المزاح والمداعبة! * * * وقوله: ويوم دخلتُ الخِدْرَ خدِرَ عُنَيْزَةٍ * فقالت: لكَ الويلاتُ إِنَّك مُرجلي تقول وقد مالَ الغبيطُ بنا معاً: * عقرت بعيرى يا امرأ القيس فانزل قوله (2) : " دخلت الخدر خدر عنيزة "، ذكره تكريراً (3) لإقامة الوزن، لا فائدة فيه غيره، ولا ملاحة له ولا رونق! وقوله في المصراع الأخير من هذا البيت: " فقالت لك الويلات إنك مرجلي " كلام مؤنث من كلام النساء، نقله من جهته إلى شعره! وليس فيه غير هذا (4) ! ! وتكريره بعد ذلك: " تقول وقد مال الغبيط "، يعني قتب الهودج، بعد قوله: " فقالت لك الويلات إنك مرجلي ": لا فائدة فيه غير تقدير (5) الوزن! وإلا فحكاية قولها الأول كاف، وهو في النظم قبيح، لأنه ذكر مرة: " فقالت "، ومرة: " تقول "، في معنى واحد، وفصل خفيف! وفى مصراع الثاني أيضاً تأنيث من كلامهن (6) . / وذكر أبو عبيدة أنه قال: " عقرت بعيري "، ولم يقل ناقتي، لأنهم يحملون النساء على ذكور الإبل، لانها أقوى. وفى ذلك (7) نظر، لأن الأظهر أن البعير اسم للذكر والأنثى، واحتاج إلى ذكر البعير لإقامة الوزن (8) . * * * وقوله: فقلت لها: سيري وأرخي زمامَهُ * ولا تُبعديني من جَنَاك المعلَّل فمثلك حُبلى قد طرقت ومرضع * فألهيتها عن ذى تمائم محول (9)
البيت الأول قريب النسج، ليس له معنى بديع، ولا لفظ شريف، كأنه من عبارات المنحطين في الصنعة (1) . وقوله: " فمثلك حبلى قد طرقت "، عابه عليه أهل العربية ومعناه عندهم حتى يستقيم الكلام: فرب مثلك حبلى قد طرقت، وتقديره أنه زير نساء، وأنه يفسدهن ويلهيهن عن حبلهن ورضاعهن، لأن الحبلى والمرضعة أبعد من الغزل وطلب الرجال! والبيت الثاني في الاعتذار والاستهتار (2) والتهيام، وغير منتظم مع المعنى الذي قدمه في البيت الأول، لأن تقديره: لا تبعديني عن نفسك فإني أغلب النساء، وأخدعهن عن رأيهن، وأفسدهن / بالتغازل! وكونه مفسدة لهن لا يوجب له وصلهن وترك إبعادهن إياه، بل يوجب هجره والاستخفاف به، لسخفه ودخوله كل مدخل فاحش، وركوبه كل مركب فاسد!. وفيه من الفحش والتفحش ما يستنكف الكريم من (3) مثله، ويأنف من ذكره! ! * * * وقوله: إذا ما بكى من خلفها انصرفت له * بشق وتحتي شقها لم يُحَوَّلِ (4) ويوماً على ظهرِ الكثيبِ تعذرت * على وآلت حلفة لم تحلل فالبيت الأول غاية في الفحش، ونهاية في السخف، وأي فائدة لذكره لعشيقته كيف كان يركب هذه القبائح، ويذهب هذه المذاهب، ويرد هذه الموارد؟ ! إن هذا ليبغضه [إلى] (5) كل من سمع كلامه، ويوجب له المقت! وهو - لو صدق - لكان قبيحاً، فكيف: ويجوز أن يكون كاذباً؟ ! ثم ليس في البيت لفظ بديع، ولا معنى حسن. وهذا البيت متصل بالبيت الذي قبله، من ذكر المرضع التي لها ولد محول.
/ فأما البيت الثاني وهو قوله: " ويوماً " يتعجب منه بأنها (1) تشددت وتعسرت (2) عليه وحلفت عليه، فهو كلام ردئ النسج، لا فائدة لذكره لنا أن حبيبته تمنعت عليه يوماً بموضع يسميه ويصفه! وأنت تجد في شعر المحدثين من هذا الجنس في التغزل ما يذوب معه اللب، وتطرب عليه (3) النفس. وهذا مما تستنكره النفس، ويشمئز منه القلب، وليس فيه شئ من الإحسان والحسن! ! * * * وقوله: أفاطم مهلاً بعضَ هذا التدلُّلِ * وإن كنتِ قد أزمعتَ صرمي فأجملي أغرك مني أن حبَّكِ قاتلي * وإنك مهما تأمري القلب يفعل فالبيت الأول فيه ركاكة جداً، وتأنيث ورقة، ولكن فيها تخنيث! ولعل قائلا [أن] (4) يقول: إن كلام النساء بما يلائمهن من الطبع أوقع وأغزل؟ وليس كذلك، لأنك تجد الشعراء في الشعر المؤنث لم يعدلوا عن رصانة قولهم. / والمصراع الثاني منقطع عن الأول، لا يلائمه ولا يوافقه. وهذا يبين لك إذا عرضت (5) معه البيت الذي تقدمه. وكيف ينكر عليها تدللها، والمتغزل يطرب على دلال الحبيب وتدلله؟ والبيت الثاني قد عيب عليه (6) ، لأنه قد أخبر أن من سبيلها أن لا تغتر (7) بما يريها من أن حبها يقتله، وأنها تملك قلبه فما أمرته فعله، والمحب إذا أخبر عن مثل هذا صدق.
وإن كان المعنى غير هذا الذي عيب عليه، وإنما ذهب مذهباً آخر، وهو: أنه أراد أن يظهر التجلد - فهذا خلاف ما أظهر من نفسه فيما تقدم من الأبيات، من الحب والبكاء على الأحبة، فقد دخل في وجه آخر من المناقضة والاحاطة في الكلام. ثم قوله: " تأمري القلب يفعل " معناه (1) تأمريني. والقلب لا يؤمر. والاستعارة في ذلك غير واقعة ولا حسنة (2) . * * * / وقوله: فإن كنت قد ساءتكِ مني خليقةٌ * فسُلِّي ثيابي من ثيابك تَنْسَلِ وما ذرفتْ عيناكِ إلا لتَضربي * بسهميك في أعشار قلب مقتل البيت الأول قد قيل في تأويله: إنه ذكر الثوب وأراد البدن، مثل قول الله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) (3) . وقال أبو عبيدة: هذا مثل للهجر. وتنسل: تبين. وهو بيت قليل المعنى، ركيكه ووضيعه. وكل ما أضاف إلى نفسه ووصف به نفسه سقوط وسفه وسخف، يوجب (4) قطعه. فلم لم يحكم على نفسه بذلك، ولكن يورده مورد أن ليست له خليقة توجب هجرانه والتفصى (5) من وصله، وأنه مهذب الأخلاق، شريف الشمائل، فذلك يوجب أن لا ينفك من وصاله.
والاستعارة في المصراع الثاني فيها تواضع وتقارب، وإن كان غريبة (1) . / وأما البيت الثاني فمعدود من محاسن القصيدة (2) وبدائعها. ومعناه: ما بكيت إلا لتجرحي قلباً معشراً - أي مكسراً - من قولهم: " برمة أعشار " إذا كانت قطعاً (3) . هذا تأويل ذكره الأصمعي (4) ، وهو أشبه عند أكثرهم. وقال غيره: وهذا مثل للأعشار التي تقسم الجزور عليها. ويعني بسهميك: المعلى، وله سبعة أنصباء، والرقيب، وله ثلاثة أنصباء. فأراد أنك ذهبت بقلبي أجمع. ويعني بقوله: مقتل: مذلل (5) . وأنت تعلم أنه على ما يعني به فهو غير موافق للأبيات المتقدمة، لما فيها من التناقض الذي بينا. ويشبه أن يكون من قال بالتأويل الثاني، فزع إليه لأنه رأى اللفظ مستكرهاً على المعنى الأول، لأن القائل إذا قال: " ضرب / فلان بسهمه في الهدف "، بمعنى أصابه - كان كلاماً ساقطاً مرذولاً، وهو يرى أن معنى الكلمة أن عينيها كالسهمين النافذين في إصابة قلبه المجروح، فلما بكتا وذرفتا بالدموع كانتا ضاربتين في قلبه. ولكن من حمل على التأويل الثاني سلم من الخلل الواقع في اللفظ، ولكنه يفسد المعنى ويختل (6) ، لانه إن كان محبا (7) - على ما وصف به نفسه من الصبابة - فقلبه كله لها، فكيف يكون بكاؤها هو الذى يخلص قلبه لها؟ ! واعلم بعد هذا أن البيت غير ملائم للبيت الأول، ولا متصل به في المعنى،
وهو منقطع عنه، لأنه لم يسبق كلام يقتضي بكاءها، ولا سبب يوجب ذلك، فتركيبة هذا الكلام على ما قبله في اختلال. ثم لو (1) سلم له بيت من عشرين بيتا، وكان بديعا ولا عيب فيه - فليس بعجيب، لأنه لا يدعي على مثله أن كلامه كله متناقض، ونظمه كله متباين. وإنما يكفي أن نبين أن ما سبق من كلامه إلى هذا البيت، مما لا يمكن أن يقال إنه يتقدم فيه أحداً من المتأخرين، فضلا عن المتقدمين. / وإنما قدم في شعره لأبيات قد برع فيها، وبان حذقه بها. وإنما أنكرنا أن يكون شعره متناسبا مع الجودة، ومتشابهاً في صحة المعنى واللفظ، وقلنا: إنه يتصرف بين وحشى غريب مستنكر، وعربية كالمهمل مستكرهة (2) ، وبين كلام سليم متوسط، وبين عامي سوقي في اللفظ والمعنى، وبين حكمة حسنة، وبين سخف مستشنع. ولهذا قال الله عز اسمه: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فِيه اخْتِلاَفاً كَثِيراً) (3) . * * * فأما قوله: وبيضةِ خدرٍ لا يُرامُ خباؤُها * تمتعت من لهوٍ بها غير معجل تجاوزت أحراسا وأهوال معشر * على حراص لو يسرون مقتلي (4) فقد قالوا: عني بذلك أنها كبيضة خدر في صفائها ورقتها، وهذه كلمة حسنة، ولكن لم يسبق إليها، بل هي دائرة في أفواه العرب، وتشبيه سائر. ويعني بقوله: " غير معجل ": أنه ليس ذلك مما يتفق قليلاً وأحياناً، بل يتكرر له الاستمتاع بها، وقد يحمله (5) غيره على أنه / رابط الجأش، فلا (6)
يستعجل إذا دخلها خوف حصانتها (1) ومنعتها. وليس في البيت كبير فائدة، لان (2) الذى حكى في سائر أبياته قد تضمن مطاولته في المغازلة واشتغاله بها، فتكريره في هذا البيت مثل ذلك قليل المعنى، إلا الزيادة التي ذكر من منعتها، وهو - مع ذلك - بيت سليم اللفظ في المصراع الأول دون الثاني. والبيت الثاني ضعيف. وقوله: " لو يسرون مقتلي " أراد أن يقول: لو أسروا، فإذا نقله إلى هذا ضعف ووقع في مضمار الضرورة، والاختلال على نظمه بيّن، حتى إن المتأخر ليحترز (3) من مثله. * * * وقوله: إذا ما الثُريا في السماء تعرضت * تعرض أثناء الوشاح المفصل (4) قد أنكر عليه قوم قوله: " إذا ما الثريا في السماء تعرضت "، وقالوا: الثريا لا تتعرض (5) ، حتى قال بعضهم: سمى الثريا وإنما أراد الجوزاء، لأنها تعرض، والعرب تفعل ذلك، كما قال زهير: " كأحمر / عاد " (6) وإنما هو أحمر ثمود (7) . وقال بعضهم في تصحيح قوله [إنما] تعرض: أول ما تطلع [وحين
تغرب] (1) ، كما أن الوشاح إذا طرح يلقاك بعرضه، وهو ناحيته (2) . وهذا كقول الشاعر (3) : تعرضت لي بمجاز خلٍ * تعرض المهرة في الطول (4) يقول: تريك عرضها وهى في الرسن. / وقال أبو عمرو: يعني إذا أخذت الثريا في وسط السماء، كما يأخذ الوشاح وسط المرأة. والأشبه عندنا (5) : أن البيت غير معيب من حيث عابوه به، وأنه من محاسن هذه القصيدة، ولولا أبيات عدة فيه لقابله ما شئت من شعر غيره، ولكن لم يأت فيه بما يفوت الشأو، ويستولي على الامد. أنت تعلم أنه ليس للمتقدمين ولا للمتأخرين في وصف شئ من النجوم مثل ما في وصف الثريا، وكل قد أبدع فيه وأحسن، فإما أن يكون قد عارضه أو زاد (6) عليه. فمن ذلك قول ذي الرمة: وردت اعتسافاً والثريا كأنها * على قمة الرأس ابن ماء محلق (7)
ومن ذلك قول ابن المعتز: وترى الثُريا في السماء كأنها * بيضاتُ أدحى يلُحْن بفدفد (1) وكقوله: كأن الثريا في أواخر ليلها * تفتحُ نَوْرٍ أو لجام مُفَضَّضِ (2) وقوله أيضاً: فناوَلِنيها والثريا كأنها * جنى نرجس حيى الندامى به الساقي (3) / وقول الأشهب بن رميلة: ولاحت لساريها الثريا كأنها * لدى الأفقِ الغربيِّ فرط مسلسلِ (4) ولابن المعتز: وقد هوى النجمُ والجوزاءُ تتبعه * كذاتِ قُرطٍ أرادَتْهُ وقد سقطا (5) أخذه من ابن الرومي في قوله: طيبٌٌ ريقُه إذا ذُقتَ فاه * والثريا بجانب الغربِ قُرطُ (6) ولابن المعتز: قد سقاني المدام وال * صبح بالليل مؤتزر والثريا كنور غص * ن على الأرض قد نُثِر (7) وقوله: وتروم الثريا * في السماء مراما (8)
كانكبابِ طِمْرٍ * كاد يلقى لجاما ولابن الطثرية: إذا ما الثريا في السماء كأنها * جُمانٌ وهى من سلكه فتبددا (1) / ولو (2) نسخت لك كل ما قالوا من البديع في وصف الثريا - لطال عليك الكتاب، وخرج (3) عن الغرض، وإنما نريد أن نبين لك أن الإبداع في نحو هذا أمر قريب (4) ، وليس فيه شئ غريب. وفي جملة ما نقلناه ما يزيد على تشبيهه (5) في الحسن، أو يساويه، أو يقاربه (6) . فقد علمت أن ما حلق (7) فيه، وقدر المتعصب له أنه بلغ النهاية فيه - أمر مشترك، وشريعة مورودة، وباب واسع، وطريق مسلوك. وإذا كان هذا بيت القصيدة، ودرة القلادة، وواسطة العقد وهذا محله (8) - فكيف بما تعداه؟ ! ثم فيه ضرب من التكلف، لأنه قال: " إذا ما الثريا في السماء تعرضت تعرض أثناء الوشاح "، فقوله: " تعرضت ": من الكلام الذى يستغنى عنه، لانه يشبه أثناء الوشاح [بالثريا] (9) ، سواء كان في وسط السماء، أو عند الطلوع والمغيب، فالتهويل بالتعرض، والتطويل بهذه الألفاظ، لا معنى له. وفيه: أن الثريا كقطعة من الوشاح المفصل، فلا معنى لقوله " تعرض أثناء الوشاح "، وإنما أراد أن يقول: تعرض قطعة من / أثناء الوشاح، فلم يستقم له اللفظ، حتى شبه ما هو كالشئ الواحد بالجمع (10) . * * *
وقوله: فجئت وقد نَضَّت لنومٍ ثيابَها * لدى السِّتر إلا لبَسة المتفضِّلِ فقالت: يمينُ اللهِ مالك حيلة * وما إن أرى عنك الغواية تنجلي (1) انظر إلى البيت الأول والأبيات التي قبله، كيف خلط في النظم، وفرط في التأليف! فذكر التمتع بها، وذكر الوقت والحال والحراس - ثم ذكر (2) كيف كان صفتها لما دخل عليها ووصل إليها، من نزعها ثيابها إلا ثوبا واحد والمتفضل: الذي في ثوب واحد، وهو الفضل، فما كان من سبيله أن يقدمه إنما ذكره مؤخراً. وقوله: " لدى الستر ": حشو، وليس بحسن ولا بديع، وليس في البيت حسن، ولا شئ يفضل لاجله. وأما البيت الثاني ففيه تعليق (3) واختلال، ذكر الأصمعي أن معنى قوله " مالك حيلة "، أي ليست لك جهة تجئ فيها والناس أحوالى (4) . / والكلام في المصراع الثاني منقطع عن الأول، ونظمه إليه فيه ضرب من التفاوت. * * * وقوله: فقمت بها أمشي تجُرُّ وراءنا * على إثرنا أذيال مِرطٍ مُرَجَّل فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى * بنا بطنُ خُبتٍ ذي حقافٍ عقنقل (5) البيت الاول [يذكر من محاسنه] (6) : من مساعدتها إياه، حتى قامت معه ليخلوا، وأنها (7) كانت تجر على الأثر أذيال مرط مرجل، والمرجل: ضرب من البرود، يقال لوشيه (8) : الترجيل، وفيه تكلف. لانه قال: " وراءنا على
إثرنا "، ولو قال " على إثرنا " كان كافيا، والذيل إنما يجر (1) وراء الماشي، فلا فائدة لذكره " وراءنا "، وتقدير القول: فقمت أمشي بها، وهذا أيضاً ضرب من التكلف. وقوله " أذيال مرط "، كان من سبيله أن يقول: ذيل مرط. على أنه لو سلم من ذلك كان قريباً ليس مما يفوت بمثله غيره، ولا يتقدم به سواه. وقول ابن المعتز أحسن منه: / فبت أفرش خدي في الطريق له * ذلا وأسحب أكمامي على الاثر (2) وأما البيت الثاني فقوله " أجزنا " بمعنى " قطعنا "، و " الخبت ": بطن من الارض، و " الحقف ": رمل منعرج، " العقنقل ": المنعقد من الرمل الداخل بعضه في بعض. وهذا بيت متفاوت (3) مع الأبيات المتقدمة، لأن فيها ما هو سلس (4) قريب يشبه كلام المولدين وكلام البذلة، وهذا قد أغرب فيه وأتى بهذه اللفظة الوحشية المتعقدة، وليس في ذكرها والتفضيل بإلحاقها بكلامه (5) فائدة. والكلام الغريب واللفظة الشديدة المباينة (6) لنسج الكلام قد تحمد إذا وقعت موقع الحاجة في وصف ما يلائمها، كقوله عز وجل في وصف يوم القيامة: (يَوْمَاً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) (7) . فأما إذا وقعت في غير هذا الموقع، فهي مكروهة مذمومة، بحسب ما تحمد في موضعها. وروي أن جريراً أنشد بعض خلفاء بني أمية قصيدته (8) : بان الخليطُ برامتينِ فودعوا * أو كلما جَدُّوا لبينٍ تجزعُ؟ / كيف العزاءُ ولم أجد مُذ بِنْتُمُ * قلباً يقرُّ ولا شراباً ينقع (9) قال: وكان يزحف من حسن هذا الشعر، حتى بلغ قوله: وتقول بَوْزَعُ: قد دببت على العصا * هلاّ هزِئتِ بغيرنا يابوزع
فقال: أفسدت شعرك بهذا الاسم! ! * * * وأما قوله: هصرتُ بغصني دوحةٍ فتمايلت * عليّ هضيم الكشحِ ريا المخلخَل (1) مهفهفةٌ بيضاءُ غيرُ مُفاضةٍ * ترائِبُها مصقولة كالسجنجل فمعنى قوله " هصرت ": جذبت وثنيت. وقوله " بغصني دوحة "، تعسف، ولم يكن من سبيله أن يجعلهما اثنين. والمصراع الثاني أصح، وليس فيه شئ إلا ما يتكرر على ألسنة الناس من هاتين الصفتين. وأنت تجد ذلك في وصف كل شاعر، ولكنه - مع تكرره على الألسن - صالح. وأما معنى قوله " مهفهفة ": أنها مخففة ليست مثقلة. و" المفاضة ": التي اضطرب طولها. والبيت - مع مخالفته في الطبع الأبيات المتقدمة، ونزوعه فيه (2) / إلى الألفاظ المستكرهة، وما فيه من الخلل، من تخصيص الترائب بالضوء، بعد ذكر جميعها بالبياض - فليس بطائل، ولكنه قريب متوسط. * * * وقوله: تَصُدُّ وتُبدي عن أسيل وتتقي * بناظرةٍ من وحشِ وجرةَ مُطفلِ وجيدٍ كجيد الرِّيم ليس بفاحشٍ * إذا هي نصته ولا بمعطل معنى قوله " عن أسيل ": أي بأسيل، وإنما يريد خدا ليس بكز. وقوله "، تتقى " يقال: اتقاه بحقه (3) أي جعله بينه وبينه.
وقوله: " تصد وتبدي عن أسيل ": متفاوت، لأن الكشف عن الوجه مع الوصل دون الصد. وقوله: " تتقي بناظرة ": لفظة مليحة، ولكن أضافها إلى ما نظم به (1) كلامه، وهو مختل، وهو قوله: " من وحش وجرة "! وكان يجب أن تكون العبارة بخلاف هذا، كان من سبيله أن يضيف إلى عيون الظباء أو المها دون إطلاق الوحش، ففيهن ما تستنكر عيونها. / وقوله " مطفل " فسروه على أنها ليست بصبية، وأنها قد استحكمت، وهذا اعتذار متعسف. وقوله " مطفل ": زيادة لا فائدة فيها على هذا التفسير الذي ذكره الأصمعي. ولكن قد يحتمل - عندي - أن يفيد (2) غير هذه الفائدة، فيقال: إنها إذا كانت مطفلاً لحظت أطفالها بعين رقة، ففي نظر هذه رقة نظر المودة، ويقع الكلام معلقاً تعليقاً متوسطا. وأما البيت الثاني فمعنى قوله: " ليس بفاحش ": أي ليس بفاحش الطول. ومعنى قوله: " نصته ": رفعته. ومعنى قوله: " ليس بفاحش " - في مدح الأعناق - كلام فاحش موضوع منه! وإذا نظرت في أشعار العرب رأيت في وصف الأعناق ما يشبه السحر، فكيف وقع على هذه الكلمة، ودفع إلى هذه اللفظة؟ ! وهلاّ قال كقول أبي نواس: مثلُ الظباء سمت إلي * روض صوادر عن غدير (3) * * * ولست أطول عليك فتسثقل، ولا أكثر القول في ذمة فتستوحش. / وأكلك الآن إلى جملة من القول، فإن كنت من أهل الصنعة، فطنت واكتفيت وعرفت ما رمينا إليه واستغنيت. وإن كنت عن الطبقة خارجاً، وعن (4) الإتقان بهذا الشأن خالياً - فلا يكفيك البيان، وإن (5) استقرينا جميع شعره، وتتبعنا عامة ألفاظه، ودللنا (6) على ما في كل حرف منه.
اعلم أن هذه القصيدة قد ترددت بين أبيات سوقية مبتذلة، وأبيات متوسطة، وأبيات ضعيفة مرذولة، وأبيات وحشية غامضة مستكرهة، وأبيات معدودة بديعة. وقد دللنا (1) على المبتذل منها، ولا يشتبه عليك الوحشي المستنكر، الذي يروع السمع، ويهول القلب، ويكد اللسان، ويعبس معناه في وجه كل خاطر، ويكفهر مطلعه على كل متأمل أو ناظر، ولا يقع بمثله التمدح (2) والتفاصح. وهو مجانب لما وضع له أصل الإفهام، ومخالف لما بني عليه التفاهم بالكلام. فيجب أن يسقط عن الغرض المقصود، ويلحق باللغز والاشارات المستبهمة. * * * فأما الذى زعموا أنه من بديع الشعر، فهو قوله: ويضحي فتيتُ المسكِ فوق فراشها * نؤوم الضُحى لم تنتطقْ عن تفضل والمصراع الأخير عندهم بديع، ومعنى ذلك: أنها مترفة متنعمة، لها من يكفيها. ومعنى قوله: " لم تنتطق عن تفضل "، يقول: لم تنتطق وهى فضل (3) و " عن " هي بمعنى " بعد ". قال أبو عبيدة: لم تنتطق فتعمل، ولكنها تتفضل. * * * ومما يعدونه من محاسنها: وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله * على بأنواع الهموم ليبتلى. (4)
/ فقلت له لما تمطى بصلبه * وأردف أعجازا وناء بكلكلِ: ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انجل * بصبح، وما الاصباح فيك بأمثل (1) وكان بعضهم يعارض هذا بقول النابغة: كليني لهم يا أميمة ناصب * وليل أقاسيه بطئ الكواكبٍ وصدر أراح الليلُ عازبَ همه * تضاعفَ فيه الحزنُ من كلِّ جانب تقاعسَ حتى قلتُ: ليس بمنقضٍ * وليس الذي يتلو النجوم بآيب (2) وقد جرى ذلك بين يدي بعض (3) الخلفاء، فقدمت أبيات امرئ القيس، واستحسنت استعارتها (4) ، وقد جعل لليل صدراً يثقل تنحيه، ويبطئ تقضيه، وجعل له أردافاً كثيرة، وجعل له صلباً يمتد ويتطاول، ورأوا هذا بخلاف ما يستعيره أبو تمام / من الاستعارات الوحشية البعيدة المستنكرة (5) ، ورأوا أن الألفاظ جميلة. واعلم أن هذا صالح جميل، وليس من الباب الذي يقال: إنه متناه عجيب، وفيه إلمام بالتكلف، ودخول في التعمل. * * * وقد خرجوا له في البديع من القصيدة قوله: وقد اغتدي والطير في وكناتها * بمنجردٍ قيد الاوابد هيكل
مكر مفر مقبل مدبر معا * كجلمود ضخر حطه السبل من عل (1) وقوله أيضا: له أبطلا ظبي وساقا نعامة * وإرخاء سرحان وتقريب تتفل (2) فأما قوله " قيد الأوابد "، فهو مليح، ومثله في كلام الشعراء وأهل الفصاحة كثير، والتعمل بمثله (3) ممكن. وأهل زماننا الآن يصنفون نحو هذا تصنيفا، ويؤلفون المحاسن تأليفا، يوشحون به كلامهم. والذين كانوا من قبل - لغزارتهم (4) - / وتمكنهم - لم يكونوا يتصنعون لذلك، وإنما كان يتفق لهم اتفاقاً، ويطرد في كلامهم اطرادا. وأما قوله في وصفه: " مكر مفر "، فقد جمع فيه طباقاً وتشبيهاً. وفي سرعة جري الفرس للشعراء ما هو أحسن من هذا وألطف. وكذلك في جمعه بين أربعة وجوه من التشبيه في بيت واحد - صنعة. ولكن قد عورض فيه وزوحم [عليه] (5) والتوصل إليه يسير، وتطلبه (6) سهل قريب. وقد بينا لك أن هذه القصيدة ونظائرها تتفاوت في أبياتها تفاوتاً بيناً في الجودة والرداءة، والسلاسة والانعقاد، والسلامة والانحلال، والتمكن [والاستصعاب] (7) والتسهل والاسترسال، والتوحش والاستكراه، وله شركاء في نظائرها، ومنازعون في محاسنها، ومعارضون في بدائعها. ولا سواء كلام ينحت من الصخر تارة، ويذوب تارة، ويتلون تلون الحرباء، ويختلف اختلاف الاهواء، ويكثر في تصرفه اضطرابه، وتتفاذف (8) به أسبابه. وبين قول يجري في سبكه على نظام، وفي رصفه على منهاج، وفي وضعه على حد، وفي صفائه على باب، وفى
/ بهجته ورونقه على طريق، مختلفة مؤتلف، ومؤتلفه متحد، ومتباعده متقارب، وشارده مطيع، ومطيعه شارد. وهو على متصرفاته واحد، لا يستصعب في حال، ولا يتعقد في شأن. * * * وكنا أردنا أن نتصرف في قصائد مشهورة، فنتكلم عليها، وندل على معانيها ومحاسنها، ونذكر لك من فضائلها ونقائصها، ونبسط لك القول في هذا الجنس، ونفتح عليك في هذا النهج (1) . ثم رأينا هذا خارجاً عن غرض كتابنا، والكلام فيه يتصل بنقد الشعر وعياره، ووزنه بميزانه (2) ومعياره، ولذلك كتب وإن لم تكن مستوفاة، وتصانيف وإن لم تكن مستقصاة. وهذا القدر يكفى في كتابنا، ولم نحب أن ننسخ (3) لك ما سطره الأدباء في خطأ امرئ القيس في العروض والنحو والمعاني، وما عابوه عليه (4) في أشعاره، وتكلموا به على ديوانه. لأن ذلك أيضاً خارج عن غرض كتابنا، ومجانب لمقصوده. وإنما أردنا أن نبين الجملة (5) التي بيناها. لتعرف أن طريقة الشعر / شريعة مورودة، ومنزلة مشهودة، يأخذ منها أصحابها على مقادير أسبابهم، ويتناول منها ذووها على حسب أحوالهم. وأنت تجد للمتقدم معنى قد طمسه المتأخر بما أبَّر عليه فيه، وتجد للمتأخر معنى قد أغفله المتقدم، وتجد معنى قد توافدا عليه، وتوافياً إليه، فهما فيه شريكا عنان، وكأنهما فيه (6) رضيعا لبان، والله يؤتي فضله من يشاء. * * * فأما (7) نهج القرآن ونظمه، وتأليفه ورصفه، فإن العقول تتيه في جهته، وتحار في بحره (8) ، وتضل في وصفه.
ونحن نذكر لك في تفصيل هذا ما تستدل به على الغرض، وتستولي به على الأمد، وتصل به إلى المقصد، وتتصور إعجازه كما تتصور الشمس، وتتيقن تناهي بلاغته كما تتيقن الفجر، وأقرب عليك الغامض، وأسهل لك العسير. واعلم أن هذا علم شريف المحل، عظيم المكان، قليل الطلاب، ضعيف الأصحاب، ليست له عشيرة تحميه، ولا أهل عصمة تفطن لما / فيه. وهو أدق من السحر، وأهول من البحر، وأعجب من الشعر. وكيف لا يكون كذلك: وأنت تحسب أن وضع " الصبح " في موضع " الفجر " يحسن في كل كلام إلا أن يكون شعراً أو سجعاً؟ وليس كذلك، فإن إحدى اللفظتين قد تنفر في موضع، وتزل عن مكان لا تزل عنه اللفظة الأخرى، بل تتمكن فيه، وتضرب بجرانها، وتراها في مظانها، وتجدها فيه غير منازعة إلى أوطانها، وتجد الأخرى - لو وضعت موضعها - في محل نفار، ومرمى شراد، ونابية عن استقرار (1) . ولا أكثر عليك المثال، ولا أضرب لك فيه الأمثال، وأرجع بك إلى ما وعدتك (2) من الدلالة، وضمنت لك من تقريب المقالة. فإن كنت لا تعرف الفصل الذي بينا بين اللفظتين على اختلاف مواقع الكلام، ومتصرفات مجارى النظام، لم تستفد مما نقر به عليك شيئاً، وكان التقليد أولى بك، والاتباع أوجب عليك. ولكل شئ سبب، ولكل علم طريق، ولا سبيل إلى الوصول إلى الشئ من غير طريقه، ولا بلوغ غايته من غير سبيله. * * * / خذ الآن - هداك الله - في تفريغ (3) الفكر، وتخلية البال، وانظر فيما نعرض عليك، ونهديه إليك، متوكلاً على الله، ومعتصماً به، ومستعيذا به، من الشيطان الرجيم، حتى تقف على إعجاز القرآن العظيم.
سماه الله عز ذكره " حكيما " و " عظيما " و " مجيدا ". وقال: (لاَ يَأْتِيِه الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد) (1) . وقال: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأيتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيةِ اللهِ، وَتِلْكَ الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) (2) . وقال: (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى، بل لله الامر جميعا) (3) . وقال: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ والْجنُّ عَلَى أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) (4) . وأخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين القزويني، حدثنا أبو عبد الرحمن أحمد بن عثمان، حدثنا أبو يوسف الصيدلانى، حدثنا محمد بن سلمة، / عن أبى سنان، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري الطائي، عن الحارث الأعور، عن علي رضي الله عنه، قال: قيل: يا رسول الله، إن أمتك ستفتتن من بعدك، فسأل أو سئل: ما المخرج من ذلك؟ فقال: " بكتاب الله العزيز الذي لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطلُ مِنْ بَيْنِ يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حَمِيدٍ، من ابتغى العلم في غيره أضله الله، ومن ولي هذا من جبار فحكم بغيره قصمه الله، وهو الذكر الحكيم، والنور المبين، والصراط المستقيم. فيه خبر من قبلكم، وتبيان من بعدكم، وهو فصل، ليس بالهزل. وهو الذى (لما) سمعته الجن قالوا: (إنا سعمنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فآمَنْا بِهِ) (5) لا يخلق على طول الرد، ولا تنقضي عبره، ولا تفنى عجائبه (6) . وأخبرني أحمد بن علي بن الحسن، أخبرنا أبي، أخبرنا بشر بن عبد الوهاب،
أخبرنا هشام بن عبيد الله، حدثنا المسيب بن شريك، عن عبيدة (1) ، عن أسامة بن أبي عطاء (2) ، قال: أرسل النبي صلى الله / عليه وسلم إلى علي رضي الله عنه في ليلة، فذكر نحو ذلك في المعنى، وفى بعض ألفاظه اختلاف. وأخبرنا أحمد بن علي بن الحسن، أخبرنا أبي، أخبرنا بشر بن عبد الوهاب، أخبرنا هشام بن عبيد الله، حدثنا المسيب بن شريك، عن بشر بن نمير، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة، ومن قرأ نصف القرآن أعطي نصف النبوة، ومن قرأ القرآن كله أعطي النبوة كلها غير أنه لا يوحى إليه ". وذكر الحديث (3) . * * * ولو لم يكن من عظم شأنه إلا أنه طبق الأرض أنواره، وجلل الآفاق ضياؤه، ونفذ في العالم حكمه، وقبل في الدنيا رسمه، وطمس ظلام الكفر بعد أن كان مضروب الرواق، ممدود الأطناب، مبسوط الباع، مرفوع العماد ليس على الأرض من يعرف الله حق معرفته، / أو يعبده حق عبادته، أو يدين بعظمته، أو يعلم علو جلالته، أو يتفكر في حكمته. فكان كما وصفه الله تعالى جل ذكره، من أنه نور، فقال: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من
نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِرَاطٍ مستقيم) (1) فانظر إشئت - إلى شريف هذا النظم، وبديع هذا التأليف، وعظيم هذا الرصف (2) ، كل كلمة من هذه الآية تامة، وكل لفظ بديع واقع. قوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا) : يدل على صدوره من الربوبية، ويبين عن وروده عن الآلهية. وهذه الكلمة بمنفردها وأخواتها (3) كل واحدة منها لو وقعت بين كلام كثير - تميز عن جميعه، وكان واسطة عقده، وفاتحة عقده، وغرة شهره، وعين دهره. وكذلك قوله: (وَلَكَنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ من نشاء من عبادنا) ، فجعله روحا، لانه يحيي (4) ، الخلق، فله فضل الأرواح في الأجساد. وجعله نورا، لانه يضئ ضياء الشمس في الآفاق. ثم أضاف وقوع / الهداية به إلى مشيئته، ووقف وقوع (5) الاسترشاد به على إرادته، وبيّن أنه لم يكن ليهتدي إليه لولا توفيقه، ولم يكن ليعلم ما في الكتاب ولا الإيمان لولا تعليمه، وإنه لم يكن ليهتدي - فكيف كان يهدي - لولاه، فقد صار (6) يهدي، ولم يكن (6) من قبل ذلك ليهتدي (7) ، فقال: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما في السموات وما في الأَرضِ، أَلاَ إلى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) (8) . فانظر إلى هذه الكلمات الثلاث: فالكلمتان الأوليان مؤتلفتان، وقوله: (أَلاَ إِلى اللَّهِ تَصِيْرُ الأُمُورُ) كلمة منفصلة مباينة للاولى، قد صيرهما شريف النظم أشد ائتلافاً من الكلام المؤالف، وألطف انتظاماً من الحديث الملائم. وبهذا يبين فضل الكلام، وتظهر فصاحته وبلاغته. الأمر أظهر - والحمد لله - والحال أبين من أن يحتاج إلى كشف.
تأمل قوله: (فَالِقُ الإِصْباحِ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناُ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً، ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (1) . / أنظر إلى هذه الكلمات الأربع التي ألف بينها، واحتج بها على ظهور قدرته، ونفاذ أمره، أليس كل كلمة منها في نفسها غرة؟ وبمنفردها (2) درة؟ وهو - مع ذلك - يبين أنه يصدر من علو الأمر، ونفاذ القهر، ويتجلى في بهجة القدرة، ويتحلى بخالصة العزة، ويجمع السلاسة إلى الرصانة، والسلامة إلى المتانة، والرونق الصافي، والبهاء الضافي. ولست أقول: إنه شمل الإطباق المليح، والإيجاز اللطيف، والتعديل والتمثيل، والتقريب والتشكيل - وإن كان قد جمع ذلك وأكثر منه - لأن العجيب ما بينا من انفراد كل كلمة بنفسها، حتى تصلح أن تكون عين رسالة أو خطبة، أو وجه قصيدة أو فقرة. فإذا ألفت ازدادت [به] حسنا [وإحسانا] (3) ، وزادتك - إذا تأملت - معرفة وإيمانا. * * * ثم تأمل قوله: (وَآيةٌ لهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ منه النهار فإذا هم مُّظْلِمُونَ. وَالْشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍ لّهَا، ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ) (4) هل تجد / كل لفظة، وهل تعلم كل كلمة، تستقل بالاشتمال على نهاية البديع، وتتضمن شرط القول البليغ؟ فإذا كانت الآية تنتظم من البديع، وتتألف من البلاغات، فكيف لا تفوت
حد المعهود، ولا تجوز (1) شأو المألوف؟ وكيف (1) لا تحوز قصب السبق، ولا تتعالى عن كلام الخلق؟ ثم أقصد إلى سورة تامة، فتصرف في معرفة قصصها، وراع ما فيها من براهينها وقصصها. تأمل السورة التي يذكر فيها " النمل " وانظر في كلمة كلمة، وفصل فصل. بدأ بذكر السورة، إلى أن بين أن القرآن من عنده، فقال: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (3) . ثم وصل بذلك قصة موسى عليه السلام، وأنه رأى ناراً، (فقال لأهله: امكثوا إِنّيِ آنَسْتُ نَاراً، سَأَتِيكُم منها بِخَبَرٍ أوْ آتِيكُم بِشهابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (4) . وقال في سورة طه في هذه القصة: (لَعَّلَّيِ آتِيكُم مِنْها بِقَبَسٍ / أَوْ أَجدُ على النار هدى) (5) . وفى موضع: (لعلِّي آتِيكُم مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَة مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (6) . قد (7) تصرف في وجوه، وأتى بذكر القصة على ضروب، ليعلمهم عجزهم عن جميع طرق ذلك. ولهذا قال: (فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) (8) . ليكون أبلغ في تعجيزهم، وأظهر للحجة عليهم. وكل كلمة من هذه الكلمات، وإن أنبأت عن قصة، فهى بليغة بنفسها، تامة في معناها. ثم قال: (فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ رب العالمين) (9) فانظر إلى ما أجرى له (10) الكلام، من علو أمر هذا النداء، وعظم شأن
هذا الثناء (1) ، وكيف انتظم مع الكلام الأول، وكيف اتصل بتلك المقدمة، وكيف وصل بها ما بعدها من الأخبار عن الربوبية، وما دل به عليها من قلب العصا حية، وجعلها دليلاً يدله عليه، ومعجزة تهديه إليه؟ / وانظر إلى الكلمات المفردة القائمة بأنفسها في الحسن، وفيما تتضمنه من المعاني الشريفة، ثم ما شفع به هذه الآية، وقرن به هذه الدلالة: من اليد البيضاء - عن نور البرهان - من غير سوء. ثم انظر في آية آية، وكلمة كلمة: هل تجدها كما وصفنا: من عجيب النظم، وبديع الرصف؟ فكل كلمة لو أفردت كانت في الجمال (2) غاية، وفي الدلالة آية، فكيف إذا قارنتها أخواتها، وضامتها ذواتها: [مما] (3) تجري في الحسن مجراها، وتأخذ في معناها؟ ثم من قصة إلى قصة، ومن باب إلى باب، من غير خلل يقع في نظم الفصل إلى الفصل، وحتى يصور (4) لك الفصل وصلا، ببديع (5) التأليف، وبليغ التنزيل. * * * وإن أردت أن تتبين ما قلناه فضل تبين، وتتحقق بما ادعيناه زيادة تحقق - فإن كنت من أهل الصنعة فاعمد إلى قصة من هذه القصص، وحديث من هذه الأحاديث، فعبر عنه بعبارة من جهتك، وأخبر عنه بألفاظ من عندك، حتى ترى فيما جئت به (6) النقص الظاهر، وتتبين في نظم القرآن الدليل الباهر. / ولذلك (7) أعاد قصة موسى في سور، وعلى طرق شتى، وفواصل مختلفة، مع اتفاق المعنى. فلعلك ترجع إلى عقلك، وتستر (8) ما عندك، إن غلطت في أمرك، أو ذهبت في مذاهب وهمك، أو سلطت على نفسك وجه ظنك.
متى تهيأ لبليغ أن يتصرف في قدر (1) آية في أشياء مختلفة، فيجعلها مؤتلفة، من غير أن يبين على كلامه إعياء الخروج والتنقل، أو يظهر على خطابه آثار التكلف (2) والتعمل؟ وأحسب أنه لا يسلم من هذا - ومحال أن يسلم منه - متى (3) يظفر بمثل تلك الكلمات الإفراد، والألفاظ الأعلام، حتى يجمع بينها، فيجلو (4) فيها فقرة من كلامه، وقطعة من قوله. ولو اتفق له في أحرف معدودة، وأسطر قليلة، فمتى يتفق له في قدر ما نقول: إنه (5) من القرآن معجر؟ هيهات هيهات! إن الصبح يطمس النجوم وإن كانت زاهرة، والبحر يغمر الأنهار وإن كانت زاخرة. / متى (6) تهيأ للآدمي أن يقول في وصف كتاب سليمان عليه السلام، بعد ذكر العنوان والتسمية، هذه الكلمة الشريفة العالية: (أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (7) . والخلوص من ذلك إلى ما صارت إليه من التدبير، واشتغلت به من المشورة، ومن تعظيمها أمر المستشار، ومن تعظيمهم أمرها وطاعتها (8) ، بتلك الألفاظ البديعة، والكلمات العجيبة البليغة. ثم كلامها بعد ذلك، [ألا] تعلم (9) تمكن قولها: (يَا أَيُّهَا الْملأُ أََفْتُونِي في أَمْرِي، مَا كُنتُ قَاطِعةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) (10) . وذكر قولهم: (قَالُوا: نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُوْلُواْ بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَالأَمْرُ إِلَيْكِ، فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) (11) ، لا تجد في صفتهم أنفسهم أبرع (12) مما وصفهم به. وقوله: (والامر إليك) ، تعلم براعته بنفسه، وعجيب معناه، وموضع
اتفاقه في هذا الكلام، وتمكن الفاصلة (1) ، وملاءمته لما قبله، وذلك قوله: (فانظري ماذا تأمُرِينَ؟) . / ثم إلى هذا الاختصار، وإلى البيان مع الإيجاز. فإن الكلام قد يفسده الاختصار، ويعميه التخفيف منه والإيجاز، وهذا مما يزيده الاختصار بسطا لتمكنه ووقوعه، ويتضمن الإيجاز منه تصرفاً يتجاوز محله وموضعه. وكم جئت إلى كلام مبسوط يضيق عن الإفهام، ووقعت على حديث طويل يقصر عما يراد به من (2) التمام، ثم لو وقع على الافهام [والتمام، أخل بما] (3) يجب فيه من شروط الأحكام، أو بمعاني القصة وما تقتضي من الإعظام. ثم لو ظفرت بذلك كله، رأيته ناقصاً في وجه الحكمة، أو مدخولاً في باب السياسة، أو مضعوفا (4) في طريق السيادة، أو مشترك العبارات إن كان مستجود المعنى، [أو مستجود العبارة مشترك المعنى] (5) ، أو جيد البلاغة مستجلب (6) المعنى، أو مستجلب البلاغة جيد المعنى، أو مستنكر اللفظ وحشي العبارة، أو مستبهم الجانب مستكره الوضع. وأنت لا تجد في جميع ما تلونا عليك إلا ما إذا بسط أفاد، وإذا اختصر كمل في بابه وجاد، وإذا سرح الحكيم في جوانبه طرف / خاطره (7) ، وبعث العليم في أطرافه عيون مباحثه، لم يقع إلا على محاسن تتوالى، وبدائع تترى (8) . ثم فكر بعد ذلك في آية آية، أو كلمة كلمة، في قوله: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةٌ أَفْسَدُوهَا، وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أّذِلَّةً، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (9)) . هذه الكلمات الثلاث، كل واحدة منها كالنجم في علوه ونوره، وكالياقوت
يتلألأ بين شذوره. ثم تأمل تمكن الفاصلة - وهى الكلمة الثالثة - وحسن موقعها، وعجيب حكمتها (1) . ، وبارع معناها. وإن شرحت لك ما في كل آية طال عليك الأمر، ولكني قد بينت بما فسرت، وقررت بما فصلت - الوجه الذي سلكت، والنحو الذي قصدت، والغرض الذي إليه رميت، والسمت الذى إليه دعوت. ثم فكر بعد ذلك في شئ أدلك عليه: وهو تعادل هذا النظم في الإعجاز، في مواقع الآيات القصيرة، والطويلة، والمتوسطة. / فأجل الرأي في سورة سورة، وآية آية، وفاصلة فاصلة، وتدبر الخواتم، والفواتح، والبوادى (2) والمقاطع، ومواضع الفصل والوصل، ومواضع التنقل والتحول، ثم اقضِ ما أنت قاضٍ. وإن طال عليك تأمل الجميع، فاقتصر على سورة واحدة، أو على بعض سورة (3) . * * * ما رأيك في قوله: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ، وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيعَاً، يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُم، يُذَبِّحُ أَبناءَهُم، ويَسْتَحْييِ نِسَاءَهُم، إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (5) ؟ هذه تشتمل على ست كلمات، سناؤها وضياؤها على ما ترى، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد، ورونقها على ما تعاين، وفصاحتها على ما تعرف. وهي تشتمل على جملة وتفصيل، [وجامعة] (5) وتفسير: ذكر العلو في الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان وسبي (6) النساء، وإذا تحكم في هذين الامرين فما ظنك بما دونهما! ؟ لان النفوس لا تطمئن على هذا الظلم، والقلوب لا تقر على هذا الجور.
/ ثم ذكر الفاصلة التى أو غلت في التأكيد، وكفت في التظليم، وردت آخر الكلام على أوله، وعطفت عجزه على صدره. ثم ذكر وعده تخليصهم بقوله: (وَنُرِيدُ أَن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أَئمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ) (1) . وهذا من التأليف بين المؤتلف، والجمع بين المستأنس. كما أن قوله: (وَاْبتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ، وَلاَ تَنْسَ نَصيبَك مِنَ الدُّنْيَا، وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلاّ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحبُّ الْمُفسِدِينَ) (2) . وهي خمس كلمات، متباعدة في المواقع، نائية المطارح، قد جعلها النظم البديع أشد تألفا (3) من الشئ المؤتلف في الأصل، وأحسن توافقاً من المتطابق في أول الوضع. ومثل هذه الآية قوله: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَختَارُ، مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَة، سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالى عَمَا يُشْرِكُونَ) (4) . ومثلها: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها، فَتِلْكَ مَسَاكِنُهمُ لَم تُسْكَن مِن بَعْدِهم إِلاَ قَليلاُ، وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثينَ) (5) . / ومن المؤتلف قوله: (فَخَسْفنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ، فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ) (6) . وهذه ثلاث كلمات، كل كلمة منها أعز من الكبريت الأحمر. ومن الباب الآخر (7) قوله تعالى: (وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ، لا إله إلا هو، كل شئ هالك إِلاَّ وَجْهَهُ، لَهُ الْحُكْمُ، وَإِلَيْهِ تُرجَعُونَ) (8) . * * * كل سورة من هذه السور تتضمن من القصص ما لو تكلفت العبارة عنها بأضعاف كلماتها، لم تستوف ما استوفته. ثم تجد فيما تنظم ثقل النظم،
ونفور الطبع، وشراد (1) الكلام، وتهافت القول، وتمنع جانبه، وقصورك في الإيضاح عن واجبه. ثم لا تقدر على أن تنتقل من قصة إلى قصة، وفصل إلى فصل، حتى تتبتر (2) عليك مواضع الوصل، وتستصعب عليك أماكن الفصل، ثم لا يمكنك أن تصل بالقصص مواعظ زاجرة، وأمثالاً سائرة وحكماً جليلة، وأدلة على التوحيد بينة، وكلمات في التنزية والتحميد (3) شريفة. / وإن أردت أن تتحقق ما وصفت لك، فتأمل شعر من شئت من الشعراء المفلقين، هل تجد كلامه في المديح والغزل والفخر والهجو يجري مجرى كلامه في ذكر القصص؟ إنك لتراه إذا جاء إلى وصف وقعة (4) ، أو نقل خبر، عاميَّ الكلام، سوقي الخطاب، مسترسلاً في أمره، متساهلاً في كلامه، عادلاً عن المألوف من طبعه، وناكباً عن المعهود في سجيته. فإن اتفق له في قصة كلام جيد، كان قدر ثنتين أو ثلاثة، وكان ما زاد عليها حشواً، وما تجاوزها لغواً. ولا أقول: إنها تخرج من عادته عفواً، لأنه يقصر عن العفو، ويقف دون العرف، ويتعرض للركاكة. فإن لم تقنع بما قلت لك من الآيات (5) ، فتأمل غير ذلك من السور (6) ، هل تجد الجميع على ما وصفت لك؟ لو لم تكن إلا سورة واحدة لكفت في الإعجاز، فكيف بالقرآن العظيم؟ ولو لم يكن إلا حديث من سورة لكفى، وأقنع وشفى. ولو عرفت قدر قصة موسى وحدها من سورة الشعراء، لما طلبت بينة سواها. بل قصة من قصصه، وهي قوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي، إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ) (7) إلى قوله: (فَأَخْرَجْنَاهُم مِن جَنَّاتٍ / وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ
كَرِيمٍ. كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَتْبَعُوهُم مُشْرِقِينَ (1)) حتى قال: (فَأَوْحَيْنَا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بعصاك البحر، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) (2) . ثم قصة إبراهيم عليه السلام. ثم لم تكن إلا الآيات التي انتهى إليها القول في ذكر القرآن، وهي قوله: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبيٍ مُبِينٍ) (3) . وهذه كلمات مفردة بفواصلها، منها ما يتضمن فاتحة وفاصلة، ومنها ما هي فاتحة وواسطة وفاصلة، ومنها كلمة بفاصلتها تامة. دل على أنه نزله على قلبه ليكون نذيراً، وبيّن أنه آية لكونه نبيا، ثم وصل بذلك كيفية النذارة فقال: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ) (4) فتأمل آية أية، لتعرف الإعجاز، وتتبين التصرف البديع، والتنقل في الفصول إلى آخر السورة. ثم راع المقطع العجيب، وهو قوله: (وَسَيَعْلَمَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أي منقلب ينقلبون) (5) . / هل يحسن [أحد] (6) أن يأتي بمثل هذا الوعيد؟ وأن ينظم (7) مثل هذا النظم، وأن يجد مثل هذه النظائر السابقة؟ ويصادف (8) مثل هذه الكلمات المتقدمة؟ ولولا كراهة الإملال، لجئت إلى كل فصل، فاستقريت على الترتيب كلماته، وبينت لك ما في كل واحدة منها من البراعة، وعجيب (9) البلاغة.
ولعلك تستدل بما قلنا على ما بعده، وتستضئ بنوره، وتهتدي بهداه. * * * ونحن نذكر آيات أخر، لتزداد استبصارا، وتتيقن (1) تيقنا: تأمل من الكلام المؤتلف قوله: (حم. تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ، ذِي الَّطْولِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ، إِليْهِ الْمَصِيرُ) (2) . أنت قد تدربت الآن بحفظ أسماء الله تعالى وصفاته، فانظر متى وجدت في كلام البشر وخطبهم مثل هذا النظم في هذا القدر، وما يجمع ما تجمع هذه الآية من شريف المعاني وحسن الفاتحة والخاتمة. / ثم اتل (3) ما بعدها من الآي، واعرف وجه الخلوص من شئ إلى شئ: من احتجاج إلى وعيد، ومن أعذار إلى إنذار، ومن فنون من الأمر شتى، مختلفة تأتلف بشريف النظم، ومتباعدة تتقارب (4) بعلي الضم. ثم جاء إلى قوله: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُم قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِم، وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهمْ لِيَأْخُذُوهُ، وَجَادَلُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ، فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ، وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرواْ أّنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) (5) . الآية الأولى أربعة فصول، والثانية فصلان. وجه الوقوف على شرف (6) الكلام: أن تتأمل موقع قوله: (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) وهل تقع في الحسن موقع قوله: " ليأخذوه " كلمة؟ وهل تقوم مقامه في الجزالة لفظة؟ وهل يسد مسده في الأصالة نكتة؟ لو وضع موضع ذلك " ليقتلوه "، أو " ليرجموه ". أو " لينفوه "، أو " ليطردوه " أو " ليهلكوه "، أو " ليذلوه "، ونحو هذا، ما كان ذلك بديعا (7) ولا بارعا، ولا عجيبا ولا بالغا.
/ فانقد موضع هذه الكلمة، وتعلم بها ما تذهب إليه من تخير (1) الكلام، [وانتقاء] (2) الألفاظ، والاهتداء للمعاني. فإن كنت تقدر أن شيئا من هذه الكلمات التى عددناها (3) عليك أو غيرها، [يقوم مقام هذه اللفظة - لم تقف] (4) على غرضنا من هذا الكتاب، فلا سبيل لك إلى الوقوف على تصاريف الخطاب، فافزع إلى التقليد، واكف نفسك مؤونة التفكير. وإن فطنت، فانظر إلى ما قال من رد عجز الخطاب إلى صدره، بقوله: (فَاَخَذْتُهُم، فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) ثم ذكر عقيبها العذاب في الآخرة، وأتلاها تلو العذاب في الدنيا، على الأحكام الذي رأيت (5) . ثم ذكر المؤمنين بالقرآن، بعد ذكر المكذبين بالآيات والرسل، فقال: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به) (6) إلى أن ذكر ثلاث آيات. / وهذا كلام مفصول، تعلم (7) عجيب اتصاله بما سبق ومضى، وانتسابه إلى ما تقدم وانقضى، وعظم موقعه (8) في معناه، ورفيع ما يتضمن من تحميدهم وتسبيحهم، وحكاية كيفية دعاء الملائكة بقوله: (رَبَّنَا وسعت كل شئ رَّحْمَةً وَعِلْماً) (9) . هل تعرف شرف هذه الكلمة لفظاً ومعنى، ولطيف هذه الحكاية، وتلاؤم هذا الكلام، وتشاكل هذا النظام؟ فكيف (10) يهتدي إلى وضع هذه المعاني بشريّ، وإلى تركيب ما يلائمها من الألفاظ إنسي؟ ثم ذكر ثلاث آيات في أمر الكافرين على ما ترى. ثم نبه على أمر القرآن، وأنه من آياته، بقوله: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ
آيَاتِهِ، وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِّنَ السَّماءِ رِزْقَاً، وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ) (1) . وإنما ذكر هذين الامرين اللذين يختص بالقدرة عليهما، لتناسبهما في أنهما من تنزيله من السماء، ولأن الرزاق الذي لو لم (2) يرزق لم يمكن بقاء النفس، تجب طاعته والنظر في آياته. / ثم قال: (فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَو كَرِهَ الْكَافِرُونَ، رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العرش، يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده، لينذر يوم التلاق، يوم هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنهُم شئ، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَومَ؟ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (3) . قف على هذه الدلالة (4) ، وفكِّر فيها، وراجع نفسك في مراعاة معاني هذه الصفات العالية، والكلمات السامية، والحكم البالغة، والمعاني الشريفة - تعلم ورودها عن الإلهية، ودلالتها على الربوبية، وتتحقق أن الخطب المنقولة عنهم، والأخبار المأثورة في كلماتهم الفصيحة، من الكلام الذي تعلق به الهمم البشرية، وما تحوم عليه الأفكار الآدمية، وتعرف مباينتها لهذا الضرب من القول. أي خاطر يتشوف إلى أن يقول: (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أمره على من يشاء من عباده، لينذر يَوْمَ الْتَّلاَقِ، يَوْمَ هُم باَرِزُونَ) ؟ وأي لفظ يدرك هذا المضمار؟ وأي حكيم يهتدي إلى ما لهذا من الغور؟ وأي فصيح يهتدي إلى هذا النظم؟ ثم استقرئ الآية إلى آخرها، واعتبر كلماتها، وراع بعدها قوله: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، لاَ ظُلْمَ الْيَومَ، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (5) . / من يقدر على تأليف هذه الكلمات الثلاث، على قربها، وعلى خفتها في النظم وموقعها من القلب؟
ثم تأمل قوله: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفِةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِر كَاظِمينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حًمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ، يَعْلَمُ خَائِنَةً الأَعْيُنٍ وَمَا تُخْفِي الصُدُورُ، واللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ، وَالَّذِينَ يدعون من دونه لا يقضون بشئ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْسَمِيعُ الْبَصِيرُ) (1) . كل كلمة من ذلك على ما قد وصفتها (2) : من أنه إذا رآها الإنسان في رسالة كانت عينها، أو في خطبة كانت وجهها أو قصيدة كانت (3) غرة غرتها، وبيت قصيدتها، كالياقوتة التي تكون فريدة العقد، وعين القلادة، ودرة الشذر، إذا وقع بين كلام وشحه، وإذا ضمن (4) في نظام زينه، وإذا اعترض في خطاب تميز عنه، وبان بحسنه منه. ولست أقول هذا لك في آية، دون آية، وسورة دون سورة، وفصل دون فصل، وقصة دون قصة، ومعنى دون معنى، لأني قد شرحت لك أن الكلام في حكاية القصص والأخبار، وفي الشرائع / والأحكام، وفي الديانة والتوحيد، وفي الحجج والتثبيت، هو خلاف الكلام فيما عدا هذه الامور. ألا ترى أن الشاعر المفلق إذا جاء إلى الزهد قصر، والأديب إذا تكلم في بيان الأحكام وذكر الحلال والحرام، لم يكن كلامه على حسب كلامه في غيره. ونظم القرآن لا يتفاوت في شئ، ولا يتباين في أمر، ولا يختل في حال، بل له المثل الأعلى، والفضل الأسنى. وفيما شرحناه لك كفاية، وفيما بيناه بلاغ. * * * ونذكر في الاحكاميات وغيرها آيات أخر: منها قوله: (يَسْئَلُونَكَ مّاذَا أُحِلَّ لَهُمْ؟ قُلْ: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِنَ الْجوَارِحِ مُكَلِّبِينَ، تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ، فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُم، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيهِ، وَاتَّقُوا الله، إن الله سريع الحساب) (5) .
أنت تجد في هذه الآية من الحكمة والتصرف العجيب، والنظم البارع [الغريب] (1) ، ما يدلك - إن شئت - على الإعجاز، مع هذا الإختيار والإيجاز، فكيف إذا بلغ ذلك آيات (2) ، أو كانت سورة؟. ونحو هذه الآية قوله: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُميَّ الَّذِي / يَجِدُونَهُ مَكْتُوبَاً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ، يأمُرُهُم بِالمَعْرِوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرهُمْ وَالأَغلاَلَ التَّي كَانَتْ عَلَيْهمْ، فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبعُواْ النُّورَ الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون) (3) . وكالآية التي بعدها في التوحيد وإثبات النبوة، وكالآيات الثلاث في المواريث. أي بارع يقدر على جمع أحكام الفرائض في قدرها من الكلام؟ ثم كيف يقدر على ما فيها من بديع النظم (4) ؟ وإن جئت إلى آيات الاحتجاج، كقوله تعالى: (لّوْ كَانَ فِيهما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا، فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ، لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يُفعلُ وَهُم يُسْأَلُونَ) (5) . وكالآيات في التوحيد، كقوله: (هُوَ الحَيُّ لا إله إلا هُوَ فادعُوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدينَ، الحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ) (6) . وكقوله: (تَبَارَكَ الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نَذِيراً. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَمَواتِ وَالأَرْضِ، وَلَمَ يَّتخِذْ وَلَداً، وَلَمْ يَكُنْ / لَّهُ شَريكٌ فِي الملك، وخلق كل شئ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (7) . وكقوله: (تَبَارَكَ الَّذِي بيدِهِ الْمُلْكُ وهو على كل شئ قَدِيرٌ) (8) ، إلى آخرها. وكقوله: (وَالصَّافَّاتِ صَفَّا، فَالزَّاجِرَاتِ زجرا، فالتاليات ذكرا،
إِنَّ إِلهَكُم لَوَاحِدٌ، رَّبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ، إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ، وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ، لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى المَلأ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، دُحُوراً، وَلَهُم عَذَابٌ وَاصِبٌ، إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) (1) . هذه من الآيات التى قال فيها الله تعالى ذكره: (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً متشابها مثاني، تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر اللَّهِ، ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدي بِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لُهُ مِنْ هاد) (2) . [ارفع طرف قلبك] (3) ، وانظر بعين عقلك، وراجع جلية بصيرتك، إذا تفكرت في كلمة كلمة مما نقلناه إليك، وعرضناه / عليك، ثم فيما ينتظم من الكلمات، ثم إلى أن يتكامل فصلاً وقصة، أو يتم حديثا وسورة. لا، بل فكر في جميع القرآن على هذا الترتيب، وتدبره على نحو هذا التنزيل، فلم ندع ما ادعيناه لبعضه، ولم نصف ما وصفنا (4) إلا في كله، وإن كانت الدلالة في البعض أبين وأظهر، والآية أكشف وأبهر. وإذا تأملت على ما هديناك إليه، ووقفناك عليه، فانظر هل تجد وقع (5) هذا النور في قلبك، واشتماله على لبك، وسريانه في حسك، ونفوذه في عروقك، وامتلاءك به إيقاناً وإحاطة، واهتداءك به إيماناً وبصيرة؟ أم هل تجد الرعب يأخذ منك مأخذه من وجه، والهزة تعمل في جوانبك (6) من لون، والأريحية تستولي عليك من باب؟ وهل تجد الطرب يستفزك للطيف ما فطنت له، والسرور يحركك من عجيب ما وقفت عليه، وتجد في نفسك من المعرفة التي حدثت لك - عزة، وفى أعطافك ارتياحاً وهزة، وترى لك في الفضل تقدماً وتبريزاً، وفي اليقين سبقاً وتحقيقاً، وترى مطارح الجهال تحت / أقدام الغفلة، ومهاويهم
في ظلال (1) القلة والذلة، وأقدارهم بالعين التي يجب أن تلحظ بها، ومراتبهم بحيث يجب (2) أن ترتبها؟ هذا كله في تأمل الكلام ونظامه، وعجيب معانيه وأحكامه. فإن جئت إلى ما انبسط في العالم من بركته وأنواره، وتمكن في الآفاق من يمنه وأضوائه، وثبت في القلوب من إكباره واعظامه، وتقرر في النفوس من حتم أمره ونهيه، ومضى في الدماء (3) من مفروض حكمه، وإلى أنه جعل عماد (4) الصلاة التي هي تلو الإيمان في التأكيد، وثانية التوحيد في الوجوب. وفرض (5) حفظه، ووكل الصغار والكبار بتلاوته، وأمر عند افتتاحه بما أمر به لتعظيمه، من قوله: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (6) لم يؤمر بالتعوذ لافتتاح أمر كما أمر به لافتتاحه، فهل يدلك هذا على عظيم شأنه، وراجح ميزانه، وعالي مكانه. وجملة الأمر أن نقد الكلام شديد، وتمييزه صعب. ومما كتب إليَّ الحسن بن عبد الله العسكري: [قال] (7) أخبرني / أبو بكر ابن دريد قال: سمعت أبا حاتم يقول: سمعت الاصمعي يقول: فرسان الشعر (8) أقل من فرسان الحرب. وقال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: العلماء بالشعر أعزّ من الكبريت الاحمر. وإذا كان الكلام المتعارف المتداول بين الناس، يشق تمييزه، ويصعب نقده، ويذهب عن محاسنه الكثير (9) ، وينظرون إلى كثير من قبيحه بعين الحسن، وكثير من حسنه بعين القبح، ثم يختلفون في الأحسن منه اختلافاً كثيرا، وتتباين آراؤهم في تفضيل ما يفضل منه - فكيف لا يتحيرون فيما لا يحيط به علمهم، ولا يتأتى في مقدورهم، ولا يمثل بخواطرهم؟ وقد حير القوم الذين لم يكن أحد أفصح منهم.
ولا أتم بلاغة، ولا أحسن براعة، حتى دهشوا حين ورد عليهم، وولهت عقولهم، ولم يكن عندهم فيه جواب غير ضرب الأمثال، والتخرص (1) عليه، والتوهم فيه، وتقسيمه أقساماً، وجعله عضين. وكيف لا يكون أحسن الكلام، وقد قال الله تعالى: (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً متشابها مثاني، تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر اللَّهِ، ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ / يَهْدي بِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لُهُ مِنْ هاد) (2) . استغنم فهم هذه الآية، وكفاك، استفد علم هذه الكلمات، وقد أغناك، فليس يوقف على حسن الكلام بطوله، ولا تعرف براعته بكثرة فصوله، إن القليل يدل على الكثير، والقريب قد يهجم بك على البعيد. ثم إنه سبحانه وتعالى لما علم من عظم شأن هذه المعرفة، وكبر محلها (3) ، وذهابها على أقوام - ذكر في آخر هذه الآية ما ذكر، وبيّن ما بيّن، فقال: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يهدى به من يشاء) . فلا تعلم (4) ما وصفنا لك إلا بهداية من العزيز الحميد، وقال: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لُهُ مِنْ هَادٍ) وقال: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) (5) . وقد بسطنا لك القول رجاء افهامك. وهذا " المنهاج " الذي رأيته، إن سلكته، يأخذ بيدك، ويدلك على رشدك، ويغنيك عن (6) ذكر براعة (7) آية آية لك. واعلم أنا لم نقصد فيما سطرناه من الآيات، وسميناه من السور / والدلالات، ذكر الأحسن (8) والأكشف والأظهر، لأنا نعتقد في كل سورة ذكرناها أو (9) أضربنا عن ذكرها اعتقاداً واحداً في الدلالة على الإعجاز، والكفاية في التمنع والبرهان. ولكن لم يكن بد من ذكر بعض، فذكرنا ما تيسر، وقلنا فيما اتجه
في الحال وخطر، وإن كنا نعتقد أن الاعجاز في بعض القرآن أظهر، وفى بعضه (1) أدق وأغمض. والكلام في هذا الفصل يجئ بعد هذا. فاحفظ عنا في الجملة ما كررنا، والسير بعد ذلك في التفصيل إليك، وحصل ما أعطيناك من العلامة، ثم النظر عليك. * * * قد اعتمدنا على أن الآيات تنقسم إلى قسمين: أحدهما: ما يتم بنفسه، أو بنفسه وفاصلته، فينير في الكلام إنارة النجم في الظلام. والثاني: ما يشتمل على كلمتين أو كلمات، إذا تأملتها وجدت كل كلمة منها في نهاية البراعة، وغاية البلاغة. وإنما يبين ذلك بأن تتصور هذه الكلمة مضمنة بين أضعاف كلام كثير، أو خطاب طويل، فتراها ما بينها (2) تدل على نفسها، / وتعلو على ما قرن بها (3) لعلو جنسها، فإذا ضمت إلى أخواتها، وجاءت في ذواتها، أرتك القلائد منظومة، كما كانت تريك - عند تأمل الإفراد منها - اليواقيت منثورة، والجواهر مبثوثة (4) . ولولا ما أكره من تضمين القرآن في الشعر لانشدتك ألفاظاً وقعت مضمنة، لتعلم كيف تلوح (5) عليه، وكيف ترى بهجتها في أثنائه، وكيف تمتاز منه، حتى أنه لو تأمله من لم يقرأ القرآن لتبين أنه أجنبي من الكلام الذي تضمنه، والباب الذي توسطه، وأنكر مكانه، واستكبر موضعه. ثم تناسبها في البلاغة والإبداع، وتماثلها في السلاسة والإغراب، ثم انفرادها بذلك الأسلوب، وتخصصها بذلك الترتيب، ثم سائر ما قدمنا ذكره، مما نكره إعادته. وأنت ترى غيره من الكلام يضطرب في مجاريه، ويختل تصرفه في معانيه،
ويتفاوت التفاوت الكثير في طرقه، ويضيق به النطاق في مذاهبه، ويرتبك (1) في أطرافه وجوانبه، ويسلمه للتكلف (2) الوحش كثرة تصرفه، ويحيله على التصنع الظاهر موارد تنقله وتخلصه. / ونظم القرآن في مؤتلفه ومختلفه، وفي فصله ووصله، وافتتاحه واختتامه، وفي كل نهج يسلكه، وطريق يأخذ فيه، وباب يتهجم عليه، ووجه يؤمه، على ماو صفه الله تعالى به - لا يتفاوت، كما قال: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فِيهِ اختِلاَفَاً كَثِيراً) (3) . ولا يخرج عن تشابهه وتماثله، كما قال: (قُرْآنَاً عَرَبِياً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) (4) . وكما قال: (كِتَاباً مُتَشَابِهاً) (5) ولا يخرج عن إبانته، كما قال: (بِلسَانٍ عَرَبيًّ مُبِينٌ) (6) . وغيره من الكلام كثير التلون، دائم التغير، [والتنكر] (7) ، يقف بك على بديع مستحسن، ويعقبه بقبيح (8) مستهجن، ويطلع عليك بوجه الحسناء، ثم يعرض للهجر بخد القبيحة الشوهاء، ويأتيك باللفظة المستنكرة بين الكلمات التى هي كاللآلئ الزهر. وقد يأتيك باللفظة الحسنة بين الكلمات البهم، وقد يقع إليك منه الكلام المثبج (9) ، والنظم المشوش، والحديث المشوه. وقد تجد منه ما لا يتناسب ولا يتشابه، ولا يتآلف ولا يتماثل / وقد قيل في وصف ما جرى هذا المجرى: وشعر كبَعْرِ الكبش فَرّقَ بينه * لسانٌ دعى في القريض دخيل (10)
وقال آخر: وبعضُ قريضِ القوم أولادُ عَلْةٍ * يكد لسان الناطق المتحفظ (1) فإن قال قائل: فقد نجد في آيات [من] (2) القرآن ما يكون نظمه بخلاف ما وصفت، ولا تتميز الكلمات بوجه البراعة، وإنما تكون البراعة عندك منه في مقدار يزيد على الكلمات المفردة، وحد يتجاوز حد الالفاظ المستندة، وإن كان الأكثر على ما وصفته به؟ / قيل له: نحن نعلم أن قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ) ، إلى آخر الآية - ليس من القبيل الذي يمكن إظهار البراعة فيه، وإبانة الفصاحة [عليه] (3) وذاك يجري عندنا مجرى ما يحتاج إلى ذكره من الأسماء والألقاب، فلا يمكن إظهار البلاغة (4) فيه، فطلبها في نحو هذا ضرب من الجهالة. بل الذي يعتبر في نحو ذلك تنزيل الخطاب، وظهور الحكمة في الترتيب والمعنى، وذلك حاصل في هذه الآية - إن تأملت. ألا ترى أنه بدأ بذكر الأم، لعظم حرمتها، وإدلائها بنفسها، ومكان بعضيتها، فهي أصل لكل من يدلى بنفسه منهن، ولانه (5) ليس في ذوات الانساب أقرب منها. ولما جاء إلى ذوات الأسباب، ألحق بها (6) حكم الام من الرضاع، لان
اللحم ينشره اللبن بما يغذوه، فيتحصل بذلك أيضاً لها حكم البعضية، فنشر (1) الحرمة بهذا المعنى، وألحقها بالوالدة. وذكر الأخوات من الرضاعة، فنبه بها على كل من يدلي بغيرها، وجعلها تلو الأم من الرضاع. / والكلام في إظهار حكم هذه الآية وفوائدها يطول، ولم نضع كتابنا لهذا، وسبيل هذا أن نذكره في كتاب " معاني القرآن " إن سهل الله لنا إملاءه وجمعه. فلم تنفك هذه الآية من الحكم التي تخلف حكمة الإعجاز في النظم والتأليف، والفائدة التي تنوب مناب العدول عن البراعة في وجه الترصيف. فقد علم السائل أنه لم يأت بشئ، ولم يهتدِ للأغراض (2) في دلالات الكلام، وفوائده ومتصرفاته، وفنونه ومتوجهاته. وقد يتفق في الشعر ذكر الاسامي فيحسن موقعه، كقول أبى ذؤاب الاسدي (3) : إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم * بعتيبةً بنِ الحارثِ بن شهابِ (4) بأشدِّهم كلباً على أعدائه * وأعزِّهم فقداً على الأصحابِ (5) وقد يتفق ذكر الأسامي، فيفسد النظم، ويقبح الوزن. / والآيات الأحكاميات التي لابد فيها من أمر (6) البلاغة، يعتبر فيها من الألفاظ (7) ما يعتبر في غيرها، وقد يمكن فيها، وكل موضع أمكن ذلك فقد وجد في القرآن في بابه ما ليس عليه مزيد في البلاغة وعجيب النظم. ثم في جملة الآيات ما إن لم تراع البديع البليغ في الكلمات الإفراد والألفاظ الآحاد، فقد تجد ذلك مع تركب الكلمتين والثلاث، ويطرد ذلك في الابتداء، والخروج، والفواصل، وما يقع بين الفاتحة والخاتمة من الواسطة، أو باجتماع ذلك أو في
بعض ذلك - ما يخلف الإبداع في أفراد الكلمات، وإن كانت الجملة والمعظم على ما سبق الوصف فيه. وإذا عرف ما يجري إليه الكلام، وينهي إليه الخطاب، ويقف عليه الأسلوب، ويختص به القبيل - بأن عند أهل الصنعة تميز بابه، وانفراد سبيله، ولم يشك البليغ في انتمائه إلى الجهة التي ينتمي إليها، ولم يرتب الأديب البارع في انتسابه إلى ما عرف من نهجه. وهذا كما يعرف طريقه مترسل في رسالته، فهو لا يخفى عليه بناء قاعدته وأساسه، فكأنه يرى (1) أنه يعد عليه مجاري حركاته وأنفاسه. / وكذلك في الشعر (2) واختلاف ضروبه، يعرف المتحقق به طبع كل أحد، وسبيل كل شاعر. وفي " نظم القرآن " أبواب كثيرة لم نستوفها، وتقصِّيها يطول، وعجائبها لا تنقضي، فمنها الكلام [المغلق] (3) والإشارات. وإذا بلغ الكلام من هذا القبيل مبلغاً ربما زاد الإفهام به على الإيضاح، أو ساوى مواقع التفسير والشرح، مع استيفائه شرطه - كان النهاية في في معناه. وذلك كقوله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ، لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (4) . فصول هذه الآية وكلماتها على ما شرحنا من قبل (5) البلاغة واللطف في التقدم، وفي تضمن هذا الأمر العظيم، والمقام الكريم. ويتلو هذه قوله: (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ، وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) (6) هذا خروج لو كان في غير هذا الكلام لتصور في / صورة المنقطع، وقد تمثل في هذا النظم لبراعته وعجيب أمره وموقع ما لا ينفك منه القول (7) .
وقد يتبرأ الكلام المتصل بعضه من بعض، ويظهر عليه التثبيج (1) والتباين، للخلل الواقع في النظم. وقد تصور هذا الفصل للطفه وصلاً، ولم يبن عليه تميز الخروج. ثم انظر كيف أجرى هذا الخطاب إلى ذكر نوح، وكيف أثنى عليه؟ وكيف تليق صفته بالفاصلة ويتم النظم بها، مع خروجها مخرج البروز من الكلام الأول، إلى ذكره، وإجرائه إلى مدحه بشكره، وكونهم من ذريته يوجب عليهم أن يسيروا بسيرته، وأن يستنوا بسنته، في أن يشكروا كشكره، ولا يتخذوا من دون الله وكيلاً، وأن يعتقدوا تعظيم تخليصه إياهم من الطوفان، لما (2) حملهم عليه ونجّاهم فيه، حين أهلك من عداهم به، وقد عرفهم أنه إنما يؤاخذهم بذنوبهم وفسادهم، فيما سلط عليهم من قبلهم وعاقبهم، ثم عاد عليهم بالأفضال والإحسان، حتى يتذكروا ويعرفوا قدر نعمة الله عليهم وعلى نوح الذي ولدهم وهم من ذريته، فلما عادوا إلى جهالتهم، وتمردوا في طغيانهم، عاد عليهم بالتعذيب. / ثم ذكر الله عز وجل في ثلاث آيات بعد ذلك معنى هذه القصة التي كانت لهم، بكلمات قليلة في العدد، كثيرة الفوائد، لا يمكن شرحها إلا بالتفصيل الكثير، والكلام الطويل. ثم لم يخل تضاعيف الكلام مما ترى من الموعظة، على أعجب تدريج، وأبدع تأريج (3) ، بقوله: (إن أحسنتم أَحْسَنْتُم لإِنْفُسِكُمْ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (4) . ولم ينقطع بذلك [نظام] (5) الكلام، وأنت ترى الكلام يتبدد مع اتصاله، وينتشر مع انتظامه، فكيف بإلقاء ما ليس منه في أثنائه، وطرح ما يعدوه (6) في أدراجه؟ إلى أن خرج إلى قوله: (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ، وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) (7) يعني: إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى العفو.
ثم خرج خروجاً آخر إلى ذكر القرآن. وعلى هذا فقس بحثك عن (1) شرف الكلام، وماله من علو الشأن، لا يطلب مطلباً إلا انفتح، ولا يسلك قلباً إلا انشرح، ولا / يذهب مذهباً إلا استنار وأضاء، ولا يضرب مضرباً إلا بلغ فيه السماء، لا تقع منه على فائدة فقدرت أنها أقصى فوائدها - إلا قصرت، ولا تظفر بحكمة فظننت أنها زبدة حكمها - إلا وقد أخللت. * * * إن الذي عارض القرآن بشعر امرئ القيس لاضل من حمار باهلة (2) ، وأحمق من هبنقة (3) . لو كان شعره كله كالابيات المختارة التى قدمناها، لاوجب البراءة منه (4) قوله: وسِنَّ كُسَّنْيقٍ سناء وسُنَّماً * ذعَرْتُ بِمْدلاجِ الهجيز نهوض (5) قال الاصمعي: لا أدرى ما السن، ولا السنيق، ولا السنم؟ ! وقال بعضهم: السنيق: أكمة.
/ وقال فيها: له قصريا عير وساقا نعامة * كفحل الهجان القيسري العضوض (1) وقوله: عصافيرٌ وُذَّبانٌ ودود * وأجرأ من مجلحة الذئاب (2) وزاد في تقبيح ذلك وقوعه في أبيات فيها: فقد طوّفتُ في الآفاق حتى * رضيتُ من الغنيمة بالاياب وكل مكارم الاخلاق صارت * إليه همتي وبها اكتسابي (3) وكقوله في قصيدة قالها في نهاية السقوط: أزْمانَ فوها كلما نبهتها * كالمسك فاح وظل في الفدَّام (4) أفلا ترى أظعانهن بواكراً * كالنخل من شَوْكانَ حين صرام (5) / وكأن شاربَها أصاب لسانَه * مُوم يخالط جسمَه بِسقَام (6) وكقوله: لم يفعلوا فعلَ آلِ حنظلةَ * إِنَّهمُ جَيْر بئسما ائتمروا (7)
لا حِمْيَرِيّ وفى ولا عَدَسٌ * ولا استُ عير يحكُّها الثَّفَرُ (1) إن بني عوفٍ ابتَنَوا حسباً * ضيعه الدخللون إذ غدروا (2) / وكقوله: أبلغ شهابا [بل] وأبلغ عاصما * [ومالكا] هل أتاك الخُبْرُ مالِ (3) أنا تركنا مِنكُمُ قتلى بخو * عى وسبيا كالسعالى (4) يمشين بين رحالنا مع * ترفات بجوع وهزال * * * ولم يقع مثل ذلك له وحده، فقد قال الأعشى: فأَدخَلكَ اللَّهُ بردَ الجِنا * نِ جذلانَ في مَدْخَلٍ طيِّب (5) وقال أيضاً: فرميت غفلة عينه عن شاته * فأصبت حية قلبها وطِحالِها (6) وقال في فرسه: ويأمرُ لليَحْمُوم كل عشية * بقت وتعليق فقد كاد ينسق (7)
/ وقال: شاوٍ مِشَلّ شَلُولٌ شُلْشُلٌ شَوِلُ (1) وهذه الألفاظ في معنى واحد. وقد وقع لزهير نحوه كقوله: فأقسمت جهداً بالمنازل من منى * وما سحفت فيه المقاديم والقمل (2) كيف يقول (3) هذا في قصيدة يقول فيها: وهل ينُبت الخَطِّي إلا وشيجه، وتغرسُ إلا في منابتها النخل (4) / وكقول الطِّرماح: سوف تدنيك من لميسَ سبنتا * ة امارتْ بالبول ماء الكراض (5) السبنتاة: الناقة الصلبة. والكراض: ماء الفحل، أسالت ماء الفحل مع البول، فلم تعقد عليه، ولم تحمل، فتضعف والمائر: السائل.
فإن قال قائل: أجدك تحاملت على امرئ القيس، ورأيت أن شعره يتفاوت بين اللين والشراسة، وبين اللطف والشكاسة، وبين التوحش والاستئناس، والتفاوت والتباعد، ورأيت الكلام الأعدل أفضل، والنظام المستوثق (1) أكمل، وأنت تجد البحتري يسبق (2) في هذا الميدان، ويفوت الغاية في هذا الشأن، وأنت ترى (3) الكتاب يفضلون كلامه على كل كلام، ويقدمون رأيه في البلاغة على كل رأي، وكذلك تجد (4) لأبي نواس من بهجة اللفظ، ودقيق المعنى / ما يتحير فيه أهل الفضل (5) ، ويقدمه الشطار والظراف على كل شاعر، ويرون لنظمه روعة لا يرون لنظم غيره * وزبرجاً لا يتفق لسواه، فكيف يعرف فضل ما سواه عليه؟ فالجواب: أن الكلام في أن الشعر لا يجوز أن (6) يوازن به القرآن قد تقدم. وإذ كنا قد بينا أن شعر امرئ القيس - وهو كبيرهم الذي يقرون بتقدمه، وشيخهم الذي يعترفون بفضله، وقائدهم الذي يأتمون به (7) ، وإمامهم الذي يرجعون إليه - كيف سبيله، وكيف (8) طريق [سقوط] (9) منزلته عن منزلة نظم القرآن، وأنه لا يلحظ (10) بشعره غبار ذلك، وهو إذا لحظ ذلك كان كما قال (11) . فأصبحتُ من ليلى الغداة كناظرٍ * مع الصبح في إعجازِ نجمٍ مُغَرِّبِ (12) / وكما قال أيضاً: راحت مُشَرِّقَةً ورُحْتُ مغرِباً * فمتى التقاءُ مُشَرِّقٍ ومغرب
وإذا كنا قد أبنا في القاعدة ما علمت، وفصلنا لك في شعره ما عرفت - لم نحتج إلى أن نتكلم على شعر [كل] (1) شاعر، وكلام بليغ، والقليل يدل على الكثير. وقد بينا - في الجملة - مباينة أسلوب نظم القرآن جميع الأساليب، ومزيته عليها في النظم والترتيب، وتقدمه عليها في (2) كل حكمة وبراعة، ثم تكلمنا على التفصيل - على ما شاهدت (3) - فلا يبقى علينا بعد ذلك سؤال. ثم نقول: أنت تعلم أن من يقول بتقدم البحتري في الصنعة، به من الشغل في تفضيله على ابن الرومي أو تسوية ما بينهما ما لا يطمع معه في تقديمه على امرئ القيس ومن طبقته. كذلك أبو نواس، إنما يعدل شعره بشعر أشكاله، ويقابل كلامه بكلام أضرابه من أهل عصره. ، وإنما يقع بينهم التباين اليسير، والتفاوت القليل. فأما أن يظن ظان، أو يتوهم متوهم أن جنس الشعر معارض / لنظم (4) القرآن (فَكَأََنَّما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (5) . وإنما هي خواطر يغير بعضها على بعض، ويقتدي فيها بعض ببعض، والغرض الذي يرمي إليه، ويصح (6) التوافي عليه، في الجملة، فهو قبيل متداول، وجنس متنازع، وشريعة مورودة، وطريقة مسلوكة. ألا ترى ما روي عن الحسين بن الضحاك، قال: أنشدت أبا نواس قصيدتي التي فيها: وشاطريِّ اللسان مختلق التك * ريه شاب المجون بالنسك (7)
كأنه - نصب كأسه - قمر * يكرع في بعض أنجمِ الفلكِ (1) قال: فأنشدني أبو نواس بعد أيام قصيدته التي يقول فيها: / أعاذلُ أعتبتُ الإمامَ وأعتبا * وأعربتَ عمَّا في الضمير وأعرَبا (2) وقُلتُ لساقيها: أَجِزْها فلم أكنْ * ليأبى أمير المؤمينن وأشَربَا (3) فجوَّزها عني عُقَاراً ترى لها * إلى الشرف الأعلى شُعاعاً مُطَنَّبا إذا عَبَّ فيها شاربُ القومِ خلتَهً * يُقَبِّلُ في داجٍ من الليلِ. كَوكَبا قال: فقلت له: يا أبا علي، هذه مصالتة (4) . فقال: أتظن أنه يروي (5) لك معنى وأنا حي؟ فتأمل هذا الأخذ، وهذا الوضع، وهذا الاتباع (6) . أما الخليع فقد رأى الإبداع في المعنى، فأما العبارات فإنها ليست على ما ظنه، لأن قوله: " يكرع " ليس بصحيح، وفيه ثقل بين / وتفاوت، وفيه إحالة، لان القمر لا يصح تصورا (7) أن يكرع في نجم.
وأما قول أبي نواس، " إذا عب فيها "، فكلمة قد قصد فيها المتانة، وكان سبيله أن يختار سواها من ألفاظ الشرب (1) ، ولو فعل ذلك كان أملح. وقوله: " شارب القوم "، فيه ضرب من التكلف الذي لا بد له منه أو من مثله، لإقامة الوزن. ثم قوله: " خلته يقبل في داج من الليل كوكبا "، تشبيه بحالة واحدة من أحواله، وهى أن يشرب حيث لاضوء هناك، وإنما يتناوله ليلاً، فليس بتشبيه مستوفى، على ما فيه من الوقوع والملاحة [والصنعة] (2) . وقد قال ابن الرومي ما هو أوقع منه وأملح وأبدع: ومهفهفٍ تَمَّتْ محاسِنًهً * حتى تجاوز منية النفس (3) تصبو الكئوس إلى مراشفه * وتحن في يده إلى الحبس أبصرته والكأس بين فم * منه وبين أنامل خمس وكأنها وكأن شاربها * قمر يقبل عارض الشمس (4) / ولاشك في أن تشبيه ابن الرومي أحسن وأعجب (5) ، إلا أنه [لم] يتمكن من إيراده [إلا] في (6) بيتين، وهما - مع سبقهما إلى المعنى - أتيا به في بيت واحد. * * * وإنما أردت بهذا أن أعرفك أن هذه أمور متقاربة (7) ، يقع فيها التنافس والتعارض، والأطماع تتعلق (8) بها، والهمم تسمو إليها، وهي إلف طباعنا، وطوع مداركنا، ومجانس (9) لكلامنا. وإعجاب قوم بنحو هذا وما يجري مجراه، وإيثار أقوام لشعر البحترى
على أبي تمام، وعبد الصمد، وابن الرومي، وتقديم قوم كل هؤلاء أو بعضهم عليه وذهاب قوم عن المعرفة - ليس بأمر يضربنا ولا سبب (1) يعترض على أفهامنا. * * * ونحن نعمد إلى بعض قصائد " البحتري " فنتكلم عليها (2) ، كما تكلمنا على قصيدة امرئ القيس، ليزداد الناظر في كتابنا بصيرة، ويستخلص / من سر المعرفة سريرة، ويعلم كيف تكون الموازنة، وكيف تقع المشابهة والمقاربة. ونجعل تلك القصيدة التى نذكرها أجود شعره. سمعت الصاحب إسماعيل بن عباد يقول: سمعت أبا الفضل بن العميد يقول: سمعت أبا مسلم الرستمي يقول: سمعت البحتري يذكر (3) أن أجود شعر قاله: * أهلا بذلكم الخيال المقبل * قال: وسمعت أبا الفضل بن العميد يقول: أجود شعره هو قوله: * في الشيب زجر له لو كان ينزجر (4) * قال: وسئلت عن ذلك؟ فقلت: البحتري أعرف بشعر نفسه من غيره. فنحن الآن نقول في هذه القصيدة ما يصلح في مثل هذا: / قوله (5) : أهلاً بذلكم الخيالِ المقبلِ * فعل الذي نهواه أو لم يفعلِ
برق سرى في بطنِ وجرةَ فاهتدت * بسناه أعناق الركاب الضلل (1) البيت الأول، في قوله: " ذلكم الخيال "، ثقل روح، وتطويل وحشو، وغيره أصلح له (2) . وأخف منه قول الصَّنَوْبَرِي: أهلاً بذاك الزَّورِ من زَوْرِ * شمس بدت في فلك الدورِ وعذوبة الشعر تذهب بزيادة حرف أو نقصان حرف، فيصير إلى الكزازة، وتعود ملاحته بذلك ملوحة، وفصاحته عياً، وبراعته تكلفاً، وسلاسته تعسفاً، وملاسته تلويا وتعقدا. فهذا فصل. وفيه شئ آخر، وهو: أن هذا الخطاب إنما يستقيم مهما خوطب به الخيال حال أقباله، فأما أن يحكي الحال التي كانت وسلفت على هذه العيادة ففيه عهدة، وفي تركيب الكلام عن هذا المعنى عقدة (3) ، وهو / - لبراعته وحذقه في هذه الصنعة - يعلق (4) نحو هذا الكلام، ولا ينظر في عواقبه، لأن ملاحة قوله تغطي على عيون الناظرين فيه نحو هذه الأمور. ثم قوله: " فعل الذي نهواه أو لم يفعل " ليست بكلمة رشيقة، ولا لفظة ظريفة، وإن كانت كسائر الكلام. فأما بيته الثاني، فهو عظيم الموقع في البهجة، وبديع المأخذ (5) ، حسن الرواء أنيق المنظر والمسمع، يملا القلب والفهم، ويفرح الخاطر، وتسرى (6) بشاشته في العروق. وكان البحتري يسمي نحو هذه الأبيات: " عروق الذهب " وفي نحوه ما يدل على براعته في الصناعة، وحذقه (7) في البلاغة. ومع هذا كله فيه ما نشرحه من الخلل، مع الديباجة الحسنة، والرونق المليح.
وذلك: أنه جعل الخيال كالبرق لإشراقه في مسراه، كما يقال: إنه يسري (1) كنسيم الصبا، فيطيب ما مر به، كذلك يضئ ما مر حوله، وينور ما مر به. وهذا غلو في الصنعة، إلا أن ذكره " بطن / وجرة " حشو، وفي ذكره خلل، لأن النور القليل يؤثر في بطون الأرض وما اطمأن منها، بخلاف ما يؤثر في غيرها، فلم يكن من سبيله أن يربط ذلك ببطن وجرة. وتحديده المكان - على الحشو - أحمد من تحديد امرئ القيس من ذكر " سقط اللوى بين الدخول فحومل، فتوضح فالمقراة " لم يقنع بذكر حد، حتى حده بأربعة حدود، كأنه يريد بيع المنزل فيخشى - أن أخلَّ بحد - أن يكون بيعة فاسداً أو شرطه باطلاً! ! فهذا باب. ثم إنما يذكر (2) الخيال بخفاء الأثر، ودقة المطلب، ولطف المسلك، وهذا الذي ذكر يضاد هذا الوجه، ويخالف ما وضع (3) عليه أصل الباب. ولا يجوز أن يقدر مقدر أن البحتري قطع الكلام الأول، وابتدأ بذكر برق لمع من ناحية حبيبه من جهة بطن وجرة، لان هذا القطع إن كان فعله كان خارجاً به عن النظم المحمود، ولم يكن مبدعاً، ثم كان (4) لا تكون فيه فائدة، لأن كل برق شعل (5) وتكرر (6) وقع الاهتداء به في الظلام، وكان (7) لا يكون بما نظمه مفيداً ولا متقدماً. / وهو على ما كان من مقصده فهو ذو لفظ محمود، ومعنى مستجلب (8) غير مقصود، ويعلم بمثله أنه طلب العبارات، وتعليق القول بالاشارات. وهذا من الشعر الحسن (9) ، الذي يحلو لفظه، وتقل فوائده، كقول القائل (10) : ولما قضينا من مِنىً كُلَّ حاجةٍ * ومَسَّحَ بالاركان من هو ماسح
وشَدَّتْ على حُدْبِ المهاري رحالُنا * ولا ينظُرُ الغادي الذي هو رائحُ (1) / أخذنا بأطرافِ الأحاديثِ بيننا * وسالت بأعناقِ المِطيِّ الأباطحُ (2) هذه ألفاظ بديعة (3) المطالع والمقاطع، حلوة المجاني (4) والمواقع، قليلة المعاني والفوائد. (5) * * * فأما قول البحتري بعد ذلك: من غادةٍ مُنعت وتمنَعُ نَيْلَها * فلو أنها بذلت لنا لم تبذل كالبدر غير مخيل، والغصن غي * ر مميل، والدعص غير مهيل (6) فالبيت الأول - على ما تكلف فيه من المطابقة، وتجشم الصنعة - ألفاظه أوفر من معانيه، وكلماته أكثر من فوائده، وتعلم أن القصد / وضع العبارات
في مثله! ولو قال قائل: هي ممنوعة مانعة، كان ينوب عن تطويله، وتكثيره الكلام وتهويله. ثم هو معنى متداول مكرر على كل لسان. وأما البيت الثاني، فأنت تعلم أن التشبيه بالبدر والغصن والدعص، أمر منقول متداول (1) ، ولا فضيلة في التشبيه بنحو (2) ذلك. وإنما يبقى تشبيهه ثلاثة أشياء في البيت، وهذا أيضاً قريب، لأن المعنى مكرر. ويبقى له بعد ذلك شئ آخر، وهو تعمله للترصيع في البيت كله، إلا أن هذه الاستثناءات فيها ضرب من التكلف، لأن التشبيه بالغصن كاف، فإذا زاد فقال: كالغصن غير معوج، كان ذلك من باب التكلف خللاً، وكان ذلك زيادة يستغني عنها. وكذلك قوله: " كالدعص غير مهيل "، لأنه إذا انهال خرج عن أن يكون مطلق التشبيه مصروفاً إليه، فلا يكون لتقييده معنى. * * * وأما قوله: ما الحسنُ عندك يا سعاد بمُحْسِنٍ * فيما أتاه ولا الجمال بِمُجْمِلِ (3) / عذل المشوق وإن كان من سيما الهوى * في حيث يجهله لجاج العذل (4) قوله في البيت الأول: " عندك "، حشو، وليس بواقع ولا بديع، وفيه كلفة. والمعنى الذي قصده، أنت تعلم أنه متكرر على لسان الشعراء. وفيه شئ آخر، لأنه يذكر أن حسنها لم يحسن في تهييج وجده وتهييم قلبه، وضد هذا المعنى هو الذي يميل إليه أهل الهوى والحب.
وبيت كشاجم (1) أسلم من هذا، وأبعد من الخلل، وهو قوله: بحياة حُسنك أَحْسني، وبحقِّ من * جعل الجمال عليك وقفا أجملي (2) وأما البيت الثاني فإن قوله: " في حيث "، حشا بقوله في كلامه، ووقع ذلك مستنكراً وحشياً، نافراً عن طبعه، جافياً في وضعه، فهو كرقعة من جلد في ديباج حسن! فهو يمحو حسنه، ويأتي على جماله. ثم في المعنى شئ، لأن لجاج العذل لا يدل على هوى مجهول، ولو كان مجهولاً لم يهتدوا للعذل عليه. فعلم أن المقصد استجلاب العبارات دون المعاني. / ثم لو سلم من هذا الخلل لم يكن في البيت معنى بديع، ولا شئ يفوت قول الشعراء في العذل، فإن ذلك جملهم الذلول، وقولهم المكرر [المقول] (3) * * * وأما قوله: ماذا عليك من انتظارٍ متَّيمٍ * بل ما يضرُّك وقفة في منزل إن سيل عيّ عن الجواب فلم يُطِق * رجعاً، فكيف يكون إن لم يسأل؟ ! لست أنكر حسن البيتين وظرفهما، ورشاقتهما ولطفهما، وماءهما وبهجتهما، إلا أن البيت الأول منقطع عن الكلام المتقدم ضرباً من الانقطاع، لأنه لم يجر لمشافهة العاذل ذكر، وإنما جرى ذكر العذال على وجه لا يتصل هذا البيت به ولا يلائمه (4) . ثم الذي ذكره من الإنتظار - وإن كان مليحا في اللفظ - فهو في
المعنى متكلف، لأن الواقف في الدار لا ينظر أمرا، وإنما يقف تحسرا وتلددا (1) وتحيراً. / والشطر الأخير من البيت واقع، والأول مستجلب، وفيه تعليق على أمر لم يجر له ذكر، لأن وضع البيت يقتضي تقدم عذل على الوقوف، ولم يحصل ذلك مذكوراً في شعره من قبل. وأما البيت الثاني، فإنه معلق بالأول، لا يستقل إلا به، وهم يعيبون وقوف البيت على غيره، ويرون أن البيت التام هو المحمود، والمصراع التام بنفسه - بحيث لا يقف على المصراع الآخر - أفضل وأتم وأحسن. وقوله: " فكيف يكون إن لم يسأل "، مليح جداً، ولا تستمر (2) ملاحة ما قبله عليه، ولا يطرد فيه الماء اطراده فيه. وفيه شئ آخر، لانه لا يصح (3) أن يكون السؤال سبباً لأن يعيا عن الجواب، وظاهر القول يقتضيه. * * * فأما قوله: لا تكلفن لي الدموع فإن لي * دمعاً ينمُّ عليه إن لم يفضُل (4) ولقد سكنتُ إلى الصدود من النوى * والشرى أرى عند أكل الحنظل (5) / وكذاك طَرْفَةُ حين أوجس ضربةً * في الرأس هان عليه فصد الاكحل (6)
فالبيت الأول مخالف لما عليه مذهبهم، في طلب الإسعاد (1) بالدموع، والإسعاف بالبكاء، ومخالف لأول كلامه، لأنه يفيد مخاطبة العذل، وهذا يفيد مخاطبة الرفيق. وقد بينت لك أن القوم يسلكون حفظ الألفاظ وتصنيعها، دون ضبط المعاني وترتيبها، ولذلك (2) قال الله عز وجل: (وَالْشُّعَرَاءَ يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل وَادٍ يَهِيمُونَ /. وَأَنَّهُمْ يَقُولُون مَا لاَ يَفْعَلُونَ) (3) فأخبر سبحانه أنهم يتبعون القول حيث توجه بهم، واللفظ كيف أطاعهم، والمعاني كيف تتبع ألفاظهم. وذلك خلاف ما وضع عليه الإبانة عن المقاصد بالخطاب، ولذلك كان طلب الفصاحة فيه أسهل وأمكن، فصار بهذا أبلغ خطابهم. ثم لو أن هذا البيت وما يتلوه من البيتين سلم من نحو هذا، لم يكن في ذلك شئ يفوت شعر شاعر، أو كلام متكلم. وأما قوله: " والشرى أرى "، فإنه وإن كان قد تصنع له من جهة الطباق، ومن جهة التجنيس المقارب، فهي كلمة ثقيلة على اللسان، وهم يذمون نحو هذا، كما عابوا على أبي تمام قوله: كريمٌ متى أمدحْهُ أمدحه والورى * معى، ومتى مالمته لمته وحدي (4) ذكر لى الصاحب [إسماعيل] (5) بن عباد، أنه جارى أبا الفضل بن العميد في محاسن [هذه] (5) القصيدة، حتى انتهى إلى هذا البيت، فذكر له في أن قوله: " أمدحه أمدحه، معيب، لثقله من جهة تدارك حروف الحلق.
ثم رأيت بعد ذلك المتقدمين قد تكلموا في هذه النكتة، فعلمت أن ذلك شئ عند أهل الصنعة معروف. / ثم أن قوله: " عند أكل الحنظل "، ليس بحسن ولا واقع. وأما البيت الثالث، فهو أجنبي من كلامه، غريب في طباعه، نافر من جملة شعره، وفيه كزازة وفجاجة، وإن كان المعنى صالحاً. * * * فأما قوله: وأغرّ في الزمن البهيم محجّل * قد رحتُ منه على أغرَّ مُحَجَّل (1) كالهيكل المبنيِّ إلا أنَّه * في الحسن جاء كصورةٍ في هيكل فالبيت الأول لم يتفق له فيه خروج حسن، بل هو مقطوع عما سلف من الكلام. وعامة خروجه نحو هذا، وهو غير بارع في هذا الباب، وهذا مذموم معيب منه، لأن (2) من كان صناعته الشعر، وهو يأكل به، وتغافل عما يدفع (3) إليه في كل قصيدة، واستهان بأحكامه وتجويده، مع تتبعه لان (4) يكون عامة ما به يصدر أشعاره من النسيب عشرة أبيات، وتتبعه للصنعة الكثيرة، وتركيب العبارات، وتنقيح الألفاظ وتزويرها - كان ذلك أدخل في عيبه، وأدل على تقصيره أو قصوره، وإنما (5) يقع له الخروج [الحسن في مواضع يسيرة /. وأبو تمام أشد تتبعا لتحسين الخروج] (6) منه. وأما قوله: " وأغر في الزمن البهيم محجل "، فإن ذكر التحجيل في الممدوح قريب، وليس بالجيد، وقد يمكن أن يقال: إنه إذا قرن بالأغر حسن، وجرى مجراه، وانخرط في سلكه، وأهوى إلى مضماره، ولم ينكر لمكانه من جواره. فهذا عذر، والعدول عنه أحسن.
وإنما أراد أن يرد العجز على الصدر، ويأتى بوجه [في] (1) التجنيس. وفيه شئ، لأن ظاهر كلامه يوهم أنه قد صار ممتطيا (2) الأغر الأول ورائحاً عليه. ولو سلم من ذلك لم يكن فيه ما يفوت حدود الشعراء، وأقاويل الناس. فأما ذكر الهيكل في البيت الثاني، ورده عجز البيت عليه، وظنه أنه قد ظفر بهذه اللفظة وعمل شيئاً، حتى كررها، فهي كلمة فيها ثقل، ونحن نجدهم إذا أرادوا أن يصفوا بنحو (3) هذا قالوا: " ما هو إلا صورة "، و " ما هو إلا تمثال "، و " ما هو إلا دمية "، و " ما هو إلا ظبية "، ونحو ذلك من الكلمات الخفيفة على القلب واللسان. / وقد استدرك (4) هو أيضاً على نفسه، فذكر أنه كصورة في هيكل، ولو اقتصر على ذكر الصورة وحذف الهيكل، كان أولى وأجمل. ولو أن هذه الكلمة كررها أصحاب العزائم على الشياطين، لراعوهم بها، وأفزعوهم بذكرها! وذلك من كلامهم، وشبيه بصناعتهم (5) . * * * وأما قوله: وافي الضُّلوع يشدُّ عقد حزامه * يوم اللقاء على مُعِم مُخْول أخوالُه للرستمين بفارس * وجدوده للتبعين بموكل نبل المحزم مما يمدح به الخيل، فهو لم يأت فيه ببديع. وقوله: " يشد عقد حزامه "، داخل في التكلف والتعسف، لا يقبل من مثله وإن قبلناه من غيره، لأنه يتتبع الألفاظ وينقدها نقداً شديداً، فهلاَّ قال: " يشد (6) حزامه "، أو يأتي بحشو آخر سوى العقد؟ فقد عقد هذا البيت بذكر العقد. ثم قوله: " يوم اللقاء "، حشو آخر لا يحتاج إليه.
وأما البيت الثاني فمعناه أصلح من ألفاظه، لأنها غير مجانسة لطباعه، وفيها غلظ ونفار. / وأما قوله: يهوي كما تهوي العقابُ وقد رأت * صيدا وينتصب انتصاب الأَجْدَل (1) متوجِسٌ برقيقتين كأنما * تُريان من ورق عليه مُوَصَّل (2) ما إن يُعاف قَذى، ولو أوردته * يوماً خلائق حَمْدَوَيه الأحول (3) البيت الأول صالح، وقد قاله الناس ولم يسبق إليه، ولم يقل ما لم يقولوه، بل هو منقول. وفي سرعة عدو الفرس تشبيهات ليس هذا بأبدعها، وقد يقولون: " يفوت الطرف "، و " يسبق الريح "، و " يجارى الوهم " و " يكد (4) النظر " ولولا أن الإتيان على محاسن ما قالوه في ذلك يخرج الكلام عن غرض الكتاب، لنقلت (5) لك جملة مما ذهبوا إليه في هذا المعنى. فتتبع تعلم أنه لم يأت فيها بما يجل عن الوصف، أو يفوت منتهى الحد. على أن الهوى يذكر عند الانقضاض خاصة، وليس للفرس هذه الصفة في الحقيقة، إلا أن يشبه حده (6) في العدو بحالة انقضاض البازي والعقاب، وليست تلك الحالة بأسرع أحوال طيرانها. وأما البيت الثاني فقوله: إن الأذنين كأنهما من ورق موصل، وإنما أراد
بذلك حدتهما، وسرعة حركتهما، وإحساسهما بالصوت، كما يحس الورق بحفيف الريح، وظاهر التشبيه غير واقع، وإذا ضمن ما ذكرنا من المعنى كان المعنى حسناً، ولكن لا يدل عليه اللفظ، وإنما يجري مجرى المضمن. وليس هذا البيت برائق اللفظ، ولا مشاكل فيه لطبعه، غير (1) قوله: " متوجس برقيقتين "، فإن هذا القدر هو حسن (2) . وأما البيت الثالث، فقد ذكرنا فيما مضى من الكتاب أنه من باب الاستطراد (3) ونقلنا نظائر ذلك من قول أبي تمام وغيره، وقطعة أبي تمام في نهاية الحسن في هذا المعنى. / والذي وقع للبحتري في هذا البيت عندي (4) ليس بجيد في لفظ ولا معنى، وهو بيت وحش جداً، قد صار قذى في عين هذه القصيدة، بل وخزاً فيها ووبالا عليها، قد كدَّر صفاءها، وأذهب بهاءها وماءها، وطمس بظلمته سناءها. وما وجه مدح الفرس بأنه لا يعاف قذى من المياه إذا وردها؟ ! كأنه أراد أن يسلك مسلك بشار في قوله: * ولا يشربُ الماء إلا بدم (5) * وإذا كان لهذا الباب مجانبا، وعن هذا السمت بعيدا، فهلا وصفها بعزة الشرب؟ كما وصفها المتنبي في قوله: وَصُولُ إلى المستصعبات بخيلةٍ * فلو كان قرن الشمس ماء لا وردا (6) وهلا (7) سلك في مسلك القائل: وإني للماء الذي شابه القذَى * إذا كثرت وراده لعيوف؟ ! (8)
ثم قوله: " ولو أوردته يوماً "، حشو بارد! ! ثم قوله: " حمدويه الأحول "، وحش جداً، فما أمقت هذا / البيت وأبغضه، وما أثقله وأسخفه! وإنما غطى على عينه عيبه، وزين له إيراده طمعه في الاستطراد (1) ، وهلاَّ طمع فيه على وجه لا يغض من بهجة كلامه، ولا معنى (2) ألفاظه؟ ! فقد كان يمكن ذلك ولا يتعذر. * * * وأما قوله: ذَنَبٌ كما سُحب الرداء يذُبُّ عن * عُرْفٍ وعرف كالقناع المُسْبَل تتوهم الجوزاءُ في أرساغه * والبدر فوق جبينه المتهلل فالبيت الأول وحش الابتداء، منقطع عما سبق من الكلام. وقد ذكرنا أنه لا يهتدي لوصل الكلام، ونظام بعضه إلى بعضه، وإنما يتصنع لغير هذا الوجه. وكان يحتاج أن يقول: ذنب كالرداء، فقد حذف (3) [و] الوصل غير متسق ولا مليح، وكان من سبيله أن لا يخفى عليه، ولا يذهب عن مثله. ثم قوله: " كما سحب الرداء "، قبيح في تحقيق التشبيه، وليس بواقع ولا مستقيم في العبارة، إلا على إضمار أنه ذنب يسحبه كما يسحب الرداء! / وقوله: " يذب عن عرف "، ليس بحسن ولا صادق. والمحمود ما ذكره امرؤ القيس، وهو قوله: * فويق الأرض ليس بأعزل (4) * وأما قوله: " تتوهم الجوزاء في أرساغه "، فهو تشبيه مليح، ولكنه لم يسبق إليه، ولا انفرد به.
ولو نسخت لك ما قاله الشعراء في تشبيه الغرة بالهلال والبدر والنجم وغير ذلك من الأمور، وتشبيه الحجول - لتعجبت من بدائع قد وقعوا عليها، وأمور مليحة قد ذهبوا إليها، وليس ذلك موضع كلامنا، فتتبع ذلك في أشعارهم، تعلم ما وصفت لك. واعلم أنا تركنا بقية كلامه في وصف الفرس، لأنه ذكر عشرين بيتاً في ذلك. والذي ذكرناه في هذا المعنى يدل على ما بعده، ولا يعدو (1) ما تركناه أن يكون [حسنا مقولا، ولا بديعا منقولا، أو يكون] (2) متوسطاً إلى حد لا يفوت طريقة الشعراء. / ولو تتبعت أقاويل الشعراء في وصف الخيل، علمت أنه وإن جمع فأوعى، وحشر فنادى، ففيهم من سبقه في ميدانه، ومنهم من ساواه في شأوه، ومنهم من داناه. فالقبيل واحد، والنسيج متشاكل. ولولا كراهة التطويل لنقلت جملة من أشعارهم في ذلك، لتقف على ما قلت. فتجاوزنا إلى الكلام على ما قاله في المدح في هذه القصيدة. * * * قال: لمحمد بن علي الشرفُ الذي * لا يلحظ الجوزاءَ إلا من علِ وسحابة لولا تتابع مُزْنِها * فينا لراح المزنُ غيرَ مُبَخَّل (3) والجودُ يعذله عليه حاتمٌ * سرفاً ولا جودٌ لمن لم يعذل البيت الأول منقطع عما قبله، على ما وصفنا به شعره: من قطعه (4)
/ المعاني، وفصله بينها، وقلة تأتيه لتجويد الخروج والوصل، وذلك (1) نقصان في الصناعة، وتخلف في البراعة، وهذا إذا وقع في مواضع قليلة عذر فيها، وأما إذا كان بناء الغالب من كلامه على هذا، فلا عذر له. وأما المعنى الذى ذكره، فليس بشئ مما سبق إليه، وهو شئ مشترك فيه، وقد قالوا في نحوه: إن مجده سماء السماء، وقالوا في نحوه الكثير الذي يصعب نقل جميعه، وكما قال المتنبي: وعزمة بعثْتها همةٌ زُحَلٌ * من تحتها بمكان التُرب من زُحَلِ (2) وحدثني إسماعيل بن عباد: أنه رأى (3) أبا الفضل بن العميد قام لرجل، ثم قال لمن حضره: أتدري من هذا؟ هذا (4) الذي قال في أبيه البحتري: * لمحمد بن على الشرف الذي (5) * فذلك يدل على استعظامه للميت (6) ، بما مدح به من البيت. / والبيت الثاني في تشبيه جوده بالسحاب قريب، وهو حديث مكرر، ليس ينفك مديح شاعر منه، وكان من سبيله أن يبدع فيه زيادة إبداع، كما قد يقع لهم لهم في نحو هذا، ولكنه لم يتصنع له، وأرسله إرسالاً. وقد وقع في المصراع الثاني ضرب من الخلل، وذلك: أن المزن إنما يبخل إذا منع نيله، وذلك (7) موجود في كل نيل ممنوح، وكلاهما محمود مع الإسعاف، فإن أسعف أحدهما ومنع الآخر لم يمكن التشبيه، وإن كان إنما شبه غالب [حال] (8) أحدهما بالآخر، وذكر قصور أحدهما عن صاحبه، حتى إنه قد يبخل في وقت
والآخر لا يبخل بحال - فهذا جيد، وليس في حمل الألفاظ على الإشارة إلى هذا شئ. والبيت الثالث، وإن كان معناه مكرراً، فلفظه مضطرب بالتأخير والتقديم، يشبه ألفاظ المبتدئين. وأما قوله: فضلٌ وإفضال وما أخذ المدى * بعد المدى كالفاضلِ المتَفَضِّلِ سارٍ. إذا ادَّلج العفاةُ إلى الندى * لا يصنع المعروف غيرَ معجَّل فالبيت الأول منقطع عما قبله، وليس فيه شئ غير التجنيس الذي ليس ببديع، لتكرره على كل لسان. / وقوله: " ما أخذ المدى [بعد المدى] (1) "، فإنه لفظ مليح، وهو كقول القائل: * قد أركبُ الآلة بعد الآلة (2) * وروي (3) : " الحالة بعد الحالة ". وكقول امرئ القيس: * سُمُوَّ حَبابِ الماء حالاً على حالِ (4) * ولكنها طريقة مذللة، فهو فيها تابع. وأما البيت الثاني فقريب في اللفظ والمعنى. وقوله: " لا يصنع المعروف " ليس بلفظ محمود. وأما قوله: عالٍ على نظر الحسود كأنما * جَذَبَتْهُ أفرادٌ النجومِ بأحبُل (5) أو ما رأيت المجدَ ألقى رحله * في آلِ طلحةَ ثم لم يتحول
فالبيت الأول منكر جداً في جر النجوم بالارسان (1) [من] (2) / موضعه إلى العلو! والتكلف فيه واقع. والبيت الثاني أجنبي عنه، بعيد منه، وافتتاحه ردئ، وما وجه الاستفهام والتقرير والإستبانة والتوقيف؟ والبيتان أجنبيان من كلامه، غريبان في قصيدته. ولم يقع له في المدح في هذه القصيدة شئ جيد ألا ترى أنه قال بعد ذلك: نفسي فداؤك يا محمدُ من فتى * يُوفي على ظُلم الخطوبِ فتنجَلي (3) إني أريدُ أبا سعيد، والعدى * بيني وبين سحابه المتهللِ كأن هذا ليس (4) من طبعه ولا من سبكه. وقوله: مضر الجزيرة كلها وربيعة ال * * خابور توعدني وأَزْدُ الموصلِ قد جدت بالطّرفِ الجوادِ فثنه * لأخيك من أدد أبيك بمنُصْلِ البيت الأول حسن المعنى، وإن كانت ألفاظه بذكر الأماكن لا يتأتى فيه التحسين. وهذا المعنى قد يمكن إيراده بأحسن من هذا اللفظ وأبدع منه وأرق منه، كقوله: / إذا غضبت عليك بنو تميمٍ * رأيت الناسَ كلَّهُمُ غضابا (5) والبيت الثاني قد تعذر عليه وصله بما سبق من الكلام على وجه يلطف (6) ، وهو قبيح اللفظ، حيث يقول فيه: " فثنه لأخيك من أدد أبيك "، ومن أخذه بهذا التعرض (7) لهذا السجع، وذكر هذا النسب، حتى أفسد به شعره!
وأما قوله بعد ذلك في وصف السيف، يقول: يتناولُ الروحَ البعيدَ منالُها * عفواً ويفتح في القضا المقفَل بابانة في كل حتفٍ مظلمٍ * وهداية في كلِّ نفسٍ مجهل (1) ماض وإن لم تمضه يد فارسٍ * بطلٍ ومصقول وإن لم يُصْقَلِ (2) ليس لفظ البيت الأول بمضاهٍ لديباجة شعره، ولا له بهجة نظمه، لظهور أثر التكلف عليه، وتبين ثقل فيه. وأما القضاء المقفل " وفتحه، فكلام غير محمود ولا مرضي! واستعارة لو لم يستعرها كان (3) أولى به! وهلاَّ عيب عليه كما عيب على أبي تمام قوله: فضربت الشتاء في أخدعيه * ضربةً غادرته عُودا ركوبا (4) وقالوا: يستحق بهذه الإستعارة أن يصفع في أخدعيه! وقد اتبعه البحتري في استعارة الأخدع، ولوعاً باتباعه، فقال في الفتح بن خاقان: وإنى وإن أبلغتني شرف العلا * وأعتقتَ من ذلِّ المطامع أخدعي (5) إن شيطانه حيث زين له هذه الكلمة، [و] تابعه حين حسن عنده (6) هذه اللفظة - لخبيث ما رد، وردئ معاند، أراد أن يطلق أعنة الذم فيه، ويسرح جيوش العتب إليه! ولم يقنع بقفل القضاء، حتى جعل للحتف ظلمة تجلى بالسيف، وجعل السيف هادياً في النفس المجهل الذي لا يهتدي إليه! وليس في هذا مع تحسين (7) اللفظ وتنميقه شئ، لان
السلاح وإن كان معيباً، فإنه يهتدي إلى النفس. وكان يجب أن يبدع في هذا إبداع المتنبي في قوله: كأن الهام في الهيجا عيون * وقد طبعت سيوفك في رقاد (1) وقد صُغت الأسنة من هموم * فما يخطرن إلا في فؤاد (2) / فالإهتداء على هذا الوجه في التشبيه بديع حسن. وفى الببت الاول شئ آخر: وذلك أن قوله: " ويفتح في القضاء "، في هذا الموضع حشو ردئ، يلحق بصاحبه اللكنة، ويلزمه الهجنة. وأما البيت الثالث، فإنه أصلح (3) هذه الأبيات، وإن كان ذكر الفارس حشواً، وتكلفاً ولغواً، لأن هذا لا يتغير بالفارس والراجل. على أنه ليس في بديع. وأما قوله: يغشى الوغى والتُّرسُ ليس بجنة * من حده والدرع ليس بمعقل (4) مضغ إلى حكم الردى، فإذا مضى * لم يلتفت، وإذا قضى لم يعدِل متوقدٌ يبري بأول ضربة * ما أدركت، ولو أنها في يذبل (5) البيتان الاولان من الجنس الذى يكثر الكلامه وعليه، وهى طريقته / التى يجتبيها (6) ، وذلك من السبك الكتابي والكلام المعتدل، إلا أنه لم يبدع فيهما (7) بشئ، وقد زيد عليه فيهما.
ومن قصد إلى أن يكمل عشرة أبيات في وصف السيف، فليس من حكمه أن يأتي بأشياء منقولة، وأمور مذكورة، وسبيله أن يغرب ويبدع، كما أبدع المتنبي في قوله: سله الركض بعد وهن بنجد * فتصدى للغيث أهل الحجاز (1) هذا في باب صقاله وأضوائه وكثرة مائه، وكقوله: ريَّان لو قذف الذي أَسْقَيتَهُ * لجرى من المهجات بحر مزبد (2) وقوله: " مصغٍ إلى حكم الردي " - إن تأملته - مقلوب، كان ينبغي أن يقول: يصغي الردى إلى حكمه، كما قال الآخر: * فالسيفُ يأمرُ والأقدارُ تنتظرُ (3) * / وقوله: " وإذا قضى لم يعدل "، متكرر على ألسنتهم في الشعر خاصة، في نفس هذا المعنى. والبيت الثالث سليم، وهو كالاولين في خلوه من البديع. فأما (4) قوله: فإذا أصاب فكل شئ مقتَلٌ * وإذا أُصِيب فما له من مقتَلِ وكأنما سُود النمال وحُمرِها * دبت بأيدٍ في قراه وأرجل البيت الاول يقصد بمثله صنعة (5) اللفظ، وهو في المعنى متفاوت، لان
المضرب قد لا يكون مقتلاً، وقد يطلق الشعراء ذلك، ويرون أن هذا أبدع من قول المتنبي، وأنه بضده (1) : القاتل السيفُ في جسم القتيلِ به * وللسيوف كما للناس آجال (2) وهذه طريقة لهم يتمدحون بها في قصف الرمح طعناً، وتقطيع السيف ضربا. وفي قوله: " وإذا أصيب فما له من مقتل " تعسف، لانه يريد بذلك أنه لا ينكسر، فالتعبير بما عبر به عن المعنى الذي ذكرناه يتضمن التكلف وضرباً من المحال، وليس بالنادر، والذى عليه الجملة ما حكيناه من غيره. ونحوه قال بعض أهل الزمان: يقصف في الفارس السمهريّ * وصدر الحسام فريقاً فريقا (3) والبيت الثاني أيضاً هو معنى (4) مكرر على السنة الشعراء. وأما تصنيعه بسود (5) النمال وحمرها، فليس بشئ، ولعله أراد بالحمر الذر، والتفصيل بارد! والإعراب به منكر! وهو - كما حكى عن بعضهم أنه قال: كان كذا حين كانت الثريا بحذاء رأسي على سواء، أو منحرفاً قدر شبر، أو نصف شبر، أو إصبعا، أو ما يقارب ذلك! فقيل له: هذا من الورع الذي يبغضه الله، ويمقته الناس! ! ورب زيادة كانت نقصاناً. وصفة النمل بالسواد والحمرة في هذا من ذلك الجنس، وعليه خرج بقية البيت في قوله: * دبت بأيد في قراه وأرجل * وكان يكفي ذكر الأرجل عن ذكر الايدى.
/ ووصف (1) الفرند بمدب النمل شئ لا يشذ عن أحد منهم (2) . وأما قوله: وكأن شاهره إذا استضوى به الز * حفان يعصي بالسماك الأعزل (3) حملت حمائله القديمة بَقْلةً * من عهد عاد غضة لم تذبل البيت الأول منهما فيه ضرب من التكلف، وهو منقول من أشعارهم وألفاظهم، وإنما يقول: [وتراه في ظلم الوغى فتخاله * قمرا يشد على الرجال بكوكب] (4) فجعل ذلك الكوكب السماك، واحتاج إلى أن يجعله أعزل، للقافية! ولو لم يحتج إلى ذلك كان خيراً له، لان هذه الصفة (5) في هذا الموضع / تغض من الموصوف (6) ، وموضع (7) التكلف الذي ادعيناه، الحشو الذي ذكره من قوله: " إذا استضوى به الزحفان " وكان يكفي أن يقول: كأن صاحبه يعصي بالسماك، وهذا، وإن كان قد تعمل فيه للفظ، فهو غلو (8) ، على ما بينا. وأما البيت الثاني ففيه لغو من جهة قوله: [" حمائله القديمة "، ولا يوصف السيف بأن] (9) حمائله قديمة، ولا فضيلة له في ذلك.
ثم تشبيه السيف بالبقلة من تشبيهات العامة، والكلام الرذل النذل، لأن العامة (1) قد يتفق منها تشبيه واقع حسن. ثم انظر إلى هذا المقطع الذي هو بالعي أشبه منه بالفصاحة، وإلى اللكنة أقرب منه إلى البراعة، وقد بينا أن مراعاة الفواتح والخواتم، والمطلع والمقاطع، والفصل والوصل، بعد صحة الكلام، ووجود الفصاحة فيه - مما لا بد منه، وإن الإخلال بذلك يخل بالنظم، ويذهب رونقه، ويحيل بهحته، ويأخذ ماءه وبهاءه (2) . * * * / وقد أطلت عليك فيما نقلت، وتكلفت ما سطرت، لأن هذا القبيل قبيل موضوع متعمل مصنوع (3) . وأصل الباب في الشعر على أن ينظر إلى جملة القصة، ثم يتعمل الألفاظ، ولا ينظر بعد ذلك إلى مواقعها، ولا يتأمل مطارحها. وقد يقصد تارة إلى تحقيق الأغراض، وتصوير المعاني التي في النفوس، ولكنه يلحق بأصل بابه، ويميل بك إلى موضوعه، وبحسب الاهتمام بالصنعة يقع فيها (4) التفاضل. وإن أردت أن تعرف وصاف الفرس، فقد ذكرت لك أن الشعراء قد تصرفوا في ذلك بما يقع إليك - إن كنت من أهل الصنعة - مما يطول عليَّ نقله، وكذلك في السيف. وذكر لي بعض أهل الأدب: أن أحسن قطعة في السيف قول أبى الهول الحميرى (5) :
/ حاز صَمْصَامةَ الزبيديِّ من بي * ن جميع الأنام مُوسى الأمينُ (1) سيف عمرو وكان - فيما سمعنا - * خيرَ ما أطبقت عليه الجفون (2) أخضر اللون بين برديه حدُّ * من ذُعافٍ تميس فيه المنون (3) أوقدت فوقه الصواعق ناراً * ثم شابت له الذعاف القُيون (4) فإذا ما شَهَرتَهُ بَهَرَ الشم * س ضياءً فلم تكد تستبين (5) يستطير الأبصار كالقبس المش * عل لا تستقيمُ فيه العيون (6) وكأن الفِرنْدَ والرونق الجا * ري في صفحتيه ماء معين (7) نعم مخراق ذى الحفيظة في الهي * * جاء يعصي به، ونعم القرينُ (8)
ما يبالي إذا انتحاه بضرب * أشمالٌ سَطَتْ به أم يمين (1) * * * وإنما يوازن شعر البحتري بشعر شاعر من طبقته، ومن أهل عصره، ومن هو في مضماره أو في منزلته. ومعرفة أجناس الكلام، والوقوف على أسراره، والوقوف على مقداره، شئ - وإن كان عزيزاً، وأمر - وإن كان بعيداً - فهو سهل على أهله، مستجيب لأصحابه، مطيع لاربابه، ينقدون الحروف، ويعرفون الصروف. وإنما تبقى الشبهة في ترتيب الحال بين البحتري، وأبي تمام، وابن الرومي، وغيره. ونحن وإن كنا نفضل البحتري بديباجة شعره، على ابن الرومي / وغيره من أهل زمانه - نقدمه بحسن عبارته، وسلاسة كلامه (2) ، وعذوبة ألفاظه، وقلة تعقد قوله. والشعر قبيل ملتمس مستدرك، وأمر ممكن مطيع (3) . ونظم القرآن عال عن أن يعلق به الوهم، أو يسمو إليه الفكر، أو يطمع فيه طامع، أو يطلبه طالب: (لاَ يَأْتِيهِ الباطل من بين يديه ولا من خلفه تَنْزِيلُ مِنْ حَكيمٍ حَمِيدٍ) (4) . وكنت قد ذكرت لك قبل هذا: أنك إن كنت بصنعة علم اللسان متدرباً، وفيه متوجهاً متقدماً، أمكنك الوقوف على ما ذكرنا، والنفوذ فيما وصفنا، وإلا فاجلس في مجلس المقلدين، وارض بمواقف المتحيرين. ونصحت لك حيث قلت: أنظر، هل تعرف عروق الذهب، ومحاسن الجوهر، وبدائع الياقوت، ودقائق (5) السحر، من غير معرفة بأسباب هذه الأمور ومقدماتها؟ وهل يقطع سمت البلاد من غير اهتداء فيها؟
ولكل شئ طريق يتوصل إليه به، وباب يؤخذ نحوه فيه، ووجه يؤتى منه. / ومعرفة الكلام أشد من المعرفة بجميع ما وصفت (1) لك، وأغمض وأدق وألطف. وتصوير ما في النفس، وتشكيل ما في القلب، حتى تعلمه وكأنك مشاهده، وإن كان قد يقع بالإشارة، ويحصل بالدلالة والإمارة، كما يحصل بالنطق الصريح، والقول الفصيح - فللإشارات أيضاً مراتب، وللسان (2) منازل. ورب وصف يصور لك الموصوف كما هو على جهته لا خلف فيه، ورب وصف ببر (3) عليه (4) ويتعداه. ورب وصف يقصر عنه. ثم إذا صدق الوصف انقسم إلى صحة وإتقان، وحسن وإحسان، وإلى إجمال وشرح، وإلى استيفاء وتقريب، وإلى غير ذلك من الوجوه. ولكل مذهب وطريق، وله (5) باب وسبيل: فوصف الجملة الواقعة، كقوله تعالى: (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ منم رُعْباً) (6) . والتفسير كقوله: (وَيَوْمَ نُسَيِّرَ الْجِبَالَ وَتَرىَ الأَرْضَ بارِزَةً / وَحَشَرْنَاهُم فَلم نُغَادِرْ منْهُم أَحَداً) (7) إلى آخر الآيات في هذا المعنى. وكنحو قوله: (يَا أيُّهَا النَّاسُ اتَقُواْ ربَّكُم، إِنَّ زلزلة الساعة شئ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كلُّ مُرضِعَةٌ عَمَّا أَرْضَعَتْ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَها، وَتَرىَ النَّاسَ سُكارَى وَمَا هُم بِسُكارَى، وَلَكنَّ عَذَابَ الله شديد) (8) . هذا مما يصور الشئ على جهته، ويمثل أهوال ذلك اليوم. ومما يصور لك الكلام الواقع في الصفة، كقوله حكاية عن السحرة لما توعدهم فرعون بما توعدهم به حين آمنوا: (قَالُواْ لاَ ضَيْرَ، إنا إلى ربنا
مُنْقَلِبُونَ، إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤمِنينَ) (1) . وقال في موضع آخر: (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ، وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بآيَاتِ رَبّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا، رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرَاً وَتَوفَّنا مُسْلِمِينَ) (2) وهذا ينبئ عن كلام الحزين لما ناله، الجازع لما مسه. ومن باب التسخير والتكوين، قوله تعالى: (إِنَّما أَمْرُه إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (3) . / وقوله: (فَقُلْنَا لَهُم كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (4) . وكقوله: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إَنِ اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (5) . وتقصي أقسام ذلك مما يطول، ولم أقصد استيفاء ذلك، وإنما ضربت لك المثل بما ذكرت لتستدل، وأشرت إليك بما أشرت لتتأمل. * * * وإنما اقتصرنا على ذكر قصيدة البحتري، لأن الكتاب يفضلونه على أهل دهره، ويقدمونه على من في عصره، ومنهم من يدّعي له الإعجاز غلواً، ويزعم أنه يناغي النجم في قوله علواً، والملحدة تستظهر بشعره، وتتكثر بقوله (6) ، وترى كلامه من شبهاتهم، وعباراته مضافة (7) إلى ما عندهم من ترهاتهم. فبينا قد درجته وموضع رتبته، وحد كلامه. وهيهات أن يكون المطموع فيه كالمأيوس منه (8) ، وأن يكون الليل كالنهار، والباطل كالحق، وكلام رب العالمين ككلام البشر (9) . * * * فإن قال قائل: فقد قدح الملحد في نظم القرآن، وادعى عليه الخلل في
البيان، وأضاف إليه الخطأ في المعنى واللفظ، [وزعم ما زعم] (1) ، وقال ما قال فهل من فصل؟ قيل: الكلام على مطاعن الملحدة في القرآن مما قد سبقنا إليه، وصنف أهل الأدب في بعضه، فكفوا، وأتى المتكلمون على ما وقع إليهم، فشفوا، ولولا ذلك لاستقصينا القول فيه في كتابنا. * وأما الغرض الذي صنفنا فيه في التفصيل والكشف عن إعجاز القرآن (2) ، فلم نجده على التقريب الذي قصدنا، وقد رجونا أن يكون ذلك مغنيا ووافيا. وإن سهل الله لنا ما نويناه: من إملاء " معاني القرآن " 2) ذكرنا في ذلك ما يشتبه من الجنس الذي ذكروه، لأن أكثر ما يقع من الطعن عليه، فإنما يقع على جهل القوم بالمعاني، أو بطريقة كلام العرب. وليس ذلك من مقصود كتابنا هذا، وقد قال النبي صلى الله عليه / وسلم: " فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه " (3) . وقد قصدنا فيما أمليناه الاختصار، ومهدنا الطريق، فمن كمل طبعه للوقوع (4) على فضل أجناس الكلام استدرك ما بينا. ومن تعذر عليه الحكم بين شعر جريز والفرزدق والأخطل، والحكم بين فضل زهير والنابغة، أو الفضل (5) بين البحتري وأصحابه، ولم يعرف سخف (6) مسيلمة في نظمه، ولم يعلم أنه من الباب الذي يهزأ به ويسخر منه، كشعر أبى العنبس (7) في جملة
الشعر، وشعر على بن صلاءة (1) -: فكيف يمكنه النظر فيما وصفنا، والحكم على ما بينا؟ ! * * * / فإن قال (2) قائل: فاذكر لنا من هؤلاء الشعراء الذين سميتهم الأشعر والأبلغ. قيل له، هذا أيضاً خارج عن غرض هذا الكتاب، وقد تكلم فيه الأدباء. ويحتاج أن يجرد (3) لنحو هذا كتاب (4) ، ويفرد له باب، وليس من قبيل ما نحن فيه بسبيل. وليس لقائل أن يقول: قد يسلم بعض الكلام من العوارض والعيوب، ويبلغ أمده (5) في الفصاحة والنظم العجيب، ولا يبلغ عندكم حد المعجز، فلم قضيتم بما قضيتم به في القرآن دون غيره من الكلام؟ وإنما لم يصح (6) . هذا السؤال، وما نذكر فيه من أشعار في نهاية الحسن، وخطب ورسائل في غاية الفضل - لأنا قد بينا أن هذه الاجناس قد وقع التنازع (7) فيها، والمساماة عليها، والتنافس في طرقها، والتنافر في بابها. وكان البون بين البعض والبعض في الطبقة الواحدة قريبا، والتفاوت خفيفاً، وذلك القدر من السبق إن ذهب عنه (8) / الواحد، لم ييأس منه الباقون، ولم ينقطع الطمع في مثله. وليس كذلك سمت القرآن، لانه قد عرف أن الوهم ينقطع دون مجاراته، والطمع يرتفع عن مباراته ومساماته، وأن الكل في العجز عنه على حد واحد. وكذلك قد يزعم زاعمون (9) : أن كلام الجاحظ من السمت الذي لا يؤخذ (10) فيه، والباب الذي لا يذهب (11) عنه، وأنت تجد قوماً يرون كلامه قريبا،
ومنهاجه معيباً، ونطاق قوله ضيقاً، حتى يستعين بكلام غيره، ويفزع إلى ما يوشح به كلامه، من بيت سائر، ومثل (1) نادر، وحكمة ممهدة منقولة، وقصة عجيبة مأثورة. وأما كلامه في أثناء ذلك فسطور قليلة، وألفاظ يسيرة، فإذا أحوج إلى تطويل الكلام خالياً عن شئ يستعين به - فيخلط بقوله من قول غيره - كان كلاماً (2) ككلام غيره. فإن أردت أن تحقق هذا، فانظر في كتبه في " نظم القرآن " وفى " الرد على النصارى " وفي " خبر الواحد " وغير ذلك مما يجري / هذا المجرى، هل تجد في ذلك كله ورقة [واحدة] (3) تشتمل على نظم بديع، أو كلام مليح؟ على أن متأخري الكتاب قد نازعوه في طريقته، وجاذبوه على منهجه، فمنهم من ساواه حين ساماه، ومنهم من أبر عليه إذ باراه. هذا " أبو الفضل بن العميد " قد سلك مسلكه (4) ، وأخذ طريقه، فلم يقصر عنه، ولعله قد بان تقدمه عليه (5) ، لأنه يأخذ في الرسالة الطويلة فيستوفيها على حدود مذهبه، ويكملها على شروط صنعته، ولا يقتصر على أن يأتي بالأسطر من نحو كلامه، كما ترى " الجاحظ " يفعله في كتبه، متى ذكر من كلامه سطراً أتبعه من كلام الناس (6) أوراقاً، وإذا ذكر منه صفحة بنى عليه من قول غيره كتاباً. وهذا يدلك على أن الشئ إذا استحسن اتبع، وإذا استملح قصد له وتعمد (7) . وهذا الشئ يرجع إلى الأخذ بالفضل، والتنافس في التقدم. فلو كان في مقدور البشر معارضة القرآن لهذا الغرض وحده - لكثرت المعارضات، ودامت المنافسات. فكيف وهناك دواع لا انتهاء لها، وجوالب لاحد لكثرتها / لأنهم لو كانوا عارضوه لتوصلوا إلى تكذيبه، ثم إلى قطع المحامين دونه عنه، أو تنفيرهم عليه، وإدخال الشبهات (8) على قلوبهم، وكان القوم يكتفون بذلك عن بذل
النفوس، ونصب الأرواح، والأخطار بالأموال والذراري، في وجه عداوته ويستغنون بكلام - هو طبعهم وعادتهم وصناعتهم - عن محاربته، وطول مناقشته (1) ومجاذبته. وهذا الذى عرضناه على [عقلك، وجلوناه على] (2) قلبك، يكفي إن هديت لرشدك، ويشفي إن دللت على قصدك. ونسأل الله حسن التوفيق، والعصمة والتسديد، إنه لا معرفة إلا بهدايته ولا عصمة إلا بكفايته، وهو على ما يشاء قدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فصل
/ فصل فإن (1) قال قائل: قد يجوز أن يكون أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم قد عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن، وإن كان من بعدهم من أهل الإعصار لم يعجزوا. قيل: هذا سؤال معروف، وقد أجيب عنه بوجوه، منها ما هو صواب، ومنها ما فيه (2) خلل: لأن من كان يجيب عنه: بأنهم (3) لا يقدرون على معارضته في الأخبار عن الغيوب إن قدروا على مثل نظمه - فقد سلم المسألة، لأنا ذكرنا أن نظمه معجز لا يقدر عليه، فإذا أجاب بما قدمناه فقد وافق السائل على مراده. والوجه أن يقال: فيه طرق: منها: أنا إذا علمنا أن أهل ذلك العصر كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله، فمن بعدهم أعجز، لأن فصاحة أولئك في وجوه ما كانوا يتفننون (4) فيه من القول، مما لا يزيد عليه فصاحة من بعدهم، / وأحسن (5) أحوالهم أن يقاربوهم أو يساووهم، فأما أن يتقدموهم أو يسبقوهم، فلا. ومنها: أنا قد علمنا عجز سائر أهل الإعصار كعلمنا بعجز أهل العصر الأول، والطريق في العلم بكل واحد من الأمرين طريق واحد، لأن التحدي في الكل على جهة واحدة، والتنافس (6) في الطباع على حد [واحد] (7) ، والتكليف (8) على منهاج لا يختلف. ولذلك قال الله تبارك وتعالى: (قُلْ لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجنُّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) (9) .
فصل في التحدي
/ فصل في التحدي يجب أن تعلم أن من حكم المعجزات إذا ظهرت على الأنبياء أن: يدعوا فيها أنها من دلالتهم وآياتهم، لأنه لا يصح بعثة النبي من غير أن يؤتى دلالة، ويؤيد بآية، لأن النبي لا يتميز من الكاذب بصورته (1) ، ولا يقول نفسه، ولا بشئ آخر، سوى البرهان الذي يظهر عليه، فيستدل به على صدقه. فإن ذكر لهم أن هذه آيتي، وكانوا عاجزين عنها - صح له ما ادعاه. ولو كانوا غير عاجزين عنها - لم يصح أن يكون برهانا له. وليس يكون معجزا إلا بأن يتحداهم إلى أن يأتوا بمثله. فإذا تحداهم وبان عجزهم - صار ذلك معجزا. وإنما احتيج في باب القرآن إلى التحدي، لأن من الناس من لا يعرف كونه معجزا، فإنما يعرف أو لا إعجازه بطريق (2) ، لأن الكلام المعجز لا يتميز من غيره بحروفه (3) وصورته، وإنما يحتاج إلى علم وطريق يتوصل به إلى معرفة كونه معجزاً. / فإن كان لا يعرف بعضهم إعجازه، فيجب أن يعرف هذا، حتى يمكنه أن يستدل به. ومتى رأى أهل ذلك اللسان قد عجزوا عنه بأجمعهم مع التحدي إليه، والتقريع به، والتمكين (4) منه - صار حينئذ بمنزلة من رأى اليد البيضاء، وانقلاب العصى ثعبانا تتلقف ما يأفكون. وأما من كان من أهل صنعة العربية، والتقدم في البلاغة، ومعرفة فنون (5) القول، ووجوه المنطق - فإنه يعرف - حين يسمعه - عجزه عن الاتيان بمثله،
ويعرف أيضاً أهل عصره، ممن هو في طبقته أو يدانيه في صناعته، عجزهم عنه، فلا يحتاج إلى التحدي حتى يعلم به كونه معجزا. ولو كان أهل الصنعة الذين صفتهم ما بينا لا يعرفون كونه معجزاً حتى يعرفوا عجز غيرهم عنه - لم يجز أن يعرف النبي صلى الله عليه وسلم، أن القرآن معجز حتى يرى عجز قريش عنه بعد التحدي إليه، وإذا عرف عجز قريش لم يعرف عجز سائر العرب عنه حتى ينتهي إلى التحدي إلى أقصاهم، وحتى يعرف عجز مسيلمة الكذاب عنه، ثم يعرف حينئذ كونه معجزاً. وهذا القول - إن قيل - أفحش ما يكون من الخطأ! ! / فيجب أن تكون منزلة أهل الصنعة في معرفة إعجاز القرآن بأنفسهم منزلة من رأى اليد البيضاء وفلق البحر، بأن ذلك معجز. وأما من لم يكن من أهل الصنعة، فلا بد له من مرتبة قبل هذه المرتبة، يعرف بها كونه معجزاً، فيساوي حينئذ أهل الصنعة، فيكون استدلالهها في تلك الحالة به على صدق من ظهر ذلك عليه على سواء (1) ، إذا ادعاه - دلالة على نبوته وبرهاناً على صدقه. فأما من قدر أن القرآن لا يصير معجزاً إلا بالتحدي إليه، فهو كتقدير من ظن أن جميع آيات موسى وعيسى، عليهما السلام، ليست بآيات حتى التحدي إليها والحض عليها، ثم يقع العجز عنها، فيعلم حينئذ أنها معجزات (2) . وقد سلف من كلامنا في هذا المعنى ما يغني عن الاعادة. ويبين ما ذكرناه في غير البليغ: أن الأعجمي الآن لا يعرف إعجاز القرآن إلا بأمور زائدة على الأعجمي الذي كان في ذلك الزمان مشاهداً له، لأن من هو من أهل العصر يحتاج أن يعرف أو لا أن العرب عجزوا عنه، وإنما يعلم عجزهم عنه بنقل الناقلة إليه أن (3) النبي صلى الله عليه وسلم قد تحدى العرب إليه فعجزوا عنه، ويحتاج في النقل إلى شروط، وليس يصير القرآن بهذا النقل
معجزاً، كذلك لا يصير معجزاً بأن / يعلم العربي الذي ليس ببليغ أنهم قد عجزوا عنه بأجمعهم (1) ، بل هو معجز في نفسه، وإنما طريق معرفة هذا (2) وقوفهم على العلم بعجزهم عنه.
فصل في قدر المعجز من القرآن
/ فصل في قدر المعجز من القرآن الذي ذهب إليه عامة أصحابنا - وهو قول [الشيخ] (1) أبي الحسن الأشعري في كتبه - أن أقل ما يعجز عنه من القرآن السورة، قصيرة كانت أو طويلة، أو ما كان بقدرها. قال: فإذا كانت الآية بقدر حروف سورة (2) ، وإن كانت سورة الكوثر، فذلك معجز. قال: ولم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة في أقل من هذا القدر. وذهبت (3) " المعتزلة " إلى أن كل سورة برأسها فهي معجزة. وقد حكي عنهم نحو قولنا، إلا أن منهم من لم يشترط كون الآية بقدر السورة، بل شرط الآيات الكثيرة. وقد علمنا أنه تحداهم تحدياً إلى السور كلها، ولم يخص، ولم يأتوا لشئ منها بمثل، فعلم أن جميع ذلك معجز. وأما قوله عز وجل: (فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) (4) فليس بمخالف / لهذا، لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته في أقل من كلمات سورة قصيرة. وهذا يؤكد ما ذهب إليه أصحابنا ويؤيده، وإن كان قد يتأول قوله: (فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) على أن يكون راجعاً إلى القبيل دون التفصيل. وكذلك يحمل قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله) (5) على القبيل، لأنه لم يجعل الحجة عليهم عجزهم عن الإتيان بجميعه من أوله إلى آخره. فإن قيل: هل تعرفون إعجاز السور القصار بما تعرفون إعجاز السور الطوال؟
وهل تعرفون إعجاز كل قدر من القرآن بلغ الحد الذي قدرتموه بمثل ما تعرفون به إعجاز سورة البقرة ونحوها؟ فالجواب: أن [شيخنا] (1) أبا الحسن الأشعري، رحمه الله (2) ، أجاب عن ذلك: بأن كل سورة قد علم كونها معجزة بعجز العرب عنها. وسمعت بعض الكبراء من أهل هذا الشأن، يقول: إن ذلك يصح أن يكون علم ذلك توقيفاً. والطريقة الأولى أسدّ. وليس هذا الذي ذكرناه أخيراً بمناف له، لأنه / لا يمتنع أن يعلم إعجازه بطرق مختلفة تتوافى عليه وتجتمع فيه. واعلم أن تحت اختلاف هذه الأجوبة ضرباً من الفائدة. لأن الطريقة الأولى تبين أن ما علم به كون جميع القرآن معجزاً - موجود في كل سورة، صغرت أو كبرت، فيجب أن يكون الحكم في الكل واحداً. والطريقة الأخيرة تتضمن تعذر معرفة إعجاز القرآن بالطريقة التى سلكناها في كتابنا (3) من التفصيل الذي بينا، فيما تعرف به في الكلام الفصاحة، وتتبين به (4) البلاغة، حتى يعلم ذلك بوجه (5) آخر، فيستوي في هذا القدر البليغ وغيره في أن لا يعلمه معجزاً حتى يستدل به من وجه آخر سوى ما يعلمه البلغاء من التقدم في الصنعة، وهذا غير ممتنع. ألا ترى أن الإعجاز في بعض السور والآيات أظهر، وفى بعضها أغمض [وأدق؟ فلا يفتقر البليغ] (6) في النظر في حال بعضها إلى تأمل كثير، ولا بحث شديد، حتى يتبين له الإعجاز. ويفتقر في بعضها إلى نظر دقيق وبحث لطيف، حتى يقع على الجلية، ويصل إلى المطلب. / ولا (7) يمتنع أن يذهب عليه الوجه في بعض السور، فيحتاج أن يفزع فيه إلى إجماع أو توقيف، أو ما علمه من عجز العرب قاطبة عنه.
فإن ادعى ملحد، أو زعم زنديق، أنه لا يقع العجز عن الإتيان بمثل السور القصار أو الآيات بهذا المقدار! قلنا له: إن الإعجاز قد حصل بما بيناه، وعرف بما وقفنا عليه (1) من عجز العرب عنه. ثم فيه شئ آخر، وهو: أن هذا سؤال لا يستقيم للملحد (2) ، لأنه يزعم أنه ليس في القرآن كله إعجاز، فكيف يجوز أن نناظره على تفصيله (3) ؟ ! وإذا ثبت لنا معه إعجازه في السور الطوال، قامت الحجة عليه، وثبتت المعجزة، ولا معنى لطلبه لكثرة الأدلة والمعجزات. ونحن نعلم أن (4) إعجاز البعض بما بيناه، والبعض الآخر بأنه (5) إذا ثبت الأصل لم يبق بعد ذلك إلا قولنا، لأنا عرفنا في البعض (6) الإعجاز بما بينا، ثم عرفنا في الباقي بالتوقيف، ونحو ذلك. وليس بممتنع اختلاف حال الكلام، حتى يكون الإعجاز على بعضه أظهر، وفي بعضه أغمض، ومن آمن ببعض دون بعض كان مذموماً، على ما قال الله تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وتكفرون ببعض) (7) وقال: (وننزل من القرآن ما هشفاء وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (8) فظاهره عند بعض أهل التأويل كالدليل على أن الشفاء (9 ببعضه أوقع، وإن كنا نقول: أنه يدل على أن الشفاء 9) في جميعه. واعلم أن الكلام يقع فيه الأبلغ والبليغ، ولذلك كانوا يسمون الكلمة: " يتيمة "، ويسمون البيت الواحد: " يتيما " (10) . سمعت إسماعيل بن عباد (11) يقول: سمعت أبا بكر بن مقسم (12) يقول:
سمعت ثعلبا يقول: [سمعت سلمة (1) يقول] (2) : سمعت الفراء / يقول: العرب تسمي البيت الواحد يتيماً، وكذلك يقال (3) : " الدرة اليتيمة "، لانفرادها، فإذا بلغ البيتين والثلاثة فهي " نتفة "، وإلى العشرة تسمى " قطعة "، وإذا بلغ العشرين استحق أن يسمى " قصيداً "، وذلك مأخوذ من المخ القصيد، وهو المتراكم بعضه على بعض، وهو ضد الرار (4) ، ومثله الرثيد (5) . انتهت الحكاية، ثم استشهد بقول لبيد (6) : فتذكرا ثقلا رثيدا بعد ما * ألقت ذُكاء يمينها في كافر (7) / يريد بيض النعام، لانه ينضد بعضه على بعض. وكذلك يقع في الكلام البيت الوحشي والنادر، والمثل السائر، والمعنى الغريب، والشئ الذي لو اجتهد له لم يقع عليه، فيتفق له ويصادفه. قال لي بعض علماء هذه الصنعة - وجاريته في ذلك - إن هذا مما
لا سبب له يخصه، وإنما سببه الغزارة (1) في أصل الصنعة، والتقدم في عيون (2) المعرفة، فإذا وجد ذلك وقع له من الباب ما يطرد عن حساب، وما يشذ عن تفصيل الحساب. فأما ما قلنا: من أن ما بلغ قدر السورة معجز، فإن ذلك صحيح.
فصل في أنه هل يعلم إعجاز القران ضرورة
/ فصل في أنه هل يعلم إعجاز القرآن ضرورة؟ ذهب [الشيخ] (1) أبو الحسن الأشعري إلى أن ظهور ذلك عن (2) النبي صلى الله عليه وسلم، يعلم ضرورة، وكونه معجزا يعلم باستدلال (3) . وهذا المذهب محكى عن المخالفين. والذي نقوله في هذا: أن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا استدلالاً، وكذلك من لم يكن بليغا. فأما البليغ الذي قد أحاط بمذاهب العربية وغرائب الصنعة - فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه عن الاتيان بمثله، ويعلم عجز غيره بمثل ما يعرف عجز نفسه، كما أنه إذا علم الواحد منا أنه لا يقدر على ذلك، فهو (4) يعلم عجز غيره استدلالا.
فصل فيما يتعلق به الإعجاز
/ فصل فيما يتعلق به الاعجاز إن قال قائل: بينوا لنا ما الذي وقع التحدي إليه؟ أهو الحروف المنظومة؟ أو الكلام القائم بالذات؟ أو غير ذلك؟ قيل: الذي تحداهم به: أن يأتوا بمثل الحروف التي هي نظم القرآن، منظومة كنظمها، متتابعة كتتابعها، مطردة كاطرادها، ولم يتحدهم إلى أن يأتوا بمثل الكلام القديم الذي لا مثل له. وإن كان كذلك فالتحدي واقع إلى أن يأتوا بمثل الحروف المنظومة، التي هي عبارة عن كلام الله تعالى في نظمها وتأليفها، وهي حكاية لكلامه، ودلالات عليه، وأمارات (1) له، على أن يكونوا مستأنفين لذلك، لا حاكين بما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يجب أن يقدر مقدر أو يظن ظان أنا حين قلنا: إن القرآن معجز، وأنه (2) تحداهم إلى أن يأتوا بمثله - أردنا غير ما فسرناه، من العبارات عن الكلام القديم القائم بالذات. وقد بينا قبل هذا أنه لم يكن ذلك معجزاً، لكونه عبارة عن / الكلام (3) القديم، لأن التوراة والإنجيل عبارة عن الكلام (4) القديم، وليس ذلك بمعجز في النظم والتأليف. وكذلك ما دون الآية - كاللفظة - عبارة عن كلامه، وليست بمنفردها بمعجزة. وقد جوز بعض أصحابنا: أن يتحداهم إلى مثل كلامه القديم القائم بنفسه! والذي عول عليه مشايخنا ما قدمنا ذكره، وعلى ذلك أكثر مذاهب الناس.
ولم نحب أن نفسر ونذكر موجب هذا المذهب الذي حكيناه وما يتصل به، لأنه خارج عن غرض كتابنا، لان الاعجاز واقع (1) في نظم الحروف التي هي دلالات وعبارات عن كلامه. وإلى مثل هذا النظم وقع التحدي، فبينا وجه ذلك، وكيفية ما نتصور (2) القول فيه، وأزلنا توهم من يتوهم (3) أن القديم حروف منظومة، أو حروف غير منظومة، أو شئ مؤلف (4) ، أو غير ذلك، مما يصح أن يتوهم على ما سبق من إطلاق القول فيما مضى.
فصل في وصف وجوه من البلاغة
/ فصل في وصف وجوه من البلاغة ذكر بعض أهل الأدب والكلام (1) : أن البلاغة على عشرة أقسام (2) : الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس، والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان (3) . فأما " الإيجاز " فإنما يحسن مع ترك الإخلال باللفظ والمعنى، فيأتي باللفظ القليل الشامل لأمور كثيرة. وذلك ينقسم إلى حذف، وقصر: / فالحذف: الإسقاط للتخفيف، كقوله: وَاسْأَلِ القَرْيَةِ) (4) . وقوله: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) (5) . وحذف الجواب كقوله: (وَلَوْ أَنَّ قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى) (6) . كأنه قيل: لكان هذا القرآن. والحذف أبلغ من الذكر، لأن النفس تذهب كل مذهب في القصد من الجواب (7) .
والايجاز بالقصر (1) كقوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) (2) . وقوله: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهمْ، هُمُ الْعَدُوُّ) (3) . وقوله: (إِنَّمَا بغيكم على أنفسكم) (4) . وقوله: (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) . (5) / والاطناب (6) فيه بلاغة، فأما التطويل ففيه على (7) . * * * وأما التشبيه، فهو العقد (8) على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في
حسن أو عقل، كقوله: (وَالَّذِينَ كَفُرُواْ أَعْمَالُهُم كَسَرَابٍ بِقِيعةٍ يَحْسَبُهُ الْظَمْآنُ مَاءً، حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) (1) . وقوله: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يوم عاصف) (2) . وقوله: (وإذ نتفنا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّه ظُلَّةٌ) (3) . / وقوله: (إِنّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فاخْتَلَطَ به بنات الارض مما يأكل الناس والانعام، حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زَخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارَاً، فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً، كَأَنْ لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ) (4) وقوله: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِّرٍ. تَنْزِعُ النَّاسَ كّأَنَّهُم أعجاز نخل منقعر) (5) .
وقوله: (فَإِذَا اْنشَقَّتِ السَّماءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) (1) . وقوله: (أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ، كَمَثَلِ غِيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ / نَبَاتُهُ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً، ثُمَّ يَكُونُ حُطَامَاً) (2) . وقوله: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّماءِ وَالأَرْضِ) (3) . وقوله: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارَ يَحْمِلُ أَسْفَاراً) (4) . وقوله تعالى: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ، إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَث) (5) . وقوله: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) (6) . وقوله: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخّذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أولياء كمثل العنكبوت / اتخذت
بَيْتَاً، وإِنَّ أَوْهَنَ الْبِيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) (1) . وقوله: (وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام) (2) . وقوله: (خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالفَخَّارِ) (3) . ونحو ذلك. * * * ومن ذلك: " باب الاستعارة " وذلك يباين (4) " التشبيه ". كقوله تعالى: (وقد منا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءٍ مَنْثُوراً) (5) . / وكقوله: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (6) . وكقوله: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة) (7) . وقوله: (وَلَمَّا سَكَتَ عِن مُّوسَى الغضب) (8) .
وكقوله: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) (1) . وقوله: (بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) (2) . فالدمغ والقذف مستعار. / وقوله: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) (3) . وقوله: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُم) (4) . وقوله: (فذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) (5) . وقوله: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) (6) . وقوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) (7) . وقوله: (مستهم البأساء والضراء وزلزلوا (8) .
/ وقوله: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) (1) . وقوله: (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارَاً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدَاً) (2) . وقوله: (حَصِيدَاً خَامِدِينَ) (3) . وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ) (4) . وقوله: (وَدَاعِيَاً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجَاً مُنِيراُ) (5) . وقوله: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) (6) . / وقوله: (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ) (7) . وقوله: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ) يريد: أن لا إحساس بآذانهم من غير صمم (8) .
وقوله: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيِهم) (1) . وهذا أوقع من اللفظ الظاهر، وأبلغ من الكلام الموضوع [له] (2) . * * * / وأما " التللاؤم "، فهو: تعديل الحروف في التأليف. وهو نقيض " التنافر " [الذى هو] (3) كقول الشاعر: وقبرُ حربٍ بمكانٍ قفرٍ * وليس قربَ قبرِ حربٍ قبرُ (4) قالوا: هو من شعر الجن! وحروفه متنافرة، لا يمكن إنشاده إلا بتتعتع فيه! (5) . " والتلاؤم " على ضربين: أحدهما في الطبقة الوسطى، كقوله (6) : رمتني وستْرُ الله بيني وبينها * عشيةَ آرامِ الكناس رميمُ (7) رميمُ التي قالت لجارات بيتها: * ضمنتُ لكم أن لا يزال يَهِيمُ (8) / ألا رُبَّ يومٍ لو رمتني رميتُها * ولكن عهدي بالنضال قديم (9)
قالوا (1) : والمتلائم في الطبقة العليا: القرآن كله، وإن كان بعض الناس أحسن إحساسا له من بعض، كما أن بعضهم يفطن للموزون بخلاف بعض. و" التلاؤم " (2) : حسن الكلام في السمع، وسهولته في اللفظ، ووقع المعنى في القلب. وذلك كالخط الحسن والبيان الشافي، والمتنافر / كالخط القبيح، فإذا انضاف إلى التلاؤم حسن البيان وصحة البرهان في أعلى الطبقات - ظهر الإعجاز لمن كان جيد الطبع، وبصيرا بجواهر (3) الكلام، كما يظهر له أعلى طبقة الشعر (4) . و" المتنافر "، ذهب الخليل إلى أنه من بعد شديد، أو قرب شديد، فإذا بعد فهو كالطفر (5) . وإذا قرب جدا بمنزلة مشى المقيد. ويبين بقرب مخارج الحروف وتباعدها. * * * وأما " الفواصل ": فهي حروف متشاكلة في المقاطع، يقع بها إفهام المعاني وفيها بلاغة. والإسجاع عيب، لان السجع يتبعه (6) المعنى، والفواصل تابعة)
للمعاني (1) . والسجع كقول " مسيلمة ". / ثم الفواصل قد تقع على حروف متجانسة، كما قد تقع على حروف متقاربة، ولا تحتمل القوافي ما تحتمل الفواصل، لأنها ليست في الطبقة العليا في البلاغة، لأن الكلام يحسن فيها بمجانسة القوافى وإقامة الوزن (2) . وأما " التجانس "، فهو: بيان أنواع الكلام الذي يجمعه أصل واحد. وهو على وجهين: مزاوجة، ومناسبة. المزاوجة كقوله تعالى: (فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيهِ بَمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ (3)) . وقوله: (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ) (4) . وكقول عمرو بن كلثوم (5) : ألا لا يجهلَنْ أحدٌ علينا * فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا (6)
* * * وأما " المناسبة "، فهي كقوله تعالى: (ثُمَّ انْصَرَفُواْ صرف الله قلوبهم) (1) وقوله: (يخافون يوم تتقلب فيه القلوب والابصار) (2) . * * * / وأما " التصريف " (3) فهو: تصريف الكلام في المعاني، كتصريفه في الدلالات المختلفة (4) ، كتصريف " الملك " في معاني الصفات، فصرف في معنى " مالك " و " ملك " و " ذى الملكوت " و " المليك "، وفى معنى " التمليك " والتملك و " الاملاك "، وتصريف المعنى في الدلالات المختلفة، كما كرر من قصة موسى في مواضع (5) . * * * وأما " التضمين " فهو: حصول معنى فيه من غير ذكره له باسم أو صفة هي عبارة عنه (6) .
/ وذلك على وجهين: تضمين توجبه البنية، كقولنا: " معلوم "، يوجب أنه لا بد من عالم. وتضمين يوجبه معنى العبارة من حيث لا يصح إلا به، كالصفة بضارب، على مضروب (1) . والتضمين كله إيجاز، [وذكر: أن] التضمين الذي تدل عليه دلالات القياس أيضاً إيجاز (2) . وذكر: أن (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) من باب التضمين، لأنه / تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه على جهة التعظيم لله تبارك وتعالى، أو التبرك باسمه (3) . * * * وأما المبالغة "، فهي: الدلالة على كثرة المعنى. وذلك على وجوه: منها مبالغة في الصفة المبينة لذلك، كقولك: " رحمان " عدل عن راحم " (4) .
للمبالغة، وكقوله " غفار " وكذلك فعال (1) وفعول، كقوله: " شكور " وغفور "، وفعيل، كقوله: " رحيم " و " قدير ". ومن ذلك أن يبالغ باللفظة التي هي صفة عامة (2) ، كقوله: (خالق كل شئ) (3) وكقوله: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِنَ الْقَوَاعِدِ) (4) . / وكقوله: (وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حّتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) (5) . وكقوله: (وَإنَّا أوْ إِيَّاكَمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ) (6) . وقد يدخل فيه الحذف الذى تقدم ذكره للمبالغة (7) . * * * وأما " حسن البيان " فالبيان على أربعة أقسام (8) : كلام، وحال، وإشارة، وعلامة. / ويقع التفاضل في البيان، ولذلك قال عز من قائل: (الرَّحْمَنُ، علم
القرآن، خلق الانسان علمه البيان) (1) . [ونقيضه العى، ومنه] (2) قيل: أعيامن باقل، سئل عن ظبية في يده: بكم اشتراها؟ فأراد أن يقول: بأحد عشر، فأشار بيديه مادا أصابعه العشر، ثم أدلع لسانه، فأفلتت الظبية من يده! ! * * * ثم البيان على مراتب (3) . قلنا (4) : قد كنا حكينا أن من الناس من يريد أن يأخذ إعجاز القرآن من وجوه البلاغة التي ذكرنا أنها تسمى " البديع " في أول الكتاب، مما مضت أمثلته في الشعر. ومن الناس من زعم: أنه يأخذ ذلك من هذه الوجوه التي عددناها في هذا الفصل. / واعلم أن الذي بيناه قبل هذا وذهبنا إليه هو سديد (5) ، وهو أن هذه الأمور تنقسم: فمنها ما يمكن الوقوع عليه، والتعمل له، ويدرك بالتعلم، فما كان كذلك فلا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن به وأما ما لا سبيل إليه بالتعلم والتعمل من البلاغات، فلذلك هو الذي يدل على إعجازه، ونحن نضرب لك أمثلة، لتقف على ما ذهبنا إليه. وذكرنا في هذا الفصل عن هذا " القائل " أن التشبيه تعرف به البلاغة. وذلك مسلم، ولكن (6) إن قلنا: ما وقع من التشبيه في القرآن معجز - عرض (7) علينا
من التشبيهات الجارية في الأشعار ما لا يخفى عليك، وأنت تجد في شعر ابن المعتز من التشبيه البديع الذي يشبه السحر، وقد تتبع في هذا ما لم يتتبع غيره، واتفق له ما لم يتفق لغيره من الشعراء. وكذلك كثير من وجوه البلاغة، قد بينا أن تعلمها يمكن، وليس تقع البلاغة بوجه واحد منها دون غيره. فإن كان إنما يعني هذا " القائل " أنه إذا أتى في كل معنى يتفق في كلامه بالطبقة العالية، ثم كان ما يصل به كلامه بعضه ببعض، وينتهي / منه إلى متصرفاته -: على أتم البلاغة وأبدع البراعة - فهذا مما لا نأباه، بل نقول به. وإنما ننكر أن يقول قائل: إن بعض هذه الوجوه بانفرادها قد حصل فيه الإعجاز من غير أن يقارنه ما يصل به [من] (1) الكلام ويفضي إليه، مثل ما يقول (2) : إن ما أقسم به وحده بنفسه معجز، وإن التشبيه معجز، وإن التجنيس معجز، والمطابقة بنفسها معجزة. فأما الآية التي فيها ذكر التشبيه، فإن ادعى إعجازها لألفاظها ونظمها وتأليفها - فأني لا أدفع ذلك وأصححه، ولكن لا أدعي إعجازها لموضع التشبيه. وصاحب " المقالة " التي حكيناها، أضاف ذلك إلى موضع التشبيه وما قرن به من الوجوه، ومن تلك الوجوه ما قد بينا أن الإعجاز يتعلق به كالبيان، وذلك لا يختص بجنسٍ من المبين (3) دون جنس، ولذلك قال: (هذا بيان للناس) (4) وقال: (تبيانا لكل شئ) (5) وقال: (بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُبينٍ) (6) فكرر في مواضع [جل] (7) ذكره: أنه مبين. / فالقرآن أعلى منازل البيان، وأعلى مراتبه ما جمع وجوه الحسن وأسبابه، وطرقه وأبوابه: من تعديل النظم وسلامته (8) ، وحسنه وبهجته، وحسن موقعه في السمع، وسهولته على اللسان، ووقوعه في النفس موقع القبول، وتصوره تصور المشاهد،
وتشكله على جهته حتى يحل محل البرهان ودلالة التأليف، مما لا ينحصر حسناً وبهجة وسناء ورفعة. وإذا علا الكلام في نفسه، كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس، ما يذهل ويبهج، ويقلق ويؤنس، ويطمع ويؤيس، ويضحك ويبكي، ويحزن ويفرح، ويسكن ويزعج، ويشجي ويطرب (1. ويهز الأعطاف، ويستميل نحوه الأسماع 1) . ويورث الأريحية والعزة، وقد يبعث على بذل المهج والأموال شجاعة وجوداً، ويرمي السامع من وراء رأيه مرمى (2) بعيداً. وله مسالك في النفوس لطيفة، ومداخل إلى القلوب دقيقة. وبحسب ما يترتب في نظمه، ويتنزل في موقعه، ويجري على سمت مطلعه ومقطعه - يكون عجيب تأثيراته، وبديع مقتضياته. وكذلك على حسب مصادره، يتصور وجوه موارده، / وقد (3) ينبئ الكلام عن محل صاحبه، ويدل على مكان متلكمه، وينبه على عظيم شأن أهله، وعلى علو محله. ألا ترى أن الشعر في الغزل إذا صدر عن محب، كان أرق وأحسن، وإذا صدر عن متعمل (4) ، وحصل من متصنع - نادى على نفسه بالمداجاة، وأخبر عن خبيئه في المراءاة (5) ؟ ! وكذلك قد يصدر الشعر في وصف الحرب عن الشجاع، فيعلم وجه صدوره، ويدل على كنهه وحقيقته. وقد يصدر عن المتشبه، ويخرج عن المتصنع، فيعرف من حاله ما ظن أنه يخفيه، ويظهر من أمره خلاف ما يبديه. وأنت تعرف (6) لقول المتنبي: فالخيلُ والليلُ والبيداء تعرفني * والحرب والضرب والقرطاس والقلم (7)
من الوقع (1) في القلب - لما (2) تعلم أنه من أهل الشجاعة - ما لا تجده للبحتري في قوله: / وأنا الشجاعُ وقد بدا لك موقفي * بعقرقس والمشرفية شهدى (3) وتجد لابن المعتز في موقع شعره من القلب، في الفخر وغيره، ما لا تجده لغيره، لانه إذا قال: إذا شئت أو قرت البلاد حوافراً * وسارت ورائي هاشمٌ ونزارُ وعَمَّ السماء النقع حتى كأنه * دُخان وأطراف الرماح شَرَارُ (4) وقال: قد ترديت بالمكارم دهراً * وكفتني نفسي من الإفتخارِ (5) أنا جيشٌ إذا غزوت وحيداً * ووحيدُ في الجَحْفَلِ الجرَّارِ وقال: أيها السائلي عن الحسب الأط * يبِ ما فوقه لخلق مزيدُ (6) نحن آلُ الرسول والعترة الحق * ق وأهل القربى، فماذا تريدُ؟ (7) ولنا ما أضاءَ صبحٌ عليه * وأتته رايات ليل وسود (8) وكما أنشدنا الحسن بن عبد الله، قال: أنشدنا محمد بن يحيى لابن المعتز قصيدته التي يقول فيها: أنا ابن الذي سادهم في الحيا * ة وسادهم بي تحت الثرى (9) / ومالي في أحد مَرغبٌ * بلى فيَّ يرغبُ كل الورى وأسهر للمجد والمكرمات * إذا اكتحلت أعين بالكرى (10)
فانظر في (1) القصيدة كلها، ثم في جميع شعره، تعلم أنه ملك الشعر، وأنه يليق به من الفخر خاصة، ثم مما يتبعه مما يتعاطاه - ما لا يليق بغيره، بل ينفر عن سواه. ولم أحب أن أكثر عليك، فأطول الكتاب بما يخرج عن غرضه. وكما ترى من (2) قول أبي فراس الحمداني في نفسك إذا قال: ولا أصبح الحيَّ الخلوف بغارة ولا الجيش ما لم تأته قبلى النذر (3) ويارب دارٍ لم تخفني منيعةٍ * طلعت عليها بالردى أنا والفجر وساحبةِ الأذيال نحوي لقيتُها * فلم يلقَها جافي اللقاء ولا وعر (4) / وهبت لها ما حازه الجيشُ كلُّهُ * وأبتُ ولم يُكشَف لأبياتها سِتر (5) وما راح يُطغيني بأثوابه الغنى * ولا بات يُثنيني عن الكرم الفقرُ وما حاجتي في المال أبغي وُفُوره * إذا لم أفر وفرى فلا وفر الوفر (6) والشئ إذا صدر من أهله، وبدا من أصله، وانتسب إلى ذويه - سلم في نفسه، وبانت فخامته وشوهد (7) أثر الاستحقاق فيه. وإذا صدر من متكلف، وبدا من متصنع - بان أثر الغربة (8) عليه،
وظهرت مخايل الاستيحاش فيه، وعرف شمائل التحير (1) منه. إنا نعرف في شعر أبي نواس أثر الشطارة، وتمكن البطالة، وموقع كلامه في وصف ما هو سبيله من أمر العيارة (2) ، ووصف / الخمر والخمار، كما نعرف موقع كلام ذي الرمة في وصف المهامه والبوادى والجمال والانساع والازمة. وعيب أبي نواس التصرف في وصف الطلول والرباع والوحش، ففكر في قوله: دعِ الأطلال تسفيها الجنوبُ * وتُبلي عهد جدتها الخطوبُ (3) وخلِ لراكب الوجناء أرضا * تخب به النجيبة والنجيب (4) بلاد نبتها عشرٌ وطلح * وأكثر صيدِها ضبع وذِيب (5) ولا تأخذ عن الأعراب لهواً * ولا عيشاً، فعيشُهُمٌ جَديب دع الألبانَ يشربها رجال * رقيقُ العيش عندهم غريب (6) إذا راب الحليبُ فبُلْ عليه * ولا تحرجْ، فما في ذاك حُوبُ (7) فأطيبُ منه صافيةٌ شَمُول * يطوفُ بكأسها ساقٍ أديبُ (8) كأن هديرَها في الدنِّ يحكي * قراة القسِّ قابَلهُ الصليبُ أعاذلُ أقصري عن طول لومي * فراجي توبتي عندي يخيبُ تعيبينَ الذنوبَ، وأيّ حُرٍّ * من الفِتيان ليس له ذنوبُ؟ ! / وقوله: صفةُ الطلول بلاغةُ الفدم * فاجعل صفاتك لابنة الكرم (9)
وسمعت الصاحب إسماعيل بن عباد يقول: سمعت براكويه (1) الزنجاني يقول: أنشد بعض الشعراء هلال بن يزيد قصيدة على وزن قصيدة الأعشى: وَدِّعْ هريرةَ إن الركبَ مرتحلُ * وهل تطيقُ وداعاً أيها الرجلُ؟ وكان وصف فيها الطلل، قال براكويه (2) : فقال لي هلال: فقلت بديهاً: إذا سمعت فتى يبكي على طلل * من أهل زَنْجانَ، فاعلم أنه طلل * * * وإنما ذكرت لك هذه الأمور، لتعلم أن الشئ في معدنه أعز، وإلى مظانه أحن (3) ، وإلى أصله أنزع، وبأسبابه أليق، وهو (4) يدل على ما صدر منه، وينبه ما انتج عنه، ويكون قراره على موجب / صورته، وأنواره على حسب محله، ولكل شئ حد ومذهب، ولكل كلام سبيل ومنهج. وقد ذكر أبو بكر الصديق رضي الله عنه في كلام مسيلمة ما أخبرتك به، فقال: إن هذا كلام لم يخرج من آل (5) . فدل على أن الكلام الصادر عن عزة الربوبية ورفعة الالهية، يتميز عما لم يكن كذلك. * * * ثم رجع الكلام بنا إلى ما ابتدأنا به من عظيم شأن البيان (6) ، ولو لم يكن فيه إلا ما مَنَّ به الله على خلقه بقوله: (خَلَقَ الإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (7) .
فأما بيان القرآن فهو أشرف بيان وأهداه، وأكمله وأعلاه، وأبلغه وأسناه. / تأمل قوله تعالى: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذّكْرِ صَفْحاً أَنْ كُنُتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ) (1) في شدة التنبيه على تركهم الحق والإعراض عنه. وموضع امتنانه بالذكر والتحذير (2) . وقوله: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمتُمْ أَنَّكُم فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) (3) وهذا بليغ في التحسير. وقوله: (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عُنْهُ) (4) وهذا يدل على كونهم مجبولين على الشر، معودين لمخالفة النهي والأمر (5) . وقوله: (الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ عَدُوَّ إِلاَّ الْمتَّقِينَ) (6) هو في نهاية المنع (7) من الخلة إلا على التقوى. وقوله: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّه) (8) . وهذا نهاية في التحذير من التفريط. وقوله: (أَفَمَنْ يلقى في النار خيرا أَم مَّنْ يَأْتي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. / اعْمَلُواْ ما شئتم، إنه بما تعملون بصير) (9) هو النهاية في الوعيد والتهديد (10) وقوله: (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ العَذَابَ يَقُولُونَ: هَلْ إِلى مَرَدٍّ من
سَبِيل. وَتَرَاهُمْ يعْرَضُونَ عَلَيْها خَاشِعِين مِنَ الذُّلِّ ينظرون من طرف خفى) (1) نهاية في الوعيد. وقوله: (وَفيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلذُّ الأَعْيُنُ، وَأّنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (2) نهاية في الترغيب. وقوله: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ، وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ، إِذاً لَّذهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ، وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (3) ، وكذلك قوله: (لَوْ كَانَ فِيهمَا آلِهةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتاَ) (4) نهاية في الحجاج (5) . وقوله: (وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ، وَهُوَ اللَّطيف الخَبِيرُ) (6) نهاية في الدلالة على علمه بالخفيات. / ولا وجه للتطويل، فإن بيان الجميع في الرفعة وكبر المنزلة على سواء (7) . وقد ذكرنا من قبل: أن البيان يصح أن يتعلق به الإعجاز، وهو معجز من القرآن. * * * وما حكينا عن " صاحب الكلام: من " المبالغة " في اللفظ - فليس ذلك بطريق الاعجاز، لان الوجوه التى ذكرها قد تتفق في كلام غيره، وليس ذلك بمعجز، بل قد يصح أن يقع في المبالغة في المعنى والصفة، وجوه من اللفظ تثمر (8) الاعجاز. * * * و " تضمين المعاني " أيضاً (9) قد يتعلق به الإعجاز إذا حصلت للعبارة طريق البلاغة في أعلى (10) درجاتها.
وأما " الفواصل " فقد بينا أنه يصح أن يتعلق بها الإعجاز، وكذلك قد بينا في المقاطع والمطالع نحو هذا، وبينا في " تلاؤم " الكلام ما سبق: من صحة تعلق الإعجاز به. / والتصرف في " الإستعارة " البديعة يصح أن يتعلق به الإعجاز، كما يصح مثل ذلك في حقائق الكلام، لأن البلاغة في كل واحد من البابين تجري مجرى واحداً وتأخذ مأخذاً مفرداً. * * * وأما " الإيجاز والبسط " فيصح أن يتعلق بهما الإعجاز (1) ، كما يتعلق بالحقائق. * * * و " الاستعارة " و " البيان " في كل واحد منهما ما لا (2) يضبط وحده، ولا يقدر قدره، ولا يمكن التوصل إلى ساحل بحره بالتعلم، ولا يتطرق إلى غوره بالتسبب، وكل ما يمكن تعلمه، ويتهيأ تلقنه، ويمكن تحصيله (3) ، ويستدرك أخذه - فلا يجب أن يطلب وقوع الاعجاز به. ولذلك قلنا: إن " السجع " ما ليس يلتمس فيه الإعجاز، لأن ذلك أمر محدود، وسبيل مورود، ومتى تدرب الإنسان به واعتاده لم يستصعب عليه أن يجعل جميع كلامه منه. وكذلك " التجنيس " و " التطبيق " متى أخذ أخذهما (4) وطلب وجههما، / استوفى ما شاء، ولم يتعذر عليه أن يملأ خطابه منه، كما أولع بذلك أبو تمام والبحتري، وإن كان البحتري أشغف بالمطابق، وأقل طلباً للمجانس. فإن قال قائل: هلاَّ قلت: إن هذين البابين يقع فيهما مرتبة عالية، لا يوصل إليها بالتعلم، ولا تملك بالتعمل، كما ذكرتم في البيان وغير ذلك؟ قلنا: لو عمد إلى كتاب " الأجناس "، ونظر في كتاب " العين "، لم يتعذر عليه التجنيس الكثير. فأما " الإطباق " فهو أقرب منه، وليس كذلك البيان والوجوه التي رأينا الإعجاز فيها، لأنها لا تستوفى بالتعلم.
فإن قيل: فالبيان قد يتعلم؟ قيل: إن الذى يمكن أن يتوصل إليه بالتعلم يتقارب (1) فيه الناس، وتتناهى فيه العادات، وهو كما يعلم من مقادير القوى في حمل الثقيل، وأن الناس يتقاربون (2) في ذلك، فيرمون (3) فيه إلى حد، فإذا تجاوزوه وقفوا بعده ولم يمكنهم التخطي، ولم يقدروا على التعدي، إلا أن يحصل ما يخرق العادة، وينقض العرف، ولن يكون ذلك إلا للدلالة على النبوات، على شروط في ذلك. / والقدر الذي يفوت الحد في البيان، ويتجاوز الوهم (4) ، ويشذ عن الصنعة، ويقذفه الطبع في النادر القليل، كالبيت البديع، والقطعة الشريفة التي تتفق في ديوان شاعر (5) ، والفقرة تتفق في رسالة (6) كاتب، حتى يكون الشاعر ابن بيت أو بيتين، أو قطعة أو قطعتين، والاديب شهير (7) كلمة أو كلمتين - ذلك أمر قليل (8) . ولو كان كلامه كله يطرد على ذلك المسلك، ويستمر على ذلك المنهج أمكن أن يدعي فيه الإعجاز. ولكنك إن كنت من أهل الصنعة: تعلم قلة الأبيات الشوارد، والكلمات الفرائد (9) ، وأمهات القلائد. فإن أردت أن تجد قصيدة كلها وحشية، وأردت أن تراها مثل بيت من أبياتها مرضية - لم تجد ذلك في الدواوين، ولم تظفر بذلك إلى يوم الدين. ونحن لم ننكر أن يستدرك البشر كلمة شريفة، ولفظة بديعة، وإنما أنكرنا أن يقدروا على مثل نظم سورة أو (10) نحوها، وأحلنا أن / يتمكنوا من حد في البلاغة، ومقدار في الخطابة. وهذا كما قلناه: من (11) أن صورة الشعر قد تتفق في القرآن، وإن لم يكن له حكم الشعر.
* * * فأما قدر المعجز فقد بينا أنها السورة، طالت أو قصرت، وبعد ذلك خلاف: من (1) الناس من قال: مقدار كل سورة أو أطول أية، فهو معجز. وعندنا كل واحد من الأمرين معجز، والدلالة عليه ما تقدم (2) ، والبلاغة لا تتبين بأقل من ذلك، فلذلك لم نحكم بإعجازه، وما صح أن تتبين فيه (3) البلاغة، ومحصولها الإبانة في الإبلاغ عن ذات النفس على أحسن معنى وأجزل لفظ، وبلوغ الغاية في المقصود بالكلام. فإذا بلغ الكلام غايته في هذا المعنى، كان بالغاً وبليغاً. فإذا (4) تجاوز حد البلاغة إلى حيث لا يقدر عليه أهل الصناعة، وانتهى إلى أمد (5) يعجز عنه الكامل في البراعة - صح أن يكون له حكم المعجزات، وجاز أن يقع موقع الدلالات. / وقد ذكرنا أنه بجنسه (6) وأسلوبه مباين لسائر كلامهم، ثم بما يتضمن من تجاوزه في البلاغة الحد الذى يقدر عليه البشر. * * * فإن قيل: فإذا (7) كان يجوز عندكم أن يتفق في شعر الشاعر قطعة عجيبة شاردة، تباين جميع ديوانه في البلاغة، ويقع في ديوانه بيت واحد يخالف (8) مألوف طبعه، ولا يعرف سبب ذلك البيت، ولا تلك القطعة في التفصيل، ولو أراد أن يأتي بمثل ذلك أو يجعل (9) جميع كلامه من ذلك النمط، لم يجد إلى ذلك سبيلا، وله سبب في الجملة وهو التقدم في الصنعة، لانه (10) يتفق من المتأخر فيها - فهلا قلتم: إنه إذا بلغ في العلم بالصناعة مبالغه القصوى (11) ،
كان جميع كلامه من نمط ذلك البيت وسمت تلك القطعة؟ وهلا قلتم: إن القرآن من هذا الباب؟ فالجواب: أنا لم نجد أحداً بلغ الحد الذي وصفتم في العادة. وهذا الناس وأهل البلاغة أشعارهم عندنا محفوظة، وخطبهم منقولة، ورسائلهم مأثورة، وبلاغاتهم مروية، وحكمهم مشهورة، وكذلك أهل / الكهانة والبلاغة، مثل قس بن ساعدة، وسحبان وائل، ومثل (1) شق، وسطيح، وغيرهم - كلامهم معروف عندنا، وموضوع بين أيدينا، لا يخفى علينا في الجملة بلاغة بليغ، ولا خطابة خطيب، ولا براعة شاعر مفلق، ولا كتابة كاتب مدقق. فلما لم نجد في شئ من ذلك ما يداني القرآن في البلاغة، أو يشاكله في الإعجاز، مع ما وقع من التحدي إليه المدة الطويلة، وتقدم من التقريع في المجازاة (2) الأمد المديد، وثبت له وحده خاصة قصب السبق، والاستيلاء على الامد (3) ، وعجز الكل عنه، ووقفوا دونه حيارى، يعرفون عجزهم، وإن جهل قوم سببه، ويعلمون نقصهم، وإن أغفل قوم وجهه - رأينا أنه ناقض للعادة، ورأينا (4) أنه خارق للمعروف في الجبلة (5) . وخرق العادة إنما يقع بالمعجزات على وجه إقامة البرهان على النبوات، وعلى أن من ظهرت عليه، ووقعت موقع الهداية إليه، صادق فيما يدعيه من نبوته، ومحق في قوله، ومصيب في هديه، قد شهدت (6) له الحجة البالغة، والكلمة التامة، والبرهان النير، والدليل البين.
/ فصل في حقيقة المعجز (1) معنى قولنا: " إن القرآن معجز " على أصولنا: أنه لا يقدر العباد عليه. وقد ثبت أن المعجز الدال على صدق النبي، صلى الله عليه وسلم، لا يصح دخوله تحت قدرة (2) العباد، وإنما ينفرد الله تعالى بالقدرة عليه، ولا يجوز أن يعجز العباد عما تستحيل قدرتهم عليه، كما يستحيل عجزهم عن فعل الأجسام، فنحن لا نقدر على (3) ذلك وإن لم يصح وصفنا بأنا عاجزون عن ذلك حقيقة، وكذلك معجزات سائر الانبياء على هذا. فلما لم يقدر عليه أحد شبه بما يعجز عنه العاجز، وإنما لا يقدر العباد على (4) الإتيان بمثله، لأنه لو صحّ أن يقدروا عليه بطلت (5) دلالة المعجز، وقد أجرى [الله] (6) العادة بأن يتعذر فعل ذلك منهم (7) ، وأن لا يقدروا عليه. / ولو كان غير خارج عن العادة لاتوا بمثله، أو عرضوا (8) عليه من كلام فصحائهم وبلغائهم، ما يعارضه. فلما لم يشتغلوا بذلك، علم أنهم فطنوا لخروج (9) ذلك عن أوزان كلامهم، وأساليب نظامهم، وزالت أطماعهم عنه. وقد كنا بينا أن التواضع ليس يجب أن يقع على قول الشعر (10) ووجوه النظم المستحسنة في الاوزان المطربة للسمع، لا يحتاج في مثله إلى توقيف، وأنه يتبين أن مثل ذلك يجري في الخطاب، فلما جرى فيه فطنوا له واختاروه [وطلبوه] (11) . ، وطلبوا أنواع الأوزان والقوافي، ثم وقفوا (12) على حسن ذلك وقدروا عليه، بتوفيق الله عز وجل (13) ، وهو الذي جمع خواطرهم عليه، وهداهم له (14)
وهيأ دواعيهم إليه، ولكنه أقدرهم على حد محدود، وغاية في العرف مضروبة، لعلمه بأنه (1) سيجعل القرآن معجزاً، ودل على عظم (2) شأنه بأنهم قدروا على ما بينا من التأليف، وعلى ما وصفنا من النظم. / من غير توقيف ولا اقتفاء (3) أثر، ولا تحد إليه ولا تقريع. فلو كان هذا من ذلك القبيل، أو من الجنس الذي عرفوه وألفوه - لم تزل أطماعهم عنه، ولم يدهشوا عند وروده عليهم، فكيف (4) وقد أمهلهم وفسح لهم في الوقت، وكان يدعوا إليه سنين كثيرة، وقال عز من قائل: (أَوَ لَمْ نُعَمِّركُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تذكر وجاءكم النَّذِيرُ) (5) . وبظهور العجز عنه بعد طول التقريع والتحدى، بان أنه خارج عن عاداتهم، وأنهم لا يقدرون عليه. وقد ذكرنا أن العرب كانت تعرف ما يباين عادتها (6) من الكلام البليغ، لأن ذلك طبعهم ولغتهم، فلم يحتاجوا إلى تجربة عند سماع القرآن، وهذا في البلغاء منهم، دون المتأخرين في الصنعة. والذي ذكرناه يدلك على أنه لا كلام أزيد في قدر البلاغة من القرآن. وكل من. جوز أن يكون للبشر قدرة على أن يأتوا بمثله في البلاغة - لم يمكنه أن يعرف أن القرآن معجز بحال. / ولو لم يكن جرى في المعلوم (7) أنه سيجعل القرآن معجزاً، لكان (8) يجوز أن تجرى عادات (9) البشر بقدر زائد على ما ألفوه من البلاغة، وأمر يفوق ما عرفوه من الفصاحة.
وأما " نظم القرآن " فقد قال أصحابنا [فيه] (1) : إن الله تعالى يقدر على نظم [هيئة أخرى تزيد في الفصاحة عليه، كما يقدر على مثله. وأما بلوغ بعض (2) ] نظم (3) القرآن الرتبة (4) التى لا مزيد عليها، فقد (5) قال مخالفونا: إن هذا غير ممتنع، لأن فيه من الكلمات الشريفة، الجامعة للمعاني البديعة، وانضاف (6) إلى ذلك حسن الموقع، فيجب أن يكون قد بلغ النهاية، لأنه عندهم - وإن زاد على ما في العادة - / فإن الزائد عليها وإن تفاوت، فلا بد (7) من أن ينتهي إلى حد لا مزيد عليه. والذى نقوله (8) : إنه لا يمتنع أن يقال: إنه يقدر الله تعالى على أن يأتي بنظم (9) أبلغ وأبدع (10) من القرآن كله. وأما قدر (11) العباد فهي متناهية في كل ما يقدرون عليه، مما تصح قدرتهم عليه.
فصل في كلام النبي وأمور تتصل بالإعجاز
/ فصل في كلام النبي، صلى الله عليه وسلم، وأمور تتصل بالاعجاز إن قال قائل: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب - وقد قال هذا في حديث مشهور، وهو صادق في قوله - فهلا قلتم إن القرآن من نظمه لقدرته في الفصاحة على مقدار لا يبلغه غيره؟ قيل: قد علمنا أنه لم يتحدَّهم إلى مثل قوله وفصاحته. والقدر الذي بينه وبين كلام غيره من الفصحاء (1) ، كقدر ما بين شعر الشاعرين، وكلام الخطيبين في الفصاحة (2) ، وذلك مما لا يقع به الإعجاز. وقد بينا قبل هذا: أنا إذا وازنا بين خطبه ورسائله وكلامه المنثور، وبين نظم القرآن - تبين من البون بينهما مثل ما بين كلام الله عز وجل و [بين] (3) كلام الناس، فلا (4) معنى لقول من ادعى أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم معجز وإن كان دون القرآن في الاعجاز. فإن (5) قيل: لولا أن كلامه معجز لم يشتبه على ابن مسعود الفصل / بين المعوذتين وبين غيرهما من القرآن (6) ؟
وكذلك لم يشتبه دعاء القنوت (1) في أنه هل هو (2) من القرآن أم لا؟ [قيل: هذا من تخليط الملحدين، لان عندنا أن الصحابة لم يخف عليهم ما هو من القرآن] (3) . ولا يجوز أن يخفى عليهم القرآن من غيره: وعدد السور عندهم محفوظ مظبوط. وقد يجوز أن يكون شذ عن مصحفه، لا لأنه نفاه من القرآن، بل عول على حفظ الكل إياه. / على أن الذي يروونه خبر واحد، لا يسكن إليه في مثل هذا، ولا يعمل عليه. ويجوز أن يكتب على ظهر مصحفه دعاء القنوت لئلا ينساه، كما يكتب الواحد منا بعض الأدعية على ظهر مصحفه. وهذا نحو ما يذكره الجهال: من اختلاف كثير بين مصحف ابن مسعود، وبين مصحف عثمان رحمة الله عليهما. ونحن لا ننكر أن يغلط في حروف معدودة، كما يغلط الحافظ في حروف وينسى، وما لا نجيزه (4) على الحفاظ مما لم نجزه عليه. ولو كان قد أنكر السورتين على ما ادعوا، لكانت الصحابة تناظره على ذلك، وكان يظهر وينتشر، فقد تناظروا في أقل من هذا، وهذا أمر يوجب التكفير والتضليل، فكيف يجوز أن يقع التخفيف فيه؟ ! وقد (5) علمنا إجماعهم على ما جمعوه في المصحف، فكيف يقدح بمثل (6) هذه الحكايات الشاذة المولدة (7) في الاجماع المقرر، والاتفاق المعروف؟ ! ويجوز (8) أن يكون الناقل اشتبه (9) عليه، لانه خالف في النظم / والترتيب،
فلم يثبتهما في آخر القرآن، والإختلاف بينهم في موضع الإثبات غير الكلام في الأصل، ألا ترى أنهم قد اختلفوا في أول ما نزل من القرآن: فمنهم من قال: قوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (1) . ومنهم من قال: (يَا أَيُّهَا الْمُدثَّرُ) (2) . ومنهم من قال: فاتحة الكتاب (3) . واختلفوا أيضاً في آخر ما أنزل (4) : فقال ابن عباس: (إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ) (5) . وقالت عائشة: سورة المائدة. وقال البراء بن عازب (6) : آخر ما أنزل سورة براءة. / وقال سعيد بن جبير (7) : آخر ما أنزل قوله تعالى: (واتَّقُواْ يَومَاً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلى اللَّهِ) (8) . وقال السدي (9) : آخر ما أنزل (فَإِنْ تَوَلَّوا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ، عليه توكلت) (10) .
ويجوز أن يكون في مثل هذا خلاف (1) ، وأن يكون كل واحد ذكر آخر ما سمع. * * * ولو كان القرآن من كلامه، لكان البون بين كلامه وبينه مثل ما بين خطبة وخطبة ينشئهما (2) رجل واحد، وكانوا يعارضونه، لأنا قد علمنا أن القدر الذي بين كلامهم وبين كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج إلى حد الإعجاز، ولا يتفاوت التفاوت الكثير، ولا يخفى كلامه (3) من جنس أوزان كلامهم، وليس كذلك نظم القرآن، لانه خارج من جميع ذلك. فإن قيل: لو كان على ما ادعيتم، لعرفنا بالضرورة أنه معجز (4) دون غيره؟ قيل: معرفة الفصل بين وزن الشعر [أو غيره من أوزان الكلام لا يقع ضرورة، ويحتاج في معرفة ذوق الشعر] (5) ووزنه، والفرق بينه وبين غيره من الاوزان يحتاج (6) إلى نظر وتأمل، وفكر وروية واكتساب. وإن كان النظم المختلف الشديد التباين إذا وجد أدرك اختلافه بالحاسة. إلا أن كل وزن وقبيل إذا أردنا تمييزه من غيره احتجنا فيه (7) إلى الفكرة والتأمل (8) . فإن قيل: لو كان معجزاً لم يختلف أهل الملة (9) في وجه إعجازه؟ قيل: قد يثبت الشئ دليلاً وإن اختلفوا في وجه دلالة البرهان، كما قد يختلفون في الاستدلال على حدوث (10) العالم من الحركة والسكون، والإجتماع والإفتراق. / فأما المخالفون، فإنه يتعذر عليهم أن يعرفوا أن القرآن كلام الله، لأن مذهبهم أنه لا فرق بين أن يكون القرآن من قبل الرسول أو من قبل الله عزَّ وجلَّ في كونه معجزاً، لأنه إن خصه بقدر من العلم لم تجر العادة بمثله،
أمكنه أن يأتي بما له هذه الرتبة، وكان متعذراً على غيره، لفقد علمه بكيفية النظم. وليس القوم بعاجزين عن الكلام، ولا عن النظم والتأليف. والمعنى المؤثر عندهم في تعذر مثل نظم القرآن علينا: فقد العلم بكيفية النظم، وقد بينا قبل هذا أن المانع هو أنهم لا يقدرون عليه. والمفحم قد يعلم كيفية الأوزان واختلافها، وكيفية التركيب، وهو لا يقدر على نظم الشعر. وقد يعلم الشاعران (1) وجوه الفصاحة، وإذا قالا الشعر جاء شعر أحدهما في الطبقة العالية، وشعر الآخر في الطبقة الوضيعة. وقد يطرد (2) في شعر المبتدي والمتأخر في الحذق - القطعة الشريفة والبيت النادر، مما لا (3) يتفق للشاعر المتقدم. والعلم بهذا الشأن في التفصيل لا يغني، ويحتاج معه إلى مادة من الطبع، وتوفيق من الأصل. / وقد يتساوى العالمان بكيفية الصناعة والنساجة، ثم يتفق لأحدهما من اللطف في الصنعة، ما لا يتفق للآخر (4) . وكذلك أهل نظم الكلام - يتفاضلون، مع العلم بكيفية النظم، وكذلك أهل الرمي يتفاضلون في الاصابة، مع العلم بكيفية الاصابة. وإذا وجدت للشاعر بيتاً أو قطعة أحسن من شعر امرئ القيس، لم يدل (5) ذلك على أنه أعلم بالنظم منه، لأنه لو كان كذلك كان يجب أن يكون جميع شعره على ذلك الحد، وبحسب ذلك البيت في الشرف والحسن والبراعة، ولا يجوز ان يعلم نظم قطعة ويجهل نظم مثلها، وان (6) كان كذلك، علم أن هذا لا يرجع إلى قدره (7) من العلم، ولسنا نقول: إنه يستغنى عن العلم في النظم، بل يكفي علم به في الجملة، ثم يقف الامر على القدرة.
وهذا يبين لك بأنه قد يعلم الخط فيكتب سطراً، فلو أراد أن يأتي بمثله بحيث لا يغادر منه شيئاً لتعذر، والعلم حاصل. وكذلك قد يحسن (1) كيفية الخط، ويميز (2) الجيد منه من الردئ، ولا يمكنه أن يأتي بأرفع درجات الجيد. / وقد يعلم قوم كيفية إدارة (3) الأقلام، وكيفية تصوير الخط، ثم يتفاوتون في التفصيل (4) ، ويختلفون في التصوير. وألزمهم أصحابنا أن يقولوا بقدرتنا على إحداث الأجسام، وإنما يتعذر وقوع ذلك منا بأنا (5) لا نعلم الأسباب التي إذا عرفنا إيقاعها على وجوه اتفق لنا فعل الاجسام. وقد ذهب بعض المخالفين إلى أن العادة انتقضت بأن أنزله جبريل، فصار القرآن معجزاً لنزوله على هذا الوجه، ومن قبله لم يكن معجزا! ! هذا قول أبي هاشم (6) ، وهو ظاهر الخطأ، لأنه يوجب (7) أن يكونوا قادرين على مثل القرآن، وأنه لم [يكن] (8) يتعذر عليهم فعل مثله، وإنما تعذر بإنزاله، ولو كانوا قادرين على مثل ذلك كان قد اتفق من بعضهم مثله. وإن كانوا في الحقيقة غير قادرين قبل نزوله ولا بعده على مثله، فهو قولنا. / وأما قول كثير من المخالفين، فهو على ما بينا، لأن معنى المعجز عندهم تعذر فعل مثله، وكان ذلك متعذرا قبل نزوله وبعده. فأما الكلام في أن التأليف هل له نهاية؟ فقد اختلف المخالفون من المتكلمين فيه: فمنهم من قال: ليس لذلك نهاية، كالعدد، فلا (9) يمكن أن يقال: إنه
لا يتأتى قول قصيدة إلا وقد قيلت من قبل. ومنهم من قال: إن ما جرت به العادة فله نهاية، وما لم تجر به العادة فلا يمكن أن تعلم (1) نهاية الرتبة فيه. وقد بينا: أن على أصولنا قد تقرر لكلامنا [ونظمنا] (2) حد في العادة، ولا سبيل إلى تجاوزه، ولا يقدر [عليه] (3) ، فإن القرآن خرق العادة فزاد عليها.
فصل
/ فصل إن قيل، هل من شرط المعجز أن (1) يعلم أنه أتى به من ظهر عليه؟ قيل: لا بد من ذلك، لانا إن (2) لم نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذى أتى بالقرآن، ظهر ذلك من جهته - لم يمكن أن نستدل به على نبوته. وعلى هذا لو تلقى رجل منه سورة، فأتى بها بلداً، وادعى ظهورها عليه، وإنها معجزة له - لم تقم الحجة عليهم حتى يبحثوا ويتبينوا أنها ظهرت عليه. وقد تحققنا (3) أن القرآن أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، وظهر من جهته، وجعله علماً على نبوته، وعلمنا ذلك ضرورة فصار حجة علينا.
فصل
/ فصل قد ذكرنا في الإبانة عن معجز القرآن وجيزاً من القول، رجونا أن يكفي، وأملنا أن يقنع. والكلام في أوصافه - إن استقصى - بعيد الأطراف، واسع الأكناف، لعلو شأنه، وشريف مكانه. والذي سطرناه في الكتاب، وأن كان موجزا، وما أملينا فيه، وإن كان خفيفاً - فإنه ينبه على الطريقة. ويدل على الوجه، ويهدي (1) إلى الحجة. ومتى عظم محل الشئ فقد يكون الإسهاب فيه عيَّاً، والإكثار في وصفه تقصيراً. وقد قال الحكيم [وقد] (2) سئل عن البليغ: متى يكون عييا؟ فقال: متى وصف هوى أو حبيباً. وضل أعرابي في سفر له ليلاً، وطلع القمر فاهتدى به، فقال: ما أقول لك؟ أقول (3) : رفعك الله؟ وقد رفعك، أم أقول: نورك الله؟ وقد نورك، أم أقول: جملك الله؟ وقد جملك! ولولا أن العقول تختلف، والأفهام تتباين، والمعارف تتفاضل - لم نحتج إلى ما تكلفنا، ولكن الناس يتفاوتون في المعرفة، ولو اتفقوا / فيها لم يجز أن يتفقوا في معرفة هذا الفن، أو يجتمعوا في الهداية إلى هذا العلم، لاتصاله بأسباب [خفية] وتعلقه بعلوم غامضة الغور، عميقة القعر (4) ، كثيرة المذاهب، قليلة الطلاب، ضعيفة الأصحاب، وبحسب تأتي (5) مواقعه تقع الإفهام دونه، وعلى قدر لطف مسالكه يكون القصور عنه. أنشدني أبو القاسم الزعفراني، قال: أنشدني المتنبي، لنفسه، القطعة التي يقول فيها:
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً * وآفته من الفهمِ السقيمِ (1) ولكن تأخذُ الآذانُ منه * على قدر الفرائح والعلومِ وأنشدني الحسن بن عبد الله، قال: أنشدنا بعض مشايخنا، للبحتري: أهز بالشعر أقواماً ذوي سِنة * لو أنهم ضُربوا بالسيف ما شعروا (2) عليَّ نحتُ القوافي من مقاطعها * وما عليّ لهم أن تفهمَ البقرُ (3) فإذا كان نقد الكلام كله صعباً، وتمييزه شديداً، والوقوع على / اختلاف فنونه (4) متعذراً، وهذا في كلام الآدميين (5) - فما ظنك بكلام رب العالمين؟ ! * * * قد أبنا لك أن من قدر أن البلاغة في عشرة أوجه من الكلام، لا يعرف من البلاغة إلا القليل (6) ، ولا يفطن منها إلا لليسير. ومن زعم أن البديع يقتصر على ما ذكرناه من قبل عنهم (7) في الشعر، فهو متطرف. بلى، إن كانوا يقولون: إن هذه من وجوه البلاغة وغرر البديع وأصول اللطيف، وإن ما يجري مجرى ذلك ويشاكله ملحق بالاصل، ومردود على القاعدة - فهذا قريب. وقد بينا في نظم القرآن: أن الجملة تشتمل على بلاغة منفردة، والأسلوب يختص بمعنى آخر من الشرف. ثم الفواتح والخواتم، والمبادئ والمثاني (8) ، والطوالع والمقاطع، والوسائط والفواصل.
ثم الكلام في نظم السور والآيات، ثم في تفاصيل التفاصيل، / ثم في الكثير والقليل (1) . ثم الكلام الموشَّح والمرصَّع، والمفصّل والمصرّع، والمجنّس والموشع (2) ، والمحلّى والمكلّل، والمطوّق والمتوّج، والموزون والخارج عن الوزن، والمعتدل في النظم والمتشابه فيه. ثم الخروج من فصل إلى فصل، ووصل (3) إلى وصل، ومعنى إلى معنى، ومعنى في معنى، والجمع بين المؤتلف والمختلف، والمتفق والمتسق. وكثرة التصرف، وسلامة (4) القول في ذلك كله (5) من التعسف، وخروجه عن التعمق (6) والتشدق، وبعده عن التعمل والتكلف، والألفاظ المفردة، والإبداع في الحروف والأدوات، كالإبداع في المعاني والكلمات. والبسط (7) والقبض، والبناء والنقض، والاختصار (8) والشرح، والتشبيه (9) والوصف. / وتمييز الابتداع (10) من الإتباع، كتميز المطبوع عن المصنوع (11) ، والقول الواقع من غير تكلف ولا تعمل. * * * وأنت تتبين (12) في كل ما تصرف فيه من الأنواع أنه على سَمْت شريف، ومرقب منيف، يبهر إذا أخذ في النوع الربي (13) ، والأمر الشرعي، والكلام الإلهي، الدال على أنه يصدر عن عزة الملكوت، وشرف الجبروت، وما لا يبلغ الوهم مواقعه: من حكمة (14) وأحكام، واحتجاج وتقرير، واستشهاد وتقريع، وأعذار وإنذار، وتبشير وتحذير، وتنبيه وتلويح، وإشباع (15) وتصريح، وإشارة ودلالة، وتعليم أخلاق زكية، وأسباب رضية، وسياسات
جامعة، ومواعظ نافعة، وأوامر صادعة، وقصص مفيدة، وثناء على (1) الله عز وجل بما هو أهله، وأوصاف كما يستحقه، وتحميد كما يستوجبه، وإخبار عن كائنات في التأتي صدقت، وأحاديث عن المؤتنف تحققت، ونواه / زاجرة عن القبائح والفواحش، وإباحة الطيبات، وتحريم المضار والخبائث، وحث على الجميل والاحسان. تجد فيه الحكمة وفصل الخطاب، مجلوة عليك في منظر بهيج، ونظم أنيق، ومعرض رشيق، غير معتاص (2) على الاسماع ولا متلو (3) على الأفهام، ولا مستكره في اللفظ، ولا مستوحش (4) في المنظر. غريب في الجنس غير غريب في القبيل، ممتلئ ماء ونضارة، ولطفاً وغضارة، يسري في القلب كما يسري السرور، ويمر إلى مواقعه كما يمر السهم، ويضئ كما يضئ الفجر، ويزخر كما يزخر البحر، طموح العباب، جموح على المتناول المنتاب، كالروح في البدن، والنور المستطير في الافق، والغيث الشامل، والضياء الباهر (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) (5) . من توهم أن الشعر يلحظ (6) شأوه بان ضلاله، ووضح (7) جهله، إذ الشعر سمت قد تناولته الألسن، وتداولته القلوب، وانثالت عليه الهواجس، وضرب الشيطان فيه بسهمه، وأخذ منه بحظه. وما دونه من كلامهم فهو أدنى محلاً، وأقرب مأخذاً، وأسهل مطلباً، ولذلك / قالوا: فلان مفحم، فأخرجوه مخرج العيب، كما قالوا: فلان عيي (8) ، فأوردوه مورد النقص. * * * والقرآن كتاب دل على صدق متحمله، ورسالة دلت على صحة قول المرسل بها، وبرهان شهد له برهان الانبياء (9) المتقدمين، وبينة على طريقة من
سلف من الاولين (1) . حيرهم (2) فيه، إذ كان من جنس القول الذي زعموا أنهم أدركوا فيه النهاية، وبلغوا فيه الغاية، فعرفوا عجزهم، كما عرف قوم عيسى نقصانهم فيما قدروا من بلوغ أقصى الممكن في العلاج، والوصول إلى أعلى مراتب الطب، فجاءهم بما بهرهم: من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وكما أتى موسى بالعصا التى تلقفت ما دققوا (3) فيه من سحرهم، وأتت على ما أجمعوا عليه من أمرهم، وكما سخر لسليمان الريح (4) والطير والجن. حين كانوا يولعون به من فائق الصنعة، وبدائع اللطف (5) . ثم كانت هذه المعجزة / مما يقف عليها (6) الأول والآخر وقوفاً واحداً، ويبقى حكمها إلى يوم القيامة. * * * أنظر وفقك الله لما هديناك إليه، وفكر في الذي دللناك عليه، فالحق منهج واضح، والدين ميزان راجح، والجهل لا يزيد إلا عمى (7) ، ولا يورث إلا ندماً. قال الله عزّ وجلّ: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذينَ يَعْلَمُونَ والذينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنما يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلبَابِ) (8) . وقال: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عِبَادِنَا) (9) . وقال: (يُضَلُّ بِهِ كَثِيرَاً ويَهْدِي بِهِ كَثِيراً) (10) . وعلى حسب ما آتى من الفضل، وأعطى من الكمال والعقل - تقع الهداية والتبيين، فإن الأمور تتم (11) بأسبابها، وتحصل بآلتها، ومن سلبه
/ التوفيق، وحرمة الارشاد (1) والتسديد - (فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق) (2) ، (لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) (3) . فاحمد الله على ما رزقك من الفهم إن فهمت (4) ، (وقل: رب زدنى علما) (5) ، [إن أنت علمت] (6) ، (وَقُلْ: رَبِّ أَعوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَيَاطِينِ وأعوذ بك رب أن يحضرون) (7) . وإن ارتبت فيما بيناه فازدد في تعلم الصنعة، وتقدم في المعرفة، فسيقع بك على الطريق (8) الارشد، وسيقف (9) بك على الوجه الأحمد، فإنك إذا فعلت ذلك أحطت علماً، وتيقنت فهماً. ولا (10) يوسوس إليك الشيطان بأنه قد كان ممن (11) هو أعلم منك بالعربية، وأدرب (12) منك في الفصاحة، أقوام [وأى] أقوام، ورجال [وأى] (13) رجال، فكذبوا وارتابوا، لأن القوم لم يذهبوا عن الإعجاز، ولكن اختلفت أحوالهم، فكانوا بين جاهل وجاحد، وبين / كافر نعمة وحاسد (14) ، وبين ذاهب عن طريق الاستدلال بالمعجزات، وحائد (15) عن النظر في الدلالات، وناقص في باب البحث، ومختل الآلة (16) في وجه الفحص، ومستهين بأمر الأديان، وغاو (17) تحت حبالة الشيطان، ومقذوف بخذلان الرحمن. وأسباب الخذلان والجهالة كثيرة، ودرجات الحرمان مختلفة. وهلاَّ جعلت بإزاء الكفرة، مثل " لبيد بن ربيعة العامري " في حسن
إسلامه، و " كعب بن زهير " في صدق إيمانه، و " حسان بن ثابت " (1) وغيرهم: من الشعراء والخطباء الذين أسلموا؟ على أن الصدر الأول ما فيهم إلا نجم زاهر، أو بحر (2) زاخر. وقد بينا: أن لا اعتصام إلا بهداية الله (3) ، ولا توفيق إلا بنعمة الله. (وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) (4) . فتأمل ما عرفناك في كتابنا، وفرغ له قلبك، وأجمع عليه (5) لبك، / ثم اعتصم بالله يهدك، وتوكل عليه يعنك (6) ويجرك، واسترشده يرشدك، وهو حسبي وحسبك، ونعم الوكيل (7) .
6 - فهرس المراجع (1) الاتقان في علوم القرآن للسيوطي (حجازى 1360 هـ) أخبار أبى تمام للصولي (لجنة التأليف 1356 هـ) أخبار أبى نواس لابن منظور (الجزء الثاني. بغداد) أدب الكاتب لابن قتيبة (الرحمانية 1355 هـ) أساس البلاغة للزمخشري (دار الكتب المصرية 1341 هـ) أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني (المنار) الاصابة في أسماء الصحابة لابن حجر (السعادة 1323 هـ) الاصمعيات (ليبسك 1902 م) الاضداد لابن الانباري (الحسينية 1325 هـ) الاغانى لابي الفرج الاصفهانى (بولاق 1285 هـ) الاقتضاب لابن السيد البطليوسى (الآداب ببيروت 1901 م) أمالى القالى (دار الكتب المصرية 1344 هـ) أمالى المرتضى (السعادة 1325 هـ) إمتاع الاسماع للمقريزى (لجنة التأليف 1941 م) الامتاع والمؤانسة للتوحيدي (لجنة التأليف 1942 م) (ب) البداية والنهاية لابن كثير (السعادة 1351 هـ) البديع لابن المعتز (مصطفى الحلبي 1364 هـ) البصائر والذخائر للتوحيدي (لجنة التأليف 1373 هـ) بغية الوعاة للسيوطي (السعادة 1349 هـ) البيان والتبيين للجاحظ (لجنة التأليف 1369 هـ) (ت) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة (عيسى الحلبي 1373 هـ) تاريخ الاسلام للذهبي (القدسي 167 هـ)
تاريخ الامم والملوك للطبري (الحسينية 1323 هـ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (السعادة 1349 هـ) التاريخ الكبير للبخاري (حيدر آباد) التشبيهات لابن أبى عون (لندن 1952 م) تفسير ابن جرير الطبري (بولاق 1329 هـ) التمهيد للباقلاني (دار الفكر العربي 1366 هـ) تهذيب التهذيب لابن حجر (حيدر آباد 1325 هـ) (ج) الجرح والتعديل لابن أبى حاتم الرازي (حيدر آباد) جمهرة أشعار العرب لابي زيد (بولاق 1308 هـ) جمهرة أنساب العرب لابن حزم (المعارف 1948 م) جمهرة اللغة لابن دريد (حيدر آباد 1351 هـ) (ح) حماسة البحترى (الكاثوليكية ببيروت 1910 م) حماسة ابن الشجرى (حيدر آباد 1345 هـ) الحيوان للجاحظ (مصطفى الحلبي 1364 هـ) (خ) خاصة الخاص للثعالبي (الخانجى 1908 م) خزانة الادب لابن حجة الحموى (الخيرية) خزانة الادب لعبد القادر البغدادي (بولاق 1299 هـ) الخصائص لابن حنى (دار الكتب المصرية) خلاصة تذهيب الكمال للخزرجي (الخيرية 1322 هـ) (د) دلائل الاعجاز لعبد القاهر الجرجاني (المنار 1367 هـ) دلائل النبوة لابي نعيم الاصبهاني (حيدر آباد. أولى)
ديوان الاخطل (بيروت 1891 م) ديوان الاعشى (فينا 1927 م) ديوان الافوه الاودى (ضمن الطرائف الادبية، لجنة التأليف 1937 م) ديوان امرئ القيس (الرحمانية 1930 م) ديوان البحترى (بيروت 1911 م) ديوان أبى تمام (بيروت) ديوان جرير (الصاوى 1353 هـ) ديوان حسان بن ثابت (الرحمانية 1347 هـ) ديوان الحطيئة (التقدم 1325 هـ) ديوان الخنساء (الكاثوليكية ببيروت 1896 م) ديوان ابن الدمينة (القاهرة 1337 هـ) ديوان أبى ذؤيب الهذلى (ضمن شعر الهذليين. دار الكتب المصرية 1369 هـ) ديوان ذى الرمة (كمبردج 1919 م) ديوان ابن الرومي (القاهرة 1917 م) ديوان زهير بشرح الاعلم الشنتمرى ديوان زهير بشرح ثعلب (دار الكتب المصرية 1363 هـ) ديوان سحيم عبد بنى الحسحاس (دار الكتب المصرية 1949 م) ديوان السرى الرفاء (القدسي) ديوان الشماخ (السعادة 1327 هـ) ديوان طرفة بن العبد (فازان 1909 م) ديوان عبيد بن الابرص (ليدن 1913 م) ديوان علقمة الفحل (المحمودية 1343 هـ) ديوان عمر بن أبى ربيعة (التجارية) ديوان الفرزدق (الصاوى 1354 هـ) ديوان كثير عزة (الجزائر 1928 م) ديوان كشاجم (بيروت) ديوان المتنبي بشرح البرقوقى (الرحمانية 1348 هـ) ديوان المعاني لابي هلال العسكري (القدسي 1352 هـ) ديوان ابن المعتز (بيروت 1332 هـ) ديوان النابغة الذبيانى (بيروت 1347 هـ) ديوان أبى نواس (واصف 1293 هـ)
(ذ) الذخائر والاعلاق (القاهرة) ذيل أمالى القالى (دار الكتب المصرية 1344 هـ) (ر) الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري (الخانجى 1357 هـ) (ز) زهر الآداب للحصري (الرحمانية 1925 م) الزهرة لابن أبى داود (س) سر الفصاحة لابن سنان الخفاجى (الرحمانية 1350 م) سنن الدارمي (دمشق) سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزى (المصرية) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزى (المؤيد 1331 هـ) (ش) شرح أدب الكاتب للجواليقى (القدسي 1350 هـ) شرح الحماسة للتبريزي (التجارية 1357 هـ) شرح الحماسة للمرزوقي (لجنة التأليف 1371 هـ) شرح سنن الترمذي للمباركفورى (الهند) شرح شواهد الشافية للبغدادي (حجازى 1359 هـ) شرح شواهد المغنى للسيوطي (البهية 1322 هـ) شرح القصائد العشر للتبريزي (السلفية 1343 هـ) شرح المعلقات للزوزنى (الرافعى) شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد (الحلبي 1329 هـ) الشعر والشعراء لابن قتيبة (عيسى الحلبي 1370 هـ) صلى الله عليه وآله الصاحبى لابن فارس (السلفية 1328 هـ) الصناعتين لابي هلال العسكري (الآستانة 1320 هـ) (ط) طبقات الشافعية للسبكي (الحسينية) طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحى (المعارف 1942 م) الطبقات الكبرى لابن سعد (ليدن 1322 هـ) (ع) عبث الوليد للمعرى (الترقي بدمشق 1355 هـ) العقد الفريد لابن عبد ربه (لجنة التأليف 1359 هـ) العمدة لابن رشيق (التجارية 1343 هـ) عيون الاثر لابن سيد الناس (القدسي 1356 هـ) عيون الاخبار لابن قتيبة (دار الكتب المصرية 1343 هـ) (غ) غرر الخصائص الواضحة للوطواط (الادبية 1318 هـ) (ف) الفائق للزمخشري (عيسى الحلبي 1366 هـ) فتح الباري لابن حجر (بولاق) فهرست ابن النديم (التجارية 1348 هـ) (ك) الكامل للمبرد (مصطفى الحلبي 1356 هـ) الكتاب لسيبويه (بولاق 1317 هـ)
(ل) اللآلى شرح الامالى للبكري (لجنة التأليف 1354 هـ) لسان العرب لابن منظور (بولاق 1308 هـ) (م) المؤتلف والمختلف للآمدي (القدسي 1354 هـ) ما اتفق لفظه واختلف معناه في القرآن الكريم للمبرد (السلفية 1350 هـ) مبادئ اللغة للخطيب الاسكافي (الخانجى 1325 هـ) المجازات النبوية للشريف الرضى (مصطفى الحلبي 1356 هـ) مجمع الامثال للميداني (القاهرة 1352 هـ) مجمع البيان للصبرسى (صيدا 1354 هـ) مختارات ابن الشجرى (الاعتماد 1925 م) مروج الذهب للمسعودي (السعادة 1367 هـ) مصارع العشاق للسراج (الجوائب 1301 هـ) مفردات غريب القرآن للراغب الاصفهانى (الميمنية 1324 هـ) المفضليات (المعارف 1952 م) المعارف لابن قتيبة (القاهرة 1353 هـ) المعاني الكبير لابن قتيبة (حيدر آباد 1368 هـ) معاهد التنصيص للعباسي (السعادة 1367 هـ) معجم الادباء لياقوت (رفاعي 1357 هـ) معجم البلدان لياقوت (الخانجى 1323 هـ) معجم الشعراء للمزربانى (القدسي 1354 هـ) المعمرين لابي حاتم السجستاني (السعادة 1323 هـ) مقالات الاسلاميين لابي الحسن الاشعري (الاول. السعادة 1323 هـ) المنتظم لابن الجوزى (حيدر آباد 1358 هـ) الموازنة بين أبى تمام والبحتري للآمدي (حجازى 1363 هـ) الموشح للمرزباني (السلفية 1343 هـ) ميزان الاعتدال للذهبي (السعادة 1325 هـ) الميسر والقداح لابن قتيبة (السلفية 1343 هـ)
معجم البلدان لياقوت (الخانجى 1323 هـ) معجم الشعراء للمزربانى (القدسي 1354 هـ) المعمرين لابي حاتم السجستاني (السعادة 1323 هـ) مقالات الاسلاميين لابي الحسن الاشعري (الاول. السعادة 1323 هـ) المنتظم لابن الجوزى (حيدر آباد 1358 هـ) الموازنة بين أبى تمام والبحتري للآمدي (حجازى 1363 هـ) الموشح للمرزباني (السلفية 1343 هـ) ميزان الاعتدال للذهبي (السعادة 1325 هـ) الميسر والقداح لابن قتيبة (السلفية 1343 هـ)
نثار الازهار لابن منظور (الجوائب) نزهة الالبا في طبقات الادبا لابن الانباري (حجر 1294 هـ) نظام الغريب للربعي (أمين هندية) النقائض بين جرير والفرزدق (ليدن 1905 م) نقد الشعر لقدامة بن جعفر (الجوائب 1302 هـ) النكت في إعجاز القرآن للرماني (دهلى 1934 م) نهاية الايجاز في دراية الاعجاز للفخر الرازي (الآداب والمؤيد) نهج البلاغة جمع الشريف الرضى (الاستقامة) نوادر أبى زيد (بيروت 1894 م) نوادر القالى (دار الكتب المصرية 1344 هـ) (ى) يتيمة الدهر للثعالبي (حجازى) 381