إصلاح المساجد من البدع والعوائد

القاسمي، جمال الدين

المقدمات

المقدمات مقدمة الناشر ... باب: المقدمات بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الناشر: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فهذه الطبعة الثانية من "إصلاح المساجد" لعلامة الشام الشيخ محمد جمال الدين القاسمي عليه رحمة الله، نقدمها للقارئ المسلم منهاجًا نيرًا لما يجب أن تكون عليه مساجد المسلمين وأحوالهم في عبادتهم. وقد حافظنا على مقدمة الطبعة الأولى للأستاذ الكبير محب الدين الخطيب عليه رحمة الله. كما أضفنا إليها تخريجًا لأحاديثها وتعليقًا على بعض مواطن الإشكال فيها لمحدث الشام الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -جزاه الله خيرًا.

وإننا نقدم الشكر الجزيل للصديق الكريم الأستاذ ظافر القاسمي الذي سهل لنا طبع هذه الرسالة، كما يسر طبع الكثير من كتب والده، وإنه في عمله هذا يحيي ذكرى والده مصدقًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". وإنا لنرجو أن ينفع الله بهذه الطبعة كما نفع بسابقتها وبجميع كتب هذا الإمام الجليل، إنه سميع مجيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. بيروت 5/ 2/ 1390 زهير الشاويش

مقدمة الطبعة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الأولى: الحمد لله رب العالمين، وسلام على عباده الصالحين المصلحين وبعد؛ فإن رجال الإصلاح في الدنيا هم مصابيحها الذين تسطع أشعة حكمتهم في ديجور ظلمتها؛ فتتأذى بنور الإصلاح عيون طالما استأنست بالظلام، وتتنكر له نفوس ذاقت لذة الاستفادة من غفلة جماهير العوام. فلا يزال مصباح الإصلاح جادًّا في الظهور والاستعلاء، وأعداء الإصلاح دائبين على مقاوته في الجلاء والخفاء حتى يتم الله نوره. وإذا أتم الله نوره على عباده الصالحين بإشاعة مذهبهم الصالح فكثر سواد التابعين له يقف الشيطان أمام قلعة منهم رصينة الأركان، متينة البنيان؛ حتى إذا عجز عن فتحها من الخارج تذرع إلى فتحها من الداخل بتلبيسه الحق بالباطل على أهلها، وتسويله لهم أن يبتدعوا في الدين ما ليس منه، وأن يدخلوا عليه ما ليس فيه، إكمالًا له بزعمهم، ومبالغة في التمسك به. وإن مثل الدين في ذلك كمثل ينبوع الماء يتفجر من سفح الجبل عذبًا زلالًا، فلا يجتاز في مجراه بقاع الأرض من أفق إلى أفق حتى تكدره الأيدي فتمس الحاجة إلى إزالة ما زاد فيه من أوضار وأقذار وكانت به تزال الأوضار والأقذار. لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري هنالك تتجدد الحاجة إلى المصلحين فتتألق مصابيحهم في الأمم التي يريد الله بها خيرًا؛ ولعل ذلك من معاني قول الرسول الأكرم والمصلح الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: "يبعث الله على رأس كل مائة من يجدد لهذه

الأمة أمر دينها" 1. ولعل الانحلال الشنيع الذي منينا به في ديننا وسجايانا وقوميتنا وسائر مقومات حياتنا هذه والحياة الخالدة هو الذي دعا إلى ظهور عدد غير قليل من المصلحين في أكثر الأقطار الإسلامية والعربية لعهدنا هذا، فصاحوا في الأمة صيحتهم يدعونها للرجوع بالإسلام إلى ما كان عليه في الصدر الأول من حالته الفطرية التي تشبه ماء الينابيع عذوبة وصفاء، كما دعوها إلى التسلح بمعارف أوروبا وصناعاتها وأنظمتها ووسائل عمرانها؛ لأن ذلك من معدات القوة التي لا غنى لأمة عنها في معترك الحياة الحاضرة. والسيد جمال الدين القاسمي رحمه الله مصباح من مصابيح الإصلاح الإسلامي التي ارتفعت فوق دياجير حياتنا الحاضر المظلمة -في الثلث الأول من القرن الهجري الرابع عشر- فنفع الله الناس بعلمه وعمله ما شاء أن ينفعهم، ثم انتقل إلى رحمة الله ورضوانه تاركًا من آثاره العلمية المطبوعة ما لا تكاد تخلو منه مكتبة قائل بالإصلاح في العالم الإسلامي. وها نحن نتقدم اليوم إلى أهل الفضل بكتاب من أجل كتبه شأنًا وأجزلها نفعًا وهو كتاب "إصلاح المساجد من البدع والعوائد" ونظنه الكتاب الوحيد المعروف بالعربية في هذا الموضوع. وأملنا في الله وطيد أن ينفع به المسلمين من أهل هذا الجيل وفي كل جيل، والله الموفق القاهرة: غرة رمضان 1341 محب الدين الخطيب

_ 1 حديث صحيح، خرجته في سلسلة "الأحاديث الصحيحة" رقم "601".

مقدمة الكتاب

مقدمة الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أمر بالدعوة إلى سبيله، وجعل الخير والفضل في قبيله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين. أما بعد؛ فلما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، والمهم الذي ابتعث الله له النبيين، وجب على كل مستطيع له، أن يقتحم لوجه الله سبله، خشية أن تعم البدعة وتفشو الضلالة، ويتسع الخرق وتشيع الجهالة، فتموت السنة ويندرس الهدي النبوي، ويمحى من الوجود معالم الصراط السوي، ولما أضحت البدع الفواشي، كالسحب الغواشي، يتعذر على البصير حصرها، وضبط أفرادها وسبرها، رأيت أن أدل بجزئي منها على كلياتها، وبنبذة منها على بقياتها، وذلك في البدع والعوائد، الفاشية في كثير من المساجد؛ لأني ابتليت كآبائي بإمامة بعض الجوامع في دمشق الشام، وبالقيام بالتدريس العام، فكنت أرى من أهم الواجبات إعلام الناس بما ألم بها من البدع والمنكرات، فإن القيم مسئول عن إصلاح من في معيته، وفي الحديث: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" 1 فاستعنت بالله تعالى في الشروع، وتوكلت عليه في

_ 1 صحيح متفق عليه من حديث ابن عمر، وهو مخرج في "تخريج الحلال والحرام" رقم 267.

إتمام هذا الموضوع، ونقبت لأجله من شوارد الأسفار، وضممت إليه ما يروي البصائر والأبصار، وعزوت غالب فروعه لأصلها، ردًّا للأمانات إلى أهلها؛ تطمينًا للمرتابين، وتثبيتًا للمؤمنين، فجاء فريدًا في بابه، أمنية لطلابه ولم أجد من سبقني إليه، فاعرّج بالاحتذار عليه بل كان ترتيبه مخترعًا، وتقسيمه مبتدعًا وذلك من فضل الله علي، ومننه التي لا أحصي ثناءها لدي وبه المستعان، وعليه التكلان، في كل آن.

مقدمات

مقدمات: 1- بيان الميزان الذي يعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه: قال الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونْ} وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وهذا الصراط المستقيم الذي وصانا باتباعه هو الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو قصد السبيل، وما خرج عنه فهو من السبل الجائرة. لكن الجور قد يكون جورًا عظيمًا عن الصراط وقد يكون يسيرًا، وبين ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله. فالميزان الذي يعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه هو ما كان رسول الله صلوات الله عليه وأصحابه عليه. والجائر عنه إما مفرط ظالم أو مجتهد أو متأول أو مقلد أو جاهل، فمنهم المستحق للعقوبة، ومنهم المغفور له، ومنهم المأجور أجرًا واحدًا، بحسب نياتهم ومقاصدهم واجتهادهم

في طاعة الله تعالى ورسوله أو تفريطهم. وبالجملة فمن اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله أو فعله فهو على صراط الله المستقيم، وهو ممن يحبه الله ويغفر له ذنوبه. ومن خالفه في قوله أو فعله فهو مبتدع، متبع لسبيل الشيطان، غير داخل فيمن وعد الله بالمحبة والمغفرة والإحسان. "أفاده شمس الدين ابن القيم في الباب الثالث عشر في مكايد الشيطان من "إغاثة اللهفان". 2- الترهيب من الابتداع: لا يخفى أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم حذروا قومهم من البدع ومحدثات الأمور، وامروهم بالاتباع الذي فيه النجاة من كل محذور. وجاء في كتاب الله تعالى من الأمر بالاتباع بما لا يرتفع معه الترك، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} الآية، وهذا نص فيما نحن فيه. وقد روينا عن أبي الحجاج بن جبير المكي1 -وهو من كبار التابعين وإمام المفسرين- في قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل} قال: البدع والشبهات. وقال عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} قال ميمون بن مهران -وهو من فقهاء التابعين- الرد إلى الله الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله إذا قبض إلى سنته. وفي "صحيح مسلم" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله عز وجل في أمة قبلي إلا كان له من

_ 1 هو الإمام سعيد بن جبير.

أمته حواريون أصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره -وفي رواية: يهتدون بهديه، ويستنون بسنته- ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". وفيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: "خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" زاد البيهقي: "وكل ضلالة في النار" 1. وفي "الصحيحين" و"سنن أبي داود" عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية "من صنع أمرًا على غير أمرنا فهو رد"2 أي مردود على فاعله. وأخرج "الدارمي" أن أبا موسى الأشعري قال لابن مسعود: إني رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مائة فيكبرون مائة فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة فيقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة. قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء. ثم أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد. قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء. ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر. والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد؛ أو مفتتحو باب ضلالة! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد

_ 1 وأخرجها النسائي أيضًا، وإسناده صحيح. انظر رسالتي "الأجوبة النافعة" "ص47" و"الإرواء" 608 طبع المكتب الإسلامي. 2 متفق عليه من حديث عائشة باللفظ الأول، وهو مخرج في "تخريج الحلال والحرام" رقم 5.

للخير لن يصيبه ... الحديث1. وروى "الدارمي" أيضًا عن عبد الله قال: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم2. وعنه قال: القصد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة. وعنه قال: تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله. ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع، وعليكم بالعتيق. وعنه قال: أيها الناس، إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول. وعن عمر قال: يهدم الإسلام زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين. وعنه قال: سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله تعالى. وعن ابن عباس قال: عليك بتقوى الله تعالى والاستقامة. اتبع ولا تبتدع. وعنه أن أبغض الأمور إلى الله تعالى البدع، وأن من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور3. وفي سنن أبي داود عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: كل عبادة لا يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها، فإن الأول لم يدع للآخر مقالا. فاتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم4. وفي كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: أوصيكم بتقوى الله

_ 1 وإسناده صحيح، كما حققته في "الرد على الشيخ الحبشي" "ص45-47". 2 إسناده صحيح. 3 أغلب هذه الآثار، ضعيفة الأسانيد، والمؤلف رحمه الله نقلها عن أبي شامة عن "الدارمي" كما يأتي. 4 لم أره في "السنن"، وقد عزاه إليه غير المصنف أيضًا. وأظنه تابعًا لهم فيه. والله أعلم.

تعالى والاقتصاد في أمره واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك ما أحدث المحدثون بعد. وعن محمد بن مسلم من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام. قال أبو معشر: سألت إبراهيم بن موسى عن هذه الأهواء فقال: ما جعل الله في شيء منها مثقال ذرة من خير، ما هي إلا نزعة من الشيطان، عليك بالأمر الأول. وسأل عبد الملك بن مروان "غضيف بن الحارث" عن القصص ورفع الأيدي على المنابر فقال غضيف: إنهما لمن أمثل ما أحدثتم، وإني لا أجيبك إليهما لأني حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أمة تحدث في دينها بدعة إلا أضاعت مثلها في السنة". والتمسك بالسنة أحب إلي من أن أحدث بدعة1. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة2. أخرج هذه الآثار "الدارمي" في مسنده ونقلها عنه الإمام "أبو شامة" الدمشقي كتاب "الباعث عن إنكار البدع والحوادث". 3- معنى البدعة: أصل هذه الكلمة من الاختراع، وهو الشيء يحدث من غير أصل سبق، ولا مثال احتذي ولا ألف مثله. ومنه قولهم: أبدع الله الخلق أي خلقهم ابتداء ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} وقوله: {قُلْ

_ 1 ضعيف الإسناد. 2 صحيح الإسناد.

مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُل} أي لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض. وهذا الاسم يدخل فيما تخترعه القلوب، وفيما تنطق به الألسنة، وفيما تفعله الجوارح. ثم غلب لفظ "البدعة" على الحدث المكروه في الدين، ومثله لفظ المبتدع لا يكاد يستعمل إلا في الذم. وأما من حيث أصل الاشتقاق فإنه يقال ذلك في المدح والذم لأن المراد أنه شيء مخترع على غير مثال سبق. وقال الجوهري: "البديع المبتدع، والبدعة الحدث في الدين بعد الإكمال". ا. هـ. وهو كل ما لم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم مما فعله أو أقر عليه أو عُلم من قواعد شريعته الإذن فيه وعدم النكير عليه. وفي معنى ذلك ما كان في عصر الصحابة رضي الله عنهم، مما أجمعوا عليه قولًا أو فعلًا أو تقريرًا. وكذلك ما اختلفوا فيه فإن اختلافهم رحمة1 مهما كان للاجتهاد والتردد مساغ وليس لغيرهم إلا الاتباع دون الابتداع. وما أحسن ما قاله إبراهيم النخعي رحمة الله عليه: "ما أعطاكم الله خيرًا أُخبئ عنهم، وهم أصحاب رسوله وخيرته من خلقه" فأشار بذلك إلى ترك الغلو في الدين وإلى الاقتداء بالسلف الصالح. وقد قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} فكل من فعل أمرًا موهمًا أنه مشروع وليس كذلك فهو غالٍ في دينه، مبتدع فيه، قائل على الله غير الحق بلسان مقاله أو لسان حاله. وروي أن رجلا قال لمالك بن أنس: من أين أحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الرجل. فإن احرمت من أبعد منه؟ قال: فلا تفعل، فإني أخاف عليك الفتنة. قال: وأي فتنة في ازدياد

_ 1 قلت: ما كان الاختلاف برحمة يومًا ما ولن يكون، وحسبه أن يكون مغفورًا إذا كان عن اجتهاد وإخلاص، وحديث "اختلاف أمتي رحمة" وما في معناه، لا يصح رواية ولا دراية، كما حققته في "الأحاديث الضعيفة" "رقم 57-62".

الخير؟ فقال مالك: فإن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه} الآية، وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك خصصت بفضل لم يخص به رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى من "الباعث لأبي شامة". 4- انقسام البدعة إلى حسنة وسيئة: تنقسم المحدثات إلى بدع مستحسنة وإلى بدع مستقبحة. قال حرملة: سمعت "الشافعي" يقول: "البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة. فما وافق السنة فهو محمود. وما خالف السنة فهو مذموم" واحتج بقول عمر رضي الله عنه في التراويح: "نعمت البدعة"1. يعني أنها محدثة لم تكن وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى2، وإنما كان كذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على قيام شهر رمضان، وفعله صلى الله عليه وسلم في المسجد، واقتدى به بعض

_ 1 قلت: هذا الكلام ليس دقيقًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى التروايح جماعة كما يأتي من المؤلف، بل وحض عليها بقوله: "إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة" أخرجه أصحاب السنن وغيرهم بسند صحيح، وقد خرجته في رسالتي "صلاة التراويح" "ص17"، فكيف توصف صلاة التراويح جماعة بأنها محدثة لم تكن! فاللهم غفرا، والحق أن عمر رضي الله عنه لم يعن بقوله: "نعمت البدعة هذه" البدعة الشرعية فإنها كلها ضلالة. وإنما أراد البدعة اللغوية، وهو الأمر الجديد الذي لم يكن، ولا شك أن الجماعة في صلاة التراويح وراء إمام واحد، لم يكن معروفًا في عهد عمر ولا في عهد أبي بكر رضي الله عنهما، فبهذا الاعتبار سماه بدعة، ووصفها بالحسن لقيام الدليل الشرعي على حسنها، هذه كلمة عاجلة، والمسألة تتطلب الإفاضة، والمجال ضيق، فمن شاء البسط فليراجع رسالتنا الآنفة للذكر، أو "الاعتصام" للإمام الشاطبي "ناصر الدين". 2 أخرجه البخاري في حديث إحياء عمر رضي الله عنه لسنة التجميع في صلاة التراويح. وقد سقته مخرجًا في رسالتي "صلاة التروايح" "47، 48".

الصحابة ليلة بعد أخرى، ثم ترك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك خشية أن يفرض عليهم. فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم أُمن ذلك فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على فعل قيام رمضان في المسجد جماعة لما فيه من إحياء ما أمر به الشارع وفعله وحث عليه ورغب فيه. فالبدع الحسنة المتفق على جواز فعلها والاستحباب لها ورجاء الثواب لمن حسنت نيته فيها هي كل مبتدع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء فيها ولا يلزم من فعله محذور شرعي، وذلك نحو بناء المنائر والمدارس وخانات السبل وغير ذلك من الأنواع التي لم تعهد في الصدر الأول، فإنه موافق لما جاءت به الشريعة من اصطناع المعروف والمعاونة على البر والتقوى "انتهى من الباعث". 5- رد البدعة في الدين: لا يخفى أن مدار العبادات إنما هو على المأثور في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة مع الإخلاص في القلب وصحة التوجه إلى الله تعالى. ولكل مسلم الحق في إنكار كل عبادة لم ترد في الكتاب والسنة في ذاتها أو صورتها، فقد أخبرنا الله تعالى في كتابه بأنه أكمل لنا ديننا وأتم علينا به نعمته، فكل من يزيد فيه شيئًا فهو مردود عليه لأنه مخالف للآية الشريفة وللحديث الصحيح "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 1. وكل البدع التي منها حسن ومنها سيئ فهي الاختراعات المتعلقة بأمور المعاش ووسائله ومقاصده وهي المراد بحديث "من سن سنة حسنة فله أجرها

_ 1 صحيح قد مضى "ص9".

وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" ولولا ذلك لكان لنا أن نزيد في ركعات الصلاة أو سجداتها "حققه بعض الفضلاء" والله أعلم. 6- بغض المبتدع: اعلم أن كل من يحب في الله لا بد أن يبغض في الله فإنك إن أحببت إنسانًا لأنه مطيع لله ومحبوب عند الله فإن عصاه فلا بد أن تبغضه لأنه عاص لله وممقوت عند الله، ومن أحب بسبب فبالضرورة يبغض لضده، وهذان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وهو مطرد في الحب والبغض في العادات ولكن كل واحد من الحب والبغض داء دفين في القلب، وإنما يترشح عند الغلبة، ويترشح بظهور أفعال المحبين والمبغضين في المقاربة والمباعدة، وفي المخالفة والموافقة. فإذا ظهر في الفعل شيء سمي موالاة ومعاداة، ولذلك قال الله تعالى: "هل واليت في وليًّا وهل عاديت في عدوًّا"1 وأثر البغض إما في الإعراض والتباعد وقلة الالتفات، أو في الاستخفاف وتغليظ القول، أو في قطع المعونة والرفق والنصرة. ومن الذين يُبغَضون في الله المبتدع، فإن كان يدعو إلى بدعته وهي ضلالة سبب لغواية الخلق فالاستحباب إظهار بغضه ومعاداته والانقطاع عنه وتحقيره والتشنيع عليه ببدعته وتنفير الناس عنه. وإن كان عاميا لا يقدر على الدعوة ولا يخاف الاقتداء به فأمره أهون فالأولى أن لا يفاتح بالتغليظ والإهانة بل يتلطف به بالنصح، فإن قلوب العوام سريعة التقلب، فإن لم ينفع النصح وكان في الإعراض عنه تقبيح لبدعته في عينه تأكد الاستحباب في الإعراض، وإن علم أن ذلك لا يؤثر فيه لجمود طبعه ورسوخ عقده

_ 1 حديث قدسي. قلت: لا أعرفه في شيء من كتب السنة المعتمدة.

في قلبه فالإعراض أولى؛ لأن البدعة إذا لم يبالغ في تقبيحها شاعت بين الخلق وعم فسادها "انتهى من الإحياء للإمام الغزالي". 7- وعيد من سنَّ سُنَّة سيئة: أخرج مسلم وغيره عن جرير رضي الله عنه في حديث وفد مصر والحث على إكرامهم قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". 8- إنكار المنكرات المحظورة والمكروهة: كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ينكرون أشد الإنكار على من أحدث أمرًا أو ابتدع رسمًا لم يعهدوه قل أو كثر، صغر ذلك أو كبر، كان ذلك في المعاملة أو في العبادة أو في الذكر. والمنكرات تنقسم إلى مكروهة وإلى محظورة، فالمنكر المكروه يستحب المنع ويكره السكوت عليه ولا يحرم إلا إذا لم يعلم الفاعل أنه مكروه، فيجب ذكره له لأن الكراهة حكم في الشرع يجب تبليغه إلى من لا يعرفه، أما المنكر المحظور فالسكوت عليه مع القدرة محظور "انتهى من الإحياء للغزالي".

9- مفاسد الإقرار على البدع: من الغيرة لله ولرسوله ولدينه تعطيل ما ألصق بالدين وليس منه وهجره وإطراحه واستقباحه وتنفير الناس عنه. إذا يلزم من الموافقة عليه مفاسد: الأولى: اعتماد العوام على صحته أو حسنه. الثانية: إضلال الناس به وإعانة لهم على الباطل وإغراء به. الثالثة: في فعل العالم ذلك تسبب إلى أن تكذب العامة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: هذه سنة من السنن. والتسبب إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز لأنه يورط العامة في عهدة قوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" 1. الرابعة: أن الرجل العالم المقتدى به والمرموق بعين الصلاح إذا فعلها كان موهمًا أنها من السنن فيكون كاذبًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان الحال، ولسان الحال قد يقوم مقام لسان المقال، وأكثر ما أُتي الناس في البدع بهذا السبب، يظن في شخص أنه من أهل العلم والتقوى وليس هو في نفس الأمر كذلك فيرمقون أقواله وأفعاله فيتبعونه في ذلك فتفسد أمورهم. وفي الحديث عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن مما أتخوف على أمتي أئمة مضلين" أخرجه ابن ماجه والترمذي وصححه. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخد الناس رءوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" 2. قال الإمام الطرطوشي فتدبروا هذا الحديث

_ 1 حديث صحيح متواتر. وللطبراني فيه جزء لطيف، جمع فيه طرقه، وهو محفوظ في مخطوطات ظاهرية دمشق. 2 أخرجه الشيخان، والمصنف ساقه بالمعنى، فإنه مغاير لسياقهما في بعض الألفاظ.

فإنه يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم وإنما يؤتون من قبل إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم فيؤتى الناس من قبلهم. قال: وقد صرف عمر رضي الله عنه هذا المعنى تصريفًا فقال: ما خان أمين قط، ولكنه ائتمن غير أمين فخان" قال ونحن نقول: ما ابتدع عالم قط ولكنه استفتي من ليس بعالم فضل وأضل وكذلك فعل ربيعة قال مالك رحمه الله تعالى: بكى ربيعة يومًا بكاء شديدًا فقيل له: أمصيبة نزلت بك؟ قال: لا ولكن استفتي من لا علم عنده، وظهر في الإسلام أمر عظيم. "انتهى من الباعث لأبي شامة". 10- ما يجب على العالم فيما يرد عليه مما يأمن فيه من الابتداع: لا يخفى أن السلف الصالح بلغوا إلينا هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، وشرحوا لنا سيرته وطريقته، وميزوا ما نقل عنه مما يجب الرجوع إليه من ذلك وما يطرح كما دون في كتب السنة. فالواجب على العالم فيما يرد عليه من الوقائع، وما يسأل عنه من الشرائع، الرجوع إلى ما دل عليه كتاب الله المنزل، وما صح عن نبيه المرسل، وما كان عليه الصحابة ومن بعدهم من الصدر الأول، فما وافق ذلك أذن فيه وأمر، وما خالفه نهى عنه وزجر، فيكون بذلك قد آمن واتبع، ولا يستحسن، فإن من استحسن فقد شرع. قال أبو العباس أحمد بن يحيى: كان عبد الله بن الحسن يكثر الجلوس إلى ربيعة فتذاكروا يومًا السنن فقال رجل كان في المجلس: ليس العمل على هذا، فقال عبد الله: "أرأيت أن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام فهم الحجة على السنة" فقال ربيعة: أشهد أن هذا لكلام أبناء الأنبياء. "انتهى من الباعث لأبي شامة".

11- اجتناب العالم ما يتورط بسببه العامة: هذا باب من أبواب الدين موضوعة إصلاح المعتقدات في العبادات، وتنبيه العامة على حكم ما ألفوه من العادات. وقد سبق للعمل بهذا الباب علماء الصحابة وساسة الخلفاء الراشدين، ورأوه من المراشد الصالحة، والمناهج السامية؛ ثم نبه عليه حكماء العلماء. قال الإمام أبو شامة في كتاب "الباعث": لا ينبغي للعالم أن يفعل ما يتورط العوام بسبب فعله في اعتقاد أمر على مخالفة الشرع. وقد امتنع جماعة من الصحابة من فعل أشياء إما واجبة وإما مؤكدة خوفا من ظن العامة خلاف ما هي عليه: قال الشافعي رحمة الله تعالى عليه: وقد بلغنا أن أبا بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان كراهية أن يقتدى بهما فيظن من رآهما أنها واجبة. وعن ابن عباس أنه جلس مع أصحابه ثم أرسل بدرهمين فقال: اشتروا بهما لحمًا ثم قال: هذه أضحية ابن عباس. قال الشافعي: وقد كان قلما يمر به يوم إلا نحر فيه أو ذبح بمكة قال: وإنما أراد بذلك مثل الذي روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وعن أبي مسعود الأنصاري قال: "إني لأترك أن أضحي كراهية أن يرى جيراني وأهلي أنه علي حتم". أخرجهن الحافظ البيهقي في "كتاب المعرفة"1. قال أبو بكر الطرطوشي: انظروا رحمكم الله فإن لأهل الإسلام قولين في الأضحية، أحدهما: سنة، والثاني: واجبة، ثم اقتحمت الصحابة ترك السنة حذرًا من أن يضع الناس الأمر على غير وجهه فيعتقدوها فريضة.

_ 1 قلت: وأخرجها أيضًا في "السنن الكبرى" "9: 265"، وأسانيدها صحيحة عنهم، وقد صح الأمر بالأضحية في "الصحيحين" وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل ثبت عنه أنه قال: "من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا"، فلعلهم لم يبلغهم ذلك أو بلغهم، ولكنهم تأولوا الأمر على الاستحباب، ولكن الحديث الأخير لا يساعد على ذلك فتأمل.

قال: ومن ذلك قصة عثمان بن عفان رضي الله عنه وذلك أنه كان يسافر فيتم في السفر فيقال له: "أليس قصرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال: "بلى. ولكني إمام الناس، فينظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين فيقولون: هكذا فرضت"1 قال الطرطوشي رحمه الله تعالى: تأملوا رحمكم الله تعالى فإن في القصر قولين لأهل الإسلام، منهم من يقول: فريضة ومنهم من يقول: سنة، ثم اقتحم عثمان رضي الله عنه ترك الفرض أو السنة لما خاف من سوء العاقبة وأن يعتقد الناس أن الفرض ركعتان. قال: وكان عمر ينهى الإماء عن لبس الإزار وقال: "لا تشبهن بالحرائر"2 وقال لابنه عبد الله: "ألم أخبر أن جاريتك لبست الإزار لو لقيتها لأوجعتها ضربا" قال الطرطوشي: ومعلوم أن هذه سترة، ولكن فهموا أن مقصود الشرع المحافظة على حدوده، وأن لا يظن الناس أن الحرة والأمة في السترة سواء فتموت سنة وتحيي بدعة. ثم قال "أبو شامة": ونظير ما حكي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في الأضحية ما أخرجه "البيهقي في كتاب السنن"3 عن عبد الرحمن بن أبزى أن أبا بكر وعمر كانا يمشيان أمام الجنازة وكان علي يمشي خلفها، فقيل لعلي رضي الله عنه: كانا يمشيان أمامها فقال: "إنهما يعلمان أن المشي خلفها أفضل من المشي أمامها كفضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته فذًّا ولكنهما يسهلان للناس".

_ 1 قلت: لم يصح عن عثمان، وقد كان الأعراب يصلون وراء النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فكان إمامهم، ومع ذلك فلم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أتم. 2 أخرجه البيهقي "2: 226" وفيه أحمد بن عبد الحميد، ولم أجد له ترجمة، لكن قال البيهقي عقبه: "والآثار عن عمر بن الخطاب في ذلك صحيحة" وراجع "المحلى" لابن حزم. 3 "ج4: 25" وفيه زائدة وهو ابن خراس، وقيل: ابن أوس بن خراس الكندي، كما قال البيهقي وسكت عنه، وكذا ابن أبي حاتم في "الجرح" "1-2-612" فلم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً.

وقد أنكر عمر على طلحة رضي الله عنهما فعلا يغتر بظاهره الجهال فيحملونه على غير وجهه ففي الموطأ1 عن نافع أنه سمع أسلم يحدث أن عمر رأى على طلحة ثوبًا مصبوغًا وهو محرم فقال: ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة؟ فقال طلحة: يا أمير المؤمنين إنما هو مدر2. فقال عمر: إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم، فلو أن رجلًا جاهلًا رأى هذا الثوب لقال: إن طلحة قد كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام، فلا تلبسوا أيها الرهط شيئًا من هذه الثياب المصبغة. ا. هـ. وقال الإمام الغزالي في "الإحياء" في باب السماع: يمنع التشبه بأهل الفسق لأن من تشبه بقوم فهو منهم، وبهذه العلة نقول بترك السنة مهما صارت شعارًا لأهل البدعة خوفًا من التشبه بهم3 ثم قال: لهذا ينهى عن لبس القباء وترك الشعر على الرأس قزعًا في بلاد صار القباء من لبس أهل الفساد فيها. وقال الشهاب ابن حجر في فتاويه الحديثية: ما يفعله كثير عند ذكر مولده صلى الله عليه وسلم ووضع أمه له من القيام بدعة لم يرد فيها شيء. قال: على أن الناس إنما يفعلون ذلك تعظيمًا له صلى الله عليه وسلم. فالعوام معذورون بذلك بخلاف الخواص فلا ينبغي لهم فعله. ا. هـ. وقال البدر العيني في "شرح البخاري" في باب المساجد التي على طريق المدينة. ينبغي للعالم إذا رأى الناس يلتزمون بالنوافل التزامًا شديدًا أن يترخص

_ 1 وعنه أخرجه البيهقي "5-60"، وإسناده صحيح. 2 أي مصبوغ به وهو الطين العلك الذي لا يخالطه شيء من رمل. 3 قلت: ليس هذا من التشبه بهم في شيء، بل هو تشبه بمن سن السنة وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذ بها بعض الفساق، فليس ذلك بالذي يمنع من استمرار الحكم السابق، وهو التشبه به صلى الله عليه وسلم، والتشبه الممنوع إنما هو التشبه بالفساق الكفار فيما هو من مميزاتهم، ألست ترى أنه صلى الله عليه وسلم لبس جبة رومية كما في "الصحيحين" من حديث المغيرة بن شعبة، فإذا كان هذا ليس تشبهًا بالروم، فبالأولى ليس تشبهًا بالفساق إذا لبسوا ما لبسه النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا بين لا يخفى إن شاء الله تعالى. "ناصر الدين".

فيها في بعض المرات ويتركها ليعلم بفعله ذلك أنها غير واجبة، كما فعل ابن عباس في ترك الأضحية. ا. هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في فتواه أن ليس للجمعة راتبة قبلية ما نصه: الأذان الذي على المنائر لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عثمان أمر به لما كثر الناس ولم يكن يبلغهم الأذان حين خروج الإمام وقعوده على المنبر. ويتوجه أن يقال هذا الأذان الثالث لما سنه عثمان واتفق عليه المسلمون صار أذانًا شرعيًّا وحينئذ فتكون الصلاة بينه وبين الأذان الثاني جائزة حسنة1 وليست سنة راتبة كالصلاة قبل المغرب. وحينئذ فمن فعل ذلك لم ينكر عليه ومن ترك ذلك لم ينكر عليه، وهذا أعدل الأقوال وكلام الإمام أحمد عليه. وحينئذ فقد يكون تركها أفضل إذا كان الجهال يعتقدون أن هذه سنة راتبة أو واجبة فتترك حتى يعرف الناس أنها ليست سنة راتبة ولا واجبة، لا سيما إذا داوم الناس عليها فينبغي تركها أحيانا حتى لا تشبه الفرض كما استحب أكثر العلماء "يعني المالكية والحنفية والحنابلة" أن لا يداوم على قراءة السجدة يوم الجمعة مع أنه قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها؛ فإذا كان يكره المداومة على ذلك فترك المداومة على ما لم يسنه صلى الله عليه وسلم أولى، وإن صلاها الرجل بين الأذانين أحيانا لأنها تطوع مطلق أو صلاة بين أذانين كما يصلى قبل العصر والعشاء لا لأنها سنة راتبة فهذا جائز، وإذا كان رجل مع قوم يصلونها فإن كان مطاعًا إذا تركها وبين لهم السنة لم ينكروا عليه بل عرفوا السنة فتركها حسن وإن لم يكن مطاعًا ورأى أن في صلاتها تأليفًا لقلوبهم إلى ما هو أنفع أو دفعًا للخصام والشر لعدم التمكن من بيان الحق لهم وقبولهم له ونحو ذلك فهذا أيضًا حسن. فالعمل الواحد يكون مستحبًّا فعله تارة وتركه تارة باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه بحسب الأدلة الشرعية، والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحة، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء

_ 1 قلت: فيه نظر بينته في رسالتي "الأجوبة النافعة" 21/ 33. "ناصر الدين".

البيت على قواعد إبراهيم، وقال لعائشة: "لولا أن قومك حديثو العهد بجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه" والحديث في الصحيحين. فترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الذي كان عنده أفضل الأمرين للمعارض الراجح وهو حدثان عهد قريش بالإسلام لما في ذلك من التنفير لهم فكانت المفسدة راجحة على المصلحة ولذلك استحب الأئمة أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف المأمومين، مثل أن يكون عنده فصل القنوت1 فضل بأن يسلم في الشفع ثم يصلي ركعة الوتر وهو يؤم قومًا لا يرون إلا وصل الوتر، فإذا لم يمكنه أن ينقلهم إلى الأفضل كانت المصلحة الحاصلة بموافقته لهم بوصل الوتر أرجح من مصلحة فصله مع كراهتهم للصلاة خلفه. وكذلك لو كان ممن يرى المخافتة بالبسملة أفضل أو الجهر بها وكان المأمون على خلاف رأيه ففعل المفضول عنده لمصلحة الموافقة والتأليف التي هي راجحة على مصلحة تلك الفضيلة كان هذا جائزًا حسنًا. وكذلك لو فعل خلاف الأفضل لأجل بيان السنة وتعليمها لمن لم يعلمها كان حسنًا مثل أن يجهر بالاستفتاح أو التعوذ أو البسملة ليعرف الناس أن فعل ذلك حسن مشروع في الصلاة كما ثبت في الصحيح2 "أن عمر بن الخطاب جهر بالاستفتاح فكان يكبر ويقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. قال الأسود بن يزيد: صليت خلف عمر أكثر من سبعين صلاة فكان يكبر ثم يقول ذلك. رواه مسلم في صحيحه3

_ 1 كذا ولعل الأصل: الوتر. 2 يعني "صحيح مسلم"، وإسناده منقطع، لكن قد صح موصولا عند غيره كما حققته في "إرواء الغليل" رقم "340" يسر الله طبعه. 3 هذا العزو خطأ، تابعه عليه صاحب "منار السبيل"، فلم يخرجه مسلم من طريق الأسود بن يزيد، وإنما أخرجه "2: 12" عن عبدة أن عمر ... وهذا منقطع كما تقدم، وإنما أخرجه عن الأسود ابن أبي شيبة وغيره نحوه. كما خرجته في المصدر السابق.

ولهذا شاع الاستفتاح حتى عمل به أكثر الناس. وكذلك ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يجهران بالاستعاذة، وكان غير واحد من الصحابة يجهر بالبسملة، وهذا عند الأئمة الجمهور الذين لا يرون الجهر بها سنة راتبة كان لتعليم الناس أن قراءتها في الصلاة سنة، كما ثبت في الصحيح: "أن ابن عباس صلى على جنازة فقرأ بأم القرآن جهرًا" وذكر أنه فعل ذلك ليعلم الناس أنها سنة. وذلك أن الناس في صلاة الجنازة على قولين: منهم من لا يرى فيها قراءة بحال كما قاله كثير من السلف وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، ومنهم من يرى القراءة فيها سنة كقول الشافعي وأحمد لحديث ابن عباس هذا وغيره. ثم من هؤلاء من يقول: القراءة فيها واجبة كالصلاة، ومنهم من يقول: بل هي سنة مستحبة ليست واجبة وهذا أعدل الأقوال الثلاثة1، فإن السلف فعلوا هذا وهذا وكان كلا الفعلين مشهورًا بينهم: كانوا يصلون على الجنازة بقراءة وبغير قراءة كما كانوا يصلون تارة بالبسملة وتارة بغير جهر، وتارة باستفتاح وتارة بغير استفتاح، وتارة برفع اليدين في المواطن الثلاثة وتارة بغير رفع، وتارة يسلمون تسليمتين وتارة تسليمة واحدة، وتارة يقرءون خلف الإمام بالسر وتارة لا يقرءون، وتارة يكبرون على الجنازة سبعًا وتارة خمسًا وتارة أربعًا كان فيهم من يفعل هذا وفيهم من يفعل هذا كل هذا ثابت عن الصحابة، كما ثبت عنهم أن فيهم من كان يرجع في الأذان وفيهم من لا يرجع فيه، وفيهم من يوتر الإقامة وفيهم من كان يشفعها، وكلاهما ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه الأمور وإن كان أحدها أرجح من الآخر فمن فعل المرجوح فقد فعل جائزًا، وقد يكون فعل المرجوح للمصلحة الراجحة كما يكون ترك الراجح أرجح أحيانًا

_ 1 قلت: في هذا نظر؛ لأن عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" يشمل الصلاة على الجنازة، كما هو ظاهر. وكون السلف فعلوا هذا، وهذا، إنما يصح الاحتجاج به لو أنهم جميعًا فعلوا ذلك ورأوه مستحبًّا، أما وهم قد اختلفوا كما تقدم في كلامه، فلا يصح جعل اختلافهم دليلًا على الاستحباب كما لا يخفى، بل الواجب عند الاختلاف الرجوع إلى الدليل، وهو ما فعلنا. "ناصر الدين"

لمصلحة راجعة. وهذا وقع في عامة الأعمال، فإن العمل الذي هو في جنسه أفضل قد يكون في موطن غيره أفضل منه كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة وجنس القراءة أفضل الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء. ثم الصلاة بعد الفجر والعصر منهي عنها، والقراءة والدعاء والذكر أفضل منها في تلك الأوقات، وكذلك القراءة في الركوع والسجود منهي عنها، والذكر هناك أفضل منها، والدعاء في آخر الصلاة بعد التشهد أفضل من الذكر. وقد يكون العمل المفضول أفضل بحسب حال الشخص المعين لكونه عاجزًا عن الأفضل، أو لكون محبته ورغبته واهتمامه وانتفاعه بالمفضول أكثر فيكون أفضل في حقه لما يقترن به من مزيد علمه وحبه وإرادته وانتفاعه كما أن المريض ينتفع بالدواء الذي يشتهيه ما لا ينتفع بما لا يشتهيه وإن كان جنس ذلك أفضل، ومن هذا الباب صار الذكر لبعض الناس في بعض الأوقات خيرًا من القراءة والقراءة لبعضهم في بعض الأوقات خيرًا من الصلاة وأمثال ذلك لكمال انتفاعه به لا لأنه في جنسه أفضل. وهذا الباب باب تفضيل بعض الأعمال على بعض إن لم يعرف فيه التفضيل، وأن ذلك يتنوع بتنوع الأحوال في كثير من الأعمال وإلا وقع فيه اضطراب كثير فإن من الناس من إذا اعتقد استحباب فعل ورجحانه يحافظ عليه ما لا يحافظ على الواجبات حتى يخرج به الأمر إلى الهوى والتعصب والحمية الجاهلية كما تجده فيمن يختار بعض هذه الأمور فيراها شعارًا لمذهبه. ومنهم من إذا رأى ترك ذلك هو الأفضل يحافظ أيضًا على هذا الترك أعظم من محافظته على ترك المحرمات حتى يخرج به الأمر إلى اتباع الهوى والحمية الجاهلية كما تجده فيمن يرى الترك شعارًا لمذهبه وأمثال ذلك. وهذا كله خطأ والواجب أن يعطى كل ذي حق حقه، ويوسع ما وسع الله ورسوله، ويؤلف ما ألف الله بينه ورسوله، ويراعي في ذلك ما يحبه الله ورسوله من المصالح الشرعية والمقاصد الشرعية، ويعلم أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله بعثه رحمة للعالمين، بعثه بسعادة الدنيا والآخرة في كل أمر من الأمور

وأن يكون مع الإنسان ما يحفظ به هذا الإجمال، وإلا فكثير من الناس يعتقد هذا مجملا وبدعه عند التفصيل إما جهلا، وإما ظلمًا، وإما ظنًا، وإما اتباعًا للهوى، فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا. 12- فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لا خفاء في أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم شعائر الدين. وأهم المفترضات على المؤمنين. وقد أمر الله بذلك في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وحث عليه ورغب فيه فقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وأبرز القائمين في أجل مظهر يمكن أن تظهر فيه حال أمة فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} فقدم ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى الإيمان في هذه الآية مع أن الإيمان هو الأصل الذي تقوم عليه أعمال البر والدوحة التي تتفرع عنها أفنان الخير؛ تشريفًا لتلك الفريضة، وإعلاء لمنزلتها بين الفرائض. بل تنبيهًا على أنها حفاظ الإيمان وملاك أمره. ثم شد بالإنكار على قوم أغفلوها. وأهل دين أهملوها فقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} فقذف عليهم اللعنة وهي أشد ما عنون به على مقته وغضبه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان" 1.

_ 1 حديث صحيح، رواه مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري، وهو مخرج في "مشكلة الفقر" "66".

وقال عليه الصلاة والسلام: "أيها الناس مروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم؛ وقبل أن تستغفروا فلا يغفر لكم. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يدفع رزقًا ولا يقرب أجلا وإن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم ثم عموا بالبلاء"1. وقال عليه الصلاة والسلام: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" 2. وسئل صلوات الله عليه عن خير الناس فقال: "أتقاهم للرب وأوصلهم للرحم؛ وآمرهم بالمعروف. وأنهاهم عن المنكر"3. فقد تبين واتضح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا رخصة لأحد في تركهما عند القدرة والإمكان. وأن من أضاع ذلك وتساهل فيه فهو متهاون بحق الله، وغير معظم لحرماته كما ينبغي، وقد ضعف إيمانه، وقل من الله خوفه وحياؤه، فإن كان سكوته رغبة في الدنيا وطمعًا في الجاه والمال ويخشى أنه إذا أمر أو نهى سقطت منزلته وضعف جاهه عند من أمره أو نهاه من العصاة والظلمة فقد عظم أثمه وتعرض بسكوته لسخط ربه ومقته، فأما إذا سكت عن الأمر والنهي لعلمه أنه يحصل له إذا أمر أو نهي مكروه في نفسه أو ماله فقد يجوز له السكوت إذا تحقق ذلك وكان المكروه الذي يحصل له شديدًا وله وقع ظاهر؛ ولو أمر أو نهى مع ذلك كان له أجر عظيم وثواب جزيل وكان ذلك منه دليلا على محبة الله وإيثاره على نفسه وعلى نهاية الحرص على نصرته لدينه كما قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وما أحسن حال العبد إذا ضرب أو حبس أو شتم بسبب قيامه بحقوق ربه وأمره بطاعته ونهيه عن معصيته، ذلك دأب الأنبياء والصالحين والعلماء العاملين، كما هو منقول في أخبارهم، ومعروف من سيرهم وآثارهم. ولا خير في

_ 1 إسناده ضعيف، كما بينته في "الضعيفة" "2092". 2 حديث صحيح خرجته في "الصحيحة" "487". 3 إسناده ضعيف كما في "الضعيفة" "2093".

الجبن والضعف المانعين من نصرة الدين ومجاهدة الظالمين والفاسقين لردهم إلى طاعة الله رب العالمين، فإن الغضب لله والغيرة له عند ترك أوامره، وارتكاب نواهيه، وزواجره، شأن الأنبياء والصديقين، وبذلك وصفوا، واشتهروا وعرفوا، كما ورد في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يغضب لنفسه، فإذا انتهك شيء من حرمات الله تعالى لم يقم لغضبه شيء1 وكما قال عليه الصلاة والسلام في حق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تركه قوله الحق وما له في الناس من صديق"2 وقال تعالى في وصف أحبابه من المؤمنين: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} . فتبين أن المؤمن الكامل لا يقدر أن يملك نفسه عند مشاهدة المنكرات يغيرها أو يحال بينه وبين ذلك بما لا طاقة له على دفعه. وأما المنافق ومن ضعف إيمانه جدًّا فإذا رأوا المنكرات تعللوا وعذروا أنفسهم بالأعذار الركيكة التي لا يقوم بها حجة عند الله وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتراهم إذا شتموا أو ظلموا بشيء من أموالهم يقومون أتم القيام ويغضبون أشد الغضب، ومن فعل معهم ذلك يخاصمونه ويصارمونه الزمان الطويل، ولا يفعلون شيئًا من ذلك مع المصرين على الظلم والمنكر المضيعين لحقوق الله، وأن المؤمنين الصادقين على العكس من ذلك يغضبون لله ولا يغضبون لأنفسهم ويقاطعون من عصى الله وترك أمره ويصارمونه إذا لم يقبل الحق ويصفحون ويتجاوزون عمن ظلمهم أو شتمهم. فانظروا الفرق ما بين الفريقين وكونوا مع أحسنهم فريقًا، وأقومهم طريقًا {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .

_ 1 غريب بهذا اللفظ، والمعروف من حديث عائشة بلفظ: " ... وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها". أخرجه مالك "2/ 902/ 2" وعنه البخاري "2: 394" ومسلم "7: 80" وأحمد "6: 114، 116، 262". 2 حديث ضعيف جدًّا، وقد استغربه الترمذي، واستنكره جمع، وبيانه في الضعيفة "2049".

ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الكفاية فحيث قام به البعض من المسلمين سقط الحرج بقيامهم عن الباقين، واختص الثواب بالقائمين فقط. وحيث قصروا كلهم عم الإثم والحرج كل عالم بالمنكر منهم يستطيع إزالته وتغييره بيد ولسان. وأول ما يجب عند مشاهدة المنكرات التعريف والنهي بلطف ورفق وشفقة، فإن حصل بذلك المقصود وإلا انتقل منه إلى الوعظ والتخويف والغلظة في القول والتعنيف ثم إلى المنع والقهر باليد وغيرها ومباشرة تغيير المنكر بالفعل. أما الرتبتان الأوليان -التعريف باللطف والوعظ والتخويف- منهما فعامتان والغالب فيهما الاستطاعة ومدعي العجز عنهما متعلل ومتعذر في الأكثر بما لا يقوم به عذر، وأما الرتبة الثانية التي هي المنع بالقهر وتغيير المنكر فلا يستطيعه ويتمكن منه في الأكثر إلا من بذل نفسه لله تعالى، وجاهد بماله ونفسه في سبيل الله، وصار لا يخاف في الله لومة لائم، أو كان حاكمًا أو مأذونًا له من قبله. والحاصل أن الإنسان يأتي من ذلك بما يستطيع ولا يقصر في نصرة دين الله ولا يعتذر في إسقاط ذلك بالأعذار التي لا تصح ولا يسقط بها ما وجب عليه من أمر الله. واعلم أن الأخذ بالرفق واللطف، وإظهار الشفقة والرحمة، عليه مدار كبير عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعليك به ولا تعدل عنه ما دمت ترجو نفعه وحصول المقصود به وفي الحديث: "ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه" 1 وورد أيضًا "أنه لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه"2.

_ 1 حديث صحيح، ومن حديث أنس وعائشة، وقد خرجته في التعليق على "المشكاة" "4854". 2 حديث لا يعرف له أصل إنما هو من أحاديث الغزالي في "الإحياء" "2: 292" وقال الحافظ العراقي: "لم أجده هكذا، والبيهقي في "الشعب" من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف". قلت: هذا التخريج يوهم أن إسناده إلى عمرو سالم من العلة، وليس كذلك، فإن دونه ثلاثة من الضعفاء على التسلسل كما بينته، في "الأحاديث الضعيفة" "2097".

وليحذر من المداهنة في الدين، ومعناها أن يسكت الإنسان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعن قول الحق وكلمة العدل طمعًا في الناس وتوقعًا لما يحصل منهم من جاه أو مال أو حظ من حظوظ الدنيا. هذا ما جاء في كتاب النصائح الدينية للإمام "با علوي الحداد" قدس سره. وقال بعض الفضلاء: قد يظن أن النهي عن المنكر من أصعب الأمور مع أن إزالة المنكر في الشرع تكون بالفعل، فإن لم يكن فبالقول، فإن لم يكن فبالقلب، وهذه الدرجة الثالثة هي الإعراض عن الخائن والفاسق والنفور منه وإبطان بغضه في الله، ومن علائم ذلك تجنب مجاملته ومعاملته. ولا شك أن إيفاء هذا الواجب الديني كاف للردع ولا يتصور العجز عنه، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْض} . 13- بيان من هو المستطيع لإزالة البدع في المساجد: إن قلت: من المستطيع في هذه الإعصار لإزالة البدع والمنكرات في المساجد، الجريء عليها، النافذ الكلمة في شأنها، حتى يتوجه إليه تكليف السعي بإماطتها عن جادة الحق؟؟ قلت: لا إخال أنه يخفى معنى اللفظ النبوي والمراد منه وهو المستطيع المتحقق وجوده في كل عصر، فكل عالم يؤم قومًا في مسجد أو يدرس فيه أو يعظ يتعين عليه السعي في إزالتها إذا كان له نفوذ كلمة لدى الحكام،

وإلا فالأمر منوط برئيس العلماء ووجيههم عند الأمراء فإنه مسموع الكلمة مطاع الإشارة في ذلك مرهوب المقام بين العامة، فإذا أمر المبتدعين في المساجد بترك بدعتهم فإنهم يرضخون له رهبة منه. حتى إذا عانده أحد فإن له من الوجاهة ما يمكنه رفع ذلك، كأن يعلم والي البلدة أو حاكمها وهو ينفذ له مرامه، وذلك أن الحاكم يأمر رئيس الشرط أن يرسل من جنده من ينذر المبتدعين بأن من لم يقلع عن بدعته فإنه يودع في السجن، فإذا حضرت الشرط وأرهبت المبتدعين فلا تلبث البدعة أن تذهب كأمس الدابر وتصبح حديثًا من الأحاديث. ولقد شاهدنا في عصرنا وما قبله أن المدرسين في الجامع الأموي كانوا يصلون العشاء جماعات متعددة كل مدرس يؤم تلامذته عند حلقته، وهكذا في رمضان فلا تحصى جماعات التراويح. ولا تسل عن التسابق في حلبة الاستعجال وأيهم يفرغ قبل، مما يؤسف كل عاقل، وهكذا بعد صلاة الجمعة في جماعات الظهر. فتراءى لمفتي الشام أن ينهي عن هذه البدعة -بدعة تقسيم المصلين وتفريق كلمة المجمعين- فأمر الفقهاء والمدرسين في هذا الجامع بالكف عن هذا التفرق والتفريق، وأن ينضموا للإمام الراتب فقط، فرضخ الكثير منهم وهدوا إلى نبذ تلك العادة السيئة؛ وأبى البعض فاستعان المفتي على دحر عناده ومحو إصراره بالوالي، فأوعز إلى رئيس الشرط فأرسل من ينهاه على إصراره ويحذره عاقبة استكباره، فلما رأى ما ليس في الحسبان استخذى واستكان، فشكرت الألسنة هذه الحسنة وبالله التوفيق. ولا يزال كثير من الدمشقيين يذكرون ما كان في عهد والي سورية رشدي باشا الشرواني فإنه أمر بترك كثير من العوائد المبتدعة من الصياح في المساجد والأناشيد فيها، والجهر بالأوراد المشوش على المصلين، وضجة المنشدين في الجنائز، وما شاكل ذلك مما حمده العقلاء وشكروا سعيه المبرور فيه. إلا أنه بعد عزله "عام 1282" ما لبثت تلك العوائد الموروثة أن عادت إلى شكلها الأول. ولا يخفى أن محوها متوقف على نظرة صادقة من الرؤساء وفقهم الله تعالى.

ثم قرأت في كتاب "الدارس للنعيمي" أن الملك الكامل كان أمر أئمة الأموي في عهده أن لا يصلي أحد منهم سوى الإمام الكبير، لما كان يقع من التشويش والخلاف بسبب اجتماعهم في وقت واحد. قال النعيمي -ولنعم ما فعل- قال: وقد فعل هذا في زماننا في صلاة التراويح، اجتمع الناس على قارئ واحد وهو الإمام الكبير في المحراب عند المنبر. ا. هـ. وبالجملة فالواقف على هذا يعلم أن قد وجد في الأعصر الغابرة من تنبه لمثل هذه البدع من الأمراء فأزالها، وما أيسر الأمر عليهم وما أسهل على من يصحبهم من رؤساء العلم تبليغهم تلك المنكرات لو كانوا فاعلين. 14- لزوم الصبر والتواصي به للداعي إلى الحق: قال أستاذ إمام وحكيم همام1: الصبر في القرآن ذكر سبعين مرة، ولم تذكر فضيلة أخرى فيه بهذا المقدار. وهذا يدل على عظم أمره. وقد جعل التواصي به في سورة العصر مقرونًا بالتواصي بالحق؛ إذ لا بد للداعي إلى الحق منه. والمراد بالصبر في هذه الآيات كلها ملكة الثبات والاحتمال التي تهون على صاحبها كل ما يلاقيه في سبيل تأييد الحق. ونصر الفضيلة فضيلة هي أم الفضائل التي تربي ملكات الخير في النفس، فما من فضيلة إلا وهي محتاجة إليها، وإنما يظهر الصبر في ثبات الإنسان على عمل اختياري يقصد به إثبات حق أو إزالة باطل أو الدعوة إلى عقيدة أو تأييد فضيلة أو إيجاد وسيلة إلى عمل عظيم لأن أمثال هذه الكليات التي تتعلق بالمصالح العامة هي التي تقابل من الناس بالمقاومة والمحادة التي يعوز فيها الصبر ويعز معها الثبات على احتمال المكارة ومصارعة الشداد فالثابت على العمل في مثل هذه الحال هو الصابر والصبار، وإن كان في أول

_ 1 هو مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده رحمة الله عليه "في تفسيره لصورة العصر".

الأمر متكلفًا، ومتى رسخت الملكة يسمى صاحبها صبورًا1. وقال أيضًا: التواصي بالحق لا يكون إلا من متعدد فلا نجاة من الخسران إلا بأن يقوم الأفراد من الأمة مهما عظم عددهم بأن يوصي كل واحد منهم من يعرفه من الباقين بأن يطلب الحق ويلتزمه وأن يأخذ بالصبر في جميع شئونه فلو أن شخصًا واحدًا قام بذلك وأوصى غيره، ولكن الباقين لم يقوموا بمثل ما قام به لحل الخسر بالجميع في الدنيا لا محالة، فإن الأمة إذا غفل معظمها عن الحق والدعوة إليه ووهن الصبر في نفوسهم فلا محالة يستولي عليها الباطل وتضعف منها العزائم فيسوء حالها وترمي بنفسها في الهلكة {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} . وأما في الآخرة فالخسار إنما يحيق بمن لم يوص أو من لم يسمع الوصية ولم يقبلها فإن كان الموصي لم يحصل من وسائل التقريب ما يحتاج إليه وكان نفور صاحبه من طريقة نصحه ولو سلك غيرها لقبل منه كان الخسار في الآخرة عليه كذلك وأي نجاة لأمة يسكت أبناؤها على المنكر يفشو بينهم ولا تتحرك نفوسهم إلى التناهي عنه، والمنكر مفسدة الأفراد ومقراض الأمم. التواصي بالحق والتواصي بالصبر يدخل فيهما الأمران؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن من أوصى بالحق ودعا إليه لا يتم له ذلك حتى ينهى عن الباطل ويصد عنه ومن أوصى بالصبر على مشاق الأعمال الصالحة لا يكمل له ذلك حتى يتبين مساوئ الأعمال الخبيثة وعواقب التفريط بترك تلك الصالحات. فقد أودع الله في هذين الركنين ركني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع الأعمال والأحوال وقرر لنا أن لا نجاة لقوم من الخسران في الدنيا والآخرة إلا بأن يقوم كل واحد منهم بما يجب عليه من ذلك في القدر الذي يمكنه وعلى الوجه الذي يمكنه.

_ 1 انظر في كتاب "عدة الصابرين" المطبوع بمصر للصالح المصلح ابن قيم الجوزيه ففيه أبسط بيان في موضوع الصبر من جميع وجوهه.

فمن الواجب على كل أمة تريد أن تنجو من الخسران أن تقوم بهذا الفرض وهو التواصي بالخير والتناهي عن الشر أو التواصي بالحق والتواصي بالصبر فإذا طرأ على عوائد الأمة أو نزل بها من الحوادث ما بغض إليها التناصح أو حبب إليها التساهل في فريضة التواصي كان ذلك إنذارًا بحلول الخسار وتعرضًا في الدنيا للعار والدمار وفي الآخرة لعذاب النار. ولا يجوز لأحد أن يتعلل بذلك التساهل إذا وقع من الأمة ويقنع نفسه بأنه عاجز عن النجاح في نصيحته، ولهذا يكفيه أن ينكر المنكر بقلبه وبذلك ينجو من الخسران الأخروي إن لم ينج من الخسران الدنيوي كما يتوهمه بعض المسلمين اليوم خصوصًا أولئك الذين عرفوا بينهم بالعلماء فقد أخطئوا الخطأ العظيم في زعمهم أن إعراض العامة عنهم ينجيهم من العقوبة الإلهية إذا لم يبذلوا النصح لهم ولم يبينوا لهم وجه الحق وإن أنكروه وصكوا وجه الداعي إليه فقد صدق الله وعده، وأكد خبره، ولا سبيل إلى التأويل في أمره، ولا إلى جحد ما يتلوه من أثره. ا. هـ. 15- نقم المتعصبين على منكر البدع بغيًا وجهلًا: قال بعضهم: مضت سنة الله تعالى في أهل البغي والشقاق أن يظهر تفرقهم وخلافهم بعد ظهور الحق {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} ، {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} ، {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} فعلى المؤمن أن يأخذ بالحق متى ظهر له ويرشد إليه متى عرفه لا يخاف فيه لومة لائم ولا خوض آثم. وإذا كان قد سبق له عمل بخلافه عن خطأ في الاجتهاد فهو مثاب على نيته وإن كان قد أمره بذلك عالم

فذلك العالم أيضًا مثاب إن كان قد تحرى الحق بقدر طاقته. ثم قال فيمن يكبر مسألة ويعظمها لمخالفتها لحكم سلطان العادة: هذه سنة الله في الخلق يهتم الناس على قدر جهلهم بالأمور التي لا يترتب عليها نفع ولا ضر ويتركون عظائم الأمور لا يبالون بها. أرأيت أيها الأخ أيهتم قومك بالإنكار على تارك الصلاة أو مانع الزكاة كما يهتمون في تقديس ما ألفوا عليه آباءهم والقيام في وجه المحق انتصارًا للنفس وتعصبًا على المخالف واحتفاظًا بالعادة؟ كلا. فالواجب على المحق أن يبينه للناس غير مبال بلغط اللاغطين واختلاف الجاهلين والله ولي المتقين. 16- عدوى البدع من شؤم المخالطة: قال الإمام ابن الحاج عليه الرحمة والرضوان في كتابه "المدخل" في فقه حديث معاذ رضي الله عنه: نهى عن السجود للبشر وأمرنا بالمصافحة1. وحديثه لما حكى للنبي صلى الله عليه وسلم سجود النصارى لبطارقتهم وهمَّ رضي الله عنه بالسجود له صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تفعل" يؤخذ منه التحرز عن مخالطة أهل الكتاب إذ إن النفوس تميل غالبًا إلى ما يكثر ترداده عليها. ومن ههنا والله أعلم كثر التخليط على بعض الناس في هذا الزمان "يعني زمنه في مصر" لمجاورتهم ومخالطتهم لقبط النصارى مع قلة العلم والتعلم فأنست نفوسهم بعوائد من خالطوه فنشأ من ذلك الفساد وهو أنهم وضعوا تلك العوائد التي أنست بها نفوسهم موضع السنن حتى إنك إذا قلت لبعضهم اليوم "السنة كذا" يكون جوابه لذلك على الفور: عادة الناس

_ 1 حديث معاذ في النهي عن السجود للبشر، صحيح، ولكن ليس فيه الأمر بالمصافحة، وهو مخرج في "إرواء الغليل" "2058"، وإنما جاء الأمر بها في حديث ضعيف مخرج في "الضعيفة" "1766".

كذا، وطريقة المشايخ كذا. فإن طالبته بالدليل الشرعي لم يقدر على ذلك إلا أنه يقول نشأت على هذا، وكان والدي وجدي وشيخي وكل من أعرفه على هذا المنهاج، ولا يمكن في حقهم أن يرتكبوا الباطل أو يخالفوا السنة. فيشنع على من يأمره بالسنة ويقول له: ما أنت أعرف بالسنة ممن أدركتهم من هذا الجم الغفير وقد أنكر بعض العلماء على الإمام مالك رحمه الله في أخذه بعمل علماء المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فكيف يحتج هذا المسكين بعمل أهل القرن السابع "عصر صاحب المدخل" مع مخالطتهم لغير جنس المسلمين من القبط والأعاجم وغيرهما نعوذ بالله من الضلال. انتهى كلامه. وفي الحديث الصحيح "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن" 1. 17- ما يجب على العالم إذا خالط العامة: ينبغي للعالم أن يكون حديثه مع العامة حال مجالستهم في بيان الواجبات والمحرمات ونوافل الطاعات وذكر الثواب والعقاب على الإحسان والإساءة ويكون كلامه معهم بعبارة قريبة واضحة يعرفونها ويفهمونها ويزيد بيانًا للأمور التي يعلم أنهم ملابسون لها ولا يسكت حتى يسأل عن شيء من العلم وهو يعلم أنهم محتاجون إليه ومضطرون له فإن علمه بذلك سؤال منهم بلسان الحال، والعامة قد غلب عليهم التساهل بأمر الدين علما وعملا فلا ينبغي للعلماء

_ 1 حديث صحيح، مخرج في "الصحيحين" من حديث أبي سعيد الخدري، وله شاهد قوي من حديث أبي هريرة مرفوعًا نحوه. أخرجه ابن ماجه "3994" وأحمد "2: 450: 527" بإسناد حسن، وصححه الحاكم "1: 37" على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وله في "المسند" "2: 327" طريق أخرى عن أبي هريرة وإسناده صحيح على شرط مسلم.

أن يساعدوهم على ذلك بالسكوت عن تعليمهم وإرشادهم فيعم الهلاك ويعظم البلاء وقلما تختبر عاميًّا -وأكثر الناس عامة- إلا وجدته جاهلا بالواجبات والمحرمات وبأمور الدين التي لا يجوز ولا يسوغ الجهل بشيء منها وإن لم يوجد جاهلا بالكل وجد جاهلا بالبعض وإن علم شيئًا من ذلك وجدت علمه به علمًا مسموعًا من ألسنة الناس لو أردت أن تقلبه له جهلا فعلت ذلك بأيسر مئونة لعدم الأصل والصحة فيما يعلمه. وينبغي أيضًا للعلماء وخصوصًا منهم ولاة الأحكام أن يعظو عامة المسلمين عند الاختصام إليهم ويخوفوهم بما ورد عن الله وعن رسوله من التشديدات والتهديدات في الدعاوي الكاذبة وشهادة الزور والأيمان الفاجرة والمعاملات الفاسدة مثل الربا وغيره ويذكرون لهم ما ورد من تحريم هذه الأمور وشدة العقاب فيها وذلك لغلبة الجهل وشدة الحرص وقلة المبالاة بأمر الدين وكم من عامي سمع تحريم الكذب في الدعاوي والشهادات والأيمان فرجع عن شيء قد عزم عليه من ذلك لجهله وقلة علمه، وعلى الجملة فيتأكد على العلماء أن يجالسوا الناس بالعلم ويحدثوهم به ويبثوه لهم ويكون كلام العالم معهم في بيان الأمر الذي جاءوا إليه من أجله مثل ما إذا جاءوا لعقد نكاح يكون كلامه معهم فيما يتعلق بحقوق النساء من الصداق والنفقة والمعاشرة بالمعروف وما يجري هذا المجري، ومثل ما إذا جاءوا لعقد بيع يكون كلامه معهم في الشهادات وفي صحيح البيوع وفاسدها ونحو ذلك، وهذا خير وأولى في هذه المجالس من الخوض في فضول الكلام وما لا تعلق له بالأمر الذي من أجله جاءوا ولا بالدين رأسًا. ولا ينبغي للعالم أن يخوض مع الخائضين ولا يصرف شيئًا من أوقاته في غير إقامة الدين، وهذا الذي ذكرناه من أنه ينبغي للعالم ويتأكد عليه أن يجعل مجالسته ومخالطته مع عامة المسلمين مغمورة ومستغرقة بتعليمهم وتنبيههم وتذكيرهم قد صار في هذا الزمان بالخصوص من أهم المهمات على أهل العلم لاستيلاء الغفلة والجهل والإعراض عن العلم والعمل على عامة الناس فإن ساعدهم أهل العلم على ذلك بالسكوت عن التعليم والتذكير غلب الفساد وعم الضرر، وذلك مشاهد لإهمال العامة أمر

الدين وسكوت العلماء عن تعليمهم وتعريفهم ولا حول ولا قوة إلا بالله "هذا ما في النصائح الدينية للإمام باعلوي الحداد". 18- السعي بإزالة البدع من المساجد: قال الإمام ابن الحاج رحمه الله تعالى في "المدخل" في ترجمة بيان الأمر بتغير البدع التي أحدثت في المساجد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: $"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"1 ولا شك أن المسجد وما يفعل فيه من رعية الإمام والمؤذن والقيم إلى غير ذلك ممن له التصرف. ألا ترى إلى فعله عليه الصلاة والسلام حين رأى نخامة في القبلة فحكها بيده ورؤي كراهيته لذلك وشدته عليه2. فإذا تقرر أن المسجد من رعية الإمام فيحتاج إلى أن يتفقده فما كان فيه على منهاج السلف الماضين أبقاه وما كان من غير ذلك أزاله برفق وتلطف إن قدر على ذلك كما تقدم من فعله عليه الصلاة والسلام في النخامة. ا. هـ. وقد سبق قبل في بيان من هو المستطيع لإزالة البدع في المساجد زيادة فتذكره. 19- حكم المسجد في أرض مغصوبة أو من مال مغصوب: قال الإمام الغزالي عليه الرحمة والرضوان: المواضع التي بناها الظلمة

_ 1 أخرجاه في "الصحيحين" من حديث ابن عمر مرفوعًا، وهو مخرج في "تخريج الحلال والحرام" رقم "267". 2 حديث صحيح، ورد عن جمع من الصحابة منهم ابن عمر وأبو سعيد وجابر وغيرهم، وأحاديثهم مخرجة في "صحيح سنن أبي داود" "498/ 500".

كالقناطر والرباطات والمساجد والسقايات ينبغي أن يحتاط فيها وينظر: أما القنطرة فيجوز العبور عليها للحاجة، والورع والاحتراز ما أمكن، وإن وجد عنه معدلا تأكد الورع. وإنما جوزنا العبور وإن وجد معدلا لأنه إذا لم يعرف لتلك الأعيان مالكا كان حكمه أن يرصد للخيرات وهذا خير، فأما إذا عرف أن الآجر والحجر قد نقلا من دار معلومة أو مقبرة أو مسجد معين فهذا لا يحل العبور عليها أصلا إلا بضرورة يحل بها مثل ذلك من مال الغير، ثم يجب عليه الاستحلال من المالك الذي يعرفه. وأما المسجد فإن بني في أرض مغصوبة أو بخشب مغصوب من مسجد آخر أو من ملك معين فلا يجوز دخوله أصلا ولا للجمعة وإن كان من مال لا يعرف مالكه فالورع العدول إلى مسجد آخر إن وجد فإن لم يجد غيره فلا يترك الجمعة والجماعة لأنه يحتمل أن يكون من ملك الذي بناه ولو على بعد، وإن لم يكن له مالك معين فهو لمصالح المسلمين. وأما الخلوق والتجصيص فلا يمنع من الدخول لأنه غير منتفع به وإنما هو زينة والأولى أنه لا ينظر إليه. انتهى كلام الغزالي. وفي كتاب "كنوز الصحة ويواقيت المنحة" في الكلام على المارستان الكبير قال: وتورع طائفة من أهل الدين عن الصلاة بالمدرسة المنصورية والقبة وعابوا المارستان لكثر عسف الناس في عمله، وذلك أنه لما وقع اختيار الملك المنصور قلاوون الصالحي سنة 682 على عمل الدار القطبية مارستانًا وقبة ومدرسة ندب الطواشي حسام الدين بلال المغيثي للكلام في شرائها فساس الأمر في ذلك حتى أنعمت مؤنسة خاتون ببيعها على أن تعوض عنها بدار تلمها وعيالها وبمال وافر يحمل إليها، ووقع البيع على هذا فندب قلاوون الأمير سنجر الشجاعي للعمارة فأخرج النساء عن الدار القطبية من غير مهلة وأخذ ثلاثمائة أسير وجمع صناع القاهرة ومصر وتقدم إليهم بأن يعملوا بأجمعهم ومنعهم أن يعملوا لأحد في المدينتين شغلا وشدد في ذلك وكان مهابًا فلازمه العملة ونقل من قلعة الروضة ما يحتاج إليه من العمد والصوان والرخام والقواعد والأعتاب والرخام البديع وغير ذلك، وصار يركب إليها كل يوم وينقل الأنقاض المذكوره

على العجل إلى المارستان ويعود إليه فيقف مع الصناع حتى لا يتوانوا في عملهم وأوقف مماليكه بين القصرين فكان إذا مر أحد ولو جليلا ألزموه إن يرفع حجرًا ويلقيه في موضع العمارة فينزل الجندي والرئيس عن فرسه حتى ينقل ذلك فترك أكثر الناس المرور من هناك ورأوا بعد الفراغ من العمارة وترتيب الوقف فتيا صورتها: "ما تقول أئمة الدين في موضع أخرج أهله منه كرها وعمر بمستحثين يعسفون الصناع وأخرب ما عمره غيره ونقل إليه ما كان فيه فعمر به هل تجوز الصلاة فيه أم لا؟ ". فكتب عليها جماعة من الفقهاء: "لا تجوز فيه الصلاة". فما زال المجد بن الخشاب حتى أوقف الشجاعي على ذلك فشق عليه وجمع القضاة ومشايخ العلم بالمدرسة المنصورية وأعلمهم بالفتيا فلم يجبه أحد منهم بشيء سوى الشيخ محمد المرجاني فإنه قال: "أنا أفتيت بمنع الصلاة فيها وأقول الآن أنه يكره الدخول من بابها" ونهض فانفض الناس. واتفق أن الشجاعي ما زال بالشيخ محمد المرجاني يلح عليه ويسأله أن يعمل ميعاد وعظ في المدرسة المنصورية حتى أجاب بعد تمنع شديد فحضر الشجاعي والقضاة وأخذ المرجاني في ذكر ولاة الأمور من الملوك والأمراء والقضاة وذم من يأخذ الأراضي غصبًا ويستحث العمال في عمائره وينقص من أجورهم وختم بقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} وقام فسأله الشجاعي الدعاء له فقال: يا علم الدين إن أدع لك فقد دعا عليك من هو خير مني وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق به فارفق به، ومن شق عليهم فشق عليه" 1 وانصرف فصار الشجاعي من ذلك في قلق عظيم وطلب الشيخ تقي الدين محمد

_ 1 حديث صحيح، أخرجه مسلم "6/ 7" وأحمد 6/ 93، 257، 258" من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا. وله في "المسند" "6: 62، 260" طريق أخرى عنها، وبإسناده على شرط مسلم.

ابن دقيق العيد وكان له فيه اعتقاد حسن وفاوضه في حديث الناس في منع الصلاة في المدرسة وذكر له أن السلطان قلاوون إنما أراد محاكاة نور الدين الشهيد والاقتداء به في عمل الخير فوقع البأس في القدح في قلاوون ولم يقدحوا في نور الدين. فقال له: إن نور الدين أسر بعض ملوك الفرنج وقصد قتله ففدى نفسه بتسليم خمس قلاع وخمسمائة ألف حتى أطلقه فمات في طريقه قبل وصوله إلى مملكته وعمر نور الدين بذلك المال مارستانه بدمشق من غير مستحث فمن أين يا علم الدين نجد مالا مثل هذا المال وسلطانًا مثل نور الدين غير أن السلطان له نيته وأرجو له هذا الخير بعمارة هذا الموضع، وأنت إن كان وقوفك في عمله بنية نفع الناس فلك الأجر وإن كان ليعلم أستاذك علو همتك فما حصلت على شيء فقال الشجاعي: "الله المطلع على النيات" وقرر ابن دقيق العيد في تدريس القبة. انتهى بحروفه. أقول: صرح الحنابلة في فروعهم بعدم صحة الصلاة في المكان المغصوب. قال في "الإقناع وشرحه": إن تصرفات الغاصب الحكمية كالصلاة بثوب مغصوب وفي مكان مغصوب والوضوء من ماء مغصوب ونحوها تحرم ولا تصح لحديث "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" 1 أي مردود. ا. هـ. 20- إيثار للمسجد الذي تقل فيه البدع: قال الإمام ابن الحاج في "المدخل": ينبغي للمحافظ على إظهار معالم الشرع والنهوض إليها أن يبادر إلى الصلوات الخمس في المسجد في جماعة فإن لم يكن في المسجد شيء يتخوف منه -أعني من البدع- فلينظر أيهما أفضل له هل المقام في المسجد أو الرجوع إلى بيته بحسب الأعمال التي تنوبه في المسجد أو

_ 1 مضي برقم "4"، وفي الاستدلال به على ما ذكر نظر لا يخفى على اللبيب، ألست ترى أن الصلاة في ثوب حرير للرجل حرام، ومع ذلك فهي لا تبطل به!

في بيته فأيهما كان أفضل وأكثر نفعًا بادر إلى فعله سيما إذا كان النفع متعديًا وإن كان يتخوف من شيء فيه فالرجوع إلى بيته أفضل. ثم قال: فلا يترك الصلاة في جماعة في المسجد لأجل ما حدث من البدع إذ إن الصلوات الخمس من معالم الدين ومن أعظم شعائر الإسلام وهي أول ما ابتدئ به من عبادة الأبدان وليس من شرط صلاته أن تكون في المسجد الجامع بل حيثما قلت البدع من المسجد كانت الصلاة فيه أولى وأفضل من غيره فإن لم يجد مسجدًا سالما مما ذكر -وقلما يقع ذلك- فلينظر إلى أقل المساجد بدعًا فليصل فيه مع أنه قد تكون بدعة واحدة أشد من بدع جملة فيحذر من هذا وأشباهه وليصل فيما عداه وإذا صلى مع ذلك فليحذر جهده ويغير ما استطاع بشرطه. وقد تقدم أن التغيير بالقلب أدنى مراتب التغيير فإن كانت ليلة تزيد فيها البدع وتكثر فترك الصلاة في جماعة في تلك الليلة أولى وأفضل إذ إن الصلاة في جماعة مندوب إليها1، ولكن تكثير سواد أهل البدع منهي عنه وترك المنهي عنه واجب وفعل الواجب متعين فيترك المندوب له وهو الصلاة في جماعة في المسجد في تلك الليلة، ولأنه يخاف بسبب ذلك أن يكون مشاركًا للحاضرين في أماكن البدع في الإثم وهذا وجه. الوجه الثاني أنه قد يأنس قلبه بتلك البدع فيؤول إلى ترك التغيير وقد تقدم أنه أدنى رتب التغيير لما ورد: "وليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان" 2

_ 1 قلت: الراجح من حيث الدليل وجوب صلاة الجماعة، ولا صارف للأدلة القاضية بذلك. وليس هذا موضع التفصيل فلتراجع المطولات، مثل رسالة: "الصلاة وما يلزم فيها" للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى. "ناصر الدين". 2 حديث صحيح، وهو قطعة من حديث ابن مسعود مرفوعًا "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تختلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". رواه مسلم "1: 50، 51" وأحمد "1: 458، 461" شطره الأول والطبراني "3: 49: 1".

الوجه الثالث وهو أشد من الثاني وهو أنه يخاف عليه أن يستحسن شيئًا مما يراه أو يسمع به وهذا فيه من القبح ما فيه لأنه يستحسن ما كرهه ونهي عنه وهو الأحداث في الدين قال عليه الصلاة والسلام: "من أحداث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 1 يعني مردود عليه. وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا يقبل عمل أمرء حتى يتقنه" قالوا يا رسول الله: وما إتقانه؟، قال: "يخلصه من الرياء والبدعة" 2. مع أن هذا الذي ذكر قل أن يقع أعني أن تعم في تلك البدع جميع مساجد البلد وإذا كان ذلك كذلك فالكمال والحمد لله حاصل له أعني الصلاة في الجماعة في المسجد السالم من تلك البدع أو من أكثرها ولو امتنع بعض من يقتدى بهم من حضور المساجد التي فيها البدع لانحسمت المادة وزالت البدع كلها أو أكثرها أو بعضها فإنا لله وإنا إليه راجعون على التسامح في هذا الباب حتى جر الأمر إلى اعتياد البدع وينسبها أكثر العوام إلى الشرع بسبب حضور من يقتدى بهم فظن أكثر العوام أن ذلك من المشروع وهذا أعظم خطرًا مما تقدم ذكره لأنهم يدخلون إذ ذاك في عموم قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} . فإن لم يكن في المسجد السالم من البدع من يصلي فيه فتتأكد الصلاة فيه لأنه يحصل له وحده إحياء بيت من بيوت الله تعالى وهذا فيه من الغنيمة والسعادة ما فيه ألا ترى إلى ما روى أبو داود في سننه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: $"الصلاة في جماعة تعدل خمسًا وعشرين صلاة

_ 1 صحيح وقد مضى برقم "4". 2 غريب بهذه الزيادة: "وما اتقانه ... ". وقد روي الحديث عن عائشة، وكليب بن شهاب وأم عبد الرحمن بن حسان، وليس في شيء منها هذه الزيادة فهي منكرة، وأصل الحديث حسن عندي كما بينته في "الصحيحة" "1113".

فإذا صلاها1 في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين"2. الشروع: لقد جعلت هذا الكتاب أبوابًا وفصولا ليكون سهل التناول جامعًا لأشتات ما تفرق. وليكون الإنسان على بصيرة من نفسه بما اعتراه بل وبما أحاطه بمحيطه من البدع. ولنبدأ بما قصدنا فنقول:

_ 1 الأصل: "صلى صلاة" والتصويب من "أبي داود". "ناصر الدين". 2 قلت: إسناده صحيح، وهو مخرج في "صحيح سنن أبي داود" "569".

الباب الأول: في بدع الصلاة في المساجد

الباب الأول: في بدع الصلاة في المساجد الفصل الأول: في بدع صلاة الجمعة المحدثات في خطبة الجمعة ... الباب الأول: في بدع الصلاة في المساجد "وفيه فصول" الفصل الأول: في بدع صلاة الجمعة 1- المحدثات في خطبة الجمعة: قد نبه على ما أحدث فيها الإمام شمس الدين بن القيم الدمشقي في "زاد المعاد" في بيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيها قال عليه الرحمة: كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه ويقول: "أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" 1 وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام وشرائعه، وكان يمهل يوم الجمعة حتى يجتمع الناس فإذا اجتمعوا خرج إليهم

_ 1 حديث صحيح أخرجه مسلم من حديث جابر دون قوله: "وكل ضلالة في النار" فهو عند النسائي والبيهقي في "الأسماء والصفات" وسنده صحيح.

من غير أحد يصيح بين يديه ولا لبس طيلسان ولا سواد فإذا دخل المسجد سلم عليهم فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه وسلم عليهم ولم يدع مستقبل القبلة ثم يجلس ويأخذ بلال في الأذان، فإذا فرغ منه قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب من غير فصل بين الأذان والخطبة لا بإيراد خبر ولا غيره، ولم يكن يأخذ بيده سيفًا ولا غيره وإنما كان يعتمد على قوس قبل أن يتخذ المنبر، وكان في الحرب يعتمد على قوس وفي الجمعة يعتمد على عصاه ولم يحفظ عنه أنه اعتمد على سيف، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائمًا وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف فمن فرط جهله. وقال ابن الحاج: ينبغي أن ينهى المؤذنون عما أحدثوه من أن الإمام إذا خرج على الناس في المسجد يقوم المؤذنون إذ ذاك ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم يكررون ذلك مرارًا حتى يصل إلى المنبر وإن كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أجل العبادات. ا. هـ. وقال الإمام النووي في "الروضة" في آخر الباب الأول من كتاب الجمعة: يكره في الخطبة أمور ابتدعها الجهلة منها التفاتهم في الخطبة الثانية والدق على درج المنبر في صعوده والدعاء إذا انتهى صعوده قبل أن يجلس وربما توهموا أنها ساعة الإجابة وهذا جهل فإن ساعة الإجابة إنما هي بعد جلوسه1، ومنها المجازفة في أوصاف الأمراء في الدعاء لهم. وأما أصل الدعاء فقد ذكر صاحب "المهذب" وغيره أنه مكروه والاختيار أنه لا بأس به إذا لم يكن فيه مجازفة في وصفه ومنها مبالغتهم في الإسراع في الخطبة الثانية. وقال أبو شامة في "الباعث": ومن البدع المشعرة بأنها من السنن بعمومها وشهرتها واستدامة مبتدعيها لفعله ما يفعله عوام الخطباء وشبه العوام من أمور نذكرها، منها تباطؤ الخطيب في الطلوع. ومنها الالتفات يمينًا وشمالًا عند قوله: آمركم وأنهاكم وعند الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصل لذلك بل السنة الإقبال الناس

_ 1 قلت: هذا في بعض أقوال أهل العلم، وهو مرجوح؛ لأن حديثه معلول، والراجح القول الآخر وهو أنها بعد العصر، وفيه أحاديث ثابتة. "ناصر الدين".

بوجهه من أول الخطبة إلى آخرها، ومنها أنهم يتكلفون رفع الصوت في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فوق المعتاد وفي باقي الخطبة يرون إزعاج الأعضاء برفع الصوت بها وذلك جهل لأنها دعاء له عليه الصلاة والسلام. وجميع الأدعية السنة فيها الإسرار دون الجهر غالبًا، وكان صلى الله عليه وسلم يرفع صوته عند الموعظة لأنها معظم المقصود من الخطبة، وأما رفع أيديهم عند الدعاء فبدعة قديمة روى الإمام أحمد عن غضيف بن الحارث رضي الله عنه قال: بعث إليَّ عبد الملك بن مروان فقال: "يا أبا أسماء إنا قد جمعنا الناس على أمرين رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة والقصص بعد الصبح والعصر" فقال: "إنهما أمثل بدعكم عندي، ولست مجيبك إلى شيء منها" قال: "لم؟ " قال: "لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة"1.

_ 1 إسناده ضعيف؛ لأنه في "المسند" "4: 105" عن تقية عن أبي بكر بن عبد الله عن حبيب بن عبيد الرحبي عن غضيف بن الحارث الشمالي. وتقية مدلس وقد عنعنه. وأبو بكر بن عبد الله هو ابن أبي مريم وهو ضعيف. ورواه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" "ص37" عن حسان بن عطية قال: فذكره نحوه موقوفًا عليه.

صلاة الظهر جماعة عقب صلاة الجمعة

2- صلاة الظهر جماعة عقب صلاة الجمعة: جاء في "القنية" من كتب الحنفية ما مثاله: لما ابتلي أهل مرو بإقامة الجمعتين بها مع اختلاف العلماء في جوازهما -ففي قول أبي يوسف والشافعي ومن تابعهما باطلتان إن وقعتا معًا وإلا فجمعة المسبوقين باطلة- أمر ائمتهم بأداء الأربع بعد الجمعة حتمًا احتياطًا. ا. هـ. قال ابن نجيم: يصح أداء الجمعة في مصر واحد بمواضع كثيرة وهو قول أبي حنيفة ومحمد وهو الأصح لأن في الاجتماع في موضع واحد في مدينة كبيرة حرجًا بينًا. وهو مدفوع فما في "القنية" مبني على القول الضعيف المخالف

للمذهب -يعني عدم جواز تعددها في مصر واحد- ثم قال: مع ما لزم من فعلها -يعني الظهر- من المفسدة العظيمة وهو اعتقاد الجهلة أن الجمعة ليست بفرض لما يشاهدون من صلاة الظهر فيظنون أنها الفرض وأن الجمعة ليست بفرض فيتكاسلون عن أداء الجمعة؛ فكان الاحتياط في تركها وعلى تقدير فعلها ممن لا يخاف عليه مفسدة منها فالأولى أن تكون في بيته خفية خوفًا من مفسدة فعلها. وقال ابن نجيم أيضًا قبل ذلك: إني أفتيت مرارًا بعدم صلاة الظهر خوفًا على اعتقاد الجهلة بأنها الفرض وأن الجمعة ليست بفرض. ا. هـ. وجوز الشافعية أيضًا تعدد الجمعة لحاجة، قالوا: وهل المراد حاجة من تلزمه الجمعة أو من تصح منه أو من يفعلها؟ كل محتمل. وقد اعتمد ابن عبد الحق الأخير ووافقه بعض المتأخرين، قال البجيرمي: فعلى هذا القول يكون التعدد في مصر كله لحاجة فلا تجب الظهر حينئذ كما نقل عن ابن عبد الحق. ا. هـ. ومثله يقال في دمشق ونحوها والذي اعتمده الإمام ابن نجيم والعلامة ابن عبد الحق ووافقه غيره من أن لا وجوب للظهر هو الحق لما فيه من رفع الحرج وهل يطالب مكلف بفريضتين في وقت واحد مع ما في أدائه جماعة من صورة نقض الجمعة وإيقاع العامة في اعتقاد أن ليوم الجمعة بعد زواله فرضين صلاة الجمعة وصلاة الظهر، بل هو الذي لا يرتابون فيه ويزيدون عليه أنه لا يصح إلا جماعة بل تنطع بعض الغلاة المتصولحين مرة فقال لي: كيف السبيل إلى سنة الظهر القبلية قبل فرض يوم الجمعة وهي تفوتني بعجلة أداء الظهر. فتأمل كيف رحم الله العباد ففرض عليهم ركعتين في ذلك اليوم وأمرهم إذا قضوهما أن ينتشروا في الأرض ويبتغوا من فضله تيسيرا عليهم إذ يحتاجون لصرف حصة في سماع الخطبة، وانظر كيف شددوا على أنفسهم وربما المتنطع منهم يطالب نفسه بأداء اثنتين وعشرين ركعة بعد الزوال إذ يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا كالظهر وكلاهما مع الجمعة عشر ثم يتطوع بأربع قبل الظهر وأربع بعدها وكلاهما مع الظهر اثنا عشر أيضًا فالجملة ما ذكرنا. ولا يخفى أن محو اعتقاد غير الصواب من صدور العامة لتمحيص الحق باب عظيم من أبواب الدعوة إلى سبيل الله، وهدي نبيه عليه السلام، وقد اتفق في عهد حسين باشا والي مصر المذاكرة لديه في بدعة الظهر جماعة بعد الجمعة فمنع أهل الأزهر منها. نقله الشبراملسي في رسالته التي ألفها في سبب صلاة الظهر يومئذ فرحمه الله على منعه من هذه البدعة وأثابه خيرًا ووفق من يتنبه لمنعها بمنه وكرمه.

خروج الجمعة عن موضوعها بكثرة تعددها

3- خروج الجمعة عن موضوعها بكثرة تعددها: هذا بحث مهم جدير بالعناية به والتأمل فيه واتباع أحسنه. للعلماء في العدد المشترط في صحة الجمعة أقوال بلغت خمسة عشر كما في "فتح الباري". وقد تراءى لبعضهم تأييد قول أهل الظاهر منها في أنها تصح من اثنين قال: لأن بانضمام أحدهما إلى الآخر يحصل الاجتماع وقد أطلق الشارع اسم الجماعة عليهما فقال: "الاثنان فما فوقهما جماعة"1. ثم قال: وقد انعقدت سائر الصلوات بهما بالإجماع والجمعة صلاة فلا تختص بحكم يخالف غيرها إلا بدليل ولا دليل على اعتبار عدد فيها زائد على المعتبر في غيرها. ا. هـ. وقد راق هذا الكلام طائفة فانتحلوه، وظنوه الحق الذي لا مرية فيه فاعتقدوه. وأقول: إن للظاهرية في كثير من المسائل جمودًا جليًّا، وتهوسًا جدليًّا، وكثيرا ما يسفسطون ويشاغبون بقولهم لم يرد كذا ولم يأت أنه لا يصح إلا كذا وهل

_ 1 حديث ضعيف من جميع طرقه، وبعضها أشد ضعفًا من بعض كما بينته في "إرواء الغليل" "482".

من دليل على أنه لا يكون إلا كذا. يعنون أنه يلزم في التشريع أن يكون كله مما تفوه به الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسلوب الذي ألفوه، وهذا لعمر الحق غفلة كبرى عن مقاصد الشريعة في كثير من أبوابها، وما هو إلا كالوقوف مع القشر دون اللباب أو اللفظ دون المعنى والجسم دون الروح. السنة المأمور بها في العبادات هي قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره اتفقت على ذلك كلمة الأصوليين. هذه الجمعة أصل مشروعيتها مضاهاة أهل الكتابين بالتجميع في الأسبوع بيوم فيه، لما فيه من الفوائد العظمى. روى الحافظان عبد بن حميد وعبد الرزاق عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة. قالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه كل أسبوع، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل يومًا نجمع فيه فنذكر الله تعالى ونشكره. فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم، فسموا يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه. قال الحافظ ابن حجر: حديث مرسل رجاله ثقات1. وأخرج مسلم والنسائي عن حذيفة وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة". وأخرج الحافظ ابن عساكر عن عثمان بن عطاء قال: لما افتتح عمر بن الخطاب البلدان كتب إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة يأمره أن يتخذ للجماعة مسجدًا ويتخذ للقبائل مسجدًا فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة فشهدوا الجمعة2.

_ 1 قلت والمرسل من أقسام الحديث الضعيف في علم المصطلح فتنبه. 2 قلت: فهم حكماء الإسلام من مثل هذا الأثر ومما يأتي وجوب اجتماع أهل=

وكتب إلى سعد بن أبي وقاص وهو على الكوفة بمثل ذلك. وكتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر بمثل ذلك. وكتب إلى أمراء الأجناد أن لا يبدوا إلى القرى وأن ينزلوا المدائن وأن يتخذوا في كل مدينة مسجدًا واحدًا. وروى ابن أبي شيبة قال: كان عبد الله بن رواحة يأتي الجمعة ماشيا وإن شاء راكبًا وذلك من ميلين. وأخرج أيضًا أن أبا هريرة كان يأتي الجمعة من "ذي الحليفة".

_ = البلد في جامع واحد يوم الجمعة وبنوا على ذلك حكمة التعارف الذي به قوام العمران. وهاك ما قاله الحكيم الشهير ابن مسكويه في كتابه "تهذيب الأخلاق" في المقالة الخامسة في بحث المحبة: والسبب في هذه المحبة الأنس وذلك أن الإنسان آنس بالطبع وليس بوحشي ولا نفور ومنه اشتق اسم الإنسان. وليس كما قال الشاعر "سميت إنسانًا لكونك ناسي" ظنًّا منه أنه مشتق من النسيان فهو غلط منه. وينبغي أن يعلم أن هذا الأنس الطبيعي في الإنسان هو الذي ينبغي أن نحرص عليه ونكسبه مع أبناء جنسنا حتى لا يفوتنا بجهدنا واستطاعتنا فإنه مبدأ المحبات كلها. وإنما وضع للناس بالشريعة وبالعادة الجميلة اتخاذ الدعوات والاجتماع في المآدب ليحصل لهم هذا الأنس. ولعل الشريعة إنما أوجبت على الناس أن يجتمعوا في مساجدهم كل يوم خمس مرات وفضلت صلاة الجماعة على صلاة الآحاد ليحصل لهم هذا الأنس الطبيعي الذي هو فيهم بالقوة حتى يخرج إلى الفعل ثم تتأكد بالاعتقادات الصحيحة التي تجمعهم. وهذا الاجتماع في كل يوم ليس يتعذر على أهل كل محلة وسكة. والدليل على أن غرض صاحب الشريعة ما ذكرناه أنه أوجب على أهل المدينة بأسرهم أن يجتمعوا في كل أسبوع يومًا بعينه في مسجد يسعهم أيضًا شمل أهل المحال والسكك في كل أسبوع كما اجتمع شمل أهل الدور والمنازل في كل يوم، ثم أوجب أيضًا أن يجتمع أهل المدينة مع أهل القرى والرساتيق المتقاربين في كل سنة مرتين في مصلى بارزين مصحرين ليسعهم المكان ويتجدد الأنس بين كافتهم وتشملهم المحبة الناظمة لهم، ثم أوجب بعد ذلك أن يجتمعوا في العمر كله مرة واحدة في الموضع المقدس بمكة ولم يعين من العمر على وقت مخصوص ليتسع لهم الزمان وليجتمع أهل المدن المتباعدة كما اجتمع أهل المدينة الواحدة ويصير حالهم في الأنس والمحبة وشمول الخير والسعادة كحال المجتمعين في كل سنة وفي كل أسبوع وفي كل يوم فيجتمع بذلك الأنس الطبيعي إلى الخيرات المشتركة وتتجدد بينهم محبة الشريعة وليكبروا الله على ما هداهم ويغتبطوا بالدين القويم الذي ألفهم على تقوى الله وطاعته. انتهى بحروفه.

وأخرج أيضًا أن سعدًا كان على رأس سبعة أميال أو ثمانية وكان أحيانًا يأتيها وأحيانًا لا يأتيها، وأخرج أيضًا أن أنسا شهد الجمعة من "الراوية" وهي على فرسخين من "البصرة". وعن أبي هريرة قال تؤتى الجمعة من فرسخين، قال ابن حجر في "التلخيص": قال الأثرم للإمام أحمد بن حنبل: اجمع جمعتان في مصر؟ قال: "لا أعلم أحدًا فعله". انتهى. قلت: ولذلك ذكر الأئمة من السلف مسائل من زحمه الناس يوم الجمعة وصور زحامه فقد جاء في "المدونة لمالك رضي الله عنه" قوله: من أدرك الركعة يوم الجمعة فزحمه الناس بعدما ركع مع الإمام الأولى فلم يقدر على السجود حتى فرغ الإمام من صلاته "قال" يعيد الظهر أربعًا. وقال مالك أيضًا: إن زحمه الناس فلم يستطع السجود إلا على ظهر أخيه أعاد الصلاة ولو بعد الوقت في مسائل أخرى. وكل ذلك مصداق ما قاله الإمام أحمد من أنه لم يعهد التعدد أصلًا. وقال ابن المنذر: لم يختلف الناس أن الجمعة لم تكن تصلى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي تعطيل الناس مساجدهم يوم الجمعة واجتماعهم في مسجد واحد أبين البيان بأن الجمعة خلاف سائر الصلوات وأنها لا تصلى إلا في مكان واحد. وذكر الخطيب في "تاريخ بغداد" أن أول جمعة أحدثت في الإسلام في بلد مع قيام الجمعة القديمة في أيام المعتضد في دار الخلافة من غير بناء مسجد لإقامة الجمعة. وسبب ذلك خشية الخلفاء على أنفسهم في المسجد العام وذلك سنة "280". ثم بني في أيام المكتفي مسجد فجمعوا فيه. وقال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا قال بتعداد الجمعة غير عطاء، وقال الراقعي: لم تقم الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الخلفاء الراشدين إلا في موضع الإقامة ولم يقيموا الجمعة إلا في موضع واحد، ولم يجمعوا إلا في المسجد الأعظم مع أنهم أقاموا العيد في الصحراء والبلد للضعفة وقبائل العرب كانوا مقيمين حول المدينة ما كانوا يصلون الجمعة ثمة ولا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها، قال الحافظ ابن

حجر: كل هذه الأشياء المنفية مأخذها الاستقرار فلم يكن بالمدينة مكان يجتمع فيه إلا مسجد المدينة. وروى الترمذي من طريق رجل من أهل قباء عن أبيه وكان من الصحابة قال أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشهد الجمعة من قباء1. فأنت ترى من هذه الأحاديث والآثار وإطباق العصر الأول بداهة كون موضوع الجمعة الجماعة المتوافرة إذ شرعت لذلك وبه يضاهي ما يصنعه أهل الكتاب في يوميهم الذي هو سبب تشريعها فعجبًا لأهل الظاهر وغفلتهم عما نقلنا، وعن سر الاحتفال بها والأعجب منه تركهم التفطن لمعنى لفظة جمعة الذي لم يسمها الصحابة بذلك ونزل القرآن مصدقًا له إلا لما دل عليه مفهومها من كثرة الجمع وإليك البيان: جاء في القاموس وشرحه: الجمعة بضم فسكون وبضمتين وكهمزة اليوم المعروف سميت بذلك لأنها تجمع الناس أي لاجتماعهم في يومها بالمسجد. والذين قالوا جمعة بضم ففتح ذهبوا بها إلى صفة اليوم أنه يجمع الناس كثيرًا كما يقال رجل همزة لمزة ضحكة. ا. هـ. وأقول اتفق اللغويون على أن صيغتي فُعْلة بضم فسكون وفُعَله بضم ففتح للمبالغة، الأولى لمبالغة المفعول والثانية للفاعل، فمعنى الجمعة التكثير في المجموع أو في المجمعين، فهل لأحد أن يصرف هذه اللفظة عن مسماها اللغوي المؤيد بفعله عليه السلام والخلفاء من بعده برأيه من غير نص ولا إجماع؟ وإذا جاز مثل ذلك بطلت الحقائق ولم يصح تفاهم أبدًا إذ علمنا أن لفظة الجمعة لم تقع قط في اللغة التي بها نتفاهم إلا على الجمع الكثير ومن خالف بعد هذا فقد كابر. بقي أن يقال أن صيغة جمعة للمبالغة كما برهن عليه فما أقل ما تحقق فيه

_ 1 قلت: حديث ضعيف، حققه الترمذي نفسه بقوله عقبه "1، 100"، "لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء". قلت: وعلته الرجل الذي لم يسم من أهل قباء، وأيضًا فإنه من رواية ثوير عنه. وقوله ضعيف كما قال الحافظ.

مصداقها من الكثرة في عهده صلوات الله عليه فالجواب أن ما تحقق فيه أربعون كما كان في أول جمعة وقعت بالمدينة فإنهم كانوا أربعين، وكان المجمع بهم مصعب بن عمير قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم فهذا العدد هو أقل ما وقع اتفاقًا1 وبه علم أن صيغة المبالغة في "جمعة" المفيدة للكثرة تصدق على هذا المقدار قطعًا وأن الذي يراه غير مجزئ لا حجة معه لا من لغة ولا من نقل ومنه يعلم ملحظ الإمام الشافعي في اشتراطه أربعين كأنه لحظ أن الجمعة لا بد فيها من وفرة الجمع وكثرته لما تفيده مادتها، ثم رأى أن الصحابة اجتزءوا بهذا العدد وأقروا عليه وفي اجتزئاهم بذلك وعتباره تجميعًا فائدة كبرى لأنه لولا هذا البيان لكان في اللفظ إجمال يضطرب فيه الفكر سيما وقد يرى أن المقدار المذكور ينحط عن درجة الكفاية في التجميع لما تفهمه المبالغة. ولذا ذهب ذاهب إلى اشتراط ثمانين فباكتفاء الصحابة وإقرارهم على أربعين علم أن هذا العدد مما يصدق عليه اللفظ لغة وشرعًا. نعم قد يبقى النظر فيما انحط عن هذا المقدار هل يكفي لاحتمال صدق الصيغة عليه أو لا لأنه لم يؤثر إقامتها بأقل منه ولا أذن في عهده صلوات الله عليه وعهد خلفائه الراشدين لأهل القرى الصغيرة أن يجمعوا2. الأمر فيه

_ 1 قلت: هذه واقعة حال: ووقائع الأحوال لا يستدل بها بحال، وعدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه كما هو معلوم لدى الفقهاء فما يدرينا أن يكون هناك حوادث وقعت لم نعلم بها، وهل لأحد أن يدعي الإحاطة بها بعد الله تبارك وتعالى؟ أليس من الجائز أن يكون قد صلوا الجمعة في بعض القرى الصغيرة بأقل من هذا العدد. ثم لم ينقل إلينا، أو نقل ولم نطلع عليه؟ بلى. ومما يقرب ذلك أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إلى قاضيه في الجزيرة عدي بن عدي أيما أهل قرية ليسوا بأهل عمود ينتقلون فأمر عليهم أميرًا يجمع بهم. أخرجه ابن أبي شيبة في "باب من كان يرى الجمعة في القرى وغيرها" من "المصنف" "1: 204: 1، 2". "ناصر الدين". 2 قلت: هذا على ما أحاط به المؤلف رحمه الله أو من نقل عنه، وإلا لو اطلع على "مصنف ابن أبي شيبة" وما فيه من الآثار المنافية لذلك لما ادعى ذلك، فقد نقلت عنه آنفًا أمر عمر بن عبد العزيز كل قرية صغيرة أو كبيرة بلغ عددها الأربعين أو لم يبلغ أن يصلوا الجمعة. وسلفه في ذلك عمر بن الخطاب، فقد كتبوا إليه يسألونه عن الجمعة، فكتب جمعوا حيثما كنتم رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، وأطلق ولم يقيد وهو يعلم أن في القرى الصغيرة والكبيرة، وما يبلغ العدد فيها الأربعين وما لا يبلغ، فهو نص من الخليفة الراشد على عدم صحة اشتراط الأربعين، وهو الذي رجحناه في رسالتنا "الأجوبة النافعة" "ص36-38" ولذلك قال مالك: كان أصحاب محمد في هذه المياه بين مكة والمدينة يجمعون. "ناصر الدين".

احتمال يصعب البت بأحد الوجهين إلا أنهما إذا وضعا في التوازن رجح الثاني لما تقضيه الصيغة والحالة المأثورة وسر المشروعية. والله أعلم. ولنرجع إلى المناقشة مع الظاهرية فنقول: قالوا: ورد أن الاثنين فما فوقهما جماعة وكأنهم ذهلوا أن الجماعة في العرف الشرعي غير الجمعة وإنما يتم لهم لو قيل: جمعة بدل جماعة على أن هذا الحديث في إسناده الربيع بن بدر وهو ضعيف كما في المقاصد الحسنة للسخاوي وما ورد معناه أن الاثنين إذا أدركتهما فريضة من الخمسة "غير الجمعة ضرورة" فأم أحدهما الآخر كانت صلاتهما جماعة أي مثابا عليها ثواب الجماعة، وقصد الشارع أن الاثنين ينبغي لهما التضام في أداء الفريضة معا إذا اجتمعا ويكونان جماعة ليرتفع ما يتوهم أن الجماعة لا تكون إلا بعدد وافر حضًّا على التكاتف في العبادة وتوحيد الكلمة. قلنا غير الجمعة لأن تلك علم بالضرورة أنها لم تقم إلا بالجمع الوافر في مكان واحد فما فوق بقدر الحاجة إليه. وقولهم إن الجمعة كغيرها1 من الصلوات لا تباينها إلا في اشتراط الجماعة هو من الغلو في الجمود أليس شروطها وسننها وآدابها وما ينبغي في يومها مما ترجم له أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد في أسفارهم واستغرق الأبواب الطويلة كافيا لمباينتها لغيرها. وقد عد ابن القيم في "زاد المعاد" لها خصائص

_ 1 قلت: فيه ما لا يخفى من البعد عن نقطة البحث؛ لأن قولهم: "إن الجمعة كغيرها ... " إنما يعنون في الشروط فقط، وليس في السنن والآداب. وأيضًا فهم يعنون ما لم يأت دليل. فقد جاء الدليل بشرطية الجماعة كما يأتي، وجاء الدليل بأنها تصلى قبل الزوال كما ذكره المؤلف رحمه الله وشرحاه في الرسالة السابقة. "ناصر الدين".

نيفت عن الثلاثين، وقد ذهب الإمام أحمد إلى أن أول وقتها وقت صلاة العيد، وروى عن ابن مسعود وجابر وسعيد ومعاوية أنهم صلوا قبل الزوال ولم ينكروا. خرجه أبو داود في سننه عن ابن الزبير أيضًا، وهذا مما يبرهن أن شأنها غير ما يعهد من بقية المكتوبات مما أصل سره هو التجميع وأن الجمع إذا حضر من الضحوة فصاعدًا جاز أن تؤدى وقتئذ كالعيد. وعجبًا لهم أيضًا كيف اشترطوا لها الجماعة وهلا قالوا هي كغيرها مطلقا من الصلوات تتميمًا للجمود1 قيل: يمنعهم من ذلك الإجماع على اشتراط الجماعة. فقلت: هذا مما يقوي الاحتجاج عليهم فإن الأصوليين اتفقوا على أن الإجماع لا بد له من مستند كتاب أو سنة هي قوله صلوات الله عليه أو فعله ولا مستند للإجماع هنا إلا فعله عليه الصلاة والسلام، وإذا كان هذا المستند بطل جوازها باثنين إذ لم يفعلها عليه السلام إلا بأهل المدينة قاطبة ولم يرخص لأهل العوالي ولا لغيرهم ممن حول المدينة أن يجمعوا لأنفسهم فما ذاك إلا لاشتراط وفرة الجمع وهو بديهي لولا الجمود2.

_ 1 قلت: الوقوف عند الدليل ليس جمودًا بل هو واجب كل عالم، أن لا يقول على الله بغير علم، والعلم هو الدليل، وهو الذي منعهم من عدم القول بشرطية الجماعة، ألا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا ... " الحديث. انظر رسالتنا السالفة ص36، 38" وهو مستند الإجماع الذي حكاه المؤلف وغيره. "ناصر الدين". 2 قلت: قد عرفت أن اتباع الدليل ليس جمودًا، وسامح الله المؤلف فقد أكثر من نبذ أهل العلم والتحقيق بهذا الجمود بينما نراه متسامحًا في سائر مؤلفاته مع مخالفيه في مجادلتهم. وقد ذكرنا آنفًا أن مستند الإجماع المذكور إنما هو قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: "في جمعة"، ولا يصلح مستندًا له ما ذكره المؤلف من قبله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفعل وحده لا يدل=

ثم يقابل هذا القول مذهب من منع تعددها مطلقًا دعت الحاجة إليه أو لا استدلالًا بأنها لم تتعدد في عهده عليه الصلاة والسلام وعهد خلفائه فشق على الناس وضيق عليهم ما وسعته الحنيفية السمحة. نعم لا ننكر أنها لم تتعدد، في ذلك العهد ولكن لداعي أن المسجد الأعظم في مدينته صلى الله عليه وسلم كان يسع المجمعين وعلى نسبتهم ولذلك وسع عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما المسجد النبوي لما رأياه ضاق بالمجمعين في عهديهما ليسعهم. فسبب عدم التعدد عدم الحاجة إليه لكفاية المسجد. أما وقد ملأ المسلمون البلاد التي تناسلوا فيها وفات عديدهم الحصر في كل مصر فأنى يسعهم مسجد واحد؟ هذا ما لا يختلف فيه اثنان. فلا يقاس عدد الناس الآن بعددهم في الأعصر الغابرة بل لا نسبة بينهم الآن وبينهم قبل عشرين عامًا، فحينئذ سماحة الدين تقضي بتعدد الجمعة على نسبة الحاجة نسبة تطابق القصد وتوافق الحكمة، أعني بقاء هيكل التجميع متماسكًا متساندًا يمثل القوة ووحدة الكلمة من سائر مناحيه.

_ = على الشرطية المتنازع فيها، وإنما على السنية فقط، كما هو ظاهر، ألست ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على صلاة العيدين في المصلى، فهل دل ذلك على أن صلاتها في المصلى دون المسجد شرط لصحتها؟! كلا، وإنما يدل ذلك على السنة فقط، وإلا لكانت صلاة جماهير المسلمين اليوم كصلاة العيد في المساجد باطلة، وما أظن عالمًَا يقول به، وجملة القول أن المؤلف لم يأت بدليل صحيح صريح يثبت به شرطية عدد الأربعين، وكأن تحمسه لحمل المسلمين على الحرص على تكثير سواد المصلين في الجمعة حمله على المبالغة في تقييم العدد وكذلك عدم التعدد بأكثر مما يستحق. أقول هذا مع مشاركتي إياه في التحمس المشار إليه، دون أن أوافقه على القول بشرطية العدد المذكور المستلزم فقده بطلان صلاة الجمعة، ولم لا والمؤلف نفسه قد خالف كل ما سطره هنا بقوله فيما يأتي "ص64" "إن الجمعة تؤدى بمن حضر قلوا أو كثروا، ولا تترك الجمعة لأن عددهم لم يبلغ الأربعين، ولا يلزمهم إعادتهم ظهرًا"! وهذا هو قولنا بالضبط وقول من وصمهم بالجمود، والنعمة لله وحده، وهو المستعان، وراجع رسالتنا "الأجوبة النافعة" "ص39، 40". "ناصر الدين".

وكذلك أهل الكتاب لهم في الأمصار الواسعة عدة معابد بنسبة الحاجة إليها يؤمونها في أيامهم المعروفة فقول الأنصار رضي الله عنهم فيما تقدم "أن لأهل الكتاب يومًا يجتمعون فيه ... إلخ" يتنزل على ما هو المعروف والمألوف. أما في هذه الأزمنة فقد أفرط في تعدد الجمعة إفراطًا كادت تخرج به الجمعة عن موضوعها ففي مثل دمشق أوشك أن لا يبقى مسجد ولو في حارة إلا ويقام فيه جمعة وكثير من المساجد الصغيرة في أيامنا جدد لها منابر بتمويه الحاجة إليها مما يقسم الأمة تقسيمًا يرثى له، ولا حاجة في كثير منها. وقد يؤذن المؤذن في بعضها أذان المنارة ولم يكمل صف من المصلين، وأعرف مسجدًا صغيرًا جدًّا أحدثت له جمعة وبني له منبر كالكرسي لا يتسع ما أمامه إلا لصف واحد، ووراء هذا الصف ممر لبركة ماء وبيت خلاء متلاصقين عن يسار المنبر رغب في إحداث التجميع فيه بعض المثرين لمأرب ظاهره ذلك وباطنه إنقاذ ابنه من الخدمة العسكرية بإخراج براءة له فيه. مثل هذه المساجد الصغيرة كانت معدة لغير الجمعة لعاجز أو مريض أو تاجر أو صانع ممن لا يقدر أن يتجاوز محلته فأصبح كثير من المتصولحين الذين غاب عنهم محذورات تقطيع الجمعة والجماعات يتبرعون بتشييد منابر لها على ضيقها وربما نقبوا مأذنة من الحائط على الجادة ورتبوا مؤذنًا إلحاقا لهذا الصغير بالجوامع الكبيرة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا ولا يتذكرون ما نجم عن ذلك من اشتماله على عدة بدع: 1- إحداث ما لم يحدثه الواقف. 2- مضادة الواقف إذ أوقفه لمعنى حميد فصرف لوجه آخر. 3- أخذ فراغ مصلي أو أكثر بواسطة المنبر المحدث. 4- إعداد ما لم يوضع للجمعة لصغره لها. 5- تفريق المؤمنين بصرفهم عن الجوامع الكبيرة والسعي إليها ليتعارفوا من الأطراف. 6- أداء عبادة مختلف في صحتها. 7- سن سنة مبتدعة ليحتذى على مثالها ويتسع الخرق كما وقع، إلى مفاسد أخرى. قال السبكي في فتاويه: إن هذه المفاسد كان المقتضى لها حدوث جوامع.

قال: وهذا إنما حصل في الشام ومصر من مدة قريبة ولم يكن في القاهرة إلا خطبة واحدة حتى حصلت الثانية في زمن الملك الظاهر مع امتناع قاضي القضاة تاج الدين من إحداثها وأكثر ما في الشام من التعدد حادث. ثم قال السبكي: إن دمشق -سلمها الله- من فتوح عمر إلى اليوم "وهو شهر رمضان سنة 756" لم يكن في داخل سورها إلا جمعة واحدة. ا. هـ. وقد اقيمت في عهده رحمه الله خارج السور في ثلاث جوامع جامع خيلخان خارج الباب الشرقي وكان يخطب فيه شمس الدين ابن القيم والآن درس هذا الجامع ولم يبق منه إلا بابه ونافذتان مسدودتان وفي جامع يلبغا وجامع تنكز "المعروف الآن المكتب الإعدادي العسكري" وقد اعتبر محلاتها كقرى لأن كل واحد منفصل عن الآخر. وقد اعتمد السبكي في عدة تآليف له بأنه إذا كان في مصر أو قرية جامع يسع أهلها ثم أريد إحداث جمعة ثانية في بعض المساجد أن ذلك لا يجوز.. في فتوى له مطولة. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر كيف يصنعون؟ قال: لكل قوم مسجد يجمعون فيه ثم يجزئ ذلك عنهم. قال ابن جريج: وأنكر الناس أن يجمعوا إلا في المسجد الأكبر وكذلك قال ابن عمر: لا جمعة إلا في المسجد الأكبر. وتابع السبكي في ذلك الزركشي والعراقي وابن حجر العسقلاني وعليه قال العبادي: إذا استحال اتساع محل لهم هل تسقط عمن لم يجد له محلا ولم يمكنه ربط بمحل آخر. ا. هـ. أقول: الأمر على ما قاله هؤلاء إذا كان الأكبر يسعهم. وإلا فالشأن كما قال عطاء دفعًا للحرج. قال السبكي عليه الرحمة: لا يحمل كلام من جوز التعدد بحسب الحاجة على إجازة تعددها مطلقًا في كل المساجد فتصير كالصلوات الخمس حتى لا يبقى للجمعة خصوصية فإن هذا معلوم بطلانه بالضرورة لاستمرار عمل الناس

عليه من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم. ا. هـ. يعني أيامه عليه الرحمة. وقال ابنه التاج في "معيد النعم": ولقد رأينا منهم -يعني من المسيطرين- من يعمر الجوامع ظانًّا أن ذلك من أعظم القرب فينبغي أن يفهم مثل هذا المسيطر أن إقامة جمعتين في بلد لا يجوز إلا لضرورة عند الشافعي وأكثر العلماء، فإن قال: قد جوزها قوم قلنا له: إذا فعلت ما هو واجب عليك عند الكل فذاك الوقت افعل الجائز عند البعض، وأما إنك ترتكب ما نهى الله عنه وتترك ما أمر به ثم تريد أن تعمر الجوامع بأموال غيرك ليقال هذا جامع فلان فالله لا يتقبله وأن الله تعالى لا يقبل إلا طيبًا. ا. هـ. وبالجملة فيوجد في دمشق الآن من المساجد التي لم تبن للجمعة وتقام الآن فيها ما لا يحصى، وكل هذه المساجد الصغار يستغنى عنها بكبار ما جاورا إذا سعي إليها، ولكن هو الكسل والذهول عن أصل السنة. وقد رأيت خطر التعدد بلا حاجة، فالذي أراه في الخروج من عهدة هذه الحالة أن يترك التجميع في كل مسجد صغير -سواء كان بين البيوت أو في الشوارع- وفي كل مسجد كبير أيضًا يستغنى عنه بغيره وأن ينضم كل أهل محلة كبرى إلى جامعها الأكبر، ولتفرض كل محلة كبرى كقرية على حدة فيستغنى بذلك على كثير من زوائد المساجد ويظهر الشعار في تلك الجوامع الجامعة في أبدع حال فيخرج من عهدة التعدد. وهذا هو حقيقة ما رآه قدماء الشافعية وسر ما يرمي إليه من وافقهم والله الموفق1.

_ 1 قال المؤلف: ثم بعد كتابتي لما تقدم بأكثر من عام كنت أطالع في الإقناع -من كتب الحنابلة- في فروع الجمعة فرايت فيه موافقة لما ذهبت إليه وعبارته: "ويجوز إقامتها في أكثر من موضع من البلد لحاجة" كضيق مسجد البلد عن أهله "وخوف فتنة" بأن يكون بين أهل البلد عداوة فيخشى إثارة الفتنة باجتماعهم في مسجد واحد، "وبعد" للجامع عن طائفة من البلد. "ونحوه" كسعة البلد وتباعد أقطاره "فتصح" الجمعة "السابقة واللاحقة" لأنها تفعل في الأمصار العظيمة في مواضع من غير نكير فكان إجماعًا قال الطحاوي وهو الصحيح من مذهبنا. وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يقمها هو ولا أحد من الصحابة في أكثر من موضع فلعدم الحاجة إليه ولأن الصحابة كانوا يؤثرون سماع خطبته وشهود جمعته وإن بعدت منازلهم لأنه المبلغ عن الله تعالى "وكذا العيد" تجوز إقامتها في أكثر من موضع من البلد للحاجة لما سبق "فإن حصل الغنى بجمعتين اثنتين لم تجز" الجمعة "الثالثة" لعدم الحاجة إليها "وكذا ما زاد. ويحرم" إقامة الجمعة بأكثر من موضع من البلد "لغير حاجة" قال في "المبدع" لا نعلم فيه خلافًا إلا من عطاء. ا. هـ.

"لطيفة" ذكر بعض المؤرخين في حوادث سنة "131" أن أول من اتخذ منابر في الجوامع عبد الملك1 بن مروان أمير مصر من قبل الخليفة مروان بن محمد وكان آخر والٍ على مصر من قبل الأمويين، قالوا: ولم يكن قبل ذلك منبر وكانت ولاة مصر تخطب على العصي إلى جانب القبلة وفي حوادث عام "161" أن الخليفة محمد المهدي الذي زاد في المسجد الحرام والمسجد النبوي قصر المنابر وصيرها على مقدار منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعمر الحق لقد أصاب. إذ كم من منبر كبير هائل أخذ فراغًا عظيمًا من الجوامع فإنا لله2.

_ 1 كذا الأصل. والمعروف أن آخر ولاة مروان بن محمد على مصر "المغيرة بن عبيد الله"، المطبعة. 2 قلت: وصار سببًا لقطع الصفوف، وربما أدى إلى إبطال صلاة البعض كما وقع ذلك لي، ولا بأس من أن أقص ذلك باختصار للعبرة. فقد صليت مرة بالناس إمامًا في صبح الجمعة، في إحدى قرى الزبداني، فقرأت بعد الفاتحة ما تيسر من أول "الكهف"؛ لأني لا أتقن حفظ "السجدة". فلما كبرت للركوع هوى المصلون كلهم إلى السجود! توهمًا منهم أنني كبرت لسجدة التلاوة! لكن الذين كانوا من خلفي مباشرة انتبهوا إلى أنني في الركوع، فنهضوا وشاركوني فيه. وأما الذين كانوا خلف المنبر لا يرونني، فقد استمروا ساجدين حتى سمعوا قولي سمع الله لمن حمده! فقطعوا الصلاة وأحدثوا ضجة! وبعد أن سلمت من صلاتي وعظتهم وذكرتهم بما يجب عليهم من الخشوع في الصلاة والانتباه لما يتلى عليهم من آيات الله، وأن لا يذهب فكرهم فيها إلى الزرع والضرع! "ناصر الدين"

خصائص الجمعة في العهد النبوي وفي عهد الخلفاء الراشدين

4- خصائص الجمعة في العهد النبوي وفي عهد الخلفاء الراشدين: 1- إقامتها واحدة غير متعددة في كل بلد. 2- ترك مساجد الأحياء في وقتها إلى الجامع الأكبر. 3- قصدها من الأماكن النائية وتجشم المسافة إليها. 4- ندب التبكير إليها لئلا يزحم ويفوته الذكر. 5- أداؤها بالجمع الكثير. 6- تقدم خطبة عليها. 7- مشروعية الغسل والتطيب لحالة الجمع. 8- مشروعية السكينة وعدم تخطي الجمع. 9- عدم تعددها حتى في آخر عهد الخلفاء. 10- توسيع عثمان رضي الله عنه المسجد النبوي وتكلفة شراء ما حوله لأدائها واحدة. 11- عدم إقامتها في الحواضر والنواحي في ذلك العهد. 12- اقامتها1 في المصر التي فيها حاكم أو نائبه. 13- إجماع الصحابة كلهم على كل ما تقدم بلا نكير. 14- استحسان التجميع في يوم العروبة لجمع الكلمة كما يفعل أهل الكتاب في يوميهم. 15- تسميتها جمعة وفعلة في اللغة للمبالغة والتكثير. 16- ذهاب معنى الجمعة في تفرق شمل المجمعين بأدائها أفذاذًا أو مثنى أو ثلاث. 17- مخالفة ما مضى في العهد النبوي وعهد الراشدين في التعدد لغير حاجة. 18- فقد دليل لمن يقول بتعددها من قوله عليه الصلاة والسلام أو فعله. 19- اشتراط الخطبة واشتراط أدائها جماعة ثبت من فعله عليه عليه السلام مع أنه لا قائل بأدائها بدون خطبة وفرادى. 20- كون الفعل النبوي دليلا أصوليًّا لأنه من السنة، والسنة قول وفعل وتقرير كما ثبت في الأصول، فليتأمل هذه الخصائص. انتظار الأربعين في القرى ليتم عدد المجمعين: أكثر أهل القرى في دمشق شافعية والباقي حنابلة. ولذلك تقام الجمعة في القرى. ومعلوم ما اشترطه فقهاء المذهبين من العدد لصحتها وهو أربعون

_ 1 انظر التعليق السابق ص56.

-وقد سبق مستنده- وهذا العدد وإن كان في حصوله تماسك وقوة لظهور الشعار وفي وجوده ما يعظم هيكل هذه العبادة إلا أن ذلك قد لا يتم في بعض القرى وفي بعض فصول السنة كأيام الحصاد وأوقات لقط الثمر وتجفيفة ونحو ذلك فلا يجتمع أربعون ولا نصفها. فترى هناك من يحضر لإقامتها من عاجز أو فارغ أو فقير لا يعمل جالسًا منتظرًا لما يقضي به خطيب القرية أو مؤذنها ثم تارة يرقى المؤذن بعد الأذان الأول على المنارة أو السطح وينادي أهل القرية للحضور وتكميل العدد وأحيانًا يذهب صارخ بين البيوت لذلك فإذا يئس من بلوغهم العدد المطلوب لهم يصلون الظهر ثم ينصرفون. والذي أراه في هذه الحالة أعني في القرية الصغيرة أو الكبيرة التي يتفق أن لا يجتمع بها أربعون يوم الجمعة لعوائق لهم -وكانت جرت عادتهم بإقامة الجمعة فيها- أن على خطيبهم أن يؤدي الجمعة بمن حضر منهم بعد الأذان قلوا أو كثروا1، ولا يترك الجمعة لأجل أن عددهم لم يبلغ الأربعين؛ لأن الحاضر لا يكلف بالغائب، ويكفي لتذكيره وإعلامه بالعبادة الأذان المشروع، فمن حضر فبها ومن لم يحضر فإثمه في عنقه. وحينئذ فبعد الأذان يتمهل الخطيب تمهلًا لطيفًا2 ثم يقوم فيخطب بمن حضره ولا يترك عادة أهل بلده من إقامة الجمعة أصلًا، وتصح جمعتهم بمن حضر ولا يلزمهم إعادتها ظهرًا؛ لأن الشعار في تلك القرية حصل بهم والفرض أدي بتجميعهم. وقد ذهب كثير من الأئمة إلى عدم اشتراط تعيين العدد في أداء الجمعة. وعليه فتجزئ بمن حضر من أهلها أو من غيرهم قل عددهم أو كثر؛ لأنهم الذين يريدون أن يقيموا شعارها، فسقط الطلب عنهم بانتدابهم لأدائها، ثم على من حضر في قرية يوم الجمعة أن يحتفل كأهلها بإقامة الجمعة. ولا ريب أن من التهاون بالدين والعبادة رفض

_ 1 قلت: وهذا هو الصواب خلافًا لما يقتضيه كلام المؤلف فيما تقدم "ص51" وقد علقنا عليه هناك بما يلزم فراجعه. "ناصر الدين". 2 قلت: هذا التمهل ليس من السنة في شيء، فتنبه. "ناصر الدين".

حضورها، وقد يتوكأ بعضهم بأنه حنفي المذهب وقد شرط في مذهبه المصر والحاكم وهذا من توكؤ المتهاونين بالطاعة الكسالى عن أدائها. وهل للعامي مذهب، وماذا يعرف العامي من مذاهب الأئمة. ولذلك قال الأصوليون. العامي لا مذهب له نعم لو صدر ذلك من مجتهد حضر يوم الجمعة القرية وأداه اجتهاده إلى ذلك والله يعلم من قلبه أنه لم يقصد التهاون بالعبادة ولا المشي مع الهوى لكان معذورًا بل مأجورًا والله أعلم.

اداء الجمعة في حجرة ورفض الصفوف

6- أداء الجمعة في حجرة ورفض الصفوف: يوجد في بعض الجوامع حجر في برانية نائية عن حرمه وكذا في المدارس التي أحدثت فيها إقامة الجمعة بعد عصر الواقف حجر في صحنها فيختبئ بها بعض من أهل العلم ويقتدي فيها بالإمام لأن صوت المبلغ وصيحته تبلغه، وفي هذا من مخالفة الهدي النبوي وسيرة الصحابة والأئمة ما لا يخفى. وهب أن القدوة صحيحة ولكن أكان هكذا عمل العاملين؟ وهل بهذا أمرت السنة النبوية، فأين لحوق الصف الأول، وأين التراص في الصفوف، وأين القرب من الخطيب وأين تكثير سواد المسلمين المطلوب، وأين حضور دعوتهم، وأين سيرة السلف. وأين وأين.. فإنا لله وإنا إليه راجعون. ويرحم الله بعض الصوفية فلقد كان يقول لي: كثير من الفقهاء لم يتفقه إلا للاحتيال والتشبث بأهداب الرخص واللابأسيات لا لمحاكاة الهدي النبوي وإصلاح القلب، وهذا مصداق ما نعاه الغزالي عليهم في "الإحياء". وأدهى من ذلك وأمر ما يفعله بعض المجاورين في مثل "الأزهر" من نومه قبل الزوال واستغراقه بعده إلى العصر سعيًا في إسقاط الجمعة وحضورها بهذا المكر السيئ. فوارزية السنة والدين بهؤلاء المتعالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل.

أدب الخطب والخطباء

7- أدب الخطب والخطباء: قال بعض الفضلاء: ابلغ الخطب ما وافق الزمان والمكان والحال، ففي زمن صيام رمضان مثلا يبين الخطيب للناس حكمه وأحكامه والمقصود منه، وينهاهم عن البدع التي تحدث فيه مبينًا ضررها. وفي عيد الفطر يبين أحكام صدقة الفطر ولا يحسن به أن يستبدلها ببيان أحكام الأضحية أو غير ذلك ويتركها بتاتًا. وفي مكان تفرق أهله يخطب فيهم بالاتحاد، أو تكاسلوا عن طلب العلم حثهم عليه، أو أهملوا تربية أبنائهم حثهم أيضًا عليها.. إلى غير ذلك مما يوافق أحوالهم ويلائم مشاربهم ويناسب طباعهم، يخطب في كل مكان بحسبه، مراعيًا أحوال العالم، بصيرًا بمقترفاتهم الحاصلة في خلال الأسبوع، فينهاهم عنها، وينبههم عليها، متى رقي منبر الحطابة، عسى أن يهتدوا طريقًا قويمًا. ثم قال: "كيف كانت الخطب في الصدر الأول؟ " كانت الخطب في الصدر الأول لها المكانة العالية والمقام الأسنى. كانت موضوع المفاخرة بين العرب كما يفتخرون في الشعر. كانوا ينتقون من جواهر الألفاظ أعذبها وأظرفها وأحلاها، ومن المعاني أرقها، وأدقها وأغلاها، ومع ذلك فكانوا يضمنونها آيات من كتاب الله تعالى لتزداد حلاوة وطلاوة حتى إنه ليعاب على خطبة ليس فيها آية من القرآن الكريم1. بلغت زمن الخلفاء الراشدين عنفوان شبابها فإن القرآن بما اشتمل عليه من أبدع الأساليب أعانهم على الخوض في عباب التفنن في دائرة الإرشادات الجاذبة بمغناطيسها الأفئدة. كانوا لا يتقيدون بوقت بل كلما دعت الحاجة اجتمعوا فألقيت عليهم استشارة أو وعظ أو تذكير أو إعلان أمر ... إلخ.

_ 1 انظر البيان والتبيين للجاحظ "1: 65 سنة 1332"، المطبعة.

كان الخطيب إذا قام لأمر ما سحر الألباب وملك بمرصعات المواعظ ما لا يملك بمرهفات السيوف والرماح. يؤلف بين من تفرق، ويسكن الفتن ويزيل المخاصمات ويقطع المنازعات، يقيمهم إن شاء ويقعدهم إن أراد بقوة اقتداره وشدة تأثيره. ثم قال: "متى حدث الانحطاط في الخطب؟ " إن الخطابة قبل كانت بيد الخلفاء الراشدين والرؤساء العظام وكانت موضع احتراس. كان يخطب الخطيب قائمًا "إلا خطبة النكاح" آخذا بيده عصا أو مخصرة أو قناة أو غير ذلك. فلما جاءت الدولة المروانية واستولى الترف وعم، وتولى كرسي المملكة الوليد بن عبد الملك بن مروان بدأ يخطب -واأسفاه- جالسًا ترفعًا منه واستهانة بهذا الموقف الجليل. ومن هذا أخذت الخطابة في الاضمحلال والتلاشي فكان آخر خطيب أجاد من أئمة الإسلام المأمون بن هارون الرشيد من خلفاء الدولة العباسية، وترك الملوك الخطابة ووكلوا أمرها كغيرها من الأمور لغيرهم فصارت منحطة القدر بعد الرفعة وموضع الاستهانة بعد التجلة تولاها أناس ما قدروها حق قدرها وما دروا المقصود منها بجهالاتهم المطبقة حتى إنك لو خاطبت أحدهم عن الخطبة المتبعة وتغييرها بما يستدعيه الزمان ما أجابك إلا بقوله: لا يمكن للنفوس الآن أن تتزحزح عن غيها، وأن الخطب الآن هي من قبيل الرسوم فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فأنت ترى اليوم ببغاء كل منبر ينفث سموم الإماتة والتدمير والإقعاد عن العمل متمسكًا بمثل قوله رحمه الله: "لمن تقتني الدنيا وأنت تموت، ولمن تبتني العلياء والمقابر بيوت ... إلخ" مما أمات الأمة غافلًا عن قول سيد الزاهدين: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا"1 ثم قال: "شرط الخطيب" يشترك في الخطيب أن يكون "عالما بالعقائد الصحيحة" حتى لا يزيغ ويؤذي الناس بسوء عقيدته في درك ظلمات الضلال فتسوء العقبى

_ 1 لا أصل له، كما بينته في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" "8".

"وعلم الفروع" كي يصحح العبادات بما علمه من علم الفقه ولأنه عرضة يسأله المأمومون في الأحكام فيجيبهم عن حقيقة ويهديهم بنور الشريعة إلى صراط مستقيم لا يهرف ويخبط خبط عشواء في أمور الدين بجهالاته كأغلب الخطباء والأئمة اليوم فرحماك اللهم رحماك. "واللغة العربية" وبالأخص علم الإنشاء كي يقتدر على تأليف كلام بليغ وتنسيق درر مضيئة يشرق نور أسرارها على أفئدة السامعين، فيسحرهم ببديع لفظه ويختلب ألبابهم بجواهر آيات وعظه. "وأن يكون نبيهًا" كي لا تعزب عليه شاردة إلا أحصاها ولا واردة إلا استقصاها ولينظر بمنظار التأمل والانتقاد ويغوص في بحار الشريعة فيستخرج لآلئ الأحكام ودررها من غير ما يعتريها تشويه ولا يشوبها كلل، "وإن يكون لسنًا" فصيحًا منطلق اللسان معبرًا عما يخطر بباله من المعاني الكامنة في ضميره يبرز ما انطوت عليه السريرة من جليل النصائح وجميل الإرشادات مما يكفل السعادة للعباد، "ووجيهًا" تهابه القلوب وتجله العيون وتعظمه النفوس يهابه الصغير ويوقره الكبير حتى يكون لكلامه تأثير ويجد له سميعًا يعي ما يقال ويعمل بما يسمع، "وصالحًا" تقيا مهذبا ورعا قنوعًا زاهدًا غير متجاهر بمعصية ولا متلبسًا بمخالفة يفعل ما يقول فإن ذلك أدعى إلى قبول الموعظة منه. قال الشاعر الحكيم أبو الأسود الدؤلي رضي الله عنه: يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي العنا ... كيما يصح به وأنت سقيم ونراك تصلح بالرشاد عقولنا ... ابدا وأنت من الرشاد عديم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم وهناك يقبل ما تقول ويشتفى ... بالقول منك وينفع التعليم لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم ولله الأمر في عباده بفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وإلى الله المصير1.

_ 1 قلت: لقد فات المصنف رحمه الله تعالى أن يضم إلى الشروط المذكورة شرطًا آخر مهمًا أخل به كافة الخطباء في عامة البلدان مع الأسف، ألا وهو أن يكون عالمًا بالسنة عارفًا بما صح فيها مما لم يصح، حتى لا يكون سببًا لإذاعة الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس، فيضل ويضلوا به، وما أكثر الأحاديث الواهية التي ينشرونها بمناسبة بعض المواسم المبدعة وغيرها.

دعاء المؤذن بين الخطبتين أثر جلوس الخطيب

8- دعاء المؤذن بين الخطبتين أثر جلوس الخطيب: من المقرر في الفروع أن الخطيب إذا ارتقى المنبر فلا تبتدأ صلاة ولا يجهر بدعاء، وذلك تأهبًا لسماع الخطبة، وإجلالًا للمقام، وتخشعًا لهذه العبادة الأسبوعية، وهذا معلوم من موضوع الاحتفال لأداء فريضة الجمعة، وقد اتفق الفقهاء على الحظر من الجهر بالذكر أو الاستغفار أو الدعاء أو النداء في تلك الحالة اتفاقًا لا خلاف فيه استدلالا بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت" 1. فأثبت له اللغو بذلك مع أنه ينهى عن منكر فكيف بمن لا يكون قوله كذلك، لا جرم أنه أشد منه لغوًا وإثمًا. إذا تحقق ذلك تبين أن ما يقوله بعض المؤذنين يوم الجمعة بين يدي الخطيب إذا جلس من الخطبة الأولى: غفر الله لك ولوالديك ولنا ولوالدينا والحاضرين إلخ منكر يلزم إنكاره لأنه ذكر غير مشروع في وقت هو وقت الصمت أو التفكر القلبي للاتعاظ، فتفريق جمعية قلوب الحاضرين برفع الصوت بذلك والجراءة على الجهر به في هذا الموضوع الرهيب لا يختلف فقيه في نكارته فلذلك يلزم الخطيب ومن قدر على إزالته أن ينهى عنه أسوة كل منكرة والله أعلم.

_ 1 حديث صحيح، أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة، وهو مخرج في الإرواء رقم 612 وصحيح أبي داود "1018".

الأحاديث المروية على المنابر في فضل رجب

9- الأحاديث المروية على المنابر في فضل رجب: كل من سبر كتب الأحاديث الموضوعة علم أنه لم يصح في صوم رجب حديث ولا أثر. قال الإمام أبو شامة عليه الرحمة في كتاب الباعث ذكر الشيخ أبو الخطاب في كتاب "أداء ما وجب من بيان وضع الوضاعين في رجب"1 عن المؤتمن بن أحمد الساجي الحافظ قال: كان الإمام عبد الله الأنصاري شيخ خراسان لا يصوم رجب وينهى عن ذلك ويقول: ما صح في فضل رجب ولا في صيامه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء، وقد رويت كراهة صومه عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وكان عمر يضرب بالدرة صوامه، وروى ذلك الفاكهي في كتاب مكة له وأسنده الإمام المتفق على عدالته وعلى إخراج حديثه وروايته أبو عثمان سعيد بن منصور الخراساني قال: حدثنا سفيان عن مسعر عن وبرة عن خرشة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يضرب أيدي الرجال في رجب إذا رفعوها عن طعامه حتى يضعوها فيه ويقول: إنما هو شهر كان أهل الجاهلية يعظمونه، قال: وهذا سند مجمع على عدالة رواته فالصيام جنة وفعل خير وعمل بر لا لفضل صوم هذا الشهر. قال: فإن قيل أليس هذا هو استعمال خير، قيل له: استعمال الخير ينبغي أن يكون مشروعًا من النبي صلى الله عليه وسلم فإذا علمنا أنه كذب خرج من المشروعية، وإنما كانت تعظمه مضر في الجاهلية كما قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وضرب أيدي الذين كانوا يصومونه، وكان ابن عباس حبر القرآن يكره صيامه، وقال فقيه القيروان وعالم أهل زمانه بالفروع أبو محمد بن أبي زيد: وكره ابن عباس صيام رجب كله خيفة أن يرى الجاهل أنه مفترض، وذكر بعض هذه الآثار أبو بكر الطرطوشي في كتاب الحوادث والبدع وزاد قال: وروى ابن وضاح

_ 1 لقد قمت بتخريج أحاديث مخطوطة منه استحضرها المكتب الاسلامي. فعسى أن ييسر له طبعه قريبًا إن شاء الله تعالى. "ناصر الدين".

أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يضرب الرجبيين الذين يصومون رجب كله، وروى أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا رأى الناس وما يعدون لوجب كرهه وقال: صوموا وافطروا فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية، وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه دخل على أهله وقد أعدوا لرجب فقال: ما هذا؟ فقالوا: لرجب نصومه، فقال: اجعلتم رجب كرمضان، قال الطرطوشي يكره صيام رجب على أحد ثلاثة أوجه: أحدها إذا خصه المسلمون بالصيام في كل عام حسب العوام ومن لا معرفة له بالشريعة مع ظهور صيامه أنه فرض كرمضان أو سنة ثابتة خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم كالسنن الراتبة، وأما أن الصوم فيه مخصوص بفضل ثواب على سائر الشهور جار مجرى صوم عاشوراء أو فضل آخر الليل على أوله في الصلاة فيكون من باب الفضائل لا من باب السنن والفرائض ولو كان من باب الفضائل لسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله مرة في العمر كما فعل في يوم عاشوراء وفي الثلث الغابر من الليل ولما لم يفعل بطل كونه مخصوصا بالفضيلة ولا هو فرض ولا سنة باتفاق فلم يبق لتخصيصه بالصيام وجه. فكره صيامه والدوام عليه حذرًا من أن يلتحق بالفرائض والسنن الراتبة عند العوام فإن أحب امرؤ أن يصومه على وجه يؤمن فيه الذريعة وانتشار الأمر حتى لا يعدو فرضًا أو سنة.

التمسح بالخطيب إذا نزل من المنبر

10- التمسح بالخطيب إذا نزل من المنبر: يوجد من المصطفين حول المنبر يوم الجمعة أناس يتبادرون إلى الخطيب إذا فرغ من خطابته ونزل من المنبر وتقدم إلى المحراب فيتمسحون بظهره أو كتفه أو جنبه اعتقادًا بأنه كان في مرتقى هبطت عليه فيه الرحمة والنور والبركة، مع أنه لا يتمسح بشيء إلا بالحجر الأسود في مكة المشرفة والتمسح بما عداه بدعة كما بينه الغزالي رحمه الله تعالى. نعم تقبيل يد العالم الصالح لا بأس به كما هو مقرر، والمقصود أن هذا التمسح مبتدع ينبغي التنبيه عليه للإقلاع عنه.

الفصل الثاني: في بدع محدثة في الصلاة

الفصل الثاني: في بدع محدثة في الصلاة الجهر بالنية قبل تكبيرة الاحرام ... الفصل الثاني: في بدع محدثة في الصلاة 1- الجهر بالنيبة قبل تكبيرة الإحرام: رأيت أيام رحلتي إلى مصر عام "1321" في بورسعيد ومصر من يجهر بالنيبة قبل التكبير ويشوش على الناس ولا يخفى ما في ذلك من الكراهة أو الحظر. قال الإمام ابن الحاج في المدخل: الجهر بالنية من البدع واختلف في النطق باللسان هل هو بدعة أو كمال. فقال بعضهم: هو كمال لأنه أتى بالنيبة في محلها وهو القلب ونطق بها اللسان وذلك زيادة كمال هذا ما لم يجهر بها. وقال بعضهم: إن النطق باللسان مكروه ويحتمل ذلك وجهين أحدهما أنه قد يكون صاحب هذا القول يرى أن النطق بها بدعة؛ إذ لم يأت في كتاب ولا سنة ويحتمل أن يكون ذلك لما يخشى أنه إذا نطق بها بلسانه قد يسهو عنها بقلبه وإذا كان ذلك كذلك فتبطل صلاته لأنه أتى بالنية في غير محلها إلا ترى أن محل القراءة النطق باللسان فلو قرأ بقلبه ولم ينطق بها لسانه لم تجزه صلاة وكذلك لو تلفظ بالنية بلسانه ولم ينوها بقلبه "ثم قال" وما تقدم من أن النية لا يجهر بها فهو عام في الإمام والمأموم والفذ فالجهر بها بدعة على كل حال؛ إذ إنه لم يرو أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء ولا الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين جهروا بها فلم يبق إلا أن يكون الجهر بها بدعة "ثم قال" وقد ورد النهي عن أقل من هذا

بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن" 1 وكان كل واحد منهم يصلي لنفسه وهذه صلاة واحدة فمن باب أولى أن ينهى عن ذلك. ثم قال: وشيء لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة فلا شك في أن تركه أفضل من فعله بل هو بدعة لما تقدم. وقال الإمام ابن القيم في "إغاثة اللهفان" في بحث النية في الطهارة والصلاة: النية هي القصد والعزم على فعل الشيء ومحلها القلب لا تعلق لها باللسان أصلًا ولذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة في النية لفظ بحال ولا سمعنا عنهم ذكر ذلك، وهذه العبارات التي أحدثت عند افتتاح الطهارة والصلاة قد جعلها الشيطان معتركا لأهل الوسواس يحبسهم عندها ويعذبهم فيها ويوقعهم في طلب تصحيحها، فترى أحدهم يكررها ويجهد نفسه في التلفظ وليست من الصلاة في شيء، وإنما النية قصد فعل الشيء فكل عازم على فعل فهو ناويه لا يتصور انفكاك ذلك عن النية فإنه حقيقتها، فلا يمكن عدمها في حال وجودها، ومن قعد ليتوضأ فقد نوى الوضوء، ومن قام ليصلي فقد نوى الصلاة، ولا يكاد العاقل يفعل شيئًا من العبادات ولا غيرها بغير نية فالنية أمر لازم لأفعال الإنسان المقصودة لا يحتاج إلى تعب ولا تحصيل، ولو أراد إخلاء أفعاله الاختيارية عن نيته لعجز عن ذلك ولو كلفه الله عز وجل الصلاة والوضوء بغير نية لكلفه ما لا يطيق ولا يدخل تحت وسعه، وما كان هكذا فما وجه التعب في تحصيله وإن شك في حصول نيته فهو نوع جنون فإن علم الإنسان بحال نفسه أمر يقيني فكيف يشك فيه عاقل من نفسه، ومن قام ليصلي صلاة الظهر خلف الإمام فكيف يشك في ذلك ولو دعاه داع إلى شغل في تلك الحال لقال إني مشتغل أريد صلاة الظهر، ولو قال له قائل في وقت خروجه إلى الصلاة: أين تمضي؟ لقال: أريد صلاة الظهر مع الإمام فكيف يشك عاقل في هذا من نفسه وهو يعلمه في هذا من نفسه وهو يعلمه يقينًا بل أعجب

_ 1 حديث صحيح أخرجه مالك في "الموطأ" "1- 80- 28" وغيره من حديث البياضي، وله شواهد من حديث أبي سعيد الخدري وابن عمر وأبي هريرة وعائشة وقد خرجتها في "صحيح أبو داود" "1203".

من هذا أن غيره يعلم بنيته بقرائن الأحوال فإنه إذا رأى إنسانًا جالسًا في الصف في وقت الصلاة عند اجتماع الناس علم أنه ينتظر الصلاة، وإذا رآه قد قام عند إقامتها ونهوض الناس إليها علم أنه إنما قام ليصلي، فإن تقدم بين يدي المأمومين علم أنه يريد إمامتهم، فإن رآه في الصف علم أنه يريد الائتمام "قال" فإذا كان غيره يعلم نيته الباطنة بما ظهر من قرائن الأحوال فكيف يجهلها من نفسه مع اطلاعه هو على باطنه، فقبوله من الشيطان أنه ما نوى تصديق له في جحد العيان وإنكار الحقائق المعلومة يقينًا ومخالفة للشرع ورغبة عن السنة وعن طريق الصحابة ثم إن النية الحاصلة لا يمكن تحصيلها والموجودة لا يمكن إيجادها لأن من شرط إيجاد الشيء كونه معدومًا فإن إيجاد الموجود محال، وإذا كان كذلك فما يحصل له بوقوفه شيء ولو وقف ألف عام، ومن العجب أنه يتوسوس حال قيامه حتى يركع الإمام فإذا خشي فوات الركوع كبر سريعًا وأدركه فمن لم يحصل النية في الوقوف الطويل حال فراغ باله كيف يحصلها في الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة "ثم قال": قال شيخنا -يعني التقي ابن تيمية عليه الرحمة- ومن هؤلاء من يأتي بعشر بدع لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه واحدة منها فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم نويت أصلي صلاة الظهر فريضة الوقت أداءً لله تعالى إمامًا أو مأمومًا أربع ركعات مستقبل القبلة ثم يزعج أعضاءه ويحني جبهته ويقيم عروق عنقه ويصرح بالتكبير كأنه يكبر على العدو فلو مكث أحدهم عمر نوح عليه السلام يفتش هل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحد من أصحابه شيئًا من ذلك لما ظفر به إلا أن يجاهر بالكذب البحت، فلو كان في هذا خير لسبقونا إليه ولدلونا عليه فإن كان هذا هدى فقد ضلوا عنه، وإن كان الذي كانوا عليه هو الهدى والحق فماذا بعد الحق إلا الضلال. "ومن أصناف الوسواس" ما يفسد الصلاة، مثل تكرير بعض الكلمة، كقوله في التحيات أت أت التحي التحي وفي السلام أس أس وفي التكبير أكككبر ونحو ذلك فهذا الظاهر بطلان الصلاة به وربما كان إماما فأفسد

صلاة المأمومين وصارت الصلاة التي هي أكبر الطاعات أعظم إبعادًا له عن الله من الكبائر، وما لم تبطل الصلاة من ذلك فمكروه وعدول عن السنة ورغبة عن طريقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه ما كان عليه أصحابه وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه وأغرى الناس بذمه والوقيعة فيه فجمع على نفسه طاعة إبليس ومخالفة السنة وارتكاب شر الأمور ومحدثاتها وتعذيب نفسه وإضاعة الوقت والاشتغال بما ينقص أجره وفوات ما هو أنفع له وتعريض نفسه لطعن الناس فيه وتغرير الجاهل بالاقتداء به، فإنه يقول لولا أن ذلك فضل لما اختاره لنفسه وإساءة الظن بما جاءت به السنة وأنه لا يكفي وحده وانفعال النفس وضعفها للشيطان حتى يشتد طمعه فيه وتعريضه نفسه للتشديد عليه عقوبة له وإقامته على الجهل ورضاه بالحبل في العقل كما قال أبو حامد الغزالي وغيره: الوسوسة سببها إما جهل بالشرع وإما خبل في العقل وكلاهما من أعظم النقائص والعيوب. فهذه نحو خمس عشرة مفسدة في الوسواس. ومفاسده أضعاف ذلك بكثير.

صلاة النافلة إذا أقيمت الصلاة

2- صلاة النافلة إذا أقيمت الصلاة: قالت المالكية يحرم التنفل حين إقامة الصلاة لوجوب الاشتغال بالمقامة ولئلا يطعن في الإمام. ا. هـ. ولذا تقطع النافلة عندهم إذا أقيمت وبه قال أبو حامد من الشافعية أيضًا: والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" رواه مسلم وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان وفي رواية لأحمد: فلا صلاة إلا التي أقيمت1، وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهما عن ابن بحينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا وقد أقيمت الصلاة يصلي

_ 1 قلت: هو بهذا اللفظ ضعيف. والصحيح الذي قبله، وقد خرج في "الإرواء" "90".

ركعتين فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "الصبح أربعًا الصبح أربعًا"؟ 1 وروى ابن خزيمة وابن حبان والبزار والحاكم عن ابن عباس قال: كنت أصلي وأخذ المؤذن في الإقامة فجذبني النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "أتصلي الصبح أربعًا"؟. قال العارف ابن عربي قدس سره في "الفتوحات" في سر ذلك: يبطل التيمم مع وجود الماء والقدرة على استعماله، ولا شك أن كل ما زاد على الفرض فهو نافلة سواء أكد أو لم يؤكد فإن الفرض آكد منه بلا شك والوقت للفرض بالإقامة الحاصلة، ثم قال فالدخول مع الإمام في الصلاة أو عند سماع الإقامة أولى من ركعتي الفجر، وقد أغلظ في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظهر الكراهية لمن فعل ذلك وقال لمن صلاهما وصلاة الصبح تقام: "أتصلي الصبح أربعًا"؟. يكررها عليه كارهًا منه ذلك الفعل انتهى. ولم ينكر على من قضاهما بعد الفريضة كما رواه أبو داود وغيره2. قال ابن عبد البر: الحجة عند التنازع السنة فمن أدلى بها فقد أفلح. وترك التنفل عند إقامة الصلاة وتداركها بعد قضاء الفرض أقرب إلى اتباع السنة. حكاه الحافظ ابن حجر في الفتح.

_ 1 وقال الحاكم "1، 307" "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. قلت، فيه أبو عامر الخزاز واسمه صالح بن رستم، ولم يخرج له مسلم إلا تعليقًا، ثم هو مختلف فيه، وحديثه يحتمل تحسين أما الصحة فلا، ومن طريقه أخرجه ابن حبان "441" وأحمد "1، 238" ولفظه "أقمت صلاة الصبح، فقام رجل يصلي الركعتين فجذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه فقال: 48 فذكره. 2 حديث صحيح، انظر "المشكاة" "1044".

اساءة الصلاة

3- إساءة الصلاة: قال الإمام الغزالي1: مما يشاهد كثيرًا في المساجد إساءة الصلاة بترك الطمأنينة في الكروع والسجود، وهو منكر مبطل للصلاة بنص الحديث فيجب النهي عنه. ومن رأى مسيئًا في صلاته فسكت عليه فهو شريكه. هكذا ورد الأثر. وفي الخبر ما يدل عليه إذ ورد في الغيبة أن المستمع شريك القائل2 وكذلك كل ما يقدح في صحة الصلاة تجب الحسبة فيه.

_ 1 يعني الغزالي قول ابن مسعود الذي ذكره في مكان آخر من "الإحياء" "1، 172" "من رأى من يسيء صلاته فلم ينهه فهو شريكه في وزرها". ولم أقف على إسناده. 2 يشير الغزالي إلى الحديث الذي ذكره في "الصوم" من "الإحياء" "1، 211" بلفظ "المغتاب والمستمع شريكان في الإثم" وذكره في "الغيبة" "2، 127" بلفظ "المستمع أحد المغتابين" ولا أصل له بهذا اللفظ، وإنما روي بلفظ "نهي عن الغيبة، وعن الاستماع إلى الغيبة" وإسناده ضعيف جدًّا كما بينته في "الأحاديث الضعيفة" "122". "52/ أ" حديث صحيح وقد مضى برقم "48".

رفض الجماعة الأولى لانتظار الثانية

4- رفض الجماعة الأولى لانتظار الثانية: نقل الطحطاوي عن رسالة لابن نجيم فيما إذا تعددت الجماعات في المسجد وسبقت جماعة الشافعية مع حضور الحنفي أن الأفضل الاقتداء بالشافعي بل يكره التأخير لأن الحنفي حالة صلاة الشافعي لا يخلو إما أن يشتغل بالرواتب لينتظر الحنفي وذلك منهي عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" 52/ أوإما أن يجلس وهو مكروه أيضًا لإعراضه عن الجماعة من غير كراهة في جماعتهم على المختار. ونحوه في حاشية المدني عن والده الشيخ أكرم وميربادشاه والشرواني فإنهم رجحوا أن الصلاة مع أول جماعة أفضل. وكان مفتي البلد الحرام ابن ظهيرة الحنفي لا يزال يصلي مع الشافعية عند تقدم جماعتهم "كذا في رد المحتار".

الافتئات على الامام الراتب

5- الإفتئات على الإمام الراتب: يوجد في كثير من الجوامع الكبيرة أناس يفتاتون على الإمام الراتب أي يتقدمون بالصلاة جماعة عليه قبل أن تقام له فيختزلون من الجامع ناحية يؤمون بها أناسا على شاكلتهم رغبة في العجلة أو حبًّا في الانفراد للشهرة. وقد اتفقت الحنابلة والمالكية على تحريم أن يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب. قالت الحنابلة إلا بإذنه وإلا فلا تصح صلاته كما في الإقناع وشرحه. وقالت المالكية: كره إقامتها قبل الراتب وحرم معه ووجب الخروج عند إقامتها للراتب كما في أقرب المسالك، وكره ذلك الشافعية وافتى ابن حجر بمنعه بتاتا. وصرح الإمام الماوردي من الشافعية بتحريم ذلك في مسجد له راتب وكره ذلك الحنفية. ولا يخفى أن ما ينشأ عن هذا الإفتئات من المفاسد يقضي بتحريمه لأنه يؤدي إلى التباغض والتشاجر وتفريق كلمة المسلمين والتشيع والتحزب في العبادة، ولمخالفة أمر السلطان أو نائبة لأنه أذن للراتب فقط. ولاتباع الهوى ومضادة حكمة مشروعية الجماعة من الاتحاد للتآلف والتعارف والتعاون على البر والتقوى فإن في تقسيمها تناكر النفوس وتبديل الأنس وحشة، إلى مفاسد أخرى تنتهي إلى قريب الأربعين مفسدة. وقد جمعت في حظر ذلك رسالة سميتها "إقامة الحجة على المصلي جماعة قبل الإمام الراتب، من الكتاب والسنة وأقوال سائر أئمة المذاهب" فليحذر من هذه البدعة الشنيعة. هدى الله المفتاتين للإقلاع عنها.

صلاة جماعتين فأكثر في محل واحد يشوش بعضهم على بعض

6- صلاة جماعتين فأكثر في محل واحد يشوش بعضهم على بعض: سئل العلامة مفتي المالكية الشيخ عليش المصري كما في فتاويه: ما قولكم في صلاة جماعتين فأكثر في محل واحد له راتب أولا ووقت واحد يقيمون الصلاة معا أو يحرمون بها معا ويتقدم بعضهم بركعة أو أكثر ويسمع بعضهم قراءة بعض أو بعضهم يقرأ وبعضهم يركع وبعضهم يسجد وبعضهم يتشهد، وقد تختلط صفوف المقتدين بهم فيجتمع في الصف الواحد إمامان فأكثر ويلتبس على بعض المقتدين بهم صوت إمامهم بصوت إمام غيره مع اشتغاله بسماع قراءة غيره وتكبيره وتسميعه عن سماع ذلك من إمامه. فهل هذا من البدع الشنيعة والمحدثات الفظيعة التي يجب على أهل العلم وأولي الأمر إنكارها وهدم منارها وهل جريان العادة به من بعض العلماء والعوام يسوغه أم لا؟ فأجاب رحمه الله: نعم هذا من البدع الشنيعة والمحدثات الفظيعة أول ظهوره في القرن السادس ولم يكن في القرون التي قبله وهو من المجمع على تحريمه كما نقله جماعة من الأئمة لمنافاته لغرض الشارع من مشروعية الجماعة الذي هو جمع قلوب المؤمنين وتأليفهم وعود بركة بعضهم على بعض، وله شرع الجمعة والعيد والوقوف بعرفة، ولتأديته للتخليط في الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين والتلاعب بها فهو مناف لقوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} وقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 1 وقوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله في الصلاة اتقوا الله في الصلاة اتقوا الله في الصلاة" 2 وقوله صلى الله عليه وسلم: "أتموا الصفوف" 3 وقوله صلى الله عليه وسلم: "أتمو الصف المقدم" 4 وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" 5 وفي الموطأ: سمع قوم الإقامة فقاموا يصلون فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أصلاتان معًا أصلاتان معًا" وذلك في الصبح في الركعتين اللتين قبل الصبح6 وإذا شرعت الصلاة حال الجهاد

_ 1 أخرجه البخاري. 2 حديث صحيح مخرج في "الصحيحة" "866". 3 حديث صحيح، أخرجه مسلم "2، 30" من حديث أنس مرفوعًا. 4 حديث صحيح مخرج في "صحيح أبي داود" "675" و"المشكاة" رقم "1094". 5 صحيح، وتقدم تقريبًا. 6 صحيح وأخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن بحينة كما تقدم "ص82".

وتلاحم الصفوف وتضارب السيوف بجماعة واحدة على الصفة المقررة ولم يشرع حالتئذ تعدد الجماعات فكيف يشرع حال السعة والاختيار {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} وقد أمر الله تعالى بهدم مسجد الضرار الذي اتخذ لتفريق المؤمنين فكيف يأذن في تفريقهم وهم بمحل واحد للصلاة مجتمعين. وقال صلى الله عليه وسلم: "الجفاء كل الجفاء والكفر والنفاق من سمع منادي الله تعالى بالصلاة ويدعو إلى الفلاح فلا يجيبه"1 وقال صلى الله عليه وسلم: "حسب المؤمن من الشقاء والخيبة أن يسمع المؤذن يثوب بالصلاة فلا يجيبه"2، وإذا كان هذا حال سامع الأذان المتلاهي عنه فكيف حال سامع الإقامة المتصلة بالصلاة المتلاهي عنها وهو في المسجد وكيف يمكن إجابة إقامتين فأكثر لو شرعتا في محل واحد ووقت واحد {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} . وأخرج الإمام النسائي عن عرفجة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستكون بعدي هنات وهنات 3 فمن رأيتموه فارق الجماعة أو يريد تفريق أمة محمد وهم جميع فاقتلوه كائنًا من كان" 4 وروى ابن ماجه عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله لصاحب بدعة صومًا ولا صلاة ولا صدقة ولا حجًّا ولا عمرة ولا جهادًا لا صرفًا ولا عدلًا، يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين"5 وعن ابن عباس رفعه: "أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته"6 وعن ابن مسعود رضي الله

_ 1 حديث ضعيف أخرجه أحمد "2، 439" والطبراني من حديث معاذ بن أنس مرفوعًا زبان بن قائد وهو ضعيف الحديث كما قال الحافظ. 2 ضعيف أيضًا، وهو رواية للطبراني في الحديث الذي قبله، وفيه زبان أيضًا كما في "المجمع" "2: 42". 3 أي شرور وفساد اهـ نهاية. 4 حديث صحيح، أخرجه النسائي "2: 166" عن عرفجة بن ضريح الأسجعي مرفوعًا به. وسنده صحيح. وقد أخرجه مسلم "6، 22" وأبو داود "2، 283" والنسائي أيضًا وأحمد "4، 261، 241 و5، 23-24" بنحوه. 5 حديث موضوع، وقد خرجته في "الضعيفة" "1493". 6 ضعيف، وبيانه في المصدر السابق "1492".

عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعلكم تدركون أقوامًا يصلون الصلاة لغير وقتها فإذا أدركتموهم فصلوا في بيوتكم للوقت الذي تعرفون ثم صلوا معهم واجعلوها سبحة" 1 ونحوه عن عبادة وأبي ذر. فلم يأذن لهم في تعدد الجماعة ولا في التخلف عنها فيجب على العلماء وأولي الأمر وجماعة المسلمين إنكارها وهدم منارها، وجريان العادة بها من بعض العلماء والعوام لا يسوغها. وقد ألف في المسألة الشيخ الإمام أبو القاسم عبد الرحمن الحباب السعدي المالكي، والشيخ أبو إبراهيم إسحاق الغساني المالكي، وبسطا الكلام عليها وأجادا فكفيا من بعدهما مؤنتهما جزاهما الله تعالى أحسن الجزاء بمنه. ثم أطال في التشنيع على من يتشاغل عن الاقتداء بالراتب بنافلة وحديث انتظارًا لغيره بأنه لم يقل به أحد الفقهاء لا فعلا ولا قولا. ثم قال: فأما إقامة صلاة المغرب وصلاة العشاء في شهر رمضان في وقت واحد فلم يستحسنها أحد من العلماء بل استقبحها كل من يسأل عنها ومنهم من بادر للإنكار من غير سؤال. ثم قال: وقال الشيخ إبراهيم الغساني: إن افتراق الجماعة عند الإقامة على أئمة متعددة إمام ساجد وإمام راكع وإمام يقول سمع الله لمن حمده لم يوجد من ذكره من الأئمة ولا دان به أحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لا من صحت عقيدته ولا من فسدت لا في سفر ولا حضر ولا عند تلاطم السيوف وتضايق الصفوف في سبيل الله ولا يوجد في ذلك أثر لمن تقدم فكيف له به أسوة قال جمال الدين بن ظهيرة المكي: وبشاعة ذلك وشناعته ظاهرة لمن الهم رشده ولم تضل به عصبيته ودلائل المنع من ذلك من السنة الشريفة النبوية أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر. ثم قال: وعلى الجملة فذلك من البدع التي يجب إنكارها والسعي لله تعالى في خفض منارها وإزالة شعارها واجتماع الناس على إمام واحد وهو الإمام الراتب، وكل من قام في إزالة ذلك فله الأجر الوافر والخير العظيم المتكاثر. قال العلامة الحطاب

_ 1 حديث صحيح، أخرجه أحمد "1: 379" بسند حسن عن ابن مسعود به. ثم أخرجه "2: 455-459" من طريق أخرى عنه بنحوه. وحديث عبادة وأبي ذر أخرجهما مسلم "2، 120، 121" بنحوه.

وما قاله هؤلاء الأئمة ظاهر لا شك فيه إذ لا يشك عاقل في أن هذا الفعل المذكور مناقض لمقصود الشارع من مشروعية صلاة الجماعة وهو اجتماع المسلمين وأن تعود بركة بعضهم على بعض وأن لا يؤدي ذلك إلى تفرق الكلمة، ولم يسمح الشارع بتفريق الجماعة بإمامين عند الضرورة الشديدة وهو حضور القتال مع عدو الدين بل أمر بقسم الجماعة وصلاتهم بإمام واحد وقد أمر الله سبحانه وتعالى بهدم مسجد الضرار لما اتخذ لتفريق الجماعة، وكان بعض الشيوخ يقول: فعل هؤلاء الأئمة في تفريق الجماعة يشبه فعل أهل مسجد الضرار، وقال القاضي أبو الوليد بن رشد: الجماعة إذا كانت بموضع فلا يجوز لها أن تتفرق طائفتين فتصلي كل طائفة منها على حدة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} ثم نقل ما روى المنذر في الترغيب والترهيب في وعيد المحدثات. منها حديث العرباض وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وأنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" 1 رواه أبو داود وغيره. ومنها حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رغب عن سنتي فليس مني" 2 رواه مسلم. ومنها حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته"3 ومن المعلوم بالتواتر والضرورة أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين اتحاد الجماعة في الصلوات الخمس فتعددها فيها بدعة شنيعة وضلالة فظيعة وفي الصحيح "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية لمسلم "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" 4 والله أعلم. انتهى كلام الشيخ عليش ملخصًا.

_ 1 حديث صحيح، وهو مخرج في "تخريج الطحاوية" "369" و"الأرواء" "2521". 2 وأخرجه البخاري أيضًا. راجع المصدر المتقدم آنفًا "1808". 3 ضعيف كما تقدم "63". 4 تقدم "4".

بدعة السجدتين بعد الصلاة بلا سبب مشروع

7- بدعة السجدتين بعد الصلاة بلا سبب مشروع: قال الإمام أبو شامة في كتاب الباعث في عدة الوجوه المخالفة للسنة في بدعة صلاة الرغائب ما نصه: الوجه الخامس أن سجدتي هذه الصلاة المفعولتين بعد الفراغ منها مكروهتان فإنهما سجدتان لا سبب لهما والشريعة لم ترد بالتقرب إلى الله تعالى في السجود إلا في الصلاة أو لسبب خاص في سهو أو قراءة سجدة. وفي سجدة الشكر خلاف استحبها الشافعي، وقال أحمد: لا باس بها وقال إسحاق وأبو ثور: هي سنة وكره النخعي ذلك وزعم أنه بدعة وكره ذلك مالك والنعمان ثم قال بالقول الأول أقول لأن ذلك قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعلي وكعب بن مالك. قال إمام الحرمين الغزالي: كان الشيخ أبو محمد الجويني يشدد النكير على من يسجد لله من غير سبب واقراه وقال الإمام المتولي صاحب التتمة جرت عادة بعض الناس بالسجود بعد الفراغ من الصلاة يدعو فيه قال: وتلك سجدة لا يعرف لها أصل ولا نقلت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه. ا. هـ. ولعل مراد صاحب التتمة ببعض الناس من تابع في ذلك الصوفي الشهير محمد بن علي الترمذي الحكيم فإنه ذهب إلى استحبابهما لكل مصل جبرًا للسهو القبلي إذ لا يخلو أن يغيب ولو لحظة في نفس صلاته عن كونه مصليًّا والسهو غالبه من الشيطان فلا يجبر إلا بصفة لا يتمكن الشيطان أن يدنو من العبد فيها وهو السجود لحديث "إذا سجد ابن آدم اعتزل الشيطان يبكي ... " 1 قرره في الفتوحات المكية ونقله عن الترمذي ولما كانت الصلاة سبيلها الاتباع حكم عليها الأئمة بالابتداع. ا. هـ.

_ 1 صحيح، أخرجه مسلم "1، 121" وابن ماجه "1052" وأحمد "2، 442" من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله -وفي رواية يا ويلي- أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار". وأخرجه المروزي أيضًا في "زوائد الزهد" "981"، وله شاهد موقوف على ابن مسعود، عند الطبراني في "المعجم الكبير" "2، 25، 2" ورجاله ثقات.

التأخر عن الصفوف في الرفوف

8- التأخر عن الصفوف في الرفوف: قال في الدر المختار: ولو صلى على رفوف المسجد إن وجد في صحنه مكانًا كره كقيامه في صف خلف صف فيه فرجة قال الطحطاوي: هل الكراهة فيه تنزيهية أو تحريمية ويرشد إلى الثاني قوله عليه الصلاة والسلام: "ومن قطعه -يعني الصف- قطعه الله" 1 قال صاحب الدر وبالكراهة أيضًا صرح الشافعية قال السيوطي في بسط الكف في إتمام الصف وهذا الفعل مفوت لفضيلة الجماعة الذي هو التضعيف لا لأصل بركة الجماعة. ا. هـ.

_ 1 صحيح، وهو مخرج في "المشكاة" "1102" و"تخريج الترغيب" "1، 174".

المسيئون صلاة التراويح

9- المسيئون صلاة التراويح: لا يخفى أن صلاة التراويح في كل ليلة من رمضان سنة مأثورة وقد اعتاد كثير من جهلة الأئمة في معظم المساجد أن يخففوها إلى هيئة يقعون بسببها في الإخلال بأركان الصلاة وسننها كترك الطمأنينة في الركوع والسجود وكسرد القراءة وإدماج حروف التلاوة بعضها ببعض وكله من الرغبة في العجلة، وهذا وما أشبهه من أعظم مكايد الشيطان لأهل الإيمان يبطل على العامل عمله مع إتيانه به بل كثير ممن أطاعوا شيطان العجلة صلاتهم أقرب إلى اللعب منها للطاعة. فحق على المصلي فرضًا أو نفلًا أن يقيم الصلاة بصورتيها: الظاهرة من القراءة والقيام والركوع والسجود ونحوها، والباطنة من الخشوع وحضور القلب وكمال الإخلاص والتدبر والتفهم لمعاني القراءة والتسبيح ونحوها فظاهر الصلاة حظ البدن والجوارح وباطنها حظ القلب والسر وذلك محل نظر الحق

من العبد1. وقد ضرب الغزالي عليه الرحمة مثلا للذي يقيم صورة الصلاة الظاهرة دون باطنها بمن يهدي لملك عظيم وصيفة ميتة لا روح فيها وللذي يقصر في شيء من ظاهرها بمن يهدي لذلك الملك وصيفة مقطوعة الأطراف مفقورة العينين فهو والذي قبله متعرضان من الملك بهديتهما للعقاب والنكال لاستهانتهما بالحرمة واستخفافهم بحق الملك. ثم قال: فأنت تهدي صلاتك إلى ربك، فإياك أن تهديها بهذه الصفة فتستوجب العقوبة.

_ 1 قلت: ومن أعظم الأسباب الداعية إلى تخفيف القراءة في صلاة التروايح والإخلال بأركانها إنما هو التزامهم أداءها بعشرين ركعة، زعمًا منهم أن عمر رضي الله عنه أمر بالعشرين، وهو خطأ عليه، فإن الثابت عنه بالسند الصحيح الذي لا شذوذ فيه أنه أمر بصلاتها إحدى عشرة ركعة فيها الوتر، وذلك هو الثابت أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم في "الصحيحين وغيرهما فلو أنهم التزموا السنة في عددها لاستقامت صلاتهم بإذن الله وراجع لهذا البحث رسالتي "صلاة التراويح" وهي مطبوعة.

انفراد المصلين للوتر عن القدوة بامام التراويح المخالف لمذهبهم

10- انفراد المصلين للوتر عن القدوة بإمام التراويح المخالف لمذهبهم: جرت عادة المصلين للوتر عن القدوة بإمام التراويح في رمضان في المساجد أن يقتدوا بالإمام فيها كلها ثم إذا أراد صلاة الوتر فالمقتدون الموافقون له في مذهبه يكملون معه صلاة الوتر جماعة أيضًا والمخالفون له في مذهبه ينفردون في الوتر بجماعة لهم يؤمهم أحدهم. أصل هذا الإنفراد والتباين والتقسيم في المصلين هو أن الحنفية يرون صلاة الوتر ثلاث ركعات موصولة بتسليمة واحدة والشافعية يرون فصل الركعة الأخيرة عما قبلها وأداء الثلاث بتسليمتين. فمحافظة على ما تقرر في مذهب كل يقوم كل مقلد بما يتقاضاه به مذهبه تعصبًا بدون نظر إلى ما روي في هذا الباب من الأحاديث الصحيحة والآثار الحسنة التي تشهد للآتي بكل من الوجهين بالصواب والصحة1 وبدون تفكر وتدبر فيما ينجم عن تقسيم الجماعة من إظهار المخالفة والمباينة وعدم الرضا بما يصنع كل، دع عنك التشويش في بعض المساجد الصغيرة ورفع كل صوته على الآخر في القراءة وغير ذلك مما ينافي مبدأ الجماعة ومشروعيتها وهدي الصحابة كلهم إذ لم يكونوا يقسمون جماعة الوتر، بل ربما يرون التقسيم من أنكر النكر إذ ما جمعهم عمر رضي الله عنهم في التراويح على إمام واحد إلا لرفع التقسيم والاختلاف، وللحرص على التجمع والائتلاف رواه المحدثون في أصل مشروعية التراويح والقيام بها في ليالي رمضان. والقصد أني أرى مصلي التراويح مع إمام المسجد ينبغي لهم إتمام الاقتداء به في صلاته إلى آخرها وعدم الانفراد عنه وطالما قررت ذلك في دروسي العامة وبينت لهم وجوه مآخذي. "فأولا" قرر علماء الأصول أن العامي لا مذهب له فإذا دخل المسجد فما عليه إلا أن يقتدي بإمامه وينصبغ بصبغته بل رأيت أستاذًا لي من الشافعية المحققين يقتدي بإمام مسجد حنفي في صلاة الصبح ويوافقه على ترك القنوت ولا يسجد للسهو -على مقتضى ما طلبه الشافعية- ويقول لي لا أرى من الأدب في العبادة مخالفة من اتخذته إماما لي ورضيته لذلك وهو

_ 1 ليس في الأحاديث الصحيحة ما يشهد لصلاة الوتر بتسليمة واحدة مع تشهدين، وإنما فيه حديث ضعيف مع مخالفته للأحاديث الصحيحة الصريحة بالوصل بدون جلوس للتشهد الأول، والأخرى الصريحة بالتسليم بين الشفع والوتر، ومن شاء تفصيل هذا فليرجع إلى رسالتنا السابقة، ومع ذلك فلا نرى إلا الاقتداء وراء المخالف لأن الخلاف شر كما قال ابن مسعود وغيره من الصحابة رضي الله عنهم.

يستند في أداء عبادته إلى أدلة مأثورة صحيحة وحسنة1 وليس من الفقه والعقل أن أباين أمامي وآتي بما لم يأت به. فرحمه الله ما أوفر عقله وأحسن هديه. "المأخذ الثاني" ما كنت أقرره أيضًا وهو أن اقتداء الحنفي بالشافعي في الوتر وموافقته له جائزة فقد نقل الزيلعي في شرح الكنز عن أبي بكر الرازي قال: اقتداء الحنفي بمن يسلم على رأس الركعتين في الوتر يجوز ويصلي معه بقية الوتر لأن إمامه لم يخرج بسلامه عنده لأنه مجتهد فيه، وقيل: إذا سلم الإمام على رأس الركعتين قام المقتدي وأتم الوتر وحده. انتهى كلام الزيلعي. ففيه ما يدل على أن لا حاجة لانفراد الحنفي بجماعة الوتر إذا وجد شافعي يؤم في الوتر وكذا يقال للشافعية الذين ينفردون بالوتر إذا أمهم في التراويح حنفي يقال لهم إن الفقهاء الشافعية جوزوا في ركعة الوتر الأخيرة وصلها وفصلها ورأوا أن الأفضل الفصل لصحة الحديث به، وإذا كان كل من الفضل والوصل جائزًا عندهم فالاقتداء بالحنفي في الوتر على قواعدهم جائز لا إشكال فيه. نعم قد يستشكل متعصب منهم بأنه يقنت قبل الركوع والشافعي لا يراه فنجيبه بأن ما قبل الركوع وهو القيام يجوز فيه القراءة وغيرها -جوابًا مذهبيًّا- وإلا فالجواب الحاسم ثبوت الأثر2 بصفة وتر الحنفية بما لا يبقى معه للنزاع مجال. "المأخذ الثالث" هو أن الوتر رويت فيه كيفيات متعددة كما بينته أمهات السنة وذكرت خلاصتها في كتابي "الأوراد المأثورة" فثبت صلاة النبي عليه

_ 1 قلت: كأنه يعني في وجهة نظر مذهبه، وإلا فذلك غير مستقيم على إطلاقه، كما لا يخفى على الدارس للفقه المقارن المدقق في أدلة المذاهب، فإنه يجد فيها ما عماده القياس على خلاف السنة الصحيحة، أو الحديث الضعيف المعارض لها، وغير ذلك مما لا يصح أن يكون دليلًا. 2 إن أراد به الحديث، ثم أراد به عدم التسليم في شفع الوتر، فقد عرفت قريبًا أنه لم يثبت ذلك، وإن أراد به القنوت قبل الركوع فهو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخلافه لا يثبت في الوتر، وإنما في قنوت النازلة فتنبه. "ناصر الدين".

الصلاة والسلام له بإحدى عشرة ركعة مفصولة الركعة الأخيرة عنها وبثلاث بتسليمة واحدة موصولة، نعم روايات الفصل أصح إلا أن ذلك لا ينفي ثبوت غيرها، فحق الفقيه المتعبد أن يكون ذا بصر بالروايات وبالهدي النبوي فيعلم أن أئمة المذاهب عليهم الرحمة أدلتهم جلية، وأن النوافل الليلية رويت على أنواع توسعة على المتهجدين وأن اعتماد الإمام ليس إلا على ما رآه أرجح اجتهادًا مع تسليم غيره والاعتراف به، يدل على ذلك اقتداء بعضهم ببعض مع تخالفهم في الفروع تخالفًا اجتهاديًّا لا تخالف شقاق في الطاعات. وبالجملة فحق المصلي في المساجد أن يوافق أئمتها مطلقًا لما ذكرناه ومن خالف فما هو إلا متعصب لم يدر سر العبادة ولم يفهم حكم التشريع. بصرنا المولى بالحق وألهمنا رشدنا.

الفصل الثالث: في آداب الامام والقدوة

الفصل الثالث: في آداب الإمام والقدوة -وفيه فروع: الأول فيه مسائل: 1- قال التاج السبكي في معيد النعم: من حق الإمام النصح للمؤتمين بأن يخلص في صلاته ويجأر في دعائه ويتضرع في ابتهاله ويحسن طهارته وقراءته ويحضر إلى المسجد أول الوقت فإن اجتمع الناس بادر بالصلاة وإلا انتظر الجمع ما لم يفحش الانتظار. وبالجملة فينبغي أن يأتي بصلاته على أكمل ما يطيقه من الأحوال. ا. هـ. 2- قال الإمام ابن عاشر المالكي: شرط الإمام أن يكون قادرًا على أدائها فإن عرض للإمام ما يمنعه القيام استخلف ورجع إلى الصف مأمومًا. وأن يكون عارفًا بحكم الصلاة أي عالمًا بما لا تصح الصلاة إلا به من القراءة والفقه فلا يصح الاقتداء بمن لا يحفظ من القرآن شيئًا ولا يعرفه والفقه هو معرفة كيفية الغسل والوضوء وأن يكون غير فاسق وأن يكون غير لحان وأن لا يكره المؤتمون أو أكثرهم وأن لا يكون مجهول الحال ما لم يكن راتبًا وأن لا يكون ضعيف العقل ولا متهمًا بارتكاب فاحشة تلغط الألسنة فيها وأن لا يكون مجذومًا يتأذون به ومثله من فيه مرض منفر وأن لا يشترط أجرة، وأما ما وقف فهو عطية لمن

قام بتلك المئونة. 3- إمام المسجد وساكن البيت أحق ممن حضر إلا من ذي سلطان. والحر والحضري والمقيم والبصير والمختون ومن عليه ثوبان وساتر رأسه أولى من ضدهم "زاد المستقنع". 4- يلي الإمام من المأمومين الرجال ثم الصبيان ثم النساء "زاد". 5- يسن للإمام التخفيف مع الإتمام وتطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية. 6- إذا استأذنت المرأة إلى المسجد كره منعها، وبيتها أفضل لها لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مسجد الله، وبيوتهن خير لهن، وليخرجن تفلات" 1 رواه الإمام أحمد وأبو داود. وتخرج غير مطيبة ولا لابسة ثياب زينة. 7- من ركع أو سجد قبل إمامه فعليه أن يرجع ليأتي به بعده لتحصل المتابعة الواجبة ويحرم سبق الإمام عمدًا للوعيد الشديد فيه "زاد". 8- لو أحس الإمام في ركوعه أو التشهد الأخير بداخل يريد الاقتداء وإدراك الركن استحب انتظاره بشرط أن لا يطوله وأن يقصد به التقرب إلى الله تعالى ولم يفرق بين داخل وداخل. وأما إذا أقيمت الصلاة فلا يحل الانتظار بلا خلاف "كذا في روضة النووي". 9- المسجد الذي يكثر جمعه فالصلاة فيه أفضل إلا في مسألتين: إحداهما إذا

_ 1 حديث صحيح، وهو من حديث أبي هريرة، لكن ليس فيه "وبيوتهن خير لهن"، وإنما هذا في حديث آخر من رواية ابن عمر، وهما مخرجان في "صحيح أبي داود" "574، 576".

تعطل المسجد القريب بغيبة جماعة فالصلاة فيه أفضل وإن قل جمعه، الثانية إذا كان إمام مسجد الأكثر مبتدعًا وجماعة غيره أقل فهو أفضل "كذا في الاستغنا في الفرق والاستثناء في القاعدة 35". 10- يسن للمصلي أن يديم نظره إلى موضع سجوده إلا في مسائل منها حالة التشهد فينظر إلى سبابته ومنها إذا كان بقرب الكعبة استحب له أن ينظر إليها1 في وجه ومنها إذا خشي الهلكة ممن يأتيه غفلة منها عدم سماع مبلغ على وجه "كذا في الاستغناء في القاعدة 38". 11- قولهم تقبل الله منا ومنكم وتقبيل اليد بعد الصلاة بدعة لا أصل لها من السنة "كذا في عمدة المريد في البدع لابن زروق". 12- تعمق الإمام في المحراب وطول قيامه قبل الإحرام ودخوله قبل استواء الصفوف وقراءته بالثانية بأطول من الأولى كله بدعة "كذا في عمدة المريد". 2- سنية تحية المسجد لكل داخل إلا في صور: يستحب لمن دخل المسجد أن لا يجلس حتى يصلي ركعتين إلا في مسائل: منها الخطيب إذا دخل المسجد للخطبة فإنه يصعد على المنبر ويجلس عليه ولا يصلي التحية. ومنها إذا كان في وقت الكراهة بقصد التحية2. ومنها إذا دخل والإمام

_ 1 لا دليل على هذا في السنن الصحيحة. "ناصر الدين". 2 قلت: الراجح أن لا كراهة؛ لأن التحية من ذوات الأسباب، وهو مذهب الإمام الشافعي، ومن الدليل على ذلك أمره صلى الله عليه وسلم لسليك الغطفاني بصلاة التحية حينما دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، وأمره للجالسين بمثله أمرًا عامًّا، ولا يخفى أن مطلق التنفل لا يشرع أثناء الخطبة فدل أمره صلى الله عليه وسلم بالتحية في أثنائها فتأمل. "ناصر الدين".

آخر الخطبة لم يصل التحية لئلا يفوته إدراك أول الصلاة مع الإمام ومنها إذا دخل من يريد الاقتداء والإمام في المكتوبة ومنها من دخل المسجد الحراف للطواف "استغناء". 3- خطر إقامة من سبق إلى مكان في المسجد إلا في صور: من جلس في موضع من المسجد لصلاة أو اعتكاف لم يجز إخراجه. وكذا كل موضع مباح إلا في مسألتين أحداهما إذا جلس في موضع من المسجد لصلاة أو اعتكاف، وكان يعتاد جلوسه المفتي للإفتاء والمدرس للتدريس فيها أولا لعموم نفعهما بموضع اعتاده وعرفا به. المسألة الثانية إذا اعتاد أحد أصحاب البياعات موضوعًا للبيع فجاء غيره فجلس فيه فلمن اعتاد إخراجه منه وجلوسه في الموضع الذي اعتاد "استغناء". 4- حظر المرور بين يدي المصلي إلا في صور: المرور بين يدي المصلي حرام إلا في مسألتين إحداهما المرور بين يدي المصلي لسد الفرجة التي في الصف الأول لتقصير من في الصف الثاني. الثانية ما إذا ازدحم الناس فلا نهي ولا دفع. قاله الغزالي والإمام وصوب النووي عدم الفرق وفي الكافية: إن كان تقصيرًا كما إذا صلى في طريق فلا كراهة

_ 1 قلت: وفي هذه الحال ينبغي أن ينتظر قائمًا، لكي لا يقع في مخالفة قوله صلى الله عليه وسلم: $"فلا يجلس حتى يصلي ركعتين". "ناصر الدين".

جزمًا. ومثله ما إذا صلى حول الكعبة في زمن الحاج وازدحم الناس عند الكعبة أو داخلها1. 5- نهي ذي الريح الخبيثة عن دخول المسجد إلا في صورة: إذا أكل شيئًا نيئًا كالثوم والبصل والكراث فلا يدخل المسجد للنهي عنه لعلة التأذي الحاصل منه إلا في مسألة وهي ما إذا كان أكله لضرورة به. روى البيهقي في السنن الكبرى من رواية المغيرة بن شعبة قال: أكلت الثوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت المسجد وقد سبقت بركعة فدخلت معهم في الصلاة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريحه فقال: "من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربن مصلانا حتى يذهب ريحها" فأتممت صلاتي فلما سلمت قلت: يا رسول الله أقسمت عليك إلا ما أعطيتني يدك فناولني يده فأدخلتها في كمي حتى انتهيت بها إلى صدري فوجده معصوبًا فقال: "إن لك عذرًا" أو "أرى2 ذلك عذرًا"3. هذا لفظه في الحديث فاقتضى الاستثناء "كذا في الاستغناء".

_ 1 قلت: وأما استباحة المرور بين يدي المصلي في المسجد المكي، والمدني بدون عذر شرعي، فمما لا دليل عليه، وقد ابتلي أكثر الحجاج بها، وقد ثبتت لدينا آثار كثيرة عن السلف أنهم كانوا يتخذون السترة في المسجد الحرام. ولا محال لبيان ذلك الآن. "ناصر الدين". 2 الأصل "ورأى" والتصحيح من "السنن الكبرى". "ناصر الدين". 3 حديث صحيح أخرجه أيضا أحمد "4، 249" وأبو داود "2، 147" وابن حبان "219" بإسناد صحيح على شرط مسلم، وهو عند البيهقي "3، 77".

الباب الثاني: في البدع المادية

الباب الثاني: في البدع المادية الفصل الأول زخرفة المساجد ... الباب الثاني: في البدع المادية وفيه فصول الفصل الأول: في فروع 1- زخرفة المساجد: روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال "لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى"1. وروى البخاري أن عمر رضي الله عنها أمر ببناء المسجد وقال "اكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر". قال فاضل: من الذي كان يجسر من أهل البصر في الأجيال التي كان التنافس بالغًا حده في إقامة جدران المسجد والقباب وزخرفتها وبذل القناطير المقنطرة في أثاثها ورياشها، من الذي كان يجسر في تلك الأحيان أن يقول لأولئك المتبرعين إنكم إنما تبنون صروحًا لإيقاع العامة في إشراك البدع وتبذلون أموالكم لإحالة الدين إلى العبادات الصورية كما حصل في إشراك كل الأمم السالفة التي اعتاضت عن جمال العقيدة بجمال جدران المعابد،

_ 1 حديث صحيح موقوف، ولكنه في حكم المرفوع، وهو مخرج في "صحيح السنن" "274".

وعن نور الإيمان بأنوار الهياكل، حتى جعلوا شعائر الدين أشبه باحتفالات الولائم وأقرب لاجتماعات المآدب لشدة ما تلتهي الأذهان بالنقوش والزخارف وما يشطح الفكر في التأمل في سجوف المنافذ وإبداع المنابر، مع أن القصد من تلك الاجتماعات كان تجريد العقل من ملهيات العالم المادي، وتخليصه من فاتنات المظهر الطيني، والذهاب بالروح على أجنحة ذلك الاجتماع المندمج إلى باب الرحمة القدسية لتطرقه بيد التجريد والعبودية الخالصة لترجع إلى عالمها بنور من عالم القدس يثبتها في جهادها ويقيمها على صراطها ويحميها عن فتن الدنيا ومداحضها حتى إذا أدت وظيفتها في هذه الحياة عرجت إلى عالمها بتلك القوة التي اكتسبتها ودخلت من جنان الفيض الإلهي في الحال التي أعدت لها. ا. هـ.

كثرة المساجد في المحلة الواحدة ومزية المسجد العتيق

2- كثرة المساجد في المحلة الواحدة ومزية المسجد العتيق: قال السيوطي في كتاب "الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع" ومن تلك المحدثات كثرة المساجد في المحلة الواحدة وذلك لما فيه من تفريق الجمع وتشتيت شمل المصلين وحل عروة الانضمام في العبادة وذهاب رونق وفرة المتعبدين وتعديد الكلمة واختلاف المشارب ومضادة حكمة مشروعية الجماعات أعني اتحاد الأصوات على أداء العبادات وعودهم على بعضهم بالمنافع والمعونات والمضارة بالمسجد القديم أو شبه المضارة أو محبة الشهرة والسمعة وصرف الأموال فيما لا ضرورة فيه. وجاء في "الإقناع" و"شرحه": ويحرم أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد إلا لحاجة كضيق الأول ونحوه كخوف فتنة باجتماعهم في مسجد واحد. وظاهره وإن لم يقصد المضارة. وعبارة "المنتهى": ويحرم بناء مسجد يراد به الضرر لمسجد بقربه. ا. هـ.

وقال الإمام ابن تيمية في تفسير سورة الإخلاص: كان السلف يكرهون الصلاة فيما يشبه مسجد الضرار ويرون العتيق أفضل من الجديد لأن العتيق أبعد عن أن يكون بني ضرارًا من الجديد الذي يخاف ذلك فيه. وعتق المسجد مما يحمد به ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيق} وقال سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} فإن قدمه يقتضي كثرة العبادة فيه أيضًا وذلك يقتضي زيادة فضله. ا. هـ.

الفصل الثاني: تنوير المساجد في الأشهر الثلاثة وغيرها

الفصل الثاني: تنوير المساجد في الأشهر الثلاثة وغيرها زيادة التنوير ليلة أول جمعة من رجب ... الفصل الثاني: في تنوير المساجد في الأشهر الثلاثة وغيرها 3- زيادة التنوير ليلة أول جمعة من رجب: عادة هذا التنوير ليلتئذ في المساجد ومآذنها هو من بقايا بدع في تلك الليلة ذلك أنها كانت أحدثت فيها صلاة بين العشائين تسمى صلاة الرغائب ثم فشت وعمت وعظمت الفتنة بها فكانت توقد فيها المصابيح وتزدحم الأفواج على إحيائها في المساجد، ويقوم أهل القرى لأجلها وتختلط النساء بالرجال وينشأ من المفاسد ما لا يحصى كما وصفه الإمام أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث" واغتر بعض الناس بذكرها في مثل "الإحياء" وقد جزم حفاظ الحديث بوضع الأحاديث المروية فيها: قال الحافظ أبو الخطاب1 اتهم بوضع حديثها علي بن عبد الله بن جهضم. ثم قال: وكذلك عمل الحسين بن إبراهيم حديثًا موضوعًا على رجال مجهولين وهو حديث جمع من الكذب والزور غير قليل. قال أبو شامة: وما ذكره الحافظ أبو الخطاب في أمر صلاتي رجب وشعبان أي من أنهما بدعتان وحديثهما موضوع هو كان سبب تبطيلهما في بلاد مصر بأمر سلطانها الكامل محمد بن أبي بكر أيوب رحمه الله تعالى فإنه كان مائلا إلى إظهار السنن وإماته البدع. ا. هـ. وبه يعلم أن هذا التنوير من بقايا آثار تلك البدعة.

_ 1 انظر التعليق "1" ص76. "ناصر الدين".

زيادة التنوير ليلة النصف من شعبان ونشر فضائلها وقراءة أدعية فيها

4- زيادة التنوير ليلة النصف من شعبان ونشر فضائلها وقراءة أدعية فيها: الكلام على التنوير فيها كالكلام فيما قبلها وهو من بقايا ما كان ابتدع فيها سنة "448" من الصلاة الألفية فيها، يقرأ فيها: "قل هو الله أحد" ألف مرة في مائة ركعة تتلى بعد الفاتحة عشر مرات سورة الإخلاص. وكانت تنور المساجد لأجلها ويجتمع الألوف لأدائها ويحصل من الفساد ما بسطه أبو شامة في كتاب "الباعث" إلى أن أبطلها الملك الكامل جزاه الله خير الجزاء كما أسلفنا من قبل. وقال في كتابه المذكور عن أبي بكر الطرطوشي قال: روى ابن وضاح1 عن زيد بن أسلم قال: ما أدركنا أحدًا من مشايخنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النصف من شعبان ولا يلتفتون إلى حديث مكحول2 ولا يرون لها فضلا على سواها، قال: وقيل لابن أبي مليكة: إن زيادًا النميري يقول: أجر ليلة النصف

_ 1 يعني في كتابه "البدع والنهي عنها" "ص46"، أخرجه من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: فذكره. هكذا وقع في النسخة المطبوعة وهي سيئة جدًّا، والظاهر أنه سقط من الطابع قوله: "عن أبيه" كما يدل عليه ما نقله المصنف. وعبد الرحمن هذا ضعيف جدًّا. "ناصر الدين". 2 يعني حديثه عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يطلع الله إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن". أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" "ق43: 1" وابن حبان في "صحيحه" "1980" ورجاله ثقات، والحديث صحيح، وله طرق وشواهد خرجتها في "الصحيحة" "2143" فلا تلتفت إلى ما سينقله المصنف أنه ليس في فضل ليلة النصف حديث يصح، نعم لا يلزم من ثبوت هذا الحديث اتخاذ هذه الليلة موسمًا يجتمع الناس فيها، ويفعلون فيها من البدع ما ذكره المؤلف يرحمه الله تعالى.

من شعبان كأجر ليلة القدر فقال: لو سمعته وبيدي عصا لضربته، قال وكان زياد قاصا. وقال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية: روى الناس الأغفال في صلاة ليلة النصف من شعبان أحاديث موضوعة وكلفوا عباد الله بالأحاديث الموضوعة فوق طاقتهم من صلاة مائة ركعة. وقال أهل التعديل والتجريح: ليس في حديث1 ليلة النصف من شعبان حديث يصح2 فتحفظوا عباد الله من مفترٍ يروي لكم حديثًا موضوعًا يسوقه في معرض الخير فاستعمال الخير ينبغي أن يكون مشروعًا من النبي صلى الله عليه وسلم فإذا صح أنه كذب خرج من المشروعية وكان مستعمله من خدم الشيطان لاستعماله حديثًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل الله به من سلطان. ثم قال: ومما أحدثه المبتدعون وخرجوا به عما وسمه المتشرعون وجروا فيه على سنن المجوس واتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا الوقيد ليلة النصف من شعبان ولم يصح فيها شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نطق بالصلاة فيها والإيقاد وصدق من الرواة وما أحدثه المتلاعب بالشريعة المحمدية. راغب في دين المجوسية لأن النار معبودهم. وأول ما حدث ذلك في زمن البرامكة فأدخلوا في دين الإسلام ما كان أصلهم عليه من عبادة النيران ... إلخ. وأما دعاؤهم المشهور فلم يرد من طريق صحيح ولا غيره وإنما هو من جمع بعض المشايخ. قال شهاب الدين أحمد الشرجي اليمني "مختصر البخاري" في كتابه "الفوائد في الصلات والعوائد" في الفائدة الرابعة والستين فيما يدعى به ليلة النصف من شعبان قال: من ذلك ما وجد بخط الفقيه العالم الصالح أبي بكر بن أحمد دعير رحمه الله تعالى قال: أملى علي الأخ الفقيه العلامة عبد الله بن أسد اليافعي في طريق مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم سنة "733" هذا الدعاء المبارك وهو: اللهم ياذا المن ... إلخ

_ 1 كذا الأصل، ولعل الصواب "فضل". "ناصر الدين". 2 ليس هذا على إطلاقه كما سبق التنبيه عليه آنفًا. "ناصر الدين".

زيادة التنوير في رمضان

5- زيادة التنوير في رمضان: قال في المدخل: في زيادة وقود القناديل إضاعة المال لا سيما إذا كان الزيت من الوقف فيكون ذلك جرحة في حق الناظر لا سيما إن كان الواقف لم يذكره، وإن ذكره لم يعتبر شرعًا وزيادة الوقود مع ما فيه من إضاعة المال كما تقدم هو سبب لاجتماع من لا خير فيه. وقال أيضًا: ألا ترى إلى ما فعلوه من زيادة الوقود الخارج الخارق حتى لا يبقى في الجامع قنديل ولا شيء مما يوقد إلا أوقدوه حتى إنهم جعلوا الحبال في الأعمدة والشرفات وعلقوا فيها القناديل وأوقدوها. وقد تقدم التعليل الذي لأجله كره العلماء رحمهم الله تعالى التمسح بالمصحف والمنبر والجدران إلى غير ذلك؛ إذ إن ذلك كان السبب في ابتداء عبادة الأصنام وزيادة الوقود فيه تشبيها بعبدة النار في الظاهر وإن لم يعتقدوا ذلك لأن عبدة النار يوقدونها حتى إذا كانت في قوتها وشعشعتها اجتمعوا إليها بنية عبادتها. وقد حث الشارع صلوات الله عليه وسلامه على ترك تشبه المسلمين بفعل أهل الأديان الباطلة حتى في زيهم المختص1 بهم وانضم إلى ذلك اجتماع كثير من النساء والرجال والولدان الذين يتنجس الجامع بفضلاتهم غالبًا وكثرة اللغط واللغو الكثير. فانظر إلى هذه البدع كيف يجر بعضها إلى بعض حتى ينتهي ذلك إلى المحرمات

_ 1 انظر الأحاديث الواردة في ذلك مرتبة على الأبواب الفقهية. مخرجة على الطريقة الحديثيه في كتابنا "حجاب المرأة المسلمة" طبع المكتب الإسلامي. "ناصر الدين".

وقال أيضًا: ما أحدثه الناس من زيادة وقود القناديل الكثيرة الخارجة عن حد المشروع لم يكن من فعل من مضى من السلف وفيه إضاعة المال والسرف والخيلاء ومحبة الظهور والقيل والقال وبعضهم يلون الماء الذي في القناديل بحمرة أو غيرها وكلما زادت فضيلة الليالي والأيام قابلوها بضدها نسأل الله العافية بمنه. ثم قال رحمه الله: وهذا إذا كانت الزيت من مال الإنسان نفسه وأما إن كان من ريع الوقف فلا يختلف أحد في منعه ولو شرط الواقف ذلك لم يعتبر شرطه لقوله عليه الصلاة والسلام: "كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو أطل ولو كان مائة شرط" 1. وسبب ذلك سكوت بعض العلماء عنه، وقد زادوا على ذلك اعتقادهم أن فعل ذلك من إظهار شعائر الإسلام فإنا لله وإنا إليه راجعون على انقلاب الحقائق. ا. هـ. وقال أبو شامة في بعض مفاسد الاختلاط في المساجد: كله بسبب الوقيد الخارج عن المعتاد الذي يظن أنه قربة وإنما هو إعانة على معاصي الله تعالى وإظهار لمنكر وتقوية لشعار أهل البدع ولم يأت في الشريعة استحباب زيادة في الوقيد على قدر الحاجة في موضع ما أصلا وما يفعله عوام الحجاج يوم عرفة بجبال عرفات وليلة يوم النحر بالمشعر الحرام فهو من هذا القبيل يجب إنكاره ووصفه بأنه بدعة ومنكر وخلاف الشريعة المطهرة. ا. هـ.

_ 1 حديث صحيح، أخرجه البخاري وغيره، وهو مخرج في "الإرواء" "1296".

إبقاء المصابيح متقدة إلى الضحوة أيام العيد

6- إبقاء المصابيح متقدة إلى الضحوة أيام العيد: العادة في أغلب المساجد زيادة التنويرات في رمضان وليلة النصف من شعبان وليلة أول جمعة من رجب ويومي العيد. وقد قدمنا الكلام على الأول وبقي الكلام على إبقاء القناديل متقدة إلى الضحوة في العيدين عيد الفطر والأضحى والأغرب أنهم يوقدون الزائد على المعتاد بعد الفجر أعني في الوقت الذي ما بقيت الحاجة فيه إلى المصابيح الأصلية. فيأخذ شعال المسجد في إيقادها من ذلك الوقت ثم تطلع الشمس وترتفع وهي متقدة وقد استغني عنها. والغالب أنهم يطفئونها بعد انصراف القوم وفي مثل الجامع الأموي والسنانية يطفئون مصابيح زيت الكاز، وأما قناديل الزيت البلدي فيبقونها حتى تنطفئ بأنفسها ولو بعد العصر زعمًا بأن إطفاءها لا فائدة فيه إذ لم يبق فيها زيت يمكن توفيره والشعال يريد بعد هذا الموسم أن يغسل القناديل ويخبئها لمثل هذا الموسم فيتركها حتى تنطفئ. هذا ما يوجد في الجامعين المذكورين. ومعلوم أن إبقاءها متقدة -ولا حاجة إليها- فيه سرف لإضاعة المال بلا فائدة، وإعدادها ولا حاجة إليها إعداد محظور. وقد أسلفنا حظر زيادة التنوير على قدر الحاجة. نعم قد كان بعض أساتذتي ممن له سيطرة ونفوذ على جامعه بدمشق يأمر الشعال بإطفاء القناديل متى استغني عنها بالأسفار الزائدة أو بطلوع الشمس في أيام الغيم وكنت أستحسنه جدًّا لما فيه من إنكار منكر وتغييره بالفعل. ومن لنا ببقية المساجد أن تحذو حذو هذا الفعل الحسن. وقد أعجبني في بيروت سنة "1323" في عيد الفطر في رحلتي الرابعة إليها في جامعها الكبير أن أطفئت القناديل منه عند طلوع الشمس وهكذا ينبغي أن يكون العمل. وفقنا المولى لاستعمال عقولنا فيما يرضيه عنا.

الفصل الثالث

الفصل الثالث: 7- المقاصير والدرابزين في المسجد: قال الإمام ابن الحاج: فعل المقاصير والدرابزين من البدع المحدثة وقد ترتب بسبب ذلك جملة مفاسد: أولها أن الموضوع وقف للصلاة وما فعل فيه لغيرها فهو غصب لمواضع صلاة المسلمين. الثاني: أن فيه تقطيع الصفوف وذلك خلاف السنة، ثم قال. السابع: ما في ذلك من مخالفة السنة. الثامن: أن ذلك من باب زخرفة المساجد. التاسع: إدخال الضرر على نحو أعمى بسببها. ا. هـ. أقول بقي من المقاصير القديمة العهد مقصورة المسجد الأقصى جانب منبره وكان في الجامع الأموي بدمشق مقصورة كبرى حول منبره ومحرابه إلى ركني القبة أزيلت في حدود سنة "1280" بأمر والي دمشق وقتئذ وكان إحداث هذه المقصورة بأمر معاوية ثم زاد فيها سنة "43" لما وثب عليه البرك1 لقتله وفي سنة "43" أيضًا أحدث مروان في المسجد النبوي مقصورة وهو والٍ عليها. ومثل ما ذكره يقال في السدد السفلى التي أنشئت في حوائط المساجد الشمالية والتخوت المؤبدة ففيها من المحذورات ما تقدم ويزاد عليها ارتفاع المأموم على الإمام وإعدادها لمن يريد الانفراد عن الصفوف والأنفة عن غمار بركة المصلين ومحبة الترفع إذ غالب الأعيان متى دخلوا المسجد لأمر ما لا يقصدون من المسجد سواها مثوى ومتكأ

_ 1 بموحدة ثم راء مهملة ثم كاف على وزن صرد قال الزبيدي في شرح القاموس والبرك بن عبد الله كصرد هو الذي ضرب معاوية ففلق إليته ليلة مقتل علي رضي الله تعالى عنه. هكذا ضبطه الحافظ. ا. هـ.

كرسي القارئ في المسجد والتشويش بالقراءة عليه وقصد الدنيا بالقرآن

8- كرسي القارئ في المسجد والتشويش بالقراءة عليه وقصد الدنيا بالقرآن: رأيت في مصر والإسكندرية أيام رحلتي إليها "عام 1321" هذه البدعة المنكرة وهي صعود حافظ على كرسي عريض مرتفع ذراعًا فأكثر وتلاوته عشرًا من القرآن بصوت مرتفع بعد الأذان وقيل إقامة الصلاة فترى أن التشويش على المتنفلين بالرواتب ما لا يمكن معه أداء الصلاة. ثم رأيت ابن الحاج نبه على هذا في المدخل قال رحمه الله: ومن هذا الباب الكرسي الكبير الذي يعملونه في الجامع ويؤبدونه وعليه المصحف لكي يقرأ على الناس ولا ضرورة تدعو إلى ذلك لوجهين: الأول أنه يمسك من المسجد موضعًا كبيرًا وهو وقف على المصلين لصلاتهم، الثاني أنهم يقرءون عند اجتماع الناس لانتظار الصلاة فمنهم المصلي ومنهم التالي ومنهم الذاكر ومنهم المفكر، فإذا قرأ القارئ إذ ذاك قطع عليهم ما هم فيه وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن رفع الصوت بالقراءة في المسجد بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن" 1 وهو نص في عين المسألة. ا. هـ. ومثل ذلك في دمشق قراءة سورة الإخلاص ثلاثًا قبل إقامة الصلاة إعلانًا بأنه

_ 1 حديث صحيح، وتقدم تخريجه "1".

ستقام الصلاة، فهي بدعة لا أصل لها ولا حاجة إليها. وقرأت في حواشي متن الشيخ خليل أن من رفع صوته بالقراءة في المسجد يقام ويخرج منه إذا داوم على ذلك وإلا فيؤمر بالسكوت أو القراءة سرًّا. قالوا لأن الغالب على هؤلاء قصد الدنيا "انظر أبواب سجود التلاوة" وفي "الإتقان" للإمام السيوطي في آخر النوع الخامس والثلاثين ما نصه "مسألة" يكره اتخاذ القرآن معيشة يتكسب بها. أخرج الآجري من حديث عمران بن حصين مرفوعًا بـ$"من قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه سيأتي قوم يقرءون القرآن يسألون الناس به"1. ا. هـ.

_ 1 حديث صحيح، وأخرجه الترمذي وغيره، وله شواهد كثيرة، خرجتها في "الصحيحة" "257".

الباب الثالث: في الأدعية والأذكار والقصص في المساجد

الباب الثالث: في الأدعية والأذكار والقصص في المساجد الفصل الأول السماع في المسجد ... الباب الثالث: في الأدعية والأذكار والقصص في المساجد -وفيه فصول- الفصل الأول: 1- السماع في المسجد: قال الإمام العارف ابن الحاج قدس الله سره في "المدخل" في بحث السماع: وأشد من فعلهم السماع كون بعضهم يتعاطونه في المساجد وقد تقدم توقير السلف رضي الله عنهم للمساجد وكيف لا يكون كذلك وقد كانوا يكرهون رفع الصوت فيه ذكرًا كان أو غيره. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الصوت بالقراءة فيه، ومن ذلك ما ورد من إنشاد الضالة في المسجد لقوله عليه الصلاة والسلام: "من نشد ضالة في المسجد فقولوا له لا ردها الله عليك" 1. ا. هـ. ونقل الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" عن القرطبي قال: غلبت النفوس الشهوانية على كثير ممن ينسب إلى الخير حتى لقد ظهرت من كثير منهم فعلات

_ 1 حديث صحيح، أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وهو مخرج في "صحيح السنن" "492".

الذاكرون المغيرون للفظ الجلالة

2- الذاكرون المغيرون للفظ الجلالة: قال الإمام العارف الكبير السيد محمد وفا بن ناصر الدين القرافي في كتابه "الأدلة القاطعة في الرد على المنتسبة والمطاوعة" ما مثاله في أول صفحة منه: إن الإنكار على هذه الطائفة المطاوعة "لطف المولى بنا وبهم" من أجل الطاعات وأعظم القربات لأمور منكرة وبدع مستكثرة: فمنها اتخاذ المرد خلف ظهورهم حال قيامهم وقعودهم وسيرهم ومنامهم ولم ينقل ذلك عن أحد من سلف الأمة خصوصًا ويلزم على اتخاذ الأمرد إذا كان جميلًا النظر إليه، وهو حرام أو مكروه عند العلماء إذا كان بغير شهوة أما بها فحرام اتفاقًا. ومما ينكر عليهم تكليفهم للناس في غداء أو عشاء كما هو المشهور عنهم خصوصًا ما يسمونه "سيارة" من طوافهم في البلاد وأكلهم أموال الناس بغير حق. وقد علمت حال من يأكل الدنيا بالدين وفي حديث عند الحاكم "أطلبوا الدنيا بالحرف ولا تطلبوها بالدين فإن الدين لي خاصًّا. ويل لمن طلب

الدنيا بالدين، ويل له"1 ومن أمورهم المنكرة أيضًا ما يجتمع حال ذكرهم من البدع كالرقص والصفق الذي هو حال عباد العجل كما صرح به غير واحد من العلماء ممن أفتى ببطلان ما هم عليه وشن الغارة عليهم نظمًا ونثرًا، ولولا خوف الإطالة لأوردت لك جملة من فتاوى العلماء فيهم ولكن من نور الله بصيرته لا يحتاج إلى ذلك والله ولي التوفيق. ومنها تغييرهم الاسم الكريم حال ذكرهم فمن قائل يقول "أموه" ومن قائل يقول "أنوه" ومن قائل "أن آن" إلى غير ذلك كما هو معلوم بالمشاهدة وكل ذلك لا يسمى ذكرًا ولا ثواب فيه قطعًا، وفي "الأسئلة والأجوبة" للعارف بالله تعالى سيدي زين الدين المرصفي سألته هل يشترط في الجلالة أن تكون مفسرة الأحرف كلها؟ قال: نعم ما دام حاضرًا وإلا ففي استغراقه بشرط لا يشترطه ذلك ولا حرج عليه ما دام مسلوب الاختيار والله أعلم. ا. هـ. وقال بعضهم في أرجوزة له: ومن شروط الذكر أن لا يسقطا ... بعض حروف الاسم أو يفرطا في البعض من مناسك الشريعة ... عمدًا فتلك بدعة شنيعة والرقص والصراخ والتصفيق ... عمدًا بذكر الله لا يليق وإنما المطلوب في الأذكار ... الذكر بالخشوع والوقار وغير ذا فحركة نفسية ... إلا مع الغلبة القوية فواجب تنزيه ذكر الله ... على اللبيب الذاكر الأواه عن كل ما يفعله أهل البدع ... ويقتدي بفعل أرباب الورع فقد رأينا فرقة أن ذكروا ... ابتدعوا وربما قد كفروا وصنعوا في الذكر صنعًا منكرًا ... صعبًا فجاهدهم جهادًا أكبرا خلوا من اسم الله حرف الهاء ... فألحدوا في أعظم الأسماء

_ 1 حديث غريب جدًّا، وعزوه للحاكم فيه نظر، فإني لم أره في كتابه "المستدرك" وهو المراد عند إطلاق العزو إليه، ولم يورده السيوطي في "الجامع الكبير"!

لقد اتوا والله شيئًا إذا ... تخر منه الشامخات هدا والألف المحذوف قبل الهاء ... قد أسقطوه وهو ذو خطاء وغرهم إسقاطه في الخط ... فكل من يتركه فخط قد غيروا اسم الله جل وعلا ... وزعموا نيل المراتب العلا ثم قال: من كان في نيل الكمال راجيا ... وعن شريعة الرسول نائيا فإنه ملبس مفتون ... وعقله مخبل مجنون هذا محال لا يصح أبدا ... لأن سيد الورى باب الهدى وقال بعض السادة الصوفية ... مقالة جليلة صفية إذا رأيت رجلًا يطير ... أو فوق ماء البحر قد يسير ولم يقف عند حدود الشرع ... فإنه مستدرج وبدعي والفرق بين الإفك والصواب ... يعرف بالسنة والكتاب والشرع ميزان الأمور كلها ... وشاهد لفرعها وأصلها

رفع الصوت في المسجد بذكر أو غيره

3- رفع الصوت في المسجد بذكر أو غيره: قال الإمام ابن الحاج: ينبغي أن يمنع من يرفع صوته في المسجد في حال الخطبة وغيرها لأن رفع الصوت في المسجد بدعة لما ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم وبيعكم وشرائكم وسل سيوفكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وجمروها أيام جمعكم"1. وقال أيضًا: ينبغي أن ينهى الذاكرون جماعة في المسجد قبل الصلاة أو بعدها أو في غيرهما من الأوقات لأنه مما يشوش بها. وفي الحديث "لا ضرر ولا ضرار" 2 فأي شيء كان فيه تشويش منع. وقال ابن حجر في فتاويه: قال الزركشي: السنة في سائر الأذكار الأسرار إلا التلبية. وقال الأذرعي: حمل الشافعي رضي الله عنه أحاديث الجهر على من يريد التعليم. وفي "العباب": ويسن الدعاء والذكر سرًّا ويجهر بهما بعد سلام الإمام لتعليم المؤمنين فإذا تعلموا أسروا. وفي "الجامع الكبير" عن ابن المبارك عن عبيد الله بن أبي جعفر3 أرسله إلى النبي صلى الله عليه وسلم: من أجاب داعي الله وأحسن عمارة المساجد قال: لا يرفع فيها صوت ولا يتكلم فيها برفث4. وروى الترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأيتموه ينشد شعرًا في المسجد فقولوا فض الله فاك ثلاثًا، من رأيتموه ينشد ضالة في المسجد فقولوا لا وجدتها ثلاثًا، ومن رأيتموه يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك5". فما أحق هؤلاء المنشدين للقصائد الملحونة والموشحات المحرفة بتلك الزعقات المؤلمة والصيحات المهولة بالدعاء النبوي المذكور عليهم إذ الأمر فيه إن لم يكن للوجوب فللندب وإذا كان من يرفع صوته لحاجة مهمة كضالة

_ 1 حديث ضعيف الإسناد جدًّا، وهو مخرج في "الأجوبة النافعة" "ص55" و"الإرواء "2324". 2 حديث صحيح بمجموع طرقه كما بينته في المصدر السابق "888" وفي "الصحيحة" "250". 3 الأصل "حفص"، والتصحيح من "الجامع الكبير" "2: 209: 2". "ناصر الدين". 4 حديث ضعيف لإرساله. 5 حديث ضعيف الإسناد جدًّا، وليس هو من حديث أبي هريرة، ولا أخرجه الترمذي والنسائي بهذا اللفظ، وإنما أخرجه الطبراني من حديث ثوبان أبي عبد الرحمن بسند واهٍ جدًّا، وبيان ذلك كله في "الأحاديث الضعيفة" "2131"، نعم قد صح الحديث عن أبي هريرة مرفوعًا نحوه دون الفقرة الأولى، وهو مخرج في "الإرواء" "1295".

يتعرفها قد شرع الدعاء الثاني عليه فما بالك برافعي أصواتهم لا لحاجة بل الضرر والتشويش. وروى البخاري عن السائب بن يزيد قال: كنت نائمًا في المسجد فحصبني رجل فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين فجئته بهما فقال: من أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فليتأمل العاقل كيف رأى عمر رضي الله عنه أن يؤدب رافع صوته في المسجد بالضرب الوجيع وانظر عدله في الكف عنهما وإقامة العذر لهما بسبب جهلهما الحكم لكونهما ممن بدا عن مدن الفقه والعلم. وروى الإمام مالك والبيهقي عن سالم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب بنى إلى جانب المسجد رحبة فسماها البطيحاء فكان يقول: من أراد أن يلغط أو ينشد شعرًا أو يرفع صوتًا فليخرج إلى هذه الرحبة1.

_ 1 رواه مالك في "الموطأ" "1: 175، 93" بدون إسناد: أنه بلغه أن عمر بن الخطاب بنى ... ووصله البيهقي "10، 103" عن طريقه: حدثني أبو النضر عن سالم بن عبد الله أن عمر ... ورجاله ثقات، لكنه منقطع بين سالم وجده عمر.

تحقيق وقت السحر، وما ينتقد على قارئي ورده في المسجد

4- تحقيق وقت السحر، وما ينتقد على قارئي ورده في المسجد: يفهم كثير من الناس من هذا الوقت غير معناه الوضعي وذلك أن هذا الوقت لغةً اسم لآخر جزء من الليل وأول جزء من النهار وفي مقابلته الأصيل وهو آخر النهار، يضرب بهما المثل في لطف الوقت وصفاء الهواء. قال الراغب في مفرداته: والسحر اختلاط ظلام آخر الليل بضياء النهار وجعل ذلك اسما للوقت. قال الزمخشري: وإنما سمي السحر استعارة لأنه وقت إدبار الليل وإقبال النهار فهو متنفس الصبح.

إذا علمت ذلك فما يزعمه بعض المتعبدين من أن السحر هو قبل الفجر بساعتين أو ساعة مثلا استنادًا على أن أورادًا ألفت في ذلك وجرت العادة بقراءتها قبل الفجر في الحصة المذكورة وهو خطأ في فهم حقيقة الوقت الوضعية. نعم ما قارب الشيء قد يعطي حكمه فلما قاربه انسحب عليه الاسم بعرفهم والقصد من ذلك أن من استيقظ قبل الفجر بمقدار ما يتوضأ ويصلي ولو ركعتين ويدرك الفجر لأول وقته أعني في الغلس فهو مما يصدق عليه أنه ممن أحيا السحر ونال فضيلته إذا استغفر وصلى فيه وأناب، وحينئذ فما يزعمه أهل ذلك الورد أنهم هم أهل السحر خاصة غفلة عن فهم هذا الوقت بلسان الشريعة واللغة. ثم إن مما ينتقد على قارئي ورد السحر في المسجد أمران إذا وجدا منهم: الأول جهرهم بقراءة ثم الذكر بعده بحيث يشوش على مصلٍ أو ذاكر وقد يكون المسجد ضيقًا وهو أشد خطرًا لما يتألم من رفع صوتهم كل من حضر إليه ليتهجد. والثاني: -وهو منكر كالأول بالإجماع- أن أهل ورد السحر قد ينفرد شيخهم بإمامة جماعته في المسجد قبل إمامة الراتب فيقسم الجماعة ويفتات على الراتب ويهضم حقه ويسعى بهدم سر الاجتماع إلى غير ذلك، وقد أوضحت محظورات التقدم على الراتب في رسالة بديعة. ومنهم من لا ينتظر تمام أذان الفجر بل يأخذ بصلاة سنته قبل فراغ الأذان حبًّا بالعجلة ثم يقيم الصلاة بمن حضره ويستعجل عجلة تروق لمن كان على شاكلته. وقد يتصل صفه بصف الراتب إذا أقيمت الصلاة للراتب بعده كما يقع في الجامع الأموي في مثل رمضان. ولو قيل لهم في ذلك لقالوا نحن أدركنا أشياخنا على هذا وهم كانوا أعلم وأصلح "أنا وجدنا آباءنا". وقد يستند متفقه منهم على ما يوجد في كتب الشافعية المتأخرين من جواز التقدم على الراتب في المسجد المطروق وقد بينت في رسالتي المذكورة خطأ هذا القول بما راجعته من عدة كتب في المذهب وآخر من رد هذا القول ابن حجر في فتاويه. على أن كل قول في المذهب لم ينقل عن نفس الإمام فلا يكون مذهبًا له وإنما هو رأي لقائله وها هو "الأم" قد طبع الآن ومن كان مقلدًا للشافعي فالأم مرجعه فما كان فيه فهو متمسكه وما لا فلا عبره به؛ لأنه لا يسوغ تقليد المقلد وإنما يقلد المجتهد كما تقرر في الأصول، فافهم فقد تقدم نحو هذه البدعة في بحث الافتئات على الإمام الراتب فتذكر.

الاحتراز عن البدع في الاحتفال بقراءة المولد النبوي

5- الاحتراز عن البدع في الاحتفال بقراءة المولد النبوي: جرت عادة أكثر المسلمين أن يحتفلوا الليلة الثانية عشرة من1 ربيع الأول بتلاوة قصة مولده صلى الله عليه وسلم ذهابًا إلى أن في مثل تلك الليلة ولد خاتم الأنبياء صلوات الله عليه -وهو قول من أقوال عديدة- وقد شدد النكير الإمام ابن الحاج في المدخل على ما حدث في مجامع قراءة المولد من المنكرات وأطال في بيان محاذيرها فلتراجع. ورأيت في فتاوى شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية أنه سئل عليه الرحمة فيمن يعمل كل سنة ختمة في ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم هل ذلك مستحب أم لا فأجاب بعد الحمدلة: "جمع الناس للطعام في العيدين وأيام التشريق سنة، وهو من شعائر الإسلام التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين، وإعانة الفقراء بالإطعام في رمضان هو من سنن الإسلام، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من فطر صائمًا فله مثل أجره" 2. وأعطاء فقراء القراء ما يستعينون به على القرآن عمل صالح في كل وقت ومن أعانهم على ذلك كان شريكهم في الأجر. وأما أتخاذ موسم غير المواسم الشرعية لبعض

_ 1 قلت: والأصح أنه ولد صلى الله عليه وسلم في التاسع من ربيع الأول، كما حققه بعض العلماء المعاصرين. "ناصر الدين". 2 حديث صحيح وهو مخرج في "المشكاة" "1992" وقد صححه ابن خزيمة "1، 213: 1" وابن حبان "895".

ليالي شهر ربيع الأول التي يقال لها ليلة المولد أو بعض ليالي رجب أو ثامن عشر ذي الحجة أو أول جمعة من رجب أو ثامن شوال الذي تسميه الجهال عيد الأبرار فإنها من البدع التي لم يستحسنها السلف ولم يفعلوها". ا. هـ. وقال عليه الرحمة في فتوى أخرى له في آخرها ما مثاله: "فأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك واتخاذه عبادة فلا يرتاب أحد من أهل العلم والأيمان أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها ولا يستحب ذلك إلا جاهل أو زنديق. وأما الاجتماع على قراءة وذكر فضائل النبي صلى الله عليه وسلم فهذا من فعله قصدًا لتعظيمه ومحبته فإنه يثاب على قصده الحسن ونيته لفعل الخير. ا. هـ. وقد ذكرت في خاتمة "الشذرة" التي جمعتها في السيرة المحمدية1 أصل قصة المولد ولزوم نقد آثارها والتحذير من البدع في مجامع تلاوتها وتاريخ من ابتدع الاحتفال بالمولد، فليراجعها من شاء.

_ 1 طبعت سنة 1321 بمصر.

التحلق لحديث الدنيا في المسجد

6- التحلق لحديث الدنيا في المسجد: قال الإمام ابن الحاج: ينهى الناس عما يفعلونه من الحلق والجلوس جماعة في المسجد للحديث في أمر الدنيا وما جرى لفلان وما جرى على فلان. ثم ساق آثارًا كثيرة وقال بعد: إنما يجلس في المسجد لما تقدم ذكره من الصلاة والتلاوة والذكر والتفكر أو تدريس العلم بشرط عدم رفع الصوت وعدم التشويش على المصلين والذاكرين. وقد أخرج ابن حبان من حديث ابن مسعود والحاكم من حديث أنس وقال: صحيح الإسناد ورفعه: "يأتي على الناس زمان يحلقون في مساجدهم وليس همهم إلا الدنيا وليس لله فيهم حاجة فلا تجالسوهم" 1.

_ 1 حديث حسن، خرجته في "الصحيحة" "1163".

كتابة آيات السلام ليلة آخر أربعاء من صفر الخير

7- كتابة آيات السلام ليلة آخر أربعاء من صفر الخير: يجتمع في آخر أربعاء من شهر صفر بين العشائين في بعض المساجد كثير من العامة ويتحلقون إلى كاتب يرقم لهم على أوراق آيات السلام السبعة على الأنبياء كآية: سلام على نوح في العالمين. إلخ ثم يضعونها في الأواني ويشربون من مائها ويعتقدون أن سر كتابتها في هذا الوقت ثم يتهادونها إلى البيوت. ولا أدرى من أين سرت لهم هذه العادة التي لا سلف لهم بها إلا مشيخة التمائم. وبديهي أن اعتماد ذلك واعتقاده يجر إلى التشاؤم والتطير بتلك الليلة والمسلمون براء من الطيرة كما قال ابن حجر. ونظير هذا تشاؤم العامة في دمشق من عيادة المريض يوم الأربعاء وتطيرهم منه فلا يمكن للعامة ولا للخاصة عيادة المريض يوم الأربعاء ولا لذوي قرباه. والظاهر أن مستندهم حديث "يوم الأربعاء يوم نحس مستمر"1 قال الصاغاني موضوع، وكذا قال ابن الجوزي. قال السخاوي: وفي فضيلة الأربعاء والتنفير منه أحاديث كلها واهية ومن خرافاتهم قولهم: من عاد مريضًا يوم الأربعاء زاره يوم الخميس. يعنون زيارته في المقبرة. اللهم أنا نعوذ بك أن نكون من الجاهلين. وقد روى الإمام أحمد وأصحاب السنن عن ابن مسعود قال: قال

_ 1 قلت، ومثله: "آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر" وهو مخرج في "الضعيفة" "1581" وهو ثالث حديث في كتابنا "ضعيف الجامع الصغير وزيادته"، يسر الله إتمام طبعه بمنه وكرمه مع الكتاب الآخر "صحيح الجامع الصغير وزيادته".

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطيرة شرك" 1 وروى الطبراني عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من تَطير ولا من تُطير له، أو تَكهن أو تُكهن له، أو سَحر أو سُحر له" 2 وروى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك" قالوا: يا رسول الله وما كفارة ذلك قال: "يقول: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك" 3 وروى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا عدوى ولا هامة ولا نوء ولا صفر" 4 ورواه الشيخان مختصرًا. وروى ابن جرير عن ابي هريرة مرفوعًا "لا عدوى ولا هامة ولا صفر، خلق الله كل نفس فكتب حياتها ومصيباتها ورزقها" 5. وفي فتاوي الأمام تقي الدين ابن تميمية: مسألة في الأيام والليالي مثل أن يقال السفر يكره يوم الأربعاء أو الخميس أو السبت أو يكره التفصيل أو الخياطة أو الغزل في هذه الأيام أو يكره الجماع في ليلة من الليالي ويخاف على الولد. الجواب: بعد الحمدلة هذا كله باطل لا أصل له بل الرجل إذا استخار الله وفعل شيئًا مباحًا فليفعله في أي وقت تيسر ولا يكره التفصيل ولا الخياطة ولا الغزال ولا نحو ذلك من الأفعال في يوم من الأيام ولا يكره الجماع في ليلة من الليالي ولا يوم من الأيام والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن التطير كما ثبت في الصحيح6

_ 1 حديث صحيح، وهو مخرج في "تخريج الحلال والحرام" "301" و"الصحيحة" "429". 2 حديث حسن، مخرج في الحلال" "587". 3 حديث صحيح، مخرج في "الصحيحة" "1065". 4 أخرجه أبو داود في "الطب" وأحمد أيضًا في "المسند" "2: 397" عن العلاء عن أبيه عنه. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وهو في "الصحيحين" دون قوله: "ولا نوء" وهو مخرج في "الصحيحة" "783". 5 قلت: أخرجه أحمد أيضًا وغيره بسند صحيح كما حققته في المصدر السابق "1152". 6 يعني "صحيح مسلم"، والحديث مخرج في "الإرواء" "389".

عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت يا رسول الله إن منا قومًا يأتون الكهان قال: "فلا تأتوهم" قلت: منا قوم يتطيرون قال: "وذاك شيء يجده أحدكم من نفسه فلا يصدنكم" فإذا كان قد نهي عن أن تصده الطير عما عزم عليه فكيف بالأيام والليالي ولكن يستحب السفر يوم الخميس ويوم السبت ويوم الاثنين من غير نهي عن سائر الأيام إلا يوم الجمعة إذا كانت الجمعة تفوته بالسفر ففيه نزاع بين العلماء1. وأما الصناعات والجماع فلا يكره في شيء من الأيام والله أعلم. ورأيت لابن حجر الهيتمي عليه الرحمة في فتاويه جملة لطيفة قال: رسخ في أذهان العامة أن أيامًا مشئومة على المريض إذا عيد فيها فينبغي لمن علم منه اعتقاد ذلك أن لا يعاد في تلك الأيام لأن ذلك يؤذي المريض ويزيد في مرضه لما ركز في عقولهم السخيفة من التشاؤم والطيرة فيحصل بذلك ضرر كبير وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" 2 وقد تترك السنة لعوارض قوية. فإن قلت ينبغي للعالم أن يفعل ذلك إظهارًا للسنة وإعلانًا للناس بها ليتركوا ما في أذهانهم. قلت: هذا أوضح أن لم يغلب عليهم الجهل والتشاؤم ويرسخ ذلك في أذهانهم حتى يعادوا بسببه العالم ويستسخروا به ويحصل له منهم أذى شديد. أما إذا ترتب عليه ذلك فتركه أولى لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح. ا. هـ. وقد بلغني عن بعض مشايخ أشياخنا أنه أمر يوم الأربعاء أهله أن يفتحوا باب داره لعيادته وأن تدعى المارة لذلك رغبة منه رحمه الله في إماته هذه البدعة.

_ 1 قلت: والراجح الجواز لمن كان لا يقصد التفويت، وقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر"، ولم يصح في النهي عنه شيء انظر "الضعيفة" "218 و219". "ناصر الدين". 2 حديث صحيح بمجموع طرقه كما حققته في "الإرواء" "888".

القصاص في المساجد

8- القصاص في المساجد: قال الغزالي في الإحياء في منكرات المساجد: ومنها كلام القصاص والوعاظ الذين يمزجون بكلامهم البدعة، فالقاص إن كان يكذب في أخباره فهو فاسق والإنكار عليه واجب وكذلك الواعظ المبتدع. وذكر رحمه الله في باب الرياء من آفات كبر العالم رغبته في حفظ العلوم الغريبة ليغرب بها على الأقران ويتعظم عليهم ويحفظ الأحاديث وألفاظها وأسانيدها فيظهر فضلة ونقصان أقرانه. قال فهذا كله أخلاق الكبر وآثاره التي يثمرها التعزز بالعلم والعمل. ا. هـ. وقال بعضهم في مقالة أنشأها في الوعاظ في المساجد ما لفظه: لو كان بي من الفصاحة والبلاغة ما أشرح به أحوال الوعاظ الأمارين بالمعروف والناهين عن المنكر لأتيت لكم بالعجائب التي يتبرأ منها الدين ولأقمت على براءة الدين منها الأدلة الموصلة إلى اليقين. ولكني والحمد لله لا أحرم بفضله جل وعلا أن أقضي بعض الواجب علي نحو الإسلام والمسلمين بلا ميل مع الشيع والوضاعين مستندًا فيما أقوله من الأدلة والبراهين إلى الكتاب القويم وسنة النبي الكريم وهدي الصحابة والتابعين والعلماء الراشدين: $"من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"1. من المعلوم أن وظيفة هؤلاء الوعاظ تنحصر في أمور: 1- إرشاد العامة إلى معرفة الله تعالى وما يجب أن يثبت له من صفاته العلية وما يستحيل عليه وما يجوز في حقه تعالى وما للرسل والأنبياء من مثل هذا عليهم الصلاة والسلام. 2- تعليمهم أركان الدين من صلاة وصوم وحج وزكاة وبيان فائدة آدابها لهم ومنافعها العائدة عليهم في الدنيا والآخرة. 3- دعوتهم إلى الخير وصرفهم

_ 1 صحيح، وقد مضى برقم "22".

عن ناحية الشر وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وحثهم على التمسك بالدين وآدابه وفضائله وما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم. 4- تحريضهم على العمل والاجتهاد وتقرير أن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . 5- حضهم على التعاون في المشروعات وتربية البنين والبنات وعلى الدخول إلى كل أمر من بابه وطلب كل رغبة من أسبابها وحفظ الأمانة واستشعار الأخوة التي هي مصدر حياة الأمم ومشرف سعادتها في هذه الدنيا قبل الآخرة {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} . 6- تطهير قلوبهم من الأوهام الفاسدة التي قد تجر إلى الاعتقادات الباطلة حتى يخضعوا لخق السماوات والأرضين، وقاهر الناس أجمعين، وحتى يقولوا كما قال إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وكما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: "إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين". ثم قال: يعلم الله أنهم يقوموا بهذه الأمور الواجبة عليهم ولكنهم تعلقوا بحبال الأباطايل والخرافات والأوهام والموضوعات فأخذوا ينفثون السم في مجالسهم ويدسون الأحاديث الموضوعة في محافلهم ويختلفون على النبي صلى الله عليه وسلم على حسب ما تسول لهم أنفسهم ويركبون الأسانيد الملفقة ثم ينسبون لسيد الخلائق كل ما هو بعيد عن الحقائق ويبالغون في التحذير والترغيب ويطنبون ويسهلون ويشددون كما يشاءون. ثم قال: يا أهل الوعظ ألفتم الكذب على النبي سيد المرسلين. وأدعيتم أن هذا هو الحق واليقين. وهو الأثم المبين. والمحرم بإجماع المسلمين. قال صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" 1 وقال الإمام النووي

_ 1 حديث متواتر، أخرجه الشيخان وغيرهما من غير ما واحد من الصحابة. وللحافظ الطبراني جزء في طرقه محفوظ في الظاهرية.

في شرح مسلم بتحريم رواية الأحاديث الموضوعة على من عرفها أو غلب على ظنه وضعها فمن روى حديثًا علم وضعه أو ظن وضعه فهو مندرج في الوعيد ولا فرق في تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم بين ما كان في الأحكام وبين ما لا حكم فيه كالترغيب والترهيب والمواعظ وغير ذلك من أنواع الكلام فكله حرام من أكبر الكبائر وأقبح القبائح بإجماع المسلمين، وقد أجمع أهل الحل والعقد على تحريم الكذب على آحاد الناس فكيف بمن قوله شرع وكلامه وحي والكذب عليه كذب على الله تعالى. ثم قال يا أهل الوعظ ناديتم بالتوسل بالصالحين والأولياء إلى الله الذي لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء وقلتم ما هذا كفرًا إن هذا إلا توسط بيننا وبين الله تعالى في قضاء حاجاتنا وأمورنا والله جل شأنه قد صرح بأن تلك العقيدة من عقائد المشركين وقد نعاها عليهم في قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . يا أهل الوعظ شاركتم عبدة الأوثان في اعتقادهم فإن هؤلاء ما كانوا يعيدونها لذاتها بل باعتقاد أنها تقربهم إلى الله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقد جاء في سورة الفاتحة التي نقرؤها ونكررها كل يوم في الصلاة "وإياك نستعين" فلا استعانة إلا به جل شأنه. يا أهل الوعظ جاءنا القرآن بأن لا يدعى أحد مع الله ولا يقصد أحد سواه فقال: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} والصمد هو الذي يقصد في الحاجات ويتوجه إليه المربوبون في معونتهم على ما يريدون وما يحبون وما يطلبون. والاتيان بالخبر على هذه الصورة يفيد الحصر كما هو معروف عند اللغوين فلا صمد سواه. يا أهل الوعظ أرشدنا القرآن إلى وجوب القصد إلى الله وحده باصرح عبارة في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} فلا يتوسل إليه تعالى بغيره فإن المقصود بالتوسل على ما تزعمون إنما هو طلب القرب منه تعالى، وقد أخبرنا الله تعالى أنه قريب وهو أصدق القائلين.

يا أهل الوعظ جاءتنا الأخبار الصحيحة أن عمر رضي الله عنه حين ما كان في الاستسقاء قال: "إنا كنا نتوسل إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم فتسقينا وأنا نتوسل إليك بعم نبيك العباس فاسقنا"1 قال ذلك رضي الله عنه والعباس بجانبه يدعو الله تعالى، فإذا كان هذا حال النبيين والصديقين فكيف بالأولياء والصالحين. يا أهل الوعظ كأنكم تظنون أن في ذلك تعظيمًا لقدر الصالحين والأولياء مع أن أفضل التعظيم والاحترام لهم لا يكون إلا باختيار ما اختاروه لأنفسهم ولا يكون إلا بالاقتداء بهم في أقوالهم وأفعالهم ولا معنى للتوسل بهم إلا هذا الاقتداء كما أنه لا معنى للتوسل بالأحياء إلا طلب المشاركة في الدعاء كما ورد في الحديث. يا أهل الوعظ أي حالة تدعوكم إلى هذا الاعتقاد وبين أيديكم القرون الثلاثة الأولى لم يكن فيها شيء من هذا التوسل ولا ما يشبهه بوجه من الوجوه وكتب السنة والتاريخ بين أيدينا ناطقة بذلك فكل ما حدث بعد ذلك فأقل أوصافه أنه بدعة في الدين وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. يا أهل الوعظ قوموا وانتبهوا وانتظموا في سلك قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} نقل هذه المقالة المؤيد في مصر عدد 4397 في 7 شعبان سنة 1322 لأحد علماء الأزهر.

_ 1 أخرجه البخاري في "الاستسقاء" من "صحيحه" عن أنس بن مالك. وانظره في "التوسل والوسيلة" لشيخ الإسلام ابن تيمية طبعة المكتب الإسلامي. فقد فند فيه شيخ الإسلام مزاعم من يحتج بهذا الحديث على السؤال بالمخلوقات. انظر ص64 و104.

الفصل الثاني: في القراءة والقراء وغير ذلك

الفصل الثاني: في القراءة والقراء وغير ذلك 1- اللغط وقت القراءة: جاء في الدر وحواشيه. يجب الاستماع للقراءة مطلقًا في الصلاة وخارجها لأن الآية يعني قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وإن كانت واردة في الصلاة فالعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. وفي شرح المنية يجب على القارئ احترام القرآن بأن لا يقرؤه في الأسواق ومواضع الاشتغال فإذا قرأه فيها كان هو المضيع لحرمته فيكون الإثم عليه دون المشتغلين دفعًا للحرج. ا. هـ.

التشويش بالقراءة على الناس

2- التشويش بالقراءة على الناس: في فتاوى الإمام تاج الدين الفزاري الدمشقي الشافعي: مسألة جماعة يقرءون القرآن بأصوات مرتفعة بحيث يشوش على الناس هل يجوز لهم ذلك أم لا. أجاب الشيخ تاج الدين: الأولى أن لا يفعل ذلك والأولى المنع منه. وأجاب الشيخ زين الدين الزواوي المالكي لا يحل ذلك وعلى ولي الأمر المنع من ذلك. وعن مالك يخرج من المسجد من يفعل ذلك. وأجاب الشيخ شمس الدين القاضي الحنبلي قريبًا من ذلك. وأجاب القاضي الحنفي كذلك. ا. هـ.

التشويش على القراء في المسجد

3- التشويش على القراء في المسجد: في فتاوى الإمام تقي الدين ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان: مسألة في مسجد يقرأ فيه القرآن والتلقين بكرة وعشية ثم على باب المسجد شهود يكثرون الكلام ويقع التشويش على القراء فهل يجوز ذلك أم لا. الجواب ليس لأحد أن يؤذي أهل المسجد أهل الصلاة أو القراءة أو الذكر أو الدعاء ونحو ذلك مما بنيت المساجد له فليس لأحد أن يفعل في المسجد ولا على بابه قريبًا منه ما يشوش على هؤلاء، بل قد خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يصلون ويجهرون بالقراءة فقال: "أيها الناس كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة" فإذا كان قد نهى المصلي أن يجهر على المصلي فكيف بغيره ومن فعل ما يشوش به على أهل المسجد أو فعل ما يفضي إلى ذلك منع من ذلك والله أعلم.

المعرضون عن مجالس العلم بالمسجد

4- المعرضون عن مجالس العلم بالمسجد: يرغب كثير من أغبياء العامة وهم في المساجد عن الجلوس في حلقة عالم يلقي الحكم والفوائد والنصائح ويتحلقون لأنفسهم على قتل الوقت باللغو وهؤلاء قد يشملهم ما رواه البخاري في صحيحه في باب من قعد حيث ينتهي به المجلس ومن رأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد قال فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فأوى إلى الله تعالى فآواه الله إليه، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه". قال في فتح الباري: فيه استحباب التحليق في مجالس العلم وفيه استحباب الأدب في مجالس العلم وفضل سد خلل الحلقة وفيه الثناء على من زاحم في طلب الخير وفيه جواز الاخبار عن أهل المعاصي وأحوالهم للزجر عنها وأن ذلك لا يعد من الغيبة وفيه الثناء على المستحي والجلوس حيث ينتهي به المجلس وفضل ملازمة حلق العلم وجلوس العالم في المسجد. ا. هـ. ولا يخفى أن جلوس العالم لبث العلم من أكبر النعم على العامة؛ إذ يجب عليهم السعي لطلب العلم النافع ولو من مكان بعيد. فإذا كان بين أظهرهم يعظهم ويذكرهم وهم عنه معرضون فما أشقاهم وما أنكد حظهم من الخير. عهد في القرون الأولى قرون السلف أن يضرب أحدهم كبد الإبل مسيرة شهر لسماع حديث نبوي يأخذ منه حكمة صالحة فأصبحت الحكم والأحاديث ينادى بها في أكسد الأسواق أسواق الراغبين عن الحكمة والموعظة الحسنة النهمين على حظوظ النفس وأمانيها فإنا لله وإنا إليه راجعون.

المعرضون عن سماع خطبة العيد

5- المعرضون عن سماع خطبة العيد: ما أجهل العامة بمقاصد الدين، وما أعماهم عن سر التشريع! ترى كثيرًا من العامة ينفضون بعد صلاة العيد ويعرضون عن سماع الخطبة مع أن الاستماع لها من تتمة الصلاة بل هو نتيجته لأن الخطب هي الواعظ الشفاهي والصلاة واعظها قلبي وليس حجتهم جهل بعض الخطباء الذين يتسنمون ذروة المنار وهم في حضيض الجهالة عن فهم ما أقيموا فيه مما كان مرقى الأكابر العلماء والحكماء ولا عذرهم أنهم لا يفقهون كثيرًا من الخطب المتداولة ولا أنها لا تهديهم إلى سنن الكون بل انصرافهم مجرد إعراض تعجلًا إلى الرجوع إلى اللغو واللهو، مع أن الخطب المعلومة على ما هي عليه مما ذكرنا لا تخلو مما يفيد العامة من الحض على التقوى، والتمسك بالسبب الأقوى، وتلاوة آيات كريمة وأحاديث عظيمة يكفي لمن ينصت لها أن يخشع قلبه وينيب لربه. فعلى العامي أن يتقي الله في هذه المخالفات وأن يطلب نجاته بطلب العلم والفقه في الدين فإنه مرقاة النجاة.

المشتغلون بنوافل العبادة في المساجد مع الجهل وترك محل العلم

6- المشتغلون بنوافل العبادة في المساجد مع الجهل وترك محل العلم: قال السيوطي في كتابه الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع: ومن الأمور المحدثة الاشتغال بنوافل العبادة مع الجهل وترك محل العلم وهذا خطأ يدخل على العبد منه آفات كثيرة مخالفة للشريعة وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْما} فأمره بطلب الزيادة منه وقال تعالى مخبرًا عن موسى في قوله للخضر عليهما السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} هذا مع ما أعطوا من العلم البارع وما لهم من المدد من الله تعالى أمروا بالطلب وسؤال المزيد فإن العلم لا نهاية له، وقال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وروى الترمذي عن أبي إمامة رضي الله عنه قال ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم" 1 وفي الصحيحين

_ 1 حديث حسن كما بينته في "تخريج المشكاة" "213".

عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كلمة الحق ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها"1 وجاء رجل إلى سهل بن عبد الله التستري وبيده محبرة وكتاب فقال لسهل أحببت أن أكتب كتابًا ينفعني الله به فقال اكتب إن استطعت أن تلقى الله وبيدك المحبرة فافعل. وقال سهل أيضًا سمعت الجراح بن عبد الله يقول: ما طريق إلى الله عز وجل أفضل من العلم فإن عدلت عن طريق العلم خطوة تهت في طريق الجهالة أربعين صباحًا وبالجملة فتعلم العلم فرض والبعد عن العلم والعلماء يقوي سلطان الجهل.

_ 1 حديث ضعيف، ضعفه مخرجه الترمذي نفسه، وسنده ضعيف جدًّا، كما بينته في المصدر السابق "216" ثم إن لفظ الحديث عنده "الكلمة والحكمة ... " ورواه القضاعي في "مسند الشهاب" "6: 1" من الوجه المشار إليه بلفظ: "كلمة الحكمة ... " فلعل لفظة "الحق" محرفة من "الحكمة".

المسرعون بقراءة القرآن

7- المسرعون بقراءة القرآن: يوجد في بعض المساجد من حفظة القرآن من يأوى إليها ويأخذ في التلاوة عن ظهر قلبه سرًّا او جهرًا بسرعة زائدة مخالفة لأدب التلاوة وقد نبه على ذلك الإمام الغزالي في باب المغرورين من إحيائه قال وفرقة أخرى اغتروا بقراءة القرآن فيهذونه هذوًا وربما يختمونه في اليوم والليلة مرة ولسان أحدهم يجري به وقلبه يتردد في أودية الأماني إذ لا يتفكر في معاني القرآن ينزجر بزواجره ويتعظ بمواعظه ويقف عند أوامره ونواهيه ويعتبر بمواضع الاعتبار فيه فهو مغرور يظن أن المقصود من إنزال القرآن الهمهمة به مع الغفلة عنه، ومثاله عبد كتب إليه مالكه كتابًا وأشار عليه فيه بالأوامر والنواهي فلم يصرف عنايته إلى فهمه والعمل به، ولكن اقتصر على حفظه فهو مستمر على خلاف ما

أمره به مولاه إلا أنه مكرر للكتاب بصوته ونغمته كل يوم مائة مرة فهو مستحق للعقوبة ومهما ظن أن ذلك هو المراد منه فهو مغرور. نعم تلاوته إنما يراد لكيلا ينسى بل لحفظه وحفظه يراد لمعناه ومعناه يراد للعمل به والانتفاع بمعانيه، وقد يكون له صوت طيب فهو يقرؤه ويلتذ به ويغتر باستلذاذه ويظن أن ذلك لذة مناجاة الله تعالى وسماع كلامه وإنما همه لذته في صوته ولو ردد ألحانه بشعر أو كلام آخر لالتذ به ذلك الالتذاذ، فهو مغرور إذ لم يتفقد قلبه فيعرفه أن لذته من كلام الله من حيث نظمه ومعانيه. ا. هـ.

اللاحنون بالقرآن في المسجد

9- اللاحنون بالقرآن في المسجد: قال الإمام الغزالي في الإحياء في منكرات المساجد: ومنها قراءة القرآن باللحن يجب النهي عنه ويجب تلقين الصحيح فإن كان المعتكف في المسجد يضيع أكثر أوقاته في أمثال ذلك ويشتغل به عن التطوع والذكر فليشتغل به فإن هذا أفضل له من ذكره وتطوعه لأن هذا فرض وهي قربة تتعدى فائدتها فهي أفضل من نافلة تقتصر عليه فائدتها، وإن كان ذلك يمنعه عن الوراقة مثلًا أو عن الكسب الذي هو طعمته فإن كان معه مقدار كفايته لزمه الاشتغال بذلك ولم يجز له ترك الحسبة لطلب زيادة الدنيا وإن احتاج إلى الكسب لقوت يومه فهو عذر له فيسقط الوجوب عنه لعجزه. والذي يكثر اللحن في القرآن إن كان قادرًا على التعلم فامتنع من القراءة قبل التعليم فإنه عاص به وإن كان لا يطاوعه اللسان فإن كان أكثر ما يقرؤه لحنًا فليتركه وليجتهد في تعلم الفاتحة وتصحيحها وإن كان الأكثر صحيحًا وليس يقدر على التسوية فلا بأس له أن يقرأ ولكن ينبغي أن يخفض به الصوت حتى لا يسمع غيره ولمنعه سرًّا منه أيضًا وجه، ولكن إذا كان ذلك منتهى قدرته وكان له أنس بالقراءة وحرص عليها فلست أرى به بأسًا والله أعلم. ثم قال: وقراءة القرآن بين يدي الوعاظ مع التمديد والألحان على وجه بغير نظم القرآن ويجاوز حد الترتيل منكر وشديد الكراهة أنكره جماعة من السلف. ا. هـ.

دعاء ليلتي أول السنة وآخرها

10- دعاء ليلتي أول السنة وآخرها: تتقاضى العامة في بعض المساجد أئمتها في قراءة دعاء ليلتي أول العام وآخره وهو دعاء مخترع لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا عن التابعين ولم يرو في مسند من المسانيد ولا في كتب الموضوعات وهو من مخترعات بعض المتمشيخين المتمفقرين. والأغرب أن بعض الخطباء دسه في ديوان خطبه فاضحى من يقرأ ذلك الديوان من المتطفلين على هذه المنزلة السامية يتبع ما سطر فيه من الحض على قراءته كأنه مروي في الصحيحين أو أحدهما. ومن أعظم الفرى فيه على الله ورسوله قول مخترعه عليه ما يستحق أن من قرأه يقول الشيطان قد تعبنا معه طول السنة فافسد عملنا في ساعة. فيالله ما أدهى هذا الخطب في الخطب، وما أمر هذا التغرير والتجرئة على المعاصي وما الأعجب إلا تلقي بعض المتعالمين له بالقبول وإقرارهم عليه لأنه دعاء وهو خير، وقد غفل عما قاله العز بن عبد السلام فيما نقله الإمام أبو شامة أن استعمال الخير ينبغي أن يكون مشروعًا من النبي صلى الله عليه وسلم فإذا علمنا أنه كذب خرج من المشروعية. انظر تتمة البحث في كتاب "الباعث" له رحمه الله.

الفصل الثالث: في المؤذنين

الفصل الثالث: في المؤذنين 1- آداب الأذان والإقامة: يوجد في بعض المساجد إخلال بآدابهما. ولا تخفى أهميتها في الصلوات وكونهما على قول كثير من الأئمة من فروض الكفايات. لذلك ينبغي تعرف آدابهما ودرسهما ليكون من يريد أن يندرج في سلك المؤذنين والمقيمين على بصيرة في التفقه بهما. وهاك ما جاء في "الإقناع" وشرحه "والدر" وغيرها: فأما الآداب في الأذان: 1- يسن أن يكون المؤذن صيِّتًا أي رفيع الصوت لأنه أبلغ في الإعلام. 2- حسن الصوت لأنه أرق لسامعه. 3- أمينًا أي عدلًا لأنه مؤتمن يرجع إليه في الصلاة. 4- عالمًا بالوقت ليتحراه فيؤذن في أوله. 5- مرتلًا لألفاظ الأذان يقف على كل جملة منها بالسكون إذ لم ينقل عن السلف والخلف أنه نطق به إلا موقوفًا عدا عن التكبيرتين الأوليين كما قال ابن رشد. 6- قائمًا على علو لأنه أبلغ في الإعلام1. 7- متطهرًا من الحدثين الأصغر والأكبر.

_ 1 قلت: بل لأنه السنة كما في حديث الأنصاري الذي رأى في المنام من علمه كلمات الأذان، وكيفيته، ومنها القيام على مكان مرتفع، فهو من تمام الأذان فاستغناء المؤذنين اليوم عنه بمكبرات الصوت خلاف السنة فينبغي عليهم أن يؤذنوا في مكان عال تبدو منه أشخاصهم، اتباعًا للسنة، فإذا ضم إليه مكبر الصوت فلا مانع. "ناصر الدين".

فيكره أذان جنب وإقامة محدث. 8- متظهرًا من نجاسة بدنه وثوبه. 9- مستقبل القبلة. وأما الآداب في الإقامة: 1- يسن أن يحدرها أي يسرع فيها. 2- أن يقف على كل جملة كالآذان. 3- أن يقيم من أذن1.

_ 1 قلت: لكن حديث "من أذن فهو يقيم" ضعيف الإسناد كما بينته في "الضعيفة" "35".

فروع في الأذان

2- فروع في الأذان: 1- يجزئ أذان من مميز. 2- يحرم أن يؤذن غير المؤذن الراتب إلا بإذنه إلا أن يخاف خروج وقت التأذين كالإمام. 3- لا يجوز التلحين بالأذان أي التغني فيه بزيادة حرف أو حركة أو مد أو غيرهما في الأوائل والأواخر وكذا بالتطريب وهو تقطيع الصوت وترعيده. 4- يبطل الآذان والإقامة فصل كثير بسكوت أو كلام ولو مباحًا وقذف وشتم. 5- لا يجزئ الأذان قبل الوقت إلا الفجر بعد نصف الليل. 6- يسن تمهل المؤذن يسيرًا قبل الإقامة قدر ما يدرك الملازمون، وفي "البحر" يمكث بين الأذان والإقامة قدر قراءة أربعين آية. 7- يسن إجابة المؤذن بمثل ما يقول إلا في الحيعلة فيحوقل. 8- يسن قول المؤذن والسامع بعد الفراغ من الأذان. "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته1. 9- يحرم خروج من وجبت عليه الصلاة بعد الأذان في الوقت من

_ 1 قلت: هكذا الحديث في البخاري وغيره، وأما زيادة "للدرجة الرفيعة" فيه و"إنك لا تخلف الميعاد" في آخره، فبدعة لم ترد. انظر في ذلك تخريجنا للحديث في "التوسل والوسيلة" طبعة المكتب الإسلامي ص43. وكتاب "فضل الصلاة على النبي" طبعة المكتب الإسلامي ص49.

مسجد بلا عذر أو نية رجوع. 10- قال البجيرمي في حواشي الإقناع: ليحذر من أغلاط تبطل الأذان بل يكفر متعمد بعضها كمد باء أكبر وهمزته وهمزة أشهد وألف الله ومن عدم النطق بهاء الصلاة وغير ذلك ويحرم بلحنه إن أدى لتغير معنى أو إيهام محذور. ا. هـ. وقال الإمام "ابن زروق" في كتابه "عمدة المريد في البدع" في بحث أغلاط المؤذنين: ومنها إسقاط الهاء من الصلاة وكذا إسقاط حاء الفلاح. وما يدعوهم لهذا إلا الجهل وطلب التلحين والتطريب الذي يكاد صاحبه أن يكون به خارجًا عن أذان في فعله بل هو خارج عنه عند جماعة من العلماء. 11- من البدع وجود أذانين بين يدي الخطيب في بعض الجوامع يقوم أحدهما أمام المنبر والثاني على السدة العليا يلقن الأول الثاني ألفاظ الأذان يأتي الأول بجملة جملة منه سرًّا ثم يجهر بها الثاني وإنما كانت بدعة لكون الأذان المشروع بين يدي الخطيب واحدًا فإما أن يقف على السدة أو بين يديه أمام المنبر1. 12- لا ينادى على الجنازة. وأشد منه ما يفعل عند الصلاة على الجنازة من إنشاد الشعر وذكر الأوصاف التي قد يكون أكثرها كذبًا بل هو من النياحة انتهى من "الإقناع". 13- التبليغ جماعة بدعة قال الإمام ابن الحاج رضي الله عنه: فإنها جرت إلى وقوع الخلل في الصلاة فقد يبنون على بعضهم مع زعقاتهم التي تذهب الخشوع والحضور وتذهب السكينة والوقار. 14- حديث مسح العينين بباطن أعلى السباتين عند قول المؤذن أشهد أن محمدًا رسول الله إلخ رواه الديلمي في "مسند الفردوس" عن أبي بكر رضي الله عنه مرفوعًا قال ابن طاهر في التذكرة لا يصح. كذا في "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة"2.

_ 1 قلت: بل هذا بدعة أيضًا وإنما كان الأذان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على المسجد، أذانًا واحدًا كما شرحته في "الأجوبة النافعة". "ناصر الدين". 2 وانظر "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" "73". "ناصر الدين".

الأذان داخل المسجد في المغرب والعشاء مع الأذان في المنائر

3- الأذان داخل المسجد في المغرب والعشاء مع الأذان في المنائر: رأى بعض أئمة المساجد أن أذان الجمع في منائر المساجد الكبيرة لا تؤدي به السنة لأنه بدعة فكان يأمر بالأذان قبل الإقامة في المغرب والعشاء، وليت شعري لم لا يفعله في الظهر والعصر. والذي أرى أن الأذان إنما القصد به الإعلام فإذا احتيج إلى مؤذنين في محلة كبيرة فلا مانع منه والأذان صحيح أديت به سنة الإعلام. قال في الإقناع فإن لم يحصل الإعلام بأذان واحد زيد بقدر الحاجة كل واحد بجانب أو يؤذنوا دفعة واحدة بمكان واحد. ا. هـ. نعم بناء بعضهم على صوت من سمعه وترك ما فاته وتأذين بعضهم من نصف الكلمة وتقطيع لفظ الجلالة جهل بالأداء من فاعله وهذا ملحظ من كرهه كابن الحاج فحق المؤذن أن يتعلم السنة أو ينبهه من سمعه وحينئذ فلا حاجة إلى هذا المؤذن قبل المغرب والعشاء بل الأولى أن ينتظر الفراغ من الأذان على المنارة ثم يقام للصلاة. وقد نقل الإمام ابن الحاج في المدخل كراهة الأذان في جوف المسجد من وجوه "أحدها" أنه لم يكن من فعل من مضى ممن يقتدى بهم. "ثانيا": أن الأذان إنما هو لنداء الناس ليأتوا للمسجد ومن كان فيه لا يصح نداؤه لأنه تحصيل حاصل ومن كان في بيته لا يسمعه. "وثالثها" قد يكون في الأذان تشويش على متنفل أو ذاكر قال: ثم إن هذه البدعة جرت إلى بدع أخر. ألا ترى أنهم لما أحدثوا الأذان في المسجد اقتدى العوام بهم فصار كل من خطر له أن يؤذن قام وأذن في موضعه.

الزيادة على الأذان المشروع وبدعة التنعيم

4- الزيادة على الأذان المشروع وبدعة التنعيم: قال في شرح "العمدة" من كتب الحنابلة: يكره قول المؤذن قبل الأذان {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} الآية. وكذلك إن وصله بعد بذكر لأنه محدث ويكره قوله قبل الإقامة "اللهم صل على محمد" ونحو ذلك من المحدثات وفي "الإقناع" وشرحه من كتبهم أيضًا: وما سوى التأذين قبل الفجر من التسبيح والنشيد ورفع الصوت بالدعاء ونحو ذلك في المآذن فليس بمسنون. وما أحد من العلماء قال إنه يستحب بل هو من جملة البدع المكروهة لأنه لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم ولا عهد أصحابه وليس له أصل فيما كان على عهدهم يرد إليه فليس لأحد أن يأمر به ولا ينكر على من تركه ولا يعلق استحقاق الرزق به؛ لأنه إعانة على بدعة ولا يلزم فعله ولو شرطه واقف لمخالفته السنة. وقال عبد الرحمن بن الجوزي في كتاب "تلبيس إبليس" وقد رأيت من يقوم بليل كثير على المنارة فيعظ ويذكر ويقرأ سورة من القرآن بصوت مرتفع فيمنع الناس من نومهم ويخلط على المتهجدين قراءتهم وكل ذلك من المنكرات. وقال "ابن الحاج" رحمه الله تعالى في "المدخل": وينهى المؤذنون عما أحدثوه من التسبيح بالليل، وإذا كان ذكر الله تعالى حسنًا سرًّا وعلنًا، لكن في المواضع التي تركها الشارع صلوات الله عليه وسلامه ولم يعين فيها شيئًا معلومًا. ثم قال: وهذا ضد ما شرع الأذان له لأن الآذان إنما شرع لإعلام الناس بالوقت. وقال أيضًا: وينهى المؤذنون أيضًا عما أحدثوه من التذكار يوم الجمعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا أمر به ولا فعله أحد بعده من السلف الماضين رضي الله عنهم بل هو قريب العهد بالحدوث أحدثه بعض الأمراء وهو الذي أحدث التغني بالأذان وأطال في ذلك. وقال الإمام ابن حجر في فتاويه قد أحدث المؤذنون الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب الأذان. ثم ساق حديث تاريخ حدوث ذلك، وذكر بعد ذلك أن الكيفية التي يفعلونها بدعة. وذكر المؤرخون في حوادث سنة 253 أن أرجوز صاحب شرطة مزاحم بن خاقان أمر بالأذان في يوم الجمعة في مؤخر المسجد كما أمر أهل الحلق بالتحول إلى القبلة قبل إقامة الصلاة ومنع من الجهر بالبسملة. ا. هـ. أقول: ونحو هذا ما يوجد في بعض الجوامع من بدعة تسمى في عرف

الناس "التنعيم" ومعناه قول نعم وهي كلمة يقولها بعض المؤذنين قبل دخول وقت العصر خاصة بنحو نصف ساعة أما في منارة المسجد أو في صحنه ويصرخ بها بصوت جهوري وبمد العين مدًّا طويلًا يربو على المد المثقل بأضعاف أضعافه إذ لا يزال بمد صوته حتى ينقطع نفسه. ويقصد مبتدع هذه البدعة تذكير الغافل عن صلاة الظهر بقرب دخول وقت العصر ليأخذ بفعلها. وقد تسبب عن هذه العادة عدا عن كونها بدعة أن يؤخر كثير من الناس صلاة الظهر إلى سماع هذا التنعيم وقد أبطلت من بعض الجوامع والحمد لله ولم تزل في غيره ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر في رمضان تعجيلا للسحور

5- إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر في رمضان تعجيلًا للسحور: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" في باب "تعجيل الإفطار" من البخاري ما مثاله: من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان وإطفاء المصابيح التي جعلت علامة لتحريم الأكل والشرب على من يزيد الصيام زعمًا ممن أحدثه أنه للاحتياط في العبادة ولا يعلم بذلك إلا آحاد الناس وقد جرهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون إلا بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت زعموا فأخروا الفطور وعجلوا السحور وخالفوا السنة فلذلك قل عنهم الخير وكثر فيهم الشر والله المستعان. ا. هـ. قلت: ومثله في دمشق تمطيط أذان السحور وترعيد الصوت فيه بنغمة خاصة وإطالة السكوت بين كل جملة من جمل الأذان إطالة زائدة وذلك لأن المؤذن يبقى في أذانه نصف ساعة فيضطر إلى تمضية لحصة المذكورة بتمطيط الكلمات وإطالة السكنات. وإنما قلنا إن هذا هو للأذان الثاني؛ لأن الأول يسمى عند الشاميين بالمراسلة بضم الميم وفتح السين.

نعم لو لقلنا إن أذان السحور الآن الذي تقدم هو أذان الفجر الأول وجوزناه لما ورد من أن للفجر أذانا أول قبل دخول وقته وثانيًا عند دخول وقته لكان ينبغي أيضًا اجتناب التمطيط فيه لما قدمنا. ولا يخفى أنه حيث جرت العادة الآن بتنبيه الناس وإيقاظهم للسحور أولا بطبل المسحر وطرقه الأبواب في الحارات والأزقة في آخر الليل وثانيًا بضرب مدفعين في الولايات أو بندقيتين في الأقضية الأول لتناول الطعام والثاني للتهيؤ للإمساك عن الطعام والشراب فاللازم ترك هذا الأذان الأول رأسًا اكتفاء بما مر والصعود إلى المنارة إذا دخل الفجر الصادق كما رأيت ذلك في بعلبك فإنه يؤذن المؤذن في فجر رمضان وغيره في وقته على المنارة وهذا أقرب إلى الحالة السلفية. ثم هناك بدعة أخرى في رمضان وهي أنه إذا فرغ المؤذن من أذان الإمساك المتقدم حاله يكون بقي لدخول الفجر ربع ساعة أي خمس عشرة دقيقة فإذا نزل المؤذن من المنارة يقف في آخر صفوف المصلين على مرتقى أو سدة وينشد نثرًا ونظمًا جملة تسمى "أمة خير الأنام" لأن ذلك مطلعها يحضهم فيها على اغتنام ليالي الصيام ويذكر فوز من قام بأوقات السحر بنغمة خاصة. وكل هذا من البدع لا سيما رفع الصوت بين هؤلاء المنتظرين لصلاة الصبح وفيهم المتهجد والذاكر والمراقب والتالي للقرآن. والمساجد التي لا يوجد فيها من يحفط "أمة خير الأنام" لأنه لا يحفظها إلا الماهر من المؤذنين والمتفنن المتخرج على أساتذة ذلك الفن ربما يقوم مؤذنها في تلك الحصة فيشد صلوات نبوية ويشوش بها كتلك. وقد سعيت لإبطال ذلك من جامع السنانية وقبله من جامع العنابة كما سعيت في الثاني لإبطال نشيد وداع رمضان نسأله تعالى أن يوفق لإبطاله من الجامع الأول ومن سائر الجوامع بمنه وكرمه. ويا للعجب من تأثير بدع رؤساء النوبات والأذان الموظفين في جامع بني أمية وفي سائر مساجد الشام حرصًا على تقليدهم ورغبة في مجاراتهم بحيث أضحى من يحاكيهم أو يقاربهم ذا مزية في رأيه فحسبنا الله. ولا أدري كيف لم يقم أرباب النفوذ من العلماء قديمًا في وجوه هذه البدع فيطمسوها ولعل السيطرة لم تكن للعلماء الكاملين بل لغيرهم ممن يعد ذلك -لطمس بصيرته- من شعائر الدين.

الموقتون في بعض المساجد

6- الموقتون في بعض المساجد: أغلب المساجد الكبيرة في دمشق لها موقتون وظيفتهم على حسب شروط الواقف أن يراقبوا الوقت مراقبة يقتضيها الحساب الفني وذلك بمراجعة المزاول على الحيطان أو البسيط وضبطه ساعته على ظل قائمة ثم الحضور قبل الوقت إلى المسجد ثم إشارته إلى المؤذنين وهم في المنارة بالأذان إذا دخل الوقت. هذه حقيقة وظيفتهم، وقد وجد ذلك قديمًا في الجامع الأموي إذ كان من موقتيه رجال لهم إلمام بفن الفلك فكانوا يراعون ذلك أما الآن فبقي ذلك رسمًا وتقليدًا لمن مضى فلا ترى في الموقتين من يحسن رسالة الربع ولا يدريها أو لا يسمع بها، وإنما يتقاضى معاشه من نظار المسجد زورًا وظلمًا إذ كل من لم يقم بوظيفته على شرطها فأكله للمال سحت باتفاق فقهاء المذاهب بل والأديان السماوية قاطبة لأنه تعالى حرم أكل أموال الناس بالباطل على لسان كل نبي. ومثله يقال فيمن عليه وظيفة تدريس يأخذ معاشها وليس هو أهلًا لذلك، وإنما تولى التدريس لوجاهة أو بوسيلة أو بإرث مجرد فإن معاشه حرام، فليحذر من كان كذلك إلا بأداء وظيفته على شرطها والسعي فيما يخلصه من غضب الله ونقمته.

إقامة من يؤذن

7- إقامة من يؤذن: اتفق الفقهاء على أنه يستحب أن لا يقيم إلا المؤذن. والسر في ذلك أن الإقامة من تتمة الأذان وهي حق للمؤذن وقد يتألم بالافتئات عليه وفي إقامة غيره افتئات عليه. وأعظم حكمة في ذلك هو انتظار الجمع حتى يكمل، وإلا فلو أقام غير المؤذن قبل نزوله من المنارة لفات كثيرًا من الملازمين للمسجد الركعة الأولى أو ما بعدها مع الجماعة. على أن في إقامة الغير محبة العجلة. وقد اعتاد كثير من الجوامع في المغرب والعشاء أنه بمجرد آذان الجمع في المنارة يؤذن واحد من الحاضرين أمام المحراب ويقيم كما قدمنا. وفي الجوامع التي لها مؤذن واحد قد لا ينتظر المؤذن بل يقيم غيره. والأحسن والأكمل الذي هو السنة أن ينتظر نزول المؤذن فيقيم هو أو واحد من المؤذنين جمعًا ففيه تأن وتمهل وانتظار للقادم من دكان أو منزل ومحاكاة للسنة النبوية فقد قال عليه الصلاة والسلام: "يا بلال اجعل بين أذانك وإقامتك نفسًا حتى يقضي المتوضئ وضوءه على مهل". على أن المصلين في الصيف في صحون المساجد التي يؤذن لها جمع تتشوش عليهم الصلاة بأصوات المؤذنين ولا يسمع أكثرهم قراءة الإمام وقد يشرع في الركعة الثانية وهم في المنارة أفليس الأصوب انتظار فراغ أذانهم ونزولهم ثم إقامة الصلاة والمقدار يسير لو قاسه المحبون للعجلة بالساعات التي يميتونها سدى في آناء الليل وأطراف النهار ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولقد امتن الله تعالى علينا في هذا العام عام 1324 في جامع السنانية حيث سهل رفع أذان الواحد في المغرب والعشاء أمام المحراب ورجع فيه إلى فراغ المؤذنين من المنارة وبعده يشرع في إقامة الصلاة على هدوء ووفرة جمع. أسأله تعالى أن يسهل رفع ما شاكلها من البدع فإنه المستعان.

زيادة لفظ "سيدنا" في ألفاظ إقامة الصلاة

8- زيادة لفظ "سيدنا" في ألفاظ إقامة الصلاة: رأيت أيام رحلتي إلى بيت المقدس من يقيم الصلاة وأحيانًا يؤم بالقوم وكالة فيزيد لفظ "سيدنا" في قوله: أشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله. فقلت له بعد الصلاة: لم تزيد هذه اللفظة وهي سيدنا وليست مشروعة في الإقامة؟. فقال لي: هذه مسألة كان وقع فيها نزاع بين علماء القدس ويافا "يعني أحدثها مبتدع" فمن قائل ينبغي الاقتصار في ألفاظ الأذان والإقامة على الوارد دون زيادة، ومن قائل تستحب زيادة سيدنا عند ذكر النبي صلوات الله عليه، قال ثم اشتد النزاع وتراسلوا وكاد الأمر يفضي إلى تجاوز الحد والآن نحن نقولها اتباعًا لمن استحبها وقطعًا للقالة فيها. فقلت يا أخي إن ألفاظ الأذانين مأثورة متعبد بها رويت بالتواتر خلفًا عن سلف في كتب الحديث الصحاح والحسان والمسانيد والمعاجم ولم يرو أحد قط استحباب هذه الزيادة عن صحابي ولا تابعي بل ولا فقيه من فقهاء الأئمة ولا أتباعهم وهذه كتبهم بين أيديكم وأنتم تقلدونهم ولا تخالفونهم فما هذا الابتداع وليس تعظيمه صلوات الله عليه بزيادة ألفاظ في عبارات مشروعة لم يسنها هو ولم يستحبها خلفاؤه الراشدون مما يرضاه صلوات الله عليه؛ لأن لكل مقام مقالًا على أنه ثبت أنه نهى من خاطبه بقوله يا سيدنا وابن سيدنا روى النسائي بإسناد جيد عن أنس رضي الله عنه أن ناسًا قالوا: يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا فقال: "يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل" 1. وروى أبو داود بإسناد جيد عن عبد الله بن الشخير قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا فقال: "السيد الله تبارك وتعالى" 2.

_ 1 حديث صحيح، أخرجه أحمد "3: 153، 241، 249" بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس. 2 صحيح، أخرجه أبو داود في "الأدب" وأحمد أيضًا في "المسند" "4: 24، 25" وابن السني في "عمل اليوم والليلة" "381" والضياء في "المختارة" "58: 181: 2" عن عبد الله بن الشخير مرفوعًا به. وإسناده صحيح على شرطهما.

ومع ذلك فلا نرى الحظر من إطلاق ذلك عليه -كما يراه بعض الظاهرين. وحكي عن مالك كما في بدائع الفوائد كيف وهو صلى الله عليه وسلم قال عن الحسن: "إن ابني هذا سيد" 1 وقال للأنصار لما أقبل سعد بن معاذ: "قوموا لسيدكم"2 فهو سيد السادة وخير البشر صلوات الله عليه، وأما البحث في الألفاظ المشروعة فلا أعلم أن أحدًا قال باستحبابه. وتذكرت أن للحافظ "ابن حجر" فتوى في زيادة "سيدنا" في الصلاة الإبراهيمية استفتي عن استحبابها فيها فكان رأيه بعد كلام أنه لا يزاد ذلك في الكلمات المأثورة ويجوز أن يزاد في غيرها وقد سقتها في شرحي على الأربعين العجلونية فارجع إليه3، وبالجملة فالاتباع خير من الابتداع. والأعجب أن بعض المتفقهة يقول إن في ذلك تعظيمًا له صلى الله عليه وسلم فالأحسن ذكره فلو قلنا له هل أنت معظم له أكثر أم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وأبو محذورة وابن أم مكتوم وأضرابهم فبالضرورة يقول هم فنقول له هؤلاء خلفاؤه الراشدون والبقية مؤذنوه، وقد روى صيغة أذانهم من لا يحصى من حفاظ السنة فأوجدنا عن أحد لفظ سيدنا فإن لم توجد ولن توجد فلا جرم أنك لم تفهم معنى تعظيمه صلى الله عليه وسلم وأن تعظيمه إنما هو باتباع ما سنه وطلبه بلا زيادة ولا نقصان لا بالتطرف والانحراف عن سنته وإحداث ألقاب كان نهى عنها لكون الأعاجم كانوا يرغبون فيها ويؤلهون بها رؤساءهم فنعوذ بالله من الجهل بالهدي النبوي ومن عدم التفقه بالدين.

_ 1 صحيح، أخرجه البخاري وغيره، وقد خرجته في "الإرواء" "1596". 2 هكذا أشتهر الحديث على ألسنة المتأخرين واستدلوا به على القيام للداخل ولا أصل لذلك والمحفوظ في الحديث إنما هو بلفظ: "إلى سيدكم" كما أخرجه البخاري وغيره، فراجع "الأحاديث الصحيحة" "67". 3 قلت: وراجعها إن شئت مع بسط الكلام على المسألة في "كتابي" صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم "ص158-162" طبعة المكتب الإسلامي الرابعة "ناصر الدين".

الزعق بالتأمين عقب الصلوات "وترك الورد المأثور بالجهر بالصلاة الكمالية"

9- الزعق بالتأمين عقب الصلوات "وترك الورد المأثور بالجهر بالصلاة الكمالية": في بعض المساجد إذا سلم الإمام من فريضة العصر يزعق المؤذن بالتأمين ودعاء بعده. وفي بعضها متى سلم الإمام منها أخذ المقتدون في الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الكمالية وفي ذلك مخالفة للسنة إذ السنة الاشتغال عقب الفريضة بالأوراد المأثورة بعدها سرًّا كل مصل لنفسه وكذلك من أدب الدعاء خفض الصوت فيه قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة} وهؤلاء أعرضوا عن التضرع والخفية بالعياط1 والزعقات واللعب في الخلال. وقد أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اتخذ الفيء دولًا والأمانة مغنمًا والزكاة مغرمًا وتعلم العلم لغير الدين وأطاع الرجل امرأته وعق أمه وأدنى صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات في المساجد وساد القبيلة فاسدهم وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء وزلزلة وخسفًا وقذفًا وآيات تتابع كنظام لآلئ قطع سلكه فتتابع"2م. قلت: ومما أحمد الله عليه وأشكره عدد خلقه أن وفقنا لإزالة منكر الزعق بالتأمين عقب السلام من فريضة العصر في جامع السنانية وذلك في أواخر جمادى الثانية سنة 1324، وسببه أن أحد المصلين أخبرني بعد الفريضة المذكورة يومًا بأنه حين ما زعق المبلغ بالتأمين هوى من القيام إلى السجود

_ 1 في تاج العروس العياط ككتاب الصراخ والزعقة. وفي الأساس عيط مد صوته بالصراخ وهو مجاز وفي القاموس التعيط الجلبة والصياح. ا. هـ. 2 حديث ضعيف، مخرج في "الضعيفة" "1727" و"المشكاة" "545".

ونسي الركوع وكان قبل يوم زارني بعض علماء بيروت وصلى العصر عندي فأفزعه هذا الصراخ بالتأمين فوجدت حينئذ للكلام مع شيخ المؤذنين بابا. فقلت له: الأئمة والمؤذنون في المسجد ينبغي أن يدفعوا عن أنفسهم الملام فيما ينكره الشرع عليهم وهم في المسجد بمثابة العضو الواحد فينبغي أن يتعاونوا على ما فيه صلاح حالهم في وظائفهم، فهذا الزعق بالتأمين قد شكى منه غير واحد؛ لأن المبلغين أكثرهم شبان وفي أصواتهم قوة زائدة تشوش على المصلين فإن رأيتم ترك هذا التأمين رأسًا. فقال لي: أو نأمرهم بخفض الصوت به. فقلت: يمتثلون أيامًا ثم يعودون، فسد الباب أولى وفيه ثواب كبير. فحينئذ امتثل وأمر جماعته بتركه. ثم إني كلمتهم أيضًا وبينت لهم فضل ذلك ثم قلت: كل ما يبلغكم إنكاره فيلزمكم تركه إذا كان محدثًا استبقاء لقلوب المنكرين وصيانة لأنفسكم عن غيبتكم.

الإنشاد قبل خطبة الجمعة

10- الإنشاد قبل خطبة الجمعة: يجتمع المؤذنون على السدة المقابلة للمنبر في الجوامع ويتحلقون للزعق بالصلوات النبوية قبل صعود الخطيب وبعد صعوده ينتهون بالصلوات إلى ثلاث مرات ويزعقون في قولهم: "وعلى آل محمد" زعقًا شديدًا. وقد رأيت في بيروت في بعض جوامعها شخصًا ينشد مدائح نبوية "يقوم بهذا عن الجمع" ويختار لذلك في الجوامع المهمة من يكون صوته حسنًا مطربًا وهي وإن كانت بدعتها أخف من زعق الجمع إلا أن الكل مما لا حاجة إليه، بل السنة هو خروج الإمام إلى المنبر ولا صوت ولا لغط حتى إذا استقر قام المؤذن فأذن. ولكن من أين لنا من يكف سيطرة هؤلاء المؤذنين الذين لا يدرون شيئًا من الفقه في الدين أصلح المولى أحوالنا وهيأ لنا من أمرنا رشدًا.

تبليغ المؤذنين جماعة

11- تبليغ المؤذنين جماعة: أسهب الإمام ابن الحاج في "المدخل" في محذورات هذه البدعة وذكر منها أن المبلغين يتواكلون في التكبير ويديرونه بينهم ويقطعونه ويوصلونه وذلك أن بعضهم يبتدئ به ثم يبتدئ الآخر من أثناء الكلمة واصلًا صوته بصوت صاحبه قبل انقطاعه مبالغًا في رفع صوته على سبيل العمد فلا يأتي بالتكبير على وجهه. ومنها ما في زعقاتهم من ذهاب الحضور والخشوع أو بعضه وذهاب السكينة والوقار أيضًا. ومنها مفسدة انتظار الإمام لهم وذلك أن الإمام يكبر للركوع ويركع فيكبرون خلفه ويطولون برفع أصواتهم عليه فإما أن يرفع رأسه من الركوع قبل أن ينقضي تكبيرهم وإما أن ينتظر فراغهم منه فينعكس الأمر ويصير الإمام تابعًا للمأموم. ومنها مخالفة السنة، ولا يقال قد يكون في الجامع جمع كثير فلا يبلغهم صوت الواحد لأنه يقال الواحد الصيت يكفي في ذلك كما يكفي لإسماعهم وهو بين يدي الخطيب يؤذن وخلافه مكابرة. ا. هـ.

التبليغ بالانغام المعروفة

12- التبليغ بالأنغام المعروفة: التبليغ هو التسميع وراء الإمام وإنما يتسامح به للحاجة من كثرة المصلين أو عدم بلوغ صوت الإمام لجميعهم فحينئذ يسمع واحد بصوته الطبيعي بلا تكليف ولا تمطيط ولا تصور لتلاحين مخصوصة وقد جرى أكثر المبلغين -في الجوامع المهمة بدمشق- على حصر كل نغم لليلة مخصوصة فلليلة الأحد نغم الصبا ولليلة الاثنين البيات ولليلة الثلاثاء النوى ولليلة الأربعاء السيكاه ولليلة الخميس العراق ولليلة الجمعة الحجاز ولليلة السبت الراست وعادتهم أن يجعلوا للركعتين الأوليين نغم الراست دائمًا وللأخريين ما ذكرنا ترتيبه وكذلك للتراويح نغم العراق ولوترها البيات عادة لا يخل بها منهم إلا حديث العهد بصنعتهم ومن أخل زجروه ليتروض على نهجهم وهذه عادة غريبة في التبليغ، وفي التكلف لهذه التلاحين ما فيه من صرف القلب عن معنى الذكر المطلوب وجعل التكبير على وزان الموشحات والأغاني التي لكل منها نغم على حدة، فإنا لله.

حكم التبليغ عند عدم الحاجة إليه

13- حكم التبليغ عند عدم الحاجة إليه: جاء في حواشي الدر: رفع الصوت لغير حاجة كما يكره للإمام يكره للمبلغ. وفي حاشية أبي السعود أن التبليغ عند عدم الحاجة إليه بأن بلغهم صوت الإمام مكروه. وفي السيرة الحلبية: اتفق الأئمة الأربعة على أن التبليغ حينئذ بدعة منكرة أي مكروهة وأما عند الاحتياج إليه فمستحب. وفي الفتح ما تعورف من التبليغ جماعة في زماننا لا يبعد أنه مفسد، وذلك لأنهم يبالغون في الصياح زيادة على حاجة الإبلاغ والاشتغال بتحرير النغم إظهارًا للصناعة النغمية لا إقامة للعبادة والصياح ملحق بالكلام. وكم من مسجد يكفيه صوت الإمام ومع ذلك فترى وراءه مبلغًا يزعج الناس بصوته ويشوش عليهم بصيحته وقد رأيت ما قال العلماء فيه فليكن المبلغ على حذر من التعرض لإفساد عبادته من حيث لا يعلم أو يعلم ولا يعمل.

جهر المؤذنين بالورد المعلوم وبالأناشيد

14- جهر المؤذنين بالورد المعلوم وبالأناشيد: الكلام في هذا كما تقدم في محذور الزعق إذ الأدب خفض الصوت كما ذكرنا وأعظم منه رفع الصوت بالأناشيد والقصائد كل ليلة أو كل ليلة الاثنين والجمعة في الجوامع الشهيرة بدمشق، فإنا لله.

إنشاد الغزليات في المنارات

15- إنشاد الغزليات في المنارات: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن مؤذن يصعد إلى المئذنة ينشد أبياتًا يذكر فيها الفراق والبين وتفرق الأحباب فأنكر عليه رجل قائلًا له لا تفعل هذا وعليك بالتسبيح والتحميد والقصائد الربانية فهل أصاب أم لا. فأجاب رضي الله عنه نعم ينهى المؤذن أن ينشد الأبيات التي هي من جنس النياحة والمراثي وكذلك ما كان من جنس الغزل فإن في ذلك مفاسد كثيرة وليس ذلك من ذكر الله المشروع للمؤذن ولا بأس بالأبيات المتضمنة لذكر الآيات والأخبار والتوبة والاستغفار والله أعلم. "فائدة" قال السيوطي في الأوائل: إن أول من رقى منارة مصر للأذان شرحبيل بن عامر المرادي، وبنى سلمة المنائر للأذان بأمر معاوية ولم تكن قبل ذلك. وقال ابن سعد بالسند إلى أم زيد بن ثابت: كان بيتي أطول بيت حول المسجد فكان بلال يؤذن فوقه من أول من أذن إلى أن نبى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده فكان يؤذن بعد ذلك على ظهر المسجد وقد رفع له شيء فوق ظهره. ا. هـ.1

_ 1 حديث حسن، خرجته في "صحيح السنن" "532".

نشيد وداع رمضان

16- نشيد وداع رمضان: هذه العادة المستهجنة جارية في أغلب المساجد، ذلك أنه إذا بقي من رمضان خمس ليال أو ثلاث يجتمع المؤذنون والمتطوعون من أصحابهم، فإذا فرغ الإمام من سلام وتر رمضان تركوا قراءة المأثور من التسبيح وأخذوا يتناوبون مقاطيع منظومة في التأسف على انسلاخ رمضان فمتى فرغ أحدهم من نشيد مقطوعة بصوته الجهوري أخذ رفقاؤه بمقطوعة دورية، باذلين قصارى جهدهم في الصيحة والصراخ بضجيج يصم الآذان ويسمع الصم. ويساعدهم على ذلك جمهور المصلين بقرار نغمهم. ولعلم الناس بأن مثل تلك الليالي هي ليالي الوداع ترى في أطراف المساجد وعلى سدده وأبوابه وداخل صحنه النساء والرجال والشبان والولدان، بحالة تقشعر لقبحها الأبدان؛ وقد اشتملت هذه البدعة على عدة منكرات منها رفع الأصوات بالمسجد وهو مكروه كراهة شديدة. ومنها التغني والتطرب في بيوت لم تشيد إلا للذكر والعبادة. ومنها كون هذه العادة مجلبة للنساء والأولاد والرعاع الذين لا يحضرون إلا بعد انقضاء الصلاة للتفرج والسماع. ومنها كونها داعية لاختلاط النساء بالرجال. ومنها كونها ينشأ عنها هتك حرمة المسجد لاتساخه وتبذله بهؤلاء المتفرجين وكثرة الضوضاء والصياح من أطرافه إلى غير ذلك مما لو رآه السلف لضربوا على أيدي مبتدعيه، وقاوموا بكل قواهم من أحدث فيه، والمستعان بالله نسأله تعالى العون على تغيير هذا الحال بمنه وكرمه. ومن العجائب أن خطيبًا في آخر جمعة من رمضان يندب فراقة كل عام ويتحزن على مضية ويقول: لا أوحش الله منك يا شهر كذا وكذا، ويكرر هذه الوحشيات مسجعات مرات عديدة، ومنها "لا أوحش الله منك يا شهر المصابيح، لا أوحش الله منك يا شهر المفاتيح" فتأمل هداك الله لما آلت إليه الخطب لا سيما خطبة هي آخر شهر جليل والناس في حاجة إلى آداب يتعلمونها لما يستقبلهم من صدقة الفطر ومواساة الفقراء والمشي على ما ينتجه الصوم من الكمالات والتطبع على آثاره الفضلى وتجنب البدع وغير ذلك مما يقتضيه المقام، وما ألطف ما جاء في طهارة القلوب: مما يجدر أن تنسج الخطباء على منواله "يا هذا تهيأ لسماع المواعظ بحضور قلبك ينفعك ما تسمع، إذا فاض النهر

ولم تحفر ساقية إلى زرعك لم يصل الماء إليه، يا نائمًا في سفينة الأمن لا تنظر إلى سكونك فإنما يسار بك وأنت لا تشعر. عباد الله اشكروا نعمته على ما يسر لكم من صيام رمضان، وأعطاكم من نعمة الإيمان، فقد أمركم بذلك من بنوره يهتدي المهتدون، فقال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ودعوا شهر رمضان بكثرثة الاستغفار من التقصير، والعزم على دوام الجد والتشمير، فلقد كان للمتقين روضة وأنسًا، وللغافلين قيدًا وحبسًا. كان نزهة للأبرار، وقيدًا للاشرار، فطوبى لمن حل فيه عقدة الإصرار، وحل في روضة التقوى في منزل الافتقار. أي شهر قد تولى ... يا عباد الله عنا حق أن نبكي عليه ... بدماء لو عقلنا كيف لا نبكي لشهر ... مر بالغفلة عنا ثم لا نعلم أنا ... قد قبلنا أو طردنا ليت شعري من هو ... المحروم والمطرود منا ومن المقبول ممن ... صام منا فيهنا كان هذا الشهر نورًا ... بيننا يزهر حسنا فأجعل اللهم عقبا ... هـ نورًا وحسنا عليكم بالاجتهاد في باقيه، وتلافوا تفريطكم ما أمكن تلافيه. فكم متأهب ليوم فطره، يصبح يوم العيد في قبره. قد فارق الإخوان، وعدم الخلان. وكم بين من يرعى رمضان، كأنه حبيب زار بعد طول بعاد، وطيف خيال ألم في طيب سهاد. هجر فيه المنكرات، ولزم الوقوف على قدم الصالحات. وآخر يرى رمضان موسمًا لنيل الشهوات، ويعد أيامه استعجالًا لأوقات البطالات. وآخر قد فرط في الإنابة والتوبة، وقصر عن الإجابة والأوبة. فازداد برمضان وزرًا على وزره، واكتسب بأيامه خسرًا على خسره، ولم يتزود منه ليوم حشره.

بيان أنه لا عبرة بوجود هذه البدع بالجامع الأموي "وسكوت الأقدمين عليه"

17- بيان أنه لا عبرة بوجود هذه البدع بالجامع الأموي "وسكوت الأقدمين عليه": يحتج بعض الناس في دمشق على جواز هذه البدع واستحسانها بكونها موجودة في جامع بني أمية -وهو شيخ الجوامع في الشام- وبكون مدرسيه الماضين سكتوا عليها، وهذه حجة فاشية في كثير من الأمور التي تساهل بها أهل النفوذ الماضون فترى العامي إذا ليم على بدعة وأرشد إلى الصواب فيها يستدل بفعل شيخه أو العالم الفلاني أو المكان الفلاني أو البلدة الفلانية أو من يعتقده ويزعم أنها مشروعة أو حسنة بسبب ذلك. وكل ذلك غرور فإن فعل المشايخ أو إقرارهم ليس بحجة شرعية إذ الشرعية كتاب الله وسنة رسوله المعصوم وما عداه صلى الله عليه وسلم فليس بمعصوم ولو كان فعل غيره حجة على الدين لوقع الخلل في الشريعة بسببه فكل من استحسن شيئًا وفعله أو كره شيئا وتركه يقع الاقتداء به فيكون ذلك نسخًا للدين "نعوذ بالله" والشريعة المطهرة قد عصمت من التغيير والتبديل بنقل التنزيل الكريم والهدي النبوي القديم. فكل من أتى بشيء مخالف لما أمر به فهو مردود عليه محجوج بهما وبالجملة فلا يصح الاقتداء بأحد كائنًا من كان لا بقوله ولا بفعله ولا بسكوته حيث كان مخالفًا للسنة وإن الأمكنة لا دخل لها في تشريع الأحكام وإن كانت فاضلة. ثم ما يدرينا أن من كان فيها من العلماء سكت عنها سهوًا أو نسيانًا أو عدم تفكر أو خوفًا من الرعاع أو ضعفًا. نعم أرباب النفوذ لا أرى لهم عذرًا لأن الأمر بيدهم والسنة لديهم، وأرى أن الجامع الأموي في دمشق ومثله كل جامع كبير في غيرها من البلاد متى صلح من البدع صلحت سائر الجوامع فليحرص على إصلاحه زعماؤه والله متولي معونتهم برحمته.

الباب الرابع: في الدروس الخاصة والعامة

الباب الرابع: في الدروس الخاصة والعامة وفيه مباحث 1- تعصب بعض المدرسين: يدرس كثير من العلماء للطلبة في المساجد. وهؤلاء المدرسون ندر من يكون منهم غير متعصب أو لا يوجد، ولذلك لا تخلو المساجد العامة التي يكثر مدرسوها من ثورات علمية تتناقلها الأفواه وما منشؤها إلا التعصب وهاك بيان ذلك: ترى مدرس الفقه غير الحكيم يقرأ الفروع قراءة مشوبة بهضم المخالف لمذهبه وعدم رؤياه بشيء وعدم الاعتداد بمذهبه كليًّا إلا ظاهرًا فلا ينصرف تلامذته من درسه إلا وهم ممتلئون قوة بها يدافعون من خالفهم في تلك الفروع وقد يرون بطلان ما عليه غيرهم كما يعلمونه في كراهة الاقتداء بالمخالف مما يتبرأ منه هدي السلف والأئمة المتبوعين عليهم الرحمة والرضوان وكما يحاولون ويحاورون في تقوية دليل ضعيف في مقابلة قوي كمرسل في مقابلة مسند وإيثار ما رواه غير الشيخين على ما روياه مما يتبرأ منه الإنصاف الذي يطرح لديه كل اعتساف، فالواجب في تعليم الفقه لمن لم يكن له قوة النظر في الدليل أن يلقن تلك الفروع لتلامذته ويغرس في قلوبهم أولًا حب الأئمة وكل المجتهدين سواء المدونة فروعهم أو غيرهم، ثم يبين أن ما يدرسه الآن هو فروع مذهب الإمام الفلاني وأنه آثر قراءته لأنه على مذهبه نشأ مع اعتقاد

أن من خالفنا في المذهب على خير وهدى وتقوى وكلهم أتباع دين واحد وكتاب منزل واحد وأنّا ببركة الدين إخوان في اليقين وأن الاقتداء بالغير صحيح وتقليده جائز ما دمنا لا نقدر على الأخذ من الأصلين وأن البعثة النبوية إنما كانت لتأليف القلوب وجمعها لا لتناكرها وتنافرها وهكذا فيمتلئ فؤاد الطالب حبًّا للأئمة ولأتباعهم وللآخذين بأقوالهم فلا تراه بعدها يشن الغارة على مخالفه ولا يحط من كرامة غيره ولا يتخذ الفقه سلاحًا يقاتل به عن متبوعه، بل تراه فقيهًا تنبيهًا صالحًا كاملًا مجلًا للسلف ولكل من تقلد من أقوالهم أو رأى رأيهم عملًا بما قيل "وكلهم من رسول الله ملتمس" وكذلك مدرس الحديث يجب عليه أن تكون طريقته محو التعصب والقيام على تأليف القلوب ولطالما كان يشتكي العقلاء من قارئي كتب الحديث تعصبًا يفضي إلى ما هو شر من تعصب الفقيه وذلك لأن قارئه المتصدي لإسماعه إذا كان غير حكيم فقد يقرأ الحديث -وناهيك جلالته في القلوب- ويكون مما يستدل به على حكم مختلف فيه فتراه هناك إذا كان موافقًا لمذهبه يأخذ في شرحه وما يستفاد منه ويهش له وتبرق أسارير وجهه وقد يكون في مجلسه مقلد لم ير أمامه هذا الحديث دليلًا لما قام لديه والمقلد بعد لم يتنور فكره بالتبصر التام فتراه علته كآبة وربما أخذته رعدة تألمًا من أن يحتج على مذهبه أو يضعف دليله، وإذا كان في المجلس عدد وهم مختلفون في المذهب ومقلدون على ما شرحنا فلا تسمع إلا صيحات ومناقشات وتمحلات واعتسافات مدافعة عن المذهب، وقد يكون الشيخ مع أحد الفريقين، فترى الحديث المصان، كأنه أكره بين أيدي صبيان، مما تتفطر له أفئدة العقلاء. فالطريقة العليا في رفع هذا الخلاف، وجذب الأفئدة إلى الائتلاف هو أن يكون الشيخ متهيبًا في مجلسه، وقورًا في قراءته، حكيمًا في أسلوبه، فإذا ورد عليه حديث يعلم أن من الأئمة من تمسك بغيره وتوبع عليه أن يقول دل هذا الحديث على كذا وبه أخذ الإمام فلان عليه الرحمة وقد تمسك غيره بحديث آخر إما لأنه لم يبلغه أو بلغه ورأى غيره أقوى من هذا فإن أنظار الأئمة دقيقة وليس الأخذ بالصحيح بمجرد كونه

روي في الصحاج فقط بل لا بد للاحتجاج به من شروط أخرى معروفة في الأصول. ومعلوم أن الأئمة قصدهم حماية الدين النبوي وحفظه والرغبة في التمسك به لا الحيادة عن سبيله حاشا فحينئذ من تمسك بما قرأناه الآن فهو على هدى وبينة ومن تمسك بغيره فهو على هدى وبينة. ثم يقول لهم: بقي أن التراجيح دقيقة فقد يرجح إمام ما لم يرجحه الآخر لاختلاف مشاربهم وحينئذ فلا ملام على إمام. نعم قد يؤسف لمن يرى قوة أحد المأخذين ويتعسف في التأويل لمجرد التقليد فحق العاقل الذي منح هذه المنحة العظمى منحة العقل، منحة نور الفهم والتمييز أن ينظر كما نظروا ويفحص كما فحصوا. فإذا تبين له قوة دليل اعتنقه لكونه الحق لا تحزبًا لفلان بل وقوفًا مع الأقوى فإن الرجال تعرف بالحق لا الحق بالرجال. وهكذا يرشدهم بلطف ويجمع قلبهم على الحب ويأخذ بأيديهم إلى النظر الصحيح، أما من يبقى على تعصبه وتحزبه بلا تأويل صحيح ولا إرشاد ولا رغبة في الصحيح والقوي أو اهتمام أعمال الفكر في ذلك فيحرم عليه قراءة الحديث حرمة لا يرتاب فيها أحد لأنه يكون عرض كلام الرسول صلوات الله عليه لتمزيق حواشيه والتلاعب فيه، ومثاله مثال من عرض سلعة على راغب عنها، ومعلوم ما في ذلك1. بقي شيء آخر في مدرس الحديث وهو أن يكون ممن يقرأ الصحيحين ويكون روى في غيرهما رواية تخالف ما فيهما فتراه يأخذ في الجمع بينهما مع أن الرواية الأخرى ما هي على شرط الصحيح ولا يحتاج إلى النظر فيها

_ 1 قلت: في هذا التحريم نظر بَيِّن عندي، وطرده يودي إلى تحريم تلاوة القرآن أيضًا على مثل هذا المتعصب، ولا يخفى ما فيه. والصواب، أن يؤمر بقراءة الحديث والتفقه فيه والعمل به، وينهى عن التعصب لمذهبه، وتكلف تأويل الحديث من أجله. "ناصر الدين".

فضلًا عن الجمع1 وقد تكون الأخرى ضعيفة أو منكرة لأمور يعلمها الراسخون فأي حاجة لذكرها والتقصي عنها، وقد يقال إن الشراح ذكروها ولا يخفى أن ليس كل ما يذكره الشراح بالواجب اتباعه والمشي عليه فالمتصدي إذ لم يضم إلى الفقه علومًا أخرى من تاريخ وطب وأصول وحكمة وذوق لسر التشريع وإلا فلا تراه إلا يخبط خبط عشواء في ليلة ظلماء. هذا تعصب مدرسي العلوم النقلية ولا يقل عنه تعصب مدرسي العلوم العقلية، فكثيرً ما ترى من يتعصب في النحو للبصريين ويرد ما رآه الكوفيون وإن وضحت شواهدهم مع أن هذا خلاف الانصاف فالحكيم هو المتبع للشاهد العربي والمتبرئ من تكلف تأويله وما ألطف ما قال أبو حيان: ما تعبدنا الله باتباع مذهب البصريين ولا الكوفيين ولكن بالدليل القوي. أو كلامًا هذا معناه. وهكذا قارئ الأصول فقد يتحزب لما في الكتاب مما صححه مؤلفه أو ضعفه بدون نظر وتأمل وكله خلاف الحكمة، فالواجب على المدرس النظر الصحيح والبحث بالعقل والحكمة من غير لوم أو حط من كرامة وتدريب صحبه على ذلك وغرس الود والحب في قلوبهم وتدعيم ذلك بتقوى الله تعالى والإنابة إليه والتوكل في كل حال عليه. 2- تساهل بعض المدرسين في الدروس العامة: للتدريس العام أهمية عظمى في القيام على تثقيف العقول وتهذيب الأخلاف لذلك يحتاج المتصدي للقيام بواجبه أن يكون حكيمًا واسع الاطلاع وقافًا

_ 1 قلت: هذا خلاف ما هو مقرر في "علم المصطلح" من وجوب الجمع بين الحديثين المتعارضين ما داما من قسم المقبول، وهو يشمل الصحيح والحسن كما بينه الحافظ ابن حجر في "شرح النخبة"، لا سيما وبعض الأحاديث في السنن وغيرها قد تكون في الصحة مثل بعض ما في "الصحيحين" وتارة أعلى. فتأمل. "ناصر الدين".

على الفروع المختلف فيه ناهجًا منهج التيسير المعروف من الأصول الصحيحة وبقدر تمكنه من ذلك ووفور عقله بقدر أخذه بيد الناس إلى الصواب وهدايتهم إلى السنن القويم فمن أهم واجباته أن ينتقي من الكتب التي يقرؤها عليهم ما يجمع بين العبادات والمعاملات والأخلاق جمعًا مجردًا عن شوائب الواهيات والضعاف والخرافيات والمسائل الفرضيات والغرائب الفضوليات والتي بطلت ببطلان صفة الزمان أو المكان وذلك لأن رواية الأحاديث الضعيفة كما ذكره الإمام مسلم في مقدمة صحيحه محظورة وأن راويها غاش آثم، وفي محكم الكتاب وصحاح السنة كفاية عن تقحم أبواب الواهيات من الآثار والنقول على الرسول الأكرم صلوات الله عليه، وليس الدين في حاجة إليها لإكماله ولا للترغيب ولا للترهيب كما زعمه الوضاعون عليهم ما يستحقون، فإن أصل الكتاب الكريم لم يفرط فيه من شيء كما نطقت بذلك آيات ذكره الحكيم، وقد صرح أئمة المصطلح بأنه لا يجوز في الحديث الضعيف أن يقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الخرافيات وهي كل حكاية لا يقبلها العقل السليم وينبذها العلم الصحيح فلا يجوز قصها على العامة لا لترويح النفس ولا للإغراب فضلًا عن الاعتقاد بصحتها وربما يعتذر بعضهم بأنها مروية في كتاب كذا ولا يخفى عليك أنه ليس كل ما دون مما يسوغ ذكره وليس كل تأليف متمخضًا للصحيح من الأنباء فقد حشيت التفاسير وكتب السير وأسفار الوعظ والرقائق وكثير من الشروح والحواشي من الأقاصيص الموضوعة والحكايات الملفقة والمسائل المولدات ما لا يحصيه قلم كاتب. فالواجب إذن على المتصدي للتدريس أن يعرض عنها جانبًا ويهذب درسه للصحيح من الأصوال والمهم من الفروع وإلا فإنه يكون جنى على الدين جناية لا تغتفر1.

_ 1 في كتاب "مختصر الفوائد المكية" للسيد علوي السقاف ذكر في خاتمتها التنبيه على بعض الكتب وأحاديث وحكايات لا ينبغي الاشتغال بها نقلًا عن "المشرع الروي": ويمنع=

وأما المسائل الفرضيات فالوقت أثمن من أن يصرف فيها ولا فائدة فيها عاجلة ولا آجلة وليس توليدها من سعة العلم كما يتوهمه الأغرار، بل هي شين في وجنة العلم إنما سعة العلم بالوقوف على أصول الدين وأسراره ودقائق ما تشير إليه الآيات القرآنية التي لا تنتهي فوائدها والتي ينبغي صرف العمر في اجتناء ثمراتها وإعمال الفكر في جواهرها ودررها. وأما الفضوليات أعني سوق مسألة من فن وضمها إلى فن لا مناسبة لها ولا يقتضيها المقام فكذلك مما ينبغي تهذيب الفن والدرس منها كي لا تختلط المواضيع، ولقد كان يشكو إلى كثير ممن يحضر ببعض دروس الحشوية ويراه يخوض في مسائل هندسية واقيسة منطقية وسرد عبارات فلسفية مما لا يعود على العامة بشيء ما بل ولا العلماء في محفل التدريس العام؛ لأنها من الأمور التي تحقق في الدروس الخاصة للطلبة في كتبها. نعم ربما كانت الفائدة أن يقال إن هذا المدرس واسع الحفظ يحكي علومًا غريبة أو "ما يغرق سامعه في بحره" كما تحكيه العامة وهذا هو الرياء المحيط للأعمال نسأله تعالى العافية. وأما المسائل التي بطلت باختلاف الزمان والمكان فهي كثيرة تمر بقارئ كتب القرون المتقدمة مما كان حلية زمانهم أو مكانهم أو علاج عصرهم فكله مما لا يلزم ذكره، وإنما يمشي مع حالة الزمان والمكان إذ القصد الفائدة وأي فائدة في ذكر ما لا يعلم الآن أو يعلم ولا يعمل به أفليس من إضاعة الوقت سدى الخوض فيه. وليقس ما لم يذكر على ما ذكرناه. وإنا لنود لإخواننا المتصدين للإرشاد أن لا يكونوا مضغة في أفواه أبناء العصر النبهاء بما ينتقدون

_ = في المسجد ما ذكره المؤرخون من قصص الأنبياء كفتوح الشام للواقدي فإن غالبه موضوع أو مأخوذ ممن لا يوثق به "ثم قال السقاف" ومن ذلك تعلم حرمة قراءة نزهة المجالس ونحوها مما اختلط الباطل فيه بغيره حيث لا مميز لأن الإمام برهان الدين محدث دمشق شنع على قارئها خصوصًا في مجامع الناس وقدم جملة من أحاديثها لجلال السيوطي يستفتيه فيها فأجابه بأن فيها أحاديث واردة بعضها مقبول وبعضها فيه مقال وعدها أربعين حديثًا ثم قال وما عدا ذلك من الأحاديث المسئول عنها فمقطوع ببطلانه. ا. هـ.

عليهم مما ذكرناه ومن غيره وذلك حفظًا لشرف مظهرهم وما ألطف ما روي عن مال: "العالم البصير بزمانه" وفقنا المولى وإياهم. 3- توسيد التدريس إلى غير أهله: يعلم كل أحد أن الذي يناط به التدريس العام والخاص هو المأذون له في ذلك المشهود له المعروف فضله وأثره، فمثله يوسد إليه التدريس ليقوم على أخلاق الأمة بالتهذيب وينشر بينهم العلم الصحيح والهدي النبوي والفقة في الدين وتفسير التنزيل واستخراج الفوائد بالإفادة والتعليم، وهذا من البديهيات التي لا حاجة للتنبيه عليها لأنها من المغروزة في الفطر والجبلات، ولكن من الأسف أن ينكب الخلف عن طريقة السلف فكم تواتر النقل وشاهد الحس أفاضل كانوا نجومًا في العلم قادة للفضل تشرق بهم معاهدهم وتؤمهم من الأقاصي طلابهم، ثم إن خلفهم أهملوا هدي سلفهم ونكبوا على نهجهم وأضحوا يشار إليهم بالبنان في الجهل وسقم الفهم، بل ثم من الدعوى في العلم ما يقصر عنها مناط الثريا وإن كانت في أسفل دركات الثرى هذا بدلًا عن الاجتهاد في التحصيل وإحياء ربوع العلم الجليل والسعي وراء الاستفادة والتجافي عن المضاجع بالحفظ والإفادة نعم لهم سمر في شراب الشاي وسماع النشيد ونفخ الناي وإماتة الوقت باللغو وحكايات المساخر واللهو وما نال فلان من الرتب وما أخذ من النياشين وفلان زار الباشا فقعد في حجرة الخدم والبوابين وهكذا فواأسفاه على معاهد السلف العلمية التي أخذت بالإرث فغدت شبحًا بلا روح ولفظًا بلا معنى فصار يرث الابن أباه وإن كان أجهل الجاهلين وينصب للإرشاد وإن كان أفسق الفاسقين. وما السبب إلا سيطرة الجهلاء وتسنمهم مراتب الأمر والنهي على جهلهم الفاضح وعوارهم الواضح من ضرورة تقدم هؤلاء تقديمهم أمثالهم وبيعهم دينهم بدنياهم تغريرًا للناس وتمهيدًا

يسعون في الحط من كرامتهم وانتظار الفرص للإيقاع بهم فإنا لله ولا قوة إلا بالله. 4- عدم جواز توسيد التدريس لغير الأهل وأنه لا تصح توليته ولا إعطاؤه الراتب المعلوم: كتب بعضهم1 تحت عنوان "المدرسون وطلبة العلوم" جاء منها: فكم طرأت مسامعي شكوى عامة الناس من جهل الذين تصدروا للتدريس والوعظ. ولما كان تأخير الامتحان مما أخر العلم والدين جئت بهذه المقالة أنبه أفكار الناس وألفت أنظار اللجنة التي ستعين بحسب المادة "111" من القانون الأساسي فتخلص المدارس من أيدي غير الأكفاء، وبديهي أن المدرسين والوعاظ الذين حينما توفي آباؤهم استولوا على وظائف "معاش" التدريس من غير استحقاق وأضاعوا آمال الفقراء من الطلبة وجعلوهم يعتقدون أن العلم يزق زقًا مثل زق الحمام أو ينتقل بطريق الإرث بين المخلفات من متاع وعقار ولا يخفى على حملة العلم أن السلف الصالح وقف تلك الوظائف ترغيبًا لطلبة العلم والعلماء، فمن الأسف والعار العظيم أن نرى بعض الخائنين جعلوها كالملك يتوارثونها الأبناء بعد الآباء ويتقاسمونها بالقراريط فحرموا بعملهم هذا أولئك المساكين واضطروهم إلى ترك تحصيل العلوم والسعي وراء الرزق في طلب الحياة الدنيا. فبلدة كدمشق خرج منها ابن عساكر وابن تيمية وابن عابدين وكثير من مشاهير العلماء الذين انتشرت علومهم في الآفاق أصبحت محرومة من العلم والعلماء بسبب تأخير الامتحان وحصر رواتب العلم في عائلات معلومة وقد فات أولئك الظالمين ومن نصب هؤلاء على منصات العلم أن الأمة ستفيق من

_ 1 في جريدة "المقتبس" الدمشقية عدد 45.

رقادها وتطالب بحقوقها وترجع إلى أقوال الفقهاء المتقدمين فتجد خلاصًا من الذين حطوا بقدر الدين وكانوا عارًا على الإسلام والمسلمين. فيا مدعي العلم زورًا وبهتانًا هل تنازلت عن عرش جهلك ونظرت إلى حاشية ابن عابدين وصادف نظرك الصحيفة "392" من الجزء الرابع فرأيت ما جاء بالحرف: "وفي الأشباه: إذا ولى السلطان مدرسًا ليس بأهل لم تصح توليته لأن فعله مقيد بالمصلحة ولا مصلحة في تولية غير الأهل وإذا عزل الأهل لم ينعزل. وقال وفي معيد النعم ومبيد النقم: المدرس إذا لم يكن صالحًا للتدريس لم يحل له تناول المعلوم ثم قال: وإنه إذا مات الإمام والمدرس لا يصلح توجيه وظيفته على ابنه الصغير. ا. هـ" وقد جوز بعضهم إبقاء أبناء الميت ولو كانوا صغارًا على وظائف آبائهم من إمامة وخطابة وغير ذلك عرفًا مرضيًا؛ لأن فيه إحياء خلف العلماء ومساعدتهم على بذل الجهد في الاشتغال بالعلم فقال ابن عابدين رحمه الله: "وقيدنا ذلك بما إذا اشتغل الابن بالعلم أما لو تركه وكبر وهو جاهل فإنه يعزل وتعطى الوظيفة للأهل لفوات العلة. ا. هـ" أفبعد هذا نصبر على جهل الجاهلين ونتركهم في مناصب العلم يأخذون الرواتب ويدعون حماية الدين وقد هتكوا حرمة الدين ولذلك أرى أن عزل كل جاهل من منصبه ونصب أولي الفضل والعلم مكانهم أمر لازم وفرض عين على أننا لو نظرنا لما نقله ابن عابدين "إذا لم يكن صالحًا للتدريس لم يحل له تناول المعلوم" يجب علينا استرداد ما أخذه الجهال بطلًا وإرجاعه إلى وقف المدرسة أو الجامع ليصرف على المصلحة العامة. 5- تنازل كثير من الأخيار عن وظائفهم بالتوكيل أو الاستقالة: لا يحصى ما يمر بقارئ تراجم الأخيار في أسفار التاريخ من توكيل كثير من الموظفين للتدريس أو للإمامة أو تنازلهم عن ذلك لمن هو أكفأ أو أمثل

حتى في باب القضاء بل الملك ولا أقدر الآن أن أسبر أسماءهم لأن ذلك يحوج إلى كتاب على حدة إلا أني أذكر نموذجًا مما أثر عن وجهاء الشاميين وأعيانهم من هذه المكارم في القرن الماضي لأن الحاجة إلى تعريف إخواننا الشاميين مكارم سلفهم أمس بالمقام لأن الكتاب مؤلف لهم أولًا وبالذات ولغيرهم ثانيًا وبالعرض فأقول من ذلك تنازل أحد المفتين من بني المرادي في أوائل القرن الماضي عن تدريس "كتاب الهداية" في الفقه الحنفي في التكية السليمانية كل خميس من شهري رجب وشعبان للشيخ المحدث الشهير الشيخ أحمد العطار واستعاضة المذكور عن الهداية بقراءة صحيح البخاري لكون المذكور شافعيًّا، وقد عد صنيع المفتي هذا من عقله وحكمته لكون المذكور كان منقطعًا للقراءة والإقراء. ومن ذلك تنازل السيد محمد العطار -أحد أجداد بني الحسيبي- عن تدريس صحيح البخاري تحت قبة النسر لما سعى في توجيهه عليه إلى الشيخ يوسف الشهير بابن شمس وقراءة المذكور عنه بالوكالة إلى وفاته. ومن ذلك نزول الوجيه أحمد أفندي المنيني عن تدريس الحديث تحت قبة النسر بعد صلاة الجمعة إلى العلامة الشيخ سعيد الحلبي وقراءة المذكور عنه إلى وفاته ثم قراءة ابنه الشيخ عبد الله الحلبي بالوكالة عن ابن صاحب الوظيفة إلى أن نفي في حادثة الشام سنة 1276 المعروفة. وذلك من نزول أبي السعود أفندي المرادي عن وظيفة الفتوى بدمشق لما وجهت عليه بعد وفاة أبيه حسني أفندي المرادي ورغبته من والي دمشق اختيار مفت وإصراره على ذلك وإباؤه أشد الإباء إلى أن اختير طاهر أفندي الآمدي وعين مفتيًا للشام. هذا ما نحفظه ونأثره عن أشياخنا وكله مما يشف عن عقل وفضل بل وإراحة نفس من عناء ما قد لا يتفرغ له أو يكون الساخط عليه فيه أكثر من الراضي. أين هذا من التكالب والتماوت على نقل ما كان لسلفهم إليهم

والسعي وراءه وإن كانوا ليسوا له بأهل وكم من منصب بيع لصغير وجاهل لنقده فيه من الأصفر الرنان ما أبكم من أولئك كل لسان. إلا أن التاريخ بالمرصاد فهو لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فرحم الله من عرف قدره، ولم يتعد طوره.

الباب الخامس

الباب الخامس الفصل الأول: فيما يفعلونه للميت في المسجد من البدع والمحدثات وهو أمور نعي الميت في المآذن والنداء للصلاة عليه ... الباب الخامس: وفيه فصلان: الفصل الأول: فيما يفعلونه للميت في المسجد من البدع والمحدثات وهو أمور 1- نعي الميت في المآذن والنداء للصلاة عليه: قال الشمس ابن القيم كان من هديه صلى الله عليه وسلم ترك نعي الميت بل كان ينهى عنه ويقول: هو من عمل الجاهلية1. وقد كره حذيفة أن يُعلم به أهله الناس إذا مات وقال: أخاف أن يكون من النعي. وقال القاضي أبو الوليد بن رشد رحمه الله في "البيان والتحصيل": أما النداء بالجنائز في داخل المسجد فلا ينبغي ولا يجوز باتفاق لكراهة رفع الصوت في المسجد فقد كره ذلك حتى في العلم وأما النداء بها على أبواب المسجد فكرهه مالك ورآه من النعي المنهي عنه وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والنعي فإن النعي من عمل الجاهلية"2 والنعي عندهم أن ينادى في الناس: "ألا إن فلانًا قد مات فاشهدوا جنازته". وأما الإيذان بها والإعلام من غير نداء فذلك جائز بإجماع وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة التي توفيت ليلًا -وكانت تقم المسجد: "أفلا آذنتموني بها "3. ا. هـ. وفي النهاية: نعى الميت ينعاه نعيًا ونعيًّا إذا أذاع موته وأخبر به وإذا ندبه.

_ 1 ضعيف لم يثبت كما يأتي، وإنما ثبت النهي عن النعي، وهو مخرج في كتابي "أحكام الجنائز وبدعها" "ص30، 31" طبع "المكتب الإسلامي". 2 حديث ضعيف، أخرجه الترمذي "1: 184" مرفوعًا وموقوفًا عن أبي حمزة عن إبراهيم عن علقة عن عبد الله يعني ابن مسعود به. وقال: الموقوف أصح، وأبو حمزة هو ميمون الأعمور، وليس هو بالقوي عند أهل الحديث. 3 صحيح، أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة، وهو مخرج في المصدر السابق "87".

رفع الأصوات أمام الميت بالأناشيد "حين دخول المسجد وقبله وبعده"

2- رفع الأصوات أمام الميت بالأناشيد "حين دخول المسجد وقبله وبعده": قال الإمام ابن الحاج: ما يفعله القراء والفقراء والمريدون حين إتيانهم بالميت إلى الصلاة عليه في المسجد بدعة ينبغي أن تمنع وهي بدعة في غير المسجد فكيف بها فيه؛ ولأن ذلك يشوش على المتنفل والتالي والذاكر والمتفكر. والمسجد إنما بني لهؤلاء لا لغيرهم وقد استفتي الإمام النووي رحمه الله فقيل له: هذه القراءة التي يقرؤها بعض الجهال على الجنائز بدمشق بالتمطيط الفاحش والتغني الزائد وإدخال حروف زائدة ونحو ذلك مما هو مشاهد منهم هل هو مذموم أم لا؟. فأجاب بما هذا لفظه: هذا منكر ظاهر مذموم فاحش وهو حرام بإجماع العلماء، وقد نقل الإجماع فيه الماوردي وغير واحد وعلى ولي الأمر -وفقه الله- زجرهم عنه وتعزيرهم واستتابتهم، ويجب إنكاره على كل مكلف تمكن من انكاره. ا. هـ. وقرأت ذلك أيضًا في فتاويه وهي عندي. وأما الأذان عند دفنه فقال ابن حجر في فتاويه: هو بدعة إذا لم يصح فيه شيء ومثله لا يثبت إلا بتوقيف، ومن زعم أنه سنة عند نزول الأمر قياسًا على ندبه في المولود إلحاقًا لخاتمة الأمر بابتدائه فلم يصب، وأي جامع بين الأمرين، ومجرد أن ذاك في الابتداء وهذا في الانتهاء لا يقتضي لحوقه به. فضعف القياس ظاهر، جلي دفعه بأدنى توجه. ا. هـ.

رثاء الميت في المسجد وقراءة نسبه وحسبه

3- رثاء الميت في المسجد وقراءة نسبه وحسبه: جاء في "الفصول" من كتب الحنالة: يحرم النحيب وتعداد المحاسن والمزايا وإظهار الجزع لأن ذلك يشبه التظلم من الظالم وهو عدل من الله تعالى. وقال الشيخ تقي الدين: وما هيج المصيبة من وعظ أو إنشاد شعر فمن النياحة. نقله في شرح "الإقناع". وقال ابن الحاج: ينهى المؤذنون عما أحدثوه من النداء بالألفاظ التي فيها التزكية والتعظيم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزكوا على الله أحدا" 1 والميت مضطر إلى الدعاء، والتزكية ضد ما هو مضطر إليه من الدعاء؛ إذ إنها قد تكون سببًا لعذابه أو توبيخه فيقال له: أهكذا كنت؟ وفي فتاوى ابن حجر: أن المراثي التي تبعث على النوح وتجديد الحزن -كما يصنعه الشعراء في عظماء الدنيا، وينشد في المحافل عقب الموت- فهي نياحة محرمة بلا شك. نقله الأذرعي. وقال ابن عبد السلام: بعض المراثي حرام كالنوح لما فيه من التبرم بالقضاء إلا إذا ذكر مناقب عالم ورع أو صالح للحث على سلوك طريقته وحسن الظن به. ا. هـ.

_ 1 حديث صحيح، أخرجه البخاري "10: 397، فتح" ومسلم "8: 227" عن أبي بكرة أن رجلًا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأثنى عليه رجل خيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويحك قطعت عنق صاحبك". يقوله مرارًا: "إن كان أحدكم مادحًا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك والله حسيبه، ولا يزكي على الله أحدًا".

تأخير الميت في المسجد

4- تأخير الميت في المسجد: وردت السنة بتعجيل الصلاة على الميت ودفنه وإن ذلك من إكرامه. قال ابن الحاج: فإذا أريد الصلاة عليه فلا تؤخر لانقضاء جماعة فريضة ولا جمعة أيضًا. وقد كان بعض العلماء ممن كان يحافظ على السنة إذا جاءوا بالميت إلى المسجد صلى الله عليه قبل الخطبة ويأمر أهله أن يخرجوا إلى دفنه ويعلمهم أن الجمعة ساقطة عنهم إن لم يدركوها بعد دفنه. قال ابن الحاج: فجزاه الله خيرًا على نفسه على محافظته على السنة والتنبيه على البدعة فلو كان العلماء ماشين على ما مشى عليه هذا السيد لانسدت هذه الثلمة التي وقعت وهي أن من أحدث شيئا سكت له عليه فتزايد الأمر بذلك فإنا لله وإنا إليه راجعون.

الجلوس للتعزية في المسجد

5- الجلوس للتعزية في المسجد: في "الإقناع" وشرحه من فقه الحنابلة: وكره الجلوس للتعزية بأن يجلس المصاب في مكان ليعزوه أو يجلس المعزي عند المصاب للتعزية لما في ذلك من استدامة الحزن. قال أحمد في رواية أبي داود: وما يعجبني أن يقعد أولياء الميت في المسجد يعزون أخشى أن يكون تعظيمًا للموت. وقال ابن القيم في زاد المعاد: وكان هديه صلى الله عليه وسلم تعزية أهل الميت ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء ولا يقرأ له القرآن ولا عند قبره ولا غيره وكل هذا بدعة حادثة مكروهة، وكان من هديه السكون والرضاء بقضاء الله والحمد لله والاسترجاع. وجزم شارح "المنية" وصاحب "البحر" و"الفتح" من أئمة الحنفية بكراهتها في

المسجد أيضا وقال النووي في الروضة: التعزية سنة ويكره الجلوس لها. ومعنى التعزية والأمر بالأصبر، والحمل عليه بوعد الأجر، والتحذير من الوزر بالجزع، والدعاء للميت بالمغفرة والمصاب بجبر المصيبة. ثم قال النووي: قال صاحب الشامل: وأما إصلاح أهل الميت طعامًا وجمعهم للناس عليهم فهو بدعة غير مستحب لأنه عكس السنة من تهيئة أقارب الميت وجيرانه لأهله طعامًا يشبعهم لشغلهم بما نزل بهم. ا. هـ. وقال ابن الحاج: ولا بأس بفعله للصدقة عن الميت للمحتاجين والمضطرين لا للجمع عليه ما لم يتخذ ذلك شعارًا يستن به لأن أفعال القرب أفضلها ما كان سرًّا. ا. هـ.

دفن الميت في المسجد أو بناء مسجد عليه

6- دفن الميت في المسجد أو بناء مسجد عليه: في فتاوى الإمام النووي رحمه الله: سئل عن مقبرة مسبلة للمسلمين بنى فيها إنسان وجعل فيها محرابًا هل يجوز له ذلك وهل يجب هدمه. فأجاب بأنه لا يجوز له ذلك ويجب هدمه. ا. هـ. وقال ابن حجر في الزواجر: الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثانًا والطواف بها واستلامها والصلاة إليها ثم ساق الأحاديث في ذلك فانظره1. وقال ابن القيم في "زاد المعاد": إن الوقف لا يصح على غير بر ولا قربة كما لم يصح وقف هذا المسجد2، وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد نص على ذلك الإمام أحمد وغيره فلا يجتمع

_ 1 قلت: وراجع لذلك فصل "ما يحرم عند القبور" من "أحكام الجنائز وبدعها" "ص203-233" وكتابي المفرد "تحذير المساجد من اتخاذ القبور مساجد". "ناصر الدين". 2 يعني مسجد الضرار الذي أمر بهدمه صلى الله عليه وسلم لما بناه المنافقون ضرارًا وتفريقًا بين المؤمنين كما سننبه عليه.

في دين الإسلام مسجد وقبر بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق فلو وضعا معًا لم يجز ولا يصح هذا الوقف ولا تصح الصلاة في هذا المسجد لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولعنه من اتخذ القبر مسجدًا أو أوقد عليه سراجًا. فهذا دين الإسلام الذي بعث به رسوله ونبيه. وغربته بين الناس كما ترى. ا. هـ. والمشار إليه في قوله كما لم يصح وقف هذا المسجد هو مسجد الضرار في قوله قبل ذلك في فوائد غزوة تبوك "ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها، وهدمها كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه لما كان بناؤه ضرارًا وتفريقًا بين المؤمنين ومأوى للمنافقين وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله، أما بهدم أو تحريق وأما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له، وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أندادًا من دون الله أحق بذلك وأوجب. ا. هـ. ملخصًا.

نعي الإمام الشهيد الحسين عليه السلام على المنبر "في جمعة عاشوراء"

7- نعي الإمام الشهيد الحسين عليه السلام على المنبر "في جمعة عاشوراء": ماذا يعد العاقل من منكرات بعض الخطباء. لعمر الحق أن اللسان ليعجز عن إحصاء تلك الكوارث. ومن فظائعها نعي الحسين عليه السلام في جمعة المحرم على رءوس الملأ وذكرى شهادته سنة "61" في كربلا سرد ما نزل بالمسلمين من مصابه الجلل بما يستدر دمع المجمعين ويثير في أفئدتهم لواعج الأحزان وكوامن العلل ولا يعود بأدنى فائدة عليهم. ومثله مما نهي عنه كما قدمنا، وقد سرى لهم هذا الداء من الرافضة. قال صاحب "المجالس" أن الرافضة تغالوا في حزنهم لهذه المصيبة واتخذوا يوم عاشوراء مأتمًا لقتل الحسين رضي الله عنه فيقيمون فيه العزاء ويجلبون النوح والبكاء ويظهرون الحزن

والكآبة ويفعلون ما ليس فيه إصابة أما سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا" 1. ثم قال: وكان الغلاة من الناصبة يكيدون الرافضة يوم عاشوراء بإظهار الفرح والسرور والكحل ولبس الثياب الفاخرة وطبخ الأطعمة المنوعة وأوردوا فيه حديثا كذبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحياء ليلته وفيه من صلى ومن اغتسل ومن اكتحل ومن مر يده على رأس يتيم. وهو حديث كذب قبح الله من وضعه وافتراه فلقد تبوأ بيتًا من جهنم يصير مأواه. ا. هـ. وقد أسهب في تقبيح تينك البدعتين الإمام تقي الدين ابن تيمية في منهاج السنة وعبارته2 وصار الشيطان بسبب قتل الحسين رضي الله عنه يحدث للناس بدعتين بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء من اللطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاد المراثي وما يفضي إليه ذلك من سب السلف ولعنهم حتى يسب السابقون الأولون وتقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها كذب وكان قصد من سن ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة فإن هذا ليس واجبًا ولا مستحبًا باتفاق المسلمين، بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أعظم ما حرمه الله ورسوله وكذلك بدعة السرور والفرح وكانت الكوفة بها قوم من الشيعة المنتصرين للحسين وكان رأسهم المختار بن عبيد الكذاب وقوم من الناصبة المبغضين لعلي رضي الله عنه وأولاده ومنهم الحجاج بن يوسف الثقفي وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سيكون في ثقيف كذاب ومبير" فكان ذلك الشيعي هو الكذاب وهذا الناصبي هو المبير فأحدث أولئك الحزن وأحدث هؤلاء السرور. ورووا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله

_ 1 صحيح، أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أم حبيبة وأم عطية رضي الله عنهما. وله شاهد من حديث البياضي عند مالك "1: 80: 29" وعند أحمد "4: 344"، وعن ابن عمر عنده "2: 36، 67، 169" ومعجم ابن خزيمة "1: 227: 1" والطبراني عن أبي هريرة وعائشة كما في "الفتح الكبير". 2 صحيفة 248 الجزء الثاني.

عليه سائر سننه قال حرب الكرماني سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال: لا أصل له1 ورووا أنه من اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد ذلك العام ومن اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام فصار قوم يستحبون يوم عاشوراء الاكتحال والاغتسال والتوسعة على العيال واتخاذ أطعمة غير معتادة وهذه بدعة أصلها من المتعصبين على الحسين رضي الله عنه تلك بدعة أصلها من المتعصبين بالباطل له وكل بدعة ضلالة ولم يستحب أحد من الأئمة الأربعة وغيرهم لا هذا ولا هذا، ولا في شيء من استحباب ذلك حجة شرعية بل المستحب يوم عاشوراء الصيام عند جمهور العلماء. ثم قال رحمه الله بعد: ولا ريب أن قتل الحسين من أعظم الذنوب لكن قتله ليس بأعظم من قتل من هو أفضل منه من النبيين والسابقين الأولين ومن قتل في حرب مسيلمة وكشهداء أحد والذين قتلوا ببئر معونة وكقتل عثمان وقتل علي. وذكر رحمه الله قبل: أن الواجب عند المصائب الصبر والاسترجاع كما يحبه الله ورسوله. قال: ورفع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه نائحة فأمر بضربها فقيل: يا أمير المؤمنين إنه قد بدا شعرها فقال: إنه لا حرمة لها إنها تنهى عن الصبر وقد أمر الله به وتأمر بالجزع وقد نهى الله عنه وتفتن الحي وتؤذي الميت وتبيع عبرتها وتبكي بشجو غيرها، إنها لا تبكي على ميتكم إنما تبكي على أخذ دراهمكم.

_ 1 يعني في الصحة، وإلا فقد رواه الطبراني والبيهقي وغيرهما عن أبي سعيد وغيره، لكن لا يصح من ذلك شيء وقد ضعفه البيهقي. راجع "المشكاة" "1926، 1927".

الفصل الثاني: في أمور ينبغي التنبه لها

الفصل الثاني: في أمور ينبغي التنبه لها ما ينويه الماكث في المسجد من النيات الحسنة "ليبلغ بها درجات المقربين" ... الفصل الثاني: في أمور ينبغي التنبه لها 1- ما ينويه الماكث في المسجد من النيات الحسنة "ليبلع بها درجات المقربين": قال الإمام الغزالي في بيان فضيلة الأعمال المتعلقة بالنية: اعلم أن الأعمال وإن انقسمت أقسامًا كثيرة من فعل وقول وحركة وسكون وجلب ودفع وفكر وذكر، وغير ذلك مما لا يتصور إحصاؤه ولا استقصاؤه، فهي ثلاثة أقسام: طاعات ومعاص ومباحات. ثم قال: القسم الثاني الطاعات وهي مرتبطة بالنيات في أصل صحتها وفي تضاعف فضلها. أما الأصل فهو أن ينوي بها عبادة الله تعالى لا غير فإن نوى الرياء صارت معصية وأما تضاعف الفضل فبكثرة النيات الحسنة فإن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوي بها خيرات كثيرة فيكون له بكل نية ثواب؛ إذ كل واحدة منها حسنة. ثم تضاعف كل حسنة عشر أمثالها كما ورد به الخبر ومثاله القعود في المسجد فإنه طاعة ويمكن أن ينوي فيه نيات كثيرة حتى يصير من فضائل أعمال المتقين ويبلغ به درجات المقربين.

أولها أن يعتقد أنه بيت الله وأن داخله زائر لله فيقصد به زيارة مولاه رجاء لما وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "من قعد في المسحد فقد زار الله تعالى: وحق على المزور إكرام زائره" 1. وثانيها أن ينتظر الصلاة بعد الصلاة فيكون في جملة انتظاره في الصلاة وهو معنى قوله تعالى: {وَرَابِطُوا} . وثالثها الترهب بكف السمع والبصر والأعضاء عن الحركات والترددات، فإن الاعتكاف كف وهو في معنى الصوف وهو نوع ترهب وفي حديث: "رهبانية أمتي القعود في المساجد"2. ورابعها عكوف الهم على الله ولزوم السر للفكر في الآخرة ودفع الشواغل الصارفة عنه بالاعتزال إلى المسجد. وخامسها التجرد لذكر الله أو لاستماع ذكره وللتذكر به. وسادسها أن يقصد إفادة العلم بأمر بمعروف ونهي عن منكر إذ المسجد لا يخلو عمن يسيء في صلاته أو يتعاطى ما لا يحل له فيأمره بالمعروف ويرشده إلى الدين فيكون شريكًا معه في خيره الذي يعلم منه فتتضاعف خيراته. وسابعها أن يستفيد أخًا في الله فإن ذلك غنيمة وذخيرة للدار الآخرة والمسجد معشش أهل الدين المحبين لله وفي الله. وثامنها أن يترك الذنوب حياء من الله تعالى وحياء من أن يتعاطى في بيت الله ما يقتضي هتك الحرمة. وقد قال الحسن بن علي رضي الله عنهما. "من أدمن الاختلاف إلى المسجد رزقه الله إحدى سبع خصال: أخًا مستفادًا في الله أو رحمة مستنزلة أو علمًا مستظرفًا أو كلمة تدل على هدى أو تصرفه عن ردى أو يترك الذنوب خشية أو حياء فهذا طريق تكثير النيات، وقس به سائر الطاعات والمباحات؛ إذ ما من طاعة إلا وتحتمل نيات كثيرة وإنما تحضر في قلب العبد المؤمن بقدر جده في طلب الخبر وتشمره له وتفكره في فبهذا تزكوا الأعمال وتتضاعف الحسنات. ا. هـ.

_ 1 قال الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" "4: 317": "رواه ابن حبان في الضعفاء من حديث سلمان" وللبيهقي في الشعب نحوه من رواية جماعة من الصحابة لم يسموا بإسناد صحيح". قلت: وهو حديث حسن عندي، وقد جود بعض أسانيده المنذري "الترغيب" "1: 130". 2 قال العراقي في "تخريج الإحياء" "4: 317": "ولم أجد له أصلا".

الانقطاع في المسجد لحفظ النفس

2- الانقطاع في المسجد لحفظ النفس: قال الإمام ابن القيم في "إغاثة اللهفان": ومن كيده وخداعه -يعني الشيطان- أنه يأمر الرجل بانقطاعه في مسجد أو رباط أو زاوية أو تربة ويحبسه هناك وينهاه عن الخروج ويقول له: متى خرجت تبذلت للناس وسقطت من أعينهم وذهبت هيبتك من قلوبهم وربما ترى في طريقك منكرًا وللعدو في ذلك مقاصد خفية يريدها منه، منها الكبر واحتقار الناس وحفظ الناموس وقيام الرياسة ومخالطة الناس تذهب ذلك وهو يريد أن يزار ولا يزور ويقصده الناس ولا يقصدهم ويفرح بمجيء الأمراء إليه واجتماع الناس عنده وتقبيل يده فيترك من الواجبات والمستحبات والقربات ما يقربه إلى الله ويتعوض عنه بما يقرب الناس إليه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى السوق قال بعض الحفاظ: ويشتري حاجته ويحملها بنفسه ذكره أبو الفرج ابن الجوزي وغيره1، وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرج إلى السوق يحمل الثياب فيبيع ويشتري، ومر عبد الله بن سلام رضي الله عنه وعلى رأسه حزمه حطب فقيل له: ما يحملك على هذا وقد أغناك الله عز وجل؟ فقال: أردت أن أدفع به الكبر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة عبد في قلبه مثقال ذرة من الكبر" 2. وكان أبو هريرة رضي الله عنه يحمل الحطب وغيره من حوائج نفسه وهو أمير على المدينة ويقول: أفسحوا لأميركم أفسحوا لأميركم. وخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا وهو خليفة في حاجة له ماشيًا فأعيا فرأى علامًا على حمار له فقال: يا غلام احملني فقد أعييت فنزل الغلام عن الدابة وقال: اركب يا أمير المؤمنين فقال: لا، اركب أنت وأنا خلفك. فركب خلف الغلام حتى دخل المدينة والناس يرونه.

_ 1 كأنه يشير إلى قصة دخوله صلى الله عليه وسلم السوق مع أبي هريرة، وشرائه سراويل ومنعه صلى الله عليه وسلم أبا هريرة أن يحملها عنه وقوله: صاحب الشيء أحق بحمله ... فإن كان يريد هذا، فهو موضوع كما بينته في "الضعيفة" "89"، وإن أراد غيره فلم أعرفه. 2 حديث صحيح، أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" "64: 216: " من طريقين عن عكرمة بن عمار قال: حدثنا محمد بن القاسم قال: زعم عبد الله بن حنظلة الراهب أن عبد الله بن سلام مر في السوق وعليه حزمة حطب ... قلت: وهذا إسناد حسن كما قال الهيثمي "1: 99"، وللمرفوع منه شواهد كثيرة عنده. وأخرجه مسلم "1: 75" وأبو داود "2: 181" والترمذي "1: 360" وصححه وابن خزيمة في "التوحيد" "247" وأحمد "1: 451" وابن سعد "7: 475" من حديث ابن مسعود.

القانعون بسكني المساجد عن الكسب

3- القانعون بسكنى المساجد عن الكسب: قال الإمام الغزالي في باب المغرورين من إحيائه: وفرقة أخرى زهدت في المال وقنعت من اللباس والطعام بالدون ومن المسكن بالمساجد وظنت أنها أدركت رتبة الزهادة وهو مع ذلك راغب في الرياسة والجاه إما بالعلم أو الوعظ أو بمجرد الزهد فقد ترك أهون الأمرين وباء بأعظم المهلكين فإن الجاه أعظم من المال ولو ترك الجه وأخذ المال كان إلى السلامة أقرب فهذا مغرور إذ ظن أنه من الزهاد في الدنيا وهو لم يفهم معنى الدنيا، ولم يدر أن منتهى لذاتها الرياسة وأن الراغب فيها لا بد وأن يكون منافقًا وحسودًا ومتكبرًا ومرائيًا ومتصفًا بجميع خبائث الأخلاق. نعم وقد يترك الرياسة ويؤثر الخلوة والعزلة وهو مع ذلك مغرور إذ يتطاول بذلك على الأغنياء ويخشن معهم الكلام وينظر إليهم بعين الاستحقار ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم ويعجب بعمله ويتصف بجملة من خبائث القلوب وهو لا يدري وربما يعطى المال فلا يأخذه خيفة من أن يقال بطل زهده ولو قيل له: إنه حلال فخذه في الظاهر ورده في الخفية لم تسمح به نفسه خوفًا من ذم الناس فهو راغب في حمد الناس وهو

من ألذ أبواب الدنيا، ويرى نفسه أنه زاهد في الدنيا وهو مغرور ومع ذلك فربما لا يخلو من توقير الأغنياء وتقديمهم على الفقراء والميل إلى المريدين له والمثنين عليه والنفرة عن المائلين إلى غيره من الزهاد، وكل ذلك خدعة وغرور من الشيطان نعوذ بالله منه. وفي العباد من يشدد على نفسه في أعمال الجوارح حتى ربما يصلي في اليوم والليلة مثلًا ألف ركعة ويختم القرآن وهو في جميع ذلك لا يخطر له مراعاة القلب وتفقده وتطهيره من الرياء والكبر والعجب وسائر المهلكات، فلا يدري أن ذلك مهلك وإن علم فلا يظن بنفسه ذلك وإن ظن بنفسه ذلك توهم أنه مغفور له لعمله الظاهر وأنه غير مؤاخذ بأحوال القلب وإن توهم فيظن أن العبادات الظاهرة تترجح بها كفة حسناته وهيهات!! وذرة من ذي تقوى وخلق واحد من أخلاق الأكياس أفضل من أمثال الجبال عملًا بالجوارح ثم لا يخلو هذا المغرور مع سوء خلقه مع الناس وخشونته وتلوث باطنه عن الرياء وحب الثناء فإذا قيل له: أنت من أوتاد الأرض وأولياء الله وأحبابه فرح المغرور بذلك وصدق به وزاده ذلك غرورًا وظن أن تزكية الناس له دليل على كونه مرضيًا عند الله، ولا يدري أن ذلك لجهل الناس بخبائث باطنه. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

المعتزلون في المساجد والمدارس وآفات الاعتزال

المعتزلون في المساجد والمدارس وآفات الاعتزال ... الله عليه وهذه سنته، وهذا هدي الخلفاء الراشدين وكل لا تجهل سيرته من منهم اعتزل وكان حلس بيته راضيًا أن يكون كلًّا على غيره رافضًا واجباته في أمته. وجلي أن يستفاد من المخالطة ما يفوت بالعزلة قال الإمام الغزالي عليه الرحمة: انظر إلى فوائد المخالطة والدواعي إليها ما هي: هي التعليم والتعلم والنفع والانتفاع والتأديب والتأدب والاستئناس والإيناس ونيل الثواب وإنالته في القيام بالحقوق واعتياد التواضع واستفادة التجارب من مشاهدة الأحوال والاعتبار بها. ثم فصلها في إحيائه قدس الله سره وأبان في خلال الفائدة السادسة من فوائد المخالطة غايات بعض المعتزلين من المتصولحين. وعبارته: فكم من معتزل في بيته وباعثه الكبر ومانعه عن المحافل أن لا يوقر أو لا يقدم أو يرى الترفع عن مخالطتهم أرفع لمحله وأبقى لطراوة ذكره بين الناس، وقد يعتزل خيفة من أن تظهر مقابحة لو خالط فلا يعتقد فيه الزهد والاشتغال بالعبادة فيتخذ من البيت سترًا على مقابحة إبقاء على اعتقاد الناس في زهده وتعبده. وعلامة هؤلاء أنهم يحبون أن يزاروا ولا يحبون أن يزوروا ويفرحون بتقرب العوام والسلاطين إليهم واجتماعهم على بابهم وطرقهم وتقبيلهم أيديهم على سبيل التبرك ولو كان الاشتغال بنفسه هو الذي يبغض إليه المخالطة وزيارة الناس بغض إليه زيارتهم له فإذن من حبس نفسه في البيت ليحسن اعتقادات الناس وأقوالهم فيه فهو في عناء حاضر في الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون. انتهى كلامه عليه الرحمة.

البصراء والمتعففون الذين يألفون المساجد

5- البصراء والمتعففون الذين يألفون المساجد: كثير من البصراء الحافظون لكتاب الله تعالى يأوون إلى المساجد ويتحلقون بها ليذكروا الناس بمرآهم ومحضرهم تفقدهم والإحسان إليهم، ولكن أكثر الناس عنهم غافلون؛ إذ لا يدعونهم إلا في المآتم والمواسم وتلك أوقاتها قليلة لا يكفي ما يعطونه فيها لسد ضرورتهم وحاجاتهم وفيهم من له عيال وأولاد وحاجات مهمة لا تخفى من كراء بيت وما يستتبعه. فهم أحق الناس بالعناية بهم وبرهم ويعلم الله أني كلما رأيت بصيرًا منهم يكاد قلبي يتفطر أسفًا على حاله لا سيما إذا رأيته يستجدي بالتلاوة فحسبنا الله ونعم الوكيل. فأين المياسير وأين أهل الخير وأين الذين يذكرون قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون} فوا رحمتاه للبؤساء ولا سيما البصراء، ألم ينظروا إلى البلاد التي يقال بأن عنايتهم تجاوزت إلى البصراء فشادوا لهم ملاجئ لتعليمهم الكتابة والقراءة والصناعة فأين نحن عن اللحاق بهذه الفضائل ومتى نرى روح الخير والبر دبت في عروق الذين لا يهمهم إلا أن يجمعوا ويمنعوا ويتقاطعوا ولا يتواصلوا، وبالجملة فالبصير الحافظ للقرآن الكريم أحق بالإحسان من غيره لجمعه بين المسكنة والتعفف وفضيلة الحفظ، وهكذا يقال عن خدمة المسجد ومؤذنيه والمنقطعين إليه، ومثلهم المتعففون الذين يأوون إلى المساجد أو الزوايا من ذوي الحسب أو النسب أو من هم من ذرية صوفية وصالحين ممن قعد بهم الحظ وأضعفهم العجز عن الكسب والتكسب فهؤلاء من أجدر الناس بالإحسان إليهم والتصدق عليهم وإن كان عليهم لباس الغنى فإن ذا الفراسة الإيمانية يعلم أن لباسهم هذا ينطوي على حاجة ومسكنة إلا أن التعفف والحياء سترها، وقد قال تعالى في مثل هؤلاء: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ، لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} وقال صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يتفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس" 1. رواه مالك والإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة. وما ألطف قول حافظ إبراهيم أديب مصر:

_ 1 حديث صحيح، مخرج في "تخريج مشكلة الفقر" "77".

أيها المصلحون ضاق بنا العيـ ... ـش ولم تحسنوا عليه القياما عزت السلعة الذليلة حتى ... بات مسح الحذاء خطبًا جساما وغدا القوت في يد الناس كاليا ... قوت حتى نوى الفقير الصياما يقطع اليوم طاويًا ولديه ... دون ريح القتار ريح الخزامى ويخال الرغيف في البعد بدرًا ... ويظن اللحوم صيدًا حرامًا إن أصاب الرغيف من بعد كد ... صاح من لي بأن أصيب الأداما أيها المصلحون أصلحتم الأر ... ض وبتم عن النفوس نياما أصلحوا أنفسًا أضر بها الفقر ... وأحيا بموتها الآثاما ليس في طوقها الرحيل ولا الجد ... ولا أن تواصل الإقداما إلى أن قال: أيها المصلحون رفقًا بقوم ... قيد العجز شيخهم والغلاما وأغيثوا من الغلاء نفوسًا ... قد تمنت مع الغلاء الحماما ومنها: قد شقينا ونحن كرمنا الله ... بعصر يكرم الأنعاما وأذكر أني مرة سألني سلفي عما يعمله بعض الفقهاء عن كفارة الصلاة وإيهاب صرة الدراهم المهيأة لأجلها1 للفقير ثم استيهابها منه ثم إعطاؤه بعد تكرير ذلك ما تيسر من الدراهم فهل ذلك مأثور وإذا كان غير مأثور أفليس الأولى تركه تحرزًا من الابتداع؟ فأجبته بأن هذه الحالة التي تعمل الآن غير مأثورة قطعًا، وإنما أجازها بعض الأئمة قياسًا على كفارة الصيام والإيمان والنذور وحيث جرت نفعًا للفقراء والصدقة مندوب إليها كان عملها لا بأس به2 إلا أن

_ 1 كذا الأصل. 2 قلت: هذا رأي المؤلف رحمه الله تعالى، ولسنا نراه صوابًا ما دام أنها غير مأثورة عن السلف والخير كله في اتباعهم، فالأولى تركه كما قال ذلك السلفي، بل ذلك هو الواجب لأن التقرب إلى الله بما لم يشرعه الله تبارك وتعالى ضلالة كبرى، واستحسان ذلك لمجرد كونها تجر إلى الفقير نفعًا من أغرب ما يصدر من سلفي كالمؤلف عفا الله عنا عنه فإن مثله لا يخفى عليه أن الغاية لا تبرر الوسيلة ويبدو لي أن رأفة المؤلف رحمة الله تعالى على الفقراء سيطرت عليه، فحالت بينه وبين تبين خطأ رأيه هذا وهو مأجور على كل حال. والله المستعان. "ناصر الدين".

احتيال الأغنياء بدلالة بعض الفقهاء على إيهاب الصرة المليئة ثم استردادها فيه تحيل على إسقاط حق للفقراء كبير وتلاعب بأصل المسألة وقياسها وجلي أن كل حيلة أدت إلى إسقاط واجب فلا تخلص فاعلها عند الله تعالى كما بينه الفقهاء وبسطه الإمام ابن القيم في إغاثة اللفهان. ثم قلت: ومع ما هي عليه الآن من التحيل والحيف على الفقير فإني لا أكرهها ولا أقبحها خيفة أن يسد على الفقراء نوع من الصدقة وحاجتهم تضطرهم إلى تقبل الصدقة بأي سبب كان مشروعًا أو غيره ولا حول ولا قوة إلا بالله. نعم الملام على الأغنياء من استئثارهم بالأموال الطائلة كأنها خلقت لهم خاصة ولم يوجب الله عليهم فيها حقوقًا وعلى الفقهاء الذين يعلمون الأغنياء تلك الحيل لإسقاط ما وجب عليهم بزعمهم وعلى قادة الأمة وسادتها الذين لا يفتكرون فيما يخفف بؤس هؤلاء وفاقتهم فإذا عملوا جميعًا على الإصلاح وعم العلم وانتشر في كل الطبقات فلا تلبث تلك البدع أو الأمور التي في النفس منها حزازات أن تنقشع غيومها عن البصائر فإن الجهل لا يثبت امام العلم والحق يدفع الباطل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} .

اتخاذ الجوامع خانقاهات

6- اتخاذ الجوامع خانقاهات: من المعلوم أن الأمراء السالفين شادوا للصوفية خانقاهات "تكايا" يقيمون بها أذكارهم وأورادهم وكل ما اصطلحوا عليه من الأوضاع والرسوم وقد عد صاحب "الدارس" عدة منها وما أثر عن الأمراء أنهم رتبوا في المساجد العامة صوفية لإقامة رسومهم، وذلك لأن المساجد المطروقة إنما بنيت للصلاة والجمعة والجماعة فلو أقيم بها تلك الرسوم لتشوش على المصلين أداء العبادة، وقد يضطرون إلى مبارحة ذلك المسجد إلى غيره إذا جاء ميعاد الاجتماع للذكر، فلذا كان من التنظيمات الحسنة إيواؤهم زوايا وخانقاهات خاصة بهم وبإخوانهم وبمن يرغب أن يحضر احتفالهم وأوقات مواعيدهم1. بيد أنه في الأزمنة المتأخرة صار بعض المتصوفة يسعى بتوجيه مشيخة عليه في بعض الجوامع العامة ويوهم أنه تكية خداعًا وتلبيسًا فإذا وجه عليه مشيخة مريديها أخذ في إقامة رسوم طريقته، وقد يتفق ذلك في أوقات قدوم مصلين فيجيء المحذور المتقدم. ومن أرباب الطريق من لا يجوز دخول من ليس من طريقتهم إلى حلقة ذكرهم ولا حضوره وهو يراهم ولو على بعد، فإذا حضر ميعاد ذكرهم وتأخر في المسجد بعض المصلين أو العاكفين ممن ليس بإخوانهم اضطروه إلى الخروج أما مشافهة أو بدق حلقة باب حرم المسجد دقا مكررا فيضطر إلى الخروج وقد يكون الوقت باردًا وقصد ذاك المسكين أن يستدفئ بالمسجد أو يتعبد بالاعتكاف فيه ساعة مثلًا فيخرج متألمًا متكدرًا وإن تكن نية بعض الصوفية في ذلك صالحة -وهو الذي أراه تحسينًا للظن- ولكن لا حاجة إلى الولوج في أمور متشابهة والتكلف للمخرج منها فالرجوع من هؤلاء إلى زوايا خاصة أورع وأتقى وأبرأ للدين والله ولي المتقين2

_ 1 قلت: بل هذا من محدثات الأمور، "وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" كما قال عليه الصلاة والسلام. "ناصر الدين". 2 قلت: كلا، بل إن رجوعهم إلى مساجد المسلمين، والتزامهم سنة سيد المرسلين، وسيرة أصحابه المكرمين، هو البر والتقوى، ولا حول ولا قوة إلا بالله. "ناصر الدين".

اتخاذ المساجد مكاتب أو مخافر

اتخاذ المساجد مكاتب أو مخافر: يرغب بعض الناس أو يشير باتخاذ بعض مساجد المحلات مكاتب للأطفال يتعلمون فيها القرآن والكتابة ومبادئ الفنون. ولا يخفى أن محل الترخيص بذلك إذا هجرت تلك المساجد أو استعيض عنها بغيرها أو لم يعمرها أحد من جيرانها وإلا ففي ذلك إخراج لها عن موضوعها، وأما اتخاذها مخافر لها فذلك مما لا يغتفر، إلا إذا اضطر إليه لعدم وجود مكان سواه لذلك وحاجة جواره إلى الأمن بالخفراء، وإلا فلا يجوز قطعًا. وطالما ذكر لي عن بعض المساجد أنه أرسل للإقامة بها بعض الشرط للمحافظة على تلك المحلة، وأن جيران ذلك المسجد قلقوا وضجروا لحاجتهم إليه ووجود ما يصلح لهم سواه إلا أنه بأجرة والمسجد بدونها وذكر لي أيضًا من المخزيات والمنكرات فيه من بعد الشرط ما نجل كتابنا عن ذكره، وهذا مما لا يرضاه شرع ولا عقل. ومثله يقال في اتخاذ بعض المساجد مجالس للحكومة كالتحقيق على العسكر الذين بلغوا السن الذي يطلبون فيه ولا يخفى ما في كل ذلك من منع مساجد الله عن أن يذكر فيها اسمه تعالى والخوض في المحذورات فليحذر الموفقون عن مثل ذلك وعن المساعدة عليه والله المستعان.

التماوت واطراق الرأس واحناء الظهر في المسجد وغيره

8- التماوت وإطراق الرأس وإحناء الظهر في المسجد وغيره: قال الإمام "أبو شامة" في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث": ومما ابتدع واستميلت قلوب الجهال والعوام بسببه التماوت في المشي والكلام حتى صار ذلك شعار من يريد أن يظن فيه التنسك والتورع فليعلم إذن الدين خلاف ذلك وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ثم السلف الصالح ففي أحاديث صفة النبي صلى الله عليه وسلم وشمائلة أنه كان إذا مشى تقلع1 قال أبو عبيد: أي كان قوي المشية يرفع رجليه من الأرض رفعًا بائنا بقوة. وروى المبرد في كامله أن عائشة رضي الله عنها نظرت إلى رجل متماوت فقالت: ما هذا؟ فقالوا: أحد القراء -الفقهاء- فقالت: قد كان عمر رضي الله عنه قارئا فكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع. قال: يروى أن عمر رأى رجلًا مظهرًا للنسك متماوتًا فخفقه بالدرة وقال: لا تمت علينا ديننا أماتك الله، وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء قال: استعيذوا بالله من خشوع النفاق قيل: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعًا والقلب ليس بخاشع، وقال المدائني: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص وهو واليه بمصر رفع إليَّ أنك تبكي بمجلسك فإذا جلست فكن كسائر الناس ولا تبك. وروى ابن عساكر عن ابن المبارك قال: ما رأيت إبراهيم بن أدهم يظهر تسبيحًا ولا شيئًا من الخير ولا أكل مع قوم طعامًا إلا كان آخر من يرفع يديه من الطعام، وعنه أيضًا قال: إنه ليعجبني من القراء كل طلق ضحاك فأما من تلقاه بالبشر ويلقاك بالعبوس كأنه يمن عليك بعلمه فلا أكثر الله في القراء مثله. قال أبو شامة: وهذه الطلاقة التي أشار إليها هي التي كانت تعرف من حسن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كانت الغالب على أصحابه رضي الله عنهم وسادات المتقدمين من الأئمة الجامعين بين العلم والعمل كسعيد بن المسيب إمام أهل المدينة وسيد التابعين في وقته مع خشونته المعروفة في أمر الله تعالى وكأمر الشعبي من أئمة الكوفة وابن سيرين من أئمة البصرة والأوزاعي من أئمة الشام والليث بن سعد من أئمة مصر وغيرهم رضي الله عنهم قد عرف ذلك من أخبارهم، ثم هي طريقة الشافعي رحمه الله تعالى وطريقة من ارتضيناه من مشايخنا الذين عاصرناهم وبالله التوفيق. ا. هـ كلامه.

_ 1 حديث صحيح، أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "1: 410، 411" من طريقين عن علي رضي الله عنه. وله شاهد صحيح الإسناد من حديث لقيط بن صبرة، وهو مخرج في "صحيح الإسناد من حديث لقيط بن صبرة، وهو مخرج في "صحيح السنن" "131".

جهل بعض أئمة القرى

9- جهل بعض أئمة القرى: كنت في عيد الأضحى عام "1323" في إحدى قرى الغوطة، فذهبنا بعد الإشراق لصلاة العيد في مسجدها وقدمنا إمامه فصلى واتفق أنه أساء في هيئة الصلاة فإنه نسي تكبيرات الركعة الثانية ثم عاد إليها وسجد للسهو، والحال أنه لا سجود عليه ولا حاجة للعود إليه قال الشافعي في الأم: فإن نسي التكبير أو بعضه حتى يفتتح القراءة فقطع القراءة وكبر ثم عاد إلى القراءة لم تفسد صلاته ولا آمره إذا افتتح القراءة أن يقطعها، ولا إذا فرغ منها أن يكبر، وآمره أن يكبر في الثانية تكبيرها لا يزيد عليه لأنه ذكر في موضع إذا مضى الموضع لم يكن على تاركه قضاؤه في غيره، كما لا آمره أن يسبح قائمًا إذا ترك التسبيح راكعًا أو ساجدًا. قال الشافعي: ولو ترك التكبيرات السبع والخمس عامدًا أو ناسيًا لم يكن عليه إعادة. ولا سجود سهو عليه؛ لأنه ذكر لا يفسد تركه الصلاة وأنه ليس عملًا يوجب سجود السهو. قال الشافعي: فإن ترك التكبير ثم ذكره فكبر أحببت أن يعود لقراءة ثانية وإن لم يفعل لم يجب عليه أن يعود ولم تفسد صلاته فإن نقص أو زاد ما أمرته من التكبير فلا إعادة ولا سجود للسهو عليه لأنه ذكر لا يفسد الصلاة. وذكر الشافعي قبل بسنده عن أبي بكر وعمر وعلي وأبي أيوب وزيد وأبي هريرة جميعًا كبروا في الركعة الأولى سبعًا. ا. هـ. وإنما استدللنا بكلام الشافعي؛ لأن أكثر أهالي الغوطة شافعيون فأوردنا لهم كلام الإمام بحروفه ليكون أوثق لهم وأبين. ولا يخفى ما يلزم أئمة القرى من الفقه في الدين والتبصر بالسنة ولعمري إنهم مقصرون ولا عذر لهم والواجب تنبيههم على ذلك. وإذا أمكن إرسال أحد يعلمهم أو إلجاؤهم بقوة لينفر بعض منهم للتفقه في الدين كان متعينًا امتثالًا لأمر الحق سبحانه. وبالله التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله.

تقصير أكابر القرى في عمارة مساجدهم

10- تقصير أكابر القرى في عمارة مساجدهم: قل أن يدخل المرء لقرية من القرى الظاهرة عن المدن فيرى مساجدها معتنى بحاجياتها فضلًا عن كمالياتها. ترى مسجد القرية متعفن الأرض لا يقي حصره عن العفونة دف خشب مع أن الدفوف إنما تجلب إلى المدن من القرى، تراه لا سجادات فيه ولا بسط لطيفة تقي المصلي برودة أرضه، تراه غير متقن البناء. تراه مفتقرًا إلى زيادة التنوير، ترى بيوت أخليته لا يستطاع قضاء الحاجة فيها للإعراض عن كسحها أو عمل مصرف لقاذوراتها. إذا قيل ما السبب؟ فالجواب أن السبب إما أكل ريع أوقافه أو إعراض أكابر جيرانه عن الالتفات إلى إشادته وتعميره. سألت فقيه الجراكسة بعمان البلقاء عام رحلتي إلى بيت المقدس من طريقها وقلت له: ما بال أغنياء عمان لا يتممون ما نقص جامعهم هذا الفخيم، وما بالهم لا يزيلون عن أرض برانية التراب المتراكم حتى يصلوا إلى أرضه القديمة وبلاطه العتيق، وهلا التفتوا إلى تشييد منارته ولقد أوشك بنيانها أن يتداعى للسقوط؟ فقال لي: الأغنياء يعمرون الدنيا ولا يعمرون الآخرة. وهكذا يقال في غير عمان، نعم يوجد في بعض القرى مساجد حسنة البناء كمسجد قرية التل ومسجد دوما ومساجد أخرى في قضاء القلمون فما أجدر بقية القرى أن تحذو حذوها، وفق الله الأغنياء والنظار لذلك وبصرهم بالعواقب.

تنطع من يدخل حافيا المسجد وهو يعمر

11- تنطع من يدخل حافيًا المسجد وهو يعمر: يتفق أن بعض المساجد يستدعي الحال تعميرها وإصلاح بنائها أو تجصيصها فيمتلئ صحنه بالأدوات والأتربة وينتشر الغبار في جوانبه وأرجائه كلها بحيث لا يمكن دخول صحنه إلا بالنعل صونا للرجل عن أذى وللجوار عن اتساخ لا حطًّا من كرامة المسجد فإن المؤمن لا يخطر له ذلك على بال فترى حالتئذ بعض المتنطعين أو المتغالين يدخل المسجد حافيًا أو يهيئ نعلًا لم تلبس لينتعلها إذا دخله، وهذا التنطع والغلو لم تأمر به الشريعة السمحة ولا حرجت فيه، بل صح في السنة خلافه إذ كان الصحابة يدخلون بنعالهم إلى المسجد النبوي ويصلون بها وإن تنجست يعلمون أن طهارتها بدلكها على الأرض كما بسط ذلك ابن القيم في "إغاثة اللهفان". نعم لا ننكر لزوم صون المساجد عن النعال الآن إذا فرشت بنفيس الزرابي "السجادات" مما يدعو إلى كرامتها من القمامات والأوساخ ولذا كان موضوع بحثنا في وقت خاص وهو وقت عمارتها في صحنها.

ايلاف مسجد لاعتقاد فضل فيه غير المساجد الثلاثة

12- إيلاف مسجد لاعتقاد فضل فيه غير المساجد الثلاثة: نقل الإمام أبو شامة في كتاب "الباعث" عن محمد بن مسلمة قال: لا يؤتى شيء من المساجد يعتقد فيه الفضل بعد المساجد الثلاثة إلا مسجد "قباء" قال: وكره أن يعد له يوم بعينه فيؤتى فيه خوف من البدعة وأن يطول بالناس زمان فيجعل ذلك عيدًا يعتمد أو فريضة تؤخذ ولا بأس أن يؤتى كل حين ما لم تجئ فيه بدعة. ا. هـ. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء كل سبت1، ولكن معنى هذا أنه كان يزوره في كل أسبوع وعبر بالسبت عن الأسبوع كما يعبر عنه بالجمعة ونظيره ما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة قال فيه: فلا والله ما رأينا الشمس سبتا. ا. هـ2.

_ 1 متفق عليه. 2 خرج في "الإرواء".

المحافظون لنعال الناس في المسجد

13- المحافظون لنعال الناس في المسجد: يوجد في بعض المساجد من يأخذ نعال الداخلين إليها ويحفظها لهم في موضع يغصبه منها بفلوس تدفع له بعد قضائهم الصلاة وانتشارهم فهؤلاء المحافظون ينهون عن ذلك؛ لأنهم يضيقون على المسلمين طريقهم ويمسكون من المسجد موضعًا لم يوضع له وفيه إعانة لهم على ترك الصلاة وكذلك المحافظون للنعال على أبواب المساجد فإنهم لا يحضرون جمعة ولا جماعة.

ايواء القطط في المسجد

14- إيواء القطط في المسجد: قال ابن الحاج: كان الناس يوقرون بيوت ربهم ويحترمونها وينزهونها عما لا يليق بها فانعكس الأمر إلى أن صار المسجد مأوى للقطاط المؤذية فكل من كان عنده هر مؤذ أرسله إلى الجامع، ولا يفكر في أنهن يلوثنه بنجاستهن كما شوهد ذلك مرارًا فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ايواء المجاذيب في بعض المساجد

15- إيواء المجاذيب في بعض المساجد: يوجد في بعض المساجد مجاذيب يأوون إلى حجرات فيها أو يتوطنون أروقتها فيقذرون جانبًا منها وهؤلاء الأجدر لهم إما المستشفيات أو البمارستانات وهم من البلاء المصبوب على الأمكنة التي يحلون بها، فكم ترى منهم من يتسول عاريًا من اللباس وآخر مشوه الخلقة يخيف الأطفال بشناعة منظره وبشاعة سيره وطورًا يشاهد منهم من يهيمون على وجوههم في الشوارع مقلقين راحة السكان بما يأتونه من الأمور المغايرة من رءوس مكشوفة وعورة غير مستورة وإسدال شعور للأطفال والنساء مخيفة وغير ذلك مما لا يجمل ذكره ولا يجهل أمره كزعق بمكفرات وصياح بشتائم وتأبط الأحجار، ومن العامة من يعتقد في مثل هؤلاء الولاية نعوذ بالله من الجهل والضلال. وأين مقام الولاية من هؤلاء المجانين قال تقي الدين في الفرقان بين أولياء

الرحمن وأولياء الشيطان: العبد لا يكون وليًّا لله إلا إذا كان مؤمنًا تقيًّا فمن يتقرب إلى الله لا بفعل الحسنات ولا بترك السيئات لم يكن من أولياء الله، وكذلك المجنون فإن كونه مجنونًا يناقض أن يصح منه الإيمان والعبادات التي هي شرط في ولاية الله تعالى، ومن كان جنونه مطبقًا فهذا ممن رفع عنه القلم ومن كان جنونه متقطعًا فإن صدر عنه في حال أفاقته كفر أو نفاق أو معصية كان كافرًا أو منافقًا أو فاسقًا وإن وقع ذلك في حال جنونه فلا مؤاخذة. ومن ادعى الولاية وهو لا يؤدي الفرائض ولا يتجنب المحارم بل يأتي بما يناقض ذلك فإن ادعى أنه لا يجب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر "انظر تتمته في الفرقان"1.

_ 1 انظر "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لشيخ الإسلام ابن تيمية ص38 وما بعدها، طبعة المكتب الإسلامي الثانية.

دخول الصبيان المساجد

16- دخول الصبيان المساجد: تقدم في الحديث "وجنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم"1 وذلك لأن الصبي دأبه اللعب فبلعبه يشوش على المصلين وربما اتخذه ملعبًا فنافى ذلك موضع المسجد فلذا يجنب عنه.

_ 1 قلت: وتقدم أنه ضعيف لا يصح.

بيع الأدوية والأطعمة والتعويذات وتخلل السؤال الصفوف "ونحوها في المسجد"

17- بيع الأدوية والأطعمة والتعويذات وتخلل السؤال الصفوف "ونحوها في المسجد": قال ابن الحاج ويمنع بائعوا القضامة وغيرها في المساجد وينهون عن ذلك. وقال الغزالي في الإحياء في منكرات المساجد: ومنها الحلق يوم الجمعة لبيع الأدوية والأطعمة والتعويذات وكقيام السؤال وقراءتهم القرآن وإنشاد الأشعار وما يجري مجراه فهذه الأشياء منها ما هو محرم لكونه تلبيسًا وكذبًا كالكذابين من طرقية الأطباء وكاهل الشعبذة والتلبيسات وكذا أرباب التعويذات في الأغلب يتوصلون إلى بيعها بتلبيسات على الصبيان والسوادية فهذا حرام في المسجد وخارج المسجد ويجب المنع منه، بل كل بيع فيه كذب وتلبيس وإخفاء عيب على المشتري فهو حرام. ا. هـ. وقوله كقيام السؤال إلخ مثله هؤلاء الهنود الذين يتخللون صفوف المصلين يوم الجمعة والخطيب على المنبر ويضعون أمام المستمعين أوراقًا مكتوبًا فيها آية أو حديث في الصدقة فهؤلاء يمنعون ويزجرون؛ لأنهم يشوشون بفعلهم هذا على الحضور وكأنهم ليسوا ممن يجب عليه الإنصات والاستماع والصلاة وكثيرًا ما اجتازوا أمام مصل واخترقوا حرمته ومثلهم من يدور لسقي الماء والاستجداء به فيمنعون؛ لأن هذا الوقت لا يجوز شغله بغير ما وضع له من الإنصات والتفكير والتخشع والتذكر.

الايطان في موضع من المسجد

18- الإيطان في موضع من المسجد: يهوى بعض ملازمي الجماعات مكانًا مخصوصًا أو ناحية من المسجد إما وراء الإمام أو جانب المنبر أو أمامة أو طرف حائطه اليمين أو الشمال أو الصفة المرتفعة في آخره بحيث لا يلذ له التعبد ولا الإقامة إلا بها وإذا أبصر من سبقه إليها فربما اضطره إلى أن يتنحى له عنها لأنها محتكرة أو يذهب عنها مغضبًا أو متحوقلًا أو مسترجعًا، وقد يفاجئ الماكث بها بأنها مقامه من كذا وكذا سنة وقد يستعين بأشكاله من جهلة المتنسكين على أن يقام منها إلى غير ذلك من ضروب الجهالات التي ابتليت بها أكثر المساجد ولا يخفى أن محبة مكان من المسجد على حده تنشأ من الجهل أو الرياء والسمعة وأن يقال إنه لا يصلي إلا في المكان الفلاني أو إنه من أهل الصف الأول مما يحبط العمل ملاحظته ومحبته نعوذ بالله. وهب أن هذا المتوطن لم يقصد ذلك فلا أقل أنه يفقد لذة العبادة بكثرة الألف والحرص على هذا المكان بحيث لا يدعوه إلى المسجد إلا موضعه، وقد ورد النهي

عن ذلك فيما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن نقرة الغراب وأن يوطن الرجل في المكان بالمسجد كما يوطن البعير1، قال المجد ابن الأثير في النهاية: معناه يألف مكانًا معلومًا من المسجد مخصوصًا به يصلي فيه كالبعير لا يأوي من عطن إلا إلى مبرك دمث قد أوطنه واتخذه مناخا يقال: أوطنت الأرض ووطنها واستوطنتها أي اتخذتها وطنًا ومحلًّا ومنه الحديث: "نهى عن إيطان المساجد" أي اتخاذها وطنًا. وفي شرح الإقناع يكره لغير الإمام مداومة موضع منه لا يصلي إلا فيه. وفي فتح القدير نقلًا عن النهاية للحلواني أنه يكره أن يتخذ في المسجد مكانًا معينًا يصلي فيه؛ لأن العبادة تصير له طبعًا فيه وتثقل في غيره والعبادات إذا صارت طبعًا فسبيلها الترك ولذا كره صوم الأبد. ا. هـ كلامه.

_ 1 حديث حسن، مخرج في "صحيح السنن" "808" وغيره.

واجبات نظار المساجد

19- واجبات نظار المساجد: يعلم كل أحد أنه ما من مكان موقوف مسجدًا أو غيره إلا وشرط له نظار يتولون أمر أوقافه وجباية ريعها، ويرى قارئ وقفيات المساجد والمدارس وغيرها ما يشرطه الواقف على من يتولى نظارة وقفه من الشروط وما يحذره به من الزيغ عن المشروط وما يخوفه به من حلول غضب الله عليه ووصول أليم العقاب إليه، ترى الواقف المسكين بما يشرطه ويحذر وينذر كأنه يتفرس ما سيئول إليه أمر وقفه من أكل ريعه وخراب جداره وسقفه فيقف وقفة المتأسف والجزع المتلهف. اقرأ ما قاله الوزير سنان باشا في وقفيته على جامعه الكبير بدمشق في شرط الناظر: أن يكون متوليًا عاقلًا أمينًا كاملًا ذا رأي رصين وفكر صائب رزين، معروفًا بالأمانة والديانة موصوفًا بالاستكانة، والصيانة يجد في تعمير الأوقاف وتحصيل الغلات ولا يفوت دقيقة في جهة من الجهات ثم قال في خاتمتها: ولا يحل لأحد ممن يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر من حاكم

أو قاض أو وارث غائب أو حاضر تغيير هذا الوقف بعدما تقرر من نسقه المسطور المقرر ومن تعرض لتحويله وتغييره وسعى في إبطاله بتزويره فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ومأواه جهنم فيسقى فيها من حميم وغسلين. وهكذا كل وقفية يصرح الواقف باللعن على من غير وبدل وأكل الريع واستأكل، أترى هل أفاد ما شرطه وما هدد به من عذاب الله ولعنته وما ذكر عن نصوص كتاب الله وموعظته؟ كلا فقد أكلت الأوقاف وتسلط عليها من لا يراقب الله ولا يخاف وتهدمت بالفعل أكثر المدارس وأضحى أكثر المساجد كالشبح الدارس. هذه مدارس "الصالحية" يندهش المار بها حينما يراها صارت بساتين وبيوتًا وما بقي منها فرسم شاخص وهذه ثلة من مساجد البلدة لا وقف عليها دار، ولا ناظر بها بار حقًّا إن هذا لمصاب وأي مصاب وإنه ممن يدعي الإيمان لعجب عجاب. أين تقوى الله أين الخوف من العرض أين الوجل من الفزع الأكبر أين الغيرة على الحقوق أين السعي وراء تنمية الموقوفات وإصلاح المرمات. وا أسفاه وإنا لله ما الحيلة لا يرد الفائت النحيب ولا يعيد الحياة حذق الطبيب بيد أن للأمل مجالًا في تراجع الأنفس عن غيها ونشر الواجبات بعد طيها. واجبات النظار في نظارتهم وآدابهم المطلوبة من قبلهم واجبات كثيرة وآداب غزيرة لأجلها كانت تخفق قلوب الأخيار عن أن يعد أحدهم في مصاف النظار أذكر لك نبذة منها وقس ما شابهها عليها: على ناظر المسجد أن يكون همه إصلاح المسجد وتعميره وتثمير أوقافه وتنميتها بما تصل إليه يد الإمكان وأن يكون غيورًا على انتهاك شيء من موقوفاته كما يغار التقي على انتهاك حدود الله وحرماته وأن يكون أمينًا على دخله فلا يخلطه بماله ولا يتساهل في بارة من ريعه. إذا دعت كثرة ريعه إلى جاب يجبي له المال فيختر أمينًا مستقيمًا مجدًا في السعي وليراقبه في عمله كيلا يقر على زلله وخلله، أو إلى كاتب فلينظر إلى كتب ماهر بالكتابة والحساب يكتب القليل والكثير ويحسب الدخل والخرج بغاية التدقيق.

وأن يتعاهد على المدى حال المسجد كيلا يقصر خادمه في كنسه وتنظيفه وحفظ فرشه وحصيره ولا يتهاون مؤذنه في أذانه ولا إمامه في إمامته ولا الشعال في تنويره. وأن يتفقد العقارات وما تحتاج إليه من المرمات. وأن يلاحظ أمر بيوت الطهارة وما يعروها من الخلل وما يتهدم من مجاريها وأن ينظر لأملاكه وما يتحصل منها ومن غلاته نظر العاقل الحكيم ويوازن ما بين قيمتها الآن وموردها من قبل فيرفع من رواتب القائمين بوظائف المسجد على نسبة ما رفع من قيم الأملاك والعقارات أو يتحقق أن الرواتب القديمة إنما كانت على حسب مظهر الزمان وحال أهله فكان يكفي ما رتب أولًا، وأن الحالة الحديثة تقتضي في الصرف أضعاف ما كان يكفي قبل، فيزيد الناظر في أجور قوام المسجد كما زيدت موارده ولا يكون هذا مخالفًا لشرط الواقف؛ لأن الراتب الشهري القديم إنما كان بالنسبة إلى أجور العقارات ومغلاتها السالفة فيحسب مقداره بالنسبة إلى مورده الأول ويقاس عليه حالته الآن ضرورة. وقد اهتمت بعض الحكومات الإسلامية1 في هذا الموضوع كما قرأته في بعض مجلاتها، ومما قرأته: أوقاف المسلمين تزداد ريعًا ونموًّا وغالب المساجد في خراب حسي ومعنوي ورأيت الخطيب والإمام اليوم كما كان منذ قرن أو قرون إذ كان مالك الألف يعد غنيًّا كبيرًا، والألف لا تشبع في سنتنا الحمار شعيرا. وأن مساعدة أهل العلم والدين على معايشهم من أفضل المبرات التي تنشأ لها الأوقاف الخيرية لهذا كان من الموضوع المهتم به -يعني في تلك الحكومة- أن يجعل للإمام والخطيب راتب يتراوح بين خمسمائة قرش وثمانمائة قرش وللمؤذن والخادم راتب يرتقي إلى ثلاثمائة قرش وذلك بعد انتقائهم بحسب الشروط التي تؤهلهم للقيام بعملهم على أكمل وجه بهذا الفكر المهتم به تصرف

_ 1 يشير إلى مصر في زمانه.

أموال الأوقاف المكنوزة في أفضل مصارفها بهذا تقام صلاة الجماعة على وجهها. بهذا تكون الخطابة مؤدية للحكمة التي شرعت لأجلها. بهذا تكون بيوت الله نظيفة طاهرة كما يليق بها. بهذا ينمو علم الدين بما وجد لأهله من المعاش الطبيعي الذي يليق بكرامتهم بعد أن اقفلت في وجوه المنقطعين له أبواب الرزق واحتقرهم الناس ولو بغير حق. ا. هـ. وليقس على ما ذكرناه ناظر وقف المدارس والتكايا وما شرط عليه من ترتيب الطعام وإيتاء الأجور على التمام والتورع عن القليل مما يشتبه عليه فضلًا عن الكثير ومن تدعيم البناء وتحديده إذا اقتضى الحال مثل ما كان وأحسن منه إذا كان الأول لم يبن على القواعد الصحيحة المرعية. والجامع لكل ذلك تقوى الله ومراقبته وتحقق أن المؤمنين إخوة وأنه لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وأن السعادة الحقيقية هي السعادة الأخروية ونيل رضوان الله تعالى وأن الدنيا دار ابتلاء للتسابق في إحسان العمل، وأن من خالف وصايا الله وأكل أموال الناس ظلمًا فلا يكون عاقبته إلا النار وغضب الجبار وينحط إلى دركات الفجار فالسعيد من وفر حظه من أخراه والشقي من باع عقباه بدنياه. بقي هنا كلمة أقولها للنظار المقصرين عن القيام بواجباتهم في رعاية بعض المساجد والمدارس: لو تبصرتم فيما يأتيه بقية الطوائف في تشييد معابدهم وتحسينها والقيام على رعايتها وتوفير دخلها وتثمير وارداتها كما يراه القارئ في التقويم السنوي الذي يطبع وينشر في مجلاتها لعلمتم أنكم الأحق بهذا ولا أزيدكم تصريحًا وفي هذا القدر كفاية.

الاجتماع في المسجد للدعاء برفع الوباء

20- الاجتماع في المسجد للدعاء برفع الوباء: قال العلامة عصام الدين أحمد الحنفي الشهير بطا شكبري زاده في رسالته "الشفاء لا دواء الوباء" تحت عنوان "المطلب السادس في الدعاء برفع الطاعون من البلاد" ما مثاله: قال الشيخ السيوطي1: وقع السؤال عن ذلك وعن الاجتماع له. والجواب أن ذلك بدعة لا أصل له وبيانه من وجوه "أحدهما" أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء برفعه بل ثبت أنه دعا به وطلبه لأمته2 كما تقدم "الثاني" أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دعا به أيضًا أخرج عبد الرزاق في المصنف قال: أخبرنا معمر عن3 قتادة أن أبا بكر كان إذا بعث جيوشًا إلى الشام قال: اللهم أرزقهم الشهادة طعنًا وطاعونًا "الثالث" أنه وقع في زمن إمام الهدى عمر بن الخطاب والصحابة يومئذ متوافرون وأكابرهم موجودون فلم ينقل عن أحد منهم أنه فعل شيئًا من ذلك ولا أمر به كما ورد أنهم دعوا برفع القحط "الرابع" أن القرن الأول وقع فيه الطاعون مرات متعددة وفيه من الصحابة والتابعين ما لا يحصى وهم خيار الأمة فلم يفعل أحد منهم ذلك ولا أمر به. وكذا في القرن الثاني وفيه خيار التابعين وأتباعهم وكذا في القرن الثالث والرابع، وإنما حدث الدعاء برفعه في الزمن الأخير وذلك في سنة تسع وأربعين وسبعمائة كما نقله ابن حجر ونقل عن الرافعي والنووي أن القنوت يشرع في سائر الصلوات ولنازلة كالوباء، إلا أن السيوطي خص هذا الحكم بالوباء دون الطاعون ولذلك نهى عن الفرار من الطاعون دون الوباء وسائر الحميات مما يتوقى منها كسائر أسباب الهلاك بالإجماع قال بعض الحنابلة: لا يقنت للطاعون لأنه لم يثبت القنوت

_ 1 يعني في رسالته "ما رواه الواعون في أخبار الطاعون" "4108: 2"، اختصرها من كتاب الحافظ ابن حجر "بذل الماعون في فوائد الطاعون"، ومن كل منهما نسخة مخطوطة في ظاهرية دمشق. "ناصر الدين" 2 يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل فناء أمتي قتلا في سبيلك بالطعن والطاعون" وهو حديث صحيح مخرج في "الإرواء" رقم "1636" 3 الأصل "بن". والإسناد منقطع. "ناصر الدين".

من السلف في طاعون عمواس وغيره، وقال التيمي في تأليف له في الطاعون يكره الدعاء برفعه؛ لأن معاذًا امتنع من ذلك واعتل بكونه شهادة ورحمة ودعوة نبينا صلى الله عليه وسلم به لأمته، ومال ابن حجر إلى مشروعية الدعاء فرادى ومنع الاجتماع له كما في الاستقاء، وقال: هو بدعة حدثت سنة تسع وأربعين وسبعمائة ولم يفد ذلك شيئًا، بل ازداد الأمر شدة قال: ولو كان مشروعًا لم يخف على السلف ولا على فقهاء الأمصار وأتباعهم في الأعصار الماضية فلم يبلغنا في ذلك خبر ولا أثر عن المحدثين ولا فرع مسطور عن أحد من الفقهاء.

الباب السادس: في المشروع في المساجد الثلاثة المشرفة والمبتدع

الباب السادس: في المشروع في المساجد الثلاثة المشرفة والمبتدع الفصل الأول: في بيت المقدس ... الباب السادس: في المشروع في المساجد الثلاثة المشرفة والمبتدع وفيه فصول الفصل الأول: في بيت المقدس قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى في فتواه في زيارة بيت المقدس: اتفق العلماء على استحباب السفر إلى بيت المقدس للعبادة المشروعة فيه كالصلاة والدعاء والذكر وقراءة القرآن والاعتكاف. ثم قال: العبادات المشروعة في المسجد الأقصى هي من جنس العبادات المشروعة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من سائر المساجد إلا المسجد الحرام فإنه يشرع فيه زيادة على سائر المساجد الطواف بالكعبة واستلام الركنين اليمانيين وتقبيل الحجر الأسود، وأما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى وسائر المساجد فليس فيها ما يطاف فيه ولا فيها ما يتمسح به ولا ما يقبل فلا يجوز لأحد أن يطوف بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم ولا بغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين ولا بصخرة بيت المقدس ولا بغيرها، بل ليس في الأرض مكان يطاف به كما يطاف بالكعبة، ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع فهو شر ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر من مكة إلى المدينة صلى بالمسلمين ثمانية عشر

شهرًا إلى بيت المقدس فكانت قبلة المسلمين هذه المدة ثم إن الله حول القبلة إلى الكعبة وأنزل الله في ذلك القرآن كما ذكر في سورة البقرة وصلى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى الكعبة وصارت هي القبلة، وهي قبلة إبراهيم وغيره من الأنبياء فمن اتخذ الصخرة اليوم قبلة يصلي إليها فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل مع أنها كانت قبلة لكن نسخ ذلك، فكيف بمن يتخذها مكانًا يطاف به كما يطاف بالكعبة والطواف بغير الكعبة لم يشرعه الله وكذلك من قصد أن يسوق إليها غنمًا أو بقرا ليذبحها هناك ويعتقد أن الأضحية فيها أفضل أو أن يحلق فيها شعره في العيد أو أن يسافر إليها ليعرف بها عشية عرفة فهذه الأمور من البدع والضلالات. من فعل شيئًا منها معتقدًا أنه قربة إلى الله فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كما لو صلى إلى الصخرة معتقدًا أن استقبالها في الصلاة كاستقبال الكعبة ولهذا بنى عمر بن الخطاب مصلى المسلمين في مقدم المسجد الأقصى فإن المسجد الأقصى اسم لجميع المسجد الذي بناه سليمان عليه السلام، وقد صار بعض الناس يسمي الأقصى المصلى الذي بناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مقدمه والصلاة في هذه المصلى الذي بناه عمر للمسلمين أفضل من الصلاة في سائر المسجد، فإن عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس وكان على الصخرة زبالة عظيمة؛ لأن النصارى كانوا يقصدون إهانتها مقابلة لليهود الذين يصلون إليها فأمر عمر رضي الله عنه بإزالة النجاسة عنها وقال لكعب الأحبار: أين ترى أن نبني مصلى المسلمين؟ فقال: خلف الصخرة فقال: يابن اليهودية خالطتك يهودية على أبنيه أمامها فإن لنا صدور المساجد ولهذا كان أئمة الأمة إذا دخلوا المسجد قصدوا الصلاة في المصلى الذي بناه عمر، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى في محراب داود. وأما الصخرة فلم يصل عندها عمر رضي الله عنه ولا الصحابة ولا كان على عهد الخلفاء الراشدين عليها قبة بل كانت مكشوفة في خلافة عمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد ومروان ولكن لما تولى ابنه عبد الملك الشام وقع بينه وبين ابن الزبير الفتنة وكان الناس يحجون فيجتمعون بابن الزبير فأراد عبد الملك أن يصرف الناس عن ابن الزبير فبنى

القبة على الصخرة وكساها في الشتاء والصيف ليرغب الناس في زيارة بيت المقدس ويشتغلوا بذلك عن اجتماعهم بابن الزبير؛ وأما أهل العلم من الصحابة والتابعين فلم يكونوا يعظمون الصخرة1 فإنها قبلة منسوخة كما أن يوم السبت كان عيدًا في شريعة موسى عليه السلام ثم نسخ في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بيوم الجمعة فليس للمسلمين أن يخصوا يوم السبت ويوم الأحد بعبادة كما تفعل اليهود والنصارى، وكذلك الصخرة إنما يعظمها اليهود وبعض النصارى، وأما ما يذكره بعض الجهال فيها من أن هناك أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأثر عمامته وغير ذلك فكله كذب وكذلك المكان الذي يذكر أنه من مهد عيسى عليه السلام كذب. وإنما كان موضع معمودية النصارى وكذا من زعم أن هناك الصراط والميزان أو أن السور الذي يضرب به بين الجنة والنار هو ذلك الحائط المبني شرقي المسجد. وكذلك تعظيم السلسلة أو موضعها ليس مشروعًا وليس في بيت المقدس مكان يقصد للعبادة سوى المسجد الأقصى، لكن إذا زار قبور الموتى وسلم عليهم وترحم عليهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه فحسن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمؤمنات وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم2. ثم قال: وأما زيارة بيت المقدس

_ 1 قلت: وهذا على خلاف ما عليه الناس اليوم من تعظيمها وقصد الصلاة عندها، والله تعالى أعلم بما صرف من الأموال في تجديدها وترمميها بعد ضرب اليهود لها بالقنابل، وهي اليوم تحت أيديهم، بظلم المسلمين لأنفسهم، ومخالفتهم لشريعة نبيهم أمراء ومأمورين حكامًا ومحكومين، ألهمهم الله العودة إلى العمل بدينهم ليتمكنوا من طرد العدو من بلادهم والله المستعان. "ناصر الدين" 2 في هذا الدعاء أحاديث كثيرة، متقاربة الألفاظ، خرجت طائفة منها في "أحكام الجنائز وبدعها" "ص189-191" وليس في شيء منها لفظة "والمؤمنات" وإنما في بعضها "والمؤمنين"، وليس فيها أيضًا "اللهم لا تحرمنا ... " وإنما ورد هذا في الدعاء للميت في صلاة الجنائز، دون قوله: "واغفر لنا ولهم" انظر ص124 من المصدر المذكور. "ناصر الدين"

فمشروعة في جميع الأوقات، ولكن لا ينبغي أن يؤتى، في الأوقات التي يقصدها الضلال وينبغي أن لا يتشبه بهم ولا يكثر سوادهم وقال أيضًا: النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج صلى في بيت المقدس ركعتين كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح ولم يصل في غيره. وأما ما يرويه بعض الناس من حديث المعراج: أنه صلى في المدينة، وصلى عند قبر موسى، وصلى عند قبر الخليل فكل هذه الأحاديث مكذوبة موضوعة. هذا ملخص فتواه ولها تتمة ومقدمة بديعة فلتنظر.

الفصل الثاني: في مسجد الخليل

الفصل الثاني: في مسجد الخليل قال تقي الدين رحمه الله في أواخر كتابه تفسير سورة الإخلاص ما مثاله ولما كان اتخاذ القبور مساجد وبناء المسجد عليها محرمًا لم يكن شيء من ذلك على عهد الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولم يكن يعرف قط مسجد على قبر. وكان الخليل عليه السلام في المغارة التي دفن فيها وهي مسدودة لا أحد يدخل إليها ولا تشد الصحابة الرحال لا إليه ولا إلى غيره من المقابر؛ لأن في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا" 1 فكان يأتي من يأتي منهم إلى المسجد الأقصى يصلون فيه ثم يرجعون لا يأتون مغارة الخليل ولا غيرها، وكانت مغارة الخليل مسدودة حتى استولى النصارى على الشام في أواخر المائة الرابعة ففتحوا الباب وجعلوا ذلك المكان كنيسة، ثم لما فتح المسلمون البلاد اتخذه بعض الناس مسجدًا وأهل العلم ينكرون ذلك والذي يرويه بعضهم في حديث الإسراء أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: "هذه طيبة انزل فصل -فنزل فصلى- هذا مكان أبيك انزل فصل" كذب موضوع لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة إلا في المسجد الأقصى خاصة كما ثبت في ذلك الصحيح

_ 1 صح عن جمع من الصحابة، وقد خرجتهم في "الإرواء" "765، 952" و"أحكام الجنائز" "ص224-226".

ولا نزل إلا فيه ولهذا لما قدم الشامة من الصحابة من لا يحصي عددهم إلا الله وقدمها عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس وبعد فتح الشام لما صالح النصارى على الجزية وشرط عليهم الشروط المعروفة، وقدمها مرة ثالثة حتى وصل إلى سرغ ومعه أكابر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فلم يذهب أحد منهم إلى مغارة الخليل ولا غيرها من آثار الأنبياء التي بالشام لا ببيت المقدس ولا بدمشق ولا غير ذلك مثل الآثار الثلاثة التي بجبل قاسيون، في غربيه الربوة المضافة إلى عيسى عليه السلام وفي شرقيه المقام المضاف إلى الخليل عليه السلام، وفي وسطه وأعلاه مغارة الدم المضافة إلى هابيل لما قتله قابيل فهذه البقاع وأمثالها لم يكن السابقون الأولون يقصدونها ولا يزورونها ولا يرجون منها بركة.

الفصل الثالث: في مزارات ما حول المدينة المنورة

الفصل الثالث: في مزارات ما حول المدينة المنورة قال شيخ الإسلام أيضًا عليه الرحمة في التفسير المنوه به بعد ما تقدم: ولهذا لم يستحب علماء السلف من أهل المدينة وغيرها قصد شيء من المساجد والمزارات التي بالمدينة وما حولها بعد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا مسجد قباء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد مسجدًا بعينه يذهب إليه هو. وقد كان بالمدينة مساجد كثيرة لكل قبيلة من الأنصار مسجد لكن ليس في قصده دون أمثاله فضيلة بخلاف مسجد قباء فإنه أول مسجد بني في المدينة على الإطلاق وقد قصده الرسول بالذهاب إليه وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من توضأ في بيته ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة" 1 ومع هذا فلا يسافر إليه لكن إذا كان الإنسان بالمدينة أتاه ولا يقصد إنشاء السفر إليه بل يقصد إنشاء السفر إلى المساجد الثلاثة لحديث: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ... " إلخ2 ويستحب زيارة قبور البقيع وشهداء أحد للدعاء لهم والاستغفار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصد ذلك مع أن هذا مشروع لجميع موتى المسلمين كما يستحب السلام عليهم والدعاء لهم والاستغفار. وزيارة القبور بهذا القصد مستحبة وسواء في ذلك قبور الأنبياء والصالحين وغيرهم. وكان عبد الله بن عمر إذا دخل المسجد يقول: السلام عليك يا

_ 1 قلت: وصححه الحاكم والذهبي وهو كما قالا كما في "تخريج الترغيب" "2: 139". 2 تقدم قبل حديث.

رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف. وأما زيارة قبور الأنبياء والصالحين لأجل طلب الحاجات منهم أو دعائهم والإقسام بهم على الله أو ظن أن الدعاء والصلاة عند قبورهم أفضل منه في المساجد والبيوت فهذا ضلال وشرك وبدعة باتفاق أئمة المسلمين، ولم يكن أحد من الصحابة يفعل ذلك. كانوا إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم يقفون يدعون لأنفسهم ولهذا كره ذلك مالك وغيره من العلماء؛ لأنها من البدع التي لم يفعلها السلف واتفق العلماء الأربعة وغيرهم من السلف على أنه إذا أراد أن يدعو يستقبل القبلة ولا يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا سلم عليه فأكثرهم قالوا: يستقبل القبر، قاله مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: بل يستقبل القبلة أيضًا ويكون القبر عن يساره، وقيل: بل يستدبر القبلة. ا. هـ بحروفه

الفصل الرابع: في مزارات مكة المشرفة

الفصل الرابع: في مزارات مكة المشرفة ثم قال رحمه الله بعد ما تقدم: ومما يبين هذا الأصل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر هو وأبو بكر ذهبا إلى الغار الذي بجبل ثور، ولم يكن على طريقهما بالمدينة فإنه من ناحية اليمن، والمدينة من ناحية الشام، ولكن اختبأا فيه ثلاثة لينقطع خبرهما عن المشركين فلا يعرفون أين ذهبا فإن المشركين كانوا طالبين لهما وقد بذلوا في كل واحد منهما ديته لمن يأتي به وكانوا يقصدون منع النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل إلى أصحابه بالمدينة وأن لا يخرج من مكة، بل لما عجزوا عن قتله أرادوا حبسه بمكة فلو سلك الطريق ابتداء لأدركوه فأقام بالغار ثلاثًا لأجل ذلك فلو أراد المسافر من مكة إلى المدينة أن يذهب إلى الغار ثم يرجع لم يكن ذلك مستحبًّا بل مكروهًا والنبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة سلك طريق الساحل لأنها كانت أبعد من قصد المشركين. ثم قال: ولم يكن أحد من الصحابة يذهب إلى الغار للزيارة والصلاة فيه، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أقاما به ثلاثا يصلون فيه الصلوات الخمس ولا كانوا أيضًا يذهبون إلى حراء وهو المكان الذي كان يتعبد فيه قبل النبوة وفيه نزل عليه الوحي أولا، وكان هذا مكانًا يتعبدون فيه قبل الإسلام فإن حراء أعلى جبل كان هناك فلما جاء الإسلام ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة مرات بعد أن أقام بها قبل الهجرة بضع عشرة سنة، ومع هذا فلم يكن هو ولا أصحابه يذهبون إلى حراء. ولما حج النبي صلى الله عليه وسلم أستلم الركنين اليمانيين

ولم يستلم الشاميين لأنهما لم يبنيا على قواعد إبراهيم فإن أكثر الحجر من البيت والحجر الأسود استلمه وقبله واليماني استلمه ولم يقبله وصلى بمقام إبراهيم ولم يستلمه ولم يقبله. فدل ذلك على أن التمسح بحيطان الكعبة غير الركنين اليمانيين وتقبيل شيء منها غير الحجر الأسود ليس بسنة ودل على أن استلام مقام إبراهيم وتقبيله ليس بسنة، وإذا كان هذا نفس الكعبة ونفس مقام إبراهيم فمعلوم أن جميع المساجد حرمتها دون الكعبة وأن مقام إبراهيم بالشام وغيرها وسائر مقامات الأنبياء دون المقام الذي قال الله فيه {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى} فعلم أن سائر المقامات لا تقصد للصلاة فيها كما لا يحج إلى سائر المشاهد ولا يتمسح بها ولا يقبل شيء من مقامات الأنبياء ولا المساجد ولا الصخرة ولا غيرها ولا يقبل وجه الأرض إلا الحجر الأسود وأيضًا فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل بمسجد مكة إلا المسجد الحرام ولم يأت للعبادات إلا إلى المشاعر منى ومزدلفة وعرفة. فلهذا كان ائمة العلماء على أنه لا يستحب أن يقصد مسجد بمكة للصلاة غير المسجد الحرام، ولا تقصد بقعة للزيارة غير المشاعر التي قصدها الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا كان هذا في آثارهم فكيف بالمقابر التي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذها مساجد وأخبر أنهم شرار الخلق يوم القيامة. ودين الإسلام أنه لا تقصد بقعة للصلاة إلا أن تكون مسجدًا فقط ولهذا مشاعر الحج غير المسجد الحرام تقصد للنسك لا للصلاة فلا صلاة بعرفة، وإنما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر يوم عرفة بعرفة خطب بها ثم صلى ثم بعد الصلاة ذهب عرفات فوقف بها وكذلك يذكر الله ويدعى بعرفات وبمزدلفة على قزح وبالصفا والمروة وبين الجمرات وعند الرمي ولا تقصد هذه البقاع للصلاة. وأما غير المساجد ومشاعر الحج فلا تقصد بقعة لا للصلاة ولا للذكر ولا للدعاء بل يصلي المسلم حيث أدركته الصلاة إلا حيث نهي ويذكر الله ويدعوه حيث تيسر من غير تخصيص بقعة بذلك وإذا اتخذ بقعة لذلك كالمشاهد نهي عن ذلك كما نهي عن الصلاة في المقبرة إلا ما يفعله الرجل عند السلام على الميت من الدعاء له وللمسلمين كما يفعل مثل ذلك في الصلاة على الجنازة فإن زيارة قبر المؤمن من

جنس الصلاة على جنازته يفعل في هذا من جنس ما يفعل في هذا ويقصد بالدعاء هنا ما يقصد بالدعاء هنا. ومما يشبه لهذا أن الأنصار بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بالوادي الذي وراء جمرة العقبة؛ لأنه مكان منخفض قريب من منى يستر منى فيه فإن السبعين الأنصار كانوا قد حجوا مع قومهم المشركين، وما زال الناس يحجون إلى مكة قبل الإسلام وبعده فجاءوا مع قومهم إلى منى لأجل الحج ثم ذهبوا بالليل إلى ذلك المكان لقربه وستره لا لفضيلة فيه ولم يقصدوه لفضيلة تخصه بعينه، ولهذا لما حج النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه لم يذهبوا إليه ولا زاروه، وقد بني هناك مسجد وهو محدث وكل مسجد بمكة وما حولها غير المسجد الحرام فهو محدث ومنى نفسها لم يكن بها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مسجد مبني، ولكن قال: "منى مناخ لمن سبق" 1 فتزل بها المسلمون. وكان يصلي بالمسلمين بمنى وغير منى وكذلك خلفاؤه من بعده واجتماع الحجاج بمنى أكثر من اجتماعهم بغيرها فإنهم يقيمون بها أربعًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون بالناس بمنى وغير منى وكانوا يقصرون الصلاة بمنى وعرفة ومزدلفة ويجمعون بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بمزدلفة ويصلي بصلاتهم جميع الحجاج من أهل مكة وغير أهل مكة كلهم يقصرون الصلاة بالمشاعر وكلهم يجمعون بعرفة ومزدلفة. ثم قال: ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه بمكة صلاة عيد ولا صلى في أسفاره قط صلاة العيد، ولا كان أحد منهم يصلي بمكة يوم النحر صلاة عيد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه بل عيدهم بمنى بعد إفاضتهم من المشعر الحرام ورمي جمرة العقبة لهم كصلاة العيد لسائر أهل الأمصار: ثم قال: وليس لأحد أن يشرع ما لم يشرعه الله كما لو قال قائل: أنا أستحب

_ 1 قلت: حديث حسن، وقد صححه الترمذي والحاكم والذهبي، والصواب ما ذكرته، كما بينته في تخريج المشكاة رقم "2625" التخريج الثاني الطبعة الثانية إن شاء الله. وقد استوعبت في هذه المرة تخريج الأحاديث كلها وتحقيق الكلام عليها تصحيحًا وتضعيفًا يسر الله تعالى للمكتب الإسلامي طبعه للمرة الثانية بمنه وكرمه.

الطواف بالصخرة سبعًا كما يطاف بالكعبة أو أستحب أن اتخذ من مقام موسى وعيسى مصلى كما أمر الله أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، ونحو ذلك لم يكن له ذلك؛ لأن الله تعالى يختص ما يختصه من الأعيان والأفعال بأحكام تخصه يمتنع معها قياس غيره عليه؛ إما لمعنى يختص به لا يوجد بغيره على قول أكثر أهل العلم، وإما لمحض تخصيص المشيئة على قول بعضهم كما خص الكعبة بأن يحج إليها ويطاف بها، وكما خص عرفات بالوقوف بها، وكما خص منى برمي الجمار بها، وكما خص الأشهر الحرم بتحريمها، وكما خص شهر رمضان بصيامه وقيامه إلى أمثال ذلك.

الفصل الخامس: في الموازنة بين مذهب عمر وبقية الخلفاء والصحابة رضي الله عنهم

الفصل الخامس: في الموازنة بين مذهب عمر وبقية الخلفاء والصحابة رضي الله عنهم "وبين رأي عبد الله رضي الله عنه" "في الأمكنة التي نزلها النبي صلوات الله عليه في سفره" "وبيان حقيقة المتابعة" قال تقي الدين ابن تيمية عليه الرحمة في الكتاب المنوه به قبل1 وقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان في سفر فرأى قومًا ينتابون مكانًا للصلاة فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا أنهم اتخذوا آثار أنبيائهم مساجد من أدركته الصلة فليصل وإلا فليمض" 2. وبلغه أن قومًا يذهبون إلى الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحتها فأمر بقطعها. وأرسل إليه أبو موسى يذكر له أنه ظهر بتستر قبر دانيال وعنده مصحف فيه أخبار ما سيكون وأنهم إذا جدبوا كشفوا عن القبر فمطروا، فأرسل إليه عمر يأمره أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرًا ويدفنه بالليل في واحد منها لئلا يعرفه الناس لئلا يفتنوا به، وفي الصحيحين عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا، فاتخاذ القبور مساجد مما حرمه الله ورسوله وإن

_ 1 ص120 الطبعة الأولى. 2 إسناده صحيح كما في "تحذير المساجد" "ص97".

لم يبن عليها مسجد كان بناء المساجد عليها أعظم وكذلك قال العلماء: يحرم بناء المساجد على القبور ويجب هدم كل مسجد بني على قبر، وإن كان الميت قد قبر في مسجد وقد طال مكثه سوِّي القبر حتى لا تظهر صورته فإن الشرك إنما يحصل إذا ظهرت صورته، ولهذا كان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أولًا مقبرة للمشركين وفيها نخل وخرب فأمر بالقبور فنبشت وبالنخل فقطع وبالخرب فسويت فخرج عن أن يكون مقبرة فصار مسجدًا. ولما كان اتخاذ القبور مساجد وبناء المساجد عليها محرمًا لم يكن شيء من ذلك على عهد الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يكن يعرف قط مسجد على قبر. ثم قال عليه الرحمة: والمقصود ههنا أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يبنوا قط على قبر نبي ولا رجل صالح مسجدًا ولا جعلوه مشهدًا ومزارًا ولا على شيء من آثار الأنبياء مثل مكان نزل فيه أو صلى فيه اتفاقًا بل كان أئمتهم كعمر بن الخطاب وغيره ينهى عن قصد الصلاة في مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفاقًا لا قصدًا، وإنما نقل عن ابن عمر خاصة أنه كان يتحرى أن يسير حيث سار رسول الله صلى الله عليه وسلم وينزل حيث نزل ويصلي حيث صلى وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بتلك البقعة لذلك الفعل بل حصل اتفاقًا. وكان ابن عمر رضي الله عنهما رجلًا صالحًا شديد الاتباع فرأى هذا من الاتباع. وأما أبوه وسائر الصحابة من الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان وعلي وسائر العشرة وغيرهم مثل ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب فلم يكونوا يفعلون ما فعل ابن عمر. وقول الجمهور أصح وذلك أن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل لأجل أنه فعل، فإذا قصد الصلاة والعبادة في مكان معين كان قصد الصلاة والعبادة هو في مكان متابعة له، وأما إذا لم يقصد تلك البقعة فإن قصدها يكون مخالفة لا متابعة له. مثال الأول لما قصد الوقوف والذكر والدعاء بعرفة ومزدلفة وبين الجمرتين كان قصد تلك البقاع متابعة له، وكذلك لما طاف وصلى خلف المقام ركعتين كان فعل ذلك متابعة له، وكذلك لما صعد على الصفا والمروة للذكر والدعاء كان قصد ذلك متابعة له.

وقد كان سلمة بن الأكوع يتحرى الصلاة عند الأسطوانة قال: لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها1 فلما رآه يقصد تلك البقعة لأجل الصلاة كان ذلك القصد للصلاة متابعة. وكذلك لما أراد عتبان بن مالك أن يبني مسجدًا لما عمي رسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: إني أحب أن تأتيني تصلي في منزلي فاتخذه مصلى فجاءه صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين في ناحية من البيت2 فهذا المكان مكان قصد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة فيه ليكون مسجدًا. فصار قصد الصلاة فيه متابعة له بخلاف ما اتفق أنه صلى فيه بغير قصد، وكذلك قصد يوم الاثنين والخميس بالصوم متابعة لأنه قصد صوم هذين اليومين، وكذلك قصد إتيان مسجد قباء متابعة له فقد ثبت عنه في الصحيحين أنه كان يأتي قباء كل سبت راكبًا وماشيًا وذلك لأن الله أنزل فيه: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} مع تناوله كل مسجد أسس على التقوى بخلاف مساجد الضرار ولهذا كان السلف يكرهون الصلاة فيما يشبه ذلك ويرون العتيق أفضل من الجديد؛ لأن العتيق أبعد أن يكون بني ضرارًا من الجديد الذي يخاف ذلك فيه. وعتق المسجد مما يحمد به ولهذا قال: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيق} وقال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} فإن قدمه يقتضي كثرة العبادة فيه أيضًا وذلك يقتضي زيادة فضله. ثم قال عليه الرحمة: والمقصود هنا ذكر متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه يعتبر فيه متابعته في قصده فإذا قصد مكانًا للعبادة فيه كان قصده لتلك العبادة سنة، ولهذا لم يكن جمهور الصحابة يقصدون مشابهته في ذلك وابن عمر رضي الله عنهما مع أنه كان يحب مشابهته في ظاهر الفعل لم يكن يقصد الصلاة إلا في الموضع الذي صلى فيه لا في كل موضع نزل به. ولهذا رخص أحمد بن حنبل في ذلك إذا كان شيئًا يسيرًا كما فعله ابن عمر ونهى عنه رضي الله عنه إذا كثر؛ لأنه يفضي إلى المفسدة وهي اتخاذ آثار الأنبياء مساجد وهي التي تسمى مشاهد، وما أحدث في الإسلام من المساجد والمشاهد على

_ 1 صحيح، أخرجه الشيخان وأحمد "4: 48" عن سلمة بن الأكوع، وإسناد أحمد ثلاثي. 2 أخرجه الشيخان.

القبور والآثار فهي من البدع المحدثة في الإسلام من فعل من لم يعرف شريعة الإسلام وما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم من كمال التوحيد وإخلاص الدين لله وسد أبواب الشرك التي يفتحها الشيطان لبني آدم ولهذا يوجد من كان أبعد عن التوحيد وإخلاص الدين لله ومعرفة دين الإسلام هم أكثر تعظيمًا لمواضع الشرك، فالعارفون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أولى بالتوحيد وإخلاص الدين لله وأهل الجهل بذلك أقرب إلى الشرك والبدع، ولهذا يوجد ذلك في الرافضة أكثر مما يوجد في غيرهم؛ لأنهم أجهل من غيرهم وأكثر شركًا وبدعًا ولهذا يعظمون المشاهد أعظم من غيرهم حتى قد يرون أن زيارتها أولى من حج بيت الله الحرام ويسمونها الحج الأكبر وصنف ابن المفيد منهم كتابًا سماه مناسك حج المشاهد وذكر فيه من الأكاذيب ما لا يوجد في سائر الطوائف وإن كان في غيرهم أيضًا نوع من الشرك والكذب والبدع لكن هو فيهم أكثر، وكلما كان الرجل أتبع لمحمد صلى الله عليه وسلم كان أعظم توحيدًا لله وإخلاصًا له في الدين وإذا بعد عن متابعته نقص من دينه بحسب ذلك. ثم أهل المشاهد كثير من مشاهدهم وأكثرها كذب فإن الشرك مقرون بالكذب في كتاب الله كثيرًا قال تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عدلت شهادة الزور الإشراك بالله"1 قالها ثلاثًا وذلك كالمشهد الذي بني بالقاهرة على رأس الحسين هو كذب باتفاق أهل العلم ورأس الحسين لم يحمل إلى هناك أصلًا وأصله في عسقلان، وقد قيل إنه رأس راهب ورأس الحسين لم يكن بعسقلان، وإنما أحدث هذا في أواخر دولة الملاحدة بني عبيد وكذلك مشهد علي رضي الله عنه، إنما حدث في دولة بني بويه. وقال محمد بن عبد الله وغيره: إنما هو قبر المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وعلي رضي الله عنه إنما دفن في قصر الإمارة بالكوفة ودفن معاوية بقصر الإمارة بدمشق ودفن عمرو بن العاص بقصر الإمارة بمصر خوفًا عليهم إذا دفنوا في المقابر البارزة أن ينبشهم الخوارج المارقون. انتهى كلام تقي الدين بحروفه.

_ 1 حديث ضعيف أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي وضعفه الترمذي، وبينت علته في "تخريج الترغيب" "3: 166".

الباب السابع: في بدع شتى

الباب السابع: في بدع شتى 1- ما رتبه النساء من زيارة المقامات في المساجد: للنساء عوائد استحكم جريهن عليها وصار عملهن بها عقيدة لا تتبدل وقد سرت منهن لبعض الرجال أو من هؤلاء لهن، وقد عد الإمام ابن الحاج في المدخل جملة من عوائدهن الرديئة فلينظر في الجزء الأول. ونحن نذكر ما رأيناه منهن في دمشق في بعض المساجد؛ لأن موضوع كتابنا في منكراتها. فمن ذلك قصدهن "الجامع الأموي" غلس السبت إلى الضحى لزيارة المقام اليحيوي فترى ثمة من ازدحامهن وتطوفهن وتناجيهن ما لا يوصف ومن خرافاتهن أن الدأب على هذا العمل أربعين سبتا لما نوي له. ومن ذلك صرفهن يوم الجمعة لمزارات في الصالحية ويشاركهن في ذلك الرجال على طبقاتهم والجامع السليمي في الصالحية يغدو يوم الجمعة لذلك. موسمًا وعيدًا، ولا تفتر حركة الزيارة عنه من صبح ذلك اليوم إلى الليل وربما قضاها يوم السبت من فاتته قبل خوفا من أن يرمى بالتقصير في رواتبه، ويجتمع للزيارة ثمة الرجال والنساء، ولما عظم الخطب باختلاطهن على صغر المزار ولم يكن لأولئك الرجال بد من ولوجه المرتب اضطر أخيرًا إلى وضع ترابزين يحول بين الفريقين إلا أنه تبصر النساء وحركاتهن ووسوسة أسورتهن وكثير منهن يحسرن عن وجوههن أو بعضها، دع عنك عنك روائح طيبهن، وظهور

أطراف سواعدهن وفي مقابلتهن من الرجال عدد غير قليل ما بين تال وذاكر وداع ومبتهل ومن في قلبه مرض هذا فضلًا عن التمسح بالمزار وتقبيل عتبته وستائره. وقد ذكر صاحب المدخل في الجزء الأول أن نحو ما ذكرنا كان السبب في عبادة الأصنام فوا أسفاه على السكوت على هذه المنكرات المجمع عليها التي أنست القلوب بها حتى جر الأمر إلى اعتيادها ونسبة أكثر العوام إياها إلى المشروع بسبب حضور من يقتدى بهم. ولا يخفى أن تكثير سواد أهل البدع منهي عنه وترك المنهي عنه واجب وفعل الواجب متعين. وقال أيضًا: قد علم من أحوال النسوة في هذا الوقت أن المرأة لا تخرج من بيتها في الغالب حتى تلبس أحسن ثيابها وتتطيب وتتزين ثم تفرغ عليها من الحلي ما تجد السبيل إليه ولا يخلو أمرهن في الغالب من أن يكون بعض الرجال يستمعون وبعضهم ينظرون فتكثر الفتن وتفسد القلوب وتشوش، فمن كان من أهل الدين وطرأ عليه سماع شيء مما ذكر أو رؤيته التشويش من ذلك إذ إنه لو سلم باطنه من الفتنة المعهودة لوقع له من جهة ما يرى أو يسمع من مخالفة السنة، فإن كان التشويش الواقع في باطنه من جهة ما يجده البشر غالبًا فقد يؤول ذلك إلى أنه يتذكر شيئًا من ذلك في حال تعبده وهو أشد من الأول فيخاف أن يصيب من فتنة العقوبة إما عاجلًا وإما آجلًا لأجل فساد حاله مع ربه. وخروج المرأة لا يكون إلا لضرورة شرعية وخروجها لمثل هذه الزيارات ليس لضرورة شرعية بل للبدع والمناكير والمحرمات. ا. هـ. 2- النذر للمساجد ولإسراج الضرائح والمآذن "ولقراءة مولد فيها": قال الخطيب الشافعي في شرح الغاية: لو نذر زيتًا أو شمعًا لإسراج مسجد

أو غيره أو وقف ما يشتريان به من غلة صح كل من النذر والوقف إن كان يدخل المسجد أو غيره من ينتفع به من نحو مصل أو نائم، وإلا لم يصح لأنه إضاعة مال. ا. هـ. وفي شرح الروض: وإن قصد به وهو الغالب من العامة تعظيم البقعة والقبر والتقرب إلى من دفن فيها أو نسب إليه فهذا نذر باطل غير منعقد فإنهم يعتقدون إن لهذه الأماكن خصوصيات لأنفسهم ويرون أن النذر لها مما يندفع به البلاء أي وهو اعتقاد فاسد وإشراك به تعالى. وقال في شرح الإقناع: من نذر إسراج بئر أو مقبرة أو جبل أو شجرة أو نذر له أو لسكانه أو المضافين إلى ذلك المكان لم يجز ولا يجوز الوفاء به إجماعًا ويصرف في المصالح، وقال صاحب الإقناع: النذر للقبور أو لأهل القبور كالنذر لإبراهيم الخليل عليه السلام والشيخ فلان نذر معصية لا يجوز الوفاء به وإن تصدق بما نذره من ذلك على من يستحقه من الفقراء والصالحين كان خيرًا له عند الله وأنفع ثم قال: وأما من نذر للمساجد ما تنور به أو يصرف في مصالحها فهذا نذر بر فيوفي بنذره لأن تنويرها وتعميرها مطلوب. وقال العلائي في الدر في آخر باب الاعتكاف: واعلم أن النذر الذي يقع للأموات من أكثر العوام وما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت ونحوها إلى ضرائح الأولياء تقربًا إليهم فهو بالإجماع باطل وحرام ما لم يقصدوا صرفها لفقراء الأنام، وقد ابتلي الناس بذلك ولا سيما في هذه الأعصار، وقد بسطه العلامة قاسم في سرح درر البحار وفي حواشي الدر لابن عابدين الدمشقي عليه الرحمة قوله: باطل وحرام لوجوه منها أنه نذر لمخلوق والنذر للمخلوق لا يجوز لأنه عبادة والعبادة لا تكون لمخلوق. ومنها أن المنذور له ميت والميت لا يملك. ومنها أنه إن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى واعتقد ذلك كفر إلخ. ثم قال: ولا بد أن يكون المنذور مما يصح به النذر كالصدقة بالدراهم ونحوها أما لو نذر زيتًا لإيقاد قنديل فوق ضريح الشيخ أو في المنارة كما يفعل النساء من نذر الزيت للسيد عبد القادر ويوقد في المنارة جهة المشرق فهو باطل وأقبح منه النذر

بقراءة المولد في المنائر ومع اشتماله على الغناء واللعب وإيهاب ثواب ذلك إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم. ا. هـ بحروفه 3- الموسوسون في أمر الطهارة "والمسرفون من ماء المساجد": ما أكثر الموسوسين المذكورين والمسرفين المتجاوزين الحدود في شأن الطهارة المشروعة جهلًا بالسنة وغلوًّا في الدين وقد شنع الأئمة على هؤلاء الجاهلين والغالين. قال الإمام شمس الدين ابن القيم في كتابه "إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان" ومن كيده الذي بلغ به الجهال ما بلغ الوسواس الذي كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند عقد النية حتى ألقاهم في الآصار والأغلال وأخرجهم عن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفي حتى يضم إليه غيره فجمع لهم بين هذا الظن الفاسد والتعب الحاضر وبطلان الأجر أو تنقيصه. ولا ريب أن الشيطان هو الداعي إلى الوسواس، فأهله قط أطاعوا الشيطان ولبوا دعوته واتبعوا أمره ورغبوا عن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقته حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اغتسل كاغتساله لم يطهر ولم يرفع حدثه، ولولا العذر بالجهل لكان هذا مشاقة للرسول فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد1 وهو قريب من ثلث رطل بالدمشقي ويغتسل بالصاع1 وهو نحو رطل وثلث والموسوس يرى أن ذلك القدر لا يكفيه لغسل يديه، وصح عنه عليه السلام أنه توضأ مرة مرة ولم يزد على ثلاث، بل أخبر أن من زاد عليها فقد أساء وتعدى وظلم2، فالموسوس مسيء متعد ظالم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1 حديث صحيح، رواه الشيخان وغيرهما، وهو مخرج في "الإرواء" "139". 2 حديث صحيح أخرجه أبو داود وغيره، وقد حققت القول فيه في "صحيح السنن" "124".

فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسيء به متعد فيه لحدوده. وصح عنه أنه كان يغتسل هو وعائشة1 رضي الله عنها من قصعة بينهما فيها أثر العجين ولو رأى المسوس من يفعل هذا لأنكر عليه غاية الإنكار وقال ما يكفي هذا القدر لغسل اثنين كيف والعجين يحلله الماء فيغيره هذا والرشاش ينزل في الماء فينجسه عند بعضهم ويفسده عند آخرين فلا تصح به الطهارة، وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مع غير عائشة مثل ميمونة وأم سلمة وهذا كله في الصحيح، وثبت أيضًا في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان الرجال والنساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضئون من إناء واحد. والآنية التي كان عليه السلام وأزواجه وأصحابه ونساؤهم يغتسلون منها لم تكن من كبار الآنية ولا كانت لها مادة تمدها كأنبوب الحمام ونحوه ولم يكونوا يراعون فيضانها حتى يجري الماء من حافتها كما يراعيه جهال الناس ممن بلي بالوسواس في جرن الحمام. فهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم -الذي من رغب عنه فقد رغب عن سنته- جواز الاغتسال من الحياض والآنية وإن كانت ناقصة غير فائضة. ومن انتظر الحوض حتى يفيض ثم استعمله وحده ولم يكن أحدًا أن يشاركه في استعماله فهو مبتدع، مخالف للشريعة، قال شيخنا -ابن تيمية عليه الرحمة- ويستحق التعزير البليغ الذي يزجره وأمثاله عن أن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله ويعبدوا الله بالبدع لا بالاتباع. ودلت هذه السنن الصحيحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يكثرون صب الماء. ومضى على هذا التابعون لهم بإحسان قال الإمام أحمد: من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء، وقال تلميذه المروزي: وضأت أبا عبد الله فسترته من الناس لئلا يقولوا إنه لا يحسن الوضوء لقلة صب الماء. وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يبل الثرى. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه توضأ من إناء فادخل يده فيه ثم تمضمض واستنشق وكذلك كان في غسله يدخل يده في الإناء ويتناول الماء منه والموسوس لا يجوز ذلك ولعله أن يحكم بنجاسة الماء

_ 1 كذا قال والصواب: ميمونة كذلك أخرجه النسائي وغيره كما خرجته في "الإرواء" "26".

أو يسلبه طهوريته بذلك. وبالجملة فلا تطاوعه نفسه لاتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يأتي بمثل ما أتى به أبدًا. وكيف يطاوع الموسوس نفسه أن يغتسل هو وامرأته من إناء واحد قدر الفرق -قريبًا من خمسة أرطال بالدمشقي- يغمسان أيديهما فيه ويفرغان عليهما فالموسوس يشمئز من ذلك كما يشمئز المشرك إذا ذكر الله وحده. ا. هـ. 4- مشي المستبرئين في جوانب المسجد: يوجد في داخل بعض المساجد كالمدارس بيوت للطهارة فإذا فرغ الموسوسون من البول قاموا يدورون في جوانبها ويتمايلون في مشيتهم طلبا -على زعمهم- للاستبراء إلا أن ذلك الفعل الشنيع على مرأى من الناس والمارة لعمر الحق إنه منكر فظيع. وكم أفضى إلى كشف عورة وتنجيس حائط وتلويث غافل وإضاعة وقت وخلع أدب. وقد جود الكلام في ذلك الإمام شمس الدين ابن القيم عليه الرحمة في "إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان" وعبارته: -ومن كيد الشيطان- ما يفعله كثير من الموسوسون بعد البول وهو عشرة أشياء السلت والنتر والنحنحة والمشي والقفز والحبل والتفقد والوجور والحشو والعصابة والدرجة. أما السلت فيسلته من أصله إلى رأسه على أنه قد روي في حديث غريب لا يثبت ففي المسند وسنن ابن ماجة عن عيسى بن داود عن أبيه مرفوعًا "إذا بال أحدكم فليمسح ذكره ثلاث مرات"1 وقال جابر

_ 1 يمكن أن يراد فليمسح ذكره على الحجر ثلاث مرات كما جاء في الحديث الآخر: "وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار" قال الشافعي: المراد ثلاث مسحات. فالروايتان بمعنى واحد ولا حاجة لصرف رواية المسح إلى إرادة السلت لأنه غير متبادر. وقول جابر المذكور إرشاد للتنظيف، لا تفسير للحديث. كذا ظهر لي وفيه قوة بحمده تعالى. ا. هـ منه. يقول محمد ناصر الدين: لقد تصحف الحديث عن الشيخ أو على ناسخ كتاب "الإغاثة" فليراجع، فساغ أنه يتأوله بما ذكر، وإنما نصه: "فلينثر" هكذا رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما. على أن الحديث ضعيف كما ذكر ابن القيم نفسه فلا داعي للتأويل المذكور لو أمكن. وقد بينت ضعفه في "الضعيفة" "1621". "ناصر الدين"

بن زيد: إذا بلت فامسح أسفل ذكرك فإنه ينقطع. رواه سعيد عنه. قالوا: ولانه بالسلت، والنتر يستخرج ما يخشى عوده بعد الاستنجاء قالوا: وإن احتاج إلى مشي خطوات لذلك ففعل فقد أحسن. والنحنحة تستخرج الفضلة، وكذلك القفز يرتفع عن الأرض شيئًا ثم يجلس بسرعة. والحبل يتخذ بعضهم حبلا يتعلق به حتى يكاد يرتفع ثم ينخرط فيه حتى يقعد. والتفقد يمسك الذكر ثم ينظر في المخرج هل بقي فيه شيء أم لا. والوجور يمسكه ثم يفتح الثقب ويصب فيه الماء، والحشو يكون معه ميل وقطن يحشوه به كما يحشو الدمل بعد فتحها، والعصابة يعصب بخرقة، والدرجة يصعد في سلم قليلًا ثم ينزل بسرعة، والمشي يمشي خطوات ثم يعيد الاستجمار. قال شيخنا -يعني ابن تيمية عليه الرحمة الرضوان: وذلك كله وسواس وبدعة فراجعته في السلت والنتر فلم يره وقال: لم يصح الحديث. قال: والبول كاللبن في الضرع إن تركته قر وإن حلبته در. قال: ومن اعتاد ذلك ابتلي منه بما عوفي منه من لها عنه. قال: ولو كان هذا سنة لكان أولى الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد قال اليهود لسلمان: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة فقال: أجل فقد علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك أو شيئًا منه1 بل على المستحاضة أن تتلجم وعلى قياسها من به سلس البول أن يتحفظ ويشيد عليه خرقه. 5- اغتسال الرعاع في برك بعض المساجد: اعتاد كثير من الرعاع والسفلة والصغار والشبان أيام الصيف أن يغتسلوا في

_ 1 حديث صحيح أخرجه مسلم وغيره عن سلمان نحوه. وهو مخرج في "صحيح السنن" "5".

برك بعض المساجد أو المدارس، ويا ليتهم يتخذون السروال أو القميص أو بعض الخرق سترًا، ولكنهم يغتسلون عراة الأجسام وهم فوج بعد فوج وزمرة بعد زمرة ويطول بينهم الخصام على بعض الأمور وأحيانًا يتلاكمون ويتضاربون فيجب على قيم الجامع أو المدرسة منع هؤلاء من هذه العادة القبيحة ولا يخفى أن اغتسالهم بهذه الكيفية من الأمور المسترذلة حتى في الأنهر التي جرت عادتهم بالذهاب إليها أيضًا لهذه الغاية ومع ذلك ففي فعلهم هذا من الأخطار ما لا تحصى وقائعه فكم سمع أن فلانًا الصغير فقده أهله ثم وجدوه في النهر ميتًا مختنقًا حيث إنه لا يحسن السباحة أو لا يقوى على مصادمة الماء فيجب على أولياء هؤلاء أن يضربوا على أيديهم ويقوموا على تأديبهم لئلا يجنوا منهم سم سوء الأخلاق. 6- خطيئة البزاق في المساجد: كثيرًا ما يتراءى للواقف على حافات البرك "البحرات" في المسجد بصاق أو مخاط في جوانبها من قبل جهلة المتوضئين مما تستقذره الأنفس، وهذه الخطيئة من السيئات التي لا تكفر إلا بإزالتها. روى الشيخان وغيرهما عن أنس رضى الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها" وفي حديث أبي ذر عند مسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ووجدت في مساوئ أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن" قال القرطبي: فلم يثبت لها حكم السيئة لمجرد إيقاعها في المسجد بل به وبتركها غير مدفونة، وروى سعيد بن منصور عن أبي عبيدة بن الجراح أنه تنخم في المسجد ليلة فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزلة فأخذ شعلة من نار ثم جاء فطلبها حتى دفنها ثم قال: الحمد لله الذي لم يكتب على خطيئة الليلة. قال: فدل على أن الخطيئة تختص بمن تركها وعلة النهي ترشد إليه وهي تأذي المؤمن بها.

7- وضع ستائر في نواحي المسجد وهي الأعلام والرايات: يوجد في بعض المساجد ستائر موضوعة على زوايا المسجد أو على جانب حائط أو على عمود، فإذا سأل سائل عنها فقد يقال له إن هذا الستار لمقام فلان يعنون أنه كان يحضر حيًّا هنا فينبغي تقديس محله، أو إنه رؤي في النوم جالسًا هنا فيجب صيانته عن ابتذاله بالوطء بالإقدام، أو أنه حكي أنه دفن فيه، أو للإعلام بانتماء هذا المكان لفلان إلى غير ذلك من الأوهام السيئة. ومعلوم أن نتيجة ذلك تغرير العامة والبسطاء بأن ثمة مكانًا شريفًا أو وليًّا منيفًا فيقصدونه بالنذور والتعظيم والحلف دون المولى العظيم وينتهي الأمر بعبادته دون الله تعالى نعوذ بالله من الضلال. وقد تذكرت بهذا البحث ستارًا موضوعًا في جامع حسان ظاهر باب الجباية قريبًا من زقاق المكتبي -الذي فيه دار أسلافنا- هذا الستار مكتوب عليه. "هذه راية سيدنا حسان رضي الله عنه" ونحو هذا وضعه شخص على زاوية الجامع القبلية الغربية علمًا طويلًا منقوشًا مزركشًا. والسبب في وضعه أن شخصًا حكى أنه رأى حسان رضي الله عنه في تلك الزاوية فخطر لهذا العامي أن يسعى في عمل ستار لهذا الموضع احترامًا لهذه الرؤيا التي رؤيت عن شخص مجهول إما مغفل أو عامي أو مختلق لها فسترت تلك الزاوية وصار الداخل إليه يظن أن ثمة قبرًا أو مزارًا، والكثير من الجهلة يلمسها ويتمسح بها والحقيقة ما رأيت1. والأغرب زعم أن هذا المسجد ينسب لحسان بن ثابت رضي الله عنه الصحابي الشهير ومنه تخيل هذا الرائي ما تخيل حتى انتقش في ذهنه ما رآه في نومه -إن صحت الرؤيا- والحال أن هذا الجامع نسب إلى إمام له يسمى حسانًا ترجمه صاحب شذرات الذهب وذكر أن هذا الجامع ينسب إليه وذكرت ذلك في تاريخي لدمشق الشام فليتنبه لمثل هذه النصب

_ 1 قد أزيل في هذا العهد ولله الحمد. ا. هـ. ضياء الدين القاسمي

"الرايات"، وليحذر مما تجلبه من التخيلات، أو الاعتقادات الفاسدات، وليجنب المسجد من مثلها من الزيادات المضرات. وأذكرني أيضًا ما حكى لي قيم المقام الداودي في بيت المقدس أن هذا المقام لم يكن له أثر في العصر المتقدم ولكن أحد أجداده رأى رؤيا تشير إلى أن ههنا قبر داود عليه السلام فأصبح وطفق يهتم في تحجيره وساعده من كان يعتقد رأيه حتى خط مكان القبر الذي دلّ عليه في الرؤيا وبنى حوله مسجدًا صغيرًا وبقي كذلك إلى أن اشتهر وصارت لهذا المكان مرتبات سلطانية من بيت المال فهذا مجمل ما حكى لي "وليقس ما لم يقل". 8- التمسح بالأعلام أو الحيطان في المسجد: لا يتمسح بشيء إلا الحجر الأسود -كما في كتب الفروع وما عداه فلا يستحب التمسح به إذ لم يستحبه أحد من الأئمة قط. والتمسح الذي حدث في القرون الأخيرة أصله من أهل الكتاب كما بينه الغزالي في الإحياء فهو من التشبه بهم المنهي عنه. ومن أغرب الغريب في هذا الباب ما أخبرت به -وما كنت أظن وقوعه ولا أن عاقلًا يفعله- وذلك اتخاذ موسم وعيد لكسوة أحد مشايخ الطرق في القرن الماضي وجبته. وذلك الموسم ميعاده ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، يجتمع في دار أحد حفدة ذلك الشيخ أو حفدة خلفائه جمع كبير يدعون له كثيرًا من أهل الرسوم والمتعالمين والمتفقهة فيحضرون في تلك الدار وبعد أن يدار الذكر المعروف على طريقة ذلك الشيخ -والكل متحلقون حول صاحب الحفلة المتوج بطبزة كبيرة- وينتهي وقته يقوم المحتفل بهم ويأتي بجبة ذلك الشيخ المنتمي إليه وطبزته ويعرضها على الجالسين مرتبًا. فكل منهم ينزع عمامته ويضعها أمامه ويلبس تلك الطبزة من فوقها الجبة ويقرأ ما يقرأ مخمرًا بها وجهه ويتمسح بها ويدلك بها وجهه ويلصقها ببدنه ثم

يعطيها لمن بجانبه وهكذا إلى أن يتم الجمع وينفض المجلس وهم معتقدون أنهم حازوا تمام البركات والخيرات وأن تلك اللبسة من أسعد الحالات. فانظر عافاك الله هذا الحال واعرضه على عصور السلف والخلفاء الراشدين عليهم الرضوان هل تجد في تاريخ ما، ولو في رواية موضوعة، أن أحدًا منهم جمع ناسًا على جبة تابعي أو صحابي أو أثر نبي أو شهيد؟ كلا ما السبب؟ لا يخفى أن السبب هو العلم أعني علم حقيقة الدين وذوق أصول اليقين والاعتماد على رب العالمين والقيام بمجاهدة النفس وإصلاح العلم والعمل حتى إذا لبس ثياب العلم من ليس منه، بل ولا يعرفه العلم ونسي العهد النبوي وتصدر كل دعي في الفضل أضحى يخترع لأتباعه البسطاء -والعامة أتباع كل ناعق- ما شاء وشاء الهوى حتى إذا ائتلفتها النفوس ومضت عليها السنون وشب عليها الصغير وشاب عليه الكبير ظن أنها من الأصول الصحيحة والطاعات الرجيحة ولا نبية يزجر ولا فقيه ينكر اللهم إلا بقية ربما كان الضعف يقعدهم وخوف سيطرت أهل الفخفخة يثبطهم لا تبلغ شكواهم ما وراء جدرانهم. هذا أصل الحال فانظر ما يتولد عن البدع وما يتفرغ عنها. ولا حول ولا قوة إلا بالله. 9- لجأ اليتامى والرجال والبؤساء إلى أواوين المساجد: قل أن يدخل المرء مسجدًا شهيرًا في محلته إلا ويرى في إيوانه عند الصباح غلمانًا أو غلامًا رث اللباس مستنقع السحنة ويكون يتيمًا لا مأوى له يأوي إليه ولا سند يعتمد عليه. وقد يجد في فناء بعض المساجد من هؤلاء البؤساء اليتامى زمرة ينامون ليلًا في العراء على سطح الأرض وقد اتخذوا الحجارة مسندًا لرءوسهم والتحفوا السماء فمنهم من يضطجع على جنبه ويجمع رأسه إلى رجليه كما تفعل الكلاب أمام النار، ومنهم من ينضم إلى رفيقه تخفيفًا لألم البرد كما

تفعل الغنم، ومنهم من يعتنق كلبًا يستدفئ به، وكلهم لا مأوى لهم ولا لهم من يعولهم يقاسون من الشدة والبرحاء ما ينبئك هذا الوصف عن الشرح. وحبذا لو أعار أهل اليسار نظرة الشفقة والمرحمة لهم فواسوهم بما آتاهم الله من فضله وتبصروا في إنقاذ هؤلاء من هذا العذاب "وما هؤلاء المساكين إلا بعض من كل" ولا ينسى المؤمن ما حث القرآن على إكرام اليتيم وحض على الإحسان إلى المسكين في آيات عدة، وكيف هدد المستأثرين بالمال أشد التهديد بقوله: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} وكيف آذان في سورة {أَرَأَيْت} بأن الذي يدع اليتيم أي يدفعه ويزجره هتكًا لحرمة حقه ولا يحض على طعام المسكين هو المكذب بالدين بصيغة الحصر "نعوذ بالله من غضبه" إيذانا والله تقشعر منه الذين يخشون ربهم لو تدبروا هذا الوعيد الشديد فإنا لله. أذكر في رمضان سنة "1323" أن فقيرًا من أبناء السبيل مرض عند صاحب له من الفقراء فلما اشتد مرضه حاول إيواءه في المستشفى فدفع عنه أو لم يظفر بوساطة مطاع فأرجعه إلى جامع السنانية ووضع على التخت تحت سقف إيوانه الغربي والبرد قارس والهواء لاسع فقيض الله من الفقراء من صار يخدمه ويسعى في إطعامه وهو على التخت ملقى ووقف على علاجه طبيب مغربي غريب عن البلدة دخل اتفاقًا إلى الجامع فرآه فصار يتردد لعلاجه ومعه أدوية، ولم أر أحدًا من أغنياء المصلين على كثرتهم -لا سيما في العشر الأخير من رمضان- أعاره نظر الرحمة أو رأى أنه مطالب من الله بإيواء مثله وتفقده "فوا أسفاه وإنا لله" وأتذكر أنا طبخنا له في سدة الجامع وكنا معتكفين في الجامع طعامًا فشم بعض الأغنياء المطموس على بصيرتهم رائحته فأنكر أن تكون في المسجد فقال له شعال المسجد "من أنكر فليتفضل بإيواء هذا المريض وليكف الإمام مئونته" فبهت وكأنه القمه حجرًا ثم ما لبث ذاك المريض أن مات والله يشهد ما دخلنا من التحرق على هذا الحال. أفلا يجب على الأغنياء أن يتفكروا في إشادة ملاجئ عديدة لمثل هؤلاء

والاكتتاب فيها، أو تبرعهم بتمريض من يرونه كذلك في دورهم وأجرهم على الله تعالى. ولئن كان بني حديثًا في دمشق مستشفى وقبله دار صناعة للأيتام وكان لهما من الأيادي البيضاء على الفيحاء ما لا ينكر ولكن بلدة كهذه من أين يتسع مكانان فيها لسائر المرضى والأيتام أفلا يكون أهل اليسار والأكابر هم المكلفون بذلك، بلى والله ثم والله. فقههم المولى في الدين، وعلمهم التأويل، ليدركوا الواجبات التي من وراء تركها عذاب الجحيم. ومن راجع كرم السالفين من أغنيائنا يقف مدهوشا من بذلهم كرائم الأموال للآثار النافعة كالمدارس والمستشفيات ولمواساة العجزة والأرامل واليتامى والمستضعفين ووقفهم عليها الأوقاف الدارة بالريع الكثير وغالبها الآن قد اندثر بسب نسيان فعل الخير والإهمال الذي استولى علينا وفقد الإحساس والشعور بالمنفعة العامة التي عليها مدار بقاء هذا النوع الإنساني من جهة وحياته وسعادته من جهة أخرى، بل شمل إحسانهم للحيوانات فإن السبلان التي في الطرقات أكثرها للرحمة بالدواب. تأمل الآن ترى بعض السبلان يتبرع جيرانها بعمل شباك من حديد لمنع الحيوانات من ورودها، قاتلهم الله أنى يؤفكون. فوا أسفاه على انقلاب الحال وأكل الأوقاف وبيع ما بقي. من أين فشا هذا في المسلمين ولم يكن معروفًا في سلفهم ولا نراه في مخاليفهم من الملل. نسينا ما كان لنا وتركناه، فأخذه غيرنا وآواه. ولقد تذكرت فادحة ما سمع بمثلها في عصر من العصور: مدرسة في بيت المقدس موقوفة على الشافعية وقفها السلطان صلاح الدين اضمحل أمرها وخربت سقوفها وتركت مأوى لليوم فتفطن لها بعض مياسير النصارى -وناهيك ما يبذلون لإعلاء كلمتهم وترسيخ شأنهم- فبذلوا من الدنانير ما أرضى الوسائط والسعاة فمنحتها الحكومة لهم وصارت كنيسة والتاريخ الصلاحي على باب حرمها لم يزل. وقد ذهب بي إليها أيام رحلتي للقدس عام 1321 أحد الأصحاب وقال لي راهبها إن هذه أصلها كنيسة كما في تاريخ الأنس الجليل، يعني: فرجع الشيء إلى أصله. فسكت مدهوشًا من هذا الحال، وشؤم

هذا التقهقر والاضمحلال. مع أن السلطان صلاح الدين عليه الرحمة ما بنى تلك المدارس والزوايا حول المسجد الأقصى إلا ليقصي أولئك الأعداء عن جواره ولا يمكن لهم القرب من أطرافه، فاشترى رحمه الله من البيوت من جوانب المسجد الأقصى وجعلها مدارس لهذه الغاية علمًا بأن المدارس مهما تأخر الحال فإنها لا تباع، ولكن لم يخطر له أن يأتي دور وأي دور، وزمان وأي زمان تباع فيه المدارس بيع الكساد لأعداء الدين فإنا لله وإنا إليه راجعون. 10- ضرر إقامة الراقي في حجر المساجد: يوجد في بعض المساجد حجر يقطنها من يدعي معرفة الغيب ومستقبل الأحوال، فيقبل عليهم أصحاب الحاجات المفقودة والذين يريدون معرفة ما يكون لهم وعليهم في مستقبل الأيام، وينقدونهم الدراهم في مقابلة حصولهم على ما يبتغون منهم، ومنهم من يقصدهم لأمراض وهمية أو وسواسية فيظهر لهم أنه يرقي للأمراض والأرياح المتسببة من مس الشياطين ويوهم أن لا دواء له إلا تبييت الأثر أو الخط على الرمل أو الطرق بالحصا أو الحساب أو النظر في المياه، ويسمونه المندل، أو كتابة أسماء على سفل القدم أو بدم الحيض أو على بطن المرأة أو بمائها إلى غير ذلك من المنكرات المعروفة المشتهرة حكايتها أكثر من نوادر جحا، فنعوذ بالله من هذا الحال ووا أسفاه على فشو هذه المنكرات ووا مصيبتاه على الاعتقاد بها وظهورها بين المسلمين. ألم يعلموا ما ورد من الأحاديث من كفر اعتقد بمنجم وعدم قبول صلاته؟ ألم يعلموا أن البشر محجوبون عن الغيب إلا من أطلعه الله على شيء من عنده من نبي وملك، فالواجب طرد هؤلاء من المساجد بل ومن غيرها والضرب على أيديهم وتعليم الرجال والنساء أن هؤلاء ضالون مضلون آكلون أموال الناس بالباطل

دجالون في أخبارهم وما يقترحون {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُون} وقد أوردت جملة من أحوالهم في "تكملة كتاب الصناعات" للإمام الوالد عليه الرحمة والرضوان في باب الراء في الراقي فارجع إليه. 11- إخراج السيارات من المساجد: كان بدمشق كغيرها من البلاد عادة شهيرة وهي أن مشايخ الطرق يخرجون بمريديهم وخلفائهم في أيام الربيع بموكب حافل يمتطون ظهور الخيل وينشرون الأعلام والرايات ويدقون الطبول فيجتمعون في مسجد خارج البلد أو في أطرافها أولا ثم يترتبون ويسيرون وقد حوى موكبهم هذا من البدع ما حكى بعضه أحد الفضلاء بقوله: "لا تزال هذه الطوائف تبتدع أمورًا تضحك السفهاء وتبكي العقلاء وتحتال لمطامعها البهيمية بما جلب العار على الأمة وسلط علينا الأجنبي يهزأ بديننا ويقبح أعمالنا ظنا منه أن ما يجريه هؤلاء الجهلة من الدين. فهلا رجع هؤلاء الجهلة عن بدعهم والتزموا طرق أشياخهم الذين يدّعون أنهم على آثارهم وما هم إلا في أيدي الشياطين يلعبون بهم كيف يشاءون. أين تصفية الباطن التي هي مدار الطريق وأين الخمول مع هذا الظهور وأين التواضع مع ركوب الخيل والبغال يقدمها الطبل والمزمار وأين البعد عن الناس مع هذه المزاحمة الدنيوية وأين البعد عن الرياء مع الوقوف بين مئات الألوف يتمايل ويتلوى وأين الإرشاد مع هذه البدع وأين الأشياخ إذا أردنا السلوك؟ فلعمري لا نرى إلا رجالًا اتخذوا الطريق وسيلة معاشية. أما آن لهذه البدع أن تموت ولهؤلاء الجهلة أن يتنبهوا ويعلموا أنهم بين أمم ينظرون أعمالهم وينتقدون أحوالهم ويكتبون عنهم ما يكتب عن الهمج وسكان البوادي. إن الطريق المسلوك للقوم مبني على الإخلاص في العمل وحب الخلوة والبعد عن الناس والصمت عن اللغو وملازمة الذكر ومداومة السهر فيه وفي التهجد والزهد فيما في أيدي

الناس والتمسك بالسنة والإرشاد إلى الطريق المستقيم، وأين هذه الأصول الشريفة مما نراه الآن من الخروج عن الحدود واستبدال السنة بالبدعة وترك الشرع بهوى النفس. والطامة الكبرى دعوة بعض الأشياخ وانتحاله ما يضر بالعقيدة وإضلاله العامة بما ينقله إليهم عن الإنسان الكامل ونحوه من كتب الصوفية مدعيًا فهمه لإشارته من طريق الفتح أو الإلهام فقد كثرت النحل والبدع وسمعنا من أقوالهم ما ليس من ديننا ولا يقول به أهل دين آخر. وقد اتفق أن أحد معتبري الأجانب دخل إحدى الأماكن وقد اجتمع بها جماعة من أهل الأهواء فرآهم يرقصون ويصيحون صياح جنون فقال لترجمانه: ما هذه الغوغاء ونحن نعلم أن صلاة المسلمين في غاية الخشوع والآداب وهذه أمور ليست إلا هذيانًا. فقال له ترجمانه: "إن هذه أكبر صلاة عندهم" يريد تنفير من الدين الإسلامي ولا حول ولا قوة إلا بالله. فالدين بريء من نسبة هذه البدع إليه، فإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة محفوظة إذ لم يترك الحفاظ وكتاب السير شيئا من أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته إلا دونوه، وجاء الخلفاء الراشدون ومن عاصرهم على أثره صلى الله عليه وسلم وكذلك جاء الصوفية المتقدمون على هذا الأثر فلما تشيخ الجهلاء في الطريق التزموا البدع وجاء من لهم إلمام بكتب القوم فانتحلوا أقوالا لا يعرفون معناها وعلموها لجهلة لا يفقهون فضلوا وأضلوا، إنا لله وإنا إليه راجعون. ومن المصائب الفظيعة تركهم الذكر الشرعي وقولهم: "الام إلا الله" "لوالوها إلا الله" و"أل" بلام مغلظة و"هه" ثم الرقص وأكل النار وضرب الدف أو الناي والنقارات والنقرزان ووضع الدبوس في الذراع والسيخ الحديد في الحنك والشيش وغيرها من المفتريات القبيحة فحق شيخ المشايخ منع هؤلاء الجهلاء من إعطاء العهود حتى يعرفوا العقيدة والآداب الشرعية والفروع الفقهية ففي ذلك خدمة الأمة والدين وتأييد لكلمة الحق المتين

12- وعظ النساء في مسجد خاص: كان يوجد في السنين الخالية من يعظ النساء في مسجد خاص ينتدب لذلك من كان تقيًّا غيورًا على تهذيبهن وتلقينهن واجبات الدين وأحكامه. أذكر منهم الشيخ عثمان الحوراني1 من رجال القرن العاشر كما قرأته في ترجمته فكان يعقد لهن مجلسًا في الأسبوع يحضرن فيه يبث فيه من المواعظ ما يلزمهن "رحمه الله ورضي عنه" وما أحوج النساء الآن إلى واعظ سيما وقد انتشرت فيهن البدع والمنكرات واعتقاد الخرافات والأضاليل ومخالفة الأزواج وما لا يحصى من المحذورات. يقول قائل: لو انتدب أحد لذلك لاتخذ هزوا من الجاهلين فيقال: قد اتخذ هزوا من هو أعظم قدرًا منه وكذلك كل قائم بالحق ناطق بالصدق، ولكن الصالحين لا يهمهم سخرية الغافلين أسوة بالدعاة إلى قويم الدين ومن الأسف أن ليس للنساء في البلاد من يعظهن ولا من يتفكر في عظتهن مع ما يعلم كل أحد من شدة الحاجة إلى تعليمهن والعناية بأمرهن أفليس يجب على الأمراء والوجهاء والمياسير أن يندبوا لذلك من يرونه كفئًا في الفضل والكمال ويشوقوه لذلك ويعينوا له مسجدًا يرشدهن فيه في يوم معلوم ويحرسوا المسجد بمن يقوم على بابه ليحفظه من دخول رجل إليه لعمر الحق أن هذا الاقتراح من أوجب الواجبات وآكد المرغوبات وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعظ النساء يوم العيد في المصلى ويتخلل صفوف الرجال إليهن ويأمرهن أن يحضرن ولو كانت حائضًا، وقال: "ليشهدن الخير ودعوة المصلين" وقد أدى تشديد الفقهاء في منع النساء من المساجد والمجامع والدرس إلى أن أصبحن في جهالة وأي جهالة وكله من شؤم مخالفة الأمر النبوي وما كان هديه معهن، وانظر ما رواه الإمام

_ 1 ومنهم الشيخ أحمد الزاهد. قال الشعراني في طبقاته: وكان يعظ النساء في المساجد ويخصهن دون الرجال ويعلمهن أحكام دينهن وما عليهن من حقوق الزوجية والجيران. ا. هـ. ضياء الدين القاسمي.

مسلم في صحيحه عن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم". فقال بلال: والله لنمنعهن. فقال له عبد الله: أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أنت لنمنعهن. وفي رواية سالم عن أبيه قال: فاقبل عليه عبد الله فسبه سبًّا ما سمعت سبه مثله قط وقال أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهن. وعن مجاهد عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنعن رجل أهله أن يأتوا المساجد" فقال ابن لعبد الله بن عمر: فإنا نمنعهن فقال عبد الله: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول هذا قال فما كلمة عبد الله حتى مات1. رواه الإمام أحمد نقله في مشكاة المصابيح وأما قول عائشة لو علم رسول الله ما أحدثن بعده لمنعهن. فتعني بهن المعطرات كما في حديث: "أيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهد معنا العشاء" 2. ولذا ترشد المرأة إلى ترك التعطر والتبرج وإلا فسد الباب لهن أبدًا فيه فتح لجهالة لا غاية لها وهن مأمورات بالعلم والتعلم لأنه فرض على كل مسلم ومسلمة وأنى يتأتى لهن العلم ودونهن سبعون حجابًا عنه وما الأغرب إلا أن لا يكون لهن حجاب إلا عن العلم والتعلم وهن مأذونات من أزواجهن فيما عداه للبيع والتزاور، بل وللسفر ولو وحدهن، فرحماك اللهم، وأضحكني مرة أن بعض الفقهاء المتعصبين لما بلغه أن بعض النساء يقتدين به في رمضان في العشاء والتراويح أرسل يقول لهن لينفرهن: إني لا أنوي الإمامة بكن. يعني أنه على مذهب الحنفية إذا لم ينو الإمامة بمن يأتم به لا تصح صلاة المؤتم. فانظر يا رعاك الله ماذا يجني التعصب ولا حول ولا قوة إلا بالله.

_ 1 وإسناده صحيح كما في تعليقي على "المشكاة" "1084". 2 أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه.

13- الصادون عن تدفئة المساجد في الشتاء: يعلم كل أحد شدة الحاجة إلى تدفئة المنازل والبيوت والمساكن في أيام الشتاء لا سيما في البلاد الباردة التي يقضي أهلها في مقاساة ألم البرد ولسع هواءه قريبًا من نصف عام، وقد يشتد قرس البرد في خلالها إلى درجة تسلب الراحة وتكدر العيش وتشوش الفكر وتضطر الأكثرين إلى ملازمة البيوت والفقراء إلى ضروري القوت، وترى من اضطر إلى الخروج من داره لحرفة أو تكسب في حالة يرثى لها من احديداب ظهره وتقوس قامته واعوجاج شقه وتخمير وجهه دع عنك رجف الفقير واقشعرار بدنه واصفرار وجهه وتقلص شدقه وسيلان أنفه، وقد وصف شيئًا من حال المسكين وعنائه في الشتاء الإمام الوالد عليه الرحمة والرضوان بقوله: ذهب الربيع بوده وبلينه ... وأتى الشتاء ببرده وبطينه أما الفقير ففي الشتاء هلاكه ... من همه في فحمه وعجينه وبسقف بيت عياله من وكفه ... وبرجفه من برده وأنينه وما ألطف ما قاله العارف الشهير الشيخ عبد الغني النابلسي في هذا المعنى وهو: حلف الشتاء بأنه لا يذهب ... فهو المقيم إلى الربيع يشبب والريح قد سلب الغصون ثيابها ... وأقامها عريانة تتقلب والبرد أسكت في الرياض طيورها ... من بعد ما كانت تقوم فتخطب والنار توقد في البيوت وأنها ... تدعى بفاكهة الشتاء فتعذب والناس قد لبسوا الفرا مع أنهم ... يعيا عليهم حملهن ويتعب والشمس قد غطى السحاب شعاعها ... فالوجه منها بالسحاب منقب بردت وقد لبست عليها فروة ... مما يحيك لها السحاب المسهب

وتفوح أطعمة الشتا ببهارها ... من كل نوع يستلذ فيطلب ولهم حلاوات يشوقك أكلها ... من كل ما تهوى النفوس وترغب وضعوا ستائرهم على أبوابهم ... حتى تراهم في البيوت تحجبوا هذا صنيع الأغنياء لأنهم ... يجدون حاجتهم إليهم تقرب وخواصر الفقراء ترجف ما لهم ... ثوب يقي بردًا وعزّ المهرب وا حسرتاه وما لهم من مسعف ... يحنو عليهم والمعيشة تتعب والله حافظهم على ما هم به ... والعجز ما نعهم بأن يتسببوا ومسبب الأسباب رازقهم ولا ... سبب يؤثر والمهيمن أقرب والقصد أن المسكين لا يرد عنه عناءه في الشتاء إلا الدفاء ولا يداوي مرضه فيه إلا الاصطلاء. ولذلك تراه إذا رأى مصطلى هرول إليه وترامى بكليته عليه وكثير من العامة يمضي أواخر ليله في الحمامات ونهاره في القهوات "نعوذ بالله"، فرارًا من عواصف البرد اللاسعة ونسائمة السامة، فإذا حضر وقت الصلوات أقبل الجمهور على المساجد يؤدون فريضة الله ولا تسل عن حالهم حين يشمرون عن سواعدهم وأرجلهم ويتحلقون على برك المساجد للوضوء مما يبهج الناظر من تأثير الإيمان في النفوس وأخذه بمجامع القلوب ثم يؤدون الصلوات وينصرفون بعدها وقد يبقى العاجز والمتعبد في المسجد ولكن يعاني من بقائه فيه ألما لبرودته، بل ربما تألم البعض في بعض المساجد الكبيرة في حال أداء الصلاة فإن أكثر المساجد الكبيرة لا يطاق المكث فيها في الشتاء لولا ضرورة العبادة وما أظن أن المشاهد الأربعة التي في الجامع الأموي بنيت إلا لأن تكون مصلى في الشتاء لمن يأتي المسجد من أطرافه من جيرانه لصغرها، فالناس لا يستغنون في الشتاء عن المساجد ولا يتركونها مهما اشتد البرد وقرص الهواء إلا أن الناظر إليهم وإلى معتكفيهم يرثي لهم. وقد رأى بعض الموفقين أن يؤخذ من ريع وقف المسجد جانب يصرف في الشتاء لتدفئة المساجد بمداخن تدفئ هواءه وأن ذلك سهل على الموفقين من النظار، حسنة الفقراء وغيرهم، مدعاة لإقبال الناس على العبادة وأدائها بخشوع ولعمري أنه رأي يرضاه الله ورسوله وكل مؤمن.

ولقد هم بعض الناس في بعض الجوامع به فقام يدفع في وجهه بعض الحمقى ويقول: إن المساجد لا تكون بيوت نار وقد حدثت أخيرًا أن في بعض البلاد الباردة غير السورية مدافئ كما طلبنا في مساجدها، والله ما يفعل الجهل بأهله والتقول في الدين من المتصولحين وعسى أن يتنبه لهذا الخير أهله ويجعلون المواقد في جهة المسجد الشمالية لتكون خلف المصلين1 والله الموفق والمعين. 14- شقاء خدمة المسجد بالتهاون بالجماعات: يوجد في أغلب المساجد تهاون من قوامة في أداء الصلوات بالجماعة الأولى فترى المنور "الشّعّال" يشعل المصابيح وصلاة المغرب تقام ورأيت في بيت المقدس أيام رحلتي إليها "عام 1321" من يشعل القناديل مع أذان الفجر ويبقى إلى ما بعده بحصة طويلة. ومنهم من يشغل نفسه بكناسته ولم قمامته قبيل أذان الظهر بحيث يدخل المصلون ويرون الحرم ملآن من غبار الكناسة وذلك لكي يقال إن كناسه غير مقصر في خدمته وهذه آثاره. ومنهم من ينادي بالصلاة خارج باب المسجد ويبقى خارجه ويكمل تدخين سيجارته أو يذهب بشئونه. ومنهم من إذا فرغ من أذانه انعطف على باب المسجد وذهب يغتسل من جنابته في الحمام أو إلى دكانه ومتجره. ومنهم ومنهم. إلخ وبالجملة فمثل هؤلاء ما راعوا أدب المسجد حق رعايته ولا عرفوا مقام

_ 1 قلت: هذا اقتراح هام، والأخذ به واجب، ولكن الناس لم يأخذوا به مع الأسف بل إنهم ليضعونها بين يدي المصلين، وكثيرًا ما توضع في الصف فتكون سببًا لقطعه. وما يأتي هذا في الغالب إلا من الجهل بالسنة التي ثبت فيها النهي عن الصف بين السواري "العضاضات" والناس عن هذا غافلون. والله المستعان.

التعبد حق معرفته ظنوا أن القصد أداء هذه الوظيفة في المسجد فحسب تعيشًا منها وإن هذا هو المطلوب منهم وما وراءه من عبادة الله وخشيته والأدب في بيته لا يعلمونه ولا يريدون أن يعلموه سيما وأكثرهم من الجهل على ما رأيت مع تعاسة الحال تحت ألم الفقر المدقع والجهل المركب فإنا لله. فما أحراهم أن يتنبهوا ويتعلموا ويتفقهوا في الدين ويخرجوا من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة أرشدهم الله وأصلح حالهم. 15- الرغبة عن إيقاد زيت الغاز إلى الزيت البلدي: يعلم كل ذي بصر وبصيرة ما لهذا الزيت الغاز المعروف المجلوب من البلاد الأجنبية من قوة الضوء وزيادة النور في المكان بحيث إذا أراد المرء أن يقابل بينه وبين ضوء الزيت البلدي أو الشمع يجد بونًا ظاهرًا. ولما نشأ أبناء هذا العصر على زيت الغار وشبوا عليه وشابوا أصبحوا يكرهون أن يوجد مكان ينار بالزيت البلدي لقلة ضوئه المتعب للبصر والمظلم لزوايا المكان والمغم للقلب أمر بديهي لا ينكر. رأيت أيام رحلتي للقدس أن منير قناديله يتعانى في إنارتها زمنًا طويلًا ولا يفيد نورها الضياء المطلوب في مثله والذي جرت به العادة في غيره من البلاد، فسألته لما لا تنيرون بزيت الغاز فقال إنه رخيص الثمن والمسجد الأقصى غني بأوقافه والزيت البلدي أغلى ثمنًا فلا يعدلون عنه إلى الغاز. فقلت: أليس لنظاره نظر صحيح حتى يجدوا التفاوت بينه وبين الزيت البلدي، ألا ترى ظلمة المسجد في زواياه وأطرافه وقلة ضياء قناديله والعناء في إيقادها في حصة طويلة، أو لا يعلمون أن هذا العصر غير العصر السالف، وكلاما نحو هذا. فقال: هكذا يأمروني. فعجبت وعلمت أن التقاليد القديمة والأفكار المنحرفة سائرة في معظم الجهات ولو أنير هذا المسجد بالغاز ووفر ما يبقى من موازنته مع الزيت البلدي ورد إلى تحسينه لكان أولى. نبههم الله وهداهم إليه.

16- استنكار من ليس بمعتم أن يؤم الصلاة أو الإنكار عليه: "ومثله من ليس له جبة" يتفق أحيانًا في المساجد أن لا يحضر إمامها الراتب في وقت ما لعذر لديه، فإذا حضر المصلون وحان وقت إقامة الصلاة يضطر المقيم أن ينظر في الحاضرين ليختار من يقدمه إمامًا، فقد يتفق أن يرى في القوم من يليق أن يؤم بالحاضرين ولكنه غير معتم بعمامة فربما يشير عليه أن يتقدم ويؤم فيتباعد ويستنكر أن تصح إمامته بلا عمامة أو يليق لها وهو غير معتم فإما أن يتجافى عنها متصاغرًا دونها أو متورعًا وإما أن يخرج من جيبه منديلًا فيعصب به رأسه تشبهًا بالمعتمين. وقد يتفق أن يتقدم بحالته من غير عمامة، فيراه متعصب فيقع فيه، ويأكل لحم أخيه. أو يحوقل ويسترجع. وقد يكون قحا لا يميز بين صحيح الحديث وموضعه ويكون طرق سمعه من بعض الحشوية أحاديث العمامة في الصلاة وفضلها والثواب عليها فيأخذ في إيرادها ليحتج بها على قحته غافلًا عن أنه لم يصح في ذلك حديث أصلًا وأن ما روي في ذلك فكله موضوع لا يحتج بمثله في الأصول والفروع. كما بينه السخاوي في المقاصد وغيره1. إذا علمت ذلك تبين لك أن من الجهل إلزام أحد بعمامة في الصلاة أو التزامها وتكلف التعمم وأن الأزياء لا دخل لها في العبادات أصلًا ولا حاجة بنا إلى الإسهاب في تأييد هذا المقام فإنه من البديهيات الأوليات لكل من فهم حقيقة الدين نعم لا بأس أن نورد ها هنا لمتعصب ما يحجه من مشربه وإن كان المقلد لا يفيده الدليل كما قال ابن سهل "فما أضيع البرهان عند المقلد" فنقول روى الروياني وابن عساكر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يلبس القلانس تحت العمائم وبغير العمائم ويلبس العمائم بغير القلانس وكان ربما نزع قلنسوته فجعلها سترة بين يديه وهو يصلي"2

_ 1 انظر بعض هذه الأحاديث في كتابنا "سلسلة الأحاديث الضعيفة" "رقم127 و129 وج5: 28" "ناصر الدين". 2 قلت: سنده ضعيف كما في "الدعامة" "ص36".

وكذا يقال فيمن ليس له جبة أو لا يتزيا بها فترى بعض العامة يأمر من يخلع جبته لتعطى لمن أراد أن يؤم قومًا بلا جبة أو يأمر قومًا بلا جبة أو يأمر بنزع زنارة من وسطه ليشبه ثوبه الجبة كأنها مما لا بد منه حقيقة أو صورة وكل هذا من عدم الفقه في الدين. وقد عقد البخاري في أوائل كتاب الصلاة بابًا للصلاة في الثواب الواحد أسند فيه عن عمر بن أبي سلمة أنه رأى النبي. يصلي في ثوب واحد، وأسند أيضًا عن أبي هريرة أن سائلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في ثوب واحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو لكلكم ثوبان" وقد استحب صاحب "التجنيس" من الحنفية عليهم الرحمة والرضوان أن يصلي المرء مكشوف الرأس للتذلل والتضرع. ويرحم الله الملك الأمجد لقوله: له نظرات كرر الحقد شزرها ... لما ضمنته نفسه من سخائم فما الفضل في أهل الشرابيش سبة ... ولا العلم مخصوصًا بأهل العمائم والآخر القائل: وإني لأربا بالعمائم أن ترى ... على أرؤس أولى بهن المقانع1 17- واجبات بواب المسجد والمدرسة وبيان ضرر غلق أبوابهما: قال التاج السبكي في معيد النعم: من حقه المبيت بقرب الباب بحيث يسمع من يطرقه عليه والفتح لساكن في المكان أو قاصد مقصدًا دينيًّا من صلاة أو اشتغال أي وقت جاء من أوقات الليل. وما يفعله بعض البوابين من غلق الباب في وقت معلوم من الليل إما بعد العشاء الآخرة أو في وقت آخر بحيث إذا جاء أحد السكان أو المريدين للصلاة لا يفتح له غير جائز إلا أن تكون مدرسة شرط

_ 1 جمع مقنع بالكسر كمقنعة: ما تقنع به المرأة رأسها. والقناع بالكسر أوسع منه. ا. هـ قاموس.

واقفها أن لا يفتح بابها إلا في وقت معلوم. وفي صحة مثل هذا الشرط نظر واحتمال: أما لو شرطه في مسجد أو جامع فواضح أنه لا يصح. هذا كلام السبكي بحروفه، وانظر كلامه الرهيب رحمة الله على من يفعل من البوابين ليلا ما ذكره وتأمل ما يفعل في بعض المدارس الآن من غلقها نهارًا مع الحاجة الزائدة إلى مائها واخليتها فبعضها يفتح بابها وقت الصلاة فقط إذا كانت تقام بها الجماعة وما لا تقام بها تغلق أبوابها في أغلب الأوقات طول النهار فترى من يقصدها من المارة لوضوء أو قضاء حاجة في بيوت أخليتها أو لغير ذلك يأوب بخيبة وبعض قاطنيها إما نائم أو متوسد لا يبالي أو في عشرة وشراب الشاي أو لا يوجد فيها أحد. ومن خطأ بعض المتصولحين القاطنين في بعض المدارس المطروقة أن لا يفتحوها إلا وقت الصلاة، وقد سئلوا عن غلقها في النهار فأجابوا حتى لا يدخل إلى أخليتها بعض الكفرة المجاورين. فانظر إلى هذا الاستنباط العجيب وتأمل هذا الفقه الغريب فإنا لله. أفلا يعجب المرء لكرم من أوقف من السلف، واحتكار وبخل من قطن من الخلف. أو لا يعلمون أن أهل الذمة لهم ما لنا وعليهم ما علينا1. أو لا يدرون "إن كل معروف صدقة". أو لا يسمعون حديث البغيّة التي غفر لها بسقي كلب وإغاثته2. فما بالك برحمة إنسان ورد لهفته. ما عهد في عصر ما إن تمنع بيوت الأخلية من وارديها على طبقاتهم ومللهم ونحلهم. إذا ضن هذا المتصولح ببيت خلاء ما بناه ولا أشاده وسيطر عليه كيف يرجى منه سخاء أو معروف أو نجده لسواه. أفٍّ لهذا التصولح الذي الجهل بعقل خير منه، ويرضى الله

_ 1 قلت: لم يرد هذا الإطلاق في السنة، وإن كان ذكر في بعض كتب الفقه أن قوله: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" حديث مرفوع، قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل الذمة وشاع هذا في العصر الحاضر بين الكتاب والمحاضرين، وليس له أصل في كتب الحديث، بل فيها ما ينافيه وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال هذه الكلمة: "لهم ما لنا ... " فيمن أسلم من أهل الكتاب! وراجع "الضعيفة" "2175". 2 انظره في "الصحيحة" "30". "ناصر الدين".

عن الإمام علي حيث يقول: "قصم ظهري اثنان: عالم متهتك وجاهل متنسك" فإنا لله والمستعان بالله. والقصد أن غلق أبواب المساجد والمدارس في النهار لا يجوز إجماعًا إلا لضرورة. والضرورة تقدر بقدرها. وأما في الليل فيجوز إغلاقها إذا كان فيها ما يخشى عليه من سارق. ويجب على بوابها أن يبيت خلف بابها لأنه قدّر له مرتبه لذلك "وكل مرتب من جهة الوقف لأمر فلا يحل تناوله إلا برعاية وذلك الأمر وأدائه والقيام به" وإلا فتناوله سحت وآكله إنما يأكل في بطنه نارا. وكم جر تساهل البوابين على المساجد والمدارس والجيران من السرقان ما لا يحصى: فكم سجادة سرقت من مسجد ومدرسة، وكم حجرة نهبت وكم من حائط نقب منها وتوصل منه إلى دكان تاجر فسرق ما فيها. ولو كان لبواب المسجد وهو خادمه عين لا تنام كالحارس لما وقع شيء من ذلك، فوا أسفاه على شروط الواقفين الضائعة وعلى التهام أموال الوقف بأنفس طامعة ضارة غير نافعة. 18- تخلف الكثيرين من الجماعات ولهوهم عنها: كان يقول بعض اللطفاء "وجود الفقراء والبؤساء من النعم الكبرى لإقامة شعائر الدين إذ لو كان الناس طبقة واحدة في الثروة والجاه لما رأيت للاحتفالات الدينية شعارًا إلا نادرًا" وقصده التأسف على تخلف كثير من الأعيان والأكابر والأمراء عن إقامة الجماعات في الصلوات الخمس. والحق له. وذلك لأن القائم بالشعار الديني في المساجد في الحقيقة هم الفقراء والمتوسطون من التجار وأرباب الحرف، وأما الأكابر فلا يحضرون المساجد إلا في الجمعة والعيدين ونادرًا في غيرهما نعم يأتون المساجد ليالي المآتم لتعزية وجيه، فالبصير بحالة الاحتفالات في العبادات والمعتبر بالقائلين بها يأسف أن لا يرى للأعيان

يذكر. نعم لا ننكر أن الأمراء والموظفين قد يشغلون عن الحضور في أوقات الجماعات بما لديهم أداء الوظائف1 ولكن القصد أن يدعموا رابطة الاحتفال بهذه العبادة ولو في بعض أيام الأسبوع أو في الأوقات التي يفرغون بها من أشغالهم كالعشاء. أما الصبح فهذا من المأيوس حضور الأكابر فيها بأجمعهم وكذا حضور أغلب وأكثر المتوسطين إذ لا يقام شعارها إلا في الشتاء لطول الليل وتألم الجنب من الاضطجاع. والغالب في مقيمها البؤساء جدًّا. نعم قد يحضرها بعض الموفقين من التجار، وهم لا يتجاوزون عدد الأنامل. ووصول الحال إلى هذا الإهمال يرثى له، فإن حق الشعائر الدينية أن تقوم بها الأمة على طبقاتها سيما وشكر المنعم جل شأنه على الأكابر وجوبه مضاعف لما غمرهم به سبحانه من فضله وزرقه وإحسانه وأمدهم به من جميل أفضاله. ومعلوم أن إيتاء هذه النعم ابتلاء منه تعالى واختبار لمقدار قيامهم بالشكر كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وقال تعالى: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَه} فالأجدر بهؤلاء المترفين أن يكونوا في طليعة المتعبدين. حذرًا من أن يصدق عليهم الطغيان بالغنى فيكونوا ممن نزل فيهم {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} والعاقل يحذر العواقب ويخشى مولاه حذرًا من ضياع عقباه ويكون ممن نزل فيهم: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} ولا يتوهم أنا نقول بوجوب الجماعة في سائر الصلوات وإن قاله به بعض الأئمة فإن الحرج مرفوع من هذه الأمة في العبادات والمعاملات2. ولكن ما انتفت الأعذار فيلزم لأداء الصلوات في

_ 1 قلت: وهل يمكن أن نعتبر ذلك عذرًا لهم، وهم يسمعون منادي الله ينادي: "حي على الصلاة ... حي على الفلاح" مع العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذر الأعمى، بل أوجب عليه أن يجيب الداعي ما دام أنه يسمع النداء؟! "ناصر الدين". 2 قلت: الأدلة ترجح قول من أوجب الجماعة من الأئمة، وقد أشرت إلى بعضها آنفًا، ولا ينافي هذا أن الحرج مرفوع؛ لأن البحث هل الأصل الوجوب أم لا، فإذا اخترنا الوجوب وجب العمل به، إلا للحرج العارض، وهذا ظاهر إن شاء الله تعالى. "ناصر الدين".

الجماعة في أوقاتها البدار إحياء للهدي النبوي وسنة الخلفاء الراشدين وتدعيما لشعائر الدين. 19- احتكار الكتب الموقوفة في بعض المساجد: يوجد في بعض المساجد الكبيرة كتب موقوفة على طلبة العلم مشروط نظر القيام عليها إلى إمامة أو مدرسه فتراه مقفلًا عليها في خزانة الكتب أو في حجرة الجامع ولا أحد يدري بها وإن درى فلا يكون من السهل الوصول إلى استعارتها وإذا سمح بإعارتها لأهلها فتراه يخرج الكتاب بتأفف وتضجر ويتبع المستعير بصره وقد يموت الناظر عليها ويرث مفتاح الخزانة أو الحجرة طفل له أو جاهل وهناك لا من مفتش ولا سائل فترى الكتب تموت تلفًا ويأكلها العث مما يأسف له كل عاقل. أعرف من هذا الشيء خزانة في جامع لا يدري أحد ما فيها من الموقوفات إلا ناظرها ولا يجسر أحد أن يسأله عما ضمته لكبر سنه وشحه، وأعرف حجرة في أحد الجوامع الكبيرة ملأى من الكتب الموقوفة ما كان يعرفها أحد من العلماء في حياة ناظرها إلا أولاد الواقف وبعد موته ورثها من أولاده صغار في العلم والسن فوا أسفاه على عدم تفقدها وتعريضها للهواء "على الأقل" وعندي أن الذي يريد وقف كتب في هذه الأزمنة عليه أن يجعل مقرها عند عالم نبيه مجدّ في العالم ساهر عليه يعلم قدر الكتب ومبلغ حاجة أهل النباهة إلى كتبه ثم من بعده فعلى المكتبة العمومية في البلد كمكتبة المدرسة الظاهرية بدمشق مثلا ليعم النفع بها من بعده ويصل إليها كل مستفيد، بل أعرف من الكتب الموقوفة في بعض البيوت القديمة ما يهم الوقوف عليها لو أمكن الوصول إليها، وأنى بالوصول ومناط الثريا دونه، لوجوه لا تخفى، وفي الإشارة ما يغني عن الكلم.

20- الإيصاء بالمصاحف والربعات والسجادات في مساجد لا تحتاج إليها: "من أمارات طمس البصيرة جهل مصرف المال وحسبان كل أمر في محله" أكثر الأغنياء لا يصرف بعقل ولا يبذل بعقل وكذا أكثر الوصايا يرى العاقل أمورًا جديرة بالإيصاء بها وهي مفقودة من الوصية وأمورًا لا ينبغي الوصية بها أو من السفه وتقليد الآباء ذكرها وهي مثبتة في صدر الوصية، أتعجب من ذكر ذلك وايم الحق لفن الإيصاء فن يجب دراسته على كل عالم كامل وحكيم خبير، أتدري ما السبب؟ السبب أن المال عزيز على الأنفس لا يوصل إليه إلا بشقها وقد حرّم تبذيره كما حرم أكله أفليس من الأسف صرفه في غير مصرفه وقد ركب في جمعه صاحبه كل صعب وذلول، ويزعم أنه مؤمن بالله والرسول، وا أسفاه على مال جمع كذلك أن يبذل في سبيل لا يحمد فاعله عليه، ولكن ما العمل والوراثة الآبائية مستحكمة فينا استحكام المكروبات في صاحب الدق. أذكر من ذلك أن كثيرًا من المياسير يوصي بمصاحف عدة أو بمصحف أو بربعة أو بسجادة إلى جامع غني عنها من الإيصاء الذاهب سدى، فإن الجوامع الآن امتلأت بالمصاحف المخطوطة والمطبوعات والربعات ولا من قارئ إلا ما ندر كرمضان وساعات من بعض الأيام يقرأ فيها في المصاحف من عشر الموجود فيها ترى مع هذا الحال من يوصي بها إلى الجوامع وكذلك السجادات، وقد رأيت في بعض الجوامع سجادة حضرت من وصية والجامع غني عنها فخيطت فوق سجادة وكل ذلك من جهل الموصي والكاتب إذ يرغبون في كتابة وصية كيفما اتفق، وكثيرًا ما يكتبها جاهل يمشي مع رأي الموصي حذو النعل بالنعل

ولو استشير عالم حكيم لأشار بالنافع والصالح في توزيع هذا المال على السبيل ولكن لا يستشار ولو استشير فلا تقبل إشارته. قال لي مرة بعض جيراني أريد أن أوصي بسجادة إلى الجامع الفلاني والجامع غير محتاج إليها فقلت تفقد جامعًا فقيرًا من جوامع أطراف البلدة فقال لي: "تلك الجوامع قليل مصلوها وأريد جامعًا إذا بسطت فيه كثر عليها المصلون فيعظم الثواب" تأمل هذا الفقه وهذا الاستنباط. وقد علمت من أحوالهم أنهم لا يبتغون وجه الله وإنما يقصدون الرياء والسمعة لأن الجوامع الكبيرة كثير طارقوها فإذا هلك وحضرت سجادته سيما في وقت اجتماع الناس وتحلقوا عليها وتساءلوا عن القادمين بها وقيل هذه سجادة من وصية فلان فهناك اللذة الكبرى على زعمه والشهرة العظمى، لذة الرياء والشهرة يحرص عليها ولو جيف وصارت عظامه نخرة. فإنا لله، ألهمنا المولى رشدنا ووفقنا لتعلم العلم والفقه في الدين. 21- غرس الأشجار في المساجد: جاء في حواشي الدر أن العلامة ابن أمير حاج الحنفي ألف رسالة رد فيها على من جوز غرس الشجر في المسجد قال لأن فيه شغل ما أعد للصلاة ونحوها، وإن كان المسجد واسعًا أو كان في الغرس نفع بثمرته، والإلزم إيجار قطعة منه ولا يجوز إبقاؤه أيضًا لقوله عليه الصلاة والسلام: "ليس لعرق ظالم حق" 1 لأن الظلم وضع الشيء في غير محله وهذا كذلك. ا. هـ. ووافقه على ذلك المحقق ابن أبي شريف الشافعي وفي الإقناع وشرحه من كتب الحنابلة: يحرم غرس شجر في مسجد لأن منفعته مستحقة للصلاة فتعطيلها عدوان فإن فعل قلعت الشجرة فإن لم تقلع فثمرها لمساكين المسجد وغيرهم. ا. هـ.

_ 1 حديث صحيح، وهو مخرج في "الإرواء" "1518".

22- إملال القراء بإطالة القراءة وكذا غيرهم: من القواعد المقررة في كثير من أبواب الفقه في العبادات التخفيف في أدائها في صور شتى كتخفيف إمام مسجد جامع يؤم قومًا غير محصورين، وتخفيف المصلي إذا كان ثمة من ينتظره أو جالس إليه، تخفيف الإمام إذا سمع الصبي يبكي وأمه تصلي معه، وتخفيف الخطبة، مما هو معروف في السنة. والقصد أداء العبادة بنشاط وحضور قلب وشوق وذلك لا يكون إلا مع التخفيف والاعتدال فأما تنفير القلوب بالتطويل الممل فذاك مما يأباه العقل والشرع، وما أطيل ذيل أمر ما إلا استنكرته الطباع ونفرت منه النفوس. جبلة جبلت على ذلك وفطرة خلقت عليها "لا تبديل لخلق الله". إذا علمت ذلك تبين لك أن ما اعتاده كثير من القراء في الدروس أو في رمضان أو بعد الصلوات من إطالة الإعشار إطالة تنفر قلوب السامعين أمر يأباه الشرع والذوق وقد يوقع في محظور عظيم ويجر إلى كبيرة عظمى كأن يكره استماع الآي وحضور مجالسها والسبب في هذا الإثم جهل القارئ بالأدب المطلوب في حقه، ولذا جاء في الحديث لما نمى إلى النبي صلى الله عليه وسلم من يطيل في القراءة في الصلاة "إن منكم منفرين" 1 أي والقصد هو جذب القلوب وتشويقها إلى الخير واستماع الحكم لا تنفيرها، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا وبشروا لا تنفروا" 2. هذا الباب كما يدخل فيها ما ذكر من إملال القلوب في إطالة الحصة بآيات القرآن يدخل فيه إطالة الدروس والخطب والصلاة وكل ما ينتفع به العامة ويخشى من إملاهم تنفيرهم وانصراف قلوبهم. ومعلوم أن القلوب متى سئمت عملًا ذهب حضورها وخشوعها وهو الثمرة المقصودة منه. ذكرت مرة لبعض وجهاء المغاربة من إخواننا ما يعتاده المغاربة بعد وفاة

_ 1 حديث صحيح، مخرج في "الإرواء" "295". 2 صحيح، مخرج في "الصحيحة" "1151".

ميتهم من إحياء ليال ثلاث بقراءة القرآن إلى مطلع الفجر مما يضر بالقراء وأهل الميت والأصدقاء إذ القراء لا بد أن يسأموا ويملوا ويذهب روح عملهم بذهاب نشاطهم، ولا يخلو أحد منهم من عاجز ومن يصعب عليه إحياء الليل بتمامه وطول هذا السهر فيكون جلب المضرة له لا يكفي بما يُعطى من الأجرة التي يبلغ بها قوته الضروري، وكذا يشق على أهل الميت انتظار فراغ القراء إلى أن يقدموا لهم الطعام آخر الليل وطبخه فيه، وكذا الأصدقاء والأقارب فقد يخجل أحدهم من الذهاب ويضطر إلى المكث ويتحمل من الآلام ما لا تطاق؛ وليس هذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا السلف فإن لم يمكن استئصال هذه البدعة بتمامها فلا أقل من التخفيف فيها. وكذا يقال فيما اعتاده أغنياء الشام من إحياء ليلة دفن ميتهم بالقراء في المقبرة إلى الفجر وقد تكون الليالي شاتية والرياح عاصفة فيضطرون للخروج من هذا الفرض إلى إخراج مواقد نار وأدوات شاي وقهوة وسد أطراف الخباء المنصوب على القبر ويقاسي هؤلاء القراء من العناء ما الله به عليهم. أفهكذا تكون الصدقات والقربات وأعمال الخير. من أين جاءهم هذا؟ جاءهم من الجهل الكبير وعدم الرجوع إلى رأي عالم نحرير وفقدان التفقه في الدين. ترى أموالا طائلة تذهب من الأغنياء في مآتمهم بمثل هذا الحال وترى لهم من البخل في مواقع الإنفاق التي يرضاها الله ورسوله ما لا يوصف. فإنا لله. فلينتبه العقلاء وليراجعوا أنفسهم ليتوبوا إلى الله وليقلعوا عما أوقعهم في خسران الدنيا والآخرة. 23- تفريق أجزاء القرآن والقارئ يقرأ: كانت العادة في دمشق أن يعزّى أهل الميت في مسجد محلته الكبير ثلاثة أيام صباحًا يتوافد عليه من يعزيهم من بعد الفجر إلى أن تطلع الشمس وترتفع ولذلك يسمى الاجتماع المذكور "صباحية". وكان يحصل من ذلك حجب

الناس عن صلاة الصبح وهم الذين يأتون إلى المسجد لأدائها بعد جماعتها الأولى فإذا دخل أحد يخجل ويدهش لها الجمع فإما أن يصلي في زاوية المسجد على استحياء وإما أن يرجع إلى إيوانه وقد يكون الوقت شاتيًا والبرد قارسًا. عادة استمرت قرونًا لا تحصى إلى أن ارتأى من نحو عشر سنين أحد الأكابر الاجتماع بعد العشاء ففعل في أحد المساجد وقلده سائر الناس في الشام فالآن لا يجتمع للتعزية إلا بعد العشاء ثلاث ليال فارتفع بها ضرر حجب المصلين إلا أنه بقي من المحظورات في هذا الاجتماع شيء وهو أنه جرت العادة أن يؤتى بقارئ أو قراء يقرءون أعشار كل واحد بعد الآخر وفي الخلال يقوم خادم المسجد فيفرق أجزاء القرآن الحاضرين فيقرأ كثير منهم، وكان نهاهم أحد الشيوخ عن الجمع بين الشيئين وقال لهم إما أن تفرقوا الأجزاء وتأمروا القارئ يقرأ سرًّا أو تأذنوا للقارئ فيقرأ جهرًا ولا تفرقوا الأجزاء، وذلك لما يحصل في التشويش على القارئين برفع صوت القارئ. إلا أن هذه العادة أيضًا تركت في كثير من الجوامع الشهيرة وذلك بإحضار قارئ يقرأ حزبًا طويلًا أو سورة من المفصل والناس يستمعون إلا من لا فقه له ممن يتكلم والقارئ يقرأ نعوذ بالله وفي بعض الجوامع العادة الأولى موجودة فينبغي التنبه لإصلاحها. وكان كثير من الحفظة بعد ختمهم أعشارهم يهللون وينشدون ويحصل في المسجد ضجة كبرى فاقتصر الآن على قراءة عشر يختم بعده قارئه بالدعاء وفيها تخفيف من بدعة الضجة الشنيعة. نعم لم تزل الضجة بعد العشر في الجامعين الكبيرين بدمشق بسبب اجتماع المؤذنين في السدة واشتغالهم بالإنشاد لقصائد معروفة لهم ويا حبذا لو أمكن إبطال هذه الضجات والصيحات بل إبطال هذه المجامع للتعزية المسماة بالصباحيات لأنها من البدع والمنكرات.

24- غضب الملازمين لوراء الإمام على من يزاحمهم: في أغلب المساجد الكبيرة جماعة يلازمون منها ما وراء الإمام من قبالة المحراب فيأتون للمسجد قبل الصلاة ويأخذون مصافهم وأمكنتهم المعينة؛ لأن كل واحد منهم له مكان من تلك البقعة معين لا يحيد عنه غالبًا فقد يتفق أن يأتي من الناس من يظن وجود فرجة هناك أو يأمل أن يفسح له فإن كان الآتي من ذوي الوجاهة في علم أو منصب اغتفر له وإن كان من طبقة غيرهما فمنهم من يلصق في مكانه ولا يتفسح وإن كان المكان قابلًا للتفسح، ومنهم من إذا أحس بقدومه يتربع ليأخذ قدر الفراغ المظنون ويضيق عليه فإذا اقيمت الصلاة ودخل أحد فإن كان المكان فيه اتساع بعد الإقامة تسامحوا في هجومه وإن لم يكن فيه اتساع كاف إلا أنه يمكن لهم أن يتفسحوا فهناك لا تسل عن غرائبهم فمنهم من يترك مكانه ويذهب للصف الثاني حردًا وقد ملئ غيظًا وغصبا ومنهم من يشير له بالرجوع ويقول ما ثم مكان ومنهم من يلغط ويتأفف ويحوقل ويخاصم همسًا وقد يكمل لغطه بعد الصلاة إذ يكون قدر في نفسه وهو في الصلاة ما يقرعه به ويوبخه على فعله، وقد يتفق أن يأتي أحد يلازم معهم جديدًا فقد يسبق أحدهم إلى مكانه ويجلس فيه فإذا قدم هذا الملازم القديم ورأى مكانه أخذ فتراه يحرد إلى آخر الصف ويلحظ مكانه بطرف خفي متأسفًا ومتغيظًا على هذا الذي اغتصب مكانه وقد لا يسعه الصبر فتراه يجاهر ويقول له "يا أخي لسنا أولاد البارحة واليوم في هذا الجامع نحن من أربعين سنة نصلي في هذا المكان فأين الذوق" فتأمل ما يأتي به هؤلاء الجهلة وتأمل عبادتهم المحشوة رياء وعجبًا وكبرًا وهل مثل هؤلاء للخشية في قلوبهم أثر أو لثمرة الصلاة فيهم وجود؟ كلا فما أحوجهم إلى مرب ومؤدب والمستعان بالله. وقد سبق لنا في بحث الإيطان في المسجد ما يقرب من هذا البحث وفي التكرير إيضاح وتأكيد.

25- ازدحام المتفرجين على المحمل في بعض المساجد: من المعروف احتفال الحكومة بمحمل الحج ذهابًا من الشام وإيابًا من الحجاز في موكب تدعى له الأمراء وأرباب الرتب وتتقاطر للتفرج على هذا الموكب عدا عن أهل الشام من لا يحصى من أهالي القرى بل والبلدان النائية عنها كحما وبيروت سيما في هذه الأيام التي قربت فيها المسافة بين الشام وغيرها بواسطة الوابور، ثم إن الطريق لمسير هذا الموكب هو من سراي العسكرية إلى قرية القدم قرب قبة العالي فتصطف الناس على جنبات هذا الطريق في دكاكينه وطرقاته وسطوحه وقهاويه وبيوته التي على الطريق في غرفها العليا والسفلى، وممن يناله حظ من ازدحام الناس فيه لانتظار ممر الموكب المساجد التي على هذا الطريق الطويل العريض وناهيك ما فيه من مساجد وجوامع وخانقاهات فترى النساء والأولاد والرجال يأتون تلك المعابد وينتشرون على أبوابها وفي صحنها وعلى شبابيكها وربما أتوا من بعد صلاة الفجر الأولى احتكارًا للجلوس في موضع من شباكه يطل على الموكب والمارة، ولا تسل عن ارتفاع الأصوات وكثرة الضجيج من الأطفال والبنات وطرح فضلات الطعام أو الفاكهة أو قشر ما يؤكل في جوانبه واختلاط الرجال بالنساء على الأبواب والشبابيك سيما إذا هجم المحمل فهناك الازدحام الأكبر وكثير من قوام المسجد كأئمته وخطبائه أو خدمته يأتون بأهاليهم إليه نساء وأطفالًا نذكر هذا الحال لمحذوره في المساجد التي هي موضوع كتابنا والمحذور فيه ما ذكرناه. ورأيي في ذلك أن تغلق أبواب المسجد الذي على طريق الموكب من بعد الشمس إلى انفضاض هذا الجمع وبه تندفع هذه المحذورات وما عداها مما يكون أكبر منها. والمطالب بذلك ناظر المسجد والمسيطر عليه لأن كل ما يعود إلى المساجد بالضرر والأذى فإثمه محمول على ذي النفوذ الحقيقي فيه. وقد بلغني أن جامع المصليّ في طريق الميدان يغلق أيام الفُرج فشكرت

قوّامه على ذلك وودت أن تتأسى به بقية الجوامع. لا أذكر هنا ما حكاه الباجوري في حواشيه على شرح الغاية عن الشافعية من تحريم التفريج على المحمل أو كسوة مقام إبراهيم ثم نقله عن البلقيني جوازه لأن مثل هذا مبني على قاعدة لهم أن ما حرم استعماله لا يجوز النظر إليه لئلا يكون كالإقرار عليه، وزعم البلقيني أن هذا صار من شعار الإسلام فلا يتناوله حكم التحريم. ولا يخفى أن التحريم لشيء إنما منشؤه ما يتكون عنه من المحذورات ولو في تربيته لملكة فاسدة أو تنميته لبذور الفساد في النفس أو الغير. وبنسبة قوة ذلك وضعفه يتنزل حكم التحريم أو الكراهة. فليتخذ المرء هذا قاعدة ولينظر. وقد قال ابن تيمية رحمه الله إذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء هل هو الإباحة أو التحريم فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته فإن كان مشتملًا على مفسدة راجحة ظاهرة فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته بل يقطع أن الشارع يحرمه لا سيما إذا كان طريقه مفضيًا إلى ما يبغضه الله ورسوله. 26- بسط بعض المصلين سجادته فوق سجادات المسجد: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عمن يبسط سجادة في الجامع ويصلي عليها هل ما فعلة بدعة أم لا. فأجاب بأن الصلاة على السجادة بحيث يتحرى المصلى ذلك فلم تكن هذه سنة السلف من المهاجرين والأنصار ومن بعدهم من التابعين لهم بإحسان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كانوا يصلون في مسجده على الأرض وفي شدة الحر يبسط أحدهم ثوبه فيسجد عليه. وكان عليه الصلاة والسلام يصلي على الحمرة1 وهي نسج ينسج من خوص

_ 1 حديث صحيح، مخرج في "صحيح أبي داود" "663"، وأخرجه ابن خزيمة أيضًا "1: 110: 2" وابن حبان "354-356".

ولا نزاع بين أهل العلم في جواز الصلاة والسجود على المفارش إذا كانت من جنس الأرض كالخمرة والحصير، وإنما تنازعوا في كراهة ذلك على ما ليس من جنس الأرض كالأنطاع المبسوطة من جلود الأنعام وكالبسط والزرابي المصنوعة من الصوف. وأكثر أهل العلم يرخصون في ذلك أيضًا، وهو مذهب أهل الحديث كالشافعي وأحمد، ومذهب أهل الكوفة كأبي حنيفة وغيرهم. وهؤلاء الذين يفترشون السجادة على مصليات المسلمين من الحصر والبسط يزدادون بدعة على بدعتهم وقد يكون أحدهم له غلو الوسوسة فيرتاب في طهارة مفروشات المسجد لوطء الأقدام أو زرق الطيور مع أنه علم بالتواتر أن المسجد الحرام ما زال يطأ عليه المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه وهناك من الحمام ما ليس بغيره ويمر بالمطاف من الخلق ما لا يمر بمسجد من المساجد ثم إنه لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه وأصحابه متفقين على ترك المستحب الأفضل ويكون هؤلاء أطوع لله وأحسن عملًا من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإن هذا خلاف ما ثبت في الكتاب والسنة والإجماع، وقد يجعلون ذلك من شعائر أهل الدين فيعدون ترك ذلك من قلة الدين ومن قلة الاعتناء بأمر الصلاة فيجعلون ما ابتدعوه من الهدي الذي ما أنزل الله به من سلطان أكمل من هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وربما تظاهر أحدهم بوضع السجادة على منكبه وإظهار المسابح في يده وجعله من شعار الدين والصلاة، وقد علم بالنقل المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكن هذا شعارهم، وكانوا يسبحون ويعقدون على أصابعهم وربما عقد أحدهم التسبيح بحصى أو نوى1 والتسبيح بالمسابح من الناس من كرهه ومنهم من رخص فيه لكن لم يقل أحد أن التسبيح به أفضل من التسبيح بالأصابع وغيرها وإذا كان هذا مستحبًّا فقصد إظهار ذلك

_ 1 لم يثبت ذلك على أحد من الصحابة. راجع ردنا على "التعقب الحثيث". "ناصر الدين".

والتميز به عن الناس مذموم فإنه إن لم يكن رياء فهو تشبه بأهل الرياء إذ كثير ممن يصنع هذا يظهر منه رياء ولو كان الرياء بأمر مشروع لكانت أحدى المصيبتين لكنه رياء ليس مشروعًا وقد قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه: "أخلصه وأصوبه" "والفتوى طويلة مهمة فلتراجع". 27- تغير ماء البحيرات أيام انقطاع الماء: العادة في دمشق في أواخر الشتاء أن تقطع مياه أنهارها أسبوعًا أو أكثر وذلك لزعم أرباب الفلاحة أن المياه في شباط تضر المزروعات فيقطع ورودها على الحقول وتترك على نهر بردى وكثير من هذه الأنهار تسقى دورًا ومساجد وحمامات بد من تصل إليها فإذا سكر النهر من مبدئه انقطعت المياه عن المساجد فقد يبقى في بحراتها الكبيرة ماء فيتركه خدمة المسجد بزعم الحاجة إليه لوضوء المصلين فلا يلبث هذا الماء أن يظهر التغير فيه ما دام موجودًا وذلك لأن أغلب الجوامع الشهيرة يردها من المصلين من لا يحصى وكلهم يرجعون غسالة أيديهم وأرجلهم وأفواههم إلى ماء البحرة فلا تسل عن حالة الماء في قذارته وكراهة الأنفس السليمة له كراهة لا توصف، ومعلوم أن مثل هذا مما لم يأمر الشرع به فإن الماء لم يوصف بالطهور الذي هو صيغة مبالغة في الطهارة التي هي النظافة المضاعفة إلا لنستعمله كذلك فإذا فقدت الطهارة المذكورة فأنى تكلف الأنفس خلاف فطرتها. ومعلوم أن كثيرًا من الائمة ذهب إلى أن الماء المتغير لونه بصبغ يسلب طهوريته فكيف المتغير بأوساخ الأرجل والأيدي والأفواه التي تعاف النفس رؤيته كذلك فضلًا عن إعادته للفم بمضمضته أو غسل الوجه به وهو غسالة الأقدام. ودعوى فقيه أنه لم يتغير لونه دعوى من لم يفهم سر التشريع فإن مثل هذا

الماء تغير جوهره تغيرًا يحظر الأطباء استعماله وذلك لأن مسألة الجراثيم والميكروبات التي مقيلها الأفواه أصبحت من الضروريات التي إنكارها كإنكار الشمس طالعة، فالواجب على خدمة المساجد متى انقطع ماء بحراتها أن يغوروها أو أن نظار المساجد يجعلون للبحرة غطاء ويعمرون لها أنابيب مثل بحرة بيت المقدس فهناك لا بأس من أن تستعمل، بل هكذا ينبغي ولو كان الماء جاريا إذ نرى الماء مع جريانه إذا كثرت عليه الأيدي يعوم على وجهه من آثار النخاعات ووسخ الأرجل ما يظهر لكل ناظر. 28- تحجير بعض السقايات المسبلة بشباك حديد: اللهم إنا نعوذ بك أن نكون من الجاهلين. رحماك اللهم مما يفعل الجهل بأهله وما يؤثر عمى البصيرة في ذويه وما يجلبه استبداد الجاهل من الآفات لا يستطيع القلم وصفه ولا اللسان التعبير عن بعضه يكاد يندهش العقل ويتفطر القلب من أعمال يستبد بها الجهلة مما لا ينطبق على عقل ولا ذوق. يعلم كل أحد ما لحسنات السلف الأقدمين من شق الأنهار وحفر الآبار وإجراء القنايات وتسبيل السقايات في كل صقع وقطر سيما في دمشق فإن سقاياتها العامة في شوارعها وحاراتها وعلى أبواب مساجدها لا يأخذها الحصر. هذه السقايات "وهي البحرات في لغة العامة" سَبّلها من سَبّلها ليعم نفعها وترتفق بها المارة على طبقاتهم من حيوان وإنسان ارتفاقا لا تحجير فيه ولا تضييق على قاصديه ولم يزل أمرها جميعها على هذا السبيل الحميد حتى أخذ بعض الجاهلين الحمقى الآن يحجرون بعض هذه البحرات تحجيرًا غريبًا اتبعوا وسوسة الشيطان وذلك أن بعض الناس تفكر في أن بعض هذه البحرات في الشوارع قد تدنسها جيرانها القذرة مهنهم كلحام وسمان وحمصاني وذلك بغسل أوانيهم داخلها مما يكدر ماءها فآل به التفكر إلى أن تآمر مع جيرانه في التعاون على وضع شباك حديدي

على هذا السبيل وفتح طاقة منه مقدار ما تسع يد المغترف ففعلوا ملبين هذا المشروع وقد لزم من هذا المحظور حرمان الدواب التي تمر ظمأى وكانت ترد هذا السبيل فتشرب منه وهي المقصودة بالذات في الأغلب لكثرة طروق الدواب في الشوارع إذ لم يمكنها الشرب منه لحجز هذا الشباك الحديدي عنه ولزم أيضًا رفض الوقوف عليها إذا كان على حافتها فتعذر ذلك على المتوضئ، ولزم من ذلك تغيير صفة الواقف ومعاكسة رأيه في تعميمه النفع، ولزم أيضًا الشح بمال الغير المتصدق به والتعرض للوعيد الشديد فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم؛ رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل" الحديث. وروى ابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعًا: "ثلاثة لا يمنعن: الماء والكلاء والكلأ والنار" 1، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري "وإسناده صحيح" وثم مضار آخر وبه يعلم حرمة هذا التحجير حرمة لا خلاف فيها. وما الأعجب إلا سخاء الأنفس للتعاون على مثل هذا الضرر وبخلهم في الضروريات معلوم. وما ذاك إلا لطمس البصائر. نعم لا ننكر أن تقذير الماء لا يجوز وغسل الأواني والأيدي القذرة فيه محظور طبًّا وشرعًا لما لا يؤمن من انتشار جراثيم مضرة دع عنك تقذير الماء الذي بمجرده يكفي لنفور النفس منه إلا أن حق الجيران أن ينهوا مقذر هذا السبيل أشد النهي ويأخذوا على يديه حتى إذا لم يجد فيه الوعظ ولا النهي فليرفع أمره إلى المحتسب ليضطره إلى ترك ذلك أو مبارحة هذا السوق كليا، وتأثير تعاضد الجيران في بلوغ الغاية أمر لا ينكر، بل لا نجاح إلا بالتعاضد والتعاون إذ التفرق والتخاذل آفة النجاح، وقد اتفق أن علم بعض الناس بأضرار شباك حديدي استحدث في بركة جانب مسجد فسعى في إزالته فأزيل وشكر العقلاء سعيه. ويقرب من هذا الشباك ما يفعله بعض الناس من تغيير حافة البحرات بقلع أحجارها المبسوطة المفروشة التي يتمكن من الوقوف عليها لمغترف أو متوضئ،

_ 1 حديث صحيح، مخرج في "الإرواء" "1550".

واستبدالها بأحجار مسنمة لا يوقف عليها مع التعويق عن بعض الارتفاقات منها. وقد ذكر مضرات ذلك لمن سنم حافة بحرة فتذكر وأعادها لبلاطها الأصلي المفروش وتاب من هذه الذلة وأناب. فليتنبه لهذه المنكرات وليسع الغيور في إزالتها. 29- اجتماع الفقراء لتقبل صدقة إسقاط الصلاة في المسجد: جرت العادة بدمشق إذا توفي أحد الأغنياء أن يجتمع الفقراء على باب داره اجتماعًا بنسبة ثروته فإن يكن من المشاهير في الثراء يتقاطر أولئك البؤساء أفواجًا أفواجًا وقصدهم ما تيسر لهم مما يوزع عن الميت فإذا هجموا وتجمعوا وضاق بهم أهل الميت ذرعًا فهنالك يندبون من أصدقائهم رجلًا جلدًا له قوة وصبر على معاناة صياحهم وإلحاحهم فيأمرهم غالبًا باتباعه إلى مسجد جوار دار المتوفى ويحشرهم فيه ويغلق بابه ويأتي بالشيخ الذي يدير عليهم صرة إسقاط الصلاة فكلما فرغ من شخص أعطاه الموكل على توزيع الصدقات سهمه وهكذا إلى أن يفرغ الكل. والكلام في هذه الحالة من وجوه: "أولها": أن جمعهم في المسجد يفضي إلى صياح وخصام مما ينبغي صون المسجد عنه وإن كانت الصدقة في المسجد جائزة إلا أنها إذا أفضت إلى الإخلال بحرمة المسجد فالأجدر بها أن توزع في غيره. "ثانيها": حالة هؤلاء الفقراء المسمين "بالكلاليب" في اجتماعهم وتوقحهم وفجورهم وبذاءة لسانهم وقلة حيائهم حالة من أفظع الحالات وأنكر المنكرات وتالله أن هجومهم وضوضاءهم لتنسي أهل الميت مصابهم وإن شئت فقل تضم إلى مصابهم مصابًا وتحشر إلى آلامهم آلاما وكأنهم يتقاضون غرامة أو حقًّا لازمًا أو دينًا حل أجله لما حلت بالميت أجله وكم فيهم من جلد وقوي البنية وشاب. نعم يوجد بينهم المستحق للصدقة ولكن شؤم

المجموع يعود على الجميع وقد يضطر أهل الميت في مثل آخر ثلاث من وفاته لكثرة عددهم على باب داره ومجيئهم من العصر أن يستأجر من جنود الحكومة وشرطها ثلاثة أو أكثر أو أقل ليقفوا على الباب لرد هجماتهم ودفع غاراتهم وما راء كمن سمعا ونوادرهم في ذلك معروفة الشاميين وحسبنا الله. "ثالثها": في مسألة إسقاط الصلاة بالكيفية المعروفة قال متأخروا فقهاء الحنفية إسقاط الصلاة وإن كان لا أصل له في كتاب ولا سنة فهو أمر احتياطي باستحسان المشايخ كما إذا تطوع به الوارث في الصوم قالوا والواجب فيها أن يعطى للفقير عن كل فرض نصف صاع أي أو قيمته. ا. هـ. أقول وحينئذ فيحسب مقدار ما فرط فيه من عمره من الصلوات احتياطًا ويخرج عن كل ما تركه إن كان من أهل الثروة والسماحة وإن لم يقدر على ذلك فليخرج عما يمكنه1، وأما الإيهاب مرارًا بين الولي أو وكيله والفقير فلا حاجة إليه ولا معنى فإن القصد إيتاء الفقراء ما تيسر من الحنطة أو الدراهم كفارة ولا يكلف المرء إلا مستطاعه فما لا يستطيعه لا يكلف أن يحتال عليه سيما في أمر غير منصوص عليه وأمره على رجاء، كما يحكى عن الإمام محمد أنه قال: تجزئه إن شاء فعلق القبول على المشيئة. وبالجملة فالذي أراه أن قياسها على الصوم لا يقل عن قياس كثير من الأمور التي قاس عليها الفقهاء فكما أن للصوم فدية فكذلك لا مانع أن يقدى ويكفر عن المتروك من الصلاة سيما وفي ذلك مواساة للفقراء وهو المقصود بالذات فيكفي الولي أن يجمع من الفقراء ما شاء ويعطيهم صاعًا أو قيمته أو أكثر وينوي بقلبه ذلك كما في الزكاة، فإنهم قالوا إنه يعطيها للفقير وينوي بقلبه أداء ما فرض عليه. وأما هذه الحالة المعروفة من إدارة الصرة مرارًا والجهر للفقير من الولي أو وكيله بقوله: خذ هذه كفارة صلاة ففيها إخلال بأصول الأداء للزكوات والكفارات؛ إذ المطلوب الستر على الفقير وإيتاؤه سرًّا لا جهرًا وعدم تأليم خاطره وجرح عواطفه. وهذا الذي أراه

_ 1 انظر التعليق على الصفحة " " "ناصر الدين".

هو من الفقه بمكان وفيه جمع بين من يقول من المحدثين وبقية فقهاء المذاهب الأخر أنها بدعة ينبغي تركها فيسعى بمنع خير للفقراء1 وبين من يديرها على الكيفية المعروفة ويرى أنها لا تجزئ إلا كذلك مما يدل على جمود، على التقليد البحث للمقلدين لأنها لم ترد عن إمام متبوع، وقد اتفقوا على أنه لا يقلد المقلد. وبالجملة فينبغي إلحاقها بالزكوات ومراعاة آداب أدائها فيها، والله الهادي. 30- قيام بعض المدرسين أو السامعين لبعض القادمين: يحتفل في كثير من المساجد بمجامع علمية حديثية أو تفسيرية، فيتحلق السامعون حول المدرس حسب العادة، فيتفق أن يأتي لحضور هذا الدرس أمير أو وزير أو قاص أو عالم كبير، فربما يقوم المدرس أو بعض من حضر ويرى ذلك إكرامًا ضروريًّا. والحال أن القيام حالتئذ من السخافة والطيش بمكان إذ يدل على عدم معرفة القائم بأدب الدرس، وأدب الدرس كأدب النفس ومن الواجب تعلمه كما تقرر في موضعه من كتب الآداب. ولا ننكر أن القيام من الإكرام2، ولكن لا في كل مكان. أرأيت لو اصطفت الناس للصلاة ودخل أمير أو وزير فهل يخطر ببال أحد أن يقوم له إذا رآه؟ 3 كلا وما ذاك

_ 1 قلت: الخير ينبغي أن يقدم إلى الفقراء من طريق شرعه الله تعالى، لا من طريق كهذه التي لا يعرفها السلف. والخير كله في اتباعهم، وعجيب من المصنف رحمه الله تعالى أن يستحسن مثل هذه البدعة، وما أتي المبتدعة إلا من مثل هذا الاستحسان. "ناصر الدين". 2 قلت: لو كان كذلك، لكان معروفًا عند الصحابة الكرام، ولا سيما مع سيد البشر عليه الصلاة والسلام، فإنه أحق الناس بالإكرام، ولكنهم مع ذلك لم يكونوا يقومون له صلى الله عليه وسلم كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانوا لا يقومون له لما يعلمون من كراهيته لذلك". رواه أحمد وغيره بسند صحيح. 3 كذا الأصل، ولا تخلو العبارة من شيء، فإن الناس الذين اصطفوا للصلاة، إنما هو قيام، فكيف يقال فيهم: فهل يخطر ببال أحد أن يقوم؟ فالظاهر أن المؤلف يعني بقوله: "اصطفت الناس للصلاة" أي استعدوا وهم جلوس للاصطفاف. "ناصر الدين".

إلا لاقتضاء المقام ذلك وهكذا في الدرس فلا يسوغ القيام لداخل مطلقا مهما عظمت رتبته، وإكرامه هو أن يتفسح له لتذهب عنه دهشة الدخول، والسبب أن في القيام قطعًا للقراءة والتقرير والسماع والإسماع وتشويش فكر القارئ وتفريق الهيئة المنضمة وفتح باب الكلام والغض من حرمة المقروء وقد يكون حديثًا أو تفسيرًا بل القائم حينئذ يسقط قدر نفسه في نظر العقلاء، ولذلك لا ينبغي قطع تقرير الدرس ولا التوقف ولا إظهار الدهشة كما لا ينبغي الإعراض والإزراء بالغض وإظهار عدم الاكتراث، بل يبش ويشير إشارة المحب ويمضي في تقريره، نعم من كان يدرس في داره أو حجرته نحوًا أو صرفًا لطالب أو طالبين ولا احتفال هناك تخير القارئ بين أن يقوم أو يبقى على حالته وهو الأولى حتى إذا فرغ من الدرس قام له وصافحه كما هو طريقة أشياخنا العقلاء في مجالس دروسهم في دورهم ومساجدهم فليحذر من كان في محفل أن يقوم لداخل بعد أن ذكرت لك ما هو الواجب في ذلك. 31- احترام أفنية المساجد: من البديهي الذي لا يخفى على كل من له مسكة من عقل أن المساجد والأماكن التي بنيت لعبادة الله تعالى يجب احترامها عن كل ما يخل بتنظيمها، فقد أتينا على جمل مما ينبغي تعاهده داخلها، وقاعدة ذلك هو طرح كل بدعة فيها منكرة وبقي الكلام على منكرات في فنائها تخل بحرمتها فمن ذلك طرح قمامات حولها أو تقذير جوابنها أو البصاق أو التمخط على حيطانها أو إيقاد نار حول حائطها أو جمع تراب العمارات إلى جانبها أو وضع الأخشاب مسندة إلى أركانها أو ربط الحمير على حديد شبابيكها وهذا المنكر الأخير

قد يخل به بعض الجهلة الأغبياء فيربط حماره جانب المسجد ويتركه ينهق ويملأ المسجد بنهيقه فيؤذي المصلين بصوته المنكر ونهيقه المؤلم، ولا يدري صاحبه بعادته ماذا ينال المصلين والعاكفين من الانزعاج بهذا النهيق فإنا لله. فيجب على كل من رأى ذلك في إنكاره على صاحبه وكفه والقيام على المتساهل بتقذير جوانبها أو إشغالها وتعليمه قدرها والله الموفق. 32- التهليلة في المسجد لمن يتوفى من أئمته أو خدمته: "ثالث ليلة بين العشائين" "والبحث في التهاليل ودعوى نفع الميت بها" يقام في بعض المساجد تهليلة لمن يتوفى من أئمته أو خطبائه أو مؤذنيه أو خدمته بين العائشين ثالث ليلة من وفاته ويراها البعض حسنة كبرى لذلك يأتي أحد أقرباء المتوفى أو أصدقائه ويرجو إمام المسجد أن يترك درسه ليلتئذ ويمشي إلى المنشدين ورؤساء الأذكار أن يأتوا ليذكروا فإذا اجتمعوا وتحلقوا يأخذون بالذكر على عادة التهاليل، والمحظور من ذلك هو رفع الصوت في المسجد والتشويش على المصلين ولا سيما في أوقات الشتاء، فإن ما بين العشائين يكون المسجد موردًا لمصلي المغرب، فإذا دخل المصلي المسجد ورأي ضوضاء الذاكرين يضطر إلى الرجوع فيصلي إما في إيوان المسجد ويناله من ضرر البرد ما يذهب خشوعه وإما أن يصلي في المسجد جانب أولئك الصارخين. والقصد أن فعل هذه التهليلة في المسجد محظور لما ذكرنا، وأرى في هذه الأزمنة قل الاعتناء بها في المسجد والحمد لله رب العالمين وعهدي بها وأنا صغير أنها كالواجب لكل من مات من قوام المسجد وأنها من قضاء حقه كما أن التهاليل بطبيعة رقي الأفكار وتنبهها قل أمرها في الشام. إنما اتكلم على التهاليل وحظرها من حيث ما ذكرت لأنه متفق عليه بين الفقهاء فإن رفع الصوت في

المسجد وتعاطي ما يصد عن الصلاة فيه في أي وقت محظور إجماعًا وبقي الكلام عليها من حيث عملها وادعاء نفع الميت بها وانتفاعه. والذي أراه أن الذي ينفع الميت هو الصدقة عنه1 من توزيع دراهم وإطعام طعام بنيته والدعاء له، وأما الذكر بالكيفية المعروفة من إنشاء الموشحات والتمطيطات وهز البدن وتخليع الأعضاء وتمديد الأيدي ورفع الأصوات وشدة الضجات فليس إلا من قبيل الاجتماع للأغاني والرقص إلا أنه غناء ورقص كاملين مستورين وليس غناء مخنثين ولا فاسقين، وأما دعوى أنه قربة إلى الله ومثوبة وأنه من الدين فيخشى على معتقده ما يخشى على من يتخذ دين الله هزؤًا ولعبًا ورقصًا وغناء فنعوذ بالله أن نكون من الجاهلين. ولذلك ما كنت أرى في التهاليل شيئًا حسنًا إلا إطعام الفقراء من طعامها وتوزيع دراهم على بؤساء حاضريها وما عدا ذلك من الذكر المعروف فيها فما هو إلا تمضية وقت في إنشاد لطيف وأنغام جميلة وموشحات منوعة يكون الذكر كالقرار لها؛ إذ لا بد للمنشدين من صوت ساذج يربط النغم لهم ولا ربط مثل ربط أصوات الذاكرين لذلك ترى الذاكرين في تقرير النغم للمنشدين وأصوات المنشدين كالشيء الواحد المتماسك بعضه ببعض ولو أنه خلت عن تمطيط لفظ الجلالة التمطيط المستنكر لكل ذي عقل لكانت جمعية إنشاد فيها تسلية لأهل الميت إما وفيها التمطيط بكلمة الجلالة وكلمة التوحيد واعتقاد القربة بها ونفع الميت بها وأنها من الضروريات لنجاته ومثوبته فلا ولا كرامة. وقد ألف في تحريم التهاليل فقيه الشام من المتأخرين السيد ابن عابدين رسالة إلا أنه بناها على فرع فقهي وهو عدم جواز أخذ الأجرة على التلاوة -أحد قولين عند الحنفية- ولم يسلم له اعتماد هذا القول فألف في الرد عليه معاصره وصديقه العلامة الشيخ صالح الدسوقي خال جدتي لوالدي ونقل عن فروع فقهاء الأئمة الأربعة جواز ذلك أعني أخذ الأجرة على التلاوة، ورد على

_ 1 ليس في السنة -فضلًا عن القرآن- دليل يدل على انتفاع كل ميت بصدقة الحي، وإنما فيها انتفاع الولد بصدقة الوالد، وذلك لأنه من سعي الوالد، وذلك لأنه من سعي الوالد، ولا يصح إلحاق غيره به كما حققته في "أحكام الجنائز" "ص173-178". "ناصر الدين".

العلامة ابن عابدين أيضًا العلامة محمود أفندي ابن حمزة مفتي دمشق وغيرهما وسمعت شيخنا الحواني أستاذ المقرئين في الشام -وقد جرى ذكر رسالة ابن عابدين ومن رد عليه- يقول: لو أن ابن عابدين بنى رسالته على منكرات التهاليل ومكروهاتها وبدع المتصوفة فيها لاتفقت كلمة الكل عليها إذ لم يزل ولا يزال في أنفس كثيرين حزازات من أعمال هذه التهاليل سيما في ذلك الزمن السالف، فقد كانت التهاليل قائمة على ساق وقدم قيامًا مدهشًا بحيث لا تفتر المشايخ عن إقامتها للأغنياء وكان يتفق لبعض المشايخ ممن رزق حظًّا فيها أن يطلب منه في ليلة واحدة تهليلتان أو أكثر فيضطر أهل الميت إلى تأخير الميعاد لسبقهم بغيرهم. وكان يوجد في بعض التهاليل شبان مرد يتحلقون للذكر ويقودهم رئس الذكر فيصفهم ثم يهيمون وينزعون طرابيشهم ويرخون شعورهم يقول لي من أبصر ذلك من المعمرين -المنكرين تلك الحالة: فلا ترى إلا شعورًا مسدولة وخصورًا مهتزة وأكتافاً متمايلة وتصفيقًا من كل جانب وخفضًا ورفعًا وزعقًا من كل صوب وهيامًا لطرب أدوار المنشدين وموشحاتهم وتطبيقهم كل مقطع من مقاطع الذكر على نغم مخصوص مما يؤسف كل عاقل ويشجي كل حكيم. وأظن أن ابن عابدين لما لم ترقه التهاليل لما ذكرنا أراد أن يصرف الناس عنها بنقل قول معروف في المذهب علمًا بأن الفقهاء والعامة يخضعون لفتيا الفقهاء فاتاهم من الجهة التي يعتقدونها. بيد أنه لم يتم له الأمر لوجوه: "أولها": عدم الاتفاق في المذهب على ذلك القول "ثانيها": ذهاب بقية الفقهاء من المذاهب الأخر إلى خلافة أيضًا "ثالثها": حصره الرسالة في ذلك الفرع والتعصب له. ولو أنه نقل أقوال الفقهاء في تحريف الذكر وتمطيط اللفظ الكريم وقصد الرياء والسمعة والعدول عن الأحب وهو التصدق سرًّا على المحاويج وما قد يولده هذا المجمع من المنكرات والأذن للمردان بالذكر على حدة في الأثناء مما هو منكر بالإجماع وإيثار الأغنياء غالبًا بالألوان الجملة إذا هُيء لهم الطعام ثم إطعام الفقراء غير ذلك الطعام وإغلاق الباب في وجوه كثير من الفقراء وهم أحق من الموسرين المدعوين واعتقاد ما ليس بقربة قربة، إلى غير ذلك، لكانت

الرسالة بديعة في بابها لا يرد عليها إلا جاهل لا يقام له وزن. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل1. 33- قراءة البخاري لنازلة الوباء والحرب ونحوها: نقل القسطلاني رحمه الله تعالى شارح البخاري في مقدمة شرحه عن الشيخ أبي محمد بن عبد الله بن أبي جمرة قال: قال لي من لقيت من العارفين عمن لقيه من السادة المقر لهم بالفضل: إن صحيح البخاري ما قرئ في شدة إلا فرجت ولا ركب به في مركب فغرقت. ا. هـ. وقد جرى على العمل بذلك كثير من رؤساء العلم ومقدمي الأعيان إذا ألم بالبلاد نازلة مهمة فيوزعون أجزاء الصحيح على العلماء والطلبة ويعينون للختام يومًا يفدون فيه لمثل الجامع الأموي إمام المقام

_ 1 قلت: والحق أقول: إن ابن عابدين وإن كان من المقلدين، فإنه لم يتعصب في هذه الرسالة، إلا لما أفادته أدلة الكتاب والسنة، ومن وجوب الإخلاص لله تعالى في العبادة، وهو ينافي أخذ الأجرة عليها والتهليل والذكر فيها، فهو حصر الرسالة في بيان حكم أخذ الأجرة عليها، ولم يستدل لذلك بالفرع الفقهي كما قد يشعر بذلك كلام المصنف رحمه الله تعالى. وإنما استدل ببعض الأحاديث الصريحة في تحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن والاكتساب به، وقد خرجت بعضها في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" "259، 260" وتحريم أخذ الأجرة على تلاوة القرآن والتهاليل ينبغي أن يكون موضع اتفاق بين أهل العلم؛ لأن إباحتها ينافي المقطوع به من وجوب الإخلاص لله فيها؛ إذ لا يعقل أن يجتمع الإخلاص والرغبة في الأجرة في عبادة ما، ولذلك قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} . على أن ابن عادين رحمه الله لم يفته التنديد بأولئك المحرفين للذكر والتهليل فقال "ص29": "مع قطع النظر عما يكون كثيرًا في حالة الذكر، المطلوب فيه جمع الفكر، فما يسمونه بالسماع والكوشت والحربية، ونحو ذلك مما يراعون فيه الأعمال الموسيقية، المشتمل على التلحين والتمطيط والرقص والاضطراب والاجتماع بحسان المرد، والغناء المحرم المهيج لشهوات الشباب، فإن ذلك قد نص أئمتنا الثقات على أنه من المحرمات فقد أقاموا الطامة الكبرى على فاعليها وصرحوا بكفر مستلحها". "ناصر الدين".

اليحيوي في دمشق وفي غيرها كما يراه مقدموها وهذا العمل ورثه جيل عن جيل منذ انتشار ذاك القول، وتحسين الظن بقائله. بل كان ينتدب بعض المقدمين إلى قراءته موزعًا ثم ختمه اجتماعًا لمرض والي بلدة أو عظيم من عظمائها مجانًا أو بجائزة، بل قد يستأجر من يقرؤه لخلاص وجيه من سجن أو شفائه من مرض على النحو المتقدم تقليدًا لمن مضى. وكان يوجد من المتقدمين من ينكر ذلك بقلبه أو يشافه به خاصته. ثم كتب أحد الفضلاء الأزهريين في جمادى الثانية سنة "1320" لإحدى المجلات العلمية في مصر انتقادًا على هذه الحالة بما شفى صدور الناقمين على البدع فنشرتها عنه وهاكها بحروفها تحت عنوان "بماذا دفع العلماء نازلة الوباء": دفعوها يوم الأحد الماضي في الجامع الأزهر بقراءة متن البخاري موزعًا كراريس على العلماء وكبار المرشحين للتدريس في نحو ساعة جريا على عادتهم من إعداد هذا المتن أو السلاح الحبري لكشف الخطوب وتفريج الكروب فهو يقوم عندهم في الحرب مقام الحيطة الصحية وعقاقير الأطباء، وفي البيوت مقام الخفراء والشرطة وعلى كل حال فهو مستنزل الرحمات ومستقر البركات. ولما كان العلماء أهل الذكر والله يقول: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فقد جئت أسألهم بلسان كثير من المسترشدين عن مأخذ هذا الدواء من كتاب الله أو صحيح سنة رسول الله أو رأي مستدل عليه لأحد المجتهدين الذين يقلدونهم إن كانوا قد أتوا هذا العمل على أنه ديني داخل في دائرة المأمور به وإلا فعن أي حذاق الأطباء تلقوه ليتبين للناس منه أو من مؤلفاته عمل تلاوة متن البخاري في درء الهيضة عن الأمة، وإن هذا داخل في نواميس الفطرة أو خارج عنها خارق لها، وإذا كان هذا السر العجيب جاء من جهة أن المقروء حديث نبوي فلم خص بهذه المزية مؤلف البخاري وَلِمَ لَمْ يجز في هذا موطأ مالك وهو أعلى كعبًا وأعرق نسبًا وأغرز علمًا ولا يزال مذهبه حيًّا مشهورًا، وإذا جروا على أن الأمر من وراء الأسباب فلم لا يقرؤه العلماء لدفع ألم الجوع

كما يقرءونه لإزالة المغص أو القئ أو الإسهال حتى تذهب شحناء الجراية من صدور كثير من أهل العلم "أي من أهل الجامع الأزهر" وعلى هذا القياس يقرأ لكل شيء ما دامت العلاقة بين الشيء وسببه مفصومة. فإن لم يستطيعوا عزو هذا الدواء إلى نطاس الأطباء سألت الملم منهم بالتاريخ أن يرشدنا إلى من سن هذه السنة في الإسلام وهل قرئ البخاري لدفع الوباء قبل هذه المرة فإنا نعلم أنه قرئ للعرابيين في واقعة التل الكبير "أي في مصر" فلم يلبثوا أن فشلوا ومزقوا شر ممزق ونعلم أنه يقرأ في البيوت لتأمن من الحريق ولكن بأجر ليس شيئًا مذكورًا في جانب شركة التأمين المعروفة مع أن الناس يتسابقون إليها تسابقهم إلى شراء الدواء إذا نزل الدواء ويعدلون عن الوقاية التي نحن بصددها وهي تكاد تكون بالمجان ويجدون في نفوسهم اطمئنانًا دون هذه. فإن لم يجد العلماء عن هذه المسألة إجابة شافية خشيت كما يخشى العقلاء حملة أهل الأقلام عليهم حملة تسقط الثقة بهم حتى من نفس العامة، وحينئذ تقع الفوضى الدينية المتوقعة من ضعف الثقة واتهام العلماء بالتقصير، وكون أعمالهم حجة على الدين. هذا وقد لهج الناس بآراء على أثر الاجتماع الهيضي الأزهري فمن قائل إن العلماء المتأخرين من عادتهم أن يهربوا في مثل هذه النوازل من الأخذ بالأسباب والاصطبار على تحملها لمشقتها الشديدة ويلجئون إلى ما وراء الأسباب من خوارق العادات لسهولته ولإيهام العامة أنهم مرتبطون بعالم أرقى من هذا العالم المعروف النظام فيكسبون الراحة والاحترام معًا فيظهرون على الأمة ظهور إجلال ويمتلكون قلوبهم ويسيطرون على أرواحهم، ولهذا تمكثوا حتى فترت شرة الوباء فقرءوا تميمتهم ليوهموا أن الخطر إنما زال ببركة تميمتهم وطالع يمنهم. ومن قائل إنهم يخدعون أنفسهم بمثل هذه الأعمال بدليل أن من يصاب منهم لا يعالج مرضه بقراءة كراسة من ذلك الكتاب بل يعمد إلى المجربات من النعنع والخل وماء البصل وما شابهها أو يلجأ إلى الطبيب لا تلتفت نفسه إلى

الكراسة التي يعالج بها الأمة فهذا يدل على أن القوم يعملون على ما في وجدانهم لهذه الأمة خادعين أنفسهم بتسليم أعمال سلفهم. ومن قائل إن عدوا من أعداء الدين الإسلامي أراد أن يشكك المسلمين فيه فدخل عليهم من جهة تعظيمه فأوحى إلى قوم من متعالميه السابقين أن يعظموا من شأنه ويرفعوا من قدره حتى يجعلوه فوق ما جاءت له الأديان فيدعون كشف نوائب الأيام بتلاوة أحاديث خير الأنام ويروجون ما يقولون بأنه جرب وأن من شك فيه فقد طعن في مقام النبوة حتى إذا رسخت هذه العقيدة في الناس وصارت ملكة دينية راسخة عند العوام وجربوها فلم تفلح وقعوا والعياذ بالله في الشك وأصابهم دوار الحيرة كما حصل ذلك على أثر واقعة التل الكبير من كثير من الذين لم يتذوقوا الدين من المسلمين حتى كانوا يسألون عن قوة البخاري الحربية ونسبته إلى البوارج ساخرين منه ومن قارئيه، ولولا وقوف أهل الفكر منهم على أن هذا العمل ليس من الدين وأن القرآن يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} إلخ لضلوا وأضلوا. وقد جرأ هذا الأمر غير المسلمين على الخوض في الدين الإسلامي وإقامة الحجة على المسلمين من عمل علمائهم ولا حول ولا قوة إلا بالله. ويقول قوم: إن التقليد بلغ بالعلماء مبلغًا حرم على العقول النظر في عمل السلف وإن كذبته العينان. وخالف الحس والوجدان، ويقول آخرون ممن لا خبرة لهم بهمة العلماء في مثل هذه الكوارث أما كان ينبغي لهم أن ينبثوا في المساجد والأندية والولائم حاثين الناس على الوقاية من العدوى معضدين الحكومة في تسكين سورة الأهلين مفاوضين الصحة في فتح المساجد وتعهدها بالنظافة فإن هذا يرتبط بهم أكثر مما يرتبط بوفد أعيان القاهرة جزاه الله خير الجزاء، فإن أعوزهم البيان وخلب القلوب بذلاقة اللسان، فلا أقل من أن يؤلفوا رسالة في فهم ما ورد متشابهًا في موضوع العدوى حتى يعلم الناس أن الوقاية من الداء مأمور بها شرعًا وعقلًا وسياسة فيكون كل فرد عارف عضدًا للحكومة ولو طلبوا من الصحة طبع ما ألفوا وتوزيعه على المصالح والنواحي للبت ذلك شاكرة وكان لهم الأثر النافع؛ هذا ما يقوله القوم في شأن علمائهم نرفعه إليهم ليكونوا

على بينة منه لأنهم لا يختلطون بالناس غالبًا إلا في الولائم والمآتم وإن اختلطوا فقلما يناقشونهم في شيء تحرزًا من حدتهم في المناقشة ورميهم مناظرهم لأول وهلة بالزيغ والزندقة فلذلك يجاملونهم ويوافقونهم خشية الهجر والمعاندة أما أنا فإني لا أزال ألح في طلب الجواب الشافي عن أصل دفع الوباء بقراءة الحديث وعن منح متن البخاري مزية لم يمنحها كتاب الله الذي نعتقد أنه متعبد بتلاوته دون الحديث، ولو كان هذا العمل من غير العلماء الرسميين لضربت عنهم وعن عملهم صفحًا ولما خططت كلمة ولكنه من علماء لهم مراكز رسمية يزاحمون بها مراكز الأمراء فيجب أن يؤبه لهم وأن ينظر لعملهم بإزاء مركزهم من الأمة التي يسألون عنها. والله ولي التوفيق. هذا ما رأيته أثبته بحروفه وقد وقع منشئها بإمضاء "متصنع" ولو عرفنا اسمه لنسبناه إليه أداء للأمانة إلى أهلها وقد أطال وما أوجز ولو أنه ظفر بما جاء في كتاب الشفاء لإدواء الوباء للعلامة عصام الدين الطاشكبري الحنفي لكفاه فقد جاء بالمطلب السادس نقلًا عن السيوطي أن الدعاء برفع الطاعون والاجتماع له بدعة قال: لأنه وقع في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة يومئذ متوافرون وأكابرهم موجودون فلم ينقل عن أحد منهم أنه فعل شيئًا من ذلك ولا أمر به وكذا في القرن الثاني وفيه خيار التابعين وأتباعهم وكذا في القرن الثالث والرابع، وإنما حديث الدعاء برفعه في الزمن الأخير وذلك في سنة "749". انتهى وفيه فصل الخطاب وقد سلف لنا قبيل الباب السادس إيضاح ذلك مفصلًا وإنما أعدناه تأكيدًا وتقريرًا. 34- صورة عريضة قدمت لمدير الأوقاف لأجل إصلاح مساجد: قرأت في جريدة مصرية تسمى "الجريدة" في عددها "521" في صفحة "3" تحت عنوان "المساجد بالزنكلون" ما مثاله:

حالة المساجد عندنا تستذرف العبرات، وتثير الزفرات، وتلهب جذوة الحسرات، من سائر الطبقات. مع أنها مراشد المرشدين، ومعابد المتعبدين ومعاهد التذكير للمتقين، ومعالم الدين للمكلفين، وجوابع بني الإنسان من المسلمين؛ على اختلاف الأزياء، بحسب الفقر والإثراء. وإذا صح أن يقال إن حياة الأمم حياة لغاتها أفلا يكون أصح منه أن يقال إن حياة دين الفطرة حياة مساجد. بالزنكلون مساجد شادها رجال كانوا إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا بالغة حد الاتقان ونهاية الإبداع في أيامهم تلك الأيام الخالية التي كانت فيها الكماليات لا تقوم الآن بأدنى الحاجيات. وقد بلغت أرذل العمر وكادت تخر سقفها على الساجدين بها وأوشكت جدرانها أن تتصدع وتتقوض فضلًا عن كونها مأوى للحشرات فاسدة الهواء لا تصلح مرابط للأنيق في حين أن مصلحة الصحة العمومية تطارد أمثالها بالهدم -زيادة على ما هي عليه- دفعًا للمضرات وفي حين أن ريع وقفها الذي لا يقل عن الثلاثين فدانًا يكفي لتشييدها على القانون الهندسي العصري فلسان "الجريدة الغراء" التي لا يشوبها في خدمة الحق والإنسانية أدنى شائبة تستلفت أنظار سعادة الهمام الفاضل مدير الأوقاف الجديد إليها ونسأله رحمة بنا فقد ضاق الخناق وعيل الصبر وها نحن ننتظر بفارغ الصبر لمساجدنا بناء ولسعادة المدير شكرًا وثناء. 35- فضول بعض العامة وخوضها فيما لا تحيط به علمًا: "في إصلاح قبلة بعض الجوامع" خوض العامي فيما لا يحيط به علما ولا تبلغه مداركه قد يجر على البلاد الويلات ويكون مدعاة لتضاؤل العلم والعلماء واتخاذهم التقية شعارًا في أغلب

الأحايين ومن ذلك لغط بعض العامة في مسألة علمية لا تبلغها مداركهم مهما حاولوا وقعت في أيامنا وذلك أن جامع المصلى تداعت أركانه فقام الناظر ورغب في أن يقوم منآده، بيد أنه لما رأى سمت القبلة منحرفًا بعض الانحراف كما أخبره بذلك بعض البارعين في علم الهيئة أحب أن يرفع الجدار القبلي طبق ما يدعو إليه العلم فثارت ثائرة بعض العامة تطلب إعادة القديم على شكله بدعوى أن هذا الجامع عمري وأن الصحابة ولت وجوهها شطر هذه القبلة على حين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يقدم دمشق وغاية الأمر أنه وصل مرتين لمدينة الجابية -قاعدة حوران في عهده- الواحدة لفتح بيت المقدس عام "16" والأخرى لتجنيد وتمصير الأمصار عام "18" ومن العجيب أن مثل هذا الشغب وقع في عهد الإمام السبكي أيام توليه قضاء دمشق فقد ذكر في فتاويه الكبيرة أنه لما عرف كثرة انحراف جامع "جرّاح" تطوع جماعة من أهل الخير من أموالهم بما يعمر به ويجعل قبلته صحيحة فأراد أن يجعلها على الوضع الصحيح الذي تشهد له أدلة القبلة المسطورة في كتب أهل هذا العلم فبلغ أحد المتفقهة وبعض العوام إنكار ذلك فأوضح رحمه الله أن مثل هذه المباحث مردها إلى أهلها كما قال إمام الحرمين: قد ألف ذوو البصائر في ذلك كتبًا فتطلب أدلة القبلة من كتبهم. ثم قال السبكي أفلا يستحيي من ينكر الرجوع إليها بجهله وعدم اشتغاله وظنه أنه من أهل الفقه وأن الفقه يخالفها، أما يستحيي من الإنكار على العالمين بعلوم الشريعة وغيرها ومن ظنه أنه على الصواب دونهم، أما يستحيي الفريقان من الكلام فيما لم يحيطوا بعلمه ومن نسبتهم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه دخل دمشق ولم يدخل عمر بن الخطاب دمشق وإنما وصل إلى الجابية القرية التي بحوران. ثم قال: فمن يترك الأدلة المحققة وكلام العلماء في ذلك لمجرد هذه الأمور حقيق بأن لا يعبأ به: ثم أغرق الإمام السبكي في هذه المسألة وساق كلامًا مطولا عن إمام الحرمين والرافعي ثم قال: وجامع جراح إنما يقصد هدمه -يعني في زمانه- لإقامة القبلة على الحق فإذا هدم وجعل على القبلة التي يدل العلم عليها كان على الحق. ولا يجوز تضييع

أموال الناس ووضع محراب يعتقد -يعني علماء الهيئة- أنه على غير الصواب. ا. هـ. هذا والفتوى مطولة تضمنت فوائد جمة مراجعتها أوردنا خلاصتها في المجلد الثالث من كتابنا "تعطير المشام في مآثر دمشق الشام" وما يصح أن يقال عن جامع جراح من الأحكام يجوز أن يقضي بها على الجامع المجد اليوم، وقد عهد التروي في أمر القبلة في كل جامع أراد الملوك والأمراء إشادته فقد حكى السيوطي في "حسن المحاضرة" أن جامع عمرو في مصر وقف على قبلته ثمانون رجلًا من الصحابة وأن جامع أحمد بن طولون أحضر له فريق ممن لهم اليد الطولى في علم الهندسة. فليتدبر ذلك أولو الألباب.

الخاتمة

الخاتمة: في فروع فقهية في أحكام المساجد من وقف وغيره: "ما جاء في الإقناع وشرحه من ذلك" 1- يجب بناء المساجد في الأمصار والقرى والمحال ونحوها بحسب الحاجة فهو فرض كفاية. وفي الحث على عمارة المساجد ومراعاة مصالحها آثار كثيرة. 2- يستحب تنظيف المساجد وتطييبها لأمرها صلوات الله عليه بذلك. 3- يسن أن تصان عن كل وسخ وقذر ومخاط وتقليم أظافر وقص شارب وحلق رأس ونتف إبط وعن رائحة كريهة من بصل وثوم وكراث ونحوها وإن لم يكن فيه أحد، فإن دخله آكل ذلك أو من له صنان أو بخر قوي استحب إخراجه. 4- يصان المسجد من بزاق ولو في هوائه، وهو فيه خطيئة فإن كانت أرضه ترابية فكفارتها دفنها وإلا مسحها بثوبه أو بغيره، ولا يكفي تغطيتها بحصير، وإن لم يرها فاعلها لزم غيره إزالتها، وإن كان البزاق في حائطه لزم أيضًا إزالتها ويسن تطييب موضعها. 5- تحرم زخرفته بذهب أو فضة وتجب إزالته "وأول من ذهب الكعبة في الإسلام وزخرفها وزخرف المساجد الوليد بن عبد الملك".

6- يكره أن يزخرف وغير ذلك مما يلهي المصلي بنفش وصبغ وكتابة عن صلاته غالبًا، وإن كان من مال الوقف حرم فعله ووجب الضمان. ولا بأس بتحصيصه أو تبييض حيطانه. 7- يحرم فيه البيع والشراء والإجارة للمعتكف وغيره. ويسن أن يقال لمن باع أو اشترى لا أربح الله تجارتك. 8- لا يجوز التكسب فيه بالصنعة كخياطة وغيرها قليلًا كان أو كثيرًا لحاجة وغيرها، ولا يجوز أن يتخذ المسجد مكانًا للمعايش. 9- قعود الصناع والفعلة فيه ينتظرون من يكريهم بمنزلة وضع البضائع فيه ينتظرون من يشتريها، وعلى ولي الأمر منعهم من ذلك، وإن وقفوا خارج أبوابه فلا بأس. 10- لا يكره اليسير من العمل لغير التكسب كرقع ثوب وخصف نعل، ويحرم للتكسب إلا الكتابة فهي نوع تحصيل للعلم وتكثير كتبه ويخرج على ذلك تعليم الصبيان الكتابة فيه بالأجر بشرط أن لا يحصل ضرر بحبر وما أشبه. 11- يسن أن يصان من صغير لا يميز، وعن مجنون حال جنونه، وعن لغط، وخصومة، وكثرة حديث لاغ، ورفع صوت بمكروه، وعن رفع الصبيان أصواتهم باللعب وغيره، وعن التصفيق والضرب بالدفوف، واختلاط الرجال والنساء. 12- يمنع فيه إيذاء المصلين وغيرهم بقول أو فعل لحديث "ما أنصف القارئ المصلي"1. 13- يمنع السكران من دخوله. 14- لا بأس بالمناظرة في مسائل الفقه والاجتهاد فيه إذا كان القصد.

_ 1 لا أصل له بهذا اللفظ، كما في "المقاصد الحسنة" وغيره، ويغني عنه قوله صلى الله عليه وسلم: $"لا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة" وهو حديث صحيح كما مضى "47".

طلب الحق، فإن كان مغالبة ومنافرة دخل في حيز الملاحاة والجدال فيما لا يعني ولم يجز في المسجد. 15- يباح فيه عقد النكاح والقضاء والحكم وإنشاد الشعر المباح وتعليم العلم وما يتعلق بذلك. 16- يباح للمريض أن يكون في المسجد وأن يكون في خيمة وإدخال البعير فيه. 17- يكره جعله طريقًا إلا لحاجة، وكونه طريقًا قريبًا حاجة فتزول الكراهة بذلك. 18- يحرم اللبث فيه للجنب1، وإن توضأ جاز له اللبث فيه. 19- يباح للمعتكف وغيره النوم فيه لكن لا ينام قدام المصلين. 20- يسن صونه عن إنشاد شعر قبيح وعمل سماع وإنشاد ضالة وعن إقامة حد وعن سل سيف. 21- يكره فيه الخوض والفضول وحديث الدنيا والارتفاق به وإخراج حصاه وترابه للتبرك به. 22- لا يستعمل الناس حصره وقناديله وسائر ما وقف لمصالحه في مصالحهم كالأعرس والتعزية لأنها لم توقف لذلك، والوقف يصرف للجهة التي عينها الواقف. 23- من له الأكل فيه فلا يلوث حصره ويلقي العظام ونحوها فيه لأنه تقذير له فإن فعل فعليه تنظيف ذلك. 24- لا يجوز أن يغرس فيه شيء ويقلع ما غرس فيه ولا حفر بئر. 25- يحرم الجماع فيه ويكره على سطحه ويكره البول على حائطه والتمسح به ويحرم بوله فيه ولو في إناء، ويحرم فصد وحجامة وقيء ونحوه وإن دعت إليه حاجة كبيرة خرج المعتكف من المسجد ففعله ثم عاد.

_ 1 قلت: لم يصح في التحريم حديث، نعم ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا أرادوا المكث فيه توضئوا. "ناصر الدين".

26- يباح الوضوء فيه والغسل بلا ضرر إلا أن يحصل منه بصاق أو مخاط. 27- يباح غلق أبوابه في غير أوقات الصلوات لئلا يدخله من يكره دخوله إليه كمجنون وسكران وطفل لا يميز. 28- يباح قتل القمل والبراغيث فيه أن أخرجه وإلا حرم إلقاؤه فيه. 29- لا بأس بالاجتماع في المسجد إلا لمكروه ومعصية. 30- لا بأس بالأكل فيه للمعتكف وغيره وبالاستلقاء فيه لمن له سراويل. 31- يكره السؤال أي سؤال الصدقة في المسجد والتصدق عليه فيه لأنه إعانة على مكروه، ولا يكره التصدق على السائل، ولا على من سأل له الخطيب. 32- يقدم داخله يمناه في دخوله عكس خروجه. 33- يسن تجميره في الجمع والأعياد وشعل قناديله بحسب الحاجة وكره إيقادها زيادة على الحاجة والزيادة على المعتاد في ليلة النصف من شعبان وليلة الرغائب وهي ليلة أول جمعة من رجب بدعة وإضاعة مال لخلوة عن نفع الدنيا ونفع الآخرة ويؤدي إلى اللغط واللهو وشغل قلوب المصلين ومثله إيقاد المآذن في رمضان. 34- يمنع الناس من استطراق حلق الفقهاء والقراء فيه صيانة لحرمتها. 35- يستحب للجالس فيه استقبال القبلة ويكره مد الرجل إليها1. 36- يباح اتخاذ المحراب فيه وفي المنزل والربط والمدارس. 37- يحرم أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد إلا لحاجة كضيق الأول ونحوه. 38- يكره تطيينه بنجس وبناؤه بنجس من لبن وغيره. 39- لا بأس بضرب الخباء واحتجار الحصير فيه لثبوته في الخبر. 40- يكره لغير الإمام مداومة موضع منه لا يصلي إلا فيه، فإن داوم

_ 1 لا أعلم دليلًا على ذلك سوى الاستحسان! "ناصر الدين".

على الصلاة بموضع فيه فليس هو أولى من غيره فإذا قام منه فلغيره الجلوس فيه. 41- ليس لأحد أن يقوم منه إنسانًا ولو ولده ويجلس مكانه أو يجلس غيره مكانه إلا الصبي فيؤخر عن المكان الفاضل. 42- من قام من موضعه لعذر ثم عاد إليه فهو أحق به لأنه السابق إليه، وإن قام لغير عذر سقط حقه بقيامه لإعراضه عنه إلا أن يُخَلّف مصلى مفروشًا ونحوه في مكانه فليس لأحد غيره رفعه. 43- ينبغي لمن قصد المسجد للصلاة أو غيرها أن ينوي الاعتكاف مدة لبثه بالمسجد إن كان صائمًا. 44- من جعل سفل بيته مسجدًا صح وانتفع بعلوه أو جعل علوه مسجدًا صح وانتفع بالآخر فيما شاء وقيل بالثاني فقط. 45- حريم الجوامع والمساجد إن كان الارتفاق بها مضرًّا بأهل الجوامع والمساجد منعوا منه لأن المصلين بها أحق من غيرهم وإن لم يكن في الارتفاق بها ضرر جاز الارتفاق بحريمها لأن الحق فيها لعامة المسلمين. 46- لا يجوز إحداث المسجد في المقبرة ولا يصح الوقف على بناء مسجد على القبر ولا وقف البيت الذي فيه القبر مسجدًا ولا على التنوير على قبر ولا على تبخيره ولا على من يقيم عنده أو يخدمه أو يزوره. 47- من سرح شعره فيه وجمعه فلم يتركه فلا بأس بذلك ويكره ترك الشعر فإن المسجد يصان عن القذارة التي تقع في العين. فروع أخرى من أبواب الوقف من الإقناع وشرحه: 48- لو تصدق بدهن على مسجد ليوقد فيه جاز لأن تنوير المسجد مندوب إليه وهو من باب الوقف كوقف الماء "قاله الشيخ تقي الدين". 49- لا يصح الوقف على تنوير قبر وتبخيره. ولا على من يقيم عنده أو يخدمه أو يزوره قاله في الرعاية، ولا يصح الوقف أيضًا على بناء مسجد على القبر ولا وقف البيت الذي فيه القبر مسجدًا لقول ابن عباس لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. أخرجه أبو داود

والترمذي والنسائي "قاله الحارثي"1. 50- يجوز صرف الموقوف على بناء مسجد لبناء منارته وإصلاحها وبناء منبره، وأن يشترى منه سلم للسطح، وأن يبنى منه ظلة لأن ذلك من حقوقه ومصالحه لا لبناء مرحاض وهو بيت الخلاء لمنافاته المسجد ولا لزخرفة مسجد بالذهب وبالأصباغ لأنه منهي عنه وليس ببناء بل لو شرط لما صح لأنه ليس قربة ولا داخلا في قسم المباح، ولا في شراء مكانس ومجارف لأنه ليس بناء ولا سببًا له. وإن وقف على مسجد أو مصالحه جاز صرفه في نوع العمارة وفي مكانس وحصر ومجارف ومساحي وقناديل ووقود ورزق إمام ومؤذن وقيم لدخول ذلك كله في مصالح المسجد وضعًا أو عرفًا. 51- قال الشيخ تقي الدين: ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضًا وأجرة بل رزق للإعانة على الطاعة وكذلك المال الموقوف على أعمال البر والموصى به أو المنذور له ليس كالأجرة والجعل. انتهى أي فالقائل بالمنع من أخذ الأجرة على نوع القرب لا يمنع من أخذ المشروط في الوقف فإن الحارثي يعني إذا لم يكن الوقف من بيت المال فإن كان منه كأوقاف السلاطين من بيت المال فليس بوقف حقيقي، بل كل من جاز له الأكل من بيت المال جاز له الأكل منها كما افتى به صاحب المنتهى موافقة للشيخ الرملي وغيره في وقف جامع ابن طولون ونحوه. 52- قال الشيخ تقي الدين: من أكل المال بالباطل قوم لهم رواتب من بيت المال أضعاف حاجاتهم وقوم لهم جهات معلومها كثير يأخذونه ويستنيبون بيسير من المعلوم لأن هذا خلاف غرض الواقفين والنيابة في مثل هذه الأعمال المشروطة من تدريس وإمامة وخطابة وأذان وغلق باب ونحوها جائزة إذا كان النائب مثل مستنيبه. 53- لا يجوز إخراج حصر المسجد ونحوها لمنتظر جنازة أو غيرها. 54- لا يصح بيع الوقف ولا هبته ولا المناقلة به أي إبداله ولو بخير منه.

_ 1 قلت: إسناده ضعيف، والحديث صحيح دون قوله: "والسرج" كما حققته في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" "255".

لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يباع أصلها ولا توهب ولا تورث" 1 قال الترمذي العمل على هذا الحديث عند أهل العلم وإجماع الصحابة على ذلك إلا أن تتعطل منافعه المقصودة منه بخراب أو غيره بحيث لا يرد شيئًا على أهله أو يرد شيئًا لا يعد نفعًا وتتعذر عمارته وعود نفعه ولو مسجدًا حتى بضيقه على أهله المصلين به وتعذر توسيعه في محله أو خراب محلته أو كان موضعه قذرًا فيصح بيعه2 ويصرف ثمنه في مثله للنهي عن إضاعة المال وفي إبقائه إذن إضاعة فوجب الحفظ بالبيع ولأن المقصود انتفاع الموقوف عليه بالثمرة لا بعين الأصل من حيث هو. ومنع البيع أذن مبطل لهذا المعنى اقتضاه الوقف فيكون خلاف الأصل، ولأن فيما نقوله إبقاء للوقف بمعناه حين تعذر الإبقاء بصورته فيكون متعينًا، وعموم "لا يباع أصلها" مخصوص بحالة تأهل الموقوف للانتفاع المخصوص لما ذكرنا. قال ابن رجب ويجوز في أظهر الروايتين عن أحمد أن يباع ذلك المسجد ويعمر بثمنه مسجد آخر في قرية اخرى إذا لم يحتج إليه في القرية الأولى. 55- يجوز نقل آلة المسجد الذي يجوز بيعه ونقل انقاضه إلى مثله إن احتاجها فإن ابن مسعود رضي الله عنه قد حول مسجد الجامع من التمارين بالكوفة، وهذا النقل أولى من بيعه لبقاء الانتفاع من غير خلل فيه. علم من قولنا: "إلى مثله" أنه لا يعمر بآلات المسجد مدرسة ولا رباط ولا بئر ولا حوض ولا قنطرة، وكذا آلات كل واحد من هذه الأمكنة لا يعمر بها ما عداه لأن جعلها في مثل العين ممكن فتعين، وافتى الإمام عبادة بجواز عمارة وقف من ريع آخر على جهته، ذكره ابن رجب في طبقاته. قال في الإنصاف وهو قوي بل عمل الناس عليه. ا. هـ. 56- يجوز تجديد بناء المسجد لمصلحة لحديث عائشة في الصحيح "لولا

_ 1 حديث صحيح، مخرج في "الإرواء" "1582" من رواية الشيخين وغيرهما. 2 سيأتي في 63 "ص270" عن أبي يوسف رحمه الله مثله. ا. هـ.

قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه" الحديث1. 57- لا يجوز قسم المسجد مسجدين ببابين إلى دربين مختلفين لأنه تغيير لغير مصلحة له. 58- يجوز نقض منارته وجعلها في حائطه لتحصينه. 59- ما فضل عن حاجة المسجد من حصره وزيته ومغله وانقاضه وآلته وثمنها جاز صرفه إلى مسجد آخر محتاج إليه لأنه صرف في نوع المعين وجازت الصدقة بها على الفقراء المسلمين. 60- لو وقف على مسجد أو حوض وتعطل الانتفاع بهما صرف إلى مثلها. 61- يجوز حفر بئر في المسجد إن كان فيه مصلحة، ولم يحصل به ضيق. 62- يجوز رفع المسجد إذا أراد أكثر أهله ذلك وجعل تحت سفله سقاية وحوانيت. فروع أخرى من أحكام الأوقاف للبرهان الطرابلسي: 63- لو خرب المسجد وما حوله وتفرق الناس عنه لا يعود إلى ملك الواقف عند أبي يوسف فيباع نقضه بإذن القاضي ويصرف ثمنه إلى بعض المساجد. 64- لو كان طريق العامة واسعًا فبنى فيه أهل محلته مسجدًا للعامة وهو لا يضر بالمار قالوا لا بأس به، وهو مروي عن أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن الطريق للمسلمين والمسجد لهم أيضًا، ولو احتيج إلى توسعته من الطريق أو توسعة الطريق منه ولا ضرر فيها على الآخر يجوز لما قلنا. 65- لو ضاق المسجد على الناس وبجنبه أرض ملك لرجل تؤخذ منه

_ 1 حديث صحيح مخرج في "الصحيحة" رقم "43".

بالقيمة كرهًا دفعًا للضرر العام، ولو كانت وقفًا على المسجد وأرادوا الزيادة فيه منها يجوز بإذن القاضي. 66- لو أراد قيم المسجد أن يبني حوانيت في حرم المسجد وفنائه قال أبو الليث: لا يجوز له أن يجعل شيئًا من المسجد سكنًا ومستغلًّا. 67- لو حول أهل المحلة باب المسجد من موضع إلى موضع آخر جاز. 68- لو أوصى بثلث ماله لأعمال البر يجوز إسراج المسجد منه ولا يزداد على سراج واحد ولو في رمضان لأنه إسراف. 69- لو أوصى لعمارة المسجد يصرف فيما كان من البناء دون التزيين ويصرف في المنارة لأنها من بناء المسجد. 70- لو نقش القيم المسجد من غلة الوقف على عمارته كان ضامنًا. 71- لو وقفت أرض على عمارة المسجد على أن ما فضل من عمارته فهو للفقراء اجتمعت الغلة والمسجد غير محتاج إلى العمارة قال البلخي تحبس الغلة لأنه ربما يحدث بالمسجد حدث وتصير الأرض بحال لا لا تغل قال أبو جعفر إلا إذا زاد عما يحتاج إليه المسجد لو حدث به حدث فالزائد يصرف للفقراء على ما شرط الواقف. 72- لو كان المسجد في مهب الريح فيصيب المطر بابه ويبتل داخله والخارج منه ويشق على الناس دخوله، فيجوز أن يتخذوا له ظلة من غلة وقفه إن كان لا يضر بأهل الطريق. 73- ليس لمتولي المسجد أن يحمل سراج المسجد إلى بيته. ا. هـ من أحكام الأوقاف. 74- قال في الإقناع: ولو وقف على مسجد ونحوه قنديل من ذهب أو فضة لم يصح وقفه ويحرم. وقال الموفق: وقفه بمنزلة الصدقة به على المسجد فيكسر ويصرف في مصلحة المسجد وعمارته، ويحرم تمويه سقف وحائط بذهب أو فضة لأنه سرف ويفضي إلى الخيلاء وكسر قلوب الفقراء وتجب إزالته كسائر المنكرات. ا. هـ.

قال مؤلفه: تم جمعًا وتسويدًا في 24 رمضان عام 1323 بمنزلنا بدمشق الشام. ثم زاد المؤلف عليه زيادات كثيرة بعد التاريخ المذكور بحمده تعالى قابلته على مسودتي وزيادتي بعدها في مجالس آخرها رابع عيد الأضحى سنة 1330 وكتبه مؤلفه: جمال الدين القاسمي يقول محمد ناصر الدين الألباني: وكان الفراغ من التعليق عليه، وتخريج أحاديثه على وجه الاختصار في 23 ربيع الأول سنة 1389 بعليتي من المكتبة الظاهرية بدمشق، والحمد لله رب العالمين.

فهرس

فهرس: الصفحة 3 مقدمة الناشر. 5 مقدمة الطبعة الأولى للأستاذ محب الدين الخطيب رحمه الله 7 خطبة الكتاب 9 مقدمات للمؤلف 9 بيان الميزان الذي يعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه 10 الترهيب من الابتداع 13 معنى البدعة 15 انقسام البدعة إلى حسنة وسيئة 16 رد البدعة في الدين 17 بغض المبتدع 18 وعيد من سن سنة سيئة 18 إنكار المنكرات المحظورة والمكروهة 19 مفاسد الإقرار على البدع 20 ما يجب على العالم فيما يرد عليه مما لا يأمن فيه من الابتداع 21 اجتناب العالم ما يتورط بسببه العامة 28 فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 32 بيان من هو المستطيع لإزالة البدع في المساجد 34 لزوم الصبر والتواصي به للداعي إلى الحق 36 نقم المتعصبين على منكر البدع بغيًا وجهلًا 37 عدوى البدع من شوم المخالطة

38 ما يجب على العالم إذا خالط العامة 40 السعي بإزالة البدع من المساجد 40 حكم المسجد من أرض منصوبة أو من مال مغصوب 43 إيثار المسجد الذي تقل فيه البدع 47 المحدثات في خطبة الجمعة 49 صلاة الظهر جماعة عقب صلاة الجمعة 51 خروج الجمعة عن موضوعها بكثرة تعددها 64 خصائص الجمعة في العهد النبوي وفي عهد الخلفاء الراشدين. 64 انتظار الأربعين في القرى ليتم عدد المجتمعين. 66 أداء الجمعة في حجرة ورفض الصفوف 67 أدب الخطب والخطباء 70 دعاء المؤذن بين الخطبتين إثر جلوس الخطيب 71 الأحاديث المروية على المنابر في فضل رجب 73 التمسح بالخطيب إذا نزل عن المنبر 73 الجهر بالنية قبل تكبير الإحرام 76 صلاة النافلة إذا أقيمت الصلاة 77 إساءة الصلاة 78 رفض الجماعة الأولى لانتظار الثانية 78 الافتئات على الإمام الراتب 79 صلاة جماعتين فأكثر في محل واحد يشوش بعضهم على بعض 74 بدعة السجدتين بعد الصلاة بلا سبب مشروع 85 التأخر عن الصفوف في الرفوف 85 المسيئون صلاة التراويح 86 انفراد المصلين للوتر عن القدوة بإمام التراويخ المخالف لمذهبهم فروع ومسائل في آداب الإمام والقدوة 92 سنية تحية المسجد لكل داخل

93 حظر إقامة من سبق إلى مكان في المسجد 93 حظر المرور بين يدي المصلي نهي ذي الريح الخبيثة عن دخول المسجد 96 زخرفة المساجد 96 كثرة المساجد في المحلة الواحدة ومزية المسجد العتيق 98 زيادة التنوير ليلة أول جمعة من رجب 99 زيادة التنوير ليلة النصف من شعبان ونشر فضائلها وقراءة أدعية فيها 101 زيادة التنوير في رمضان 102 إبقاء المصابيح متقدة إلى الضحوة أيام العيد 104 المقاصير والدرابزين في المسجد 105 كرسي القارئ في المسجد والتشويش بالقراءة عليه وقصد الدنيا بالقرآن 107 السماع، والأناشيد، والغناء في المسجد 108 الذاكرون المغيرون للفظ الجلالة 110 رفع الصوت في المسجد بذكر أو غيره 112 تحقيق وقت السحر وما ينتقد على قارئي ورده في المسجد 114 الاحتراز من البدع في الاحتفال بقراءة المولد النبوي 115 التحلق لحديث الدنيا في المسجد 116 كتابة آيات السلام ليلة آخر أربعاء من صفر الخير 119 القصاص في المسجد 123 اللغط وقت القراءة 123 التشويش بالقراءة على الناس 124 التشويش على القُراء في المسجد 124 المعرضون عن مجالس العلم بالمسجد 125 المعرضون عن سماع خطبة العيد 126 المنشغلون بنوافل العبادة في المسجد مع الجهل وترك محل العلم 127 المسرعون بقراءة القرآن 128 اللاحنون بالقرآن في المسجد

129 دعاء ليلتي أول السنة وآخرها 131 آداب الأذان العامة فروع في الأذان 133 الأذان داخل المسجد في المغرب والعشاء مع الأذان في المنائر 133 الزيادة على الأذان المشروع وبدعة التنغيم 135 إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر في رمضان تعجيلًا للسحور 137 الموقتون في بعض المساجد 137 إقامة من يؤذن 138 زيادة لفظ "سيدنا" في ألفاظ إقامة الصلاة 141 الزعق بالتأمين عقب الصلوات 142 الإنشاد قبل خطبة الجمعة 143 تبليغ المؤذنين جماعة 143 التبليغ بالأنغام المعروفة 144 حكم التبليغ عند عدم الحاجة إليه 144 جهر المؤذنين بالورد المعلوم وبالأناشيد 145 إنشاد الغزليات في المنارات 145 نشيد وداع رمضان 148 بيان أنه لا عبرة بوجود هذه البدع بالجامع الأموي وسكوت الأقدمين عليه 149 تعصب بعض المدرسين 152 تساهل بعض المدرسين في الدروس العامة 155 توسيد التدريس إلى غير أهله 156 عدم جواز توسيد التدريس لغير الأهل وأنه لا تصح توليته ولا إعطاؤه الراتب المعلوم 157 تنازل كثير من الأخيار عن وظائفهم بالتوكيل أو الاستقالة 160 نعي الميت في المآذن والنداء للصلاة عليه 161 رفع الأصوات أمام الميت بالأناشيد حين دخول المسجد وقبله وبعده 162 رثاء الميت في المسجد وقراءة نسبه وحسبه

163 تأخير الميت في المسجد 163 الجلوس للتعزية في المسجد 164 دفن الميت في المسجد أو بناء مسجد عليه 165 نعي الإمام الشهيد "الحسين" على المنبر في جمعة عاشوراء 168 ما ينويه الماكث في المسجد من النيات الحسنة ليبلغ بها درجات المقربين 170 الانقطاع في المسجد لحفظ النفس 171 القانعون بسكنى المساجد عن الكسب 172 المعتزلون في المساجد والمدارس وآفات الاعتزال 173 البصراء والمتعففون الذين يألفون المساجد 176 اتخاذ الجوامع خانقاهات 178 اتخاذ المساجد مكاتب أو مخافر 178 التماوت وإطراق الرأس وإحناء الظهر في المسجد وغيره 180 جهل بعض أئمة القرى 181 تقصير أكابر القرى في عمارة مساجدهم 181 تنطع من يدخل حافيا المسجد وهو يعمر 182 إيلاف مسجد لاعتقاد فضل فيه غير المساجد الثلاثة 182 المحافظون لنعال الناس في المساجد 183 إيواء القطط في المسجد 183 إيواء المجاذيب في بعض المساجد 184 دخول الصبيان المساجد 184 بيع الأدوية والأطعمة والتعويذات وتخلل السؤال الصفوف ونحوها في المسجد 185 الإيطان في موضع من المسجد 186 واجبات نظار المساجد 189 الاجتماع في المسجد للدعاء برفع الوباء

192 المشروع والمبتدع في بيت المقدس 196 المشروع والمبتدع في مسجد الخليل 198 المشروع والمبتدع في مزارات ما حول المدينة المنورة 200 المشروع والمبتدع في مزارات مكة المشرفة 204 في الموازنة بين مذهب عمر وبقية الخلفاء والصحابة 208 ما رتبه النساء من زيارات المقامات في المساجد 209 النذر للمساجد ولا سراج الضرائح والمآذن ولقراءة مولد فيها 211 الموسوسون في أمر الطهارة والمسرفون من ماء المساجد 213 مشي المستبرئين في جوانب المسجد 214 اغتسال الرعاع في برك بعض المساجد 215 خطيئة البزاق في المساجد 216 وضع ستائر في نواحي المسجد وهي الأعلام والرايات 217 التمسح بالأعلام أو الحيطان في المسجد 218 لجأ اليتامى والرجال البؤساء إلى أواوين المساجد 221 ضر إقامة الراقي في حجر المسجد 222 إخراج السيارات "النوبات" من المسجد 224 وعظ النساء في مسجد خاص 226 الصادون عن تدفئة المساجد في الشتاء 228 شقاء خدمة المسجد بالتهاون بالجماعات 229 الرغبة في إيقاد زيت الغاز إلى الزيت البلدي 230 استنكار من ليس بمعتم أن يؤم الصلاة أو الإنكار عليه 231 واجبات بواب المسجد والمدرسة وبيان ضرر غلق أبوابها 233 تخلف الكثيرين من الجماعات ولهوهم عنها 235 احتكار الكتب الموقوفة في بعض المساجد 236 الإيصاء بالمصاحف والربعات والسجادات في مساجد لا تحتاج إليها 237 غرس الأشجار في المساجد 238 إملال القراء بإطالة القراءة وكذا غيرهم

239 تفريق أجزاء القرآن والقارئ يقرأ 241 غضب الملازمين لوراء الإمام على من يزاحمهم 242 ازدحام المتفرجين على المحمل في بعض المساجد 243 بسط بعض المصلين سجادته فوق سجادات المسجد 245 تغير ماء البحيرات أيام انقطاع الماء 246 تحجير بعض السقايات المسبلة بشباك حديد 248 اجتماع الفقراء لتقبل صدقة إسقاط الصلاة في المسجد 250 قيام بعض المدرسين أو السامعين لبعض القادمين 251 احترام أفنية المساجد 252 التهليلة في المسجد لمن يتوفى من أئمته أو خدمته 255 قراءة البخاري لنازلة الوباء والحرب ونحوها 259 صورة عريضة قدمت لمدير الأوقاف لأجل إصلاح المساجد 260 فضول بعض العامة وخوضها فيما لا تحيط به علمًا 261 الخاتمة

§1/1