إزالة الشبهة عن حديث التربة

عبد القادر بن حبيب الله السندي

مدخل

مدخل ... إزالة الشبهة عن حديث التربة فضيلة الشيخ عبد القادر السندي المحاضر بكلية الحديث الشريف بالجامعة الحلقة الأولى الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد: فمما يؤسف له حقا بما أورده الشيخ محمود أبو رية في كتابه الذي أسماه "أضواء على السنة المحمدية" من شبهات هزيلة، وآراء فاسدة، وأفكار هدامة نحو السنة المحمدية على صاحبها الصلاة والسلام، وقد رد على كتابه هذا العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحي المعلمي، والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة رحمهما الله تعالى، ولقد أجادا وأفادا في رديهما البارعين المفيدين، وكلامهما مطبوع في سنة 1377هـ. ولقد استفدت من كتابيهما كثيرا في هذا الباب، فلله درهما، رحمهما الله تعالى، فما كنت أتجاسر على كتابة الرد على الشيخ أبي رية بعد وجود هذين الكتابين العظيمين وهما: "الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتظليل والمجازفة" للعلامة الشيخ المعلمي "وظلمات أبي رية" للعلامة الشيخ عبد الرزاق حمزة، فقد قام بنشر الكتابين المذكورين نصير السنة المحمدية الشيخ محمد نصيف رحمه الله تعالى، وتغمده برحمته ورضوانه آمين.

وما كنت بحال من الأحوال -قد بلغت مبلغ هذين العلمين من العلم والفضل ومن سواهما إلا أني قد أردت- مع ضعف حيلتي وقلة بصيرتي وإدراكي- أن أرضي الله جل وعلا وذلك بالدفاع عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم والذب عن كرامة أصحابه البررة الكرام رضي الله تعالى عنهم أجمعين وعلى رأسهم الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله تعالى عنه الذي طعن فيه أبو رية وذلك باتهامه إياه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بريء منه، وسائر أصحاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، إذ قال أبو رية: "روى مسلم عن أبي هريرة أنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: "خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة"، وقد قال البخاري وابن كثير وغيرهما: إن أبا هريرة قد تلقى هذا الحديث عن كعب الأحبار، لأنه يخالف نص القرآن في أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم قال أبو رية: ومن العجيب أن أبا هريرة قد صرح في هذا الحديث بسماعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أخذ بيده حين حدثه به، وإني لأتحدى الذين يزعمون في بلادنا أنهم على شيء من علم الحديث، وجميع من هم على شاكلتهم في غير بلادنا، أن يحلوا لنا هذا المشكل، وأن يخرجوا بعلمهم الواسع شيخهم من الهوة التي سقط فيها". قلت: هذا نص كلام أبي رية في كتابه آنف الذكر، والشبهة التي لعبت في رأسه أن هذا الحديث لا يمكن الجمع بينه وبين نص القرآن الكريم الوارد في سبعة مواضع في كتاب الله تعالى وهو أولا: في سورة الأعراف إذ قال جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} 1 ونحو هذا القول المبارك في سورة يونس2 وفي سورة هود3 وفي سورة الفرقان4 وفي سورة السجدة5 وفي سورة ق6 وفي سورة الحديد7. وليس هناك تعارض حقيقي بين معنى

_ 1 الآية: 54. 2 رقم الآية: 3. 3 رقم الآية: 7. 4 رقم الآية: 59. 5 رقم الآية: 4. 6 رقم الآية: 38. 7 رقم الآية: 4.

هذا الحديث الشريف، وما ورد في كتاب الله من خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، كما سوف يأتي ذلك مفصلا وموضحا إن شاء الله تعالى، لأن هذه التحديات لم تكن قد وقعت من الشيخ محمود أبي رية إلا لبعده لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين من علوم صافية نقية، وقواعد راسخة متينة، وأصول ثابتة محكمة لا يشذ عنها إلا من ابتلي بمرض الجهل أو النفاق، أعاذنا الله تعالى منهما، وإني سوف أتكلم على هذا الحديث الصحيح من جوانبه الأربعة المهمة. 1- تخريجه. 2- إسناده. 3- معناه. 4- شواهده.

تخريج الحديث

تخريج الحديث أما تخريجه فقد أخرجه مسلم في صحيحه (1) والإمام أحمد في مسنده (2) وابن جرير الطبري في تاريخه (3) والإمام الحافظ أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهاني المتوفى سنة 410هـ في تفسيره (4) والإمام البيهقي في الأسماء والصفات (5) والنسائي في السنن الكبرى (6) . وقد عقد الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرحه على مسلم بابا على هذا الحديث بقوله: باب ابتداء الخلق، وخلق آدم عليه السلام، ثم ساق الإمام مسلم إسناده بقوله: حدثني سريج بن يونس، وهارون بن عبد الله، قالا: حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل ابن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ثم ذكر الحديث كما نقله أبو رية في كتابه، وزاد مسلم في نهاية الحديث "في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل" وهذه الزيادة لم ينقلها أبو رية في كتابه آنف الذكر. ثم قال مسلم رحمه الله تعالى في نهاية الحديث: قال إبراهيم: حدثنا البسطامي وهو الحسين بن عيسى، وسهل بن عمار، وإبراهيم بن بنت حفص وغيرهم عن حجاج بهذا الحديث اهـ. قلت: هكذا أثبت إسناد الحديث بهذا السياق عن حجاج بن محمد الأعور المصيصي الترمذي الأصل وهو من شيوخ الكتب الستة، والإمام أحمد في مسنده، وقد تغير أخيراً عند

قدومه بغداد، كما قال الإمام الذهبي في ميزانه، والحافظ في تهذيبه، وقد روى عنه الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره شيئا كثيرا في حالة التغيير، وأما رواية مشايخ الكتب الستة عنه والإمام أحمد في مسنده فكانت قبل التغيير والله تعالى أعلم، وقد أخرج الإمام أحمد هذا الحديث في مسنده1 في مسند أبي هريرة رضي الله تعالى عنه إذ قال: حدثنا حجاج، أخبرين ابن جريج قال: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ثم ذكر الحديث بطوله كما أخرجه مسلم في الصحيح، والحجاج هو ابن محمد الأعور المذكور الذي سبق فيه الكلام، وأخرجه أيضا الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه2، عن شيخه القاسم بن بشر بن معروف، والحسين بن عبد الله الصدائي عن الحجاج بن محمد به، وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات3 عن طريق شيخه محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد الدوري، ثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ثم ذكر الحديث بلفظه، ثم قال في نهاية الحديث -هذا حديث قد أخرجه مسلم في كتابه عن شريح- هكذا في المطبوعة- والصحيح سريج بالسين ابن يونس وغيره عن حجاج بن محمد اهـ. وأورد هذا الحديث الإمام أبو الحجاج المزي في كتابه: تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف4 وعزا تخريجه إلى مسلم في الصحيح عن طريق سريج بن يونس وهارون بن عبد الله، والنسائي في السنن الكبرى في التفسير، عن طريق هارون بن عبد الله ويوسف بن سعيد ثلاثتهم عن حجاج بن محمد عن ابن جريج، عن إسماعيل ابن أمية عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع به. وأورد الحديث الإمام ابن كثير في البداية والنهاية5 نقلا عن مسند الإمام أحمد بإسناده ثم قال: وهكذا رواه مسلم عن سريج بن يونس وهارون بن عبد الله، والنسائي في

_ 1 مسند الإمام أحمد بن حنبل: 327/2. 2 تاريخ الأمم والملوك: 23/1. 3 الأسماء والصفات: 383-384. 4 تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف: 133/10. 5 البداية والنهاية: 71/1.

التفسير عن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، عن محمد بن المباح عن أبي عبدة الحداد، عن الأخضر بن عجلان عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر الحديث بتمامه ونقله القاسمي في تفسيره1، ثم قال رحمه الله تعالى في تفسيره2 بعد إيراده هذا الحديث وبيان من أخرجه، ورواه النسائي من غير وجه عن حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قال: في ستة أيام، ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار وليس مرفوعا والله تعالى أعلم. قلت: سوف يأتي النقل عن الإمام البخاري رحمه الله تعالى من تاريخه الكبير في ترجمة أيوب بن خالد ما أشار إليه الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى. وعزى الإمام السيوطي في الدر المنثور3 هذا الحديث إلى الحافظ أحمد بن موسى ابن مردويه الأصبهاني المتوفى سنة 410 في تفسيره فقط، ولم أدر عن صنيعه هذا هنا في التفسير ربما خاف رحمه الله تعالى من تعارض هذا الحديث مع ظاهر القرآن الكريم في حالة عزوه إلى مسلم في الصحيح والإمام أحمد في مسنده والإمام البيهقي في الأسماء والصفات والنسائي في سننه، أو لم يطلع على تخريجه كاملا والعلم عند الله تعالى، مع أنه رحمه الله تعالى، عزاه في الجامع الصغير4 إلى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، ومسلم في صحيحه. وعزاه صاحب الكنز5 بعد إيرداه كلاما إلى مسلم في الصحيح والإمام أحمد في مسنده، وهكذا قال الشيخ النابلسي في ذخائر المواريث6، والإمام ابن القيم في المنار المنيف7، والشيخ عبد القادر القرشي في الجواهر المضية في طبقات الحنفية8، وتكلم عليه العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحي المعلمي في الأنوار الكاشفة9 ردا على أبي رية وإثباتا لمعنى الحديث وإسناده فأجاد وأفاد رحمه الله تعالى، فهذا هو تخريج هذا الحديث، وأما الكلام حول إسناده فهو كالآتي.

_ 1 تفسير القاسمي: 27/7. 2 تفسير القاسمي: 178/3. 3 الدر المنثور: 91/3. 4 الجامع الصغير: 447-448/3. 5 كنز العمال: 127/6. 6 ذخائر المواريث: 20/4. 7 المنار المنيف: ص 84، فصل 19. 8 الجواهر المضية في طبقات الحنفية: 429/2. 9 الأنوار الكاشفة: ص 189.

إسناد الحديث

إسناد الحديث وأما إسناد هذا الحديث فهو إسناد من أسانيد مسلم في الصحيح كما ترى وهو على شرطه الذي اشترطه على نفسه في مقدمة صحيحه إذ قال رحمه الله تعالى1 في مقدمته العليمة على صحيح مسلم، ومقسماً الأخبار التي يخرجها في صحيحه وهي ثلاثة أنواع "فأما القسم الأول فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها، وأنقى ما يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث، وإتقان لما نقلوا، لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد، وتخليط فاحش، كما عثر فيه على كثير من المحدثين وبان ذلك في حديثه، فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخبارا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان، كالصنف المقدم قبلهم، على أنهم، وإن كانوا فيما وضعنا دونهم فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يحملهم كعطاء بن السائب ويزيد بن أبي الزياد وليث بن أبي سليم، وأضرابهم من حمال الآثار، ونقال الأخبار، فهم وإن كانوا بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين، فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان، والاستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة، لأن هذا عند أهل العلم درجة رفيعة، وخصلة سنية، ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة الذين سميناهم عطاء، ويزيد وليثاً بمنصور بن المعتمر، وسليمان الأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد في إتقان الحديث والاستقامة فيه، وجدتهم مباينين لهم لا يدانونهم، لاشك عند أهل العلم بالحديث في ذلك، للذي استفاض عندهم من صحة منصور، والأعمش، وإسماعيل وإتقانهم لحديثهم وإنهم لم يعرفوا مثل ذلك من عطاء، ويزيد، وليث، وفي مثل مجرى هؤلاء إذا وازنت بين الأقران كابن عون، وأيوب السختياني، مع عوف بن أبي جميلة، وأشعت الحمراني وهما صاحبا الحسن، وابن سيرين، كما أن ابن عون وأيوب صاحبهما إلا أن البون بينهما وبين هذين بعيد في كمال الفصل، وصحة النقل، وإن كان عوف، وأشعت غير مدفوعين عن صدق وأمانة عند أهل العلم، ولكن الحال ما وصفنا من المنزلة عند أهل العلم، وإنما مثلنا هؤلاء في التسمية ليكون تمثيلهم سمة يصدر عن فهمها من غبى عليه طريق أهل العلم في ترتيب أهله فيه يقصّر بالرجل العالي القدر عن درجته، ولا يرافع متضع القدر في العلم فوق منزلته، ويعطي كل ذي حق فيه حقه، وينزل منزلته وقد ذكر عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: أمرنا رسول الله صلى

_ 1 مقدمة صحيح مسلم: 50-60.

الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم مع ما نطق به القرآن من قول الله تعالى {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} فعلى نحو ما ذكرنا من الوجوه نؤلف ما سألت من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون أو عند الأكثر منهم فلسنا نتشاغل تخريج حديثهم كعبد الله بن مسور وأبي جعفر المدائني، وعمرو بن خالد وعبد القدوس الشامي، ومحمد بن سعيد المصلوب، وغياث بن إبراهيم، وسليمان بن عمر وأبي داود النخعي وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحاديث وتوليد الأخبار، وكذلك من الغالب على حديثه المنكر، أو الغلط امسكنا أيضا عن حديثهم. قلت: هذا هو النقل عن الإمام أبي الحجاج مسلم رحمه الله تعالى في مقدمة صحيحه وأنه لم يخالف في إخراج حديث أبي هريرة رضي الله عنه بحال من الأحوال وأنه على شرطه تماما كما نص في هذا النقل بأنه لا يخرج حديث من كان متهما بالكذب أو من كان منكرا كثير الغلط، وأما ما سواهما فإنه يخرج حديثهم للاستشهاد، والمتابعات وهكذا نقل السيوطي في تدريبه1 عن مسلم فرواه وبهذا الإسناد الذي أنا بصدد الكلام حولهم فإنهم كلهم ثقات، إلا أيوب بن خالد بن صفوان بن أوس بن جابر الأنصاري المدني الذي يروي عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة وروى عنه إسماعيل بن أمية فقد قال الحافظ في تقريبه2: فيه لين من الرابعة ورمز له بأنه من رجال مسلم، والترمذي، والنسائي، وقال في التهذيب3 وذكره ابن حبان في الثقات، ورجحه الخطيب. قلت: صالح للمتابعات والشواهد، ويكتب حديثه، ولم يخرج له مسلم سوى هذا الحديث الواحد فقط في صحيحه، ولم يكن حديثه مخالف للثقات، كما سوف يأتي في معنى الحديث مفصلا إن شاء الله تعالى. وقال الإمام البخاري في تاريخه الكبير4 في ترجمة أيوب بن خالد هذا رقم 1317 وروى إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد الأنصاري، عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله التربة يوم السبت"، وقال بعضهم عن أبي هريرة عن كعب وهو أصح اهـ. وقال الإمام ابن القيم في المنار المنيف5 ويشبه هذا ما وقه فيه الغلط من حديث أبي هريرة: خلق الله التربة يوم السبت، وهو في صحيح مسلم ولكن الغلط في رفعه، وإنما

_ 1 تدريب الراوي: ص 45. 2 تقريب التهذيب: 89/1. 3 تهذيب التهذيب: 401/1. 4 التاريخ الكبير: 1/1/413. 5 المنار المنيف: ص 84، فصل 19.

هو قول كعب الأحبار، ثم نقل عن الإمام البخاري قوله من تاريخه الكبير الذي نقل آنفا ثم قال: وقال غيره من علماء المسلمين أيضا وهو كما قالوا، لأن الله أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وهذا الحديث يقتضي أن مدة التخليق سبعة أيام، والله تعالى أعلم. قلت: هكذا ضعف هذا الإسناد استنادا على قول الإمام البخاري رحمه الله تعالى، المنقول من تاريخه الكبير، وإلى هذا التضعيف جنح الشيخ عبد القادر القرشي في الجواهر المضية في طبقات الحنيفة1 إذ قال: وقد روى مسلم أيضا خلق الله التربة ثم ذكر الحديث، ثم قال: واتفقت الناس على أن يوم السبت لم يقع فيه خلق، وأن ابتداء الخلق كان يوم الأحد اهـ. قلت: سوف يأتي الرد على هذا عند الكلام على معنى الحديث، وقال العلامة المناوي في فيض القدير على شرحه على الجامع الصغير للسيوطي2. أخرجه مسلم وهو من غرائبه، وقد تكلم فيه ابن المديني والبخاري وغيرهما من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب الأحبار، وأن أبا هريرة إنما سمعه منه لكن اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعا، وقد حرر ذلك البيهقي، وذكره ابن كثير في تفسيره، وقال بعضهم: هذا الحديث في متنه غرابة شديدة، فمن ذلك أنه ليس فيه ذكر خلق السماوات، وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام، وهذا خلاف القرآن لأن الأرض خلقت في أربعة أيام ثم خلقت السماوات في يومين اهـ. قلت: ليست هناك غرابة في معنى الحديث ولا تعارض مع نص القرآن الكريم، كما يفصل ذلك ويوضح عند الكلام على معنى الحديث، والإسناد قد تكلم عليه الإمام البيهقي في الأسماء والصفات، وصححه كما سوف يأتي قريبا وقد صحح هذا الإسناد أيضا الإمام يحي بن معين، وابن منده، والدولابي، والثقفي كما نقله الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في صحيح الجامع الصغير3، وقد تكلم عليه في الأحاديث الصحيحة برقم 1833. وقال الإمام البيهقي في الأسماء والصفات4: وزعم بعض أهل العلم بالحديث أنه غير محفوظ لمخالفته ما عليه أهل التفسير، وأهل التواريخ، وزعم بعضهم: أن إسماعيل بن

_ 1 الجواهر المضية في طبقات الحنيفة:429/2. 2 فيض القدير: ج 3 ص 447-448. 3 صحيح الجامع الصغير: 3230/3. 4 الأسماء والصفات: 383-384.

أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحي عن أيوب بن خالد، وإبراهيم غير محتج به، ثم ساق إسناده بقوله: أخبرنا أبو عبد الله، أخبرني أبو يحي أحمد بن السمرقندي ببخارى، ثنا أبو عبد الله محمد بن نصر، حدثني محمد بن يحي، قال: سألت علي بن المديني عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، خلق الله التربة يوم السبت، فقال علي: هذا حديث مدني رواه همام بن يوسف عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن أبي رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، قال عليّ: وشبك إبراهيم بن أبي يحي، وقال لي: شبك بيدي أيوب بن خالد، وقال لي شبك بيدي عبد الله بن رافع، وقال لي، شبك بيدي أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وقال لي: شبك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم وقال لي: "خلق الله الأرض يوم السبت" فذكر الحديث، قال لي علي بن المديني: وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا إلا من إبراهيم بن أبي يحيى. قلت هكذا علل ابن المديني رحمه الله تعالى، إسناد هذا الحديث، بقوله إنه مروي عن طريق إبراهيم بن يحي، وإبراهيم غير محتج به كما قال البخاري في التاريخ الكبير1، والصغير2، والضعفاء له3 والجرح والتعديل4 والضعفاء للنسائي5 والمجروحين لابن حبان6 والضعفاء للعقيلي7 وتهذيب الكمال8، والذهبي في الميزان9، وتذكرة الحفاظ للذهبي10، وتهذيب التهذيب11 ولم يثبت هؤلاء كلهم سماع أو رواية إسماعيل بن أمية عن إبراهيم بن أبي يحي هذا، وهو متروك متهم بالكذب، وهو من رواة ابن ماجة وقد انفرد به ولم يعلل البخاري رحمه الله تعالى هذا التعليل في تاريخه الكبير، ولم يضعف علي بن عبد الله المديني رحمه الله تعالى أيوب بن خالد الأنصاري الذي روى هذا الحديث، ولقد قال الإمام البيهقي رحمه الله تعالى بعد نقل ابن المديني حول هذا الإسناد في الأسماء والصفات.

_ 1 التاريخ الكبير: 1/1/223. 2 التاريخ الصغير: 213. 3 الضعفاء: ص 3. 4 الجرح والتعديل: 1/1/125. 5 الضعفاء: ص 3. 6 المجروحين: 92/1. 7 الضعفاء ورقة 13. 8 تهذيب الكمال: 1/65. 9 ميزان الاعتدال: 57/1. 10 تذكرة الحفاظ: 246/1. 11 تهذيب التهذيب: 158/1.

قلت: أي قال الإمام البيهقي رادا على ابن المديني حين قال إن إسماعيل بن أمية روى عن إبراهيم بن أبي يحي -وقد تابعه على ذلك موسى بن عبيدة الربذي عن أيوب بن خالد، إلا أن موسى بن عبيدة ضعيف، وروى عن بكر بن الشرود، عن إبراهيم بن أبي يحي عن صفوان بن سليم عن أيوب بن خالد وإسناده ضعيف، والله أعلم اهـ. قلت: لم يرتضي البخاري رحمه الله تعالى قول شيخه ابن المديني لأن إسماعيل بن أمية ثقة ثبت عند المحدثين، وليس بمدلس وهو معاصر لشيخه أيوب بن خالد الأنصاري كما لا يخفى هذا الأمر على من مارس من التحقيق في علوم الحديث، وكأن البخاري رحمه الله تعالى قد أعل هذا الإسناد بأمر آخر في تاريخه، كما قال الشيخ عبد الرحمن بن يحي المعلمي في الأنوار الكاشفة1، إذ قال رحمه الله تعالى: ومؤدى صنيعه أنه يحس أن أيوب أخطأ، وهذا الحس مبني على ثلاثة أمور: الأول: استنكار الخبر لما مرّ، والثاني: أن أيوب ليس بالقوي، وهو مقل، ولم يخرج مسلم إلا هذا الحديث كما يعلم من الجمع بين رجال الصحيحين، وتكلم فيه الأزدي، ولم ينقل توثيقه عن أحد الأئمة إلا أن ابن حبان، ذكره في ثقاته، وشرط ابن حبان في التوثيق فيه تسامح معروف. الثالث: الرواية التي أشار إليها بقوله "وقال بعضهم: وليته ذكر سندها ومتنها فقد تكون ضعيفة في نفسها وإنما قويت عنده للأمرين الآخرين. ويدل على ضعفها أن المحفوظ عن كعب، وعبد الله بن سلام، ووهب بن منبِّه ومن يأخذ عنهم، أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد وهو قول أهل الكتاب المذكور في كتبهم وعليه بنوا قولهم في السبت. قلت: هذا الوجه الثالث الذي ذكره رحمه الله تعالى كان ينبغي أن يحتفظ به على رده على الإمام البخاري رحمه الله تعالى في تضعيفه لأيوب بن خالد الأنصاري وسوف يأتي ذلك مفصلاً عند ذكر معنى الحديث وخلاصة القول أن علي بن المديني والبخاري رحمهما الله تعالى لم يتفقا في تعليلهما على تضعيف هذا الإسناد بل لكل واحد منهما رأي متغاير في التضعيف ولو اتفقا على علة واحدة لكان لرأيهما وزن كبير وثقل عظيم، وقد رد عليهما الإمام البيهقي، والشيخ عبد الرحمن بن يحي المعلمي رحمهما الله تعالى، وسوف يأتي كلام المعلمي مفصلاً عند معنى الحديث بعد ما يثبت إسناد الحديث بالحجة القاطعة، والبرهان الواضح، فلله دره رحمه الله تعالى.

_ 1 الأنوار الكاشفة: ص 189.

وأزيد على ما ذكره المعلمي حول إسناد هذا الحديث والإمام البيهقي في ذكره الزيادات الإسنادية ثم تضعيفه إياها وسكوته عليها فأقول: إن هذا الإسناد الذي تكلم عليه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في تاريخه الكبير بقوله: "وقال بعضهم عن أبي هريرة عن كعب وهو أصح" إن حكمه على هذا الإسناد بالأصحية يدل على أن رواية مسلم التي صرح فيها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم شاذة في نظر البخاري رحمه الله تعالى، ولكن أين هذه الرواية التي أشار إليها بالأصحية ومن أخرجها من أصحاب الكتب الستة وغيرهم، والبخاري رحمه الله تعالى لم يخرجها في الجامع الصحيح ولا في غيره من الكتب، ولقد فتشت عنها كثيرا في كتب الحديث المطبوعة التي بين يديّ والمخطوطة فلم أقف عليها، وكذا في كتب التراجم والسير والتاريخ والتفسير ولم يشر إليها أحد من المحدثين، ما عدا الإمام البخاري رحمه الله تعالى، ولم يعلل الإمام علي بن عبد الله المديني هذا الإسناد بما علل به تلميذه الرشيد رحمهما الله تعالى، والبخاري يقول في حق شيخه هذا كما نقل هذا المزي في تهذيب الكمال والحافظ في التهذيب وغيرهما من أئمة الحديث: "ما اصتغرت نفسي إلا عند ابن المديني فإنه خلقه الله تعالى للحديث" والإسناد قد صححه جملة كبيرة من المحدثين كما مضى، وأما قول الإمام البيهقي في الأسماء والصفات عند رده على ابن المديني، وزعم بعضهم أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحي إلخ: فاستعماله كلمة "زعم" رد واضح وإنكار ظاهر، وكيف لا، وقد كان إسماعيل بن أمية معاصراً لأيوب بن خالد الأنصاري، ولم يكن متهماً بالتدليس، ولا بالإرسال الخفي وليس هناك انقطاع، فيما علمت، ولو كان هناك شيء لأشار إليه البخاري في تاريخه الكبير، ولهذا صحح الإسناد جملة كبيرة من أهل الفن كما نقل عنهم، وأما الزيادات التي أشار إليها الإمام البيهقي في هذا الإسناد فإنها زيادة في متصل الأسانيد كما لا يخفى مع ضعفها كما أشار إليها الإمام البيهقي رحمه الله تعالى، والضعف محتمل في نظره رحمه الله تعالى، وفي نظر أهل الفن خصوصا متابعة موسى بن عبيدة الربذي لإسماعيل بن أمية عن شيخه أيوب بن خالد الأنصاري، واكتفى بهذا القدر بما يتعلق بإسناد خبر أبي هريرة رضي الله عنه، وهو إسناد صحيح كما اشترطه مسلم في صحيحه كما ظهر لك في هذه الدراسة المتواضعة التي تتعلق بقولي الإمام علي بن عبد الله المديني والإمام البخاري رحمه الله تعالى وعدم اتفاقهما على علة واحدة في تضعيف الإسناد فهناك دليل قوي على تفوق جانب المصححين قوة ورجحانا وهم أكثر والله تعالى أعلم بالصواب. (يتبع)

معنى الحديث

إزالة الشبهة عن حديث التربة فضيلة الشيخ عبد القادر السّندي المحاضر بكلية الحديث الشريف بالجامعة معنى الحديث وأما معنى هذا الحديث فهو معنى واضح كما يظهر ذلك من ترجمة الباب التي عقدها الإمام النووي رحمه الله تعالى إذ قال: (باب ابتداء الخلق، وخلق آدم عليه السلام) أي أنه قصد رحمه الله تعالى من هذه الترجمة أن ابتداء الخلق كان يوم السبت كما في هذا الحديث لا في يوم الأحد كما زعمه من زعمه من بعض أهل التفسير والتاريخ وقد تكلم على هذا الموضوع الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه (تاريخ الأمم والملوك) وذهب إلى إن ابتداء الخلق كان يوم الأحد بناء على سياقه تلك الأسانيد الضعيفة الواهية الآتية ثم رد عليه الإمام الفقيه المحدث والمؤرخ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أبى الحسن الخثعمي السهيلي المولود بمدينة مالقة سنة 508 هـ والمتوفى بمصر سنة 581 هـ في كتابه البارع النفيس الروض الأنف في تفسير ما اشتمل عليه أحاديث السيرة النبوية للإمام عبد الملك بن هشام المتوفى سنة 218هـ. وأنا أسوق تلك الأسانيد والمتون التي ساقها الإمام أبو جعفر ثم اعتمد عليها ولا يجوز الاعتماد عليها كما سوف يظهر لك جليا واضحا إن شاء الله تعالى إذ قال رحمه الله تعالى في تاريخه1: واختلف السلف في اليوم الذي ابتدأ الله عز وجل فيه خلق السموات والأرض، فقال بعضهم: ابتدأ في ذلك يوم الأحد ثم قال: ذكر من قال ذلك ثم ساق إسناده بقوله: حدثنا إسحاق بن شاهين، حدثنا خالد بن عبد الله، عن الشيباني، عن عون بن عبد الله بن عتبة، عن أخيه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قال عبد الله بن سلام: أن الله تبارك وتعالى ابتدأ الخلق، فخلق الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين.

_ 1 تاريخ الطبري 1/22-24

قلت: رجال هذا الإسناد كلهم ثقات ولكنه موقوف على عبد لله بن سلام رضي الله تعالى عنه وهو معروف رضي الله عنه بروايته عن أهل الكتاب وليس في قوله هذا حجة وقد ثبت أنه روى هذا القول عن أهل الكتاب وليس هو بمرفوع كما سوف يأتي تفصيله قريبا إن شاء الله تعالى، ثم ساق أبو جعفر رحمه الله تعالى إسناده الثاني عن طريق أبا معشر السندي عن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه بنحو ما تقدم آنفا وهذا الإسناد لا يحتج به لكونه ضعيفا ولكن المعنى قد ثبت عن طريق الإسناد المتقدم، ثم ساق إسناده الثالث عن طريق شيخه محمد بن حميد الرازي أبي حيان- وهو متهم بالكذب عن كعب الأحبار، وفيه: إن الله بدأ بخلق السماوات والأرض يوم الأحد والاثنين وهذا الإسناد لو كان صحيحا لما كان فيه حجة لما قلت بمثله في عبد الله بن سلام رضي الله عنه وكعب الأحبار رحمه الله تعالى، أكثر رواية عن أهل الكتاب. وقد أجمع علماء التفسير على ذلك ولكن الإسناد ضعيف جدا لا يحتج بمثله. ثم ساق الإمام أبو جعفر رحمه الله تعالى إسناده الرابع في هذا الموضع بقوله: حدثني محمد بن أبي منصور الآملي، حدثنا على بن الهيثم.- هكذا في المطبوعة- والصحيح على بن الميثم بالميم- عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك في قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام} قال من أيام الآخرة كل يوم مقداره ألف سنة ابتدأ الخلق يوم الأحد اهـ. قلت: هذا إسناد موضوع مكذوب مختلق على الإمام الضحاك بن المزاحم الهلالي أبى القاسم الخراساني وهو من الطبقة الخامسة، وكانت وفاته بعد المائة بمدة وفي إسناد هذا المتن المقطوع على بن الميثم العوفي أحد الرافضة، قال الحافظ في لسان الميزان 1حكى عنه النظام قال: كنا نكلمه فيذكر ما يذهب إليه ثم ذكر الحافظ بقية الكلام وفيه أثبت أنه كان كذابا. وفي هذا الإسناد رجل يسمى المسيب بن شريك قال الإمام الذهبي في الميزان: هو أبو سعيد التميمى الشقرى الكوفي، عن الأعمش، قال يحيى: ليس بشيء، وقال أحمد: ترك الناس حديثه، وقال البخاري سكتوا عنه، وقال مسلم وجماعة: متروك، وقال الدارقطني: ضعيف ثم ذكر بقية الجرح. قلت: لا يصلح للاعتبار والشواهد، والمتابعات فضلا أن يكون حجة والله تعالى أعلم. ثم ساق أبو جعفر رحمه الله تعالى إسناده الخامس بقوله: حدثنى المثنى، حدثنا الحجاج. حدثنا أبو عوانة. عن أبي بشر، عن مجاهد قال: بدأ الخلق يوم الأحد.

_ 1لسان الميزان 1/265

قلت: المثنى فما هذا الإسناد هو المثنى بن إبراهيم الآملى ولم أجد له ترجمة في المراجع التي بين يدي والغالب على الظن أنه مجهول ولو كان الإسناد صحيحا لما كان فيه حجة لأنه كلام مقطوع من قول مجاهد بن جبر المكي رحمه الله تعالى وقد خالف قوله هذا نص صحيح مرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سوف يأتي قريبا. وأثر مجاهد السابق أخرجه الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره 1 وهو برقم 14773 وقال في تفسيره بعد سياق الإسناد عن مجاهد رحمه الله تعالى بدأ خلق العرش والماء، والهواء، وخلقت الأرض من الماء، وكان بدأ الخلق يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وجميع الخلق في يوم الجمعة وتهودت اليهود يوم السبت ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدون ثم استوى على العرش اهـ. هكذا ساق الإسناد والمتن في التفسير عن مجاهد بن جبر المكي يرحمه الله تعالى وكان من الواجب عليه رحمه الله تعالى أن يسوق الإسناد والمتن المرفوع الصحيح الذي ساقه في تاريخه وهو إسناد صحيح ومتن مرفوع عن طريق شيخيه القاسم بن بشر بن معروف، والحسين بن علي الصدائي كما سوف يأتي قريبا وقد مضى في تخريج الحديث سابقا. والجواب عن هذا الإسناد الأخير مع صحة إسناده إلى مجاهد بن جبر المكي رحمه الله تعالى بأنه متن مقطوع ولو كان موقوفا صحيح الإسناد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم تكن فيه حجة البتة لثبوت حديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده والبيهقي في الأسماء والصفات والنسائي في السنن الكبرى وابن مردويه في تفسيره وابن جرير الطبري في تاريخه وهو ينص على أن ابتداء الخلق كان في يوم السبت كما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى. ثم قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: وقال آخرون: اليوم الذي ابتدأ الله فيه في ذلك اليوم السبت ثم قال رحمه الله تعالى: ذكر من قال ذلك، ثم ساق اسناده بقوله: حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة بن الفضل، قال حدثني محمد بن اسحاق قال: يقول أهل التوراة: ابتدأ الخلق يوم الأحد وقال أهل الأنجيل ابتدأ الله الخلق يوم الإثنين ونقول نحن المسلمون فيما انتهى الينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأ الله الخلق في يوم السبت وقد مضى ذكرنا الخبرين. غير انا نعيد من ذلك في هذا الموضع بعض ما فيه من الدلالة على حجة قول كل فريق منهما.

_ 1 تفسير الطبري: 12/482

فأما الخبر عنه بتحقيق ما قال القائلون كان ابتدأ الخلق يوم الأحد فما حدثنا به هناد بن السري، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعد البقال عن عكرمة، عن ابن عباس، قال هناد: وقرأت سائر الحديث أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض فقال: خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين أ?. قلت: الإسناد الأول الذي ساقه عن محمد بن إسحاق عن طريق محمد بن حميد الرازي أبى حيان وهو متهم بالكذب وقد مضى الكلام فيه ولا يثبت بمثل هذا الإسناد شيء الا إنما اسند إلى ابن إسحاق من قوله من ابتداء الخلق عند أهل التوراة وأهل الإنجيل، وأهل الإسلام فهو ثابت عنه رحمه الله تعالى وقد حذفه الإمام العلامة ابن هشام المعافري عند اختصاره سيرة ابن إسحاق وقد أثبته الإمام المحدث الشيخ أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي في الروض الأنف وهو شرحه لأحاديث سيرة ابن هشام المختصرة كما يأتي ذلك مفصلا إن شاء الله تعالى في موضعه. وأما سياق الإسناد الذي ساقه الإمام أبو جعفر الطبري عن طريق شيخه هناد بن السري التميمي، والذي فيه إن ابتداء الخلق كان يوم الأحد والاثنين فهو إسناد ضعيف جدا ولا يحتج بمثله- ولا يصلح للاعتبار فضلا أن يكون حجة لأن في إسناده راويين ضعيفين وهما أبو بكر بن عياش الكوفي المقرئ قال الإمام الذهبي في الميزان1 قال أبو نعيم: لم يكن في شيوخنا أحد أكثر غلطا منه، وكان يحيى بن سعيد لا يعبأ به إذا ذكر عنده كلح وجهه، وقال الإمام أحمد: كثير الغلط جدا وفي إسناد هذا الخبر أبو سعد البقال وهو سعيد ابن مرزبان العبسي مولاهم أبو سعد البقال الكوفي الأعور ضعيف مدلس، قال الإمام الذهبي في الميزان2: كوفي مشهور تركه الفلاس، وقال ابن معين: لا يكتب حديثه، وقال أبو زرعة: صدوق مدلس، وقال البخاري منكر الحديث. قلت: هذا الإسناد الذي ساقه الإمام محمد بن جرير الطبري في تاريخه لا يحتج به لو كان منفردا فكيف إذا عارضه حديث صحيح أخرجه مسلم والإمام أحمد في مسنده وابن جرير الطبري في تاريخه بإسناد صحيح. ثم قال أبو جعفر: وأما الخبر عنه بتحقيق ما قاله القائلون من أن ابتداء الخلق كان يوم السبت فما حدثني به القاسم بن بشر بن

_ 1 الميزان،4/ 499-503 2 الميزان، 2/157-158.

معروف، والحسين بن على الصدائي قالا: حدثنا حجاح قال: ابن جريج أخبرنا إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبى هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم ذكر الحديث الذي أنا بصدد الكلام حوله، ثم قال أبو جعفر رحمه الله تعالى -في نهاية هذا الحديث الصحيح إسنادا ومتنا-: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: اليوم الذي ابتدأ الله تعالى ذكره فيه خلق السماوات والأرض يوم الأحد لإجماع السلف من أهل العلم على ذلك، فأما ما قال ابن إسحاق في ذلك فإنه إنما استدل بزعمه على أن ذلك كذلك؛ لأن الله عز ذكره فرغ من خلق جميع خلقه يوم الجمعة وذلك يوم السابع وفيه استوى على العرش وجعل ذلك اليوم عيدا للمسلمين، ودليله على ما زعم أنه استدل به على صحة قوله، فيما حكينا عنه من ذلك، هو الدليل على خطئه فيه؛ وذلك أن الله تعالى أخبر عباده في غير موضع من تنزيله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم ذكر الإمام أبو جعفر هذه الآيات القرآنية التي نصت على أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ا?. قلت: وكان من الواجب على الإمام أبى جعفر رحمه الله تعالى أن يقارن بين هذه الأسانيد التي ساقها في ترجيح أحد القولين في ضوء صحة هذه الأسانيد، وإلا لم يكن لسياقه هذا لتلك الأسانيد الكثيرة كبير فائدة، مادام ذهب أخيرا إلى تركها كليا؛ لأن القرآن يعارضها وكان يكفي له رحمه الله تعالى في أول القول أنها معارضة بآيات القرآن الكريم كما فصل أخيرا دون أن ينظر نظرته العلمية في ترجيح هذه الأسانيد صحة وضعفا، ومن هنا قد تصدى له في الرد عليه الإمام العلامة الحافظة عبد الرحمن السهيلي في الروض الأنف1 إذ قال رحمه الله تعالى (قال المؤلف) أي ابن إسحاق: وكان اليهود إنما اختاروا السبت لأنهم اعتقدوه اليوم السابع ثم زادوا في كفرهم، أن الله استراح فيه -تعالى الله عن قولهم-، لأن بدأ الخلق عندهم الأحد، وآخر الستة الأيام التي خلق الله فيها الخلق الجمعة وهو أيضا مذهب النصارى، فاختاروا الأحد لأنه أول الأيام في زعمهم وقد شهد الرسول صلى الله عليه وسلم للفريقين بإضلال اليوم وقال في صحيح مسلم: أن الله خلق التربة يوم السبت، فبين- الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث- أن أول الأيام التي خلق الله فيها الخلق السبت، وآخر الأيام الستة الخميس وكذلك قال ابن إسحاق فيما ذكر عنه الطبري ا?.

_ 1 الروض الأنف، 2/270.

قلت: هكذا رد العلامة السهيلي على القائلين بأن الأحد هو الأول من الأيام التي وقع فيه الخلق مستدلا من هذا الحديث الذي أنا بصدد الكلام حوله، وعليه اعتمد ابن إسحاق في قوله وغيره من أصحاب الحديث والتاريخ والسير. ثم قال العلامة السهيلي في الروض1: في تسمية هذه الأيام بالاثنين إلى الخميس ما يشد قول من قال أن أول الأسبوع الأحد وسابعها السبت كما قال أهل الكتاب، ليس الأمر كذلك؛ لأنها تسمية طارئة وإنما كانت أسماءها في اللغة القديمة شيار، داول، واهون، ذجبار، ددبار، ومونس، والعروبة، وأسماءها بالسريانية قبل هذا أبو جاد، هو، زحطى، إلى آخرها، ولو كان الله تعالى ذكرها في القرآن بهذه الأسماء المشتقة من العدد لقلنا هي تسمية صادقة على المسمى به، ولكنه لم يذكر فيها إلا الجمعة والسبت وليسا من المشتقة من العدد، ولم يسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحد والاثنين إلى سائرها إلا حاكيا للغة قومه لا مبتدئا لتسميتها، ولعل قومه إن يكونوا قد أخذوا معاني هذه الأسماء من أهل الكتاب المجاورين لهم، فالفوا عليها هذه الأسماء أتباعا لهم، وإلا فقد قدمنا ما ورد في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام إن الله خلق التربة يوم السبت، والجبال يوم الأحد الحديث. والعجب من الطبري على تبحره في العلم كيف خالف مقتضى هذا الحديث، واعنف في الرد على ابن إسحاق وغيره، ومال إلى قول اليهود في أن الأحد هو الأول ويوم الجمعة السادس لا وتر، وإنما الوتر في قولهم يوم السبت مع ما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام أضلته اليهود والنصارى وهداكم الله إليه وما احتج به الطبري من حديث آخر فليس في الصحة كالذي قدمناه اهـ. قلت: هكذا رد العلامة السهيلي على الإمام أبى جعفر الطبري مع تبحره في العلم على ترجيحه بلا مرجح، وذهابه إلى قول اليهود والنصارى وتركه هذه السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ساق إسنادها عن طريق شيخيه القاسم بن بشر بن المعروف والحسين بن على بن يزيد الصدائي وكلاهما معروف بالعدالة والضبط. وأما تعارض هذا الحديث أعني حديث أبى هريرة رضي الله تعالى عنه بنص القرآن الكريم الوارد في سبع مواضع في كتاب الله تعالى فسوف يأتي الكلام حوله عند الكلام على معنى خلق آدم عليه الصلاة والسلام الذي ورد ذكره في هذا الحديث الشريف وأن خلقه قد تأخر عن خلق السماوات والأرض وما بينهما بآلاف السنين وليس هناك تعارض البتة كما يأتي مفصلاً.

_ 1 الروض الأنف، 2/271.

وقال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله تعالى في الأنوار الكاشفة1 في الرد على أبي رية: أما الوجه الثالث فالآثار القائلة إن ابتداء الخلق يوم الأحد ما كان منها مرفوعا فهو أضعف من هذا الحديث بكثير- أي حديث أبى هريرة الذي أنا بصدد الكلام حوله والذي أخرجه مسلم وغيره- وأما غير المرفوع فعامته من قول عبد الله بن سلام، وكعب ووهب ومن يأخذ عن الاسرائيليات اهـ. قلت: وقد بحثت هذه الأسانيد التي أشار إليها العلامة المعلمي رحمه الله تعالى، فإن الأمر كما ذكر رحمه الله تعالى بل أشد وأعظم مما ذكر ثم قال رحمه الله تعالى: وتسمية الأيام كانت قبل الإسلام تقليدا لأهل الكتاب، فجاء الإسلام وقد اشتهرت، وانتشرت فلم ير ضرورة إلى تغييرها، لأن إقرار الأسماء التي قد عرفت واشتهرت، وانتشرت لا يعد اعترافا بمناسبتها لما أخذت فيه أو بينت عليه، إذ قد أصبحت لا تدل على ذلك، وإنما تدل على مسمياتها فحسب، ولأن القضية ليست مما يجب اعتقاده أو يتعلق به نفسه حكم شرعي فلم تستحق أن يحتاط لها بتغيير ما اشتهر وانتشر من تسمية الأيام اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: إن هذا ذكره السهيلي في الحوض الأنف وهو كما قال رحمه الله تعالى، وكلامه كما ترى وجيه سديد. وهنا اكتفى بالكلام حول الجزء الأول على معنى الحديث وقد ثبت بهذا أن ابتداء الخلق كان يوم السبت كما في هذا الحديث الصحيح. وأما الكلام حول الجزء الثاني من معنى هذا الحديث فهو خلق آدم عليه السلام ثم عدم ورود ذكر خلق السماوات في الحديث لفظا فإني أفرد الكلام حوله مبتدءً على خلق آدم عليه الصلاة والسلام وأنه خلق متأخر عن خلق السموات والأرض بآلاف السنين ثم جمع في هذا الحديث بين الخلقين المتقدم والمتأخر، ومن هنا ظهر التعارض الظاهري بين القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف الذي تكلم عليه تخريجا وإسنادا. وإلى هذا المعنى الواضح البين أشار الإمام أبو عبد الله الحاكم في مستدركه.

_ 1 الأنوار الكاشفة، ص191

متى كان خلق آدم

متى كان خلق آدم أخرج الحاكم أبو عبد الله في مستدركه 1 حديثا بإسناده الصحيح، إذ قال رحمه الله تعالى: أخبرني عبد الله بن موسى الصيدلاني، ثنا إسماعيل بن قتيبه، ثنا أبو بكر بن أبى شيبة، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن بكر، بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لقد أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يدخلها أحد، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} وقد كان فيها قبل أن يخلق- آدم- بألفي عام الجن بنو الجان، فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فلما قال الله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} يعنون الجن بني الجان، فلما افسدوا في الأرض بعث عليهم جنودا من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور، قال: فقالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها كما فعل أولئك الجن بنو الجان؟ قال: فقال الله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ثم قال الحاكم -مبينا درجة إسناد هذا الحديث-: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الإمام الذهبي في التلخيص: صحيح وعزاه السيوطي في الدر المنثور2 إلى الحاكم في المستدرك وصححه ثم ذكر الحديث بطوله. والشاهد في هذا الحديث هو أن آدم عليه الصلاة والسلام لم يكن خلقه داخلا في الأيام الستة المذكورة في القرآن الكريم وإن خلقه قد تأخر عن خلق السماوات والأرض مدة طويلة، كما في هذا الحديث الصحيح الذي أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، وابن أبى حاتم في تفسيره ونقله ابن كثير في تفسيره 3 بإسناد ابن أبى حاتم، وفيه خطأ في إسناده في النسخة المطبوعة، وهو بعد ذكر الإسناد يقول عن مجاهد عن عبد الله بن عمر وهذا خطأ مطبعي وقع في جميع نسخ ابن كثير المطبوعة والصحيح عن مجاهد عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما وإن كان قد ثبت سماع مجاهد عن العبادلة الأربعة إلا أن هذا الإسناد الذي ساقه ابن كثير عن تفسير ابن أبى حاتم وهو مخطوط لا يصح السماع عن طريقه عن

_ 1 المستدرك، 2/261. 2 الدر المنثور،1/44-45. 3 تفسير ابن كثير، 1/123.

عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما والله أعلم بالصواب. ولهذا يقول العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في "الأنوار الكاشفة" 1: ويجاب عن الوجه الثاني بأنه ليس في هذا الحديث أنه خلق في اليوم السابع غير آدم، وليس في القرآن ما يدل أن خلق آدم كان في الأيام الستة ولا في القرآن ولا السنة ولا المعقول أن خالقية الله عز وجل وقفت بعد الأيام الستة، بل هذا معلوم البطلان، وفي آيات خلق أدم في أوائل البقرة وبعض الآثار ما يؤخذ منه أنه قد كان في الأرض عمار قبل آدم عاشوا فيها دهرا، فهذا يساعد القول بأن خلق آدم متأخر بمدة عن خلق السماوات والأرض. فتدّبر الآيات والحديث على ضوء هذا البيان يتضح لك إن شاء الله تعالى أن دعوة مخالفة هذا الحديث لظاهر القرآن قد اندفعت ولله الحمد اهـ. قلت: وقد نص القرآن الكريم على تأخير خلق آدم عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى في سورة البقرة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} والشاهد في هذه الآية الكريمة أن الله تعالى أخر خلق آدم عليه الصلاة والسلام عن خلق الملائكة كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المتقدم والذي أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، وابن أبى حاتم في تفسيره كما نقله الإمام ابن كثير وإلى هذا المعنى يشير قوله جل وعلا في سورة الرحمن {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . قال العلامة الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره 2 حدثنا أبو كريب قال ثنا عبيد الله بن موسى، عن أبى حمزة الثمالي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن الله خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء، دفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، عرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ثلاث مائة وستين نظرة يخلق بكل نطرة، ويحيا ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء. وقد أورده الإمام ابن كثير في تفسيره 3 وسكت عن بيان درجة إسناده.

_ 1 الأنوار الكاشفة،190. 2 تفسير الطبري، 27/ 135. 3 تفسير ابن كثير،6/ 491.

قلت: وفي إسناده أبو حمزة الثمالي واسمه ثابت بن أبى صفية الثمالي بضم المثلثة، قال الحافظ في التقريب 1: كوفي ضعيف رافضي من الخامسة، مات في خلافة أبي جعفر ورمز له بأنه من رجال أبى داود في السنن وابن ماجة، والشاهد في هذه الرواية الضعيفة التي هي تصلح للاستشهاد هو معنى كل يوم هو في شأن أي: يخلق، ولهذه الهواية الموقوفة التي لها حكم الرفع لو صح إسنادها شاهد قوي أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره وذلك من مرسل قتادة بن دعامة السدوسي إذ قال ابن جرير الطبري حدثنا ابن بشار قال: ثنا مروان، قال ثنا أبو العوام، عن قتادة {يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن} قال: يخلق خلقا، ويميت ميتا، ويحدث أمرا.. هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات يحتج بهم وقد ثبت بذلك هذا المعنى أي أنه يخلق كل يوم ويميت ويحدث الأمر، ويوم السبت داخل في الأيام التي يخلق فيها الرب سبحانه وتعالى خلقه فلو كان الأحد هو أول الأيام التي ابتدأ الله فيها الخلق لكان قول اليهود والنصارى صادقا كما سبق الرد عليه من قبل العلامة السهيلي على الطبري. ومع أن تلك الأسانيد التي ساقها الإمام أبو جعفر وفيها أن الأحد هو أول الأيام الستة هي موضوعة ومنكرة كما مضى تحقيقه وبيانه في الكلام على إسناد حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وأما قول الشيخ عبد القادر القرشي في الجواهر المضية في طبقات الحنفية 2 وقد روى مسلم أيضا خلق الله التربة يوم السبت، واتفق الناس على أن يوم السبت لم يقع فيه خلق وأن ابتداء الخلق يوم الأحد. فقلت: لم أقف على هذا الاتفاق الذي أشار إليه العلامة القرشي رحمه الله تعالى وإنما هو قول للعلامة أبي جعفر الطبري في تاريخه ولم ينقل الاتفاق وكان يرد بذلك على الإمام محمد بن إسحاق صاحب السيرة القائل بأن ابتداء الخلق كان في يوم السبت وقد أيده العلامة السهيلي في الروض الأنف كما مضى، ورد على ابن جرير الطبري ردا علميا ونقله العلامة المعلمي في الأنوار الكاشفة وأيده بالأدلة العقلية والنقلية كما مضى أنفا. وخالفهم الإمام العلامة الحافظ ابن القيم في المنار المنيف 3 إذ قال رحمه الله تعالى: ويشبه هذا ما

_ 1 التقريب،1/116. 2 جواهر المنية في طبقات الحنفية، 2/429. 3 المنار المنيف، ص84.فصل19.

وقع فيه الغلط من حديث أبي هريرة، ثم ذكر الحديث، ثم قال وهو في صحيح مسلم ولكن وقع الغلطة في رفعه، وإنما هو من قول كعب الأحبار كذلك قال إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه الكبير. وقال غيره من علماء المسلمين أيضا وهو كما قالوا لأن الله أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وهذا الحديث يقتضي أن مدة التخليق سبعة أيام والله تعالى أعلم. اهـ. وهكذا نقل الإمام ابن كثير في تفسيره ثم ذهب إلى تضعيف الحديث، وأمانة العلم تقتضي نقل كلام أهل العلم هنا في هذا الموضع، وإني مع ضعف إدراكي وقلة بصيرتي وحيلتي أطمئن إلى ما قاله الإمام البيهقي في الأسماء والصفات والعلامة ابن إسحاق صاحب السيرة والسهيلي في الحوض الأنف وأخيرا العلامة عبد الرحيم بن يحي المعلمي في الأنوار الكاشفة، وأزال التعارض الظاهري الواقع بين الحديث ونص القرآن الكريم. وما ذكره الشيخ عبد القادر القرشي من الاتفاق فغير موجود، بل نصُّ القرآن الكريم يخالف هذا الاتفاق إن وجد {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} كما سبق تفسيره عن ابن عباس وقتادة رضي الله تعالى عنهما. وأما ما نقله الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن الإمام البخاري رحمه الله تعالى- عن أبو هريرة عن كعب وهو أصح. قلت: وقد ثبت عن كعب الأحبار أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد كما سبق بيانه وفي هذا الحديث الذي أخرجه مسلم لو كان ما ذكره الإمام البخاري في تاريخه صحيحا لكان التعارض واقعا بين قولي كعب الأحبار كما لا يخفى فما هو الراجح. وقال الشيخ أحمد عبد الرحمن الساعاتي في الفتح الرباني 1 بعد إيراده حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: وقوله يوم السبت فيه رد زعم اليهود أنه ابتدأ في خلق العالم يوم الأحد وفرغ يوم الجمعة، واستراح السبت، قالوا: ونحن نستريح فيه كما استراح الرب. وهذا من جملة غباوتهم، وجهلهم، إذ التعب لا يتصور إلا على حادث. قال تعالى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ثم ذكر تخريج الحديث. وأورد في الحديث الساعاتي في نفس المجلد 2 وأحال على الصفحة الثامنة من هذا المجلد.

_ 1 الفتح الرباني،8/20. 2 الفتح الرباني،28/20.

والمقصود من هذا النقل هو بيان ما وقعت فيه شبهة التعارض بين نص القرآن الكريم وبين حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي صححه الحفاظ والنقاد، كمسلم، ويحيى ابن معين، والدولابي، والبيهقي، والثقفي وابن مندة، كما نقل هذا التصحيح فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في صحيح الجامع الصغير 1 ويقول أنه تكلم على هذا الحديث في الأحاديث الصحيحة برقم 1833 وهذا الجزء لم يطبع حتى الآن، ولما جمع حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في متنه التخليقين في وقتين متغايرين ظهر التعارض الظاهر وإلاّ فليس هناك تعارض البتة كما قيل ونقل أنفا.

لماذا لم يرد ذكر خلق السماوات في الحديث

لماذا لم يرد ذكر خلق السماوات في الحديث؟ ولما لم يرد ذكر خلق السماوات في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أثار الإشكال في بعض الأذهان مع بقية التعارض الظاهري. قال الإمام المناوي في فيض القدير 2 وقال بعضهم: هذا الحديث في متنه غرابة شديدة، فمن ذلك أنه ليس فيه ذكر خلق السماوات، ثم ذكر بقية الكلام، وهكذا نقل عنه الشيخ أَحمد الساعاتي في الفتح الرباني 3 أجاب عن هذا الإشكال العلامة المعلمي في الأنوار الكاشفة 4، إذ قال رحمه الله تعالى أما الوجه الأول فيجاب عنه بأن الحديث وإن لم ينص على خلق السماء فقد أشار إليه بذكره في اليوم الخامس النور، وفي السادس الدواب، وحياة الدواب محتاجة إلى الحرارة، والنور والحرارة مصدرهما الإجرام السماوية. والذي فيه أن خلق الأرض نفسها كان في أربعة أيام كما في القرآن، والقرآن إذ ذكر خلق الأرض في أربعة أيام، لم يذكر ما يدل أن من جملة ذلك خلق النور والدواب، وإذ ذكر خلق السماء في يومين لم يذكر ما يدل أنه في أثناء ذلك لم يحدث في الأرض شيئا، والمعقول أنها بعد تمام خلقها أخذت في الخطور بما أودعه الله تعالى فيها، والله سبحانه وتعالى لا يشغله شأن عن شأن اهـ.

_ 1 صحيح الجامع الصغير،3/ 113. 2 فيض القدير، 3/448. 3 الفتح الرباني،8/30. 4الأنوار الكاشفة، 190.

قلت: هذا الذي ذكره لم يعزه إلى النقل الصحيح من الكتاب والسنة أو إجماع الأمة أو إلى مصادر أخرى ينبغي الاعتماد عليها. وأنا قد سألت عن هذا الموضوع بعض من يدرس العلوم الكيماوية والجيولوجية فقال: أن الأمر لصحيح مائة في المائة وقد تكلم على هذا الموضوع كلاما طويلا، ولكن البحث في حاجة إلى التدقيق والتحقيق العلمي والله تعالى أعلم بالصواب.

خلق آدم في يوم الجمعة

خلق آدم في يوم الجمعة ثم تعرض حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في آخر ألفاظه لخلق آدم عليه الصلاة والسلام، كما قال الإمام النووي عند عقده الباب على هذا الحديث في شرحه على مسلم إذ قال رحمه الله تعالى: "باب ابتداء الخلق"، وخلق آدم عليه السلام، وجاء في هذا الحديث أن آدم خلقه الله تعالى يوم الجمعة، في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل. وفي هذا اللفظ إشارة واضحة إلى تأخير خلق آدم عليه الصلاة والسلام عن خلق السماوات والأرض- في أخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، كما في حديث ابن عباس الذي أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، وكذا ابن أبي حاتم في تفسيره وأشار إلى هذا المعنى الواضح، نص القرآن الكريم في سورة البقرة كما مضى بيانه وإيضاحه وتحقيقه، ولهذا المعنى الوارد في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه شواهد كثيرة وهي صحيحة. وإني أحب إيرادها في هذا المقام لكي يتضح المعنى ويرفع الغبار وينجلي الشك. فقد أخرج مسلم في الصحيح وأبو داود في السنن، وابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسيريهما وكذا بن المنذر -كلهم- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق الله آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط عنها، وفيه مات، وفيه تيب عليه، وفيه تقوم الساعة" وقد تعرض لهذا الموضوع الحافظ في الفتح 1: واثبت خلق آدم عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة بروايات عديدة، وآثار كثيرة وأخرجه ابن جرير الطبري في تاريخه 2 بإسناد صحيح، وقد أخرج

_ 1 فتح الباري، 3/356. 2 تاريخ الطبري، 1/58.

الإمام أحمد في مسنده هذا المعنى بإسناد صحيح في مواضع عديدة 1؛ وذلك في مسند أبي ريبة رضي الله تعالى عنه، وقد أخرج هذا المعنى أيضا الإمام أحمد في مسنده 2 بإسناد حسن، وذلك في مسند أبي لبابة بن المنذر البدري رضي الله تعالى عنه إذ قال رحمه الله تعالى: حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، قال: ثنا زهير يعني ابن محمد، عن عبد الله ابن محمد بن عقيل، عن عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري، عن أبى لبابة البدري بن المنذر، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيد الأيام يوم الجمعة، وأعظمها عنده، وأعظم عند الله عز وجل من يوم الفطر، ويوم الأضحى، وفيه خمس خلال، خلق الله فيه آدم وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض ... "، ثم ذكر الحديث بطوله، وأخرجه ابن جرير الطبري في تاريخه من هذا الوجه 3، وأخرج أيضا هذا المعنى بإسناد صحيح 4 وذلك في مسند أوس ابن أبي أوس الثقفي وهو أوس بن حذيفة رضي الله تعالى عنه، وفيه: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة فأكثروا علّي من الصلاة"، وقد عزا الإمام السيوطي في الدر المنثور 5 هذا الحديث إلى ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة والدارمي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم في المستدرك. قلت: وأخرجه أيضا القاضي الإمام إسماعيل بن إسحاق المتوفى سنة 282 هـ في رسالته فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 6 حديث رقم 22 وهذه هي الشواهد الكثيرة التي فيها أن الله خلق آدم عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة، وهي تؤيد معنى حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي أنا بصدد الكلام حوله، والدفاع عن صحة إسناده، والرد على الشيخ أبي رية وغيره من أهل العصر الذين يتكلمون في مثل هذه المواضيع بدون علم ولا فقه، ثم يطعنون في السنة النبوية كلها، مع بعدهم عن حقائق هذه الدراسة الإسنادية

_ 1 مسند الإمام أحمد بن حنبل، 2/418. 2/486. 2/504. 2/512. 2/540. 2 مسند الإمام أحمد بن حنبل، 3/430. 3 تاريخ الطبري، 1/56. 4 تاريخ الطبري، 4/85. 5 الدر المنثور، 6/226. 6 فضل الصلاة على النبي، ص 11.

والتخريجية؛ ومن هنا كان كلامه واتهامه لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه في وضع هذا الحديث من تلقاء نفسه دون أن يكون هناك صدق مما أخبر به الله تعالى عنه في زعم أبي هريرة، ولذا يقول العلامة المعلمي رادًّا عليه في هذا الاتهام: أقول: لم يقع شيخنا رضي الله تعالى عنه في هوة ولا قال أحد من أهل العلم أنه وقع فيها، أما إذا بنينا على صحة الحديث عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحق -إن شاء الله تعالى- فواضح. وأما على ما زعمه ابن المديني فلم يصح عن أبي هريرة ولا عمن روي عنه ولا عن الثالث شيء من هذا، قوله أخذ رسول الله بيدي فقال: "خلق الله التربة"، وأما على حدس البخاري، فحاصله أن أيوب غلط، وقع له عن أبي هريرة خبران أحدهما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: فذكر حديثا صحيحا غير هذا والثاني قال كعب: خلق الله التربة يوم السبت فالتبس المقولان على أيوب فجعل مقول كعب موضع مقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم اهـ. قلت: هكذا العلم والتحقيق، وأما اتهامكم أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بالكذب قبل دراسة أحوال الرواة وظروفهم فهذا الشيء ينبئ عن عداوة شنيعة قبيحة في القلب، والله تعالى أعلم بها، وأما الجهل بحقيقة الحال أو وجود كلا الأمرين في الرجل، فالله تعالى أعلم به، وإني مع هذه النقول الكثيرة وقلة الإطلاع على ما قاله السلف في هذا الموضوع لا ادعي الصواب فيما نقلته واعتقدته من صحة هذا الحديث إسنادا ومتنا، وواقعة ولي حق أن أطمئن إلى أحد الطرفين في ضوء الحجة، فإني أدين الله تعالى بما ذهب إليه جملة كبيرة من أهل التحقيق والعلم من صحة هذا الإسناد والله تعالى أعلم بالصواب وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.

العلم.. والمثل العليا إن الفصل بين الواقع الإنساني والمثل العليا، مهد للعلم المنشق عن الدين أن يزعم أنه يتعامل مع الموجود المادي الملموس، أي أنه لا يتعامل مع غايات الحياة وأهدافها ومقاصدها الرفيعة، وهكذا نجد أن كلّ نقد يوجه للدين الجزئي يمكن أن يوجه للعلم الجزئي كذلك، فالدين الذي يتجاهل الواقع البشري ويتعامى عن مشكلاته يتطابق مع العلم الذي يتعامى عن العقائد والمثل العليا ويفصلها عن الحياة. فإذا كان الأول يتجاهل الحياة الواقعية القائمة ويتجاهل خبرات الإنسان نفسها، فإن العلم القاصر عن المثل العليا يهبط إلى المادي الملموس والمسموع والمنظور، مجرداً من القيم الإنسانية، ويصبح سلعة تكنولوجيا يمكن لأي شخص أن يشتريها لأي غرض، ويصبح العلماء مرتزقة يتكسبون بالعلم في أي مكان، كما حدث لعلماء الإيمان الذي عملوا للأهداف النازية والشيوعية والأمريكية. لقد علمتنا العقود الأخيرة القليلة بأن العلم قد يصبح خطراً يهدد مقاصد الإنسان العليا، وأن العلماء قد يصبحون وحوشا طالما أن العلم أصبح كلعبة الشطرنج، متعسفاً لا هدف له، غايته الوحيدة اكتشاف الوجود المحسوس. وبذلك ارتكب العلم الخطأ الفادح المصيري الذي يقصي أسمىَ الخبرات الذاتية من ميدان الوجود القابل للاكتشاف. المجلة الإسلامية المغربية

§1/1