إسلامية لا وهابية

ناصر العقل

المقدمة

[المقدمة] مقدمة الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله، ورضي الله عن صحابته الكرام، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك اللهم. وبعد: فقد ثبت في الخبر الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين، على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي وعد الله وهم كذلك» (¬1) وبين أنهم يقاتل آخرهم الدجال (¬2) وينزل فيهم عيسى ابن مريم - عليه السلام - عند قيام الساعة. وعُلم يقينًا أن هذه الطائفة هم من كان على منهاج النبوة، فعمل بالسنة ولزم الجماعة وسار على نهج السلف الصالح، وأن هذه الطائفة (أهل السنة والجماعة) لا يحصرهم زمان ولا مكان، لكنهم قد يكثرون في زمان ويقلون في آخر، وقد يكثرون في مكان ويقلون في آخر كذلك. والمتأمل لحال المسلمين في القرون الأخيرة يجد أن أبرز أنموذج لهذه المسيرة الخيِّرة هي تلكم الدعوة الإصلاحية المباركة، ودعوة التوحيد والسنة، التي قام بها الإمام المجدد (محمد بن عبد الوهاب ت 1206هـ) ، وأيدها الأمير الصالح (محمد بن سعود ت 1179هـ) (رحمهما الله) التي ظهرت في منتصف القرن الثاني عشر الهجري في قلب نجد، ثم سائر جزيرة العرب، ثم امتدت آثارها الطيبة إلى كل أقطار العالم الإسلامي، بل إلى كل أرجاء المعمورة. ولا تزال بحمد الله كذلك. وقد لوحظ، لا سيما مع الأحداث الأخيرة، حروب الخليج، وسقوط الاتحاد السوفييتي وأحداث (11 سبتمبر) بأمريكا وما أعقبه من تداعيات، لوحظ بصورة ملفتة ومريبة انبعاث كثير من المفتريات والأوهام والأساطير حول ما يسمونه: (الوهابية) . ¬

(¬1) رواه البخاري (3640) (3641) ، ومسلم (1920) . (¬2) رواه أبو داود (1 - 389) ، والحاكم (4) ، وأحمد (4، 437) ، وكذا صححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1959) .

وشاعت هذه المفتريات وهذه الأكاذيب حول الدعوة وأتباعها وعلمائها ودولتها (الدولة السعودية) ، وأسهم في ترويجها الحاسدون والمناوئون والكائدون وربما صدقها الجاهلون بحقائق الأمور. وإن الباحث في حقيقة هذه الدعوة ومفتريات خصومها، وتحفظات بعض ناقديها، والكم الهائل مما قيل في ذلك وكتب، وما حشي في أذهان الناس تجاهها من تنفير وتضليل؛ سيصاب بالذهول والحيرة - لأول وهلة. لكن ما إن يلج المنصف في عمق القضية فسيجد الأمر أيسر وأبين مما يتصوره، وحين يتجرد من الهوى والعصبية ستنكشف له الحقيقة، وهي: أن هذه الدعوة الإصلاحية الكبرى، إنما تمثل الإسلام الحق، ومنهاج النبوة، وسبيل المؤمنين والسلف الصالح في الجملة. كما سيظهر له جليًا أن ما يثار حولها وضدها من الشبهات، إنما هو من قبيل الشائعات والمفتريات، والأوهام والخيالات، والبهتان. ومن الزبد الذي يذهب جفاء عند التحاكم إلى القرآن والسنة، والأصول العلمية المعتبرة، والنظر العقلي السليم. وما أظن حركة من الحركات الإصلاحية واجهت من التحديات، والظلم والبهتان، كما واجهت هذه الدعوة، ومع ذلك علت وانتصرت وآتت ثمارها الطيبة (ولا تزال بحمد الله) في كل مكان. وما ذلك إلا لأنها قامت على ثوابت الدين الحق (الإسلام) لكن هذه الحقيقة خفيت على كثير من الناس، فكان لا بد من تجليتها. لذا فقد لزم الإسهام - في هذا المؤلف - (¬1) في تجلية الحقيقة، ورفع الظلم، ودفع الباطل ورد المفتريات والمزاعم، بالحجة والبرهان، واستجلاء الحقيقة من خلال الواقع وشهادة المنصفين. فإنه من الحقائق الثابتة الجليَّة أن هذه الدعوة الإصلاحية إنما هي امتداد للمنهج الذي كان عليه السلف الصالح أهل السنة والجماعة على امتداد التاريخ الإسلامي، وهو منهج الإسلام الحق الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام والتابعون وأئمة الدين من الأئمة الأربعة ونحوهم من أهل الحديث والفقه وغيرهم. ¬

(¬1) وهو ملخص عن كتاب بعنوان: (دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب - حقيقتها ورد الشبهات حولها) مقدم إلى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد.

إذن فهذه الحركة المباركة لم تكن إلا معبرة عن الإسلام نفسه، مستهدفة إحياء ما اعترى تطبيقه من قبل كثير من المسلمين من غشاوة وجهل وإعراض وبدع. وحيث قد اشتهرت عند غير أهلها، وعند الجاهلين بحقيقتها باسم (الوهابية) فإن هذا الوصف انطلق أولًا من الخصوم، وكانوا يطلقونه على سبيل التنفير واللمز والتعيير، ويزعمون أنه مذهب مبتدع في الإسلام، أو مذهب خامس. وهذا ظلم. فهي ليست سوى الإسلام والسنة كما جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وسار عليها السلف الصالح. ولم يكن استعمال هذا الوصف مرضيًا ولا شائعًا عند أتباعها، ومع ذلك صار لقب (الوهابية) وتسمية الدعوة الإصلاحية السلفية الحديثة به هو السائد لدى الكثيرين من الخصوم وبعض الأتباع والمؤيدين والمحايدين (تنزلًا) . بل تعدى الأمر إلى التوسع في إطلاق (الوهابية) على أشخاص وحركات منحرفة عن المنهج السليم، وتخالف ما عليه السلف الصالح وما قامت عليه هذه الدعوة المباركة، وهذا بسبب تراكمات الأكاذيب والأساطير التي نسجت حول الدعوة وأهلها بالباطل والبهتان. إن أتباع هذه الحركة لا يرون صواب هذه التسمية (الوهابية) ولا ما انطوت عليه من مغالطات وأوهام، لاعتبارات مقنعة كثيرة شرعية وعلمية ومنهجية وموضوعية وواقعية، تتلخص فيما أشرت إليه من أنها تمثل تمامًا الإسلام الحق الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن سلك سبيل الهدى، وإذن فحصره تحت مسمى غير الإسلام والسنة خطأ فادح وبدعة محدثة ومردودة. كما ذكرت أن هذه الدعوة وأتباعها ودولتها (الدولة السعودية في مراحلها الثلاث) قد واجهت، ولا تزال تواجه، تحديات كبرى كلها ترتكز على المفتريات والاتهامات، والشائعات والأكاذيب والأساطير التي لا تصمد أمام البحث الشرعي العلمي الأصيل والمتجرد. وإن كان الناقدون قد يجدون في تجاوزات بعض المنتسبين للدعوة ما يتذرعون به في نقدها، لكن عند التحقيق تزول هذه التهم. إذ إن الناظر في المفردات الجزئية لكل دعوة أو مبدأ، قد يجد فيها الكثير من الأخطاء والتجاوزات والتصرفات الشاذة والأقوال النادة والأحكام الخاطئة، أو الأمور المشكلة والمشتبهة التي تحتاج إلى تثبت أو تفسير أو تدقيق أو استقراء للوصول إلى حكم علمي تطمئن إليه النفس.

لكن أهل العلم وعقلاء الناس لديهم موازين علمية وعقليَّة وقواعد شرعية يزنون بها الأمور. ودعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب تخضع لهذه القاعدة، إذ هي دعوة إسلامية محضة وسلفية خالصة، تسير على منهج السلف الصالح، فمردُّ الخلاف بينها وبين مخالفيها: الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، وقد بينت أن ما يتهمها به خصومها من الاتهامات على ثلاثة أنواع: النوع الأول: من الكذب الصريح والافتراء والبهتان، وقد ورد ذكر كثير منه في هذا البحث. النوع الثاني: مما يكون من اللوازم غير اللازمة، أو التلبيس، أو التفسير الخاطئ، ونحو ذلك مما يلتبس فيه الحق بالباطل ويجب رده إلى النصوص والأصول الشرعية والقواعد المعتبرة عند العقلاء، والمنهج الذي عليه الدعوة. النوع الثالث: أخطاء وتجاوزات وزلات ليست على المنهج الذي عليه الدعوة، أو اجتهادات خاطئة أو مرجوحة، وقد تصدر من أيٍّ من العلماء أو الولاة أو العامة، والمنتسبين للدعوة. وكثير من الشبهات والاتهامات التي يتعلق بها الخصُوم للطعن في الإمام وأتباعه ودعوته من هذا النوع. وقد عرضت هذا المنهج بشيء من التفصيل في هذا البحث ليكون القاعدة والميزان في تقويم الدعوة، وبيان مدى الظلم والإجحاف الحاصل لها ولأهلها في الاتهامات التي قيلت وذاعت عند الكثيرين، بل ومدى البهتان والكذب من قبل بعض الخصوم الذين ظلموا هذه الدعوة، أو ممن صدقوهم دون تثبت ولا نظر في المنهج والأصول التي عليها المعوَّل في النقد والتقويم، ودون اعتبار للحال والواقع الذي تعيشه الدعوة وأهلها. وقد واجهت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب - كسائر الدعوات الإصلاحية - صورًا عديدة من هذا الابتلاء والمواجهة والحرب الظالمة بجميع أنواعها من خصُومها، وما هذا الصراع إلا حلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل إلى قيام الساعة. كما أن الصراع بين الدعوة وبين خصومها إنما كان صراعًا عقديًا بالدرجة الأولى، ومظاهر الصراع السياسي وغيره جاءت تباعًا؛ لأن الدعوة أعلنت نشر التوحيد والسنة، ومحاربة الشركيات والبدع السائدة، وأعلنت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وتحقيق العدل ورفع الظلم، والعمل بشرع الله في أمور الحياة ونشر العلم، ومحاربة الجهل

والدجل والسحر. وهذا يتصادم مع مصالح أهل الأهواء والمنتفعين من شيوع البدع والجهل والتخلف. هذه هي الحقيقة ولا شك. وكل رسائل الدعوة وكتبها وأعمالها وتعاملاتها تدور على هذا الأصل: العودة للإسلام والسنة، كما هي في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسيرة السلف الصالح، نقية صافية من شوائب الشركيات والبدع والأهواء والجهالات والطرق والفرق، والدجل. وهذا منبع الخلاف ومنشأ الصراع. نعم، لقد واجهت هذه الدعوة المباركة: إمامها وعلماؤها وقادتها ودولتها، وأتباعها وأنصارها ومؤيدوها حيثما كانوا - ولا تزال تواجه - أصنافًا من الخصوم، وأنواعًا من التحديات والمفتريات والدعايات المضادة والخصومات بالباطل. فهي إذن - كأي دعوة وحركة إصلاحية جادة - قد اصطدمت بقوى وتحديات وعقبات كبرى ومكائد عظيمة، وخصوم أقوياء، وأعداء أشداء من ديانات وفرق ومذاهب، ودول وجماعات، وعلماء ورؤساء وأمراء، بل وغوغاء وجهلة. ومع ذلك كله كانت هذه الدعوة - حين قامت على الحق والعدل - تنتصر وتنتشر، فقد قاوم إمامها وعلماؤها وأتباعها وأمراؤها كل هذه التحديات، بقوة الإيمان واليقين والعلم والحلم، والصبر والثبات. وإن الواقع ليشهد أن هذه الدعوة - رغم التحديات الكبيرة - كانت تظهر وتعلو وتؤتي ثمارها الطيبة حتى في فترات ضعف السلطة، بل وفي البلاد التي لا توجد فيها لها سلطان ولا قوة حين لا تملك إلا قوة الحجة، وما ذلك إلا لأنها تمثل الإسلام الحق الذي كتب الله له البقاء والظهور إلى قيام الساعة؛ ولأنها تملك عوامل البقاء والثبات ومقومات القوة والنصر؛ ولأنها تستمد القوة من نصرها لدين الله دين الحق والعدل، ومن وعد الله تعالى لكل من نصر هذا الدين كما قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] [سورة الحج، من الآية: 40] . ولأنها كانت تخاطب العقول السليمة والفطرة المستقيمة، والقلوب الواعية المتجردة من الهوى. إن من أقوى الوسائل لفصل النزاع بين المختلفين بعد التحاكم إلى الأصول الشرعية

والبراهين العقلية: شهادات الآخرين، وقد شهد لهذه الدعوة المباركة، وإمامها وعلمائها ودولتها وأتباعها كثيرون من أهل العلم والفكر والفضل والإنصاف، من العلماء والأدباء والمفكرين والساسة والدعاة، وغيرهم. من المؤيدين، والمعارضين، والمحايدين، من المسلمين وغير المسلمين، ومن كل بلاد العالم ومنذ نشأة الدعوة إلى يومنا هذا. وإن كل الذين شهدوا لهذه الدعوة وإمامها وعلمائها ودولتها وأتباعها، كانوا يستندون في شهادتهم لها إلى البراهين والدلائل القاطعة التي لا يمكن أن يتجاوزها المنصف إلا معترفًا بها، ولا ينكرها إلا مكابر. فإن فيما قاله أهلها وكتبوه وفعلوه، وفي آثار هذه الدعوة الدينية والدنيوية العلمية والعملية، في العقيدة، والنظام والسياسية، وسائر مناحي الحياة ومناشطها، ما يشهد بالحق ويدحض الشبهات والمزاعم والتخرصات والاتهامات. علمًا بأن الدعوة ودولتها كانت في مراحلها الأولى لا تملك من وسائل الدعاية والإغراء المادي ما يملكه خصومها كالأتراك وأمراء الأحساء، وأشراف مكة والبلاد المجاورة، وغير المجاورة. ولو اقتصرنا في الدفاع عن الدعوة ودولتها على أقوال المحايدين وكثير من الخصوم في إنصافها والدفاع عنها لكان ذلك كافيًا في بيان الحقيقة ورد الشبهات، وإقناع من كان قصده الحق والتجرد من الهوى. أما من كان دافعه الهوى والحسد أو العصبية أو المذهبية أو نحو ذلك من الدوافع الصارفة عن الحق فلا حيلة فيه، كما قال الله تعالى في هذه الأصناف وأمثالهم من أسلافهم: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام: 4] [سورة الأنعام، الآية: 4] . فإذا كانت أحوال الدعوة، وأقوالها ومؤلفاتها، ومواقفها، وشهادات عقلاء الناس تشهد لها فهل بعد هذا البيان من بيان؟ والشهادات التي شهد بها كثيرون لهذه الدعوة المباركة كانت صادقة وطوعية، ونابعة من الضمير، فلم تكن نتيجة إغراءات ولا تضليل إعلامي، ولا ضغط سياسي، ولا تهديد ووعيد (لا رغبة ولا رهبة) ؛ لأن أتباع الدعوة ورجالها لم يكونوا يملكون شيئًا من ذلك، إلا الحجة والبرهان (الدليل الشرعي والعقلي) لكل من ألقى السمع وهو شهيد. ولذلك جاءت

شهادة المنصفين مفعمة بالصدق والشفافية والحماس البريء، وخالية من أساليب المجاملات وأيٍّ من أشكال التكلف أو دوافع الرغبة أو الرهبة. وكانوا يستندون إلى المنهج الذي قامت عليه وإلى الواقع الذي تعيشه في مجتمعها، لا سيما من البلاد التي تشملها الدولة السعودية المعاصرة، التي تميزت بحمد الله بصفاء العقيدة وظهور شعائر الدين، واختفاء البدع ومظاهرها. - وأنها حققت الغايات التي جاء بها الإسلام: من تعبيد الناس لله وحده لا شريك له، وطاعة الله، وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإقامة فرائض الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، وتطبيق الحدود، وتحكيم الشريعة الإسلامية في كل شؤون الحياة، وابتغاء مرضاة الله والدار الآخرة. - وأنها رفعت المظالم والمكوس، والضرائب التي تثقل كواهل الناس، وسعت إلى تحقيق العدل والأمن، بالتحاكم إلى شرع الله، وتطبيق نظام القضاء بمقتضى الشريعة الإلهية. - وأنها حررت العقول والنفوس من التعلق بغير الله، من التعلق بالبدع والأوهام، والدجل والشعوذة ونحو ذلك. - وأنها هي الرائد الأول في أسباب النهضة العلمية والفكرية والأدبية الحديثة في جزيرة العرب وما حولها، وسائر البلاد العربية والإسلامية. - وأنها تمثل الأنموذج الأسلم لحركات الإصلاح والتحرير الحديثة في العالم الإسلامي، وأنها تمثل الأنموذج الصحيح في الدعوة، في العصر الحديث في تحقيق الدين، وإصلاح الأفراد والمجتمعات، وتخليص الأمة من البدع والأهواء والفرقة ووسائلها، والتقليد والعصبية، والتزام منهج السلف الصالح في الدعوة ووسائله وأهدافه وغاياته. - كما رأى كثير منهم بأن هذه الدعوة بأصولها ومناهجها وتجاربها هي المؤهلة بأن تنهض بالأمة الإسلامية اليوم، وتعيدها إلى سابق مجدها، وتجمع شملها على الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح. - وأوضحت أن من أكبر الردود على المفترين على هذه الدعوة وأتباعها ودولتها تلكم الثمار الطيبة والآثار الحسنة للدعوة حين قامت على أسس الدين الحق، وقواعد الملة الحنيفية واعتمدت على الوحي المعصوم (كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -) وسلكت سبيل المؤمنين - السلف الصالح أهل السنة والجماعة - فأعلنت راية التوحيد ورسخته في القلوب وأزالت مظاهر الشرك والبدعة، وحكمت بشرع الله تعالى: شاع بذلك الأمن والعدل والألفة، وانتشر العلم، واختفت

مظاهر الظلم والشتات والجهل والبدعة والخرافة. - لقد كانت لهذه الدعوة المباركة آثار عظيمة وكبيرة غيرت معالم التاريخ، وعدلت مسار الحياة في الأمة الإسلامية كلها في جميع نواحي الحياة: الدينية والعلمية والسياسية والاجتماعية وغيرها. ولم يقتصر أثرها الطيب على جزيرة العرب (ونجد بخاصة) ، التي ارتفعت في ربوعها راية التوحيد خفاقة وعلت فيها معالم السنة، وزالت آثار البدعة والفرقة والجهل، وساد فيها الأمن والوفاق. بل تجاوز أثرها إلى بقية أقاليم الجزيرة العربية وإلى سائر أقطار المسلمين، فقام علماء ومصلحون، وقامت دعوات وحركات تسير على نهج هذه الدعوة السلفية النقية الصافية، في الحجاز وعسير واليمن والشام والعراق ومصر، والمغرب والسودان وكثير من البلاد الأفريقية، وفي باكستان وأفغانستان، والهند البنغال وجاوه، وسومطرة، وسائر الجزر الإندونيسية وغيرها. وكان من أبرز ثمار هذه الدعوة قيام دولة إسلامية قوية مهيبة احتلت موقعًا مرموقًا بين دول العالم كله، والعالم الإسلامي بخاصة هي (دولة آل سعود) منذ أن ناصر مؤسسها محمد بن سعود إمام الدعوة وآزره على إعلاء كلمة الله. فقد كتب الله لها التمكين، وأعلنت التوحيد وحكمت بشرع الله تعالى، ومع ما تعرضت له هذه الدعوة والدولة من تحديات كبيرة، وخصوم أشداء إلا أنها كانت تنتصر في النهاية. لقد تعرضت الدعوة والدولة (السعودية) في مراحلها الأولى لضربات موجعة لكنها كانت - حين قامت على التوحيد والدين والعدل والسنة - لا تلبث أن تنهض قوية فتية لأنها كانت تسكن القلوب، وقد ذاق الناس في حكمها طعم الإيمان، والأمن، والعلم والاجتماع. ولا يزال الأنموذج الحي للدعوة ودولتها قائمًا - بحمد الله - تحتله هذه البلاد المباركة (المملكة العربية السعودية) التي أرسى قواعدها الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - على الأسس المتينة: التوحيد والشرع والعلم، وبناء دولة حديثة، تجمع بين الأصالة في تحكيم شرع الله وحمايته والدعوة إليه وتعظيم شعائره وخدمة مشاعره، وبين المعاصرة بالأخذ بأسباب القوة والنهضة والرقي، من غير إخلال بالدين والفضيلة. ونسأل الله لهذه الدعوة وهذه الدولة المزيد من التمكين والنصر والتوفيق في سبيل

الإسلام، وأن يجمع بها كلمة المسلمين على الحق والسنة. إن هذه الآثار الطيبة والثمار اليانعة الممتدة طيلة قرنين ونصف، هي الرد العملي والعلمي، الشرعي والمنطقي، والواقعي على مفتريات الخصوم، ففي الحال ما يغني عن المقال، لكن حين عميت أبصار أهل الأهواء وبصائرهم عن إدراك الحقيقة والاعتراف بها، وحين حجبت الحقائق عن الجاهلين كان لا بد من تجلية الحقيقة، والله المستعان. ولا يزال كثيرون من الذين يجهلون الحقيقة عن المملكة أو يتجاهلونها، أو الذين يلمزونها أو يحسدونها يصفونها بأنها (دولة الوهابية) على سبيل اللمز والطعن. وقبل الدخول في رد هذا اللمز في آخر هذا المؤلف - إن شاء الله - ينبغي أن أؤكد أن وصف هذه الدعوة بالوهابية يعد تزكية لا تقدر بثمن؛ لأن الوهابية التي يعيرونها بها يقصدون بها دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، والتي هي في الحقيقة: الإسلام والسنة وسبيل السلف الصالح، والتزام كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. أما الوهابية على الوصف الذي افتراه الخصوم، والتي تعني (بزعمهم) مذهبًا خامسًا، أو فئة خارجة عن السنة والجماعة، أو التي تعني عند أهل الأهواء والبدع والافتراق وأتباعهم من الغوغاء: (بغض النبي - صلى الله عليه وسلم - والأولياء. . .) أو نحو ذلك من المفتريات التي سيأتي ذكرها والرد عليها، فهذه المفتريات لا تعدو أن تكون أكاذيب وأوهامًا في خيالات القوم وعقولهم، أو شائعات صدقوها دون تثبت. وقد ذكرت أن كل الذين أطلقوا هذه المفتريات والبهتان والذين صدقوا هذه الشائعات ليس عندهم من الدليل والبرهان ما يثبت شيئًا من مزاعمهم، بل المنصف والباحث عن الحقيقة يجد الأمر خلاف ما يفترون. فها هي المملكة العربية السعودية (حكومة وشعبًا) كيان شامخ ملأ سمع العالم وبصره، ظاهرة بكيانها الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، والدولي وجميع أحوالها وإصداراتها العلمية والإعلامية والأدبية والثقافية، والفكرية وغير ذلك كله (إلا ما شذَّ) ينفي هذه المزاعم؛ إذن فالمثالب التي ينسبونها لما يسمونه (الوهابية) ودولتها وأتباعها لا حقيقة لها. ولا يعني ذلك أننا نزكي أنفسنا مطلقًا، فإن عمل البشر مهما بلغ لا بد أن يعتريه النقص والتقصير والخلل والخطأ، والناقد بصير.

بل يجب أن نعترف أنه حصل في بلادنا ومجتمعنا كثير من التحولات السلبية في كل مناحي الحياة، وأُصبنا بأدواء الأمم في بعض الأمور، لكن مع ذلك لا تزال الأصول والثوابت والمسلمات قائمة ومتينة ومعتبرة بحمد الله. والحق: أن الأمة الإسلامية، مع ما اعتراها من كثرة البدع والأهواء والجهل والإعراض والفرقة والشتات، إلا أنها لا تزال فيها بقايا خير، وولاء للإسلام، وهذا التصور الحق هو الذي دفع هذه الدعوة المباركة إلى السعي الجاد واستنهاض نزعة الخير في الأمة. ولذلك لو أن الأمة الإسلامية سلمت من تضليل الخصوم، ودعايات السوء التي حالت بينها وبين التعرف على طبيعة الحق الذي يحمله منهج هذه الدعوة التي يعيرونها بـ (الوهابية) لاستجاب كثير من المسلمين لداعي الحق، وكان للمسلمين شأن آخر من العزة والقوة والاجتماع والهيبة. ولله الأمر من قبل ومن بعد. هذا. . . وقد حرصت خلال هذا البحث كله أن أركِّز على التأصيل وبيان المنهج الذي سارت عليه الدعوة وأتباعها ودولتها، وتوثيق ذلك من كتبهم وأقوالهم ومواقفهم، والواقع العلمي، والعملي الذي يعيشونه ويعتمدونه؛ لأن هذا أجدى في كشف الحقيقة، وأبلغ في رد الشبهات وكشف الزيوف والمفتريات عليهم. ولذا آثرت الإقلال من المجادلات والتمادي في النقاش، وأحسب أن هذا أبلغ في البيان وأقرب للإقناع، وأجمع للشمل، والله حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. ونسأل الله تعالى أن ينصر الحق وأهله، وأن يخذل الباطل وأهله، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، وما فيه خيرهم وعزهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة، وأن يقيهم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن. وصلى الله وسلم وبارك على خير الخلق أجمعين نبينا وحبيبنا محمد وآله، وارض عن صحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضل الله ورحمته آمين. كتبه ناصر بن عبد الكريم العقل أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

تمهيد

[تمهيد] [حال نجد قبل دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب] [المقصود بنجد] حال نجد قبل دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب (¬1) نجد التي سنتحدث عنها هنا هي نجد وسط جزيرة العرب التي انطلقت منها هذه الحركة الإصلاحية المباركة (لا نجد العراق) وهي أعني (نجد الجزيرة) ما بين الحجاز غربًا والدهناء شرقًا، والربع الخالي جنوبًا والنفود الكبرى شمالًا. وقد استوعبت نجد منذ أيام الجاهلية الكثير من قبائل العرب الكبرى. [حال نجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين] حال نجد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين: لما جاء الإسلام دانت نجد كلها للدين واستجابت لداعي الحق، ومنها اليمامة، وفيها بنو حنيفة، وكانت ذات أهمية اقتصادية وغيرها، إذ هي مصدر من مصادر التموين لمكة والمدينة والطائف، وبخاصة في المنتجات الحيوانية والزراعية، وأهمها الحنطة. اليمامة: ومن أهم حواضر نجد: (اليمامة) وقراها، كالدرعية والعيينة والرياض وحريملاء، وموقع اليمامة في قلب نجد. وكان زعيمها حين هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة: هوذة بن علي بن ثمامة الحنفي، وهو ممن دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام كسائر الملوك والرؤساء، لكن هوذة لم يستجب لداعي الإسلام. ثم ملك بعده ثمامة بن أثال، وله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قصة عجيبة انتهت بإعلانه للإسلام ونصرته له (¬2) . وفي عام الوفود (9، 10هـ) دخلت سائر القبائل والحواضر والبوادي النجدية في الإسلام (¬3) . ¬

(¬1) من مراجع هذا الفصل: تاريخ نجد لابن غنام، وعنوان المجد لابن بشر، والمجاز بين اليمامة والحجاز لابن خميس، وسيرة ابن هشام، والبداية والنهاية لابن كثير، وشبه جزيرة العرب (نجد) لمحمود شاكر. (¬2) انظر البداية والنهاية لابن كثير (7، 253) . (¬3) انظر المصدر السابق (7) وما بعدها.

حال نجد في عهد الدولة الأموية

ولما انتقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، خرجت أحياء وقبائل كثيرة عن الولاء للإسلام، وهم بين مرتد عن الإسلام، وبين مانع للزكاة، ولم يبق على الإسلام إلا مكة والمدينة والطائف، وبعض الأفراد والجماعات، ومنهم صاحب اليمامة ثمامة بن أثال ومعه طائفة من قومه، وقد قاتل مسيلمة مع جيوش أبي بكر - رضي الله عنه - وقبلها. وحين ظهرت دعاوى النبوة الكاذبة، كان في نجد منها، حركة مسيلمة الكذاب، وكان قد ادعى النبوة قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن بعده قويت شوكته والتف حوله المرتدون والمرتابون من أهل اليمامة وما حولها إلى أن هزمتهم جيوش الصديق - رضي الله عنه. ثم عادت اليمامة وسائر الأقاليم والقبائل النجدية إلى الإسلام بعد قتال المرتدين، وبقيت نجد كلها في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - وكذلك في عهد عمر - رضي الله عنه - وما بعدها، تنعم بظل الإسلام الوارف وتخضع للدين كله. [حال نجد في عهد الدولة الأموية] نجد في عهد الدولة الأموية: وفي عهود الدولة الأموية، كانت نجد في خلافة معاوية - رضي الله عنه - وابنه يزيد وما بعدهما متنازعة بين قوى وسلطات مختلفة، وفي حال تبعيتها لبني أمية كانت غالبًا تتبع البحرين (الأحساء) أو المدينة النبوية (¬1) . [حال نجد في عهد الدولة العباسية] نجد في عهد الدولة العباسية: وفي عهد دولة بني العباس، كانت تبعية نجد للدولة متفاوت قوة وضعفًا؛ ففي أول العهد العباسي إلى 251هـ كانت نجد خاضعة للحكم العباسي وتتبع الوالي في الحجاز. وفي سنة (251هـ) استقلت دويلة بني الأخيضر في الحجاز، وهي دويلة شيعية زيدية اتسمت بالجور وسوء السيرة. ثم لمّا هزمتهم جيوش العباسيين، فروا إلى نجد وأقاموا فيها إمارة لهم في منتصف القرن الثالث الهجري، وامتدت إماراتهم إلى البحرين (الأحساء) إلى أن جاء القرامطة الباطنية ¬

(¬1) انظر: جزيرة العرب (نجد) محمود شاكر (139 - 142) .

حال نجد في عهد الأتراك

وكانت دولتهم قد قامت بالبحرين سنة (281هـ) ، وهم يوافقون بني أخيضر في انتحال التشيع، فلما قويت القرامطة صارت الأخيضرية تتبعها منذ سنة (317هـ) تقريبًا، وكان لهيمنة هاتين الدولتين على نجد خلال هذه الأحقاب أثر بالغ السوء في انتشار الجهل والبدع والمحدثات والتقاليد الجاهلية، وشيوع البناء على القبور، والمشاهد والآثار واندراس الكثير من السنن، وصرف المسلمين عن إخلاص العبادة لله وحده، إلى التعلق بالمخلوقين، إلى أن جاءت دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب المباركة فأنقذ الله بها العباد والبلاد من أوضار الشركيات والبدع والجهل والفرقة والضعف والهوان، إلى التوحيد والسنة والعلم والجماعة، والقوة والعزة. وفي الفترة ما بين نهاية الأخيضريين والقرامطة في منتصف القرن الخامس الهجري بقيت نجد ممزقة مشتتة بين زعامات وإمارات صغيرة متنازعة، أو ولاءات رمزية (¬1) لبعض الولايات المجاورة، ومشيخة القبائل والعشائر المتنافرة. [حال نجد في عهد الأتراك] نجد في عهد الأتراك: وكذلك أمر نجد في عهد العثمانيين، لم يكن أحسن حالًا، إذ لم تكن الدولة العثمانية (الأتراك) تأبه بنجد وأحداثها، وليست عندها ذات شأن؛ ولذلك لم يكن لها على نجد سلطة مباشرة، بل كانت مهملة تتنازعها الإمارات المحلية، أو المجاورة، وكان قد اقتصر وجود الدولة العثمانية في جزيرة العرب على اليمن والحجاز والبحرين (الأحساء) وقد يكون لوالي الأحساء من قبل الأتراك شيء من الإشراف غير المباشر على نجد واليمامة بخاصة. وقد انقطع ذلك باستقلال زعيم بني خالد براك بن غرير بالأحساء عن الدولة العثمانية سنة (1080هـ) . وكذلك من جهة الحجاز لم يكن هناك نفوذ فعلي للأتراك على نجد، وإن كان بعض الأشراف قاموا بغزو بعض البلاد النجدية غزوات متفرقة ما بين سنة 986هـ وسنة (1107هـ) لكن لم يكن لهم استقرار يذكر، ولم يكن للأتراك عليهم سيادة فعلية، عدا التبعية الشكلية والرمزية أحيانًا. ¬

(¬1) انظر السابق (174) .

السمات العامة بنجد إبان ظهور الدعوة

ومع ذلك فإن هذه التبعية الشكلية إنما كانت تهدف إلى مجرد الاعتراف بالسيادة وجلب الضرائب، أو تأمين السبل وتوفير المؤن ونحو ذلك، ولم يكن لها تدخل فعلي في الشؤون الداخلية، فكانت ولايات الإمارة والقضاء، والحسبة، والمرافق تتم من قبل أهل الأقاليم أنفسهم وليس للدولة العثمانية وولاتها فيها حل ولا عقد، وهذا مما يُرد به على الذين توهموا أن الإمام محمد بن عبد الوهاب والدولة السعودية خرجوا على الخلافة. [السمات العامة بنجد إبان ظهور الدعوة] السمات العامة لنجد إبان ظهور الدعوة: لقد اتسمت البيئة العامة في نجد التي ظهرت فيها دعوة الإمام بسمات خاصة كان لها أكبر الأثر في مسار الدعوة منها: الوضع الاجتماعي والأمني: غلبة السمة القروية والبدوية عليها، ففي نجد عدد كبير من القرى والواحات، ويقطنها عدد أكبر من القبائل التي تعيش في البادية، وليس بين الحاضرة والبادية وئام، وكان العداء والتنافر سائدًا بينهم؛ لعدم وجود السلطان الذي يجمع الشمل ويحفظ الأمن، ويقيم العدل، كانت العلاقات بين البادية والحاضرة في عداء مستمر وسلب ونهب وقتال غالبًا، بل وكذلك الحال بين قرى الحاضرة نفسها، حيث تسودها المنافرة والتشتت والحروب، وكذلك الحياة بين القبائل البدوية تسودها الفوضى والعصبية والحمية الجاهلية، والقتال والسلب والنهب، وتحكمها الأعراف والعادات الجاهلية. تبعًا لذلك نرى نجد في عهد قيام الدعوة مشتتة ومقسمة إلى إمارات ومشيخات صغيرة ومتناحرة. حتى وصل الحال إلى أن القرية الواحدة تتنازعها عدة زعامات! ويكثر بينها التنافر والظلم والجور. الوضع الديني: كما ساد بينهم - من الناحية الدينية - الجهل والإعراض وشيوع البدع، فكان التصوف البدعي سائدًا، بما فيه التصوف الغالي، كمذهب ابن عربي وابن الفارض، والتصوف حيثما حل حلت الخرافة، وساد الجهل، وانتشرت البدع والخرافات والشركيات وشاعت المنكرات.

وإن كان يوجد - في الحاضرة - شيء من العلم الشرعي والعلماء، وقليل من التعليم (قراءة وكتابة) ، ولكن كانت اهتمامات العلماء مقصورة على الفقه غالبًا، أما عنايتهم بالعقيدة والحديث والتفسير واللغة فهي قليلة، وكما أن جهود العلماء أمام البدع والمنكرات ضعيفة. وقد بين الشيخ الإمام في إحدى رسائله هذه الأوضاع قائلًا: «وعرفت ما عليه الناس من الجهل والغفلة والإعراض عما خُلِقوا له، وعرفت ما هم عليه من دين الجاهلية، وما معهم من الدين النبوي، وعرفت أنهم بنوا دينهم على ألفاظ وأفعال أدركوا عليها أسلافهم، نشأ عليها الصغير، وهرم عليها الكبير» (¬1) . إلى أن قال: «فانظر يا رجل حالك وحال أهل هذا الزمان، أخذوا دينهم عن آبائهم ودانوا بالعرف والعادة» (¬2) . وهذا عن الحاضرة، أما البادية فقد ذكر ابن غنام وغيره، أنهم: لا يعرفون الدين ولا يقيمون شعائره، وكثيرون منهم يجحدون، أو يجهلون الإيمان بالبعث (¬3) . ¬

(¬1) مجموعة الرسائل والمسائل (1، 3) . (¬2) مجموعة الرسائل والمسائل (1) . (¬3) انظر: تاريخ نجد لابن غنام، تحقيق د. ناصر الدين الأسد (1، 144) .

حال العالم الإسلامي أثناء قيام الدعوة

[حال العالم الإسلامي أثناء قيام الدعوة] حال العالم الإسلامي أثناء قيام الدعوة: لم تكن نجد بأسوأ حالًا من كثير من البلاد الإسلامية الأخرى، فقد كان العالم الإسلامي في القرن الثاني عشر الهجري الذي نشأ فيه الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب يعيش أوضاعًا سيئة للغاية من جميع الجوانب، الدينية والدنيوية. وكان الإسلام قد عاد غريبًا كما أخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء» (¬1) . وتتجلى غربة الإسلام بمظاهر كثيرة سائدة منها: - كثرة البدع والمحدثات، والأهواء والفرق والطرق. - غربة أهل السنة المستمسكين بالحق، والمجانبين للبدع. - وغلبة الجهل على عامة المسلمين، لا سيما الجهل بالعقيدة، ومهمات الأحكام. - إعراض كثير من الناس عن الدين، لا يتعلمونه، ولا يعملون به، إلا ما يوافق الأهواء. - شيوع التقليد الأعمى والتعصب المذهبي المقيت، إلى أن وصل الحال في المسجد الحرام وقبلة المسلمين أن افترق المسلمون في صلاة الجماعة، فصار أتباع كل مذهب يصلون وحدهم. وضعفت الدولة والسلطان، وأصبح غالب الناس فوضى لا سراة لهم، يسودهم السفلة والطغام، وأهل الأطماع والشهوات. وأعرض الناس عن السنة وقل أهلها، وعاشوا حال الغربة، واستحكمت البدع وأهلها، وزالت مظاهر القوة والعزة والجماعة. وتفرقت الأمة إلى أشلاء من الفرق المتفرقة، والطرق المبتدعة، والشعوب المتنافرة، والبلدان المتقاطعة. مما أدى إلى استحكام العدو بالمسلمين، وتمكنه من تحقيق أغراضه في غزو عقائدهم وعقولهم وأفكارهم وديارهم، وتحكمه في مصالحهم وأحوالهم. وأعظم أدواء المسلمين آنذاك وأخطرها إخلالهم بحق الله تعالى، حيث لم يخلصوا له العبادة، وكثر لدى الغالبية منهم التعلق بغير الله في الدعاء والاستعانة والاستغاثة والذبح ¬

(¬1) رواه مسلم برقم (130) .

ظهور دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب

والنذر لغير الله، وكثرت عندهم الشركيات والبدعيات ووسائلها، من القباب على القبور والمشاهد وتعظيم الأشجار والأحجار، وتقديس الأشخاص الأموات والأحياء. مما جعل الأمة تصاب بحياة الذلة والهوان والشتات، مما مكَّن للأعداء المحتلين من انتهاك أكثر بلاد المسلمين. [ظهور دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب] ظهور دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب: في هذه الظروف الصعبة والأحوال السيئة، والأزمان الحالكة، بدأت أنوار الحق والخير تشع في الأفق، حين شرع الإمام محمد بن عبد الوهاب بالنهوض بدعوة التوحيد والسنة، في منتصف القرن الثاني عشر الهجري، وكان ذلك في حياة والده، وكان والده يشاطره هموم الدين والأمة، لكنه كان بحكم الإشفاق عليه يأمره بالتؤدة والأناة، وبعد أن توفي والده عام (1153هـ) شرع الإمام في كشف الحقيقة؛ يقرِّر التوحيد، ويعلن السنة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينكر البدع والمحدثات في العقيدة والعبادات والعادات، وينشر العلم، ويفضح أحوال الجاهلين وأهل البدع والأهواء والشهوات، ويقيم الحدود. حينئذٍ اشتهر أمره، وذاع صيته والتف حوله المخلصون والمصلحون، والغيورون، لا سيما حين شرع يقطع الأشجار التي يقدسها الناس في العيينة، ثم هدم القبة التي على قبر زيد بن الخطاب - رضي الله عنه - ورجم الزانية التي اعترفت عنده بعد أن توافرت عنده شروط الحد. ولما فعل هذه الأمور ذاع صيته، واشتهرت دعوته، وكثر مناصروه وخافه المرتابون، وانقسم الناس عليه. ومن هنا بدأت ردود الأفعال من خصومه من أهل البدع والأهواء والغوغاء، والحسَّاد، وأهل المطامع والمنتفعين مما عليه الحال السيئة الذين شرعوا بالدعاية المضادة، وراسلوا واستعدوا الناس في الداخل والخارج، لا سيما أمراء الأحساء، ثم ولاة الحجاز ونجران الذين استجابوا للمحرضين وبدأت مرحلة المقاومة المباشرة، والتي تمثلت بإعلان المعارضة الجادة للدعوة، وإعلان الحرب ضدها من كل وجه: دينيًا وسياسيًا وإعلاميًا وعسكريًا واقتصاديًا، مما سنتعرض لشيء منه في هذا الكتاب - إن شاء الله.

إمام الدعوة وأميرها الدعوة ودولتها

[إمام الدعوة وأميرها الدعوة ودولتها] [الإمام المجدد والدعوة] [نشأته وشمائله] الإمام المجدد ودعوته نشأته وشمائله: ظهر الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - المولود سنة (1115هـ) المتوفى سنة (1206هـ) بدعوته في قلب نجد، وكانت أحوج ما تكون إلى الإنقاذ من براثن البدع والخرافات والتشتت والجهل والإهمال، وكانت البواعث للإصلاح قوية وضرورية، كما سيأتي بيانه بعد قليل. وقد ولد هذا الإمام ونشأ في بيئة علم وصلاح واستقامة، فكان أبوه وجده وكثيرون من أفراد أسرته من العلماء والوجهاء، ولهم باع في الفتيا والقضاء والتدريس، مما ساعد هذا الناشئ على استغلال مواهبه الفذة وتوجيهها على منهج شرعي متين وأصيل وفي جو علمي مأمون. ولعل من المفيد أن أشير هنا إلى أهم مقومات الصلاح والإصلاح والزعامة والإمامة في شخصية هذا المصلح الكبير: فهو منذ نشأته قد ظهرت عليه سمات العبقرية والمواهب الفذَّة والنبوغ من الذكاء والفطنة والحفظ، والقوة في الفهم، والعمق في التفكير، مما أهّله في وقت مبكر للتلقي والرسوخ في العلم والفقه، مع قوة التدين والإيمان والعبادة والخصال الحميدة من الأمانة والصدق والرحمة والإشفاق والسخاء والحلم والصبر وبُعْدُ النظر وقوة العزيمة، وغيرها من الصفات القيادية التي قَلَّ أن توجد إلا في الأفذاذ والنوادر من رجال التاريخ. وذلك بخلاف ما يشيعه عنه خصومه وما يصورونه به لأتباعهم من الغوغاء والجهلة والمحجوبين عن الحقائق من أنه جاهل وغبي وشرير وعنيف وقليل التدين والورع! ، ونحو ذلك من الأوصاف التي يربأ العاقل بنفسه عن ذكرها فضلًا عن اعتقادها أو تصديقها. وهل يعقل من جاهل وغبي أن يقوم بهذه الأعمال الجليلة وأن يثير حفيظة هؤلاء الخصوم ويحرك جيوشهم ويقض مضاجعهم؟ ! وهل يمكن لقليل الورع والتدين أن يقوم بهذه الحركة الإصلاحية التي ملأت سمع العالم وبصره إلى اليوم؟ ! وينصره الله ويؤيده ويعلي به الدين؟ ! .

ركائز الدعوة

[ركائز الدعوة] ركائز الدعوة: لقد قامت دعوته على المنهج الإسلامي السليم وأرست قواعد الدين وأصوله التي أهمها: تحرير العبادة لله وحده، والتزام طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما يستلزمه ذلك من: 1 - ترسيخ التوحيد ونبذ الشرك والمحدثات. 2 - ومن إقامة فرائض الدين وشعائره بإقامة الصلاة والحسبة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3 - وتحقيق العدل (القضاء وغيره) وإقامة الحدود. 4 - وبناء مجتمع إسلامي يقوم على التوحيد والسنة والوحدة والفضيلة والأمن والعدل. وهذه الركائز كلها تحققت في المواطن التي تمكنت فيها الدعوة أو تأثرت بها تأثرًا كبيرًا، وتتجلى هذه الصورة في البلاد التي شملتها الدولة السعودية المباركة التي حملت لواء الحركة الإصلاحية في مراحلها الثلاث، فكانت كلما حَلَّت في بلاد حلَّ فيها التوحيد والإيمان والسنة والأمن والرخاء، وذلك تحقيقًا لوعد الله تعالى في قوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41] [سورة الحج، الآيتان: 40، 41.] ، وقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] [سورة القصص، آية: 5.] . [مميزات سيرة الإمام ودعوته] مميزات سيرة الإمام ودعوته: لقد تميزت سيرة الإمام ودعوته بميزات كثيرة منها: نقاء السيرة: إن سيرة الشيخ في شخصه وعلمه وتدينه وأخلاقه وتعامله مع الموافقين والمخالفين، وفي سائر أحواله، ما يجلي الحقيقة في فضله واستقامته وزعامته وإمامته من ناحية، ومن ناحية أخرى إن في سيرته ما يبطل دعاوى الخصوم التي تطعن في شخصه أو دعوته ومنهجه ومنهج أتباعه كذلك.

هذا وقد شرح دعوته ومنهجه ودافع عن ذلك في رسائله وكتبه وسلوكه - هو وأتباعه كذلك - بما فيه الكفاية لكل مريد للحق ومنصف للخلق، وسنتناول في هذا الكتاب جملة من النقول في ذلك. صفاء المشرب: فإن المشارب التي تلقى منها الإمام علمه وأدبه وخلقه مشارب شرعية وفطرية وعرقية صافية تتمثل بالكتاب والسنة وآثار السلف الصالح، بعيدًا عن الفلسفة والتصوف والكلام، وبالفطرة السليمة التي لم تحرفها المناهج البدعية ولا الشهوات ولا الشبهات، وبالبيئة الأسرية النبيلة ذات الفقه والعلم والحسب والنسب. سلامة المنهج: لقد كان منهج الإمام في نفسه ودعوته وفي أتباعه ومع مخالفيه منهجًا سلفيًا شرعيًا نقيًا خاليًا من الشوائب، يتسم بالأصالة والثبات واليقين والوضوح والشمولية والواقعية والأهلية لإقامة مجتمع مسلم يتسم بالتدين والطهر والأصالة والحيوية والرقي والأمن. كما كان منهج التأليف وتقرير الدين وعرضه عند الإمام وأتباعه منهجًا شرعيًا سلفيًا صافيًا يعتمد على القرآن والسنة والألفاظ الشرعية النقية خاليًا من التخرصات الفلسفية، والمصطلحات الصوفية، والمحاورات الكلامية، والتميُّعات الأدبية. اعتماد منهج السلف الصالح: لقد اعتمد الإمام في دعوته منهج السلف الصالح في كل شيء، وبذلك تميز منهجه بالأصالة والشمول والواقعية والثبات واليقين. وكان من ثمرة اعتماد هذا المنهج، أن قامت شعائر الدين وأصوله على أتم وجه وأكمله من التوحيد والصلاة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحدود والقضاء والعدل والأمن، وظهور الفضائل واختفاء الرذائل، وشيوع الدين والعلم في كل بلاد وصلتها الدعوة واستقرت فيها دولتها (الدولة السعودية) .

فالأسس التي قامت عليها الدعوة هي أسس الدين وثوابت الإسلام، ولذلك آتت ثمارها اليانعة بحمد الله على صراط الله المستقيم، وعلى منهاج النبوة. الطموح وبُعْد النظر: تميز منهج الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بالطموح واليقين في إعلاء كلمة الله ونصر الدين ونشر السنة، ومعالجة أدواء الأمة من البدع والمحدثات والمنكرات، والجهل، والفرقة والظلم والتخلف. وبُعد النظر والطموح في المنهج العلمي والعملي الذي سلكه في منهج الدعوة يتجلى ذلك بأمور كثيرة منها: 1 - تركيزه على الأصول الكبرى والأولويات كالتوحيد وفرائض الدين، ومع ذلك لم يهمل ما دون ذلك. 2 - استعداده المبكر وتقديره لما ستواجهه الدعوة من الصعاب والعقبات على وجه يدل على بُعد النظر وحسن التقدير للأمور والاستعداد لذلك. 3 - اهتمامه المبكر بالبحث عن سلطة قوية ومؤهلة لحمل أعباء الدعوة وحمايتها، وحسن اختياره للأمير محمد بن سعود بعدما خذله ابن معمر. الجَدَارة والنجاح: كفى الشيخ مجدًا وعزًا وفخرًا أن ينصر الله به الدين ويظهر به السنة، ولم يمت بحمد الله إلا وهو قرير العين. فقد عاش ورأى ثمار دعوته وهو حي متمثلة براية السنة الخفاقة، ودولة التوحيد في عهد الإمام عبد العزيز بن محمد وابنه سعود وهي ترفل بثياب العز والنصر والهيبة والقوة والأمن، واستعلاء الدين وانكماش البدع حتى قامت خلافة مترامية الأطراف في سائر جزيرة العرب. وبمجتمع إسلامي يحاكي مجتمع السلف الصالح في القرون الفاضلة ولله الحمد والمنة. فكان بحق إمامًا مجددًا، وقد امتدت آثار دعوته إلى جميع بلاد المسلمين بل العالم كله، ولا تزال بحمد الله هذه الدعوة قائمة حيَّة. وهي قائمة أيضًا في أتباعها أهل السنة والجماعة في بلادها وفي أي بلد كانوا، وهم بحمد الله كثير.

الأمير المؤسس والدولة

[الأمير المؤسس والدولة] [أسرته] الأمير المؤسس والدولة (الأمير محمد بن سعود) أسرته: الأمير محمد بن سعود بن مقرن هو المؤسس الأول لدولة الدعوة (الدولة السعودية) وقد ولد سنة (1100هـ) على الأرجح (¬1) (1689م) . وقد ولد في أسرة متميزة وعريقة، جمعت بين الديانة والاستقامة، والإمارة والجاه وحسن السمعة، وهي مؤهلات قد تنبه لها الإمام محمد بن عبد الوهاب حينما خذله أمير العيينة ابن معمر. وكانت أسرة الأمير محمد بن سعود من آل مقرن تتعاقب الإمارة في الدرعية. [صفاته وشمائله] صفاته وشمائله: وقد اشتهر الأمير محمد بن سعود على وجه الخصوص بحسن السيرة ورجاحة العقل والحنكة وسداد الرأي، وبالوفاء والكرم والإحسان، والاستقامة والتدين والعبادة، مع قوة العزيمة والشجاعة ورباطة الجأش (¬2) . وبرهان ذلك: استعداده لاستضافة الإمام الداعية محمد بن عبد الوهاب، وقبوله لاحتضان الدعوة والتزامها والقيام بأعبائها، في تلك الظروف الحرجة والمخاطر التي تكتنف الدعوة وإمامها، والمسؤوليات التي لم يستطع ابن معمر أمير العيينة تحملها رُغْمَ ولائه أول الأمر للدعوة وحماسه في نصرتها وشروعه في تنفيذ برامجها قبل أن ترد إليه التهديدات الجادة والكثيرة من جهات عديدة أخطرها تهديد ابن غرير حاكم الأحساء. ومع ظهور هذه المخاطر فإن ابن سعود تكفل بالنصرة للإمام وطمأنه، وقد صدق ووفَّى جزاه الله عن الإسلام والمسلمين بعامة، وعن هذه البلاد بخاصة خير الجزاء. ولم يتوف - رحمه الله - إلا وقد قرت عينه بنصرة الدين ونشر السنة وقيام الدولة، ¬

(¬1) انظر الدرعية العاصمة الأولى للأستاذ عبد الله بن خميس (161) ، والإمام محمد بن سعود وجهوده في تأسيس الدولة السعودية الأولى (54) للدكتور عبد الرحمن العريني. (¬2) انظر الإمام محمد بن سعود للعريني (57 - 59) .

مميزات سيرته ودولته

وبأبناء بررة كرام أبطال ضربوا أروع الأمثلة في الديانة والأمانة والجهاد، والقيام بأعباء الدعوة والدولة بجدارة واقتدار. وكانت وفاته - رحمه الله - سنة (1179هـ - 1976م) . [مميزات سيرته ودولته] مميزات سيرة الأمير محمد بن سعود ودولته: إن من أبرز الخصائص التي تميزت بها شخصية الإمام محمد بن سعود الفذة: أولًا: فقهه في الدين وفهمه للعقيدة السلفية الصافية، وهذه ميزة نادرة لا تكاد توجد في أمراء ذلك الزمان. ثانيًا: نصرته للدين، وإخلاصه لعقيدة التوحيد، حيث بذل نفسه وجاهه وماله وأولاده، وسخر كل إمكانياته كأمير وكزعيم، في خدمة الدعوة، ويدل على ذلك مبادرته في نصرته للإمام محمد بن عبد الوهاب في ذلك الوقت الحرج. ثالثًا: وفاؤه بما عاهد عليه الإمام من نصرة الدعوة والقيام بأعبائها. رابعًا: تأسيسه للدولة الإسلامية بكل معانيها، وإلغاؤه للحكم العشائري (¬1) الذي يقوم على العصبية والإقليمية الضيقة، فقد أقام الحكم على مقومات الدولة من حيث تحكيم الشرع وتحقيق الشورى، والحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقضاء والموارد والمصارف المالية، وتطبيق الحدود. خامسًا: جمعه لكلمة المسلمين على إمام واحد تحت راية واحدة، وسعيه الجاد لتوحيد البلاد تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقد تحقق الكثير من ذلك في وقته وأكثر منه بعد وفاته. سادسًا: نشره للعدل والأمن ورفعه الظلم، ومن ذلك إبطالهُ للضرائب والإتاوات التي تثقل كواهل الناس (¬2) . سابعًا: إلغاؤه الأعراف الجاهلية والتقاليد العشائرية التي تنافي الشرع القويم، والعادات ¬

(¬1) انظر الإمام محمد بن سعود دولة الدعوة والدعاة، للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي ص (100) . (¬2) انظر الإمام محمد بن سعود/دولة الدعوة والدعاة، للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي ص (100) .

السيئة السائدة بين الناس، وكفُّ أيدي العابثين وأصحاب النهب والسلب والغارات العشائرية والقبلية التي كانت تنشر الفوضى والرعب في نفوس الناس، وتوجيه النزعة القتالية إلى الجهاد المشروع الذي يحقق الدين والعدل والأمن والاستقرار والاجتماع. ثامنًا: عمل مع الإمام محمد بن عبد الوهاب على نشر العلم والفقه في الدين، والعناية بكتاب الله وحديث رسول لله - صلى الله عليه وسلم - وعلوم السلف، والعلوم الأخرى النافعة، فقد نشطت الحركة العلمية في وقته وبعده نشاطًا ملحوظًا، وكثرت الدروس والحِلَق وطلاب العلم، وما يخدم ذلك من الوسائل والأوقاف والنفقات، فكان الإمامان ينفقان على نشر العلم وطلابه بسخاء. تاسعًا: وقد عمل الإمام محمد بن سعود على كل ما يقوِّي دولة التوحيد من القوة العسكرية والمادية والمعنوية، بإعداد الجيوش والأسلحة، وبناء الحصون والقلاع، وحفر الخنادق، وتدريب الناس والشباب بخاصّة على الفتوة والفروسية (¬1) . عاشرًا: كما عمل بكل جِِدٍّ وإِخلاص على تسخير كل إمكانات الدولة التي شيدها في خدمة الدين والدعوة، فكان يعاضد الإمام محمد بن عبد الوهاب في إرسال الدعاة والمرشدين، ويبعث العلماء لشرح مبادئ الدعوة والدولة ومقاصدها، ورد المفتريات حولها. حادي عشر: من أبرز ما عمله لنصرة الدين من الأعمال الباقية: تربيته لأبنائه وأحفاده وأبناء أُسرته، ورجال دولته على الدين والفضيلة والعقيدة النقية الصلبة، والكفاح في سبيل ذلك، وبرهان ذلك ما كان عليه ابنه عبد العزيز وحفيده سعود وإخوانهم وسلالتهم من خدمة الدين والعلم والفضيلة، ونصرة أهلها ونشر السنة، ومحاربة البدع والرذائل، والعمل بشرع الله تعالى واحترام العلماء وتقديرهم. والاهتمام بشؤون المسلمين، وتحقيق الأمن والعدل والاستقرار فجزاه الله وجزاهم جميعًا عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. ¬

(¬1) انظر: المصدر السابق ص (102) .

الفصل الأول في حقيقة الحركة الإصلاحية أو ما يسمى الوهابية وبواعثها ما ينفي المزاعم

[الفصل الأول في حقيقة الحركة الإصلاحية أو ما يسمى الوهابية وبواعثها ما ينفي المزاعم] [المبحث الأول حقيقة الحركة الإصلاحية والدولة السعودية الأولى] [هي الإسلام على منهج السلف الصالح] الفصل الأول في حقيقة الحركة الإصلاحية أو ما يسمى (الوهابية) وبواعثها ما ينفي المزاعم المبحث الأول: حقيقة الحركة الإصلاحية والدولة السعودية الأولى: هي الإسلام على منهج السلف الصالح: من الحقائق الثابتة الجليلة أن الدعوة الإصلاحية التي قام بها المجدد محمد بن عبد الوهاب التميمي - رحمه الله - (1115 - 1206هـ) (1703 - 1792م) ونصرها الإمام المجاهد محمد بن سعود - رحمه الله - ت (1179هـ) (1765م) إنما هي امتداد للمنهج الذي كان عليه السلف الصالح أهل السنة والجماعة على امتداد التاريخ الإسلامي، وهو منهج الإسلام الحق الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام والتابعون وأئمة الدين من الأئمة الأربعة ونحوهم من أهل الحديث والفقه وغيرهم. إذن فهذه الحركة المباركة لم تكن في حقيقتها ومضامينها ومنهجها العقدي والعلمي والعملي، إلا معبرة عن الإسلام نفسه، مستهدفة إحياء ما اعترى تطبيقه من قِبَل كثير من المسلمين من غشاوة وجهل وإعراض، بتصحيح العقيدة، وإخلاص العبادة، وإحياء السنة، ومحاربة الشركيات والبدع والمحدثات في الدين. يقول الأستاذ / عبد الرحمن الرويشد في كتابه «الوهابية حركة الفكر والدولة» مؤكدًا أصالة الفكرة الوهابية وأنها ليست مذهبًا جديدًا، إنما هي إحياء للدين الحق: «ليست الفكرة الوهابية السلفية ديانة جديدة أو مذهبًا محدثًا كما أشاع ذلك خصومها، وإنما هي ثمار جهود مخلصة تنادي بالعودة إلى نموذج بساطة الإسلام والاستمداد في التشريع من نبعه الصافي، كما تدعو إلى حركة تطهير شاملة لكل ما أدخل على المعتقد الديني من شرك وبدع وزيغ وضلال أدت كلها إلى تشويه حقائق الإيمان وأفسدت رواء الدين، وأبعدت أبناءه عن قوة التزامه معتقدًا وسلوكًا (¬1) . [تسميتها بالوهابية وبيان الحق في ذلك] تسميتها بالوهابية وبيان الحق في ذلك: إطلاق (الوهابية) على هذه الدعوة الإصلاحية انطلق أولًا من الخصوم، وكانوا يطلقونه على سبيل التنفير واللمز والتعيير، ويزعمون أنه مذهب مبتدع في الإسلام أو مذهب خامس. ¬

(¬1) الوهابية حركة الفكر والدولة للأستاذ عبد الرحمن الرويشد ص (10، 11) ط2.

ولم يكن استعمال (الوهابية) مرضيًا ولا شائعًا عند أصحاب هذه الحركة وأتباعهم، ولا عند سائر السلفيين أهل السنة والجماعة، وكان كثير من المنصفين من غيرهم والمحايدين يتفادى إطلاق هذه التسمية عليهم؛ لأنهم يعلمون أن وصفهم بالوهابية كان في ابتدائه وصفًا عدوانيًا (¬1) إنما يقصد به التشويه والتنفير وحجب الحقيقة عن الآخرين، والحيلولة بين هذه الدعوة المباركة وبين بقية المسلمين من العوام والجهلة وأتباع الفرق والطرق، بل وتضليل العلماء والمفكرين الذين لم يعرفوا حقيقة هذه الدعوة وواقعها. ولقد صار لقب (الوهابية) وتسمية الحركة الإصلاحية السلفية الحديثة به هو السائد لدى الآخرين من الخصوم وبعض الأتباع والمؤيدين المحايدين (تنزلًا) . وهو الوصف الرائج عند الكثيرين من الكتَّاب والمفكرين والمؤرخين والساسة، والمؤسسات العلمية، ووسائل الإعلام إلى يومنا هذا، بل تعدى الأمر إلى التوسع في إطلاق الوهابية على أشخاص وحركات منحرفة عن المنهج السليم، وتخالف ما عليه السلف الصالح وما قامت عليه هذه الدعوة المباركة، وهذا بسبب تراكمات الأكاذيب والأساطير التي نسجت حول الدعوة وأهلها بالباطل والبهتان. أما أتباع هذه الحركة فهم لا يرون صواب هذه التسمية (الوهابية) ولا ما انطوت عليه من مغالطات وأوهام، لاعتبارات مقنعة كثيرة؛ شرعية وعلمية ومنهجية وموضوعية وواقعية، تتلخص فيما أشرت إليه في التعريف من أنها تمثل تمامًا الإسلام الحق الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن سلك سبيل الهدى، وإذن فحصره تحت مسمى غير الإسلام والسنة خطأ فادح وبدعة محدثة ومردودة. فالدارس لهذه الدعوة المباركة بإنصاف وموضوعية سيتوصل - حتمًا - إلى أنها إنما تنادي بالرجوع إلى الإسلام الصافي، وأنها امتداد للدين الحق (عقيدة وشريعة ومنهاج حياة) والمتمثل - بعد حدوث الافتراق في الأمة الإسلامية - بالتزام نهج النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام والتابعين ومن سلك سبيلهم وهم السلف الصالح أهل السنة والجماعة. وإذا كان الأمر كذلك؛ أعني أن الدعوة هي الإسلام والسنة التي جاء بها النبي ¬

(¬1) انظر: الوهابية حركة الفكر والدولة للأستاذ عبد الرحمن الرويشد ص (5، 6) .

- صلى الله عليه وسلم - وما عليه سلف الأمة. . . فلا معنى لإفرادها باسم أو وصف (كالوهابية) أو غيره، لكن قد ترد على ألسنة علماء الدعوة ومؤيديها أو غيرهم بعض الأوصاف الشرعية الصحيحة لها أو لأتباعها والتي لا تتنافى مع رسالتها مثل: دعوة الشيخ: الدعوة، الدعوة الإصلاحية، دعوة التوحيد، السلفية، وقد يوصف أهلها بالسلفيين والموحدين، وأهل التوحيد، وأهل السنة، والحنابلة، والنجديين. ونحو ذلك من الأوصاف الشرعية الحسنة، أو المقبولة. ومن فضل الله على أتباع هذه الدعوة المباركة أن لقب (الوهابية) من الخصوم في كثير من الأحيان يحمل معانٍ إيجابية ويعتز بها أتباعها وعموم أهل السنة، وإن قصد به خصومهم اللمز والسبَّ. وذاك - على سبيل المثال: حين يطلقونها على من يقيم شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أصل من أصول الإسلام وشعائره العظيمة، ومن أكبر خصائص الأمة المسلمة، ومن خصال الخيرية لهذه الأمة كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] [سورة آل عمران، من الآية: 110] . وحين يطلقون (الوهابية) كذلك على الأخذ بالكتاب والسنة والتمسك بالدين وتوحيد الله تعالى، ونبذ الشركيات والبدع، وهذه صفة مدح وتزكية يفرح بها المؤمنون. وحين يطلقون (الوهابية) على اقتفاء منهج السلف الصالح الذي هو سبيل المؤمنين، وسنة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - وهذه تزكية لا تقدر بثمن. والناظر في مفاهيم الناس حول ما يسمونه (الوهابية) يجد الكثير من الغبش والخلط والتناقض والاضطراب. فالوصف السائد للوهابية عند أغلب الخصوم ومن سار في ركابهم يقصد به: كل من لا يعمل بالبدع ولا يرضاها، وينكرها ولا يقرها. وقد يقصد بـ (الوهابية) كل مذهب غريب وشاذ. وآخرون يطلقون (الوهابية) على كل من كان على مذهب أهل السنة والجماعة، مقابل الشيعة أو مقابل الفرق الأخرى. وقد يخصصه بعضهم بالاتجاهات السلفية، وأهل الحديث، وأنصار السنة ونحوهم. وقد توسعت بعض وسائل الإعلام والاتجاهات الغربية ومن دار في فلكها بإطلاق

الوهابية وأحداث سبتمبر بأمريكا

(الوهابية) على كل مسلم ينزع إلى التمسك بشعائر الدين وأحكامه وربما ترادف عندهم عبارة (أصولي) أو متزمت أو متشدد، والمتمسك بالدين عندهم: متشدد. وبعض المؤسسات والدوائر الغربية ومن تأثر بها صارت عندهم (الوهابية) ترادف: التطرف، والإرهاب والعنف، والعدوانية. ونحو ذلك، وهذا تصور خاطئ وحكم جائر (¬1) . [الوهابية وأحداث سبتمبر بأمريكا] الوهابية وأحداث (11 سبتمبر) : وفي الآونة الأخيرة وبعد أحداث (11 سبتمبر) في أمريكا وتداعيتها كثرت الأساطير والأوهام حول الوهابية، إلى حد أن بعض خصوم الدعوة والحاقدين على المملكة العربية السعودية وأهلها، من المسلمين وغير المسلمين رموها بأنها هي التي وراء هذه الأحداث، وقد تلقف هذه الأسطورة بعض الإعلاميين، والكتّاب والساسة. وهذه التناقضات في التعاريف كافية في الدلالة على أن الناس لا يزالون في أمر مريج يتخبطون في مواقفهم وأحكامهم على هذه الدعوة الإصلاحية وأتباعها ودولتها، وأن غالبهم لا يعرف حقيقتها، أو أن الأهواء والتعسف والظلم والتقليد والعشوائية والجهل هي التي تسيطر على مواقف الناس وأحكامهم على هذه الدعوة وأهلها ودولتها. إن الدعوة الإصلاحية بأي اسم سمَّاها الناس، أو وصف وصفوها به، فهي على كل الأحوال: كيان حي يمثل الإسلام، والسنة النقية الصافية، كما جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وكما فهمها الصحابة والسلف الصالح، وهي بريئة مما اتهمت به كل البراءة كما سيأتي بيانه. ¬

(¬1) كما يطلق (الوهابية) و (الوهبية) على بعض فرق الخوارج القديمة لا سيما في شمال أفريقية والمغرب. فالوهابية: نسبة إلى عبد الوهاب الرستمي أحد زعماء الخوارج قديمًا (الدولة الرستمية) والوهبية: نسبة إلى عبد الله بن وهب الواسبي أحد زعماء الخوارج الحرورية الأوائل. وكلاهما كانت قبل ظهور دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، وقد وقع اللبس لدى كثيرين بهذا. وانظر: رسالة: تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية للدكتور: محمد بن سعد الشويعر. ص (4) 1413هـ.

حقيقة الدعوة كما شهد بها المنصفون

[حقيقة الدعوة كما شهد بها المنصفون] حقيقة الدعوة كما شهد بها المنصفون (¬1) وإنه لمن المفيد أن أسوق كلام بعض الشهود من غير النجديين الذين عايشوا هذه الدعوة ودولتها المعاصرة وعلماءها وأهلها عن كثب ومنهم: الأستاذ (حافظ وهبة) إذ يقول تحت عنوان: (ما هي الدعوة الوهابية؟) : «لم يكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب نبيًّا كما ادعى نِيْبَهر الدانمركي، ولكنه مصلح مجدد داع إلى الرجوع إلى الدين الحق، فليس للشيخ محمد تعاليم خاصة، ولا آراء خاصة وكل ما يطبق في نجد من الفروع هو طبق مذهب الإمام أحمد بن حنبل (¬2) وأما في العقائد فهم يتبعون السلف الصالح. ويخالفون من عداهم، وتكاد تكون عقائدهم وعباداتهم مطابقة تمام المطابقة لما كتبه ابن تيمية وتلاميذه في كتبهم، وإن كانوا يخالفونهم في مسائل معدودة من فروع الدين. وهم يرون فوق ذلك أن ما عليه أكثر المسلمين من العقائد والعبادات لا ينطبق على أساس الدين الإسلامي الصحيح. وشاهد آخر وهو الدكتور منير العجلاني إذ يقول مجيبًا على التساؤل: (ما هي صفة الحركة الوهابية؟) «لقد تساءل غير واحد من المؤلفين هذا السؤال، وكانت الأجوبة مختلفة. . . فبعضهم يرى أنها حركة دينية خالصة، تريد الرجوع بالإسلام إلى صفائه الأول، وأنها لذلك كافحت الشرك في كل ألوانه وأنكرت البدع التي أحدثت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبعضهم يرى أنها حركة سياسية، غايتها فصل نجد والبلاد العربية عن الخلافة العثمانية، وإقامة حكومة عربية مستقلة، وأن الدين لم يكن إلا وسيلة لتحقيق هذا الغرض. وآخرون يرونها مزيجًا من الدين والقومية؛ لأنها كافحت في الميادين لتحقيق غايات دينية وقومية، وأَلَّفت حكومة، وأوجدت نظامًا مبنيًا على الإسلام، ضمن الإطار السلفي. ويقول المستشرق الفرنسي «هنري لاوست» : إن روح الحركة الوهابية ومعناها لم يتحددا في وضوح كامل. ¬

(¬1) سيأتي الكلام عن الشهادات تفصيلًا في فصل مستقل. (¬2) قد صرح إمام الدعوة وعلماؤها أنهم مع أخذهم بمذهب الإمام أحمد بن حنبل فهم مع الدليل وإن خالف المذهب، ومؤلفاتهم وفتاواهم على هذا إلى اليوم.

يقال حينًا إن الوهابية حركة دينية غايتها إعادة الإسلام إلى صفائه الأول. وتعرف حينًا آخر بأنها حركة تطهير، يغلب عليها التشدد، وترفض - كالبروتستانتية - عقيدة تقديس الأولياء، وتكافحها كفاحًا لا هوادة فيه. وكل هذا إنما هو محاولة لتعريف الوهابية ببعض صفاتها الثانوية المتفرعة عنها، كما رآها أعداؤها، أو كما أظهرها الغلاة من أتباعها. . . ولا سبيل إلى فهم الحركة الوهابية وتعريفها تعريفًا صحيحًا، إلا بالرجوع إلى كتاب «السياسة الشرعية» ، لابن تيمية، ومتى فعلنا ذلك استطعنا أن نعرف الوهابية بأنها: حركة إصلاح وتجديد، سياسية ودينية، ترمي إلى إنشاء دولة إسلامية على الأسس التي أوردها ابن تيمية، في كتاب «السياسة الشرعية» . وحسبنا أن نقرأ المجموعات التي نشرتها الحكومة العربية السعودية باسم: «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية» حتى ندرك تمامًا أن الأفكار الوهابية مستمدة من «السياسة الشرعية» و «الحسبة» لابن تيمية، و «السياسة الحكمية» ، لابن القيم الجوزية. رأينا (¬1) وعندنا أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عودة إلى الإسلام في أول أمره ومطلع فجره، ومتى قلنا ذلك كفينا أنفسنا عناء الجدل العقيم. ذلك أن من دعا إلى الإسلام الأول، فإنما يدعو إلى الإسلام كما كان يرى في المدينة، في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم في عهود الخلفاء الراشدين» . إلى أن قال: «وحركة محمد بن عبد الوهاب هي حركة تجديد وتطهير: تجديد وإحياء لما أهمله المسلمون من أمور الإسلام وأوامره، وتطهير للإسلام مما أدخلوه عليه من الشركيات والبدع! ولم تكن دعوة محمد بن عبد الوهاب دعوة «فيلسوف» معتزل في غرفته، ولكنها كانت دعوة زعيم مصلح، يكافح دون عقيدته، ويعمل لها بلسانه ويده، وبكل قلبه، وبكل عقله، وبكل جهده. ¬

(¬1) لا يزال الحديث للعجلاني.

إن دعوة محمد بن عبد الوهاب ليست «نظرية» أو كتابًا ألفه ليقرأه الناس، ولكنها منهاج رسمه، وقام وراءه يدعو إلى العمل به، بالموعظة أولًا، ثم بالقوة. . . قوة دولة الإسلام التي قامت على أساس الشرع وحده. فمنهاج الشيخ ليس إصلاحًا دينيًا خالصًا، بالمعنى الذي يفهمه الأوروبيون اليوم؛ لأنهم يفرقون بين الدين والدنيا، ويجعلون الدين صلة خاصة بين العبد وخالقه، لا يُحمل الناس على اتباعه بالقوة، ثم هم يفرقون بين الدين (أو الشرع) وبين القانون، ويقولون إن الدولة تلزم الأفراد بالقانون الذي تضعه هي لهم، ولكنها لا تلزمهم بالشرع، بل قد يخالف قانونها الشرع! . إن الإسلام وحدة، دين ودنيا، ودعوة الشيخ لذلك، دعوة جامعة للأمور الدينية والسياسية» (¬1) . ويقول الدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم: «يطلق بعض الكتاب على «الدعوة السلفية» اسم «المذهب» ، كما يطلق عليها البعض الآخر اسم «الوهابية» ، والحقيقة أن استعمال هذين الوصفين للدعوة غير دقيق، فهي ليست بمذهب جديد في الإسلام، حتى يصح إطلاق لفظ المذهب عليها، بل إن صاحب الدعوة نفسه كان حريصًا على أن يؤكد للناس أنه لا يدعوهم إلى مذهب جديد في الإسلام، وذكر في رسائله قائلًا: «فإني لم آت بجهالة، بل أقولها، ولله الحمد والمنة وبه القوة إنني هداني ربي إلى الصراط المستقيم، دينا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا، وما كان من المشركين، ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي أو غيره. . . بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي أوصى بها أول أمته وآخرهم» (¬2) . «أما وصف الدعوة بالوهابية، فقد أطلقه عليها خصوم الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حتى يبرهنوا للناس أن مبادئه التي يدعو إليها بدعة جديدة خارجة على مبادئ الإسلام، بل إن أعداء الدعوة من الترك، ومن جاراهم غالوا في ذلك ووصفوا أتباع الدعوة بالروافض والخوارج، ¬

(¬1) تاريخ البلاد العربية السعودية (1 - 242) . (¬2) من رسالة الإمام إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف. انظر: الدرر السنية (1) ، وقد وقع بعض النقص في نقل الدكتور عبد الرحيم وأكملته من الدرر السنية.

حتى إن الوثائق الرسمية المتبادلة بين محمد علي والباب العالي تنعت الأمير السعودي الذي يعمل على نشر مبادئ الدعوة السلفية باسم «الخارجي» (¬1) (¬2) . ويقول محمد جلال كشك: «ودعوة التوحيد التي نادى بها الشيخ (¬3) تقبلها العلماء في شتى بلدان العالم الإسلامي، أو قل: لم يستطع أحد منهم أن يرفضها، بل على العكس ركز خصومها على اتهامها بأنه «لا جديد فيها» واهتموا بمناقشة الشكليات، وافتراء الاتهامات، بينما أعلن أكثر من عالم وفقيه أو حتى مستشرق انطباقها على مبادئ الإسلام الصحيحة. كذلك ذهب ابن بشر إلى أن الشريف غالب وافق على أفكار الشيخ لولا أن الحاشية حذرته بأن الوهابيين إنما يريدون ملكه وليس ضميره، «فارتعش قلبه وطار» . ومحمد بن عبد الوهاب، اهتم اهتمامًا كبيرًا، هو وورثته من بعده، بتأكيد أنه لا جديد في دعوته، وأنه لم يأت بمذهب خامس، وهذا صحيح بالطبع، وإن كان الحرص على نفي تهمة المذهب الخامس «أمر مبالغ فيه؛ لأن المذاهب في حد ذاتها، ليست أديانًا منزلة، وإنما هي اجتهادات وهم رجال ونحن رجال» . لقد ظل هذا الحرص على نفي شبه المذهبية الجديدة يلازم رجال الحركة في المسجد والدولة، إلى حد اتقاء كلمة «الوهابية» والإصرار على أن «محمد بن عبد الوهاب» ليس أكثر من تلميذ أو فقيه من فقهاء المذهب الحنبلي «المعترف» به، فلماذا انفرد هو بذلك الأثر الذي أحدثه، وبتلك القدرة على تفجير طاقات غيرت تاريخ المنطقة؟» . «فهو لا يدعو «إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم» ، «أدعو إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، التي أوصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه. إن أتانا منكم كلمة من الحق، لأقبلنها على الرأس والعين ولأضربن الجدار بكل ما خالفها» . ¬

(¬1) من الباب العالي إلى محمد علي، دفتر (1) معية تركي، ص (4) ، وثيقة (2) يناير (1808م) ، ذي الحجة (1222هـ) (د. عبد الرحيم) . (¬2) الدولة السعودية الأولى للدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم (1 ، 41) . (¬3) يعني الإمام محمد بن عبد الوهاب.

«وهكذا فتح الشيخ باب الاجتهاد على مصراعيه، وكتب إلى الشريف غالب يقول: «فإن كانت المسألة إجماعًا فلا كلام، وإن كانت مسألة اجتهاد، فمعلومكم أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد» . لا شك أنه كان أكثر تقدمية وانفتاحًا من المتكلم عن شيوخ مكة، بل وأكثر قربًا لروح الإسلام في الحوار المشهور بين علماء الوهابية وعلماء مكة. فقد قال الشيخ الحنفي المذهب: أنا لا أقبل إلا ما قاله إمامي أبو حنيفة لأنني مقلد له فيما قاله، ولا أقبل أن تقول لي: قال رسول الله أو قال ذو الجلالة؛ لأن أبا حنيفة أعلم مني ومنك بقولهما» . وهكذا نرى أننا نظلم الشيخ ونظلم دعوته، بل نظلم السلفية والسلفيين عندما نتحدث عنهم بالمفهوم السوقي الشائع» . «فالدولة السعودية، أو الثورة الوهابية كانت ضد التخلف العثماني، كانت محاولة للإفلات من السفينة العثمانية الغارقة، والتي لم يبق بها إلا طابور انكشاري يعترض طريق كل من يحاول سد خروق السفينة» . «لم يحس أحد في القاهرة ولا مكة ولا حتى الأستانة بسقوط بخارى وسمرقند والقوقاز، مع أنها أعرق في تاريخ الإسلام وحضارتها من بلجراد وسالونيك والأستانة ذاتها، وشعوبها مسلمة مائة بالمائة منذ القرن الأول الهجري. . . ولكن هذه العواصم تنبهت مذعورة على مدفعية الأساطيل الأوروبية عند الشواطئ العربية. . . وبدأ الحديث عن «انقلاب المطبوع» والبحث عن تفسير لظاهرة انتصار الكفار على المؤمنين أو اختلال الناموس كما قالوا! . «وطرح السؤال بعنف: ما العمل؟ كيف نواجه هذا التحدي؟ وكانت أول إجابة طرحت في العالم العربي، وما زالت آثارها حية إلى اليوم، هي المنهج السعودي، الذي طرحه «محمد بن عبد الوهاب» وتبناه «محمد بن سعود» وهو «لا ينتصر آخر هذا الدين إلا بما انتصر به أوله» فاجأ ابن عبد الوهاب الجميع بإعلان أنه لا خطأ في الناموس. . . لا خطأ في قوانين الكون، فالكفار لم يهزموا المؤمنين، بل هزموا كفارًا عادوا للشرك فخسروا الدين والدنيا!» . «فإن مظاهر الوثنية كانت قد تفشت في أنحاء العالم الإسلامي، ليس فقط في الاعتقاد بالمشايخ والأولياء، وأصحاب الطرق، بل حتى في الاعتقاد ببركة أحجار وأشجار،

وكان في مصر شجرة اسمها «أم الشعور» يتبرك بها العامة ويعتقدون بوجود روح داخلها، وكان العامة يعلقون قطعة من ثيابهم، أو ثياب غرمائهم في مسامير بوابة المتولي، طلبًا للمعاونة أو التنكيل بالخصوم. كما كان العامة في مصر يوجهون شكاويهم كتابة للإمام الشافعي المتوفى قبل أكثر من عشرة قرون! ويعتقدون أنه يقرأها، ويقضي فيها. . . فهو «قاضي الشريعة» كما يلقبه العامة في مصر» (¬1) . ¬

(¬1) السعوديون والحل الإسلامي لمحمد جلال كشك (87 - 108) باختصار.

المبحث الثاني بواعث قيام الدعوة وأهدافها الكبرى

[المبحث الثاني بواعث قيام الدعوة وأهدافها الكبرى] [تحقيق التوحيد] المبحث الثاني بواعث قيام الدعوة الإصلاحية وأهدافها الكبرى قامت الدعوة الإصلاحية في نجد على يد الإمام محمد بن عبد الوهاب، ومناصرة الإمام محمد بن سعود في الوقت الذي كانت أحوج ما تكون إليه في جميع النواحي الدينية والدنيوية، وكانت مبررات الدعوة وبواعثها الشرعية منها والواقعية متوافرة، ومن أهم هذه البواعث والدواعي: 1 - تحقيق التوحيد: إن أول هذه الدواعي وأعظمها لقيام الدعوة الإصلاحية: مسألة التوحيد ومجانبة الشرك، وهي القضية الكبرى بين الأنبياء وخصومهم، وكذلك بين الدعاة والمصلحين وخصومهم، ألا وهي تحقيق ما أمر الله تعالى به لجميع المكلفين {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] (¬1) فقد قامت هذه الدعوة استجابة لأمر الله بإقامة الدين، بتحرير العبودية لله وحده، وتعظيم الله تعالى بأسمائه وصفاته، وإخلاص العبادة له سبحانه دون سواه، والنهي عن الشرك وذرائعه، وكانت هذه هي الغاية الأولى في هذه الدعوة المباركة. [تنقية مصادر التلقي] 2 - تنقية مصادر التلقي: تعددت مصادر التلقي عند أهل الأهواء والبدع، ولم يخلصوا تلقي الدين عن الكتاب والسنة، فكان من أهداف هذه الدعوة الإصلاحية، إعادة الناس إلى مصادر الدين الحق (القرآن والسنة) وبفهم السلف الصالح وآثارهم الصافية. [نشر السنن وإظهارها ونبذ البدع] 3 - نشر السنن وإظهارها، ونبذ البدع ومظاهرها: في العقيدة والعبادات والأعياد وغيرها. [القيام بواجبات الدين] 4 - القيام بواجبات الدين وفرائضه العامة: من الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، تحقيقًا للخيرية التي وصف الله بها هذه الأمة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا} [آل عمران: 110] [سورة آل عمران، من الآية: 110] ¬

(¬1) سورة النحل، من الآية: 36.

تحكيم شرع الله

والنصيحة لله تعالى ولكتابه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولأئمة المسلمين وعامتهم وإقامة الحدود، والعدل بين الناس. [تحكيم شرع الله] 5 - تحكيم شرع الله تعالى كما أمر الله: فقد أعرض كثير من المسلمين، لا سيما أهل البدع وكثير من العامة، وأهل البادية، عن العمل بشرع الله في أكثر أحوالهم الدينية والدنيوية حيث سادت البدع والمحدثات والتقاليد والأعراف والأحكام الجاهلية، وتحاكم كثير من الناس إلى غير شرع الله، وكثر لجوء الناس إلى الكهان والمشعوذين والسحرة والدجالين، فأصابهم ما توعد الله به من أعرض عن ذكره، من ضنك المعيشة كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124] [سورة طه، من الآية: 124] . [نشر العلم ومحاربة الجهل] 6 - نشر العلم ومحاربة الجهل والتخلف: تميز العصر الذي ظهرت فيه الدعوة بشيوع الجهل والتقليد الأعمى بين المسلمين، فكثر الإعراض عن تعليم العلوم الشرعية، وعن التفقه في الدين، وسادت الأمية والتخلف في أكثر مظاهر الحياة الفردية والجماعية، مما جعل قيام الدعوة ضرورة لنشر العلوم الشرعية ووسائلها والفقه في دين الله، وأخذ العلم من منابعه الأصلية: القرآن والسنة وآثار السلف الصالح، مع الأخذ بالعلوم الدنيوية النافعة. [تحقيق الجماعة ونبذ الفرقة] 7 - تحقيق الجماعة ونبذ الفرقة: لقد وقع أكثر المسلمين في وهدة الفرقة والشتات، والتنازع، التي أصيب بها المسلمون من جراء كثرة الأهواء والبدع والجهل والإعراض عن الدين، واتباع سبل الغواية والشهوات والشبهات، وما نتج عن ذلك من الجهل والذل والهوان والتفرق والفشل الذي حذر الله منه {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] [سورة الأنفال، من الآية: 46] . فكان لا بد من إصلاح أحوال الأمة بالعقيدة والشرع المطهر، الذي به تكون الجماعة والاستقامة والعزة. [تحقيق الأمن والسلطان] 8 - تحقيق الأمن والسلطان: إن أعظم ما يحتاجه المسلمون عامة - ونجد وجزيرة العرب بخاصة - بعد التوحيد

رفع التخلف والبطالة

وفرائض الدين: الأمن والسلطان، وهما متلازمان فلا يمكن إقامة الدين والعدل إلا بالأمن، ولا أمن إلا بسلطان، وهذا ما أدركته الدعوة وإمامها، فقد ساد ضعف السلطان، وانفلات الأمن - حيث بدأت الدولة العثمانية في مرحلة الضعف - سيما في جزيرة العرب، ونجد بخاصة، وكانت الضرورة تقتضي قيام ولاية شرعية تحفظ للناس أمنهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وتقوم بالعدل والقضاء بين الناس، وتقيم الحدود وتنشر العلم والخير وتدفع الشر والظلم، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر كما أمر الله تعالى. [رفع التخلف والبطالة] 9 - رفع التخلف والبطالة: اتسم العصر الذي قامت فيه الدعوة الإصلاحية، وما سبقه بالتخلف والبطالة، مما استلزم ضرورة النهوض بالمجتمع اجتماعيًا واقتصاديًا، والسعي إلى رفع أسباب التخلف والفقر والبطالة والتواكل.

المبحث الثالث حال نجد وما حولها يقتضي ضرورة قيام الدعوة

[المبحث الثالث حال نجد وما حولها يقتضي ضرورة قيام الدعوة] المبحث الثالث: حال نجد وما حولها يقتضي ضرورة قيام الدعوة: وليس أصدق في وصف حال نجد وما حولها من أهلها لا سيما العلماء والباحثين الذين عنوا بهذا الأمر، وعلى رأسهم إمام الدعوة الذي أعلن دعوته الإصلاحية من هذا المنطلق - أعني تشخيص الأمراض التي يعيشها المجتمع النجدي وسائر الأمة - فقد وصف الإمام نفسه الواقع الذي يعيشه كثير من المسلمين في نجد وغيرها، وما شاع بينهم من بدع وخرافات ومظالم وجهالات، وكان هذا الواقع هو السبب والباعث لقيام الإمام بدعوته الإصلاحية، وكثيرًا ما كان يخاطب الناس من هذا المنطلق، فقال محاورًا لمخالفيه ومبينًا لهم وجود عظائم المخالفات قال: «منها - وهو أعظمها - عبادة الأصنام عندكم، من بشر وحجر؛ هذا يذبح له؛ وهذا ينذر له؛ وهذا يطلب إجابة الدعوات وإغاثة اللهفات؛ وهذا يدعوه المضطر في البر والبحر؛ وهذا يزعمون أن من التجأ إليه ينفعه في الدنيا والآخرة ولو عصى الله! فإن كنتم تزعمون: أن هذا ليس هو عبادة الأصنام والأوثان المذكورة في القرآن، فهذا من العجب؛ فإني لا أعلم أحدًا من أهل العلم يختلف في ذلك، اللهم إلا أن يكون أحد وقع فيما وقع فيه اليهود، من إيمانهم بالجبت والطاغوت؛ وإن ادعيتم أنكم لا تقدرون على ذلك، فإن لم تقدروا على الكل، قدرتم على البعض؛ كيف وبعض الذين أنكروا عليّ هذا الأمر، وادَّعوا أنهم من أهل العلم، ملتبسون بالشرك الأكبر، ويدعون إليه، ولو يسمعون إنسانًا يجرد التوحيد، لرموه بالكفر والفسوق؛ ولكن نعوذ بالله من رضى الناس بسخط الله. ومنها: ما يفعله كثير من أتباع إبليس، وأتباع المنجمين والسحرة والكهان، ممن ينتسب إلى الفقر، وكثير ممن ينتسب إلى العلم من هذه الخوارق التي يوهمون بها الناس، ويشبهون بمعجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء، ومرادهم أكل أموال الناس بالباطل؛ والصد عن سبيل الله، حتى إن بعض أنواعها يعتقد فيه من يدعي العلم: أنه من العلم الموروث عن الأنبياء، من علم الأسماء، وهو من الجبت والطاغوت، ولكن هذا مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» (¬1) . ¬

(¬1) رواه البخاري (3456) ، ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه.

ومنها: هذه الحيلة الربوية التي مثل حيلة أصحاب السبت أو أشد، وأنا أدعو من خالفني إلى أحد أربع؛ إما إلى كتاب الله، وإما إلى سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإما إلى إجماع أهل العلم؛ فإن عاند دعوته إلى مباهلة، كما دعا إليها ابن عباس في بعض مسائل الفرائض، وكما دعا إليها سفيان، والأوزاعي، في مسألة رفع اليدين، وغيرهما من أهل العلم؛ والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم» (¬1) . وقد شخَّص أحد علماء الدعوة الواقع ووصف حال الأمة أثناء ظهور الدعوة وقبلها في بلدان نجد وكذلك في أكثر البلاد الإسلامية المجاورة، وهو الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إذ يقول: «كان أهل عصره ومصره - يعني الإمام محمد - في تلك الأزمان، قد اشتدت غربة الإسلام بينهم، وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملة الحنيفية، وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية، وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد، والإعراض عن السنة والقرآن، وشب الصغير وهو لا يعرف من الدين إلا ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد، وأحاديث الكهان، والطواغيت مقبولة، قد خلعوا ربقة الدين، وجدوا واجتهدوا في الاستغاثة بغير الله، والتعلق على غير الله، من الأولياء، والصالحين، والأوثان، والأصنام، والشياطين. وعلماؤهم، ورؤساؤهم على ذلك، وبه راضون، قد أعشتهم العوائد والمألوفات، وحبستهم الشهوات عن الارتفاع إلى طلب الهدى، من النصوص والآيات، يحتجون بما رأوه من الآثار الموضوعات، والحكايات المختلقة، والمنامات، كما يفعله أهل الجاهلية، وكثير منهم يعتقد النفع والضر، في الأحجار، والجمادات، ويتبركون بالآثار، والقبور {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19] [سورة الحشر، من الآية: 19] ، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] [سورة الأعراف، الآية: 33] . ¬

(¬1) الدرر السنية (1، 54) .

فأما بلاد نجد: فقد بالغ الشيطان في كيدهم، وكانوا ينتابون قبر زيد بن الخطاب، ويدعونه رغبًا ورهبًا، ويزعمون أنه يقضي لهم الحوائج، وكذلك عند قبر يزعمون أنه قبر ضرار بن الأزور، وذلك كذب ظاهر وبهتان. وكذلك عندهم: نخل - فحَّال - ينتابه النساء والرجال، ويفعلون عنده أقبح الفعال؛ والمرأة: إذا تأخر عنها الزواج، تذهب إليه، فتضمه بيدها، وتدعوه برجاء، وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجًا قبل الحول؛ وشجرة عندهم تسمى: الطرفية، أغراهم الشيطان بها، وأوحى إليهم التعلق عليها، وأنها ترجى منها البركة، ويعلقون عليها الخرق، لعل الولد يسلم من السوء. وفي أسفل: بلدة الدرعية: مغارة في الجبل، يزعمون أنها انفلقت من الجبل لامرأة تسمى: بنت الأمير، أراد بعض الناس أن يظلمها ويضير، فانفلق لها الغار، كانوا يرسلون إلى هذا المكان من اللحم والخبز ما يقتات به جند الشيطان. وفي بلدتهم: رجل يدَّعي الولاية، يسمى: تاج؛ يتبركون به، ويرجون منه العون، ويرغبون فيما عنده من المدد - بزعمهم - ولديه، فتخافه الحكام والظلمة، ويزعمون أن له تصرفًا، مع أنهم يحكون عنه الحكايات القبيحة الشنيعة التي تدل على انحلاله عن أحكام الملة، وهكذا سائر بلاد نجد، على ما وصفنا، من الإعراض عن دين الله، والجحد لأحكام الشريعة. ومن العجب: أن هذه الاعتقادات الباطلة والعوائد والطرق قد فشت وعمت، حتى بلاد الحرمين الشريفين! فمن ذلك: ما يفعل عند قبر محجوب، وقبة أبي طالب، فيأتون قبره للاستغاثة عند نزول المصائب، وكانوا له في غاية التعظيم، فلو دخل سارق، أو غاصب، أو ظالم قبر أحدهما، لم يتعرض له أحد، لما يرون له من وجوب التعظيم. ومن ذلك: ما يفعل عند قبر ميمونة، أم المؤمنين - رضي الله عنها - في سرف؛ وكذلك عند قبر خديجة - رضي الله عنها - يفعل عند قبرها ما لا يسوغ السكوت عليه، من مسلم يرجو الله، والدار الآخرة، وفيه: من اختلاط النساء بالرجال وفعل الفواحش والمنكرات وسوء الأفعال ما لا يقرّه أهل الإيمان، وكذلك سائر القبور المعظمة، في بلد الله الحرام: مكة المشرفة.

وفي الطائف، قبر ابن عباس - رضي الله عنهما - يفعل عنده من الأمور الشركية التي تنكرها قلوب عباد الله المخلصين، وتردها الآيات القرآنية، وما ثبت من النصوص عن سيد المرسلين، منها: وقوف السائل عند القبر، متضرعًا مستغيثًا، مستكينًا، مستعينًا، وصرف خالص المحبة، التي هي محبة العبودية، والنذر، والذبح لمن تحت ذاك المشهد، والبنية. وأكثر سوقتهم وعامتهم يلهجون بالأسواق: اليوم على الله وعليك يا ابن عباس، فيستمدون منه الرزق، والغوث، وكشف الضر، وذكر محمد بن الحسين النعيمي الزبيدي - رحمه الله -: أن رجلًا رأى ما يفعل أهل الطائف، من الشعب الشركية، والوظايف، فقال: أهل الطائف لا يعرفون الله، إنما يعرفون ابن عباس، فقال له بعض من يترشح للعلم: معرفتهم لابن عباس كافية؛ لأنه يعرف الله. فانظر إلى هذا الشرك الوخيم، والغلو، ووازن بينه وبين قوله {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] [سورة البقرة، من الآية: 186] وقوله جل ذكره: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] [سورة الجن، آية: 18] وقد «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليهود والنصارى، باتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد» (¬1) يعبد الله فيها، فكيف بمن عبد الصالحين، ودعاهم مع الله، والنصوص في ذلك لا تخفى على أهل العلم. كذلك ما يفعل بالمدينة المشرفة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، هو من هذا القبيل، وفي بندر جدة ما قد بلغ من الضلال حده، وهو: القبر الذي يزعمون أنه قبر حواء؛ وضعه لهم بعض الشياطين. وكذلك مشهد العلوي، بالغوا في تعظيمه، وخوفه، ورجائه؛ وقد جرى لبعض التجار أنه انكسر بمال عظيم لأهل الهند، وغيرهم، وذلك في سنة عشر ومائتين وألف؛ فهرب إلى مشهد العلوي مستجيرًا، ولائذًا به، مستغيثًا؛ فتركه أرباب الأموال، ولم يجاسر أحد من الرؤساء والحكام على هتك ذاك المشهد، واجتمع طائفة من المعروفين، واتفقوا على تنجيمه في مدة سنين، فنعوذ بالله من تلاعب الفجرة والشياطين. وأما بلاد: مصر، وصعيدها، وفيومها، وأعمالها، فقد جمعت من الأمور الشركية، ¬

(¬1) رواه مسلم برقم (530) ، أحمد برقم (8788) ، وقال المحققون: «إسناده صحيح على شرط الشيخين» .

والعبادات الوثنية، والدعاوى الفرعونية ما لا يتسع له كتاب، لا سيما عند مشهد: أحمد البدوي، وأمثاله من المعبودين، فقد جاوزوا بهم ما ادعته الجاهلية لآلهتهم، ما لم ينقل مثله عن أحد من الفراعنة، والنماردة. وبعضهم يقول: يتصرف في الكون سبعة؛ وبعضهم يقول: أربعة؛ وبعضهم يقول: قطب يرجعون إليه، وكثير منهم يرى الأمر شورى بين عدد ينتسبون إليه؛ فتعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5] [سورة الكهف، من الآية: 5] وقد استباحوا عند تلك المشاهد من المنكرات، والفواحش، والمفاسد ما لا يمكن حصره، واعتمدوا في ذلك من الحكايات، والخرافات ما لا يصدر عمن له أدنى مسكة أو حظ من المعقولات، فضلًا عن النصوص. كذلك ما يفعل في بلدان: اليمن، جار على تلك الطريق والسنن؛ ففي: صنعاء، وبرع، والمخا، وغيرها من تلك البلاد ما يتنزه العاقل عن ذكره. وفي حضرموت، والشجر، وعدن، ويافع، ما تستك عن ذكره المسامع، يقول قائلهم: شيء لله يا عيدروس! شيء لله يا محيي النفوس! . وفي أرض نجران من تلاعب الشيطان، وخلع ربقة الإيمان ما لا يخفى على أهل العلم، كذلك رئيسهم المسمى بالسيد، لقد أتوا من طاعته، وتعظيمه، والغلو فيه بما أفضى بهم إلى مفارقة الملة والإسلام، إلى عبادة الأوثان والأصنام {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] [سورة التوبة، الآية: 31] وكذلك، حلب، ودمشق، وسائر بلاد الشام، فيها من تلك المشاهد، والنصب، وهي تقارب ما ذكرنا من الكفريات، والتلطخ بتلك الوثنية الشركية. وكذلك: الموصل، وبلاد الأكراد، ظهر فيها من أصناف الشرك، والفجور، والفساد؛ وفي العراق: من ذلك بحرة المحيط، وعندهم المشهد الحسيني قد اتخذه الرافضة وثنًا، بل ربًا مدبرًا، وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به معاهد اللات والعزى، وما كان عليه أهل الجاهلية.

وكذلك: مشهد العباس، ومشهد علي، ومشهد أبي حنيفة، ومعروف الكرخي، والشيخ عبد القادر؛ فإنهم قد افتتنوا بهذه المشاهد، رافضتهم، وسنيتهم؛ لم يعرفوا ما وجب عليهم، من حق الله الفرد، الصمد، الواحد» . ثم قال: «وهذه الحوادث والكفريات والبدع، قد أنكرها أهل العلم والإيمان، واشتد نكيرهم، حتى حكموا على فاعلها بخلع ربقة الإسلام والإيمان؛ ولكن لما كانت الغلبة للجهال، انتقضت عرى الدين، وساعدهم على ذلك من قل حظه ونصيبه من الرؤساء، والحكام، والمنتسبين من الجهّال، فاتبعتهم العامة والجمهور ولم يشعروا بما هم عليه من المخالفة، والمباينة لدين الله، الذي اصطفاه لخاصته وأوليائه» (¬1) . إلى أن قال عن الإمام محمد بن عبد الوهاب: «وتصدى - رحمه الله -: للرد على من نكب عن هذا السبيل، واتبع سبيل التحريف والتعطيل على اختلاف نحلهم وبدعهم وتشعب مقالتهم وطرقهم، متبعًا - رحمه الله - ما مضى عليه السلف الصالح، من أهل العلم والإيمان، وما درج عليه القرون المفضلة بنص الحديث، ولم يلتفت - رحمه الله - إلى ما عدا ذلك، من قياس فلسفي، أو تعطيل جهمي، أو إلحاد حلولي، أو اتحادي، أو تأويل معتزلي، أو أشعري، فوضح معتقد السلف الصالح، بعدما سفت عليه السوافي، وذرت عليه الذواري، وندر من يعرفه من أهل القرى والبوادي، إلا ما كان مع العامة من أصل الفطرة، فإنه قد يبقى ولو في زمن الغربة والفترة، وتصدى أيضًا: للدعوة إلى ما يقتضيه هذا التوحيد ويستلزمه، وهو: وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة والبراءة من عبادة كل ما عبد من دون الله» (¬2) . وكذلك: قام بالنكير على أجلاف البوادي وأمراء القرى والنواحي، فيما يتجاسرون عليه، ويعفونه من قطع السبيل، وسفك الدماء، ونهب الأموال المعصومة، حتى ظهر العدل واستقر، وفشا الدين واستمر، والتزمه كل من كانت عليه الولاية، من البلاد النجدية، وغيرها، والحمد لله على ذلك؛ والتذكير بهذا يدخل فيما امتن الله به على ¬

(¬1) الدرر السنية (1، 387) (بتصرف واختصار يسير) . (¬2) الدرر السنة (1، 455) .

المؤمنين، وذكرهم به من بعث الأنبياء والرسل» (¬1) . ويقول الشيخ إسماعيل الدهلوي في كتابه رسالة التوحيد في وصف حال المسلمين عمومًا وفي الهند بخاصة تحت عنوان: «استفحال فتنة الشرك والجهالة في الناس» يقول: «اعلم أن الشرك قد شاع في الناس في هذا الزمان وانتشر، وأصبح التوحيد الخالص غريبًا، ولكن معظم الناس لا يعرفون معنى الشرك، ويدعون الإيمان مع أنهم قد تورطوا في الشرك وتلوثوا به، فمن المهم قبل كل شيء أن يفقه الناس معنى الشرك والتوحيد، ويعرفوا حكمهما في القرآن والحديث» (¬2) . ثم قال تحت عنوان «مظاهر الشرك وأشكاله المتنوعة» : «ومن المشاهد اليوم أن كثيرًا من الناس يستعينون بالمشايخ والأنبياء، والأئمة والشهداء، والملائكة، والجنيات عند الشدائد، فينادونها، ويصرخون بأسمائها، ويسألون عنها قضاء الحاجات، وتحقيق المطالب، وينذرون لها، ويقربون لها قرابين لتسعفهم بحاجاتهم، وتقضي مآربهم، وقد ينسبون إليها أبناءهم طمعًا في رد البلاء، فيسمي بعضهم ابنه بعبد النبي» (¬3) . وبالجملة: فإن هذا الواقع المتردي وهذه الأسباب وغيرها كانت من الدوافع الطبيعية التي هي من سنن الله، والدوافع الشرعية استجابة لأمر الله، وقد استدعت (بالضرورة) قيام دعوة إصلاحية شاملة تقوم على تجديد الدين بإحياء ما اندرس منه، وبإصلاح أحوال الأمة في سائر نواحي الحياة في العقيدة والعبادة والعلم والسلطة والاقتصاد والاجتماع، وجماع ذلك كله (إخلاص العبادة لله وحده) والعمل بمقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فقامت هذه الدعوة الإصلاحية المباركة تحقيقًا لوعد الله تعالى بتجديد الدين، ونصر المؤمنين، وبقاء طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين إلى قيام الساعة. ومن المعلوم والبدهي أن هذه الغاية العظمى لا يمكن أن تظهر في أرض الواقع، ويكون بها الإصلاح المشروع المنشود إلا بالعلم والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ¬

(¬1) الدرر السنة (1) باختصار. (¬2) رسالة التوحيد ص (25) . (¬3) رسالة التوحيد ص (25، 26) .

والكفاح، والجهاد والقتال والسلطان (الدولة) . وسائر الوسائل المشروعة، والتي هي من ضروريات قيام أي مبدأ وكيان في كل أمة وكل مكان وزمان. والكيان الذي يقوم على المنهج الرباني، وميراث الأنبياء، وسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وسبيل السلف الصالح هو الأولى والأحق بأن يبرز ويظهر، ويتحقق به للإسلام والمسلمين وللإنسانية جمعاء الأمل الذي تنشده في تحصيل السعادة ونشر العدل بشرع الله الحكيم الخبير.

المبحث الرابع التكامل في منهج الدعوة والدولة

[المبحث الرابع التكامل في منهج الدعوة والدولة] المبحث الرابع: التكامل في منهج الدعوة والدولة: نظرًا لأن منهج الدعوة يُمثل الإسلام، الدين الحق، لذا فهو يتسم بالشمول والتكامل في الأصول والغايات، فهو يمثل حقيقة الإسلام والسنة، ويقوم على تحقيق الدين كله بالتوحيد وإقامة الفرائض، والأحكام والقضاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكافة أمور الدين، فإن الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه استخدموا كافة الوسائل المشروعة لتحقيق هذه الغايات الكبرى، ابتداء من تعليم الدين والفقه فيه، عقيدة وأحكامًا وسلوكًا، ثم الدعوة إلى ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، من خلال التعليم والتدريس والخطابة، والمكاتبة والمراسلة، وبعث المعلمين والمبلِّغين، والمؤلفات، وإرسال الوفود، واستقبالها، للبلاغ والبيان، وشرح أصول الدعوة وأهدافها، والإجابة عن التساؤلات والشبهات والإشكالات، من المؤيدين والمعارضين والمحايدين وغيرهم. مما استوجب ظهور نهضة علمية وأدبية قوية، نثرًا وشعرًا وتأليفًا وخطابة، ومحاورات علمية ثرية. وتعدى الأمر إلى قيام مجتمع مسلم متمسك بالدين ومظهر للسنة وعامل بالشرع، وقيام دولة إسلامية، ذات كيان ديني وسياسي واقتصادي وعسكري قوي لحماية الدعوة والدولة، والدفاع عن حقوقها وحقوق أهلها المشروعة. ثم إلى ما هو أشمل من ذلك وهو قيام هذه الحركة الإصلاحية الدعوية الكبرى بإبلاغ الدين ونشره في العالم كله، كما أمر الله، وتثبيته؛ ليكون الدين كله لله.

الفصل الثاني في منهج الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه في الدين ما يرد الاتهامات

[الفصل الثاني في منهج الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه في الدين ما يرد الاتهامات] [المبحث الأول وقفة مع الاتهامات والمنهج] الفصل الثاني في منهج الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه في الدين ما يرد الاتهامات المبحث الأول وقفة مع الاتهامات والمنهج إن الناظر في المفردات الجزئية والقواعد الفرعية، والأحكام العلمية النظرية، والتطبيقات العملية لكل دعوة أو مبدأ قد يجد فيها الكثير من الأخطاء والتجاوزات والتصرفات الشاذة والأقوال النادة والأحكام الخاطئة، أو الأمور المشكلة والمشتبهة التي تحتاج إلى تثبت أو تفسير أو تدقيق أو استقراء للوصول إلى حكم علمي تطمئن إليه النفس. لكن أهل العلم وعقلاء الناس لديهم موازين علمية وعقليَّة وقواعد شرعية يزنون بها الأمور. فالأديان والمبادئ والمذاهب والدعوات لها عقائد وأصول ومبادئ ومناهج وقواعد تكون هي المرجع والميزان الذي ترد إليها المفردات الجزئية ودقائق الأمور، ومفردات التصرفات والأقوال والأفعال والأحكام والمواقف، وتكون هذه الأصول هي المرجع والمحتكم والمردّ عند التنازع والاختلاف بين الأتباع أنفسهم، وبينهم وبين مخالفيهم، ومع الموافقين والمعارضين، ومن المتلقين والناقدين. ودعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب تخضع لهذه القاعدة، إذ هي دعوة إسلامية محضة، وسلفية خالصة، تسير على منهج السلف الصالح، فمردُّ الخلاف بينها وبين مخالفيها: الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح وما يتهمها به خصومها من الاتهامات على ثلاثة أنواع: النوع الأول: من الكذب الصريح والافتراء والبهتان وقد ورد ذكر كثير منه في هذا البحث. النوع الثاني: مما يكون من اللوازم غير اللازمة، أو التلبيس، أو التفسير الخاطئ ونحو ذلك مما يلتبس فيه الحق بالباطل ويجب رده إلى النصوص والأصول الشرعية والقواعد المعتبرة عند العقلاء، والمنهج الذي عليه الدعوة وأهلها. النوع الثالث: أخطاء وتجاوزات وزلات ليست على المنهج الذي عليه الدعوة، أو اجتهادات خاطئة أو مرجوحة، وقد تصدر من أي من العلماء أو الولاة أو العامة، والمنتسبين للدعوة. وكثير من الشبهات والاتهامات التي يتعلق بها الخصُوم للطعن في الإمام وأتباعه ودعوته من هذا النوع.

ومن هذا المنطلق خصصت هذا الفصل في بيان منهج الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، وأنه امتداد لمنهج السلف الذي يقوم على: الاعتماد على القرآن وما صح من السنة بفهم السلف الصالح ومنهجهم، من الصحابة والتابعين وأئمة أهل السنة والجماعة في التلقي والاستدلال والعلم والعمل، واتباع آثارهم والاقتداء بهديهم؛ لأن ذلك هو سبيل المؤمنين الذي توعد الله من خالفه فقال سبحانه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] [سورة النساء، آية: 115] وقد عرضت هذا المنهج هنا ليكون القاعدة والميزان في تقويم الدعوة، وبيان مدى الظلم والإجحاف الحاصل لها ولأهلها في الاتهامات التي قيلت وذاعت عند الكثيرين، بل ومدى البهتان والكذب من قبل بعض الخصوم، والذين صدقوهم دون تثبت ولا نظر في المنهج والأصول التي عليها المعوَّل في النقد والتقويم، ودون اعتبار للحال والواقع الذي تعيشه الدعوة وأهلها.

المبحث الثاني معالم المنهج عند الإمام وأتباعه وأنهم على منهج السلف الصالح

[المبحث الثاني معالم المنهج عند الإمام وأتباعه وأنهم على منهج السلف الصالح] المبحث الثاني معالم المنهج عند الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه وأنهم على منهج السلف الصالح لا يتفرد الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه وعامة أهل السنة والجماعة قديمًا وحديثًا بشيء من الدين - عقيدة ومنهاجًا - عن سائرهم (كما أسلفت) . فإن قولهم في أصول الدين وقطعياته ومسلَّماته واحد؛ في أركان الإيمان وأركان الإسلام وشروطها ومستلزماتها كذلك. وفي أسماء الله وصفاته وأفعاله. وفي مسائل الإيمان والأسماء والأحكام والقدر. وفي حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله. وفي الشفاعة والرؤية. وفي الصحابة والإمامة والأولياء والصالحين وعامة المؤمنين. وفي السمع والطاعة بالمعروف. وفي الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي قطعيات الأحكام والآداب. ونحو ذلك من المنهاج الذي عليه السلف الصالح في العقيدة والعلم والعمل والتعامل، فإن السلف الصالح أهل السنة والجماعة ومنهم إمام الدعوة وأتباعها كلهم متفقون على هذه الأصول، وهي أصول الدين والاعتقاد، ولهذا فإن كل من نظر في أقوال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب وعلماء الدعوة ومن سلك سبيلهم من أهل السنة يجزم بأنهم مثَّلوا منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة في الاعتقاد والقول والعمل ومنهج التعامل. ولذلك نجد أن المخالفين (أهل الأهواء والافتراق والبدع) في العصر الحديث يعيرون كل من كان على نهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة بأنه (وهابيًّا) فهي - بحمد الله - تزكية من الخصوم لا تقدّر بثمن؛ لأنهم صاروا يطلقون وصف (الوهابية) على التمسك بالسنة والتزام سبيل السلف الصالح. وقد تبين بالدليل والبرهان أن ما يزعمه خصوم السنة، (أهل البدع والأهواء

والافتراق) بأن الإمام وأتباعه جاءوا ببدع من الدين، أو مذهب خامس، أو أنهم متشددون ومتزمتون، أو أنهم خوارج، ونحو ذلك من المفتريات، إنما هو من البهتان؛ لأن حقيقة الدعوة ومنهجها وواقعها (من أئمتها وعلمائها ودولتها وأتباعها، وكذلك آثارها ومؤلفاتها وجميع أحوالها) تدل على خلاف ما يزعم خصومها والجاهلون بحقيقتها، ومن أراد الحقيقة فليرجع إلى ذلك كله أو بعضه وليتأمل ويدرس وينظر إلى المسألة بتجرد وموضوعية وعدل. وسيتوصل (إن سلم من الهوى) إلى ما توصل إليه المنصفون والباحثون المتجردون من المفكرين والعلماء وغيرهم، كما سأذكر نماذج من شهاداتهم في آخر هذا المؤلف إن شاء الله. وبالجملة فإن أبرز معالم هذا المنهج الذي قامت عليه الدعوة ولا تزال بحمد الله: 1 - الدخول في الدين كله وتطبيق شمولية الإسلام منهاجًا للحياة في العقيدة والأحكام والعلم والعمل والتعامل في حياة الفرد والجماعة، والدولة والأمة والبشرية كلها. 2 - سلامة مصادر التلقي ومنهج الاستدلال، بالاعتماد على القرآن وصحيح السنة وآثار السلف الصالح على المنهج الشرعي السليم. 3 - الاقتداء والاتباع لمنهج السلف وسبيل المؤمنين أهل السنة والجماعة. 4 - تحقيق غايات الدين: من التوحيد والسنة والفضائل والعدل، ونفي ما يضادها من الشركيات والبدع والمنكرات والظلم، والسعي إلى كل ما يسعد الإنسان ويليق بكرامته في الدنيا والآخرة. 5 - القيام بواجب النصيحة لله تعالى ولكتابه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولأئمة المسلمين وعامتهم. كما أوصى بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح قال: «الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم» (¬1) . 6 - الاستعداد لليوم الآخر، والفوز بالجنة والنعيم الأبدي الذي لا يحصل إلا برضى الله وطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، واتباع شرعه، كما قال الله سبحانه في سورة العصر: {وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] [سورة العصر، الآيات: 1 - 3] . هذا وسنعرض في المباحث التالية ما يثبت التزام الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه لنهج السلف الصالح في الدين جملة وتفصيلًا. والله المستعان. ¬

(¬1) رواه مسلم (196) ، وأبو داود (4944) ، والنسائي (2) من حديث تميم الداري - رضي الله عنه -) .

المبحث الثالث عرض نماذج عن منهجهم في الدين وسلوكهم طريق السلف الصالح وفيه

[المبحث الثالث عرض نماذج عن منهجهم في الدين وسلوكهم طريق السلف الصالح وفيه] [الأنموذج الأول بيان الإمام لعقيدته ورده على مفتريات الخصوم] المبحث الثالث عرض لنماذج من منهجهم العام في الدين واقتفائهم نهج السلف الصالح الأنموذج الأول: بيان الشيخ الإمام لعقيدته ومنهجه ورده لاتهامات الخصوم. الأنموذج الثاني: عرض لمنهج أئمة الدعوة ودولتها بعده.

الأنموذج الأول عرض الشيخ الإمام لعقيدته ومنهجه ورده على اتهامات الخصوم نظرًا لكثرة خوض الخائضين بالهوى أو الجهل - أو هما معًا - في عقيدة الشيخ الإمام ومنهجه، وما أشاعوه من مفتريات وتهم ومزاعم عليه وعلى دعوته واتباعه، أسوق في هذا المقام رسالة واحدة من رسائله الكثيرة التي عبر فيها بنفسه عن عقيدته ومنهجه وموقفه من الاتهامات والدعاوى التي أشيعت عنه، وهي رسالته التالية التي بعثها إلى أهل القصيم وهي كالتالي: [التزامه لعقيدة أهل السنة والجماعة. قال] (¬1) بسم الله الرحمن الرحيم أشهد الله ومن حضرني من الملائكة، وأشهدكم: أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة [أركان الإيمان] ، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره؛ [صفات الله تعالى] ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله – سبحانه وتعالى -: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيِّف، ولا أمثِّل صفاته تعالى بصفات خلقه؛ لأنه تعالى لا سميَّ له، ولا كفؤ له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه. فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلًا، وأحسن حديثًا، فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون، من أهل التكييف، والتمثيل؛ وعما نفاه عنه النافون، من أهل التحريف والتعطيل، فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ - وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182] [سورة الصافات، آية: 180 - 182] ¬

(¬1) أثبت هنا الرسالة كاملة من الدرر السنية (1) ، وقد أضفت عناوين إيضاحية بين القوسين [] .

[ثم قال مبينًا وسطية أهل السنة والجماعة] : «والفرقة الناجية: وسط في باب أفعاله تعالى، بين القدرية والجبرية؛ وهم وسط في باب وعيد الله، بين المرجئة والوعيدية؛ وهم وسط في باب الإيمان والدين، بين الحرورية والمعتزلة؛ وبين المرجئة والجهمية؛ وهم وسط في باب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الروافض، والخوارج» . [ثم قال مبينًا التزامه لعقيدة السلف في القرآن] : «وأعتقد: أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود؛ وأنه تكلم به حقيقة، وأنزله على عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -» . [ثم قرر الحق في القدر فقال:] «وأومن: بأن الله فعَّال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور» . [عقيدته فيما بعد الموت قال:] «وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت، فأومن بفتنة القبر ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين، حفاة عراة غرلًا، تدنو منهم الشمس، وتنصب الموازين، وتوزن بها أعمال العباد {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102 - 103] [سورة المؤمنون، آية: 102 - 103] وتنشر الدواوين، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله» . [عقيدته في حوض نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - قال:] «وأومن: بحوض نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا؛ وأؤمن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم، يمر به الناس على قدر أعمالهم» . [إيمانه بشفاعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - قال:] «وأومن بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه أول شافع، وأول مشفع؛ ولا ينكر شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أهل البدع والضلال؛ ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضى، كما قال تعالى

: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] [سورة الأنبياء، آية: 28] ، وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] [سورة البقرة، آية: 255] ، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] [سورة النجم، آية: 26] ، وهو: لا يرضى إلا التوحيد؛ ولا يأذن إلا لأهله؛ وأما المشركون: فليس لهم من الشفاعة نصيب؛ كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] [سورة المدثر، آية: 48] . [عقيدته في الجنة والنار والرؤية قال:] «وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان؛ وأن المؤمنين يرون ربّهم بأبصارهم يوم القيامة، كما يرون القمر ليلة البدر، لا يضامون في رؤيته» . [عقيدته في ختم النبوة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ورسالته ونبوته - صلى الله عليه وسلم - قال:] «وأومن بأنّ نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته» . [عقيدته في الصحابة وأمهات المؤمنين قال:] «وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق؛ ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين؛ ثم علي المرتضى؛ ثم بقية العشرة؛ ثم أهل بدر؛ ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان؛ ثم سائر الصحابة - رضي الله عنه -؛ وأتولى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأذكر محاسنهم، وأترضى عنهم، وأستغفر لهم، وأكف عن مساويهم، وأسكت عما شجر بينهم؛ وأعتقد فضلهم، عملًا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] [سورة الحشر، آية: 10] وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء» . [عقيدته في الأولياء وكراماتهم قال:] «وأقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات، إلاّ أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئًا، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله» . [عقيدته في المسلمين وأنه لا يكفرهم قال:] «ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار، إلا من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

ولكني أرجو للمحسن، وأخاف على المسيء، ولا أكفر أحدًا من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام. [عقيدته في الجهاد مع المسلمين والصلاة خلفهم قال:] «وأرى الجهاد ماضيًا مع كل إمام: برًا كان أو فاجرًا، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، والجهاد ماض منذ بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل» . [عقيدته في السمع والطاعة للأئمة المسلمين قال:] «وأرى وجوب السمع والطاعة: لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة، واجتمع عليه الناس، ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته؛ وحرم الخروج عليه» . [موقفه من أهل البدع قال:] «وأرى هجر أهل البدع، ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر، وأكل سرائرهم إلى الله؛ وأعتقد: أنّ كل محدثة في الدين بدعة» . [عقيدته في الإيمان قال:] «وأعتقد أن الإيمان: قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية؛ وهو: بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرى وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة. فهذه عقيدة وجيزة، حررتها وأنا مشتغل البال، لتطلعوا على ما عندي، والله على ما نقول وكيل» . [نفيه للمفتريات والاتهامات في التي قيلت فيه قال:] «ثم لا يخفى عليكم: أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم (¬1) قد وصلت إليكم، وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم، والله يعلم أن الرجل افترى علي أمورًا لم ¬

(¬1) أحد خصوم الدعوة الأوائل.

أقلها، ولم يأت أكثرها على بال. فمنها: 1 - (¬1) قوله: إني مبطل كتب المذاهب الأربعة. 2 - وإني أقول: إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء. 3 - وإني أدعي الاجتهاد. 4 - وإني خارج عن التقليد. 5 - وإني أقول: إن اختلاف العلماء نقمة. 6 - وإني أكفر من توسل بالصالحين. 7 - وإني أكفر البوصيري، لقوله: يا أكرم الخلق. 8 - وإني أقول: لو أقدر على هدم قبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهدمتها. 9 - ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها، وجعلت لها ميزابًا من خشب. 10 - وإني أحرم زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. 11 - وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما. 12 - وإني أكفر من حلف بغير الله. 13 - وإني أكفر ابن الفارض، وابن عربي. 14 - وإني أحرق دلائل الخيرات، وروض الرياحين، وأسميه روض الشياطين» . [ثم قال] : «جوابي عن هذه المسائل، أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم؛ وقبله من بهت محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أنه يسب عيسى بن مريم، ويسب الصالحين، فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب، وقول الزور، قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [النحل: 105] [سورة النحل، آية: 105] بهتوه - صلى الله عليه وسلم - بأنه يقول: إن الملائكة، وعيسى، وعزيرًا في النار؛ فأنزل الله في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] [سورة الأنبياء: آية: 101] » . ¬

(¬1) الترقيم من عندي وليس في الأصل.

[دفاعه عن أقواله الموافقة للحق والدليل:] قال: «وأما المسائل الأُخر، وهي: 1 - أني أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله. 2 - وأني أعرّف من يأتيني بمعناها. 3 - وأني أكفر الناذر إذا أراد بنذره التقرب لغير الله، وأخذ النذر لأجل ذلك. 4 - وأن الذبح لغير الله كفر، والذبيحة حرام. فهذه المسائل حق، وأنا قائل بها؛ ولي عليها دلائل من كلام الله وكلام رسوله، ومن أقوال العلماء المتبعين، كالأئمة الأربعة؛ وإذا سهل الله تعالى بسطت الجواب عليها في رسالة مستقلة، إن شاء الله تعالى. ثم اعلموا وتدبروا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] [سورة الحجرات، آية: 6] » (¬1) . وبهذه الرسالة يثبت قطعًا أنه على عقيدة السلف الصالح أهل السنة والجماعة. وأنه تبرأ مما اتهمه به الخصوم وافتروا عليه، من المزاعم والدعاوى الكاذبة والشبهات الملبسة، وقد كرر الإمام هذه العقيدة وعمل عليها وتعامل على أساسها، مع المؤيدين والمعارضين، وكرر نفي هذه المفتريات وغيرها، وكل ذلك فعله بالدليل والبرهان، وإشهاد الناس على ما يقول ويفعل، ولم نجد من استطاع أن يثبت أن الشيخ الإمام على خلاف ما يقول ويدعي والحمد لله. ¬

(¬1) الدرر السنية (1) .

الأنموذج الثاني بيان أئمة الدعوة وحكامها من بعده لعقيدتهم والتزامهم بنهج السلف

[الأنموذج الثاني بيان أئمة الدعوة وحكامها من بعده لعقيدتهم والتزامهم بنهج السلف] الأنموذج الثاني عرض لمنهج أئمة الدعوة ودولتها بعده (¬1) وأسوق للقارئ أنموذجًا لمنهج الدعوة العام في الدين، كما بينه ورسمه أحد علمائها الكبار وهو الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، وأحد ولاتها الأفذاذ وهو الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد، وهو المنهج الذي يمثل منهج السلف الصالح، أهل السنة والجماعة في جميع الجوانب، في العقيدة والأحكام والتعامل في البيان الذي كتبه الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب أثناء دخولهم مكة ملبين منتصرين سنة (1218هـ) ، وقد أعلنوا الأمان لسكان البيت الحرام: [البدء بالبسملة والحمد] : أول مظاهر التزام السنة بدؤه بالبسملة والحمد والصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: « بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين» (¬2) . ثم حمده لله وشكره له، على ما مَنَّ به على أهل السنة من التمكين، ولم يظهر منهم ما يفعله خصومهم من العُجب والكبر والغرور والتعالي على الخلق قال: «وبعد: فإنا معاشر غزو الموحدين، لما منّ الله علينا - وله الحمد - بدخول مكة المشرفة نصف النهار، يوم السبت في ثامن شهر محرم الحرام، سنة 1218هـ» (¬3) . تحقيقهم للأمن والأمان لأهل مكة والحجاج: وكانوا يرعون حق الله تعالى ويعظمون شعائره ويقفون عند حدوده ويرعون حقوق الناس، ويتقون الله فيهم لا سيما سكان البيت الحرام، ويرغبون في تحقيق الأمن والسلم ¬

(¬1) عرضت هذه الوثيقة عرضًا تفصيليًا؛ لأنها تمثل الشمولية في المنهج في العقيدة، ومنهج التعامل في السلم والحرب وفي الدعوة والدولة؛ مما ينفى سائر الاتهامات. (¬2) الدرر السنية (1) . (¬3) الدرر السنية (1) .

والتسامح، ويحبون العفو عند المقدرة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل. لذا نجد أن الأمير سعود استجاب لطلب أشراف مكة وعلمائها، بل والعامة في ضمان أمنهم وحقوقهم، رغم أنهم كانوا قد عزموا على حشد الحشود لصد أهل الحق. أما ما أصاب بعض أهل البدع من الرعب آنذاك فهو من مظاهر النصر التي وعد الله بها المؤمنين الصادقين المتقين كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: « «ونصرت بالرعب مسيرة شهر» (¬1) . قال: «بعد أن طلب أشراف مكة، وعلماؤها وكافة العامة من أمير الغزو [سعود] الأمان، وقد كانوا تواطئوا مع أمراء الحجيج، وأمير مكة على قتاله، أو الإقامة في الحرم، ليصدوه عن البيت، فلما زحفت أجناد الموحدين ألقى الله الرعب في قلوبهم، فتفرقوا شذر مذر، كل واحد يعد الإياب غنيمة، وبذل الأمير حينئذٍ الأمان لمن بالحرم الشريف» (¬2) . دخولهم كان بملابس الإحرام والنسك: فقد دخلوا بمنتهى التواضع والتذلل لله تعالى، معلنين للتوحيد، كما أعلنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، غير متلبسين بشيء من البدع والمحدثات، ولا المنكرات التي يفعلها في هذه المواقف وغيرها كثيرون، كما أنهم لم يدخلوا بالقتال، ولم يريقوا الدماء كما يزعم كثيرون من خصومهم والجاهلين بحالهم. قال: «ودخلنا وشعارنا التلبية، آمنين محلقين رؤوسنا ومقصرين، غير خائفين من أحد من المخلوقين، بل من مالك يوم الدين» (¬3) . أدبهم وانضباطهم في مكة المكرمة: وكانوا أثناء دخولهم لمكة المكرمة على غاية السكينة، والانضباط والأدب وتعظيم شعائر الله تعالى، بخلاف ما يشيعه عنهم خصومهم والجاهلون بحقيقة أمرهم من أنهم ¬

(¬1) جزء من حديث جابر رواه البخاري (1، 212) ، ومسلم (1163) ، وهو حديث متواتر. راجع إرواء الغليل (1) . (¬2) الدرر السنية (1) . (¬3) الدرر السنية (1) .

متوحشون وغير مؤدبين قال: «ومن حين دخل الجند الحرم، وهم على كثرتهم مضبوطون متأدبون، لم يعضدوا به شجرًا، ولم ينفروا صيدًا» (¬1) . ولم يباشروا قتالًا في الحرم: ثم حين دخلوا الحرم كانوا - بخلاف ما يشاع عنهم - حريصين على رعاية حرمة مكة، وحقن دماء المسلمين. قال: «ولم يريقوا دمًا إلا دم الهدي، أو ما أحل الله من بهيمة الأنعام على الوجه المشروع» (¬2) . شرح منهجهم وما يدعون إليه ويقاتلون الناس عليه: ولما أدوا مناسكهم لم يحتجبوا عن الناس، ولم يلزموهم الحق بالقوة كما يزعم خصومهم، بل عرضوا منهجهم علنًا، وبينوا بالدلائل والبراهين أنهم جاءوا لنصر التوحيد والسنة وإعلانها، وإزالة مظاهر الشرك والبدع وإنكارها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما كانت طريقة المرسلين، وسنة خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحابته والتابعين والسلف الصالح. قال: «ولما تمت عمرتنا: جمعنا الناس ضحوة الأحد، وعرض الأمير - رحمه الله - على العلماء ما نطلب من الناس ونقاتل عليه؛ وهو: إخلاص التوحيد لله تعالى وحده؛ وعرفهم أنه لم يكن بيننا وبينهم خلاف له وقع إلا في أمرين: أحدهما: إخلاص التوحيد لله تعالى، ومعرفة أنواع العبادة، وأن الدعاء من جملتها، وتحقيق معنى الشرك، الذي قاتل الناس عليه نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، واستمر دعاؤه برهة من الزمن بعد النبوة إلى ذلك التوحيد، وترك الإشراك قبل أن تفرض عليه أركان الإسلام الأربعة. والثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي لم يبق عندهم إلا اسمه، وانمحى أثره ورسمه» (¬3) . ¬

(¬1) المصدر السابق (1 - 223) . (¬2) المصدر السابق (1 - 223) . (¬3) المصدر السابق (1) .

موافقة علماء مكة وأشرافها وغيرهم لدعوة الحق ومبايعتهم على ذلك: ولما سمع أهل العلم والعقل والحلم من علماء مكة وأشرافها وأعيانها ما كان عليه أهل الدعوة، وما يدعون إليه، وما جاءوا من أجله، ورأوا الحقيقة الجليَّة صافية نقية سالمة من حجب البهتان والتزوير والتضليل أذعنوا للحق، واستبانت لهم المحجة. قال: «فوافقونا على استحسان ما نحن عليه جملة وتفصيلًا، وبايعوا الأمير على الكتاب والسنة» (¬1) . الرفق بالعلماء والعامة والعفو عنهم: ثم أخذوا الجميع بالرفق والتلطف، واستمرت بين الطرفين المحاورات والتناصح والمذاكرة، وعاملهم الأمير سعود بالصفح والعفو. قال: «وقبل منهم وعفا عنهم كافة، فلم يحصل على أحد منهم أدنى مشقة، ولم يزل يرفق بهم غاية الرفق، لا سيما العلماء، ونقرر لهم حال اجتماعهم، وحال انفرادهم لدينا: أدلة ما نحن عليه، ونطلب منهم المناصحة والمذاكرة وبيان الحق» (¬2) . إعلانهم الاستعداد لقبول الحق بدليله: وأعلن الأمير سعود ومن معه من العلماء المنهج الشرعي الذي يجمع عليه المسلمون: من التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنهم مستعدون لقبول الحق بدليله، وأنه لا مساومة على هذا المبدأ المجمع عليه، ولما عرضوا على أهل مكة ذلك، وطلبوا منهم التحاكم فيما اختلفوا فيه إلى هذه القاعدة لم يكن منهم إلا التسليم بالحق. قال: «وعرفناهم: بأن صرح لهم الأمير حال اجتماعهم، بأنا قابلون وما وضحوا برهانه، من كتاب أو سنة أو أثر عن السلف الصالح، كالخلفاء الراشدين، المأمورين باتباعهم، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» (¬3) أو ¬

(¬1) المصدر السابق (1) . (¬2) المصدر السابق (1) . (¬3) جزء من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - رواه أبو داود (7) ، والترمذي (2 - 113) وغيرهما، وصححه غير واحد منهم الترمذي، والبزار، والحاكم. راجع: إرواء الغليل (8) ، وصحيح الجامع (3312) .

عن الأئمة الأربعة المجتهدين ومن تلقى العلم عنهم إلى آخر القرن الثالث، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (¬1) . وعرفناهم: أنا دائرون مع الحق أينما دار، وتابعون للدليل الجلي الواضح، ولا نبالي حينئذ بمخالفة ما سلف عليه من قبلنا، فلم ينقموا علينا أمرًا» (¬2) . تقرير منع طلب الحاجات من الأموات وإذعان المخالفين للحق: ثم شرعوا مع علماء مكة بمناقشة القضية الكبرى بين دعوة السنة وبين أهل البدع، بل بين الرسل والدعاة دائمًا، وبين خصومهم، وهي قضية الشركيات والبدع، كطلب الحاجات من الأموات. ولما وردت بعض الشبهات، ردها أهل الحق بالأدلة من الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة، وبذلك اعترف الآخرون بالحق والحمد لله. قال: «فألحينا عليهم في مسألة طلب الحاجات من الأموات، إن بقي لديهم شبهة؟ فذكر بعضهم شبهة أو شبهتين، فرددناها بالدلائل القاطعة، من الكتاب والسنة، حتى أذعنوا ولم يبق عند أحد منهم شك ولا ارتياب، فيما قاتلنا الناس عليه، أنه الحق الجلي، الذي لا غبار عليه» (¬3) . انشراح صدور الناس للحق حين سمعوه ورأوا الحقيقة: قال: «وحلفوا لنا الأيمان المغلظة، من دون استحلاف لهم، على انشراح صدورهم وجزم ضمائرهم: أنه لم يبق لديهم شك في أن من قال يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو يا ابن عباس أو يا عبد القادر أو غيرهم من المخلوقين، طالبًا بذلك دفع شر أو جلب خير، من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، من شفاء المريض والنصر على العدو والحفظ من المكروه، ¬

(¬1) جزء من حديث ابن مسعود مرفوعًا رواه البخاري (3650) ، ومسلم (2533) . وله شاهد من حديث عمران بن حصين عند الترمذي (2، 49) ، وابن حبان (2285) ، وسنده صحيح على شرط مسلم. راجع: السلسلة الصحيحة للألباني (669) . (¬2) الدرر السنية (1 - 224) . (¬3) الدرر السنية (1 - 224) .

ونحو ذلك: أنه مشرك شركًا أكبر يهدر دمه، ويبيح ماله، وإن كان يعتقد أن الفاعل المؤثر في تصريف الكون، هو الله تعالى وحده، لكنه قصد المخلوقين بالدعاء، مستشفيًا بهم ومتقربًا بهم، لقضاء حاجته من الله بسرهم، وشفاعتهم له فيه أيام البرزخ» (¬1) . وقد يقول قائل: إن ذلك الذي حدث من علماء مكة من الإذعان للحق كان تحت الإكراه والخوف، والمداراة التي قد تكون في مثل هذه المواقف. فنقول: إنه لا داعي للخوف ولا المداراة وقد كانوا أخذوا الأمان ورأوا كامل الوفاء والاحترام من الإمام سعود. كما أنهم حين حلفوا الأيمان المغلظة دون أن يطلب منهم ذلك - وهم علماء - فإن هذا وحده دليل كاف على أن هذا هو عين الحقيقة. ويضاف لذلك أن ما عرض هنا مما أعلنوه وأقروا به هو الحق الذي لا خلاف عليه أصلًا، لكن أعداء الدعوة كانوا يوهمون الناس بخلافه، فقد كان ذلك كله في مجالس حوار وتناصح، وليس مجلس حكم وتسلط كما قد يتوهم البعض. كشف حقيقة الأضرحة والشركيات عندها: فقد تم البيان بأن غاية هذه الدعوة المباركة هي الغاية العظمى التي بعث الله بها النبيين والمرسلين وندب لها الدعاة والمصلحين، وهي إخلاص العبادة لله وحده، وتحرير الناس من أوضار الشرك والبدع ووسائلها. قال: «وأن ما وضع من البناء على قبور الصالحين: صارت هذه الأزمان أصنامًا تقصد لطلب الحاجات، ويتضرع عندها، ويهتف بأهلها في الشدائد، كما كانت تفعله الجاهلية الأولى، وكان من جملتهم (¬2) مفتي الحنفية، الشيخ / عبد الملك القلعي، وحسن المغربي مفتي المالكية، وعقيل بن يحيى العلوي، فبعد ذلك: أزلنا جميع ما كان يعبد بالتعظيم والاعتقاد فيه، ويرجى النفع والنصر بسببه، من جميع البناء على القبور وغيرها، حتى لم يبق في تلك البقعة المطهرة طاغوت يعبد، فالحمد لله على ذلك» (¬3) . ¬

(¬1) المصدر السابق (1، 225) . (¬2) يعني علماء مكة الذين أعلنوا الحق حين استبان لهم. (¬3) المصدر السابق (1، 225) .

رفع المظالم من المكوس والضرائب: ومن الحسنات التي تميزت بها هذه الدعوة المباركة ودولتها أنها كلما تمكنت من بلد رفعت عن أهلها المظالم والمكوس ونحوها، بل كان هذا المبدأ الشرعي من الأصول التي تعاقد عليها الإمامان: محمد بن عبد الوهاب المجدد إمام الدعوة، ومحمد بن سعود مؤسس الدولة التي احتضنت الدعوة، وبهذا المبدأ عامل الإمام سعود أهل مكة وغيرهم. قال الشيخ عبد الله: «ثم رفعت: المكوس والرسوم» (¬1) . إزالة المنكرات ووسائلها الظاهرة: وأعلنت الدعوة المباركة الأصل الشرعي العظيم الذي جعله الله من خصائص هذه الأمة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي جعله الله شرطًا للتمكين والعزة والنصر. وهل يخالف في هذا المبدأ الكبير مسلم يخشى الله ويتقيه؟ قال: «وكسرت آلات التنباك، ونودي بتحريمه، وأحرقت أماكن الحشاشين، والمشهورين بالفجور» (¬2) . الأمر بصلاة الجماعة وجمع المسلمين على إمام واحد: وكان من ثمار هذه الدعوة المباركة في كل بلد وصلت إليها إزالة مظاهر التعصب المذهبي والفرقة والشتات والفشل الذي أصاب كثير من بلاد المسلمين، بسبب إعراضهم عن التفقه في دين الله وعن طلب الدليل، وبسبب هيمنة البدع والمحدثات والفرق والطرق، كما ساد الإعراض عن الصلاة وترك الجماعات! حتى وصل الحال من الفرقة أنه بمكة بالبلد الحرام (بل بالمسجد الحرام) أنه كانت تقام أكثر من جماعة وأكثر من إمام في الفرض الواحد. فسعت هذه الدعوة المباركة إلى ما أمر الله به، وما أوحى به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الجماعة والاجتماع، ونبذ كل مظاهر الفرقة والتنازع. ¬

(¬1) المصدر السابق (1) . (¬2) المصدر السابق (1) .

فقام الأمير سعود بجمع المسلمين في الحرم على إمام واحد (دون اعتبار لمذهبه الفقهي) لأن المذاهب الأربعة كلها على السنة، والخلاف بين الأئمة الأربعة وأتباعهم كان في الاجتهاديات قال: «ونودي بالمواظبة على الصلوات في الجماعات، وعدم التفرق في ذلك، بأن يجتمعوا في كل صلاة على إمام واحد، ويكون ذلك الإمام من أحد المقلدين للأربعة، رضوان الله عليهم؛ واجتمعت الكلمة حينئذ، وعبد الله وحده، وحصلت الألفة، وسقطت الكلفة» (¬1) . حرصهم على حفظ الولاية والأمن والتيسير على الناس: وقام الأمير سعود بما أوجبه الله عليه من رعاية مصالح المسلمين، وتولية من يرعى شؤونهم ويقيم بينهم العدل والأمن، وييسر لهم أمورهم، ويحفظ دماءهم وأقوالهم وأعراضهم، ويدفع عنهم المشقة والحرج. قال: «وأمر عليهم، واستتب الأمر من دون سفك دم، ولا هتك عرض، ولا مشقة على أحد، والحمد لله رب العالمين» (¬2) . تبصير المسلمين بالحق وتعليمهم الضروري من دينهم ونشر العلم: ثم شرع العلماء وطلاب العلم بتنفيذ النهج الذي تميزت به هذه الدعوة استجابة لأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو تعليم الناس ضروريات دينهم في العقيدة والعبادة والأحكام والمعاملات. قال: «ثم دفعت لهم الرسائل المؤلفة للشيخ محمد في التوحيد المتضمنة للبراهين، وتقرير الأدلة على ذلك بالآيات المحكمات والأحاديث المتواترة، مما يثلج الصدر؛ واختصر من ذلك رسالة مختصرة للعوام، تنشر في مجالسهم، وتدرس في محافلهم، ويبين لهم العلماء معانيها، ليعرفوا التوحيد فيتمسكوا بعروته الوثيقة، فيتضح لهم الشرك، فينفروا عنه، وهم على بصيرة آمنين» (¬3) . ¬

(¬1) المصدر السابق (1) . (¬2) المصدر السابق (1) . (¬3) المصدر السابق (1، 226) .

الاستعداد للحوار والمناقشة والإجابة على الشبهات: واتسعت صدورهم لمن كان لديه شيء من الشبهات، ومن رغب في استمرار الحوار والمناقشة للمسائل محل الخلاف بين أهل السنة وبين المخالفين لهم كمسألة الشفاعة التي يرى أهل السنة (بالدليل) أن منها المشروع، وهو ما توافرت فيه الشروط الواردة في القرآن والسنة، ومنها الممنوع (البدعي أو الشركي) حين لا تتوافر فيها الشروط. قال: «وكان فيمن حضر من علماء مكة، وشاهد غالب ما صار: حسين بن محمد بن الحسين الإبريقي الحضرمي، ثم الحياني، ولم يزل يتردد علينا، ويجتمع بسعود وخاصته، من أهل المعرفة، ويسأل عن مسألة الشفاعة، التي جرد السيف بسببها، من دون حياء ولا خجل، لعدم سابقة جرم له» (¬1) . التزامهم لمنهج السلف جملة وتفصيلًا: التأكيد على التزام الإمام محمد بن عبد الوهاب وعلماء الدعوة وأتباعها بنهج السنة والجماعة جملة وتفصيلًا. قال: «فأخبرناه: بأن مذهبنا في أصول الدين، مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا طريقة السلف، التي هي الطريق الأسلم، بل والأعلم والأحكم، خلافًا لمن قال طريق الخلف أعلم» (¬2) . مذهبهم في الصفات مذهب السلف الصالح: قال: «وهي: أنا نقرأ آيات الصفات، وأحاديثها على ظاهرها، ونكل معناها مع اعتقاد حقائقها إلى الله تعالى؛ فإن مالكًا - وهو من أجل علماء السلف - لما سئل عن الاستواء، في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] [سورة طه، آية: 5.] قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة» (¬3) . ¬

(¬1) المصدر السابق (1، 226) . (¬2) المصدر السابق (1) . (¬3) المصدر السابق (1) .

وفي القدر كذلك: قال: «ونعتقد: أن الخير والشر، كله بمشيئة الله تعالى، ولا يكون في ملكه إلا ما أراد؛ فإن العبد لا يقدر على خلق أفعاله، بل له كسب، رتب عليه الثواب فضلًا، والعقاب عدلًا، ولا يجب على الله لعبده شيء» (¬1) . ويؤمنون بالرؤية كسائر أهل السنة: قال: «وأنه يراه المؤمنون في الآخرة، بلا كيف ولا إحاطة» (¬2) . وهم على مذهب الإمام أحمد ويقرون المذاهب الأخرى المعتبرة عند أهل السنة: أما ما بهتهم به خصومهم والجاهلون بحقيقة منهجهم من أنهم جاءوا (بمذهب خامس) أو أنهم يحرمون الاجتهاد، وأنهم ينتقصون علماء الأمة كل ذلك محض افتراء. قال: «ونحن أيضًا: في الفروع، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكر على من قلّد أحد الأئمة الأربعة، دون غيرهم، لعدم ضبط مذاهب الغير؛ الرافضة، والزيدية، والإمامية، ونحوهم؛ ولا نقرهم ظاهرًا على شيء من مذاهبهم الفاسدة بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة» (¬3) . لا يدّعون الاجتهاد المطلق لكنهم يأخذون بما صح به الدليل: وكذلك هم لا يدَّعون الاجتهاد المطلق، بل يلتزمون مصادر التلقي ومناهج الاستدلال المعتبرة عن أئمة المسلمين، ومع أنهم على مذهب الإمام أحمد - أحد أئمة السنة الأربعة - إلا أنهم لا يتعصبون للمذهب، بل يدورون مع الدليل حيث دار، ومع من قال به من الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة السنة. قال: «ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد لدينا يدَّعيها، إلا أننا في بعض المسائل، إذا صح لنا نص جلي، من كتاب أو سنة غير منسوخ، ولا مخصص، ولا معارض ¬

(¬1) المصدر السابق (1، 227) . (¬2) المصدر السابق (1، 227) . (¬3) المصدر السابق (1) .

بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة، أخذنا به، وتركنا المذهب، كإرث الجدة والإخوة، فإنا نقدم الجد بالإرث، وإن خالف مذهب الحنابلة» (¬1) . لا ينازعون المخالف ولا يلزمونه في الاجتهاديات: فقد نفوا في هذه الوثيقة فرية من أكبر المفتريات التي يشيعها الخصوم عنهم من أنهم يلزمون الناس في الأمور الخلافية، وأنهم يضيقون بالاجتهاد، وأنهم لا يقرون للمذاهب الأخرى المعتبرة لدى أهل السنة، وأنَّهم يتعصبون لمذهبهم ورأيهم. قال: «ولا نفتش على أحد في مذهبه، ولا نعترض عليه، إلا إذا اطلعنا على نص جلي، مخالفًا لمذهب أحد الأئمة، وكانت المسألة مما يحصل بها شعار ظاهر، كإمام الصلاة، فنأمر الحنفي والمالكي مثلًا، بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال، والجلوس بين السجدتين، لوضوح دليل ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة، فلا نأمره بالإسرار، وشتان ما بين المسألتين؛ فإذا قوي الدليل: أرشدناهم بالنص، وإن خالف المذهب، وذلك يكون نادرًا جدًا؛ ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض، فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد، وقد سبق جمع من أئمة المذاهب الأربعة، إلى اختيارات لهم في بعض المسائل، مخالفين للمذهب، الملتزمين تقليد صاحبه» (¬2) . يلتزمون منهج السلف وكتبهم في التلقي والاستدلال: وكذلك ينفون ما أشاعه الخصوم عنهم أنهم يفسرون القرآن والحديث بهواهم وأنهم لا يعتبرون تفسير العلماء والسلف، وأنهم لا يعنون بالعلوم الأخرى. قال: «ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله، بالتفاسير المتداولة المعتبرة، ومن أجلها لدينا: تفسير ابن جرير، ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذا البغوي، والبيضاوي، والخازن، والحداد، والجلالين، وغيرهم. وعلى فهم الحديث، بشروح الأئمة المبرزين، كالعسقلاني والقسطلاني على البخاري، والنووي على مسلم، والمناوي على الجامع الصغير. ¬

(¬1) المصدر السابق (1) . (¬2) المصدر السابق (1) .

ونحرص على كتب الحديث، خصوصًا: الأمهات الست وشروحها، ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون أصولًا وفروعًا وقواعد وسيرًا ونحوًا وصرفًا وجميع علوم الأمة» (¬1) . يحترمون كتب العلم إلا ما أوقع الناس في خلل الشرك: وما أشيع عنهم من أنهم يحرقون كتب العلماء من غيرهم مطلقًا فهو من البهتان إلا ما كان في الكتب المفسدة للعقيدة والدين، ككتب الشركيات والسحر وكتب المنطق الفلسفية، أما المنطق العلمي الصحيح فمنهم من قد يدرسه بعضهم. قال: «ولا نأمر بإتلاف شيء من المؤلفات أصلًا إلا ما اشتمل على ما يوقع الناس في الشرك، كروض الرياحين، أو يحصل بسببه خلل في العقائد كعلم المنطق، فإنه قد حرمه جمع من العلماء، على أنا لا نفحص عن مثل ذلك كالدلائل، إلا إن تظاهر به صاحبه معاندًا أتلف عليه» (¬2) . يتبرءون مما يفعله بعض الجهلة: ومع ذلك فإنه قد تحدث بعض التصرفات الطائشة كإحراق الكتب من بعض جهلة المنتسبين إليهم من العوام والأعراب والغوغاء، الذين لا يسلم من الابتلاء بهم أحد، ومع ذلك لما حدث من بعض المنتسبين للدعوة من الأعراب ونحوهم شيءٌ من ذلك أدّبوه وزجروه. قال: «ومما اتفق لبعض البدو في إتلاف بعض كتب أهل الطائف، إنما صدر منه لجهله وقد زُجر هو وغيره عن مثل ذلك» (¬3) . لا يرون سبي العرب ولا قتل النساء والأطفال في الحرب: وما افتراه عليهم خصومهم من أنهم يسبون العرب ويقتلون النساء والأطفال والشيوخ في الحرب إنما هو من البهتان. ¬

(¬1) المصدر السابق (1) . (¬2) المصدر السابق (1) . (¬3) المصدر السابق (1) .

قال: «ومما نحن عليه: أنا لا نرى سبي العرب ولم نفعله ولم نقاتل غيرهم، ولا نرى قتل النساء والصبيان» (¬1) . تفنيدهم لشبهات الخصوم: وحينما شاعت عن إمامهم وعنهم وعن دعوتهم الشبهات الكثيرة، والمفتريات والبهتان بغير حق ولا برهان، دافعوا عن الحق الذي يحملون وكشفوا الحقائق، وردوا المفتريات بقولهم وسيرتهم ومؤلفاتهم وحواراتهم، وبكل ما يملكون من وسائل قليلة ومحدودة، إزاء ما يملكه خصومهم من إمكانات كبرى، ووسائل عظيمة لكنها كانت كالزبد يذهب جفاء. قال: «وأما ما يكذب علينا: سترًا للحق وتلبيسًا على الخلق بأنا نفسر القرآن برأينا، ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا من دون مراجعة شرح، ولا معول على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بقولنا النبي رمة في قبره، وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله، حتى أنزل عليه {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] مع كون الآية مدنية. وأنا لا نعتمد على أقوال العلماء، ونتلف مؤلفات أهل المذاهب؛ لكونها فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة، وأنا نكفر الناس على الإطلاق، أهل زماننا ومن بعد الستمائة، إلا من هو على ما نحن عليه، ومن فروع ذلك: أنا لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرير عليه بأنه كان مشركًا وأن أبويه ماتا على الإشراك بالله. وأنا ننهى عن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقًا، وأن من دان بما نحن عليه، سقط عنه جميع التبعات حتى الديون. وأنا لا نرى حقًا لأهل البيت - رضوان الله عليهم - وأنا نجبرهم على تزويج غير الكفء لهم. وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة لتنكح شابًا إذا ترافعوا إلينا. ¬

(¬1) المصدر السابق (1) .

فلا وجه لذلك، فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استَفْهَمَنا عنها من ذُكِر أولًا، كان جوابنا في كل مسألة من ذلك، سبحانك هذا بهتان عظيم، فمن روى عنا شيئًا من ذلك أو نسبه إلينا، فقد كذب علينا وافترى» (¬1) . وكانت أكبر وسيلة، وبرهان يدفع عنهم المفتريات ويبين سلامة النهج الذي كانوا عليه: دعوة الناس إلى ما يشهد به الواقع وحال الدعوة وأهلها: قال: «ومن شاهد حالنا وحضر مجالسنا وتحقق ما عندنا علم قطعًا: أن جميع ذلك وضعه وافتراه علينا أعداء الدين وإخوان الشياطين، تنفيرًا للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة، وترك أنواع الشرك الذي نص الله عليه بأن الله لا يغفره. {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء: 48] [سورة النساء، آية: 48.] ، فإنا نعتقد: أن من فعل أنواعًا من الكبائر، كقتل المسلم بغير حق، والزنا والربا وشرب الخمر وتكرر منه ذلك، أنه لا يخرج بفعله ذلك عن دائرة الإسلام ولا يخلد به في دار الانتقام، إذا مات موحدًا بجميع أنواع العبادة» (¬2) . ¬

(¬1) المصدر السابق (1، 230) . (¬2) المصدر السابق (1، 230) .

تعظيمهم لقدر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحقوقه - صلى الله عليه وسلم -: وكانت من أشنع الأكاذيب والبهتان الذي يشاع عن هذه الدعوة المباركة وأئمتها وأتباعها دعوى: أنهم لا يحترمون النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يقدرونه حق قدره، وأنهم ينقصونه، لكن الله حسبنا ونعم الوكيل. قال: «والذي نعتقده أن رتبة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق، وأنه حي في قبره حياة برزخية، أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام المسلِّم عليه، وتسن زيارته، إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه، وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس، ومن أنفق نفيس أوقاته بالاشتغال بالصلاة عليه - عليه الصلاة والسلام - الواردة عنه، فقد فاز بسعادة الدارين، وكفى همه وغمه كما جاء في الحديث عنه» (¬1) . والحق أنهم إن لم يكونوا هم وأمثالهم أحباء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأولياؤه حقًا لاتباعهم سنته، وبذلهم الأرواح والأموال، والمهج في سبيل محبته واتباع هديه وطاعته ونصرة دينه، وتطهيره من البدع والشركيات. إن لم يكن هؤلاء أحباءه فمن؟ إن أهل البدع والأهواء والافتراق الذي جانبوا سنته هم الذين لا يحبونه حقًا، ولم يقدروه حق قدره وإن زعموا ذلك، فالحب ليس بمجرد الدعوى، لكن بالاتباع والعمل بسنته. حقيقة مذهبهم في الأولياء وكراماتهم وحقوقهم: وكذلك كذب عليهم خصومهم، وأشاعوا (كذبًا وبهتانًا) بأنهم لا يحبون الأولياء والصالحين، وحقيقة الأمر أنهم أولى بالأولياء والصالحين ممن آذوا الأحياء والأموات، بالبدع والخرافات والمكاء والتصدية، والسماعات المحدثة، والتبركات المبتدعة. قال: «ولا ننكر كرامات الأولياء ونعترف لهم بالحق، وأنهم على هدى من ربهم، مهما ساروا على الطريقة الشرعية والقوانين المرعية، إلا أنهم لا يستحقون شيئًا من أنواع العبادات، لا حال الحياة ولا بعد الممات، بل يطلب من أحدهم الدعاء في حال حياته، بل ومن كل مسلم، فقد ¬

(¬1) المصدر السابق (1، 231) .

جاء في الحديث: «دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه» (¬1) الحديث، وأمر - صلى الله عليه وسلم - عمر (¬2) وعليًا (¬3) بسؤال الاستغفار من " أويس " ففعلا (¬4) . وعقيدتهم في شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي الحق بمقتضى النصوص: وما أشاعه عنهم خصومهم من أنهم ينكرون شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرها من الشفاعات الثابتة بالنصوص الصحيحة كل ذلك من البهتان: قال: «ونثبت الشفاعة لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة حسب ما ورد، وكذلك نثبتها لسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسب ما ورد أيضًا، ونسألها من المالك لها، والآذان فيها لمن يشاء من الموحدين، الذين هم أسعد الناس بها، كما ورد بأن يقول أحدنا - متضرعًا إلى الله تعالى -: اللهم شفع نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فينا يوم القيامة، أو: اللهم شفع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك أو نحو ذلك، مما يطلب من الله لا منهم، فلا يقال: يا رسول الله أو يا ولي الله أسألك الشفاعة أو غيرها، كأدركني أو أغثني أو اشفني أو انصرني على عدوي ونحو ذلك، مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فإذا طلب ذلك مما ذكر في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك، إذ لم يرد بذلك نص من كتاب أو سنة، ولا أثر من السلف الصالح في ذلك، بل ورد الكتاب والسنة وإجماع السلف: أن ذلك شرك أكبر، قاتل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬5) . ¬

(¬1) رواه مسلم (3732) ، وعند أبي الدرداء بلفظ «ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب قال الملك ولك بمثل ذلك» ، وقال العجلوني: ورواه أبو بكر في الخلافيات عن أم كريب بلفظ: «دعوة الرجل لأخيه بظهر الغيب مستجابة وملك عند رأسه يقول آمين ولك بمثل ذلك. .» ، رواه البزار عن عمران بن حصين كشف الخفاء (1، 488) . (¬2) رواه مسلم (2492) من حديث أسير بن جابر. (¬3) رواه الحاكم (3) من حديث علي - رضي الله عنه - وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (812) ، وهذا سند ضعيف من أجل شريك ويزيد بن أبي زياد فإنهما ضعيفان من قبل حفظهما فحديثه حسن في الشواهد. (¬4) المصدر السابق (1، 231) . (¬5) المصدر السابق (1، 232) .

بيان الحق في مسألة الحلف بغير الله: قال: «فإن قلت: ما تقول في الحلف بغير الله والتوسل به؟ قلت: ننظر إلى حال المقسم إن قصد به التعظيم، كتعظيم الله أو أشد كما يقع لبعض غلاة المشركين من أهل زماننا، إذا استحلف بشيخه أي: معبوده الذي يعتمد في جميع أموره عليه، لا يرضى أن يحلف إذا كان كاذبًا أو شاكًا، وإذا استحلف بالله فقط رضي، فهو كافر من أقبح المشركين وأجهلهم إجماعًا، وإن لم يقصد التعظيم بل سبق لسانه إليه، فهذا ليس بشرك أكبر، فينهى عنه ويزجر ويؤمر صاحبه بالاستغفار عن تلك الهفوة» (¬1) . بيان الحق في مسألة التوسل ورفع الصوت بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الأذان: قال: «أما التوسل وهو أن يقول القائل: اللهم إني أتوسل إليك بجاه نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو بحق نبيك، أو بجاه عبادك الصالحين، أو بحق عبدك فلان، فهذا من أقسام البدع المذمومة، ولم يرد بذلك نص، كرفع الصوت بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الأذان» (¬2) . رعايتهم لحقوق آل البيت من غير غلو ولا تفريط: قال: «وأما أهل البيت فقد ورد سؤال على علماء الدرعية في مثل ذلك، وعن جواز نكاح الفاطمية غير الفاطمي، وكان الجواب عليه ما نصه: أهل البيت - رضوان الله عليهم - لا شك في طلب حبهم ومودتهم، ولما ورد فيه من كتاب وسنة، فيجب حبهم ومودتهم، إلا أن الإسلام ساوى بين الخلق، فلا فضل لأحد إلا بالتقوى، ولهم مع ذلك التوقير والتكريم والإجلال، ولسائر العلماء مثل ذلك، كالجلوس في صدور المجالس، والبداءة بهم في التكريم، والتقديم في الطريق إلى موضع التكريم ونحو ذلك، إذا تقارب أحدهم مع غيره في السن والعلم. وما اعتيد في بعض البلاد من تقديم صغيرهم وجاهلهم على من هو أمثل منه، ¬

(¬1) المصدر السابق (1) . (¬2) المصدر السابق (1) .

حتى إنه إذا لم يقبل يده كلما صافحه عاتبه وصارمه أو ضاربه أو خاصمه، فهذا لم يرد به نص ولا دل عليه دليل، بل منكر تجب إزالته، ولو قبل يد أحدهم لقدوم من سفر أو لمشيخة علم أو في بعض الأوقات لطول غيبه فلا بأس، إلا أنه لما أُلف في الجاهلية الأخرى: أن التقبيل صار علمًا لمن يعتقد فيه أو في أسلافه أو عادة المتكبرين من غيرهم، نهينا عنه مطلقًا، لا سيما لمن ذكر حسمًا لذرائع الشرك ما أمكن» (¬1) . هدم القباب على القبور حسمًا لمادة الشرك: ومما أثاره عليهم خصومهم - أهل البدع - وأجلبوا عليهم بخيلهم ورجلهم، وأوغروا صدور عوام المسلمين الجاهلين بحقيقة الأمر مسألة هدمهم للقباب والمزارات والمشاهد البدعية. وهذا من التلبيس وقلب الحقائق، فإن ذلك مما يمدحون به ويشكر لهم لأنهم إنما فعلوا ذلك امتثالًا لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد صح عنه الأمر بذلك والنهي عن البناء على القبور. قال: «وإنما هدمنا بيت السيدة خديجة، وقبة المولد، وبعض الزوايا المنسوبة لبعض الأولياء، حسمًا لتلك المادة، وتنفيرًا عن الإشراك بالله ما أمكن لعظم شأنه فإنه لا يغفر، وهو أقبح من نسبة الولد لله تعالى، إذ الولد كمال في حق المخلوق، وأما الشرك فنقص حتى في حق المخلوق، لقوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي} [الروم: 28] [سورة الروم، آية: 28] » (¬2) . بيان حكم تزويج الفاطمية لغير الفاطمي: قال: «وأما نكاح الفاطمية غير الفاطمي: فجائز إجماعًا، بل ولا كراهية في ذلك، وقد زَوَّج علي عمر بن الخطاب، وكفى بهما قدوة، وتزوجت سكينة بنت الحسين بن علي، بأربعة ليس فيهم فاطمي، بل ولا هاشمي، ولم يزل عمل السلف على ذلك من دون إنكار، إلا أنا لا نجبر أحدًا على تزويج موليته ما لم تطلب هي، وتمتنع من غير الكفء، والعرب: أكفاء بعضهم لبعض، فما اعتيد في بعض البلاد من المنع دليل التكبر، وطلب التعظيم، وقد يحصل ¬

(¬1) المصدر السابق، (1، 233) . (¬2) المصدر السابق، (1، 233) .

بسبب ذلك فساد كبير كما ورد، بل يجوز الإنكاح لغير الكفء، وقد تزوج زيد - وهو من الموالي - زينب أم المؤمنين وهي قرشية، والمسألة معروفة عند أهل المذاهب، انتهى» (¬1) . تورعهم عن التكفير وبيان أن لازم الكفر عندهم ليس بلازم: وكانت من القضايا الكبرى بينهم وبين خصومهم دعوى: أنهم يكفرون المسلمين وقد تبرءوا من ذلك، وكتاباتهم وفتواهم ومواقفهم تكذب هذه الفرية، وهم في مسألة التكفير متبعون لنصوص القرآن والسنة، فلا يكفرون إلا بدليل شرعي وبينات، فهم يكفرون من كفَّره الله ورسوله، ولا يكفرون عموم المسلمين كما زعم خصومهم، بل يتورعون عن تكفير المسلمين ويحذرون من مذهب الخوارج في ذلك: قال: «فإن قال قائل منفر عن قبول الحق والإذعان له: يلزم من تقريركم وقطعكم في أن من قال يا رسول الله أسألك الشفاعة: أنه مشرك مهدر الدم، أن يقال بكفر غالب الأمة ولا سيما المتأخرين، لتصريح علمائهم المعتبرين: أن ذلك مندوب، وشنوا الغارة على من خالف في ذلك! قلت: لا يلزم؛ لأن لازم المذهب ليس بمذهب كما هو مقرر، ومثل ذلك: لا يلزم أن نكون مجسمة، وإن قلنا بجهة العلو كما ورد الحديث بذلك» (¬2) . لا يحكمون على أموات المسلمين إلا بخير: قال: «ونحن نقول فيمن مات: تلك أمة قد خلت» (¬3) . ولا يكفرون إلا بالشروط وانتفاء الموانع: قال: «ولا نكفر إلا من بلغته دعوتنا للحق، ووضحت له المحجة، وقامت عليه الحجة، وأصر مستكبرًا معاندًا كغالب من نقاتلهم اليوم، يصرون على ذلك الإشراك، ويمتنعون من فعل الواجبات، ويتظاهرون بأفعال الكبائر والمحرمات» (¬4) . ¬

(¬1) المصدر السابق، (1، 234) . (¬2) السابق (1، 235) . (¬3) السابق (1، 235) . (¬4) السابق (1، 235) .

لا يلزم من القتال التكفير: قال: «وغير الغالب: إنما نقاتله لمناصرته من هذه حاله ورضاه به، ولتكثير سواد من ذكر والتأليب معه، فله حينئذ حكمه في قتاله» (¬1) . الاعتذار عمن مضى من المسلمين ولم تقم عليه الحجة: قال: «ونعتذر عمن مضى: بأنهم مخطئون معذورون لعدم عصمتهم من الخطأ، والإجماع في ذلك ممنوع قطعًا» (¬2) . الخطأ وارد على سائر أفراد الأئمة: قال: «ومن شن الغارة فقد غلط (¬3) ولا بدع أن يغلط، فقد غلط من هو خير منه، كمثل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلما نبهته المرأة رجع في مسألة المهر وفي غير ذلك، يعرف ذلك في سيرته. بل غلط الصحابة وهم جمع ونبينا - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم سار فيهم نوره، فقالوا اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط» (¬4) . والمجتهد المخطئ معذور ما لم تقم عليه الحجة: قال: «فإن قلت: هذا فيمن ذهل، فلما نبه انتبه، فما القول فيمن حرر الأدلة؟ واطلع على كلام الأئمة القدوة؟ واستمر مصرًا على ذلك حتى مات؟ قلت: ولا مانع أن نعتذر لمن ذكر ولا نقول: إنه كافر، ولا لما تقدم أنه مخطئ (¬5) وإن استمر على خطئه، لعدم من يناضل عن هذه المسألة في وقته، بلسانه وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة، ولا وضحت له المحجة، بل الغالب على زمن المؤلفين المذكورين: التواطؤ على هجر كلام أئمة السنة في ذلك رأسًا، ومن اطلع عليه أعرض عنه، قبل أن يتمكن في قلبه، ولم يزل أكابرهم تنهى أصاغرهم عن مطلق ¬

(¬1) السابق (1) . (¬2) السابق (1) . (¬3) أي في الإنكار والتغليظ على المخالف. (¬4) الدرر السنية (1) . (¬5) كذا في الأصل.

النظر في ذلك، وصولة الملوك قاهرة لمن وقر في قلبه شيء من ذلك إلا من شاء الله منهم. هذا: وقد رأى معاوية وأصحابه - رضي الله عنه - منابذة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وقتاله ومناجزته الحرب وهم في ذلك مخطئون بالإجماع، واستمروا في ذلك الخطأ، ولم يشتهر عن أحد من السلف تكفير أحد منهم إجماعًا، بل ولا تفسيقه، بل أثبتوا لهم أجر الاجتهاد وإن كانوا مخطئين، كما أن ذلك مشهور عند أهل السنة» (¬1) . بيان الحق في زلة العالم وحفظ مكانته: قال: «ونحن كذلك: لا نقول بكفر من صحت ديانته، وشهر صلاحه وعلم ورعه وزهده، وحسنت سيرته وبلغ من نصحه الأمة ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة والتأليف فيها، وإن كان مخطئًا في هذه المسألة أو غيرها، كابن حجر الهيتمي فإنا نعرف كلامه في الدر المنظم ولا ننكر سعة علمه، ولهذا نعتني بكتبه كشرح الأربعين والزواجر وغيرها، ونعتمد على نقله إذا نقل؛ لأنه من جملة علماء المسلمين» (¬2) . دعوة المنصفين إلى حقيقة الأمر الذي هم عليه: قال: «هذا ما نحن عليه مخاطبين من له عقل وعلم، وهو متصف بالإنصاف خال عن الميل إلى التعصب والاعتساف ينظر إلى ما يقال لا إلى من قال» (¬3) . ومن أصر على الباطل يؤخذ بالحزم: قال: «وأما من شأنه لزوم مألوفه وعاداته سواء كان حقًا أو غير حق، فقلد من قال الله فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] [سورة الزخرف، آية: 23] ، عادته وجبلته أن يعرف الحق بالرجال لا الرجال بالحق، فلا نخاطبه وأمثاله إلا بالسيف حتى يستقيم أوده ويصح معوجه، وجنود التوحيد - بحمد الله - منصورة، وراياتهم بالسعد والإقبال منشورة: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] [سورة الشعراء، آية: 227] ، ¬

(¬1) السابق (1، 236) . (¬2) السابق (1، 237) . (¬3) السابق (1، 237) .

و {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56] [سورة المائدة، آية: 56] ، وقال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173] [سورة الصافات، آية: 173] ، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] [سورة الروم، آية: 47] ، {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] [سورة الأعراف، آية: 128] . بيان حقيقة البدعة شرعًا: قال: «هذا ومما نحن عليه: أن البدعة هي: ما حدثت بعد القرون الثلاثة مذمومًا مطلقًا، خلافًا لمن قال حسنة وقبيحة، ولمن قسمها خمسة أقسام، إلا إن أمكن الجمع، بأن يقال: الحسنة ما عليه السلف الصالح شاملة: للواجبة والمندوبة والمباحة، ويكون تسميتها بدعة مجازًا، والقبيحة ما عدا ذلك شاملة: للمحرمة والمكروهة، فلا بأس بهذا الجمع» (¬1) . نماذج من البدع المذمومة: وكذلك نفوا ما يزعمه الخصوم عنهم من أنهم يُبدِّعون من صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويمنعون من الأذكار المشروعة وبيّنوا أن ذلك من الكذب عليهم، وأنهم إنما منعوا البدع ونهوا عنها. قال: «فمن البدع المذمومة التي ننهى عنها: رفع الصوت في مواضع الأذان بغير الأذان، سواء كان آيات أو صلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ذكرًا أو غير ذلك بعد الأذان، أو في ليلة الجمعة أو رمضان أو العيدين، فكل ذلك بدعة مذمومة» (¬2) . إبطال البدع المألوفة بمكة: قال: «وقد أبطلنا ما كان مألوفًا بمكة، من التذكير والترحيم ونحوه، واعترف علماء المذاهب أنه بدعة. ومنها: قراءة الحديث عن أبي هريرة بين يدي خطبة الجمعة، فقد صرح شارح الجامع الصغير بأنه بدعة، ومنها الاجتماع في وقت مخصوص على من يقرأ سيرة المولد الشريف، اعتقادًا أنه قربة مخصوصة مطلوبة دون علم السير، فإن ذلك لم يرد. ومنها: اتخاذ المسابح، فإنا ننهى عن التظاهر باتخاذها. ¬

(¬1) السابق (1) . (¬2) السابق (1) .

ومنها: الاجتماع على رواتب المشائخ برفع الصوت، وقراءة الفواتح والتوسل بهم في المهمات، كراتب السمان وراتب الحداد ونحوهما، بل قد يشتمل ما ذكر على شرك أكبر، فيقاتلون على ذلك، فإن سلموا من أرشدوا إلى أنه على هذه الصورة المألوفة غير سنة بل بدعة فذاك، فإن أبوا عزرهم الحاكم بما يراه رادعًا» (¬1) . الأوراد المشروعة لا تنكر: قال: «وأما أحزاب العلماء، المنتخبة من الكتاب والسنة، فلا مانع من قراءتها، والمواظبة عليها فإن الأذكار، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والاستغفار، وتلاوة القرآن ونحو ذلك مطلوب شرعًا؛ والمعتني به مثاب مأجور، فكلما أكثر منه العبد كان أوفر ثوابًا، لكن على الوجه المشروع، من دون تنطع ولا تغيير ولا تحريف، وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] [سورة الأعراف، آية: 55] ، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] [سورة الأعراف، آية: 180] ولله در النووي في جمعه كتاب الأذكار؛ فعلى الحريص على ذلك به، ففيه الكفاية للموفق. عودة إلى أنواع البدع المذمومة: ومنها: ما اعتيد في بعض البلاد، من قراءة مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصائد بألحان، وتخلط بالصلاة عليه، وبالأذكار والقراءة، ويكون بعد صلاة التراويح، ويعتقدونه على هذه الهيئة من القرب، بل تتوهم العامة أن ذلك من السنن المأثورة، فينهى عن ذلك، وأما صلاة التراويح فسنة، لا بأس بالجماعة فيها والمواظبة عليها. ومنها: ما اعتيد في بعض البلاد من صلاة الخمسة الفروض بعد آخر جمعة من رمضان، وهذه من البدع المنكرة إجماعًا فيزجرون عن ذلك أشد الزجر، ومنها رفع الصوت بالذكر عند حمل الميت أو عند رش القبر بالماء وغير ذلك مما لم يرد عن السلف، وقد ألف الشيخ الطرطوشي المغربي كتابًا نفيسًا سماه [الحوادث والبدع] واختصره أبو شامة المقدسي فعلى المعتني بدينه بتحصيله» (¬2) . ¬

(¬1) السابق، (1، 238) . (¬2) السابق (1، 239) .

التفريق بين ما هو بدعي وما ليس ببدعي من المحدثات: قال: «وإنما ننهى عن البدع المتخذة دينًا وقربة؛ وأما ما لا يتخذ دينًا وقربة كالقهوة وإنشاء قصائد الغزل ومدح الملوك فلا ننهى عنه، ما لم يخلط بغيره إما ذكر أو اعتكاف في مسجد ويعتقد أنه قربة؛ لأن حسان رَدَّ على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقال: قد أنشدته بين يدي من هو خير منك، فقبل عمر» (¬1) . مشروعية اللعب المباح: قال: «ويحل كل لعب مباح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر الحبشة على اللعب في يوم العيد في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ويحل الرجز والحداء في نحو العمارة، والتدريب على الحرب بأنواعه، وما يورث الحماسة فيه كطبل الحرب دون آلات الملاهي، فإنها محرمة والفرق ظاهر، ولا بأس بدف العرس وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «بعثت بالحنيفية السمحة» (¬2) وقال: «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة» (¬3) » (¬4) . إمامة ابن تيمية وابن القيم في الدين: قال: «هذا وعندنا أن الإمام ابن القيم وشيخه، إماما حق من أهل السنة وكتبهم عندنا من أعز الكتب، إلا أنا غير مقلدين لهم في كل مسألة، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومعلوم مخالفتنا لهما في عدة مسائل، منها طلاق الثلاث بلفظ واحد في مجلس، فإنا نقول به تبعًا للأئمة الأربعة، ونرى الوقف صحيحًا والنذر جائزًا، ويجب الوفاء به في غير المعصية» (¬5) . ¬

(¬1) السابق (1، 239) . (¬2) رواه البخاري في الأدب المفرد رقم (387) بلفظ أي الأديان أحب إلى الله عز وجل؟ قال: «الحنيفية السمحة» ، وأحمد (5) ، (6، 233) ، والطبراني في الكبير (11) وغيرهم، راجع كشف الخفا للعجلاني (1) ، والسلسلة الصحيحة للألباني رقم (881) . (¬3) رواه أحمد (6، 233) . (¬4) الدرر السنية (1، 240) . (¬5) السابق (1) .

عودة إلى أنواع البدع والتحذير منها: قال: «ومن البدع المنهي عنها: قراءة الفواتح للمشائخ بعد الصلوات الخمس، والإطراء في مدحهم والتوسل بهم على الوجه المعتاد في كثير من البلاد، وبعد مجامع العبادات، معتقدين أن ذلك من أكمل القرب، وهو ربما جر إلى الشرك من حيث لا يشعر الإنسان، فإن الإنسان يحصل منه الشرك من دون شعور به لخفائه، ولولا ذلك لما استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - منه بقوله: «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم، إنك أنت علام الغيوب» (¬1) . وينبغي المحافظة على هذه الكلمات، والتحرز عن الشرك ما أمكن؛ فإن عمر بن الخطاب قال: إنما ينقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا دخل في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، أو كما قال. وذلك لأنه يفعل الشرك، ويعتقد أنه قربة، نعوذ بالله من الخذلان، وزوال الإيمان» (¬2) . ثم قال الشيخ عبد الله بعد هذا البيان: «هذا ما حضرني حال المراجعة مع المذكور (¬3) مدة تردده، وهو يطالبني كل حين بنقل ذلك وتحريره، فلما ألح علي نقلت له هذا من دون مراجعة كتاب، وأنا في غاية الاشتغال بما هو أهم من أمور الغزو» (¬4) . دعوة الناس إلى التحقق من حال الدعوة ومنهجها: ثم إنهم قد أنصفوا من أنفسهم وأقاموا الحجة بالدعوة إلى التثبت مما يشاع عنهم والاطلاع على حقيقة حالهم. ¬

(¬1) رواه ابن حبان في المجروحين (3) ، وأعلّه "بيحيى بن كثير"، ورواه أبو يعلى (58) بسند فيه ليث بن أبي سليم، وقد ضعّف. راجع مجمع الزوائد (10) . وله شاهد عند أحمد (4) ، والطبراني في الأوسط (4940) . وله شاهد أيضًا عن عائشة وابن عباس كما في حلية الأولياء (3) (8) . (¬2) الدرر السنية (1، 241) . (¬3) يقصد حسين بن محمد الحضرمي الحياني. (¬4) السابق (1) .

قال: «فمن أراد تحقيق ما نحن عليه، فليقدم علينا الدرعية، فسيرى ما يسر خاطره، ويقر ناظره، من الدروس في فنون العلم، خصوصًا التفسير والحديث؛ ويرى ما يبهره بحمد الله وعونه، من إقامة شعائر الدين، والرفق بالضعفاء والوفود والمساكين» (¬1) . بيان حقيقة التعبد المشروع والتصوف المأمون: وهم حين ينكرون التصوف البدعي، والطرق المحدثة فإنهم يقرون بالتنسك والتعبد المشروع على منهاج السنة والسلف الصالح، وإن سمي ذلك تصوفًا أو طريقة صوفية إذا كان على الاستقامة والسنة وسلم من البدع والمحدثات. قال: «ولا ننكر الطريقة الصوفية، وتنزيه الباطن من رذائل المعاصي، المتعلقة بالقلب والجوارح، مهما استقام صاحبها على القانون الشرعي، والمنهج القويم المرعي، إلا أنا لا نتكلف له تأويلات في كلامه ولا في أفعاله» (¬2) . لا يفوضون أمورهم كلها إلا إلى الله تعالى: قال: «ولا نعول، ونستعين، ونستنصر، ونتوكل في جميع أمورنا إلا على الله تعالى، فهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على محمد وآله وصحبة وسلم» (¬3) . وبعد: فإن هذه الوثيقة قد كشفت للناس منهج الدعوة وحقيقة ما هي عليه وأتباعها ودولتها بوضوح وصراحة، وكشفت بالدليل والبرهان الكثير من الزيوف والبهتان الذي يقال عنها. فهل بعد هذا من بيان لمن ألقى السمع وهو شهيد؟ ¬

(¬1) السابق (1) . (¬2) السابق (1) . (¬3) السابق (1) .

المبحث الرابع منهجهم في التلقي مصادر الدين ومنهج الاستدلال هو منهج أهل السنة

[المبحث الرابع منهجهم في التلقي مصادر الدين ومنهج الاستدلال هو منهج أهل السنة] [توقيرهم للعلماء واحترامهم لهم] المبحث الرابع أ - منهجهم في التلقي (مصادر الدين ومنهج الاستدلال) هو منهج أهل السنة يتميز المنهج الذي عليه الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه وعامة أهل السنة والجماعة قديمًا وحديثًا في مصادر الدين ومنهج التلقي والاستدلال بالأصالة والسلامة والثبات واليقين. فقد التزموا المنهج الشرعي السليم الذي عليه علماء الأمة من أهل الحديث والفقه والأصول، من سلامة مصادر التلقي ومراعاة قواعد الاستدلال، فهم يعتمدون في تلقي الدين وتقريره والعمل به على الدليل من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة (الوحي) . وإجماع السلف معتبر عندهم؛ لأن الإجماع لا يكون إلا على ما له دليل من الكتاب والسنة، كما يعتمدون أقوال علماء الأمة المعتبرين من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وأتباعهم وغيرهم ... ويعتمدون في الاستدلال على المنهج الشرعي السليم، منهج السلف الصالح، على ما يأتي بيانه في قواعد الاستدلال عندهم. وهم يستخدمون ما أنعم الله به على عباده من الفطرة النقية والعقل السليم في فهم كلام الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنباط الدلالات والأحكام منهما، والاجتهاد والفقه في دين الله تعالى. ويستخدمون العقل في التفكر في خلق الله وآلائه ونعمه، والتوصل بذلك إلى عبادة الله تعالى وذكره وشكره بما شرع. كما يستخدمون العقل وسائر المواهب التي منحها الله للإنسان في الاجتهاديات والعلوم الطبيعية في عمارة الأرض والاستخلاف فيها وبذل الأسباب؛ أسباب الرزق والقوة والعزة والتمكين، وأسباب النجاح والفلاح وسعادة البشرية في الدنيا والآخرة على ما شرعه الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكنهم يتجنبون مسالك أهل الأهواء من الفلاسفة والعقلانيين والمتكلمين، ومن سلك سبيلهم من تقديس العقل القاصر المحدود الفاني، المعرض لعوارض النقص وتقديمه على الوحي المعصوم الكامل (كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) .

فالعقل مهما بلغ من الإدراك والتحصيل فإنه تبع للشرع، لا يمكن أن يقدم على الوحي المعصوم ولا أن يحكم فيه. وهذا المنهج القويم - أعني منهج التلقي والاستدلال على قواعد شرعية مأمونة - يعد من أكبر الفوارق بين أهل السنة وبين مخالفيهم أهل الأهواء والافتراق والابتداع. ومصادر التلقي تعدُّ أهم ركيزة يبني عليها دين المسلم في العقيدة والأحكام والسلوك ومنهج الحياة كلها؛ لأن التلقي إنما يعنى: تلقي الدين جملة وتفصيلًا وذلك لا يكون إلا عن الله تعالى وما أمر به من التلقي عن رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] [سورة الحشر، آية (7) .] . وإذا كان مبدأ التلقي عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم (القرآن والسنة) معلومًا بالضرورة عند كل مسلم، ويدعيه المحق والمبطل، والمتبع والمبتدع. فإن مجرد الدعوى لا تكفي، بل لا بد من تحقيق وبرهان، وعند التحقيق نجد أن السلف الصالح أهل السنة والجماعة، ومنهم إمام هذه الدعوة الإصلاحية المباركة، وأتباعها، هم الذين سلمت عندهم مصادر التلقي نقية صافية، وكذلك منهج الاستدلال بخلاف خصومهم أهل البدع والأهواء والافتراق الذين حادوا عن الحق، ولبسوا على الناس، وسلكوا طريق الغواية وسبل الضلالة، حينما أخذوا يستمدون دينهم أو بعض دينهم من المصادر الداخلية، ومن أوهام العقول، ودعاوي العصمة لمن هم دون الرسول صلى الله عليه وسلم، من الأئمة وغيرهم، من الصالحين والطالحين، والأولياء والأدعياء، وكذلك دعاوي الكشف والذوق ونحو ذلك، مما يفعله كثيرون من أهل الكلام والفلسفة والتصوف والرفض، ومن سلك سبيلهم. ولذا فإن دعوى الاتباع للكتاب والسنة عند هذه الفئات، دعوى كاذبة وملبسة فهم: (يلبسون الحق بالباطل) . فكان لزامًا على أهل الحق وأهل العلم أن يبينوا وجه الحق ويكشفوا عن وجه الباطل في هذه المسألة، وهذا ما فعله وقام به إمام الدعوة وعلماؤها وأتباعها، وسائر أهل السنة، ولأن المنهج الحق في التلقي والاستدلال بين واضح بحمد الله لا لبس فيه ولا غموض. فقد اجتهدت في هذا الفصل في بيان القواعد التي اعتمدها أهل السنة والجماعة، من علماء هذه الدعوة ومن سبقهم من علماء الأمة ومجتهديها على مقتضى الكتاب والسنة

ونهج السلف الصالح - في تلقي الدين والعمل به. والكشف عن مناهج المخالفين وسبلهم المعوجة الخارجة عن السنة في هذا الموضوع، التي هي سبل الشيطان ومسالك البدعة والضلالة - نسأل الله السلامة - ليحذر منها من وفقه الله وهداه، وتقوم بها الحجة على المكابر والمعاند. وإن من سمات هذه الدعوة وعلمائها وأتباعها - بحمد الله - الحرص على التفقه في دين الله، والتأصيل الشرعي والتزام السنة والجماعة - من مقل ومكثر - والرجوع إلى أهل العلم، والتزام أصول الدين، وإعلان شعائره في كل مكان. وهذه سمات تبشر بخير فالرجوع إلى مصادر الدين النقية الصافية، ومناهج السلف في العقيدة والتلقي والاستدلال والتعامل والأحكام - هو وحده - الطريق الذي فيه السلامة والضمانة في تحصيل ما وعد الله به المسلمين من النصر والرفعة والتمكين والاجتماع. فالعقيدة السليمة وهي التي تجمع المسلمين، والشريعة الإلهية وهي التي تحكمهم - لا يمكن استمدادها إلا من مصادرها النَّقيَّة الصافية (القرآن والسنة) وعلى نهج سليم وهو نهج السلف الصالح وهو: (سبيل المؤمنين) وهذا ما تميزت به هذه الدعوة الإصلاحية المباركة التي يسمونها (الوهابية) عن سائر الدعوات الإصلاحية الحديثة، وهذا من أسباب قوتها وتأثيرها وانتشارها. أما المصادر الدخيلة في الدين والمناهج المعوجة في الاستدلال التي عليها خصوم الدعوة وخصوم السنة (أهل الأهواء والبدع والافتراق) فلن يكون فيها إلا الفرقة والشتات والتنازع والذلة والهوان، كما هو مبين في النصوص الشرعية ويصدقه الواقع - وكما بينه إمام الدعوة وعلماؤها. وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ... » الحديث (¬1) . وقد أصَّل أهل السنة والجماعة - ومنهم إمام الدعوة وعلماؤها - هذا المنهج الشرعي القويم في التلقي ومنهج الاستدلال بقواعد علمية منهجية متينة، وموازين شرعية استمدوها من القرآن والسنة ونهج السلف الصالح. ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد برقم (17142) وقال المحقق «صحيح بطرقه وشواهده» (28) ، وابن أبي عاصم في السنة برقم (33) .

وهذا الأصل العظيم هو ما قرره الإمام محمد بن عبد الوهاب واتباعه بقوة ووضوح ودعا إليه كل المخالفين، واستعد للمباهلة عليه فقال: «وأنا أدعو من خالفني إما إلى كتاب الله، وإما إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإما إلى إجماع أهل العلم. فإن عاند دعوته إلى المباهلة كما دعا إليها ابن عباس في بعض مسائل الفرائض، وكما دعا إليها سفيان والأوزاعي في مسألة رفع اليدين وغيرهما من أهل العلم» (¬1) . وقال في رسالته لرئيس بادية الشام، فاضل آل مزيد: «وأنا أذكر لك أمرين قبل أن أذكر لك صفة الدين: الأمر الأول: أني أذكر لمن خالفني أن الواجب على الناس اتباع ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته، وأقول لهم: الكتب عندكم انظروا فيها ولا تأخذوا من كلامي شيئاً! لكن إذا عرفتم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في كتبكم فاتبعوه ولو خالفه أكثر الناس» (¬2) . ثم قال ناصحاً: «واعلم أنه لا ينجيك إلا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬3) . وقال بعد أن ذكر أدلة التوحيد من القرآن: «فهذا كلام الله، والذي ذكره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصانا به» (¬4) . ثم قال بعد أن بين اعتراض الخصوم على دعوته له للتوحيد: «هذا كلامهم وهذا كلامي أسنده عن الله ورسوله، وهذا هو الذي بيني وبينكم، فإن ذكر عني شيء غير هذا فهو كذب وبهتان» (¬5) . وقد جعلوا اتباع الدليل من دينهم وعقيدتهم، فقد سئل ابنا الإمام حسين، وعبد الله، عن عقيدة الشيخ في العمل وفي العبادة؟ فأجابا: «عقيدة الشيخ - رحمه الله تعالى - التي يدين الله بها، هي: عقيدتنا، وديننا الذي ندين الله به؛ وهو: عقيدة سلف الأمة وأئمتها، من الصحابة، والتابعين لهم ¬

(¬1) الدرر السنية (1/ 55) . (¬2) الرسائل الشخصية (32) . (¬3) الرسائل الشخصية (33) . (¬4) الرسائل الشخصية (33) . (¬5) الرسائل الشخصية (33) .

بإحسان؛ وهو: اتباع ما دل عليه الدليل من كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض أقوال العلماء على ذلك؛ فما وافق كتاب الله وسنة رسوله قبلناه وأفتينا به، وما خالف ذلك رددناه على قائله. وهذا: هو الأصل الذي أوصانا الله به في كتابه، حيث قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59] [سورة النساء، آي: 59] أجمع المفسرون على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، وأن الرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته، والأدلة على هذا الأصل كثيرة في الكتاب والسنة، ليس هذا موضع بسطها» (¬1) . ب - توقيرهم للعلماء واحترامهم لهم: من نهج السلف الصالح، أهل السنة والجماعة احترام علماء الأمة وأقوالهم من أهل السنة والاستقامة، وسؤالهم والرجوع إليهم كما أمر الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] [سورة النحل، آية: 43] وتوقيرهم، لكن ليس لأحد منهم عصمة فقد يزل العالم فلا يتبع على زلته، ولا ينقص من قدره. وهذا المنهج القويم هو الذي سلكه إمام الدعوة وأتباعه وكثيرًا ما يعوَّل عليه، وكانوا - كما هو مسطور في كتبهم وآثارهم - يعتمدون كتب العلماء من أهل الحديث والتفسير والفقه والأصول والعقيدة واللغة، ويعتدون بما أجمع عليها العلماء، ويحترمون الموافق والمخالف في الاجتهاديات. وقد أكد هذا الأصل الإمام وأتباعه، وذلك لمَّا لجَّت القضية بينه وبين خصومه من أهل البدع والأهواء والذين قد ينتسب بعضهم إلى مذاهب العلماء المتبوعة، فصار يحاكمهم (بعد الكتاب والسنة) إلى قول العلماء المعتبرين. إذ قال عن بعض خصومه: «وهكذا هؤلاء، لما ذكرت لهم، ما ذكره الله ورسوله، وما ¬

(¬1) الدرر السنية (1) .

ذكره أهل العلم، من جميع الطوائف، من الأمر بإخلاص الدين لله، والنهي عن مشابهة أهل الكتاب من قبلنا، في اتخاذ الأحبار، والرهبان، أربابًا من دون الله، قالوا لنا: تنقصتم الأنبياء، والصالحين، والأولياء؛ والله تعالى ناصر لدينه، ولو كره المشركون. وها أنا أذكر مستندي في ذلك، من كلام أهل العلم، من جميع الطوائف، فرحم الله من تدبرها بعين البصيرة، ثم نصر الله، ورسوله، وكتابه، ودينه؛ ولم تأخذه في ذلك لومة لائم» (¬1) . ثم ساق أقوال العلماء من أئمة المذاهب الأربعة الحنابلة، والحنفية، والشافعية، والمالكية (¬2) . وقال في محاجته لمخالفيه حينما دعا إلى توحيد الله تعالى والنهي عن الشرك، وأنكروا عليه فقال: «قلت لهم: أنا أخاصم الحنفي، بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، كل: أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم، الذين يعتمدون عليهم، فلما أبوا ذلك، نقلت كلام العلماء من كل مذهب لأهله، وذكرت كل ما قالوا، بعدما صرحت الدعوة عند القبور، والنذر لها، فعرفوا ذلك، وتحققوه، فلم يزدهم إلا نفورًا» (¬3) . قال: «ولا خلاف بيني وبينكم: أن أهل العلم إذا أجمعوا وجب اتباعهم؛ وإنما الشأن إذا اختلفوا، هل يجب عليّ أن أقبل الحق ممن جاء به، وأرد المسألة إلى الله والرسول، مقتديًا بأهل العلم؟ أو أنتحل بعضهم من غير حجة؟ وأزعم أن الصواب في قوله؟» (¬4) . وقال مبينًا موقفه من علماء الأمة، الأئمة الأربعة وغيرهم: «وأما ما ذكرتم: من حقيقة الاجتهاد، فنحن مقلدون الكتاب والسنة، وصالح ¬

(¬1) الدرر السنية (2 ) . (¬2) انظر: الدرر السنية (2 ) . (¬3) الدرر السنية (1، 82) . (¬4) الدرر السنية (1) .

سلف الأمة، وما عليه الاعتماد، من أقوال الأئمة الأربعة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن حنبل، رحمهم الله تعالى» (¬1) . ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: «ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله، بالتفاسير المتداولة المعتبرة، ومن أجلها لدينا: تفسير ابن جرير، ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذا البغوي، والبيضاوي، والخازن، والحداد، والجلالين، وغيرهم. وعلى فهم الحديث، بشروح الأئمة المبرزين: كالعسقلاني، والقسطلاني، على البخاري، والنووي على مسلم، والمناوي على الجامع الصغير. ونحرص على كتب الحديث، خصوصاً: الأمهات الست، وشروحها؛ ونعتني بسائر الكتب، في سائر الفنون، أصولاً، وفروعاً، وقواعد، وسيراً، ونحواً، وصرفاً، وجميع علوم الأمة» (¬2) . ¬

(¬1) الدرر السنية (1) . (¬2) الدرر السنية (1) .

المبحث الخامس منهجهم في العقيدة تفصيلا واقتفاؤهم لعقيدة السلف الصالح

[المبحث الخامس منهجهم في العقيدة تفصيلًا واقتفاؤهم لعقيدة السلف الصالح] [التزامهم منهج الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة] المبحث الخامس منهجهم في العقيدة تفصيلًا واقتفاؤهم عقيدة السلف الصالح التزامهم منهج الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة ومجانبة الفرق المفارقة: لقد التزم الإمام محمد بن عبد الوهاب وعلماء الدعوة وسائر أتباعها منهج الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة اعتقادًا وقولًا وعملا، وصرح الإمام بذلك فقال: «أشهد الله ومن حضرني من الملائكة، وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة» . ثم ذكر الاعتقاد مفصلًا وقال: «والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية، وهم في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية، وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج» (¬1) . وقال مخاطبًا كل المسلمين: «من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه من المسلمين: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: أخبركم أني - ولله الحمد - عقيدتي وديني الذين أدين الله به، مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم، إلى يوم القيامة» (¬2) . وقال في رسالته للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السويدي، ابن العالم العراقي المشهور، بنحو الكلام السابق: «وأخبرك أني - والله - متبع لست بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين الله به، مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم، إلى يوم القيامة» (¬3) . والناظر فيما ذكره الشيخ وأتباعه وقرروه وكتبوه من تفصيلات أصول العقيدة ومسائلها، يجد أن ذلك ليس مجرد دعوى، فقد التزموا مذهب السلف الصالح أهل السنة والجماعة في كل ذلك جملة وتفصيلا. ¬

(¬1) الدرر السنية (1) . (¬2) الدرر السنية (1. (¬3) الدرر السنية (1) .

قولهم في الإيمان

ويقول حفيد الإمام: إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، مبينًا أن منهج الشيخ ما كان عليه السلف الصالح: «قد عرف واشتهر، واستفاض من تقارير الشيخ، ومراسلاته، ومصنفاته، المسموعة المقروءة عليه، وما ثبت بخطه، وعرف واشتهر من أمره، ودعوته، وما عليه الفضلاء النبلاء من أصحابه وتلامذته، أنه على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الدين، أهل الفقه، والفتوى، في باب معرفة الله، وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحت بها الأخبار النبوية، وتلقاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم، يثبتونها، ويؤمنون بها، ويمرونها كما جاءت، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وقد درج على هذا من بعدهم من التابعين، من أهل العلم، والإيمان، من سلف الأمة؛ كسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، وكمجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، وأمثاله؛ كعلي بن الحسين، وعمر بن عبد العزيز، ومحمد بن مسلم الزهري، ومالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وكحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض، وابن المبارك، وأبي حنيفة النعمان بن ثابت، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والبخاري، ومسلم، ونظرائهم من أهل الفقه والأثر؛ لم يخالف هذا الشيخ ما قالوه، ولم يخرج عما دعوا إليه واعتقدوه» (¬1) . هذا من حيث الإجمال، ومن حيث التفصيل نجد التالي: [قولهم في الإيمان] قولهم في الإيمان. وقولهم في الإيمان وأركانه وحقيقته ومسائله قول السلف الصالح أهل السنة والجماعة جملة وتفصيلًا إذ يؤمنون بأركان الإيمان الستة كما جاءت في حديث جبريل، وكذلك يقولون بقول السلف في حقيقة الإيمان ومسائله فيعتقدون أن الإيمان قول وعمل، ¬

(¬1) الدرر السنية (1، 517) .

عقيدتهم في أسماء الله تعالى وصفاته

(اعتقاد القلب وقول اللسان وعمل الجوارح) وأنه شعب يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي وأنه يجوز الاستثناء في الإيمان. يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب: «وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة ألا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» (¬1) . [عقيدتهم في أسماء الله تعالى وصفاته] عقيدتهم في الله تعالى وأسمائه وصفاته. إن عقيدة من يسميهم الخصوم (الوهابية) في أسماء الله وصفاته وأفعاله وغيرها، هي: عقيدة السلف الصالح أهل السنة والجماعة، من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وأهل الحديث وسائر أئمة الدين المعتبرين. ففي أسماء الله تعالى وصفاته، قال الإمام محمد بن عبد الوهاب: «ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله – سبحانه وتعالى - ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه؛ لأنه تعالى لا سمي له ولا كفء له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه، فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلًا وأحسن حديثاً، فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل، وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل، فقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ - وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182] [سورة الصافات، آية: 180 - 182] » (¬2) . وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، مبينًا أن عقيدتهم هي العقيدة التي كان عليها علماء السلف: «وهي أنا نقرأ آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها ونكل معناها مع اعتقاد حقائقها - إلى الله تعالى - فإن مالكًا - وهو من أجل علماء السلف - لما سئل عن الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] [سورة طه، آية: 5] ، قال الاستواء معلوم ¬

(¬1) الدرر السنية (1) . (¬2) الدرر السنية (1 - 30) ، ومؤلفات الشيخ الإمام - القسم الخامس ص (8) .

والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة» (¬1) . وقد بين الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب مذهب السلف الصالح في كتابه (جواب أهل السنة في نقض كلام الشيعة والزيدية) قائلا: «مذهب السلف الصالح رحمهم الله: إثبات الصفات وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية عنها؛ لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، وعلى هذا مضى السلف كلهم، ولو ذهبنا نذكر ما اطلعنا عليه من كلام السلف في ذلك لخرج بنا عن المقصود في هذا الجواب، فمن كان قصده الحق وإظهار الصواب اكتفى بما قدمناه» (¬2) . ولما سئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ حمد بن ناصر بن معمر، عن آيات الصفات الواردة في الكتاب، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] [سورة طه، آية: 5] ، وكذلك قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] [سورة طه، آية: 39] ، وقوله: {أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] [سورة طه، آية: 46] وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] [سورة المائدة، آية: 64] ، وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] [سورة ص، آية: 75] ، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] [سورة الفجر، آية: 22] ، وقوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] [سورة الزمر، آية: 67] ، وغير ذلك في القرآن. ومن السنة قوله: «قلب العبد بين إصبعين من أصابع الرحمن» (¬3) وكذلك النفس، وقوله: «إن ربكم ليضحك» (¬4) وقوله: «حتى يضع رجله فيها فتقول قط قط» (¬5) وغير ذلك مما لا يحصره هذا القرطاس، وعلى ما تحملون هذه الآيات وهذه الأحاديث؟ ¬

(¬1) الدرر السنية (1) . (¬2) انظر: جواب أهل السنة في نقض كلام الشيعة والزيدية، ضمن كتاب: في عقائد الإسلام، ص (100 - 101) . (¬3) أخرجه مسلم بلفظ آخر برقم (2654) ، وأحمد في المسند برقم (6566) ، وانظر: تعليق المحققين للمسند (11) ، ورواه الترمذي برقم (3522) ، وقال: حديث حسن. (¬4) أخرجه مسلم، برقم (890) ، ولفظه: «يضحك الله إلى رجلين. . .» الحديث، وأحمد في المسند برقم (8224) وغيرهم، انظر هامش المسند (13) . (¬5) رواه البخاري، برقم (4850) ، ومسلم برقم (2846) .

أجابوا بقولهم: «الحمد لله رب العالمين، قولنا فيها ما قال الله ورسوله، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها من أصحاب رسول الله، ومن اتبعهم بإحسان، وهو الإقرار بذلك، والإيمان من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، كما قال الإمام مالك لما سئل عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] [سورة طه، آية: 5] ، كيف استوى؟ فأطرق الإمام مالك وعلته الرحضاء - يعني العرق - وانتظر القوم ما يجيء منه، فرفع رأسه إليه، وقال: الاستواء مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وأحسبك رجل سوء، وأمر به فأخرج، ومن أوّل الاستواء باستيلاء فقد أجاب بغير ما أجاب به مالك، وسلك غير سبيله، وهذا الجواب من مالك في الاستواء شاف كاف، في جميع الصفات مثل النزول والمجيء واليد والوجه وغيرها، فيقال في النزول: والنزول معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وهذا يقال في سائر الصفات الواردة في الكتاب والسنة» (¬1) . وقال الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى في كتابه (تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدراسي والحلبي) عن معتقد السلف الصالح في هذا الباب، ردًا على من رماهم بالتشبيه: «وسئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر - رحمه الله تعالى -: وما قولكم أدام الله النفع بعلومكم، في آيات الصفات والأحاديث الواردة في ذلك، مثل قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] [سورة الفتح، آية: 10] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا» (¬2) وقوله صلى الله عليه وسلم: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» (¬3) إلى غير ذلك مما ظاهره يوهم التشبيه؛ فأفيدونا عن اعتقاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - تعالى في ذلك؟ وكيف مذهبه؟ ومذهبكم من بعده؟ هل تمرون ما ورد من ذلك على ظاهره، مع التنزيه؟ أم تؤولون؟ ابسطوا الكلام على ذلك، وأجيبوا جوابًا شافياً، تغنموا أجرًا وافيًا» (¬4) . ¬

(¬1) الدرر السنية (3 - 14) . (¬2) سبق تخريجه قريبًا. (¬3) سبق تخريجه قريبًا. (¬4) الدرر السنية (3) .

فأجاب بما نصه: «الحمد لله رب العالمين، قولنا في آيات الصفات والأحاديث الواردة في ذلك، ما قاله الله ورسوله، وما قاله سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، وغيرهم من علماء المسلمين، فنصف الله تعالى بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل بل نؤمن بأنه الله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] [سورة الشورى، آية: 11] ، فلا ننفي عنه ما وصف به نفسه، ولا نحرف الكلم عن مواضعه، ولا نلحد في أسماء الله وآياته، ولا نكيف ولا نمثل صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له، ولا كفو له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه، - رضي الله عنه - عما يقول الظالمون علوًا كبيراً؛ فهو سبحانه ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، بل يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تكييف ولا تمثيل خلافًا للمشبهة، ومن غير تحريف ولا تعطيل خلافًا للمعطلة. فمذهبنا مذهب السلف إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، وهو مذهب أئمة الإسلام، كمالك، والشافعي، والثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، والإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وهو اعتقاد المشائخ المقتدى بهم، كالفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم، فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة - رضي الله عنه - فإن الاعتقاد الثابت عنه موافق لاعتقاد هؤلاء، وهو الذي نطق به الكتاب والسنة، قال الإمام أحمد - رحمه الله -: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتجاوز القرآن، والحديث، وهكذا مذهب سائرهم، كما سننقل عباراتهم بألفاظ إن شاء الله تعالى. ومذهب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - هو ما ذهب إليه هؤلاء الأئمة المذكورون، فإنه يصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتجاوز القرآن والحديث، ويتبع في ذلك سبيل السلف الماضين، الذين هم أعلم هذه الأمة بهذا الشأن نفيًا وإثباتاً، وهم أشد تعظيمًا لله، وتنزيهًا له عما لا يليق بجلاله، فإن المعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات فيكون ردها من باب تحريف الكلم عن مواضعه (¬1) . ¬

(¬1) الدرر السنية (3 - 55) ، والفواكه العذاب ص (41 - 50) .

وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة: وما قرره الإمام عبد الوهاب وسائر أئمة الدعوة هو مذهب كافة السلف والأئمة الأربعة وإليك البيان: قول الإمام مالك: فعن جعفر بن عبد الله، قال: «كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الله، الرحمن على العرش استوى، كيف استوى؟ فما وجد مالك شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرحضاء - يعني العرق - ثم رفع رأسه ورمى بالعود، وقال: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة، وأمر به فأخرج» (¬1) . قول الإمام الشافعي: وكذلك الإمام الشافعي قال: «نثبت هذه الصفات التي جاء بها القرآن ووردت بها السنة، وننفي التشبيه عنه كما نفاه عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] [سورة الشورى، آية: 11] » (¬2) . يقول: وقد سئل عن صفات الله عز وجل وما يؤمن به، فقال: لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته، لا يسع أحدًا من خلق الله تعالى قامت عليه الحجة ردها؛ لأن القرآن نزل به، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول به، فيما روي عنه العدل. فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر بالله، وأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر معذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالرَّويَّة والفكر. ونحو ذلك إخبار الله سبحانه إيانا، أنه سميعٌ بصير، وأن له يدان، يقول: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] [سورة المائدة، آية: 64] ، ¬

(¬1) أخرجه أبونعيم في الحلية (6 «5 - 326) ، والصابوني في عقيدة السلف الصالح أصحاب الحديث، ص (17 - 18) ، من طريق جعفر بن عبد الله عن مالك وابن عبد البر في التمهيد (7) ، من طريق عبد الله بن نافع عن مالك والبيهقي في الأسماء والصفات ص (408) ، من طريق عبد الله بن وهب عن مالك قال الحافظ بن حجر في الفتح (13 - 407) : إسناده جيد، وصححه الذهبي في العلو ص (103) ، وانظر: اعتقاد أئمة السلف للخميس ص (27 - 28) . (¬2) سير أعلام النبلاء للذهبي (20) .

وأن له يميناً، بقوله: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] [سورة الزمر، آية: 67] ، وأن له وجهاً، بقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] [سورة القصص، آية: 88] وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] [سورة الرحمن، آية: 27] ، وأن له قدمًا لقوله صلى الله عليه وسلم:» حتى يضع الرب فيها قدمه « (¬1) يعني جهنم، وأنه يضحك من عبده المؤمن بقوله صلى الله عليه وسلم للذي قتل في سبيل الله:» إنه لقي الله وهو يضحك إليه « (¬2) وأنه يهبط كل ليلة إلى سماء الدنيا لخبر رسول الله بذلك (¬3) وأنه ليس بأعور لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذُكر الدجال، فقال:» إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور « (¬4) وإن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر (¬5) وأن له إصبعًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:» ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل « (¬6) فإن هذه المعاني التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم فيما لا يدرك حقيقة ذلك بالفكر والرَّويِّة. ولا نكفر بالجهل بها أحدًا إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها، وإن كان الوارد بذلك خبرًا يقوم بالفهم مقام المشاهدة في السماع وجبت الدينونة على سامعه بحقيقته والشهادة بما عاين وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونثبت هذه الصفات وننفي عنها التشبيه كما نفى التشبيه عن نفسه تعالى، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] » [سورة الشورى، آية: 11] (¬7) . ¬

(¬1) انظر: صحيح البخاري (8) ، ومسلم (4) وغيرهم. (¬2) انظر: صحيح البخاري (6) ، ومسلم (1504) . (¬3) بهذا اللفظ ورد في عدة أحاديث لا تخلوا من مقال، انظر: العرش ح (85) ، والصفات للداراقطني ح (74) ، وأما أحاديث النزول فمتواترة. (¬4) انظر: صحيح البخاري (13) ، ومسلم (1) . (¬5) الحديث مروي عن جمع من الصحابة، فرواه البخاري (8) ، ومسلم (2) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬6) صحيح مسلم (2654) . (¬7) اعتقاد الشافعي، لأبي الحسن الهكاري ص (20 - 21) ، بتحقيق الدكتور: عبد الله بن صالح البراك (والهوامش له) .

دفع فرية التجسيم عنهم

قول الإمام أبي حنيفة: وقال الإمام أبو حنيفة في تقرير عقيدته - عقيدة السلف - في الصفات: «لا يوصف الله تعالى بصفات المخلوقين، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف، وهو قول أهل السنة والجماعة وهو يغضب ويرضى، ولا يقال: غضبه عقوبته ورضاه ثوابه، ونصفه كما وصف نفسه أحدٌ صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وحيُّ قادر سميع عليم بصير عالم، يد الله فوق أيديهم ليست كأيدي خلقه ووجهه ليس كوجوه خلقه» (¬1) . وقال: «وله يد ووجه ونفس، كما ذكره الله تعالى في القرآن، فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس، فهو له صفات بلا كيف ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته؛ لأن فيه إبطال الصفة وهو قول أهل القدر والاعتزال» (¬2) وقال: «ولا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات الله بشيء بل يصفه بما وصف به نفسه، ولا يقول فيه برأيه شيئًا تبارك الله وتعالى رب العالمين» (¬3) . ولما سئل عن النزول الإلهي، قال: «ينزل بلا كيف» (¬4) . [دفع فرية التجسيم عنهم] دفع فرية التشبيه والتجسيم عنهم (¬5) . لقد رمى خصوم الدعوة إمامها وأتباعها وأهل السنة جميعًا بفرية عظيمة وداهية كبرى هي وصفهم بأنهم في أسماء الله وصفاته (مجسمة) . ¬

(¬1) الفقه الأبسط ص (56) ، وانظر: اعتقاد أئمة السلف للدكتور محمد الخميس، ص (13) . (¬2) الفقه الأكبر ص (302) ، وانظر: اعتقاد أئمة السلف للدكتور الخميس، ص (13) . (¬3) شرح العقيدة الطحاوية (2) ، تحقيق الدكتور: عبد الله التركي، وجلاء العينين ص (368) ، وانظر: اعتقاد أئمة السلف للدكتور: محمد الخميس، ص (13) . (¬4) عقيدة السلف أصحاب الحديث ص (42) ، ط دار السلفية، الأسماء والصفات للبيهقي ص (456) ، وشرح العقيدة الطحاوية ص (245) ، تخريج الألباني، وشرح الفقه الأكبر للقاري ص (60) ، وانظر: اعتقاد أئمة السلف للدكتور: الخميس، ص (13) . (¬5) توسعت في دفع هذه الفرية لأنها لا تزال تثار على أهل السنة من قبل أهل الأهواء ويكثر فيها اللبس والتلبيس، وتستثار فيها عواطف العامة والجهلة ضد الدعوة وأتباعها.

ولكنّ النقول والنصوص السابقة تثبت أن الإمام محمد بن عبد الوهاب وسائر علماء الدعوة السلفية بريئون مما رماهم به خصومهم أهل البدع من أنهم مجسمة ومشبهة، والحق أنهم كانوا على سبيل المؤمنين، وهو منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته، كما هو كذلك في كل أصول الدين. إن المنهج والأسلوب الذي سلكه المخالفون أهل الأهواء والبدع من خصوم السنة المعاصرين في اتهام الإمام محمد بن عبد الوهاب وغيره من علماء الدعوة السلفية وأتباعهم، هو نفسه المنهج والأسلوب الذي سلكه خصوم السلف الصالح أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع والافتراق في كل زمان. ومنذ أن نشأت بدع الجهمية والمعتزلة وسائر أهل الكلام المعطلة والمؤولة، ومقالاتهم البدعية التي ينفون بها أسماء الله وصفاته ويؤولونها أو بعضها نشأت معها دعوى أن إثبات الأسماء والصفات لله تعالى أو بعضها نوع من التجسيم والتشبيه. ومن أجل ذلك سموا من يثبت أسماء الله وصفاته كما جاءت في القرآن وصحيح السنة، مجسمًا ومشبهًا ونحو ذلك. ومن هنا فإن وصف أهل السنة والجماعة، السلف الصالح بأنهم مجسمة ومشبهة ظهر في أوائل القرن الثاني الهجري على لسان طلائع تلك الفرق الكلامية. وقد أعلن الإمام محمد بن عبد الوهاب ما يرد هذه الفرية، بقوله السابق ذكره ومنه: «ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله – سبحانه وتعالى - ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه؛ لأنه تعالى لا سمي له، ولا كفء له ولا ند له ولا يقاس بخلقه» (¬1) . وساق الإمام مذهب السلف الصالح، أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته؛ على أنه اعتقاده، فكيف يرمونه ويرمون سائر سلف الأمة بالتجسيم؟! نعم لأن أهل البدع والأهواء يزعمون أن الإثبات الحق تجسيمٌ والمثبت عندهم مجسماً، والله حسبنا ونعم الوكيل. ¬

(¬1) الدرر السنية (1 - 30) .

وقد أنكر الإمام محمد بن عبد الوهاب نفسه، هذه الشبهة وبين أن أهل الكلام والبدع يسمون طريقة الرسول والسلف الصالح في إثبات صفات الله تعالى تشبيهًا وتجسيماً، فيقول: «ومما يهون عليك مخالفة من خالف الحق، وإن كان من أعلم الناس وأذكاهم، وأعظمهم جاهاً، ولو اتبعه أكثر الناس، وما وقع في هذه الأمة من افتراقهم في أصول الدين، وصفات الله تعالى، وغالب من يدعي المعرفة، وما عليه المخالفون المتكلمون، وتسميتهم طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حشوًا وتشبيهًا وتجسيماً، مع أنك إذا طالعت في كتاب من كتب الكلام - مع كونه يزعم أن هذا واجب على كل أحد، وهو أصل - تجد الكتاب من أوله إلى آخره لا يستدل على مسألة منه بآية من كتاب الله، ولا حديث عن رسول الله، اللهم إلا أن يذكره ليحرفه عن مواضعه. وهم معترفون أنهم لم يأخذوا أصولهم من الوحي، بل من عقولهم، معترفون أنهم مخالفون للسلف في ذلك» (¬1) . وقال الدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف، بعد أن ساق أقوال الإمام محمد وبعض علماء الدعوة: «وأخيرًا ندرك - من خلال النصوص السابقة - طريق النجاة الذي سلكه أئمة هذه الدعوة السلفية، تأسيًا واقتداء بالرعيل الأول، من وصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوزون القرآن والحديث في ذلك. ونلاحظ أن مزاعم خصوم هذه الدعوة السلفية التي تكذب على إمام الدعوة الإصلاحية الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتبهته بأنه مجسِّم ومشبِّه في الصفات، نلاحظ أن من مبررات الخصوم في القذف بهذا البهتان هو أن الشيخ - رحمه الله - وكذا أتباعه من بعده كسائر السلف، يثبتون جميع الصفات التي وردت في الكتاب والسنة، ويمرونها - كما جاءت - على ظاهرها دون تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، ويفوضون العلم بالكيفية إلى الله – سبحانه وتعالى -. فجعل الخصوم هذا الإثبات مبررًا في رمي الشيخ بالتشبيه والتجسيم، لذا يأتي مع هذه الفرية غالبًا بيان لبعض الصفات التي يثبتها الشيخ لله - عز وجل - وهو كما تقدم لا يصف الله إلا بما وصف به نفسه في كتابه أو وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم. .. مثل صفة الاستواء والعلو والنزول ونحوها، ويسوق ¬

(¬1) الدرر السنية (1 ) .

الخصوم هذا الإثبات زعمًا منهم أنه تجسيم وتشبيه، ولا يكتفون بذلك بل يختلقون زيادة في الإفك والبهتان، فيزعمون أن الشيخ يثبت لله الجلوس والجنب واللسان، بل يكذبون عليه أشنع من قبل، ويبهتونه بأنه يقول إن الله جسم كالحيوان ... تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا» (¬1) . وقال: «وبهذا يتضح من مزاعم هؤلاء الخصوم - من أهل البدع - أنهم يلصقون فرية التشبيه والتجسيم بالإمام وأنصار دعوته، وبكافة السلف الصالح أهل السنة والجماعة، بحجة أنهم يأخذون بظواهر النصوص في آيات الصفات وأحاديثها. وإذا انتقلنا إلى مقام الدحض والرد لفرية التجسيم والتشبيه، فإن من أبلغ الردود وأقواها ما أوردناه من النقول المتعددة (¬2) التي تصرح بإثبات الصفات لله – سبحانه وتعالى - على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتًا بلا تمثيل ولا تكييف. وقد أظهر علماء السنة الحجج الدامغة والبراهين الساطعة في دحض هذه الفرية الكاذبة الخاطئة» (¬3) . فقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في الرد على الذي زعم أن إثبات الصفات يلزم منه التجسيم: «قوله: وقد أردت أن تنزه ربك بما يلزم منه التجسيم كذب ظاهر؛ لأنا قد بينا أن ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله حق وصدق وصواب، ولازم الحق حق بلا ريب، ولا نسلم أن ذلك يلزم منه التجسيم، بل جميع أهل السنة المثبتة للصفات يتنازعون في ذلك، ويقولون لمن قال لهم ذلك لا يلزم منه التجسيم، كما لا يلزم من إثبات الذات لله تعالى، والحياة والإرادة والكلام تجسيم وتكييف عند المنازع، ومعلوم أن المخلوق له ذات ويوصف بالحياة والقدرة والإرادة والكلام، ومع هذا لا يلزم من إثبات ذلك لله تعالى إثبات للتجسيم والتكييف تعالى الله عن ذلك علوًا كبيراً. ومعلوم أن هذه الصفات في حق المخلوق إما جواهر وإما أعراض، وأما في حقه تبارك وتعالى فلا يعلمها إلا هو بلا تفسير ولا تكييف» (¬4) . ¬

(¬1) دعاوى المناوئين ص (125) ، بتصرف يسير. (¬2) انظر: دعاوى المناوئين (12 5 - 129) . (¬3) دعاوى المناوئين ص (129) ، بتصرف. (¬4) مجموعة الرسائل والمسائل، جواب أهل السنة في نقض كلام الشيعة والزيدية (4) .

عقيدتهم في القرآن

[عقيدتهم في القرآن] عقيدتهم في القرآن: وكذلك عقيدتهم في القرآن لا تخرج عما أجمع عليه السلف الصالح. قال الإمام محمد بن عبد الوهاب: «وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم» (¬1) . وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: «ونعتقد: أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأن الله تكلم به حقيقة، وسمعه جبرائيل من الباري سبحانه، ونزل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نقول بقول الأشاعرة، ولا غيرهم، من أهل البدع» (¬2) . [عقيدتهم في الملائكة والكتب والرسل] عقيدتهم في الملائكة والكتب والرسل (¬3) وكذلك عقيدتهم في الإيمان بالملائكة والكتب والرسل جملة وتفصيلًا كما جاءت بها النصوص وهذه الأصول الثلاثة لم يرد عليهم فيها مزاعم تذكر من خصومهم ولذلك لا نحتاج إلى الوقف عندها طويلاً، ونكتفي بما قاله الإمام محمد بن عبد الوهاب «أشهد الله ومن حضرني من الملائكة، وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرق الناجية أهل السنة والجماعة، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله..» (¬4) . [عقيدتهم في رسول الله وحقوقه وخصائصه] عقيدتهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقوقه وخصائصه: أهل السنة والجماعة - السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان - ومنهم الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه - هم أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هم الذين يحبونه حق المحبة، ويوقرونه حق التوقير، فهم الذين اتبعوا سنته، والتزموا ما كان عليه صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) الدرر السنية (1. (¬2) الدرر السنية (1) . (¬3) سيأتي الحديث عن عقيدتهم في اليوم الآخر والقدر. (¬4) الدرر السنية (1) .

هو وأصحابه، وأخذوا بوصيته بالتزام السنة والجماعة، والحذر من الفرقة والبدع ومحدثات الأمور، ولا يزالون على الحق والسنة، ظاهرين بحمد الله وسعوا إلى نيل أسمى المطالب وهي محبة الله تعالى ورضاه التي لا تدرك إلا بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه كما أمر الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] [سورة آل عمران، آية (31) .] فالإمام محمد بن عبد الوهاب - وهو أحد أئمة السنة - وأتباعه وسائر أهل السنة اليوم - وقبل وبعد - إنما هم على أثر السلف الصالح، في تحقيق ما أمر الله به من الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته وتوقيره واتباع سنته والدعوة إليها وحماية حقوقه صلى الله عليه وسلم، وحقوق آله وصحابته وزوجاته أمهات المؤمنين والإيمان كشفاعته وحوضه. وأنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق أجمعين، وخاتم النبيين والمرسلين. وأن من توقيره وتعظيمه ألا يرفع إلى مقام الربوبية والألوهية ونحوها مما هو من خصائص الرب عز وجل. فالذين اتهموا الإمام وأتباعه ويسمونهم (الوهابية) بأنهم ينتقصون من حق النبي صلى الله عليه وسلم أو يبغضونه، أو ينكرون شيئًا من فضائله أو حقوقه، ونحو ذلك من المزاعم. إنما قالوا بهتانًا وزوراً، والناظر في حقيقة الأمر يعلم بداهة أنه ما يفتري ذلك إلا جاهل، أو مبتدع، أو مقلد على غير بصيرة، وحاسد ومغرض، أو صاحب هوى أضله هواه عن سبيل الحق، كما سيأتي بيانه في الفصل الثالث. إن هذه المفتريات ونحوها كلها تخالف الحقيقة والواقع، والبرهان الساطع فقد أفصح الإمام محمد بن عبد الوهاب وعلماء الدعوة عن إيمانهم بسائر الحقوق المشروعة لرسوله صلى الله عليه وسلم دون تفريط في مقامه اللائق به صلى الله عليه وسلم ودون إفراط ولا إطراء امتثالًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد الله ورسوله» (¬1) . قال الإمام محمد بن عبد الوهاب: «والرسل: عليهم البلاغ المبين؛ وقد بلَّغوا البلاغ المبين؛ وخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه كتابه مصدقًا لما بين يديه من الكتاب، ¬

(¬1) البخاري رقم (3445) ، ومسلم (1691) ، وأخرجه أحمد في المسند برقم (154) ، ورقم (164) ، وقال المحقق: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

ومهيمنًا عليه، فهو المهيمن على جميع الكتب، وقد بَيَّن أبين بلاغ وأتمه وأكمله، وكان أنصح الخلق لعباد الله، وكان بالمؤمنين رؤوفًا رحيما، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين، فأسعد الخلق، وأعظمهم نعيما وأعلاهم درجة: أعظمهم اتباعًا له، وموافقة علمًا وعملًا» (¬1) . وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: «والذي نعتقده: أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق، وأنه حي في قبره، حياة برزخية، أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام المسلم عليه، وتسن زيارته، إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه، وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس (¬2) ومن أنفق نفيس أوقاته، بالاشتغال بالصلاة عليه - عليه الصلاة والسلام - الواردة عنه، فقد فاز بسعادة الدارين، وكفى همه وغمه، كما جاء في الحديث عنه» . وقال الإمام عبد العزيز بن سعود بن محمد في رسالته إلى أحمد بن علي القاسمي: «وأما قولك: إن أناسًا من أصحابنا ينقمون عليكم في تعظيم النبي المختار صلى الله عليه وسلم. فنقول: بل الله سبحانه افترض على الناس محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وتوقيره، وأن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وأولادهم، والناس أجمعين، لكن لم يأمرنا بالغلو فيه، وإطرائه، بل هو صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فيما ثبت عنه في الصحيح، أنه قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» (¬3) (¬4) . ¬

(¬1) الدرر السنية (2) . (¬2) وهم بهذا يقرون بمشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما يزعمه خصومهم عنهم - لكنهم لا يرون مشروعية شد الرحال لذلك مستدلين بحديث: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» الحديث، رواه البخاري (1864) ، ومسلم (3384) ، وغيرهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -) . (¬3) الحديث سبق تخريجه. (¬4) الدرر السنية (1) .

وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر وهو من كبار علماء الدعوة: «ونحن - بحمد الله - من أعظم الناس إيجابًا لرعاية الرسول صلى الله عليه وسلم، تصديقًا له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بمعرفة ما بعث به، واتباع ذلك دون ما خالفه، عملًا بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] [سورة الأعراف، آية: 3] وقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155] [سورة الأنعام، آية: 155] . وقال الشيخ سليمان بن سحمان: «من سليمان بن سحمان، إلى عبد العزيز العلجي، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد بلغني أنك استدركت عليّ فيما تزعم، كلمات في أبيات، وذلك في قولي: على السيد المعصوم والآل كلهم ... وأصحابه مع تابعي نهجهم بعد فزعمت: أنا ننكر، ونشدد على من قال: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هذا مذهبنا أهل "نجد" وهذا كذب، وافتراء علينا، ما أنكر ذلك منا أحد، ولا كان ذلك مذهبنا» . إلى أن قال: «وأما نحن: فلا ننكر ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (¬1) وقوله: «إن ابني هذا سيد» (¬2) وقوله للأنصار: «قوموا إلى سيدكم» (¬3) وقوله: « «من سيدكم يا بني سلمة» فقالوا له: الجد بن قيس، على أنا نبجله فينا، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «بل سيدكم عمرو بن الجموح» » (¬4) إذا فهمت هذا، فمن أين لك أنا ننكر ذلك ونشدد فيه؟ ومن حدثك بهذا؟ أو نقل عنا؟ وفي أي كتاب وجدت ذلك؟ وقد كان لي عدة رسائل، ومناظيم، وكل ذلك قد ذكرته فيها» (¬5) . ¬

(¬1) رواه مسلم (2278) ، وأبو داود (4673) ، وأحمد (2) (3) . (¬2) رواه البخاري رقم (7109) ، وأبو داود (4662) . (¬3) رواه البخاري رقم (3043) ، ورقم (3804) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬4) رواه البخاري في الأدب المفرد ص (111) رقم (296) ، وأبو نعيم في الحلية (7) بمعناه من حديث جابر - رضي الله عنه -) . (¬5) الدرر السنية (3) .

رد مفتريات الخصوم في أن الإمام وأتباعه ينتقصون من حق النبي صلى الله عليه وسلم

[رد مفتريات الخصوم في أن الإمام وأتباعه ينتقصون من حق النبي صلى الله عليه وسلم] رد مزاعم الخصوم في أن الإمام وأتباعه ينتقصون حق النبي صلى الله عليه وسلم: من أعظم التلبيس الذي سلكه خصوم الإمام (خصوم السنة) وهم أهل البدع والأهواء والافتراق رميهم الإمام وعموم أهل السنة بأنهم لا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم ينتقصونه وذلك لأن أهل السنة لا يرفعون النبي صلى الله عليه وسلم إلى مقام الربوبية والألوهية، ولا يطرونه كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، وأهل البدع يطرونه ويزعمون أن من لم يفعل ذلك فإنه لا يحب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه ينتقصه، وهذا من التلبيس والبهتان، ومن إغواء الشيطان حيث دخل عليهم من باب التنطع والإطراء. ولخطورة هذه الافتراءات ورواجها بين الذين يجهلون الحقيقة وينساقون وراء تضليلات الخصوم والمغرضين والحاسدين، دون تثبت ولا روية ولا تبصر، أسوق مزيدًا من الأقوال والنقول التي تكشف زيف هؤلاء الخصوم ويتبين الحق لمن يريده: فإن خصوم الإمام وهم خصوم السنة وأهلها من أهل الأهواء والافتراق والبدع ومن شايعهم سلكوا مسلك الكذب والافتراء في كثير من الأحيان، وأحيانًا أخرى مسلك التلبيس والتمويه، فمن ذلك: قول أحدهم: «أنه (يعني الإمام محمد بن عبد الوهاب) أحرق دلائل الخيرات لأجل قول سيدنا ومولانا» (¬1) وأنه قال: «الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وليلتها هي بدعة وضلالة تهوي بصاحبها إلى النار» (¬2) وأن «تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم شرك» (¬3) وزعموا أنه قال: «لو أقدر على حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم هدمتها» (¬4) وأنه «يحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم» (¬5) . وهذا كله كذب صريح وقد تبرأ منه الإمام نفسه وقال بعد أن ساق هذه المفتريات وغيرها: «سبحانك هذا بهتان عظيم» (¬6) وفي مقام آخر قال في هذه المزاعم ونحوها «فكل هذا كذب وبهتان مما افتراه عليَّ الشياطين الذين يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل ... » (¬7) . ¬

(¬1) روضة الأفكار لحسين بن غنام (1، 113) . (¬2) مؤلفات الشيخ محمد عبد الوهاب (الرسائل الشخصية) (5) . (¬3) مؤلفات الشيخ محمد عبد الوهاب (الرسائل الشخصية) (12، 52) . (¬4) مؤلفات الشيخ محمد عبد الوهاب (الرسائل الشخصية) (12، 52) . (¬5) مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب (الرسائل الشخصية) (5) . (¬6) مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب (الرسائل الشخصية) (12، 52) . (¬7) مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب (الرسائل الشخصية) (12، 52) .

وقد قال في رده على أحد الذين بهتوه بانتقاص النبي صلى الله عليه وسلم: «سبحانك هذا بهتان عظيم، وقبله من بهت محمد صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم ويسب الصالحين، فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب وقول الزور ... » (¬1) . وقال في رد مقولة أنه ينهى عن الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وأما إحراقها (يعني كتاب دلائل الخيرات) والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان، فنسبة هذا إليَّ من الزور والبهتان» (¬2) . ويقول صاحب كتاب (المقالات الوفية) مفتريًا على الإمام: «وكذا تنقيصه الرسل والأنبياء وهدم قببهم ... ومنعه من قراءة خبر مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وضرب رقاب من يناجي في المنارة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم» (¬3) وهذا من الكذب والتلبيس على الإمام محمد وأتباعه، أما القِبَاب فهي من البدع التي جاء النهي الصريح عنها في السنة وفي هدمها إزالة للبدع، وكذلك قراءة خبر مولد النبي صلى الله عليه وسلم والنداء بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على نحو ما يفعله المبتدعة من المحدثات والبدع. ويقول صاحب كتاب (تبيين الحق والصواب) عن أتباع الإمام محمد بن عبد الوهاب: «ومما يدل على استنقاصهم واستخفافهم لقدر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هذه اللفظة المجردة عن الأدب والحياء وهي (محمد لا يعلم الغيب) (¬4) . ونقول له: إنه ليس من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أن ندعي له شيئًا من خصائص الرب تعالى وهو علم الغيب، فهو لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله إياه، قال الله عز وجل له {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188] [سورة الأعراف، آية: 188] . وهذه المقولات كلها أكاذيب ومفتريات وإفك ظاهر، ونبدأ في كشف هذا الإفك العظيم بما ذكره الشيخ محمد منظور النعماني في كتابه (دعايات مكثفة ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب) قال: «وقد سمعت وقتئذٍ أكذوبة عجيبة: أن رجلًا يحمل اسم عبد الوهاب ¬

(¬1) الدرر السنية (1) . (¬2) الدرر السنية (1) . (¬3) المقالات الوفية ص (188) وانظر دعاوى المناوئين ص (97) . (¬4) تبيين الحق والصواب ص (18، 19) .

النجدي وكان يتزعم الطائفة الوهابية، كان قد بلغ من عدوانه للنبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ورد المدينة المنورة يتظاهر بالصلاح والتقوى ... وسكن بيتًا على الكراء من أجل أن يتخذ في داخل الأرض سربًا من بيته إلى روضة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتمكن من العبث بالجثة المطهرة - نعوذ بالله من ذلك - إلا أنه لم يستطع تحقيق أمنيته حيث تراءى النبي في المنام للملك الذي كان يحكم الحجاز آنذاك، وقال له في المنام: إن رجلًا من نجد خبيثًا رقيعًا يتخذ النفق في الأرض من أجل الغرض الخبيث، فبحث الملك عن الرجل عبد الوهاب النجدي، وقبض عليه فعلًا وضرب عنقه. ولا أزال أذكر أن الناس كانوا يتناقلون هذه الأكذوبة كحقيقة تاريخية معلومة مقررة، ولذلك فلم أشك فيها قط، لأني لم أجد أحدًا يرفضها أو يشك فيها» (¬1) . ويقول الإمام نفسه في تكذيب المزاعم: «وما ذكره المشركون عليّ أني أنهى عن الصلاة على النبي، أو أني أقول لو أن لي أمرًا هدمت قبة النبي صلى الله عليه وسلم أو أني أتكلم في الصالحين، أو أنهى عن محبتهم، فكل هذا كذب وبهتان، افتراه عليّ الشياطين الذين يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل» (¬2) . ويقول في رسالته إلى الشيخ عبد الرحمن السويدي أحد علماء العراق مفندًا ما نسب إليه: «يا عجبًا كيف يدخل هذا في عقل عاقل، هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون، وكذلك قولهم أنه يقول لو أقدر أهدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم لهدمتها (أي من البهتان) ، وأما (دلائل الخيرات) فله سبب، وذلك أني أشرت إلى من قبل نصيحتي من إخواني، أن لا يصير في قلبه أجلّ من كتاب الله، ويظنّ أن القراءة فيه أجلّ من قراءة القرآن، وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان فهذا من البهتان» (¬3) . ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب مبيّنًا المنهج الذي كانوا عليه إبان دخولهم مكة عام (1218هـ) : «وأما ما يكذب علينا: سترًا للحق، وتلبيسًا على الخلق، ¬

(¬1) دعايات مكثفة ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص (15، 16) . (¬2) الدرر السنية (1) . (¬3) مجموعة مؤلفات الشيخ (الرسائل الشخصية) ص (37) ، وانظر الدرر السنية (1، 81) .

بأنّا نفسر القرآن برأينا، ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا، من دون مراجعة شرح، ولا معول على شيخ، وأنّا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رمة في قبره، وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله، حتى أنزل عليه {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] ، مع كون الآية مدنية ... » إلى أن قال: «فجميع هذه الخرافات، وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولاً، كان جوابنا في كل مسألة من ذلك، سبحانك هذا بهتان عظيم، فمن روى عنّا شيئًا من ذلك، أو نسبه إلينا، فقد كذب علينا وافترى. ومن شاهد حالنا، وحضر مجالسنا، وتحقق ما عندنا، علم قطعاً: أن جميع ذلك وضعه، وافتراه علينا، أعداء الدين، وإخوان الشياطين» . إلى أن قال: «والذي نعتقده: أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق، وأنه حي في قبره حياة برزخية، أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام المسلم عليه، وتسن زيارته، إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه، وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس، ومن أنفق نفيس أوقاته، بالاشتغال بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم الواردة عنه، فقد فاز بسعادة الدارين، وكفى همه وغمه، كما جاء في الحديث عنه» (¬1) . وقال الشيخ عبد الله بن سليمان البليهد: «فحق النبي صلى الله عليه وسلم محبته المقدمة على محبة النفس والولد والأهل والمال وتصديقه وطاعته» (¬2) . وقال الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود في رسالته إلى أحمد بن علي القاسمي: «وأما قولك أن ناسًا من أصحابنا ينقمون عليكم في تعظيم النبي المختار صلى الله عليه وسلم، فنقول بل الله سبحانه افترض على الناس محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وأن يكون أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم والناس أجمعين، لكن لم يأمرنا بالغلو فيه وإطرائه، بل هو صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك» (¬3) . ويقول الشيخ محمد بن عثمان الشاوي في كتابه (القول الأسد في الردَّ على الخصم ¬

(¬1) الدرر السنية (1، 230) . (¬2) عن دعاوى المناوئين ص (94، 95) . (¬3) الدرر السنية (1) .

الألد) ردًا على خصوم الدعوة السلفية: «وقد رموهم بعظائم يعلم الله تعالى أنها لم تصدر منهم، ونسبتهم إلى تنقص الرسول وعدم الصلاة عليه، وما ذاك إلا أنهم لم يغلوا امتثالًا لقوله: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» (¬1) وإلا فهم بحمد الله أعظم الناس محبة للرسول ومتابعة له، ورعاية لحقه، وهو أجل في عيونهم من أن يخالفوا سنته، أو يخالفوا أقواله، بمجرد العوائد الباطلة، أو الأقيسة الفاسدة، بخلاف كثير من هؤلاء الذين جمعوا بين الإفراط والتفريط، فأفرطوا بالغلو فيه وإطرائه، حتى رفعوه من منزلة العبودية إلى منزلة الإلهية والربوبية، وفرطوا في اتباعه، فنبذوا سنّته وراء ظهورهم، ولم يعبئوا بأقواله، وخالفوا نصوصه الصريحة الصحيحة بغير مسوغ، ولم يكتفوا بذلك حتى جعلوا يعيبون على من جدّ واجتهد في اتباعه، لما ألفوه من العوائد الباطلة، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما حقه هو تعزيره وتوقيره واتباع ما جاء به، واقتفاء أثره، وتصديقه، وتقديم محبته على الأهل والمال، وأما العبادة فهي له وحده، لا يشركه فيها ملك مقرب، ولا نبي مرسل» (¬2) . ويقول مسعود الندوي في كتابه (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه) : «إن الزمان لغريب، وإن نوادره لعجيبة، فالرجل الذي يقوم ويقعد وينام تحت ظل ظليل من سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم وكأنها هي غطاءه، وفراشه يُتهم بإنكار الحديث» (¬3) . ويقول صاحب كتاب (النفخة على النفحة) ردًّا على هذه الفرية: «وأما المصطفى صلى الله عليه وسلم فلا تظن أن أحدًا من المسلمين على كرة الأرض يهم بتنقيصه، أو يبغضه، وفي مذهب الحنابلة أن شاتم الرسول يقتل تاب أو لم يتب» (¬4) . ويقول الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي في كتاب (نقض كلام المفترين) عن الإمام وأتباعه في تعظيمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق والهدى: «والشيخ محمد - رحمه الله - ألّف (مختصر السيرة) ، وقد طبع عدة مرات، وانتشر في سائر الأقطار، فلو لم يكن محبًا ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) القول الأسد ص (7) نقلًا عن دعاوى المناوئين ص (104) . (¬3) محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ص (173) . (¬4) النفخة على النفحة ص (41) ، تحقيق الدكتور/ عبد العزيز العبد اللطيف.

للرسول لما ألف سيرة له، ومن لا يحب الرسول لا يكون مسلمًا بل يكون يهوديًا أو نصرانياً ... والشيخ وأتباعه يحثون الناس على التمسك بسنّة الرسول الصحيحة، ويشددون النكير على من يخالف سنّة الرسول ويدعونه مبتدعاً، أما هذا دليل على كمال حبهم وتعظيمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولكن المنحرفين يرون حب الرسول صلى الله عليه وسلم في قراءة الأناشيد والأشعار والاستغاثات فمن عمل بهذا فهو محب للرسول، وإن ارتكب الموبقات وتلطخ بقاذورات المبتدعات ومن لا فلا» (¬1) . ويشهد حافظ وهبة بأن ما نسب إلى علماء الدعوة السلفية وأتباعها هم أبرياء منه. فيقول تحت عنوان: «ما ينسب إلى النجديين وهم أبرياء منه» : ثم يقول: «لا شك أن الحرب النجدية المصرية في القرن الماضي وما أعقب ذلك من خلاف بين آل سعود والأتراك قد صحبه كثير من الدعايات السيئة ضد النجديين. وكثير من الأشياء التي نسبت إليهم مكذوبة. 1 - لقد نسب إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب والآخذين بدعوته كراهية النبي صلى الله عليه وسلم، والحط من شأنه وشأن سائر الأنبياء والأولياء الصالحين. لقد نسب هذا إلى الإمام ابن تيمية وإلى تلاميذه، كما لا يزال ينسب إلى كثير من العقلاء والمصلحين في الهند وغيرها حتى ممن ليست لهم أي صلة بنجد وأهلها. إن منشأ هذه النسبة هو أن النجديين استنادًا إلى حديث: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» (¬2) يرون أن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يعملها أحد من الصحابة أو التابعين، ولم يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق ابن تيمية وابن عبد الوهاب طوائف كثيرة من العلماء المتقدمين بهذا الرأي. 2 - إن النجديين يمنعون استقبال قبر الرسول صلى الله عليه وسلم عند الدعاء، كما يمنعون السجود عند قبره وقبر غيره، ويمنعون التمسح والتمرغ عند القبر، كما يمنعون كل ما من شأنه الاستغاثة أو الطلب مما شاع عمله عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الصالحين في مصر وبغداد والهند وكثير من الأمصار. ¬

(¬1) نقض كلام المفترين على الحنابلة السلفيين، ص (67، 68) ، وانظر دعاوى المناوئين ص (108) . (¬2) تقدم تخرجه.

3 - هدم القباب والأبنية المقامة على القبور وإبطالهم لسائر الأوقاف التي رصدت على القبور والأضرحة: 4 - إنكارهم على البوصيري قوله في البردة: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم وقوله: ومن علومك علم اللوح والقلم. وقوله: إن لم تكن في معادي آخذًا بيدي ... فضلًا وإلا فقل يا زلة القدم فإن هذا القول مجازفة وغلو، وفيه مخالفة صريحة لنصوص القرآن والأحاديث الصحيحة؛ وهم - فوق هذا - يعتقدون أن من اعتقد هذا على ظاهره فهو مشرك كافر. فاتهمهم خصومهم بكراهية النبي، ونسبوا إليهم أقوالًا هم أبرياء منها، نسبوا إليهم القول بأن العصا خير من النبي، إلى غير ذلك من التهم الباطلة. ولقد سمعت في نجد أن حكام نجد الشمالية أثناء خصومتهم مع آل سعود كانوا يكتبون إلى الأتراك أن آل سعود اتخذوا راية شعارها: لا إله إلا الله مَحَدْ رسول (بحذف ميم محمد) أي لا أحد رسول الله، وهذا كله تنفير للأتراك من خصومهم، وهم يعلمون حق العلم أن هذا كذب. ولقد حضر إلى مكة أثناء الحرب الحجازية النجدية في سنة (1925م) بعض أفاضل السنغاليين وَتِطْوَان، وكانوا أثناء حديثهم يبكون لشدة تأثرهم؛ لقد أخبرونا أنهم سمعوا في الإسكندرية أشياء كثيرة تنسب إلى النجديين، لم يجدوا لها أثرًا في الحجاز، لقد سمعوا من بعض الناس: أن الوهابيين هدموا الكعبة لأنها حجر، وسمعوا أنهم في الأذان يقولون «أشهد أن لا إله إلا الله» فقط ولا يقولون «أشهد أن محمدا رسول الله» . إن النجديين أحرص الناس على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يكرهون الغلو، ويقاومون البدع مهما كان نوعها، ومهما كان الدافع لها، ويقولون: إن المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم هي الاهتداء بهدي الرسول واتباعه، أما الابتداع وتعطيل الشريعة وتقديم الأهواء فهو كراهة لا محبة، وفي القرآن الكريم {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] (¬1) . ¬

(¬1) جزيرة العرب في القرن العشرين (312 - 314) .

دفع فرية التلويح بدعوى النبوة عن الإمام محمد بن عبد الوهاب

[دفع فرية التلويح بدعوى النبوة عن الإمام محمد بن عبد الوهاب] دفع فرية التلويح بدعوى النبوة عن الإمام محمد بن عبد الوهاب: وبعد عرض ما كان عليه أهل السنة من تعظيم مقام النبي صلى الله عليه وسلم ورفع مكانته التي فضله الله بها. يحسن الوقوف عند تهمة مكشوفة، وكذبة ظاهرة لُمِز بها الإمام محمد بن عبد الوهاب من قبل بعض أهل الأهواء والبدع والافتراق وهي تلكم التهمة الصلعاء التي أثارها بعض خصوم الإمام محمد بن عبد الوهاب حين زعموا أنه يلوّح حول دعوى النبوة، بل زعم بعضهم أنه يدعيها!! (¬1) وهذه فرية شنيعة وبهتان عظيم. فإنه في حين لا نجد في منهج الإمام وآثاره وأعماله ما يشير إلى شيء من ذلك - أي دعوى النبوة - فإن العكس هو الواقع المحتم، إذ أن الإمام أكَّد في عقيدته ودروسه وشروحه ورسائله وخطبه ومؤلفاته عقيدة ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم وأن خلاف ذلك كفر يجب قتل مدَّعيها ومن يصدقه. قال فيما يجب على كل مسلم بعد أن ذكر الحقوق الواجبة على المسلم: «وأعظمها حق النبي صلى الله عليه وسلم، وأفرضه شهادتك له أنه رسول الله، وأنه خاتم النبيين وتعلم أنك لو ترفع أحدًا من الصحابة في منزلة النبوة صرت كافرًا» (¬2) . وقال: «وأؤمن بأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته» (¬3) . ومن علامات الافتراء والخذلان لمروجي هذه الفرية أن أول من روَّجها، وأكثر الذي تابعوه، زعموا أنه (الإمام محمد بن عبد الوهاب) ادعى النبوة بلسان حاله، وأنه كان يُضمر دعوى النبوة في قلبه! (¬4) . ¬

(¬1) راجع ما قاله بعض الخصوم في كتبهم من ذلك: 1 - خلاصة الكلام لدحلان (239) . 2 - والدرر السنية في الرد على الوهابية (47) لأحمد بن دحلان كذلك. 3 - ومصباح الأنام (4) لعلوي حداد. 4 - وفصل الخطاب (ق36) لأحمد علي القباني. 5 - والفجر الصادق للزهاوي) . (¬2) الدرر السنية (1) . (¬3) الدرر السنية (1 «) . (¬4) راجع دعاوى المناوئين (81 - 90) .

وهذه حيلة العاجز المهزوم إذ كيف اطلعوا على ما في القلوب مما لا يعلمه إلا علاَّم الغيوب سبحانه وتعالى، مع أن الحقيقة الثابتة أنه قال وأعلن الحق بدليله، ثم ما القرائن التي دلت بلسان الحال على هذه الفرية؟ لم يذكروا شيئاً. ولما شاع هذا البهتان العظيم، وروَّجه الخصوم من أهل الأهواء والبدع والافتراق الذين يكرهون السنة وأهلها، وتلقفته ألسنة الغوغاء والهمج، من أتباع الفرق والطرق - تصدى له علماء السنة في بلاد الشيخ الإمام وغيرها من سائر بلاد المسلمين، ممن شهدوا بالحق، وأنصفوا الخلق (¬1) . وقال الشيخ سليمان بن سحمان: «إن الشيخ (يعني محمد بن عبد الوهاب) قد ذكر في كتاب التوحيد ما رواه البرقاني في صحيحه قوله في الحديث:» وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان وإنه سيكون من أمتي كذّابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي « (¬2) . ..» إلى آخر الحديث. وقال (يعني محمد بن عبد الوهاب) في المسائل المستنبطة من هذا الباب، «الثامنة: العجب العجاب خروج من يدعي النبوة مثل المختار مع تكلمه بالشهادتين وتصريحه أنه من هذه الأمة وأن الرسول حق وأن القرآن حق» (¬3) . وفيه أن محمدًا خاتم النبيين ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح وقد خرج المختار في آخر عهد الصحابة، فكيف يضمر مع هذا دعوى النبوة، وكيف يزعم هذا ويرمي به الشيخ رجل يؤمن بالله واليوم الآخر، وبهذا تعلم أن هذا من تزوير من شرق بهذا الدين من أعداء الله ورسوله وتنفيرًا للناس عن الإذعان لإخلاص التوحيد لله بالعبادة» (¬4) . ¬

(¬1) انظر: دعاوى المناوئين ص (84) . (¬2) الحديث جزء من رواية أصلها عند مسلم (2889) ، وأبو داود (4252) ، والترمذي (2176) ، وأخرجه الإمام أحمد في المسند برقم (2295) ، وقال المحققون: إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬3) كتاب التوحيد للإمام محمد بن عبد الوهاب (53) . (¬4) الأسنة الحداد لابن سحمان (12، 13) ، وانظر: دعاوى المناوئين للدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف (84 - 86) .

عقيدتهم في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

كما رد الشيخ ناصر الدين الحجازي (¬1) على هذه الفرية بأسلوب آخر، وذلك في رسالته "النفخة على النفحة"، حيث يزعم صاحب كتاب (النفحة الزكية) أن الإمام قد ادعى النبوة، فكان جواب الشيخ ناصر الدين الحجازي على هذا الإفك: «وأما قولك وكان يضمر دعوى النبوة إلا أنه لم يتمكن من إظهارها فهذه دعوى كشف واطلاع على ما في القلوب، فهي بين أمرين إما تصريح بالكذب وإما مشاركة لله تعالى في قوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] [سورة غافر، آية: 19] . فاختر أي الشقين شئت، وإن كنت مدعيًا فعليك الدليل من كتبه التي طبعت في الهند وفي مصر وسارت في الأقطار» (¬2) . [عقيدتهم في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم] عقيدتهم في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. وعقيدة الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه كسائر السلف الصالح أهل السنة والجماعة في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فيثبتون كل ما صح من شفاعاته صلى الله عليه وسلم كالشفاعة العظمى، والمقام المحمود، وشفاعته لأهل الكبائر من أمته، وغيرها. يقول الإمام محمد: «وأومن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع وأول مشفع، ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضى كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] [سورة الأنبياء، آية: 28] ، وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] [سورة البقرة، آية: 255] وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] [سورة النجم، آية: 26] ، وهو لا يرضى إلا التوحيد؛ ولا يأذن إلا لأهله، وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] [سورة المدثر، آية: 48] » (¬3) . ¬

(¬1) ذكر الدكتور عبد العزيز العبد اللطيف في (دعاوى المناوئين) أن ناصر الدين الحجازي هو اسم أطلقه الشيخ محمد بن علي بن تركي على نفسه عند تأليفه لهذا الرد. (¬2) النفخة على النفحة (14) تحقيق الدكتور/ عبد العزيز العبد اللطيف. (¬3) الدرر السنية (1) .

عقيدتهم في آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

وهذا ينفي المزاعم والمفتريات التي زعمها خصومهم بأنهم ينكرون شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال في الرد على الذين يزعمون أنه وسائر أهل السنة ينكرون شفاعة النبي «ثم بعد هذا يذكر لنا أن عدوان الإسلام، الذين ينفرون الناس عنه، يزعمون أننا ننكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع، صاحب المقام المحمود، نسأل الكريم رب العرش العظيم: أن يشفعه فينا، وأن يحشرنا تحت لوائه» (¬1) . ويقول ابنه الشيخ عبد الله: «ونثبت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، حسب ما ورد، وكذلك نثبتها لسائر الأنبياء، والملائكة، والأولياء، والأطفال حسب ما ورد أيضاً؛ ونسألها من المالك لها، والإذن فيها لمن يشاء من الموحدين، الذين هم أسعد الناس بها كما ورد، بأن يقول أحدنا - متضرعًا إلى الله تعالى -: اللهم شفع نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فينا يوم القيامة أو: اللهم شفع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك، مما يطلب من الله، لا منهم فلا يقال: يا رسول الله، أو يا ولي الله لك الشفاعة أو غيرها، كأدركني، أو أغثني، أو اشفني، أو انصرني على عدوي، ونحو ذلك، مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فإذا طلب ذلك مما ذكر في أيام البرزخ، كان من أقسام الشرك، إذ لم يرد بذلك نص من كتاب أو سنة، ولا أثر من السلف الصالح في ذلك؛ بل ورد الكتاب، والسنة، وإجماع السلف: أن ذلك شرك أكبر، قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬2) . [عقيدتهم في آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم] عقيدتهم في آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك عقيدتهم في آل بيت رسول الله لا تخرج عما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح من محبة آل البيت ومودتهم ورعاية حقوقهم. كل ذلك على المنهج الشرعي؛ بلا تقصير كما فعلت الخوارج الناصبة ومن وافقهم، ولا غلو كما فعلت الرافضة ومن سلك سبيلهم، فليس من حق آل البيت الغلو فيهم، ولا اعتقاد قداستهم، ولا عصمتهم. ¬

(¬1) الدرر السنية (1، 64) . (¬2) الدرر السنية (1، 232) .

ورعاية حقوق آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروطة بشروطها وهي استقامتهم على منهاج النبوة، أما من خرج عن الحق والسبيل فلا حق له. يقول الشيخ الإمام في حق أحد الأشراف ومبينًا خطأ الذين أنكروا هذا الحق. «وقد أوجب الله لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس حقوقًا فلا يجوز لمسلم أن يسقط حقهم ويظن أنه من التوحيد بل هو من الغلو ونحن ما أنكرنا إلا إكرامهم لأجل ادعاء الألوهية فيهم أو إكرام المدعي لذلك» (¬1) . ويقول الشيخ: عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: «وأما أهل البيت: فقد ورد سؤال على علماء الدرعية في مثل ذلك، وعن جواز نكاح الفاطمية غير الفاطمي، وكان الجواب عليه ما نصه: أهل البيت - رضوان الله عليهم - لا شك في طلب حبهم ومودتهم، لما ورد فيه من كتاب وسنة، فيجب حبهم ومودتهم، إلا أن الإسلام ساوى بين الخلق، فلا فضل لأحد إلا بالتقوى، ولهم مع ذلك التوقير والتكريم، والإجلال، ولسائر العلماء مثل ذلك، كالجلوس في صدور المجالس، والبداءة بهم في التكريم، والتقديم في الطريق إلى موضع التكريم، ونحو ذلك، إذا تقارب أحدهم مع غيره في السن والعلم» (¬2) . وقال الإمام عبد العزيز بن سعود بن محمد «من عبد العزيز بن سعود: إلى جناب أحمد بن علي القاسمي، هداه الله، لما يحبه ويرضاه. أما بعد: فقد وصل إلينا كتابك، وفهمنا ما تضمنه من خطابك، وما ذكرت من أنه قد بلغكم: أن جماعة من أصحابنا، صاروا ينتقمون على من هو متمسك بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن مذهبه مذهب أهل البيت الشريف. فليكن لديك معلومًا أن المتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما عليه أهل البيت الشريف فهو لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ولكن الشأن: في تحقيق الدعوى بالعمل» . ثم قال: «وأما ما ذكرت: من أن مذهب أهل البيت أقوى المذاهب، وأولاها ¬

(¬1) مؤلفات الشيخ الإمام (5) الرسائل الشخصية ص (284) . (¬2) الدرر السنية (1، 233) .

بالاتباع، فليس لأهل البيت مذهب إلا اتباع الكتاب، والسنة، كما صح عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - «أنه قيل له: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا فهم يؤتيه الله عبدًا في كتابه، وما في هذه الصحيفة ... » الحديث؛ وهو مخرج في الصحيحين» (¬1) . وقال: «فإن أصل دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته، عليهم السلام، هو: توحيد الله بجميع أنواع العبادة، لا يدعى إلا هو، ولا ينذر إلا له، ولا يذبح إلا له، ولا يخاف خوف السر إلا منه، ولا يتوكل إلا عليه؛ كما دل على ذلك الكتاب العزيز. فقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] [سورة الجن، آية: 18] ، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد: 14] [سورة الرعد، آية: 14] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] [سورة النحل، آية: 36] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] . [سورة الأنبياء، آية: 25] . فهذا التوحيد، هو: أصل دين أهل البيت - عليهم السلام - من لم يأت به، فالنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته: براء منه، قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] [سورة التوبة، آية: 3] . ومن مذهب أهل البيت: إقامة الفرائض، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ومن مذهب أهل البيت الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإزالة المحرمات، ومن مذهب أهل البيت محبة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، وأفضل السابقين الأولين: الخلفاء الراشدون، كما ثبت ذلك عن علي من رواية ابنه محمد بن الحنفية، وغيره من الصحابة، أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر، والأدلة: الدالة على فضيلة الخلفاء الراشدين، أكثر من أن تحصر. فإذا كان مذهب أهل البيت: ما أشرنا إليه، وأنتم تدعون أنكم متمسكون بما عليه ¬

(¬1) رواه البخاري (1 ) ، والترمذي (1) ، وصححه، والدارمي (2) ، وغيرهم من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -) .

عقيدتهم في الصحابة

أهل البيت، مع كونكم على خلاف ما هم عليه؛ بل أنتم مخالفون لأهل البيت، وأهل البيت براء مما أنتم عليه؟ فكيف يدعي اتَّباع أهل البيت: من يدعو الموتى؟! ويستغيث بهم في قضاء حاجاته، وتفريج كرباته؟! والشرك ظاهر في بلدهم، فيبنون القباب على الأموات، ويدعونهم مع الله، والشرك بالله هو أصل دينهم، مع ما يتبع ذلك من ترك الفرائض، وفعل المحرمات، التي نهى الله عنها في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وسب أفاضل الصحابة أبو بكر، وعمر، وغيرهما من الصحابة» (¬1) . وقال أبناء الإمام محمد بن عبد الوهاب والشيخ حمد بن ناصر المعمَّر: «وأما السؤال عما ورد في فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟ فنقول: قد صح في فضائل أهل البيت أحاديث كثيرة؛ وأما كثير من الأحاديث، التي يرويها من صنف في فضائل أهل البيت، فأكثرها لا يصححه الحفاظ؛ وفيما صح في ذلك كفاية» (¬2) . [عقيدتهم في الصحابة] عقيدتهم في الصحابة والإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه عقيدتهم في الصحابة لا تخرج عن عقيدة سائر أهل السنة والسلف الصالح جملة وتفصيلاً، والمتأمل لمزاعم أهل البدع خُصُوم السنة يجد أنهم مع كثرة شبهاتهم على الدعوة وأهلها، لم يكن لهم دعاوى حول عقيدتهم في الصحابة إلا نادراً. ولذا أوجزت الحديث عن عقيدتهم في الصحابة. يقول الإمام محمد: «وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة - رضي الله عنه - وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكر محاسنهم، وأترضى عنهم، وأستغفر لهم، وأكف عن مساويهم، وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم عملًا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] [سورة الحشر، آية: 10] ¬

(¬1) الدرر السنية (1 - 272) . (¬2) الدرر السنية (1 - 213) .

عقيدتهم في الشفاعة عموما

وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء» (¬1) . وسئل أبناء الإمام، وحمد بن ناصر - رحمهم الله - عن مذهبهم في الصحابة - رضي الله عنهم -؟ فأجابوا: «مذهبنا في الصحابة، هو مذهب أهل السنة والجماعة وهو: أن أفضلهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو بكر، وأفضلهم بعد أبي بكر: عمر؛ وأفضلهم بعد عمر: عثمان؛ وأفضلهم بعد عثمان: علي - رضي الله عنهم -. ومنزلتهم في الخلافة، كمنزلتهم في الفضل؛ وقد نازع بعض أهل السنة، في أفضلية عثمان على علي؛ فجزم قوم بتفضيل علي على عثمان؛ ولكن الذي عليه الأئمة الأربعة، وأتباعهم، هو: الأول» (¬2) . [عقيدتهم في الشفاعة عمومًا] عقيدتهم في الشفاعة عموماً وكذلك في الشفاعة عموماً، فإنهم يثبتون من الشفاعات ما جاء به الشرع وثبت بالنص. يقول الإمام محمد: «وأومن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع وأول مشفَّع، ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال» (¬3) . وقال: «والشفاعة شفاعتان؛ شفاعة منفية، وشفاعة مثبتة، فالشفاعة المنفية هي التي تطلب من غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، والدليل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] [سورة البقرة، آية: 254] ، والمثبتة هي التي تطلب من الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، والشافع مكرم بالشفاعة، والمشفوع له من رضي الله قوله وعمله، بعد الإذن، والدليل قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] [سورة البقرة، آية: 255] » (¬4) . ¬

(¬1) الدرر السنية (1 «) . (¬2) الدرر السنية (1) . (¬3) الرسائل الشخصية (9) . (¬4) الدرر السنية (2، 25) .

عقيدتهم في اليوم الآخر والجنة والنار والرؤية

ويقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: «ونؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أول شافع، وأول مشفع، ولا ينكرها إلا مبتدع ضال، وأنها لا تقع إلا بعد الإذن والرضا، كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] [سورة الأنبياء، آية: 28] ، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] [سورة النجم، آية: 26] ، وهو سبحانه، لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله، قال أبو هريرة - رضي الله عنه - للنبي صلى الله عليه وسلم «من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: «من قال لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه» (¬1) فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص، بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] [سورة المدثر، آية: 48] » (¬2) . [عقيدتهم في اليوم الآخر والجنة والنار والرؤية] عقيدتهم في اليوم الآخر والجنة والنار والرؤية ويؤمنون باليوم الآخر وأحواله ومشاهده كما ثبت في النصوص. قال الإمام: «وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فأومن بفتنة القبر ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلًا تدنو منهم الشمس، وتنصب الموازين وتوزن بها أعمال العباد، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون، وتنشر الدواوين فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله» (¬3) . وقال الإمام: «وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان» (¬4) . ¬

(¬1) رواه البخاري (1) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -) . (¬2) الدرر السنية (1) . (¬3) الدرر السنية (1 - 31) . (¬4) الدرر السنية (1 «) .

عقيدتهم في الرؤية

[عقيدتهم في الرؤية] عقيدتهم في الرؤية وقال: «وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته» (¬1) . [عقيدتهم في القدر] عقيدتهم في القدر وفي القدر هم على ما كان عليه السلف الصالح أهل السنة والجماعة. قال الإمام «وأومن بأن الله فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المقدور ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور» (¬2) . وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: «وأن الله تعالى قد علم الأشياء قبل وجودها إجمالًا وتفصيلًا وعلم ما يتعلق بها، وقدَّر في الأزل لكل شيء قدرا، فلا يزيد ولا ينقص، ولا يتقدم ولا يتأخر، وأنه لا يوجد شيء إلا بإرادة الله ومشيئته، والله بكل شيء عليم، وما قدر الله يكون، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن» (¬3) . ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في القدر: «ونعتقد أن الخير والشر كله بمشيئة الله تعالى، ولا يكون في ملكه إلا ما أراد فإن العبد لا يقدر على خلق أفعاله، بل له كسب مرتب عليه الثواب فضلًا والعقاب عدلا، ولا يجب على الله لعبده شيء» (¬4) . [عقيدتهم في الأولياء وكراماتهم] عقيدتهم في الأولياء وكراماتهم كثرت مزاعم أهل البدع والأهواء ومفترياتهم على أهل السنة ومنهم الإمام محمد بن عبد الوهاب، وأتباعه حول موقفهم في الأولياء وكراماتهم، وسائرها تدور على الزعم ¬

(¬1) الدرر السنية (1 «) . (¬2) الدرر السنية (1. (¬3) الرد على الرافضة (43) . (¬4) الدرر السنية (1 - 227) .

عقيدتهم في أئمة المسلمين والسمع والطاعة

بأنهم يبغضون الأولياء وينتقصونهم ويؤذونهم، وأنهم ينكرون كراماتهم، والحق أن الأمر على خلاف ذلك، فإن أقوالهم وأفعالهم تثبت أنهم يحبون أولياء الله ويؤمنون بكراماتهم. يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب: «وأقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئًا ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله» (¬1) . وقال: «ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال» (¬2) . ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: «ولا ننكر كرامات الأولياء، ونعترف لهم بالحق، وأنهم على هدى من ربهم، مهما ساروا على الطريقة الشرعية، والقوانين المرعية، إلا أنهم لا يستحقون شيئًا من أنواع العبادات، لا حال الحياة، ولا بعد الممات، بل يطلب من أحدهم الدعاء في حال حياته، بل ومن كل مسلم؛ فقد جاء في الحديث:» دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه «الحديث، وأمر صلى الله عليه وسلم عمر، وعليا بسؤال الاستغفار من " أويس " ففعلا» (¬3) . [عقيدتهم في أئمة المسلمين والسمع والطاعة] عقيدتهم في أئمة المسلمين والسمع والطاعة يقول الإمام: «وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه» (¬4) . وقال: «وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبدًا حبشيًا» (¬5) وقال مبينًا أن عدم السمع والطاعة لولاة الأمور من خصال الجاهلية: «وقد أمر ¬

(¬1) الدرر السنية (1 «) . (¬2) كشف الشبهات ضمن مؤلفات الشيخ الإمام (العقيدة والآداب) (169) . (¬3) الدرر السنية (1) ، وتقدم تخريج الأحاديث والآثار الواردة هنا. (¬4) الدرر السنية (1) . (¬5) ستة أصول عظيمة (394) ، وتقدم تخريج الحديث في ذلك.

موقفهم من عموم المسلمين

رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الولاة وأمر بالسمع والطاعة لهم والنصيحة، وغلظ في ذلك، وأبدى فيه وأعاد» (¬1) . وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: «ونرى وجوب السمع والطاعة، لأئمة المسلمين، برهم، وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية، ونرى هجر أهل البدع، ومباينتهم، ونرى أن كل محدثة في الدين، بدعة» (¬2) . وكذلك عقيدتهم في الجهاد مع أئمة المسلمين، فإنهم يلتزمون في ذلك وصية النبي صلى الله عليه وسلم، وما عليه السلف الصالح، من مشروعية الجهاد مع ولاة المسلمين أبرارًا كانوا أو فجارا. قال الإمام: «وأرى الجهاد ماضيًا مع كل إمام برا كان أو فاجرا، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة» (¬3) . أما ما يثار على الدعوة من دعوى الخروج على الدولة التركية فقد ناقشته في مبحث مستقل (¬4) . [موقفهم من عموم المسلمين] موقفهم من عموم المسلمين يعتقدون أن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو المسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، أما من لا يقر بالشهادتين، أو أتى بما ينافيهما فليس بمسلم. فلا يكفرون المسلم ولا يخرجونه من دائرة الإسلام إلا إذا أتى بناقض من نواقض الإسلام كالشرك، والاستهزاء بالله أو برسوله صلى الله عليه وسلم أو بالدين، أو نحو ذلك مما قام الدليل على أنه من نواقض الإسلام وموجبات الردة، ويترحمون على أموات المسلمين، ولا يشهدون لأحد منهم بالجنة أو النار إلا من جاء به النص الصحيح. ويؤدون واجب النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم. ¬

(¬1) مسائل الجاهلية (12، 13) . (¬2) الدرر السنية (1) . (¬3) الدرر السنية (1 «) . (¬4) انظر: المبحث السادس من الفصل الثالث التالي.

عقيدتهم في مرتكبي الكبيرة

قال الشيخ الإمام: «وإني لا أعتقد كفر من كان عند الله مسلما، ولا إسلام من كان عند الله كافرًا» (¬1) . قال الإمام: «ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة أو نار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء» (¬2) . ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: «ونحن نقول فيمن مات - يعني من المسلمين - تلك أمة قد خلت» (¬3) . [عقيدتهم في مرتكبي الكبيرة] قولهم في مرتكب الكبيرة وهم في مسألة مرتكب الكبيرة يلتزمون الدليل (القرآن وما صح من السنة) ومنهج السلف الصالح. ويعتقدون أن التكفير من الأحكام الشرعية التي مردها إلى الكتاب والسنة فلا يرون تكفير مسلم بقول أو فعل، ما لم يدل دليل شرعي على ذلك، ولا يلزم عندهم من إطلاق حكم الكفر على قول أو فعل ثبوت موجبه في حق المعين، إلا إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع. والتكفير من أخطر الأحكام فيوجبون التثبت والحذر من تكفير المسلم. إذ يرون أن الكفر الوارد ذكره في الألفاظ الشرعية قسمان: أكبر مخرج من الملة، وأصغر غير مخرج من الملة، ويسمى أحيانًا بالكفر العملي، أو كفر دون كفر. وعليه فإنهم يعتقدون أن مرتكب الكبير التي دون الكفر والشرك لا يخرج من الإيمان، فهو في الدنيا مؤمن ناقص الإيمان، وفي الآخرة تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، والموحدون كلهم مصيرهم إلى الجنة وإن عذّب منهم بالنار من عذب، ولا يخلد أحد منهم فيها قط. وما اتهموا به من التكفير ونحوه فهو من البهتان والجهل من خصومهم بحقيقة منهجهم. وقد أفردت لهذه الفرية بحثًا مستقلًا فليراجع (¬4) . ¬

(¬1) الرد على الرافضة (20) . (¬2) الدرر السنية (1 «) . (¬3) الدرر السنية (1» ) . (¬4) انظر: المبحث الخامس من الفصل الثالث التالي.

عقيدتهم في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

يقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف حسن: «ونؤمن بآيات الوعيد، والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نقول بتخليد أحد من المسلمين من أهل الكبائر في النار، كما تقول الخوارج والمعتزلة لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة في أنه يخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وإخراجهم من النار، بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيمن يشفع له من أهل الكبائر من أمته، وشفاعة غيره من الملائكة والأنبياء، ولا نقف في الأحكام المطلقة، بل نعلم أن الله يدخل النار من يدخلها من أهل الكبائر، وآخرون لا يدخلونها لأسباب تمنع من دخولها، كالحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ونحوها» (¬1) . [عقيدتهم في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] عقيدتهم في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يرون الجهاد من فرائض الدين، وأنه قائم وماض إلى قيام الساعة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» (¬2) كما يرون الجهاد مع ولاة الأمر أبرارًا كانوا أو فجارًا كما سبق بيانه. قال الإمام: «والجهاد ماض منذ بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل» (¬3) . ويقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: «ونرى الجهاد مع كل إمام برًا كان أو فاجراً، منذ بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال» (¬4) . وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعائر الدين وواجباته عندهم كما جاءت به النصوص. قال الإمام: «وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه ¬

(¬1) الدرر السنية (1، 573) . (¬2) سبق تخريجه. (¬3) الدرر السنية (1 «- 33) . (¬4) الدرر السنية (1» - 33) .

قولهم في الاجتهاد والتقليد

الشريعة المحمدية الطاهرة» (¬1) . وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف: «ونرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على كل قادر بحسب قدرته واستطاعته بيده، فإن تعذر فبلسانه، فإن تعذر فبقلبه، كما في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» (¬2) (¬3) . [قولهم في الاجتهاد والتقليد] قولهم في الاجتهاد والتقليد ومنهجهم في مسألة الاجتهاد والتقليد لا تخرج عما كان عليه علماء السلف كالأئمة الأربعة وغيرهم، فيرون الاجتهاد سائغ بشروطه، والتقليد لمن لم يقدر على الاجتهاد، وأن الحق مع الدليل ولا معصوم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم. يقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: «ونحن أيضا في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم، لعدم ضبط مذاهب الغير الرافضة، والزيدية، والإمامية، ونحوهم، ولا نقرهم ظاهرًا على شيء من مذاهبهم الفاسدة، بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة. ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد لدينا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب، أو سنة غير منسوخ، ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة، أخذنا به وتركنا المذهب، كإرث الجد والإخوة، فإنا نقدم الجد بالإرث، وإن خالف مذهب الحنابلة (¬4) . ولا نفتش على أحد في مذهبه، ولا نعترض عليه، إلا إذا اطلعنا على نص جلي، مخالفًا لمذهب أحد الأئمة، وكانت المسألة مما يحصل بها شعار ظاهر، كإمام الصلاة، فنأمر ¬

(¬1) الدرر السنية (1) . (¬2) رواه مسلم (78) ، والترمذي (2172) ، والنسائي (47) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬3) الدرر السنية (1) . (¬4) الدرر السنية (1) .

موقفهم من البدع وأهلها

الحنفي، والمالكية مثلا بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال، والجلوس بين السجدتين، لوضوح دليل ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة، فلا نأمره بالإسرار، وشتان ما بين المسألتين، فإذا قوي الدليل أرشدناهم بالنص، وإن خالف المذهب، وذلك يكون نادرًا جدا ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض، فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد، وقد سبق جمع من أئمة المذاهب الأربعة، إلى اختيارات لهم في بعض المسائل، مخالفين للمذهب، الملتزمين تقليد صاحبه» (¬1) . وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب في ذلك: «وأما ما ذكرتم من حقيقة الاجتهاد، فنحن مقلدون الكتاب والسنة، وصالح سلف الأمة، وما عليه الاعتماد، من أقوال الأئمة الأربعة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى» (¬2) . ويقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: «وأما مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، في الفروع، والأحكام، ولا ندعي الاجتهاد، وإذا بانت لنا سنة صحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها، ولا نقدم عليها قول أحد، كائنًا من كان، بل نتلقاها بالقبول والتسليم؛ لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدورنا أجل وأعظم من أن نقدم عليها قول أحد، فهذا الذي نعتقده وندين الله به، فمن نسب عنا خلاف ذلك، أو تقول علينا ما لم نقل، فعليه لعنة الله، والملائكة والناس أجمعين» (¬3) . [موقفهم من البدع وأهلها] موقفهم من البدع وأهلها ويرون أن «كل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة» (¬4) كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يجب رد البدعة والإنكار على أهلها، وهجر من يصر عليها. ¬

(¬1) الدرر السنية (1 - 228) . (¬2) الدرر السنية (1) . (¬3) الدرر السنية (1) . (¬4) ثبت ذلك في الحديث وقد تقدم تخريجه.

قال الإمام: «وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر وأكل سرائرهم إلى الله، وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة» (¬1) . وقال في رسالته إلى علماء الإسلام: «وجب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك البدع وإن اشتهرت بين أكثر العوام وليعلم أن العوام محتاجون إلى كلام أهل العلم في تحقيق هذه المسائل» (¬2) . وقد كان من أهم بواعث قيام الدعوة محاربة البدع بكل أنواعها وأشكالها وتخليص قلوب المسلمين وعباداتهم وأعمالهم من أوضار البدع التي حرفتهم عن حقيقة الدين وفرقتهم إلى فرق وطرق ومذاهب ومناهج متعادية وأوقعت بينهم العداوة والبغضاء، وكثير منهم في الشركيات والكبائر حتى سارت مظاهر البدعة والشركيات في كثير من بلاد المسلمين. وبعد: فهذه عقيدة الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، وهذا منهجهم في الدين، الذي هو بحذافيره منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة ومن سلك سبيلهم ولم يبتدع ولم يبدل. وبهذا تسقط مزاعم المفترين حين يعيرونهم بالوهابية، وحين يزعمون أنهم مذهب خامس، أو خوارج، أو نحو ذلك من البهتان. ¬

(¬1) الدرر السنية (1) . (¬2) الرسائل الشخصية (180) .

الفصل الثالث أهم المزاعم والاتهامات التي أثارها الخصوم ضد الدعوة وإمامها

[الفصل الثالث أهم المزاعم والاتهامات التي أثارها الخصوم ضد الدعوة وإمامها] [المبحث الأول تمهيد] [حقيقة الصراع بين الدعوة وخصومها] الفصل الثالث أهم المزاعم والاتهامات التي أثارها الخصوم ضد الدعوة وإمامها المبحث الأول تمهيد حقيقة الصراع بين الدعوة وبين خصومها: إن خصوم هذه الدعوة الإصلاحية المباركة إنما كانوا دائمًا (في كل زمان، وكل مكان) وفي كل أمة هم خصوم الأنبياء والدعاة والمصلحين، وهم خصوم السنة وأهلها، وخصوم السلف الصالح، من أهل الأهواء، والبدع والافتراق والجهل والحسد، كما قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112] [سورة الأنعام، آية: 112] ، وكذلك الحال مع ورثة الأنبياء وهم العلماء الدعاة المصلحون. إن الصراع بين الدعوة وبين خصومها لم يكن في حقيقته صراعًا سياسيًا ولا ماديا، ولا صراعًا على المصالح الدنيوية أيا كان نوعها (وإن كانت هذه الأمور من أسبابه) . إنما كان صراعًا عقديًا بالدرجة الأولى، ومظاهر الصراع السياسي وغيره جاءت تباعا؛ لأن الدعوة أعلنت نشر التوحيد والسنة، ومحاربة الشركيات والبدع السائدة وأعلنت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود، وتحقيق العدل ورفع الظلم، والعمل بشرع الله في أمور الحياة وسعت إلى نشر العلم، ومحاربة الجهل والدجل والسحر والفساد. فقد انطلقت الدعوة من قاعدة {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] [سورة النحل، آية: 36] ، وهذا يتصادم مع عقائد أهل البدع والأهواء والافتراق، والمنتفعين من شيوع البدع والجهل والتخلف. هذه هي الحقيقة ولا شك. وكل رسائل الدعوة وكتبها وأعمالها وتعاملاتها تدور على هذا الأصل: العودة للإسلام والسنة، كما هي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح، نقية صافية من شوائب الشركيات والبدع والأهواء والجهالات والطرق والفرق. وهذا منبع الخلاف ومنشأ الصراع. نعم، لقد واجهت هذه الدعوة المباركة إمامها وعلماؤها وقادتها ودولتها، وأتباعها وأنصارها ومؤيدوها حيثما كانوا - ولا تزال تواجه - أصنافًا من الخصوم، وأنواعًا من التحديات والمفتريات والدعايات المضادة والخصومات. فهي - كأي دعوة وحركة إصلاحية جادة - قد اصطدمت بقوى وتحديات وعقبات كبرى ومكائد عظيمة، وخصوم أقوياء، وأعداء أشداء من ديانات وفرق ومذاهب، ودول

عدم التكافؤ المادي بين الدعوة وخصومها

وجماعات، وعلماء ورؤساء وأمراء، بل وغوغاء وجهلة. ومع ذلك كله كانت هذه الدعوة - حين قامت على الحق والعدل - تنتصر وتنتشر، فقد قاوم إمامها وعلماؤها وأتباعها وأمراؤها كل هذه التحديات، بقوة الإيمان واليقين والعلم والحلم، والصبر والثبات. وإن الواقع ليشهد أن هذه الدعوة - رغم التحديات الكبيرة - كانت تظهر وتعلو وتؤتي ثمارها الطيبة حتى في فترات ضعف السلطة، بل وفي البلاد التي لا توجد فيها لها سلطان ولا قوة حين لا تملك إلا قوة الحجة، وما ذلك إلا لأنها تمثل الإسلام الحق الذي كتب الله له البقاء والظهور إلى قيام الساعة، ولأنها تملك عوامل البقاء والثبات ومقومات القوة والنصر، ولأنها تستمد القوة من نصرها لدين الله دين الحق والعدل، ومن وعد الله تعالى لكل من نصر هذا الدين كما قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] [سورة الحج، آية: 40] . ولأنها كانت تخاطب العقول السليمة والفطرة المستقيمة، والقلوب الواعية المتجردة من الهوى. [عدم التكافؤ المادي بين الدعوة وخصومها] عدم التكافؤ المادي بين الدعوة وبين خصومها إن انتصار الدعوة وانتشارها وقيام دولتها مهيبة شامخة مع عدم التكافؤ بين إمكاناتها وإمكانات خصومها دليل كافٍ على ما تحمله من الحق والعدل. لقد تهيأ لخصوم الدعوة والمعارضين لها من الإمكانات والوسائل والقوى، والإغراءات والأسباب المادية، للهجوم على الدعوة ما لا تملك الدعوة منه إلا اليسير سوى القوة المعنوية، لا سيما في أول عهدها. فكان الخصوم يستعدون دولة كبرى وهي الدولة التركية التي ساندت المناوئين للدعوة في أول الأمر ثم تحولت إلى خصم لدود للدعوة في نهاية المطاف، وأعلنت الخصومة المذهبية والعقدية والسياسية، والحرب العسكرية على الدعوة وأهلها؛ لأن الدولة التركية في آخر عهدها تبنت البدع ودانت بالتصوف والقبورية، وهذا التوجه لا شك أنه معاكس لمنهج الدعوة الإصلاحية التي تقوم على تصحيح العقيدة والعبادة وتحارب التصوف والقبورية.

وكذلك أمراء الحجاز وهم خصومٌ أَلِدَّاء للدعوة وأتباعها كانوا يملكون من الوسائل ما لا تملكه الدعوة في أول عهدها. وكانت دعايتهم المضادة للدعوة تنطلق من مكة التي يؤمها المسلمون من كل مكان. ومن وراء أولئك وهؤلاء شيوخ الفرق والطرق وأتباعها، وأصحاب المطامع والشهوات والأهواء، وأعداء الإسلام من الكافرين والمنافقين، الذي يرهبونه، ويكيدون للدين وأهله، الذين قال الله فيهم وهو سبحانه العليم الخبير {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] [سورة آل عمران، الآية: 118] . فالدولة التركية، وأمراء الأقاليم المجاورة وأصحاب الطرق والفرق، وأعداء الإسلام كانوا كلهم يملكون من القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية، ووسائل النشر والإعلام الشيء الكثير، في حين أن الدعوة ودولتها لا تملك من ذلك إلا القليل (كما أسلفت) . فمن مكة (مثلا) في عهد الأشراف والأتراك كانت تنطلق الشائعات الكاذبة، والمفتريات شفاهًا وبالكتب والرسائل وغيرها ضد الدعوة، إلى كل مكان وبسرعة مذهلة، ثم كانت وسائل الإعلام تنشر هذه المفتريات وكأنها حقائق في كل بقاع الدنيا، وكون هذه الشائعات والمفتريات تصدُر من مكة والمدينة، ومن أشراف، وتؤيدها السلطة التركية، هذه الأمور كافية عند عامة المسلمين البسطاء؛ لأن تُصَدَّق دون مناقشة. ووسائل الإعلام والنشر خارج العالم الإسلامي كثيرًا ما تعتمد ذلك دون تثبُّت ولا روَّية. بل كان أمراء الحجاز وأمراء الأحساء ومن شاكلهم حريصين على كل ما يقضي على الدعوة ودولتها الفتية الناشئة في مهدها بما في ذلك استعمال القوة العسكرية، والحرب الإعلامية، واستثارة عواطف الجهلة والغوغاء، وأصحاب المطامع، والمحجوبين عن الحقائق من العلماء والمفكرين وغيرهم. يقول الدكتور عبد الله الصالح العثيمين تحت عنوان: «موقف القوى المحيطة بنجد من الدولة السعودية الأولى» : «كان متوقعًا أن تهتم جهات متعددة بالتطورات

السريعة التي حدثت في نجد إثر ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقيام الدولة السعودية على أساسها، وكان أهم تلك الجهات أشراف مكة وزعماء بني خالد، وكان زعماء بني خالد أكثر التصاقًا بالأحداث الجارية في نجد؛ لأنهم أقرب جغرافيًا إلى مركز تلك الأحداث من أشراف مكة، ولأن نفوذهم في إقليم العارض الذي انطلق منه دعوة الشيخ محمد كان أقوى من نفوذ أولئك الأشراف؛ بل كان النفوذ الوحيد الموجود حينذاك» . «لقد اتخذ أشراف مكة موقفًا عدائيًا من دعوة الشيخ محمد والدولة السعودية على حدٍّ سواء منذ البداية. فقد سجن أحد أولئك الأشراف الحجاج التابعين للدولة السعودية سنة (1162هـ) (¬1) . وأصدر قاضي الشرع في تلك البلدة المقدسة فتوى بتكفير الشيخ محمد وأتباعه (¬2) . ولذلك مُنِعوا من أداء الحج سنوات طويلة (¬3) . وكم كانت فرحة الشيخ عظيمة عندما تلقى رسالة من الشريف أحمد بن سعيد عام (1185هـ) ، طالبًا منه بعث عالم نجدي لشرح الدعوة التي نادى بها. وقد أرسل إليه الشيخ تلميذه عبد العزيز الحُصيِّن. وبعث معه رسالة تنبئ عبارتها بما كان يختلج في نفسه من مشاعر طيّبة تجاه ذلك الشريف، وما كان يملأ جوانحه من آمال في مناصرته لدعوة الحق. قال الشيخ: «بسم الله الرحمن الرحيم. المعروض لديك، أدام الله فضل نِعَمه عليك، حضرة الشريف أحمد بن الشريف سعيد - أعزَّه الله في الدارين، وأعزَّ به دين جدِّه سيِّد الثقلين - أن الكتاب لما وصل إلى الخادم وتأمَّل ما فيه من الكلام الحسن رفع يديه بالدعاء إلى الله بتأييد الشريف لما كان قصده نصر الشريعة المحمدية ومن تبعها، وعداوة من خرج عنها. وهذا هو ¬

(¬1) ابن بشر، ج1، ص (37) (العثيمين) . (¬2) أحمد بن زيني دحلان، خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام، القاهرة، 1305هـ، ص (227 - 228) (العثيمين) . (¬3) وهذا مما يعكس الفرية التي زعمها خصوم الدعوة باتهام الإمام محمد وأتباعه بالتكفير والقتال، فإن خصوم الدعوة هم الذين كفروا إمامها وأتباعه ومنعوهم من حقهم المشروع في أداء فريضة الحج ونشر الدعوة، بل وبدؤهم بالعدوان والقتال والتحريض.

الواجب على ولاة الأمور ... فلا بدَّ من الإيمان به - أي بالنبي صلى الله عليه وسلم - ولا بد من نصرته لا يكفي أحدهما عن الآخر. وأحقُّ الناس بذلك وأولاهم أهل البيت الذين بعثه الله منهم، وشرَّفهم على أهل الأرض. وأحقُّ أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم» (¬1) . على أن هذه الرسالة اللطيفة لم تُجن منها الثمار المرجوَّة. ذلك أن الشريف أحمد نفسه لم يبق في الحكم أكثر من سنة (¬2) . فتلاشى ما دار في ذهن الشيخ من أمل، واستمر منع أنصاره من أداء الحج. ومع مرور الأيام لم يكتف أشراف مكة بذلك المنع؛ بل بدءوا بمهاجمة الأراضي النجدية التابعة للدولة السعودية عام (1205هـ م) (¬3) . وكانت النتيجة أن انتصر السعوديون في نهاية المطاف على أولئك الأشراف حتى دخلت الحجاز تحت حكمهم (¬4) . ولم يكن موقف زعماء بني خالد من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والدولة السعودية أقلَّ عداوة من موقف أشراف مكة» (¬5) . إن الدعوة لم تكن تملك (في مراحلها الأولى) من وسائل الإغراء ما يملكه خصومها من المال والجاه والمنافع المادية، وبهارج الدنيا وزينتها ما يرغب الناس فيها، ويجذب النفعيين والغوغاء، وأصحاب المطامع إليها، لكنها بالمقابل كانت تملك الجاذبية الفطرية، جاذبية الإيمان والتوحيد، والحق والبرهان والعقل السليم، والدين القويم. وتلكم والله مقومات السعادة الحقيقية التي تنشدها البشرية، والتي من تذوقها تشبث بها، وبذل أغلى ما يملك فداءً لها. وهذه الجاذبية الساحرة هي السر الذي جعل من تأثر بهذه الدعوة (بالإسلام الحق) يتميز بالقوة والثبات والتضحية في سبيل الله. ¬

(¬1) ابن غنَّام، ج2 ص (80 - 81) (العثيمين) . (¬2) السباعي، ج2، ص (85) (العثيمين) . (¬3) دحلان، ص (261) ؛ ابن غنَّام، ج2، ص (144 - 150) ؛ ابن بشر، ج1، ص (108 - 109) (العثيمين) . (¬4) لمعرفة تفصيلات الغزوات المتبادلة بين الطرفين يمكن الرجوع إلى عبد الله العثيمين، تاريخ المملكة. . .، ج1، ص (126 - 135) (العثيمين) . (¬5) العلاقات بين الدولة السعودية الأولى والكويت للدكتور/ عبد الله الصالح العثيمين، ص (55 - 57) ، ط2، 1411هـ (مع الهوامش) .

حقيقة المفتريات والاتهامات ضد الدعوة

ولعل هذا هو السبب في أن بعض المبتدئين والأعراب وقليلي الفقه يكون عندهم شيء من الاندفاع والحماس غير المنضبطين حين لا يلتزم صاحبه بالحكمة والفقه في الدين والرجوع إلى أهل الذكر والعلم والتجربة. [حقيقة المفتريات والاتهامات ضد الدعوة] حقيقة المفتريات والتهم ضد الدعوة: إن إحساس خصوم الدعوة بقوتها وسرعة تأثيرها، وعمق أثرها، واستجابة الناس لها، وما تملكه من الدليل والبرهان جعلهم يبادرون إلى مقاومتها والصد عنها بكل الوسائل. وكان أقوى سلاح رموها به استعداء الآخرين عليها من القريبين والبعيدين، واستباحة الكذب والبهتان والتلبيس في نشر الدعاية ضدها. كما أن المفتريات التي أثيرت حول الدعوة وإمامها وعلمائها ودعاتها ودولتها وأتباعها لا تصمد أمام التمحيص والموضوعية والبحث العلمي المتجرد. فهي تراكمات من الشائعات والأكاذيب والمفتريات والبهتان الذي لا يصبر عليه الموافق، ولا يقره المنصف، ولا يثبت أمام الدليل وينفيه الواقع فهو إما من الكذب والافتراء، والشتم واللمز. - أو من اللوازم التي لا تلزم. - أو من الحق الذي ألبس بالباطل. - أو من زلات بعض المنتسبين للدعوة أو المنسوبين لها بغير حق. - أو من الحكم على الضمائر والقلوب مما لا يعلمه إلا علاَّم الغيوب – سبحانه وتعالى -. وسأبين شيئًا من ذلك في البحث التالي:

المبحث الثاني أبرز المفتريات والتهم التي رميت بها الدعوة إجمالا

[المبحث الثاني أبرز المفتريات والتهم التي رميت بها الدعوة إجمالاً] [وصفهم بالوهابية] المبحث الثاني أبرز المفتريات والتهم التي رميت بها الدعوة وأتباعها إجمالًا (¬1) 1 - وصفهم بالوهابية: إن وصف خصوم الدعوة لها ولإمامها وأتباعها بالأوصاف المشينة والألقاب الشنيعة، وإلصاق التهم والمفتريات، والهمز واللمز والسّخرية منهم ومن أقوالهم وأعمالهم. كل ذلك من الظلم والباطل وهو راجع إلى اختلال الموازين، وخلل المناهج لدى المخالفين والناقدين، فأكثر ما ذموهم به، أو أطلقوه عليهم من الأوصاف إن لم يكن من الكذب والبهتان وهو الغالب فهو من التلبيس والتضليل أو المبالغات، أو الجهل بالحق وأدلته. فقد عيّروهم بالوهابيين لإيهام الناس بأنهم جاءوا بمذهب جديد مبتدع. [رميهم بالتجسيم] 2 - رميهم بالتجسيم: ووصفوهم بأنهم (مجسمة) لأنهم يثبتون الصفات لله تعالى كما جاءت في نصوص القرآن والسنة وكما أثبتها السلف الصالح، وهذا هو الحق لكن المخالفين صوروه بصورة الباطل لهؤلاء الخصوم على منهج الجهمية في التعطيل والتأويل، الذين يسمون الإثبات تجسيما. [بهتانهم بالتنقص من حق النبي صلى الله عليه وسلم] 3 - بهتانهم بتنقص النبي صلى الله عليه وسلم وبغض الأولياء: وبهتوهم بتنقص النبي صلى الله عليه وسلم وبغضه، أو بغض الأولياء حين أنكروا بدع الموالد وإطراء النبي صلى الله عليه وسلم، وحين أزالوا بدع القبور، ونهوا عن دعاء غير الله تعالى والحلف بغير الله ونحو ذلك، مما هو في حقيقة الأمر تعظيم لقدر النبي صلى الله عليه وسلم وامتثال لسنته، وتكريم للأولياء والصالحين. [اتهامهم بالتشدد] 4 - اتهامهم بالتشدد: ورموهم بالتزمت والتشدد حين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وأقاموا شعائر الدين؛ لأن أهل الأهواء لا يريدون أن تنكر عليهم منكراتهم وبدعهم أو يُصَدُّون عن شهواتهم. ¬

(¬1) نوقشت بعض هذه المفتريات والمزاعم وغيرها في الفصل الثاني من هذا البحث. انظر: فهرس الموضوعات.

اتهامهم بالتكفير والقتال

[اتهامهم بالتكفير والقتال] 5 - اتهامهم بالتكفير واستحلال القتال: ولما ظلموهم وقاتلوهم؛ هبوا للدفاع عن أنفسهم ودينهم ودولتهم وحقوقهم، إلى أن صار لهم كيان وقامت لهم دولة تنشر السنة، وتحارب الشركيات والبدع، وتنصر المسلمين وتقيم العدل، وتحكم بالشرع، بعد ذلك، اتهمهم خصومهم بالقتال والتكفير والتشدد ونحو ذلك من الأوصاف التي هي إلى المدح والتزكية أقرب منها إلى الذم والتجريح؛ لأنهم حين قاتلوا ابتداء قاتلوا دفاعًا عن أنفسهم وعن دعوة الحق حتى صارت لهم دولة وكيان يحمون به حقوقهم ودينهم ومصالحهم. وحين تمسكوا بالدين وأخذوا بالسنة فهذا أمر ممدوح وإن سماه خصومهم والجاهلون تشدداً. فالعبرة بالمضامين والحقائق لا بالألفاظ التي يتلاعب بها الشياطين. [دعوى معارضة علماء المسلمين لهم] 6 - دعوى معارضة علماء المسلمين وعقلائهم لها: ومما يثار على الدعوة من قبل خصومها والجاهلين بحقيقتها، أن بعض العلماء والصالحين، وبعض العقلاء الأقربين قد عارضوها، مع أن بعضهم كان قد وافق الإمام في أول دعوته، ثم عارضه أو تخلى عنه. فأقول: أولًا ليس شرطًا في صحة الدعوة وسلامتها موافقة كل العلماء والأمراء والعقلاء والصالحين. فقد تصرفهم عنها الصوارف التي تعتري البشر، من الأهواء والحسد، والخوف، والشهوات، والشبهات، والتلبيس، والاجتهاد الخاطئ، وغيرها من الصوارف. وثانيا: أن كثيرين من العلماء والصالحين والوجهاء والأمراء كانوا قد وافقوا الشيخ والإمام في أول دعوته، لكنها لما وصلت إلى مرحلة الصدع بالحق، ورفع الظلم والجهل والبدع والحزم والقوة، ولما رأوا الجد والتبعات التي تترتب على إعلان الحق والتصدي للباطل، تراجع بعضهم، وضعف آخرون، وتأثرت فئة ثالثة بالدعاية المضادة، واستجابت لضغوط الواقع، وإرجاف أهل الباطل، وسكت آخرون إيثارًا للعافية. وظهرت ردود الأفعال قوية عنيفة فلم يستطع الثبات أمام عواصفها إلا أولو العزم والصبر - وهم قليل - وتلك سنة الله في خلقه.

دعوى مخالفة أكثرية المسلمين وأنهم مذهب خامس

[دعوى مخالفة أكثرية المسلمين وأنهم مذهب خامس] 7 - دعوى مخالفتها لأكثرية المسلمين وأنها مذهب جديد (أو خامس) : وإن من أكثر ما يثار على الدعوة ومنهجها وإمامها دعوى أنها تخالف الأكثرية من المسلمين وأنها مذهب جديد أو خامس. وهذه دعوى لا اعتبار لها في ميزان الشرع والعقل السليم والواقع كما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] [سورة الأنعام، آية: 116] . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا واحدة (¬1) . كما أن اعتبار الأغلبية في الدين خلاف السنن التي قامت عليها دعوة الأنبياء والمصلحين، فالعبرة بسلوك السبيل الحق، المتمثل بالقرآن والسنة ونهج السلف الصالح، والحق والعدل فحسب دون اعتبار لعدد السالكين أو الهالكين. كما أن الناظر في واقع المسلمين في العصور المتأخرة لا يجد للأكثرية مذهبًا معينًا فقد تنازعتهم المذاهب والفرق والبدع والطرق والاتجاهات والشعارات والحزبيات، هذا مع ضرورة الاحتفاظ بقاعدة: «أن الحق ما وافق السنة والسلف الصالح وإن كنت وحدك» وأعني بذلك أنا لو افترضنا - جدلًا - أن المسلمين اجتمع أكثرهم على مذهب يخالف السنة، فلا عبرة بذلك شرعا. وقد اعتمد إمام الدعوة مذهب الإمام أحمد بن حنبل رابع الأئمة الأربعة الذين ارتضتهم الأمة، ولم يأت بمذهب جديد كما زعموا. [دعوى تحريم التبرك والتوسل والشفاعة مطلقا] 8 - دعوى منع التبرك والتوسل والشفاعة مطلقا: لما نهى علماء الدعوة من التوسلات البدعية، والتبرك البدعي، وكذلك الشركيات والبدع التي يسميها أهل الأهواء شفاعة، رموهم بأنهم يحرمون التوسل والتبرك والشفاعة مطلقا. وهذا كذب وبهتان. وقد بينت في موطن آخر من هذا البحث أن السلف الصالح أهل السنة والجماعة ومنهم أتباع هذه الدعوة يثبتون التبرك المشروع، والتوسل المشروع، والشفاعة الثابتة بمقتضى النصوص، ويدينون الله بذلك اعتقادًا وعملا. لكنهم يحاربون البدع والشركيات في ذلك كله. ¬

(¬1) الحديث سبق تخريجه.

المبحث الثالث لماذا هذه المفتريات والاتهامات

[المبحث الثالث لماذا هذه المفتريات والاتهامات] [الحسد والخوف على السلطان والمصالح] المبحث الثالث * لماذا هذه المفتريات والتهم؟ عند التحقيق في دعاوى المناوئين وشائعات الخصوم، وغيرهم نجد أن الناس الذي ينقلون هذه الشائعات ويتداولونها ليس لديهم مستندًا علميًا على ما يشيعون أو يفترون، بل غالبًا إنما ينقل بعضهم عن بعض، ويتداولون المقولات، ويزيدون عليها، فحين تظهر فرية تطير بها الشياطين في الآفاق حتى تتشعب وتزداد إلى أن تصبح من الأساطير والملاحم الكبرى التي قد تصل إلى كتب ومصنفات مصدرها الخيالات والأوهام والشائعات واللوازم التي لا أصل لها. والله حسبنا ونعم الوكيل. ومن أهم أسباب ذلك: 1 - الحسد والخوف على السلطان والمصالح: ومما تجدر الإشارة إليه أن من أعظم ما استثار خصوم الدعوة سواء كانت خصومتهم مذهبية - وهو الغالب - وأعني بهم أهل الأهواء والبدع والافتراق - أو كانت خصومتهم دنيوية بسبب الحسد، أو الخوف على المصالح، أو من كانت خصومتهم سياسية، كل هؤلاء وغيرهم ممن عارضوا الدعوة ووقفوا ضدها، أو كرهوا ظهورها وانتشارها - إنما أزعجهم واستثارهم أن يكون للدعوة دولة وسلطان وإمارة وكيان سياسي، لا سيما وأن أول من احتضنها وهو الإمام محمد بن سعود وأحفاده كانت تتوفر فيهم صفات الزعامة والقيادة والسيادة، فكان ابن سعود يمتاز عن كثيرين ممن حوله بالدين والخلق والعدل والحنكة والحلم والصبر، وسداد الرأي، وسلامة المعتقد مما أكسبه السمعة الحسنة والذكر الطيب، وكثيرون من عقلاء الناس وساستهم يعرفون أن هذه هي مؤهلات التمكين والظهور بعد توفيق الله. ولا شك أن هذه المؤهلات القيادية أثارت غيرة الزعامات المجاورة وغير المجاورة وحسدهم، وخوفهم على مراكزهم ومصالحهم، فكانوا في طليعة المناوئين للدعوة وإمامها وأميرها ودولتها. وفي مقدمة هذا الصنف: المناوءون الأوائل الذين وقفوا ضد الحركة الإصلاحية وأثاروا العالم حول إمامها الشيخ محمد بن عبد الوهاب. فإنهم حين رأوا الحزم والجد من قبل الشيخ في نشر دعوة التوحيد وإزالة البدع والمنكرات وإقامة الحدود، شرعوا في استعداء الناس عليه ليس في نجد فحسب، بل قام

اختلاف المناهج والمشارب

بعضهم بالمكاتبات والرسائل للعلماء والزعماء في سائر العالم الإسلامي، ولسلاطين الدولة العثمانية والأشراف. وقام آخرون بالرحلات إلى مواطن البدع واستنهض همم أهلها، واستعداهم على الدعوة وإمامها وأتباعها. ولعل من أكبر أسباب الدعاية المضادة للدعوة الإصلاحية السلفية، إزالتها للبدع الظاهرة والمنكرات المتفشية، فكلما وصلت إلى بلد أزالت القباب والمشاهد على القبور وهدمت الأضرحة التي يتجاوز بناؤها السنة وأزالت الأحجار والأشجار والمزارات البدعية، وأقامت الحدود، وقضت على المنكرات الظاهرة، وعلى كل مظاهر الدجل والسحر والشعوذة وأكل أموال الناس بالباطل وسائر المظالم. وهذا مما لا شك فيه أنه سيثير حفيظة أهل الباطل والمنكر والبدع، ويوقع في نفوسهم الهلع، وتنقطع به منافعهم ومصالحهم، ومنافع كثير من المرتزقين بالبدع والمنكرات والدجل من زعماء وشيوخ وسدنة ومزورين وعاملين وغيرهم كثير من الخاصة والعامة. وهذا من أكبر عوامل الإثارة ضد الدعوة وضد السنة إلى اليوم؛ لأنها تقضي على مظاهر الارتزاق بالشركيات والبدع والمنكرات وسائر أسباب الكسب الحرام، والجاه المشبوه، وتكشف ألاعيب الدجالين والمتاجرين بالدين. [اختلاف المناهج والمشارب] 2 - اختلاف المناهج والمشارب: ومما يحسن التنبيه له - وهو مهم جدا - في إعطاء التصور العلمي الحقيقي في مسألة النزاع بين الدعوة وخصومها وما يثيرونه حولها من شبهات ومزاعم وانتقادات. ألا وهو اختلاف المناهج والمشارب، المتمثل بالاختلاف العقدي والمنهجي بين السنة وأهلها وبين البدعة وأهلها، فالإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه وكل من نهج نهج السنة والجماعة وطريق السلف الصالح يقررون السنة وينصرونها، ويجانبون البدع ويحاربونها. فالحق الذي يقولونه - وهو بيِّن - وأدلتهم من القرآن والسنة - وهي جليّة - غير معتمدة وغير مقبولة أصلًا عند أهل البدع؛ لأنهم تقوم مناهجهم ومصادرهم وأدلتهم واستدلالاتهم على غير منهج الحق، بل تقوم مصادرهم على التلفيق، ومناهجهم على التحريف، واستدلالاتهم على

كشف العوار

التلبيس واتباع المتشابه كما قال الله سبحانه عنهم: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] [سورة آل عمران، آية: 7] . وعليه فلا نتوقع أن يكون الحق الذي يقول به أهل السنة عند أهل البدع مقبولا. ولا نتوقع أن يكون النهج الذي عليه أهل السنة عند أهل البدع مرضيا. إلا من وفقه الله للتجرد للحق، (فليس كل أهل البدع يتعمدون الباطل لكنهم قد يجهلون الحق) . أو من كان عليه الأمر ملتبسًا وهو يريد الحق أصلا، فقد يرجع للحق إذا انكشف له الأمر. أو من كان ضحية التضليل ودعاية السوء فتكشف له الحقيقة بعد البيان. أو من كان محايدًا يميل إلى العدل والإنصاف فينظر في دعاوى الطرفين. حتى يتبين له وجه الحق. إذًا فليس من شرط تحقيق الحق تسليم الخصم وإقراره به. ولكن معذرة إلى ربكم ولعلهم يرجعون. [كشف العوار] [دعوة إلى الإنصاف والموضوعية] 3 - كشف العوار: مما لا شك فيه أنه بظهور الحق ينكشف الباطل، وبطلوع الشمس تنجلي ظلمات الليل، وبشيوع العلم يرتفع الجهل، وبإحياء السنن تموت البدع. وهذا ما حصل فعلًا عندما قامت هذه الدعوة الإصلاحية المباركة، فقد كشفت عوار أهل البدع والأهواء والافتراق، وأظهرت جهلهم وزيفهم، حين قامت على الدليل - القرآن والسنة - واعتمدت منهج السلف الصالح، ونشرت العلم والسنة، وحاربت الشركيات والبدع والخرافة والجهل، ولذلك تداعوا عليها من كل مكان وأجلبوا عليها بخيلهم ورجلهم ولا يزالون، لكنها لا تزال ولن تزال - بحول الله وقوته - ظاهرة بالحق منصورة تحقيقًا لوعد الله تعالى وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة في أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» (¬1) . ¬

(¬1) تقدم تخريجه.

* دعوة إلى الإنصاف والموضوعية: وإنا لندعو أولئك الذين يروجون هذه الاتهامات والدعاوى، والذين ينصرونها إلى التروي والإنصاف والموضوعية، ومن القواعد والأسس العلمية والموضوعية، والقواعد الجلية التي ندعو إليها كل من يريد أن يحاكم هذه الدعوة وأهلها أو يقومها ويسددها، أو ينظر في حقيقة مقالات خصومها فيها ودعاواهم حولها إلى: 1 - رد ما اختلف فيه خصوم الدعوة من المسلمين معها ومع أهلها إلى القاعدة المجمع عليها عند المسلمين وهي قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] [سورة النساء، آية: 59] أي إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالمنهج العلمي المعتبر عند مجتهدي الأمة، وهذا هو المنهج الذي سلكه إمام الدعوة وعلماؤها، فكانوا يعتمدون الدليل من القرآن والسنة وآثار سلف الأمة وأقوال علمائها كما سأبينه في مناقشة دعاوى الخصوم تفصيلا. 2 - أن يكون الحكم عليها من خلال منهجها المعلن، قولًا وعملًا واعتقادا. من خلال منهج أئمتها وعلمائها ومؤلفاتهم ورسائلهم، وأقوالهم ومعاملاتهم التي عليها جملتهم. 3 - أن لا يحكم عليها من أقوال خصومها دون تثبت؛ لأن الدعوة لها كيان وواقع ماثل للعيان في علمائها وأتباعها ودولتها ومجتمعها، وآثارها العلمية والعملية، مما يستدعى وجوب التثبت مما ينسبه إليها الآخرون من أقوال وأفعال ومواقف، فإن أكثره عند التحقيق لا يثبت، وما ثبت له وجه من الحق والعُذر. 4 - يجب أن تكون النظرة في الحكم على الدعوة شاملة من جميع الزوايا والجوانب في الاعتقاد والقول والعمل والتعامل. لا من زاوية واحدة، ولا من تصرفات وأعمال ومواقف شاذة أو فردية، أو زلات عارضة، فإن العبرة بالأصول والمنهج، لا بالمفردات والجزئيات. 5 - أن لا يحكم عليها بلوازم الأقوال والأفعال إلا حين تلتزمها، أو يثبت أن ذلك من منهجها بدليل قاطع. 6 - يجب النظر في دفاعها عن الحق الذي تعلنه، فقد دافعت الدعوة عن مبادئها؛ إمامها ودولتها وعلماؤها وأتباعها ومؤيدوها، والمنصفون من العلماء وغيرهم، كلهم تصدوا للدفاع بالدليل والحجة والبرهان. 7 - كما أن شهادات الآخرين لها بشتى أصنافهم - من المسلمين أو غيرهم - معتبرة وهي كثيرة

ومتنوعة من المسلمين وغير المسلمين، ومن مختلف الطوائف والشعوب، من علماء ومفكرين وأدباء وسياسيين ونحوهم. 8 - ثم إنه ليس كل خلاف بين المتنازعين كأهل الدعوة وخصومهم - أو غيرهم - يكون معتبرًا ويعتد به شرعًا وعقلا. إنما العبرة بالموازين والقواعد الشرعية المستمدة من الأدلة الشرعية، (الوحي المعصوم) ، وبالبراهين العقلية المتفق عليها عند العقلاء. وهذا لا يمكن أن يكون عند المسلمين إلا بالرجوع إلى الكتاب وصحيح السنة على نهج السلف الصالح في التلقي والاستدلال، وفي العلم والعمل. 9 - يجب على الناقد والناظر في حقيقة هذه الدعوة أن يضع بعين الاعتبار أنها واجهت في الأمة أمراضًا مزمنة، ومعضلات كبرى، وأدواء مستعصية تحتاج في إصلاحها إلى دعوة قوية، وهمم عالية، ومنهج شامل، وتغير جذري (هو تجديد السنة وإحياء ما أهمل منها، وحرب البدع ومظاهرها) . إن الدعوة واجهت قوى بدعية كبرى استشرت في جسم الأمة كالتصوف، والرفض، والتجهم، والمقابرية، والفرق المفترفة، والفلسفات، والشعوبية، والقبلية، والتقاليد والأعراف الموضوعة، والأطماع والشهوات والشبهات، والإعراض عن الدين، فمن هنا كانت ردود الأفعال والتحديات والمفتريات كبيرة كذلك. 10 - كما ينبغي للباحث المنصف أن يضع في اعتباره كذلك، أن الدعوة تعرضت لمظالم كبرى. أولها الكذب والبهتان، والاستعداء الظالم، والإعلام المرجف، ثم المحاصرة الدينية والاقتصادية والسياسية من قبل الخصوم المجاورين والبعيدين. إلى أن وصل الحال إلى منع اتباعها من الحج ومنعهم بالقوة من إبلاغ الدعوة وإظهار شعائر الدين والتوحيد وقتل دعاتهم وحبسهم وطردهم، بل وصل الأمر إلى تجييش الجيوش لقتالهم في دارهم وبلادهم الأولى (نجد) . 11 - أن أكثر ما رميت به الدعوة من خصومها والجاهلين بحقيقها من المفتريات، هي عند التحقيق العلمي المتجرد بريئة منه. وحين نجد أنها بريئة منه؛ بالمقابل نجد أن هؤلاء الخصوم الذين بهتوها هم الواقعون بما افتروه على الدعوة، فهم كما يقال في المثل (رمتني بدائها وانسلت) . فالتكفير والتشدد والقتال، وتنقص حق الرسول صلى الله عليه وسلم وإهانة الأولياء، والنصب والرفض، والتجسيم، والعدوان والظلم، والكذب والبهتان، والاستعداء والتضليل،

وقفة تأمل ومراجعة

وكل ذلك حاصل من أهل البدع والأهواء والافتراق من خصوم الدعوة - ضدها بمختلف طوائفهم وأصنافهم وأزمانهم. 12 - أن في منهج إمام الدعوة وسيرته العلمية والعملية، وما كتبه وعمله هو وأتباعه من العلماء والحكام والمؤيدين، والمنصفين، في الدعوة وأصولها وآثارها، وفي الدين - ما يبطل دعاوى الخصوم ويفنِّد شبهاتهم، ويكشف حقيقة مفترياتهم، وزيف دعاواهم. ومما يؤكد هذه الحقيقة أن المتأمل لمفتريات الخصوم يجد أنها مع توافر كتب الدعوة ورسائلها لا تستند إلى دليل، ولا نقل موثق، ولا إسناد صحيح. وغاية ما عند الخصوم: قيل وقالوا، ويقال. وبالمقابل نجد كل دعوى وافتراء وبهتان قيلت عن الدعوة وإمامها وأهلها - قد ردها الإمام نفسه، وعلماء الدعوة وأنصارها، والمنصفون من غيرهم. وكتبهم ورسائلهم وحواراتهم ومواقفهم كلها مسطورة منشورة، وكذلك مؤلفات المنصفين والمحايدين ومقالاتهم كثيرة موفورة، وما قد يوجد من نقول الخصوم عن علماء الدعوة - وهو قليل - فلا يسلم من عوارض الخطأ والانحراف في الاستدلال من البتر، والتلبيس، والخلل في النقل أو في الحكم، أو النزاع فيما لا يوافق عليه المنازع، أو اتهام النيات، أو الإلزام بما لا يلزم. ونحو ذلك مما تنطوي عليه مناهج المخالفين من أهل الأهواء والبدع من الخلل والانحراف. [وقفة تأمل ومراجعة] وقفة تأمل ومراجعة: ومع ذلك فيجب أن نعترف أنه من الطبيعي أن تحدث من بعض المنتسبين للدعوة بعض الأخطاء والتجاوزات والزلات - كما ذكرت أكثر من مرة - التي لا تسلم منها أعمال البشر - وليس معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم (والكمال لله وحده سبحانه) لكن هذه الأخطاء ليست هي المنهج الذي تسير عليه الدعوة لأنها تنطلق في الإسلام نفسه، وتسير على السنة، والإسلام والسنة هما دين الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ومعلوم أن كل أمة، وكل مبدأ، وكل نظام إنما يكون الحكم له أو عليه من خلال أصوله وقواعده ومناهجه ونظمه وجملة الواقع الذي يعيشه أتباعه، لا بما يند عن ذلك من أقوال أو أفعال أو أحكام تخرج عن الأصل.

المبحث الرابع نماذج من المفتريات والاتهامات

[المبحث الرابع نماذج من المفتريات والاتهامات] [الأنموذج الأول والتعليق عليه] المبحث الرابع نماذج من المفتريات والاتهامات الأنموذج الأول وجوابه: ويمثل أخطر رسالة وأهمها في أول الدعوة في استعداء العالم الإسلامي على الدعوة وصاحبها وأتباعه. وهي رسالة سليمان بن محمد بن سحيم وهي بمثابة البرقية العاجلة الموجهه إلى سائر العلماء في العالم الإسلامي: «من الفقير إلى الله تعالى، سليمان بن محمد بن سحيم، إلى من يصل إليه من علماء المسلمين وخُدّام شريعة سيِّدِ ولَدِ آدم من الأولين والآخِرين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فالذي يحيط به علمُكم أنه قد خرج في قطرنا رجل مبتدعٌ جاهل، مُضِلٌّ ضال، من بضاعة العلم والتقوى عاطل (¬1) ؛ جرت منه أمور فظيعة، وأحوال شنيعة، منها شيء شاع وذاع، وملأ الأسماع، وشيء لم يتعدّ أماكننا بعد (¬2) . فأحببنا نشر ذلك لعلماء المسلمين وورثَة سيِّد المرسَلين ليصيدوا هذا المبتدِع صيْدَ أحرار الصُّقور لصغار بُغَاث الطيور، ويردُّوا بِدَعَهَ وضلالته، وجهله وهفواته (¬3) . والقصد من ذلك: القيام لله ورسوله، ونصرة الدين؛ جعلنا الله وإياكم من الذين يتعاونون على البر والتقوى. فمن بدعه وضلالته: أنه عمد إلى شهداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الكائنين في الجُبَيْلَة: زيد بن الخطاب وأصحابه، وهدم قبورهم وبعثرها، لأجل أنهم من حجارة ولا يقدرون أن يحفروا لهم، فطووا على أضرحتهم قدْرَ ذراع ليمنعوا الرائحة والسباع، والدافع لهم خالد، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬4) . ¬

(¬1) لقد ثبت من سيرة الشيخ الإمام وأحواله أنه: متبع للسنة لا مبتدع. وأنه عالم لا جاهل، وأنه مهتد وداع للهدى لا ضال ولا مضل. وأنه صاحب علم وتقوى. (¬2) تأمل ألفاظ التهويل والتشنيع والاستعداء والتضليل وما ذاك إلا لأن الشيخ دعا للتوحيد وترك البدع وأقام الحدود ونهى عن المنكرات، وأفتى بالدليل على غير المألوف. (¬3) لاحظ أسلوب الاستعداء مرة أخرى. (¬4) الإمام إنما عمد إلى هدم القباب والأبنية على القبور، وما رفع منها أكثر مما جاءت السنة، امتثالًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسوية كل قبر مشرف (مرتفع) .

وعمد أيضًا إلى مسجد في ذلك وهدمه، وليس داعٍ شرعي في ذلك إلا اتباع الهوى (¬1) . ومنها: أنه أحرق «دلائل الخيرات» لأجل قول صاحبها: سيدنا ومولانا وأحرق أيضًا «روض الرياحين» وقال: هذا روض الشياطين (¬2) . ومنها: أنه صحّ عنه أن يقول: لو أقدر على حجرة الرسول هدمتُها، ولو أقدر على البيت الشريف أخذت ميزابه، وجعلت بدله ميزاب خشب (¬3) . أما سمع وجه قوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] . ومنها: أنه ثبت أنه يقول: الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء. وتصديق ذلك أنه بعث إليَّ كتابا يقول فيه: أقرُّوا أنكم قبلي جُهَّال ضُلال (¬4) . ومن أعظمها: أنّ من لم يوافقه في كل ما قال ويشهد أن ذلك حقٌّ، يَقْطْع بكفره، ومن وافقه وصدّقه في كل ما قال - قال: أنت موحِّد، ولو كان فاسقًا محضا، أو ماكسًا (¬5) . ¬

(¬1) بل كان ذلك المسجد مسجد ضرار تقام فيه البدع وتمارس حوله المنكرات وأنواع الدجل والابتزاز لأموال المساكين، فلا يعقل أن إمام السنة في زمانه يعمد إلى هدم المسجد فهو إنما أزال البدع، وإن هدمه فلا يكون ذلك بدون سبب مشروع لأنه ليس بجاهل ولا ظالم ولا مبتدع. وقد هدم النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار. (¬2) هذه الأمور كلها نفاها الشيخ بنفسه ولم تثبت عليه، وسيأتي تفنيدها إن شاء الله، فهي من جملة البهتان والأكاذيب. (¬3) هذه الأمور كلها نفاها الشيخ بنفسه ولم تثبت عليه، وسيأتي تفنيدها إن شاء الله، فهي من جملة البهتان والأكاذيب. (¬4) هذه الأمور كلها نفاها الشيخ بنفسه ولم تثبت عليه، وسيأتي تفنيدها إن شاء الله، فهي من جملة البهتان والأكاذيب. (¬5) هذه الأمور كلها نفاها الشيخ بنفسه ولم تثبت عليه، وسيأتي تفنيدها إن شاء الله، فهي من جملة البهتان والأكاذيب.

وبهذا ظهر أنه يدعو إلى توحيد نفسه لا إلى توحيد الله (¬1) . ومنها: أنه بعث إلى بلداننا كتابًا مع بعض دُعاته بخطِّ يده، وحلف فيه بالله أن علمه هذا لم يعرفه مشايخه الذين ينتسب إلى أخذ العلم منهم - في زعمه، وإلا فليس له مشايخ - ولا عرفه أبوه، ولا أهل «العارض» . فيا عجبًا إذا لم يتعلمه من المشايخ ولا عرفه أبوه ولا أهل قُطْره، فمن أين علمه؟ وعن من أخذه؟ هل أوحى إليه؟ أو رآه مناما؟ أو أعلمه به الشيطان؟ وحلفه هذا أشرف عليه جميع أهل العارض (¬2) . ومنها: أنه يقطع بتكفير ابن الفارض وابن عربي (¬3) . ومنها: أنه قاطع بكفر سادةٍ عندنا من آل الرسول، لأجل أنهم يأخذون النذور، ومن لم يشهد بكفرهم فهو كافر عنده (¬4) . ومنها: أنه ثبت عنه لمّا قيل له: اختلافُ الأئمة رحمة؛ قال: اختلافهم نقمة (¬5) . ومنها: أنه يقطع بفساد الوقف، ويكذِّب المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم وقفوا (¬6) . ومنها: إبطال الجعالة على الحج (¬7) . ومنها: أنه ترك تمجيد السلطان في الخطبة، وقال: السلطان فاسق لا يجوز تمجيده (¬8) . ومنها: أنه قال: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وليلتها هي بدعة وضلالة تَهْوِي بصاحبها إلى النار (¬9) . ¬

(¬1) هذه فرية صلعاء فإن أشهر ما دعا إليه الشيخ إخلاص التوحيد والعبادة لله وحده، وهذه قضيته الكبرى بإجماع الناس، وهي أبرز ما ينقم عليه خصومه من المدافعين عن الشركيات والبدع ووسائلها وأهلها، فكيف يقال إنه يدعو إلى توحيد نفسه. (¬2) هذا من التدليس والتلبيس فإن الشيخ لم يدَّع ذلك، إنما بين حال المقلدين، الذي أخذوا دينهم عن الأباء والأجداد دون بصيرة، وبعض العلماء الذين عارضوا دعوة التوحيد، وبعضهم لم يفهم أو لم يفقه معنى لا إله إلا الله فجعل دعاء غير الله ونحو ذلك من التوسل المشروع. (¬3) هذه الدعوى نفاها الشيخ بنفسه في رسائله. (¬4) هذا من الكذب فلم يثبت. (¬5) هذا أيضًا من الكذب. (¬6) ليس على إطلاقه، فالشيخ إنما أنكر بعض صور الوقف التي فيها ظلم وجنف. (¬7) لم يثبت ذلك عنه. (¬8) لم يثبت عنه ذلك. بل كان في رسائله يدعو للأمراء التابعين للسلطان كما فعل في رسالته لأشراف مكة. (¬9) الشيخ يرى ويعلن مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأنها من الحقوق الواجبة على كل مسلم لكنه ينكر ما يفعله أهل البدع من الأذكار والهيئات المبتدعة في ذلك.

جواب الإمام وابنه عبد الله على هذه المفتريات ونحوها

ومنها: أنه يقول: الذي يأخذه القضاة قديمًا وحديثًا - إذا قضوا بالحق بين الخصمين، ولم يكن بيت مال لهم ولا نفقة - إن ذلك رشوة (¬1) . هذا القول بخلاف المنصوص عن جميع الأمَّة: أن الرشوة ما أُخِذ لإبطال حقٍّ أو لإحقاق باطل، وأن للقاضي أن يقول للخصمين: لا أقضي بينكما إلا بجُعْل. ومنها: أنه يقطع بكفر الذي يذبح الذبيحة ويسمِّي عليها ويجعلها لله تعالى، ويدخل مع ذلك دفع شر الجن، ويقول: ذلك كفر واللحم حرام، فالذي ذكره العلماء في ذلك أنه مَنْهِيٌّ عنه فقط وذكره في حاشية «المنتهى» (¬2) . فبيِّنوا رحمكم الله للعوامِّ المساكين الذي لبَّس عليهم، وأبطل عليهم الاعتقاد الصحيح، فإن رأيتم أن ذلك صواب فبيِّنُوه لنا ونرجع إلى قوله (¬3) «وإن رأيتموه خطأ فادعوه وازجروه (¬4) وبينوا للناس خطأه، فقد افتتن بسببه ناس كثير من أهل قُطْرنا، فتداركوا - رحمكم الله - الأمر قبل أن يرسخ في النفوس، فإن الجواب متعيِّنٌ على من وقف عليه ممن له معرفة بحكم الله ورسوله؛ لأن ذلك إظهار للحق عند خفائه، وإدحاض للباطل» (¬5) . [جواب الإمام وابنه عبد الله على هذه المفتريات ونحوها] جواب الإمام وابنه عبد الله على هذه المفتريات ونحوها: ومما يكشف حقيقة هذا الرجل «ابن سحيم» وأمثاله هذه الرسالة القيمة التي بعثها الشيخ الإمام إليه ناصحًا وعاتبًا وموبخًا له وكاشفًا لحاله وما كان عليه من التناقض والاضطراب والكيد للدعوة وإمامها. ومما قال فيها: «فإن كان هذا قدر فهمك، فهذا من أفسد الأفهام، وإن كنت ¬

(¬1) ليس هذا قول الشيخ فيما أعلم والمسألة خلافية أيضًا. (¬2) نعم ما ذكره عن الإمام حق وهو الصواب بمقتضى الأدلة وما كان عليه السلف الصالح وقد بين ذلك بالأدلة. كما سيأتي قريبًا. (¬3) هذا كلام حق لو أنه التزمه. (¬4) هذا استعداء وتحريض. (¬5) تاريخ نجد لابن غنام (2 - 91) تحقيق ناصر الدين الأسد.

تلبس به على الجهال، فلا أنت برابح» (¬1) . ثم قال مشفقًا على أولئك الجهال الذي يلبس عليهم ابن سحيم: «يعتقدون أنكم علماء، ونداريكم نود أن الله يهديكم ويهديهم، وأنت إلى الآن أنت وأبوك، لا تفهمون شهادة أن لا إله إلا الله» . «ونكشف لك هذا كشفًا بيناً، لعلك تتوب إلى الله، وتدخل في دين الإسلام، إن هداك الله» (¬2) . ثم قال: «وكشف ذلك بوجوه: الوجه الأول: أنكم تقرون، أن الذي يأتيكم من عندنا هو الحق، وأنت تشهد به ليلًا ونهارا، وإن جحدت هذا، شهد عليك الرجال والنساء. ثم [مع] هذه الشهادة «أن هذا دين الله» أنت وأبوك: مجتهدان، وتبهتون وترمون المؤمنين بالبهتان العظيم، وتصورون على الناس الأكاذيب الكبار، فكيف تشهد أن هذا دين الله، ثم تتبين (¬3) في عداوة من تبعه؟! الوجه الثاني: أنك تقول إني أعرف التوحيد، وتقر أن من جعل الصالحين وسائط، فهو كافر، والناس يشهدون عليك أنك تروح للمولد (¬4) وتقرؤه لهم، وتحضرهم وهم ينخون (¬5) ويندبون مشايخهم، ويطلبون منهم الغوث والمدد، وتأكل اللقم من الطعام المعد لذلك، فإذا كنت تقر: أن هذا كفر، فكيف تروح لهم، وتعاونهم عليه، وتحضر كفرهم؟! . الوجه الثالث: أن تعليقهم التمائم، من الشرك (¬6) بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذكر ¬

(¬1) الدرر السنية (10) . (¬2) الدرر السنية (10) . (¬3) أي تتصدى وتشتهر. (¬4) المولد بدعة. (¬5) أي يستنجدون ويَسْتغيثون. (¬6) يقصد ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «من تعلق تميمة فقد أشرك» . رواه الإمام أحمد (4) من حديث عقبة بن عامر، ورواته ثقات. راجع: فتح المجيد ص (102) .

تعليق التمائم صاحب الإقناع، في أول الجنائز، وأنت تكتب الحجب، وتأخذ عليها شرطًا حتى أنك تكتب لامرأة حجابًا لعلها تحبل، وشرطت لك أحمرين، وطالبتها تريد الأحمرين، فكيف تقول: إني أعرف التوحيد؟ وأنت تفعل هذه الأفاعيل؟ وإن أنكرت، فالناس يشهدون عليك بهذا. الوجه الرابع: أنك تكتب في حجبك طلاسم، وقد ذكر في الإقناع أنها من السحر، والسحر يكفر صاحبه، فكيف تفهم التوحيد، وأنت تكتب الطلاسم؟ وإن جحدت فهذا خط يدك موجود. الوجه الخامس: أن الناس فيما مضى، عبدوا الطواغيت، عبادة ملأت الأرض، بهذا الذي تقر أنه من الشرك، ينخونهم ويندبونهم، ويجعلونها وسائط، وأنت وأبوك تقولان نعرف هذا، ولكن ما سألونا، فإذا كنتما تعرفانه، كيف يحل لكما أن تتركا الناس يكفرون؟ ما تنصحانهم ولو ما سألوكما. الوجه السادس: أنّا لما أنكرنا عبادة غير الله، بالغتم في عداوة هذا الأمر وإنكاره، وزعمتم أنه مذهب خامس، وأنه باطل، وإن أنكرتم فالناس يشهدون عليكم بذلك، وأنتم مجاهرون به، فكيف تقولون هذا كفر، ولكن ما سألونا عنه؟ فإذا قام من يبين للناس التوحيد، قلتم إنه مغير الدين، وآت بمذهب خامس، فإذا كنت تعرف التوحيد، وتقر أن كلامي هذا حق، فكيف تجعله تغييرًا لدين الله؟ وتشكونا عند أهل الحرمين؟» (¬1) . ثم أجاب الشيخ كذلك عن شبهات سليمان بن سحيم ومزاعمه في رسالة أخرى بعثها إلى عبد الله بن سحيم قال فيها: «من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن سحيم وبعد: ألفينا مكتوبك وما ذكرت فيه من ذكرك وما بلغك، ولا يخفاك أن المسائل التي ذكرت أنها بلغتكم في كتاب من العارض جملتها أربع وعشرون مسألة بعضها حق وبعضها بهتان وكذب. وقبل الكلام فيها لا بد من تقديم أصل: وذلك أن أهل العلم إذا اختلفوا، والجهّال إذا تنازعوا ومثلي ومثلكم إذا اختلفنا في مسألة هل الواجب اتباع أمر الله ورسوله وأهل العلم؟ أو ¬

(¬1) الدرر السنية (10 - 33) .

الواجب اتباع عادة الزمان التي أدركنا الناس عليها، ولو خالفت ما ذكره العلماء في جميع كتبهم، وإنما ذكرت هذا ولو كان واضحًا لأن بعض المسائل التي ذكرت أنا قلتها لكن هي موافقة لما ذكره العلماء في كتبهم، الحنابلة وغيرهم. ولكن هي مخالفة لعادة الناس التي نشأوا عليها فأنكرها عليّ لأجل مخالفة العادة وإلا فقد رأوا تلك في كتبهم عيانا، وأقروا بها وشهدوا أن كلامي هو الحق لكن أصابهم ما أصاب الذين قال الله فيهم {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] [سورة البقرة، آية: 89] . وهذا هو ما نحن فيه بعينه، فإن الذي راسلكم هو عدو الله ابن سحيم، وقد بينت ذلك له فأقر به، وعندنا كتب يده في رسائل متعددة أن هذا هو الحق، وأقام على ذلك سنين، لكن أنكر آخر الأمر لأسباب أعظمها البغي أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. وذلك أن العامة قالوا له ولأمثاله إذا كان هذا هو الحق فلأي شيء لم تنهونا عن عبادة شمسان وأمثاله، فتعذروا: أنكم ما سألتمونا، قالوا: وإن لم نسألكم كيف نشرك بالله عندكم ولا تنصحونا، وظنوا أن يأتيهم في هذا غضاضة وأن فيه شرفًا لغيره، وأيضًا لما أنكرنا عليهم أكل السحت والرشا (¬1) إلى غير ذلك من الأمور، فقام يدجل عندكم وعند غيركم بالبهتان والله ناصر دينه ولو كره المشركون. وأنت لا تستهون مخالفة العادة على العلماء فضلًا عن العوام، وأنا أضرب لك مثلًا بمسألة واحدة وهي مسألة الاستجمار ثلاثًا فصاعدًا غير عظم ولا روث، وهو كاف مع وجود الماء عند الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو إجماع الأمة لا خلاف في ذلك، ومع هذا لو يفعله أحد لصار هذا عند الناس أمرًا عظيماً، ولنهوا عن الصلاة خلفه، وبدّعوه مع إقرارهم بذلك ولكن لأجل العادة. إذا تبين هذا فالمسائل التي شنع بها منها: ما هو من البهتان الظاهر وهي قوله: إني مبطل كتب المذاهب. وقوله: إني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء. وقوله: إني أدعي الاجتهاد. ¬

(¬1) يعني: الرشوة.

وقوله: إني خارج عن التقليد. وقوله: إني أقول: إن اختلاف العلماء نقمة. وقوله: إني أكفر من توسل بالصالحين. وقوله: إني أكفر البوصيري لقوله يا أكرم الخلق. وقوله إني أقول: لو أقدر على هدم حجرة الرسول لهدمتها ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزابًا من خشب. وقوله: إني أنكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: إني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم. وإني أُكَفِّر من يحلف بغير الله. فهذه اثنتا عشرة مسألة جوابي فيها أن أقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] [سورة النور، آية: 16] ولكن قبله من بهت النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم ويسب الصالحين «تشابهت قلوبهم» وبهتوه بأنه يزعم أن الملائكة، وعيسى، وعزيرًا في النار فأنزل الله في ذلك {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] [سورة الأنبياء، آية: 101] . وأما المسائل الأخرى وهي أني أقول: لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله. ومنها: أني أُعرِّف من يأتيني بمعناها. ومنها: أني أقول الإله هو الذي فيه السر. ومنه: تكفير الناذر إذا أراد به التقرب لغير الله وأخذ النذر كذلك. ومنها: أن الذبح للجن كفر، والذبيحة حرام ولو سمى الله عليها إذا ذبحها للجن. فهذه خمس مسائل كلها حق وأنا قائلها. ونبدأ بالكلام عليها لأنها أمّ المسائل وقبل ذلك أذكر معنى لا إله إلا الله فنقول: التوحيد نوعان توحيد الربوبية وهو: أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير عن الملائكة والأنبياء وغيرهم، وهذا حق لا بد منه؛ ليدخل الرجل في الإسلام؛ لأن أكثر الناس مقرون به قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] [سورة يونس، آية: 31] .

وأن الذي يدخل الرجل في الإسلام هو توحيد الألوهية، وهو: أن لا يعبد إلا الله لا ملكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث وأهل الجاهلية يعبدون أشياء مع الله، فمنهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة فنهاهم عن هذا، وأخبرهم أن الله أرسله ليوحد ولا يدعى أحد من دونه لا الملائكة ولا الأنبياء، فمن تبعه ووحد الله فهو الذي شهد أن لا إله إلا الله، ومن عصاه ودعا عيسى والملائكة واستنصرهم، والتجأ إليهم فهو الذي جحد لا إله إلا الله مع إقراره أنه لا يخلق ولا يزرق إلا الله. وهذه جملة لها بسط طويل، لكن الحاصل أن هذا مجمع عليه بين العلماء، ولما جرى في هذه الأمة ما أخبر به نبيها صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» (¬1) وكان من قبلهم كما ذكر الله عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] [سورة التوبة، آية: 31] ، فصار ناس من الضالين يدعون أناسًا من الصالحين في الشدة والرخاء مثل عبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي، وعدي بن مسافر، وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح، فأنكر عليهم أهل العلم غاية الإنكار، وزجروهم عن ذلك، وحذروهم غاية التحذير والإنذار من جميع المذاهب الأربعة في سائر الأقطار والأمصار فلم يحصل منهم انزجار بل استمروا على ذلك غاية الاستمرار. وأما الصالحون الذين يكرهون ذلك فحاشاهم من ذلك، وبيّن أهل العلم أن أمثال هذا هو الشرك الأكبر، وأنت ذكرت في كتابك تقول: يا أخي ما لنا والله دليل إلا من كلام أهل العلم وأنا أقول: كلام أهل العلم رضى، وأنا أنقله لك وأنبهك عليه فتفكر فيه وقم لله ساعة ناظرًا ومناظرًا مع نفسك ومع غيرك، فإن عرفت أن الصواب معي، وأن دين الإسلام اليوم من أغرب الأشياء أعني دين الإسلام الصرف الذي لا يمزج بالشرك والبدع وأما الإسلام الذي ضده الكفر فلا شك أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم آخر الأمم وعليها تقوم الساعة. فإن فهمت أن كلامي هو الحق فاعمل لنفسك، واعلم أن الأمر عظيم، والخطب ¬

(¬1) رواه البخاري برقم (3456) ، ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. ولفظه عندهما «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع» ، وأما لفظ «حذو القذة بالقذة» فقد أخرجه أحمد في المسند (4) .

جسيم، فإن أشكل عليك شيء فسفرك إلى المغرب في طلبه غير كثير، واعتبر لنفسك حيث قلت لي فيما مضى: إن هذا هو الحق الذي لا شك فيه لكن لا نقدر على تغييره، وتكلمت بكلام حسن، فلما غربلك (¬1) الله بولد المويس ولبَّس عليك، وكتب لأهل الوشم يستهزئ بالتوحيد، ويزعم أنه بدعة، وأنه خرج من خراسان ويسب دين الله ورسوله لم تفطن لجهله وعظم ذنبه وظننت أن كلامي فيه من باب الانتصار للنفس، وكلامي هذا لا يغيرك فإن مرادي أن تفهم أن الخطب جسيم، وأن أكابر أهل العلم يتعلمون هذا ويغلطون فيه فضلًا عنا وعن أمثالنا فلعله إن أشكل عليك تواجهني. هذا إن عرفت أنه حق وإن كنت إذا نقلت لك عبارات العلماء عرفت أني لم أفهم معناها وأن الذي نقلت لك كلامهم أخطئوا، وأنهم خالفهم أحد من أهل العلم فنبهني على الحق وأرجع إليه إن شاء الله تعالى» (¬2) . كما رد الشيخ عبد الله بن الإمام محمد على كثير من هذه المزاعم: قائلا: «وأما ما يكذب علينا: سترًا للحق، وتلبيسًا على الخلق. بأنا نفسر القرآن برأينا، ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا، من دون مراجعة شرح، ولا معول على شيء. وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رمة في قبره، وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مرغوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله، حتى أنزل عليه فاعلم أنه لا إله إلا الله، مع كون الآية مدنية. وأنا لا نعتمد على أقوال العلماء. ونتلف مؤلفات أهل المذاهب، لكون فيها الحق والباطل. وأنا مجسمة. وأنا نكفر الناس على الإطلاق أهل زماننا، ومن بعد الستمائة، إلا من هو على ما نحن عليه. ¬

(¬1) أي: ابتلاك. (¬2) الرسائل الشخصية (62 - 66) .

ومن فروع ذلك: أنا لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرير عليه بأنه كان مشركا، وأن أبويه ماتا على الإشراك بالله. وأنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقا، وأن من دان بما نحن عليه، سقطت عنه جميع التبعات، حتى الديون. وأنا لا نرى حقًا لأهل البيت - رضوان الله عليهم - وأنا نجبرهم على تزويج غير الكفء لهم. وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة، لتنكح شابا، إذا ترافعوا إلينا. فلا وجه لذلك؛ فجميع هذه الخرافات، وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولا، كان جوابنا في كل مسألة من ذلك: سبحانك هذا بهتان عظيم؛ فمن روى عنا شيئًا من ذلك، أو نسبه إلينا، فقد كذب علينا وافترى. ومن شاهد حالنا، وحضر مجالسنا، وتحقق ما عندنا، علم قطعا: أن جميع ذلك وضعه، وافتراه علينا، أعداء الدين، وإخوان الشياطين، تنفيرًا للناس عن الإذعان، بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة، وترك أنواع الشرك، الذي نص الله عليه بأن الله لا يغفره {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] [سورة النساء، آية: 48] فإنا نعتقد: أن من فعل أنواعًا من الكبائر، كقتل المسلم بغير حق، والزنا، والربا، وشرب الخمر، وتكرر منه ذلك: أنه لا يخرج بفعله ذلك عن دائرة الإسلام، ولا يخلد به في دار الانتقام، إذا مات موحدًا بجميع أنواع العبادة. والذي نعتقده: أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق، وأنه حي في قبره، حياة برزخية، أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام المسلم عليه، وتسن زيارته، إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه، وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس، ومن أنفق نفيس أوقاته، بالاشتغال بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم الواردة عنه، فقد فاز بسعادة الدارين، وكفي همه وغمه، كما جاء في الحديث عنه» (¬1) . ¬

(¬1) الدرر السنية (1، 230) .

الأنموذج الثاني والتعليق عليه

[الأنموذج الثاني والتعليق عليه] الأنموذج الثاني: المفتريات التي ساقها صاحب (خلاصة الكلام) والتعليق عليه: وهي تمثل خلاصة الشبهات والتهم والمفتريات على الدعوة وإمامها من قبل خصوم الدعوة خارج نجد (¬1) . يقول صاحب (خلاصة الكلام) في حوادث سنة (1205هـ) وقد كتبها بعد وفاة الإمام محمد بن عبد الوهاب بقرن (¬2) «وفي هذه السنة كان ابتداء الحرب والقتال بين مولانا الشريف غالب وطائفة الوهابية التابعين لمحمد بن عبد الوهاب في عقيدته التي كفَّر بها المسلمين» (¬3) . وينبغي قبل ذكر المحاربة والقتال ذكر ابتداء أمرهم وحقيقة حالهم فإن فتنتهم من أعظم الفتن التي ظهرت في الإسلام طاشت من بلاياها العقول وحار فيها أرباب العقول (¬4) وكان ابتداء ظهور محمد بن عبد الوهاب سنة ألف ومائة وثلاث وأربعين واشتهر أمره بعد الخمسين، فأظهر العقيدة الزائغة (¬5) بنجد وقُراها. فقام بنصرته وإظهار عقيدته محمد بن سعود أمير الدرعية بلاد مسيلمة الكذاب (¬6) فحمل أهلها على متابعة محمد بن عبد الوهاب فيما يقول فتابعه أهلها، وسيأتي ذكر شيء من ¬

(¬1) كل المفتريات والمزاعم التي ذكرها المؤلف هنا عن الإمام محمد بن عبد الوهاب والدعوة وأتباعها تم تفنيدها وبيان زيفها من خلال هذا الكتاب سابقًا أو لاحقا، فليراجع فهرس الموضوعات للاطلاع على مواطن الرد تفصيلًا والتي غالبها من قبل الإمام نفسه وعلماء الدعوة والمنصفين والحمد لله. (¬2) خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام - لأحمد زيني دحلان ط1، ص (227 - 238) . (¬3) هذا من التلبيس والبهتان فإن الشيخ لم يكفر المسلمين، لكنه بيَّن ما قام الدليل على أنه كفر، وقد بيَّن الشيخ وعلماء الدعوة هذه المسألة بيانًا كافيًا. تفصيل ذلك في مسألة التكفير في المبحث التالي. (¬4) نعم عقول أهل الأهواء والبدع والافتراق، أما أهل السنة فقد فرحوا وسعدوا بها. (¬5) كيف توصف عقيدته بالزيغ وهي نفسها سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعقيدة السلف الصالح جملة وتفصيلًا. ونعوذ بالله من الزيغ. (¬6) لا يليق بمن ينتسب للعلم أن يعيِّر مسلمًا بذنب غيره، فمسيلمة كذاب دجال ولا يضر ذلك البلد التي خرج فيها هو وأتباعه وإلا فيقال مكة بلد أبي جهل والمدينة بلد ابن أبي سلول، واليمن بلد الأسود الكذاب. وعمان بلد لقيط الأزدي.

عقيدته التي حمل الناس عليها (¬1) وما زال يطيعه على هذا الأمر كثير من أحياء العرب حي بعد حي حتى قوي أمره فخافته البادية. وكان يقول لهم إنما أدعوكم إلى التوحيد، وترك الشرك بالله، فكانوا يمشون معه حيثما مشى، ويأتمرون له بما شاء حتى اتسع له الملك (¬2) . وكانوا في مبدأ أمورهم قبل اتساع ملكهم وتطاير شرورهم راموا حج البيت الحرام وكان ذلك في دولة الشريف مسعود بن سعيد بن سعد بن زيد فأرسلوا يستأذنونه في الحج (¬3) . وأرسلوا قبل ذلك ثلاثين من علمائهم ظنًا منهم أنهم يفسدون عقائد علماء الحرمين ويدخلون عليهم الكذب والمين (¬4) وطلبوا الإذن في الحج ولو بمقرر يدفعونه (¬5) . وكان أهل الحرمين يسمعون (¬6) بظهورهم في الشرق وفساد عقائدهم ولم يعرفوا حقيقة ذلك، فأمر مولانا الشريف مسعود أن يناظر علماء الحرمين العلماء الذين أرسلوا فناظروهم (¬7) فوجدوهم ضحكة ومسخرة كحمر مستنفرة فرت من قسورة، ونظروا إلى ¬

(¬1) لم يحمل الأمير محمد بن سعود والإمام محمد بن عبد الوهاب الناس على الدين والحق بالإكراه (لا إكراه في الدين) إنما حملوهم على العمل بشرع الله تعالى، وإقامة الدين في الحياة، من إقامة الفرائض والحدود والعدل كما أمر الله تعالى وكما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وسلف الأمة، وإلا لقيل بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته والسلف الصالح حملوا الناس على الدين بالإكراه، حين قاتلوا العرب والفرس والروم، ليكون الدين لله. (¬2) وهذا حق، وفضل ومنقبة. (¬3) وهذا من حقوقهم كسائر المسلمين. (¬4) هذا من التلبيس وقلب الحقائق، كعادة أهل الأهواء، فإن الشيخ وأتباعه يدعون إلى إصلاح عقائد المسلمين، فكانت دعوتهم إلى توحيد الله تعالى بالعبادة وإلى السنة وترك الشركيات والبدع فكيف يسمي هذا إفسادًا وكذبًا ومينًا. (¬5) وهذا إقرار منه بفساد سادته وظلمهم وعدوانهم، وأنهم هم البادءون في إعلان العداوة لدعوة التوحيد وأهلها. وإلا لماذا يلجئون المسلمين إلى دفع مقررٍ (كالجزية) ليؤذن لهم في الحج؟! ومع ذلك لما يأذنوا لهم بحقهم المشروع وهو أداء ركن الإسلام، فأين عقول القوم وأشياعهم؟! . (¬6) فممن سمعوا؟ وماذا سمعوا؟ لقد سمعوا من خصم لدود، ولقد سمعوا - كما هو هنا - كلامًا أكثره من الكذب والبهتان والتلبيس والأوهام والأساطير التي لم تثبت عن التحقيق. (¬7) لم أجد لهذه المناظرة خبَرًا يبينها إلا مجرد إشارات عابرة ولا ندري من هؤلاء؟ ولعلهم من طلاب العلم، أو من الأعراب المتأثرين إن صحت الرواية.

عقائدهم فإذا هي مشتملة على كثير من المكفرات (¬1) فبعد أن أقاموا عليهم البرهان والدليل أمر الشريف مسعود قاضي الشرع أن يكتب حجة بكفرهم الظاهر ليعلم به الأول والآخر وأمر بسجن أولئك الملاحدة الأنذال (¬2) ووضعهم في السلاسل والأغلال فسجن منهم جانبًا وفرَّ الباقون ووصلوا إلى الدرعية وأخبروا بما شاهدوا فعتى أمرهم واستكبر، ونأى عن هذا المقصد وتأخر حتى مضت دولة الشريف مسعود وأقيم بعده أخوه الشريف مساعد بن سعيد فأرسلوا في مدته يستأذنون في الحج فأبى وامتنع من الإذن لهم فضعفت عن الوصول مطامعهم فلما مضت دولة الشريف مساعد وتقلد الأمر أخوه الشريف أحمد بن سعيد أرسل أمير الدرعية جماعة من علمائه كما أرسل في المدة السابقة. فلما اختبرهم علماء مكة وجدوهم لا يتدينون إلا بدين الزنادقة (¬3) فأبى أن يقر لهم في حمى البيت الحرام قرار ولم يأذن لهم في الحج بعد أن ثبت عند العلماء أنهم كفار كما ثبت في دولة الشريف مسعود (¬4) . فلما أن ولي الشريف سرور أرسلوا أيضًا يستأذنونه في زيارة البيت المعمور فأجابهم: بأنكم إن أردتم الوصول آخذ منكم في كل سنة وعام صرمة مثل ما نأخذها من ¬

(¬1) لم يذكر شيئًا من هذه المكفرات ولعلها هدم القباب ونبذ البدع والشركيات وفي كلامه هنا ما يدل على ذلك. (¬2) تأمل أخي القارئ وصف عالم مكة في زمانه لمخالفيه من المسلمين بـ (الملاحدة الأنذال) ثم هل هذه نتيجة سليمة لمن يناظرهم علماء الحرمين، أن تكون نتيجة المناظرة وختامها السجن والسلاسل والأغلال؟ (¬3) من الذي اختبرهم؟ أما دينهم فهو مشهور معروف معلن في كتبهم وفتاواهم وأعمالهم وأقوالهم وواقعهم الذين يعيشونه في كيان ودولة ومجتمع إلى يومنا هذا، وهو دين الإسلام ومنهاج السنة، والعمل بشرع الله. أفيكون هذا دين الزنادقة؟! (¬4) لقد حكم بكفرهم، وأن منعهم من الحج لأنهم كفار. وهذا يقلب على أهل البدع سحرهم ودعواهم أن الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يكفرون الناس وذلك ما لم يثبت إنما ثبت خلافه. انظر: تفصيل ذلك في مسألة التكفير في المبحث التالي. وبرهان ذلك أن الدولة السعودية حاملة لواء الدعوة حينما تمكنت من الحجاز في المرحلة الأولى والأخيرة وإلى الآن لم تمنع المسلمين حتى المخالفين للسنة من الحج والزيارة بل مكنتهم وسهلت لهم كل السبل ووفرت لهم الأمن لكنها قامت بواجبها شرعًا من إزالة مظاهر البدع والشركيات والمنكرات وكل ما لا يليق بالمقدسات. وهذا ما جعل بعض أهل البدع يمتنعون عن الحج ولم تمنعهم الدولة السعودية كما يزعمون.

الأعاجم وآخذ منكم زيادة على ذلك مائة من الخيل الجياد فعظم عليهم تسليم هذا المقدار وأن يكونوا مثل العجم فامتنعوا من الحج في مدته (¬1) كلها فلما توفي وتولى سيدنا الشريف غالب أرسلوا أيضًا يستأذنون في الحج فمنعهم وتهددهم بالركوب عليهم وجعل ذلك القول، فعلًا فجهز عليهم جيشًا في سنة ألف ومائتين وخمسة (¬2) واتصلت بينهم المحاربات والغزوات إلى أن انقضى تنفيذ مراد الله فيما أراد وسيأتي شرح تلك الغزوات والمحاربات بعد توضيح ما كانوا عليه من العقائد الزائغة التي كان تأسيسها من محمد بن عبد الوهاب (¬3) . وقد عاش من العمل سنين حتى كاد أن يعد من المنظرين فإن ولادته كانت سنة ألف ومائة وخمس عشرة، ووفاته سنة ألف ومائتين وسبعة وأرخ بعضهم وفاته بقوله: «بها هلاك الخبيث» (¬4) فعمره اثنتان وتسعون سنة وخلف أولادًا أخبث (¬5) منه قاموا بنشر دعوته بعده وأولاده هم عبد الله وحسن وحسين وعلي وكان عبد الله الأكبر فقام بالدعوة بعد أبيه، وخلف سليمان، وعبد الرحمن، وكان سليمان متعصبًا تعصبًا شديدًا في أمرهم قتله إبراهيم باشا سنة ثلاث وثلاثين، وعبد الرحمن قبض عليه وأرسله إلى مصر فعاش مدة ثم مات بمصر، وأما حسن بن محمد بن عبد الوهاب، فخلف عبد الرحمن وولي قضاء مكة في بعض السنين التي كانوا يحكمون فيها بمكة، وعُمِّر عبد الرحمن هذا حتى قارب المائة ومات قريبًا وخلَّف عبد اللطيف وأما حسين بن محمد بن عبد الوهاب فخلَّف أولادًا كثيرين وكذا علي بن محمد بن عبد الوهاب خلف ¬

(¬1) وما تعليق الشيخ دحلان وأشياعه على ذلك، في أخذهم الجزية على أهل السنة!؟ . (¬2) ولماذا جهز لهم جيشًا لما استأذنوه في الحج وتهددهم؟ وهذا اعتراف بأنهم - خصوم الدعوة - هم البادءون بالقتال، كما سيأتي بيانه في مسألة القتال في المبحث التالي. (¬3) أخي القارئ أدعوك إلى النظر في عقائد الإمام ابن عبد الوهاب وأتباعه، ثم عقائد هذا المدعي وأشياعه أيهما الأحق بوصف الزيغ؟ (¬4) لم يجد برهانًا علي هذا الوصف الشنيع إلا الطلاسم والدجل، والحمد لله الذي أعمى بصره وبصيرته عن الحقيقة وهي أن الإمام إنما توفي سنة 1206 جزمًا وليس 1207، ثم إن هذه المخارق الحسابية لا تثبت الحق ولا يرد بها الباطل، إنما طريق ذلك الكتاب والسنة ولما عجزوا عن رد الدليل الشرعي لجأوا إلى الطلاسم. (¬5) تأمل هذا التعبير فالله حسبنا ونعم الوكيل.

أولادًا كثيرين ولم يزل نسلهم باقيًا إلى الآن بالدرعية يسمونهم أولاد الشيخ. وكان القائم بنصرة محمد بن عبد الوهاب ونشر عقيدته محمد بن سعود، ولما مات قام بعده بالأمر ولده عبد العزيز ثم ولده سعود. وكان محمد بن عبد الوهاب في ابتداء أمره من طلبة العلم وكان يتردد على مكة والمدينة وأخذ عن كثير من علماء مكة والمدينة وممن أخذ عنه من علماء المدينة الشيخ محمد بن سليمان الكردي مؤلف حواشي شرح مختصر بافضل في مذهب الشافعي، وأخذ أيضًا عن الشيخ محمد حياة السندي من أكابر علماء الحنفية بالمدينة. وكان الشيخان المذكوران وغيرهما من أشياخه الذين أخذ عنهم يتفرسون فيه الإلحاد والضلال ويقولون: سيضل هذا ويضل الله به من أبعده وأشقاه فكان الأمر كذلك، وما أخطأت فراستهم فيه (¬1) . وكذا والده عبد الوهاب فإنه كان من العلماء الصالحين فكان يتفرس فيه الإلحاد ويذمه كثيرًا ويحذر الناس منه (¬2) . وكذا أخوه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب فإنه أنكر عليه ما أحدثه من البدع والضلال والعقائد الزائغة وألف كتابًا في الرد عليه (¬3) . وكان في أول أمره مولعًا بمطالعة أخبار من ادعى النبوة كاذبًا كمسيلمة الكذاب وسجاح، والأسود العنسي، وطليحة الأسدي (¬4) وأضرابهم فكان يضمر في نفسه دعوى النبوة ولو أمكنه إظهار هذه الدعوى لأظهرها (¬5) . ¬

(¬1) هذا كله من البهتان، بل الحاصل من شيوخه الإعجاب به والتنويه عن مواهبه ونجابته وصلاحه. وسيرته وحياته شاهده على هذا. (¬2) هذا كله من البهتان فكان أبوه يتفرس فيه النبوغ والنجابة، وكان شديد العناية به لذلك. (¬3) أخوه سليمان استقر أمره على نصر الدعوة ومؤازرة أخيه. (¬4) هذه فرية مكشوفة والواقع يكذبها. (¬5) وهذه أكبر من أختها فما الذي يدريه أو غيره ما يضمره الشيخ وهو أمر لا يعلمه إلا عَلاَّم الغيوب سبحانه.

وكان يسمى جماعته من أهل بلده الأنصار، ويسمى من اتبعه من الخارج المهاجرين (¬1) . وإذا تبعه أحد وكان قد حج حجة الإسلام يقول له حج ثانيًا فإن حجتك الأولى فعلتها وأنت مشرك، فلا تقبل ولا تسقط عنك الفرض. وإذا أراد أحد أن يدخل في دينه يقول له بعد الإتيان بالشهادتين: اشهد على نفسك أنك كنت كافرًا واشهد على والديك أنهما ماتا كافرين واشهد على فلان وفلان، ويسمى له جماعة من أكابر العلماء الماضين أنهم كانوا كفار، فإن شهدوا قبلهم وإلا أمر بقتلهم (¬2) . وكان يصرح بتكفير الأمة من منذ ستمائة سنة، وكان يكفر كل من لا يتبعه وإن كان من اتقى المتقين فيسميهم مشركين ويستحل دماءهم وأموالهم ويثبت الإيمان لمن اتبعه وإن كان من أفسق الفاسقين (¬3) . وكان ينتقص النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا بعبارات مختلفة ويزعم أن قصده المحافظة على التوحيد فمنها أن يقول: إن طارش وهو في لغة أهل الشرق بمعنى الشخص المرسل من قوم إلى آخرين بمعنى أنه صلى الله عليه وسلم حامل كتب مرسلة معه أي غاية أمره أنه كالطارش الذي يرسله الأمير أو غيره من أمر لأناس ليبلغهم إياه ثم ينصرف (¬4) . ومنها أنه كان يقول: نظرت في قصة الحديبية فوجدت بها كذا وكذا كذبه، إلى غير ذلك مما يشبه هذا حتى أن أتباعه كانوا يفعلون ذلك أيضا، ويقولون مثل قوله، بل يقولون أقبح مما يقوله، ويخبرونه بذلك فيظهر الرضا، وربما أنهم تكلموا بذلك بحضرته فيرضى به حتى أن ¬

(¬1) لا أعرف هذا وإن حدث هذا تيمنًا بحال النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته فهو مما لا ينكر في نظري. (¬2) كل هذه المفتريات نفاها الشيخ الإمام عن نفسه. انظر: رسالته السابقة في رده على ابن سحيم وكذلك رسالة ابنه عبد الله السابقة وفي مواضع كثيرة من هذا المؤلف يراجع فهرس الموضوعات. (¬3) كل هذه المفتريات نفاها الشيخ الإمام عن نفسه. انظر: رسالته السابقة في رده على ابن سحيم وكذلك رسالة ابنه عبد الله السابقة وفي مواضع كثيرة من هذا المؤلف يراجع فهرس الموضوعات. (¬4) كل ما ذكره في هذه المفتريات في حق النبي صلى الله عليه وسلم من البهتان، فقد بذل الإمام كل حياته في نصرة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وإظهارها والدعوة إليها والذود عنها. وقد ناقشت هذه الفرية مستقلة وستأتي إن شاء الله.

بعض أتباعه كان يقول عصاي هذه خير من محمد لأنها ينتفع بها في قتل الحية ونحوها، ومحمد قد مات ولم يبق فيه نفع أصلا، وإنما هو طارش مضى (¬1) . قال بعض العلماء: إن ذلك كفر في المذاهب الأربعة بل هو كفر عند جميع أهل الإسلام (¬2) . ومن ذلك أنه كان يكره الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويتأذى بسماعها وينهى عن الإتيان بها ليلة الجمعة، وعن الجهر بها على المنابر ويؤذي من يفعل ذلك ويعاقبه أشد العقاب، حتى أنه قتل رجلًا أعمى كان مؤذنًا صالحًا ذا صوت حسن نهاه عن الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المنارة بعد الأذان فلم ينته وأتى بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقتله فقتل (¬3) . ثم قال: إن الربابة في بيت الخاطئة يعني الزانية أقل إثمًا ممن ينادي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في المنائر، ويلبس على أصحابه وأتباعه بأن ذلك كله محافظة على التوحيد فما أقطع قوله، وما أشنع فعله (¬4) . وأحرق دلائل الخيرات وغيرها من كتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويتستر بقوله: إن ذلك بدعة وأنه يريد المحافظة على التوحيد (¬5) . وكان يمنع أتباعه من مطالعة كثير من كتب الفقه والتفسير والحديث وأحرق كثير منها (¬6) . وأذن لكل من تبعه أن يفسر القرآن بحسب فهمه حتى همج الهمج من أتباعه، فكان ¬

(¬1) هذا من الكذب الظاهر. (¬2) نعم استنقاص النبي صلى الله عليه وسلم كفر والإمام بريء من ذلك، وقد قامت الدعوة على تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته ونشرها، وقد تم تفنيد هذه الفرية سابقًا ولاحقًا في أكثر من موضع في هذا المؤلَّف. (¬3) هذا من البهتان ولا يثبت منه شيء كما أسلفت. (¬4) هذه من البهتان والتلبيس وقد أجاب على هذه المفتريات في رسائله وفندها. (¬5) قد نفى الشيخ الإمام هذه الفرية. مع أن كتاب دلائل الخيرات من كتب البدع والتخليط، فيه الحق وكثير من الباطل. انظر: رسالته السابقة وغيرهما. (¬6) قد نفى الشيخ الإمام هذه الفرية، انظر: رسالته السابقة وغيرها.

كل واحد منهم يفعل ذلك ولو كان لا يحفظ شيئًا من القرآن حتى صار الذي لا يقرأ منهم يقول لمن يقرأ: اقرأ لي شيئًا من القرآن وأنا أفسره لك فإذا قرأ له شيئًا يفسره وأمرهم أن يعملوا بما فهموه منه، وجعل ذلك مقدمًا على كتب العلم ونصوص العلماء (¬1) . وتمسك في تكفير الناس بآيات نزلت في المشركين فحملها على الموحدين وقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في وصف الخوارج أنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين (¬2) وفي رواية أخرى عن ابن عمر عند غير البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أخوف ما أخاف على أمتي رجل متأول للقرآن يضعه في غير موضعه» ، فهذا وما قبله صادق على ابن عبد الوهاب ومن تبعه (¬3) ومما يدعيه محمد بن عبد الوهاب أنه أتى بدين جديد كما يظهر من أقواله وأفعاله وأحواله (¬4) ولهذا لم يقبل من دين نبينا صلى الله عليه وسلم إلا القرآن (¬5) مع أنه إنما قبله ظاهرًا فقط لئلا يعلم الناس حقيقة أمره فينكشفوا عليه بدليل أنه هو وأتباعه إنما يئولونه بحسب ما يوافق أهواءهم لا بحسب ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح وأئمة التفسير فإنه لا يقول بذلك كما أنه لا يقول بما عدا ¬

(¬1) هذا من البهتان، وإن فعل ذلك بعض الجاهلين فالإمام محمد بن عبد الوهاب لا يقر منه مثل هذا بل ينهى عنه. (¬2) رواه البخاري (12 فتح) معلقًا باب: قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، وقال الحافظ ابن حجر: «وصله الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار من طريق بكير بن الأشج، ثم قال وسنده صحيح» . (¬3) هذا من الكذب والبهتان فالشيخ وأتباعه بريئون من مذهب الخوارج وأصولهم هي أصول السلف الصالح أهل السنة والجماعة. انظر: تفاصيل ذلك في المبحث التالي والذي يليه. (¬4) بل أقواله وأفعاله وأحواله تؤكد أنه أحيا ما اندرس من سنن الهدى، وحارب البدع والمحدثات وسار على منهاج النبوة وسبيل السلف الصالح. (¬5) هذا من الكذب الصريح فإن الإمام يعمل بالقرآن والسنة ويدعو إلى ذلك وكتبه ورسائله شاهدة بذلك، والمؤلف هنا إما أنه لم يطلع عليها أو أنه يتعمد الكذب، وكل ذلك غير لائق بمن يدعي العلم بل غير لائق بمسلم ولا بعاقل يحترم نفسه.

القرآن من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقاويل الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين ولا بما استنبطه الأئمة من القرآن والحديث ولا يأخذ بالإجماع ولا القياس الصحيح (¬1) . وكان يدعي الانتساب إلى مذهب الإمام أحمد - رضي الله عنه - كذبًا وتسترًا وزورا، والإمام أحمد بريء منه، ولذلك انتدب كثير من علماء الحنابلة المعاصرين له للرد عليه، وألفوا في الرد عليه رسائل كثيرة حتى أخوه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب ألف رسالة في الرد عليه وأعجب من ذلك أنه كان يكتب إلى عماله الذين هم من أجهل الجاهلين اجتهدوا بحسب فهمكم ونظركم، واحكموا بما ترونه مناسبًا لهذا الدين ولا تلتفتوا لهذه الكتب فإن فيها الحق والباطل (¬2) . وقتل كثيرًا من العلماء والصالحين وعوام المسلمين لكونهم لم يوافقوه على ما ابتدعه (¬3) وكان يقسم الزكاة على ما يأمره به شيطانه وهواه (¬4) . وكان أصحابه لا ينتحلون مذهبًا من المذاهب بل يجتهدون كما كان يأمرهم ويتسترون ظاهرًا بمذهب الإمام أحمد - رضي الله عنه - ويلبسون بذلك على العامة (¬5) وكان ينهى عن الدعاء بعد الصلاة ويقول: إن ذلك بدعة وإنكم تطلبون أجرًا على الصلاة (¬6) . وأمر القائم بدينه عبد العزيز بن سعود أن يخاطب المشرق والمغرب برسالة يدعوهم إلى التوحيد وأنهم عنده مشركون شركًا أكبر يستبيح به الدم والمال (¬7) فكان ضابط الحق عنده ¬

(¬1) كل هذه مزاعم باطلة تردها أحوال الإمام وكتبه ورسائله وهي موجودة وشاهدة بخلاف ما افتراه المؤلف وقد بينت هذه المسألة في أكثر من موضع في هذا الكتاب. (¬2) هذا من الكذب على الشيخ الإمام وقد نفى هذه المفتريات كما أسلفت. (¬3) هذا كذلك من الكذب ولا يثبت بأي طريق من طرق الإثبات والواقع يشهد بخلافه. (¬4) بل كان يصرف الزكاة في مصارفها الشرعية. (¬5) هذه كذبة مكشوفة فالناس كلهم يسمونهم الحنابلة، واتباعهم للإمام أحمد في ما وافق الدليل معلوم ظاهر في أقوالهم وأعمالهم ومصنفاتهم وفتاواهم. (¬6) هذا تلبيس فالإمام كغيره من علماء السلف يقرون الدعاء المشروع بعد الصلاة وغيرها وينكرون الأذكار المبتدعة وهو ما ينهى عنه وأتباعه. (¬7) رسالة الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود موجودة مطبوعة ليس فيها ما ذكره هنا من إطلاق الشرك الأكبر على الأعيان ولا عامة أهل المشرق والمغرب لما يزعم المؤلف.

ما وافق هواه وإن خالف النصوص الشرعية وإجماع الأئمة، وضابط الباطل عنده ما لم يوافق هواه وإن كان على نص جلي أجمعت عليه الأمة (¬1) . وكان يقول في كثير من أقوال الأئمة الأربعة ليست بشيء (¬2) وتارة يتستر ويقول إن الأئمة على حق، ويقدح في أتباعهم من العلماء الذين ألفوا في المذاهب الأربعة وحرروها، يقول إنهم ضلوا وأضلوا (¬3) . وتارة يقول إن الشريعة واحدة فما لهؤلاء جعلوها مذاهب أربعة هذا كتاب الله وسنة رسوله لا نعمل إلا بهما، ولا نقتدي بقول مصري وشامي وهندي، يعني بذلك أكابر علماء الحنابلة وغيرهم ممن لهم تأليف في الرد عليه واحتجوا في الرد عليه بنصوص الإمام أحمد - رضي الله عنه - (¬4) . وكان يخطب للجمعة في مسجد الدرعية ويقول في كل خطبة ومن توسل بالنبي فقد كفر (¬5) وكان أخوه الشيخ سليمان ينكر عليه إنكارًا شديدًا في كل ما يفعله أو يأمر به، ولم يتبعه في شيء مما ابتدعه، وقال له أخوه سليمان يوما: كم أركان الإسلام يا محمد بن عبد الوهاب فقال: خمسة، فقال: بل أنت جعلتها ستة السادس من لم يتبعك فليس بمسلم هذا ركن سادس عندك للإسلام (¬6) . وقال رجل آخر يومًا لمحمد بن عبد الوهاب: كم يعتق الله كل ليلة في رمضان؟ فقال له: يعتق في كل ليلة مائة ألف وفي آخر ليلة يعتق مثل ما أعتق في الشهر كله، فقال له: لم ¬

(¬1) علم الشيخ الإمام وعمله وكتبه ورسائله تشهد بأن ضابط الحق عنده: ما وافق الدين من القرآن والسنة وآثار السلف الصالح. (¬2) هذا كذب نفاه الإمام نفسه، انظر رسالته السابقة والنقول اللاحقة. (¬3) هذا كذب نفاه الإمام نفسه، انظر رسالته السابقة والنقول اللاحقة. (¬4) هذا كذب نفاه الإمام نفسه، انظر رسالته السابقة والنقول اللاحقة. (¬5) هلا أورد لنا خطبة واحدة تدل على زعمه، فإن خطب الشيخ يوجد منها الكثير مطبوعًا وليس فيها شيء من ذلك، ثم إن التوسل الشركي والبدعي ممنوع بمقتضى النصوص ومذهب السلف الصالح، وليس من عند الشيخ. (¬6) كان أخوه سليمان خالفه أول الأمر فلما استبان له الحق وافق الشيخ وأيَّده. وما ذكر مغالطات لا تلزم.

يبلغ من تبعك عشر عشر ما ذكرت فمن هؤلاء المسلمون الذين يعتقهم الله تعالى وقد حصرت المسلمين فيك وفيمن تبعك فبهت الذي كفر (¬1) . ولما طال النزاع بينه وبين أخيه خاف أخوه أن يأمر بقتله فارتحل إلى المدينة وألف رسالة في الرد عليه وأرسلها له فلم ينته. ثم قال ص (232) من خلاصة الكلام وما بعدها: «ومن قبائحه الشنيعة أنه منع الناس من زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم (¬2) فبعد منعه خرج أناس من الأحساء وزاروا النبي صلى الله عليه وسلم وبلغه خبرهم فلما رجعوا مروا عليه في الدرعية فأمر بحلق لحاهم ثم أركبهم مقلوبين من الدرعية إلى الأحساء (¬3) . وبلغه مرة أن جماعة من الذين لم يتابعوه من الآفاق البعيدة قصدوا الزيارة والحج وعبروا على الدرعية فسمعه بعضهم يقول لمن تبعه خلوا المشركين يسيرون طريق المدينة والمسلمين يعني جماعته يخلفون معنا (¬4) . والحاصل أنه لبَّس على الأغبياء ببعض الأشياء التي توهمهم بإقامة الدين، وذلك مثل أمره للبوادي بإقامة الصلاة والجماعة ومنعهم من النهب، ومن بعض الفواحش الظاهرة كالزنا واللواط، وكتأمين الطرق والدعوة إلى التوحيد، فصار الأغبياء الجاهلون يستحسنون حاله وحال أتباعه (¬5) ويغفلون ويذهبون عن تكفيرهم الناس من منذ ستمائة سنة، وعن استباحتهم أموال الناس ودمائهم، وانتهاكهم حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بارتكابهم أنواع ¬

(¬1) هذه حكاية لا تثبت ولو صحت لما دلت إلا على جهل قائلها؛ لأن الشيخ لا يحصر الإسلام والنجاة بأتباعه، بل باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك هو دينه وعقيدته، وأقواله تدل على ذلك. (¬2) الإمام كسائر أهل السنة يرون مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر قبور المسلمين الزيارة الشرعية لكن لا يرى شد الرحال إليها عملًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد. .» ، والمسألة خلافية والراجح فيها عدم الجواز لأن السلف ما كانوا يفعلونه. (¬3) هذه من الأخبار التي لا تصح. (¬4) هذه من الأخبار التي لا تصح. (¬5) وهذا اعتراف بالحق الذي كانت عليه الدعوة وإمامها، واتهام الناس الذين اتبعوا الحق بالغباوة لا يحتاج إلى تعليق.

التحقير له ولمن أحبه، وغير ذلك من قبائحهم التي ابتدعوها وكفروا الأمة بها» (¬1) . ثم قال: «وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الخوارج في أحاديث كثيرة فكانت تلك الأحاديث من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم حيث كانت من الإخبار بالغيب» . ثم قال: «وفي قوله صلى الله عليه وسلم «سيماهم التحليق» تنصيص على هؤلاء القوم الخارجين من المشرق التابعين لمحمد بن عبد الوهاب فيما ابتدعه؛ لأنهم كان يأمرون من اتبعهم أن يحلق رأسه لا يتركونه يفارق مجلسهم إذا تبعهم حتى يحلقوا رأسه (¬2) ولم يقع مثل ذلك قط من أحد من الفرق الضالة التي مضت قبلهم أن يلتزموا مثل ذلك فالحديث صريح فيهم وكان السيد عبد الرحمن الأهدل مفتي زبيد يقول لا يحتاج التأليف في الرد على ابن عبد الوهاب بل يكفي في الرد عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «سيماهم التحليق» فإنه لم يفعله أحد من المبتدعة، وكان محمد بن عبد الوهاب يأمر أيضًا بحلق رءوس النساء اللاتي يتبعنه فأقامت عليه الحجة مرة امرأة دخلت في دينه، وجددت إسلامها على زعمه، فأمر بحلق رأسها فقالت له: لم تأمر بحلق الرأس للرجال فلو أمرتهم بحلق اللحية لساغ لك أن تأمر بحلق رءوس النساء؛ لأن شعر الرأس للنساء بمنزلة اللحية للرجال فبهت الذي كفر، ولم يجد لها جوابًا لكنه إنما فعل ذلك ليصدق عليه وعلى من اتبعه قوله صلى الله عليه وسلم: «سيماهم التحليق» فإن المتبادر منه حلق الرأس (¬3) فقد صدق صلى الله عليه وسلم فيما قال. وقوله صلى الله عليه وسلم حين أشار إلى المشرق من حيث يطلع قرن الشيطان جاء في رواية قرنا الشيطان بصيغة التثنية قال بعض العلماء: المراد من قرني الشيطان مسيلمة الكذاب ومحمد بن عبد الوهاب (¬4) . ¬

(¬1) سبق بيان ذلك، وسيأتي تفصيله في المباحث التالية. (¬2) هذا من الكذب عليهم. انظر: المبحث السادس من هذا الفصل. (¬3) هذا كله من الكذب والبهتان عليهم. انظر: الهامش السابق. (¬4) من المعلوم أن المقصود بالمشرق وقرن الشيطان: العراق وكذا فسره أكثر أهل العلم. وتفسير أحد قرني الشيطان بأنه محمد بن عبد الوهاب هذا من مفردات المؤلف التي امتاز بها فهنيئًا لأتباعه وأشياعه هذا الفتح. وكيف يكون إمام من أئمة السنة وعلم من أعلام الإسلام وهو محمد بن عبد الوهاب قرن الشيطان؟!

وجاء في بعض الروايات وبها يعني نجد الداء العضال. قال بعض الشراح: وهو الهلاك وفي بعض التواريخ بعد ذكر قتال بني حنيفة قال ويخرج في آخر الزمان في بلد مسيلمة رجل يغير دين الإسلام (¬1) . وذكر العلامة السيد علوي بن أحمد بن حسن بن القطب سيدي عبد الله بن علوي الحداد في كتابه الذي ألفه في الرد على ابن عبد الوهاب المسمى جلاء الظلام في الرد على النجدي الذي أضل العوام من جملة الأحاديث التي ذكرها في الكتاب المذكور حديثًا مرويًا عن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يخرج في ثاني عشر قرنًا في وادي بني حنيفة رجل كهيئة الثور لا يزال يلعق براطمه يكثر في زمانه الهرج والمرج. يستحلون أموال المسلمين ويتخذونها بينهم متجرا، ويستحلون دماء المسلمين ويتخذونها بينهم مفخرًا وهي فتنة يعتز فيها الأرذلون والسفل تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه» ولهذا الحديث شواهده تقوي معناه وإن لم يعرف من خرجه (¬2) . ثم قال السيد المذكور في الكتاب الذي مر ذكره وأصلح من ذلك أن هذا المغرور محمد بن عبد الوهاب من تميم فيحتمل أنه من عقب ذي الخويصرة التميمي (¬3) الذي جاء فيه ¬

(¬1) أولا: المقصود نجد العراق، وثانيا: معلوم أن خبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الفتنة من المشرق أو نجد لا يشمل كل الأحوال ولا كل الأزمان، والتاريخ والواقع يشهدان بذلك. وانظر: تفاصيل ذلك في المبحث السادس التالي. وثالثا: ليس هذا نصا في ذم الدعوة وإمامها وأتباعها بإطلاق. ورابعا: كيف يليق بمن يحترم نفسه ويحترم العلم ويحترم القراء أن يكون مصدره بعض التواريخ؟! ثم يذكر خبرًا عن أمر غيبي وهو: الرجل الذي يزعم أنه يغيِّر دين الإسلام، ولم يكمل الكذبة التي يرويها وهي أن هذا الرجل هو محمد بن عبد الوهاب الداعية المصلح الذي نصر دين الإسلام وغيَّر بتوفيق الله دين أولئك الجهلة والمبتدعة إلى العلم والسنة. (¬2) في هذا المقطع عجائب ونكات بديعة أولها: أن مرجع المؤلف هنا أحد أقطاب البدع وأكابر خصوم السنة وأهلها، وثانيها: أن هذا الحديث الموضوع المكذوب الذي ذكره تجتمع فيه كل علامات الوضع والكذب، فإن كانوا - الناقل والمنقول عنه - يجهلون ذلك فهذه مصيبة، وإن كانوا يعلمون أن هذا الحديث من جملة الكذب فالمصيبة أعظم، لكني أعلن عزائي لأهل البدع في شيوخهم وأسأل الله أن يعوضهم خيرًا منهم ممن يرشدونهم للحق ويسلكون بهم طريق السنة. (¬3) هذا من العبث بعقول الناس. وإذا كانوا لا يجدون من المطاعن في الشيخ الإمام إلا هذه الأوهام والتناوش من مكان بعيد فقد اعترفوا بإفلاسهم والحمد لله.

حديث البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -» . ثم قال: «قال السيد علوي الحداد لما وصلت الطائف لزيارة حبر الأمة عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - اجتمعت بالعلامة الشيخ طاهر سنبل الحنفي ابن العلامة الشيخ محمد سنبل الشافعي فأخبرني أنه ألف كتابًا في الرد على هذه الطائفة سيما الانتصار للأولياء الأبرار، وقال لي: لعل الله ينفع به من لم تدخل بدعة النجدي في قلبه وأما من دخلت في قلبه فلا يرجى فلاحه (¬1) لحديث البخاري يمرقرن من الدين ثم لا يعودون فيه. قال السيد علوي الحداد: وأما ما نقل عن العلامة الحفظي ساكن الحجاز أنه استصوب بعض أفعال النجدي من جمعه البدو على الصلاة وترك النهب، وإزالة بعض الفواحش الظاهرة كالزنا واللواط، ومن تأمينه الطرق ودعوته إلى التوحيد (¬2) فهو غلط حيث حسن للناس فعله ولم يطلع على ما ذكرناه من منكراته وتكفير الأمة من ستمائة سنة. وإحراقه الكتب الكثيرة (¬3) . وقتله لكثير من العلماء وخواص الناس وعوامهم واستباحته دماءهم وأموالهم (¬4) وإظهار التجسيم للباري – سبحانه وتعالى - (¬5) . وعقده الدروس لذلك، وتنقيصه للرسل عليهم الصلاة والسلام وللأولياء، ونبشه قبورهم، وأمر في الأحساء أن تجعل بعض قبور الأولياء محلًا لقضاء الحاجة (¬6) . ومنع الناس من قراءة دلائل الخيرات، ومن الرواتب، والأذكار ومن قراءة ¬

(¬1) نعم إن من ذاق طعم الإيمان والعلم وحلاوة السنة فلا يتصور أن يعود إلى الجهل والبدعة. أما حديث البخاري فهو في الخوارج وليس في أتباع السلف الصالح. (¬2) الحمد لله الذي أنطقهم بالحق، ثم نكسوا على رءوسهم ووصفوا الحق بأنه غلط. أما ما سماه منكرات وتكفير الأمة فسبق البيان بأنه محض افتراء، وسيأتي مزيد بيان كذلك في المباحث التالية. (¬3) لم يذكر لنا واحدًا من هذه الكتب الكثيرة سوى دلائل الخيرات، وقد نفى الإمام ذلك كله كما أسلفت. (¬4) هذا لا يصح. (¬5) هذا من الكذب فإن الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه على منهج السلف في إثبات الصفات لله تعالى كما جاءت في القرآن والسنة من غير تمثيل ولا تعطيل. ولكن الجهمية والمعتزلة وأهل التأويل والتعطيل يسمون من أثبت الصفات كما جاءت بها النصوص مجسمًا ومشبهًا. وقد سلك المؤلف هنا سبيلهم. (¬6) هذه أكاذيب ومفتريات تردها الحقائق التي سبق ذكرها وسنذكرها لاحقًا كذلك.

مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في المنائر بعد الأذان (¬1) وقتل من فعل ذلك (¬2) وكان يعرِّض لبعض الغوغاء الطعام بدعوات النبوة ويُفهمهم ذلك من فحوى الكلام (¬3) ومنع الدعاء بعد الصلاة (¬4) . وكان يقسم الزكاة على هواه (¬5) وكان يعتقد أن الإسلام منحصر فيه وفيمن تبعه وأن الخلق كلهم مشركون (¬6) . وكان يصرح في مجالسه وخُطَبه بكفر المتوسل بالأنبياء والملائكة والأولياء (¬7) بل يزعم أن من قال لأحد: مولانا أو سيدنا فهو كافر (¬8) ويمنع من زيارة النبي صلى الله عليه وسلم ويجعله كغيره من الأموات (¬9) وينكر علم النحو واللغة والفقه والتدريس لهذه العلوم ويقول: إن ذلك كله بدعة (¬10) . ثم قال السيد علوي الحداد: والحاصل أن المحقق عندنا من أقواله وأفعاله ما يُوجب خروجه عن القواعد الإسلامية لاستحلاله أمورًا مجمعًا على تحريمها معلومة من الدين بالضرورة بلا تأويل سائغ مع تنقيصه الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين وتنقيصهم تعمدًا كفر بالإجماع عند الأئمة الأربعة (¬11) . اهـ. ¬

(¬1) نعم الإمام فعل ذلك لأن هذه بدع، والواجب على العلماء والولاة وكل من يقدر على منع هذه المنكرات أن يفعل بالحكمة. وهذه مَنْقَبة للشيخ وليست مَسَبَّة. (¬2) أما قتل من فعل ذلك فهو كذب. (¬3) اتهام الإمام بدعوى النبوة فرية عظيمة سبق الكلام عنها في المبحث الخامس من الفصل الثاني. (¬4) سبق التعليق على هذه المفتريات في الهوامش السابقة. (¬5) سبق التعليق على هذه المفتريات في الهوامش السابقة. (¬6) سبق التعليق على هذه المفتريات في الهوامش السابقة (¬7) ليس على إطلاقه فإن الشيخ يقول كسائر السلف الصالح بكفر من دعا غير الله وصرف العبادة لغير الله، وإن سمى ذلك توسلاً. وكذلك ينكر التوسلات البدعية. أما التوسل المشروع فهو عبادة وقربة يدعو إليها الشيخ، ويؤمن بها كسائر السلف الصالح. (¬8) هذا من الكذب، وسبق التعليق عليه. (¬9) هذا من الكذب، وسبق التعليق عليه. (¬10) هذا كذب فالإمام درس هذه العلوم وتمكن منها ودرَّسها ونشرها، وكان يأمر بتدريسها. (¬11) هذا من البهتان العظيم، فهلا ذكر لنا من أقوال الإمام وأفعاله شيئًا يُثبت هذه التُّهَم والمفتريات، بل الواقع والحاصل أن أقواله وأفعاله عكس ذلك تمامًا، وكذلك علماء الدعوة وأتباعها أهل السنة والجماعة بريئون مما افتراه عليهم المفترون.

ما زال كذلك يحبه قوم ويكرهه آخرون فآواه أهل الدرعية وظن بعض منهم أنه رسول لكافة البرية (¬1) فصنف لهم رسالة سماها "كشف الشبهات عن خالق الأرض والسماوات" كفَّر فيها جميع المسلمين وزعم أن الناس كفار منذ ستمائة سنة وحمل (¬2) الآيات التي نزلت في الكفار من قريش على أتقياء الأمة (¬3) وكان ممن تبعه وقبل منه كل ما يقول محمد بن سعود أمير الدرعية (¬4) واتخذه وسيلة لاتساع الملك وانقياد الأعراب (¬5) له فصار يدعوهم إلى الدين، وأثبت في قلوبهم أن جميع من هو تحت السبع الطباق مشرك على الإطلاق (¬6) ومن قتل مشركًا فله الجنة، فتابعوه وصارت نفوسهم بهذا الاعتقاد مطمئنة. وكان محمد بن سعود يتمثل ما يأمره به، فإذا أمره بقتل إنسان أو أخذ ماله سارع إلى ذلك، فكان محمد بن عبد الوهاب معهم كالنبي في أمته لا يتركون شيئًا مما يقوله ولا يفعلون شيئًا إلا بأمره، ويعظمونه غاية التعظيم ويُجِلّونه غاية التجليل» (¬7) ثم ذكر صفة اتساع ملك الأمير محمد بن سعود، وكيف دانت له جزيرة العرب، ودخوله مكة بالصلح وخروجه منها سنة 1227هـ. ¬

(¬1) هذه فرية عجيبة. (¬2) هذا من الكذب، وفندها الإمام في رسائله كما في رسالته السابقة. (¬3) هلاَّ ذكر لنا واحدًا من هؤلاء الأتقياء الذي يزعم أن الإمام كفرهم؟ ويله ما أكذبه. (¬4) وهذا مما يحمد لكل من الإمامين حين تعاضدا وتعاهدا على نشر الدين والعدل والأمن، وإقامة السنة وإماتة البدع. (¬5) هذا من التلبيس فإن الغاية التي سعى إليها كل منهما أن تقوم للدين دولة تنشره وتحميه، واتساع الملك وانقياد الأعراب إذا كان في سبيل تحقيق غاية الدين، ونصر الحق، وجمع الشمل، ونشر الأمن فهو مطلب مشروع. وهذا ما كان عليه كل من الإمام محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود وأحفادهما. (¬6) هذا من الكذب. (¬7) هذا ثناء ووصف صائب لكنه يثير غيرة المخالفين أهلِ البدع، ولذلك لم يدع كاتبه عادته من اللمز بدعوى النبوة والقتل.

وقفة حول هذه المفتريات والاتهامات

إلى أن قال: «وقد أرَّخ ذلك مفتي مكة عبد الملك القلعي لما سأله مولانا الشريف غالب هل أرختم خروجهم فقال: قطع دابر الخوارج (¬1) » (¬2) . [وقفة حول هذه المفتريات والاتهامات] وقفة حول هذه المفتريات والاتهامات: 1 - هذه المفتريات التي ذكرها صاحب كتاب «خلاصة الكلام» تعد أنموذجًا لأكثر ما قاله خصوم الدعوة والجاهلون بحقيقتها من خارج نجد، فهو قد التقط ما قاله السابقون له في الدعوة وإمامها، ومن جاؤوا بعده أخذوا عنه الكثير كذلك. 2 - أن ما ذكره من مفتريات حول الدعوة وإمامها وأميرها وأتباعها - غالبه من الكذب البيّن، وما قد يوجد فيه من معلومات صحيحة فهي محرَّفة ومصوَّرة بصورة الباطل، ومخرَّجة مخرج التلبيس والتهويل. 3 - أن المؤلف جمع هذه الاتهامات من الشائعات وما قاله الخصوم قبله كابن سحيم وابن عفالق والرافضة وغيرهم من أهل البدع والمعروفين بالعداوة الصريحة للدعوة وإمامها وأتباعها ودولتها. 4 - وعند إخضاع هذا المطاعن والمفتريات والاتهامات للنهج الشرعي والعلمي نجد أكثرها ساقطًا لما يلي: أولاً: خلوها من الأسانيد أو نقل شهود العيان، وإن كان من الخصوم، وخلوها كذلك من التوثيق فلم ينقل عن كتاب معتمد أو رسالة أو خطبة أو مقالة أو نحو ذلك من المصادر الموثوقة. ثانياً: أن الكاتب نفسه لم يعش تلك الحقبة التي تحدث عنها ولم يرو عن ثقاة ولا غيرهم. ثالثاً: خلوها من الأدلة والبراهين والأمثلة والشواهد مطلقاً. رابعاً: أن الواقع يشهد بخلافها فسيرة الإمام والأمير محمد بن سعود وأحفادهما ليست على ما ذكر. ¬

(¬1) هذه عودة إلى الدجل والشعوذة وأظنهم لم يجدوا من البراهين ما يدين الدعوة وإمامها فلجئوا إلى الحساب والطلاسم. (¬2) خلاصة الكلام (227 - 238) .

خامساً: أن ما هو مسطور ومكتوب إلى الآن من كتب الإمام ورسائله وأقواله وأحواله، وكتب الدعوة، وسير رجالها وتاريخها وواقعها يرد كل التُّهَم والمفتريات التي ذكرها. بل الإمام نفسه ردَّها وفنَّدها في كتبه ورسائله ورُدودهِ، وردها تلاميذه وأتباعه ومناصروه في كل مكان. سادساً: شهادة المنصفين - وما أكثرهم بحمد الله - بأن ما ذكره صاحب خلاصة الكلام وأمثاله عن الدعوة من البهتان والكذب، وأنه يخالف الحق والواقع، وأكتفي في هذا المقام بشهادة واحد منهم؛ لأن الموضوع سيُعرض تفصيلاً في فصول تالية إن شاء الله. يقوم الشيخ محمد رشيد رضا في مقدمته لكتاب «صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان» للشيخ محمد بشير السهسواني الهندي. «تصدى للطعن في الشيخ محمد بن الوهاب والرد عليه أفرادٌ من أهل الأمصار المختلفة، منهم رجل من أحد بيوت العلم في بغداد، قد عهدناه يفتخر بأنه من دعاة التعطيل والإلحاد (¬1) . وكان أشهر هؤلاء الطاعنين مفتي مكة المكرمة الشيخ أحمد زيني دحلان المتوفي سنة (1304) ألَّف رسالة في ذلك تدور جميع مسائلها على قطبين اثنين: قطب الكذب والافتراء على الشيخ، وقطب الجهل بتخطئته فيما هو مصيب فيه» . «وكانت توزع بمساعدة أمراء مكة ورجال الدولة على حجاج الآفاق فعم نشرها، وتناقل الناس مفترياته وبهاءته في كل قطر، وصدقها العوام وكثير من الخواص، كما اتخذ المبتدعة والحشوية والخرافيون رواياته ونقوله الموضوعة والواهية والمنكرة، وتحريفاته للراويات الصحيحة، حججًا يعتمدون عليها في الرد على دعاة السنة المصلحين» . «ولكن الألسن والأقلام لا تزال تتناقل كل ما فيها من غير عزو إليها، ودأب البشر العناية بنقل ما يوافق أهواءهم، فكيف إذا وافقت هوى ملوكهم وحكامهم. كنا نسمع في صغرنا أخبار الوهابية المستمدة من رسالة دحلان هذا ورسائل أمثاله فنصدقها بالتبع لمشايخنا وآبائنا» . «وأنا لم أعلم بحقيقة هذه الطائفة إلا بعد الهجرة إلى مصر والاطلاع على تاريخ الجبرتي ¬

(¬1) هو جميل الزهاوي.

وتاريخ الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى، فعلمت منهما أنهم هم الذين كانوا على هداية الإسلام دون مقاتليهم، وأكده الاجتماع بالمطلعين على التاريخ من أهلها ولا سيما تواريخ الإفرنج الذي بحثوا عن حقيقة الأمر فعلموها وصرحوا أن هؤلاء الناس أرادوا تجديد الإسلام وإعادته إلى ما كان عليه في الصدر الأول، وإذًا لتجددَ مجده، وعادت إليه قوته وحضارته، وأن الدولة العثمانية ما حاربتهم إلا خوفًا من تجديد ملك العرب، وإعادة الخلافة الإسلامية سيرتها الأولى» . «ثم اطلعت على أكثر كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ورسائله وفتاويه وكتب أولاده وأحفاده ورسائلهم ورسائل غيرهم من علماء نجد في عهد هذه النهضة التجديدية فرأيت أنه لم يصل إليهم اعتراض ولا طعن فيهم إلا وأجابوا عنه، فما كان كذبًا عليهم قالوا: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] وما كان صحيحًا أو له أصل بينوا حقيقته وردوا عليه وقد طبعت أكثر كتبهم، وعرف الألوف من الناس أصل تلك المفتريات عنهم ومن المستبعد جدًّا أن يكون الشيخ أحمد دحلان لم يطلع على شيء من تلك الكتب والرسائل وهو في مركزه بمكة المكرمة على مقربة منهم، فإن كان قد اطلع عليها فلِمَ أصر على ما عزاه إليه من الكذب والبهتان - ولا سيما ما نفوه صريحًا وتبرءوا منه - فأي قيمة لنقله ولدينه وأمانته؟ وهل هو إلا ممن باعوا دينهم بدنياهم؟ . وإذا فرضنا أن الشيخ أحمد دحلان لم ير شيئًا من تلك الكتب والرسائل، ولم يسمع بخبر عن تلك المناظرات والدلائل، وأن كل ما كتبه في رسالته قد سمعه من الناس وصدقه، أفلم يكن من الواجب عليه أن يتثبت فيه، ويبحث ويسأل عن كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ورسائله ويجعل رده عليها، ويقول في الأخبار اللسانية قال لنا فلان أو قيل عنه كذا، فإن صح فحكمه كذا؟ إن علماء السنة في الهند واليمن قد بلغهم كل ما قيل في هذا الرجل فبحثوا وتثبتوا وتبينوا كما أمر الله تعالى، فظهر لهم أن الطاعنين فيه مفترون لا أمانة لهم، وأثنى عليه فُحولهم في عصره وبعد عصره، وعدُّوه من أئمة المصلحين المجدِّدين للإسلام ومن فقهاء الحديث كما نراه في كتبهم» (¬1) . ¬

(¬1) صيانة الإنسان (7 - 10) مع اختصار يسير (المقدمة) .

المبحث الخامس القضايا الكبرى التي أثيرت حول الدعوة ومناقشتها

[المبحث الخامس القضايا الكبرى التي أثيرت حول الدعوة ومناقشتها] [أولا قضية التوحيد والسنة والشرك والبدعة وما يتفرع عنها وفيها] [أنها القضية الكبرى] المبحث الخامس القضايا الكبرى التي أثيرت حول الدعوة ومناقشتها أولاً: قضية التوحيد والسنة والشرك والبدعة وما يتفرع عنها. لقد أثار خصوم الدعوة شبهات ومفتريات كثيرة حول الدعوة ورجالها ودولتها وأتباعها سائرها يدور حول رفض الخصوم لدعوة التوحيد والسنة، والإصلاح، وإصرارهم على ما هم عليه من البدع والجهالات والأوضاع الفاسدة لأسباب كثيرة، سبق الحديث عن بعضها أذكر هنا نماذج لأهم المسائل التي دار حولها الصراع. فالقضية الكبرى: بين إمام الدعوة وأتباعه والدولة السعودية حاملة لواء الدعوة وبين خصومهم من أهل البدع والأهواء والضلال والافتراق - هي قضية التوحيد والشرك والسنة، والبدعة، والضلال والهدى، والحق والباطل، وهي قضيّة الأنبياء: إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وغيرهم مع خصومهم في كل زمان، وهي قضية العلماء المصلحين في كل أمة، وهي قضية أئمة الدين السلف الصالح أهل السنة والجماعة مع أعداء التوحيد والدين والسنة، وكانت دعوة نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وسائر المرسلين تقوم على الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده والنهي عن الشرك وعن عبادة غير الله كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] [سورة النحل، آية (36) .] وقال تعالى مخبرًا عن الأنبياء في دعوتهم لأقوامهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 50] [سورة هود، آية (50) .] ، وقال: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود: 26] [سورة هود، آية (26) .] ، وقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] [سورة النساء، آية (36) .] ، وقوله سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] [سورة الأنعام، آية (153) .] . إنها قضية توحيد الله تعالى بالعبادة والطاعة ومحاربة الشرك والبدع والأهواء. وقد أعلن الشيخ وأتباعه ودولتهم وكل المتمسكين بالسنة والجماعة هذه القضية بوضوح وبكل الوسائل المتاحة لهم ليس في جزيرة العرب فحسب، بل في كل العالم الإسلامي. فأعلن الإمام وجوب تحرير العبادة لله تعالى وحده لا شريك له وتعظيمه سبحانه بأسمائه وصفاته، ونبذ كل مظاهر الشرك والبدع وذرائعهما، ومحاربة المحدثات في ذلك، وفي الدين كله.

جهود الإمام في بيان هذه الحقيقة ورد الاتهامات

نعم لقد حارب الإمام ومعه كل أهل السنة بحزم وقوة كل الشركيات والبدع والمحدثات من البناء على القبور والمشاهد، وما يصاحب ذلك من الشركيات والتبرك البدعي وصرف أنواع العبادة لغير الله وسائر البدع الصوفية والقبورية، والدجل والشعوذة والسحر بمختلف أشكالها، وكل ذلك كان امتثالاً لأمر الله تعالى ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم. وليس ذلك المنهج مذهبًا شخصيًّا ولا مسلكًا ينفردون به عن كوكبة الدعوة في تاريخ البشرية، بل هو امتداد لمنهج الأنبياء عمومًا ومنهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح على الخصوص، إنه منهج الدين الذي قال الله فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] [سورة آل عمران، آية (19) ] ، وقال {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] [سورة آل عمران، آية (85) .] ، وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] [سورة يوسف، آية (108) ] . فكان الإمام محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود وسائر علماء الدعوة وأتباعها على بصيرة من أمرهم سائرين على منهاج النبوة معتمدين على الله ومتوكلين عليه دليلهم القرآن والسنة، وقدوتهم الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والسلف الصالح وأحوالهم وأقوالهم وكتبهم وسيرهم شاهدة بذلك بحمد الله. وقد دافع الإمام محمد بن عبد الوهاب وعلماء الدعوة وسائر أهل السنة والجماعة في كل مكان عن هذه القضية، وبيَّنوا الحق بدليله من القرآن والسنة وآثار السلف الصالح وأقوال العلماء المعتَبرين عند عامة المسلمين، فأقاموا الحجة وبيَّنوا المحجة. [جهود الإمام في بيان هذه الحقيقة ورد الاتهامات] جهود الإمام في بيان هذه الحقيقة ورد المفتريات: ولنترك المجال للإمام نفسه يبين لنا حقيقة الخلاف بينه وبين خصوم السنة في هذه القضية الكبرى، ويشرح ذلك للشريف غالب حاكم الحجاز ولعلماء الأمة هناك سنة (1204هـ) فيقول: «من محمد بن عبد الوهاب: إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام، نصر الله بهم دين سيد الأنام؛ عليه أفضل الصلاة والسلام، وتابعي الأئمة الأعلام.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد: جرى علينا من الفتنة، ما بلغكم، وبلغ غيركم، وسببه: هدم بناء في أرضنا على قبور الصالحين (¬1) ؛ ومع هذا نهيناهم عن دعوة الصالحين، وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله، فلما أظهرنا هذه المسألة، مع ما ذكرنا من هدم البناء على القبور، كبر على العامة، وعاضدهم بعض من يدعي العلم؛ لأسباب ما تخفى على مثلكم، أعظمها اتباع الهوى، مع أسباب أخر. فأشاعوا عنا: أنا نَسُبّ الصالحين، وأنَّا على غير جادة العلماء، ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب، وذكروا عنا أشياء يستحي العاقل من ذكرها، وأنا أخبركم بما نحن عليه، بسبب أن مثلكم ما يروج عليه الكذب؛ ليتبين لكم الأمر، وتعلموا الحقيقة. فنحن - ولله الحمد - متبِعون لا مبتدِعون، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وتعلمون - أعزكم الله - أن المُطاع في كثير من البلدان، لو يتبين بالعمل بهاتين المسألتين، أنها تكبر عند العامة، الذين درجوا هم وآباؤهم على ضد ذلك، وأنتم تعلمون - أعزكم الله - أن في ولاية أحمد بن سعيد، وصل إليكم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله، وأشرفتم على ما عندنا، بعدما أحضروا كتب الحنابلة، التي عندنا عمدة، وكالتحفة، والنهاية عند الشافعية، فلما طلب منا الشريف غالب - أعزه الله ونصره - امتثلنا أمره، وأجبنا طلبه، وهو إرسال رجل من أهل العقل والعلم، ليبحث مع علماء بيت الله الحرام» . وقال مخاطبًا عامة علماء المسلمين: «محمد بن عبد الوهاب: إلى من يصل إليه من علماء الإسلام، آنس الله بهم غربة الدين، وأحيا بهم سنة إمام المرسلين، ورسول رب العالمين، سلام عليكم معشر الإخوان، ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإنه قد جرى عندنا فتنة عظيمة، بسبب أشياء نهيت عنها بعض العوام، ¬

(¬1) وذلك استجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كما صح عن علي - رضي الله عنه - أن النبي (بعثه: «ألا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته» . أخرجه أحمد في المسند برقم (71) ، ومسلم برقم (969) وغيرهما، كما صح عنه أنه نهى عن البناء على القبور.

من العادات التي نشؤوا عليها، وأخذها الصغير عن الكبير؛ مثل: عبادة غير الله، وتوابع ذلك، من تعظيم المشاهد، وبناء القباب على القبور، وعبادتها، واتخاذها مساجد، وغير ذلك، مما بينه الله ورسوله غاية البيان، وأقام الحجة، وقطع المعذرة؛ ولكن الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريبًا كما بدأ» (¬1) (¬2) . فلما عظم [على] العوام: قطع عادتهم؛ وساعدهم على إنكار دين الله: بعض من يدعي العلم، وهو من أبعد الناس عنه - إذ العالم من يخشى الله - فأرضى الناس بسخط الله؛ وفتح للعوام باب الشرك بالله، وزين لهم، وصدهم عن إخلاص الدين لله؛ وأوهمهم: أنه من تنقيص الأنبياء والصالحين؛ وهذا بعينه هو الذي جرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن عيسى - عليه السلام -: عبد، مربوب، ليس له من الأمر شيء؛ قالت النصارى: إنه سب المسيح وأمه؛ وهكذا قالت الرافضة: لمن عرف حقوق أصحاب رسول الله وأحبهم، ولم يَغْلُ فيهم، رموْه: ببغض أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا هؤلاء، لما ذكرت لهم، ما ذكره الله ورسوله، وما ذكره أهل العلم، من جميع الطوائف، من الأمر بإخلاص الدين لله، والنهي عن مشابهة أهل الكتاب من قبلنا، في اتخاذ الأحبار، والرهبان، أربابًا من دون الله؛ قالوا لنا: تنقصتم الأنبياء، والصالحين، والأولياء؛ والله تعالى ناصر لدينه، ولو كره المشركون. [وقال مبينًا أن مستنده كلام العلماء من كل الطوائف] : وها أنا أذكر مستندي في ذلك، من كلام أهل العلم، من جميع الطوائف، فرحم الله من تدبرها بعين البصيرة، ثم نصر الله، ورسوله، وكتابه، ودينه، ولم تأخذه في ذلك لومة لائم. [كلام الحنابلة] : فأما كلام الحنابلة، فقال الشيخ: تقي الدين، - رحمه الله - لما ذكر حديث الخوارج: فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه ممن قد انتسب إلى الإسلام، من مرق منه، مع ¬

(¬1) رواه مسلم برقم (232) ، والترمذي (2629) ، وابن ماجه (3986، 3978، 3988) . (¬2) الدرر السنية (2) .

عبادته العظيمة، فيعلم: أن المنتسب إلى الإسلام، والسنة، قد يمرق أيضاً؛ وذلك بأمور، منها: الغلو، الذي ذمَّه الله تعالى؛ كالغلو في بعض المشائخ، كالشيخ عدي؛ بل الغلو في علي بن أبي طالب؛ بل الغلو في المسيح، ونحوه. فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعًا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، بأن يقول: يا سيدي فلان: أغثني؛ أو أجرني؛ أو أنت حسبي؛ أو أنا في حسبك؛ فكل هذا شرك، وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل؛ فإن الله أرسل الرسل ليُعْبَد وحده، لا يُجعل معه إله آخر، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، مثل الملائكة، أو المسيح، أو العزير، أو الصالحين، أو غيرهم، لم يكونوا يعتقدون: أنها تخلق وترزق؛ وإنما كانوا يدعونهم، يقولون: «هؤلاء شفعاؤنا عند الله» فبعث الله الرسل: تنهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، انتهى. وقال في: الإقناع، في أول باب حكم المرتد: إن من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم، فهو: كافر إجماعاً. [كلام الحنفية] : وأما كلام الحنفية، فقال الشيخ: قاسم، في شرح: درر البحار؛ النذر: الذي يقع من أكثر العوام، بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء، قائلاً: يا سيدي، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي: فلك من الذهب، أو الطعام، أو الشمع، كذا، وكذا، باطل إجماعاً، لوجوه؛ منها: أن النذر للمخلوق، لا يجوز؛ ومنها: أنه ظن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا: كفر؛ إلى أن قال: وقد ابتلي الناس بذلك، ولا سيما في مولد الشيخ أحمد البدوي. وقال الإمام: البزازي، في فتاويه: إذا رأى رقص صوفية، زماننا هذا، في المساجد مختلطًا بهم جهّال العوام، الذين لا يعرفون القرآن، والحلال والحرام؛ بل لا يعرفون الإسلام، والإيمان، لهم نهيق، يشبه نهيق الحمير، يقول: هؤلاء لا محالة اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا، فويل للقضاة، والحكام، حيث لا يغيرون هذا، مع قدرتهم. [كلام الشافعية] : وأما: كلام الشافعية، فقال الإمام مُحدِّث الشام: أبو شامة، في كتاب: الباعث على إنكار البدع والحوادث - وهو في زمن الشارح، وابن حمدان - لكن نبين من هذا: ما وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، وهو ما يفعله الطوائف، من

المنتسبين إلى الفقر، الذي حقيقته الافتقار من الإيمان، من مواخات النساء الأجانب، واعتقادهم في مشائخ لهم. وأطال - رحمه الله - الكلام، إلى أن قال: وبهذه الطرق، وأمثالها: كان مبادئ ظهور الكفر، من عبادة الأصنام، وغيرها؛ ومن هذا: ما قد عم الابتلاء به، من تزيين الشيطان للعامة، تخليق الحيطان، والعمد، وسرج مواضع مخصوصة، في كل بلد، يحكي لهم حاكٍ أنه رأى في منامه بها: أحدًا ممن شهر بالصلاح ثم يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم، بالنذر لها، وهي ما بين عيون، شجر، وحائط؛ وفي مدينة: دمشق، صانها الله من ذلك، مواضع متعددة. ثم ذكر - رحمه الله - الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قاله له بعض من معه: «اجعل لنا ذات أنواط قال: «الله أكبر، قلتم والذي نفس محمد بيده، كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة» (¬1) انتهى كلامه - رحمه الله -. وقال في: اقتضاء الصراط المستقيم: إذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم في مجرد قصد شجرة، لتعليق الأسلحة، والعكوف عندها، فكيف بما هو أعظم منها: الشرك بعينه، بالقبور ونحوها. [كلام المالكية] : وأما: كلام المالكية، فقال أبو بكر الطرطوشي، في كتاب: الحوادث والبدع، لما ذكر حديث الشجرة، ذات أنواط؛ فانظروا رحمكم الله: أينما وجدتم، سدرة، أو شجرة، يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء، والشفاء لمرضاهم، من قِبَلِها؛ فهي: ذات أنواط، فاقطعوها؛ وذكر حديث العرباض بن سارية الصحيح، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» (¬2) . قال في البخاري، عن أبي الدرداء أنه قال: والله ما أعرف من أمر محمد شيئًا، إلا ¬

(¬1) جزء من حديث أبي واقد الليثي رواه الترمذي (2181) وصححه. (¬2) جزء من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - رواه أبو داود (7) ، والترمذي (2 - 113) وغيرهما، وصححه غير واحد منهم الترمذي، والبزار، والحاكم. راجع: إرواء الغليل (8) ، وصحيح الجامع (3312) .

أنهم يصلون جميعًا. وروى مالك: في الموطأ، عن بعض الصحابة، أنه قال: ما أعرف شيئًا مما أدركت عليه الناس، إلا النداء بالصلاة. قال الزهري: دخلت على أنس، بدمشق، وهو يبكي. . . فقال: ما أعرف شيئًا مما أدركت، إلا هذه الصلاة؛ وهذه الصلاة، قد: ضُيِّعت. قال الطرطوشي - رحمه الله - فانظروا رحمكم الله: إذا كان في ذلك الزمن، طمس الحق، وظهر الباطل، حتى ما يعرف من الأمر القديم إلا القبلة؛ فما ظنك بزمانك هذا؟! والله المستعان. وليعلم الواقف: على هذا الكلام من أهل العلم - أعزهم الله - أن الكلام في مسألتين؛ الأولى: أن الله سبحانه بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم لإخلاصه الدين لله، لا يُجعل معه أحد، في العبادة، والتأله، لا ملك، ولا نبي، ولا قبر، ولا حجر، ولا شجر، ولا غير ذلك؛ وأن من عظّم الصالحين بالشرك بالله، فهو: يشبه النصارى؛ وعيسى -عليه السلام-: بريء منهم. والثانية: وجوب اتباع سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك البدع، وإن اشتهرت بين أكثر العوام، وليعلم: أن العوام محتاجون إلى كلام أهل العلم، من تحقيق هذه المسائل، ونقل كلام العلماء؛ فرحم الله من نصر الله، ورسوله، ودينه، ولم تأخذه في الله لومة لائم؛ والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم» (¬1) . وقد أجمل الإمام ذلك كله بقوله: «والحاصل: أن كل ما ذكر عنا من الأشياء غير دعوة إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، فكله من البهتان» (¬2) . وهذا بيان وافٍ وردّ كافٍ على المفتريات والشبهات التي أُثيرت على الدعوة وإمامها. وقال في خطاب عام أرسله إلى عامة المسلمين كذلك: «من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه من المسلمين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: أخبركم أني - ولله الحمد - عقيدتي، وديني الذي أدين الله به، مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين؛ مثل الأئمة الأربعة، وأتباعهم، إلى يوم القيامة. ¬

(¬1) الدرر السنية (2 - 54) . (¬2) الدرر السنية (1) .

لكني بينت للناس: إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأنبياء والأموات، من الصالحين، وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يُعبد الله به، من الذبح، والنذر، والتوكل، والسجود، وغير ذلك مما هو حق الله، الذي لا يشركه فيه ملك مقرب، ولا نبي مرسل؛ وهو الذي دعت إليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم؛ وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة. وأنا صاحب منصب في قريتي، مسموع الكلمة، فأنكر هذا بعض الرؤساء؛ لكونه خالف عادة نشؤوا عليها؛ وأيضاً: ألزمت من تحت يدي، بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك من فرائض الله؛ ونهيتهم عن الربا، وشرب المسكر، وأنواع من المنكرات، فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا وعيبه؛ لكونه مستحسنًا عند العوام، فجعلوا قدحهم، وعداوتهم فيما آمر به من التوحيد، وما نهيتهم عنه من الشرك، ولبَّسوا على العوام: أن هذا خلاف ما عليه الناس، وكبرت الفتنة جدًّا، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان، ورجله» . إلى أن قال: «فلما جرى في هذه الأمة، ما أخبر به نبيها صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لتتبعن سنن من كان من قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» (¬1) وكان من قبلهم، كما ذكر الله عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] [سورة التوبة، آية: 31] ، وصار ناس من الضالين: يدعون أناسًا من الصالحين، في الشدة والرخاء؛ مثل: عبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي، وعدي بن مسافر، وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح، صاح عليهم: أهل العلم، من جميع الطوائف؛ أعني: على الداعي؛ وأما الصالحون، الذين يكرهون ذلك فحاشاهم. وبيَّن أهل العلم: أن هذا هو الشرك الأكبر، عبادة الأصنام» . إلى أن قال: «فبعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد: محض حق الله تعالى، لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما؛ وإلا فهؤلاء المشركون: يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يخلق، ولا يرزق إلا هو؛ ولا يحيي، ولا يميت إلا هو؛ ولا يدبر الأمر إلا هو؛ وأن ¬

(¬1) رواه البخاري برقم (3456) ، ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. ولفظه عندهما «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع» ، وأما لفظ «حذو القذة بالقذة» فقد أخرجه أحمد في المسند (4) .

جميع السماوات السبع، ومن فيهن، والأراضين السبع، ومن فيهن، كلهم عبيده، وتحت تصرفه وقهره. فإذا أردت الدليل: على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون بهذا، فاقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] [سورة يونس، آية: 31] ، وغير ذلك: من الآيات الدالات على تحقق أنهم يقولون بهذا كله، وأنه لم يدخلهم في التوحيد، الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعرفت: أن التوحيد الذي جحدوه، هو توحيد العبادة، الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد، كما كانوا يدعون الله – سبحانه وتعالى - ليلاً ونهاراً، خوفًا وطمعاً، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم، وقربهم من الله عز وجل، ليشفعوا لهم، ويدعو رجلاً صالحاً، مثل اللات، أو نبيًّا مثل عيسى. وعرفت: أن رسول الله قاتلهم، على ذلك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] [سورة الجن، آية: 18] ، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14] [سورة الرعد آية: 14] . وعرفت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم؛ ليكون الدين كله لله، والذبح كله لله، والنذر كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادة كلها لله؛ وعرفت: أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة، والأنبياء، والأولياء: يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله تعالى بهم، هو: الذي أحل دماءهم، وأموالهم، عرفت حينئذ التوحيد، الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون» . ثم قال: «فإذا عرفت ذلك، وعرفت: أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة، وعلم وحجج، كما قال تعالى: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأعراف: 86] [سورة الأعراف، آية: 86] .

فالواجب عليك: أن تعلم من دين الله، ما يصير لك سلاحاً، تقاتل به هؤلاء الشياطين، الذين قال إمامهم، ومقدمهم لربك عز وجل: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ - ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 - 17] [سورة الأعراف، الآيات: 16 - 17] . ثم قال: «والحاصل: أن كل ما ذكر عنا من الأشياء، غير دعوة الناس إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، فكله من البهتان. ومن أعجب ما جرى من الرؤساء المخالفين: أني لما بيّنت لهم كلام الله وما ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] [سورة الإسراء، آية: 57] ، وقوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] [سورة يونس، آية: 18] ، وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] [سورة الزمر، آية: 3] ، وما ذكر الله من إقرار الكفار في قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [يونس: 31] [سورة يونس، آية: 31] وغير ذلك. قالوا: القرآن لا يجوز العمل به لنا، ولأمثالنا، ولا بكلام الرسول؛ ولا بكلام المتقدمين؛ ولا نطيع إلاّ ما ذكره المتأخرون. قلت لهم: أنا أخاصم الحنفي، بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، كل أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم، الذين يعتمدون عليهم فلما أبوا ذلك، نقلت كلام العلماء من كل مذهب لأهله، وذكرت كل ما قالوا، بعدما صرحت الدعوة عند القبور، والنذر لها، فعرفوا ذلك، وتحققوه فلم يزدهم إلا نفورًا» . إلى أن قال: «فرحم الله: من أدى الواجب عليه، وتاب إلى الله، وأقر على نفسه؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له؛ ونسأل الله أن يهدينا وإياكم لما يحبه ويرضاه» (¬1) . وقال مُفَنِّدًا لما نسبه إليه الخصُوم من المفتريات، وذلك في رسالته لابن صباح: ¬

(¬1) الدرر السنية (1 - 74) .

«فلما رأوني: آمر الناس بما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم أن لا يعبدوا إلا الله، وأن من دعا عبد القادر، فهو كافر؛ وعبد القادر منه بريء، وكذلك من نخا (¬1) الصالحين، أو الأنبياء أو ندبهم أو سجد لهم، أو نذر لهم أو قصدهم بشيء من أنواع العبادة التي هي حق الله على العبيد، وكل إنسان يعرف أمر الله ورسوله لا ينكر هذا الأمر، بل يقر به، ويعرفه» (¬2) . وقال في رسالته إلى ابن السويدي، عالم من أهل العراق حين سأله عما يقول الناس فيه، فأجابه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ في الله: عبد الرحمن بن عبد الله. سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد وصل إليّ كتابك، وسُرَّ الخاطر، جعلك الله من أئمة المتقين، ومن الدعاة إلى دين سيد المرسلين؛ وأخبرك أني - ولله الحمد - متبع، لست بمبتدع عقيدتي وديني الذي أدين الله به، هو مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة، وأتباعهم إلى يوم القيامة. ولكنني بيّنت للناس: إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء، والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه أحد، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل وهو الذي دعت إليه الرسل، من أولهم إلى آخره؛ وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة» (¬3) . ثم قال: «وأيضاً: ألزمْتُ مَنْ تحت يدي، بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وغير ذلك من فرائض الله، ونهيتهم عن الربا وشرب المسكر، وأنواع المنكرات، فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا، وعيبه؛ لكونه مستحسنًا عند العوام؛ فجعلوا قدحهم وعداوتهم فيما آمر به من التوحيد، وأنهى عنه من الشرك ولبَّسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس، ونسبوا إلينا أنواع المفتريات فكبرت الفتنة وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله. ¬

(¬1) نخاهم: استغاث بهم واستنجد. (¬2) الدرر السنية (1) (¬3) الدرر السنية (1) .

فمنها: إشاعة البهتان بما يستحي العاقل أن يحكيه فضلاً عن أن يفتريه. ومنها: ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني، وأني أزعم أن أنكحتهم غير صحيحة فيا عجبًا كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟! وهل يقول هذا مسلم، إني أبرأ إلى الله من هذا القول، الذي ما يصدر إلا عن مختل العقل، فاقد الإدراك فقاتل الله أهل الأغراض الباطلة. وكذلك قولهم: إني أقول: لو أقدر على هدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم لهدمتها. وأما دلائل الخيرات، وما قيل عني: أني حرقتها، فله سبب، وذلك أني أشرت على مَنْ قَبِلَ نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجلّ من كتاب الله؛ ولا يظن أن القراءة فيه أفضل من قراءة القرآن، وأما: إحراقها والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان، فنسبة هذا إليّ من الزور والبهتان. والحاصل: أن ما ذُكر عني من الأسباب، غير دعوة الناس إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، فكله من البهتان؛ وهذا لو خفي على غيركم، فلا يخفى على حضرتكم، ولو أن رجلا من أهل بلدكم ولو كان أحب الخلق إلى الناس قام يُلزم الناس الإخلاص، ويمنعهم من دعوة أهل القبور، وله أعداء وحُسَّاد أشد منه رياسة وأكثر اتباعًا وقاموا يرمونه بمثل هذه الأكاذيب، ويوهمون الناس أن هذا تنقص بالصالحين وأن دعوتهم من إجلالهم واحترامهم لعلمتم كيف يجري عليه» (¬1) . وقال في رسالة بعثها إلى أهل المغرب، بعد أن تحدث عن وقوع الافتراق في الأمة: «إذا عُرف هذا، فمعلوم: ما قد عمت به البلوى، من حوادث الأمور، التي أعظمها الإشراك بالله، والتوجه إلى الموتى وسؤالهم النصر على الأعداء، وقضاء الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلاّ ربّ الأرض والسماوات؛ وكذلك التقرب إليهم بالنذور، وذبح القربان، والاستغاثة بهم في كشف الشدائد، وجلب الفوائد إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله. ¬

(¬1) الدرر السنية (1 - 83) .

وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله: كصرف جميعها؛ لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ - أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 2 - 3] [سورة الزمر، الآيات: 2 - 3] فأخبر سبحانه: أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصًا لوجهه؛ وأخبر: أن المشركين يدعون الملائكة، والأنبياء والصالحين، ليقربوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار؛ فكذبهم في هذه الدعوى، وكفَّرهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] [سورة الزمر، آية: 3] وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] [سورة يونس، آية: 18] ، فأخبر: أن من جعل بينه وبين الله وسائط، يسألهم الشفاعة، فقد عبدهم وأشرك بهم وذلك: أنَّ الشفاعة كلها لله كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ} [الزمر: 44] [سورة الزمر، آية: 44] . فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] [سورة البقرة، آية: 255] وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] [سورة طه، آية: 109] وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد، كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] [سورة الأنبياء، آية: 28] وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ - وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 - 23] [سورة سبأ، آية: 22 - 23] فالشفاعة: حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله تعالى كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] [سورة الجن، آية: 18] ، وقال: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106] [سورة يونس، آية: 106] فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذن الله، لا يشفع ابتداء بل «يأتي فيخر ساجدًا فيحمده بمحامد يعلمه إياها، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، ثم يحد له حدًّا فيدخلهم الجنة» فكيف بغيره من الأنبياء، والأولياء؟!

وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من علماء المسلمين، بل قد أجمع عليه السلف الصالح، من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، وغيرهم ممن سلك سبيلهم ودرج على منهجهم. وأما: ما صدر من سؤال الأنبياء، والأولياء الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها والسُّرُج، والصلاة عندها واتخاذها أعياداً، وجعل السدنة والنذور لها، فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها النبي صلى الله عليه وسلم وحذَّر منها، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقوم الساعة، حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان» (¬1) . وهو صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد، أعظم حماية وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، فنهى أن يُجصص القبر، وأن يُبنى عليه كما ثبت في صحيح مسلم، من حديث جابر (¬2) وثبت فيه أيضاً: أنه بعث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأمره أن لا يدع قبرًا مشرفًا إلا سواه، ولا تمثالًا إلا طمسه (¬3) ؛ ولهذا قال غير واحد من العلماء: يجب هدم القبب المبنية على القبور؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذا: هو الذي أوجب الاختلاف، بيننا وبين الناس، حتى آل بهم الأمر، إلى أن كفَّرونا، وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا حتى نصرنا الله عليهم، وظفرنا بهم وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه، بعدما نقيم عليهم الحجة، من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح، من الأئمة ممتثلين لقوله –سبحانه وتعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ} [الأنفال: 39] [سورة الأنفال، آية: 39] فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان، قاتلناه بالسيف والسنان، كما قال تعالى: ¬

(¬1) رواه مسلم (2889) ، وابن ماجه (3952) ، والبرقاني في صحيحه واللفظ له عند ابن ماجه: «وستعبد قبائل من أمتي الأوثان» من حديث ثوبان - رضي الله عنه -) . (¬2) رواه مسلم (2245) . (¬3) أخرجه أحمد في المسند برقم (71) ، ومسلم برقم (969) وغيرهما، كما صح عنه أنه نهى عن البناء على القبور.

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] [سورة الحديد، آية: 25] . وندعو الناس: إلى إقام الصلاة في الجماعات، على الوجه المشروع، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج بيت الله الحرام، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41] [سورة الحج، آية: 41] . فهذا: هو الذي نعتقد وندين الله به، فمن عمل بذلك فهو أخونا المسلم له ما لنا وعليه ما علينا. ونعتقد أيضًا: أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين لسنته، لا تجتمع على ضلالة وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك وصلى الله على محمد» (¬1) . وقال في رسالة له: «من محمد بن عبد الوهاب، إلى الشيخ فاضل آل مزيد، زاده الله من الإيمان، وأعاذه من نزغات الشيطان. أما بعد: فالسبب في المكاتبة: أن راشد بن عربان، ذكر لنا عنك كلامًا حسناً، سر الخاطر، وذكر عنك: أنك طالب مني المكاتبة، بسبب ما يجيئك من كلام العدوان (¬2) من الكذب، والبهتان؛ وهذا هو الواجب من مثلك أنه لا يقبل كلامًا إلا إذا تحققه. وأنا أذكر لك: أمرين قبل أن أذكر لك صفة الدين. الأول: أني أذكر لمن خالفني، أن الواجب على الناس اتباع ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته، وأقول لهم: الكتب عندكم، انظروا فيها ولا تأخذوا من كلامي شيئًا، لكن إذا عرفتم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في كتبكم، فاتبعوه ولو خالفه أكثر الناس. ¬

(¬1) الدرر السنية (1 -88) . (¬2) أي: الأعداء.

والأمر الثاني: أن هذا الأمر الذي أنكروا علي وأبغضوني وعادوني من أجله إذا سألوا عنه كل عالم في الشام واليمن، أو غيرهم يقول: هذا هو الحق وهو دين الله ورسوله؛ ولكن ما أقدر أظهره في مكاني لأجل أن الدولة (¬1) ما يرضون، وابن عبد الوهاب أظهره؛ لأن الحاكم في بلده ما أنكره بل لما عرف الحق اتبعه، هذا كلام العلماء وأظنه وصلك كلامهم. فأنت: تفكر في الأمر الأول وهو قولي: لا تطيعوني ولا تطيعوا إلا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في كتبكم، وتفكر في الأمر الثاني: أن كل عاقل مقر به لكن ما يقدر يظهره، فقدم لنفسك ما ينجيك عند الله، واعلم أنه ما ينجيك إلا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والدنيا زائلة، والجنة والنار ما ينبغي للعاقل أن ينساهما. وصورة الأمر الصحيح، أني أقول: ما يُدعى إلا الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى في كتابه: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] [سورة الجن، آية: 18] ، وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21] [سورة الجن، آية: 21] فهذا كلام الله والذي ذكره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصانا به، ونهى الناس لا يدعونه فلما ذكرت لهم: أن هذه المقامات التي في الشام والحرمين وغيرها أنها على خلاف أمر الله ورسوله وأن دعوة الصالحين، والتعلق عليهم، هو الشرك بالله الذي قال الله فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72] [سورة المائدة، آية: 72] فلما أظهرت هذا: أنكروه وكبر عليهم؛ وقالوا: أجعلتنا مشركين؟ وهذا ليس إشراكاً، هذا كلامهم وهذا كلامي، أسنده عن الله ورسوله وهذا هو الذي بيني وبينكم، فإن ذكر شيء غير هذا فهو كذب وبهتان، والذي يصدق كلامي هذا أن العالم ما يقدر يظهره حتى من علماء الشام من يقول: هذا هو الحق ولكن لا يظهره إلا من يحارب الدولة؛ وأنت -ولله الحمد- ما تخاف إلاّ الله، نسأل الله أن يهدينا وإياكم إلى دين الله ورسوله، والله أعلم» (¬2) . ¬

(¬1) يعني الدولة العثمانية حيث مالت في آخر عهدها إلى التصوف وبدع القبور وبناء المساجد والقباب عليها، وبناء المشاهد ونحوها. (¬2) الدرر السنية (1 - 91) .

وللشيخ في بيان هذه القضية العادلة الشريفة والدفاع عنها كلام كثير؛ إذ تدور عليها سائر أعماله وأقواله وأحواله ومؤلفاته وأبرزها كتاب (التوحيد) الشهير، و (كشف الشبهات) و (الأصول الثلاثة) و (مسائل الجاهلية) وغيرها كثير. ومن الرسائل التي بعثها خطابًا عامًا للمسلمين كذلك: «من محمد بن عبد الوهاب: إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فاعلموا رحمكم الله، أن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس بشيرًا ونذيراً، مبشرًا لمن اتبعه بالجنة، ومنذرًا لمن لا يتبعه عن النار، وقد علمتم إقرار كل من له معرفة أن التوحيد الذي بينا للناس هو الذي أرسل الله به رسله، حتى إن كل مطوَّع معاند (¬1) يشهد بذلك وأن الذي عليه غالب الناس من الاعتقادات في الصالحين، (¬2) وفي غيرهم هو الشرك الذي قال الله فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72] [سورة المائدة، آية: 72] فإذا تحققتم هذا وعرفتم أنهم يقولون: لو يتركون أهل العارض التكفير والقتال كانوا على دين الله ورسوله، ونحن ما جئناكم في التكفير، والقتال لكن ننصحكم بهذا الذي قطعتم أنه دين الله ورسوله أن تعلموه وتعملوا به إن كنتم من أتباع محمد باطنًا وظاهرًا» . (¬3) . وفي رسالة للإمام محمد والإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى أحد علماء اليمن بعد الافتتاحية قال: «من عبد العزيز بن محمد بن سعود، ومحمد بن عبد الوهاب: إلى الأخ في الله: أحمد بن محمد العديلي البكبلي (¬4) سلمه الله من جميع الآفات، ¬

(¬1) أي: كل متدين ولو كان خصمًا معاندًا. (¬2) يعني: تقديسهم، واعتقاد أنهم ينفعون أو يضرون من دون الله وفيما لا يقدر عليه إلا الله، ومنه اعتقاد أنهم لهم تصرف في الكون وأنهم يعلمون الغيب ونحو ذلك من المعتقدات الفاسدة. (¬3) الدرر السنية (1، 93) (¬4) قال المهمِّش: لعله: البهكلي: المترجَمُ في نيل الوطر، ص (207) ج المتوفى سنة (1227هـ) وقلت: بل لعله البكيلي من قبيلة بكيل في اليمن.

واستعمله بالباقيات الصالحات، وحفظه من جميع البليات، وضاعف له الحسنات، ومحا عنه السيئات، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أما بعد: لفانا (¬1) كتابكم، وسُر الخاطر بما ذكرتم فيه، من سؤالكم، وما بلغنا على البعد، من أخباركم، وسؤالكم عما نحن عليه، وما دعونا الناس إليه، فأردنا أن نكشف عنكم الشبهة بالتفصيل، ونوضح لكم القول الراجح بالدليل، ونسأل الله - رضي الله عنه - أن يسلك بنا وبكم أحسن منهج وسبيل. أما: ما نحن عليه من الدين؟ فعلى دين الإسلام، الذي قال الله فيه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] [سورة آل عمران، آية: 85] . وأما: ما دعونا الناس إليه؟ فندعوهم إلى التوحيد، الذي قال الله فيه خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] [سورة يوسف، آية: 108] وقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] [سورة الجن، آية: 18] . وأما: ما نهينا الناس عنه؟ فنهيناهم عن الشرك، الذي قال الله فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72] [سورة المائدة، آية: 72] وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على سبيل التغليظ، وإلا فهو منزه، هو وإخوانه من الشرك: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ - بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 65 - 66] [سورة الزمر، آية: 65 - 66] وغير ذلك من الآيات. ونقاتلهم عليه، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 39] [سورة الأنفال، آية: 39] ، وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] [سورة التوبة، آية: 5] ¬

(¬1) أي: وافانا ووصل إلينا.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل» (¬1) (¬2) . إلى أن قال: «وما جئنا بشيء يخالف النقل، ولا ينكره العقل؛ ولكنهم يقولون ما لا يفعلون، ونحن نقول ونفعل: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] [سورة الصف، آية: 3] نقاتل: عُبَّاد الأوثان، كما قاتلهم صلى الله عليه وسلم ونقاتلهم على ترك الصلاة، وعلى منع الزكاة، كما قاتل مانعها، صديق هذه الأمة أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -؛ ولكن ما هو إلا كما قال ورقة بن نوفل: ما أتى أحد بمثل ما أتيت به، إلا عودي، وأوذي، وأخرج، وما قل وكفى، خير مما كثر وألهى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» (¬3) . وقال في رسالته لأحد علماء المدينة: «وإن سألت عن سبب الاختلاف، الذي هو بيننا وبين الناس؟ فما اختلفنا في شيء من شرائع الإسلام، من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج، وغير ذلك ولا في شيء من المحرمات الشيء الذي عندنا زين، هو عند الناس زين؛ والذي عندهم شين هو عندنا شين، إلا أنا نعمل بالزين، ونغصب الذي يدنا عليه، وننهى عن الشين، ونؤدب الناس عليه. والذي قلب الناس علينا: الذي قلبهم على سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم وقلبهم على الرسل من قبله: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} [المؤمنون: 44] [سورة المؤمنون، آية: 44] ومثل ما قاله ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم: «والله ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي» (¬4) ؛ فرأس الأمر عندنا، وأساسه: إخلاص الدين لله نقول: ما يُدعى إلا الله، ولا يُنذر إلا لله، ولا يُذبح القربان إلا ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب الزكاة: باب وجوب الزكاة رقم (1399) ،، ومسلم، كتاب الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، رقم (32) ، وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -) . (¬2) الدرر السنية (1 -96) . (¬3) الدرر السنية (1 -99) . (¬4) جزء من حديث رواه البخاري رقم (3) ، (3392) وغيرها. ومسلم رقم (160) من حديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -.

سير أتباعه على هذا المنهاج

لله، ولا يخاف خوف الله إلا من الله، فمن جعل من هذا شيئًا لغير الله فنقول: هذا الشرك بالله، الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] [سورة النساء، آية: 48] والكفار الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم: يقرون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، النافع الضار، المدبر لجميع الأمور، واقرأ قوله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [يونس: 31] [سورة يونس، آية: 31] قُلْ مَنْ {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 88 - 89] [سورة المؤمنون، آية: 88 - 89] وأخبر الله عن الكفار: أنهم يخلصون لله الدين أوقات الشدائد، واذكر قوله سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] [سورة العنكبوت، آية: 65] والآية الأخرى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: 32] [سورة لقمان، آية: 32] وبين الله غاية الكفار، ومطلبهم أنهم يطلبون الشفع (¬1) واقرأ أول سورة الزمر، تراه سبحانه بيَّن دين الإسلام، وبين دين الكفار ومطلبهم، الآيات في هذا من القرآن: ما تحصى ولا تعد» (¬2) . ثم ذكر جملة من الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم. [سير أتباعه على هذا المنهاج] [وسار أتباعه على هذا المنهاج في بيان حقيقة الدعوة والدفاع عنها] : ومن ذلك قول الشيخ عبد الله بن الإمام محمد: «وهذا الدين الذي ندعو إليه، قد ظهر أمره وشاع وذاع، وملأ الأسماع، من مدة طويلة، وأكثر الناس بدّعونا، وخرّجونا، وعادونا عنده، وقاتلونا، واستحلوا دماءنا وأموالنا، ولم يكن لنا ذنب سوى تجريد التوحيد، والنهي عن دعوة غير الله والاستغاثة بغيره، وما أحدث من البدع والمنكرات، حتى غلبوا وقُهِروا، فعند ذلك أذعنوا وأقروا بعد الإنكار» (¬3) . ¬

(¬1) كذا في المطبوعة وهي بمعنى: الشفاعة. (¬2) الدرر السنية (1، 60) . (¬3) الدرر السنية (1) .

وقال الشيخ: حمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن أحد أحفاد الإمام بعد الافتتاحية: «من محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، إلى من يراه من أهل القرى، ورؤساء القبائل، من أهل اليمن، وعسير، وتهامة، وشهران، وبني شهر، وقحطان، وغامد، وزهران، وكافة أهل الحجاز، وغيرهم هدانا الله وإياهم لدين الإسلام، وجعلنا وإياهم من أتباع سيد الأنام، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . . ثم قال: «وصار بعض الناس: يسمع بنا معاشر الوهابية (¬1) ولا يعرف حقيقة ما نحن عليه، وينسب إلينا، ويضيف إلى ديننا السفاسف، والأباطيل، تنفيرًا للناس عن قبول هذا الدين، وصدًّا لهم عن توحيد رب العالمين، فأوجب لنا: تسويد هذه العجالة، بيانًا لما نعتقده وندين الله به وندعو إليه ونجاهد الناس عليه. فاعلموا - أن حقيقة ما نحن عليه، وما ندعو إليه ونجاهد على التزامه، والعمل به - أنَّا ندعو إلى دين الإسلام، والتزام أركانه، وأحكامه، الذي أصله وأساسه: شهادة أن لا إله إلا الله، والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وهذه العبادة مبنية على أصلين: كمال الحب لله، مع كمال الخضوع، والذل له والعبادة لها أنواع كثيرة؛ فمن أنواعها: الدعاء وهو من أجلّ أنواع العبادة، وسماه عبادة، في عدة مواضع من كتابه، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] [سورة غافر، آية: 60] . ونظائر هذا في القرآن كثير؛ وفي الحديث: «الدعاء مخ العبادة» (¬2) . فنقول: لا يُدعى إلا الله، ولا يُستغاث في الشدائد، وجلب الفوائد إلا به، ولا يذبح ¬

(¬1) لم يكن من عادة علماء الدعوة، وأتباعها الإقرار بإطلاق (الوهابية) على هذه الدعوة السلفية؛ لأنها كانت من الخصوم على سبيل اللمز والسب ولعل الشيخ هنا ذكرها على سبيل التنزل، ولشهرة هذا الاصطلاح حتى صار يطلق من المؤيد والمعارض. (¬2) رواه الترمذي (3371) عن أنس - رضي الله عنه - بهذا اللفظ، وفيه الوليد بن مسلم وهو مدلس وقد عنعن وفيه أيضًا ابن لهيعة، وكان قد اختلط وضُعِّف. قال الترمذي: «حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة» ، ولكن قد ثبت الحديث بلفظ «الدعاء هو العبادة» رواه الترمذي (3370) ، وأحمد (2) ، وابن ماجه (3829) ، وابن حبان (1) ، والحاكم (1) وصححه، والبخاري في الأدب المفرد (712) من حديث النعمان بن بشير، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (3401) .

القربان إلا له، ولا يُنذر إلا له، ولا يخاف خوف السر إلا منه وحده، ولا يُتوكل إلا عليه ولا يستعان ولا يستعاذ إلا به، وليس لأحد من الخلق شيء من ذلك لا الملائكة ولا الأنبياء ولا الأولياء، ولا الصالحين ولا غيرهم فلله حق، لا يكون لغيره، وحقه تعالى: إفراده بجميع أنواع العبادة، فلا تأله القلوب محبة وإجلالاً وتعظيمًا وخوفًا ورجاء، إلا الله فهذه هي الحكمة الشرعية الدينية والأمر المقصود في إيجاد البرية» . وبعد أن شرح هذا المبدأ، واستدل له من القرآن والسنة قال: «ومن كان له معرفة بما بعث الله به رسوله، علم: أن ما يفعل عند القبور، من دعاء أصحابها والاستغاثة بهم، والعكوف عند ضرائحهم والسجود لهم، والنذر لهم أعظم وأكبر من فعل الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، وأقبح وأشنع من قول الذين قالوا اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. قال بعض العلماء المحققين، - رحمه الله - تعالى: فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة، لتعليق الأسلحة والعكوف عليها اتخاذ إله، مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها فما الظن بالعكوف حول القبر، والدعاء به، ودعائه والدعاء عنده؟ فأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر، لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون؟ انتهى. ولقد حمى النبي صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، وسد الذرائع، التي تُفضي إلى الشرك والتنديد، فقال فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬1) ونهى عن إيقاد السرج عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسرج» (¬2) ونهى: أن تُتخذ عيدًا، ونهى عن البناء عليها، وأمر بتسويتها بالأرض، كما روى مسلم في صحيحه، عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي - رضي الله عنه - ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع ¬

(¬1) رواه مالك: كتاب الصلاة، باب الصلاة (261) . (¬2) رواه الترمذي (320) ، وأحمد (2030، 2603، 2986، 3118) ، وأبو داود (3236) ، والنسائي (2405) . والحديث صححه الألباني بدون لفظة «السرج» راجع: أحكام الجنائز.

الشفاعة والتوسل والتبرك ودعوى منعها

تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته (¬1) ونهى: عن تجصيص القبور، وعن الكتابة عليها. فنحن: ننكر الغلو في أهل القبور، والإطراء، والتعظيم؛ ونهدم البنايات، التي على قبور الأموات؛ لما فيها من الغلو، والتعظيم الذي هو أعظم وسائل الشرك بالله، وهذه الأمور التي أوجبت عبادتها من دون الله: ابتدعها أناس، أرادوا بها التعظيم، وإظهار تشريفهم، فجاء من بعدهم، فعبدوهم من دون الله، وقصدوا منهم كشف المُلِمات، وسألوهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات؛ واعتقدوا هذا الشرك الوخيم، قربة ودينًا يدينون به، واشتد نكيرهم على من أنكر ذلك، وحذروا عنه، ورموه بالزور والبهتان؛ والله ناصر دينه في كل زمان، ومكان لكنه يمتحن حزبه، بحربه منذ كانت الفئتان» (¬2) . [الشفاعة والتوسُل والتبرك ودعوى منعها] دعوى منعهم الشفاعة والتوسل والتبرك مطلقا: التوسل والتبرك والشفاعة من الأمور الكبيرة التي أثارها الخصوم من أهل البدع والأهواء والافتراق على أهل السنة والجماعة منذ زمن بعيد؛ ثم لما ظهر الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، ودعا إلى السنة وأنكر البدع، وكان أشهرها وأظهرها إنكار التوسلات البدعية والتبرك البدعي والغلو في باب الشفاعة. وهذه الأمور أغلب مسائلها تتفرع عن القضية الكبرى التي سبق الحديث عنها وهي قضية: التوحيد وما ينقضه وما ينافيه. وقد أشاع خصوم السنة -من أهل البدع - حول هذه المسائل شبهات كثيرة وافتروا على أهل السنة عمومًا، وعلى الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه على الخصوص مفتريات ومزاعم كبيرة. فزعموا أنهم يمنعون التوسل والتبرك والشفاعة مطلقًا. وأنهم بناء على ذلك ينتقصون الرسول صلى الله عليه وسلم وربما قالوا: يبغضونه؛ وأنهم بناء على ذلك يبغضون الأنبياء والصالحين ويكرهون الأولياء! . ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند برقم (71) ، ومسلم برقم (969) وغيرهما، كما صح عنه أنه نهى عن البناء على القبور. (¬2) الدرر السنية (1 - 571) .

والحق: أن أهل السنة ومنهم الإمام محمد وأتباعه - يثبتون كلَّ ما جاء في الأدلة من القرآن وصحيح السنة من ذلك وينفون ما عداه؛ لأن هذا من الأمور التوقيفية التي لا يمكن للناس أن يشرعوا فيها شيئاً. ومن شرع إثباتًا أو نفيًا فقد ابتدع، وأحدث في الدين ما ليس منه، وعمله مردود بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (¬1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬2) وهذه نصوص قطعية محكمة. يعتقد أهل السنَّة والجماعة (ومنهم أتباع هذه الدعوة المباركة) أن الشفاعة نوعان: مثبتة وهي ما جاءت بها النصوص وتوافرت بها الشروط التي ذكر الله تعالى في كتابه كالشفاعة العظمى والمقام المحمود للنبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته لأهل الكبائر من أمته، وشفاعته لعمه أبي طالب أن يخفف عنه من عذاب النار، ونحو ذلك مما ثبت بدليل وما لم يثبت بدليل، فهو الشفاعة المنفية وهو النوع الثاني. وقد أفاض الإمام محمد بن عبد الوهاب في هذه المسألة وكذلك علماء الدعوة وسائر أهل السنة وبينوها بأدلتها غاية البيان بالأدلة وكشفوا شبهات أهل البدع بما فيه الكفاية لمن كان قصده الحق. يقول الإمام منكرًا التوسلات والشفاعات الشركية والبدعية في رسالته لابن صباح: بسم الله الرحمن الرحيم الذي يعلم من وقف عليه من الإخوان، المتبعين محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن صباح: سألني عما ينسب إليّ؟ فطلب مني: أن أكتب الجواب؛ فكتبته: الحمد لله رب العالمين؛ أما بعد: فما ذكره المشركون: على أني أنهى عن الصلاة على النبي، أو أني أقول: لو أن لي أمرًا، هدمت قبة النبي صلى الله عليه وسلم أو أني أتكلم في الصالحين، أو أنهي عن محبتهم، فكل هذا كذب وبهتان، افتراه عليَّ الشياطين، الذين يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل، مثل أولاد شمسان، وأولاد إدريس، الذين يأمرون الناس ينذرون ¬

(¬1) رواه البخاري (2697) ، ومسلم (4492) من حديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) رواه مسلم (4493) ، وأبو داود (4606) واللفظ لمسلم.

لهم، وينخونهم، ويندبونهم، وكذلك فقراء الشيطان، الذين ينتسبون إلى الشيخ عبد القادر -رحمه الله- وهو منهم بريء، كبراءة علي بن أبي طالب من الرافضة. فلما رأوني: آمر الناس بما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم أن لا يعبدوا إلا الله، وأن من دعا عبد القادر، فهو كافر؛ وعبد القادر منه بريء، وكذلك من نخا الصالحين، أو الأنبياء أو ندبهم أو سجد لهم أو نذر لهم، أو قصدهم بشيء من أنواع العبادة، التي هي حق الله على العبيد، وكل إنسان، يعرف أمر الله ورسوله: لا ينكر هذا الأمر، بل يُقِرُّ به، ويعرفه. وأما الذي ينكره، فهو بين أمرين، إن قال: إن دعوة الصالحين واستغاثتهم والنذر لهم وصيرورة الإنسان فقيرًا لهم، أمر حسن؛ ولو ذكر الله ورسوله: إنه كفر؛ فهو مُصِرّ بتكذيب الله ورسوله، ولا خفاء في كفره فليس لنا معه كلام. وإنما كلامنا: مع رجل يؤمن بالله واليوم الآخر، ويحب ما أحب الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله، لكنه جاهل، قد لبست عليه الشياطين دينه؛ ويظن: أن الاعتقاد في الصالحين حق؛ ولو يدري أنه كفر، يُدْخل صاحبه في النار ما فعله؛ ونحن: نبين لهذا ما يوضح له الأمر، فنقول: الذي يجب على المسلم أن يتبع أمر الله ورسوله، ويسأل عنه والله سبحانه: أنزل القرآن وذكر فيه ما يحبه، ويبغضه، وبيّن لنا فيه ديننا، وأكمل؛ وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، فليس على وجه الأرض أحد أحب إلى أصحابه منه؛ وهم يحبونه على أنفسهم، وأولادهم، ويعرفون قدره، ويعرفون أيضًا: الشرك والإيمان. فإن كان أحد من المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعاه، أو نذر له أو ندبه (¬1) أو أحد من أصحابه جاء عند قبره بعد موته يسأله، أو يندبه، أو يدخل عليه للالتجاء له عند القبر، فاعرف: أن هذا أمر صحيح حسن، ولا تطعني، ولا غيري. وإن كان إذا سألت وجدت أنه: صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن اعتقد (¬2) في الأنبياء، والصالحين وقتلهم وسباهم وأولادهم، وأخذ أموالهم وحكم بكفرهم، فاعرف: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالحق؛ والواجب على كل مؤمن اتباعه فيما جاء به. ¬

(¬1) أي: استغاث به. (¬2) الإمام كثيرًا ما يسمى تقديس الصالحين، وعبادتهم من دون الله عز وجل (اعتقاد فيهم) .

وبالجملة فالذي أنكره: الاعتقاد في غير الله، مما لا يجوز لغيره؛ فإن كنت قلته من عندي، فارم به؛ أو من كتاب لقيته، ليس عليه عمل، فارم به كذلك؛ أو نقلته عن أهل مذهبي، فارم به، وإن كنت قلته عن أمر الله ورسوله، وعما أجمع عليه العلماء في كل مذهب، فلا ينبغي لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرض عنه؛ لأجل أهل زمانه، أو أهل بلده، وأنّ أكثر الناس في زمانه أعرضوا عنه. واعلم أن الأدلة على هذا، من كلام الله وكلام رسوله كثيرة، لكن: أنا أمثل لك بدليل واحد، ينبهك على غيره، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56 - 57] [سورة الإسراء، آية: 56، 57] ذكر المفسرون في تفسيرها: أن جماعة كانوا يعتقدون في عيسى - عليه السلام - وعزير؛ فقال تعالى: هؤلاء عبيدي، كما أنتم عبيدي، ويرجون رحمتي، كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي، كما تخافون عذابي. فيا عباد الله: تَفَكَّرُوا في كلام ربّكم، تبارك وتعالى، إذا كان ذكر عن الكفار، الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن دينهم الذي كفرهم به، هو الاعتقاد في الصالحين؛ وإلا فالكفار يخافون الله، ويرجونه، ويحجون، ويتصدقون، ولكنهم كفروا بالاعتقاد في الصالحين؛ وهم يقولون: إنما اعتقدنا فيهم، ليقربونا إلى الله زلفى، يشفعوا لنا، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] [سورة الزمر، آية: 3] ، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا} [يونس: 18] [سورة يونس، آية: 18] . فيا عباد الله: إذا كان الله ذكر في كتابه، أن دين الكفار، هو الاعتقاد في الصالحين؛ وذكر أنهم اعتقدوا فيهم ودعوهم وندبوهم؛ لأجل أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، هل بعد هذا البيان، بيان؟ فإذا كان من اعتقد في عيسى ابن مريم، مع أنه نبي من الأنبياء، وندبه ونخاه (¬1) فقد كفر؛ فكيف بمن يعتقدون في الشياطين، كالكلب: أبي حديدة، ¬

(¬1) نخاه، أي: استغاث به واستنجد.

وعثمان، الذي في الوادي، والكلاب الأخر في الخرج، وغيرهم في سائر البلدان، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله؟!» . ثم قال موجهًا النصيحة لكل مسلم مستمسك بالحق: «أنت يا من هداه الله، لا تظن أن هؤلاء يحبون الصالحين، بل هؤلاء أعداء الصالحين؛ وأنت والله الذي تحب الصالحين؛ لأن من أحب قومًا أطاعهم، فمن أحب الصالحين وأطاعهم لم يعتقد إلا في الله، وأما من عصاهم ودعاهم يزعم أنه يحبهم فهو مثل النصارى، الذي يدعون عيسى، ويزعمون محبته وهو بريء منهم» . ثم ذكر الذين يدعون علي بن أبي طالب، وهو بريء منهم. وقال: «ونختم هذا الكتاب بكلمة واحدة، وهي أن أقول: يا عباد الله، لا تطيعوني، ولا تفكروا (¬1) ؛ واسألوا أهل العلم من كل مذهب، عما قال الله ورسوله؛ وأنا أنصحكم: لا تظنوا أن الاعتقاد في الصالحين، مثل الزنا، والسرقة، بل هو عبادة للأصنام، من فعله كفر، وتبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا عباد الله تفكروا، وتذكروا؛ والسلام» (¬2) . وقال: «ومن أعجب ما جرى من الرؤساء المخالفين أني لما بيّنت لهم كلام الله، وما ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] [سورة الإسراء، آية: 57] وقوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا} [يونس: 18] [سورة يونس، آية: 18] وقوله {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] [سورة الزمر، آية: 3] وما ذكر الله من إقرار الكفار في قوله {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [يونس: 31] [سورة يونس، آية: 31] وغير ذلك. قالوا: القرآن لا يجوز العمل به لنا، ولأمثالنا، ولا بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولا بكلام المتقدمين، ولا نطيع إلا ما ذكره المتأخرون. قلت لهم: أنا أخاصم الحنفي، بكلام المتأخرين من الحنفية والمالكي، والشافعي، ¬

(¬1) أي لا يتفرد أحدكم باجتهاد من نفسه والله أعلم. (¬2) الدرر السنية (1 - 78) .

والحنبلي، كل أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم، الذين يعتمدون عليهم، فلما أبوا ذلك، نقلت كلام العلماء من كل مذهب لأهله، وذكرت كل ما قالوا، بعدما صرحت الدعوة عند القبور، والنذر لها، فعرفوا ذلك، وتحققوه، فلم يزدهم إلاّ نفورًا» (¬1) . وقد فصَّل الشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب هذه المسألة فقال مجيباً: «عمن كان يستغيث بالمخلوق عند الشدائد بالنداء والدعاء ويستغيث ويتوسل ويتوجه بنبيه أو بالصالحين فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في أدعية الصباح «أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض وبكل حق هو لك وبحق السائلين عليك أن تقيلني في هذه الغداة» (¬2) مع الحديث الآخر: «أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له ادع الله أن يعافيني قال: «إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك» قال: ادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضي لي اللهم فشفعه في» (¬3) . فهذان الحديثان مصرحان بالتوسل والتوجه والدعاء والتشفع والنداء، وما حكم من فعل ذلك وهو غير قاصد للشرك ولا معاند للإسلام؟ فالفرق ظاهر بينه وبين من قصد الشرك والعناد بعد معرفة التوحيد» . قال: فنقول: «الجواب: وبالله التوفيق أما سؤال الميت والغائب نبيًّا كان أو غيره تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، والاستغاثة به في الأمور المهمات فهو من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين لم يأمر الله به ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين، وهذا مما يُعلم بالاضطرار من دين الإسلام، فإنه لم يكن أحد منهم إذا نزلت به تِرَة أو عرضت له حاجة أو نزلت به كربة وشدة يقول لميت يا ¬

(¬1) الدرر السنية (1، 73) . (¬2) رواه الطبراني قال الهيثمي في المجمع (10) وفيه فضَّال بن جبير وهو ضعيف مجمع على ضعفه. (¬3) رواه الترمذي (3578) ، وابن ماجه (13785) ، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو الخطمي، وحسنه الألباني في التوسل.

سيدي فلان حسبك أو اقض حاجتي أو أنا مستشفع بك إلى ربي؛ كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين. ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها ولا كانوا يقصدون قبورهم للدعاء والصلاة عندها. ولهذا ثبت في الصحيح «أن الناس لما قحطوا في زمان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استسقى بالعباس وتوسل بدعائه، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك إذا أجدبنا بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. فيسقون» (¬1) وكذلك معاوية - رضي الله عنه - لما استسقى بأهل الشام توسل بيزيد بن الأسود الجرشي (¬2) . فهذا الذي ذكره عمر - رضي الله عنه - توسُّل منهم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته؛ ولهذا توسل بعده بدعاء العباس، وتوسل معاوية بدعاء يزيد بن الأسود. وهذا الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء، وقالوا: يُستحب أن يستسقى بالصالحين وإذا كانوا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أفضل. وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع: أبعدها عن الشرع من يسأل الميت حاجته كما يفعله كثير من الناس وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام، وقد قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 56 - 57] [سورة الإسراء، الآيات: 56، 57] الآية. قالت طائفة من السلف كان أقوام يدعون الملائكة والمسيح وعزيرًا فقال الله لهم هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، فكل من دعا نبيًا أو وليًا أو صالحًا وجعل فيه نوعًا من الإلهية فقد تناولته هذه الآية؛ فإنها عامة في كل من دعا من دون الله مدعوا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته ¬

(¬1) رواه البخاري (2) ، كتاب الاستسقاء، باب: سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، وفي الفضائل (7) ، وابن سعد (4 -29) ، والبيهقي (3) . (¬2) أخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخ دمشق (1) ، وسنده صحيح، كما قال الحافظ في التلخيص (151) ، وقال «ورواه أبو القاسم اللالكائي في السنة في "كرامات الأولياء" منه» ، وكذلك صححه في الإصابة (10) . راجع: إرواء الغليل (3 - 140) .

ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأنبياء أو الصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرهما فقد فعل الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه. ومعلوم أن هؤلاء كلهم يجعلونهم وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهى عن دعائهم وبيَّن أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله لا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع كتغيير صفته أو قدره. ولهذا قال: (ولا تحويلا) فذكر نكرة تعم أنواع التحويل فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأنبياء والصالحين أو دعا الملائكة أو الجن فقد دعا من لا يُغيث ولا يملك كشف ضره ولا تحويله، وقد قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] [سورة الجن، آية: 6] وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أن لا يجوز الاستغاثة بمخلوق. وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك، فدل على أن كلمات الله غير مخلوقة، وأنها صفة من صفاته؛ لأن الاستغاثة بالمخلوق لا تجوز. والمقصود أن يعلم السائل وفقه الله تعالى أن الاستغاثة بالمخلوق في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله من كشف الكربات وإغاثة اللهفات وإجابة الدعوات من الشرك الذي لا يغفره الله وهو من الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] [سورة النساء، آية: 171] ، وقال: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] [سورة المائدة، آية 77] . والغلو في الصالحين هو من فعل المشركين كما حكاه – سبحانه وتعالى - عن قوم نوح في قوله: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ} [نوح: 23] [سورة نوح، آية: 23] الآية. قال ابن عباس - رضي الله عنه - «هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كان يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تُعْبَد حتى إذا هلك أولئك ونُسِيَ العلم عُبِدَتْ» (¬1) . ¬

(¬1) رواه البخاري (4920) .

فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعًا من العبادة، مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل» . إلى أن قال: «ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يُشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها؛ وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان تعظيم القبور. ولهذا اتفق العلماء على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره لا يتمسح بحجرته ولا يُقَبِّلها؛ لأن ذلك إنما يكون لأركان بيت الله فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملاً إلا به ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] [سورة النساء، آية: 48] . وقال: «النوع الثاني: من الأمور المبتدعة عند القبور أن يسأل الله تعالى به وهذا يفعله كثير من المتأخرين وهو من البدع المحدثة في الإسلام، ولكن بعض العلماء يرخص فيه وبعضهم ينهى عنه ويكرهه وليس هذا مثل النوع الذي قبله فإنه لا يصل إلى الشرك الأكبر عند من كرهه، ولا يسمى هذا استغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هو سؤال به، والفرق بينه وبين الذي قبله فرق عظيم أبعد مما بين المشرق والمغرب» . وقال: «والتوسل إلى الله في الدعاء بغير نبينا صلى الله عليه وسلم لا نعلم أحدًا من السلف فعله ولا روي فيه أثر، وقد قال أبوالحسين القدوري الحنفي في شرح الكرخي: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك. وهو قول أبي يوسف قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشك هو الله فلا أكره هذا (¬1) وأكره بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت والمشعر الحرام بهذا الحق يكره قالوا جميعًا. انتهى. وكذلك قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام الفقيه الشافعي في فتاويه المشهورة عنه: أنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى بخلقه إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم إن صح الحديث فيه يعني حديث ¬

(¬1) وقد صحَّ الحديث في ذلك وتقدم تخريجه.

هدم القباب والأبنية على القبور والمشاهد والمزارات ودعوى بغض الأولياء

الأعمى الذي رواه الترمذي (¬1) وغيره. والمسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق فلا يجوز أن يسأل ما ليس بمستحق، ولكن معقد العز من عرشك هل هو سؤال بمخلوق أو بالخالق؟ فيه نزاع بينهم فلذلك تنازعوا فيه، وأبو يوسف بلغه الأثر فيه أسألك بمعقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم وجدك الأعلى وكلماتك التامة فجوزه لذلك (¬2) والله أعلم. (وأما الجواب) عن الحديثين المذكورين فمن وجوه» (¬3) ثم ذكرها فلتراجع. [هدم القباب والأبنية على القبور والمشاهد والمزارات ودعوى بغض الأولياء] هدم القباب والأبنية على القبور والمشاهد والمزارات ودعوى بغض الأنبياء والأولياء: إن ما ادعاه الخصوم بأن الدعوة إذا تمكنت في بلد قامت بهدم القباب والأبنية على القبور والمشاهد والآثار فهذا حق، وهو عين الصواب، ويجب أن تمدح به ولا تذم، لكن الخصوم صوروا ذلك بصورة الباطل، ولبَّسوا على العامة دينهم وروَّجوا هذه الأخبار، وما يزاد عليها من مزاعم وحكايات في معرض التشنيع والاعتراض على هذه الأعمال. والتلبيس على الناس بأن إزالة هذه البدع تعني بغض الأولياء والصالحين وإهانتهم. مع أن الدعوة السلفية حين قامت بذلك كانت تفعله امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنكارًا لهذه البدع والمنكرات والمظاهر الشركية بمقتضى الأدلة الشرعية والتي منها حديث علي - رضي الله عنه - الذي أخرجه الإمام أحمد في السنة ومسلم في صحيحه وغيرهما: «عن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي - رضي الله عنه -: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته» (¬4) . وكان من أساليب الخصوم وإمعانهم في تهييج عواطف عامة المسلمين وجهالهم ¬

(¬1) وقد صحَّ الحديث في ذلك، رواه الترمذي (3578) ، وابن ماجه (13785) ، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو الخطمي، وحسنه الألباني في التوسل. (¬2) والأثر رواه الطبراني وقال الهيثمي في المجمع (10) إسناده حسن. (¬3) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (1، 78) . (¬4) سبق تخريجه.

ضد الدعوة أن زعموا أن أهلها يهينون الأولياء والأموات، ولا يعظمونهم. وهذا تلبيس فإن كان القصد بتعظيم الأولياء والأموات واحترامهم كما جاء به السنة؛ من زيارتهم والسلام عليهم والدعاء لهم، واحترام قبورهم وعدم إهانتها، ونحو ذلك فهذا ما يدين به أهل السنة ويعملون به، ومنهم الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه. أما إن قصد بذلك تقديسهم ورفعهم إلى مقام الألوهية والربوبية، وصرف شيء من العبادة لهم، أو اتخاذ البدع والمحدثات حول قبورهم من البناء عليها وإسراجها وتجصيصها، والتبرك بها، واتخاذها مساجد وقبابا ومشاهد، فهذا ونحوه إهانة للأولياء والمؤمنين، ومشاقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الشيخ سليمان بن الإمام محمد في ذلك: «وأما تعظيم القبور بمعنى احترامها، فإن كانت للمسلمين فواجب لا يجوز بول ولا تغوط ولا جلوس ووطء عليها لما في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» (¬1) وفيه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا قد اتكأ على قبر فقال: «لا تؤذوا صاحب القبر» (¬2) وفيه أيضًا عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر مسلم» (¬3) . وأما تعظيمها بمعنى عبادتها فهو أكبر الكبائر عند الخاص والعام، وأصل فتنة عُبَّاد الأصنام كما قاله السلف من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين الذين في قلوبهم وقار لله فيغضبون لأجله ويغارون على توحيده ويقبحون الشرك وأهله ويجاهدون أعداء الله من ¬

(¬1) رواه مسلم (2250) ، وأبو داود (3229) ، والترمذي (1050) ، والنسائي (2029) . (¬2) هذا الحديث ليس في صحيح مسلم بل رواه الطبراني في الكبير من حديث عمارة بن حزم قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا على قبر، فقال: «يا صاحب القبر! انزل من على القبر لا تؤذ صاحب القبر ولا يؤذك» وفي سنده ابن لهيعة وفيه كلام، وقد وُثِّقَ كذا قال في المجمع (3) , (¬3) الذي في صحيح مسلم (2248) بدون قوله "مسلم" في آخر الحديث، وأبو داود (3228) ، والنسائي (2046) ، وابن ماجه (1566) ، لكن روى ابن ماجه (1567) عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحب إليّ من أن أمشي على قبر مسلم وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق» .

أجله، ولكن من خالفهم فما الحيلة. ما لجرح بميت إيلام. ولا لمن خالف هؤلاء احترام. وإن منشأ هذه الفتنة في الإسلام الفتنة في القبور حتى آل الأمر فيها إلى أن عُبِدَ أربابها من دون الله، وعُبدت قبورهم واتُّخِذَتْ أوثانًا وبُنيت عليها الهياكل فصارت تُدعى وتُرجى وتُخشى» (¬1) . وقال بعد أن ساق جملة من الأحاديث الموضوعة التي يتعلق بها المبتدعة: «وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام وضعها المشركون وراجت على المدعين من الجهال والضلال الذي هم عن الحق معرضون، والله بعث رسوله يقتل من حسّن ظنه بالأحجار، وجنَّب أمته الفتنة بالقبور، كما جاءت به الآثار واستفاضت عنه في ذلك الأخبار بنقل أهل الصحيح ونقد أهل التصحيح» . ثم ساق الأحاديث الصحيحة الصريحة في الرد على أصحاب بدع القبور والمشاهد والمزارات فقال: «فروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬2) وفي رواية لمسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬3) . وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» (¬4) وعن عائشة وعبد الله بن عباس قالا: «لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة كانت على وجهه فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر أمته ما صنعوا» متفق عليه (¬5) قالت عائشة - رضي الله تعالى عنها- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: ¬

(¬1) التوضيح عن توحيد الخلاق ص (208) . (¬2) البخاري رقم (437) ومسلم برقم (1185) . (¬3) مسلم برقم (529) . (¬4) مسلم برقم (532) من حديث جندب بن عبد الله البجلي. (¬5) البخاري برقم (435) ، ومسلم برقم (1187) .

«لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا» متفق عليه (¬1) وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد» (¬2) وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» رواه الإمام أحمد وأهل السنن (¬3) . وهذا حال من سجد لله عند قبر، فكيف بمن يسجد للقبر نفسه» . ثم قال: «ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادًا للآخر مناقضًا له بحيث لا يجتمعان أبدًا. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها. ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها القبب والمساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله. ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقادها بالقناديل والسرج فيها. ¬

(¬1) البخاري برقم (1) ، ومسلم برقم (1184) . (¬2) المسند برقم (1) ، وابن أبي شيبة (3) ، وابن خزيمة (789) ، وابن حبان (340) . (¬3) أخرجه أبو داود (3236) ، والنسائي (1) ، والترمذي (2) طبع شاكر، وابن أبي شيبة (4) ، والحاكم (1) ، والبيهقي (4) ، والطيالسي (1) ، وأحمد (1، 287، 324، 337) من طريق أبي صالح عن ابن عباس قال: وقال الترمذي: حديث حسن، وأبو صالح هذا مولى أم هانئ بنت أبي طالب واسمه باذان ويقال باذام. هذا وقد صح الحديث بلفظ: «لعن الله زوارات القبور» . فقد رواه الترمذي (1) ، وابن ماجه (1576) (4) ، وأحمد (2) من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي حسن صحيح. والحديث رواه البيهقي (4) من حديث أبي هريرة وبلفظ «أن رسول الله لعن زوارات القبور» . وله شاهد من حديث حسان عند ابن ماجه (1574) ، والحاكم (1) ، وأحمد (3) بلفظ البيهقي.

ونهى عن اتخاذها أعياداً، وهؤلاء يتخذونها مناسك وأعيادًا يجتمعون لها كاجتماعها للعيد أو أكثر. ونهى عن العَقْر والذبح لها، وهؤلاء يعقرون عليها وينذرون لها ويدعونها. وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي واسمه حيان بن حصين قال: «قال لي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع تمثالًا إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته» (¬1) وفي صحيحه أيضًا عن ثمامة بن شفي الهمداني قال «كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها» (¬2) وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين فيرفعونها من الأرض كالبيت ويعقدون عليها القباب ويضعون عليها التوابيت ويكسونها كما يُكسى بيت الله الحرام. ويفعلون عندها الموالد العظام ويجعلون لها السوائب من بهيمة الأنعام. ويكثر لديها رفع الأصوات والضجيج واختلاط الرجال بالنساء كالحجيج. ومن ذلك ما يفعله عباد الشيطان عند قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث خارج مكة، وخديجة في المُعَلَّى كل سنة ثلاثة أيام مولد يحصل فيه من الضجيج وارتفاع الأصوات والدعاء بالاستغاثات واختلاط النساء مع الرجال في تلك الساحات. وكذلك عند قبر عبد الرحمن المحجوب بالدفوف ذوات الصنوج والطبول والبيارق والنحائر داعين مستغيثين به راجينه بذلك ليكون عليهم ناظرًا ولهم حافظًا؛ لأنه المحب المحبوب. وهكذا عند قبر أبي طالب، وهم يعلمون ظاهر حاله، وما هو عليه قبل الممات فالحكم لعلام الغيوب. ولو تعلق مظلوم بأستار الكعبة جذبوه من تحتها وفعلوا به ما أرادوا، ولو دخل ظالم بسرقة أو قتل أو نهب مال على قبر أحد هذين الرجلين اللذين الله أعلم بهما من خلقه ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه مسلم (2242) ، والنسائي (2032) .

وهم فقراء إليه لم يقدموا ليأخذوه منه، ولم يقدموا حدود الله عليه، بل عندهم من فعل ذلك فقد تعدى وظلم ومآله إلى الندم، ومن نهى عن فعل ما تقدم وأمر بما أرسل الله به الرسل إلى سائر الأمم والعمل بالأحاديث النبوية والآيات القرآنية التي هي نص على توحيده خرّجوه وبدّعوه وكفّروه ونسبوه إلينا وإن كان لا يعرفنا. وما ذنبنا إلا أن أمرنا بما أمر الله به رسله، ونهينا عما نهى الله ورسوله، فبسبب ذلك عادونا وجلبوا بخيلهم ورجالهم ومدافعهم علينا، وعن حج بيت الله الحرام الذي قال الله فيه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] [سورة الحج، آية: 25] صدونا ومنعونا، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم صار شعارنا واتباع سنته علمًا علينا. فهم بذلك يعابوننا ويوبخوننا ويسبوننا ويجاهدوننا وما ذاك منهم علينا إلا اتباع الأهواء وعموم البلوى والطعن في الدين والعناد في اليقين. {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23] [سورة الجاثية، آية: 23] ، وهم يفعلون المنكرات ويجعلونها قربات ونتيجتها صدقات زيادة على الشرك الأكبر في تلك المعتقدات. وذلك كله موجود في حرم الله وغيره من الساحات. وهل هذا كله إلا لفقد الإسلام وجهله والاستهانة به عند هؤلاء الخاص منهم والعام، حيث جعلوا المنكر دينًا ونتيجة حسنة يقيناً. ولكن مصيبة فقد الدين تهوِّن ما هو فعل الظالمين المعاندين. ونهى عن الكتابة عليها كما روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر وأن يُقْعَد عليه وأن يبنى عليه» (¬1) وروى أبو داود في سننه عن جابر -رضي الله عنه- «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى أن تجصص القبور وأن يكتب ¬

(¬1) تقدم تخريجه.

عليها» قال الترمذي حديث حسن صحيح (¬1) . وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن والأشعار ويعلقون عليها بيض النعام وقناديل الفضة والرخام، فهؤلاء المعظمون للقبور المتخذونها أعياداً، الموقدون عليها السرج الذين يبنون عليها المساجد والقباب، مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، محادُّون لما جاء به، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها، وهو من الكبائر. ومن يزعم أنا نُكَفِّر بمجردها فهو كاذب جائر، إنما نُكَفِّر بالشرك الذي لا يُغْفَر، وهو دعاؤها ورجاؤها والاستغاثة بها وذبح القربان والنذر لها لتدفع سوءًا أو تجلب خيرًا، أو تكون واسطة في ذلك. نعم نحن نهدم القباب التي على القبور، ونأمر بهدمها كما هدم النبي صلى الله عليه وسلم قبة اللات في الطائف، وأمر علي - رضي الله عنه- بهدمها وخفض القبور المشرفة مطلقًا وتسويتها، وقد أمر به وفعله الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون. قال الشافعي في الأم ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى على القبور (¬2) . ويؤيد الهدم قوله: «ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته» ، وحديث جابر المتقدم ذكره الذي في صحيح مسلم؛ ولأنها أسست على معصية لنهيه، فبناءٌ أُسِّس على معصيته ومخالفته بناء غير محترم، وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعا، وأولى من هدم مسجد الضرار المأمور بهدمه شرعاً؛ إذ المفسدة هنا أعظم حماية للتوحيد. وأما هذه الكبائر فقد صرح الفقهاء من أصحاب مالك وأحمد وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم من الصحابة والتابعين على تحريمها، وأنها بدعة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، قال أبو محمد المقدسي: لو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله؛ ولأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة، وإفراطًا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام، هذا وبيوت الله ظلمات لا يوقد فيها نور، بل يرون أن الفضل عليها في ذلك القبور، وقد آل الأمر بهؤلاء المعتقدين تعظيم القبور تعظيم عبادة للاحترام في الصدور إلى أن شرعوا لها حجًّا ووضعوا له وقتًا ¬

(¬1) رواه أبوداود (32205) (3226) ، والترمذي (1052) وزاد «أن توطأ» . (¬2) انظر: كتاب الأم (1) .

وجعلوه أضعاف حج بيت الله الحرام سبعاً. هذا قبر ابن علي الذي في مرباط في بلاد اليمن قد شاع عند الخاص منهم والعام أن زيارته والتبتل إليه في رجب تعدل سبع حجات (¬1) . وكذا الزيلعي الذي في اللحية قد شاع عندهم وذاع أن من مات فيها ودفن حوله في تلك البلاد أنه في لحيته ليس عليه حساب ولا عذاب. وكذا قبر العيدروس الذي في عدن. وكذا قبر الشاذلي في المخا؛ فإن أهل البر والبحر ليس لهم لهجة في الشدة والرخاء إلا بذكره زاعمين أنهم في أمانه وتحت نظره، وأنه يُغيث من دعاه في الشدة نائيًا كان، أو قريبًا في البر أو في البحر. حتى صنَّف بعض غلاتهم في ذلك كتابًا سماه «مناسك حج مشاهد الأبرار لمن عني إليهم من المقيمين والزوّار» ، وصنف بعضهم كتابًا سماه «روضة الأبرار في دعوة الأولياء الأخيار عند الشدائد المدلهمة الغزار» ، ولا يخفى أن هذا بعينه مفارق دين الإسلام والدخول في عبادة الأصنام. ومن نظر منصفًا بإخلاص إلى هذا التباين العظيم في هؤلاء المعتقدين من الناس عن الدين القويم والصراط المستقيم ماز وفرّق بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور والاعتقاد وجاهد عليه وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه واعتقدوا فيه ودعوه ودعوا إليه، وحينئذ يحق أنَّا إنما ندعو إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، ألا إلى الله تصير الأمور، ويحقق تلك المفاسد الناشئة من خبث العقائد التي يعجز العادّون عن حصرها، وتشمئز قلوب العارفين لذكرها. فمنها: تعظيمها الموقع في الافتتان بها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور، والألواح وبيض النعام وقناديل الفضة والرخام عليها، وسدنتها وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند البيت والمسجد الحرام، ويرون أن سدانتها أفضل من خدمة المساجد، والويل عندهم لِقَيِّمِهَا ليلة يطفأ القنديل المعلق عليها. ¬

(¬1) وهذا من الكذب والافتراء على الله وعلى رسوله.

ومنها: بذل النذور لها ولسدنتها لجلب الخير، ودفع الشرور. ومنها: اعتقاد المشركين فيها أن بها يُكشف البلاء، ويُنصر على الأعداء، وينزل غيث السماء، وتُفرج الكروب، وتُقضى الحوائج، ويُنصر المظلوم، ويُجار الخائف، ويأمن الحوادث، إلى غير ذلك من الشرك الأكبر الذي يُفعل عندها. ومنها: الدخول في اللعنة، لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السُّرُج والقناديل فيها ووقفه عليها. ومنها: اجتماع الرجال مع النساء واختلاطهم وضجيجهم ودعاؤهم إياهم. ومنها: جعل المنكرات قربات. ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم، فإنهم يؤذيهم ما يُفعل عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهة، كما أن المسيح يكره ما تفعله النصارى عند قبره إذا وجد في الأرض، وما يعتقدونه في قلوبهم من الإفراط والتفريط في الحب، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله المعتقدون أشباه النصارى وأشكالهم عند قبورهم، ويوم القيامة يتبرءون منهم كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ - قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان: 17 - 18] [سورة الفرقان، آية: 17، 18] قال الله للمشركين {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان: 19] [سورة الفرقان، آية: 19] ، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ - قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40 - 41] [سورة سبأ، آية: 40، 41] . ومنها: مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها. ومنها: محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها. ومنها: التعب والنصب بالبناء والتشييد ووضع الأبواب ونقشها والجدران والاعتقاد، والتعظيم مع الوزر الكثير والإثم العظيم. ومنها: إن هذا الاعتقاد يؤول إلى حبط العمل والخسران. ومنها: إماتة السنن وإحياء البدع.

ومنها: جعل البدعة واجبًا وسنة، والواجب والمسنون بدعة وإثماً، وهم في ذلك لا يعون ولا يتذكرون، بل لمن خالفهم فيه ونهاهم عنه يبدّعون ويخرّجون ويكفّرون. ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله، فإن عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب والعكوف بالهمة والعزم على الموتى بما لا يفعلون في المساجد ربع عشره ويحصل لهم فيها نظيره ولا قريب من مثيله. ومنها: أن ذلك تضمن عمارة القبب والمشاهد وتنويرها وتعطيل المساجد من بيوت الله وعدم توقيرها، ودين الله الذي بعث به رسله وأنزل كتبه بضد ذلك كله. ومنها: أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكار الآخرة والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له وسؤاله العافية للزائر وله، فيكون الزائر محسنًا إلى الميت وإلى نفسه حتى لو كان نبيًا أو وليًّا، فالدعاء له مطلوب وهو إليه محبوب، وقد أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نسأل الله له الوسيلة والفضيلة وأن يبعثه المقام المحمود الذي وعده وذلك له محقق ولكن تنويهًا بذكره ورفعًا لقدره وليعود ثواب الدعاء إلى الداعي، والكامل يقبل الكمال، فقلب هؤلاء المشركون الأمر وعكسوا الدين، وكانوا من الفريقين المغضوب عليهم والضالين بقصدهم زيارة الشرك الأموات يدعونهم ويدعون بهم. . .» (¬1) . ولذلك لما وصلت جيوش الدعوة إلى كربلاء هدمت القبة المبتدعة والمشهد على قبر الحسين، وهي من أكبر الفتن المضلِّة التي تعمل تحت ستار حب سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عن الحسين وهو منها براء. وقد حدثت هذه القبة بعد القرون الفاضلة، أحدثها أهل البدع، فكان هدمها نصرًا للإسلام والسنة وتكريمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآله، وتكريم لسبط رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تؤذيه القبة والمشهد وما يقع حولها من البدع والشركيات والمنكرات. يقول الدكتور محمد بن سليمان الخضيري: «وللحقيقة نقول: إن الدولة السعودية قامت بهدم القبة الموضوعة على قبر الحسين؛ لأن ذلك يتنافى مع العقيدة الإسلامية أولاً، وبالتالي فهو يتنافى مع مبادئ الدعوة الإصلاحية السلفية. وقد سبق أن بيّنا مراسلات حكّام الدولة السعودية مع ولاة العراق في النهي عن أمثال هذه البدع، ¬

(¬1) التوضيح عن توحيد الخلاق ص (214 - 220) .

ثانيا مسألة التكفير والتشدد والقتال وما يلحق بها

ولم تتجه الدولة السعودية إلى إنكار هذه البدع إلا بعد أن طهّرت نجد أولًا والحجاز ثانيًا من هذه البدع المتمثلة في القباب والأشجار وغيرها مما يتبرك بها الناس تقربًا إلى الله. ومن هنا نرى أن تهويل ما وقع في كربلاء لا يعدو كونه أسلوبًا من أساليب الدولة العثمانية في تنفير الناس من الدعوة الإصلاحية السلفية» (¬1) . [ثانيا مسألة التكفير والتشدد والقتال وما يلحق بها] [حقائق لا بد من ذكرها] ثانياً: مسألة التكفير والتشدد والقتال وما يلحق بها. حقائق لا بد من ذكرها: مسألة التكفير والتشدد والقتال من أهم وأخطر المسائل التي أثارها خصوم الدعوة من أهل البدع والأهواء والافتراق عليها، بل وبعض المحايدين وبعض المؤيدين البعيدين عن الساحة الداخلية للدعوة أو الذين لم تتهيأ لهم الفرصة الكافية للتعرف على حقيقة الدعوة منهجًا وواقعاً، أثاروا دعوى أن الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يكفرون المسلمين ويستحلون قتالهم، وقد تفرع عن هذه الدعوى القول بأنهم خوارج ومتشددون ونحو ذلك. والحق أن المتأمل لحال الدعوة يجد الحقائق التالية: 1 - أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعلماء الدعوة وحكامها آل سعود الملتزمين بمنهج الدعوة كانوا على مذهب السلف في عدم استحلال دم المسلم وقتاله إلا بدليل شرعي، ولم يُعرف من منهجهم الخروج عن هذا الأصل في الجملة إلا حالات نادرة ليست على المنهج المتبع لديهم، وكانوا يصرحون بهذا الأصل الشرعي العظيم في كتبهم وخطبهم ويلتزمونه في منهجهم كما بينا وسنبين بعد. 2 - أن خصومهم هم البادئون بالقتال بإعلان الحرب المسلحة وغير المسلحة على الدعوة ودولتها وأتباعها بل أعلنت قوى الشر استعمال القوة والقتال للشيخ وأتباعه قبل وصوله الدرعية، وقبل أن يكون لهم كيان حيث هدده سليمان بن محمد الحيدي في الأحساء (من بني خالد) وأنذر عثمان بن معمر - أمير العيينة - إن لم يتخذ موقفًا حازمًا ¬

(¬1) الدولة السعودية الأولى والدولة العثمانية ص (352، 353) .

ضد الشيخ الإمام وكذلك فعل ابن شامس العنزي (¬1) . ثم لما استقرت الدعوة في الدرعية بدأها بالحرب دهام بن دوَّاس أمير الرياض آنذاك. 3 - أن الخصوم كانوا كثيرًا ما يغدرون بأتباع الدعوة من الدعاة القضاة والعلماء وطلاب العلم والمعلمين الذين كان يبعثهم الشيخ محمد والولاة والمشايخ - المؤيدين للدعوة - للقرى والبادية والأقاليم لتعليم الناس دينهم وإجراء الأحكام الشرعية بينهم، بل كثيرًا ما يعلنون العصيان على الحاكم الإمام محمد بن سعود، وينقضون البيعة والعهد، ويخرجون على الجماعة والإمام، وهذا ما يحرمه الإسلام، ويأمر بتأديب من يفعله. 4 - وكان حكام الحجاز غالبًا يعلنون العداء لدعوة التوحيد وأتباعها وكانت عداوتهم متنوعة عقديةً وسياسية وإعلامية ثم عسكرية، وأحيانًا يقتلون بعض العلماء والدعاة بل والرسل الذين يبعثهم أهل الدعوة إليهم. 5 - وكانوا يمنعونهم من حقوقهم المشروعة كإبلاغ الدعوة، وكأداء فريضة الحج، فقد منعوهم منه سنين طويلة ثم أذنوا فيه سنة (1197هـ) ، ثم الشريف غالب منعهم من الحج مرة أخرى منذ سنة (1203هـ) وما بعدها ثم غزا معتدياً، فقد بدأ الشريف غالب وغيره من حكام الحجاز الحرب على الدعوة وأتباعها قبل أن يبدؤوهم. وأعلن الحرب المسلحة ضدهم، وقد اعترف خصوم الدعوة بذلك وذكره مؤرخوهم معتزين به (¬2) . وعلى هذا فإنه عند التحقيق العلمي المتجرد يثبت قطعًا أن ما يقال عن الإمام وعلماء الدعوة وحكامها (آل سعود) وأتباعها حول التكفير واستحلال قتال المسلمين ودمائهم كلها مما لا يصح أو مما قد يكون له وجه شرعي معتبر قام عليه الدليل الشرعي، ذلك أن تكفير من يستحق التكفير شرعًا وسب من يستحق السب شرعًا ليس من التكفير والسب المذموم ولا القسوة، بل مما هو مطلوب شرعًا في الدين الإسلامي بشروطه وضوابطه التي يعرفها الراسخون في العلم. ¬

(¬1) انظر: حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لخزعل ص (142) . (¬2) انظر: خلاصة الكلام لدحلان (228 - 229) .

مسألة التشدد وحقيقتها

إذن فقد ثبت أنهم لم يبدءوا القتال ولم يقاتلوا ابتداء إنما بدأ القتالَ خصومُهم. ثم إنه من الطبيعي أن اختيار منهج القوة والحزم والقتال عند الضرورة هو الحل الأمثل في كثير من الأحوال ومنها الحال التي وصلت إليها الدعوة مع خصومها. ونظرًا لقوة الباطل والهوى وتمكنه من قلوب كثير من الناس وحياتهم لم تقبل نفوسهم الحق ولم تذعن لأهله. كما أن الناظر لحال كثيرين من الذين أقاموا الدنيا ولم يُقعدوها تشنيعًا على الدعوة وأتباعها في شبهة التكفير يجد العجب من تحيُّزهم ضد السنة وأهلها في هذه المسألة (وغيرها) وإغفالهم لأهل البدع الخُلَّص الذين يكفِّرون خيار الأمة؛ فيكفِّرون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه أمهات المؤمنين، ويكفِّرون السلف الصالح. بل إن أكثر مزاعم التكفير والتشدد التي ألصقت بالدعوة وإمامها حدثت من أولئك الذين يكفّرون خيار الأمة ويستنقصونهم، ومن أشياعهم الذين يشاركونهم في بدع المقابرية والقباب والمشاهد والمزارات البدعية، والطرق الصوفية والموالد والأذكار المحدثة، ومن المعلوم لدى كل باحث ومحقق: أن أصل هذه البدع ومنشأها كان من مكفِّرة الصحابة والسلف الصالح، فأين العدل والإنصاف والتحقيق الذي يدَّعونه؟ ، وأين الغيرة على الحق والدين وعلى الأولياء والصالحين التي يزعمونها؟ وهم يهينون الصالحين ببدعهم. وأين النُّصح للمسلمين الذي يتظاهرون به؟! وهم يروجون البدع وينصرونها. [مسألة التشدد وحقيقتها] وكذلك مسألة التشدد: فالتشدد الذي يدعي بعضهم أنه من سمات الدعوة وأهلها ليس تشددًا مذمومًا حسب المعايير الشرعية والعلمية. بل هو إن وقع أحيانًا فهو نوع من الحزم والصلابة في الحق وهو ما تقتضيه البيئة والظروف، والحاجة والمصلحة في عهدهم، فهو المناسب للبيئة البدوية والقروية التي يعيشها المجتمع النجدي، وما عليه العرب في سجيتهم التي تتسم بالصراحة والصرامة والإباء، فالحزم هنا هو الحل المناسب والأمثل أمام تمرد الأعراب والجهال والسفهاء، وتجاه قوة الشر، والخصوم، وأمام قوة الباطل وأهله وتمكنهم، والإسلام كما أنه دين الحق والرحمة واليسر فهو كذلك لا يلغي مبدأ الحزم والصرامة في تثبيت الحق ورد

الباطل، فالوضع المتردي من كل الجوانب اقتضى هذا المنهج الحازم أحيانًا لا سيما في جزيرة العرب التي هي درع الإسلام ولما تتميز به من خصائص دينية وبيئية وقبلية. وكذلك دعوى إلزام الناس بمذهبهم دعوى زائفة، فلم يعرف عن الإمام وأتباعه ولا عن أحد من حكام هذه الدعوة المباركة أنه قال للناس كونوا حنابلة أو شافعية أو غير ذلك؛ لكنهم عملوا ما هو مشروع من تحكيم شرع الله وإظهار شعائر الدين، وإقامة العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحدود. والجدير بالذكر أن كثيرين من أهل الأهواء والبدع والجهلة بأحكام الشرع يصفون أحكام الشرع من التكفير والتفسيق وتطبيق الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة شعائر الدين وفرائضه - تشددًا وقسوة وعنفاً، والأمر ليس كذلك. وأما ما يوجد من تجاوزات واجتهادات خاطئة في التعجل في الحكم على الناس بالكفر فليست من المنهج كما أسلفت ثم كثيرًا مما قيل عن الدعوة وأتباعها ومما اتهموه به من التكفير إنما هو من اللوازم، ليس قولهم الصريح، - ولازم المذهب ليس بلازم - كما هو مقرر في القاعدة الأصولية كما لا ننسى أن كثيرًا من الناقدين والخصوم يعدون الأصول المشروعة التي عملها الإمام وأتباعه كالحزم والقوة عند مقتضاها وكإقامة الحدود وإلزام الناس بالفرائض ونشر العلم الشرعي الضروري إلزامًا غير مشروع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الحسبة) : من التشدد والتكفير، وهي في الحقيقة متطلبات الدين ومسلماته التي لا يمكن أن يحيد عنها المسلم التقي المتمسك بدينه، فإن الأعمال التي نفر منها أهل الأهواء، والجاهلون والمعرضون عن الدين والتي نفذها إمام الدعوة بموجب الشرع «مثل رجم الزانية وهدم القباب والأبنية على القبور» ونحو ذلك من الأعمال المشروعة أثارت في نفوس أهل الفسق والفجور وأهل البدع الرعب، والخوف على شهواتهم ومصالحهم، فأجلبوا على الدعوة وإمامها وحكامها بخيلهم ورجلهم وزعموا أن هذه الأعمال الشرعية من التشدد والعنف. وليس الأمر كذلك بل هو مما أوجبه الشرع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة حدود الله لمصالح العباد. كما أنه من المقرر شرعًا أن قتال المخالفين أسلوب من أساليب الجهاد يلجأ إليه بشروطه عند استنفاذ الوسائل الأخرى.

وقد ذكرنا قبلُ أنه قد يحدث من بعض الأعراب وصغار طلاب العلم والجهلة من الأتباع تكفير أو تشدُّد أو قتال غير مشروع لكنه غير محسوب على المنهج، وكان إمام الدعوة وعلماؤها وحكامها يتبرءون من هذه التصرفات ويؤدبون من يفعلها. - ونجد أنه في حين أن الشيخ وأتباعه لا يكفرون إلا بدليل -وهو المذهب الحق مذهب السلف- نجد خصومهم أهل الأهواء والبدع يكفرونهم بلا بينات! ولا يتورعون عن إطلاق الكفر والخروج والعبارات الشنيعة على إمام الدعوة وأتباعها كما فعل صاحب (خلاصة الكلام) حين أطلق عليهم وصف (الكفار والخوارج) (¬1) . كما في وصفهم بأنهم: «ضحكة ومسخرة كحمر مستنفرة فرت من قسورة» و «تطاير شررهم» وأنهم «يفسدون عقائد علماء الحرمين ويدخلون عليهم الكذب والمين» ووصفهم بـ «الملاحدة الأنذال» وأنهم «لا يدينون إلا بدين الزنادقة» ووصف الإمام محمد بن عبد الوهاب بـ «الخبيث» و «خلف أولادًا أخبث منه» وأن مشايخه «يتفرسون فيه الإلحاد والضلال» وأن «والده كان يتفرس فيه الإلحاد» وأنه «يضمر في نفسه دعوى النبوة» وبأنه «المغرور» واتهام الإمام وأتباعه بأنهم «خوارج» وأنه «من عَقِب ذي الخويصرة» وقالوا عنه «هذا الخارجي» . وأن عقيدتهم «مشتملة على كثير من المكفرات» وسماها أحدهم «العقيدة الزائفة» و «إفساد عقائدهم» ، وأن «فتنتهم من أعظم الفتن» (¬2) . ونحو ذلك مما كان يُشَنِّع به الخصوم على الدعوة وإمامها وأهلها مما هم منه أبرياء في حين أن أكثر هؤلاء الخصوم كانوا يحمون الشركيات والبدع ويدافعون عنها ويقاتلون على ذلك. والخلاصة: أنه قد تعرضتْ الدعوة وأهلها ودولتها - الدولة السعودية في جميع مراحلها - لمظالم كبرى من خصومها استوجبت ضرورة الدفاع وحماية الحدود والحقوق والأموال والأنفس والأعراض. ¬

(¬1) انظر هذه العبارات وأمثالها في خلاصة الكلام ص (227 - 237) . (¬2) انظر هذه العبارات وأمثالها في خلاصة الكلام ص (227 - 237) .

بطلان دعوى أن الدعوة الوهابية مصدر العنف

أما دعاوى إكراه الناس على شعائر الدين فهي راجعة إلى أن بعض الناس لا يريدون الأمر والنهي مطلقاً؛ لأن قلوبهم المريضة تميل للشهوات والبدع. [بطلان دعوى أن الدعوة الوهابية مصدر العنف] بطلان دعوى أن الدعوة (الوهابية) مصدر العنف (¬1) ودعوى أن هذه الدعوة السلفية ويسمونها (الوهابية) مصدر العنف والتكفير والتشدد وأن الحركات المتشددة امتداد لها كل ذلك من البهتان، فهي تقوم على المنهج السلفي المعتدل وتنبذ العنف وتحاربه، وها هو منهجها الشرعي العلمي والرسمي إلى الآن، ومنهج علمائها المعتبرين معلن واضح، لكن الدعوة ابتُليت أحيانًا ببعض الأعراب والمتعجلين والغوغاء والمتحمسين من المنتسبين لطلاب العلم الذين قد يسيئون؛ لأن الدعوة فطرية سهلة واضحة فتؤثر عاطفيًا على بعض المبتدئين ونحوهم وإذا لم تضبط بالعقل والفقه والعلم الشرعي قد تفهم خطأ كسائر المذاهب والمبادئ. وافتيات بعض منسوبي الدعوة عليها وأخطاؤهم في فهمها وتطبيقها قد يتذرع به الخصوم حينما لا يرجعون إلى المنهج العلمي الذي يقوم على التثبت والإنصاف. فالمنهج الذي تقوم عليه الدعوة ودولتها يقوم على الوسطية والعدل والاعتدال، ولا يرضى الظلم والعدوان والتشدد في الدين. [وقفة مع شبهة] وقفة مع شبهة: إن من أكثر ما يتذرع به الخصوم في أن الإمام وأتباعه يطلقون على خصومهم عبارات (المشركين والكفار) ونحوها من العبارات القاسية في نظر البعض. وهذه الشبهة لها جواب بيِّن أُوجزه بما يلي: 1 - أن إطلاق عبارة المشركين والكفار على الخصوم إنما كانوا يقولونها في وصف رؤوس الخصوم والمعاندين وجيوشهم المقاتلة؛ لأنهم كانوا يحملون راية رفض دعوة التوحيد والدفاع عن الشركيات والبدع بعد إقامة الحجة عليهم. ¬

(¬1) سبق الحديث عن هذا الموضوع في الفصل الأول.

ومن قاتل معهم من العوام والغوغاء لا اعتبار له في الحكم أصلًا؛ فالحكم على الراية التي تقاتل في سبيل البدع والشركيات وتصد عن دين الله. 2 - أن الذين استعملوا هذه العبارات من المؤرخين كابن غنام وابن بشر وبعض الشعراء، والمناصرين للدعوة، كانت تغلب عليهم روح الحماس والعاطفة والأسلوب الإعلامي أكثر من التأصيل الشرعي. فليس كل ما أطلقوه من الأحكام والأوصاف يعبّر عن المنهج أو يعتد به ولذلك نجد الإمام نفسه والعلماء لا يطلقون هذه الأحكام (الشرك والكفر) على الخصوم إلا نادرًا وعلى زعماء البدع الشركية والكفرية، والمدافعين عن الشركيات الذي قامت عليهم الحجة. 3 - أن إمام الدعوة وعلماءها حين يتكلمون عن عموم المسلمين من المخالفين من عوام أهل البدع، يبرءون إلى الله من تكفيرهم، ومن وصفهم بالمشركين، ومن استحلال دمائهم، وقد سقت في هذا البحث الكثير مما يثبت هذا المبدأ. أما من كان من المعاندين والمقاتلين ومن كان في صفوفهم فحكمه حكمهم من حيث التعامل في الظاهر، والله أعلم بالسرائر. 4 - أن أغلب هذه الأوصاف والأحكام كانت عامة لا تنصرف للأعيان. 5 - ثم لا ننسى أن ما رمى به خصوم الدعوة إمامها وأتباعها من الأوصاف والمطاعن أكثر وأشد وأبعد عن الحق والشرع والدليل؛ من وصفهم بأنهم كفار وملاحدة وزنادقة وخوارج وأنذال (¬1) . ولم أر من القادحين أو العاتبين والشانئين على الدعوة التفاتًا إلى الموازنة والعدل. والله حسبنا ونعم الوكيل. ¬

(¬1) سبق ذكر شيء من ذلك قريبًا.

موقف الإمام وأتباعه من دعوى التكفير وقتال المسلمين

[موقف الإمام وأتباعه من دعوى التكفير وقتال المسلمين] موقف الإمام وأتباعه من دعوى التكفير وقتال المسلمين: ذكرتُ أن من أعظم المفتريات والشبهات التي أثيرت حول الإمام ودعوته وأتباعه ودولة التوحيد (الدولة السعودية) وأخطرها ما يتعلق بالتكفير والقتال (وهي في الأهمية والخطورة تلي قضية التوحيد) . والحق أن الإمام وعلماء الدعوة وأتباعهم أولوا هذه المزاعم ما تستحقها من الأهمية مستقلة أو من خلال حديثهم عن التوحيد وما ينافيه وهو الشرك، وما ينقصه من البدع والمحدثات؛ لأن ذلك مظنة التكفير. وقد بسطت هذه الأمور في بواعث قيام الدعوة ومواضع أخرى كثيرة من هذا البحث. ولا شك أن هذا المنهج - وهو منهج الأنبياء والسلف الصالح - صادم بقوة الواقع الذي يعيشه كثيرون لا سيما أصحاب بدع القبور والقباب والمشاهد والمزارات، والطرق الصوفية والسماعات البدعية وغيرهم من أصناف المبتدعة، ومن في حكمهم من أصحاب المصالح والفئات التي تعيش على هذا الواقع الأليم وهي فئات كثيرة ومصالح كبيرة: سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها. وكان الدفاع والمقاومة بالحق من حماة الدعوة وأتباعها من القوة والضخامة بقدر هذا الهجوم العنيف والظالم. ولا شك أن الكلام في تصحيح العقائد وتحقيق المصالح العظمى - وإن كان بالحق والدليل - يثير ردود أفعال سريعة وقوية وطائشة. وهذا قد استوجب من كل من الطرفين الحكم على الآخر، فكان القتال من خصوم الدعوة وكان الدفاع من حملتها وأتباعها، والقتال لا يدفع إلا بالقتال، والبادئ هو الظالم. وفي قضية التكفير والقتال اشتباه ولبس كبير، ولذلك استغلها الخصوم ضد الدعوة ولا يزالون. وهذا اللبس والاشتباه جعل بعض المؤيدين للدعوة البعيدين عن ساحتها قد يتحفظون أو يأخذون على الدعوة وأهلها أنهم متشددون.

كما فعل محمد صديق خان حين اتهمهم بإراقة الدماء. والعجيب أنه ذكر أن مصدره في هذه المعلومة كتب العلماء المسيحيين (¬1) ! كما تأثر بهذه الشبهات كل من الشوكاني، ومحمد بن ناصر الحازمي - وذلك على سبيل الاستدراك - في معرض ثناء كل منهما على الدعوة وإمامها (¬2) . والمتتبع لمواقف الناس تجاه الدعوة وإمامها يجد أن هذه المسألة ظاهرة ومتميزة؛ أعني: أن كثيرين من الذين يوافقون الإمام وأتباعه على أهمية بيان التوحيد والدعوة إليه، وكشف الشرك ومظاهره والتحذير من البدع، وسد الذرائع المفضية إلى هذه الشركيات والبدع. كثيرون من الذين وافقوه على هذه الأصول العظيمة خالفوه في قضيتي: التكفير والقتال (¬3) . فمن الذي مع الحق والدليل؟ لما احتدم الخلاف بين الدعوة وخصومها في هذه القضية الخطيرة، كان الدليل والبرهان والحجة الشرعية الواضحة وكلام السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة الأربعة مع أئمة الدعوة، ولم يكن عند خصومهم أهل البدع والأهواء إلا التأويلات والهوى والظنون والقيل والقال واتباع ما تشابه من الأدلة، والأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيليات والحكايات والمنامات. كما قال الله عنهم: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] [سورة آل عمران، آية: 7] . وكُتب الفريقين ورسائلهم ومناظرتهم وردودهم منشورة ومشهورة وعلى من يطلب الحق النظر في حجج هؤلاء وحجج هؤلاء وليحكم بالعدل. فما يقال عن الإمام وعلماء الدعوة وأتباعها حول التكفير واستحلال قتال المسلمين ودمائهم ونحو ذلك من الاتهامات، كلها مما لا يصح، أو مما له وجه شرعي معتبر قام عليه الدليل الشرعي. أما تكفير من يستحق التكفير وسب من يستحق السب شرعًا فليس من التكفير والقسوة، بل هو مشروع عند مقتضاه، وكثيرون من أهل الأهواء والبدع والجهلة بأحكام ¬

(¬1) انظر: دعاوى المناوئين (158 - 160) . (¬2) انظر: دعاوى المناوئين (158- 160) . (¬3) انظر: دعاوى المناوئين (158 - 160) .

التزام الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه لقواعد التكفير المعتبرة

الشرع يصفون أحكام الشرع من التكفير والتفسيق والحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة شعائر الدين وفرائضه: تشددًا وقسوة، وهذا جهل بأحكام الشرع أو تلبيس وتضليل. وكذلك يمكن القول بأنهم كفّروا بالدليل؛ لكنهم لم يكفروا عموم المسلمين، ولا أكثرهم كما يزعم الخصوم لكنهم كفروا من قام الدليل على كفرهم. ووصفوا الأقوال والأفعال والعقائد الكفرية، أما تكفير الأعيان فهو نادر جدًّا فلم يخرجوا فيه عن نهج النصوص ونهج السلف الصالح من التورع عن تكفير الأعيان، والكف عن ذلك وعدم إطلاق التكفير إلا بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، ولذلك كان تكفير الأعيان عندهم قليلاً، بل نادرًا كما أسلفت. [التزام الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه لقواعد التكفير المعتبرة] التزام الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه لقواعد التكفير المعتبرة عند علماء الأمة: ومما ينفي شبهة التكفير عن الإمام محمد بن عبد الوهاب أنه بيَّن القواعد والشروط والموانع في التكفير بما يؤكد أنه على أصول أهل السنة والجماعة ومنهاج السلف الصالح، ومن ذلك. أولاً: أنه كثير النصح للمسلمين حريص على هدايتهم، والدعاء لهم، والتماس المعاذير لهم (¬1) . ثانياً: لا يكفر بالذنوب: استفاض تأكيده على البراءة من التكفير بالذنوب - كما تفعل الخوارج - كقوله: «ولا أكفر أحدًا من المسلمين بذنب ولا أخرجه من دائرة الإسلام» (¬2) . وقوله في رده على بعض الذين يتهمونه وأتباعه بتكفير المسلمين: «وقولكم إنا نكفر المسلمين. . .، فإنا لم نكفر المسلمين، بل ما كفرنا إلا المشركين» (¬3) . ¬

(¬1) انظر: نماذج من أقواله في استهلال رسائله السابقة واللاحقة وفي أثنائها. (¬2) الدرر السنية (1 «) . (¬3) مؤلفات الشيخ، القسم الخامس (189) .

وقال في رسالته إلى عالم العراق ابن السويدي في سياق ذكر ما أشيع عن الشيخ من البهتان: «ومنها ما ذكرتم: أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني، وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة، ويا عجبًا كيف يدخل هذا في عقل عاقل. . .» (¬1) . ثالثاً: لا يكفر بالعموم: فقد ثبت نفيه المتكرر وما يتهم به وأتباعه من أنهم يكفرون المسلمين بالعموم وأنهم يكفرون كل من خالفهم، وكل من لم يدخل في مذهبهم! ونحو ذلك من المزاعم. قال: «وأما القول: أنا نكفر بالعموم فذلك من بهتان الأعداء الذين يصدون به عن هذا الدين، ونقول سبحانك هذا بهتان عظيم» (¬2) . رابعاً: معاملة الناس على ظواهرهم: وكان يعامل الناس على ظواهرهم ويكل سرائرهم إلى الله، قال في أهل البدع: «وأحكم عليهم بالظاهر وأكل سرائرهم إلى الله تعالى» (¬3) . خامساً: لا يحكم على أحد بالكفر بمجرد الموالاة. سادساً: لا يحكم على أحد بمجرد الظن. سابعاً: يعذر الجاهل بجهله. ثامناً: لا يكون التكفير عنده إلا بعد إقامة الحجة والبرهان. قال مقررًا هذه القواعد: «وأما ما ذكر الأعداء عني أني أكفر بالظن وبالموالاة، أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة فهذا بهتان عظيم يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم» (¬4) . تاسعاً: لم يكن الإمام وعلماء الدعوة - التزامًا لمنهج السلف الصالح - يطلقون أحكام التكفير ¬

(¬1) الدرر السنية (1) . (¬2) الدرر السنية (1 ) . (¬3) الدرر السنية (1) . (¬4) مؤلفات الشيخ القسم الخامس (25) .

إلا ببينات وبعد التثبت ومعرفة الحال. وعلى سبيل المثال كان الشيخ الإمام وأتباعه أحيانًا يطلقون على بعض خصومهم الكفر أو الشرك؛ لأنه تثبت لديهم أن هؤلاء الخصوم واقعون في ذلك فعلاً، وقد قامت عليهم الحجة وبانت لهم الدلائل من خلال ما أقامه الشيخ الإمام وتلاميذه وأشهروه في ذلك. وكانت البوادي والأعراب في نجد وما حولها - وهم كثيرون آنذاك - لا يكادون يفقهون في دين الله شيئاً، ولا يقيم أكثرهم شعائر الإسلام، وكثيرون منهم لا يؤمنون بالبعث ولا يعرفون ذلك، وقد بين الشيخ الإمام هذه المسألة غاية البيان (¬1) . كما كانت مظاهر الشرك والبدع ظاهرة عند البادية والحاضرة من خلال ما يمارسه الكثيرون حول الأضرحة والقباب والمشاهد، والأشجار والأحجار، والأشخاص والآثار ونحو ذلك. وكانت النزعة الصوفية الغالية لها وجود بينهم (وإن كان فيما يظهر ليس بالكثير) ، كمذهب ابن عربي وابن الفارض (¬2) . ولم تكن بقية جزيرة العرب، في الحجاز واليمن بأسعد حظًّا من نجد وبواديها بل كان كثيرون منهم يمارسون البدع والشركيات عن عمد وإصرار. ومع ذلك كله كان الإمام وأتباعه لا يكفرون الأعيان ولا يكفرون العموم إلا بعد التثبت والبيان. وقد كفانا الشيخ الإمام وعلماء الدعوة مهمة الدفاع عن الحق، ورد المفتريات من الخصوم، وكشف بهتانهم. فقال الإمام في إحدى رسائله بعدما ذكر أن عقيدته هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وأنه لا يكفر المسلمين: «ولا أكفر أحدًا من المسلمين بذنب، ولا أخرجه عن دائرة الإسلام» (¬3) . ¬

(¬1) انظر: ابن غنام (1، 144) . (¬2) انظر: ابن غنام (1، 147) . (¬3) الدرر السنية (1» ) .

ثم قال في الرسالة نفسها مبينًا أن بعض ما قيل عنه صحيح وهو الحق بالدليل: «وأما المسائل الأخرى، وهي: أني أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله، وأني أُعَرِّف من يأتيني بمعناها، وأني أُكَفِّر الناذر إذا أراد بنذره التقرب لغير الله، وأخذ النذر لأجل ذلك، وأن الذبح لغير الله كفر، والذبيحة حرام؛ فهذه المسائل حق، وأنا قائل بها؛ ولي عليها دلائل من كلام الله وكلام رسوله، ومن أقوال العلماء المتبعين، كالأئمة الأربعة؛ وإذا سهَّل الله تعالى: بسطت الجواب عليها في رسالة مستقلة، إن شاء الله تعالى» (¬1) . ثم قال طالبًا من الذين ترد إليهم تلك الشبهات والأقاويل والمفتريات عنه وعن دعوته: «ثم اعلموا وتدبروا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] » [سورة الحجرات، آية: 6] (¬2) . وأرسل أحد علماء اليمن (¬3) الرسالة التالية، يسأله فيها عن حقيقة من يُشاع عنه من المفتريات جاء فيها: «أما بعد: بلغني على ألسن الناس عنك، ممن أصدق علمه وما لا أصدق، والناس اقتسموا فيكم بين قادح ومادح فالذي سرني عنك: الإقامة على الشريعة في آخر هذا الزمان، وفي غربة الإسلام، أنك تدعو به وتقوم أركانه، فوالله الذي لا إله غيره مع ما نحن فيه عند قومنا، ما نقدر على ما تقدر عليه، من بيان الحق، والإعلان بالدعوة. وأما قول من لا أصدق: أنك تكفر بالعموم، ولا تبغي الصالحين، ولا تعمل بكتب المتأخرين، فأنت: أخبِرْنِي، واصدقني بما أنت عليه، وما تدعو الناس إليه، ليستقر عندنا خبرك ومحبتك؟» (¬4) . ¬

(¬1) الدرر السنية (1، 35) . (¬2) الدرر السنية (1، 35) . (¬3) هو: إسماعيل الجراعي. (¬4) الدرر السنية (1) .

فكان جوابه: «أما بعد: فما تسأل عنه، فنحمد الله الذي لا إله غيره، ولا رب لنا سواه، فلنا أسوة، وهم: الرسل، عليهم الصلاة والسلام أجمعين، وأما ما جرى لهم مع قومهم، وما جرى لقومهم معهم، فهم قدوة وأسوة لمن اتبعهم. فما تسأل عنه، من الاستقامة على الإسلام؟ فالفضل لله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريبًا كما بدأ» (¬1) . وأما القول: أنا نُكَفِّر بالعموم؟ فذلك من بهتان الأعداء، الذين يصدون به عن هذا الدين؛ ونقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] [سورة النور، آية: 16] . وأما الصالحون؟ فهم على صلاحهم - رضي الله عنه - ولكن نقول: ليس لهم شيء من الدعوة، قال الله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] [سورة الجن، آية: 18] . وأما المتأخرون رحمهم الله، فكتبهم عندنا، فنعمل بما وافق النص منها، وما لا يوافق النص، لا نعمل به» (¬2) . وسئل الإمام: محمد بن عبد الوهاب، عما يقاتل عليه وعما يكفر الرجل به؟ فأجاب: «وأركان الإسلام الخمسة، أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة؛ فالأربعة: إذا أقر بها، وتركها تهاوناً، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفره بتركها؛ والعلماء: اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود؛ ولا نكفر إلاّ ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو: الشهادتان. وأيضاً: نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر» (¬3) . ثم ذكر أنواع الذي يكفرون بمقتضى الدليل من نصوص الشرع إلى أن قال: «وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم: إنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) الدرر السنية (1 ) . (¬3) الدرر السنية (1) .

إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر، ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان، الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله. وإذا كنا: لا نكفر من عبد الصنم، الذي على [قبر] عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله؟! إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يكفر ويقاتل {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] » [سورة النور، آية: 16] (¬1) . وقال فيما يُنسب إليه من التكفير، مبينًا أنه لا يُكَفِّر إلا بمقتضى الدليل: «وأما التكفير: فأنا أكفِّر من عرف دليل الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بعدما عرف، سبَّه ونهى الناس عنه، وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفره، وأكثر الأمة - ولله الحمد - ليسوا كذلك. وأما القتال: فلم نقاتل أحدًا إلاّ دون النفس، والحرمة؛ فإنا نقاتل على سبيل المقابلة {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] [سورة الشورى، آية: 40] وكذلك من جاهر بسبِّ دين الرسول، بعدما عرفه، والسلام» (¬2) . وهو هنا نفى الكفر عن أكثر الأمة بصريح العبارة، وهذا يُبطل دعوى الخصوم أنه يكفر المسلمين أو أكثرهم. وقال الإمام في رده لمزاعم بعضهم: «وكذلك تمويهه على الطغام: بأن ابن عبد الوهاب، يقول: الذي ما يدخل تحت طاعتي كافر، ونقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نُشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا، بأن من عمل بالتوحيد، وتبرأ من الشرك وأهله، فهو المسلم في أي زمان، وأي مكان. وإنما نكفر من أشرك بالله في إلهيته، بعدما نبين له الحجة، على بطلان الشرك، وكذلك نكفر من حسَّنه للناس، أو أقام الشبه الباطلة على إباحته، وكذلك من قام بسيفه، دون هذه المشاهد، التي يُشرك بالله عندها، وقاتل من أنكرها، وسعى في إزالتها، والله ¬

(¬1) الدرر السنية (1 - 104) . (¬2) الدرر السنية (1) .

المستعان، والسلام» (¬1) . وفي رده على فرية الخصوم في زعمهم بأن الشيخ وأتباعه يكفِّرون بالذنوب كما يفعل الخوارج قال: «والمسألة الأخرى: يذكر لنا من أعداء الإسلام، من يذكر أنا نكفر بالذنوب، مثل التتن، وشرب الخمر، والزنا أو غير ذلك من كبائر الذنوب؛ فنبرأ إلى الله من هذه المقالة، بل الذي نحن نقول: الذنوب فيها الحدود، ومعلقة بالمشيئة، إن شاء الله عفا، وإن شاء عذب عليها. وأما الذي نكفر به: فالشرك بالله، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] [سورة النساء، آية: 48] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ - بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 65 - 66] [سورة الزمر، آية: 65 - 66] ، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72] [سورة المائدة، آية: 72] . ونكفر أيضاً: المستهزئين بالدين، مثل ما قال الله في الصحابي، الذي غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ - لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66] [سورة التوبة، آية: 6 5 - 66] وغيرهم مثل ما حكى الله تعالى: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] وفي الآية الأخرى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140] [سورة النساء، آية: 140] » (¬2) . وقال كذلك في رسالة له إلى عامة المسلمين: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الوهاب: إلى من يصل إليه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ¬

(¬1) الدرر السنية (10) . (¬2) الدرر السنية (10، 130) .

وبعد: ما ذكر لكم عني: أني أكفر بالعموم، فهذا من بهتان الأعداء، وكذلك قولهم: إني أقول من تبع دين الله ورسوله، وهو ساكن في بلده، أنه ما يكفيه حتى يجيء عندي، فهذا أيضًا من البهتان، إنما المراد اتباع دين الله ورسوله، في أي أرض كانت. ولكن نكفر من أقر بدين الله ورسوله، ثم عاداه وصد الناس عنه؛ وكذلك من عبد الأوثان، بعدما عرف أنها دين المشركين، وزيَّنه للناس، فهذا الذي أكفره وكل عالم على وجه الأرض يكفر هؤلاء، إلا رجل معاند، أو جاهل، والله أعلم والسلام» . وسئل أبناء الشيخ وحمد بن ناصر بن معمر: هل تعتقدون كفر أهل الأرض على الإطلاق؟ أم لا؟ فأجابوا: «الذي نعتقده ديناً، ونرضاه لإخواننا مذهباً، أن من أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وقامت عليه الحجة، فإنه يكفر بذلك، ولو ادَّعى الإسلام، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء» (¬1) . وقال الإمام -أيضًا-: في رده على (خصم الدعوة) : سليمان بن سحيم، مبينًا أنه لا يكفِّر إلا حسب الأدلة الشرعية، وآثار السلف الصالح: «وأما المسألة الثالثة، وهي من أكبر تلبيسك الذي تُلبِّس به على العوام: «أن أهل العلم قالوا: لا يجوز تكفير المسلم بالذنب» وهذا حق، ولكن ليس هذا ما نحن فيه، وذلك أن الخوارج يكفِّرون من زنى، أو من سرق، أو سفك الدم، بل كل كبيرة إذا فعلها المسلم كفر. وأما أهل السنة فمذهبهم أن المسلم لا يكفر إلا بالشرك؛ ونحن ما كفّرنا الطواغيت وأتباعهم إلا بالشرك» (¬2) . ويقول الشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب: «ونحن نقول فيمن مات: تلك أمة قد خلت؛ ولا نكفر إلا من بلغته دعوتنا للحق، ووضحت له المحجة، وقامت عليه الحجة، وأصر مستكبرًا معانداً، كغالب من نقاتلهم اليوم، يصرون على ذلك ¬

(¬1) الدرر السنية (10) . (¬2) تاريخ نجد لابن غنام (2، 130) .

الإشراك، ويمتنعون من فعل الواجبات، ويتظاهرون بأفعال الكبائر المحرمات، وغير الغالب إنما نقاتله لمناصرته من هذه حاله، ورضاه به ولتكثير سواد من ذكر، والتأليب معه فله حينئذ حكمه في قتاله، ونعتذر عمن مضى: بأنهم مخطئون معذورون؛ لعدم عصمتهم من الخطأ والإجماع في ذلك ممنوع قطعًا» (¬1) . إلى أن قال: «ونحن كذلك: لا نقول بكفر من صحت ديانته، وشهر صلاحه، وعلم ورعه وزهده، وحسنت سيرته، وبلغ من نصحه الأمة، ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة، والتآليف فيها وإن كان مخطئًا في هذه المسألة أو غيرها، كابن حجر الهيتمي، فإنا نعرف كلامه في الدر المنظم، ولا ننكر سعة علمه ولهذا نعتني بكتبه كشرح الأربعين، والزواجر وغيرها، ونعتمد على نقله إذا نقل؛ لأنه من جملة علماء المسلمين. هذا ما نحن عليه، مخاطبين من له عقل وعلم، وهو متصف بالإنصاف، خال عن الميل إلى التعصب والاعتساف، ينظر إلى ما يقال، لا إلى من قال» (¬2) . وقال الإمام سعود بن عبد العزيز في رسالته إلى سليمان باشا والي العراق: «فنقول: نحن بحمد الله، لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب، وإنما نكفر لهم، بما نص الله ورسوله، وأجمع عليه علماء الأمة المحمدية، الذين هم لسان صدق في الأمة: أنه كفر كالشرك في عبادة الله غيره، من دعاء ونذر، وذبح وكبغض الدين وأهله، والاستهزاء به، وأما الذنوب كالزنا والسرقة وقتل النفس، وشرب الخمر والظلم، ونحو ذلك فلا نكفر من فعله، إذا كان مؤمنًا بالله ورسوله إلا من فعله مستحلاً له فما كان من ذلك فيه حد شرعي أقمناه على من فعله وإلا عزرنا الفاعل بما يردعه، وأمثاله عن ارتكاب المحرمات. وقد: جرت المعاصي والكبائر، في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يكفروا بها، وهذا مما رد به أهل السنة والجماعة، على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، وعلى المعتزلة الذين يحكمون بتخليده في النار، وإن لم يسموه كافراً، ويقولون: ننزله منزلة بين المنزلتين، فلا نسميه كافرًا ولا مؤمناً، بل فاسقًا وينكرون شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ويقولون: لا يخرج من النار أحد دخلها بشفاعة ولا غيرها. ¬

(¬1) الدرر السنية (1، 235) . (¬2) الدرر السنية (1) .

ونحن: بحمد الله برآء من هذين المذهبين، مذهب الخوارج والمعتزلة، ونثبت شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين، ولكنها: لا تكون إلا لأهل التوحيد خاصة، ولا تكون إلا بإذن الله، كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] [سورة الأنبياء، آية: 28] وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] [سورة البقرة، آية: 255] » (¬1) . وللشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن كلام مفصَّل يرد تهمة التكفير عن إمام الدعوة وأتباعها، في رسالته لبعض المتشددين ينكر عليهم هذا المسلك الخطير (التكفير) ويتبرأ من هذا المنهج: قال: «وقد رأيت: سنة أربع وستين (¬2) رجلين من أشباهكم، المارقين بالأحساء قد اعتزلا الجمعة، والجماعة وكفَّرا مَن في تلك البلاد من المسلمين، وحجتهم من جنس حجتكم يقولون: أهل الأحساء يجالسون ابن فيروز، ويخالطونه هو وأمثاله ممن لم يكفر بالطاغوت ولم يصرح بتكفير جده، الذي رد دعوة الشيخ محمد ولم يقبلها وعاداها. قالا: ومن لم يصرح بكفره فهو كافر بالله، لم يكفر بالطاغوت ومن جالسه فهو مثله؛ ورتبوا على هاتين المقدمتين الكاذبتين الضالتين ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام حتى تركوا رد السلام، فرفع إلي أمرهم، فأحضرتهم وتهددتهم وأغلظت لهم القول؛ فزعموا أولاً: أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأن رسائله عندهم فكشفت شبهتهم وأدحضت ضلالتهم بما حضرني في المجلس. وأخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب، وأنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله، من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسوله، أو بشيء منها، بعد قيام الحجة، وبلوغها المعتبر، كتكفير من عبَد الصالحين، ودعاهم مع الله، وجعلهم أندادًا له، فيما يستحقه على خلقه، من العبادات والإلهية، وهذا مجمع عليه أهل العلم والإيمان، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلدة، يفردون هذه المسألة بباب عظيم، يذكرون ¬

(¬1) الدرر السنية (1 - 308) . (¬2) يقصد سنة (1264هـ) .

دعوى إتلاف الكتب

فيه حكمها وما يوجب الردة ويقتضيها وينصون على الشرك، وقد أفرد ابن حجر، هذه المسألة بكتاب سماه: الإعلام بقواطع الإسلام» (¬1) . وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف: «فإن الشيخ محمدًا - رحمه الله - لم يكفر الناس ابتداء، إلا بعد قيام الحجة والدعوة؛ لأنهم إذ ذاك في زمن فترة، وعدم علم بآثار الرسالة؛ ولذلك قال: لجهلهم وعدم من ينبههم، فأما إذا قامت الحجة فلا مانع من تكفيرهم وإن لم يفهموها» (¬2) . [دعوى إتلاف الكتب] رد دعوى إتلاف الكتب: وفي دفع تهمة إتلاف الكتب التي ليست على مذهبهم، قال الشيخ عبد الله بن الإمام محمد: «ولا نأمر بإتلاف شيء من المؤلفات أصلاً، إلاّ ما اشتمل على ما يُوقع الناس في الشرك، كروض الرياحين أو يحصل بسببه خلل في العقائد، كعلم المنطق (¬3) فإنه قد حرمه جمع من العلماء على أنا لا نفحص عن مثل ذلك، وكالدلائل، إلاّ إن تظاهر به صاحبه معانداً، أتلف عليه وما اتفق لبعض البدو في إتلاف بعض كتب أهل الطائف، إنما صدر منه لجهله، وقد زجر هو وغيره عن مثل ذلك» (¬4) . [رد دعوى أنهم يكفرون بالذنوب كشرب الدخان] رد دعوى أنهم يكفرون بالذنوب كشرب الدخان: زعم بعض الخصوم وغيرهم أن علماء الدعوة وأتباعها يكفرون بالذنوب والمعاصي كشرب الدخان، والمسكرات وسماع الأغاني، وقد أجاب الشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب عن هذه الفرية قائلاً: ¬

(¬1) الدرر السنية (3، 21) . (¬2) الدرر السنية (10، 435) . (¬3) علم المنطق المتعلق بالإلهيات والغيبيات ما هو إلا تخرُّصات وخيالات وأوهام ورجم بالغيب، وهذا هو المذموم عند السلف، أما المنطق العلمي الاستقرائي الذي يقوم على الحقائق الرياضية والعلمية التجريبية فليس هو المذموم هنا. (¬4) الدرر السنية (1) .

«وأما البحث عن التنباك، وقولكم: بلغنا أنكم أفتيتم فيه، بأنه من المسكرات اعتمدنا على قولكم فعارض بعض الراحلين من عندكم، فقالوا: من شربه بعدما تاب منه، فقد ارتد وحل دمه وماله. فالجواب: أن من نسب إلينا القول بهذا، فقد كذب وافترى، بل من قال هذا القول استحق التعزير البليغ الذي يردعه وأمثاله، فإن هذا مُخالف للكتاب والسنة، بل لو تاب منه، ثم عاد إلى شربه لم يحكم بكفره وردته، ولو أصر على ذلك، إذا لم يستحله، والتكفير بالذنوب مذهب الخوارج، الذين مرقوا من الإسلام، واستحلوا دماء المسلمين بالذنوب والمعاصي» (¬1) . وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: «وهم يقولون بما يذهب إليه السلف الصالح وعامة أهل السنة والجماعة من أن الكفر أنواع وشعب، كما أن الإيمان شعب، وأنه ليس كل كفر يُخرج عن الملة، وأن بعض الذنوب والمعاصي التي تُوصف بأنها كفر، تعني كفرًا دون كفر كما جاءت بذلك السنة، وقد فصَّل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (أحد أحفاد الإمام محمد بن عبد الوهاب) هذه الأحكام حين بيَّن أن الإيمان شعب، وقال: «وكذلك الكفر: أيضًا ذو أصل وشعب فكما أن شعب الإيمان: إيمان، فشعب الكفر: كفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان؛ ولا يسوى بينهما في الأسماء والأحكام؛ وفرق بين من ترك الصلاة، أو الزكاة أو الصيام أو أشرك بالله، أو استهان بالمصحف؛ وبين من يسرق ويزني أو يشرب أو ينهب، أو صدر منه نوع موالاة كما جرى لحاطب؛ فمن سوَّى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام، أو سوى بين شعب الكفر في ذلك، فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة، داخل في عموم: أهل البدع، والأهواء» (¬2) . إلى أن قال: «الأصل الرابع: أن الكفر نوعان، كفر عمل؛ وكفر جحود وعناد، وهو: أن يكفر بما علم، أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به من عند الله، جحودًا وعنادًا من أسماء الرب، ¬

(¬1) الدرر السنية (10 5 - 277) . (¬2) الدرر السنية (1، 479) .

وصفاته، وأفعاله، وأحكامه التي أصلها: توحيده وعبادته وحده لا شريك له، وهذا: مضاد للإيمان من كل وجه. وأما: كفر العمل، فمنه ما يضاد الإيمان، كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وسبه وأما: الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة، فهذا كفر عمل لا كفر اعتقاد وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض» (¬1) وقوله: «من أتى كاهناً، فصدقه أو امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» (¬2) فهذا: من الكفر العملي؛ وليس كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي صلى الله عليه وسلم وسَبّه، وإن كان الكل يطلق عليه الكفر. وقد سمى الله سبحانه: من عمل ببعض كتابه، وترك العمل ببعضه، مؤمنًا بما عمل به، وكافرًا بما ترك العمل به، قال تعالى: {تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة: 84] إلى قوله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85] [سورة البقرة، آية: 84 - 85] فأخبر تعالى: أنهم أقروا بميثاقه، الذي أمرهم به والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم به، وأخبر: أنهم عصوا أمره، وقتل فريق منهم فريقًا آخرين، وأخرجوهم من ديارهم، وهذا: كفر بما أخذ عليهم، ثم أخبر أنهم يفدون من أُسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أُخذ عليهم في الكتاب، وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما تركوه منه. فالإيمان العملي: يضاده الكفر العملي؛ والإيمان الاعتقادي: يضاده الكفر الاعتقادي؛ وفي الحديث الصحيح: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» (¬3) ففرق بين سبابه، وقتاله، وجعل أحدهما فسوقاً، لا يكفر به، والآخر كفرًا، ومعلوم: أنه إنما أراد الكفر العملي، لا الاعتقادي، وهذا الكفر: لا يُخرجه من الدائرة الإسلامية، والملة الكلية، كما لم يخرج الزاني، والسارق، والشارب من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان. ¬

(¬1) رواه البخاري (1742) (7077) (7078) ، ومسلم (223) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬2) رواه أبو داود (3904) ، والترمذي (135) ، وابن ماجه (639) ، وأحمد (2، 476) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -) . (¬3) رواه البخاري (48، 6044، 7076) ، ومسلم (221) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -) .

وهذا: التفصيل قول الصحابة، الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام والكفر، ولوازمهما فلا تُتَلقى هذه المسائل إلا عنهم؛ والمتأخرون: لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين؛ فريق أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار؛ وفريق: جعلوهم مؤمنين، كاملي الإيمان؛ فأولئك غلوا وهؤلاء جفوا، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى، والقول الوسط، الذي هو في المذاهب، كالإسلام في الملل، فها هنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] [سورة المائدة، آية: 44] قال: ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه، رواه عنه سفيان، وعبد الرزاق؛ وفي رواية أخرى: كفر لا ينقل عن الملة؛ وعن عطاء كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق» (¬1) . ثم قال: «الأصل الخامس: أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد، أن يسمى مؤمناً، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر، أن يسمى كافراً، وإن كان ما قام به كفر، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم، أو من أجزاء الطب، أو من أجزاء الفقه، أن يسمى عالماً، أو طبيباً، أو فقيهاً، وأما الشعبة نفسها فيطلق عليها اسم الكفر، كما في الحديث: «اثنان في أمتي هما بهم كفر، الطعن في النسب، والنياحة على الميت» (¬2) وحديث: «من حلف بغير الله فقد كفر» (¬3) ولكنه لا يستحق اسم الكفر على الإطلاق. فمن عرف هذا: عرف فقه السلف، وعمق علومهم، وقلة تكلفهم، قال ابن مسعود: من كان متأسياً، فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً؛ قوم: اختارهم الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم حقهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم؛ وقد كاد الشيطان بني آدم، بمكيدتين، عظيمتين، لا يبالي بأيهما ظفر؛ أحدهما: الغلو ومجاوزة الحد، والإفراط. والثاني: هو الإعراض، والترك والتفريط» (¬4) . ¬

(¬1) الدرر السنية (1 - 482) . (¬2) رواه مسلم (227) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -) . (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) الدرر السنية (1، 485) .

رد دعوى أنهم يكفرون من لم يوافقهم

[رد دعوى أنهم يكفرون من لم يوافقهم] دعوى أنهم يرون أن من لم يدخل في دائرتهم فهو كافر، وأن داره دار حرب. وقد أجابوا على هذه الفرية، وأعلنوا براءتهم من هذه المقولة، فقد سئل أبناء الإمام: محمد بن عبد الوهاب، من لم تشمله دائرة إمامتكم، ويتسم بسمة دولتكم، هل داره دار كفر وحرب على العموم؟ فأجابوا: «الذي نعتقده وندين الله به، أن من دان بالإسلام، وأطاع ربه فيما أمر، وانتهى عما نهى عنه وزجر، فهو المسلم حرام المال والدم، كما دل على ذلك الكتاب والسنّة وإجماع الأمة، ولم نكفر أحدًا دان بدين الإسلام؛ لكونه لم يدخل في دائرتنا، ولم يتسم بسمة دولتنا، بل لا نكفر إلا من كفر الله ورسوله، ومن زعم أنا نكفر الناس بالعموم، أو نوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ببلده، فقد كذب وافترى» (¬1) . وهم كذلك لا يحكمون على بلاد غيرهم من المسلمين بأنها دار كفر كما يزعم خصومهم: فقد أجاب الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، - رحمه الله -: البلدة التي فيها شيء من مشاهد الشرك، والشرك فيها ظاهر، مع كونهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، مع عدم القيام بحقيقتها، ويؤذنون، ويصلون الجمعة والجماعة، مع التقصير في ذلك، هل تُسمى دار كفر، أو دار إسلام؟ قال: «فهذه المسألة: يؤخذ جوابها مما ذكره الفقهاء، في بلدة كل أهلها يهود، أو نصارى، أنهم إذا بذلوا الجزية، صارت بلادهم بلاد إسلام؛ وتسمى دار إسلام، فإذا كان أهل بلدة نصارى، يقولون في المسيح أنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، أنهم إذا بذلوا الجزية سُميت بلادهم بلاد إسلام، فبالأولى فيما أرى: أن البلاد التي سألتم عنها، وذكرتم حال أهلها، أولى بهذا الاسم، ومع هذا يُقاتلون لإزالة مشاهد الشرك، والإقرار بالتوحيد والعمل به. بل لو أن طائفة امتنعت من شريعة من شرائع الإسلام، قوتلوا وإن لم يكونوا كفارًا ولا مشركين، ودارهم دار إسلام؛ قال الشيخ تقي الدين: أجمع العلماء على أن كل طائفة ¬

(¬1) الدرر السنية (9) .

رد دعوى التشدد

امتنعت من شريعة، من شرائع الإسلام الظاهرة، تقاتل حتى يكون الدين كله لله، كالمحاربين وأولى؛ انتهى؛ وما ذكرناه عن العلماء؛ من أنهم يسمون البلدة التي أهلها يهود، أو نصارى، دار إسلام، يذكرون ذلك في باب اللقيط وغيره» (¬1) . [رد دعوى التشدد] رد دعوى التشدد: وفي مسألة التشدد فإنهم كما أسلفت ليسوا كذلك لكنهم كانوا يلتزمون أحكام الإسلام، ويسيرون مع الدليل الشرعي في ذلك، وقد يسمي المتساهلون ذلك تشدداً. يقول الأستاذ حافظ وهبة في ذلك: «والنجديون يحرصون أشد الحرص على تنفيذ أحكام الشريعة في تحريم لبس الحرير للرجال وتحليهم بالذهب، كما يحرمون التدخين، ويجلدون المدخن أربعين جلدة. ومما لا شك فيه: أن حكومتهم الأولى كانت أصرم في هذا من الحكومة الحالية. ولقد كانت مسألة الدخان من المسائل التي دار البحث فيها بين الحكومة المصرية والحكومة السعودية سنة 1926م، ومال مفتي مصر فيها إلى الكراهة، كما أنه أورد رأي فريق من العلماء ممن يرى التحريم. لقد روى بَالْجَرِيف في رحلته إلى نجد سنة 1862م أنه سمع من بعض النجديين: أنهم يرون أن شرب الدخان أشد لديهم من الخمر والزنا وبعض المحرمات المنصوص عليها، ولا شك أن هذه الرواية قد سمعها من جاهل. فقد سمعت شيئًا قريبًا من هذا من بعض النجديين المقيمين بالكويت، ولكنهم لم يكونوا من العلماء. ولا يعبرون على رأي علماء نجد الذين يعدون مثل هذا القول جرأة على الدين. إن علماء نجد - وإن أجمعوا على تحريم الدخان (¬2) - فلم أسمع أحدًا منهم يقول مثل هذا ¬

(¬1) الدرر السنية (9، 255) . (¬2) لم يعد الجزم بتحريم الدخان خاصًّا بعلماء نجد لا سيما بعد ما ثبت ضرره البالغ حتى تكاد تتفق جميع الأمم المسلمة وغير المسلمة على تحريمه ومنعه.

القول، كما أني لم أقف على شيء مثل هذا فيما كتبه متقدموهم أو متأخروهم. وعلماء نجد يحرمون التصوير ويكرهون الموسيقى، ولا يقبلون أي تأويل في ذلك» . وقال: تحت عنوان: (ما يُنسب إلى النجديين وهم أبرياء منه) . «لا شك أن الحرب النجدية المصرية في القرن الماضي وما أعقب ذلك من خلاف بين آل سعود والأتراك قد صحبه كثير من الدعايات السيئة ضد النجديين. وكثير من الأشياء التي نسبت إليهم مكذوبة. 1 - لقد نُسب إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب والآخذين بدعوته كراهية النبي صلى الله عليه وسلم، والحطّ من شأنه وشأن سائر الأنبياء والأولياء الصالحين. لقد نُسب هذا إلى الإمام ابن تيمية وإلى تلاميذه، كما لا يزال يُنسب إلى كثير من العقلاء والمصلحين في الهند وغيرها حتى ممن ليست لهم أي صلة بنجد وأهلها. إن منشأ هذه النسبة: هو أن النجديين استنادًا إلى حديث «لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» (¬1) يرون أن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يعملها أحد من الصحابة أو التابعين. ولم يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق ابن تيمية وابن عبد الوهاب طوائف كثيرة من العلماء المتقدمين بهذا الرأي. 2 - إن النجديين يمنعون استقبال قبر الرسول صلى الله عليه وسلم عند الدعاء، كما يمنعون السجود عند قبره وقبر غيره، ويمنعون التمسح والتمرغ عند القبر، كما يمنعون كل ما من شأنه الاستغاثة أو الطلب مما شاع عمله عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الصالحين في مصر وبغداد والهند وكثير من الأمصار. 3 - هدم القباب والأبنية المقامة على القبور وإبطالهم لسائر الأوقاف التي رصدت على القبور والأضرحة. 4 - إنكارهم على البوصيري قوله في البردة: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم وقوله: ومن علومك علم اللوح والقلم ¬

(¬1) تقدم تخريجه.

وقوله: إن لم تكن في معادي آخذًا بيدي ... فضلًا وإلا فقل يا زلة القدم فإن هذا القول مجازفة وغلو، وفيه مخالفة صريحة لنصوص القرآن والأحاديث الصحيحة؛ وهم - فوق هذا - يعتقدون أن من اعتقد هذا على ظاهره فهو مشرك كافر. فاتهمهم خصومهم بكراهية النبي. ونسبوا إليهم أقوالًا هم أبرياء منها، نسبوا إليهم القول بأن العصا خير من النبي، إلى غير ذلك من التُّهَم الباطلة. ولقد سمعت في نجد أن حكاية نجد الشمالية أثناء خصومتهم مع آل سعود كانوا يكتبون إلى الأتراك أن آل سعود اتخذوا راية شعارها: لا إله إلا الله مَحَدّ رسول (بحذف ميم محمد) أي لا أحد رسول الله، وهذا كله تنفير للأتراك من خصومهم، وهم يعلمون حق العلم أن هذا كذب. ولقد حضر إلى مكة أثناء الحرب الحجازية النجدية في سنة 1925م بعض أفاضل السنغاليين وَتِطْوَان، وكانوا أثناء حديثهم يبكون لشدة تأثرهم؛ لقد أخبرونا أنهم سمعوا في الإسكندرية أشياء كثيرة تنسب إلى النجديين، لم يجدوا لها أثرًا في الحجاز، لقد سمعوا من بعض الناس: أن الوهابيين هدموا الكعبة؛ لأنها حجر، وسمعوا أنهم في الأذان يقولون: «أشهد أن لا إله إلا الله» فقط ولا يقولون: «أشهد أن محمدًا رسول الله» . إن النجديين أحرص الناس على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يكرهون الغلو، ويقاومون البدع مهما كان نوعها، ومهما كان الدافع لها، ويقولون: إن المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم هي الاهتداء بهدى الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، أما الابتداع وتعطيل الشريعة وتقديم الأهواء فهو كراهة لا محبة. وفي القرآن الكريم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] [سورة آل عمران، آية: 31] . ومما ينسب إلى أهل نجد: تكفيرهم من عداهم؛ وهو بلا شك تزوير من خصومهم، وإن وقعت بعض أشياء من بعض جفاة الأعراب والجهال فليس من الإنصاف أن ينسب ذلك إلى أهل نجد. أما الشيخ ابن عبد الوهاب وتلاميذه: فإنهم لا يكفرون من صحت ديانته، واشتهر صلاحه، وحسنت سيرته، وإن أخطأ في بعض المسائل. ولكنهم يكفرون من بلغته دعوة الحق ووضحت له الحجة وقامت عليه وأصر مستكبراً، هذا في الأفراد» (¬1) . ¬

(¬1) جزيرة العرب في القرن العشرين لحافظ وهبة (312 - 314) .

مسألة القتال

[مسألة القتال] مسألة القتال لما استقر الإمام في الدرعية 1157هـ تقريبًا شرع في توسيع نطاق وسائل الدعوة، وزاد من إرسال الرسائل والمكاتبات، والنشاط العلمي فراسل العلماء والقضاة وطلاب العلم وأئمة المساجد وشيوخ القبائل (¬1) وأمراء البلدان، وكان يدعوهم إلى أمرين أولهما: مبادئ الدعوة التي تمثل الرجوع إلى الدين الحق بتحقيق التوحيد، وإقامة الفرائض، والسنن وأحكام الشرع في كل شؤون الحياة، ونبذ الشركيات والبدع وترك المنكرات. وثانيهما: الدعوة إلى الجماعة ونبذ الفُرْقَة، والانضمام إلى الكيان الجديد في الدرعية وقد استجابت غالب البلدان المجاورة طواعية مثل العمارية وعرقة ومنفوحة والعيينة وحريملاء. فأعلنت ولاءها لدعوة التوحيد وإمارتها في الجملة مع ما شاب ذلك من الاضطراب والتذبذب؛ لأن كثيرين من أهل الرئاسة والجاه وأصحاب المصالح (¬2) . المستفيدين من الفرقة والشتات وشيوع البدع عَزَّ عليهم أن يفقدوا مصالحهم التي ستنتهي بتوحيد البلاد وتطهيرها من مظاهر الفرقة والبدع. وبذلك أصبحت الدرعية بمثابة العاصمة للدولة الناشئة. وكان الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب آنذاك يطمح إلى أن تتحد نجد كلها على دعوة التوحيد، وأن تكون تحت راية واحدة وإمارة واحدة، وتكون على ما أمر الله به من الجماعة ونبذ الفرقة وظهور الدين. فقد صرح الشيخ الإمام بهذا الهدف السامي بقوله لابن معمَّر حين قدم إليه بالعيينة: «إني لأرجو إن أنت قمت بنصر لا إله إلا الله أن يُظهرك الله وتملك نجدًا وأعرابها» (¬3) . فكان يؤمل أن تكون نجد مملكة واحدة. ¬

(¬1) انظر عنوان المجد (1، 16) . (¬2) انظر: الإمام محمد بن سعود للدكتور عبد الرحمن العريني (90، 91) . (¬3) عنوان المجد لابن بشر (1) . وانظر: الإمام محمد بن سعود للدكتور عبد الرحمن العريني (90، 91) .

ولذا فإن موقف الدعوة من القتال تدرج حسب المراحل الطبيعية والموقف الشرعي في نمو الدعوة ودولتها. ففي أول الدعوة لم تَشْرَع في القتال، ولم تستحله أصلاً؛ لأنها لم تتمكن، ولم يكن لها سلطان ومن ثم لم يكن لها مبرر شرعي يجيز لها أن تستعمل القوة. فلما اشتهرت الدعوة، وشرع الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه وأنصاره بالصدع بالحق، ظهرت ردود الأفعال من الخصوم والمخالفين والمعارضين قوية وعنيفة، وصارت تعتدي وتستعدي الدول والحكام والأمراء وشيوخ القبائل والرؤساء وسائر الناس كذلك. فنتج عن هذه الجهود المضادة أنواع من العنف ضد الدعوة ومؤيديها بشتى أصنافه من الطرد والحبس والقتل، وقبله التشهير والبهتان. وفي الوقت نفسه تجذرت الأصول الشرعية لإمارة محمد بن سعود حامل لواء الدعوة، وكثر أنصاره وقويت شوكته، وبايعته كثير من الأقاليم المجاورة، وبدأت مواجهة خصوم الدعوة، من قِبَل جيرانها أمثال (دهام بن دوَّاس) وغيره. ومن هنا نشأت بالضرورة شرعية القتال للدفاع عن النفس والكيان فصارت إمارة آل سعود (الأمير محمد بن سعود) بتوجيه من الإمام محمد بن عبد الوهاب هي القوة المدافعة عن الدعوة وبلادها، مما جعل مركزها السياسي والعسكري والاقتصادي يتنامى ويتقوى بسرعة مذهلة. وتكون ذات كيان معتبر في المنطقة وما حولها. وأتاحت لها هذه الظروف بتوفيق الله تعالى، أن تكون دولة ذات رسالة وحاملة لواء التوحيد والسنة، وهذا مما سوغ لها أن تقوم بواجب الجهاد لنشر الدين، ونصرة الحق وأهله، وبعد توافر الشروط الشرعية للجهاد: من الدولة والإمارة والبيعة والأنصار والجيوش، والمركز السياسي والاجتماعي، وعليه فإن الدعوة ودولتها لم تبدأ القتال ولم تتجاوز موقف الدفاع إلا حينما تقوَّت، واشتد ساعدها في حلبة الصراع، وصارت لها إمامة شرعية وبيعة وكيان. فإن الخصوم من رؤساء بعض الأقاليم المجاورة، وأمراء الأحساء، وأمراء نجران قد بدءوا بالهجوم المسلح على الدرعية.

وكذلك أمراء مكة وقد أعلنوا موقفهم العدائي للدعوة وإمامتها ودولتها وأتباعها في وقت مبكر، ومنعوهم من أبسط حقوقهم وهو الحج. قال محمود فهمي باشا المهندس المصري في الجزء الأول من تاريخه (البحر الزاخر) في سياق الكلام على الدعوة وأهلها التي سماها: الوهابية. «ومن بعد مدة استمرت في محاربات شديدة، ووقائع عتيدة، دخل جميع بلاد العرب في العقائد الوهابية، أي العقائد الإصلاحية للديانة الإسلامية، وصارت نجد أيضًا في حالة سياسية مدنية جديدة، وبدل أن كانت جهاتها منقسمة إلى عدة عشائر، وشعوب صغيرة منفصلة عن بعضها ومستمرة في حروب وكروب بين بعضها صارت مقر دولة قوية، وسلطنة سياسية، مثال سلطنة الخلفاء القدماء ولرئيس هذه الدولة السلطة في الأعمال الدينية، والدنيوية» . «ومع ما كان عليه الوهابيون من الحروب والمبارزات في بلاد العرب لم يعتدوا على حقوق الحكومتين المجاورتين لهم، وهما حكومة بغداد والحجاز، وكانت قوافل الحجاج تمر من وسط أراضيهم من غير أن يحصل لأي قافلة ضرر أو انزعاج، وكانوا في أحوال أخوية ودية مع الشريف سرور شريف مكة، وفي سنة (1781) بعد الميلاد استحصلوا على رخصة منه في أداء حجهم وطوافهم بالكعبة، فتولد من زيادة قوتهم، ونفوذ شوكتهم اشتعال نار الحسد في قلب الشريف غالب، وفي ظرف بضع سنين من تقلده الحكومة وتوظفه شريف مكة بعد الشريف سرور أعلن حربًا على الوهابية وكانت طرائق هذا الحرب مثل طرائق حرب البدو متقطعًا بهدنات صغيرة قصيرة المدة؛ ولما انتظمت مخابرات الشريف غالب مع الدولة التركية العثمانية لم يهمل أدنى طريقة يمكنه إجراؤها في تمكين الدولة العثمانية من دخول عساكرها في بلاد العرب لأجل الوقوع بالوهابيين إلا وأجراها، وأثبت (¬1) أنهم من الملحدين الكافرين، وأن معاملتهم مع قوافل الحجاج التركية من أقبح الأعمال الفاسدة المضرة بالدين» اهـ. «ثم قد أعقب هذا الافتراء والإفساد أن أمرت الدولة العثمانية حكومة بغداد قتال الوهابيين ففعلت فلما اشتغل الوهابيون بقتال الدولة، ودخلوا العراق زحف الشريف غالب على نجد، واستولى على قرية فيها فكان هذا هو السبب لزحف الوهابيين على الحجاز وفتحه» (¬2) . ¬

(¬1) هو يزعم ذلك لكنه لا يستطيع إثباته. (¬2) عن كتاب: الوهابيون والحجاز لمحمد رشيد رضا (58، 59) .

وبهذا نعرف أن أمراء مكة هم الظالمون وهم البادءون بالعدوان، فقد منعوا هؤلاء المسلمين من الحج، ولما طال منعهم وحرمانهم من الحج، وهو ركن الإسلام، ثم لما أعلن الأشراف وأعوانهم الحرب والقتال، وغزوهم في مقر دارهم كان مما ليس منه بد من الدفاع أولا لصد العدوان، ثم الاستمرار في قتال المعتدين وكف شرهم، وتأمين سبيل الحج وإبلاغ دعوة التوحيد والسنة، وتخليص المسلمين من أوضار البدع والمحدثات والمظالم التي شاعت في بلاد الحرمين، فكان ما لا بد منه وهو الاستيلاء على مكة. فدخلتها جحافل الدعوة وفي مقدمهم الإمام الصالح سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود سلمًا وبدون قتال، فأقام شعائر الدين على السنة، وهدم القباب والمشاهد وكل مظاهر البدع. وجمع المسلمين على إمام واحد، وكانوا يصلون متفرقين أتباع كل مذهب مع إمامهم. وأزال المنكرات الظاهرة. وشرع في نشر العلم وتفقيه الناس في دينهم، في العقيدة والأحكام، «أما ما أشاعه خصوم الدعوة من أن جيوش الأمير سعود لما دخلوا مكة سالت الدماء أنهارًا فهو محض افتراء. وهنا أصل شرعي عملت عليه الدعوة لما تمكنت وصار لها كيان ودولة وهو قتال المخالفين إذا وقفوا ضد الحق والدين والسنة والعدل والأمن وانحازوا مع الباطل والشر والبدع والظلم والفوضى والفتنة، فإن قتال المخالفين في هذه الحال نوع من الجهاد {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] [سورة الأنفال، آية: 39] . ومعلوم أن الدعوة ودولتها لم تقاتل إلا حين كان لها إمام وبيعة وكيان معتبر شرعًا وعرفاً. وهنا أمور كذلك لا بد من كشفها بهذا الصدد ومنها: 1 - أن خصوم الدعوة كانوا يحمون البدع والشركيات ويدافعون عنها ويقاتلون في سبيل ذلك، إما أصالة، أو تقليداً، أو جهلاً، أو نحو ذلك. وقد يكون بينهم المستضعفون والمسخرون الذين لا حول لهم ولا قوة. فأمرهم إلى الله لكن هؤلاء كلهم في الظاهر وقفوا أمام دعوة الحق. 2 - أن الدعوة وأهلها ودولتها كانت تحمل مبادئ الدين الحق، ويحق لها أن تدعو إليه وتدافع عنه وتحميه، وأن تدافع عن وجودها وكيانها، وأن تعمل بكل الوسائل المشروعة في ذلك بما فيه القتال عند الضرورة. 3 - أضف إلى ذلك أن الدعوة وأتباعها ودولتها تعرضت لمظالم كبرى من خصومها

استهدفت الدين والنفس والمال والحقوق الضرورية، فكان لا بد أن تدافع عن حقوقها المشروعة وتحمي كيانها وحدودها ولو أدى ذلك إلى القتال. 4 - وكان الإمام وعلماء الدعوة، ودعاتها يبدءون دعوتهم بأساليب النصح والإرشاد واللين والتدرج، وبالخطاب والتعليم والمراسلة والكتاب، والمحاورة، والمجادلة بالتي هي أحسن. إلى أن يصل الأمر إلى الحاجة إلى الحزم والقوة، والقتال حين يكون هو الحل الذي لا محيص عنه. لا سيما مع قوة الباطل وعدوانه وتحكمه في نفوس الكثيرين. والخلاصة: أن الدعوة لمَّا صار لها كيان وقامت لها دولة مهيبة وجيوش صارت تحارب، وتعاهد وتسالم بمقتضى شرع الله تعالى والعهود المرعية، ومكَّنهم الله عز وجل تحقيقًا لوعده عن نصر دينه، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] [سورة الحج، آية: 40] . وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وبهذا نقول بأن هذه الدولة حين نصرت الدين وحملت لواء السنة والدعوة، فهي أمكن دولة على الأرض، وأحق أن تسالم وتحارب وتدافع عن الحق بشرع الله ولا تزال ولن تزال كذلك بحول الله وقوته ما دامت على هذا العهد. هذا وليس بينهم وبين من قاتلوهم معاهدات ولا مواثيق تمنع من القتال في سبيل الله. كما أنه في تلك الفترة لم تظهر المنظمات الدولية والمواثيق الأمنية التي التزمتها الدول. ولما ظهرت المعاهدات والمنظمات الدولية الحديثة كانت المملكة العربية السعودية من أكثر الدول التزامًا للعهود والمواثيق والاتفاقيات المشروعة التي كانت هي طرفًا فيها، وحتى الآن وكل منصف يشهد لها بذلك. ولما كثرت الإشكالات والتساؤلات من الخصوم، وبعض المؤيدين والمحايدين البعيدين عن ساحة الصراع والقتال بين الدعوة وخصومها، حول قتال الممتنعين عن أداء شعائر الدين وأركان الإسلام كالصلاة والزكاة، وقتال الممتنعين عن ترك الشركيات والبدع، وإزالة مظاهرها من القباب والمشاهد والمزارات ونحوها حين حصل هذا: أجاب علماء الدعوة وقادتها وأمراؤها عن شبهات القوم بأدلة القرآن والسنة وعمل السلف الصالح من الصحابة والأئمة الأربعة وغيرهم الموجبة لقتال تارك الصلاة، بل وصرح

الفقهاء بقتال تارك الوضوء وقتال أهل البلد إذا تركوا الأذان أو صلاة العيدين، أو منعوا الزكاة، وذكروا كلام الأئمة المعتبرين في ذلك من المالكية والشافعية والحنابلة، وغيرهم (¬1) . يقول الإمام محمد عبد الوهاب موضحًا هذه المسألة: «وأما القتال: فلم نقاتل أحدًا إلاّ دون النفس، والحرمة؛ فإنا نقاتل على سبيل المقابلة {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] [سورة الشورى، آية: 40] وكذلك: من جاهر بسبِّ دين الرسول، بعدما عرفه، والسلام» (¬2) . إضافة إلى ما ذكره الإمام وأتباعه في نفي هذه الشبهة فإن الشيخ صرح أن من الكبائر قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، حيث قال: «باب تعظيم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق» (¬3) . وقد أثار عليهم خصومهم وبعض الجهلة أنهم يستحلون الغارات والقتال والأموال بدعوى أنها غنائم، وهذا من التلبيس، فإن الغنائم قد أحلها الله ورسوله بالقتال المشروع. وقد أجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن هذه الشبهة بقوله: «من المعلوم عند الموافق والمخالف، أن أئمة المسلمين، الذين أقام الله بهم هذا الدين، بعدما اشتدت غربته من بين الظلمة والمفسدين، أن الله بفضله ورحمته، أقامهم بالحق المبين، فدعوا إلى التوحيد، وأنكروا كل شرك وشك وتنديد، ونشروا أعلام الجهاد، حتى أدخل الله بدعوتهم، كل حاضر من قومهم وباد. فأخذوا تلك الأموال من أهل البغي والفساد، بسيف الحق والجهاد، فهو - بحمد الله - من طيب الحلال بلا تردد ولا إشكال، فقد أحل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولأمته الغنائم؛ وقد غنم الصحابة - رضي الله عنه -: أموال من ارتد من العرب، أو شك في الحق واضطرب. وكل ما لا يؤيد بالدليل، فلا التفات إليه، ولا تعويل، على أن الكثير من تلك الأموال، التي أخذت على هذا الوجه الحلال، وصارت من جملة بيت المال، قد تركت في ¬

(¬1) الدرر السنية (10 - 335) . (¬2) الدرر السنية (1) . (¬3) كتاب الكبائر للإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب (77) .

أيدي الغاصبين لها، حين تبدلت الحال؛ فلما قام هؤلاء الولاة، واجتمع عليهم الناس في هذه الأوقات، لم يبق في أيديهم من أموال الفيء إلا القليل؛ لتغلب أناس عليهم من ظلمة ذلك الجيل» (¬1) . ومن المفتريات التي أشاعها خصومهم دعوى أنهم يتعمدون قتل من لا يجوز قتلهم من الشيوخ والنساء والصبيان ونحوهم. وقد أجاب على ذلك الشيخ: عبد الله بن الإمام: «وأما قولكم: إنه يحكى لنا أنكم تقتلون، ذا الشيبة، والمرأة، والصغير، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن لا يقتل من المشركين لا شيبة عاجز، ولا امرأة، ولا قاصر لم يُنبت. فنقول: هذا كذب وزور، وبهتان علينا فلا نأمر بقتل الشيخ الكبير من المشركين، ولا المرأة ولا الصغير الذي لم يُنبت، فإن كان أحد من جهال المسلمين البعيد عنا فعل شيئًا من ذلك، فهو مخطئ مخالف لشرع الله ورسوله، ونحن نبرأ إلى الله من ذلك» (¬2) . كان الشيخ الإمام يعلم، وكان يدور في خلده آنذاك أن الدعوة إلى توحيد الله تعالى نشر الدين والعلم والعمل بشرع الله، ومحاربة البدع والشركيات والجهل، ومحاربة الفساد والظلم والشتات، كل ذلك من الأمور الكبار التي - ولا شك - ستثير أعداء، وأنها سيكون لها كيان وقوة، ويظهر ذلك جليًا من قول له لابن معمر في العيينة «إن هذا الذي أنا قمت به ودعوت إليه كلمة لا إله إلا الله، وأركان الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن أنت تمسكتَ به ونصرته، فإن الله سبحانه يُظهرك على أعدائك، فلا يزعجك سليمان ولا يفزعك فإني أرجو أن ترى من الظهور والتمكين والغلبة ما ستملك بلاده (يعني والي الأحساء) وما وراءها وما دونها» (¬3) . وقوله لمحمد بن سعود عند قدومه إليه بالدرعية: «فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوضك من الغنائم ما هو خير منها» (¬4) (يعني الضرائب) . ¬

(¬1) الدرر السنية (11، 325) . (¬2) الدرر السنية (9) . (¬3) عنوان المجد لابن بشر (1) . (¬4) المصدر السابق (1) .

المبحث السادس قضايا أخرى

[المبحث السادس قضايا أخرى] [دعوى أنهم خوارج وأن سيماهم التحليق] المبحث السادس قضايا أخرى مناقشة دعوى أنهم خوارج وأن سيماهم التحليق: ومن أعظم المفتريات التي أشاعها خصوم الدعوة والجاهلون بأصولها ومنهجها وواقعها - اتهام إمامها وأتباعها وولاتها بأنهم خوارج. وألصقوا فيهم ما ورد من صفات الخوارج ونحوها، كالتكفير بالذنوب، واستحلال الدماء، والتحليق، وأنهم قرن الشيطان، وأتباع مسيلمة وقد ناوؤا هذه الدعوة ودولتها بهذه الدعاية، فأوهموا كثيرًا من المسلمين والجنود التي تقاتل في صفوفهم بأنهم يقاتلون الخوارج الذين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتالهم. وهذه الدعوى من إحدى الكُبَر والبهتان العظيم. فإن الناظر لحقيقة الدعوة في عقيدتها ومنهجها وأحكامها ومعاملاتها وما كتبه علماؤها من المصنفات والرسائل والمحاورات والردود، وما كتبه عنها المنصفون والمحايدون من المسلمين وغير المسلمين يجد الحقيقة بينة جلية في أن الدعوة - إمامها وعلماءها ودولتها وأتباعها بريئون من مذهب الخوارج براءة الذئب من دم يوسف. فإن من يعيرهم الآخرون (بالوهابية) إنما هم - كما أسلفت - يمثلون أهل السنة والجماعة السلف الصالح، فهم على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين وأئمة الدين من الأئمة الأربعة، ومن كان على منهاجهم من العلماء المعتبرين. فمصادرهم: القرآن وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقدوتهم: الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته - رضي الله عنه - والسلف الصالح. وغايتهم: تحقيق التوحيد ومستلزماته، ونفي الشرك وذرائعه، وإقامة فرائض الدين ونشر الفضائل ومكارم الأخلاق. وشعارهم: الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقبل أن أسوق نبذة من أقوالهم ومواقفهم من بدع الخوارج، أعرض للقارئ مقارنة موجزة بين منهجهم ومناهج الخوارج فمن ذلك: - أن الخوارج (ناصبة) يطعنون في علي - رضي الله عنه - ولا يَعْتَدُّون بإمامته، وقد خرجوا عليه وعلى جماعة المسلمين. وأهل السنة ومنهم أتباع هذه الدعوة يترضون عن علي - رضي الله عنه - ويرونه رابع الخلفاء الراشدين، ولا يرون الخروج عليه ولا على غيره من أئمة المسلمين.

- والخوارج يطعنون في كثير من الصحابة كعثمان وعلي ومعاوية وأبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، وطلحة والزبير - رضي الله عنه - وغيرهم من خيار الصحابة، وأهل السنة ومنهم أتباع هذه الدعوة يوالون كل الصحابة ويترضون عنهم. - والخوارج يكفرون أهل الكبائر ويستحلون دماءهم، ويعتقدون خلودهم في النار إذا ماتوا على كبائرهم. وأهل السنة على خلاف ذلك ومنهم أتباع هذه الدعوة. - والخوارج ينكرون الشفاعة والرؤية الثابتة بالنصوص القطعية، وأهل السنة ومنهم أتباع هذه الدعوة على خلاف ذلك. - والخوارج سيماهم التحليق، وليس هذا من شعارات أتباع الدعوة ولا من سماتهم، وقد تبرءوا من هذا الشعار كما أسلفت. وهنا أسوق شيئًا من أقوالهم ومواقفهم من مذهب الخوارج وردهم على من اتهمهم به: لما سئل أبناء الإمام، محمد بن عبد الوهاب، وحمد بن ناصر بن معمر، هل عندكم: أنه ما يلبث موحد في النار، أم لا؟ (أي كما تزعم الخوارج والمعتزلة) : فأجابوا: «الذي نعتقده ديناً، ونرضاه لإخواننا المسلمين، مذهباً، أن الله تبارك وتعالى لا يخلد أحدًا فيها من أهل التوحيد، كما تظاهرت عليه الأدلة، من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال الشيخ تقي الدين أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله -: تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «بأنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الإيمان ما يزن شعيرة» (¬1) وفي لفظ «ذرة» ولكنها جاءت مقيدة بالقيود الثقال، كقوله: «من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه» (¬2) وفي رواية «صادقًا من قلبه» انتهى. وهذا: هو مذهب أهل السنة والجماعة، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعهم بإحسان، من سلف الأمة وأئمتها، ولا يخالف في ذلك إلا الخوارج، والمعتزلة القائلون بتخليد أهل ¬

(¬1) رواه البخاري (3340) (3361) (4712) ، ومسلم (194) . (¬2) رواه البخاري (99، 6570) .

الكبائر في النار. والجواب: عن الآيات التي احتجوا بها: تحتاج إلى بسط طويل» (¬1) . فالقول بتخليد أهل الكبائر في النار من الأصول المميزة للخوارج وتتفق عليها فرقهم. وردُّ أهل السنة - ومنهم الإمام محمد وأتباعه - على الخوارج في هذه المسألة وغيرها مشهور مستفيض. وبذلك كانوا ينفون تهمة أنهم خوارج. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الإمام محمد بن عبد الوهاب: «وأما أهل هذه الدعوة الإسلامية (¬2) التي أظهرها الله بنجد، وانتشرت واعترف بصحتها كثير من العلماء والعقلاء، وأدحض الله حجة من نازعهم بالشهادة، فهم بحمد الله أبعد الناس عن مشابهة الخوارج وغيرهم من أهل البدع، ودينهم هو الحق، يدعون إلى ما بعث الله به رسله، من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وينهون عن دعوة الأموات والغائبين، وطلب الشفاعة منهم» . وقال: «ولم يكفروا أحدًا من الصحابة - رضي الله عنه - بل أحبوهم ووالوهم، وأعرضوا عما شجر بينهم، وعلموا أن لهم حسنات عظيمة، يمحو الله بها السيئات، وتضاعف بها الحسنات» (¬3) . وهم يحذِّرون من الخوارج ومن بدعهم ويعلنون مخالفتهم كما جاء في رسالة الإمام فيصل بن تركي إلى راشد بن عيسى في البحرين كتبها الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن قال: «وأما أهل البدع، فمنهم: الخوارج، الذين خرجوا على أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وقاتلوه؛ واستباحوا دماء المسلمين، وأموالهم متأولين في ذلك، وأشهر أقوالهم: تكفيرهم بما دون الشرك من الذنوب، فهم: يكفرون أهل الكبائر، والمذنبين من هذه الأمة؛ وقد قاتلهم: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصحت فيهم الأحاديث» (¬4) . ¬

(¬1) الدرر السنية (1) . (¬2) هي دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب. (¬3) الدرر السنية (11 - 537) . (¬4) الدرر السنية (1) .

وقد أنكر الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن على بعض الغلاة المنتسبين للدعوة فقال: «وقد بلغنا: عنكم، نحو من هذا، وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعادة، والمصالحة والمكاتبة، وبذل الأموال والهدايا، ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله، والضلالات، والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب، ومَن رزق الفهم عن الله، وأوتي الحكمة وفصل الخطاب» (¬1) . قال: «وأما: التكفير بهذه الأمور، التي ظننتموها، من مكفرات أهل الإسلام فهذا: مذهب، الحرورية، المارقين الخارجين على علي بن أبي طالب، أمير المؤمنين، ومن معه من الصحابة» (¬2) . أما فرية أن سيماهم التحليق كما هي سمة الخوارج: فقد أشاع خصوم الدعوة أن أتباعها يتعبدون بحلق شعر الرأس وأنهم يجعلون ذلك سمة لهم، وأنهم بذلك يكونون من الخوارج الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن سيماهم التحليق (¬3) وهذا من البهتان، فإن أقوالهم وفتاويهم، وحالهم تكذِّب هذا البهتان أما ما ينسب لبعض الجهلة والأعراب في ذلك من التشدد والقتال على هذا، فإن ذلك من الخطأ الذي لا يُقَرّ بل كانوا يؤدبون عليه. قال الشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب رادًّا لهذه الفرية: «وأما البحث عن حلق شعر الرأس، وأن بعض البوادي الذين دخلوا في ديننا، قاتلوا من لم يحلق رأسه، وقتلوا بسبب الحلق خاصة، وأن من لم يحلق رأسه صار مرتدًّا؟ فالجواب: أن هذا كذب وافتراء علينا، ولا يفعل هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر، فإن الكفر والردة لا تكون إلا بإنكار ما علم بالضرورة من دين الإسلام، وأنواع الكفر والردة من الأقوال والأفعال، معلومة عند أهل العلم، وليس عدم الحلق منها، بل ولم نقل: إن الحلق مسنون، فضلاً عن أن يكون واجبًا عن أن يكون تركه ردة عن الإسلام. ¬

(¬1) الدرر السنية (1، 469) . (¬2) الدرر السنية (1، 469) . (¬3) رواه مسلم (2472) من حديث سهل بن حنيف.

والذي وردت السنة بالنهي عنه، هو القزع، وهو: حلق بعض الرأس، وترك بعضه، وهذا هو الذي نُهينا عنه ونؤدب فاعله، ولكن الجُهال القادمون إليكم لا يميزون أنواع الكفر والردة، وكثير منهم غرضه نهب الأموال، ونحن لم نأمر أحدًا من الأمراء بقتال من لم يحلق رأسه. بل نأمرهم بقتال من أشرك بالله، وأبى عن توحيد الله، والتزام شرائع الإسلام وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، فإذا فعلوا خلاف ذلك وبلغنا ذلك من فعلهم لم نُقِرهم على ذلك، بل نبرأ إلى الله من فعلهم، ونؤدبهم على قدر جرائمهم، بحول الله وقوته» (¬1) . ويقول عبد الكريم بن فخر الدين: «وأما ما ورد في الخوارج سيماهم التحليق، فلا ينطبق على ما ادعاه فإن ترك الشعر واللّمة سنة عند محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، فإن كان صحيحًا يحمل أمره ذلك، فيمن كان جديد الإسلام كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألق عنك شعر الكفر» (¬2)) » (¬3) . ويقول الشوكاني لما بلغته بعض المفتريات والشائعات عن الإمام عبد العزيز بن سعود وعن الإمام محمد بن عبد الوهاب: «وبعض الناس يزعم أنه يعتقد اعتقاد الخوارج، وما أظن ذلك صحيحاً، فإن صاحب نجد وجميع أتباعه يعملون بما تعلموه من محمد بن عبد الوهاب» (¬4) . وخلاصة القول أن السلف الصالح أهل السنة والجماعة، ومنهم الإمام وأتباعه لا يتعبدون بالتحليق ولا يجعلون شعارًا لهم، ولا يُلزمون -على جهة التعبد- أحدًا بذلك. أما ما قد يحدث من أن بعضهم يرغب التحليق عادة، أو يأمر غيره به أحيانًا من غير إلزام، ومن غير براء ممن لم يفعل، أو يحلقه ويأمر بحلقه على جهة النظافة، والتخفف من مشقة صيانة الشعر وتعهده بالدهن والغسل والفرق ونحو ذلك، فهذا مما لا نزاع فيه، وليس مما يُثَرَّب فيه على أحد. ¬

(¬1) الدرر السنية (10 5 - 276) . (¬2) الحق المبين في الرد على اللهابية المبتدعين، ص (44) ، عن دعاوى المناوئين (190) . (¬3) رواه أبوداود (1) ، وأحمد (3) من حديث عثيم بن كليب عن أبيه عن جده، وحسنَّه الألباني لشواهده في الإرواء (1) ، وصحيح أبي داود رقم (383) . (¬4) البدر الطالع (526) .

دعوى أن منشأ الدعوة نجد هي قرن الشيطان

[دعوى أن منشأ الدعوة نجد هي قرن الشيطان] دعوى أن منشأ الدعوة قرن الشيطان: مما أثاره خصوم الدعوة من أهل الأهواء والبدع والافتراق دعوى أن نجد هي قرن الشيطان استنادًا للحديث الذي ورد فيه أن نجد والمشرق قرن الشيطان. مع أن العلماء من الصحابة والتابعين وأئمة السلف وغيرهم من أهل اللغة والمعاجم ذكروا أن المقصود بالمشرق ونجد في الحديث هي نجد العراق. وبيَّنوا كذلك أن الذم ليس لكل من سكن نجدًا والمشرق. كما لا يلزم من ذم مكان الذم المطلق في كل الأحوال والأزمنة. والعراق نفسه وهو الذي ورد فيه الذم، لا يعني ذلك أنه لا خير فيه مطلقاً، ولا أن أهله مذمومون، وأن ما خرج منه من العلم والصلاح والخير مردود، إنما تخرج منه الفتن أكثر من غير، من قِبَل أهل الأهواء والفساد لا أهل الصلاح فكثيرون من أهل العراق هم من أئمة الإسلام وقادته، وعلمائه وخرج منه خير كثير للإسلام والمسلمين في دينهم ودنياهم. وخرجت من العراق دعوات إصلاحية كبرى ودعاة مهتدون كالإمام أبي حنيفة والإمام أحمد. فهل نَرُدّ مذهب كل من هذين الإمامين وأمثالهما لمجرد أنها صدرت من موطن الفتن وقرن الشيطان. فخبر النبي صلى الله عليه وسلم هذا وأمثاله لا يتضمن رد الحق الذي يأتي من جهة ما ورد شيء من أحوالها. وكذلك نجد وسط شبه الجزيرة - لو فرضنا جدلًا أنها مَعْنية بالحديث - فلا يعني ذلك أنها لا يصدر عنها ولا عن أهلها خير ولا صلاح، وأنها لا تنصر التوحيد والسنة، فمكة والمدينة وهما أفضل البقاع لم تسلم من ظهور الشركيات والبدع، حول القباب والأضرحة والمزارات والمشاهد التي أزالتها الدولة السعودية المباركة، فهل يجوز أن يكون مناط الذم لنجد ظهور التوحيد والسنة فيها؟ وهل يكون مناط المدح لمكة والمدينة - آنذاك - ظهور البدع والمنكرات فيها؟ لا يقول ذلك عاقل فضلًا عن المؤمن. وهذا كله على سبيل التنزُّل في الحوار. ونرجع إلى تقرير أن نجد المقصودة في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تلك هي نجد العراق، وهي المقصودة بالمشرق بالنسبة للمدينة النبوية.

وقد بيّن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن أن المراد بالمشرق ونجد الذي ورد ذمه في الحديث هو العراق فقال: «إن المراد بالمشرق ونجد في هذا الحديث وأمثاله هو العراق؛ لأنه يحاذي المدينة من جهة الشرق، يوضحه أن في بعض طرق هذا الحديث: «وأشار إلى العراق» قال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة، كان نجده بادية الشام ونواحيها فهي مشرق أهل المدينة، وأصل نجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور فإنه ما انخفض منها، وقال الداودي: إن نجدًا من ناحية العراق، ذكر هذا الحافظ ابن حجر، ويشهد له ما في مسلم عن ابن عمر قال: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أن الفتنة تجيء من هاهنا، وأومئ بيده إلى المشرق» (¬1) فظهر أن هذا الحديث خاص لأهل العراق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسَّر المراد بالإشارة الحسية وقد جاء صريحًا في «المعجم الكبير» (¬2) . للطبراني النص على أنها العراق. وقول ابن عمر وأهل اللغة وشهادة الحال كل هذا يعين المراد. . .» (¬3) . وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن كذلك مبينًا أن الذم لا يلزم أن يقع على المحل إنما على الحال: «الذم إنما يقع في الحقيقة على الحال لا على المحل، والأحاديث التي وردت في ذم نجد كقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لنا في يمننا. اللهم بارك لنا في شامنا» قالوا وفي نجدنا ¬

(¬1) رواه مسلم (7297) . (¬2) رقم (13422) بلفظ "عراقنا" بدلًا من "نجدنا"، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3) رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات (¬3) منهاج التأسيس والتقديس في الرد على ابن جرجيس، ص (62) ، قال الدكتور عبد العزيز العبد اللطيف في ذلك: «ولا يعني ذلك ذم علماء العراق. . . لما ورد من أحاديث في شأن بلادهم، يقول الشيخ عبد اللطيف في مصباح الظلام، ص (236) : «ولا يقول مسلم بذم علماء العراق لما ورد فيها، وأكابر أهل الحديث وفقهاء الأمة أهل الجرح والتعديل أكثرهم من أهل العراق» . وانظر: رسالة أكمل البيان في شرح حديث نجد قرن الشيطان، ص (43) ، ودعاوى المناوئين (186) .

قال: «هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان» (¬1) . . . قيل أنه أراد نجد العراق؛ لأن في بعض ألفاظه: ذكر المشرق، والعراق شرقي المدينة، والواقع يشهد له، لا نجد الحجاز، ذكره العلماء في شرح هذا الحديث، فقد جرى على العراق من الملاحم والفتن، ما لم يجر في نجد الحجاز، يعرف ذلك من له اطلاع على السير والتاريخ، كخروج الخوارج بها، وكمقتل الحسين، وفتنة ابن الأشعث، وفتنة المختار وقد ادعى النبوة، وقتال بني أمية لمصعب وقتله، وما جرى في ولاية الحجاج بن يوسف من القتال، وسفك الدماء وغير ذلك مما يطول عده. وعلى كل حال فالذم إنما يكون في حال دون حال، ووقت دون وقت، بحسب حال الساكن؛ لأن الذم إنما يكون للحال دون المحل، وإن كانت الأماكن تتفاضل. وقد تقع المداولة فيها، فإن الله يداول بين خلقه، حتى في البقاع، فمحل المعصية في زمن قد يكون محل طاعة في زمن آخر، وبالعكس» (¬2) . ويرد الشيخ عبد اللطيف كذلك على من طعن في نجد اليمامة؛ لأنها - على حد زعمه - بلد نجدة الحروري والقرمطي، فيقول: «كون نجدة الحروري والقرمطي من هذه البلاد، كلام كذب وزور على عادته، فإن نجدة ابتلي ببدعته ومروقه بالعراق، وبما استقر وهي وطنه، وأيضًا فقد ثبت أنه تاب لما ناظره ابن عباس، والقرمطي بلاده القطيف والخط، وليس من حدود اليمامة، بل ولا من حدود نجد. ثم لو فُرض أنه من نجد، ومن اليمامة ومن بلدة الشيخ أيّ ضرر في ذلك؟ وهل عاب الله ورسوله أحدًا من المسلمين أو غيرهم ببلده ووطنه، وكونه فارسيًّا أو زنجيًا أو مصريًّا من بلاد فرعون، ومحل كفره وسلطته؟ وعكرمة بن أبي جهل من أفاضل الصحابة، وأبوه فرعون هذه الأمة» (¬3) . وقال الشيخ السهسواني في كتاب «صيانة الإنسان» عند ذكره الروايات في شأن نجد قرن الشيطان، وساق أقوال العلماء في ذلك، ومرادهم بنجد هاهنا، ثم قال: ¬

(¬1) رواه البخاري (7094) ، والترمذي (3953) ، وابن حبان (7301) ، وأحمد (5987) ، واللفظ له. (¬2) مجموعة الرسائل والمسائل (4) . (¬3) مصباح الظلام ص (295) .

«ولا يخفى عليك أن لفظًا من ألفاظ هذا الحديث، لا يقتضي أن كل من يولد في المشرق يكون مصداقًا لهذا الحديث حتى يثبت ما ادعاه المؤلف» . ثم قال: «ومجرد وقوع الفتنة لا يستلزم ذم كل من يسكنه، بدليل ما رواه الشيخان عن أسامة بن زيد قال: أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة، فقال: « «هل ترون ما أرى؟» قالوا: لا قال: «فإني لأرى الفتن تقع من خلال بيتكم كوقع المطر» » (¬1) (¬2) . وذكر المؤلف أحاديث أخرى، ثم قال: «وهذه الأحاديث وغيرها مما ورد في هذا الباب دالة على وقوع الفتن في المدينة النبوية، فلو كان وقوع الفتن في موضع مستلزمًا لذم ساكنيه لزم ذم سكان المدينة كلهم أجمعين، وهذا لا يقول به أحد، على أن مكة والمدينة كانتا في زمن موضع الشرك والكفر، وأي فتنة أكبر منهما؟ بل وما من بلدٍ أو قريةٍ إلا وقد كانت في زمن أو ستصير في زمان موضع الفتنة، فكيف يجترئ مؤمن على ذم جميع مسلمي الدنيا؟ وإنما مناط ذم شخص معين كونه مصدرًا للفتن من الكفر والشرك والبدع» . ثم ذكر السهسواني الروايات التي تثبت أن العراق هو المراد في أحاديث الفتن في نجد، وأنه المشرق بالنسبة للمدينة المنورة (¬3) . ويقول محمود شكري الآلوسي عن بلده العراق- والتي هي في الحقيقة نجد قرن الشيطان -: «ولا بدع فبلاد العراق معدن كل محنة وبليّة، ولم يزل أهل الإسلام منها في رزية بعد رزيّة، فأهل الحروراء وما جرى منهم على الإسلام لا يخفى، وفتنة الجهمية الذين أخرجهم كثير من السلف من الإسلام إنما خرجت ونبغت بالعراق، والمعتزلة وما قالوه ¬

(¬1) رواه البخاري رقم (1878) كتاب فضائل المدينة: باب آطام المدينة، ومسلم رقم (7245) كتاب الفتن وأشراط الساعة: باب نزول الفتن كمواقع القطر. (¬2) صيانة الإنسان، ص (491) . (¬3) المرجع السابق، ص (492) .

للحسن البصري وتواترت النقل به. . . إنما نبغوا وظهروا بالبصرة، ثم الرافضة والشيعة وما حصل فيهم من الغلو في أهل البيت، والقول الشنيع في الإمام وسائر الأئمة ومسبّة أكابر الصحابة. . .، كل هذا معروف مستفيض» (¬1) . ويرد الشيخ ابن سحمان على من وصف أهل نجد بأنهم من ذرية مسيلمة الكذّاب، وبين أن العراق هي موطن الفتن؛ لأنها مشرق المدينة وليست اليمامة، يقول: «وآباء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلافهم كانوا على جاهلية، وشرك، وعبادة للأصنام والأحجار وغيرها. ولا يتوجه عيب أحد منهم بأسلافه وقد يُخرج الله من أصلاب المشركين، والكفّار من هو من خواص أوليائه وأصفيائه. . .» (¬2) . ويقول: «وقد كان بلد الشيخ اليمامة، ولم تكن اليمامة مشرق المدينة، بل مشرق المدينة العراق ونواحيه، فاليمامة ليست مشرق المدينة، ولا هي وسط المشرق بين المدينة والعراق، بل اليمامة شرق مكة المشرفة. . .» (¬3) . ويوضح الشيخ حمود التويجري في كتابه «إيضاح المحجة» : «أن الروايات الواردة في طلوع قرن الشيطان في المشرق كلها عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - وقد صرح في بعضها أن المراد بالمشرق أرض العراق فبطل بذلك كل ما يتعلق به الملاحدة على أهل الجزيرة العربية» (¬4) . ويقول الشيخ ناصر الدين الألباني في تعليقه على حديث «اللهم بارك لنا في شامنا. . .» بعد أن ساق طرقه ومروياته: «فيستفاد من مجموع طرق الحديث أن المراد من نجد في رواية البخاري ليس هو الإقليم المعروف اليوم بهذا الاسم، وإنما هو العراق، وبذلك فسّره الإمام الخطابي والحافظ ابن حجر العسقلاني وتجد كلامهما في ذلك في شرح كتاب الفتن من صحيح البخاري ¬

(¬1) غاية الأماني في الرد على النبهاني (2) باختصار. عن دعاوى المناوئين (189) . (¬2) الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد (87) . (¬3) المرجع السابق (97) ، وانظر: دعاوى المناوئين (189) . (¬4) إيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة (132) باختصار، وانظر: دعاوى المناوئين (191) .

لمزهم أنهم من بلاد مسيلمة الكذاب

للحافظ، وقد تحقق ما أنبأ به - عليه السلام - فإن كثيرًا من الفتن الكبرى كان مصدرها العراق كالقتال بين سيدنا علي ومعاوية، وبين علي والخوارج، وبين علي وعائشة وغيرها مما هو مذكور في كتب التاريخ. فالحديث من معجزاته وأعلام نبوته صلى الله عليه وسلم» (¬1) . [لمزهم أنهم من بلاد مسيلمة الكذاب] لمزهم في أنهم من بلاد مسيلمة الكذاب: وفي لمزهم للإمام وأتباعه من أهل نجد بأنها (ديار مسيلمة) يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن: «وقد أفنى الله كل من حضر مسيلمة في القرن الأول ولم يبق بنجد من يصدق مسيلمة الكذاب، بل من كان في أواخر عهد الصحابة - رضي الله عنه - ومن بعدهم بنجد يُكَفِّرون مسيلمة ويكذِّبُونه فلم يبق بنجد من فتنة مسيلمة لا عين ولا أثر. فلو ذُمَّ نجدٌ بمسيلمة بعد زواله وزوال من يصده لذُم اليمن بخروج الأسود العنسي ودعواه النبوة. وما ضر المدينة سكنى اليهود فيها، وقد صارت مُهَاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومعقل الإسلام، وما ذمت مكة بتكذيب أهلها الرسول صلى الله عليه وسلم وشدة عداوتهم له، بل هي أحب أرض الله إليه، فإذا كان الأمر كذلك فأرض اليمامة لم تَعْص الله وإنما ضرت المعصية ساكنيها، [آنذاك] بتصديقهم كذابهم، وما طالت مدتهم على ذلك الكفر بحمد الله، فطهَّر الله تلك البلاد منهم، ومن سلم منهم من القتل دخل في الإسلام، فصارت بلادهم بلاد إسلام، بُنيت فيها المساجد، وأقيمت فيها الشرائع، وعُبد الله فيها في عهد الصحابة - رضي الله عنه - وبعدهم، ونفَر كثيرٌ منهم مع خالد بن الوليد لقتال العجم، فقاتلوا مع المسلمين، فنال تلك البلاد من الفضل ما نال غيرها من بلاد أهل الإسلام، على أنها تفضل على كثير من البلاد بالحديث الذي رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو بمكة لأصحابه «أُريت دار هجرتكم» فوصفها ثم قال: «فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو يثرب» (¬2) ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وحي حق، وكفى بهذا فضلًا لليمامة وشرفًا لها على غيرها، فإن ذهاب وهله صلى الله عليه وسلم في ¬

(¬1) الإمام محمد بن عبد الوهاب لمحمود الاستانبولي (90) . (¬2) رواه البخاري رقم (7035) كتاب التعبير: باب إذا رأى بقرًا تنحر من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -) .

فرية منع الحج ونهب خزائن الحجرة النبوية وانتهاك حرمة المقدسات

رؤياه إليها لا بد أن يكون له أثر في الخير يظهر» (¬1) . وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ردًّا على من عيَّر الشيخ بأنه من ديار مسيلمة الكذاب: «ولا يعيب شيخنا بدار مسيلمة إلا من عاب أئمة الهدى ومصابيح الدجى بما سبق في بلادهم من الشرك والكفر المبين، وطرد هذا القول جرأة على النبيين وأكابر المؤمنين، وهذا المعترض كعنز السوء يبحث عن حتفه بظلفه ولا يدري» (¬2) . ثم لا ننسى أنه ما في بلد من بلاد المسلمين إلا وخرج فيها متنبئ كذاب، ففي اليمن خرج الأسود العنسي، وفي عمان خرج لقيط الأزدي، وفي شرق جزيرة العرب خرجت سجاح، وفي شمالها ووسطها خرج طليحة الأسدي. وفي الهند خرج الميرزا غلام أحمد القادياني، وفي فارس خرج البهاء، وفي خراسان سيخرج الدجال الأكبر. . . وهكذا بقية البلاد الإسلامية فهل يُذم المسلمون وتذم ديارهم مطلقًا بهذا؟! [فرية منع الحج ونهْب خزائن الحجرة النبوية وانتهاك حرمة المقدسات] فرية منع الحج ونهب خزائن الحجرة النَّبوية وانتهاك حرمة المقدسات: لما تمكنت الدولة السعودية الأولى من دخول مكة زعم خصوم الدعوة أنها منعت الحج، والحق أن الحج لم يُمنع إنما مُنعت ممارسة المنكرات والبدع كالمحمل ومُنعت البدع والمحدثات الأخرى في الدين كالمزارات والمشاهد والقباب، وأكثر الحجاج جُهَّال أو أهل بدع قد يتعلقون بها، ولما مُنعت هذه البدع من قِبَل الدولة السعودية أكثر من مرة قالوا: مُنِعَ الحجّ؛ لأنها عندهم هي الحج فلا رغبة عندهم لقصد الحج بدون تلكم البدع التي نشأوا عليها، وغُذي هذا الشعور لديهم من قبل علماء السوء والكبراء المنتفعين من هذه الأوضاع البدعية. والحق: أن الدولة السعودية كلما تمكنت في الحرمين يسرت طرق الحج، وأشاعت الأمن، ووفرت المؤن للحجاج ورفعت المظالم وأسقطت الضرائب، وما أشيع خلاف ذلك فهو من المفتريات والدعايات المغرضة التي لا أصل لها أو من التجاوزات القليلة التي ربما حدثت من مغرضين أو جهلة ونحوهم ممن ليسوا على النهج الذي سلكته الدعوة ودولتها (الدولة السعودية) في منهجها القائم على الشرع والسنة. ¬

(¬1) مجموعة الرسائل (4) . (¬2) مصباح الظلام (237) .

لقد أشاع خصوم الدعوة أن الوهابيين يمنعون الحجاج من دخول الديار المقدسة وأداء شعائر الحج والعمرة. وكان لهذه الدعاية المضادة والإشاعات الكاذبة أثره في نفوس المسلمين البعيدين عن رؤية الحقيقة مما جعل كثيرين من الحجاج في أكثر البلاد الإسلامية يُحجمون عن الحج والذهاب إلى مكة والمدينة. ولكن عندما ندرس هذه القضية بموضوعية، ونتفحص الملابسات العقدية والسياسية والتاريخية وغيرها نتوصل إلى الحقائق التالية: 1 - أن الدولة السعودية حين حكمت الحجاز في أدوارها الثلاثة وحتى الآن لم تمنع الناس من الحج ولم تضيق عليهم، بل العكس هو الصحيح، فقد قامت بجد وحزم بتأمين السبل وتخفيف المظالم والضرائب التي تُثقل كاهل أهل الحجاز، ووفرت المؤن والخدمات للحجاج بشكل لم يسبق له مثيل في العصور المتأخرة. 2 - أنه في تلك الأثناء التي انقطع فيها بعض الحجاج عن الحج بسبب الدعاية المغرضة، حج آخرون جماعات (كالمغاربة) وأفرادًا من سائر البلاد الإسلامية وشهدوا بأنهم لم يحصل لهم من المضايقات أو ما يمنع من إقدام الناس على الحج، بل العكس فقد رأوا استتباب الأمن وظهور السنة، واحترام مشاعر الحج وشعائره، ورفع الضرائب. وبهذه الأمور تنقطع مصالح المنتفعين من ظهور البدع ومن سوء الأحوال، وهم الذين أشاعوا أن الدولة السعودية منعت الحج. 3 - أن الذين أوقفوا مسيرات الحج هم رؤوس القوم وشيوخ البدع، والساسة وقادة قوافل الحج الذين لهم مصالح في استمرار البدع والمظالم والضرائب المصاحبة للحجيج غالباً. وأعرض شهادة مؤرخ محايد بهذا الصدد وهو الجبرتي؛ إذ قال: «وفي هذه الأيام (¬1) أيضًا وصلت الأخبار من الديار الحجازية بمسالمة الشريف غالب للوهابيين؛ وذلك لشدة ما حصل لهم من المضايقة الشديدة وقطع الجالب عنهم من كل ناحية حتى وصل ثمن الأردب المصري من الأرز خمسمائة ريال والأردب البر ثلثمائة ¬

(¬1) أو سنة (1221هـ) الجبرتي (3) .

وعشرة، وقس على ذلك السمن والعسل وغير ذلك، فلم يسع الشريف إلا مسالمتهم، والدخول في طاعتهم، وسلوك طريقتهم، وأخذ العهد على دعاتهم وكبيرهم بداخل الكعبة، وأمر بمنع المنكرات والتجاهر بها، وشرب الأراجيل بالتنباك في المسعى وبين الصفا والمروة، وبالملازمة على الصلوات في الجماعة، ودفع الزكاة، وترك لبس الحرير والمقصبات، وإبطال المكوس والمظالم، وكانوا خرجوا عن الحدود في ذلك حتى إن الميت يأخذون عليه خمسة فرانسة وعشرة بحسب حاله، وإن لم يدفع أهله القدر الذي يتقرر عليه فلا يقدرون على رفعه ودفنه، ولا يتقرب إليه الغاسل ليغسله حتى يأتيه الإذن، وغير ذلك من البدع والمكوس والمظالم التي أحدثوها على المبيعات والمشتروات على البائع والمشتري، ومصادرات الناس في أموالهم ودورهم. فيكون الشخص من سائر الناس جالسا بداره فما يشعر على حين غفلة منه إلا والأعوان يأمرونه بإخلاء الدار وخروجه منها، ويقولون: إن سيد الجميع محتاج إليها، فإما أن يخرج منها جملة وتصير من أملاك الشريف، وإما أن يصالح عليها بمقدار ثمنها أو أقل أو أكثر فعاهده (¬1) على ترك ذلك كله، واتباع ما أمر الله تعالى به في كتابه العزيز من إخلاص التوحيد لله وحده، واتباع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وما كان عليه الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون إلى آخر القرن الثالث، وترك ما حدث في الناس من الالتجاء لغير الله من المخلوقين الأحياء والأموات في الشدائد والمهمات، وما أحدثوه من بناء القباب على القبور والتصاوير والزخارف، وتقبيل الأعتاب والخضوع والتذلل والمناداة والطواف، والنذور والذبح والقربان وعمل الأعياد والمواسم لها، واجتماع أصناف الخلائق، واختلاط النساء بالرجال، وباقي الأشياء التي فيها شركة المخلوقين مع الخالق في توحيد الألوهية التي بعثت الرسل إلى مقاتلة من خالفها ليكون الدين كله لله. فعاهده على منع ذلك كله، وعلى هدم القباب المبنية على القبور والأضرحة؛ لأنها من الأمور المحدثة التي لم تكن في عهده بعد المناظرة مع علماء تلك الناحية، وإقامة الحجة عليهم بالأدلة القطعية التي لا تقبل التأويل من الكتاب والسنة وإذعانهم لذلك، فعند ذلك ¬

(¬1) يقصد أن الشريف غالبا عاهد الإمام سعود بن عبد العزيز.

أمنت السبل، وسلكت الطرق بين مكة والمدينة، وبين مكة وجدة والطائف، وانحلت الأسعار، وكثر وجود المطعومات، وما يجلبه عربان الشرق إلى الحرمين من الغلال والأغنام والأسمان والأعسال، حتى بيع الأردب من الحنطة بأربع ريالات، واستمر الشريف غالب يأخذ العشور من التجار، وإذا نوقش في ذلك يقول: هؤلاء مشركون، وأنا آخذ من المشركين، لا من الموحدين (¬1) " (¬2) . إذن فالمشكلة في أن أكثر أهل البدع لا يستغنون في حجهم وعمرتهم وزيارتهم للديار المقدسة عن ممارسة البدع، من زيارة القباب والقبور والمشاهد والآثار والأشجار والأحجار التي يقدسونها، ويتبركون بها بزعمهم. 4 - فالدعوة والدولة السعودية عملت بوصية النبي صلى الله عليه وسلم بإزالة كل آثار البدع من هذه القباب والمشاهد والمزارات، وحلق الصوفية وسماعاتها، وإزالة مظاهر الفرقة من تعدد الجماعات في المسجد الحرام وغيره. وأهل البدع لا يرون للحج معنى ولا قيمة بدون هذه البدع، فلما علموا أنهم سيمنعون منها وأن مشاهدها أزيلت عدلوا عن الحج، وقد شهد المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي أيضا - وهو محايد - كما ذكرت بهذه الحقيقة، وعبر عنها بوضوح قائلا: " وفيه (¬3) ورد الخبر بأن ركب الحاج الشامي رجع من منزلة هدية ولم يحج في هذا العام؛ وذلك أنه لما وصل إلى المنزلة المذكورة أرسل الوهابي إلى عبد الله باشا أمير الحاج يقول إنه لا تأت إلا على الشرط الذي شرطناه عليك في العام الماضي، وهو أن يأتي بدون المحمل، وما يصحبهم من الطبل والزمر والأسلحة، وكل ما كان مخالفا للشرع، فلما سمعوا ذلك رجعوا من غير حج، ولم يتركوا مناكيرهم " (¬4) . ¬

(¬1) هذه سخرية ولمز للدعوة من الشريف غالب، وقد خذله الله. (¬2) عجائب الآثار للجبرتي (3) . (¬3) يعني أول سنة (1222 هـ) . (¬4) عجائب الآثار للجبرتي (3) .

5 - وعلى هذا فإن الإمام سعودا لم يمنع أحدا من المسلمين من الحج، إنما منع إهانة البلاد المقدسة بالبدع والمنكرات التي تصحب المحمل وقوافل الحج، إذن فالمشكلة تكمن في أن أكثر المسلمين المتعلقين بالبدع لا يستغنون في حجهم وعمرتهم وزيارتهم للديار المقدسة عن ممارسة البدع، من زيارة القباب والقبور والمشاهد والآثار والأشجار والأحجار التي يقدسونها ويتبركون بها بزعمهم، كما أسلفت. 6 - كما أن الدولة السعودية لما مكنها الله تعالى من حكم إمارة مكة منعت بدعة المحمل، وما يصاحبها من بدع ومنكرات لا تليق، وتتنافى مع تعظيم شعائر الله والمشاعر المقدسة، وأهل البدع أصروا على اصطحاب المحمل وهم قادمون من عدد من البلاد الإسلامية المجاورة وغير المجاورة أو لا يحجون، فانقطع كثير منهم عن الحج لهذا السبب. وقد ذكر الجبرتي مرة أخرى - وهو مؤرخ محايد - ذلك، وبين أن ابن سعود لم يمنع الحج لكنه منع البدع، قال في حوادث سنة (1223 هـ) : " ومنها انقطاع الحج الشامي والمصري معتلين بمنع الوهابي (¬1) الناس عن الحج، والحال ليس كذلك، فإنه لم يمنع أحدا يأتي الحج على الطريق المشروعة، وإنما يمنع من يأتي بخلاف ذلك من البدع التي لا يجيزها الشرع مثل المحمل والطبل والزمر وحمل الأسلحة، وقد وصل طائفة من حجاج المغاربة وحجوا ورجعوا في هذا العام وما قبله، ولم يتعرض لهم أحد بشيء " (¬2) . يقول الدكتور عجيل النشمي: " والحق الذي ينبغي أن يكشف أن الأمير سعودا لم يمنع أحدا من حج بيت الله الحرام، وكل ما حدث من ذلك إنما هي ملابسات اقتضتها الظروف السياسية والعسكرية، وكان لها ما يبررها فعلا، ولنثبت ذلك بتتبع هذا المنع كما أوردته ثقات المصادر "، ثم ذكر ذلك وقال: " ويلاحظ هنا أنه منذ أن دخل سعود مكة في حجته الرابعة عام (1222 هـ) لم يحج ¬

(¬1) يقصد الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد. (¬2) عجائب الآثار للجبرتي (3) .

أحد من عواصم البلاد الإسلامية الكبيرة من إستانبول أو الشام أو مصر أو العراق، والتعبير بأنه لم يحج أحد يشير إلى أنه لم ترسل تلك الدولة حملات الحج الرسمية المعتادة، وظل هذا الإحجام عن أداء فريضة الحج حتى (1226 هـ) وهي السنة التي جهزت فيها دولة الخلافة محمد علي باشا لحرب الحركة الوهابية، وهذا يعني أن خمس سنوات مرت دون أن يحج أحد من تلك الأقطار. وليس هناك ما يشير إلى أن الأمير سعودا هو الذي حظر على تلك العواصم من أن تحج، بل إن السبل في أيامه كانت أكثر أمنا من أي وقت مضى، وليس شرط الأمان الذي كان يأخذه أهالي المغرب كما ذكرنا شرطا أو بندا على الحج يمنع تلك الأقطار من الحج، فإن الذي يحتاجه - على ما نرجح - هم الحجاج الشراذم أو الجماعات الصغيرة، فإعطاؤه الأمان حينئذ زيادة في تمكينها من أداء الحج والعودة سالمة عبر تلك المسافات الشاسعة التي كان مرورها فيه قبل ذلك يحمل المخاطر الجسام، فالأمان والحال هذه ميزة لا قيد. بل إن الأمير سعودا نفسه تعرض لهذه القضية لحساسيتها - وهذا من بعد نظره - فذكرها في رسالته إلى السلطان سليم، وبين أنه سيمنع الحاج القادم من الشام أو مصر إذا كان مصطحبا مظاهر الإخلال بمشاعر الحج وحرمتها، من اصطحاب الطبول والمزامير وما أشبهها، وعلل ذلك بأنه ليس من الدين في شيء، ولم يقل إنه سيمنعهم لمجرد المنع. وهذا تلمسه ساطعا جليا في رسالته - آنفة الذكر - حين قال موجها الخطاب إلى السلطان سليم: " فعليك أن تمنع والي دمشق ووالي القاهرة من المجيء إلى هذا البلد المقدس بالمحمل والطبول والزمور، فإن ذلك ليس من الدين من شيء ". إلا أن النتيجة التي انبنت على هذا الإحجام عن الحج طوال هذه المدة أن انبنى في أذهان الناس عموما في شتى الأقطار نوع عداء للحركة الوهابية، نابع من أنها هي التي منعت الحج، وأن سبله تحوطها المخاطر الذي تتحمل مسئوليتها الحركة الوهابية، ولقد نجح - كما يبدو - استغلال هذا الواقع لتشويه وتجسيم عداء الأمير سعود أو الحركة الوهابية ككل لدولة الخلافة، ولقد قام بهذا الدور الشريف غالب وغيره فيما كان يرسل من رسائل إلى دولة الخلافة يوهمها بأن الأمير سعودا يمنع حجاج الأستانة أو غيرها، بل إن الشريف غالبا كان يزور الرسائل على لسان الأمير سعود، ويضمنها مثل تلك المعاني، كما سنكشفه فيما بعد " (¬1) . ¬

(¬1) إعادة ترتيب أوراق سقوط الخلافة (مقالة) الحلقة (53) مجلة المجتمع عدد (517) ص (37 - 39) .

دعوى التضييق على أهل الحرمين في أرزاقهم

ويقول الدكتور محمد بن سليمان الخضيري: " ومن الأساليب الأخرى التي اتبعتها لهذا الغرض إشاعة منع السعوديين للناس من الحج، والحقيقة كما قررها المؤرخون المنصفون أن الدولة السعودية لم تمنع أحدا أتى إلى الحج على الطريقة الإسلامية المشروعة، أما من يصر على أن يأتي بالبدع مثل: الطبل والزمر وحمل السلاح فالواجب تنبيهه أن ذلك يخالف الإسلام، فإن رضي فقد أعتق نفسه من مخالفة شرع الله، وإن رفض فلا مكان له بين حجاج المسلمين الملتزمين بالعقيدة الإسلامية " (¬1) . [دعوى التضييق على أهل الحرمين في أرزاقهم] دعوى التضييق على أهل الحرمين في أرزاقهم: الذين يعيشون ويرتزقون على موارد البدع كثيرون في مكة والمدينة وغيرهما، من سدنة القباب والمشاهد والمزارات، وحجابها وخدامها ومزوريها، وجيرانها والقائمين على أوقافها ومراسمها، وغيرهم كثير من المنتفعين من قيام هذه البدع ومنكراتها، كل هؤلاء تنقطع مواردهم بإزالة هذه البدع والمحدثات، وقد حصل شيء من ذلك عندما قامت الدولة السعودية وأتباع الدعوة السلفية بهدم القباب والمشاهد وإزالة البدع؛ مما تسبب كذلك في امتناع أهل البدع من القدوم للحجاز كما أسلفت، يقول الجبرتي في ذلك: " ولما امتنعت قوافل الحج المصري والشامي، وانقطع عن أهل المدينة ومكة ما كان يصل إليهم من الصدقات والعلائف والصرر التي كانوا يتعيشون منها، خرجوا من أوطانهم بأولادهم ونسائهم، ولم يمكث إلا الذي ليس له إيراد من ذلك، وأتوا إلى مصر والشام، ومنهم من ذهب إلى إسلامبول يتشكون من الوهابي، ويستغيثون بالدولة في خلاص الحرمين؛ لتعود لهم الحالة التي كانوا عليها من إجراء الأرزاق واتصال الصلات " (¬2) . أما دعوى نهب خزائن الحجرة النبوية: فإنه حينما تمكنت الدولة السعودية الأولى من المدينة أزالت المنكرات والبدع ¬

(¬1) الدولة السعودية الأولى والدولة العثمانية (353) . (¬2) الجبرتي (3) .

والمحدثات، ومنها ما يفعله الجهلة وأهل البدع من إلقاء النفائس في الحجرة، فأخذها الإمام سعود بن عبد العزيز وعرض أمرها على العلماء، فأفتوه بصرفها في مصالح المسلمين، وهذا مما يجب أن يحمد له، لكن أهل البدع صوروا ذلك على أنه من الكبائر العظيمة. يقول الجبرتي في ذلك: " ويذكرون أن الوهابي استولى على ما كان بالحجرة الشريفة من الذخائر والجواهر، ونقلها وأخذها، فيرون أن أخذه لذلك من الكبائر العظام ". ثم قال الجبرتي مبينا أن أصل وجود الذخائر في الحجرة من البدع والخرافات: " وهذه الأشياء أرسلها ووضعها خساف العقول من الأغنياء والملوك والسلاطين الأعاجم وغيرهم، إما حرصا على الدنيا وكراهة أن يأخذها من يأتي بعدهم أو لنوائب الزمان، فتكون مدخرة ومحفوظة لوقت الاحتياج إليها، فيستعان بها على الجهاد ودفع الأعداء، فلما تقادمت عليها الأزمنة وتوالت عليها السنين والأعوام الكثيرة وهي في الزيادة، فارتدت معنى لا حقيقة، وارتسم في الأذهان حرمة تناولها، وأنها صارت مالا للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحد أخذها ولا إنفاقها، والنبي عليه الصلاة والسلام منزه عن ذلك، ولم يدخر شيئا من عرض الدنيا في حياته، وقد أعطاه الله الشرف الأعلى، وهو الدعوة إلى الله تعالى والنبوة والكتاب، واختار أن يكون نبيا عبدا، ولم يختر أن يكون نبيا ملكا. وثبت في الصحيحين وغيرهما أنه قال: " «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا» " (¬1) وروى الترمذي بسنده عن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " «عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، قلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما، أو قال ثلاثا أو نحو ذلك، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» " (¬2) ثم إن كانوا وضعوا هذه الذخائر والجواهر صدقة على الرسول ومحبة فيه فهو فاسد [فهو] (¬3) لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس» " (¬4) ¬

(¬1) رواه البخاري رقم (6460) كتاب الرقاق: باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومسلم رقم (7441) كتاب الزهد: باب الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. (¬2) رواه الترمذي رقم (2347) وقال: حديث " حسن " على الرغم أن في سنده علي بن يزيد الألهاني، وهو ممن ضعف، لكن تحسين الترمذي للحديث لشواهده. (¬3) كذا في الأصل، ويظهر أنها زائدة. (¬4) رواه مسلم (2482) كتاب الزكاة: باب ترك استعمال آل النبي على الصدقة.

ومنع بني هاشم من تناول الصدقة وحرمها عليهم، والمراد الانتفاع في حال الحياة لا بعدها " (¬1) . ثم قال: " وكنز المال بحجرته وحرمان مستحقيه من الفقراء والمساكين وباقي الأصناف الثمانية، وإن قال المدخر: أكنزها لنوائب الزمان ليستعان بها على مجاهدة الكفار والمشركين عند الحاجة إليها، قلنا: قد رأينا شدة احتياج ملوك زماننا واضطرارهم في مصالحات المتغلبين عليهم من قرانات الإفرنج وخلو خزائنهم من الأموال التي أفنوها بسوء تدبيرهم وتفاخرهم ورفاهيتهم، فيصالحون المتغلبين بالمقادير العظيمة بكفالة إحدى الفرق من الإفرنج المسالمين لهم، واحتالوا على تحصيل المال من رعاياهم بزيادة المكوس والمصادرات والطلبات، والاستيلاء على الأموال بغير حق، حتى أفقروا تجارهم ورعاياهم، ولم يأخذوا من هذه المدخرات شيئا، بل ربما كان عندهم أو عند خونداتهم جوهر نفيس من بقايا المدخرات فيرسلونه هدية إلى الحجرة، ولا ينتفعون به في مهماتهم، فضلا عن إعطائه لمستحقه من المحتاجين، وإذا صار في ذلك المكان لا ينتفع به أحد إلا ما يختلسه العبيد الخصيون الذين يقال لهم أغوات الحرم، والفقراء من أولاد الرسول وأهل العلم والمحتاجون وأبناء السبيل يموتون جوعا، وهذه الذخائر محجور عليها وممنوعون منها إلى أن حضر الوهابي، واستولى على المدينة، وأخذ تلك الذخائر " (¬2) . ويكفي السعوديين فخرا أنهم جعلوا هذه الأموال تحت تصرف العلماء، وأنهم صرفوها في مصارفها الشرعية، وقد زعم بعض الخصوم أن أهل نجد حين تولوا بلاد الحرمين انتهكوا حرمات الحرم، وأهانوا أهله، وكل ذلك من البهتان، بل الصحيح عكس ذلك، والعجيب أن غير المسلمين كان بعضهم أكثر إنصافا في ذلك. يقول الراهب هيوجس: لم يصب المواطنين أي أذى لأجل قداسة الحرم، وبعد أن تولى الإمارة أهل نجد ¬

(¬1) عجائب الآثار للجبرتي (3، 248) . (¬2) عجائب الآثار للجبرتي (3 - 250) .

دعوى أن دعوة الإمام مذهب خامس

عمرت المساجد حتى إن هذا المنظر من الزهد والطاعة لم ير له مثيل في هذا البلد الأمين بعد عهد النبوة " (¬1) . وكتب معاصر أوروبي آخر وهو برك هارت: " ما زال أهل مكة يذكرون اسم سعود بالشكر والرضى حتى الآن، وما زالت معاملة الجنود الطيبة تذكر بثناء ومدح بالخصوص معاملتهم في أيام الحج والزيارات، ولم يستطيعوا أن ينسوا تلك المعاملة العادلة التي شاهدوها من جيوشه (¬2) . وزيادة على هذا أجبر الناس كلهم على الصلاة مع الجماعة، ودمرت آلات التنباك والملابس الحريرية، وألغيت المكوس والرسوم التي لا يقرها الشرع الإسلامي (¬3) وقضى على تعدد الجماعات في الصلوات، وبدأ الناس يصلون وراء إمام واحد، وبدأ علماء المذاهب المختلفة يصلون بالناس في أوقات مختلفة " (¬4) . [دعوى أن دعوة الإمام مذهب خامس] دعوى أن دعوة الإمام مذهب خامس: ساد عند كثير من خصوم الدعوة والجاهلين بحقيقتها أن الإمام محمد بن عبد الوهاب جاء بمذهب خامس، أي أنه خرج عن مذاهب أهل السنة الأربعة، ويقصدون بذلك التعريض بل والتصريح بأنه جاء بمذهب مبتدع في الدين. هذه الفرية لا يقولها إلا جاهل أو مغرض؛ لأن واقع الحال أن الإمام محمد بن عبد الوهاب وعلماء الدعوة صرحوا بأنهم على مذهب الإمام أحمد في الفروع، ويحترمون المذاهب الثلاثة الباقية الحنفي والمالكي والشافعي، بل كثيرا ما يرجحون غير قول الحنابلة إذا كان الدليل مع أحد المذاهب الأخرى. هذا من حيث الفروع والاجتهاديات. ¬

(¬1) قاموس الإسلام (Dictionary of Islam) ص (660) . (¬2) برك هارت (2) . (¬3) الهدية السنية (43) . (¬4) الدعوة الوهابية وأثرها في الفكر الإسلامي الحديث (88، 89) .

أما في العقيدة وأصول الدين فإنهم - أعني الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه - هم السائرون على منهج الأئمة الأربعة، وعقيدتهم تطابق ما كانوا عليه؛ لأنها السنة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعون والسلف الصالح، وقد بينت هذا في عرض عقيدة الإمام وأتباعه، وعلى ذلك فيعلم بالضرورة أنهم أولى بالأئمة الأربعة وسائر السلف الصالح، ومن التكلف وتحصيل الحاصل طلب إثبات ذلك. إذن فالإمام محمد بن عبد الوهاب متبع لا مبتدع، وخصومه الذين لم يقبلوا ما دعا إليه من الحق والسنة، وترك البدع والمحدثات، هم الذين على غير المذاهب الأربعة، وعلى غير نهج السلف الصالح، وهذه حقيقة لا مراء فيها لمن عدل وأنصف واستقرأ الحال. فهذه دعوة الإمام وكتبه ورسائله، وواقع حاله يشهد بذلك، وكذلك واقع علماء الدعوة وأتباعها إلى اليوم يشهد بذلك، فهم في العقيدة والأصول على مذهب السلف بما فيهم الأئمة الأربعة، وهم في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، فلماذا يصنع لهم الخصوم الأوهام والمفتريات؟ ولذلك لما زعم خصوم الإمام محمد بن عبد الوهاب وذكروا عنه بعض المفتريات التي منها: أنه جاء بمذهب خامس، وأنه أبطل المذاهب الأربعة، أنكر ذلك ونفاه، وقال: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] (¬1) " (¬2) . وأكد التزامه بما عليه الأئمة الأربعة، فقال مخاطبا عامة المسلمين، مفندا المزاعم التي أثارها أهل البدع ضده: " عقيدتي وديني الذي أدين به مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة " (¬3) وكذلك قال للسويدي: " أخبرك أني ولله الحمد متبع ولست بمبتدع. . . " ثم ذكر الكلام السابق (¬4) . ¬

(¬1) سورة النور، آية (16) . (¬2) الدرر السنية (1) . (¬3) الدرر السنية (1، 79) . (¬4) الدرر السنية (1، 79) .

دعوى الخروج على الخلافة

ثم قال مبينا السبب في إثارة هذه المفتريات من قبل خصوم الدعوة: " ولبسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه الناس، وكبرت الفتنة جدا، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله " (¬1) . [دعوى الخروج على الخلافة] دعوى الخروج على الخلافة: إن الدارس لحال نجد يلحظ أنها منذ القرن الثالث الهجري كانت تتنازعها سلطات مختلفة فصلتها عن التبعية المباشرة لدولة الخلافة العباسية ثم العثمانية، فمنذ سنة (251 هـ) تقريبا استقلت دولة بني الأخيضر (شيعية زيدية) بالحجاز عن الخلافة العباسية، وضمت إليها نجدا واليمامة، ثم خضعت نجد واليمامة لنفوذ القرامطة الباطنية إلى منتصف القرن الخامس الهجري. وبعدها بقيت هذه الديار مهملة تتنازع عليها الدويلات، وفيها زعامات ورئاسات محلية إلى أن جاء الأتراك إلى الأحساء واليمن والحجاز، فكانت نجد تحت إشراف الولاة الأتراك في الأحساء أو الحجاز، وفي كل الأحوال كان هذا الإشراف غير مباشر، بل هو إلى الشكلي والرمزي أقرب منه إلى الفعلي، ومع ذلك فقد انقطع هذا الإشراف كلية حين استقل زعيم بني خالد براك بن غرير بالأحساء منذ عام (1080 هـ) . وحين بدأ الإمام بدعوته المباركة قبيل منتصف القرن الثاني عشر كانت نجد كلها (ومنها اليمامة) تحكمها إمارات ومشيخات صغيرة متنازعة، ليست لها تبعية لآخرين إلا التبعية الرمزية لحاكم الأحساء - وهو مستقل عن الخلافة عمليا -، وكان كل أمير وشيخ في نجد يشعر بالاستقلالية المطلقة. وكانت هذه الإمارات والولايات المستقلة في نجد ضعيفة، وأهل الحل والعقد في كل بلدة هم الذين ينظمون شئونهم الداخلية، وعلاقاتهم الخارجية في الحرب والسلم، وفي القضاء والحسبة، وإن كان قد يوجد في نفوس بعض الناس شيء من الولاء الرمزي للخلافة كالدعاء للسلطان في المنابر ونحو ذلك. ¬

(¬1) الدرر السنية (1) .

وكانت الدولة التركية لا ترى نجدا وأهلها شيئا يستحق الاهتمام، ولذلك لما قسمت البلاد الإسلامية التي تحت نفوذها إلى ولايات (إيالات) لم يكن لنجد أي ذكر، ثم لما قامت الدعوة وفي أول عهدها لم تأبه بها الدولة العثمانية، مع العلم أن خصوم الدعوة كانوا يراسلون دولة الخلافة ويستعدونها عليها، ويشوهون سمعتها لديها، وقد بلغ تشويه صورة الدعوة لدى الدولة العثمانية أقصى ما يمكن تصوره من الكذب والبهتان والاستعداء عن طريق الرسائل والتقارير الرسمية وغير الرسمية، والبعوث وسائر الوسائل التي لا تملك الدعوة معشارها. والمتأمل لكلام الإمام في هذه المسألة يدرك أنه لم يتقصد الخروج على الخلافة، ولا معارضتها، بل كان يرى أن ما يقوم به من الدعوة أمر واجب شرعا لا علاقة له برضى الخلافة، وأنه لم يفتت على الخلافة في ذلك، وأن أمير بلده (العيينة) وحاكمها (ابن معمر) ثم ابن سعود في (الدرعية) كان يعاونه ويؤيده وهو واليه وأميره المباشر، لا سيما إذا وضعنا في الاعتبار أن الإمام يعتقد بأصول أهل السنة والجماعة في وجوب طاعة الإمام بالمعروف، وأنه لا يجوز الخروج عليه برا كان أو فاجرا، وقد قرر هذا الأصل وبينه في رسائل مؤلفاته، وذكرنا طرفا منه في هذا الكتاب. ثم إن الدولة التركية آنذاك في عهد الإمام وإلى أن سقطت كانت واقعة تحت طائلة البدع والتصوف، فكانت تتبنى البدع، وتؤيد الطرق الصوفية، وتنشرها وتحميها، وتسخر لها الإمكانات والإدارات والأوقاف، ويتسابق ولاتها وأمراؤها إلى ذلك. فأسهمت في ترسيخ بدع الأضرحة والقباب والمزارات والمشاهد البدعية، ووقع خلفاؤها المتأخرون تحت تأثير شيوخ الطرق البدعية، فانصرفت قلوبهم لغير الله، فانهزمت نفوسهم، وانحرفت عقيدتهم، واتجهت إلى طلب النفع ودفع الضر من غير الله، وأصيبت عباداتهم وأعمالهم بداء التصوف، وأصدق مثال على ذلك الرسالة التي وجدت حول قبر النبي صلى الله عليه وسلم من الخليفة العثماني سليم يتضرع فيها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من دون الله وفيها: " من عبيدك السلطان سليم وبعد، يا رسول الله قد نالنا الضر، ونزل بنا من المكروه ما لا نقدر على دفعه، واستولى عباد الصلبان على عباد الرحمن، نسألك النصر عليهم، والعون عليهم، وأن تكسرهم عنا. . . " (¬1) إلخ من العبارات الشركية ¬

(¬1) الدرر السنية (1) .

الصريحة التي تضاد دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتي هي أعظم سبب لاستيلاء عباد الصليب على بلاد المسلمين، فهو يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسأله النصر والعون من دون الله، وهذا هو السبب الأول في هوان الدولة التركية وسقوطها، بل وهوان المسلمين عموما، ومع ذلك فإن الإمام وأتباعه لم يعلنوا الخروج على الخلافة، ولم يواجهوها ابتداء بأي شيء يدل على الخروج، ولما صارت لهم دولة وكيان وسلطان لم يعلنوا الخروج على الدولة العثمانية كذلك، لكنهم تعرضوا لعدوان مسلح وبكل الوسائل، ومتكرر من المجاورين لهم من أمراء الأحساء والحجاز ونجران وغيرهم، فكان من المشروع والطبيعي أن يصدوا العدوان بالجيوش والقتال. وحين حدثت المواجهة الفعلية بين دولة الدعوة (الدولة السعودية الأولى) وبين أشراف مكة بعد وفاة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب (ت 1206) ، فلم تكن هذه المواجهة تقصد الخروج على الخلافة، إنما كانت لصد عدوان أشراف مكة وغيرهم في هجومهم المسلح مرات عديدة على الدولة السعودية ورعاياها والأقاليم التابعة لها. ولرفع الظلم الذي تعرض له النجديون من منعهم من الحج سنين طويلة، وتعرضهم لصنوف العدوان، وما يستتبع ذلك من إزالة مظاهر الشرك والبدع ونشر التوحيد والعدل والأمن الذي هو هدف شرعي للدعوة، فزحفت جيوش الدعوة إلى الحجاز حتى دخلت مكة سلما بلا حرب. فكان دخول مكة من قبل الأمير سعود بن عبد العزيز سنة (1218 هـ) صلحا بغير قتال، بل بأمان لأهل مكة، وبإقرار شريف مكة (عبد المعين) على إمارة مكة بعدما هرب منها الشريف (غالب) إلى جدة، وإقرار قاضيها المعين من الدولة العثمانية. وقد أرسل الأمير سعود إلى السلطان سليم، واعترف له بلقب السلطان وأخبره بما حدث من هدم أشباه الوثنية، وإلغاء الضرائب، ونشر التوحيد والسنة والأمن والعدل. وطلب منه أن يمنع " والي دمشق ووالي القاهرة من المجيء إلى هذا البلد المقدس بالمحمل والطبول والزمور، فإن ذلك ليس من الدين في شيء " (¬1) ولم يمنعهم من الحج كما يزعم الخصوم. ¬

(¬1) انظر: إعادة ترتيب الخلافة (مقالات) لعجيل النشمي - الحلقة (55) مجلة المجتمع عدد (522) ص (37 - 39) .

ولما توفي الأمير سعود بن عبد العزيز وتولى ابنه عبد الله بن سعود أكد للخليفة العثماني أنه يعلن الولاء للسلطان، لكن الشريف غالب كان يحول بين السلطان وبين تأكيد هذه الحقيقة، فقد ثبت أنه يزور رسائل ومكاتبات باسم الأمير السعودي تتضمن خلاف الواقع، بل ثبت أن أباه " سعود بن عبد العزيز كان يرسل رسائل للخليفة فيها النصح والولاء، وكان الشريف غالب يمنع وصولها. ولما شعرت الدولة التركية بالخطر على سلطانها، لا سيما حين دخلت الدولة السعودية الحجاز وهيمنت على الأمور بجدارة، وأزالت مظاهر البدع والشركيات، ونشرت الأمن، ثارت ثائرة الأتراك وولاتهم في مصر والشام والعراق وغيرها. ومن ثم حدثت المواجهة مع الأتراك وأتباعهم، وصارت الدولة التركية تحارب الدعوة علنا في سبيل نصرة البدع والمحدثات والمظاهر الشركية، وقصدت القضاء على دولة التوحيد والسنة، وحشدت كل ما تملك لذلك، فأرسلت إبراهيم باشا لهذا الغرض العدواني حتى قضى على الدولة السعودية الأولى ظاهرا، لكنها في الحقيقة بقيت حية في قلوب الناس وعواطفهم، ولذلك نهضت سريعا مرة أخرى. وفي هذه الحال كان هذا مبررا كافيا لبعض علماء الدعوة - بعد وفاة الإمام - أن يعدوا ذلك نوعا من المحادة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والصد عن دينه، الذي قد يكون كفرا، وعليه فإن الإمام محمد بن عبد الوهاب لم يكن ينزع إلى الخروج على الدولة التركية أصلا، ولم يستبح القتال إلى أن كان القتال ضرورة. وكذلك حين قامت الدولة السعودية الثالثة - الحالية حرسها الله - على يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، كانت الأمور سائرة على هذا الأصل، فقد أعلن الملك عبد العزيز أنه مقر لدولة الخلافة، ناصح لها، فقد أكد ولاءه للدولة العلية في رسالته للسلطان عبد الحميد المؤرخة في 1/9\1322 هـ، وقد أقرت الدولة العلية للملك عبد العزيز بسلطته على ما تحت يده (¬1) وبذلك تنتفي الشبهة ويزول الإشكال. على أي حال فقد قامت في نجد دولة ذات سيادة مستقلة وكيان شرعي في بلد ¬

(¬1) انظر: إعادة ترتيب أوراق الخلافة (مقالات) للنشمي الحلقة (60) مجلة المجتمع العدد (527) ، ص (38، 39) .

ليس للخلافة عليه سلطان فعلي، يقول الإمام في ذلك: " والأمر الثاني: أن هذا الأمر الذي أنكروا علي، وأبغضوني وعادوني من أجله، إذا سألوا عنه كل عالم في الشام واليمن أو غيرهم يقول: هذا هو الحق، وهو دين الله ورسوله، ولكن ما أقدر أظهره في مكاني لأجل أن الدولة (العثمانية) ما يرضون، وابن عبد الوهاب أظهره لأن الحاكم في بلده ما أنكره، بل لما عرف الحق اتبعه، هذا كلام العلماء، وأظنه وصلك كلامهم " (¬1) . فنجد أنه هنا ربط المسألة بحاكم بلده، ويبين ذلك قوله: " والذي يصدق كلامي هذا أن العالم ما يقدر يظهره، حتى من علماء الشام من يقول: هذا هو الحق، ولكن لا يظهره إلا من يحارب الدولة " (¬2) وفي هذا دلالة على أنه يرى أنه في حل مما كان يخشاه بعض علماء الشام حين اعترفوا أن ما جاء به حق، لكنهم كانوا في بلد للدولة العثمانية عليه سلطان مباشر، وليس عندهم حاكم تمتنع به الدعوة. وبالجملة فإن الدعوة كانت ترعى حق الدولة العثمانية إلى أن بدأ العدوان من الولاة التابعين للدولة العثمانية في الأحساء والحجاز، وإلى أن تورطت الدولة العثمانية في الانحياز مع خصوم الدعوة، وأعلنت حماية الشركيات والبدع بالقوة، وقد ناقش الدكتور عجيل النشمي هذه المسألة مناقشة وافية ومستفيضة، أقتطف منها ما يلي: " لم تكن بلاد نجد والجزيرة العربية - موطن نشأة الحركة الوهابية - أسعد حالا من بقية البلاد الإسلامية خصوصا في القرن الثامن عشر، حين ضعفت دولة الخلافة الإسلامية، وانشغلت بأوضاعها الداخلية ومشاكلها عن كثير من البلاد الإسلامية، الأمر الذي أضعف سلطتها في تلك البقاع، وقعد بها دون ملاحقة ما يدور فيها من خلافات ومشاكل، وأدت إلى كثير من الحروب الطاحنة. ولعل من سوء حظ بلاد نجد وعلى الخصوص أنها لم تلق العناية الكافية، بل لم تلق ¬

(¬1) الدرر السنية (1) . (¬2) الدرر السنية (1) .

أي عناية من الدولة العثمانية، فإقليم نجد لم يخضع للدولة العثمانية، أو بمعنى أصح لم تسع الدولة العثمانية لإخضاعه إخضاعا تاما، فلم يظهر ضمن قائمة التقسيمات الإدارية التي وضعت في أوائل القرن السابع عشر، وظل معمولا بها حتى القرن التاسع عشر، فلم يشهد الإقليم ولاة عثمانيين يأتون إليه، ولا حماية تركية تجوب خلال دياره ". وموقف الدولة العثمانية لا غبار عليه إذا أخذنا بالاعتبار ضعف الدولة عموما، وعدم أهمية بلاد نجد بشكل عام إذا قيست بأقطار أخرى أكثر أهمية منها، ولذلك حرصت دولة الخلافة أن تكون لها صوت مع أطراف نجد، وعلى الخصوص في الأحساء والحجاز، والأحساء لموقعها الإستراتيجي العسكري، والحجاز لموقعها الديني في ضمها لأقدس البقاع وقبلة المسلمين ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فهو ملتقى المسلمين في حجهم أو عمرتهم. وكانت نجد عبارة عن دويلات أو إمارات صغيرة، يستقل بكل إمارة أسرة أو قبيلة، وكانت العلاقات بين تلك الإمارات تقوم على حب السيطرة وانتهاز الفرص لتوسيع رقعة الإمارة، فكانت الثارات والحروب مستمرة مستعرة بينهم، وكانت أشهر تلك الأسر النجدية أسرة آل سعود في الدرعية، وآل زامل في الخرج، وآل معمر في العيينة، وأسرة دهام بن دواس في الرياض. وتتبع كل أسرة أو بلد عدة من القرى، وكانت النزاعات والحروب تثور أيضا بين تلك القرى والبلدة ذاتها، وهذا الوضع السياسي ابتداء بموقف الدولة العثمانية، وانتهاء بالدويلات النجدية القبلية، سبب بلا شك ظهور قطاع الطرق، واضطراب الحياة، وانتشار الفوضى والظلم، ولم يسلم من الفتك حتى الوعاظ والعلماء، بل لم يكن نصيبهم إلا الإهانة والقتل " (¬1) . ويقول الدكتور عجيل جاسم النشمي في مقالته: (دولة الخلافة والحركة الوهابية) : " ولم يكن أحد من المسلمين الغيارى الواعين يرى أن علاج دولة الخلافة بإعلان الحرب عليها وتقطيع أوصالها ". ¬

(¬1) إعادة ترتيب أوراق سقوط الخلافة (الوهابية أولى الحركات الإسلامية) الحلقة (30) ص (46) مجلة المجتمع العدد (491) .

" فما هو موقف الشيخ محمد بن عبد الوهاب صاحب أول حركة إسلامية معاصرة لمرحلة السقوط؟ هل كان يرى عداءها والخروج عليها؟ هل كان مجتهدا مخطئا، أم كان يرى بقاءها، وقام بحركته لإسنادها وتجديد وجهها، وإعادتها إلى صفاء العقيدة وسلامتها؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه في هذه الحلقة والحلقات القادمة " (¬1) . ثم قال: " بعد الاستقصاء نستطيع القول باطمئنان إن كتابات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليس فيها تصريح بموقف عدائي ضد دولة الخلافة، وغاية ما يمكن أن يقع عليه نظر الباحث تلميحات في هذا الخصوص لا ترقى إلى تكوين رأي معاد لدولة الخلافة " (¬2) ثم ذكر الأدلة على ذلك وقال: " وهكذا كانت سياسة الشيخ وموقفه تجاه بلاد الحجاز مكة والمدينة طوال حياته، ولم يؤثر عنه تحريض واستعداء أو دعوة لحربها أو الاستيلاء عليها؛ لشعوره أن ذلك الفعل قد يفسر على أنه خروج على دولة الخلافة، وكان يكفيه بإزائها الوعظ وتوصيل الدعوة وإنكار المنكر. . " (¬3) . وقال: " وهكذا كانت مواقف الشيخ محمد بن عبد الوهاب العملية في القتال ونشر الدعوة، وبالقوة على البلدان المجاورة داخل الجزيرة، فلم يكن يقصد حرب دولة الخلافة، فلم يتطاول على بلاد الحجاز إطلاقا، وظلت سياسته على هذا طوال حياته " (¬4) . قلت (¬5) وكذلك بعد وفاته سارت الدعوة ودولتها على هذا المنهاج، إلى أن تتابع عليهم العدوان المسلح من قبل أمراء الحجاز، وغزوهم في ديارهم وقاتلوهم، ومنعوهم حقهم المشروع، وهو أداء فريضة الحج، واستعدوا عليهم الأتراك وغيرهم، بل شنوا عليهم حملة إعلامية نكراء في سائر بلاد المسلمين، فكان لا بد مما ليس منه بد. ¬

(¬1) إعادة ترتيب أوراق سقوط الخلافة (الوهابية أولى الحركات الإسلامية) الحلقة (44) ص (42) العدد (506) . (¬2) إعادة ترتيب أوراق سقوط الخلافة (الوهابية أولى الحركات الإسلامية) الحلقة (44) ص (43) العدد (506) . (¬3) إعادة ترتيب أوراق سقوط الخلافة (الوهابية أولى الحركات الإسلامية) الحلقة (47) ، ص (39) العدد (510) . (¬4) إعادة ترتيب أوراق سقوط الخلافة (دولة الخلافة والحركة الوهابية) للدكتور عجيل النشمي الحلقة (47) ، العدد (510) . (¬5) الكلام للباحث.

الفصل الرابع شهادات الناس للدعوة قديما وحديثا

[الفصل الرابع شهادات الناس للدعوة قديما وحديثا] [المبحث الأول وقفة مع الشهادات] الفصل الرابع شهادات الناس للدعوة قديما وحديثا المبحث الأول وقفة مع الشهادات إن من أقوى الوسائل لفصل النزاع بين المختلفين بعد التحاكم إلى الأصول الشرعية، والبراهين العقلية، شهادات الآخرين، وقد شهد لهذه الدعوة المباركة، وإمامها وعلمائها ودولتها وأتباعها، كثيرون من أهل العلم والفكر والفضل والإنصاف، من العلماء والأدباء والمفكرين والساسة والدعاة وغيرهم من المؤيدين والمعارضين والمحايدين، من المسلمين وغير المسلمين، ومن كل بلاد العالم، ومنذ نشأة الدعوة إلى يومنا هذا. وكل الذين شهدوا لهذه الدعوة وإمامها وعلمائها ودولتها وأتباعها كانوا يستندون في شهادتهم لها إلى البراهين والدلائل القاطعة، التي لا يمكن أن يتجاوزها المنصف إلا معترفا بها، ولا ينكرها إلا مكابر، وهذه الدلائل بحمد الله شرعية وعلمية وواقعية، وأول هذه الدلائل واقع الحال الذي عليه هذه الدعوة ودعاتها وعلماؤها وحكامها ودولتها وأتباعها في العقيدة والأحكام، والسلوك والتعامل. فإن فيما قاله أهلها وكتبوه وفعلوه، وفي آثار هذه الدعوة الدينية والدنيوية، العلمية والعملية، في العقيدة والنظام والسياسة، وسائر مناحي الحياة ومناشطها، ما يشهد بالحق، ويدحض الشبهات والمزاعم والتخرصات والاتهامات، علما بأن الدعوة ودولتها لا تملك من وسائل الدعاية والإغراء المادي ما يملكه خصومها، كالأتراك وأشراف مكة والبلاد المجاورة وغير المجاورة. نعم إن سائر الذين شهدوا لهذه الدعوة قد برهنوا على ما ذهبوا إليه بالحجة والبرهان، بعيدا عن العصبية والهوى والتعسف، وبعيدا عن المؤثرات أيا كان نوعها، ولو اقتصرنا في الدفاع عن الدعوة على أقوال المحايدين وكثير من الخصوم في إنصافها والدفاع عنها، لكان ذلك كافيا في تقرير الحق ودفع الباطل، وفي بيان الحقيقة ورد الشبهات، وإقناع من كان قصده الحق والتجرد من الهوى. أما من كان دافعه الهوى والحسد أو العصبية أو المذهبية أو نحو ذلك من الدوافع الصارفة

عن الحق فلا حيلة فيه، كما قال الله تعالى في هذه الأصناف وأمثالهم من أسلافهم: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ - فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام: 4 - 5] [سورة الأنعام، الآيات: 4، 5] . فإذا كانت أحوال الدعوة وأقوالها ومؤلفاتها ومواقفها وشهادات عقلاء الناس تشهد لها، فهل بعد هذا البيان من بيان؟ ومن يضلل الله فلا هادي له من بعده، والله حسبنا ونعم الوكيل. وإنه لمن المفيد بهذا الصدد التأكيد على أن الشهادات التي شهد بها كثيرون لهذه الدعوة المباركة كانت صادقة وطواعية، ونابعة من الضمير، فلم تكن نتيجة إغراءات ولا تطلعات، ولا تضليل إعلامي ولا دعاية، ولا ضغط سياسي، ولا إرجاف ولا تهديد ووعيد (لا رغبة ولا رهبة) ؛ لأن أتباع الدعوة ورجالها لم يكونوا يملكون شيئا من ذلك إلا الحجة والبرهان (الدليل الشرعي والعقلي) لكل من ألقى السمع وهو شهيد، ولذلك جاءت شهادة المنصفين مفعمة بالصدق والشفافية والحماس البريء، وخالية من أساليب المجاملات وأي من أشكال التكلف أو دوافع الرغبة أو الرهبة. والمتأمل للتزكيات والشهادات والأحكام والانطباعات الكثيرة في حق الإمام محمد بن عبد الوهاب وعلماء الدعوة ودولتها وأتباعها يجد منها ما هو شامل، ومنها ما هو جزئي، لكنها كلها تتفق على أن الدعوة ليست كما رماها الجاهلون، وبهتها الخصوم. ونتائج التزكيات والشهادات التي شهد بها الناس من المحايدين والمنصفين من المسلمين وغير المسلمين تتلخص بما يلي: 1 - لقد شهدوا أن هذه الدعوة المباركة تمثل الإسلام الحق، فقد جددت السنة كما جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وسلف الأمة، وحاربت البدع بكل صورها وأشكالها ومظاهرها، وهذه الحقيقة هي أكثر الحقائق وضوحا أمام الشهود، وأكثرها تنويها. 2 - وشهدوا أنها جاءت بالعلاج الناجع لأدواء الأمة الإسلامية اليوم في العقيدة والعبادات والمعاملات علاجا شاملا، وأكثر الذين شهدوا بهذه الحقيقة كانوا يستندون إلى الواقع الذي تعيشه في مجتمعها ودولتها، لا سيما من البلاد التي تشملها الدولة السعودية المعاصرة، التي تميزت بحمد الله بصفاء العقيدة وظهور شعائر الدين، واختفاء البدع ومظاهرها. 3 - أنها تميزت بالأصالة والنقاء، حيث تمثل الإسلام في شموله، والسنة في صفائها، كما تميزت بإظهار خصائص الدين الإسلامي من التوحيد والشمولية والعدل ونحو ذلك.

4 - وشهدوا أنها حققت الغايات التي جاء بها الإسلام، من تعبيد الناس لله وحده لا شريك له، وطاعة الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإقامة فرائض الدين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتطبيق الحدود، وتحكيم الشريعة الإسلامية في كل شئون الحياة، وابتغاء مرضاة الله والدار الآخرة. 5 - وشهدوا أنها رفعت المظالم والمكوس والضرائب التي تثقل كواهل الناس، وسعت إلى تحقيق العدل بالتحاكم إلى شرع الله، وتطبيق نظام القضاء بمقتضى الشريعة الإلهية. 6 - وشهدوا أنها حررت العقول والنفوس من التعلق بغير الله، من التعلق بالبدع والأوهام، والدجل والشعوذة ونحو ذلك. 7 - وشهدوا أنها هي الرائد الأول في أسباب النهضة العلمية والفكرية والأدبية الحديثة في جزيرة العرب وما حولها، وسائر البلاد العربية والإسلامية. 8 - وشهدوا أنها الرائد الأول لحركات الإصلاح والتحرير الحديثة في العالم الإسلامي، وأنها تمثل الأنموذج الصحيح في الدعوة في العصر الحديث، إذ تواترت الشهادات بأن هذه الدعوة المباركة قد تميزت عن الحركات الإصلاحية والدعوات المعاصرة بأنها مثلت الدين الحق، ومنهج الدعوة السليم من حيث الشمولية، مع التركيز على الأهم، وترتيب الأولويات، وإصلاح العقائد والقلوب، وتحرير العقول، وإصلاح الأفراد والمجتمعات، وتخليص الأمة من البدع والأهواء والفرقة والإعراض والتقليد والعصبية، والتزام منهج السلف الصالح في الدعوة ووسائلها وأهدافها وغاياتها. 9 - كما شهد كثير منهم بأن هذه الدعوة بأصولها ومناهجها وتجاربها هي المؤهلة بأن تنهض بالأمة الإسلامية اليوم، وتعيدها إلى سابق مجدها، وتجمع شملها على الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح.

المبحث الثاني سرد لأسماء بعض الشهود من العلماء والمفكرين والباحثين العرب المسلمين وغير المسلمين

[المبحث الثاني سرد لأسماء بعض الشهود من العلماء والمفكرين والباحثين العرب المسلمين وغير المسلمين] المبحث الثاني سرد لأسماء بعض الشهود من العلماء والمفكرين والباحثين العرب المسلمين (¬1) وغير المسلمين (¬2) ما حظيت دعوة من الدعوات الإصلاحية الحديثة بالتأييد والاعتراف والإنصاف والإشادة والإعجاب من عقلاء الناس من المسلمين وغير المسلمين كما حظيت هذه الدعوة، رغم كثرة خصومها وأعدائها الألداء، فقد شهد لها عدد لا يكاد يحصى من سائر الأقاليم والبلاد العربية والإسلامية والأجنبية من المسلمين وغير المسلمين. من العلماء والمفكرين والأدباء العرب: أبو السمح عبد الظاهر المصري (مصر) . أبو راس الناصر المغربي (المغرب) . أحمد أمين (مصر) . أحمد السباعي (الحجاز) . أحمد العسة. أحمد بن مشرف الأحسائي (الأحساء) . أحمد حسين (مصر) . أحمد سعيد البغدادي (العراق) . أحمد شلبي (مصر) . أحمد عبد الغفور عطار (الحجاز) . أمين سعيد (الشام) . جمال الدين القاسمي (الشام) . حافظ وهبة (مصر) . حسين بن غنام الأحسائي (الأحساء) . حسين بن مهدي النعيمي (اليمن) . خير الدين الزركلي (الشام) . صالح بن دحيل الجار الله (العراق) . طاهر الجزائري (الشام) . طه حسين (مصر) . عباس محمود العقاد (مصر) . عبد الرحمن الجبرتي (مصر) . عبد الرحمن راتب عميرة (مصر) . عبد الرزاق البيطار (الشام) . عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم. عبد الفتاح الغنيمي (اليمن) . عبد العزيز بن عبد الله الشاوي (العراق) . ¬

(¬1) لم أذكر أحدا من علماء الدعوة، ولا من أهل نجد لأنهم قد يتهمون بالتحيز. (¬2) راجع كتاب الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التاريخ للرويشد.

عبد الكريم الخطيب (مصر) . عبد القادر التلمساني. عبد المتعال الصعيدي (مصر) . عبد الكريم بن فخر الدين الهندي (الهند) . علي السويدي (العراق) . عثمان البصري الوائلي (العراق) . علي عبد الحليم محمود (مصر) . علي طنطاوي (الشام) . الغزالي خليل عبد (مصر) . عمر أبو النصر (مصر) . فؤاد حمزة. محب الدين الخطيب (مصر) . محمد أبو زهرة (مصر) . محمد بن أحمد الحفظي (اليمن) . محمد بن إسماعيل الصنعاني (اليمن) . محمد بن علي السنوسي (الحجاز) . محمد بن علي الشوكاني (اليمن) . محمد بن ناصر الشريف التهامي (الحجاز) . محمد بهجة الأثري (العراق) . محمد تقي الدين الهلالي (المغرب) . محمد جميل بيهم (العراق) . محمد جلال كشك. محمد حامد الفقي (مصر) . محمد جميل غازي (مصر) . محمد رشيد رضا (الشام ومصر) . محمد خليل هراس (مصر) . محمد ضياء الدين الريس (العراق) . محمد شويل المدني. محمد عبده (مصر) . محمد عبد الله ماضي (العراق) . محمد فتحي عثمان (مصر) . محمد عبده ناشر (اليمن) . محمد محمد حسين (مصر) . محمد كامل القصاب (الشام) . محمود شكري الألوسي (العراق) . محمد ناصر الدين الألباني (الشام) . محمد كامل ضاهر. محمود مهدي الإستانبولي (الشام) . مصطفى الحفناوي. مناع القطان (مصر) . منير العجلاني (الشام) . وهبة الزحيلي (الشام) . ومن المفكرين والأدباء غير العرب: الأمير شكيب أرسلان (الشام) . جودت باشا تركي (تركيا) . الشاه ولي الله الدهلوي صديق خان (الهند) . عثمان بن فودي الأفريقي (أفريقيا) . عمران بن علي بن رضوان الفارسي. غلام رسول مهر (الهند) . محمد إقبال (الهند) . محمد بشير السهسواني الهندي (الهند) .

محمد كرد علي (الشام) . محمد يوسف (الهند) . مسعود الندوي (الهند) . منح هارون (الهند) . ومن المفكرين والأدباء من غير المسلمين (¬1) المؤرخ الألماني داكوبرت فون ميكوس. لوثروب ستودارد. المستشرق الألماني كارل بروكلمان. الأستاذ ويلفرد كانتول. المستشرق النمساوي جولد زيهر. المستشرق البريطاني جب. البروفسور ألبرت حوراني. ودائرة المعارف البريطانية. فيليب حتي. الكاتب الألماني ف. و. فرنو. المؤرخ الفرنسي مانجان. بلغريف. المستشرق الدانمركي كارستل نيبوهر. الكاتب الفرنسي أوليفييه كورانسيز. البروفسور الفرنسي برنارد لويس. المؤرخ السوفييتي فلادميير لوتكس. جواهر لال نهرو. البجيكي دوزي. بركارت. ويلمز. برانجس. باديا. هنري لاوست. روسو. ¬

(¬1) يلاحظ أن بعض هؤلاء قد يكون له (مع الاعتراف بفضل هذه الدعوة) آراء غير جيدة وأحكام غير سليمة.

المبحث الثالث نماذج من شهادات المسلمين من العرب وغيرهم

[المبحث الثالث نماذج من شهادات المسلمين من العرب وغيرهم] المبحث الثالث نماذج من شهادات المسلمين من العرب وغيرهم كثيرون جدا أولئك الذين شهدوا لهذه الدعوة الإصلاحية من المسلمين من العرب والعجم، سواء منهم من تأثروا بمبادئ الدعوة، أو من بقوا على اتجاهاتهم المخالفة، لكنهم شهدوا بالحق، وقد ذكرت في هذا المبحث نماذج من تلك الشهادات فحسب، ومن ذلك: * شهادة محمد بن رشيد رضا في مقدمة كتاب " صيانة الإنسان " للسهسواني، مبينا فيها أنه كان متأثرا بالدعاية المضادة للدعوة، وأن عامة المسلمين كذلك، وأنه تحقق من كتب الدعوة وحالها أن الدعاية كاذبة، وأن الخصوم يفترون عليها الكذب. حيث قال: " كنا نسمع من صغرنا أخبار الوهابية المستمدة من رسالة دحلان هذا ورسائل أمثاله، فنصدقها بالتبع لمشايخنا وآبائنا، ونصدق أن الدولة العثمانية هي حامية الدين، ولأجله حاربتهم وخضدت شوكتهم، وأنا لم أعلم بحقيقة هذه الطائفة إلا بعد الهجرة إلى مصر، والاطلاع على تاريخ الجبرتي، وتاريخ الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى، فعلمت منهما أنهم هم الذين كانوا على هداية الإسلام دون مقاتليهم. وأكده الاجتماع بالمطلعين على التاريخ من أهلها، ولا سيما تواريخ الإفرنج الذين بحثوا عن حقيقة الأمر، فعلموها وصرحوا أن هؤلاء الناس أرادوا تجديد الإسلام وإعادته إلى ما كان عليه في الصدر الأول، وإذا لتجدد مجده، وعادت إليه قوته وحضارته، وأن الدولة العثمانية ما حاربتهم إلا خوفا من تجديد ملك العرب، وإعادة الخلافة الإسلامية سيرتها الأولى على أن العلامة الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت كان ألف كتابا في تاريخ الإسلام ذكر فيه الدعوة التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقال إنها عين ما دعا إليه النبيون والمرسلون، ولكنه قال إن الوهابيين في عهده متشددون في الدين، وقد عجبنا له كيف تجرأ على مدحهم في عهد السلطان عبد الحميد، ورأيت شيخنا الشيخ محمد عبده في مصر على رأيه في هداية سلفهم، وتشدد خلفهم، وأنه لولا ذلك لكان إصلاحهم عظيما ورجا أن يكون عاما، وقد ربى الملك عبد العزيز الفيصل أيده الله غلاتهم المتشددين منذ سنتين بالسيف تربية يرجى أن تكون تمهيدا لإصلاح عظيم.

ثم اطلعت على أكثر كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ورسائله وفتاويه وكتب أولاده وأحفاده ورسائلهم ورسائل غيرهم من علماء نجد في عهد هذه النهضة التجديدية، فرأيت أنه لم يصل إليهم اعتراض ولا طعن فيهم إلا وأجابوا عنه، فما كان كذبا عليهم قالوا: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] ، وما كان صحيحا أو له أصل بينوا حقيقته وردوا عليه، وقد طبعت أكثر كتبهم، وعرف الألوف من الناس أصل تلك المفتريات عنهم " (¬1) . شهادة علماء مكة بعد دخول الدولة السعودية الأولى للحجاز، وحين اطلع علماء مكة وغيرهم على الدعوة ومنهجها عن كثب وحاوروا علماءها وأميرها سعود بن عبد العزيز، وعرفوا أنها هي الدين الحق، واعترفوا بهذه الحقيقة قالوا: " نشهد - نحن علماء مكة، الواضعون خطوطنا، وأختامنا في هذا الرقيم - أن هذا الدين الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى -، ودعا إليه إمام المسلمين سعود بن عبد العزيز، من توحيد الله، ونفي الشرك، الذي ذكره في هذا الكتاب، أنه هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب. أشهد بذلك، وكتبه الفقير إلى الله تعالى: عبد الملك بن عبد المنعم القلعي الحنفي، مفتي مكة المكرمة، عفا عنه، وغفر له (¬2) . ثم شهد به كل من محمد صالح بن إبراهيم، مفتي الشافعية بمكة، ومحمد بن محمد عربي البناني، مفتي المالكية بمكة المشرفة، ومحمد بن أحمد المالكي، وعبد الحفيظ بن درويش العجيمي، وزين العابدين جمل الليل، وعلي بن محمد البيتي، وعبد الرحمن جمال، وبشر بن هاشم الشافعي " (¬3) . وشهد بذلك وأقر به الشريف غالب، وكان من ألد أعداء الدعوة قائلا: " الحمد لله رب العالمين، أشهد أن هذا الدين الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ودعانا إليه إمام المسلمين سعود بن عبد العزيز، من توحيد الله عز وجل، ونفي الشرك له، وهو الدين الحق الذي ¬

(¬1) مقدمة صيانة الإنسان (8، 9) . (¬2) الدرر السنية (314) . (¬3) الدرر السنية (315) .

جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وكتبه الشريف غالب بن مساعد، غفر الله له آمين؛ الشريف غالب " (¬1) . وقد شهد العلامة الشوكاني بأن هذه الدعوة أخرجت الناس في البلاد التي تمكنت منها من الظلمات والبدع والجاهليات إلى إقامة فرائض الدين وشعائر الإسلام، مع تحفظه على بعض الخطابات التي تقال عن هذه الدعوة وأميرها، فقال: فإن صاحب نجد تبلغ عنه قوة عظيمة لا يقوم لمثلها صاحب الترجمة (¬2) فقد سمعنا أنه قد استولى على بلاد الحسا والقطيف وبلاد الدواسر، وغالب بلاد الحجاز ومن دخل تحت حوزته أقام الصلاة والزكاة والصيام، وسائر شعائر الإسلام، ودخل في طاعته من عرب الشام الساكنين ما بين الحجاز وصعدة غالبهم إما رغبة وإما رهبة، وصاروا مقيمين لفرائض الدين بعد أن كانوا لا يعرفون من الإسلام شيئا، ولا يقومون بشيء من واجباته إلا مجرد التكلم بلفظ الشهادتين على ما في لفظهم بها من عوج، وبالجملة فكانوا جاهلية جهلاء كما تواترت بذلك الأخبار إلينا، ثم صاروا الآن يصلون الصلوات لأوقاتها، ويأتون بسائر الأركان الإسلامية على أبلغ صفاتها، ولكنهم يرون أن من لم يكن داخلا تحت دولة صاحب نجد وممتثلا لأوامره خارج عن الإسلام (¬3) . ولقد أخبرني أمير حجاج اليمن السيد محمد بن حسين المراجل الكبسي أن جماعة منهم خاطبوه هو ومن معه من حجاج اليمن بأنهم كفار، وأنهم غير معذورين عن الوصول إلى صاحب نجد لينظر في إسلامهم، فما تخلصوا منه إلا بجهد جهيد (¬4) وقد صارت جيوش صاحب نجد في بلاد يام، وفي بلاد السراة المجاورة لبلاد أبي عريش، ومن تبعه من هذه الأجناس اعتبط بمتابعته، وقاتل من يجاوره من الخارجين عن طاعته، فبهذا السبب صار معظم تلك البلاد راجعا إليه، وتبلغنا عنه أخبار الله أعلم بصحتها، ومن ذلك أنه يستحل دم من استغاث بغير الله من نبي أو ولي أو غير ذلك، ولا ريب أن ذلك إذا كان من اعتقاد تأثير ¬

(¬1) الدرر السنية (316) . (¬2) يقصد الشريف غالب. (¬3) ليس الكلام على إطلاقه، راجع دعوى التكفير السابقة في هذا البحث. (¬4) ليس هذا منهجهم، وقد يكون هؤلاء من الأعراب والمتعجلين الذين يفتاتون على الدعوة.

المستغاث به كتأثير الله كفر يصير به صاحبه مرتدا كما يقع في كثير من هؤلاء المعتقدين للأموات الذين يسألونهم قضاء حوائجهم، ويعولون عليهم زيادة على تعويلهم على الله سبحانه، ولا ينادون الله - جل وعلا - إلا مقترنا بأسمائهم، ويخصونهم بالنداء منفردين عن الرب، فهذا من الكفر الذي لا شك فيه ولا شبهة، وصاحبه إذا لم يتب كان حلال الدم والمال كسائر المرتدين، ومن جملة ما يبلغنا عن صاحب نجد أنه يستحل سفك دم من لم يحضر الصلاة في جماعة (¬1) وهذا إن صح غير مناسب لقانون الشرع، نعم من ترك صلاة فلم يفعلها منفردا ولا في جماعة فقد دلت أدلة صحيحة على كفره، وعورضت بأخرى، فلا حرج على من ذهب إلى القول بالكفر، إنما الشأن في استحلال دم من ترك مجرد الجماعة ولم يتركها منفردا. وتبلغ أمور غير هذه الله أعلم بصحتها، وبعض الناس يزعم أنه يعتقد اعتقاد الخوارج، وما أظن ذلك صحيحا، فإن صاحب نجد وجميع أتباعه يعملون بما تعلموه من محمد بن عبد الوهاب، وكان حنبليا، ثم طلب الحديث بالمدينة المشرفة، فعاد إلى نجد، وصار يعمل باجتهادات جماعة من متأخري الحنابلة كابن تيمية وابن القيم وأضرابهما، وهما من أشد الناس على معتقدي الأموات، وقد رأيت كتابا من صاحب نجد الذي هو الآن صاحب تلك الجهات أجاب به على بعض أهل العلم، وقد كاتبه وسأله بيان ما يعتقده، فرأيت جوابه مشتملا على اعتقاد حسن موافق للكتاب والسنة، فالله أعلم بحقيقة الحال. وأما أهل مكة فصاروا يكفرونه، ويطلقون عليه اسم الكافر (¬2) وبلغنا أنه وصل إلى مكة بعض علماء نجد لقصد المناظرة، فناظر علماء مكة بحضرة الشريف في مسائل تدل على ثبات قدمه، وقدم صاحبه في الدين. وفي سنة (1215) وصل من صاحب نجد المذكور مجلدان لطيفان أرسل بهما إلى حضرة مولانا الإمام حفظه الله، أحدهما يشتمل على رسائل لمحمد بن عبد الوهاب كلها في الإرشاد إلى إخلاص التوحيد، والتنفير من الشرك الذي يفعله المعتقدون في القبور، وهي رسائل جيدة مشحونة بأدلة الكتاب والسنة، والمجلد الآخر يتضمن الرد على جماعة من ¬

(¬1) هذه من مفتريات الخصوم، فإن المتتبع لأقوال علماء الدعوة وأعمالهم وفتاواهم يجد الأمر خلاف ذلك. (¬2) وهذه شهادة من محايد ثقة عالم بأن خصوم الدعوة يكفرون، ومن يكفرون؟ يكفرون أهل السنة.

المقصرين من فقهاء صنعاء وصعدة ذاكروه في مسائل متعلقة بأصول الدين، وبجماعة من الصحابة، فأجاب عليهم جوابات محررة مقررة محققة، تدل على أن المجيب من العلماء المحققين العارفين بالكتاب والسنة، وقد هدم عليهم جميع ما بنوه، وأبطل جميع ما دونوه؛ لأنهم مقصرون متعصبون، فصار ما فعلوه خزيا عليهم وعلى أهل صنعاء وصعدة، وهكذا من تصدر ولم يعرف مقدار نفسه، وأرسل صاحب نجد مع الكتابين المذكورين بمكاتبة منه إلى سيدي المولى الإمام، فدفع حفظه الله جميع ذلك إلي، فأجبت عن كتابه الذي كتب إلى مولانا الإمام حفظه الله على لسانه بما معناه أن الجماعة الذين أرسلوا إليه بالمذاكرة لا ندري من هم، وكلامهم يدل على أنهم جهال، والأصل والجواب موجودان في مجموعي. وفي سنة (1217) دخلت بلاد أبي عريش وأشرافها في طاعة صاحب نجد، ثم تزلزلت الديار اليمنية بذلك، واستولى أصحابه على بعض ديار تهامة، وجرت أمور يطول شرحها، وهي الآن في سريان، وقد أفردت ما بلغنا من ذلك في مصنف مستقل؛ لأن هذه الحادثة قد عمت وطمت، وارتجفت لها أقطار الديار الشامية والمصرية والعراقية والرومية، بل وسائر الديار، ولا سيما بعد دخول أصحاب النجدي مكة المشرفة، وطرد أشرافها عنها، ولله أمر هو بالغه. ثم في سنة (1222) وصل إلينا جماعة من صاحب نجد سعود بن عبد العزيز، لبعضهم معرفة في العلم، ومعهم مكاتيب من سعود إلى الإمام المنصور بالله - رحمه الله - تعالى، وإلي أيضا، ثم وصل جماعة آخرون كذلك في سنة (1227) ، ثم وصل جماعة آخرون كذلك في سنة (1228) ، ودار مع هؤلاء الواردين ومع غيرهم من المكاتبة ما لا يتسع المقام لبسطه " (¬1) . * ويشهد المؤرخ الشهير عبد الرحمن الجبرتي للدعوة وأهلها فيقول في حوادث سنة (1221 هـ) : " وفي هذه الأيام أيضا وصلت الأخبار من الديار الحجازية بمسالمة الشريف غالب للوهابيين؛ وذلك لشدة ما حصل لهم (¬2) من المضايقة الشديدة، وقطع الجالب عنهم من كل ناحية حتى وصل ثمن الأردب المصري من الأرز خمسمائة ريال، والأردب البر ثلاثمائة ¬

(¬1) البدر الطالع (525 - 527) . (¬2) يعني أهل مكة قبل دخول الإمام سعود.

وعشرة، وقس على ذلك السمن والعسل وغير ذلك، فلم يسع الشريف إلا مسالمتهم والدخول في طاعتهم، وسلوك طريقتهم، وأخذ العهد على دعاتهم وكبيرهم بداخل الكعبة، وأمر بمنع المنكرات والتجاهر بها وشرب الأراجيل بالتنباك في المسعى وبين الصفا والمروة، وبالملازمة على الصلوات في الجماعة، ودفع الزكاة، وترك لبس الحرير والمقصبات، وإبطال المكوس والمظالم. وكانوا (¬1) خرجوا عن الحدود في ذلك، حتى إن الميت يأخذون عليه خمسة فرانسة وعشرة بحسب حاله، وإن لم يدفع أهله القدر الذي يتقرر عليه فلا يقدرون على رفعه ودفنه، ولا يتقرب إليه الغاسل ليغسله حتى يأتيه الإذن، وغير ذلك من البدع والمكوس والمظالم التي أحدثوها على المبيعات والمشتروات على البائع والمشتري. ومصادرات الناس في أموالهم ودورهم، فيكون الشخص من سائر الناس جالسا بداره، فما يشعر على حين غفلة منه إلا والأعوان يأمرونه بإخلاء الدار وخروجه منها، ويقولون: إن سيد الجميع محتاج إليها، فإما أن يخرج منها جملة وتصير من أملاك الشريف، وإما أن يصالح عليها بمقدار ثمنها أو أقل أو أكثر. فعاهده (¬2) على ترك ذلك كله، واتباع ما أمر الله تعالى به في كتابه العزيز، من إخلاص التوحيد لله وحده، واتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون إلى آخر القرن الثالث، وترك ما حدث في الناس من الالتجاء لغير الله من المخلوقين الأحياء والأموات في الشدائد والمهمات، وما أحدثوه من بناء القباب على القبور والتصاوير والزخارف، وتقبيل الأعتاب والخضوع والتذلل والمناداة والطواف والنذور، والذبح والقربان وعمل الأعياد والمواسم لها، واجتماع أصناف الخلائق، واختلاط النساء بالرجال، وباقي الأشياء التي فيها شركة المخلوقين مع الخالق في توحيد الألوهية التي بعثت الرسل إلى مقاتلة من خالفها؛ ليكون الدين كله لله، ¬

(¬1) يعني أهل مكة قبل دخول الإمام سعود. (¬2) يقصد أن الشريف غالبا عاهد سعودا على هذه الأمور المذكورة.

فعاهده على منع ذلك كله، وعلى هدم القباب المبنية على القبور والأضرحة؛ لأنها من الأمور المحدثة التي لم تكن في عهده. بعد المناظرة مع علماء تلك الناحية وإقامة الحجة عليهم بالأدلة القطعية التي لا تقبل التأويل من الكتاب والسنة وإذعانهم لذلك، فعند ذلك أمنت السبل، وسلكت الطريق بين مكة والمدينة، وبين مكة وجدة والطائف، وانحلت الأسعار، وكثر وجود المطعومات، وما يجلبه عربات الشرق إلى الحرمين من الغلال والأغنام والأسمان والأعسال حتى بيع الأردب من الحنطة بأربعة ريالات. واستمر الشريف غالب يأخذ العشور من التجار، وإذا نوقش في ذلك يقول: هؤلاء مشركون، وأنا آخذ من المشركين، لا من الموحدين " (¬1) . * ويقول الأستاذ محمود شكري الألوسي عن عقيدة أهل نجد ومنهجهم، وأنهم على نهج السلف الصالح: " والحاصل أن مذهبهم في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وأن طريقتهم طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم، بل الأحكم، وهي أنهم يقرون آيات الصفات والأحاديث على ظاهرها، ويكلون معناها إلى الله تعالى كما قال الإمام مالك في الاستواء، ويعتقدون أن الخير والشر كله بمشيئة الله تعالى ". " وأما ما يكذب عليهم بأنهم يفسرون القرآن برأيهم، ويأخذون من الحديث ما وافق فهمهم من دون مراجعة شرح، ولا معول في شيخ، وأنهم يضعون من رتبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنهم لا يعتمدون أقوال العلماء، وأنهم يتلفون مؤلفات أهل المذاهب لكون الحق والباطل فيها، وأنهم مجسمة، وأنهم يكفرون الناس على الإطلاق من بعد الستمائة إلى هذا الزمان إلا من كان على ما هم عليه، وأنهم لا يقبلون بيعة أحد إلا إذا أقر عليه أنه كان مشركا، وأن أبويه ماتا على الشرك بالله، وأنهم ينهون عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم يحرمون زيارة القبور المشروعة مطلقا، وأنهم لا يرون حقا لأهل البيت، وأنهم يجبرونهم على تزويج غير الكفء لهم، إلى غير ذلك من الافتراءات، فكل ذلك زور عليهم وبهتان وكذب ¬

(¬1) تاريخ الجبرتي (3، 117) .

محض من خصومهم أهل البدع والضلال، بل أقوالهم وأفعالهم وكتبهم على خلاف ذلك كله، فمن روى عنهم شيئا من ذلك أو نسبه إليهم فقد كذب عليهم وافترى، ومن شاهد حالهم وحضر مجالسهم وتحقق ما عندهم علم قطعا أن جميع ذلك وضعه عليهم وافتراه أعداء الدين ". إلى أن قال: " والقصد بما ذكرناه التنبيه على خطأ من نسب إلى القوم ما هم بريئون منه مما يخل بالديانة، حتى أساء الظن بقسم عظيم من الأمة العربية، وانطوى على بغضهم الذي هو من أعظم أسباب النفاق. وغالب من أشاع ذلك هم أهل البدع والأهواء الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، وكذبوا بأقوالهم وأفعالهم على الدين المبين الذي هو بعيد عنهم بمراحل، وهم الدجالون الجالبون على الإسلام كل عار، وإلا فأهل الإيمان هم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " (¬1) . * ويقول الأستاذ أمين سعيد: " أما بعد، فسيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي من أحفل السير بالعظات، وأغناها بالفضائل، وأحقها بالبحث والفحص، والتفسير والتعليل، في سيرة مصلح من كرام المصلحين، ومجاهد من كبار المجاهدين، وعالم من خيرة العلماء، أنار الله بصيرته، وهداه سبله، وألهمه التقوى، فدعا أمته للرجوع إلى الله، والعمل بكتابه، وسنة رسوله، ونبذ الشرك وعبادة القبور، فانقادت إليه واقتدت به، واستجابت له، فأخرجها الله به من الظلمات إلى النور، فنجت وفازت، وجنت أطيب الثمار، وسمت إلى مرتبة الأخيار " (¬2) . قال: " وحققت الدعوة لنجد آمالها، وقد بدأت في محيطها أول ما بدأت، فأنشأت لها مجتمعا إسلاميا سليما، يؤمن بالتوحيد، ويعظم شأنه، ويسير على هداه، ولا يدعو مع الله أحدا، ولا يزال هذا حاله، لم يتبدل ولم يتغير منذ عهد الشيخ حتى يومنا هذا، فهو يصدع بالحق ويؤمن به " (¬3) . وقال: " وسيجد دارس هذه الدعوة دراسة علم وتدبر، ورغبة صادقة في الوقوف على حقيقتها وبلوغ أعماقها، والإحاطة بتطورها وتحولها أن الإخلاص الكامل والرغبة الصادقة في ¬

(¬1) تاريخ نجد للألوسي (45 - 49) باختصار وتصرف يسير. (¬2) هذا هو كتاب سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب (7) . (¬3) سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب (8، 9) .

تطهير الدين من البدع والخرافات، والعودة إلى الإسلام الصحيح، والأخذ بمذهب الإمام أحمد مذهب السلف الصالح هو الحافز الحقيقي الذي حفز صاحبها إلى دعوتها والمناداة بها " (¬1) . إلى أن قال: " الشيخ لم يبتدع بدعة، ولم يحدث حدثا، ولم يأت بجديد من عنده، وإنما هو رأي ارتآه، يمكن أن يلخص بهذه الجملة (الرجوع إلى الله، والعمل بما جاء في كتاب الله، والاقتداء بالرسول والسير على سننه) " (¬2) . وقال في موضع آخر: " فإن المنصفين من علماء الشرق والغرب، ولا سيما أولئك الذين جاءوا في الأزمنة المتأخرة، وفوها حقها من التعظيم والتبجيل، بعد أن درسوها حق دراستها، وغاصوا إلى أعماقها، وأحاطوا بما أنتجته من نتائج عظيمة، وما أثمرته من ثمار طيبة للإسلام والعروبة، ولم يكتف بعضهم بجمل عابرة، بل حبر في وصفها الفصول الطوال، ويمكن القول بدون تردد أن تقدير الناس لها وإعجابهم بسمو مقاصدها يزداد كلما ازدادوا دراسة لها، وإحاطة بسيرة مؤسسها باعتبارها أعظم حركة إصلاح ديني واجتماعي ظهرت في الشرق العربي بالعصور المتأخرة. وهنالك حقيقة أخرى نرى أن نسجلها في هذه المناسبة، وهي أن معظم العلماء الغربيين الذين كتبوا عنها بالغوا كثيرا في تعظيمها، وأسهبوا وأطالوا في وصف نتائجها، لا فرق في ذلك بين العلماء الإنكليز والألمان والأمريكان من الباحثين في شئون الشرق والإسلام، فقد اتفقوا في وصفها بأنها حركة البعث الإسلامي وطليعة هذه النهضة الكبرى التي تنير آفاق الشرق العربي والإسلامي " (¬3) . * وقال الأستاذ منير العجلاني بعد أن ساق عدة تعاريف للدعوة: " وعندنا أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عودة إلى الإسلام في أول أمره ومطلع فجره، ومتى قلنا ذلك كفينا أنفسنا عناء الجدل العقيم، ذلك أن من دعا إلى الإسلام الأول فإنما يدعو إلى الإسلام كما كان يرى في المدينة، في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم في عهود الخلفاء الراشدين. ¬

(¬1) سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب (13) . (¬2) سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب (13، 14) . (¬3) هذا هو كتاب سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب (191) .

كان المسلمون يومئذ يقرءون القرآن، لا دلائل الخيرات ونحوها، وكانوا يروون الأحاديث، لا قصص الطواغيت والخرافات، وكانوا يقولون: " لا إله إلا الله " بقلوبهم، لا على أطراف ألسنتهم، وكانوا يفهمون معناها، ويعملون بمقتضاها، فما كانوا يعبدون إلا الله وحده، لا يشركون معه الصالحين ولا الشياطين، وما كانوا يقيمون المباني والقباب على أضرحة الأولياء، ليدعوا أصحابها وينذروا لهم ويستشفعوا بهم، كأنهم وهم رمم بالية قادرون على جلب الخير ودفع الضر. كان المسلمون يصلون ويزكون ويحجون ويصومون، وكانوا يجاهدون ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وكان الأئمة في بلاد الإسلام يسوسون الناس بالشرع، ويأمرونهم بأوامر الشرع، وينهونهم عن نواهي الشرع، ثم غابت هذه الصورة الكريمة للإسلام الأول، وحلت محلها صورة شوهاء تعاون على صنعها الجهل والفساد، فعاد الناس إلى ما يشبه " الجاهلية " التي سبقت الإسلام. وحركة محمد بن عبد الوهاب هي حركة تجديد وتطهير، تجديد وإحياء لما أهمله المسلمون من أمور الإسلام وأوامره، وتطهير للإسلام مما أدخلوه عليه من الشركيات والبدع، ولم تكن دعوة محمد بن عبد الوهاب دعوة " فيلسوف " معتزل في غرفته، ولكنها كانت دعوة زعيم مصلح يكافح دون عقيدته، ويعمل لها بلسانه ويده، وبكل قلبه، وبكل عقله، وبكل جهده. إن دعوة محمد بن عبد الوهاب ليست " نظرية " أو كتابا ألفه ليقرأه الناس، ولكنها منهاج رسمه، وقام وراءه يدعو إلى العمل به بالموعظة أولا، ثم بالقوة، قوة دولة الإسلام التي قامت على أساس الشرع وحده. فمنهاج الشيخ ليس إصلاحا دينيا خالصا بالمعنى الذي يفهمه الأوربيون اليوم؛ لأنهم يفرقون بين الدين والدنيا، ويجعلون الدين صلة خاصة بين العبد وخالقه، لا يحمل الناس على اتباعه بالقوة، ثم هم يفرقون بين الدين (أو الشرع) وبين القانون، ويقولون: إن الدولة تلزم الأفراد بالقانون الذي تضعه هي لهم، ولكنها لا تلزمهم بالشرع، بل قد يخالف قانونها الشرع. إن الإسلام وحده دين ودنيا، ودعوة الشيخ لذلك دعوة جامعة للأمور الدينية والسياسية.

وخلاصة القول: أن الوهابية حركة قامت بنشر التوحيد، وكافحت الشرك والبدع، واستأنفت الجهاد، وأنشأت دولة إسلامية على أساس الشرع وحده، ونحن بعد هذا نتفق مع القائلين بأن منهاج الحكومة الوهابية كان مستمدا في كثير من أموره من أفكار ابن تيمية في " السياسة الشرعية " وغيرها من كتبه، ومن أفكار تلامذته وخصوصا ابن القيم " (¬1) . ويقول الأستاذ منير العجلاني أيضا: " كثرت الكتابات عن الوهابية قديما وحديثا، وفيها ثناء، وفيها تجريح، وكانت الكتابات في زمن العثمانيين كلها تقريبا حملات جائرة ظالمة، ثم أخذ الناس يتشككون في حقيقة هذه الكتابات، ويتفهمون الأسباب السياسية والدوافع الشخصية التي كانت تمليها على أصحابها. وأخيرا بدأ العلماء المنصفون يعطون الحركة الوهابية حقها من الإنصاف والتقدير، وإن لم يكونوا من أتباعها وأنصارها، وإذا اختلفوا معها في أشياء فهم يعرفون لها فضلها ومزاياها، ولكنهم إنما يخشون عليها من الغلاة الذين يريدون فرض آرائهم " المتطرفة " على الآخرين؛ لتوهمهم أن الحق معهم وحدهم " (¬2) . ويقول الأستاذ حافظ وهبة تحت عنوان: " ما هي الدعوة الوهابية؟ ": " لم يكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب نبيا كما ادعى نيبهر الدانمركي، ولكنه مصلح مجدد داع إلى الرجوع إلى الدين الحق، فليس للشيخ محمد تعاليم خاصة، ولا آراء خاصة، وكل ما يطبق في نجد من الفروع هو طبق مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وأما في العقائد فهم يتبعون السلف الصالح، ويخالفون من عداهم، وتكاد تكون عقائدهم وعبادتهم مطابقة تمام المطابقة لما كتبه ابن تيمية وتلاميذه في كتبهم، وإن كانوا يخالفونهم في مسائل معدودة من فروع الدين، وهم يرون فوق ذلك أن ما عليه أكثر المسلمين من العقائد ¬

(¬1) تاريخ البلاد العربية السعودية (1 - 242) . (¬2) تاريخ البلاد العربية السعودية (1) .

والعبادات لا ينطبق على أساس الدين الإسلامي الصحيح " (¬1) . وإننا نلخص فيما يلي المسائل التي اشتهروا بها، والتي تعد كأنها طابع خاص بالنجديين (¬2) . أولا: " التوحيد " يعتقدون - استنادا (¬3) إلى كلام الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة السلف - أن معنى " لا إله إلا الله " البراءة من كل معبود غير الله، وإخلاص التوجه إلى الله وحده، وأن العبادة إذا صرفت لغير الله صار ذلك الغير إلها مع الله، وإن لم يعتقد الفاعل ذلك، فالمشرك مشرك سواء سمي شركه شركا أو توسلا، وليس لديهم من شك في أن من قال: يا رسول الله، أو يا ابن عباس، أو يا عبد القادر، أو غيرهم من المخلوقين، طالبا بذلك دفع شر أو جلب خير في كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فهو مشرك يهدر دمه، ويستباح ماله (¬4) . ثانيا: " الشفاعة " لا ينكرون شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حسبما ورد، وهم يثبتونها لسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسبما ورد أيضا، ولكنها تسأل من المالك لها وهو الله، وإذنه فيها لمن شاء من الموحدين، فيقال: اللهم شفع نبينا محمدا فينا يوم القيامة، اللهم شفع فينا عبادك الصالحين، أو نحو ذلك، أما ما يجري على ألسنة الناس من قولهم: يا رسول الله، أو يا ولي الله أسألك الشفاعة، أو غيرها كأدركني أو أغثني أو نحو ذلك فإنه من الشرك، إذ لم يرد بذلك نص من كتاب أو سنة، ولا أثر من السلف الصالح. ثالثا: " القبور " الكلام على القبور يتناول أولا: البناء عليها وزيارتها، ثانيا: ما يفعله الناس عندها من الدعاء والصلاة وغيرها، ثالثا: ما يقام عليها من القباب والمساجد، رابعا: السفر إليها. أما زيارة القبور فهي مندوبة للاعتبار والاتعاظ والدعاء للميت وتذكر الآخرة، ويراعى فيها الطريقة التي سنها النبي صلى الله عليه وسلم في الزيارة، أما الذبح للمقبور ¬

(¬1) جزيرة العرب في القرن العشرين (308، 309) . (¬2) ليس للنجديين اختصاص في شيء من الدين، فهم على نهج السلف الصالح. (¬3) استنادا للأدلة الشرعية أولا. (¬4) بالشروط والضوابط الشرعية، فليس لكل أحد أن يفعل ذلك بلا دليل ولا سلطان.

والاستغاثة به والسجود له فهي شرك، وأما تجصيص القبور والبناء والكتابة عليها فكلها من الأمور المبتدعة المنهي عنها. وهم يستدلون على ذلك بأحاديث كثيرة وردت، وبأقوال السلف الصالح وعملهم، ولذا فقد هدموا في مكة والمدينة القبور المرتفعة وسووها بالأرض، كما أزالوا القباب عند استيلائهم على الحرمين الشريفين في القرن الماضي، كما أزالوها مرة أخرى في الفتح الحاضر سنة (1343 و 1344 هـ) (1925 و 1926 م) ، أما شد الرحال والسفر إلى القبور فبدعة. رابعا: إعلان الحرب على البدع الشائعة في الأمصار مثل الاجتماع في وقت مخصوص على من يقرأ سيرة المولد الشريف اعتقادا منه أنه قربة، ومثل الزيادات على الأذان المشروع. وبالجملة: فإنهم يحرصون على العبادات الشرعية أن تكون على السنة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا زيادة أو نقص، ويلحق بهذا ما هو شائع في كثير من الأمصار من خروج النساء وراء الجنائز، وخروجهن لزيارة القبور، والاحتفالات السنوية المسماة بالموالد، وإقامة الحفلات للأذكار المبتدعة، وما يفعله بعض الدراويش من الرقص والمزمار، فإن ذلك كله محرم، وقد منعوا ما كان موجودا منه في الحجاز. وبسبب ذلك كان الخلاف بين الحكومة العربية السعودية وبين الحكومة المصرية على المحمل وقبوله في الحجاز، والنجديون يحتجون بأنه بدعة لا يصح إقرارها في بلد الوحي والدين، والمصريون يقولون: إنه عادة وشعار للحج ليس إلا (¬1) . خامسا: " الجهاد ": مما لا جدال فيه أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يعتبر ما انصرف من العبادات لغير الله إسلاما، ولذا فإنه كان يبدأ الأمر بالدعوة إلى التوحيد، وتنفيذ أوامر الله بلا هوادة، فمن أطاع فقد سلم، ومن خالف أو عاند فقد حل دمه وماله، وعلى هذا الأساس كانت غزواتهم في نجد وخارج نجد من اليمن والحجاز، وضواحي سوريا والعراق. كل بلد يدخلونها حربا فهي حلال لهم، إن أمكنهم البقاء بها ألحقوها بأملاكهم، ¬

(¬1) لكن أهل البدع لما منع دخول بدعة المحمل تركوا الحج كله، وزعموا أن السعوديين منعوا الحج.

وإن لم يمكنهم البقاء اكتفوا بما يصل إلى أيديهم من الغنيمة، وهنا يجيء الخلاف بينهم وبين معارضيهم، فإن غيرهم يقول: إن من قال: " لا إله إلا الله محمد رسول الله " فقد عصم ماله ودمه (¬1) أما هم فيقولون: إن القول لا عبرة به ما لم يدعمه العمل، فمن قال: " لا إله إلا الله محمد رسول الله " وهو لا يزال يدعو الموتى، ويستغيث بهم، ويسألهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، فهو كافر مشرك، حلال الدم والمال، ولا عبرة بقوله، ولهم على هذا أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، ليس هنا موضع تفصيلها. والجهاد - أو إعلان الحرب - من حقوق الإمام، ينظر إلى المصلحة أو دفع المضرة، فإن رأى المصلحة تعين عليه إعلان الجهاد، ووجب على سائر رعيته متابعته والدخول في سلك الجندية، وعلى هذا كانت الغزوات القديمة والحديثة معتبرة من الجهاد الشرعي. سادسا: " الاجتهاد ": للشيخ محمد بن عبد الوهاب بعض رسائل في الدعوة إلى الاجتهاد، والرد على أهل التقليد والمعاندين، استند في أكثرها إلى ما كتبه ابن القيم في أعلام الموقعين، ولكن الشيخ محمد وإن كان له بعض مسائل اجتهادية - مثل جعل دية المسلم 800 ريال بدل مائة ناقة - فإنه في الحقيقة يخطو خطوات الإمام أحمد، ويعتمد على كتب الفروع المؤلفة على طريقته، ومما لا شك فيه أن علماء نجد في بدء النهضة الإصلاحية كانوا أكثر إحاطة بالسنة، وعلما بالشريعة، وأوسع مدارك، وأبعد نظرا في فهمهم للأحكام " (¬2) . * ويقول أحمد عبد الغفور عطار في الدعوة وإمامها ودولتها: " فالشيخ الإمام مصلح ديني واجتماعي وزعيم سياسي، والمصلح الديني في الإسلام ليس الذي يكون في عزلة عن المجتمع أو السياسة أو الحكم أو الدولة، بل يتناول الإصلاح كل أسباب الحياة ومقوماتها، فالمصلح الديني يصلح حياة الأمة ظاهرها وباطنها، وإصلاح الباطن هو إصلاح المعتقد. ¬

(¬1) هذا نص، وتفسره وتقيده نصوص ثابتة أخرى، لكنهم جعلوا ذلك مطلقا، وهذا خلاف ما جاءت به النصوص الشرعية الأخرى، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته هو المفسر والمبين لما أطلق، كما سيأتي بيانه. (¬2) جزيرة العرب في القرن العشرين ص (308 - 311) .

وكان الإمام محمد بن عبد الوهاب مصلحا دينيا على هذا المعنى، وكان بصيرا نافذ البصر في شئون الحكم؛ لأنه وقف على نظم الحكم في الإسلام وغير الإسلام، وعرف الحكم الإسلامي الصحيح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنشأه وأرسخ قواعده، وتمسك به من بعده خلفاؤه الراشدون الأربعة، ومن بعدهم عمر بن عبد العزيز، وعرف حكم غير هؤلاء من الخلفاء والملوك معرفة ثاقبة. وأوقفته دراسة القرآن والسنة على أنظمة حكومات مختلفة سبقت الإسلام من جاهلية وغيرها، واختار من كل ذلك أصح حكم إسلامي، ألا وهو حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وطبقه بقدر ما اتسع له عصره وقدرة الدولة التي بناها. وكان الوفاق بين الشيخ ومحمد بن سعود تاما، ووجهة نظرهما واحدة، وكان الشيخ يعين الحاكم بعلمه وآرائه، ويريه نهج الإسلام في السياسة وشئون الدولة، والحاكم نفسه ما كان يعمل عملا في الدولة إلا برأي الشيخ الذي كان يعلن الجهاد، ويبعث الرسل والكتب إلى الأمراء والحكام والعلماء والقضاة في البلدان الخارجة عن حكمه ". إلى أن قال: " وابن عبد الوهاب بنى حكومته وأسسها وشيدها على قواعد الإسلام الثلاث، فدعا إلى الإيمان بالله إيمانا حقا يقضي بصرف العبادات كلها لله وحده، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورسالة رسل الله صلى الله عليهم وسلم هي الدعوة إلى الاعتصام بهذه القواعد، وبناء المجتمع وكل نظمه وقوانينه وتصرفاته عليها، وإذا تعرض الإيمان للفساد أو الخطر وجب على المسلم العالم الصالح أن ينهض للإصلاح ورد الخطر عن العقيدة. وهذا ما صنع الإمام الشيخ، فهو قد رأى مجتمعه فاسد العقيدة، فقام بالإصلاح، ثم رأى العقيدة الصحيحة السليمة الصالحة في خطر من المبتدعين والضالين والمضلين، فنهض للدفاع عنها بأسلوب الإسلام نفسه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكنهما تعرضتا مع العقيدة لحرب شنها عليها الحكام المبتدعون، والعلماء الضالون، والعامة المضللون، فاضطر الإمام لاتخاذ سلاح من حاربوه للدفاع عن العقيدة وأصحابها.

ونصر الله الإمام المصلح ابن عبد الوهاب نصرا مبينا، وقامت دولة الإسلام التي شيدها على قواعده الصحيحة، وأصبح هو إمام هذه الدولة المسئول عن حمايتها ورعايتها. وإذا كان الإمام محمد بن عبد الوهاب هو صاحب الدعوة التي أسست حكم الإسلام في الدرعية ثم في نجد، وأقامت دولته، فإن محمد بن سعود كان رأس الحكومة الإسلامية، إذ بايعه الإمام على ولاية الأمر، والدعوة في فجرها ما تزال فكرة في أذهان بضعة نفر من المقتنعين بها، وأبرز الشيخ ومحمد بن سعود الدعوة إلى الواقع بعد أن كانت فكرة، وأقاما مجتمعا إسلاميا، ودولة إسلامية " (¬1) . * ويقول الأستاذ فؤاد حمزة في كتابه: " قلب جزيرة العرب ": " وقد أطلق على أهل نجد خطأ في القرن الماضي اسم الوهابيين، ونسب إليهم أنهم أهل مذهب جديد في الإسلام، إلا أن الحقيقة الآن أصبحت معروفة للناس، فأهل نجد سلفيون يقلدون في المسائل الاجتهادية الإمام أحمد بن حنبل، وقد كانت دعوة الشيخ (محمد بن عبد الوهاب) في القرن الماضي دعوة إصلاحية خالصة لوجه الله، سداها ولحمتها الدعوة إلى الرجوع إلى الإسلام الصحيح، وترك البدع، وهدم معالم الشرك والخرافات والأوهام، وأما نسبة المذهب الجديد إليهم فقد حدث بسبب اختلاط الدعاية التي بثت ضدهم بعناصر سياسية بقصد تنفير الناس منهم، وعدهم خارجين على الإسلام، إلا أنهم مسلمون سنيون، موحدون سلفيو العقيدة خالصو الإيمان " (¬2) . * قال الشيخ محمد أبو زهرة: " لقد اتسمت العصور التي جمد فيها العقل بتقديس آراء الأئمة المجتهدين كما أشرنا، وكان من مظاهر ذلك تقديس الصالحين في حياتهم وبعد مماتهم، وزيارة أضرحتهم والطواف حولها بما يشبه الطواف حول بيت الله الحرام، وكان من أثر ذلك أن قامت طائفة تحارب هذا وتشدد في محاربته متبعة في ذلك آراء ابن تيمية، وقد أخرجتها من مرقدها بعد أن طمرتها السنون " (¬3) ثم قال: ¬

(¬1) محمد بن عبد الوهاب لأحمد عبد الغفور عطار (88 - 92) . (¬2) قلب جزيرة العرب لفؤاد حمزة (104، 105) . (¬3) المذاهب الإسلامية (211، 212) .

" ظهرت الوهابية في الصحراء العربية نتيجة للإفراط في تقديس الأشخاص والتبرك بهم، وطلب القربى من الله بزيارتهم، ونتيجة لكثرة البدع التي ليست من الدين، وقد سادت هذه البدع في المواسم الدينية والأعمال الدنيوية، فجاءت الوهابية لمقاومة كل هذا وأحيت مذهب ابن تيمية " (¬1) . * وقال الزركلي في الأعلام: " محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي: زعيم النهضة الدينية الإصلاحية الحديثة في جزيرة العرب ". " وكانت دعوته وقد جهر بها سنة (1143 هـ) (1730 م) الشعلة الأولى لليقظة الحديثة في العالم الإسلامي كله، تأثر بها رجال الإصلاح في الهند ومصر والعراق والشام وغيرها، فظهر الألوسي الكبير في بغداد، وجمال الدين الأفغاني بأفغانستان، ومحمد عبده بمصر، وجمال الدين القاسمي بالشام، وخير الدين التونسي بتونس، وصديق حسن خان في بهوبال، وأمير علي في كلكتة، ولمعت أسماء آخرين، وعرف من والاه وشد أزره في قلب الجزيرة بأهل التوحيد " إخوان من أطاع الله "، وسماهم خصومهم بالوهابيين (نسبة إليه) ، وشاعت التسمية الأخيرة عند الأوربيين فدخلت معجماتهم الحديثة، وأخطأ بعضهم فجعلها " مذهبا " جديدا في الإسلام؛ تبعا لما افتراه خصومه، ولا سيما دعاة من كانوا يتلقبون بالخلفاء من الترك العثمانيين " (¬2) . * ويقول الدكتور محمد فتحي عثمان: " وقيض الله للانتصار لعقيدة التوحيد الصحيحة (دعوة) و (حركة) تهز عامة الناس وعلماءها وحكامها جميعا على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - (1115 - 1206 هـ \ 1703 – 1791 م) ، وكانت هذه (الحركة) الواسعة العميقة الفعالة هي خصيصة الرجل وميزته بين الدعاة إلى عقيدة السلف من علماء الحق ومعلمي الخير، الذين طالما نادوا بإصلاح العقائد والأقوال والأعمال، كم من المصلحين دعوا مثل هذه الدعوة، فما السبب في نجاح الدعوة الوهابية دون الأخرى؟ السبب في هذه ما أحاط بالدعوة الوهابية من ظروف لم تتهيأ لغيرها. ¬

(¬1) المذاهب الإسلامية (211، 212) . (¬2) الأعلام لخير الدين الزركلي (7) .

فقد اضطهد في بلده (العيينة) واضطر أن يخرج منها إلى (الدرعية مقر آل سعود) وهناك عرض دعوته على أميرها محمد بن سعود، فقبلها وتعاهدا على الدفاع عن الدين الصحيح، ومحاربة البدع، ونشر الدعوة في شبه جزيرة العرب باللسان عند من يقبلها، وبالسيف عند من لم يقبلها " (¬1) . ويقول العقاد: " فالنهضة في مصر بدأت عند أوائل القرن التاسع عشر، ولكنها بدأت في الجزيرة العربية قبل ذلك بنحو ستين سنة بالدعوة الوهابية التي تنسب إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبدأت نحو هذا الوقت في اليمن بدعوة الإمام الشوكاني صاحب كتاب " نيل الأوطار "، وكلاهما ينادي بالإصلاح على نهج واحد، وهو العود إلى السنن القديم، ورفض البدع والمستحدثات في غير هوادة، وإنما تسامع الناس بحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وظلت الدعوة الشوكانية مقصورة على قراءة كتب الفقه والحديث؛ لأن الوهابيين هدموا القباب والأضرحة في الحجاز، واصطدموا بجنود الدولة العثمانية في إبان حربها مع الدولة الأوربية التي اتفقت على تقسيمها، مثل هذا الاصطدام قد أودى بدولة علي بك الكبير في مصر، فانقض عليه أعوانه، وتمكن منه حساده بعد محالفته لروسيا في حرب الخلافة الإسلامية. ولم تذهب صيحة ابن عبد الوهاب عبثا في الجزيرة العربية، ولا في أرجاء العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه، فقد تبعه كثير من الحجاج وزوار الحجاز، وسرت تعاليمه إلى الهند والعراق والسودان وغيرها من الأقطار النائية، وأعجب المسلمين أن سمعوا أن علة الهزائم التي تعاقبت عليهم إنما هي في ترك الدين لا في الدين نفسه، وأنهم خلقاء أن يستجدوا ما فاتهم من القوة والمنعة باجتناب البدع، والعودة إلى دين السلف الصالح في جوهره ولبابه " (¬2) . ويقول الحسن بن علي آل عايض (¬3) في رسالة له إلى الحسين بن علي شريف مكة، مفندا ما رمى به ابن سعود (الملك عبد العزيز - رحمه الله -) وعلماء الدعوة من أوصاف مشينة: ¬

(¬1) السلفية في المجتمعات المعاصرة (32) . (¬2) موسوعة العقاد الإسلامية (4، 609) . (¬3) أمراء عسير قبل أن تضم للدولة السعودية.

" وإن أمر ابن سعود ليس كما وهمت في رسالتك أنه أعرابي يقود أجلافا طعامهم الجراد، من ضئضئي ذي الخويصرة، وأن دياره ديار فتن، وعلماءه غلاة يكفرون من لم يدخل في طاعته، ويستبيحون ماله ودمه، وينظرون إلى ما سواهم نظرة الازدراء، وأنه من ولد مسيلمة الكذاب، وأن حوله بني حنيفة وبني تميم، إلى آخر ما ذكرت، ولكن الأمر خلاف ذلك، فأكثر من حوله من قحطان، وهي قبائل ذات بأس ومنعة، ولها أخلاق، ودين تدافع في سبيله ". ثم قال: " وأما علماء نجد فإن لنا بهم صلة، إذ كانوا يأتون عسيرا ويتصلون بأبي وعمي، وكنا نحضر دروسهم ونحن صغار، فنعم الرجال هم، فإنهم شديدون في ذات الله، وليس لديهم مواربة، فلو علموا أن عبد العزيز قد وضع يده مع الإنكليز في معاهدة ضد العثمانيين لوقفوا في وجهه وكفروه " (¬1) . إلى أن قال: " أما أن الديار هي قرن الشيطان فإن الأرض بأهلها، ولا نعرف عنهم إلا خيرا، ويجب ألا نسيء الظن بالمسلمين، بل علينا أن نتغاضى عن سيئاتهم وخاصة العلماء منهم " (¬2) . وقال محمود فهمي باشا (المهندس المصري) في الجزء الأول من تاريخه (البحر الزاخر) في سياق الكلام عن الوهابية: " ومن بعد مدة استمرت في محاربات شديدة ووقائع عتيدة دخل جميع بلاد العرب في العقائد الوهابية، أي العقائد الإصلاحية للديانة الإسلامية، وصارت نجد أيضا في حالة سياسية مدنية جديدة، وبدل أن كانت جهاتها منقسمة إلى عدة عشائر، وشعوب صغيرة منفصلة عن بعضها ومستمرة في حروب وكروب بين بعضها، صارت مقر دولة قوية، وسلطنة سياسية، مثال سلطنة الخلفاء القدماء، ولرئيس هذه الدولة السلطة في الأعمال الدينية والدنيوية ". " ومع ما كان عليه الوهابيون من الحروب والمبارزات في بلاد العرب لم يعتدوا على حقوق الحكومتين المجاورتين لهم، وهما حكومة بغداد والحجاز، وكانت قوافل الحجاز تمر من وسط أراضيهم ¬

(¬1) تاريخ عسير للحفظي (358 - 360) . (¬2) تاريخ عسير للحفظي (358 - 360) .

من غير أن يحصل لأي قافلة ضرر أو انزعاج، وكانوا في أحوال أخوية ودية مع الشريف سرور شريف مكة، وفي سنة (1781) بعد الميلاد استحصلوا على رخصة منه في أداء حجهم وطوافهم بالكعبة، فتولد من زيادة قوتهم ونفوذ شوكتهم اشتعال نار الحسد في قلب الشريف غالب، وفي ظرف بضع سنين من تقلده الحكومة وتوظفه شريف مكة بعد الشريف سرور أعلن حربا على الوهابية " (¬1) . وقال: " ولما انتظمت مخابرات الشريف غالب مع الدولة التركية العثمانية لم يهمل أدنى طريقة يمكنه إجراؤها في تمكين الدولة العثمانية من الدخول بعساكرها في بلاد العرب لأجل الوقوع بالوهابيين إلا وأجراها، وأثبت (أي زعم) أنهم من الملحدين الكافرين، وأن معاملتهم مع قوافل الحجاج التركية من أقبح الأعمال الفاسدة المضرة " (¬2) . ويقول الدكتور طه حسين عن أثر الدعوة الإصلاحي والأدبي: " اعلم أن الباحث عن الحياة العقلية والأدبية في جزيرة العرب لا يستطيع أن يهمل حركة عنيفة نشأت فيها أثناء القرن الثامن عشر، فلفتت إليها العالم الحديث في الشرق والغرب، واضطرته أن يهتم بأمرها، وأحدثت فيها آثارا خطيرة هان شأنها بعض الشيء، ولكنه عاد فاشتد في هذه الأيام وأخذ يؤثر لا في الجزيرة وحدها بل في علاقاتها بالأمم الأوربية أيضا، هذه الحركة هي حركة الوهابيين التي أحدثها محمد بن عبد الوهاب شيخ من شيوخ نجد. نشأ محمد بن عبد الوهاب في بيت علم وفقه وقضاء، تثقف على أبيه، ثم رحل إلى العراق فسمع من علماء البصرة وفقهائها، وأظهر فيها آراءه الجديدة القديمة معا، فسخط عليه الناس وأخرج من البصرة، وكان يريد أن يذهب إلى الشام فحال الفقر بينه وبين ذلك، فعاد إلى نجد وأقام مع أبيه حينا يناظر ويدعو إلى آرائه حتى ظهر أمره وانتشر مذهبه. وانقسم الناس فيه قسمين: فكان له الأنصار، وكان له الخصوم، وتعرضت حياته آخر الأمر للخطر، فأخذ يعرض نفسه على الأمراء ورؤساء العشائر ليجيروه ويحموا دعوته، حتى انتهى به الأمر إلى قرية الدرعية، وهناك عرض نفسه على أميرها محمد بن سعود فأجاره وبايعه على المعونة والنصرة، ومن ذلك اليوم أصبح المذهب الجديد مذهبا رسميا يعتمد على قوة سياسية تؤيده ¬

(¬1) البحر الزاخر (1، 174) نقلا عن (الوهابيون والحجاز) لمحمد رشيد رضا (58، 59) . (¬2) البحر الزاخر (1، 174) نقلا عن (الوهابيون والحجاز) لمحمد رشيد رضا (58، 59) .

وتحميه، بل تنشره في أقطار نجد بالدعوة اللينة حينا وبالسيف والحرب في أكثر الأحيان، وعن هذا التحالف بين الدين والسياسة نشأت في الجزيرة العربية دولة سياسية عظم أمرها واشتد خطرها حتى أشفق منها الترك أشد الإشفاق، فقاوموها ما وسعتهم المقاومة، فلما لم يفلحوا استعانوا بالمصريين وكان أمرهم إذ ذاك إلى محمد علي الكبير، فنجح المصريون في إضعاف هذه الحركة وإزالة هذه الدولة الجديدة، ورد أمرائها إلى ما كانوا عليه قبل ذلك من التواضع، فلا بد من وقفة قصيرة عند هذا المذهب الجديد لنعرف ما هو؟ وما مبلغ تأثيره في الحياة العقلية العربية في هذا العصر الحديث؟ قلت: إن هذا المذهب جديد قديم معا، والواقع أنه جديد بالنسبة إلى المعاصرين، ولكنه قديم في حقيقة الأمر لأنه ليس إلا الدعوة القوية إلى الإسلام الخالص النقي المطهر من كل شوائب الشرك والوثنية، هو الدعوة إلى الإسلام كما جاء به النبي خالصا لله وحده ملغيا لكل واسطة بين الله وبين الناس، هو إحياء للإسلام العربي وتطهير له مما أصابه من نتائج الجهل ومن نتائج الاختلاط بغير العرب، فقد أنكر محمد بن عبد الوهاب على أهل نجد ما كانوا قد عادوا إليه من جاهلية في العقيدة والسيرة، وكانوا يعظمون القبور، ويتخذون بعض الموتى شفعاء عند الله، ويعظمون الأشجار والأحجار، ويرون أن لها من القوة ما ينفع وما يضر. وكانوا قد عادوا في سيرتهم إلى حياة العرب الجاهليين، فعاشوا من الغزو والحرب، ونسوا الزكاة والصلاة، وأصبح الدين اسما لا مسمى له، فأراد محمد بن عبد الوهاب أن يجعل من هؤلاء الأعراب الجفاة المشركين قوما مسلمين حقا على نحو ما فعل النبي بأهل الحجاز منذ أكثر من أحد عشر قرنا. ومن الغريب أن ظهور هذا المذهب الجديد في نجد قد أحاطت به ظروف تذكر بظهور الإسلام في الحجاز، فقد دعا صحبه إليه باللين أول الأمر فتبعه بعض الناس، أظهر دعوته فأصابه الاضطراب وتعرض للخطر، ثم أخذ يعرض نفسه على الأمراء ورؤساء العشائر كما عرض النبي نفسه على القبائل، ثم هاجر إلى الدرعية وبايعه أهلها على النصر، كما هاجر النبي إلى المدينة، ولكن ابن عبد الوهاب لم يرد أن يشتغل بأمور الدنيا فترك السياسة لابن سعود، واشتغل هو بالعلم والدين، واتخذ السياسة وأصحابها أداة لدعوته، فلما تم له هذا أخذ يدعو الناس إلى مذهبه، فمن أجاب منهم قبل منه، ومن امتنع عليه أغرى به السيف وشب عليه الحرب، وقد انقاد أهل نجد لهذا المذهب، وأخلصوا له الطاعة، وضحوا بحياتهم في سبيله على نحو ما انقاد العرب للنبي وهاجروا معه.

ولولا أن الترك والمصريين اجتمعوا على حرب هذا المذهب وحاربوه في داره بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها، لكان من المرجو جدا أن يوحد هذا المذهب كلمة العرب في القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة، كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول " (¬1) . ويقول الدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم (¬2) " أثارت الدعوة السلفية ولا تزال تثير جدلا كثيرا، فأيدها كثيرون وعارضها كثيرون، والحقيقة أنها لم تأت بجديد في الدين الإسلامي، ولم تكن خارجة عن مبادئه، بل إنها دعوة سنية سلفية، فصاحبها وأتباعها يؤمنون بمذهب أهل السنة والجماعة، ويسيرون على طريقة السلف الصالح فيما يتعلق بآيات الصفات وأحاديثها ". إلى أن قال: " فالدعوة في أصولها تعتمد على مصدرين أصليين للتشريع، هما القرآن والسنة " (¬3) . وقال: " أما أعداء الدعوة فلقد رموها بما لم يكن فيها، وذلك باتهام أتباعها بالقول بأن العصا خير من النبي صلى الله عليه وسلم (¬4) وباتخاذهم راية شعارها: " لا إله إلا الله محمد رسول الله " (بحذف ميم محمد) أي ليس هناك رسول الله، ولا شك أن هدفهم من وراء ذلك هو نشر دعاية سيئة للدعوة وأتباعها، وإظهارها أنها بدعة جديدة لتنفير الناس منها " (¬5) . ويقول محمد جلال كشك: " فالطابع السياسي للحركة الوهابية متوفر لمجرد انتمائها للفكر الإسلامي الصحيح ودعوتها للتوحيد، ولكن لماذا انفردت هذه الدعوة بذلك الأثر السياسي، وتميزت عن الدعوات السلفية التي سبقت أو تلتها، مع أن الفكر التوحيدي ورفض الأولياء أو التمسح بالقبور آراء موجودة - كما قلنا - في الفكر الإسلامي، وأشار إليها ودافع عنها أكثر من عالم في كل قرن وفي أكثر من بلد، ودعوة ¬

(¬1) الحياة الأدبية في جزيرة العرب (32 - 37) . (¬2) النص له مع الهوامش. (¬3) 278. (¬4) خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام، أحمد بن زيني دحلان ص (230) . (¬5) جزيرة العرب في القرن العشرين، حافظ وهبة ص (314) .

التوحيد التي نادى بها الشيخ تقبلها العلماء في شتى بلدان العالم الإسلامي، أو قل: لم يستطع أحد منهم أن يرفضها، بل على العكس ركز خصومها على اتهامها بأنه " لا جديد فيها " واهتموا بمناقشة الشكليات وافتراء الاتهامات، بينما أعلن أكثر من عالم وفقيه أو حتى مستشرق انطباقها على مبادئ الإسلام الصحيحة، وقد كان ابن سند (¬1) صادقا وسيئ النية في نفس الوقت عندما قال: " إن خطاب سعود في مكة لم يأت بجديد لا يعرفه عوام أهل مكة "، كذلك ذهب ابن بشر إلى أن الشريف غالبا وافق على أفكار الشيخ لولا أن الحاشية حذرته بأن الوهابيين إنما يريدون ملكه وليس ضميره، " فارتعش قلبه وطار ". ومحمد بن عبد الوهاب اهتم اهتماما كبيرا هو وورثته من بعده بتأكيد أنه لا جديد في دعوته، وأنه لم يأت بمذهب خامس، وهذا صحيح بالطبع، وإن كان الحرص على نفي تهمة المذهب الخامس " أمر مبالغ فيه؛ لأن المذاهب في حد ذاتها ليست أديانا منزلة، وإنما هي اجتهادات " وهم رجال ونحن رجال " (¬2) . وقال الشيخ أحمد الناصري السلاوي المغربي: " وفي هذه السنة - أعني سنة ست وعشرين ومائتين وألف - وجه السلطان المولى سليمان (¬3) - رحمه الله - ولده الأستاذ الأفضل المولى أبا إسحاق إبراهيم بن سليمان إلى الحجاز لأداء فريضة الحج مع الركب النبوي الذي جرت العادة بخروجه من فاس على هيئة بديعة من الاحتفال، وإبراز الأخبية لظاهر البلد، وقرع الطبول (¬4) وإظهار الزينة ". إلى أن قال: " حكى صاحب الجيش (¬5) أن المولى إبراهيم عندما ذهب إلى الحج استصحب معه جواب السلطان، فكان سببا لتسهيل الأمر عليهم، وعلى كل من تعلق بهم من ¬

(¬1) هو عثمان بن سند البصري، أحد خصوم الدعوة. (¬2) السعوديون والحل الإسلامي (94) . (¬3) يعني سلطان المغرب. (¬4) قرع الطبول لا يليق بشعيرة الحج، وهو من البدع، ومن عبادات الجاهلية والأمم الضالة، وهو ما كانت تمنعه الدولة السعودية لما دخلت مكة والمدينة تعظيما لشعائر الله. (¬5) يقصد المصاحب لركب الحجاج المغاربة.

الحجاج شرقا وغربا حتى قضوا مناسكهم وزيارتهم على الأمن والأمان والبر والإحسان، قال: حدثنا جماعة وافرة ممن حج مع المولى إبراهيم في تلك السنة أنهم ما رأوا من ذلك السلطان (يعني ابن سعود) ما يخالف ما عرفوه من ظاهر الشريعة، وإنما شاهدوا منه ومن أتباعه ما به الاستقامة والقيام بشعائر الإسلام من صلاة وطهارة وصيام، ونهي عن المنكر الحرام، وتنقية الحرمين الشريفين من القاذورات والآثام التي كانت تفعل بهما جهارا من غير نكير. وذكروا أن حاله كحال آحاد الناس، لا يتميز عن غيره بزي، ولا مركوب، ولا لباس، وأنه لما اجتمع بالشريف المولى إبراهيم أظهر له التعظيم الواجب لأهل البيت الكريم، وجلس معه كجلوس أحد أصحابه وحاشيته، وكان الذي تولى الكلام معه هو الفقيه القاضي أبو إسحاق إبراهيم الزداغي، فكان من جملة ما قاله ابن سعود لهم: إن الناس يزعمون أننا مخالفون للسنة المحمدية، فأي شيء رأيتمونا خالفنا من السنة؟ وأي شيء سمعتموه عنا قبل اجتماعكم بنا؟ فقال له القاضي: بلغنا أنكم تقولون بالاستواء الذاتي المستلزم لجسمية المستوي، فقال لهم: معاذ الله، إنما نقول كما قال مالك: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة " فهل في هذا من مخالفة؟ قالوا: لا، وبمثل هذا نقول نحن أيضا. ثم قال له القاضي: بلغنا عنكم أنكم تقولون بعدم حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحياة إخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم، فلما سمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ارتعد، ورفع صوته بالصلاة عليه، وقال: معاذ الله، إنما نقول: إنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره، وكذا غيره من الأنبياء حياة فوق حياة الشهداء. ثم قال له القاضي: وبلغنا أنكم تمنعون من زيارته صلى الله عليه وسلم، وزيارة سائر الأموات مع ثبوتها في الصحاح التي لا يمكن إنكارها، فقال: معاذ الله أن ننكر ما أثبت في شرعنا، وهل منعناكم أنتم لما عرفنا أنكم تعرفون كيفيتها وآدابها؟ وإنما نمنع منها العامة الذي يشركون العبودية بالألوهية، ويطلبون من الأموات أن تقضي لهم أغراضهم التي لا تقضيها إلا الربوبية، وإنما سبيل الزيارة الاعتبار بحال الموتى، وتذكر مصير الزائر إلى ما صار إليه المزور، ثم يدعو له بالمغفرة، ويستشفع به إلى الله تعالى، يسأل الله المنفرد بالإعطاء والمنع بجاه ذلك الميت إن كان ممن يليق أن يستشفع به، هذا قول إمامنا أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -، ولما كان

العوام في غاية البعد عن إدراك هذا المعنى منعناهم سدا للذريعة، فأي مخالفة في هذا القدر؟ اهـ. ثم قال صاحب الجيش: هذا ما حدث به أولئك المذكورون، سمعنا ذلك من بعضهم جماعة، ثم سألنا الباقي أفرادا فاتفق خبرهم على ذلك " اهـ. وذكر المؤلف (صاحب الاستقصاء) بعد هذا الخبر بحثا في زيارة القبور، رجح فيه القول بمنع زيارة الأولياء سدا للذريعة مع بيان العلة، وإشهارها بين الناس، وذكر أن سلطان المغرب المولى سليمان - رحمه الله - كان يرى هذا، وألف فيه رسالته المشهورة " (¬1) . ويقول عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه نقلا عن بعض أكابر جيش محمد علي باشا الذين هزمهم أتباع الدعوة في الحجاز سنة 1227 هـ: " ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدعون الصلاح والتورع: أين لنا بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الملة، وفيهم من لا يتدين بدين، ولا ينتحل مذهبا، وصحبتنا صناديق المسكرات، ولا يسمع في عرضينا أذان، ولا تقام به فريضة، ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين؟ والقوم (¬2) إذا دخل الوقت أذن المؤذنون وينتظمون صفوفا خلف إمام واحد بخشوع وخضوع، وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة أذن المؤذن وصلوا صلاة الخوف، فتتقدم طائفة للحرب وتتأخر الأخرى للصلاة، وعسكرنا يتعجبون من ذلك لأنهم لم يسمعوا به فضلا عن رؤيته، وينادون في معسكرهم هلموا إلى حرب المشركين المحلقين الذقون، المستبيحين الزنا واللواط، الشاربين الخمور، التاركين للصلاة، الآكلين الربا، القاتلين الأنفس، المستحلين المحرمات، وكشفوا عن كثير من قتلى العسكر فوجدوهم غلفا غير مختونين، ولما وصلوا (¬3) بدرا واستولوا عليها وعلى القرى والخيوف، وبها خيار الناس، وبها أهل العلم الصلحاء، نهبوهم وأخذوا نساءهم وبناتهم وأولادهم وكتبهم، فكانوا يفعلون فيهم ويبيعونهم من بعضهم لبعض ويقولون: هؤلاء الكفار الخوارج (¬4) حتى اتفق أن بعض أهل بدر الصلحاء ¬

(¬1) الوهابيون والحجاز لمحمد رشيد رضا (37 - 39) . (¬2) يعني السعوديين. (¬3) يعني عسكر خصوم الدعوة. (¬4) أكثر الخصوم يأخذون على أتباع الدعوة وصف بعض خصومهم بالكفر والشرك لمن قد يستحق هذا الوصف بمقتضى الدليل الشرعي، ولا يتورعون عن إطلاق الكفر والخروج - كما في هذا النص - على أتباع الدعوة الذين هم أبعد عن هذه الأوصاف في واقع الحال.

طلب من بعض العسكر زوجته، فقال له: حتى تبيت معي هذه الليلة وأعطيها لك من الغد " (¬1) . ويقول محمد كامل ضاهر تحت عنوان: " الدعوة الوهابية والتطور ": " مضى على ظهور الدعوة الوهابية حوالي قرنين من الزمن، استطاعت خلالهما أن تحافظ على حيويتها رغم الصعاب الشديدة التي واجهتها، وأن تصبح مصدرا روحيا لمعظم حركات التجديد في العالم الإسلامي الحديث، فالعثمانيون حاولوا القضاء عليها عسكريا بعدما شعروا بجسامة خطرها عليهم من الناحيتين السياسية والدينية، لكنهم فشلوا فأخذوا يحرضون الناس ضدها في شتى أنحاء العالم الإسلامي بعد أن اتهموا أتباعها بالكفر، وبالخروج على طاعة الخليفة العثماني، وقد شارك كثير من علماء المسلمين في هذه الحملة التشهيرية بعد أن هددت الدعوة مكانتهم عند الناس، وقوضت الخرافات والبدع التي كانوا يعتبرونها من صميم الدين، وساعد الانجليز أيضا بهذا التشهير بأن لجئوا إلى تشويه مبادئ الدعوة، خاصة وأن بعض الهنود المتأثرين بالتعاليم الوهابية أسسوا دعوات مشابهة لها في بلادهم، فكانت مصدرا لكثير من المتاعب للحكم الإنجليزي. ساهمت كل هذه الأسباب في تعثر انتشار أفكار الدعوة بين المسلمين، أو التعرف إلى حقيقتها، لكن الوهابيين تخطوا كل هذه الظروف القاسية، واستطاعوا إنشاء دولة لها دورها المتعاظم في مجتمع الدولة المعاصر. ومن الممكن أن نعلل حيوية الدعوة الوهابية واستمراريتها بالأسباب التالية: 1 - لأنها كانت تعبر بصدق وإخلاص عن تعاليم الإسلام الحقيقية، كما جاءت من منابعها الأولى في القرآن والسنة، وكما مارسها النبي وصحابته، لذلك دعت إلى تطهير هذه التعاليم من البدع والخرافات التي تسربت إليها من مصادر غريبة، فشوهتها وحادت بها عن معانيها الحقيقية. 2 - لأنها كانت أول حركة إسلامية في العصور الحديثة سعت إلى إعادة توحيد المسلمين دينيا وسياسيا بعدما أنهكتهم الخلافات المذهبية الضيقة، الناتجة عن تعصب كل فريق لمذهبه دون النظر إلى ما في المذاهب الأخرى من أفكار وآراء راجحة. ¬

(¬1) الجبرتي في تاريخه (3، 342) .

3 - لأنها ثارت ضد التقليد الذي كان أحد أسباب تخلف المسلمين الفكري وتقهقرهم الحضاري، ونادت بفتح الأبواب بين جميع المذاهب الإسلامية تشبها بالأئمة الأربعة، أصحاب المذاهب الذين دعوا إلى محاربة التقليد بجميع صوره، وإلى أخذ الحقائق من مصادرها أينما وجدت (¬1) . وبهذه الثورة ضد مظاهر الجمود والتقليد والتعصب، التي كانت الطابع المميز لمعظم المسلمين في العهد العثماني، كان مؤسس الدعوة في طليعة الذين عملوا في العصر الحديث لفتح الأبواب بين المذاهب السنية الأربعة التي أغلقها الفقهاء الجامدون منذ القرن الخامس الهجري، وأول من شدد على مبدأ الاجتهاد، واعتبروه واجبا على كل مسلم يستطيعه. ففي الوقت الذي حارب فيه الشيخ محمد بن عبد الوهاب أي تدخل من جانب العقل في قضايا العقيدة باعتبارها من مصدر إلهي لا يجوز للعقل البشري مسها، فإن دعوته إلى الاجتهاد والثورة على التقليد ردت الاعتبار إلى دور هذا العقل في القضايا الدينية والدنيوية التي لا نص عليها في القرآن والسنة، فالاجتهاد عمل هام من أعمال العقل في تطور الإسلام ومرونته، وقد وجد فيه زعماء الإصلاح الإسلامي المحدثون السبيل المأمون للتطور والإصلاح الاجتماعي داخل الإسلام نفسه وفي خلود هذا الإسلام في العالم المعاصر وفي المستقبل (¬2) . وبهذا الإقرار بمبدأ الاجتهاد الذي يساير التطور في المجتمع البشري برهنت الدعوة الوهابية قبل غيرها من الدعوات الإصلاحية الإسلامية الحديثة، على أنه تتوافر في تعاليم الإسلام منذ البداية مرونة تمكن المجتمع الإسلامي من التطور الطبيعي دون إهمال قواعده الأساسية. 4 - استعانتها بقوة سياسية وحربية لتضمن لمبادئها الانتشار والفعالية؛ لأن النظريات والمثل العليا لا تستطيع أن تنتصر بقوتها وصدقها فقط، بل بما يؤيدها من قوى سياسية واقتصادية وعسكرية، ومن أجل ذلك اتصل الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأمير الدرعية ¬

(¬1) راجع مجموعة الرسائل والمسائل النجدية رسائل وفتاوى الشيخ أحمد بن ناصر بن عثمان بن معمر ص (325) (محمد كامل) . (¬2) راجع الإسلام في نظر الغرب، ترجمة إسحاق موسى الحسيني (72) (محمد كامل) .

محمد بن سعود، وتعاهد معه على الجهاد، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر الدعوة في جزيرة العرب، " باللسان عند من يقبلها، وبالسيف عند من لم يقبلها ". إن أحد أسباب الفشل الذي منيت به الحركات الإصلاحية الإسلامية قبل الدعوة الوهابية وبعدها إنما يرجع إلى عدم توافر هذا المبدأ، وهو دليل على بعد النظر الذي كان يتصف به الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونصيره الأمير محمد بن سعود، وقد ظل هذا الاتحاد بين القوتين الدينية والسياسية ينمو ويتفاعل حتى انبثقت عنه المملكة العربية السعودية التي يزداد حجم تأثيرها الديني والسياسي والاقتصادي على المجتمعين الإسلامي والعربي من ناحية، وعلى المجتمع الدولي وحضارته من ناحية أخرى. وفي الوقت الذي بدأت فيه الحضارة الغربية تطرح نفسها كمنهج للتطور المادي للشعوب، وتتسرب وسائلها إلى المجتمعات المتخلفة، كانت المملكة العربية السعودية التي (¬1) تتمسك بالتعاليم الإسلامية بمفهومها الوهابي في طليعة هذه المجتمعات التي فتحت لها أبوابها، واستعانت بها لتطوير حياة شعبها دون أن يمس ذلك بعقيدتها الدينية أو يتعارض معها " (¬2) . وإن من الحق ما شهدت به الخصوم، ومن ذلك ما قاله عن أثر هذه الدعوة خصمها عثمان بن سند البصري، واختصره عنه أمين بن حسن الحواني: قال: " ومن محاسن الوهابيين أنهم أماتوا البدع ومحوها، ومن محاسنهم أنهم أمنوا البلاد التي ملكوها، وصار كل ما كان تحت حكمهم من هذه البراري والقفار يسلكها الرجل وحده على حمار بلا خفر خصوصا بين الحرمين الشريفين، ومنعوا غزو الأعراب بعضهم على بعض، وصار جميع العرب على اختلاف قبائلهم من حضرموت إلى الشام كأنهم إخوان أولاد رجل واحد "، ثم قال: " وبهاتين الدسيستين خدعوا جميع العوام - يعني بمحو البدعة وتأمين الطرقات والسبل خصوصا بين الحرمين -، وأحبهم سائر الأمم، وغفلوا عن باقي معتقداتهم " (¬3) . ¬

(¬1) راجع الإسلام في نظر الغرب، ترجمة إسحاق موسى الحسيني (73) (محمد كامل) . (¬2) الدعوة الوهابية وأثرها في الفكر الإسلامي الحديث (209 - 211) . (¬3) نقلا عن انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، محمد كمال جمعة (56) .

المبحث الرابع نماذج من شهادات غير المسلمين

[المبحث الرابع نماذج من شهادات غير المسلمين] المبحث الرابع نماذج من شهادات غير المسلمين لقد شهد للدعوة وإمامها وأتباعها ودولتها عدد كبير من الغربيين من مختلف الدول الغربية، وكان كثير منهم شاهد عيان، أو ممن بحث هذه المسألة على المنهج العلمي المتجرد، أو وقف على شيء من الحقيقة، وغالبية من وقفوا على حقيقة الدعوة من الرحالة والباحثين والمستشرقين أثنوا عليها وعلى إمامها، ومما يؤسف له أن هؤلاء الأجانب وهم غير مسلمين إلا النادر منهم كانوا أكثر إنصافا في تقويمها، وأصدق لهجة في الثناء عليها، وأكثر عدلا في الحكم عليها من خصوم الدعوة من المنتسبين للإسلام، من أهل البدع والأهواء. ولعل أهم سبب لذلك أن الدعوة واجهت أهل البدع، وكشفت عوارهم، وصادمت مصالحهم المبنية على رواج البدع وتبعية الدهماء لهم، التي أكسبتهم الجاه والمال والتحكم في مصالح البلاد والعباد، أما أولئك فكانوا بعيدين عن الصراع المباشر مع الدعوة، ولذلك لما قامت دولتها وتوسعت وقفت الدول الغربية وساستها ضدها، وأسهموا في التحريض عليها ومحاربتها بكل الوسائل، لكن بقي كثيرون من أهل الفكر منهم والباحثين أقرب للحياد والإنصاف والموضوعية في نظرتهم وأحكامهم. يقول الرحالة (بوركهارت) السويسري الأصل (¬1) " لم تكن مبادئ محمد بن عبد الوهاب مبادئ ديانة جديدة، بل كانت جهوده موجهة فقط لإصلاح المفاسد التي تفشت بين المسلمين ونشر العقيدة الصافية بين البدو الذين كانوا مسلمين اسميا، لكنهم جهلاء بالدين وغير مبالين بكل فروضه التي أوجبها (¬2) وكما ¬

(¬1) نقلت الكلام بهوامشه التي علقها الدكتور عبد الله الصالح العثيمين مترجم الكتاب. (¬2) ورد في بعض رسائل الشيخ محمد ما يؤيد ما ذكره المؤلف، بل إنه كان بين البدو من لا يؤمن بالبعث بعد الموت. انظر: روضة الأفكار، ج1 ص (108 و 144) (العثيمين) .

هي الحال بالنسبة لكل المصلحين لم يفهم محمد بن عبد الوهاب من قبل أصدقائه ولا من قبل أعدائه (¬1) فأعداؤه حينما سمعوا بفرقته الجديدة التي تهاجم انحراف الأتراك وتنظر إلى نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بغير نظرتهم التقديسية اقتنعوا بسهولة أن عقيدة جديدة قد اعتنقت، وأن الوهابيين لذلك ليسوا مجرد ضالين بل كافرين (¬2) وقد تأكد لديهم هذا الاعتقاد أولا بخداع شريف مكة غالب، وثانيا بنذير الخطر الذي حل بكل الباشوات المجاورين (¬3) . فقد كان شريف مكة العدو اللدود لحكومة الوهابيين حريصا على توسيع شقة الخلاف بين هؤلاء وبين الإمبراطورية التركية، ولذلك نشر بمهارة متواصلة تقارير عن الوهابيين بأنهم كفار؛ ليحبط كل محاولة للتفاوض معهم (¬4) ولم يكن باشوات بغداد ودمشق والقاهرة القريبون من البدو المفزعين أقل حرصا منه على إظهار مخططات أعداء المفاسد التركية، وبالتالي العقيدة التركية، بأحلك الألوان " (¬5) . " وبالإضافة إلى ذلك كانت هناك تقارير كثيرة من الحجاج الذين ذهبوا عن طريق البحر إلى جدة ومكة، وعانوا من غطرسة الجنود الوهابيين، ولم يسمح لهم بأداء الحج أحيانا، وبعد عودتهم إلى بلادهم بالغوا في تصوير ما عانوه، ومن المؤكد أن وصفهم للوهابيين لا يمكن أن يكون محايدا، ولذلك لم يكن غريبا أن أصبح من المعتقد في الشرق عامة أن ¬

(¬1) أكثر أصدقاء الشيخ محمد قد فهموه فهما جيدا، لكن من عامة أتباعه من جهل مبادئه نوعا ما، أما أعداؤه فمنهم من فهمه لكنه حاربه عنادا، ومنهم من جهله فعارضه بناء على ما أشيع عنه خطأ (العثيمين) . (¬2) ينظر الوهابيون إلى النبي صلى الله عليه وسلم نظرة شرعية، يحبونه ويتبعونه، ولكنهم لا يصرفون إليه أي نوع من أنواع العبادة (العثيمين) . (¬3) كانت مبادئ دعوة الشيخ محمد قد وصلت إلى الحجاز قبل أكثر من أربعين سنة من تولي الشريف غالب الحكم، وكانت قد وصلت إلى هناك مشوهة عن طريق معارضيها في نجد، ووقف أشراف الحجاز منها موقفا عدائيا منذ البداية، إذ سجنوا أتباعها ومنعوهم من الحج سنين طويلة، ثم بدءوا يحاربونها عسكريا منذ سنة 1205 هـ. انظر تفاصيل ذلك في كتاب: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص (66 - 69) (الدكتور عبد الله العثيمين) . (¬4) في عهد الشريف مسعود بن سعيد - أي قبل تولي الشريف غالب الحكم بأكثر من أربعين سنة - أصدر قاضي الشرع بمكة حكما كفر فيه الشيخ محمدا وأتباعه، فمنعوا من أداء الحج سنين طويلة (العثيمين) . (¬5) من الواضح كره المؤلف للأتراك، على أن عقيدة الأتراك لا تختلف عن عقيدة غيرهم من المسلمين، فقد كانت البدع والخرافات منتشرة لديهم ولدى غيرهم على حد سواء (العثيمين) .

الوهابيين كانوا يحاولون أن يوجدوا ديانة جديدة تماما، وأنهم يعاملون الأتراك بقسوة متناهية لأنهم مسلمون، وهو اعتقاد لا ينفيه تصرف كثير من الوهابيين (¬1) على أن أصحاب هذا التصرف من البدو الذين كانوا جهلاء تماما بالإسلام قبل أن يعرفوا الوهابية، والذين لا تزال معرفتهم به غير صحيحة، ولذلك فإن المبادئ الجديدة بدت لهم ديانة جديدة، خاصة بعد أن عرفوا عادات الحجاج الأتراك وسكان المدن العرب ومبادئهم المختلفة، وقارنوها بمبادئهم الخاصة، ولم تسمح لهم روح التعصب التي غذاها رئيسهم بكل ما وسعه أن يفرقوا بين أمور لا يعرفون عنها إلا معرفة غير صحيحة، وهذا يفسر بوضوح كيف حدث أنهم كانوا يتهمون الأتراك بالكفر، وأن الأتراك بدورهم كانوا يتهمونهم بذلك، على أن قليلا من السوريين الأذكياء الذي قاموا بأداء الحج وجدوا فرصا للتحدث مع المطلعين من الوهابيين، واقتنعوا - على الأرجح - أن عقيدة البدو كانت هي عقيدة الإسلام (¬2) ومع أن آراءهم قد لا تتفق مع آراء الوهابيين في كل النقاط فقد شعروا أنه من غير الإنصاف تسميتهم كفارا، لكن شهادة مثل هؤلاء إن جسروا على أدائها دون تعريض أنفسهم لتهمة سوء إسلامهم، كانت غير مجدية أمام الصيحة العامة خاصة بعد سنة 1803 م حين ردت قوافل الحج، وتكون رأي عام بأن الوهابيين كانوا أعداء لدودين للديانة الإسلامية " (¬3) . " ومنذ أن وطد جيش محمد علي مكانته في الحجاز ولم تعد مكائد الشريف غالب ذات جدوى، وبدأت الاتصالات المباشرة مع زعماء الوهابيين وقادتهم الصغار، وعادت قوافل الحج تسير في طرقها القديمة، عرفت حقيقة الوهابيين أحسن من ذي قبل حتى في الأجزاء البعيدة من المناطق التركية، ومن المرجح أن الاحترام الذي عبر عنه أهل مكة تجاه ¬

(¬1) الدعايات المغرضة ضد هؤلاء وتكفيرهم من قبل الأشراف وغيره من الأمور التي حدثت قبل استيلائهم على الحجاز بأكثر من نصف قرن، لكن هذا الاستيلاء وما ترتب عليه من أحداث زاد من تصميم الدولة العثمانية على القضاء عليهم (العثيمين) . (¬2) يظهر المؤلف أحيانا الوهابيين وكأنهم بدو فقط، والواقع أن عماد دعوة الشيخ محمد كانوا من حاضرة نجد، خاصة في المراحل الأولى من قيام الدولة التي قامت على أساسها. (العثيمين) . (¬3) كان منع سعود بن عبد العزيز قوافل الحج من الوصول إلى مكة موجها فقط ضد أولئك الذين لم يتمشوا بما كان يراه من الحق دينيا وسياسيا، كما سيتضح فيما بعد (العثيمين) .

حكمهم القصير قد أثر بمعظمه على كل حاج استفسر عن تلك الفرقة الجديدة. وإذا تطلب الأمر دليلا آخر على أن الوهابيين مسلمون محافظون فإن كتبهم توضح ذلك، فحينما استولى سعود على مكة وزع نسخا من تلك الكتب على السكان (¬1) وأمر أن يحفظها التلاميذ في المدارس العامة، وليس فيما احتوته إلا ما لا بد لكل تركي من أن يعترف بأنه الحق، وكانت لدى سعود فكرة سيئة مؤداها أن سكان تلك المدينة نشئوا على جهل تام بدينهم، ولذلك رغب في أن يعلمهم أصوله الأولى " (¬2) . إلى أن قال: " ولا يوجد في النظام الوهابي أي مبدأ أخلاقي جديد، فقد اتخذ محمد بن عبد الوهاب القرآن والسنة دليله الوحيد، والخلاف بين فرقته وبين الأتراك السنة مهما قيل عنه هو أن الوهابيين يتبعون بدقة نفس الأحكام التي أهملها الآخرون، أو توقفوا عن مزاولتها كلية، ولهذا فإن وصف الديانة الوهابية ما هو إلا تلخيص للعقيدة الإسلامية، ولإيضاح النقاط التي تختلف فيها هذه الفرقة عن الأتراك لا بد من إعطاء قائمة بكل المفاسد التي يدان بها هؤلاء الأخيرون، ويؤيد هذا القول بقوة رأي علماء أجلاء من القاهرة، ففي خريف عام 1815م أرسل الزعيم الوهابي مندوبين إلى هذه المدينة أحدهما عالم وهابي جليل (¬3) . وقد طلب محمد علي باشا منهما أن يشرحا عقيدتهما لعلماء القاهرة الكبار، فتقابل العالم الوهابي معهم عدة مرات، وأحرز قصب السبق عليهم لأنه كان يبرهن على كل مسألة عن ظهر قلب بآية من القرآن أو حديث من السنة، وهما مما لا يمكن رده بطبيعة الحال، فأعلن أولئك العلماء أنهم لم ¬

(¬1) الكتاب الذي وزعه سعود على أهل مكة بعد دخوله إليها هو رسالة الأصول الثلاثة، وهي معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وهذه الرسالة من تأليف الشيخ محمد المطبوعة مرات عديدة، وقد أورد بوركهارت ترجمة لها جعلها من بين ملاحق كتابه هذا. (العثيمين) . (¬2) مواد لتاريخ الوهابيين لبوركهارت (13 - 17) ترجمة وهوامش الدكتور عبد الله العثيمين. (¬3) العالم الجليل المشار إليه هو عبد العزيز بن حمد بن إبراهيم من آل مشرف، وهو ابن بنت الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولد حوالي سنة 1190 هـ، وكان قاضيا في الدرعية، وآخر عمل له تولي القضاء في بلدة سوق الشيوخ العراقية حيث توفي بعد سنة 1240 هـ. انظر ترجمته في كتاب: علماء نجد خلال ستة قرون، لعبد الله البسام، مكتبة النهضة الحديثة بمكة، 1398 هـ، ج2، ص (443 - 444) (العثيمين) .

يجدوا أية بدع لدى الوهابيين، وبما أن هذا الإقرار قد صدر من العلماء المذكورين فإنه لا يرقى إليه أدنى شك، وقد وصل إلى القاهرة أيضا كتاب يشتمل على رسائل مختلفة عن موضوعات دينية كتبها محمد بن عبد الوهاب نفسه، وقرأ كثير من العلماء ذلك الكتاب، فأقروا بالإجماع أنه إذا كانت هذه هي عقيدة الوهابيين فإنهم أنفسهم يؤمنون بتلك العقيدة. ولأن العامة من المتحمسين في أية فرقة جديدة يندر أن يتشبعوا بروح مؤسسها الحقيقية فقد حدث أن كثيرا من أتباع ابن عبد الوهاب عدوا أمورا ثانوية من الأمور الأساسية في العقيدة، وهذا ما جعل أعداءهم يكونون فكرة خاطئة عما يفترضون أنها ديانة جديدة، وقد انصب هجوم الوهابيين الشديد بعد حربهم للأولياء (¬1) بصفة رئيسية على الملابس وتدخين التبغ، فملابس الأتراك الأغنياء لا تتفق إلا قليلا مع تعاليم السنة التي تحرم لبس الحرير والذهب، كما تحرم لبس الفضة إلا بكمية قليلة، وقد نظر الوهابيون إلى أثواب الأتراك المزركشة بازدراء، ولأنهم علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لبس عباءة مثلهم، وحرم الملابس الفخمة، عدوا من الضروري أن يتبعوا طريقته في اللباس كاتباعهم لمبادئه الأخلاقية، وكان يمكن معرفة الوهابيين في جزيرة العرب فورا بملابسهم، فالعربي الذي لم يعتنق دعوتهم من المؤكد أن يكون جزء من ملابسه من الحرير، إما أن يحلي به الغطاء الذي يلفه على رأسه، أو يطرز به بردته. أما تدخين التبغ فمن المعروف أن كثيرا من العلماء الأتراك قد ذكروا مرارا في كتاباتهم أنه عمل محرم، وهو مكروه في المذهب المالكي، أحد المذاهب السنية الأربعة، وكثير من العلماء في كل جزء في تركيا يمتنعون عن تدخينه على أساس ديني، وقد رغب الزعيم الوهابي أيضا في أن يمنع تدخين النباتات المسكرة المستعملة كثيرا في الشرق لمعارضة ذلك للقرآن، لكنه لم يستطع أن ينجح في هذا الأمر تماما، ولا بد أن ابن عبد الوهاب كان يعلم في الوقت نفسه أن أتباعه في تضحيتهم الكبيرة بامتناعهم عن التدخين سيصبحون بطبيعة الحال أشد أعداء لكل أولئك الذين لا زالوا منغمسين في ذلك الترف، ولم يعتنقوا دعوته بعد (¬2) ¬

(¬1) لم يحارب الوهابيون الأولياء، ولم ينكروا كراماتهم، ولكنهم حاربوا وأنكروا صرف أي نوع من أنواع العبادة لهم. انظر تفصيل ذلك في كتاب: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص (113 - 114) (العثيمين) . (¬2) حرم أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب تدخين التبغ على أساسين: أحدهما: أنه يسكر خاصة إذا دخن بعد فترة طويلة من الامتناع عن تدخينه. وثانيهما: أنه يسبب رائحة خبيثة، والخبائث محرمة بنص القرآن الكريم. انظر: مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، القاهرة 1346 هـ، ج1، ص (652) (العثيمين) قلت: أهم سبب في تحريمه ضرره المجمع عليه (الباحث) .

وكان تحريم التدخين إحدى الوسائل الرئيسية لإثارة أذهان الوهابيين ضد الأتراك، فلقد أصبح كلمة لامة لشمل المعتنقين الجدد للدعوة، لكنه ظل أصعب شيء على نفوس العرب من بين كل المبادئ التي نادى بها المصلح، وقد حرم الوهابيون الدعاء بالمسبحة، وهو أمر شائع لدى المسلمين مع أن الشرع لم ينص عليه، ومنعوا استعماله (¬1) ويقال أيضا إنهم حرموا شرب القهوة، ولكن ذلك غير صحيح إذ إنهم دائما يشربونها بقدر كبير. ومن المشكوك فيه ما إذا كانت لدى ابن عبد الوهاب حين دعا إلى الإصلاح في الدرعية أية فكرة في إنشاء حكم جديد يستظل بظله أتباعه من جزيرة العرب (¬2) فقوة أسرته وأسر أقاربه لم تكن تمكنه من اتخاذ تلك الخطوة التي يبدو أنها لم تنجح إلا في عهد عبد العزيز بن محمد بن سعود، ولا ينكر أنه كان لابن عبد الوهاب فضل كبير على العرب بدعوتهم إلى مبادئه الجديدة، كما لا يمكن أن يقال: إن شكل الحكومة التي قامت على أساس دعوته غير مفيد لمصالح الأمة العربية جميعها ورفاهيتها، أما أن العقيدة السائدة والتي يقال: إنها محافظة هي الديانة المحمدية الصحيحة أم الوهابية فأمر غير مهم، لكنه أصبح مهما أن يقضى على الشرك الذي انتشر في كل جزيرة العرب، وفي جزء كبير من تركيا، والذي ترك أثرا أكثر ضررا على أخلاق الأمة من الاعتراف المحدد بديانة خاطئة (¬3) ولهذا فإن فضيلة الوهابيين ليست أنهم طهروا الديانة الموجودة، لكن ¬

(¬1) يرى أتباع الشيخ محمد أن التسبيح باليد أفضل لأنه الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه أكثر حضورا للقلب (العثيمين) . (¬2) يبدو أن الشيخ محمدا كان يرى في بداية الأمر أن منطقة نجد هي مدار الدولة التي ستقوم على أساس دعوته، ذلك أنه حين قابل الأمير عثمان بن معمر أمير العيينة قال له: " إني أرجو إن أنت قمت بنصر لا إله إلا الله أن يظهرك الله وتملك نجدا وأعرابها "، وحين قابل الأمير محمد بن سعود بعد انتقاله إلى الدرعية قال له قولا مشابها لذلك. انظر: عنوان المجد، ج1، ص (22 و 24) (العثيمين) . (¬3) هكذا وردت العبارة، ولعل بوركهارت قصد أن يقول: إن الأثر الذي تركه انتشار الشرك أكثر ضررا من مخالفة ما جاء به الشيخ محمد من أمور خاطئة في نظر خصومه (العثيمين) .

لأنهم جعلوا العرب يزاولون بدقة الأخلاق الإيجابية لدين واحد، ذلك أنه بالرغم من أن البدو في كل زمان عبدوا الله بإخلاص فإن المبادئ الإلهية وحدها لم يكن من المعتقد أن تكفي لتعليم أمة جافة صعبة المراس مزاولة الفضيلة والعدل. ولقد دفعت رغبة ابن عبد الوهاب وخلفائه في إعادة العرب إلى الحالة التي كانوا عليها عند ظهور مؤسس ديانتهم إلى تغيير وضعهم السياسي بمجرد أن رأوا أتباعهم في ازدياد، وكان محمد صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه القادة السياسيين والدينيين لأمتهم، وتوضح كتب الفقه الإسلامي في كل صفحة من صفحاتها كيف أنه من الضروري وجود زعيم أعلى في الشئون الدينية والدنيوية، وكانت نجد التي أصبحت المركز الرئيسي للقوة الوهابية مقسمة إلى عدد من المناطق والبلدان والقرى الصغيرة المستقل بعضها عن البعض الآخر، وكانت في حالة حرب مستمرة، ولم يكن يعترف فيها خلا بقانون القوي سواء في البادية أو داخل أسوار البلدان، وكان الأمان الشخصي دائما لا يتحقق إلا على حساب الملكية الفردية (¬1) . وبالإضافة إلى ذلك كانت الحرية غير المحدودة للقبائل البدوية، وحروبها التي لا تنتهي، وغزواتها ذات السلب والنهب، قد جعلت نجدا وما حولها مسرحا للفوضى الدائمة وسفك الدماء، ولم يبسط عبد العزيز بن محمد ديانته على كل نجد إلا بعد كثير من الصراع الشديد، ولأنه لم يعد زعيم قبيلة، بل رئيس منطقة، تولى السلطة العليا، وجعل حكمه مشابها لذلك الذي زاوله الأوائل من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. وقد رأى عبد العزيز من العبث أن يحاول استرقاق بني جلدته، ولذلك تركهم ينعمون بحريتهم، لكنه أجبرهم على أن يعيشوا بسلام، وأن يحترموا الملكيات الخاصة، ويطيعوا قرارات النظام " (¬2) . ويقول أحد الرحالة الغربيين الذي سمى نفسه (علي بك العباسي) وقد حضر موسم حج سنة 1807 م، وكانت الحجاز تحت سلطة الدولة السعودية الأولى: ¬

(¬1) لم يكن الأمراء من أسرة عبد العزيز بن محمد الذي حكموا قبله زعماء قبيلة، بل كانوا أمراء لبلدة، وحين توسع حكمهم بعد اتفاقهم مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب أصبحوا أمراء لمنطقة ثم لمناطق متعددة، فآل سعود في الدرعية قبل عبد العزيز وبعده، وكانوا أمراء حاضرة. (العثيمين) . (¬2) المصدر السابق (23 - 28) .

" لم يلبث الجبل (¬1) حتى اكتسى وما حوله من الأرض بجموع الوهابيين، وكان مشهدهم يملأ النفوس ذعرا (¬2) ولكن إذا ما تغلب الإنسان على هذا الانطباع الأول وجد لديهم خصالا حميدة، فهم لا يسرقون قط، لا عن طريق القوة، ولا عن طريقة الحيلة، إلا إذا اعتقدوا أن المتاع يخص عدوا أو كافرا، وهم يؤدون أثمان كل ما يشترونه، وأجور كل الخدمات التي تقدم إليهم، بالعملة التي لديهم، يطيعون زعماءهم طاعة عمياء، ويتحملون صامتين كل أنواع المشاق، وهم على استعداد لأن يتبعوا قادتهم إلى أقصى أنحاء المعمورة. " إن الحقيقة تفرض علي أن أعترف أنني وجدت جميع الوهابيين الذين تحدثت إليهم على جانب من التعقل والاعتدال (¬3) وقد استقيت منهم كل المعلومات التي أوردوها عن مذهبهم، ولكن على الرغم من اعتدالهم لا يستطيع السكان والحجاج سماع مجرد اسمهم دون أن تتملك الرجفة قلوبهم، ولا يتلفظون به إلا همسا، لذا فإن الناس يهربون منهم، ويتجنبون التحدث إليهم قدر الإمكان، وكلما أردت التحدث إليهم كان علي أن أتغلب على كثير من الصعوبات التي يخلقها لي من يحيطون بي ". والسبب الأول في هذه العداوة أن الناس لم يفهموا للوهلة الأولى المعنى الإصلاحي لهدم المزارات وتقويض أضرحة الأولياء التي كان المؤمنون يؤدون لها واجب الإجلال، وقد كاد هذا الإجلال يتحول إلى نوع من العبادة التي لا تجب إلا لله وحده، وألغيت بعض العادات التي كان يتبعها الحجاج، كالإبقاء على خصلة من الشعر عند حلاقة الرأس وفقا للتقاليد، وحظرت زيارة بعض الأماكن المقدسة التي دخلت من قبل في تقاليد الحج، وهكذا هدم مزار جبل النور الذي تقول التقاليد إن الملاك جبرائيل أملى فيه على النبي أول سورة من القرآن، وأقيم حاجز كبير في أسفل الجبل للحيلولة دون صعود الحجاج إليه لأداء الصلاة فيه، وكذلك هدم مزار جبل عرفات نفسه. وقد طبق الوهابيون على عكس ذلك نصوص الشريعة كما وردت في القرآن الكريم تطبيقا مشددا بحماسة كلية، حتى إن أحدا من الحجاج لم يجرؤ على التدخين، وأرسل ¬

(¬1) يقصد جبل عرفات. (¬2) هذا بفعل الدعاية المضادة بدليل ما بعده. (¬3) إذن لماذا الذعر؟

سعود قاضيا وهابيا ليحل محل الحاكم الزنجي الذي كان قد عينه الشريف في مكة، ومنذ ذلك الحين ساد المدينة نظام جديد، فقد عهد إلى الشرطة الخاصة بالمحافظة على مواعيد الصلاة أن تجوب المدينة لحمل الناس على حضور الصلاة العامة خمس مرات في اليوم، وكان الصناعيون والتجار يجدون أنفسهم مضطرين إلى ترك مشاغلهم وحوانيتهم لأداء تلك الفريضة " (¬1) . ويقول ر. ب. ويندر في كتابه: " العربية السعودية في القرن التاسع عشر ": " ونحن لا نعرف إن كانت الوهابية تستطيع مواجهة عصر الذرة والفضاء، ولكن أحدا لا ينكر قيمتها وأثرها في الفكر الإسلامي الحديث، وأنها استطاعت الانتقال من " الواقعية " إلى " المثالية "، ومما كان عليه الإسلام إلى ما يجب أن يكون عليه، وبقيت محتفظة " بحيويتها " وفكرتها التحريرية. ويقول المستشرق الفرنسي هنري لاوست بعد أن ذكر حركة الأفغاني ومحمد عبده: " ويطلق لقب السلفية أيضا على الحركة الوهابية؛ لأنها أرادت إعادة الإسلام إلى صفائه الأول في عهد السلف الصالح، ولكن كلمة السلفية ليست خاصة بالوهابيين أو الحنابلة، ففي كل المذاهب السنية سلفيون " (¬2) . وكتبت (معلمة الإسلام) في نسختها الإنكليزية، تحت عنوان " الوهابية " ما يلي: " غاية الوهابية تطهير الإسلام، وتجريده من البدع التي أدخلت عليه بعد القرن الثالث الهجري، ولذلك نراهم يعترفون بالمذاهب الأربعة وبكتب الحديث الستة " (¬3) . ويقول الكاتب الأمريكي لوثروب ستودارد في كتابه (حاضر العالم الإسلامي) : " في القرن الثامن عشر كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ، ومن التدني والانحطاط أعمق درجة، فاربد جوه، وطبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه ورجا من أرجائه، وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب، وتلاشى ما كان باقيا من آثار التهذيب العربي، واستغرقت الأمم الإسلامية في اتباع الأهواء والشهوات، وماتت الفضيلة في الناس، وساد الجهل، وانطفأت قبسات العلم الضئيلة ". ¬

(¬1) اكتشاف جزيرة العرب لجاكلين بيرين (202، 203) . (¬2) تاريخ البلاد العربية السعودية للعجلاني (1) . (¬3) تاريخ البلاد العربية السعودية للعجلاني (1) .

إلى أن قال: " وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة الناس سجفا من الخرافات وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عديد الأدعياء الجهلاء وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان، يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، ويوهمون الناس بالباطل والشبهات، ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور، وغابت عن الناس فضائل القرآن، فصار يشرب الخمر والأفيون في كل مكان، وانتشرت الرذائل، وهتكت ستر الحرمات على غير خشية ولا استحياء، ونال مكة المكرمة والمدينة المنورة ما نال غيرها من سائر مدن الإسلام، فصار الحج المقدس الذي فرضه النبي على من استطاعه ضربا من المستهزآت، وعلى الجملة فقد بدل المسلمون غير المسلمين، وهبطوا مهبطا بعيد القرار، فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر ورأى ما كان يدهى الإسلام لغضب وأطلق اللعنة على من استحقها من المسلمين، كما يلعن المرتدون وعبدة الأوثان (¬1) . وفيما العالم الإسلامي مستغرق في هجعته ومدلج في ظلمته إذ بصوت قد يدوي من قلب صحراء شبه الجزيرة مهد الإسلام، يوقظ المؤمنين ويدعوهم إلى الإصلاح والرجوع إلى سواء السبيل والصراط المستقيم، فكان الصارخ هذا الصوت إنما هو المصلح المشهور (محمد بن عبد الوهاب) الذي أشعل نار الوهابية، فاشتعلت واتقدت واندلعت ألسنتها إلى كل زاوية من زوايا العالم الإسلامي، ثم أخذ هذا الداعي يحض المسلمين على إصلاح النفوس واستعادة المجد الإسلامي القديم والعز التليد، فتبدت تباشير صبح الإصلاح، ثم بدأت اليقظة الكبرى في عالم الإسلام. إلى أن قال: " فالدعوة الوهابية إنما هي دعوة إصلاحية خالصة بحتة، غرضها إصلاح الخرق، ونسخ الشبهات، وإبطال الأوهام، ونقض التفاسير المختلفة والتعاليق المتضاربة التي وضعها أربابها في عصور الإسلام الوسطى، ودحض البدع وعبادة الأولياء، وعلى الجملة هي الرجوع على الإسلام، والأخذ به على أوله وأصله، ولبابه وجوهره، أي أنها الاستمساك بالوحدانية التي أوحى الله بها إلى صاحب الرسالة صافية ساذجة، والاهتداء والائتمام بالقرآن المنزل مجردا، وأما ما سوى ذلك فباطل وليس في شيء من الإسلام، ويقتضي ذلك الاعتصام كل ¬

(¬1) لو أن فيلسوفا نقريسا من فلاسفة الإسلام، أو مؤرخا عبقريا بصيرا بجميع أمراضه الاجتماعية، أراد تشخيص حالته في هذه القرون الأخيرة ما أمكنه أن يصيب المحز، وأن يطبق المفصل تطبيق هذا الكاتب الأمريكي ستودارد (تعليق: شكيب أرسلان) .

الاعتصام بأركان الدين وفروضه وقواعد الآداب كالصلاة والصوم وغير ذلك " (¬1) . ويقول المستشرق الهولندي كرستيان سنوك هود خرونيه: " لقد ظهر على أرض شرق الجزيرة العربية مصلح للإسلام (¬2) كسب إلى جانبه أمراء (¬3) الدرعية، الذين ساندوه في دعوته، ثم تدريجيا منت بدعوته كل مراكز الجزيرة العربية، لقد كان هذا المصلح ينوي أن يعيد الحياة للإسلام بكل ما لديه من قوله، ليس في الجزيرة وحدها، بل في كل مكان يستطيع الوصول إليه " (¬4) . إلى أن قال: " لقد كانت السمة التي تميز بها محمد بن عبد الوهاب كونه عالما تثقف بالعلوم الإسلامية، وفهم مقاصدها وأسرارها، واستطاع بجدارة تامة أن يبرز الإسلام بالصورة الصالبة النقية، كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ". وقال: " لقد أدرك محمد بن عبد الوهاب الاختلاف بين الإسلام كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والإسلام الذي يمارسه الناس في عصره " (¬5) . ثم قال: " لقد التزم الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالدعوة إلى الإصلاح، وجعله هدف دعوته، وكان رائده الإخلاص في القول والعمل، وقد سخر لذلك لسانه وقلمه بجانب قوة ابن سعود وسيفه الذي تبنى هذه الحركة الإصلاحية ودعمها، لقد كانت مدرسة الإمام أحمد بن حنبل هي التي رفع لواءها الشيخ، وجعلها أساسا فكريا للإصلاح، وربما تكون هذه المدرسة أكثر المدارس بساطة وقربا من قلوب السكان، الذين يعيش معظمهم في جهل مطبق، مماثل للجهل الذي كان سائدا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، غير أن هؤلاء السكان لم يكونوا أقل انفتاحا من ذي قبل أمام تأثير دين بسيط ميسر، يثبت كل يوم وعن طريق الوسائل المادية أنه يعمل بصفته قوة مؤثرة وحافزة. لقد كانت العدالة البسيطة المصحوبة بالقوة عند أمراء آل سعود - حماة الدعوة السلفية -، وأيضا النجاح الباهر الذي أحرزوه، والغنائم الوفيرة التي كانت توزع على الأتباع، قد أثارت الميل إليهم في مواقع معينة، والخوف منهم في مواقع أخرى، وفي غضون سنوات قلائل نمت ¬

(¬1) حاضر العالم الإسلامي ترجمة عجاج نويهض، تعليق: شكيب أرسلان. (¬2) هو الإمام محمد بن عبد الوهاب. (¬3) هو الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى ونصير الدعوة. (¬4) صفحات من تاريخ مكة (253، 254) . (¬5) صفحات من تاريخ مكة (256، 257) .

الدولة السعودية لتصبح القوة الرئيسة في جزيرة العرب. لقد قدر العالم فرصة قليلة لنجاح الدعوة السلفية، وربما كان تقدير سكان المدينتين المقدستين لنجاح هذه الحركة أقل من غيرهم؛ لأن ما كانت الدعوة الإصلاحية تقوم عليه وتطالب بإلغائه كان من بين متطلبات الحياة عند سكان المدينتين المقدستين، فالقبور والأضرحة والبيوت المقدسة كانت تجلب الأموال والفوائد للأدلاء والسدنة، والرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يتغنى باسمه في كل عيد بأغاني المديح تعد زيارة قبره في المدينة من أكبر الحظوظ، إن كل هذه الأمور تبدو على عكس ما يراه زعماء الإصلاح الجدد، الذين كانوا يرون أن معظم الجاليات الإسلامية في مكة والجنود وكذلك الرعاع تنتاب حياتهم الكثير من البدع، وأن بعض العلماء هنا يتساهل في قبول مثل هذه الأمور البدعية " (¬1) . يقول المستشرق الأسباني " أرمانو " الذي طاف عام (1921) في أنحاء نجد: " إن كل ما ألصق بالوهابية من سفاسف وأكاذيب لا صحة له على الإطلاق، فالوهابيون قوم يريدون الرجوع بالإسلام إلى عصر صحابة " محمد " صلى الله عليه وسلم، وإنما ينقصهم للوصول إلى أهدافهم المقدسة رجال متنورون مثقفون، وهم ويا للأسف قلائل في هذه الديار، كما تنقصهم أيضا الدعاية لأجل إظهارهم على حقيقتهم البريئة الشريفة " (¬2) . ويقول أحد المعاصرين المحايدين، وهو ولي العهد لولاية برليس بماليزيا: حيث قرأ ترجمة كتاب " مجموع رسائل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب " فقال: " وقرأت تلك الترجمة ووجدت أن ما فيها كله مستدل بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، ووجدت أن محمد بن عبد الوهاب في كتابه دعانا إلى توحيد الله والابتعاد عن الشرك والخرافات، وهل مثل هذه التعاليم خطأ ويؤدي إلى الخلاف والتفرقة؟ وأنا أرى أن من قرأ الكتاب سيجد الشيخ أراد أن نفرق بين الحق والباطل وبين الهداية والضلالة " (¬3) . ¬

(¬1) صفحات من تاريخ مكة (258، 259) . (¬2) كتاب " الإسلام " للمستشرق الإيطالي (ليبرتيني) نقلا عن كتاب بين الديانات والحضارات لطه المدور (142) . (¬3) مقتطفات من كلمة ولي عهد ولاية (برليس) بماليزيا في دورة تدريبية لمعلمي اللغة العربية والثقافة الإسلامية التي أقامتها الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية عام (1415 هـ) مناولة الدكتور عبد الله بن محمد الطريقي.

المبحث الخامس استطلاع آراء نخبة من طلاب العلم والخريجين من شتى بلاد العالم

[المبحث الخامس استطلاع آراء نخبة من طلاب العلم والخريجين من شتى بلاد العالم] المبحث الخامس استطلاع آراء نخبة من طلاب العلم والخريجين من شتى بلاد العالم من خلال هذا البحث وفي أثنائه قمت باستطلاع آراء عدد من طلاب العلم والباحثين وخريجي الجامعات وحملة الماجستير والدكتوراه بطرح عدد من الأسئلة المتنوعة حول هذه الدعوة وتسميتها بالوهابية، والأصول التي قامت عليها، وعن واقعها وأثرها في العالم كله، وعن الشبهات التي تثار حولها وجوابها، وعن الملاحظات التي يراها المشارك في هذه الاستبانة على الدعوة وأتباعها وعما لديه من نصائح واقتراحات ووصايا. وقد قمت بتوزيع الاستبانة عشوائيا دون انتقاء للأسماء والأشخاص ولا البلدان ولا الفئات ولا المؤسسات ولا الجامعات، كما أن أكثر هذه النخبة هم من طلاب المنح في الجامعات السعودية وكثيرون من غيرهم. وكان حرصي على استطلاع آراء هذه النوعية لأنهم تتوافر فيهم صفات مطمئنة من الثقافة الشرعية والبحث العلمي، واستقلالية الرأي، والنضج الفكري والعقلي، وأقرب إلى التجرد والإنصاف، وأقدر على معرفة حقيقة الدعوة. ونظرا لما قد يشعر به البعض من الحرج أو العوائق التي قد تمنع من كشف كامل الحقيقة التي يراها من يجيب على هذه الاستبانة، كان ذكر الاسم اختياريا، ولذلك وردت عدة إجابات دون ذكر الأسماء. وقبل أن أعرض نتائج الاستبانة في الملحق ينبغي أن أشير إلى خلاصة نتائجها بإجمال: 1 - كانت الإجابات عن السؤال الأول: ماذا تعرف عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو ما يسمى (الوهابية) كلها تجمع على معرفة الشيخ ودعوته، وتختلف فيما بعد ذلك، فأكثر الإجابات ركزت على أوصاف الدعوة، أو أصولها، أو أهدافها، أو بعض ذلك. 2 - وكان السؤال الثاني عن الرأي بهذه التسمية: (الوهابية) ، وكانت أغلب الإجابة على أن وصف الدعوة بالوهابية غير مرغوب فيه وليس صحيحا، وأنها جاءت من الخصوم على سبيل اللمز والسخرية، وعدد قليل قال بأنه لا يمانع من إطلاقها لأنها أصبحت علما على دعوة الإسلام والسنة، ولا عبرة بالمصطلحات والألفاظ ما دامت المضامين صحيحة.

3 - والسؤال الثالث كان: هل هذه الدعوة معروفة ببلدك؟ وبماذا تسمى؟ وكانت سائر الإجابات تذكر أنها معروفة في كل بلد من البلاد التي ينتمي إليها المشاركون، وعددها (34) بلدا عدا (بنين ويوربا) لا تعرف فيها الدعوة، حسب إفادة كاتبي الاستبانة، وهما واحد من كل بلد من هذين البلدين. وتذكر الإجابات أن الدعوة تسمى بالوهابية، والسنة، والسلفية، وأهل الحديث، وأهل السنة، وتطلق على كل من يتمسك بالسنن، ويحارب البدع ويتجنبها، أو يدعو لذلك، وتسمى بالخامسية، ونحو ذلك مما سيأتي تفصيله بعد قليل، وأغلب الإجابات تذكر أنها تقال على سبيل السخرية والسب واللمز. 4 - وكان السؤال الرابع: (هل ترضى أن تنسب لهذه الدعوة، أو أن يقال عنك: (وهابي) ؟) . فكانت أكثر الإجابات على أن الانتساب لهذه الدعوة مرغوب فيه وشرف؛ لأنها دعوة الإسلام والسنة، لكن دون الارتباط بوصف (الوهابية) فهذا غير مرغوب فيه؛ لأنه سب ولمز يحمل مفاهيم خاطئة عن الدعوة في أذهان الناس. وبعضهم قال: لا مانع من الانتساب (للوهابية) بهذا الوصف؛ لأن العبرة بالمضامين، ولأنها اشتهرت وصفا لهذه الدعوة السلفية، ولا مشاحة في الاصطلاح. 5 - والسؤال الخامس عن (أهم الأصول التي قامت عليها الدعوة في نظرك) . وقد اتفقت غالب الإجابات على أن الدعوة هي الدين الحق الإسلام، وأنها تعتمد على القرآن والسنة، ونهج السلف الصالح، وأنها تمثل أهل السنة والجماعة ونحو ذلك، وما عدا ذلك تفاوتت الإجابات في تعداد أصول الدعوة، وكان أهمها أنها سلفية إصلاحية تجديدية، تدعو للتوحيد ومحاربة الشركيات، ونحو ذلك مما سيأتي ذكره تفصيلا خلال الصفحات التالية. 6 - والسؤال السادس: عن (أهم المزاعم والشبهات والمفتريات التي يقولها الناس عن هذه الدعوة أو " الوهابية ") . وكانت أكثر الإجابات تقول بأن الناس يشيعون أن الوهابية مجسمة، وأنهم لا يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يحبون الأولياء، ويحرمون التبرك بهم وزيارتهم، وأنها خارجة عن المذاهب الأربعة المعتبرة عند المسلمين، أو (مذهب خامس) وأن أتباعها فيهم غلو وتشدد ونحو ذلك،

والملاحظ أن الاستبانات تبين أن ما يثار عن الاتهامات والشبهات كان يوجه لأتباع الدعوة غالبا وليس للدعوة نفسها. 7 - وكان السؤال السابع عن رأي المشارك في هذه المزاعم. فكانت الإجابات كلها تعتبر التهم التي قيلت حول الدعوة غير صحيحة، ثم تفاوتت التعابير حول وصفها، ومن ذلك: أنها أباطيل ولا تستند إلى دليل، وكذب وبهتان، وبعضهم علل هذه الاتهامات بأنها بسبب الجهل بالدعوة وسوء الفهم أبعد الناس عن دينهم، أو بسبب سوء تصرفات بعض المنتسبين والمؤيدين للدعوة الخاطئة، ونحو ذلك. 8 - وكان السؤال الثامن عمن تأثروا بهذه الدعوة. وكانت الإجابات يتفق الكثير منها على أن أبرز الفئات التي تأثرت بهذه الدعوة في العصر الحاضر الشباب، والطبقات الفقيرة والمتوسطة، والمتعلمون، وخريجو الجامعات، وكذلك من المؤسسات والجامعات كأنصار السنة، وجماعات أهل الحديث، وأهل السنة، والسلفية، ومحاربو البدع. وقد اتفقت غالب الإجابات على أن هذه الدعوة لا تزال متنامية ويزداد قبولها، وأنها لو سلمت من تجاوزات وأخطاء بعض المنتسبين إليها لكان لها شأن أعظم وأثر أكبر. 9 - وكان السؤال التاسع عن مدى تأثير هذه الدعوة في بلاد المجيب عن الاستبانة، أو غيرها. فقد اتفقت سائر الإجابات على وجود الأثر الإيجابي للدعوة، وعلى بعض الأصول الكبرى والغايات العامة التي تحققت بسبب هذه الدعوة، ومن ذلك الاعتصام بالكتاب والسنة، ونشر العلوم الشرعية، وتصحيح العقائد والشعائر، واضمحلال البدع، والاعتزاز بالأحكام والشعائر الإسلامية، وانتشار الحجاب، وكثرة المدارس والمساجد والمراكز والمؤسسات الدعوية والتعليمية، وغير ذلك مما سيأتي تفصيله. 10 - وكان السؤال العاشر عن المخالفين لهذه الدعوة من الأفراد والمؤسسات والهيئات ونحوها. وكانت الإجابات صريحة غالبا، وغير دقيقة في بعض الأحيان، وحدث فيها شيء من الخلط أو سوء الفهم أحيانا كذلك، ونظرا لأن الإجابة تضمنت ذكر أشخاص وهيئات ومذاهب وجماعات وفرق وطوائف قائمة، رأيت أنه ليس من الحكمة نشرها لأنها تحتاج إلى تثبت، وتنطلق من آراء شخصية يختلف الناس

عليها كثيرا، فآثرت الاحتفاظ بالمعلومات وعدم نشرها. 11 - والسؤال الحادي عشر كان عن (الاقتراحات والوصايا) التي يراها المجيبون عن هذه الأسئلة. وقد تضمنت الإجابات اقتراحات ووصايا قيمة ومتنوعة ومفيدة جدا، واتفق كثير منها على أهمية وصية أتباع الدعوة ودعاتها بالرفق والحكمة والحلم والصبر والحوار، والمجادلة بالتي هي أحسن، والتعاون والإحسان، والابتعاد عن أساليب الشدة والجفاء والتسرع. ونعرض تفاصيل الإجابات في ملحق قبل الفهارس.

الفصل الخامس في آثار الدعوة ما يرد على الخصوم

[الفصل الخامس في آثار الدعوة ما يرد على الخصوم] [المبحث الأول كلمة حول آثار الدعوة الإصلاحية وثمارها إجمالا] الفصل الخامس في آثار الدعوة ما يرد على الخصوم المبحث الأول كلمة حول آثار الدعوة الإصلاحية وثمارها إجمالا حين قامت هذه الدعوة المباركة على أسس الدين الحق، وقواعد الملة الحنيفية، واعتمدت على الوحي المعصوم (كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) ، وسلكت سبيل المؤمنين - السلف الصالح أهل السنة والجماعة -، فأعلنت راية التوحيد، ورسخته في القلوب، وأزالت مظاهر الشرك والبدعة، وحكمت بشرع الله تعالى، شاع بذلك الأمن والعدل والألفة، وانتشر العلم، واختفت مظاهر الظلم والشتات والجهل والبدعة والخرافة. نعم لقد آتت هذه الدعوة المباركة أكلها طيبة يانعة، وتحقق فيها وعد الله تعالى حين ارتكزت على الكلمة الطيبة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ - تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 24 - 25] [سورة إبراهيم، آية: 24، 25] . وتحقق لأهلها ما وعد الله تعالى به عباده المتقين كما قال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41] [سورة الحج، آية: 40، 41] . وإن عناية هذه الدعوة وأتباعها ودولتها بإعلاء كلمة التوحيد، ونفي الشركيات والبدع، وبإقامة الصلاة، وصوم رمضان، وإيتاء الزكاة، وحج البيت الحرام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، هي أعظم سماتها التي تتسم بها إلى اليوم، وهي أعظم ما ينقمه عليها الخصوم وأهل الأهواء والشهوات {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8] [سورة البروج، آية: 8] . لقد كانت لهذه الدعوة المباركة آثار عظيمة وكبيرة غيرت معالم التاريخ، وعدلت مسار الحياة في الأمة الإسلامية كلها في جميع نواحي الحياة الدينية والعلمية والسياسية والاجتماعية وغيرها. ولم يقتصر أثرها الطيب على جزيرة العرب (ونجد بخاصة) التي ارتفعت في

ربوعها راية التوحيد خفاقة، وعلت فيها معالم السنة، وزالت آثار البدعة والفرقة والجهل، وساد فيها الأمن والوفاق، بل تجاوز أثرها إلى بقية أقاليم الجزيرة العربية وإلى سائر أقطار المسلمين، فقام علماء ومصلحون، وقامت دعوات وحركات تسير على نهج هذه الدعوة السلفية النقية الصافية في الحجاز وعسير واليمن والشام والعراق ومصر والمغرب والسودان، وكثير من البلاد الأفريقية، وفي باكستان وأفغانستان والهند والبنغال وجاوة وسومطرة، وسائر الجزر الإندونيسية وغيرها. وكان من أبرز ثمار هذه الدعوة قيام دولة إسلامية قوية مهيبة احتلت موقعا مرموقا بين دول العالم كله والعالم الإسلامي بخاصة، هي (دولة آل سعود) منذ أن ناصر مؤسسها إمام الدعوة وآزره على إعلاء كلمة الله، فقد كتب الله لها التمكين، وأعلنت التوحيد، وحكمت بشرع الله تعالى، ومع ما تعرضت له هذه الدعوة والدولة من تحديات كبيرة وخصوم أشداء إلا أنها كانت تنتصر في النهاية. لقد تعرضت الدعوة والدولة (السعودية) في مراحلها الأولى لضربات موجعة، لكنها كانت - حين قامت على التوحيد والدين والعدل والسنة - لا تلبث أن تنهض قوية فتية لأنها كانت تسكن القلوب، وقد ذاق الناس في حكمها طعم الإيمان والأمن والعلم والاجتماع. ولا يزال الأنموذج الحي للدعوة ودولتها قائما - بحمد الله - تحتله هذه البلاد المباركة (المملكة العربية السعودية) التي أرسى قواعدها الملك عبد العزيز طيب الله ثراه على الأسس المتينة التوحيد والشرع والعلم، وبناء دولة حديثة تجمع بين الأصالة في تحكيم شرع الله وحمايته والدعوة إليه وتعظيم شعائره وخدمة مشاعره، وبين المعاصرة بالأخذ بأسباب القوة والنهضة والرقي من غير إخلال بالدين والفضيلة. ونسأل الله لهذه الدعوة وهذه الدولة المزيد من التمكين والنصر والتوفيق، وأن يجمع بها كلمة المسلمين على الحق والسنة. وهذه الآثار الطيبة والثمار البالغة الممتدة طيلة قرنين ونصف هي الرد العملي والعلمي، الشرعي والمنطقي والواقعي على مفتريات الخصوم، ففي الحال ما يغني عن المقال، لكن حين عميت أبصار أهل الأهواء وبصائرهم عن إدراك الحقيقة والاعتراف بها، وحين حجبت الحقائق عن الجاهلين، كان لا بد من تجلية الحقيقة، والله المستعان.

المبحث الثاني أبرز الآثار المباركة والثمار الطيبة للدعوة تفصيلا

[المبحث الثاني أبرز الآثار المباركة والثمار الطيبة للدعوة تفصيلا] [تحقيق العبودية لله تعالى وحده] المبحث الثاني أبرز الآثار المباركة والثمار الطيبة للدعوة تفصيلا أشرت في أول هذا الكتاب إلى شيء من ذلك في بواعث قيام الدعوة وأهدافها الكبرى، فإن البواعث والغايات والأهداف إذا تحققت صارت ثمارا وآثارا، ومن ذلك: 1 - تحقيق العبودية لله تعالى وحده: تحرير العبادة لله تعالى وحده، وتحصيل الغاية العظمى من خلق الخلق، ومن بعث الرسل كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] [سورة النحل، آية: 36] . فقد نجحت هذه الدعوة المباركة في تحقيق هذه الغاية العظيمة والمطلب السامي في كل من تأثر بها، وفي كل بلاد وصلت إليها، من توجيه قلوب العباد وأعمالهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، وتعظيم الله تعالى بأسمائه وصفاته، وأن لا يعبد الله تعالى إلا بما شرعه الله، وبما سنه رسوله صلى الله عليه وسلم. [نشر السنن ومحاربة البدع] 2 - نشر السنن ومحاربة البدع: لقد استطاعت هذه الدعوة المباركة أن تعلي السنن وتنشرها اعتقادا وقولا وعملا، وأن تحارب البدع والشركيات وتحذر منها ومن وسائلها، كما تمكنت من إزالة مظاهر البدع والشركيات في كل بلد وصلت إليه دولتها، من المشاهد والمزارات والقباب وبدع المقابرية والصوفية والتشيع والبدع الكلامية والفلسفية، وسلمت من أوضار الشعارات القومية والفكرية والسياسية ونحوها. [التزام نهج السلف الصالح وإظهاره] 3 - التزام نهج السلف الصالح وإظهاره: لقد نجحت هذه الدعوة في التزام سنة النبي صلى الله عليه وسلم ونهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان كالأئمة الأربعة وأهل الحديث وسائر علماء الأمة المهتدين، والاقتداء بسيرتهم، والاهتداء بهديهم، واقتفاء آثارهم، دون غلو ولا تفريط. [تحرير مصادر الدين] 4 - تحرير مصادر الدين: وذلك بالعودة إلى مصادر الدين الحق، والمعين الصافي (القرآن والسنة) ، ونهج السلف الصالح، وتنقية مصادر التلقي مما أحدثه أهل البدع والأهواء والافتراق من المحدثات،

تحرير منهج الاستدلال

والاعتماد على أوهام العقول، وآراء الرجال، والأحلام، والكشوف، والأذواق، والأحاديث الموضوعة، والحكايات، ودعاوى العصمة لغير الرسول صلى الله عليه وسلم، والتقليد الأعمى، ونحو ذلك مما جعله أهل البدع وسائل وذرائع ومصادر لمبتدعاتهم. فقد أعادت هذه الدعوة المباركة الأمة إلى الاعتماد على الوحي المعصوم، بعيدا عن الفلسفات والكلاميات والخرافات والتخرصات والأهواء. [تحرير منهج الاستدلال] 5 - تحرير منهج الاستدلال: كما أعادت هذه الدعوة إلى الأمة المنهج السليم في الاستدلال، منهج السلف الصالح المتمثل بالاستدلال بالقرآن والسنة الثابتة، ورد النصوص بعضها إلى بعض، واعتماد فهم الصحابة وأئمة السلف وآثارهم علما وعملا، واعتماد قواعد الاستدلال المعتبرة عند العلماء الراسخين، ومجانبة مناهج أهل الأهواء والافتراق والبدع التي تقوم على الاستدلال حسب الأهواء والأوهام والظنون، والتخرصات والفلسفات وتحريف النصوص، والكذب والوضع، والتقليد الأعمى، والتأويلات الفلسفية والباطنية، ونحو ذلك. [نشر العلم ومحاربة الجهل] 6 - نشر العلم ومحاربة الجهل: قامت أسس الدعوة على تعليم كتاب الله تعالى، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وآثار السلف الصالح، وتعليم جميع المسلمين (رجالا ونساء) ضروريات الدين، وتشجيع طلاب العلم على التعمق في العلوم الشرعية والفقه في الدين، في التفسير والحديث والعقيدة، والفقه وأصوله، والعربية وعلومها، والفرائض، وغيرها من العلوم النافعة. [الإسهام في النهضة العلمية الحديثة] 7 - الإسهام في النهضة العلمية الحديثة: لقد حركت هذه الدعوة المباركة الساكن، وأسهمت في تنشيط العلوم النافعة، وتحريك النهضة العلمية، والمؤلفات والرسائل والردود والمناظرات، والشعر والخطابة، وسائر العلوم والفنون المشروعة. [إظهار شعائر الدين والفضائل وحمايتها] 8 - إظهار شعائر الدين والفضائل وحمايتها: أظهرت الدعوة الاعتزاز بالدين، وإعلان شعائره من البراءة من الشرك والبدع، وإظهار التوحيد والسنن، وفي إقامة الصلاة وسائر أركان الإسلام على السنة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإعلان الفضائل، وكبت الرذائل والفواحش، والقيام بواجب الدعوة والجهاد، والعدل والإحسان، وإقامة الحدود.

إقامة دولة مسلمة ومجتمع مسلم

[إقامة دولة مسلمة ومجتمع مسلم] 9 - إقامة دولة مسلمة ومجتمع مسلم: تحقق على يد هذه الدعوة ما كان يراه كثير من الناس من الأحلام والمثاليات التي لا يمكن تحقيقها بعد القرون الفاضلة، وهو إقامة دولة مسلمة، ومجتمع مسلم يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وقد تحقق هذا الحلم، فقد قامت دولة إسلامية ومجتمع مسلم على التوحيد والسنة، يطبق شرع الله ويقيم حدوده في سائر نواحي الحياة الفردية والجماعية، يسوده الدين والفضيلة والأمن والعدل، وذلك في كل المراحل التي كان للدعوة فيها كيان ودولة منذ عهد الإمامين المؤسسين (محمد بن عبد الوهاب، ومحمد بن سعود) إلى يومنا هذا. [تحقيق الجماعة الشرعية والطاعة] 10 - تحقيق الجماعة الشرعية والطاعة: أقامت الدعوة ما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم من الجماعة والطاعة، وهو إقامة أمة مسلمة تجتمع على السنة، ويجتمع أفرادها ومجموعاتها على أهل الحل والعقد من العلماء والأمراء، ومن لهم حق الطاعة والرأي والمشورة منهم، وعلى الولاة الذين ولاهم الله أمرهم، وبيعتهم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والسمع والطاعة لهم بالمعروف في غير معصية الله، وتحريم الخروج على الوالي وعدم منازعته ما لم يروا كفرا بواحا عندهم عليه من الله برهان، وبهذا المنهج الشرعي السلفي الأصيل تحقق جمع الشمل وتوحيد الكلمة، والتناصح بين الراعي والرعية. [تثبيت الأمن] 11 - تثبيت الأمن: لقد شهد الواقع (بحمد الله) أنه كلما تمكنت الدعوة في بلاد وصار لها سلطان عليها نشرت الأمن والاستقرار، والأمن شرط لحفظ الضرورات الخمس التي جاء الدين برعايتها وهي: الدين، والعقل، والنفس، والنسل، والمال، وأكبر عوامل الأمن في بلاد الدعوة (المملكة العربية السعودية) غرس التدين في قلوب الناس على نهج سليم، وتطبيق الشريعة، لا سيما الحدود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة العدل بالقضاء الشرعي، ونحو ذلك مما هو من ركائز هذه الدعوة المباركة. [تحرير العقول والقلوب والنفوس] 12 - تحرير العقول والقلوب والنفوس: إن الدعوة نشرت الدين والسنة، والدين والسنة يحرران العقول من الأوهام

تحكيم شرع الله حتى كان الدين كله لله

والظنون والتيه والخرافة والضلالة، ويحرران القلوب من العبودية لغير الله، ومن التعلق بغير الله، ويحرران النفوس من الشقاء والقلق والتعاسة. [تحكيم شرع الله حتى كان الدين كله لله] 13 - تحكيم شرع الله حتى كان الدين كله لله: كلما تمكنت الدعوة من بلد عملت فيه بشرع الله تعالى في سائر أمور الحياة، وعملت على هيمنة الدين الحق على جميع أحوال الناس، وجميع مناحي الحياة دون التفريق المبتدع بين الدين والدولة، أو بين الدين والسياسة، أو بين الدين والحياة الدنيا. [إقامة الحجة على الناس] 14 - إقامة الحجة على الناس: بالأنموذج الذي عرضته هذه الدعوة من خلال علمائها وأتباعها ودولتها، ومن خلال مؤلفاتها ومحاورتها ورسائلها وإعلامها، ومن خلال تجربتها الحية في الدين والمجتمع والدولة وبسائر أحوالها، بهذا الأنموذج قامت الحجة على الخلق كلهم، على المسلمين المجانبين للسنة والمعرضين عن شرع الله، وعلى غير المسلمين، فقد تحقق فيهم وعد الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم: " «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين. . .» " الحديث (¬1) وإعلان شعيرة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله. [إلغاء مظاهر الجاهلية وأعمالها] 15 - إلغاء مظاهر الجاهلية وأعمالها: حين تمكنت الدعوة في أغلب جزيرة العرب، وصار لها كيان في مراحل الدولة السعودية، والتي استقرت فيما يسمى الآن (المملكة العربية السعودية) ، ألغت ومحت بالسنة والشريعة السمحة كل مظاهر الجاهلية التي سادت بعد القرون الفاضلة، من العصبية القبلية، والأعراف والتقاليد العشائرية، والحروب والمنازعات، والفرقة والشتات، والظلم والعدوان وقطع الطريق، والإعراض عن الدين والعلم. ¬

(¬1) رواه البخاري (3640) (3641) ، ومسلم (1920) .

المبحث الثالث استعراض بعض النقول والشهادات عن آثار الدعوة

[المبحث الثالث استعراض بعض النقول والشهادات عن آثار الدعوة] المبحث الثالث استعراض بعض النقول والشهادات عن آثار الدعوة حين أردت عرض نتائج الدعوة وآثارها وثمارها الطيبة على جميع المستويات وجدت أن أغلب فصول هذا الكتاب ومباحثه تؤكد على هذه الحقيقة، أعني أنه من خلال بيان غايات الدعوة ومنهجها، وعرض أقوال إمامها وعلمائها ومواقفهم، وعرض شهادات النخبة من العلماء والمفكرين من المسلمين وغير المسلمين، وتزكيتهم لهذه الدعوة، من خلال ذلك وغيره مما ورد في ثنايا الكتاب تتجلى الثمار الطيبة والآثار المباركة للدعوة، لذا اقتصرت في هذا الفصل على ذكر آثار الدعوة مجملة، وذكر نماذج من وصف هذه الآثار من أئمة الدعوة ومن غيرهم. وأول ذلك وصف أحد علماء الدعوة وهو الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن مذكرا أتباع هذه الدعوة، وما أنعم الله عليهم به في الدين والدنيا: " وقد من الله عليكم - رحمكم الله - في هذا الزمان الذي غلبت فيه الجهالات، وفشت بين أهله الضلالات، من يجدد لكم أمر هذا الدين، ويدعو إلى ما جاء به الرسول الأمين، من الهدى الواضح المستبين، وهو شيخ الإسلام والمسلمين، ومجدد ما اندرس من معالم الملة والدين، الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، فبصر الله به من العماية، وهدى بما دعا إليه من الضلالة، وأغنى بما فتح عليكم وعليه من العالة، وحصل من العلم ما يستبعد على أمثالكم في العادة حتى ظهرت المحجة البيضاء، التي كان عليها صدر هذه الأمة وأئمتها في باب توحيد الله، بإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، والإيمان بقدره وحكمه في أفعاله، فإنه قرر ذلك. وتصدى - رحمه الله - للرد على من نكب عن هذا السبيل على اختلاف نحلهم وبدعهم، متبعا - رحمه الله - ما مضى عليه السلف الصالح من أهل الإيمان، وما درج عليه القرون المفضلة بنص الحديث، ولم يلتفت - رحمه الله - إلى ما عدا ذلك، فوضح معتقد السلف الصالح بعدما سفت عليه السوافي، وذرت عليه الذواري، وندر من يعرفه من أهل القرى والبوادي، إلا ما كان مع العامة من أصل الفطرة، فإنه قد يبقى ولو في زمن الغربة والفترة، وتصدى أيضا للدعوة

إلى ما يقتضيه هذا التوحيد ويستلزمه، وهو وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة، والبراءة من عبادة كل ما عبد من دون الله. وقد عمت في زمنه البلوى بعبادة الأولياء والصالحين وغيرهم، وفي كل مصر من الأمصار، وبلد من البلدان، وجهة من الجهات، من الآلهة والأنداد لرب العالمين ما لا يحصيه إلا الله على اختلاف معبوداتهم، وتباين اعتقاداتهم، فمنهم من يعبد الكواكب، ويخاطبها بالحوائج، ويبخر لها التبخيرات، ويرى أنها تفيض عليه، أو على العالم، وتقضي لهم الحاجات، وتدفع عنهم البليات. ومنهم من لا يرى ذلك، ويكفر أهله، ويتبرأ منهم، لكنه قد وقع في عبادة الأنبياء والصالحين، فاعتقد أنه يستغاث بهم في الشدائد والملمات، وأنهم هم الواسطة في إجابة الدعوات، وتفريج الكربات، فتراه يصرف وجهه إليهم، ويسوي بينهم وبين الله في الحب والتعظيم والتوكل والاعتماد والدعاء والاستغاثة، وغير ذلك من أنواع العبادات، وهذا هو دين جاهلية العرب الأميين، كما أن الأول هو دين الصابئة الكنعانيين، وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ". وقد بلغ الشيطان مراده من أكثر الخلق، وصدق عليهم إبليس ظنه، فاتبعه الأكثرون، وتركوا ما جاءت به الرسل من دين الله الذي ارتضاه لنفسه. " فأتاح الله بمنه في هذه البلاد النجدية والجهات العربية من أحبار الإسلام وعلمائه الأعلام من يكشف الشبهة، وينصح الأمة، ويدعو إلى محض الحق وصريح الدين، فنافح عن دين الله ودعا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصنف الكتب والرسائل، وانتصب للرد على كل مبطل، واجتمع له من عصابة الإسلام والإيمان طائفة يأخذون عنه، وينتفعون بعلمه، وينصرون الله ورسوله، حتى ظهر واستنار ما دعا إليه، وعلت كلمة الله، حتى أعشى إشراقها وضوؤها كل مبطل ومماحل، وذل لها كل منافق مجادل. وحقق الله وعده لأوليائه وجنده، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] [سورة غافر، آية: 51] ، وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] الآية [سورة النور، آية: 55] ، فزال بحمد الله ما كان بنجد وما يليها

من القباب والمشاهد والمزارات والمغارات وقطع الأشجار التي يتبرك بها العامة، وبعث السعاة لمحو آثار البدع الجاهلية من الأوتار والتعاليق والشركيات. وألزم بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت، وسائر الواجبات، وحث من لديه من القضاة والمفتين على تجريد المتابعة لما صح وثبت عن سيد المرسلين، مع الاقتداء في ذلك بأئمة الدين والسلف الصالح المهديين، وينهاهم عن ابتداع قول لم يسبقهم إليه إمام يقتدى به، أو علم يهتدى به. وأنكر ما كان عليه الناس في تلك البلاد وغيرها من تعظيم الموالد والأعياد الجاهلية التي لم ينزل في تعظيمها سلطان، ولم يرد به حجة شرعية ولا برهان؛ لأن ذلك فيه من مشابهة النصارى الضالين في أعيادهم الزمانية والمكانية، ما هو باطل مردود في شرع سيد المرسلين. وكذلك أنكر ما أحدثه جهلة المتصوفة وضلال المبتدعة من التدين والتعبد، والمكاء والتصدية والأغاني التي صدهم بها الشيطان عن سماع آيات القرآن، وصاروا بها من أشباه عباد الأوثان الذين قال الله فيهم: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] [سورة الأنفال، آية: 35] ، وكل من عرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تبين له أن هؤلاء من أضل الفرق، وأخبثهم نحلة وطريقة، والغالب على كثير منهم النفاق وكراهة سماع كلام الله ورسوله. وأنكر - رحمه الله - ما أحدثته العوام والطغام من اعتقاد البركة والصلاح في أناس من الفجار والطواغيت، الذين يترشحون لتأله العباد بهم، وصرف قلوبهم إليهم باسم الولاية والصلاح، وأن لهم كرامات ومقامات ونحو هذا من الجهالات، فإن هؤلاء من أضر الناس على أديان العامة، وأنكر - رحمه الله - ما يعتقده العامة في البله والمجاذيب وأشباههم، الذين أحسن أحوال أحدهم أن يرفع عنه القلم، ويلحق بالمجانين. وأرشد - رحمه الله - إلى ما دل عليه الكتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وساق الأدلة الشرعية التي يتميز بها كل فريق، ويعتمدها أهل الإيمان والتحقيق، فإن الله جل ذكره وصف الأبرار ونعتهم بما يمتازون به، ويعرفون بحيث لا يخفى حالهم، ولا يلتبس أمرهم، وكذلك وصف تعالى أولياء الشيطان

من الكفار والفجار، ونعتهم بما لا يخفى معه حالهم، ولا يلتبس أمرهم على من له أدنى نظر في العلم، وحظ من الإيمان. وكذلك قام بالنكير على أجلاف البوادي وأمراء القرى والنواحي فيما يتجاسرون عليه ويفعلونه من قطع السبيل، وسفك الدماء، ونهب الأموال المعصومة، حتى ظهر العدل واستقر، وفشا الدين واستمر، والتزمه كل من كانت عليه الولاية من البلاد النجدية وغيرها، والحمد لله على ذلك، والتذكير بهذا يدخل فيما امتن الله به على المؤمنين، وذكرهم به من بعث الأنبياء والرسل. وكل خير حصل في الأرض من ذلك فأصله مأخوذ من الرسل والأنبياء؛ إذ هم الأئمة الدعاة الأمناء وأهل العلم، عليهم البلاغ ونقل ذلك إلى الأمة، فإنهم واسطة في إبلاغ العلم ونقله. ولذلك صار لشيخنا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - ولطائفة من أنصاره من الملك والظهور والنصر بحسب نصيبهم وحظهم من متابعة نبيهم صلى الله عليه وسلم، والتمسك بدينه، فقهروا جمهور العرب من الشام إلى عمان، ومن الحيرة إلى اليمن، وكلما كان أتباعهم وأنصارهم أقوى تمسكا كانوا أعز وأظهر، وربما نال منهم العدو وحصل عليهم من المصائب ما تقتضيه الذنوب والمخالفة، والخروج عن متابعة نبيهم، وما يعفو الله عنه من ذلك أكثر وأعظم. والمقصود أن كل خير ونصر وعز وسرور حصل فهو بسبب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقديم أمره في الفروع والأصول، وقد من الله عليكم في هذه الأوقات بما لم يعطه سواكم في غالب البلاد والجهات من النعم الدينية والدنيوية والأمن في الأوطان، فاذكروا الله يذكركم، واشكروا نعمه يزدكم، و {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] [سورة التحريم، آية: 6] بمعرفة الله، ومحبته وطاعته، وتعظيمه وتعليم أصول الدين، والمحافظة على توحيد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام، والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وترك الفواحش الباطنة والظاهرة، وسد الوسائل التي توقع في المحذور، وتفضي إلى ارتكاب الآثام والشرور " (¬1) . ¬

(¬1) الدرر السنية (1/ 466 - 544) باختصار.

ويقول الشيخ أحمد بن حجر آل أبو طامي تحت عنوان: " أثر الدعوة في البلاد النجدية ": " 1 - قضت هذه الدعوة المباركة قضاء تاما على ما كان شائعا في " نجد " من الخرافات، وما كان شائعا من تعظيم القبور والنذر لها، والاعتقاد في بعض الأشجار، وأحيت معالم الشريعة بعد اندثارها. 2 - إن أهل نجد قد رجعوا إلى التوحيد الخالص من شوائب الشرك والوثنية، كما رجعوا إلى الكتاب والسنة المطهرة، وحكموها في جليل الأمور وحقيرها. 3 - كانوا متفرقين، لا تجمعهم رابطة، ولا يجمعهم حكم شرعي، ولا قانوني، بل كانوا مختلفين ومتفرقين في المشارب والنزعات، فوحدت هذه الدعوة كلمتهم، وجمعت شملهم، وجعلتهم تحت راية واحدة، وأخضعتهم لسلطان واحد، يسوسهم بكتاب الله المجيد وسنة رسوله. 4 - كانوا في نهاية من الجهل والغباوة إلى حد أن اعتقدوا في الأشجار والغيران، فنشرت الدعوة فيهم علوم الشريعة المطهرة وآلاتها من التفسير والحديث والتوحيد، والفقه والسير والتواريخ، والنحو، وما إلى ذلك من العلوم. وأصبحت الدرعية كعبة العلوم والمعارف، يفد إليها طلاب العلوم من سائر النواحي من أرجاء نجد واليمن والحجاز والخليج العربي، وانتشر العلم في جميع الطبقات حتى قال المؤرخون: أصبح الراعي يرعى المواشي في الفيافي ولوح التعليم في عنقه، حتى من قوة انتشار العلم وسريانه ظهر العلماء الراسخون، وألفوا الكتب القيمة في مختلف العلوم، بعد ذلك الجهل العظيم الذي خيم على أرجاء نجد، وتركها تتخبط في دياجير الظلمات والأوهام. 5 - انتشر الأمن في جميع أرجاء نجد حتى إن الماشي والراكب يمشي المسافات الطويلة، ذات الليالي والأيام، لا يخاف إلا الله، ولو كان عنده من الأموال ما تنوء بحملها عصبة من الرجال. 6 - لم تكن نجد معروفة لدى الأمم، وكانت حقيرة، وليس لها حساب، ولا ميزان، ولا قيمة، ولم يكن لها ملك، ولا حاكم معروف، ما عدا بعض الأمراء الصغار الذين كانوا يحكمون قرية أو قريتين، فأصبحت نجد ببركة هذه الدعوة مملكة موحدة طار صيتها في الآفاق، ووضعت في صف الأمم.

وكانت الدولة إذ ذاك الدولة العثمانية حسبت لها ألف حساب وحساب، وخافت على سلطتها وسيطرتها من هذه الدولة السعودية المباركة، حتى جرت الجيوش الجرارة لمحاربتها وإماتتها. 7 - إنه بقي من آثارها هذه الدولة السعودية الحاضرة الممتد سلطانها من الخليج العربي شرقا إلى البحر الأحمر غربا، دولة الكتاب والسنة والتوحيد النقي، دولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دولة نشرت العدل والأمن والسلام، دولة عززت من مركز العلم، وقامت بنشره بين جميع أفراد الرعية، وكل من يفد إليها، فأسست المعاهد العلمية والكليات والمدارس، وأنفقت الأموال الطائلة للمدرسين والدارسين، سواء كانوا من الوطنيين أو من غيرهم. دولة تمثل الصدر الأول والسلف الصالح في أحكامها، وهيمنتها على الأخلاق، وتحكيمها للكتاب والسنة، دولة تسهر على مصالح الرعية، وتعمل لرفاهية الشعب ومحاربة الفقر، ورفع مستوى المعيشة، كما تسهر على راحة الحجاج، وبذل جميع الوسائل لرفاهية الحجاج، وتذليل جميع العقبات أمامهم، وترغيبهم في العودة المرة بعد المرة إلى حج بيت الله الحرام، وزيارة المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام. وبالجملة فهي أحسن الدول العربية في تحكيم الشرع، ونشر الأمن والعدل والعلم، ومحاربة أهل البدع والضلال، والأخذ على أيدي السفهاء والعابثين بالأخلاق، والمنتهكين الحرمات، أيدها الله، ووفقها للخير والنفع العام " (¬1) . ثم تحدث عن: " انتشارها في الخارج " قائلا: " انتشرت دعوة الشيخ في خارج نجد من أجل استيلاء الدولة السعودية على مكة المكرمة سنة 1218 هـ، وأصبح حجاج البلاد الإسلامية يفدون إلى مكة المكرمة، ويشاهدون علماء هذه الدعوة الحقة، ويستمعون خطبهم ومواعظهم، وإرشاداتهم السديدة، وتوجيهاتهم ¬

(¬1) الشيخ محمد بن عبد الوهاب لأحمد بن حجر أبو طامى (74 - 77) ط (2) .

القيمة، كما شاهدوا سيرة الدولة السعودية إذ ذاك، وما هي عليه من الاعتصام بالكتاب والسنة، ونشر الأمن والعدل والإنصاف. فتأثر بعض الحجاج بدعوة الشيخ، فأخذ ينشر في بلاده التوحيد، ويحارب الخرافات الشائعات في بلاده، كما قام بصد القبوريين والداعين إلى تقديس القبور، وبناء القباب عليها، فانتقلت هذه المبادئ الإصلاحية إلى السودان في إفريقيا، وسومطرة في آسيا والهند، كما انتشرت في العراق والشام ومصر والجزائر وجاوة وعمان وفارس، وكان هدف رعاتها في كل مكان تحل به هو محاربة الفساد، والقضاء على البدع والخرافات، وتصحيح العقيدة الدينية " (¬1) . ويقول الأستاذ أمين سعيد في وصف الأثر الطيب للدعوة: " وحققت الدعوة لنجد آمالها، وقد بدأت في محيطها أول ما بدأت، فأنشأت لها مجتمعا إسلاميا سليما، يؤمن بالتوحيد، ويعظم شأنه، ويسير على هداه، ولا يدعو مع الله أحدا، ولا يزال هذا حاله، لم يتبدل ولم يتغير منذ عهد الشيخ حتى يومنا هذا، فهو يصدع بالحق ويؤمن به. وانبثق عن هذا المجتمع دولة عربية كريمة، نشأت في ظل الدعوة وآمنت بها، فكانت أول دولة عربية كبرى يؤسسها العرب في داخل جزيرتهم بعد دولة الخلفاء الراشدين، فاتبعت طريقهم، وترسمت خطاهم، فسادت وشادت ووسعت حدودها، وضمت إليها قطر الحجاز وبلاد عسير وتهامة، ودقت أبواب العراق واكتسحت حدوده، وبلغت مشارف الشام وامتلكت بعض أجزائه، ووضعت يدها على الضفة الغربية للخليج (الخليج العربي) ، وتمتد من المحيط الهندي جنوبا إلى شط العرب شمالا، ولا يقل طولها عن ألف ميل، فزينت راية التوحيد شطآنها، ورفرفت على ربوعها. وانتشرت الدعوة في بلاد العرب وبلاد الشام، وسرى نورها في أرجائها، فأقبل عليها الكثيرون، وأخذوا بها، وتفاعلوا معها، واستجابوا لها، فكانت الأم الكبرى لهذه النهضات التي تعم بلاد العرب وبلاد المسلمين، وتعم الشعوب العربية والشعوب الإسلامية، فأحيت ميت الهمم، وأيقظت خامد النفوس. ¬

(¬1) الشيخ محمد بن عبد الوهاب لأحمد أبو طامى (74 - 77) ط (2) .

وضرب الشيخ صاحب الدعوة الوهابية الأمثال على تجرده ونزاهته، وعلى أنه لم يرد من دعوته سوى وجه الله وحده، وإصلاح حال أمته، والنهوض بها، وإنقاذها من ظلمات الجهالة التي كانت تغمرها، وتقيمها وتقعدها، فاعتزل السياسة سنة 1187 بعدما استقرت الدعوة واستقام عودها، وزال كل خطر يهددها، وتضاعف عدد أنصارها المؤمنين بها، وعكف على عبادة ربه، يشكره على نصره وتأييده، وابتعد عن الدنيا وزخارفها، لا يبغي حكما ولا سلطانا ولا مالا ولا نسبا، وظل هذا شأنه يصوم النهار ويقوم الليل عابدا مجتهدا، خالصا لله مخلصا، حتى وافته منيته سنة 1206، فذهب إلى لقاء ربه راضيا مرضيا بما قدم وأسلف. على أن هذا لا يمنعنا من القول بأن الدعوة الوهابية نفسها لم تلق من عناية علماء نجد وأدبائها وكتابها ما كان يجب أن تلقاه، ولعل مصدر ذلك انزواء نجد في قلب الجزيرة سحابة القرنين الماضيين، وصعوبة الاتصال بها، وقلة وسائل النشر لديها، على أن هذا كله زال الآن، فتيسرت الأسباب، وفتحت الأبواب، وازدهرت رياض العلم، مما نرجو أن يضاعف اهتمامهم، ويشحذ عزائمهم، فسيرة الشيخ محمد من أحفل السير بالعظات، ومن أجدرها بالدرس، لها جوانبها المحددة، ومصادرها الكثيرة، يضاف إلى ذلك كله أن الشيخ خلف ثروة عظيمة وكنوزا حافلة من الكتب والمؤلفات في حاجة إلى إعادة الطبع والترجمة إلى اللغات الأجنبية ليعم نفعها، ويستفيد الناس منها، ويغترفوا من بحر فضلها " (¬1) . ثم قال مبينا أثر التمسك بالشريعة الإسلامية في الحياة العامة، وأثر الانصراف عنها: " إن العقيدة الراسخة عند النجديين - أمرائهم وعلمائهم - أن الله مكنهم في جزيرة العرب، وأن سلطانهم في تلك الجزيرة لإحياء معالم الشريعة، وإظهار دين الله، وجعل سلطان التوحيد في الجزيرة هو السلطان الأول، وإزالة كل أثر من آثار الشرك، ولقد قال الإمام سعود في خطبته بعد دخول مكة سنة 1218 هـ " إنا كنا من أضعف العرب، ولما أراد الله ظهور هذا الدين دعونا إليه، وكل يهزأ بنا ويقاتلنا ". وكان الملك عبد العزيز - رحمه الله - في كل مناسبة يشير إلى هذا، ذاكرا فضل الله ¬

(¬1) هذا هو كتاب سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب (9 - 11) .

عليه وعلى أجداده من قبل، وأن ما وقع على آل سعود في أيامهم الأولى لم يكن إلا عقوبة لهم من الله لتهاونهم في أمر المحافظة على الدين، والانصراف إلى أمور الدنيا، وكذلك جلالة الملك سعود مد الله في عمره. ولذا فإن المشايخ - من وقت لآخر - ما زالوا يقدمون النصيحة لإمامهم، ويوصونه بالمحافظة على الدين، والأخذ على أيدي المتهاونين به، إذا رأوا شيئا من التراخي والتهاون من ذوي النفوذ والسلطان، ففي أيام الإمام فيصل كان الشيخ عبد الرحمن بن حسن وولده الشيخ عبد اللطيف لا يتوانيان عن النصيحة، ولفت نظر الإمام إلى عماله ورعاياه، وتذكيره بعاقبة التفريط، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " (¬1) . وسبق ذكر ما قاله الدكتور طه حسين مبينا أثر الدعوة على الحركة الدينية والأدبية والعلمية والفكرية والعقلية وسائر نواحي الحياة (في الفصل السابق) (¬2) . ويقول محمد جلال كشك: " إذا كان محمد بن عبد الوهاب من ناحية العقيدة ليس بمبتدع، فهو من الناحية السياسية مجدد ومبتدع ومبدع، ولقد استطاع أن يوقف حركة التاريخ، ويلوي عنق الأحداث التي كانت تدفع العالم الإسلامي دفعا إلى التغريب، فمع الهزيمة الشاملة التي أصابت العالم الإسلامي أمام الغزو الأوربي الذي كاد أن يشبه القدر المحتوم، كان الظن أو اتجاه الأحداث هو خضوع العالم الإسلامي للقانون الحضاري العام، وهو فناء المهزوم بالاندماج في حضارة المنتصر. فجاء الشيخ من أعماق نجد يعلن أن الإسلام هو الطريق، وأن المشكلة ليست في العقيدة، بل في الانحراف عنها، وأن العودة إلى جوهرها الصافي كفيل بإعطاء المسلمين القدرة على مواجهة التحدي الأوروبي وقهره، صحيح أنه لم يواجه قوة أوروبية بشكل مباشر وشامل، لا هو ولا خلفاؤه، فقد شغلتهم حروبهم مع الرافضين المسلمين والعرب، إلا أن انتصاراتهم على التخلف، وقدرتهم على خلق المحارب الذي يكاد ألا يقهر، عززت حجة ¬

(¬1) سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب (315) . (¬2) انظر: ص (558) ، والحياة الأدبية (31 - 41) .

الرافضين لمنطق الهزيمة، وأبقت الفرضية مطروحة إلى اليوم، وهي اكتساب القوة المادية بنفس الأسلوب الذي اكتسبها به أجدادنا المسلمون الأوائل. وتلك هي أهمية الدعوة الوهابية في المرحلتين الأولى في عهد عبد العزيز بن سعود، والثانية في النصف الأول من عهد عبد العزيز، فقد جرت المحاولتان في مناخ الهزيمة الشاملة للعالم الإسلامي، فضربتا المثل على إمكانية النصر بالإسلام، وإمكانية أن يكون الحل الشامل لمشكلة العالم الإسلامي مستمدا ومطابقا للحل الجزئي الذي جرب ونجح في أشد مناطق هذا العالم تخلفا وفقرا في الإمكانيات المادية، وفي نفس الوقت عجزت المحاولتان عن تقديم الحل الشامل والجذري للمشكلة، ومن ثم فقد أبقتا الجدل مستمرا، إذ منعتا التاريخ من أن يحسمه في اتجاه رفض الحل الإسلامي، ولكنهما لم تعطيا أنصار هذا الحل الحجة الحاسمة ولا المنهاج، فقد فشلت التجربتان في إجبار التاريخ على الاستجابة لهذا الاختيار، وما زلنا في نفس الوضع. فحركة البعث الإسلامي، والجامعة الإسلامية، ودعاة الإصلاح الديني، وانتفاضات المهديين والسنوسيين، ليست كلها إلا استجابة متفاوتة الفهم والوضوح لذلك الجواب الذي طرحه السعوديون: العودة للإسلام تحرر المسلمين من الهزيمة المطبقة، وساعد الحل السعودي على البقاء في الساحة " (¬1) . ويقول أيضا في موضع آخر في سياق كشف اعتراف خصوم الدعوة: " بتلك " الدرة السنية "، بل أثمن الدرر، وهي تحويل البدوي أو الشرقي المتخلف إلى نموذج فريد في تفوقه، ونقطة أخرى تثير إعجاب المراقبين بالإجماع، مهما اختلف موقفهم من التجربة السعودية، وهي الأمن، ومن محاسن الوهابية أنهم أماتوا البدع ومحوها، ومن محاسنهم أنهم أمنوا البلاد التي ملكوها، وصار كل ما كان تحت حكمهم من هذه البراري والقفار يسلكها الرجل وحده على حمار بلا خفر، خصوصا بين الحرمين الشريفين، ومنعوا غزو الأعراب بعضهم لبعض، وصار جميع العرب على اختلاف قبائلهم من حضرموت إلى الشام كأنهم إخوان ¬

(¬1) السعوديون والحل الإسلامي (109، 110) .

أولاد رجل واحد، إلى أن عدم الشر في زمان ابن سعود، وانتقلت أخلاق الأعراب من التوحش إلى الإنسانية، وتجد في بعض الأراضي المخصبة هذا بيت عنزي، وبجانبه بيت عتيبي، وبقربه بيت حربي، وكلهم يرتعون كأنهم إخوان، ورأيت لهم عقيدة منظومة يحفظها حتى رعاة غنمهم، منها: وما الدين إلا أن تقام شعائر ... وتأمن سبل بيننا وشعاب فكأنهم جعلوا تأمين الطرقات ركنا من أركان الدين ". ويبدو أن الشيخ قد اكتشف القانون الحضاري الذي يبدأ بتوفير الأمن، فيقول: إن " تحقيق الأمن يدفع الناس للاشتغال بالزراعة والتجارة وتربية الماشية للتكسب، فإذا اشتغلوا بالكسب الحلال فلا ينهبون ولا يسرقون ولا يقتلون "، ثم يلخص لنا اكتشافه: " فكأن المسألة أشبه بالدورية (¬1) أي: أنه متى وجد الأمان ارتفع السارق والقاتل لاشتغالهم بمعاشهم الحلال، ومتى اشتغلوا بالمعاش الحلال وجد الأمان ". أفادكم الله. وصاحب هذه الشهادة هو الشيخ عثمان بن سند البصري الفيلكاوي، فهو أقرب أن يكون كويتيا، وإن كان يصنف كمؤرخ عراقي، وهو من خصوم الوهابيين، وقد زعم أن هذا الأمن الذي حققه الحكم السعودي " كان دسيسة خدعوا بها العوام "، يبدو أن الدولة العثمانية ووالي البصرة لم يكونا بحاجة إلى دسيسة من هذا النوع " فذهب الأمن، وبطلت المعايش، وتدهور الوطن الإسلامي إلى ما هو معروف ". وقد انتشى ابن بشر في وصف حالة الأمن في ظل الحكم السعودي حتى قال برعي الذئب مع الغنم، بل بما هو أخطر: ترك الملكية بلا حراسة من الإنسان، فقال: " فسماها الأعراب سنين الكما؛ لأنهم كموا عليهم عن جميع المظالم الصغار والجسام، فلا يلقى بعضهم في المفازات والمخوفات إلا بالسلام عليكم، وعليكم السلام، والرجل يجلس ويأكل مع قاتل أبيه وأخيه كالإخوان، وزالت سنين الجاهلية، وزال البغي والعدوان، وسيبت الخيل والجياد والبقر وجميع المواشي في الفلوات، فكانت تلقح وتلد وهي ¬

(¬1) أي: الحلقة المفرغة.

في مواضعها آمنات مطمئنات، وليس عندها من يرعاها ويحميها إلا من يأتيها غبا ويسقيها ". لقد أثبتت التجربة السعودية في جميع عصورها أنه بتطبيق الشريعة، ولو جزئيا، وفي حدود الإمكانيات المتاحة لكل مجتمع، أي بتطبيق قانون العقوبات، يمكن أن يتحقق أول شرط من شروط المجتمع الإنساني، وهو الأمن الفردي، الأمن على النفس والمال والعرض، بل أول شرط يجب توفره للحديث عن تطور اجتماعي أو حضاري، وهو ما كان الشرق يفتقر إليه، وما كان الغرب يستغله للتشهير بالشرقيين، وتبرير حملاته وغزواته واسترقاقه للشرق بحجة توفير الأمن بين الشعوب المتوحشة الهمجية، وما كانت بعض القطاعات - ولا تزال إلى اليوم - تحمده للاستعمار الأوروبي، فأثبتت الوهابية في تألقها في الدولة الأولى، وفي عهد عبد العزيز، بل حتى في فترات انكماشها، أن الشريعة الإسلامية، بما تخلقه من حس بالعدل في نفوس المؤمنين بها، وما تفرضه من سيادة للقانون بقوة السلطة، يمكن أن تحقق أمنا يفوق قدرة أي مجتمع وأية حضارة عرفها التاريخ، وكتب الغربيين حافلة بالنوادر المدهشة المذهلة للمواطن الأوروبي الأمريكي، ليس في عصرنا هذا حيث اختل الأمن، وتحولت مدن الغرب إلى غابات مفزعة، يخشى السير فيها بعد غروب الشمس، وتزود غرف فنادقها بالسلاسل، بل والأقفال الإلكترونية التي تتغير كل 24 ساعة، بل كان الأمن السعودي مثيرا لدهشة الغربيين حتى في العصر الذي كان يضرب به المثل على قوة الردع الكامنة في عصا رجل الشرطة البريطاني، المحظور عليه - وقتها - حمل السلاح مكتفيا بهيبة أو رعب القانون المتمثل في عصا رجل الشرطة. حتى في هذا الوقت استطاع السعوديون أن يقولوا: " نظامنا أفضل، ولسنا بحاجة إلى قوانين الغرب وأنظمته، عندنا الحل الأفضل ". " وقد شهد بوركهارت للوهابيين ضد الأتراك فقال: " وما الوهابية إن شئنا أن نصفها إلا الإسلام في طهارته الأولى، وإذا ما أردنا أن نبين الفرق بين الوهابيين والترك فما علينا إلا أن نحصي الخبائث التي اشتهر بها الترك ". صدقت! وقال: " لكي نصف الدين " الوهابي فإن ذلك يعني وصف العقيدة الإسلامية، ولذا فإن علماء القاهرة أعلنوا أنهم لم يجدوا أية هرطقة (بدعة أو خروج عن الدين) في الوهابية، وحتى بعد سقوط الدولة السعودية فإن ظاهرة الانفجار الإسلامي ستظل تجذب المستكشفين، وسيأتي جورج

والين 1845 - 1848 ليقول عن السعوديين: " إنهم لا يدعون أنفسهم وهابيين أبدا، فهذا الوصف استخدمه خصومهم، أما هم فيصفون أنفسهم ببساطة بأنهم " المسلمون أو الموحدون ". وقال: " إن بعض الكتاب المعاصرين يزعم أن الوهابيين أنشئوا مذهبا خاصا بهم، وهو زعم خاطئ، فالوهابيون مجرد إصلاحيين، يتبعون المذهب الحنبلي ". " ثم المقيم السياسي في الخليج، بل الذي سيشهد الأيام الأخيرة في حياة فيصل بن تركي، والليدي بلنت (1879 - 1297) التي ستشاهد بقايا الوهابية في جبل شمر وبلاط ابن الرشيد، وسيستمر التدفق حتى شكسبير وفيلبي، وما زال " (¬1) . ولم يكن تأثير الدعوة الإصلاحي قاصرا على البلاد التي حكمتها دولة الدعوة، بل تعداه إلى سائر البلاد الإسلامية وبلاد الأقليات المسلمة في كل أنحاء العالم، ومن أكثر البلاد المجاورة تأثرا بالدعوة (اليمن) ، وقد عرض الدكتور عبد الله بن محمد أبو داهش هذا الأمر عرضا جيدا إذ قال: " ومن الواضح أن الناس في اليمن عندئذ قد طلبوا الاستغاثة من غير الله في مجال معاشهم في البر والبحر (¬2) ورفعوا الرايات فوق مشاهد الموتى بعبارات الاستجارة بهم من النار (¬3) وربما غشيت تلك القبور طوائف كثيرة من الناس، قد يضاهي بها لديهم الحجاج في عرفات (¬4) هذا إلى جانب أن الناس في اليمن قد اعتادوا في بعض الأحيان " السجود للمعتقد " (¬5) وتخصيص شيء من أموالهم له (¬6) وكانوا " يوقدون السرج على القبور، ويرحلون بنسائهم (¬7) " لزياراتها، وقد أنكر عليهم بعض العلماء في اليمن إهمال بيوت الله، ¬

(¬1) السعوديون والحل الإسلامي (132 - 134) . (¬2) محمد ناصر الخازمي، كتابه السابق (إيقاظ الوسنان) ، ورقة 4، 11، 24. (¬3) حسين بن مهدي النعمي، كتابه السابق، ص (156) [معارج الألباب] . (¬4) معارج الألبابص (161) . (¬5) معارج الألباب ص (160) . (¬6) معارج الألباب ص (192) . (¬7) محمد ناصر الخازمي (إيقاظ الوسنان) ، ورقة 16.

وترك العناية بها في وقت كانت مشاهد الأموات تزدان بالحرير والسجاد الفاخر وغيرها (¬1) . ورغم ذلك وجد من علماء اليمن في القرن الثاني عشر الهجري من يحارب مثل هذه الضلالات، ويتخذ منها موقفا معاديا، ولعل من أشهر أولئك العلماء: الشيخ محمد بن إسماعيل الأمير (1099 - 1182 هـ) ، والشيخ حسين بن مهدي النعمي (1187 هـ) ، إذ برز موقف الأمير جليا تجاه هذه الأمور المحدثة منذ عام 1161 هـ \ 1748 م حينما أرشد إمام اليمن حينذاك إلى هدم صنم المخا، وألف من أجله رسالة (¬2) وقد قال فيه صديق بن حسن القنوجي بأن " له صولة في الصدع بالحق، واتباع السنة، وترك البدع " (¬3) أما النعمي فقد اشتهر برفضه لهذه المعتقدات الباطلة منذ ألف في هذا الجانب وكتب فيه (¬4) . وربما كان نشوء هذين الموقفين عند النعمي والأمير بسبب تأثرهما بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبخاصة إذا أدرك موقف محمد بن إسماعيل الأمير من هذه الدعوة حينما قال: " ما زالت تبلغنا الأخبار من سنة 1160 هـ بأنه ظهر في نجد رجل يدعو إلى اتباع السنة النبوية وينهى عن الابتداع، والاعتقاد في العباد من الأحياء والأموات، وينهى عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العمارة على القبور المشاهد والقباب (¬5) "، كذلك يدل على تأثر حسين بن مهدي النعمي بالدعوة السلفية قوله بأن سبب تأليفه لكتابه معارج الألباب يعود إلى أنه وقف في عام (1177 هـ \ 1763 م) على سؤال حول هدم بعض المشاهد والقباب، وأنه كان من قبل هذا التاريخ قد ألقي إليه كتاب من مكة المكرمة ورد فيه: " أنه وصل إلى هنالك سؤال ¬

(¬1) حسين مهدي النعمي، كتابه السابق، ص (165) . (¬2) محمد محمد زبارة، نشر العرف، ج2، ص915، انظر: كتاب تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد للأمير نفسه، وقد قال في مقدمة هذا الكتاب: " وبعد فهذا تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، وجب علي تأليفه لما رأيته وعلمته يقينا من عموم اتخاذ العباد الأنداد في جميع الأمصار والقرى، وجميع البلاد من اليمن والشام ونجد وتهامة وجميع ديار الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور، أو في الأحياء ممن يدعي العلم بالمغيبات والمكاشفات. " ورقة 199. (¬3) أبجد العلوم، ص (192) . (¬4) انظر: كتابه معارج الألباب، ورسالته مدارج العبور على مفاسد الأمور. (¬5) إرشاد ذوي الألباب إلى حقيقة أقوال ابن عبد الوهاب، ورقة 393.

في هذه المسألة، وأنه أجاب عليه مفتو الأربعة المذاهب بما يتضمن التشنيع على من دل على هدم القباب والمشاهد (¬1) "، وربما أوحى قول الأمير من قبل وكذلك النعمي إلى أنهما قد تأثرا بهذه الدعوة، وأنها وافقت ما عندهما كما قال الأمير في شعره. وإذا كان هذا حال هذين العالمين، ومدى تأثرهما بالدعوة السلفية في القرن الثاني عشر الهجري، فإن من أكثر علماء اليمن تأثرا بمنهج الدعوة السلفية في مجال تطهير الاعتقاد فيما بعد إبراهيم بن محمد الأمير (1141 - 1213 هـ) ، ومحمد بن علي الشوكاني (1173 - 1250 هـ) ، إذ عرف إبراهيم الأمير بمواقفه تجاه القبوريين (¬2) وكان الشوكاني ينكر على المعتقدين في غير الله أفعالهم، ويرى أنهم قد خالفوا بذلك مقتضى إفراد العبادة لله وحده (¬3) . أما الأثر الفعلي لهذه الدعوة السلفية في اليمن فقد ظهر منذ العقد الثاني من القرن الثالث عشر الهجري، عندما بدأ العلماء يدركون حقيقة هذه الدعوة، وما تدعو إليه من إخلاص التوحيد لله تعالى، بالإضافة إلى ارتياد نفر من علمائها ودعاتها لكثير من بلدان اليمن خلال تلك الفترة، كما أن وفرة الرسائل التي كان يتبادلها العلماء في اليمن وأمثالها في نجد ورجال ألمع (¬4) قد ساعد على إيجاد أثر فعلي لهذه الدعوة، إذ بدأ الناس في اليمن يلمسون إلحاح علمائها وأمرائها في نشر هذه المبادئ وحقيقتها بتلك الأنحاء. ولعل من أهم آثار الدعوة السلفية في ميدان تطهير الاعتقاد وذم البدع باليمن اقتناع الأئمة بتلك الأنحاء وعلمائهم بهدم القباب وإزالتها، فقد دلت المصادر على أن الإمام المنصور هدم قبة عابدين المشهورة بصنعاء عام 1220 هـ \ 1807 م (¬5) وأنه قبل عام 1224 هـ " وقع الهدم للقباب والقبور المشيدة في صنعاء، وفي كثير من الأمكنة المجاورة لها، وفي جهة ذمار ¬

(¬1) معارج الألباب، ص (4، 5) . (¬2) الحسن بن أحمد عاكش، عقود الدرر، ورقم 21. (¬3) أدب الطلب، ص (168) ، انظر كذلك: الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد للشوكاني نفسه. (¬4) انظر: مجموع (567) مكتبة الرياض السعودية، ومجموع 186 المكتبة الغربية بجامع صنعاء الكبير، وانظر كذلك: نفحات من عسير ص (85) . (¬5) لطف الله جحاف، كتابه السابق، ورقم 391، (درر نحور العين) .

وما يتصل بها " (¬1) وكان هذا الأمر فيما يبدو قد شجع إمام اليمن المتوكل فيما بعد، وجعله يفضي إلى علماء اليمن برغبته في هدم القباب وإزالتها، وذلك على إثر وصول نفر من علماء الدعوة السلفية إلى صنعاء عام (1229 هـ \ 1813 م) (¬2) وقد كان موقف علماء صنعاء عندئذ موجبا لهدم تلك القباب، إذ يبدو أن أثر الدعوة قد وقع في قلوبهم مما جعل الإمام المتوكل حينذاك يباشر هدم معظم القباب المشهورة بصنعاء، ويأمر بإبلاغ أمره بهدم القباب بعامة إلى بقية بلدان اليمن (¬3) ويؤيد هذا قول عبد الرحمن بن عبد الله الزميلي بأن شيخه القاضي أحمد العنسي ذكر له، وهو يتلقى العلم على يديه بمدينة إب عام (1359 هـ \ 1940 م) أن بمدينتهم تلك آثارا لقباب مهدمة وأماكن محرقة من عهد الإمام سعود بن عبد العزيز (¬4) (1229 - 1218هـ) ، وإذا صح هذا فإن معظم بلدان اليمن إذن قد أدركت شيئا من أثر الدعوة السلفية، وأن ذلك الأثر قد كان في الثلث الأول من القرن الثالث عشر الهجري. وبمثلما أثرت الدعوة السلفية في صنعاء وما حولها أثرت كذلك في تهامة اليمن وفي حضرموت، أما تهامة اليمن فبعد أن تمادى أهلها في تعظيم القبور وأقر علماؤها " ما يحدث من أنواع الشرك بمرأى ومسمع (¬5) " أصبحت بعد ذلك في الثلث الأول من القرن الثالث عشر الهجري " صافية عن تلك الأمور التي كان يتلوث بها أهلها، فلا يقدر أحد ¬

(¬1) محمد بن علي الشوكاني، البدر الطالع، ج2، ص (262، 263) . (¬2) مجهول، حوليات يمانية، ص (7) . (¬3) المصدر نفسه، ص (8) ، قال صاحب حوليات يمانية في أخبار عام 1229 هـ: إن جماعة من الدعاة السلفيين وفدوا إلى صنعاء " وخاطبوا المتوكل في خراب القباب المنصوبة على قبور الصالحين والأئمة الهاديين، فجمع الإمام أعيان دولته وعلماء حضرته، وأجاب عليه العلماء بأنه إذا كان العمل بالشريعة حقيقة لا على أنها مداهنة للنجدي وقبول قوله، فهذه القباب ورفع القبور بدعة لا على الوجه المشروع، كما روي عن أمير المؤمنين بهدمها وتسويتها بالأرض، فرجح المتوكل بهدمها وهدمت (الذي) في صنعاء وما حولها: قبة صلاح الدين، وقبة المنصور حسين في الأبهر، وقبة الفليحي، وسدة قبة المهدي العباس التي فيها القبر، وهدمت قبة أحمد بن الحسن في الغراس، وأرسل إلى بقية النواحي بهذا "، ص (7، 8) . (¬4) مقابلة شخصية مع عبد الرحمن بن عبد الله الزميلي (شوحط في 9 هـ) . (¬5) محمد بن علي الشوكاني، أدب الطلب، ص (171، 172) .

منهم يستغيث بغير الله سبحانه أو ينادي ميتا من الأموات " (¬1) ورغم أن الشوكاني حينما أخبر بذلك لم يذكر سببا مباشرا لتأثرهم غير إعمال السيف فيهم (¬2) فهل كان ذلك العمل من قبل أمراء الدعوة في تلك الأنحاء (¬3) أم هو عمل أئمة صنعاء الذين تأثروا بالدعوة من قبل، وباشروا إزالة ما يمس العقيدة وينافي التوحيد في بلدانهم؟ والحق أن لكل من الاحتمالين السابقين أثرا فعالا في دفع تلك المعتقدات ونزعها، وبخاصة إذا أدرك قبول تلك الأجزاء من تهامة اليمن للدعوة السلفية من قبل، وأحيط بجهود أئمة اليمن في سبيل إزالة تلك المنكرات ونبذها. أما حضرموت فقد ذكرت المصادر أن دعاة هذه الدعوة حينما وفدوا إلى تلك الأنحاء عام 1224 هـ هدموا " القباب، وحطموا التوابيت، ومنعوا الرواتب، واعتقلوا المناصب " (¬4) وذلك لما وجد عليه الناس بحضرموت من الضلال والجهل العميق، وقد ذكرت بعض المصادر أن أولئك الدعاة السلفيين كانوا يهدمون رءوس القباب (¬5) إشعارا بخرابها وإقلالا من شأنها (¬6) وذلك ربما لكثرتها وسعة انتشارها، ولم يكتف أولئك الدعاة في تلك الفترة بهدم القباب فحسب، بل أوجدوا من الدعاة بحضرموت من يبث الدعوة ويدعو إليها (¬7) وذلك يشير إلى مدى اتساع أثر هذه الدعوة السلفية بحضرموت وما حولها في تلك الفترة في مجال تطهير الاعتقاد ونبذ البدع، ولعل ذلك ما دعا أحد علماء حضرموت أن يقول مشيرا إلى أولئك الدعاة السلفيين: " لو لم يقيض الله أولئك القوم لتلك النهضة لعكف الناس على القبور " (¬8) . ¬

(¬1) محمد بن علي الشوكاني، أدب الطلب، ص (171، 172) . (¬2) أدب الطلب، ص (172) . (¬3) يؤكد هذا القول عمل الأمير علي بن مجثل المغيدي عام 1246 هـ، حينما عمد إلى هدم القباب وما إليها بهذه الأنحاء، انظر: في ربوع عسير لمحمد عمر رفيع ص (218) . (¬4) صلاح البكري، في جنوب الجزيرة العربية، ص (141) . (¬5) عبد الله بن محمد السقاف، كتابه السابق، ص (115) . (¬6) فهي لا تجلب نفعا، ولا تدفع ضرا. (¬7) صلاح البكري، كتابه السابق، ص (141) . (¬8) مجلة المنار ج11، مج9، ذو القعدة 1324، ص (827) .

ويبدو أن اهتمام أمراء الدعوة السلفية ودعاتها بهدم القباب وإزالتها في جنوبي الجزيرة العربية، قد عم بلدان اليمن، وأصبح من الأعمال المحببة عند أولئك الدعاة، فقد أثبتت المصادر أن أمراء عسير عندما دخلوا تهامة اليمن عام 1221 هـ باشروا هدم قبة جامع بيت الفقيه (¬1) كذلك دلت هذه المصادر على رغبة أولئك الأمراء في تطهير المعتقدات وتنقيتها، إذ إنهم ظلوا حريصين على تثقيف الناس وإصلاح معتقداتهم بتلك الأنحاء، فقد عمد الأمير علي بن مجثل المغيدي عام 1247 هـ إلى هدم عدد من المشاهد والمزارات بضواحي مور (¬2) كما اتضح من بعد ذلك هدم بعض القباب خارج مدينة تعز عام 1250 هـ \ 1834م (¬3) وكان أثر الدعوة السلفية في مجال البدع الأخرى واضحا من قبل، إذ كان محمد بن إسماعيل الأمير يؤيد قيام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بإحراق كتاب دلائل الخيرات (¬4) كما برز موقف محمد بن علي الشوكاني من الصوفية وطرقهم حين ذم أفعالهم المبتدعة، وألف فيهم رسالته الموسومة بـ " الصوارم الحداد " (¬5) وكل ذلك يدل على استمرار أثر هذه الدعوة بتلك النواحي من جزيرة العرب خلال تلك الحقبة. وربما كان لقضاء الترك والمصريين على أمراء الدعوة السلفية في نجد أثر في إضعاف نشاطها بهذه الجهات، إذ دلت المصادر اليمنية على غبطة نفر من علماء اليمن حيال ذلك المصير، حيث بدأت منذ ذلك الحين تظهر مواقفهم تجاه هدم القباب ونحوها، فقد زعم أحد أولئك العلماء أن الدافع وراء هدمها من قبل السلفيين يكمن في الرغبة " لما فيها من الفضة والذهب " (¬6) ودلل على ذلك بآيات من القرآن الكريم (¬7) وكان هذا التعصب والتمادي في الباطل سببا في تعطيل نشاط هذه الدعوة وإضعاف تأثيرها فيما بعد، فالواقع أن إقامة القباب ¬

(¬1) عبد الله علي مسفر، السراج المنير ص (58) . (¬2) هاشم سعيد النعمي، كتابه السابق، ص (179) [تاريخ عسير] . (¬3) أحمد أحمد النعمي، تاريخه، ورقة 210. (¬4) ديوانه، ورقة 56. (¬5) أدب الطلب، ص (173، 175) . (¬6) مجموع (129) ، المكتبة الغربية بجامع صنعاء، ورقة (138) . (¬7) مجموع (129) ، المكتبة الغربية بجامع صنعاء، ورقة (138) .

على القبور وجعلها مكانًا للعبادة ينافي حقيقة الشريعة الإسلامية (¬1) بما يجعلها «من علامات الكفر» (¬2) وأن من استغاث بالصالحين أو دعاهم لكشف ضر أو نحوه فقد أشرك (¬3) . وذلك ما جعل أثر الدعوة السلفية في اليمن يقل ويضمحل إلى حد كبير، إذ لم يكد هذا الأثر يظهر مرة أخرى بوضوح إلا في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري وما بعده» . إلى أن قال: «ويبدو أن الأثر الحقيقي لهذه الدعوة السلفية في مجال تطهير الاعتقاد وذم البدع بنواحي اليمن قد كان في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري، ذلك لتبصر أهل اليمن عندئذ في أمور دينهم، واتصال العلماء منهم بغيرهم من علماء نجد، ورغبة طلبة العلم عندهم في الرحيل إلى خارج بلدانهم في سبيل العلم. ولعل ما يُشاهد الآن من انتشار كتب السنة وتدريسها في جامع صنعاء الكبير (¬4) ووفرة المساجد السلفية بصنعاء (¬5) يدل بوضوح على أثر هذه الدعوة المحمود. وقد كان من أثر الدعوة السلفية في اليمن أن وجدت الرغبة الأكيدة لدى كثير من أبناء اليمن في النزوح إلى نجد، وطلب العلم فيها، فقد وفد من أولئك الرجال على سبيل المثال: أحمد بن سنان اليماني (1339هـ) عام 1335هـ في نفر من أهل بلدته قَهْلان (¬6) إذ بلغ عدد المهاجرين في سبيل العلم من بعد ذلك إلى نجد ما يقارب خمسمائة رجل معظمهم من قبيلة الحداء بمخلاف الكُمَيم، وقد كانت نتائج تلك الرحلات مثمرة ناجحة، إذ استجاب أهلها لتعاليم هذه الدعوة وأصبحت قراها خالية من المشاهد والمزارات، حيث نبذ رجالها المعتقدات الباطلة، وهدموا ما يثير الشبه حول تقديس القبور من القباب ونحوها (¬7) . ¬

(¬1) محمد بن عبد الوهاب، كتاب التوحيد، ص (95 - 100) . (¬2) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، ج1، ص (246) . (¬3) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، ج4، ص (48، 49) . (¬4) زيارة علمية إلى صنعاء في عام 1400هـ، 1402هـ. (¬5) مقابلة شخصية مع أحمد محمد زبارة (صنعاء 17 هـ) . (¬6) صالح محمد الغفيلي، «الشيخ محمد بن عبد الوهاب» ، مجلة الجندي المسلم، ع20، ص6، 1399هـ، ص (70) . وقد ذكر محمد بن أحمد بن سنان أن أباه وفد إلى نجد سنة 1325هـ في جملة من أصحابه. (¬7) الشيخ محمد بن عبد الوهاب» ، مجلة الجندي المسلم، ع20، ص (67، 68، 70) .

كذلك نجم عن أثر هذه الدعوة السلفية في اليمن أن أقبل الناس في بلدان مختلفة بتلك الأنحاء على تطهير معتقداتهم، والتخلص مما علق بأذهانهم من شوائب الشرك والاعتقاد في غير الله، فقد سعى صالح بن حسين أبو حيدر في أوائل النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري إلى نهي الناس عن التبرك ببعض القبور بهمدان، والاعتقاد فيها، كما أن رجالًا من غيل همدان نفسه قد خلعوا التابوت الذي كان موجودًا بمسجد عبيد ببلدتهم، إذ فتن الناس به من أهل همدان وغيرها، وكانوا ينادونه يا عبيدة (¬1) ونحوه، وتلك الأعمال دون شك من آثار الدعوة السلفية باليمن في مجال تطهير الاعتقاد ونبذ البدع، إذ إن بروز هذا الجانب في نشاط الدعوة السلفية بتلك الأنحاء يدل على اهتمام دعاتها والقائمين عليها بدفع هذا الباطل من أن يمس العقيدة ووحدانية الله، مما أوجد أثرًا حقيقيًّا في بقية أنواع البدع الأخرى (¬2) التي بدأ الناس في اليمن يهذبون أنفسهم من درنها ويتخلصون من شيوعها في مجتمعاتهم. ومما تقدم يتجلى أثر هذه الدعوة السلفية في هذه المجتمعات الواسعة من جنوبي الجزيرة العربية. وذلك على الرغم من وفرة الاتجاهات الدينية وتعدد المعتقدات الباطلة في غير الله، فقد تفاوتت أزمان ذلك التأثير ومراحله، إذ بدأ منذ أوائل القرن الثالث عشر الهجري، ثم انحسر مده السياسي والديني فلم يبق أثره إلا في عسير وما حولها، وما لبث أن عاد مرة أخرى في غضون القرن الرابع عشر الهجري، حيث جدد الملك عبد العزيز آل سعود أمر هذه الدعوة، ودعا إلى نبذ ما يخالفها في القول والعمل، مما جعل فائدتها تعم أرجاء الجزيرة العربية، وتؤثر في مدارك الناس، فقد تخلوا عما ألفوه من البدع والمعتقدات الباطلة من قبل، وأخذوا في العمل بالكتاب والسنة "بدلًا من الأعراف والعادات وتحكيم الأشخاص" (¬3) » (¬4) . وعن أثر الدعوة في العالم الإسلامي يقول الدكتور محمد كامل ضاهر: ¬

(¬1) مقابلة شخصية مع يحيى أحمد صالح أبو حيدر (الرياض في 18 هـ) . (¬2) مثل الرجبية وغيرها. (¬3) عطية محمد سالم، دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها، ص (30) . (¬4) أثر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الفكر والأدب بجنوبي الجزيرة العربية للدكتور عبد الله بن محمد أبو داهش 88 - 96 (مع الهوامش بتصرف يسير) .

«لم يقتصر أثر الدعوة الوهابية على الحركة الإصلاحية في مصر، بل تعداه إلى كثير من المثقفين المسلمين في أقطار إسلامية أخرى كسوريا والعراق والمغرب العربي واليمن والهند. وقد احتل بعض هؤلاء مراكز كبرى في حقل التعليم الإسلامي في حلب ودمشق وطرابلس والقدس والهند. كانت مواسم الحج السنوية فرصًا ثمينة يتحينها الوهابيون لشرح أفكارهم للحجاج المسلمين القادمين إلى مكة من مشارق الأرض ومغاربها، وتبادل الآراء معهم في الدين والدنيا. واستطاعوا بهذه الوسيلة إقناع بعض الشخصيات الإسلامية بأفكارهم، وترتب على ذلك قيام حركات إصلاحية إسلامية خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين متأثرة إلى حد كبير بمبادئ الدعوة الوهابية وأفكارها. ففي اليمن، كان الإمام الزيدي محمد بن عبد الله الشوكاني الصنعاني (1172 - 1250هـ 1758 - 1834م) معاصرًا للشيخ محمد بن عبد الوهاب ويدعو مثله إلى محاربة البدع والخرافات، والثورة على التقليد والدعوة إلى فتح باب الاجتهاد، والرجوع في العقائد إلى مذهب أهل السلف، وفهم الصفات الإلهية المذكورة في القرآن على ظاهرها، وترك التأويل والتحريف فيها. وكتب في ذلك رسالة بعنوان: «التحف بمذهب السلف» . «يبدو أن الإمام الشوكاني كان على اطلاع واسع بمبادئ الدعوة الوهابية وتعاليمها؛ لأن أفكاره إنما تعبر تعبيرًا يكاد يكون حرفيًّا عن تعاليم هذه الدعوة. ويتضح ذلك في القصيدة الطويلة التي رثى فيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب عندما بلغه نبأ وفاته وبيَّن فيها مدى احترامه له وتفجعه عليه. ولا يذكر المؤرخون شيئًا عن أي لقاء تم بين الإمامين» . أثر الدعوة في مسلمي الهند: تحتل الهند مكانًا مميزًا في دراسة نمو الأفكار الدينية وتفاعلها نظرًا لتعدد أجناس سكانها ومعتقداتهم المختلفة. وجد الوهابيون في هذا المجتمع تربة خصبة لبث أفكارهم بين المسلمين والهنود الذين تتفشى بينهم صور شتى من البدع والخرافات المأخوذة عن طقوس وعقائد الديانات الهندية الأخرى. وقد وصلت التعاليم الوهابية إلى تلك البلاد عن طريق زعيم إسلامي هندي يدعى

السيد أحمد بن عرفان البرلوي (1786 - 1831م) الذي وفد إلى الحج في أوائل القرن التاسع عشر واعتنق خلاله الأفكار الوهابية. ولما عاد إلى بلاده أصبح من أكبر دعاة هذه الأفكار، وقام بنشرها في البنجاب، وأنشأ دولة وهابية فيها، وامتد سلطانه حتى هدد شمال الهند حيث تقطن طائفة السيخ. كان السيد أحمد البرلوي ذا حمية شديدة في الدين، فعمل على تطهير الإسلام من أدران الشرك التي شوهته تشويهًا صارخًا، مثل عبادة الأولياء وما يتصل بها من التقاليد الخرافية الوثنية، ونادى بإعادة الحياة الإسلامية إلى بساطتها الأولى كما كانت أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته. ثم قام بحملة دينية واسعة النطاق بين الهنود لترغيبهم في اعتناق الإسلام. توفي سنة 1831 خلال حملته على طائفة السيخ في شمال الهند، لكن أفكاره الدينية ظلت قوية الأثر بين المسلمين الهنود، وتابع تلاميذه حركته الإصلاحية، فأنتجوا أدبًا دينيًا ضخمًا، كتبوه باللغة الأوردية ليضمنوا نشر تعاليمهم بين الشعب، كما آثر أتباعه الاشتغال بالنشاط التجاري وعدم الالتحاق بالوظائف الحكومية تحت حكم الإنجليز. أثر الدعوة في بلاد الشام والعراق: كان للدعوة الوهابية أنصار كثيرون بين علماء بلاد الشام في بداية هذا القرن، ومن أشهرهم الشيخ جمال الدين القاسمي الذي قاضته الحكومة التركية بتهمة العمل على نشر مبادئ الدعوة الوهابية وإذاعتها بين الناس. وهناك أيضًا المشايخ: عبد الرزاق البيطار، وطاهر الجزائري، ومحمد كامل القصاب، وحسين الجسر، وعبد القادر المغربي، والأمير شكيب أرسلان الذين درسوا تعاليم الدعوة الوهابية وقدروها تقديرًا كبيرًا، إذ وجدوا فيها صورة عن تعاليم الإسلام الحقيقية، فعملوا على نشر مبادئها في سوريا. وفي العراق عرف عن الألوسيين: أبو الثناء شهاب الدين محمود الألوسي (1802 - 1853) ، ومحمود شكري الألوسي (1856 - 1924) تأثرهما الشديد بمبادئ الدعوة الوهابية وأفكارها. ويبدو ذلك واضحًا في كتاب الأول: «روح المعاني» الذي دعا فيه إلى اتباع أهل السلف في مسائل العقيدة وتنقية الإسلام مما علق به من الشوائب، وإنكار التوسل لغير الله أو التشفع بأهل القبور.

أما محمود شكري الألوسي فكان مصلحًا دينيًا سلفيًا «جمع بين مبادئ الدعوة الوهابية في الرجوع إلى القرآن والسنة ومحاربة البدع الدينية والطرق الصوفية من ناحية، وبين مبادئ النهضة العلمية العربية الحديثة في الاهتمام بالعلوم غير الدينية مثل التاريخ والفلك من ناحية أخرى. من مؤلفاته «تاريخ نجد» الذي تناول فيه تاريخ نجد المعاصر وسيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. أثر الدعوة الوهابية في المغرب العربي والسودان: وعن طريق الحج أيضًا انتقلت أفكار الدعوة الوهابية إلى المغرب العربي. إذ حملها إليه السيد محمد بن علي السنوسي (1787 - 1859) بعد عودته من مكة إلى وطنه الجزائر متأثرًا بتعاليمها، وأخذ ينشرها بين أبناء بلده. وبعد ذلك انتقل إلى برقة بليبيا حيث أسس طريقة دينية خاصة، فيها الكثير من الأفكار الوهابية، مثل ضرورة الرجوع إلى بساطة الإسلام الأولى التي كان عليها الرسول وصحابته، وتنقية العقيدة من البدع والخرافات التي شوهتها. ولكن تأثر السنوسية بالمفاهيم الصوفية بعد ذلك أبعدها عن فلك التعاليم الوهابية وأهدافها. وتتفق الدعوتان أيضًا في الأخذ بالاجتهاد ومحاربة البدع بجميع صورها. وتختلفان في أن الحركة الوهابية لجأت إلى الجهاد لنشر تعاليمها وهداية الناس إلى أفكارها، بينما سلكت الحركة السنوسية الطريق الصوفي. وقد أعجب بمبادئ الدعوة أيضًا سلطان مراكش سيدي محمد بن عبد الله الذي كان يقول: إنني مالكي المذهب وهابي المبدأ (¬1) . كما تأثر بها صاحب الدعوة المهدية في السودان محمد بن أحمد بن السيد عبد الله (1885م) كما نجد أثرها الواضح في مؤلفات المفكر الجزائري المعروف مالك بن نبي. أثر الدعوة في الحياة الأدبية للجزيرة العربية: اعتنق سكان الجزيرة العربية أفكار الدعوة الوهابية وتشددوا فيها، بعد أن زرعت فيهم بعض الثقافة، رغم أميتهم، لكنها كانت ثقافة دينية محورها تعاليم الدعوة، وأفكار ابن تيمية ومذهب أحمد بن حنبل. واستطاعت تعاليم هذه الدعوة أن تدفع الناس إلى حل قضاياهم عن طريق الشرع والقضاء بدلًا من وسائل العنف والعادات القبلية. كما استطاعت أن تقضي على حياة التشرد والترحال في البادية، وتغل أيدي ¬

(¬1) انظر كتاب: CH. A. Julien: Histoire de I, Afrique du nord payot - paris 1966. P: 243.

اللصوص والمجرمين الذين كانوا يعيثون فسادًا في مختلف مناطق الجزيرة. ثم شجعت البدو على الاستقرار في مناطق زراعية بعد أن هيأت لهم المنازل ووسائل العيش الكريم. وقد ربطت الدعوة الوهابية أتباعها بالله مباشرة، وعلمتهم ألا يرهبوا أحدًا سواه، وطردت من عقولهم صور الجن والخرافات والأوهام، ومنعتهم من الوقوف المذل أمام الأحجار والقبور والأشجار للتوسل والاستغاثة، وعودتهم ألا يطلبوا ذلك إلا من الله وحده. . . لم تقتصر آثار الدعوة على هذه المسائل فقط، بل كان لها أثر كبير في الحركة الفكرية في الجزيرة العربية خلال القرن الثامن عشر. ففي مراحلها الأولى ظهر بعض الشعراء والمؤرخين الذين اعتنقوا مبادئها، وأخذوا يدافعون عنها ويهاجمون خصومها. وكان في طليعة هؤلاء من المؤرخين عثمان بن بشر، وحسين بن غنام مؤرخا الدعوة المشهوران» (¬1) . وبعد: فإن هذه الثمار الطيبة والنتائج المباركة قد ملأت سمع العالم وبصره ودان بها الموافق، واعترف بها المخالف، وإن جحدها المعاند والحاسد فلا يضرها ذلك. وهي بحد ذاتها الرد والجواب العلمي والعملي، والمنطقي والواقعي على سائر الشبهات والمفتريات، والدعاوى والاتهامات التي قيلت حول الدعوة، وإمامها وعلمائها ودولتها (الدولة السعودية في كل مراحلها) وأتباعها ومؤيديها. فإنها بحمد الله الشجرة الطيبة التي قالت الحق، وعملت بالحق، ودعت إلى الحق، وأثمرت الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ تنبيه: أثر الدعوة على الدعوات التي عاصرتها، والتي جاءت بعدها إلى اليوم أثر مؤكد لا شك فيه ويتفاوت في درجته قوة وضعفًا، ومطابقة ومخالفة بحسب نوع التأثر والتأثير، واختلاف العوامل المؤثرة. والذي يظهر لي أن هناك من الدعوات من يسير على المنهج في العموم كبعض أهل الحديث، وأنصار السنة في مصر والسودان. ¬

(¬1) الدعوة الوهابيَّة وأثرها في الفكر الإسلامي الحديث، د. محمد كامل ضاهر 199 - 205 باختصار.

وبعض الجماعات السلفية المعتدلة في سائر العالم الإسلامي اليوم. وغالبًا نجد هذه الفئات تُعَيَّرُ من قِبَلِ أهل البدع والأهواء بأنها وهابية ولا شك أن هذه تزكية غالية لمن كان على المنهج السلفي الحق. لكن هناك من بالغ في تأثير الدعوة على بعض الأشخاص أو بعض الحركات الإصلاحية. كالمهدية في السودان، والسنوسية في شمال أفريقية، وحركة عثمان بن فودي، وحركة محمد عبده، وبعض الحركات الإصلاحية في الهند. إلى حد أن اعتبرها بعضهم مطابقة تمامًا أو على الأغلب لدعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب. والحق أنه لم تكن هناك دعوة تحمل المنهج نفسه تمامًا عقيدة وعملًا، إنما تأثرت أكثر الدعوات في بعض المبادئ العامة مثل نزعة الإصلاح العام، ونبذ المنكرات والتحرير من التقليد والعصبية والمذهبية. والنزوع إلى تطبيق الشريعة والحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد (¬1) أما الخاصية الكبرى لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهي: الدعوة إلى التوحيد والعقيدة السلفية النقية الصافية، ونبذ الشركيات والبدع ومحاربتها بجد وحزم، فإن الذين حملوا هذه الرسالة بهذا المستوى من الدعاة والحركات قليل. والله أعلم. تقريب المخالفين للحق: من الآثار العامة الطيبة لهذه الدعوة المباركة أنها جرَّت بعض المخالفين إلى الاقتراب من مناهج الحق قليلًا أو كثيرًا بحسب الأحوال. ومن ذلك أنها لفتت أنظارهم إلى أهمية الاستدلال بالنصوص الشرعية وآثار السلف الصالح والتحاكم إليها، وترك بعض الانحرافات في التلقي والاستدلال، كالاعتماد على ما ليس بدليل كالكشف والذوق، والوجد، والرؤى ¬

(¬1) ناقش هذه المسألة: الدكتور صالح بن عبد الله العبود في كتابه (عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية) (2) . وانظر: دعاوى المناوئين للدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف (24) .

والأحلام، والخوارق، ودعوى العصمة للرجال. والاستدلال بالحكايات والأحاديث الموضوعة والضعيفة فإن أكثر الفرق والأشخاص الذين يعولون على هذه الأوهام صار بعضهم يقلل من هذا المسلك، ويستحي منه. كما جرتهم الدعوة إلى ترك التعصب والتقليد الأعمى للمذاهب والأشخاص وعلقتهم بالعلم الشرعي، والاهتمام بالسنن، وبالبحث والتأليف والاستنباط. إن المخالفين من الفرق والأفراد والمذاهب والطرق وإن لم يستجب كثير منهم إلى الحق والسنة، بل بعضهم زاد عتوًّا وغلوًّا وإصرارًا على الباطل. إلا أنه صار كثير منهم لديه الاستعداد للحوار الجاد وخففوا من غلوهم، وصححوا بعض عقائدهم ومناهجهم، أو عدَّلوها، وهذا ولا شك تخفيف للشر، وذلك من مطالب الدين وغايات الدعوة المرحلية {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118 - 119] [سورة هود، الآيتان: 118، 119] .

الفصل السادس المملكة العربية السعودية كيان قائم ينفي الاتهامات

[الفصل السادس المملكة العربية السعودية كيان قائم ينفي الاتهامات] [المبحث الأول المملكة ودعوى الوهابية] الفصل السادس المملكة العربية السعودية (كيان قائم) ينفي الاتهامات المبحث الأول المملكة ودعوى الوهابية لا يزال كثيرون من الذين يجهلون الحقيقة عن المملكة أو يتجاهلونها، أو الذين يلمزونها أو يحسدونها يصفون المملكة بأنها (دولة الوهابية) . وقبل الدخول في رد هذا اللمز ينبغي أن أؤكد أن وصف الدولة السعودية بالوهابية يعد تزكية لا تقدر بثمن؛ لأن الوهابية التي يعيرونها بها، يقصدون بها دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، والتي هي في الحقيقة: الإسلام والسنة وسبيل السلف الصالح، والتزام كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. أما الوهابية على الوصف الذي افتراه الخصوم، والتي تعني (بزعمهم) مذهبًا خامسًا، أو فئة خارجة عن السنة والجماعة، أو التي تعني عند أهل الأهواء والبدع والافتراق وأتباعهم من الغوغاء: (بغض النبي - صلى الله عليه وسلم - والأولياء. . .) أو نحو ذلك من المفتريات، فهذه المفتريات لا تعدو أن تكون أوهامًا في خيالات القوم وعقولهم، وشائعات صدقوها دون تثبت، والمراقب للأحداث والتداعيات الأخيرة التي تلت يلحظ أن هناك شيئا من الاندفاع المريب، نحو توريط المملكة حكومة وشعبًا فيما هم منه أبرياء. وأن هذا الاندفاع الظالم (السياسي والإعلامي والشعوبي) المتهور، والذي قد يوجه للمملكة وشعبها بدعوى أنهم (وهابية) لا يخلو من عنصر التحريض والاستعداء والظلم والحسد من قبل أعداء الإسلام أولًا، ويساندهم بل ويدفعهم كذلك أعداء السنة من أهل الأهواء والبدع والافتراق، الذين ما فتئوا يبهتون المملكة وشعبها بالمفتريات، ويعطون عنها معلومات كاذبة ومشوشة، وأرى أن هذا التوجه الظالم هو أكبر محرض على المملكة بخاصة، وأهل السنة بعامة. إن كل الذين أطلقوا هذه المفتريات والبهتان، والذين صدقوا هذه الشائعات، ليس عندهم من الدليل والبرهان ما يثبت شيئًا من مزاعمهم، بل المنصف والباحث عن الحقيقة يجد الأمر خلاف ما يفترون. فها هي المملكة العربية السعودية (حكومة وشعبًا) كيان شامخ ملأ سمع العالم وبصره، ظاهرة بكيانها الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، والدولي، وجميع أحوالها وإصداراتها

العلمية والإعلامية والأدبية والثقافية، والفكرية وغير ذلك كله ينفي هذه المزاعم، إذن فالمثالب التي ينسبونها لما يسمونه (الوهابية) ودولتها وأتباعها لا حقيقة لها. وقد نفى الملك عبد العزيز هذه الفرية في خطابه الذي ألقاه في مكة في غُرَّة ذي الحجة عام 1347هـ قائلًا: «يسموننا «الوهابيين» ، ويسمون مذهبنا «الوهابي» باعتبار أنه مذهب خاص. . وهذا خطأ فاحش نشأ عن الدعايات الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض. . نحن لسنا أصحاب مذهب جديد أو عقيدة جديدة، ولم يأت محمد بن عبد الوهاب بالجديد، فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه السلف الصالح. ونحن نحترم الأئمة الأربعة ولا فرق عندنا بين مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة. . . كلهم محترمون في نظرنا. . . هذه هي العقيدة التي قام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب يدعو إليها، وهذه هي عقيدتنا، وهي عقيدة مبنية على توحيد الله - عز وجل - خالصة من كل شائبة منزَّهة من كل بدعة، فعقيدة التوحيد هذه هي التي ندعو إليها، وهي التي تنجينا مما نحن فيه من محن وأوصاب» (¬1) . ويقول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد - حفظه الله - مؤكدًا هذه الحقيقة: «أما عما يقال من أن المملكة تتبع مذهبًا غير المذاهب الأربعة ويطلق عليه المذهب الوهابي، فإن الوهابية ليست مذهبًا وإنما هي حركة دينية إصلاحية ظهرت في وقت انتشرت فيه الضلالة والأوهام، فحاربت البدع وردت الأمور إلى أصولها، وهي في النهاية ليست مذهبًا دينيًا تتبعه المملكة، وإن ما يقال عنا خطأ شائع ألصق بالمملكة بلا سند من الواقع» (¬2) . فالمملكة حين تنفي أن تكون (وهابية) بالمفهوم المشوَّه، فإنها لا تتنصَّل من رسالتها السامية ¬

(¬1) جريدة أم القرى عدد ذي الحجة 1347 (مايو 1929م) . (¬2) من حديث لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز لجريدة الأهرام المصرية في 30 هـ. المصدر: وكالة الأنباء السعودية، والصحافة المحلية، وجريدة الشرق الأوسط (عن كلمات منتقاة من خطب خادم الحرمين للأستاذ عبد الرحمن الرويشد ص194) .

في نصرة الإسلام والدعوة إليه، وتعتز بهذا النهج وإن سماه الآخرون (وهابية) . فهي تعلم أن التمكين الذي حصل لمؤسس هذه الدولة الملك عبد العزيز ورعيته، لم يكن إلا لأنهم نصروا الله تعالى، ونصروا دينه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأعلوا راية التوحيد وحرب البدع، وكانوا قبل ذلك مستضعفين في الأرض حتى منَّ الله عليهم بهذه الدعوة المباركة فنصروها ونشروها، فنصرهم الله كما قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] [سورة القصص، آية: 5] . فقيام الدعوة والدولة كان حصيلة ما وعد الله به من نصر الدين من التمكين في الأرض والمنة على المستضعفين، وهو حلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل، وكان هذا هو الحل الشرعي والتاريخي والسياسي لأوضاع الأمة كلها لو أنها سلكت هذه الطريق. فقد قامت دولة التوحيد في وقت كادت الأمة أن تيأس من عودة الدين، لقد أثبتت هذه الدولة وتجربتها أن الإسلام هو الحل، وأنه صالح لكل زمان ومكان. وأن الإسلام لا يمنع من قيام دولة حديثة ذات كيان سياسي واقتصادي ومدني وحضاري مع اعتماد الدين عقيدة وشريعة في كل شؤون الحياة. كانت هذه الدعوة - دولتها - «هي أقوى وأبرز طرح للحل الإسلامي في ظروف الهزيمة الشاملة للمسلمين» أمام الغزو الأجنبي الذي يقوم على اعتبار الإسلام دينًا استنفد أغراضه وانتهى دوره وأثره ولم يعد صالحًا للحياة، وأن المدنية الغربية هي البديل، وأن هذه النظرية حقيقة، وحتمية تاريخية. وإن كان هذا النصر والتمكين من الله - عز وجل - ناتجا عن كونها (وهابية) فليت الأمة كلها تكون وهابية! . لقد سادت في العالم الإسلامي شعارات وحركات كثيرة من قومية وعلمانية وبعثية، واشتراكية وديموقراطية، ثم فشلت وسقطت؛ لأنها كلها تجاهلت الإسلام، أو حاربته، وكاد اليأس يتطرق إلى كثير من عامة المسلمين من عودة دولة الإسلام، فإذا هي تنشأ في الظروف الحالكة على يد الملك عبد العزيز، وتقوم دولة التوحيد والسنة التي يسمونها (الوهابية) ، وتقيم كيانًا له اعتباره الديني والسياسي والاقتصادي. الإسلامي والعربي والعالمي. ويكفيه فخرًا نجاحه في تطبيق الإسلام بمفهومه الشامل باتزان واعتدال، واعتزاز

وهيبة، مما أدى إلى تخفيف وطأة التغريب حتى بقيت البلاد ثابتة على المسلمات والثوابت (وإن ضعفت أحيانًا) فلا يزال الإسلام هو دين الدولة والمجتمع، والكتاب والسنة هما مصدر التشريع، والأحكام الإسلامية في الأنظمة والقضاء هي السائدة، وشعائر الدين ظاهرة ومصونة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائم، والشمل مجتمع بحمد الله. ومما يدفع عن المملكة تهمة المذهبية - أو (الوهابية) على مفهوم الخصوم - أنها تحمل الكثير من همِّ المسلمين جميعًا في كل بقاع المعمورة. واهتمام المملكة بالمسلمين عمومًا في كل العالم أمر مستفيض ويشهد له الواقع، وكان هذا من الأسس التي قامت عليها، قال الملك عبد العزيز في خطاب له في جدة عام 1926 (يناير) : «ثم إن لنا على الدول حقًا فوق هذا كله، وهو أهم شيء يهمنا مراعاته، وذلك أن لنا في الديار النائية والقصية إخوانًا من المسلمين ومن العرب. . . نطلب مراعاتهم وحفظ حقوقهم، ولي الأمل الوطيد في أن الحكومات المحترمة ذات العلاقة بالبلاد الإسلامية والعربية لا تدخر وسعًا في أداء ما للعرب والمسلمين من الحقوق المشروعة في بلادهم» (¬1) . وبهذا ندرك أن الذين ينتقدون المملكة، أو يستهدفونها بدعوى أنها (دولة الوهابية) إنما يستهدفون الإسلام نفسه، ويستهدفون قلب العالم الإسلامي ومقدساته. ¬

(¬1) السعوديون والحل الإسلامي ص (22) .

المبحث الثاني منهج الملك عبد العزيز يرد الاتهامات والمزاعم

[المبحث الثاني منهج الملك عبد العزيز يرد الاتهامات والمزاعم] المبحث الثاني منهج الملك عبد العزيز يرد الاتهامات والمزاعم المنهج الذي رسمه الملك عبد العزيز مؤسس (المملكة العربية السعودية) يرد الاتهامات والمزاعم التي يثيرها المفترون حول المملكة. فقد أكد الملك عبد العزيز أن المملكة دولة مسلمة تسير على وفق الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح، ونشر التوحيد والحق والخير والفضيلة. وتفي بالتزاماتها الإسلامية والعربية والدولية (كما سيأتي بيانه) . وتحترم العهود والمواثيق الدولية. وتسهم في ما يحقق الأمن والسلام، والخير للإنسانية جمعاء. وقد أعلن الملك عبد العزيز هذه المبادئ وأكدها مرات عديدة، وهنا أسوق أنموذجًا من خطاباته وتصريحاته في تأكيد هذا الأصل العظيم، إذ يقول: بسم الله الرحمن الرحيم: «الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وسيد الأولين والآخرين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. من عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود، إلى من يراه من إخواننا: الحجازيين، والنجديين، واليمانيين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: [التنويه بنعمة الإسلام وكماله] وبعد: بارك الله فيكم، ووفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وجعلنا وإياكم من صالحي عباده وأوليائه، تفهمون: أن الله سبحانه منَّ علينا بنعمة الإسلام، وأكملها علينا، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] [سورة المائدة، آية: 3] ومن أكبر نعمه علينا: إنزال كتابه العزيز، وإرسال نبيه الكريم. [الدعوة إلى توحيد الله تعالى] : وخلاصة ذلك، وعمدة ما نزل في كتاب الله، وإرسال رسله الأولين، وخاتمهم سيد المرسلين، هي: الدعوة لعبادة الله وحده لا شريك له؛ وهي: مضمون لا إله إلا الله،

كما أن معناها: «لا إله» نفي «إلا الله» إثبات. [لوازم شهادة أن لا إله إلا الله] : وكل من قال لا إله إلا الله، عارفًا لمعناها، عاملًا بمقتضاها، مواليًا لجميع ما أمر الله به، معاديًا لما نهى عنه، من الأفعال والأقوال، فهو من أهل لا إله إلا الله (¬1) . ومن قالها، ولم يعرف لمعناها، ولم يعمل بمقتضاها، ولا أحب ما احتوت عليه من الخير، وأبغض ونفى ما نهت عنه من الشر، من الأقوال والأفعال، فليس هو من أهل لا إله إلا الله، فهو كالأنعام، بل هو أضل. وتعرفون بارك الله فيكم لو أنني أردت أن أتمادى فيما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من الآيات المحكمة، والأحاديث الصحيحة، فيما تثبت من الأعمال الطيبة، وتنكر من الأعمال السيئة، لطال الكلام. [حقيقة اتباع ما أمر الله به وثمرته] : والمقصد من ذلك: الفائدة، والاتباع لما أمر الله به، وهو قوله – سبحانه وتعالى -: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41] [سورة الحج، آية: 41] . [الدين النصيحة معناها] : وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة» ، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم» (¬2) وشرح ذلك مفهوم. [معنى النصيحة لله تعالى] : وهو أن النصح لله: أن تعبد الله وحده، وتبرأ من سواه، من قول وعمل، وتحب ما أمرك الله به، وتتجنب ما نهاك عنه؛ والنصح لكتاب الله: أن تعمل بمحكمه وتؤمن بمتشابهه. ¬

(¬1) الدرر السنية (14) . (¬2) رواه مسلم (1) ، وأبو داود (4944) ، والنسائي (2) ، وأحمد (4) من حديث تميم الداري - رضي الله عنه -.

[معنى النصيحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -] : والنصح لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: أن تجزم أنه أفضل الأولين والآخرين، وأنه الصادق المصدوق، وأنه لا ينطق عن الهوى، وأنه المعصوم، وأنه من لا يحب الله وكتابه ورسوله، أحب من نفسه وماله وولده، فلا آمن بالله، ولا حكم ما جاء في كتاب الله. [حكم من فرَّق بين القرآن وبين السنة] : ومن فرق أو شك: أن ما جاء في كتاب الله، يخالف ما جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يخالف كتاب الله، أو أوّل من كتاب الله وسنة رسوله، وكذب على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقد كفر. [حكم من أنكر النبوة والشفاعة] : ومن أنكر شفاعته - صلى الله عليه وسلم - إذا أذن الله له، ولم يرج ذلك؛ أو قال: نؤمن بكتاب الله، ولا نؤمن بمحمد، فقد كفر. [وجوب تدبر القرآن والسنة والعمل بهما] : فإذا فهمنا ذلك، ووقر في قلوبنا، وصحت العقيدة بذلك، فيجب علينا: أن نفكر ونتدبر القرآن، وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما كان عليه مذهب السلف الصالح، ونعمل بما فيه، ونقوم بالواجب، وننكر ما أنكره الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما أنكره السلف الصالح. [الاعتراف بالخطأ فضيلة] : هذا الذي حملني على هذه النصيحة، هو: ما رأيت في هذا الزمان وأهله، من الفساد، وما اقترفه من الذنوب، كبيرنا وصغيرنا، نستغفر الله ونتوب إليه، وما عليه الحالة اليوم. [أقسام الناس ومواقفهم تجاه الحق] : فالناس في هذا الزمان قد انقسموا على أقسام شتى: [1] منهم العارف بالله، وبكتاب الله، والذين يعتقدون عقيدة السلف الصالح، قصَّروا في العمل، وتركوا النصيحة ولم يقوموا بالواجب. [2] وفريق عرف أن الله ربه، والإسلام دينه، ومحمدا - صلى الله عليه وسلم - نبيه ورسوله، لكنهم لم يعرفوا ما هو الواجب عليهم، في كونهم عرفوا الله وما حق ذلك، ولا عرفوا الإسلام وحقيقته، ولا عرفوا ما أرسل به محمد - صلى الله عليه وسلم - وجاهد عليه.

[3] وآخرون: اتخذوا أديانهم أهواءهم، واتبعوا كل ناعق، فمنهم الملحد - والعياذ بالله - ومنهم المتبع لهواه، ومبتدع للطرق والمضال، التي نهانا الله ورسوله عنها. [4] ومنهم من لم يعرف طريق الحق من الضلال، وتمسك بقوله: إنه مسلم؛ ولم يفرِّق بين حق وباطل. [5] ومنهم من أحدث له الشيطان من الخيالات والمفاسد ما أضله به وادعى أنها الحياة الجديدة، وأنها الحرية، وأنها المدنية، وعملها بنفسه وجد واجتهد في الدعوة إليها، والإنكار على من خالفها؛ ويقول: ينبغي أن نتقدم قدام ولا نرجع وراء؛ ومعناه في التقدم هو التمدن والحرية والتأخر هو اتباع كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومذهب السلف الصالح، والتعصب فيه. [القيام بواجب النصيحة] : فبهذه الحال: وجبت علي النصيحة أولًا لكافة المسلمين، وثانيًا لمن ولاَّنا الله – سبحانه وتعالى - أمره، فصار من الواجب علينا أن ننصح أنفسنا، وننصح جميع المسلمين. [الوصية بالكتاب والسنة والجماعة] : بأن نرجع إلى كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ونعتصم بحبل الله جميعًا، ولا نتفرق، فيأخذنا الشيطان إلى طرق الضلال. [التحذير من بطر النعمة] : وأن نحذر من قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53] [سورة الأنفال، آية: 53] ، ومعنى قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] [سورة الإسراء، آية: 16] . [التوبة من الذنوب] : فأما الذنوب والمعاصي، فنستغفر الله ونتوب إليه، فما عملنا من خير فهو من الله وبفضله وكرمه؛ ونقول: اللهم ما أصبح بنا من نعمة، أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، وما عملنا من شر فمن أنفسنا والشيطان، ونستغفر الله ونتوب إليه. والحمد لله الذي لما ابتلى عباده بالمعاصي، وابتلاهم بالامتحان وابتلاهم بكيد الشيطان: منَّ عليهم بالتوبة والاستغفار وذلك من فضله وكرمه.

[سبب ما حصل للمسلمين من الإعراض والفرقة] : أما الحال السابقة في الناس، فهي من كيد الشيطان، ومن أسباب الذنوب، ومن التفرق في الدين ومقاومته بالطرق والضلالات، التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإلا الطريقة واحدة، والمحجة واضحة وهي: ما جاء في معنى لا إله إلا الله المحتوية على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومذهب السلف الصالح. [الإقرار بمذاهب أهل السنة الأربعة] : مع أننا لا ننكر ولا نعترض على المذاهب الأربعة، التي أئمتها أئمة حق، ولم يقصدوا إلا الحق، ولا ينطقوا إلا بما يرونه حقًا، وبما ظهر لهم أنه الحق، وإلا فالزلل لم يعصم منه إلا محمد - صلى الله عليه وسلم -. مع أننا ننكر أن تكون المذاهب الأربعة مللًا، أو أن يعتقد أحد في الأئمة ومن تبعهم اجتهادًا غير موافق لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بتضليل أو مخالفة للحق. [الموقف من الشعارات] : وهذا غير ما ظهر في هذا الزمان من المدعين بالتجدد، وعلى أنهم شبيبة يقومون بواجب بلادهم وشعبهم، ويجب عليهم التقدم والتمدن والحرية، على غير مفهوم هذه الكلمات. [بيان حقيقة الشعارات وخطرها على شباب الأمة] : فهذه النزعة: التي تقود هذه الشبيبة إلى الضلال، هي نزعة شيطان وصدمة للدين وللعرب، ولجميع من تمسك بالسمت ومكارم الأخلاق؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (¬1) . فما من أمر فيه خير وحفظ للسمت والشرف، سواء أتى من عربي أو عجمي، ولا يخالف الكتاب والسنة: إلا وقد جاء فيما أمر به صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه، وزاد عليه بتعليم الخير، كما عمل ذلك مع بعض الوفود الذين وفدوا عليه، وسألهم عن بعض ما هم عليه، وزادهم عليه. ¬

(¬1) رواه البخاري في الأدب المفرد (273) ، وابن سعد (1) ، والحاكم (2) ، وأحمد (2) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (45) .

والآن: فأي مسلم يعرف الإسلام، وينتسب وينسب إليه، ويقر ما أقره هؤلاء الغواة، من لزوم الرجوع عن الدين، وإبداله بما رأوه موافقًا للشهوات الدنيئة، التي لا يقرها دين ولا مذهب، ولا تقرها أصحاب مكارم الأخلاق في الجاهلية، ولا صلحاء أي ملَّة تعرف الشرف والعقل، فهو ضال عن طريق الصواب. [رفض دعوى التمدن الزائفة] : وغير خاف أنه صار في آخر الزمان دعوة للتمدن، وهي - بلا شك - رقصة من رقصات الشيطان، وذلك قوله: «إنني مسلم» بلا عمل ولا اعتقاد، مع اتباع أقوال الملحدين وأهل الفساد، وارتكاب المحرمات في الأقوال والأفعال، مبررًا عمله في ذلك، بأنه: من أعمال البلاد المتمدِّنة. [عبادة غير الله هي أقبح الأعمال] : أما الأمر الذي لا يوجد تحت أديم السماء أقبح منه في العقيدة، وفي الوقت نفسه مخالف لكل عقل سليم، وفكر مستقيم، ونقل قويم؛ هو: كون الرجل يدعو ويعبد، أو يرجو ويخاف غير الله الجبار المتكبر رب العباد، القادر على الأولين والآخرين، من المتجبرين أو المتكبرين الذي جعل الجنة رحمة، ووفق لها كل صاحب خير وسعادة؛ والنار عدله ونقمته، وساق لها أهل الشر والنكد والضلالة. [زيف دعاوى تحرير المرأة] : وأقبح من ذلك في الأخلاق: ما حصل من الفساد في أمر اختلاط النساء، بدعوى تهذيبهن، وترقيتهن، وفتح المجال لهن في أعمال لم يخلقن لها، حتى نبذن وظائفهن الأساسية، من تدبير المنزل، وتربية الطفل، وتوجيه الناشئة - التي هي فلذة أكبادهن، وأمل المستقبل - إلى ما فيه حب الدين والوطن، ومكارم الأخلاق. [وظيفة المرأة الحقيقية] : ونسين واجباتهن الخلقية، من حب العائلة التي عليها قوام الأمم، وإبدال ذلك بالتبرج والخلاعة، ودخولهن في بؤرات الفساد والرذائل؛ وادعاء: أن ذلك من عمل التقدم والتمدن، فلا والله ليس هذا التمدن في شرعنا، وعرفنا وعادتنا. ولا يرضى أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان أو إسلام، أو مروءة، أن

يرى زوجته أو أحدًا من عائلته أو المنتسبين للخير في هذا الموقف المخزي، هذه طريق شائكة تدفع بالأمة إلى هوة الدمار. ولا يقبل السير عليها إلا رجل خارج من دينه، خارج من عقله، خارج من عربيته؛ فالعائلة هي الركن الركين في بناء الأمم، وهي الحصن الحصين الذي يجب على كل ذي شمم أن يدافع عنها. [حفظ الإسلام لحقوق المرأة] : إننا لا نريد من كلامنا هذا التعسف، والتجبر من أمر الناس، فالدين الإسلامي قد شرع لهن حقوقًا يتمتعن بها لا توجد حتى الآن في قوانين أرقى الأمم المتمدِّنة. وإذا اتبعنا تعاليمه كما يجب فلا تجد في تقاليدنا الإسلامية وشرعنا السامي ما يؤخذ علينا، ولا يمنع من تقدمنا في مضمار الحياة والرقي، إذا وجهنا المرأة في وظائفها الأساسية، وهذا ما يعترف به كثير من الأوروبيين، من أرباب الحصافة والإنصاف. [أثر انفلات المرأة على الأمم الأخرى] : ولقد اجتمعنا بكثير من هؤلاء الأجانب، واجتمع بهم كثير ممن نثق بهم من المسلمين، وسمعناهم يشكون مرَّ الشكوى من تفكك الأخلاق، وتصدع ركن العائلة في بلادهم، من جراء المفاسد. [اعتراف عقلاء الأمم بالحقيقة] : وهم يقدِّرون لنا تمسكنا بديننا وتقاليدنا، وما جاء به نبينا من التعاليم العالية، التي تقود البشرية إلى طريق الهدى، وساحل السلام، ويودُّون من صميم أفئدتهم لو يمكنهم إصلاح حالتهم هذه، التي يتشاءمون منها، وتنذر ملكهم بالخراب والدمار، والحروب الجائرة. وهؤلاء نوابغ كتُّابهم ومفكِّريهم، قد علموا حقَّ العلم هذه الهوة الساحقة التي أمامهم، المنقادون لها بحكم الحالة الراهنة، وهم لا يفتئون في تنبيه شعوبهم، بالكتب والنشرات، والجرائد، على عدم الاندفاع في هذه الطريق التي يعتقدونها سبب الدمار، وسبب الخراب. [الإنكار على مدَّعي الرقي] : إنني لأعجب أكبر العجب ممن يدعي النور والعلم، وحب الرقي من هذه الشبيبة، التي ترى بأعينها، وتلمس بأيديها ما نوهنا به من الخطر الخلقي الحائق بغيرنا من الأمم، ثم لا ترعوي عن ذلك، وتتبارى في طغيانها، وتستمر في عمل كل أمر يخالف

تقاليدنا وعاداتنا الإسلامية العربية، ولا ترجع إلى تعاليم الدين الحنيفي، الذي جاء به نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة وهدى لنا، ولسائر البشر. فالواجب: على كل مسلم وعربي فخور بدينه، معتز بعربيته أن لا يخالف مبادئه الدينية وما أمره الله تعالى بالقيام به لتدبير المعاد والمعاش، والعمل على كل ما فيه الخير لبلاده ووطنه. [بيان حقيقة التمدن والرقي] : فالرقي الحقيقي هو: بصدق العزيمة والعمل الصحيح، والسير على الأخلاق الكريمة، والانصراف عن الرذيلة، وكل ما من شأنه أن يمس الدين، والسمت العربي والمروءة، وليس بالتقليد الأعمى، وأن يتبع طرائق آبائه وأجداده، الذين أتوا بأعاظم الأمور، باتباعهم أوامر الشريعة التي تحت عبادة الله وحده، وإخلاص النية في العمل. وأن يعرف حق المعرفة معنى ربه ومعنى الإسلام وعظمته، ومعنى ما جاء به نبينا ذلك البطل الكريم العظيم - صلى الله عليه وسلم - من التعاليم القيمة التي تسعد الإنسان في الدارين؛ وتعلمه: أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن يقوم أود عائلته، ويصلح من شأنها، ويتذوق ثمرة عمله الشريف؛ فإذا عمل هذا فقد قام بواجبه وخدم وطنه وبلاده. [عزم الملك عبد العزيز على القيام بحق الدين والأمة] : إني أرى من واجبي بصفتي مسلمًا، وبحسب عربيتي، وإخلاصي لأبناء قومي أن أقوم بهذه النصائح لمن ولاني المولى أمرهم، مقتديًا في عملي هذا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، الذي أرجو أن أكون تبعًا له في أقوالي وأعمالي، وفي محياي ومماتي، صابرًا على ما تقوله الناس، من الانتقادات، غير مبال لها، ولا وجل منها، كما قيل: إذا كان الذي بيني وبين الله عامر ... فعسى الذي بيني وبين الناس خراب وذلك: لأجل إعلاء كلمة الله، ونصرة دينه، وإسعاد من ولاني المولى أمرهم، راجيًا أن نكون ممن قال فيهم صلوات الله وسلامه عليه: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، إلى أن يأتي أمر الله تبارك وتعالى، وهم على ذلك» (¬1) . ¬

(¬1) رواه البخاري (3640) (3641) ، ومسلم (1920) .

وإني على ثقة تامة: بأن يرى كل صاحب إنصاف، أن واجبي يدعوني لأن أوجِّه هذه النصائح لشعبي المحبوب، ولكل مسلم. [الأصول التي يلتزمها الملك عبد العزيز] : [1] لأني مسلم، محافظ على إسلاميته. [2] عربي غيور على عربيته. [3] متبع لما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -. [4] مقتد بمذهب السلف الصالح، رضوان الله عليهم. [5] حريص على كل ما في تقاليدنا العربية، من مكارم الأخلاق. [6] آمر بما أمر به الإسلام، ناهٍ عما نهى عنه الإسلام. [7] غير منتصر لآبائي وأجدادي، أو لنعرة جاهلية، أو لمذهب من المذاهب غير الكتاب والسنة. [8] وإني بحول الله وقوته: سأثابر على هذه الدعوة المباركة، وأرجو المولى أن ينفع بها، فما كان فيها من الصواب فمن الله، وما كان من الخطأ فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله من ذلك. [9] كما أنني أعاهد الله: بأنني سأقوم - إن شاء الله - بما أوجبه الله وأن أسعى بإلزام من أطاعني بما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأساعد على ذلك. [10] كما أني سأمنع كل من يخالف كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومذهب السلف الصالح، بيدي وقلبي ولساني، على قدر الاستطاعة. وأسأل الله التوفيق والعناية والتيسير لي ولإخواني المسلمين، عامتهم وخاصتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم، سنة 1356هـ» (¬1) . إن النهج الذي سلكه الملك عبد العزيز في تأسيس هذه الدولة المباركة والذي هو امتداد لدعوة الإسلام على مدى التاريخ عامة، ولدعوة الإسلام التي قام بها الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب ونصرها الإمام المؤسس محمد بن سعود وأبناؤه وأحفاده، ونهجته الدولة السعودية في كل مراحلها. ¬

(¬1) الدرر السنية (14 - 408) .

إن هذا النهج كان ولا يزال هو الحل العملي والواقعي لمشكلات الأمة الإسلامية وأخطرها البدع، والتفرق، والجهل، والتخلف، والتبعية والذلة. لقد استطاعت المملكة بتوفيق الله ثم بجهود مؤسسها الملك عبد العزيز وأبنائه وعلماء البلاد وأبنائها المخلصين أن تتجاوز هذه المشكلات، بالتمسك بالدين، والاعتصام بحبل الله الكتاب والسنة) وإظهار شعائر الدين. وكل المنصفين يعترفون بهذه الحقيقة، يقول الأستاذ محمد جلال كشك: «عبد العزيز وحده، بدا ظاهرة مخالفة لقوانين التاريخ. . وحده كان يطرح الحل الإسلامي، وينتصر. . وحده كان يرفع شعارات اعتقد البعض أنها أصبحت في ذمة التاريخ، وفقدت مفعولها، فإذا بها في معسكر عبد العزيز تفعل الأعاجيب، وتثبت أنها وحدها التي استطاعت أن تحقق إنجازًا هو الذي بقي، بينما تلاشت أوهام وأحلام الذين تخلوا عن الإسلام في مطلع القرن العشرين بأمل النجاة من الاسترقاق الأوروبي، أو تحقيق التقدم المادي. تحت راية عبد العزيز التي تحمل شعار التوحيد الإسلامي رأى الناس جيشًا، إن لم يكن جيش الصحابة، فهو يحاول جهده أن يعيد سيرتهم، وينتصر! بينما الهزيمة على كل الجبهات. ها هو زعيم استطاع هو وقومه أن يغيروا ما بأنفسهم، فغير الله ما بهم وسلطهم على من لا يخشون الله. . . وهذا يعني أن «الحل الإسلامي» ممكن، بل وفعال. . وقد أشار حافظ وهبة في رسالته التي بعث بها إلى عبد العزيز، إلى الآمال التي أطلقها سلطان نجد في صدور المسلمين: «كم يكون سروري وسرور قومي إذا سمعنا أن الإمام ابن سعود نهض نهضة جديدة بالإسلام وبالعرب فأرجعهم إلى سابق مجدهم. إن العالم الإسلامي يحتاج إلى زعيم مصلح، يرشده إلى نهج الحق، وإن المسلمين الأحرار، وإن كانوا قلة اليوم فسيكونون قوة غدًا. لقد خاب أمل المسلمين في الأتراك، كما خاب أملهم في شريف مكة، فلعل المسلمين يجدون في عظمتكم ما يحقق أملهم» (¬1) . وكيف لا يحرك عبد العزيز أشجان المسلمين، ويثير آمالهم، وهم يسمعون الأساطير عن سلوك جنده وقضاته، ويسمعونه يتحدث متجهًا إلى مكة بعد «الفتح» فيقول: «إني مسافر إلى مكة، لا للتسلط عليها، بل لرفع المظالم والمغارم التي أرهقت كاهل العباد، إني ¬

(¬1) السعوديون والحل الإسلامي (28، 29) .

مسافر إلى حرم الله لبسط أحكام الشريعة، وتأييدها، فلن يكون بعد اليوم سلطان إلا للشرع، الذي يجب أن تطأطأ له جميع الرؤوس» . وهو يدعو إلى تطهير السلوك والمفاهيم، والأخذ بالمدنية، ويواجه المسلمين بأن العيب فيهم: «من المسائل التي يجب أن نعمل بها، وتعد في طليعة خدمة الدين الحنيف، هي تطهير الإسلام من الأدران والخرافات التي علقت بالدين وهو منها بريء، وإنما ألصقها به أناس نفعيون يبتغون من وراء ذلك النفع المادي» . «الحقيقة المرة التي يجب أن نعترف بها: هي أننا نحن المسلمين لا نحب بعضنا بعضًا، بل نكيد لبعضنا حتى عند الأعداء، ولا نجد في ذلك غضاضة في أنفسنا، إنك لا تجد رابطة بين المسلمين تشد أزرهم، ولا ألفة تدفع عنهم العاديات، فالملك عدو الملك، والتاجر عدو التاجر وهلم جرا» . «إن المسلمين متفرقون اليوم طرائق بسبب إهمالهم العمل بكتاب الله وسنة رسوله» (¬1) . ¬

(¬1) السعوديون والحل الإسلامي (28، 29) .

المبحث الثالث نظام المملكة إسلامي شامل لا يرتبط بمذهب

[المبحث الثالث نظام المملكة إسلامي شامل لا يرتبط بمذهب] المبحث الثالث نظام المملكة إسلامي شامل لا يرتبط بمذهب كما ذكرت في المنهج الذي قامت عليه الدعوة ودولتها أنه الإسلام نفسه، وكونه أحيانًا يغلِّب المذهب الحنبلي في الاجتهاديات. فإن هذا يؤكد هذه الحقيقة؛ لأن المذهب الحنبلي أحد المذاهب الأربعة التي أجمع المسلمون على اعتبارها. ومع ذلك فإن النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية يتسم بالشمولية والأصالة والتزام الإسلام ومصادره دون ارتباط بمذهب أو شعار أو حزب. ونظرًا لأن نظام الحكم في المملكة يقوم على الشريعة الربانية السامية فقد تضمن من الأسس والثوابت والميزات ما لا ترقى إليه كل النظم والتشريعات المعاصرة. وأسوق نماذج من مواد هذا النظام: المادة الأولى: المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولغتها هي اللغة العربية، وعاصمتها مدينة الرياض. المادة السادسة: يبايع المواطنون الملك على كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره. المادة السابعة: يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة. المادة الثامنة: يقوم الحكم في المملكة العربية السعودية على أساس العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الإسلامية. المادة العاشرة: تحرص الدولة على توثيق أواصر الأسرة والحفاظ على قيمتها العربية والإسلامية

ورعاية جميع أفرادها وتوفير الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم وقدراتهم. المادة الحادية عشرة: يقوم المجتمع السعودي على أسس من اعتصام أفراده بحبل الله، وتعاونهم على البر والتقوى، والتكافل فيما بينهم، وعدم تفرقهم. المادة الثالثة والعشرون: تحمي الدولة عقيدة الإسلام. . وتطبق شريعته وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. . . وتقوم بواجب الدعوة إلى الله. المادة الرابعة والعشرون: تقوم الدولة بإعمار الحرمين الشريفين وخدمتهما. . . وتوفر الأمن والرعاية لقاصديهما بما يمكن من أداء الحج والعمرة والزيارة بيسر وطمأنينة. المادة الخامسة والعشرون: تحرص الدولة على تحقيق آمال الأمة العربية والإسلامية في التضامن وتوحيد الكلمة. . وعلى تقوية علاقاتها بالدولة الصديقة. المادة السادسة والعشرون: تحمي الدولة حقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية. المادة التاسعة والعشرون: ترعى الدولة العلوم والآداب الثقافية، وتعنى بتشجيع البحث العلمي، وتصون التراث الإسلامي والعربي، وتسهم في الحضارة العربية والإسلامية والإنسانية. المادة الخامسة والأربعون: مصدر الإفتاء في المملكة العربية السعودية. . . كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويبين النظام ترتيب هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء واختصاصاتها. المادة الثامنة والأربعون: تطبق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكام الشريعة الإسلامية وفقًا لما دل عليه الكتاب والسنة وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة.

المادة الخامسة والخمسون: يقوم الملك بسياسة الأمة سياسة شرعية طبقًا لأحكام الإسلام، ويشرف على تطبيق الشريعة الإسلامية، والأنظمة السياسية العامة للدولة، وحماية البلاد والدفاع عنها. المادة السابعة والستون: تختص السلطة التنظيمية بوضع الأنظمة واللوائح فيما يحقق المصلحة أو يرفع المفسدة في شؤون الدولة وفقًا لقواعد الشريعة الإسلامية. . . وتمارس اختصاصاتها وفقًا لهذا النظام ونظامي مجلس الوزراء ومجلس الشورى. وجاء في نظام القضاء: مادة1: القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية، وليس لأحد التدخل في القضاء. وجاء في نظام مجلس الشورى: المادة الأولى: عملًا بقول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] [سورة آل عمران، آية: 159] وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38] [سورة الشورى، آية: 38] واقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مشاورة أصحابه وحث الأمة على التشاور. ينشأ مجلس الشورى ويمارس المهام المنوطة به وفقًا لهذا النظام والنظام الأساسي للحكم ملتزمًا بكتاب الله وسنة رسوله محافظًا على روابط الأخوة والتعاون على البر والتقوى. المادة الثانية: يقوم مجلس الشورى على الاعتصام بحبل الله، والالتزام بمصادر التشريع الإسلامي، ويحرص أعضاء المجلس على خدمة الصالح العام والحفاظ على وحدة الجماعة وكيان الدولة ومصالح الأمة.

المبحث الرابع التزامات المملكة الدولية تنفي المزاعم

[المبحث الرابع التزامات المملكة الدولية تنفي المزاعم] المبحث الرابع التزامات المملكة الدولية تنفي المزاعم تميزت المملكة العربية السعودية بالوفاء بالتزاماتها الدولية المعنوية والمادية، أمام الحكومات والمؤسسات والمنظمات والهيئات الدولية، واحترام العهود والمواثيق والنظم الدولية المعتبرة. وكانت المملكة تبادر من خلال المؤسسات الدولية، ومن خلال جهودها الذاتية كذلك إلى كل ما يحقق التعاون، والعدل والسلام والأمن والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والمحاورة بالتي هي أحسن. وللمملكة كذلك اليد الطولى في المبادرة في الإغاثة والمساعدات الإنسانية في كل العالم عامة، والعالم الإسلامي بخاصة. وفي كل ذلك تلتزم أحكام الإسلام، كما نوه عن ذلك صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الأربعين حيث قال: «إن انقضاء أربعين عامًا على إنشاء منظمة الأمم المتحدة مناسبة هامة تحتم علينا التفكير وبسرعة في عمل جاد ومسؤول لتكريس الالتزام بالمبادئ الأساسية لمنظمتنا هذه، ولتعميق أهدافها ومراميها الخيرة، وهي فرصة ثمينة لكي تتضافر جهود كافة أعضاء المجتمع الدولي في بناء عالم قوامه صدق النية وتحكيم المبادئ والأخلاقيات بدلًا من تغليب القوة والقهر حتى يسود السلام وتزول سياسات الصراع والحروب فتسوى المنازعات بالحسنى، وتجري العلاقات بوجه بناء نافع، وحتى تسخر طاقات هذا العالم البشرية وإمكانياته المادية للرقي بحياة الإنسان، ولا تبدد في سباق التسلح وأدوات الفتك والتدمير، وحتى يسود العدل وتقوم العلاقات بين الدول على المساواة والأخوة والتعاون. . . يقول الله – سبحانه وتعالى - في كتابه الكريم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] [سورة المائدة، آية: 2] صدق الله العظيم. إن المملكة العربية السعودية يسرها الإشادة بكافة المؤسسات التي هدفها حماية حقوق الإنسان شريطة توافر حسن النية والموضوعية واحترام خصوصية كل مجتمع وحضارته وثقافته» (¬1) . ¬

(¬1) المملكة العربية السعودية والمنظمات الدولية - طلال محمد نور عطار (53، 54) .

فقد نبه سموه الكريم إلى أمرٍ طالما أكدت عليه المملكة في المناسبات والمحافل المحلية والدولية والعالمية وهو أن المملكة ذات خصوصية دينية وجغرافية واجتماعية تفرض عليها أوضاعًا والتزامات معينة يجب احترامها دوليًا، كغيرها من كثير من دول العالم، والعهود والمواثيق والنظم الدولية تحترم هذه الخصوصيات. بل إن المملكة انطلاقًا من قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] [سورة المائدة، آية: 2] كثيرًا ما تطرح مبادرات إيجابية (خليجيًا وعربيًا وإسلاميًا وعالميًا) في سائر شؤون الحياة دينية وسياسية واقتصادية وعسكرية، وفي تحقيق العدل والأمن والتعاون ومكافحة الجريمة. وأسوق للقارئ (على سبيل المثال) مسردًا بعضوية المملكة في المنظمات الدولية والوكالات المتخصصة واللجان والبرامج التابعة للأمم المتحدة ومن ذلك: 1 - الاتحاد الدولي للاتصالات السلكية واللاسلكية (ITU) 2 - منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) . 3 - منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) . 4 - منظمة الصحة العالمية (WHO) . 5 - الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) . 6 - المنظمة الدولية للملاحة البحرية (IMO) . 7 - المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO) . 8 - منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (UNIDO) . 9 - المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع لهيئة الأمم المتحدة (ECOSOC) . 10 - المنظمة الدولية للطيران المدني (ICAO) . 11 - اتحاد البريد العالمي (UPU) . 12 - برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) . 13 - برنامج الغذاء العالمي (WEP) . 14 - اللجنة الاستشارية للعلوم والتقنية (ACSTD) . 15 - لجنة الخبراء لحماية ومراقبة الجريمة (CCPC) .

16 - اللجنة التنفيذية للمنظمة الدولية للمنائر والعلامات الملاحية (أيلا) . 17 - لجنة حقوق الإنسان، وقد فازت المملكة العربية السعودية بعضوية لجنة حقوق الإنسان التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي للفترة من عام 1421هـ (2001م) إلى عام 1423هـ (2003م) بأغلبية (48) ثمانية وأربعين صوتًا من إجمالي الأصوات المشاركة في التصويت والبالغ عددها (54) أربعة وخمسين صوتًا. وقد حصلت المملكة العربية السعودية على أعلى نسبة من الأصوات من بين الدول الثمان التي كانت مرشحة لعضوية لجنة حقوق الإنسان التي فازت منها ست دول بالعضوية. ويأتي فوز المملكة العربية السعودية بهذه العضوية تقديرًا لدورها العالمي ومصداقيتها في مجال خدمة حقوق الإنسان التي تعتبر أساسًا من أساسات العقيدة الإسلامية التي تطبقها المملكة العربية السعودية في جميع شؤونها. كما يأتي هذا الفوز ردًا من المجتمع الدولي على الادعاءات الظالمة التي وجهتها بعض المنظمات المهتمة بحقوق الإنسان إلى المملكة العربية السعودية من غير أن يكون لها أي أساس من الصحة أو المصداقية» (¬1) . إن أسمى ما تسعى إليه أمم الدنيا ودول العالم كلها ومؤسساته: تحقيق الأمن والسلام، وقد كان الأمن هو الإنجاز الأول الذي تحقق على يد الملك عبد العزيز لا سيما لحجاج بيت الله، وذلك بفضل الله ثم العمل بالشرع. وكانت أحْوج البلاد إلى الأمن هي بلاد الحرمين، لما تحويه من المقدسات والمشاعر المعظمة، ولكثرة ما يؤمها للحج والعمرة من بقاع الدنيا، وقد نعمت بحمد الله بهذا الأمن منذ أن دخلت ضمن الدولة السعودية وقد شهد بذلك الجميع. يقول أحد الحجاج مقارنًا بين الحال التي صارت إليها أوضاع الحرمين في عهد الملك عبد العزيز وبين ما كان قبل ذلك: «وقد كان أولئك المطوفون يتلقفون الحجاج ولا سيما بسطاؤهم فيبتزون أموالهم ويلقنونهم أقوالًا خرافية منافية للشرع والعقل معًا. ¬

(¬1) المملكة العربية السعودية والمنظمات الدولية (74 - 76) .

أما الآن فقد قضى نظام الحكم الجديد (¬1) على تلك المظالم والبدع السخيفة، ووضع أولئك المطوفين تحت مراقبة شديدة، فإن أقل شكاة يرفعها أحد الحجاج ضد أحدهم تكون كافية لإبعاده عن حظيرة المطوفين. أما مشكلة الأمن العام التي كانت هي في الواقع أم المشاكل ورأس كل الخطايا مما كان يحسب له المسلمون الراغبون في حج بيت الله الحرام أكبر حساب، فقد كانت في طليعة المشاكل التي استطاعت الحكومة الجديدة حلها على أهون سبيل، فمنذ حل حكم الشرع محل القانون المدني والجنائي، وأدرك دعاة الشر والإجرام ما هو حكم الشرع حيالهم، نزعوا عنهم ثيابهم، وغسلوا أيديهم من أوزار الماضي، ووضعوا أنفسهم رهن ما يقضي به حكم الشرع إذا ما حدثتهم نفوسهم بمخالفة ما تقضي به هاتيك الأحكام، فكان أهم ما انقطع دابره تلك الفعلة المشئومة التي كان يلجأ إليها لصوص الصحراء وقطاع الطرق الذين كانوا يستدينون الأموال من بعضهم بعضًا على أن يقوموا بسدادها من أسلاب الحجاج وما يغنمونه من أموالهم، فقد عمد الملك عبد العزيز فوق اعتماده على إنفاذ حكم الشرع إلى بسط يده بالإحسان إلى فقراء هؤلاء البدو، وبذلك أمنت القوافل التجارية على ما تحمله من بضائع وسلع مهما بلغت قيمتها، وأمن الحجاج كذلك على أرواحهم ومتاعهم، يدلك على ذلك أن رجال المحمل المصري عندما سافروا في العام الماضي أثبت سعادة أمير الحج في تقريره لولاة الأمور أن عصابات البدو التي اعتادت غزو المحمل ورجاله لم يبق لها أثر في الحجاز، وفي هذا العام سافر الحجاج المصريون وعادوا دون أن يصيبهم أقل اعتداء، حتى قال لنا أحد الحجاج: «إن امرأة مصرية تستطيع أن تبرح مصر بمفردها وتقصد إلى قلب الحجاز وتقوم بفريضة الحج ثم تعود دون أن يصيبها أقل مكدر» والظاهر أن استقرار حالة الأمن حملت أحد أعضاء مجلس الشيوخ المصري على التصريح رسميًا بأن المحمل وحرسه أصبح بدعة يجب إبطالها، وقد تألفت لجنة خاصة للنظر في هذه المسألة» (¬2) . ¬

(¬1) حكم الملك عبد العزيز آل سعود. (¬2) في قلب الحجاز محمد شفيق أفندي مصطفى (82 - 84) باختصار.

المبحث الخامس يعيبون أحكام الإسلام ثم ينسبونها للمملكة وللوهابية

[المبحث الخامس يعيبون أحكام الإسلام ثم ينسبونها للمملكة وللوهابية] المبحث الخامس يعيبون أحكام الإسلام ثم ينسبونها للمملكة وللوهابية كثيرون من الذين ينتقدون نهج المملكة العربية السعودية في تطبيق الشريعة ويسمونها (بالوهابية) يجهلون أنهم بذلك إنما يعيبون الإسلام نفسه فيذكرون قضية المرأة والتعليم الديني، وتطبيق الحدود الشرعية (كقطع يد السارق، وجلد الشارب، وقتل المرتد) والقضاء الشرعي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك مما هو من قطعيات الدين ومسلماته، وثوابت الشريعة الإسلامية التي يدين بها كل مسلم، والتي تدين بها المملكة بصفتها دولة مسلمة، وتحكم مجتمعًا مسلمًا في بلاد بيضة الإسلام ومقدساته، وربما يصل الأمر بهؤلاء الناقدين من أفراد ودول ومؤسسات إلى اعتبار العمل بشرع الله وتطبيق الحدود وصيانة المرأة المسلمة انتهاكًا لحقوق الإنسان! . وهذا ناتج عن جهل هؤلاء لموقع المملكة الديني والجغرافي والاجتماعي من حيث كونها قلب العالم الإسلامي وروحه دينيًا وجغرافيًا وسياسيًا، وأن نهج ذلك لم يكن عن مسلك خاص أو مذهب تتفرد به من عند نفسها، بل هو الإسلام نفسه، وإن سماه بعضهم (وهابية) . ولخطورة هذه القضايا التي يثيرونها ضد المملكة نقف عند مناقشة نماذج منها بموضوعية: 1 - تطبيق الشريعة عمومًا، وتطبيق الحدود خصوصًا، كقطع يد السارق، وقتل المفسد والمرتد. 2 - تحريم دخول مكة على غير المسلم، ومنع إحداث معابد لغير المسلمين. 3 - قضايا المرأة مثل: الحجاب، تعدد الزوجات، كون المرأة نصف الرجل في الميراث والشهادة. [المملكة والعمل بشرع الله وحدوده] المملكة والعمل بشرع الله وحدوده: إن المملكة العربية السعودية حين حكَّمت شرع الله في سائر أحوالها، وجعلت مصدر التشريع (كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -) ليس لأنها (وهابية) كما يزعمون، ولكن لأنها دولة مسلمة تحكم شعبًا مسلمًا 100% وتحوي المقدسات الإسلامية، ومنبع الإسلام، فعملها بشرع الله هو الأساس الذي قامت عليه. وقد نصت على ذلك المادتان (1) و (7) وغيرهما من نظام الدولة،

وليس أمامها خيارات أخرى، وذلك (¬1) إن التحاكم إلى الشريعة الإسلامية واجب على المسلمين كوجوب الصلاة والصيام، ويعتبر المجتمع المسلم آثمًا إذا تخلى عن تطبيق الشريعة الإسلامية وهو قادر عليها، كما قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] (¬2) و (الظالمون) و (الفاسقون) . لأن الشريعة الإسلامية نظام إلهي أنزله الله رب البشر، ولا يستوي مع نظام شرعه البشر، أو نظام صاغه البشر. وبما أن الشريعة نظام إلهي أنزله الله الذي هو سبحانه أعلم بما يحتاجون إليه فجعل شرعه ملبيًا لاحتياجاتهم محيطًا بما يستجد من حياتهم، وقد كفل هذا الشرع ألا يتميز جنس على جنس أو طبقة على طبقة؛ لأنه نزل من رب الجميع فهو شرع للجميع. كما أن هذا الشرع مُحْكَمٌ فلا يمكن أن يبيح اليوم أمرًا ثم يحظره غدًا أو العكس، بينما نرى الشرائع والقوانين الأرضية تحرم هذا الأمر في سنة ثم تجيزه أخرى، وهكذا من غير ثبات، بل ربما وجدت القانون الواحد يختلف تطبيقه من بلد إلى بلد، ومرد ذلك لرغبة الحاكم أو المجلس التشريعي في البلد، مما يفقد هذه الشرائع ثباتها واستقرارها. إن المسلمين الذين يطالبون بتطبيق الشريعة الإسلامية اليوم محقون في مطالبتهم ويجب على المجتمع الدولي - وفق معاييره المعاصرة - أن ينصرهم ويعينهم لتحقيق مطالبهم وذلك: أن المبادئ والشعارات الديمقراطية التي ينادي بها الناقدون للمملكة تلزم بالعمل بما تختاره في المجتمع، ولا تزال الأكثرية المسلمة في المجتمعات الإسلامية تطالب بتطبيق الشريعة، فيجب أن تمكن من تحقيق طلبها وفق المبادئ الديمقراطية. فكيف والمجتمع السعودي كله مسلم؟ والمملكة كذلك تطبق نظام العقوبات الإسلامية والحدود من هذا المنطلق: إن الحدود والعقوبات - جسدية أو غير جسدية - ما هي إلا أحكام تنص عليها الشريعة كما ينص على مثلها أي قانون في الدنيا باعتبارها جزاءات توقع على المخالفين، ¬

(¬1) كثير من مادة هذه القضايا تم اقتباسها من مذكرة للدكتور محمد بن عبد الله السحيم (6 - 30) بتصرف. (¬2) سورة المائدة، آية (44) .

قطع يد السارق

وكل شعوب العالم ودوله لها خصوصياتها ومناهجها في قوانينها وأنظمتها الخاصة في قانون الجزاء والعقوبات وغيرها. ويبقى النظر في المصالح المتحققة من جراء القانون ومدى إعطائه أثره ونتيجته كحافظ للأمن ومثبت لاستقرار الناس في معاشهم وتنقلاتهم وأخلاقهم. وقد أثبت نظام العقوبات والحدود في الإسلام (والذي تعتز به المملكة) أنه الأنفع والأجدى في حفظ الضرورات الخمس (الدين والعقل والنفس والمال والنسب) وفي الردع والعدل، وليس من الإنصاف انتزاع مادة من قانون أو حكم من شريعة وإبرازه وكأنه مثلبة في هذا القانون أو ذاك. ولكن نظرة الإنصاف تقتضي النظر إلى النظام كله، شروط الجريمة وتحققها وشروط إيقاع الجزاء وأسباب ذلك. [قطع يد السارق] على سبيل المثال: من أشهر العقوبات قطع يد السارق وقتل المفسد في الأرض وقتل المرتد. أما عن قطع يد السارق، وقتل المفسدين في الأرض فإنك تجد في تاريخ الإسلام الطويل أن تنفيذها كان في حالات يسيرة، ليس لأنها غير عملية، وإنما من أجل الأمان الذي تحققه الشريعة في صرامة العقوبة، ثم الشروط الموضوعة لتطبيقها، حيث تدرأ الحدود بالشبهات، ثم إن قطع يد واحدة أو قتل مجرم تكون فيه حماية للملايين من الأجيال بهذا الرادع الفردي. وقبل ذلك كله أن الله تعالى هو الذي حكم في كتابه الكريم بقطع يد السارق فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] [سورة المائدة، آية: 38] وحتى يكون الأمر أكثر واقعية نستشهد بالواقع المعاصر بقوانينه ونظمه. إن الأمم المعاصرة وبخاصة دول الغرب قد ملكت أسلحة فتاكة وأجهزة نفاذة وتقنيات متقدمة ووسائل دقيقة واستكشافات باهرة وبخاصة في مجال مكافحة الجريمة، وبحوثًا ودراسات وطرقًا في الملاحقات وتتبع المجرمين، إضافة إلى التوعية الإعلامية الواسعة للجمهور والاستنارة بالثقافة والتقدم العلمي والوعي المعرفي للأفراد والجماعات، وعلى الرغم من كل ذلك فإن الجريمة تستفحل ويزداد المجرمون عتوًا وطغيانًا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن تركيزهم منصب على استصلاح المجرمين وتهذيب الأشرار، وقد أرادوا أن يجعلوا من السجون أماكن تهذيب وعنابر إصلاح، واعتبروا المجرمين مرضى أحق بالعلاج منهم

قتل المفسدين

بالعقاب، وألقوا باللائمة على عوامل الوراثة والبيئة والفساد الاجتماعي، وهذا قد يكون حقًا لا ينكر، ولكن الأمر ليس مقصورًا على هذا الجانب وحده، ذلك أن العضو المريض قد تكون المصلحة في بتره حتى لا يسري مرضه إلى الجسم كله، وهذا أمر مقرر عقلًا وواقعًا، وشرعًا قبل ذلك. [قتل المفسدين] والفساد الاجتماعي ما هو إلا من مجموع فساد الأفراد: والسجن فقط كما تنحى أكثر القوانين الوضعية ليس هو الحل الأمثل، فالسجون غلظت فيها قلوب كثير من المجرمين وخرجوا منها في ضراوة أشد وشقاوة أعظم، ومن اليسير أن يتعاون المجرمون واللصوص والقتلة في رسم الخطط، ويجعلوا من السجن ساحات ممهدة للتدارس وتقاسم المهمات يشاركهم في ذلك إخوان لهم في الغي خارج القضبان. وأنت ملاحظ ومدرك أن فكرة الهدف الإصلاحي للمجرمين والمعالجات اللينة قد مضى عليها عشرات السنين فلم تجد في أكثر المجرمين نفعًا، بل ومع هذا فالإجرام في تزايد مطرد، فما كان هذا الهدف إلا وهمًا وسرابًا. كما أن كثيرًا من أصحاب الجريمة يجعلون من السجن دار استجمام وترفه. إن المجتمع الإنساني المعاصر قد بلغ المجرمون فيه ذروة من الاستهتار والاستباحة والاسترخاص للدماء والأموال والأعراض جعلت العقوبات في التشريعات الوضعية ضعيفة هزيلة بجانب سوء صنائع هؤلاء العتاة المجرمين. أي رحمة أو تهذيب يستحقها هؤلاء القتلة والسفاكون وقطاع الطريق؟ وهل كانوا رحماء بضحاياهم الأبرياء؟ وهل كانوا رحماء بالمجتمع كله؟ بل تطور الأمر كما هو مشاهد إلى تطور المجرمين في وسائلهم فصاروا يشكلون العصابات التي تفوق أحيانًا في إمكاناتها ووسائلها وتجهيزاتها الدول والحكومات، ولا أدري أي عقاب سوف ينزله هؤلاء الرحماء بتجار المخدرات وأصحاب الجرائم الكبرى الذين لا نزال نسمع ازدياد أعمالهم وأخبارهم واستفحال إجرامهم حتى أصبحوا ظاهرين غير متسترين، بل صاروا يفاوضون الحكومات علنا في كل البلاد التي لا تحكم بشرع الله؟ وبناء على ما سبق فإن العلم والثقافة والحضارة والمدنية في صورتها الراهنة حينما خلت من العقوبات الرادعة أصبحت عاجزة عن دفع الأخطار عن الإنسان الذي يعيش حياة الخوف والرعب على الأرض وفي الجو والبحر وفي المنزل والمكتب والمصنع والشارع.

قتل المرتد

ومجرم اليوم كما أسلفت مزود بالعلم والمعرفة، ويتطور مع تطور أنظمة الشرطة وتجدد أساليب الملاحقة والمتابعة، ويخطط كما يخطط رجال الأمن، والكل في صراع لا يفصله إلا العقاب الزاجر العادل. وأخيرًا فإن هناك العقوبات الجسدية التي يعيبون المملكة بها صارت تطبقها بعض القوانين المعاصرة، وأبرزها عقوبة الإعدام، بل هذه العقوبة كانت ملغاة في بعض القوانين، ثم عادوا إليها، وفي كتابنا نحن المسلمين عبارة جامعة قاطعة: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] [سورة المائدة، آية: 50] ، وقال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] [سورة البقرة، آية: 179] . [قتل المرتد] أما عن قتل المرتد: فإن المملكة العربية السعودية حين تحكم بقتل المرتد، فإنها لا تفعل ذلك حتى تستكمل الإجراءات النظامية أو الشرعية والقضائية، فهي تُحَكِّمُ شرع الله في ذلك، إذ صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من بدَّل دينه فاقتلوه» (¬1) وهي مع ذلك لا تجبر أحدًا على الإسلام كما قال الله - عز وجل -: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] [سورة البقرة، آية: 256] وذلك يعني: أولًا: أنه لا يجوز للسلطة إجبار أحد على الإسلام؛ لكنه حين يدين به ويلتزمه ويعلن ذلك يلتزم تبعات التزامه التي منها أنه لو ارتد وجب قتله. ثانيًا: أن الإنسان لا يقبل منه الدخول في الإسلام حتى يستعد لقبوله، ويلتزم أركان الإسلام، ويقتنع فيه، ويأتي إليه راغبًا لا راهبًا، جادًا لا هازلًا، فإذا أسلم الإنسان وخالطت بشاشة الإيمان قلبه فلا يمكن أن يرتد عنه، ولذا قال هرقل - ملك الروم - لأبي سفيان: وهل يرتد عنه - أي الإسلام - أحد سخطة عليه؟ فقال: لا. فقال فكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب (¬2) . ثالثًا: إن الذي يدخل في الدين بغير نية صادقة والتزام جاد، فإنه يسيء إلى نفسه، ثم يسيء ¬

(¬1) رواه البخاري (2) ، (4) ، وأبو داود (4351) ، والنسائي (2) ، والترمذي (1 - 276) ، وابن ماجه (25355) ، وأحمد (1) . (¬2) رواه البخاري رقم (7) ، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله. . . . . . . إلخ.

إلى الإسلام وأهله جدير بالعقوبة. وجميع القوانين الدولية تجيز قتل من يعارض المصالح الكبرى للأمة، أو يتعدى فساده، مثل من يتجسس عليهم أو يريد إشاعة الفوضى وإظهار الفساد في المجتمع، كما أن الذي يرتد عن الإسلام كان يعلم قبل إسلامه أن عقوبة المرتد هي القتل، فلماذا يغامر ويدخل في دين يعلم أن عاقبة الارتداد عنه القتل؟ إنه حين يفعل ذلك فسيتهم بأنه لم يغامر ويعزم أنه سيرتد إلا لمكيدة سابقة دبرها للإسلام، أو تم استئجاره لذلك. رابعًا: ليس في قتل المرتد عن الإسلام انتهاك لحقوق الإنسان؛ لأنه هو الذي اختار هذا الطريق وعلم المصير الذي يؤول إليه. خامسًا: أن الخروج عن الإسلام يعتبر خروجًا عن النظام العام؛ ذلك أن الإسلام دين كامل، كما يهتم بعلاقة المرء بربه فهو يهتم بعلاقته بغيره من بني جنسه بين الإنسان ومجتمعه وسلطانه، وبينه وبين أقربائه، وبينه وبين أعدائه حربًا وسلمًا في شمول منقطع النظير عبادة ومعاملة وجناية وقضاء، إلى سائر ما تنقسم إليه قوانين الدنيا، ولذا يجب النظر إلى الإسلام ككل متكامل وليس قاصرًا فقط على علاقة العبد بربه كما يظنه غير المسلمين، وإذا كان ذلك كذلك فالردة تعني الخروج على النظام العام. سادسًا: أن في جعل العقوبة في الردة إباحة دم المرتد وقتله زاجرًا لمن يريد الدخول في هذا الدين نفاقًا وإرصادًا، وباعثًا له على التثبت في أمره، فلا يعتنقه إلا على بصيرة وسلطان بَيِّن، فلديه تكاليف وشعائر يتعسر الاستمرار عليها من قبل المفسدين أصحاب الضمائر الفاسدة وأصحاب المآرب المدخولة. سابعًا: للمرء قبل أن يسلم أن يؤمن ويكفر، فإذا آثر أي ديانة فلا اعتراض عليه ويبقى له حق الحياة والعيش بسلام، فإذا آمن بالإسلام فعليه أن يخلص له ويتجاوب معه في أمره ونهيه. ثامنًا: ليس من الحرية في شيء أن يمكن لشخص من أن يخرج على دين المجتمع وينبذ قواعده ويستهزئ بشعائره ومقدساته ويشاق أبناءه، فإن ذلك يعد خيانة للدين والوطن. تاسعًا: أن عقوبة القتل (الإعدام) موجودة في كثير من القوانين المعاصرة للمفسدين وأصحاب الجرائم البشعة والكبرى لمهربي المخدرات أو غيرهم لجدواها في القضاء على الجريمة وحماية المجتمع منها، وإفساد الدين أعظم من الإفساد في بعض مناحي

منع دخول غير المسلمين إلى مكة والمدينة

الحياة، ولم يقل أحد إن تشريع عقوبة الإعدام في حق هؤلاء المفسدين الذين يهربون المخدرات مصادم لحريتهم، إذ كانوا قد تجاوزوا في حرياتهم حتى سطوا على حريات الآخرين. [منع دخول غير المسلمين إلى مكة والمدينة] منع دخول غير المسلمين إلى مكة والمدينة، ومنع إحداث معابد لغير المسلمين في جزيرة العرب: وهذا كسابقه حكم شرعي تقتضيه التعاليم الدينية، ولم تشرعه الدولة السعودية ولا ما يسمونه المذهب (الوهابي) فقد نصت الآيات القرآنية والسنة النبوية على هذه الخصوصية. أما عن منع غير المسلمين دخول مكة والمدينة: فإن الإسلام يحرم على غير المسلمين دخول مكة وكذلك دخول المدينة، ويعلل ذلك بأن هذا ليس نظامًا مدنيًا شرعه المسلمون، أو الحاكم، بل هو تشريع رباني لا خيار للمسلمين فيه. فما تختص به جزيرة العرب عامة والحرمين خاصة في الإسلام من أحكام شرعية إلهيَّة جعلتها تتميز بها عن غيرها، حتى إن المسلم نفسه إذا ارتكب في مكة إثمًا فإنه يضاعف عليه العذاب لحرمة المكان، بل إن المسلم يحرم عليه أن يصيد فيها الصيد أو يقتلع منها النبات البري، وعليه: فإن منع غير المسلم من دخول مكة والمدينة حكم من أحكام كثيرة شرعت في الإسلام لخصوصية المكان، بعضها خاص بمكة وبعضها بالمدينة، وبعضها بهما معًا، وبعضها يعم جزيرة العرب، وهي أحكام باقية ولازمة إلى قيام الساعة. وكذلك بناء المعابد في جزيرة العرب لغير المسلمين غير جائز في الإسلام (¬1) تمنع المملكة العربية السعودية بناء المعابد والكنائس على أرضها؛ لأن الإسلام يحرم بناء معابد لغير المسلمين على أرض الجزيرة العربية، كما يحرم منح حق المواطنة في جزيرة العرب لغير المسلم. ¬

(¬1) كثير من مادة هذا الفصل مقتبسة من كتاب (حقوق غير المسلمين في بلاد الإسلام) للدكتور صالح بن حسين العايد (73 - 85) . (بمراجعة) ، ومذكرة الدكتور محمد بن عبد الله السحيم المشار إليها أول هذا المبحث.

فالمملكة بحكم مسئوليتها الدينية، وبحكم سيادتها وبصفتها دولة إسلامية تحكم أرض المقدسات ملتزمة شرعًا بمنع إنشاء المعابد لغير المسلمين في أراضيها، ومن المعلوم أن المجتمع الدولي في العصر الحديث يتكون من دول ذات سيادة على أراضيها بحدود معترف بها، وأنه من حق كل دولة أن تطبق أنظمتها (قوانينها) داخل حدودها على رعاياها وعلى المقيمين على أراضيها، وألا يطبق في أراضيها نظام (قانون) أجنبي إلا طبقًا لدستورها ونظامها العام، وأمَّا سريان التزاماتها التعاهدية بموجب مواثيق منظمة الأمم المتحدة وقراراتها التي تتناول حقوق الإنسان على وجه الخصوص فهو مقيد بشرط عدم المساس بنظام الدولة ودينها وأمنها العام، حسبما ورد في نصوص المواثيق والإعلانات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. والشريعة الإسلامية لا تمنع حق الإنسان في الاعتقاد وممارسة الشعائر، ومن ثم فالمملكة العربية السعودية - التي تلتزم بالشريعة الإسلامية في سياستها الداخلية والخارجية - لا تعارض المواثيق الدولية المتعلقة بالمبادئ العامة والخاصة لحقوق الإنسان الأساسية في مجال حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر، وقد يوجد الخلاف حول بعض المفاهيم في مجال تطبيق هذه المبادئ وكيفية تنفيذها، وعلى الحدود التي ينبغي عدم تعديها في هذا الشأن، لكن ليس لأحد أن يفرض علينا مفهومًا يُختلف عليه. فالإسلام لا يبيح أن يقام في الجزيرة العربية أماكن للعبادة غير المساجد، ولا أن تمارس فيها الشعائر الدينية لغير المسلمين علانية، لما روى مالك في الموطأ عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يبقين دينان في جزيرة العرب» (¬1) . وليس القصد من هذا اتخاذ موقف تمييزي ضد غير المسلمين من معتنقي الديانات الأخرى؛ لأن هذا التحريم شمل العرب غير المسلمين أيضًا، كما أن الشرع الإسلامي جعل لبعض مناطق الجزيرة حرمة خاصة فلا يجوز لغير المسلم عربيًا كان أم غير عربي أن يدخل الأماكن المقدسة (كالحرم المكي) كما لا يجوز للمسلم نفسه أن يخل بحرمتها ولو بصيد الحيوان أو ¬

(¬1) رواه مالك ص (556) ، مرسلًا عن عمر بن عبد العزيز ولفظه «كان آخر ما تكلم به رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أنه قال: قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ولا يبقين دينان بأرض العرب» . وله شاهد من حديث ابن عباس عند البخاري رقم (3168) ومسلم (4232) .

اقتلاع النبات البري، فيعد ذلك - إذا حدث - من المسلم إثمًا دينيًا. وفي ظل هذه الخصوصية الدينية والتاريخية للجزيرة العربية استمر هذا الوضع وسريان أحكامه في المملكة العربية السعودية، فلم تنشأ فيها معابد أو أماكن عبادة أخرى غير المساجد ولم تمارس فيها الشعائر الدينية علنا لغير المسلمين. ولذلك أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية الفتوى ذات الرقم 21413 في 1/4\1421هـ الموافق 3/7\2000م مؤكدة على عدم جواز إقامة معابد لغير المسلمين ولا السماح بإعلان شعائرهم في جزيرة العرب، وأصدر المجلس الأعلى للدعوة والإغاثة في جلسته المنعقدة بالقاهرة بتاريخ 10/10\2000م برئاسة فضيلة شيخ الأزهر بيانًا تضمن التأكيد الحاسم بأن الجزيرة العربية وقلبها المملكة العربية السعودية هي الحصانة الجغرافية لعقيدة الإسلام، ولا يجوز شرعًا أن يقوم فيها دينان، ولا يجوز بحال أن يشهر على أرضها غير دين الإسلام. كما أصدر المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة بيانًا في جلسته المنعقدة برئاسة فضيلة شيخ الأزهر في القاهرة بتاريخ العاشر من أكتوبر عام 2000م حول التصريحات الصادرة عن الكردينال (بيفي) أسقف (بولونيا) وغيره من مسؤولي الكنيسة الكاثوليكية في إيطاليا والفاتيكان، ضد المسلمين، التي تطالب ببناء كنائس في السعودية، وقد تضمن ذاك البيان ما نصه: «التأكيد الحاسم بأنَّ الجزيرة العربية، وقلبها المملكة العربية السعودية، هي الحصانة الجغرافية لعقيدة الإسلام، لا يجوز شرعًا أن يقوم فيها دينان، ولا يجوز بحالٍ أن يُشْهَرَ على أرضها غيرُ دين الإسلام، كما تستنكر هيئة رئاسة المجلس العودةَ إلى المطالبة ببناء كنائس على أرض السعودية بعد أن حُسِمَ هذا الأمرُ سابقًا في حوار مطوَّلٍ مع الفاتيكان عبر اللجنة الإسلامية العالمية للحوار، واتُفِقَ على إغلاق هذا الملف، وعدم إثارته ثانيًا» (¬1) . وليس هذا راجعا لنظام وضعيٍّ لكنه راجع إلى شرع الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، إذًا فهي خصوصية دينية. وهذه الخصوصية فرضت على المملكة العربية السعودية التزامات شرعية توجب عليها المحافظة على قدسية المكان فلا يجوز لها أن تأذن لأتباع دين غير الإسلام أن يقيموا فيها معابدهم، كما يحرم عليها ¬

(¬1) حقوق غير المسلمين في بلاد الإسلام (82، 83) .

قضايا المرأة وحقوقها في المملكة العربية السعودية

أن تأذن لأتباع الأديان الأخرى أن يقيموا على أراضيها شعائرهم التعبدية بصفة معلنة. إن هذا الوضع لا خيار للمملكة العربية السعودية فيه، إذ إنه يستند إلى أصل ديني لا يمكن تجاوزه، ويعتمد على قاعدة أساسية من قواعد العقيدة الإسلامية، التي هي شرعة سماوية، وليست قانونًا وضعيًا قابلًا للتعديل أو التعطيل، فلا تملك أي سلطة حق التغيير والتعديل فيه، كما أن ذلك يتناول في الوقت نفسه النظام العام في المملكة العربية السعودية وأمنها الوطني، وهما يقومان على أساس الشريعة الإسلامية، وبخاصة أن المملكة العربية السعودية ليس فيها مواطنون غير مسلمين، أما من سواهم فإن إقامتهم مؤقتة حيث قدموا بإرادتهم، وطبقًا لعقود عمل تنص على ضرورة التزامهم بأنظمة البلد الذي يعملون فيه، والمملكة العربية السعودية تضم ملايين من الوافدين، ومن مختلف الجنسيات، جاءوا للعمل والتجارة فيها، وهم يعتنقون أديانًا مختلفة، فالسماح لكل منهم بممارسة شعائره الدينية علنًا وإقامة كنائس ومعابد ونحوها للعبادة يؤدي إلى فتنة وإخلال بالأمن العام والنظام العام. [قضايا المرأة وحقوقها في المملكة العربية السعودية] قضايا المرأة وحقوقها في المملكة العربية السعودية: المملكة العربية السعودية انطلاقًا من الإسلام الذي تدين به وتحكمه أعطت المرأة حقوقها المشروعة، ووفرت لمجتمعها المسلم رجالًا ونساءً أسباب العمل بشرع الله الذي يدينون به، والحجاب لدى المرأة المسلمة في المملكة لم تفرضه الدولة ولا العادات كما يظن الكثيرون، بل فرضه الدين كما قال سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] [سورة النور، آية: 31] وقال سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] [سورة الأحزاب، آية: 33] .

إذن فليس الحجاب من التقاليد الخاصة بهذه البلاد، ولا من التعاليم الوهابية كما يزعمون. إن النساء في الإسلام هنَّ شقائق الرجال كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) والله يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] [سورة التوبة، آية: 71] وقال - صلى الله عليه وسلم -: «استوصوا بالنساء خيرا» (¬2) . أما عن تعدد الزوجات: فالتعدد مما شرعه الله في كتابه فقال سبحانه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] [سورة النساء، آية: 3] . فقد أباح الإسلام التعدد بشروط معينة تضمن العدل وعدم الظلم ليحمي المرأة في شرفها وعرضها وكرامتها وملبسها ومسكنها، وذلك أعلى في ميزان الدين والعقل والقيم من البغاء الذي يتخذ فيه الرجل المرأة سبيلًا لقضاء شهوته، ويتخلى عنها بعد ذلك لترتمي في حضن غيره. وقد شرع الإسلام التعدد لأسباب كثيرة منها: 1 - أن من المقرر - سواء عن طريق الملاحظة والإحصاء - أن النساء أكثر من الرجال لما يتعرض له الرجال من آفات في أعمالهم، أو لما يواجهون من الحروب والكوارث، وإذا كانت النساء أكثر من الرجال فإن التعدد هو السبيل لحفظ كرامتهن وشرفهن. 2 - أن الرجل بحسب الظروف والأوضاع الاجتماعية قد لا يتزوج إلا متأخرًا، ومن المعلوم أن المرأة تكون راغبة في الزواج وقادرة عليه منذ سن البلوغ، وبهذا تكون النساء الصالحات للزواج والراغبات فيه أكثر من القادرين والراغبين فيه من الرجال، فهنا يكون التعدد أصون للمرأة وأحفظ لكرامتها، ويكون هو السبيل لإشباع حقها الفطري؛ لئلا تناله من طريق الزنا والفجور الذي يعرضها للضياع والتشرد. 3 - أن العقم قد يعترض المرأة قبل الزواج أو بعده، وبهذا يفقد الزواج هدفه الأسمى وهو ¬

(¬1) رواه أحمد (3، 282) ، والدارمي رقم (791) من حديث أنس - رضي الله عنه - وصححه الألباني في الجامع الصغير (2329) . (¬2) جزء من حديث أبي هريرة مرفوعًا، رواه البخاري رقم (5186) ، ومسلم (3644) .

طلب الولد، والتعدد هو الذي يكفل لهذه الأسرة الاستمرار في الحياة واستقرار الحياة العائلية، والتمتع بزينة الحياة وهم الأولاد، وهذا مطلب ديني واجتماعي له اعتباره. 4 - أن من النساء من تتعرض للطلاق والترمل والشباب لا يرغبون في الزواج من هؤلاء فمن يكفلهن ويحفظ كرامتهن إلا التعدد؟ 5 - أن استعداد الرجل للعملية الجنسية غالبًا أكثر من استعداد المرأة، في حين أن المرأة تعترضها فترات تكون غير مهيأة لذلك كالحيض والنفاس، فكيف ينال الرجل حقه الفطري؟ إن التعدد هو الذي يحقق للرجل رغبته؛ لئلا يطلبها من طريق محرم فيجر على نفسه وعلى زوجه شؤم المعصية وما يستتبع ذلك من أمراض. 6 - أن استعداد الرجل ورغبته وقدرته على الإنجاب يمتد إلى سن متأخرة في حين أن هذا السن لدى المرأة أقل منه لدى الرجل، فكيف يتمكن الرجل من تحقيق رغبته؟ وليس من سبيل إلا التعدد أو امتهان المرأة بالزنا. 7 - أن الذين يشنعون على الإسلام إباحته التعدد يعيشون العلاقات غير المشروعة، بل ويدعون إليها، ويسنون لها القوانين التي تحميها، قال روجيه جارودي: «لدى المسلمين تعدد منضبط ولدينا [يعني الغرب] فوضى تعدد» ، وليس التعدد اعتداء من الرجل على حق المرأة، بل يجب عليه شرعًا أن يوفيها حقها كاملًا، وأن يستمتع بما أباحه الله له، وأن يعدل بينها وبين ضرتها، فإن عجز عن العدل بينهن أو القيام بحقوقهن فلا يجوز له التعدد؛ لأن التعدد شرع لمصلحة الفرد والجماعة ولم يشرع فقط لإشباع شهوة الفرد، وكما أننا نسمع إلى من يطالب باسم الزوجة الأولى، فلا بد أن ننظر بعين العطف والشفقة إلى الزوجة الأخرى العوانس والمطلقات والأرامل. وأخيرًا فإن التعدد لمن استطاع العدل بين الزوجات جائز وليس بواجب. وكذلك كون نصيب المرأة نصف نصيب الرجل في الميراث: يقرر الإسلام أن حق المرأة من الميراث نصف حق الرجل كما قال تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] [سورة النساء، آية: 11] وليس هذا من الاعتداء على حقوق المرأة، وليس هذا يعني أن الإسلام يضع المرأة في المرتبة الثانية في أهميتها وكرامتها. بل هو حكم الله العليم الخبير. إن نصيب الذكر في الميراث يختلف عن نصيب الأنثى وذلك يرجع لعدة أمور منها: 1 - الميراث من جملة النظام العام في الإسلام فهو خاضع لعموم المسؤوليات والأحكام

المناطة بالذكر والأنثى، وما اختلف فيه من أحكام فهو راجع إلى القاعدة العامة في عدم لزوم اطراد المساواة بين العاملين؛ لأن لهم من الحقوق بحسب أعمالهم ومسؤولياتهم، فالرجال وهم جنس واحد ليسوا بمتساوي الدخول والمرتبات لدى الجهات الحكومية أو غيرها في جميع الأنظمة، وإنما التفاوت راجع إلى طبيعة أعمالهم ومؤهلاتهم وكفاءاتهم، ولا تقوم الحياة إلا بهذا، ولا يعتبر هذا مؤثرًا في أصل المساواة. 2 - ليس في جميع الحالات تأخذ الأنثى أقل من نصيب الذكر، بل في بعض الحالات تأخذ الميراث كاملًا، وفي بعضها تأخذ نصفه، إن الحالات التي تأخذ فيها الأنثى الأقل تعتبر حالات معدودة، وذلك لاختلاف الحقوق الواجبة على كل منهما. 3 - زيادة الذكر في نصيبه راجعة إلى طبيعة التكاليف المناطة به في النظام الإسلامي. فهو المسؤول وحده عن تكاليف الزواج من مهر ومسكن ونفقة، ومن أجل مزيد إيضاح لهذا النظام لنفرض أن رجلًا مات وخلف ابنًا وبنتًا وكان للابن ضعف نصيب أخته، ثم أخذ كل منهما نصيبه وتزوجا، فالابن مطالب بالتكاليف السابقة من المهر والسكن والنفقة مدى الحياة. أما أخته فسوف تأخذ المهر من زوجها حين زواجها، وكذلك النفقة، وليست محتاجة إلى شيء من نصيبها لتصرفه في زواجها أو نفقة بيتها. ثم إن دية قتل الخطأ يتحمل الرجال من العصبة والأقارب مساعدة القاتل في دفعها دون النساء. ومن هذا يتضح ما على الرجال من تكاليف مالية ليست على النساء في نظام الإسلام. من أجل هذا يجب أن نعلم أن الشريعة الإسلامية تختلف عن أنظمة البشر الجائرة التي تحكم كثيرًا من بقاع العالم اليوم، حيث فيها يتبرأ الأب من ابنته حين تبلغ سن الثامنة عشرة لتخرج باحثة عن لقمة العيش، وكثيرًا ما يكون ذلك على حساب الشرف ونبيل الأخلاق. أما الفتاة في الإسلام فهي مرعية في كنف أبيها أو من يقوم مقامه شرعًا حتى تتزوج. 3 - الميراث ملحوظ فيه الجانب المادي، فهو مرتب على نظام الزواج، فهو كعملية الطرح بعد عملية الجمع لإخراج نتيجة صحيحة. أي أن الزيادة في الميراث ليس تفضيلًا، ولكنها تعويض مادي بحت. 4 - وقبل ذلك كله هو حكم الله تعالى العليم الخبير الذي تضمن كمال العدل وكمال الحكمة، وضمان حقوق العباد ومصالحهم الظاهرة والخفية، العاجلة والآجلة.

المبحث السادس المملكة تحارب الفساد في الأرض

[المبحث السادس المملكة تحارب الفساد في الأرض] المبحث السادس المملكة تحارب الفساد في الأرض (العنف والإرهاب) (¬1) زعم بعض الحاسدين والجاهلين، وبعض وسائل الإعلام المشبوهة أن المملكة حكومة وشعبًا من مصادر ما يسمونه (الإرهاب والتطرف) . وهؤلاء لهم معايير ومقاصد مختلفة وإن اتفقوا على البهتان والزور. فمنهم من يدخل تطبيق الشريعة والحدود الشرعية، والنهي عن المنكر بمفهوم الإرهاب والتطرف، وهذا أمره واضح فإنه بذلك يتهم الإسلام نفسه، ويعيب المملكة بما هو شرف لها. ومنهم من يتوهم أو يكذب حين يزعم أن المملكة مصدر ما يسمونه (الإرهاب والتطرف) . والواقع في المملكة يشهد بخلاف ذلك، فالدولة السعودية كانت ولا تزال تتميز بالطرح المتزن في محاربة التشدد والفساد في الأرض والإرهاب الحقيقي، والتطرف الحقيقي، وذلك في كل المجالات والأصعدة في البلد نفسها، وعلى مستوى دول الخليج، والدول العربية والإسلامية، وعلى مستوى العالم دولًا ومنظمات وهيئات. ومواقف علماء المملكة وفتاويهم كثيرة وجلية في وجوب الاعتدال والوسطية ¬

(¬1) تختلف المفاهيم على مستوى الدول والأمم والأفراد في تحديد وتعريف: الإرهاب. والمسلمون (انطلاقًا من المصطلحات الشرعية والقواعد الإسلامية) لا يعدون الكفاح المشروع وصد العدوان، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإرهاب. كما يتصوره البعض من غير المسلمين. وكذلك إعداد القوة كما أمر الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [الأنفال: 60] ، فالإرهاب بالقوة هنا مشروع للردع والحماية، أما الإرهاب بمعنى الفساد في الأرض فهو محرمٌ في شرع الله تعالى وعقوبته تصل إلى القتل كما قال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [المائدة: 33] .

وتوخى الحكمة، والنهي عن التشدد في الدين، وعن الفساد في الأرض، وتحريم الظلم والعُدوان مع المسلم وغير المسلم. ووسائل الإعلام، ومناهج التعليم كلها في المملكة تقوم على منهج الحق، على الاعتدال والرشد والوسطية، أما ما يصدر من بعض التصرفات الشاذة من بعض الأفراد الذين يغويهم الشيطان وتنحرف بهم سبل الضلالة أو تستغلهم بعض الاتجاهات المشبوهة، فهذا خلاف المنهج وخلاف الأصل والواقع. والمملكة لا تزال - حكومة وشعبًا علماء ومسئولين - تنكر هذه الاتجاهات الشاذة وتحذر منها، وتبذل جهودًا كبيرة للوقاية منها وعلاجها في كل المستويات، وعلى كل الأصعدة. هذا والمملكة من منطلق التزامها للإسلام لا تقر المفاهيم الخاطئة للإرهاب والعنف ونحوهما من المصطلحات الحادثة التي تباينت المفاهيم حولها. وكذلك دفع العدوان والاستعداد له حق مشروع، تقره كل الشرائع والنظم والقيم في العالم ليس إرهابًا، كما قال الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] [سورة البقرة، آية: 194] ، وقال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] [سورة البقرة، آية: 190] . فالدفاع المشروع للشعوب المظلومة كما يحدث في فلسطين ليس إرهابًا ولا عنفًا في أكثر صوره. كما أن تطبيق الشريعة الإسلامية، والحدود الشرعية بالضوابط الشرعية ليس عنفًا ولا إرهابًا. وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس إرهابًا ولا عنفًا كما يزعم الجاهلون، إنما هو منهج إصلاحي شرعه الله تعالى يحقق العدل والأمن والفضيلة، ويحارب الظلم والفساد والرذيلة.

المبحث السابع المملكة العربية السعودية وأحداث 11 سبتمبر في أمريكا

[المبحث السابع المملكة العربية السعودية وأحداث 11 سبتمبر في أمريكا] المبحث السابع المملكة العربية السعودية وأحداث (11 سبتمبر) في أمريكا إنني لأعجب ولا ينقضي عجبي حينما أسمع أن هناك من يصغي لأسطورة (¬1) توهمَّها وأشاعها من لا يعرفون حقيقة المملكة في دينها ودولتها وعلمائها وشعبها وهي أن المملكة تسهم في الدوافع وراء أحداث سبتمبر. ومع الأسف أن كثيرين من الغرب وغيرهم قد يكون عندهم الاستعداد لتلقي هذه الأسطورة بناء على أساطير سابقة ومفاهيم خاطئة، وتصورات وهمية حول الإسلام والمسلمين، وما يسمونه (الوهابية) وحول جزيرة العرب، والبادية. هذه التصورات والمفاهيم الخاطئة كوَّنت بعد أحداث سبتمبر أوهامًا مؤذية عن المملكة العربية السعودية وأهلها، بأنها بلد متطرف يوائم الإرهاب (¬2) وانبعث مع هذه الأوهام أوهام قديمة وأساطير عن ما يسمونه (الوهابية) (¬3) . وهؤلاء الذين يتهمون المملكة ويتهمون ما يسمونه (الوهابية) لو تعاملوا مع الحقائق، لعلموا أنهم ظلموها وبهتوها بهتانًا كبيرًا. فإن المملكة أنكرت هذا العمل الشنيع، وأنكره العلماء الكبار، وطلاب العلم والمفكرون والمثقفون، وبيَّنوا أن الإسلام لا يجيز مثل هذا العمل الذي يستهدف أرواح غير المحاربين، من المسلمين وغير المسلمين. والمملكة بحكم التزامها لتعاليم الإسلام، كانت ولا تزال في طليعة الدول التي تحارب الفساد في الأرض والظلم والعدوان على الآخرين، وكانت ولا تزال من أقوى الدول التي تأخذ بحزم في كف فساد المفسدين وردعهم وإن كانوا من مواطنيها، بل المشهور أن ¬

(¬1) انظر: محاضرة الدكتور: غازي القصيبي في هذا الموضوع التي ألقاها في لندن ونشرتها الحياة (مترجمة) في عدد 14356 في 29 هـ الموافق 10 يوليو 2002م. (¬2) انظر: محاضرة الدكتور: غازي القصيبي في هذا الموضوع التي ألقاها في لندن ونشرتها الحياة (مترجمة) في عدد 14356 في 29 هـ الموافق 10 يوليو 2002م. (¬3) انظر: محاضرة الدكتور: غازي القصيبي في هذا الموضوع التي ألقاها في لندن ونشرتها الحياة (مترجمة) في عدد 14356 في 29 هـ الموافق 10 يوليو 2002م.

بعض الدول والمنظمات الدولية تعتب على المملكة منهجها القوي والحازم في تطبيق الحدود ومحاربة الفساد في الأرض في كل مكان. والواقع شاهد بذلك فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ ! وإن كان هناك من المشاركين من هم من أبناء البلد، أو كذلك بعض الآراء التي أيَّدت هذا الحدث، فليس هذا هو الموقف الرسمي، ولا الموقف الشرعي المعبَّر، لكنها مواقف وآراء تمثل أصحابها، وليست على المنهج الشرعي الذي تسير عليه البلاد ولا المجتمع في الجملة. فالإسلام يحرم الفساد في الأرض، ويحرم الظلم، ويحرم قتل غير المقاتلين حتى في حالة الحرب، وكل ذلك بمقتضى نصوص وقواعد شرعية، وهذا هو المنطلق الذي تنهجه المملكة. والواقع أنه لا يستطيع أحد ينشد الحق والإنصاف، ويتعامل مع الأمور بتجرد وموضوعية إلا أن يعلن أن المملكة - كما أسلفت في الفقرة السابقة - من الدول الرائدة في محاربة الفساد في الأرض، ومعالجة أسبابه ومظاهره، وأن علماءها وشعبها يدينون بالإسلام الحق، الذي يحرم الفساد والبغي والظلم والعدوان والغدر. وعلى هذا فلا يتهمها أو يتهم شعبها بالعدوانية والتطرف والإرهاب ونحو ذلك إلا جاهل أو مغرض. والله حسبنا ونعم الوكيل.

الخاتمة

[الخاتمة] الخاتمة وتتضمن بعض النتائج والتوصيات: أولًا: من النتائج: 1 - تبين من خلال استعراض تاريخ الأمة الإسلامية عمومًا وجزيرة العرب ونجد على الخصوص أنها في القرن الثاني عشر الهجري وصلت إلى مرحلة من التدهور والفوضى، والتخلف والجهل، وهيمنة البدع وغربة السنة كانت فيها بحاجة ماسة إلى الإصلاح والتجديد، فجاءت دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بقدر الله تعالى تحقيقًا لوعده سبحانه بأنه يبعث لهذه الأمة في كل قرن من يجدد لها دينها، كما أخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله في الحديث: «إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» (¬1) . وقد توافرت في هذه الدعوة وإمامها ونتائجها صفات التجديد وسماته. 2 - كما تبين لنا من خلال عرض سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب ودعوته، والإمام محمد بن سعود ودولته، وسير علماء الدعوة ومؤلفاتهم وأقوالهم وأحوالهم والواقع الذي تعيشه الدعوة وأتباعها إلى اليوم أنها تمثل الإسلام والسنة والجماعة، ونهج السلف الصالح وتعتمد على الكتاب والسنة وآثار السلف. 3 - وأن الناظر في حقيقة الدعوة حين يعرضها على الأصول الشرعية والقواعد العلمية المنهجية والعقلية السَّليمة، يجد أنها تقوم على أصول الحق والعدل، وأنها تعني الإسلام جملة وتفصيلًا، وأنها امتداد طبيعي لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين وأئمة الدين السلف الصالح عبر التاريخ. 4 - وأن كل ما أشاعه الخصوم الجاهلون بحقيقة الدعوة وإمامها وأهلها ودولتها من المفتريات والاتهامات والمزاعم لم يثبت منه شيء (بحمد الله) أمام التحقيق العلمي، والبحث ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (4291) ، والحاكم في المستدرك (4) وغيرهما، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (1870) .

المتجرد المنصف وأن واقع الدعوة يكذب ذلك في كل جوانبه؛ من خلال سير أئمتها وعلمائها، ودولتها وما يمثلهم ويمثل دعوتهم من الكتب والمؤلفات والرسائل، والسير والمواقف والأحداث، وواقعهم الذي يعيشونه، وسائر أحوالهم، إلا النادر، والنادر لا حكم له. 5 - أن كثيرين من نقَّاد الدعوة إنما يأخذون عليها زلات بعض علمائها أو تصرفات بعض أتباعها: من الشدة والحدة والجفاء ونحو ذلك، في حين أنهم لا يجدون ما يطعن في الدعوة من حيث مضامينها وأصولها وغاياتها ومناهجها؛ لكنهم لا يفرقون. . . وهذا ظلم وجور وتحامل لا يجوز. نعم توجد لدى بعض المنتسبين للدعوة مظاهر شدة وحدة وجفاء، وغلظة، وقلة حكمة وقلة صبر، وهذا حق يجب الاعتراف به وعلاجه من قبل العلماء والولاة والعقلاء؛ لأن لهذه المظاهر عوامل نفسية راجعة إلى ضخامة الباطل، وكثرة البدع والفجور، وإصرار أهلها عليها، واستفزاز أهل الباطل لأهل الحق، ثم قلة العلم والتجربة عند بعض شباب السنة، والعبرة بالأصل والمنهج وما عليه العلماء المعتبرون والعقلاء، أما الزغل، وما يشذ من زلات وتصرفات ومواقف غير لائقة من بعض المنتسبين فهذا مما لا يحسب على المنهج والأصل، ومما لا يسلم منه دين ولا مبدأ ولا دعوة ولا أمة ولا مجتمع. 6 - وقد تبين أن أثر هذه الدعوة المباركة الإيجابي لا يقتصر على أتباعها وأنْصارها، بل نجد أنها أثرت في مناهج المخالفين كذلك، حيث كانت سببًا في تخفيف مظاهر الغلو والابتداع واضمحلال مظاهر الشركيات والشعوذة والدجل، وزوال كثير من المشاهد والمزارات والقباب، وتناقص روَّاد هذه المبتدعات ونحوها. واستطاعت الدعوة أن تجر خصومها إلى الاقتراب من أصول الحق، والابتعاد عن الشطط بعض الشيء، كما أنها لفتت نظر كثيرين من أتباع الفرق والطرق إلى أهمية الرجوع إلى الكتاب والسنة، والارتباط بالدليل الشرعي، ومحاولة التخلص من المصادر الدخيلة والاستحياء من التعويل على الاستدلالات الباطلة كالكشف والذوق والوجد، والحكايات، والرؤى، والخوارق، والأقوال المرسلة، والأحاديث الموضوعة والضعيفة، إلا القليل من الرؤوس والمتعصبين والمقلدين والمنتفعين ببقاء البدع وشيوعها. 7 - وقد تواترت وتوافرت شهادات معتبرة من جمع كبير من العلماء والمفكرين والأدباء والساسة، والمؤرخين وغيرهم، ومن المسلمين وغير المسلمين، من المنصفين والمحايدين، كلهم أجمعوا

على أن هذه الدعوة المباركة تمثل الإسلام والسنة التي جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح. وأنها دعوة إصلاحية شاملة، تدعو إلى الدين الحق الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وكلهم اتفقوا على أنها حققت نجاحًا عظيمًا في إصلاح أحوال الأمة في الدين والدنيا. في العقيدة والأحكام والشعائر، وتحقيق العدل والأمن والجماعة. 8 - وأن المناوئين لهذه الدعوة كانت دوافعهم باطلة من الهوى والحسد والخوف على الجاه والسلطان، والتقليد والعصبية، أو الجهل بحقيقتها من كثير منهم، وعدم التثبت مما يشيعه خصومها والجاهلون بحقيقتها عنها. 9 - والدعوة تشهد لها آثارُها إلى اليوم بما حققته للأمة من صحوة ويقظة ومن نهضة كبرى في جميع المجالات؛ في تصحيح العقيدة والعبادة، وفي إظهار السنن وشعائر الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، وإحياء منهج السلف الصالح وتحكيم شرع الله في جميع شؤون الحياة، وإقامة دولة مسلمة ومجتمع على السنة في الجملة والذي لا يزال بحمد الله يشهد له بالفضل مقارنة بحال الأمة الإسلامية اليوم. 10 - والمملكة العربية السعودية وهي ثمرة من ثمار هذه الدعوة المباركة، لا تزال بحمد الله كيانًا قائمًا بدولتها ومجتمعها بالإسلام عقيدة ومنهج حياة في سائر شؤونها، لا سيما في القضاء والحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعليم وغيره. فهي - أعني المملكة - واقع يمثل الإسلام والسنة في سائر مناحي الحياة ولا ينكره إلا مكابر أو جاهل، أو فاقد للموازين الشرعية والعلمية المعتبرة، أو حاسد يحكم بالهوى، والهوى يضل ويعمي ويصم. ولست بذلك أزكي هذه البلاد وأهلها (حكامًا ومحكومين) تزكية مطلقة فإني أعلم أن لدينا شيئًا من التقصير، والتجاوز، والتفريط، لكن لا نزال - بحمد الله - مستمسكين بالثوابت والأصول، والأمن والجماعة واتفاق الراعي مع الرعية في العموم، ونسأل الله الثبات على الحق، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله حسبنا ونعم الوكيل. 11 - هذا في الجملة، أما أن يكون لبعض المنصفين والمحايدين ونحوهم ملاحظات واستدراكات على الدعوة وأتباعها فهذا مما لا يضر بالأصل، ولا يضيق به الصدر، ولا كمال إلا لله تعالى ولا عصمة إلا لرسوله - صلى الله عليه وسلم -.

وأعني بذلك أنه توجد ملاحظات ونصائح، ومؤاخذات واستدراكات قيمة ومفيدة يجب على علماء الدعوة وأتباعها الإفادة منها، ورحم الله من أهدى لنا عيوبنا. وكثيرا ما يأتي نقد مفيد وهادف ليس من الصديق فحسب، بل أحيانًا من المعادي والمخالف، فضلًا عن المنصف والمحايد، فالحق أحق أن يتبع، أو الاعتراف بالحق فضيلة. 12 - وما يشيعه الحاسدون والجاهلون من أن هذه البلاد بدينها وعقيدتها ومجتمعها ودولتها، تسهم في بعث الإرهاب والتطرف فهذا بهتان عظيم واتهام يسقط أمام الدليل والبرهان. أما أن يشذ عن المنهاج القويم أفرادٌ أو طوائف منحرفة فهذا مما لم تسلم منه أمة ولا بلاد ولا ديانة ولا مبدأ. وإنا على يقين أن ما يحدث من شذوذات إنما وراءها كيد الكائدين وحسد الحاسدين، وتخطيط الأعداء والمفسدين الذين لا يمتون لديننا ومجتمعنا وبلادنا بصلة مشروعة والله حسبنا ونعم الوكيل. ثانيًا: توصيات ونصائح. 1 - المراجعة والتقويم: إن أمور الدعوة في شموليتها على قسمين: القسم الأول: ما يتعلق بالمضامين والأصول والقطعيات في الدين والمنهج فهذه من الثوابت التي تمثل الإسلام والسنة، ولا مجال فيها للتنازل والتبديل والتغيير؛ لأنها تحكمها قاعدة: «كل محدثة في الدين بدعة وكل بدعة ضلالة» (¬1) . والقسم الثاني: وهو ما يتعلق بالأساليب والوسائل والاجتهاديات، وهي ما يجب على كل من يهمه أمر هذه الدعوة، ويهمه أمر السنة والإسلام والمسلمين أن يبذل قصارى الجهد المعنوي والمادي لمراجعة الأساليب والوسائل في الدعوة إلى الله، والإفادة من الوسائل الحديثة - بالضوابط الشرعية - لتقويم الأساليب والوسائل ومراجعتها وتحديثها دراسة وتخطيطًا وتنفيذًا وتمويلًا. ¬

(¬1) من حديث رواه مسلم (767) ، والنسائي (1577) ، واللفظ له.

2 - الحماية والحراسة: لا تزال السنة وأهلها (والإسلام والمسلمون عمومًا) يواجهون من التحديات والمخاطر ما تحتاج معه إلى مزيد من الحراسة والحماية، بالتصدي للشبهات والمفتريات أولًا، ثم باستدراك ما عرض في التطبيقات للدين والدعوة إليه من نقص وخطأ وخلل وتجاوز من الدول والمجتمعات والأفراد ومن ذلك: 3 - إيجاد آلية فعالة لتثبيت الدين في نفوس الناس وحمايتهم من غوائل الشبهات والصوارف التي تستهدف هدم الدين والتدين في قلوب الناس وعقولهم وأعمالهم وحياتهم من حيث المناهج والوسائل والأساليب ومن ذلك: 4 - الإفادة من الوسائل البحثية والإعلامية المعاصرة في أداء هذا المطلب الجليل المشار إليه في رقم (1) ، (2) ، (3) وما بعد ذلك. 5 - وأقترح لأداء هذه المهام الكبيرة أن تقيم حكومة المملكة العربية السعودية بصفتها الدولة التي حملت هذه الرسالة العظيمة، وهي موئل السنة ومحضن الإسلام ومقدساته ولما عرف عنها من المسارعة إلى الخير أن تقيم مؤسسة أو مركزًا متكامل المرافق إداريًا وعلميًا وماديًا للقيام بالمهام التي أشرت إليها وما سأشير إلى شيء منها بعد قليل في هذه التوصيات. أو تسند هذا العمل إلى مؤسسات أُخرى قائمة، أو تنشأ لهذا الغرض، وتيسر لها الإجراءات والإمكانات التي تجعلها تؤدي مهامها على أكمل وجه. 6 - وأن تصدر التوجيهات إلى الجامعات والمؤسسات العلمية والإعلامية ومراكز البحوث والدراسات وسائر القطاعات الحكومية والأهلية لخدمة هذا المشروع الكبير الذي تقوم عليه البلاد وكيانها. وأن يعقد لهذا الغرض المؤتمرات والندوات والحوارات الجادة. 7 - بدا لي من خلال البحث أنه من الضروري إتاحة الفرصة من قبل المملكة لأكبر عدد ممكن من طلاب المنح للدراسة في جامعات المملكة ومعاهدها ومدارسها، ودروس المشايخ؛ لأن هذا يسهم إسهامًا كبيرًا في إطلاع عامة المسلمين من كل مكان على واقع الدعوة والسنة وحقيقتها ودولتها ومجتمعها، وتلقيهم العلوم الشرعية من منهلها الصافي، وعلى النهج السليم الذي يسهم بفعالية وأصالة في جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، ولم شتاتهم وتخفيف مظاهر الفرقة والتنازع، وجمع الشمل على الحق والسنة.

3 - توصيات لدعاة السنة في كل مكان: قد لوحظ من خلال نتائج الاستبانات التي سبق عرضها في مبحث سابق من هذا المؤلف ورود عدد من الملاحظات والنصائح والوصايا القيمة التي يجب الأخذ بها واعتبارها، والتي مفادها: أن بعض الدعاة والمنتسبين للسنة والدعوة قد يتسمون بشيء من الحدَّة والشدة والجفاء، والتسرع ونحو ذلك. ومن المعلوم أن هذه الخصال تنافي ما أمر الله به وشرعه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الرفق، والتيسير، والتسديد، والمقاربة، وتوخي الحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ودرء المفاسد، والإشفاق على المسلمين والصبر والحلم والأناة. وأن يكون قصد الداعي: الإصلاح، والنصيحة، وهداية الناس، وأن يكون الداعي على بصيرة وفقه بما يدعو إليه، وأن يكون قدوة. وهذه الأمور ليست نتيجة آراء أو تجارب الآخرين بل هي وصية الله تعالى، ووصية رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأذكر القارئ في هذه العجالة ببعض النصوص الواردة في هذا الأمر العظيم: قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] [سورة يوسف، آية: 108] . وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125] [سورة النحل، آية: 125] . وقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] [سورة فصلت، آية: 33] . وقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46] [سورة العنكبوت، آية: 46] . وقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] [سورة آل عمران، آية: 159] .

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - رفيقًا حليمًا في دعوته للناس مؤمنهم وكافرهم، لا يعنف ولا يماري، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه» (¬1) . هذا وأسأل العظيم رب العرش الكريم أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا وأن يرزقنا اجتنابه، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، وأن يعز الإسلام وينصر المسلمين. وأن يحفظ لنا ديننا وأمننا، وأن يقينا شر الفتن، وشر كل عدو وحاسد، وأن يوفق ولاة أمرنا - وعامة ولاة المسلمين - إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وأن يهدينا وإياهم سواء السبيل. اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله. ورضي عن صحابته أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وإحسانك، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. تم بحمد الله كتبه الناصح ناصر بن عبد الكريم العقل ¬

(¬1) أخرجه مسلم (6602) ، وأحمد في مسنده (6، 171) عن عائشة - رضي الله عنها -.

ملحق عن نتائج الاستبانة حول الدعوة

[ملحق عن نتائج الاستبانة حول الدعوة] ملحق عن: نتائج الاستبانة حول الدعوة 1 - شملت الاستبانة (60) شخصًا من (34) بلدًا من البلاد الإسلامية وغيرها، وهي: أثيوبيا، أرتريا، أفغانستان، أوزبكستان، أوغندا، أندونسيا، باكستان، بنين، البوسنة والهرسك، تونس، تشاد، تايلند، بوركينا فاسو، السودان، السنغال، غانا، ساحل العاج، غينيا كوناكري، مالي، الكاميرون، كينيا، المغرب، كونغولي، سنغافورا، نيبال، نيجيريا، قرقيزيا، الهند، الصومال، طاجكستان، كازخستان، اليمن، سوريا، ليبيا. 2 - الغالبية التي أسهمت في هذه الاستبانة هم من طلبة الجامعات وحملة الماجستير والدكتوراه. 3 - أكثر الإجابات نقلتها بنصها أو بتصرف يسير، وبعضها نقلته بمعناه لتفاوت الصياغات والتعابير. م السؤال وجوابه ملاحظات س1 ماذا تعرف عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو (الوهابية) ؟ وكانت الإجابات تتلخص بما يلي: 1 - أنها توصف باسمها الحقيقي: دعوة محمد بن عبد الوهاب، لكن هذه التسمية (الوهابية) غير صحيحة. 2 - دعوة الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح. 3 - سنية سلفية. 4 - دعوة لتجديد الإسلام. 5 - إصلاحية تجديدية. 6 - دعوة التوحيد. 7 - (الوهابية) لفظة أطلقت على أتباع إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب من قبل خصومهم.

8 - توافق ما عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. 9 - خرجت من الجزيرة العربية. 10 - تطلق على من تمسك بالكتاب والسنة. 11 - هي دعوة الإسلام والسنة لكنها شوهت. 12 - تطلق (الوهابية) على أصحاب اللحى وغير مسبلي الثياب، ومن يضع يده على صدره في الصلاة ونحو ذلك. 13 - أطلقت (الوهابية) على السعوديين. * الجميع يذكر أنه يعرفها ويختلفون في تعريفها كما في هذا الحقل. س2 ما رأيك بهذه التسمية (الوهابية) ؟ ملاحظات وكانت الإجابات تتلخص بما يلي: 1 - غير جيدة وأتباع الدعوة لا يرضونها. 2 - لا أحبذها؛ لأنها لا تليق بهذه الدعوة السلفية. 3 - الأولى: العدول عنها؛ لأنها تقال على سبيل اللمز. 4 - تسميتها باسم شخص واحد غير جيد. 5 - لا يجوز إطلاقها؛ لأنها غير صحيحة. 6 - أصبحت من العبارات المخيفة في إندونيسيا. 7 - تسمية سياسية وخطأ تاريخي. 8 - أطلقها الإنجليز وأعداء الدعوة. 9 - جاءت من الشيعة والصوفية ونحوهم من خصوم الدعوة. * الأكثر على أن وصفها بالوهابية غير مرغوب فيه؛ لأن التسمية جاءت من الخصوم، وتقال على سبيل السخرية واللمز؛ ولأنها شوهت في أذهان العامة. س3 هل هذه الدعوة معروفة في بلدك، وماذا تسمى؟ ملاحظات وكانت الإجابات تتلخص بما يلي:

* كانت الإجابة بنعم عند الجميع عدا (2) . * وذكرت الإجابات بأنها تسمى بالأسماء والأوصاف التالية: 1 - الدعوة السلفية وجماعاتها وأفرادها. 2 - أهل السنة (السنيون) . 3 - أنصار السنة المحمدية. 4 - جماعات أهل الحديث. 5 - جماعات أهل السنة والجماعة. 6 - تطلق (الوهابية) على كل متمسك بالسنن ولا يفعل البدع. 7 - من يدعو لمحاربة البدع يسمى (وهابي) 8 - الوهابية اسم للدعوة التي تكفر وتبدع. 9 - خريجو الجامعة الإسلامية وجامعات المملكة، والطبقات المتعلمة، وبعض العوام قد يلمزون بالوهابية. 10 - كل من يأتي من السعودية فهو (وهابي) . 11 - والمتشددون في الدين. 12 - تسمى الخامسية (أي أنها مذهب خامس) . 13 - الوهابية تطلق (عند التنابز بالألقاب ومن قبل الخصوم غالبًا) . 14 - قد تطلق على أنها فرقة ضالة مضلة عند عامة الناس (بسبب مفتريات الخصوم) . 16 - قد يوصفون بالإرهابيين والأصوليين. 17 - ضعيفة في إحدى البلدان (تونس) بالمقارنة

بالبلاد المجاورة. 18 - غير معروفة في (بنين+يوربا) حسب معلومات قارئ الاستبانة. 19 - وذكر بعضهم أن بعض خصوم (الديوبندية) يسمونهم وهابية. 1- كانت أكثر الإجابات تذكر أن الدعوة: عرفت بعد وصول المتخرجين من الجامعات الإسلامية ودار الحديث المكية وبعض الحجاج. 2 - استخدمت التسمية (الوهابية) لإلصاق التهم. 3 - يدعي البعض أنه عم ذكر كلمة (الوهابية) لأن الفائدة من ذكرها أصبحت أقل من الأضرار. 4 - كثيرون ذكروا أن أكثر الناس يجهلون حقيقة الدعوة، وأذهانهم عنها مشوشة. س4 هل ترضى أن تنسب لهذه الدعوة وأن يقال عنك (وهابي) ؟ ملاحظات وكانت الإجابات تدور حول ما يلي: 1 - لا مانع إذا كان القصد كونها سلفية على نهج السنة والجماعة. 2 - الانتساب لهذه الدعوة مشرف، لكن دون النبز بالوهابية. 3 - لا، إذا كان المقصد التنفير. 4 - لا أتحرج منها كثيرًا؛ لأنها أصبحت مألوفة عندي من الخصوم. 5 - أرضى الانتساب لها دون اسمها. 6 - اسم الوهابية غير جيد ومضمونها جيد. 7 - ما دامت الوهابية منهجها الكتاب والسنة فأنا وهابي. 1 - الأكثر على أن الانتساب للدعوة شرف لكن دون الارتباط باسم (الوهابية) وأن المسلم يجب أن يعتز بانتمائه لطريق السلف الصالح ومذهب أهل السنة والجماعة الذي تمثله هذه الدعوة. 2 - بعض الجواب كان على مسمى الوهابية لا الدعوة ذاتها. س5 أهم الأصول التي قامت عليها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نظرك ملاحظات وكان ملخص الإجابات كالتالي: 1 - الاعتماد على الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح (الوحيين) .

2 - معرفة الله وحقوقه. 3 - توافق ما عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -. 4 - معرفة حق الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 5 - التأسي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأحوال. 6 - تعليم الناس (الدين) عامة وخاصة. 7 - إبعاد الناس عن البدع والضلالات والشركيات والخرافات. 8 - بيان الحق بأدلة ثابتة. 9 - الدعوة للتوحيد بأنواعه، الدعوة إلى التوحيد الخالص. 10 - الإخلاص لله ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 11 - محاربة الشرك والبدع وهدم القباب والأبنية على القبور ونحو ذلك. 12 - تحكيم شرع الله. 13 - وحدة المسلمين. 14 - نبذ دعوى الجاهلية. 15 - ربط الناس بالدليل. 16 - كشف شبهات أهل البدع والضلال. 17 - الدعوة إلى الله والصبر على ذلك. 18 - فتح باب الاجتهاد. 19 - رفع الذل والصغار عن المسلمين. 20 - الاهتمام بقضايا المسلمين في العالم. 21 - إعلان السنة وإظهار شعائر الدين.

22 - نبذ التقليد والتعصب للمذاهب. 23 - مرجعية فتاوى العلماء. 24 - إكرام الصحابة والسلف الصالح. 25 - إقامة مجتمع إسلامي. 26 - إحياء فريضة الحسبة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد) . 27 - تقديم النقل على العقل. 28 - الولاء لأهل الإيمان. 29 - تزكية النفوس. 30 - توحيد الدولة السعودية. 31 - نصح الملوك وعدم الخروج عليهم. 32 - قتال من يحيد عن دعوة التوحيد. 33 - تكفير من يخالف التوحيد 1 - تتفق الإجابات على: أن الدعوة ترتكز على الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح. 2 - البعض يتحفظ على الإجابة: لأن أصولها هي أصول الإسلام ولا تتفرد بأصول عن السلف الصالح (أهل السنة والجماعة) . س6 ما أهم المزاعم والشبهات والمفتريات التي تسمعها حول الدعوة أو الوهابية من الناس؟ ملاحظات الإجابات: 1 - تدعو إلى التشبيه والتجسيم. 2 - عدم محبتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - لإنكارهم إقامة المولد. 3 - يكرهون النبي - صلى الله عليه وسلم -، وينكرون شفاعته، ولا يعظمونه، ولا يصلون عليه، وهدموا قبة النبي - صلى الله عليه وسلم -. 4 - لا يحبون آل البيت. 5 - يكرهون الأولياء ولا يحبونهم ويسقطون حقهم.

6 - يحرمون زيارة القبور والتبرك بالصالحين. 7 - فرقوا المسلمين بعدما كانوا مجتمعين. 8 - متزمتة متشددة إرهابية، كل شيء عندهم حرام. 9 - الدعوة خارجة عن المذاهب الأربعة، ومذهب جديد (خامس) ، لا مذهبية. 10 - تكفير المسلمين، خوارج، ترى بقية المسلمين جهالًا (مشركين) . 11 - يتصفون بالجفاء والغلظة، يقطعون الرحم، لا يترحمون على الأموات. 12 - لا يصلون النوافل. 13 - يتعالون على معلميهم، مقتصرة على رأيها، لا يحترمون عادات البلاد. 14 - دعوة دنيوية هدفها الحكم. 15 - لا يحبون قراءة القرآن. 16 - لا فهم لمنتسبيها بالسياسة. 17 - أنها دعوة رسمية للمملكة (السعودية) تحاول فرضها على المسلمين. 18 - تمول من السعودية، تتقرب للدولة السعودية. 19 - وقالوا عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب: 1 - مبتدع كذاب. 2 - ساحر. 3 - يريد الجاه والمنصب.

4 - يدعي الاجتهاد مطلقًا. 5 - من الخوارج. 6 - يكفر أهل القبلة، ويستبيح قتلهم، ويوجب الهجرة إليه. 7 - يحرم كتب المذاهب الأربعة، ويرفض التقليد. 1 - أكثر ما تكرر من المفتريات أنها: أ - تخالف المذاهب. ب - لا يكرمون الأولياء. جـ - تكفيرية. د - تكفر أهل القبلة. 2 - ذكر بعضهم أن من الناس من يخلط بين هذه الدعوة وبين الوهابية الإباضية الرستمية والوهبية (الخوارج الأولى) أتباع ابن وهب الراسبي. 3 - يلاحظ أن كل الشبهات والمفتريات التي وردت (إلا النادر) تتعلق بأتباع الدعوة وإمامها لا بالدعوة نفسها أو منهجها. س7 ما رأيك في هذه المزاعم؟ ملاحظات وكانت الإجابات تتلخص بالتالي: 1 - أباطيل. 2 - لا أساس لها من الصحة. 3 - لا تستند إلى دليل وبرهان. 4 - لا يعرفونها لقلة المعلومات عنها. 5 - كذب وبهتان. 6 - هذا ناتج عن بعد الناس عن دينهم. 7 - لو نظروا للواقع لعرفوا أنها حق، هذه المزاعم جاءت عن سوء فهم. 8 - أنه في القرآن والسنة ما يرد على هذه المزاعم. 9 - بعض هذه المزاعم سببه أن بعض دعاة السلفية ليس عندهم حكمة. 10 - جاءت من الإنجليز - من جاسوس إنجليزي -. جميعهم يعتبر تلك التهم: غير صحيحة س8 من أبرز المتأثرين بهذه الدعوة؟ ملاحظات وكانت الإجابات كالتالي: 1 - الشباب. 2 - الطبقات الضعيفة والمتوسطة.

3 - أنصار السنة. 4 - خريجو الجامعات. 5 - جماعات الدعوة إلى القرآن والسنة. 6 - جماعات التضامن الإسلامي. 7 - جماعات أهل الحديث. 8 - جماعات أهل السنة. 9 - جماعات إزالة البدعة وإقامة السنة. 10 - دعاة التوحيد. 11 - جمعيات الشباب المسلم. * وبعض الإجابات ذكرت جمعيات ومؤسسات معينة مثل: 1 - حركة الفلاح الإسلامية. 2 - منظمة الاتحاد الإسلامي. 3 - جماعة محمدية. 4 - جمعية شباب الإسلام. 5 - جمعية الحكمة اليمانية الخيرية. 6 - جمعية الإحسان الخيرية. 7 - الوحدة الإسلامية. 8 - الإرشاد الإسلامية. 9 - مؤسسة الصحوة. 10 - مؤسسة الدعوة والتعليم. 11 - معهد الإرشاد. 1 - كانت الإجابات تركز على ذكر أبرز الجماعات التي تأثرت بالدعوة بدون ذكر أشخاص في مختلف البلدان إلا القليل. 2 - عامة الإجابات تذكر أن هذه الدعوة متنامية في كل مكان. س9 ما مدى تأثير هذه الدعوة في بلادكم وغيرها؟ ملاحظات

1 - الدعوة إلى الاعتصام بالكتاب والسنة 2 - تعليم الناس الكتاب والسنة ومنهج السلف ونحوها. 3 - تصحيح العقائد. 4 - كشفت للناس حقيقة التوحيد والسنة. 5 - جعلت الناس يرتبطون بالدليل. 6 - صرفت الناس إلى التعليم والتفقه في دين الله. 7 - قمع البدع، قلة البدع والخرافات، ترك كثير من البدع كالموالد، والتبرك البدعي، والجهر بالنية ونحوها. 8 - كانت سببًا في صحوة الشباب. 9 - قبول عام في المجتمع. 10 - كثير من الجماعات والدعوات والشخصيات الإسلامية تأثرت بها. 11 - انتشار التحاكم للقرآن والسنة. 12 - الالتزام بالشعائر وهجر المزارات والمشاهد القبورية والبدعية ونحوها. 13 - أضعفت الطوائف المعادية للسنة، وبينت فشلها. 14 - اختفاء صوت الصوفية، وكشفت حقيقة التصوف والتكهن والسحر والشعوذة والدجل. 15 - نشر كتب العلوم الشرعية والسلفية والدروس.

16 - نبذ التعصب المذهبي. 17 - كثرة المساجد والخلاوي والمدارس التي تعلم السنة. 18 - قلة الشعوذة. 19 - تحجيم نشاط الفرق وقمع الاشتراكية والعلمانية. 20 - معروفة وهي الصحيحة عند الشباب، وغير مرغوب فيها لدى كبار السن. 21 - تأثيرها كبير جدًا بشكل لا يوصف، إقبال الناس عليها كبير. 22 - لبس الحجاب وتستر النساء. 23 - الاعتراف الرسمي بجماعة أهل السنة في كثير من البلاد. 24 - تدريس كتب الشيخ في المراحل الدراسية وغيرها. 25 - العودة إلى السلفية بعد فرق أخرى (تايلند) . 26 - ظهور أسماء مطابقة للشيخ محمد بن عبد الوهاب. 27 - ظهور مدارس سميت باسم الشيخ محمد بن عبد الوهاب. 28 - إقامة مؤتمر كل سنتين في (بوركينا فاسو) . 29 - أثرها ضعيف في (سنغافورة) . 30 - آثارها أصبحت حقيقة لا ينكرها إلا مكابر أو جاهل. 1 - ذكر بعضهم أن هناك فرقًا تدَّعي أنها وهابية وهي ليست على المنهج الصحيح أو عندها مخالفات. 2 - كل الإجابات تذكر التأثير الإيجابي للدعوة. 3 - ذكرت بعض الإجابات أن الناس لو عرفوا حقيقة الدعوة، وأزيلت الشبهات والدعايات الكاذبة عنها لاستجابوا لها.

س10 ما ملاحظاتك حول الدعوة وأتباعها؟ ملاحظات وكانت أهم الأجوبة كالتالي: 1 - أسلوب بعض القائمين بالدعوة ليس على المستوى المطلوب. 2 - التشدد في الأمور الفرعية أحيانًا من قبل بعض المنتسبين للدعوة. 3 - بعض المعاملات الأخلاقية سيئة من بعضهم كالجفاء والكذب. 4 - اتباع شخصية معينة ليس من الدين. 5 - غلو البعض في مشايخهم. 6 - ضعف العناية بجهود العلماء من خارج الجزيرة. 7 - لا يوجد ملاحظات على الدعوة إنما على بعض الأشخاص. 8 - وجود الخلاف بين المنتسبين للدعوة يسيء إليها. 9 - بعض الدول والأفراد والمؤسسات من أهل السنة قد تدعم أهل البدع والمخالفين للسنة. 10 - بعضهم تمسك بظواهر السنة وأهمل جوهرها. 11 - أحبهم في الله. 1 - الملاحظات كلها على بعض أتباع الدعوة وأنصارها وليس هناك ملاحظات على الدعوة نفسها ولا على إمامها ولا على علمائها. 2 - وكثير منهم يذكر أنه ليس لديه ملاحظات لأن الدعوة تقوم على الكتاب والسنة. 3 - كثير من الوصايا والاقتراحات التالية تتضمن الملاحظات والنقد. س11 ما تراه من اقتراحات وطلبات ووصايا؟ ملاحظات كانت الإجابات تتلخص بما يلي: 1 - التركيز على الأصول في منهج الشيخ ومنهج الدعوة عمومًا لكشف الحق. 2 - إقامة دورات دائمة في الدين والعقيدة، وفي

بيان حقيقة هذه الدعوة. 3 - استخدام وسائل العصر الحديثة، من إذاعات وقنوات وغيرها لنشر الدعوة وأصولها. 4 - التقيد بالكتاب والسنة، والحكم بما أنزل الله. 5 - وضع برنامج عملي للدعوة للتوحيد والسنة. 6 - عدم ربط الدعوة بالأشخاص. 7 - إصدار الكتابات والبحوث والدراسات التي تبين حقيقة هذه الدعوة لدعوة الناس إلى الحق وتجلية الشبهات. 8 - إصلاح أوضاع المسلمين وإظهار شعائر الدين والقضاء على مظاهر الانحراف الديني، وعدم النفور من كلمة وهابية. 9 - نشر معلومات عن حياة الشيخ. 10 - المناقشات مع الخصوم (الحوار) وجدال المخالفين بالتي هي أحسن، ومعاملة الصوفية وغيرهم بالحسنى. 11 - دعم الدعوة وضرورة دعم الدعاة والجمعيات والمدارس والمؤسسات التي تدعو للسنة. 12 - إظهار نجاحات الدعوة. 13 - ترك أسلوب الشدة. 14 - الحرص على ملاءمة الأطروحات لجو المخاطبين.

15 - إعلام الناس بأن الدعوة ليست دينًا جديدًا. 16 - تبادل الزيارات وبناء المدارس وكفالة الدعاة، وقبول طلاب المنح في الجامعات السعودية. 17 - ترجمة كتب العقيدة وكتب الشيخ ونشرها. 18 - حضور المشايخ (من المملكة) لتلك البلدان. 19 - توزيع كتاب عن الأخطاء التاريخية في الوهابية. 20 - الإخلاص، الرفق، التدرج، الصبر (في الدعوة) . 21 - عدم استعجال النتائج. 22 - الحذر من التسرع والعجلة والبروز بوجه سمح (وقد أكد عليها كثيرون) . 23 - ترك التسمية بالوهابية. 24 - الاستعانة بالحكام كما فعل الشيخ. 1 - كثرة التوصية بالرفق والحلم والحكمة في الدعوة والبعد عن أسلوب الشدة مع المخالفين. 2 - كثيرون ممن أجابوا خلطوا بين الملاحظات على الدعوة وبين الاقتراحات والوصايا.

§1/1