إرشاد العباد إلى معاني لمعة الاعتقاد

عبد الرحمن بن ناصر البراك

إرشاد العباد إلى معاني لمعة الاعتقاد لفضيلة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر البراك حفظه الله إعداد عبدالله بن محمد السحيم دار التدمرية

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المعتني

مقدمة المعتني الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد؛ فإن الله عز وجل خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له، كما قال سبحانه: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]، ولأجل ذلك أرسل الله الرسل، وشرع الملل، وفطر الخلق على هذا الأصل العظيم، ثم إن كثيرًا من الخلق اجتالتهم الشياطين، فنكست فطرهم، وقلبت أديانهم، ونقلتهم من نور الحنيفية السمحة إلى ظلام الضلالة والبدعة، وبقي صفوة من الخلق على جادة الملة السوية، والسنة المحمدية، فدارت رحى النزاع بين من وفقهم الله وهداهم من أهل السنة والجماعة؛ وبين طوائف البدعة من أهل الكلام والضلال، فكان علماء السنة لا يألون جهدا في بيان الحق للخلق، والدفاع عنه، وتنقيته من شوائب الضلالة، وتنوعت في ذلك طرائقهم، وكان من أشهرها: تلك المصنفات العظيمة التي ملئت حكمة وعلما، وكانوا ما بين

مقل ومستكثر، ومطيل وموجز، وناظم وناثر، ومن تلك المتون المهمة التي غدت نبراسا في السنة والاعتقاد: المتن الموسوم بـ (لمعة الاعتقاد)، لمؤلفه الإمام الجهبذ شيخ الإسلام؛ أبي محمد، موفق الدين، عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي المولود: بجماعيل؛ سنة إحدى وأربعين وخمس مائة، وانتقل إلى رحمة ربه الكريم: يوم الفطر؛ سنة عشرين وست مائة [541 - 620]، قدس الله روحه، ونور ضريحه، ونفعنا بعلومه. وقد كان لهذا المتن حظوة عند كثير من العلماء المعاصرين، إذ توافرت شروحهم، وتنوعت تحقيقاتهم على هذا السفر الجليل، وكان من هؤلاء الذين قاموا بشرحه، وبيان مسائله، شيخنا العلامة: أبو عبد الله، عبد الرحمن بن ناصر البراك، حفظه الله وأبقاه، وأطال عمره في تقواه، وبلغه مناه، حيث شرحه في مسجده العامر (مسجد الخليفي) في حي الفاروق بمدينة الرياض، في قرابة الثلاثين مجلسا. ثم إن شيخنا الدكتور محمد بن عبد الله الهبدان وفقه الله عهد إلي بهذا الشرح، لخدمته والقيام بإخراجه، وذلك بالتنسيق مع الشيخ الفاضل: عبد الرحمن بن صالح السديس حفظه الله، فاستعنت بالله سبحانه، وكان عملي في هذا الشرح كالتالي: 1 - تفريغ الشرح الصوتي. 2 - ترتيب الشرح وتصحيحه، وتهذيبه وتنسيقه، وتهيئة عباراته للطباعة.

3 - عزو الآيات إلى أماكنها من المصحف. 4 - تخريج الأحاديث تخريجا مختصرا، فإن كان في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بموضع منه، وإن كان في غيرهما اقتصرت -في الغالب- على الكتب الستة. 5 - اعتمدت في كتابة المتن على ما كان يقرؤه القارئ على فضيلة الشيخ الشارح عبد الرحمن البراك حفظه الله، ورجعت إلى كثير من النسخ المطبوعة، وأفدت منها في مواضع. 6 - أضفت بعض العناوين في بداية المقاطع المشروحة، ووضعتها في إطارات، وقد استفدت من بعض النسخ المطبوعة كذلك. 7 - قرأت الشرح على فضيلة شيخنا عبد الرحمن البراك حفظه الله، ليثبت ما يراه مناسبا، أو يستدرك عليه بما يراه من تعديل أو زيادة أو نقص. وكانت النسخة الصوتية التي استلمتها فيها نقص لبعض الدروس، فقرأت المتن على الشيخ كاملا، وأتم منه ما نقص. 8 - أثبت قائمة بالمراجع التي عزوت إليها. 9 - وضعت فهرسا لموضوعات الكتاب. هذا؛ والله أسأل أن يهجزي شيخنا خير الجزاء، على ما كان من به وتفضل من بذل الأوقات الثمينة لنشر العلم وبثه بين طالبيه، وإعطاء الفرصة لخدمة هذا الشرح وقراءته عليه، جعله الله في ميزان حسناته، وجعله من العلم النافع الخالص الذي ينتفع به

بعده، كما أثني بالشكر لكل من كان له فضل ومساهمة في إخراج الشرح وظهوره، داعيا الله تعالى لهم بجزيل الأجر والمثوبة. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله صحبه أجمعين. عبد الله بن محمد السحيم الرياض

خطبة الكتاب

خطبة الكتاب قال الشيخ الإمام العالم الأوحد أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي الصالحي رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، جل عن الأشباه والأنداد، وتنزَّه عن الصاحبة والأولاد، ونَفُذَ حكمه في جميع العباد، لا تُمَثِّلُه العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى* وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:6 - 7]، أحاط بكل شيء علماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، ووسع كل شيء رحمة وعلماً، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110].

الشرح قوله: ((الحمد لله)): استهل المؤلف -رحمه الله تعالى- هذه الرسالة الحسنة المعروفة بـ ((اللمعة في الاعتقاد))، بالحمد لله تعالى، وهو أهل الثناء والحمد، والُّلمعة في اللغة: هي القدر الذي فيه بُلغة (¬1). قوله: ((المحمود بكل لسان)): يعني محمود بجميع اللغات، وهو -سبحانه- يحمده أهل السماوات وأهل الأرض ويسبحونه، فتسبحه الملائكة، وتسبحه العوالم كلها، بلسان المقال، وبلسان الحال. قوله: ((المعبود في كل زمان)): أي: المستحق للعبادة في جميع الأزمنة، وهو معبود بالفعل؛ فإن كفر به الجن والإنس، فعنده ملائكة تعبده، {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38]، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19]، وغيرها من الآيات. قوله: ((الذي لا يخلو من علمه مكان)): فعلمه محيط بكل شيء، بالسماوات والأرض، وما فيهما وما بينهما، {وَهُوَ ¬

_ (¬1) قال الزبيدي في تاج العروس (5/ 504): ((ومن المجاز: اللمعة: البلغة من العيش يُكتفى به)).

عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الحديد:6]، والآيات التي تفصل ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]، وقال تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11]، وقال على لسان لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَاتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]. قوله: ((ولا يشغله شأن عن شأن)): فهو سبحانه يدبر أمر هذه العوالم، ولا يشغله شأن عن شأن، يخفض ويرفع، يعز ويذل، ويعطي ويمنع، ويهدي ويضل، ويميت ويحيي، ويتصرف في هذه العوالم، ولا يشغله شأن عن شأن. يسمع دعاء الداعين، ولا تختلط عليه المسائل مع كثرة اللغات، وتفنن السائلين في طلب الحاجات، فلا يشغله سماعه لهذا عن سماعه للآخر، يسمع كلام أولياءه، وكلام أعداءه، {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، فيسمع كلام هؤلاء وهؤلاء، وسمعه واسع لجميع الأصوات.

قوله: ((جل عن الأشباه والأنداد)): جل: يعني: عظم وارتفع سبحانه وتعالى، وهي كلمه تنزيه، مثل كلمة: (تعالى)، وكلمة: (تبارك). فهو منزه عن الأشباه والأنداد، فليس له شبيه ولا ند، كما قال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة:165]، وقال سبحانه: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، وقال جل وعلا: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]. جل عن الأشباه والأنداد، فلا شبيه له، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فلا كفؤ له، ولا ند له، ولا شبيه له. قوله: ((وتنزه عن الصاحبة والأولاد)): تنزّه وجلّ كلمتان متقاربتان في المعنى. وقال الله تعالى عن الجن: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الجن:3]، وقال سبحانه وتعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام:101]، وقال جل وعلا: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3]، وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون:91]، والآيات الدالة على تنزيهه سبحانه كثيرة. وقد رد الله تعالى على اليهود والنصارى والمشركين في نسبة الولد إليه، ووصف ما قالوه بأنه إفك، وأن إثبات ذلك مخالف للعقل والشرع، كما في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ

يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]، وقال سبحانه: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَاتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)} [الصافات]. قوله: ((ونَفُذَ حكمه في جميع العباد)): فحكمه سبحانه نافذ، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضاءه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، والحكم المضاف إليه قسمان: - الحكم الشرعي، وهو أمره ونهيه، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله. - الحكم الكوني، وهذا القسم هو النافذ الماضي، كما جاء في الحديث من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك)) (¬1). قوله: ((لا تُمَثِّلُه العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير)): وهاتان الجملتان معناهما متقارب، فالقلوب بمعنى العقول، والتصوير بمعنى التصور. ¬

_ (¬1) رواه أحمد في مسنده (3712)، وابن حبان في صحيحه (3/ 253 - ح 972)، قال الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 387 - ح 199): ((وجملة القول: أن الحديث صحيح من رواية ابن مسعود وحده، فكيف إذا انضم إليه حديث أبي موسى رضي الله عنهما. وقد صححه شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم)).

فلا يمكن للعقول أن تصفه، ولا أن تكيِّفَه بالتفكير، بل لا يجوز التفكر في ذاته، ولا في كيفية صفاته، لأن الكيفية محجوبة، ولا سبيل إلى معرفة كيفية ذاته ولا صفاته، فلا يجوز التفكير فيها، وقد جاء في الأثر عن ابن عباس - رضي الله عنه -: ((تفكروا في مخلوقات الله، ولا تفكروا في ذات الله)) (¬1)، تفكروا في مخلوقات الله: من آياته الكونية، لتهتدوا بها إلى معرفة الله، ولكن يجوز التفكير في كيفية صفاته، من أنه سبحانه وتعالى موصوف بالعلم والقدرة ونحوها، فنتفكر في كمال قدرته، والتفكر في المخلوقات: يتضمن التفكر في صفاته، وفي معانيها. والتفكر في ذات الله أو صفاته: لن يوصل إلى شيء، لأن العقول لا تبلغ ولا تصل إلى معرفة كيفية ذاته، أو كيفية صفاته. قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]: هذه الآية من كتاب الله تعالى تضمنت الدلالة على الحق، ورد الباطل، ففي قوله: {ليس كمثله شيء} رد للتشبيه والتمثيل، وقوله: {وهو السميع البصير} رد للإلحاد والتعطيل، ففيها رد على المشبهة، وعلى المعطلة. وفيها الدلالة على المذهب الحق، وهو: إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى على ما يليق به، إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً ¬

_ (¬1) رواه أبو الشيخ في كتابه العظمة (1/ 210) مرفوعاً وموقوفاً، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 46) وأطال محققه في تخريجه وضعفه، قال ابن حجر في الفتح (13/ 394): ((موقوف وسنده جيد))، وراجع السلسلة الصحيحة للألباني (4/ 395 - ح 1788).

بلا تعطيل، وهذه الآية -وما في معناها- هي محور ومرتكز مذهب أهل السنة والجماعة، فمذهبهم يرتكز على: - إثبات الصفات، - ونفي التمثيل، - ونفي العلم بالكيفية. قوله: ((له الأسماء الحسنى)): كما قال الله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:8]، ويقول سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]. قوله: ((والصفات العلى)): وهو الموصوف بالصفات العلى الكاملة، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل:60]. {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]: هذه الآية دلت على أنه تعالى مستوٍ على عرشه، والاستواء معناه: العلو والارتفاع والاستقرار (¬1)، فهي من أدلة الاستواء، وأدلة العلو، وجاء ذكر الاستواء في سبعة مواضع من القرآن (¬2)، وأهل السنة ¬

_ (¬1) نظمها ابن القيم في نونيته [بيت رقم: 1353] بقوله: فلهم عبارات عليها أربع * قد حصلت للفارس الطعان وهي استقر وقد علا وكذلك ار * تفع الذي ما فيه من نكران وكذاك قد صعد الذي هو رابع * ........................ . (¬2) سردها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الوسطية (ص 123): حيث قال: ((في سورة الأعراف قوله: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش}، وقال في سورة يونس - عليه السلام -: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش}، وقال في سورة الرعد: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش}، وقال في سورة طه: {الرحمن على العرش استوى}، وقال في سورة الفرقان: {ثم استوى على العرش الرحمن}، وقال في سورة آلم السجدة: {الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش}، وقال في سورة الحديد: {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} ا. هـ.

يثبتون ذلك، ويؤمنون بأنه تعالى فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، خلافاً للمعطلة من الجهمية ومن تبعهم. قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى* وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:6 - 7]: فالله سبحانه وتعالى يعلم السر، وما هو أخفى السر، فعلمه محيط بما كان، وما يكون، وما يُسِرُّ العباد، وما يعلنون، والآيات الدالة على ذلك في كتاب الله كثيرة. قوله: ((أحاط بكل شيء علماً)): ولا يحيط به العباد علماً، كما قال الله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، وقال سبحانه: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]. قوله: ((وقهر كل مخلوق عزة وحكماً)): كما قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، فهو القاهر الذي لا شيء يعجزه، ولا غالب له، له العزة التامة، والقوة الكاملة.

الواجب فيما ثبت من الأسماء والصفات

قوله: ((ووسع كل شيء رحمة وعلماً)): كما جاء في دعاء الملائكة: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7]، والله جل وعلا يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]. وقرَن بين اسمه (الواسع) وبين اسمه (العليم): كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:115]. قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]: ضمَّن رحمه الله خطبة الكتاب بعض الآيات؛ ومنها هذه الآية الدالة على اتصافه بصفة العلم، فعلمه محيط بالعباد، من قبل، ومن بعد، ويعلم ما يُسِرُّون، وما يعلنون. وأما العباد فلا يحيطون به علماً، وإن كانوا يعلمونه، ويؤمنون به، ويعلمون صفاته، لكن لا يبلغ علمهم أن يحيطوا به علماً، فعلمهم به لابد أن يكون محدوداً. الواجب فيما ثبت من الأسماء والصفات موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم، وكل ما جاء في القرآن، أو صح عن المصطفى - عليه السلام - من صفات الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل، والتشبيه، والتمثيل، وما أشكل من ذلك؛ وجب إثباته لفظاً، وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله، اتباعاً لطريق الراسخين في

العلم الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]. الشرح قوله: ((موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم)): هذا هو الواجب في باب الأسماء والصفات، فهو سبحانه مستحق لصفات كماله التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهو سبحانه مستحق لهذه الأوصاف على ما يليق بجلاله، وأهل السنة يؤمنون بهذا الأصل؛ فيصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، ولا إلحاد في أسماءه ولا صفاته وآياته. قوله: ((وكل ما جاء في القرآن، أو صح عن المصطفى - عليه السلام - من صفات الرحمن وجب الإيمان به)): وهذا كلام عظيم جامع من المصنف -رحمه الله-، فكل ما جاء في الكتاب والسنة من صفاته تعالى؛ مما أخبر به عن نفسه في كتابه، أو أخبر عنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو أعلم الخلق به- وجب الإيمان به، وهذا هو الواجب في باب الأسماء والصفات، وهذا مقتضى الإيمان بالله، وكتابه، ورسوله. قوله: ((وتلقيه بالتسليم والقبول)): وهذا من الواجب -أيضاً- في باب الأسماء والصفات، وهو تلقيها بالتسليم والقبول، على مراد الله ورسوله، والإيمان به، وبأنه الحق، دون معارضة، ولا حرج، ولا توقف، ولا تردد.

قوله: ((وترك التعرض له بالرد والتأويل، والتشبيه، والتمثيل)): فيجب على المسلم ترك هذه المعاني الباطلة، ونبه المؤلف بهذه الجملة إلى رد المذاهب الباطلة، وأنه يجب الإيمان، والتسليم، والتلقي لها بالقبول، وترك التعرض لها بشيء من هذه الأباطيل. - والرد: هو التكذيب، كما فعلت الجهمية. - والتأويل: هو في حقيقته تحريف. قوله: ((وما أشكل من ذلك)): مما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: ((وجب إثباته لفظاً)): وهذا في الحقيقة يوهم أن المؤلف -رحمه الله- يذهب إلى القول بالتفويض في بعض نصوص الصفات، وهذه الجملة صحيحة؛ إذا كانت بمعنى: أن ما أشكل وما خفي معناه يجب الإيمان به على ما أراد الله، وإثبات لفظه، وتفويض علمه إلى الله، فما اشتبه على العباد علمه: فعليهم أن يفوضوا علمه إلى الله، ويقولوا: الله أعلم، كما كان الصحابة يفعلون، وكما أمر الله بذلك في مواطن من كتابه، كما في قوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف:22]، {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف:26]، فكل ما أشكل من المسائل الاعتقادية، أو الأحكام الشرعية وجب رده إلى الله، ونقول: الله أعلم، فإذا سئل المرء عن حكم أو علم لا يعلمه فإنه يقول: الله أعلم. ولا يلزم من هذا: كونها مجهولة المعنى مطلقاً، بحيث

لا يفهمها أحد، ولم يفهمها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابة، بل القرآن كله قد أمر الله بتدبره، والله يفتح على من يشاء. قوله: ((وترك التعرض لمعناه)): أي بالتفسير والتأويلات التي لا دليل عليها. قوله: ((ونرد علمه إلى قائله)): وهو الله سبحانه وتعالى، أو رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: ((ونجعل عهدته على ناقله)): أي من بلَّغه، فهو المسؤول عما نقل من العلم. قوله: ((اتباعاً لطريق الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7])): هذا إنما يكون في الآيات المشتبهات، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى طريق الزائغين، وطريق الراسخين في العلم، فقال سبحانه في موقف الزائغين: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7]، فيتبعون المتشابه والمشكل، ويعرضون عن الكلام الواضح المحكم، لأجل: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران:7]، وإضلال الناس وتشكيكهم، {وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ} [آل عمران:7]، طلباً لتأويله، وهو الذي لا يعلمه إلا الله، {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]. وأما {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] أهل العلم والدين والإيمان، فإنهم: {يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ} [آل عمران:7]، حتى العامي الموفق في دينه -أيضاً- يثبت على هذا الأصل، فليس بشرط أن يكون علامة، وأن يكون عنده علم، لكنه لا يدخل فيما ليس له

ذم التأويل وأهله

فيه علم، ويقول: الله أعلم، ويقول: آمنا بالله، ولا يخوض في المتشابه الذي لا يعلمه. {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران:7] فالآيات المحكمات والمتشابهات كله من عند الله تعالى. ثم ذكر سبحانه وتعالى أن من دعائهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8]، فهم على النقيض من أهل الزيغ، فهم يدعون الله أن يعصم قلوبهم من الزيغ. ذم التأويل وأهله وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، فجعل ابتغاء التأويل علامة على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أمَّلُوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه، بقوله سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]. الشرح قوله: ((وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7])): فالله سبحانه وتعالى قد ذم أهل الزيغ، لطلبهم ما لا سبيل إلى معرفته، وبقصدهم الضلال، وإضلال الناس.

نقولات عن أئمة السلف في منهج الإيمان بالصفات وتقرير مذهبهم

قوله: ((فجعل ابتغاء التأويل علامة على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أمَّلُوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه، بقوله سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7])): فهم إذاً طلبوا المستحيل، حيث حجبه سبحانه عنهم، {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]. وهذا على قراءة الجمهور، جمهور الأمة سلفاً وخلفاً، حيث يقفون على لفظ الجلالة، فهذا التأويل لا يعلمه أحد إلا الله، فهي من حقائق الغيب، فما أخبر الله به عن نفسه، وما أخبر به عن اليوم الآخر، لا يعلم حقائقه إلا الله. ثم نقل المؤلف رحمه الله نقلاً عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يتضمن منهج أهل السنة والجماعة، حيث يقول رحمه الله: نقولات عن أئمة السلف في منهج الإيمان بالصفات وتقرير مذهبهم [أولاً]: قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل - رضي الله عنه - في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ينزل إلى سماء الدنيا))، وَ ((إن الله يُرى في القيامة))، وما أشبه هذه الأحاديث: (نؤمن بها، ونصدق بها، لا كيف، ولا معنى، ولا نرد شيئاً منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه، بلا حدٍ ولا غاية، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]، ونقول كما قال، ونصفه

بما وصف به نفسه، لا نتعدى ذلك، ولا يبلغه وصف الواصفين، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شُنِّعَت، ولا نتعدى القرآن والحديث، ولا نعلم كيف كنه ذلك إلا بتصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتثبيت القرآن)). [ثانياً]: قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي - رضي الله عنه -: ((آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله)). وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم، كلهم متفقون على الإقرار، والإمرار، والإثبات لما ورد من الصفات، في كتاب الله، وسنة رسوله، من غير تعرض لتأويله. الشرح ((قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل - رضي الله عنه - في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ينزل إلى سماء الدنيا)) (¬1)، ¬

_ (¬1) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له))، رواه البخاري في صحيحه برقم (1145)، ومسلم في صحيحه برقم (758)، قال الشارح الشيخ عبدالرحمن البراك -حفظه الله- في كتابه توضيح مقاصد الواسطية (ص 167): ((وهذا الحديث رواه جمع غفير من الصحابة، وعده أهل العلم من المتواتر، فقد تواترت السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإثبات نزول الرب تعالى في آخر الليل)).

وَ ((إن الله يُرى في القيامة)) (¬1) وما أشبه هذه الأحاديث)): فهذه الأحاديث واضحة بيِّنة صريحة، وليست من المشكلات ولله الحمد، والواجب في هذه الأحاديث؛ حديث النزول والرؤية وما أشبه ذلك: الإيمان بها، والإمساك عن تأويلها وتفسيرها بما يخالف ظاهرها، فمعانيها معلومة، وحقائقها وكيفياتها مجهولة، ويجب التفويض فيها. قوله: ((نؤمن بها، ونصدق بها)): نؤمن بأنها حق من عند الله، تكلم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنؤمن بها تصديقاً لخبر الله وخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: ((لا كيف)): أي: لا نكيِّفها، وهذا فيه نفي تكييف الصفات. قوله: ((ولا معنى)): وهذا فيه نفي التحريف، فلا نحرِّفها بالتفسيرات التي تتضمن صرفها عن ظواهرها. قوله: ((ولا نرد شيئاً منها)): فنقبل الجميع ونؤمن به ونصدقه. ¬

_ (¬1) هذا كسابقه: من قبيل المتواتر، وقال الشارح الشيخ عبدالرحمن بن ناصر البراك حفظه الله في كتابه: توضيح مقاصد الواسطية (ص 178): ((وأحاديث الرؤية من الأحاديث المتواترة، فرؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ثابتة بالكتاب وبالسنة المتواترة وإجماع الصحابة ومن تبعهم بإحسان، وهم الفرقة الناجية))، وقد جاء في الكتاب: كقوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة [21] إلى ربها ناظرة}، والسنة: كما في حديث جرير - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته ...)) رواه البخاري في صحيحه برقم (554)، ومسلم في صحيحه برقم (633).

بخلاف غيرهم من طوائف الضلال، فما قدروا على ردِّه: ردوه، كأحاديث الآحاد -على أصلهم- أنه لا يحتج بها على العقائد؛ فيردونها، ولا يثبتون بها العقائد، وما لم يقدروا على ردِّه: تأوَّلوه، كالقرآن والمتواتر. وقول المؤلف: ((نؤمن بها، ونصدق بها، لا كيف ولا معنى، ولا نرد شيئاً منها)): مما يوهم قصد التفويض، ولكن هذه العبارات التي تروى عن الأئمة في نفي التفسير أو نفي المعنى؛ فمقصودهم منها: نفي تفسيرات الجهمية وتأويلاتهم، أما التفسير بما يوافق الظاهر والمعنى: فهو مطلوب، فالله سبحانه وتعالى خاطب عباده {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، فالنزول معلوم والكيف مجهول، والاستواء معلوم والكيف مجهول، والغضب معلوم والكيف مجهول، وهكذا. قوله: ((ونعلم أن ما جاء به الرسول حق)): فكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - حق، فنؤمن به على مراد الله ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: ((ولا نرد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)): بردِّ أحاديثه وقوله - صلى الله عليه وسلم -، فمن ردَّ ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد رد على الرسول - صلى الله عليه وسلم - قولَه، وهذا فيه ما فيه من الجرأة على الله، والتقصير في حق رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: ((ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه)): لأنه لا علم لنا بشيء من ذلك إلا ما علمنا، كما جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: ((لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه،

أو وصفه به رسوله، لا نتجاوز القرآن والحديث)) (¬1)، فمن وصف الله بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله فهو مفترٍ، وقائل على الله بما لا يعلم، كما أنه لا يجوز أن نجحد وننفي ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: ((بلا حدٍ ولا غاية)): فلم يرد أن للصفات حداً أو غاية، والمراد من هذا: نفي تحديد كنه الصفة، وذكر غاية لها، وهذا هو التكييف الذي أبطله القرآن، ونهى عنه السلف. قوله: (({لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]، ونقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه، لا نتعدى ذلك، ولا يبلغه وصف الواصفين (¬2)، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شُنِّعَت، ولا نتعدى القرآن والحديث، ولا نعلم كيف كنه ذلك إلا بتصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتثبيت القرآن)): هذا تتمة كلام الإمام أحمد -رحمه الله-، في رسم نهج أهل السنة والجماعة في الصفات، ويتضمن: أنه يجب الإيمان بما أخبر الله به عن نفسه، وما أخبر به عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. فالواجب: الإيمان والتسليم، وإجراء النصوص على ظواهرها، والوقوف عند ما وقفت عنده النصوص، لا نتعداها ولا نتجاوزها. ¬

_ (¬1) أقاويل الثقات لمرعي الكرمي (ص 234)، وسيأتي من كلام الإمام أحمد رحمه الله: ((ولا نتعدى القرآن والحديث)). (¬2) كذا في النسخ المطبوعة، قال الشارح حفظه الله تعالى: ((صوابها: ولا يبلغُ وصفَهُ الواصفون)).

قوله: ((قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي - رضي الله عنه -: ((آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله)): هذا الأثر عن الإمام الشافعي -رحمه الله- يذكر فيه ما يجب على المسلم، فيجب على كل مسلم الإيمان بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، والإيمان برسول الله، وما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو أصل الدين، الإيمان بالله ورسوله، وما جاء عن الله في كتابه، وما جاء عن رسوله في سنته الصحيحة. ((على مراد الله)): فإن علمنا مراد الله آمنا به على مراده، وإن لم نعلم مراد الله: آمنا به على مراد الله الذي لم نعلمه، فإذا علمنا أن هذا مراد الله؛ قلنا: هذا مراد الله، وهذا يتبين بقولنا: إن معنى الكلام كذا، أي: معناه الذي أراده الله سبحانه وتعالى، فالله تعالى خاطب الناس، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - خاطب أمته بكلام معلوم، ولسان مبين، لكن ليس كل أحد يعلمه، فالناس ليسوا سواء في فهم القرآن وفهم السنة، ولا في معرفة أصول فهم المعاني، فالله سبحانه فضَّل الناس بعضهم على بعض، فما علمنا من مراد الله آمنا به، وتعلّمناه، وعملنا بموجبه، وبيَّناه، وعلَّمناه، وما لم نعلمه قلنا: آمنا به، كما قال الراسخون في العلم: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]. قوله: ((وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم، كلهم متفقون على الإقرار، والإمرار، والإثبات لما ورد من

الصفات، في كتاب الله، وسنة رسوله، من غير تعرض لتأويله)): أي: وعلى هذا الأصل العظيم الذي بيَّنه الإمام أحمد رحمه الله، والإمام الشافعي رحمه الله: درج السلف، وأئمة الخلف، درجوا على ((الإقرار)): وهو الإيمان بما أخبر الله به عن نفسه، وما أخبر به عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ((والإمرار)): وهو إجراؤها على ظاهرها، دون التعرض لكيفياتها، كما جاء في الآثار: نمرها كما جاءت بلا كيف، لكن مع إثبات ما تدل عليه من المعاني. وبهذا نعلم: أن الموفق رحمه الله في هذا الكتاب: لا يريد أن مذهب السلف هو التفويض، بل مذهبهم كما ذكر -رحمه الله-: ((الإقرار، والإمرار، والإثبات لما ورد من الصفات))، مما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو منهج السلف الصالح، ومن سار على نهجهم. وأما أهل التفويض الباطل فهم لا يثبتون الصفات، بل يفوضون معاني النصوص، ويقولون: هذه النصوص لا يُفهم منها شيء. ((من غير تعرض لتأويله)): من غير صرف لها عن ظواهرها بلا دليل ولا حجة، وهذا هو التحريف، أن يُصرف المعنى عن ظاهره من غير دليل، ولم يقل -رحمه الله-: ((من غير فهم لها))، بل تفهم على وجهها الذي جاءت به، ولا تصرف عنه بلا دليل ولا حجة؛ كما هي طريقة الخلف المنحرف.

الأمر بالاقتداء والاتباع، والنهي عن الإحداث والابتداع، والتدليل لذلك

الأمر بالاقتداء والاتباع، والنهي عن الإحداث والابتداع، والتدليل لذلك وقد أُمرنا باقتفاء آثارهم، والاهتداء بمنارهم، وحذَّرنا المحدثات، وأخبرنا أنها من الضلالات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))، وقال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم))، وقال عمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه - كلاماً معناه: ((قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كَفُّوا، ولَهُم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم: حدَث بعدهم؛ فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورَغِب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم مُحَسِّرٌ، وما دونهم مُقَصِّرٌ، لقد قَصُر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم))، وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي - رضي الله عنه -: ((عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول))، وقال محمد بن عبدالرحمن الأذرمي لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها: هل علِمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي؛ أو لم يعلموها؟ قال: لم يعلموها. قال: فشيء لم يعلمه هؤلاء أعلمته أنت؟ قال الرجل: فإني أقول: قد علموها. قال: أفَوسِعَهم ألا يتكلموا به ولا يدعوا الناس إليه؛ أم لم يَسَعْهم؟ قال: بلى وَسِعَهم. قال: فشيءٌ وَسِع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وخلفاءه لا يسعك أنت؟ فانقطع الرجل، فقال الخليفة: -وكان حاضراً- ((لا وسَّع الله على من لم يَسَعْه ما وسعهم))، وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، والأئمة من بعدهم، والراسخين في العلم، من تلاوة آيات الصفات، وقراءة أخبارها، وإمرارها كما جاءت؛ فلا وسَّع الله عليه. الشرح قوله: ((وقد أُمرنا باقتفاء آثارهم، والاهتداء بمنارهم)): وهذا من الواجبات على المسلم؛ اتباع السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. قوله: ((وحذَّرنا المحدثات، وأخبرنا أنها من الضلالات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) (¬1): قد جاء في النصوص ¬

_ (¬1) رواه أحمد (17144)، وأبو داود (4607) واللفظ له، والترمذي (2676) وقال: (هذا حديث حسن صحيح)، وابن ماجه (42).

التحذير من المحدثات والبدع، والأمر باتباع ما كان عليه السلف الصالح، والحذر من المحدثات في الدين، ومن اتباع المضلين، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((وشر الأمور محدثاتها)) (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وكل بدعة ضلالة)): يدل على أنه ليس من البدع بدعة حسنة، ومن أطلق ذلك من العلماء على بعض الأمور المستجدة التي تقتضيها المقاصد الشرعية فهو إطلاق لغوي كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في صلاة التراويح: ((نعمت البدعة)) (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)): يدل على اتباع الخلفاء الراشدين في سنتهم، فما سنَّه أبو بكر، أو عمر، أو عثمان، أو علي رضي الله عنهم ما لم يختلفوا فيه، ولم يخالف دليلاً من الكتاب والسنة؛ فهو سنة ماضية، نحن مأمورون باتباعهم، واتباعهم في هذا: هو تحقيق اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأننا بذلك نعمل بوصيته - صلى الله عليه وسلم - حين قال: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ...)). ¬

_ (¬1) قطعة من حديث؛ رواه البخاري في صحيحه برقم (7277) عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -، ومسلم في صحيحه برقم (867) عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري في صحيحه برقم (2697)، ومسلم في صحيحه برقم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) رواه البخاري في صحيحه برقم (2010).

قوله: ((وقال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم)) (¬1): اتبعوا كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، واتبعوا سيرة السلف الصالح، من الصحابة الذين مضوا، ومن تبعهم بإحسان. ((ولا تبتدعوا)): فتأتوا بمخترعات من عندكم ما أنزل الله بها من سلطان. قوله: ((وقال عمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه - كلاماً معناه: ((قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كَفُّوا، ولَهُم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم: حدَث بعدهم؛ فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورَغِب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم مُحَسِّرٌ، وما دونهم مُقَصِّرٌ، لقد قَصُر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم)) (¬2): هذا الأثر عن عمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه - ورحمه، وهو الخليفة الراشد، له أقوال حكيمة محكمة، متضمنة للحكم والمعاني الجليلة، وهذا الذي نقله الموفق -رحمه الله- من هذا النوع، حيث يقول: ((قف حيث وقف القوم)): أي السلف، من الصحابة ومن تبعهم بإحسان؛ فقِف معهم، ولا تتجاوز، ولا تقصِّر. ¬

_ (¬1) رواه الدارمي في سننه (1/ 288 - ح 211)، وابن بطة في الشرح والإبانة (ص 153)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 245 - ح 853): ((رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح)). (¬2) ذم الكلام وأهله للهروي (4/ 80)، وحلية الأولياء (5/ 339).

((فإنهم عن علمٍ وقفوا)): فهم وقفوا ولم يخوضوا في ما لا علم لهم به، بل وقفوا عند ما علموا من كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ((وعن بصر نافذٍ كَفُّوا)): أي: وعن بصيرة نافذة، كفوا ووقفوا. ((ولَهُم على كشفها كانوا أقوى)): اللام هنا: هي لام الابتداء، كأن تقول: لأنت أحق أن تقول كذا وكذا، فتعرب (هم) مبتدأ، وجملة (كانوا أقوى) خبرها، وهي تشتبه باللام الجارة. ومعنى هذه العبارة: أنه -لو أمكن- كشف ما كفوا عنه: فهم أحرى من يقوم به، لأنهم أقوى وأقدر على فهمهما. ((وبالفضل -لو كان فيها- أحرى)): فلو كان في البحث والتنقيب عن الأمور المستورة التي طوى الله علمها عن عباده؛ لو كان فيه فضل لكانوا به أحرى وأولى. ((فلئن قلتم: حدَث بعدهم؛ فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورَغِب عن سنتهم)): فما أحدثه الناس بعد الصحابة: فما أحدثوه إلا لبعدهم عن صراط الله وهداه. ((ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي)): فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم ذكروا ما ينبغي ذكره، وبيَّنوا ما ينبغي بيانه، وفسَّروا كلام الله بما علموه وما تلقوه عن نبيِّهم - صلى الله عليه وسلم -، ففي كلامهم غُنية وكفاية.

((فما فوقهم)): لو أتت ((مَنْ)) التي للعاقل بدل ((ما)) في الجملتين لكان أنسب؛ أي: فالذي فوقهم، ويريد تجاوز طريقهم ومنزلتهم. ((مُحَسِّرٌ)): أي: منقطع عاجز، لم يصل في سعيه إلى غاية، ولن يبلغ مرامه. ((وما دونهم)): أي: قصَّر عن اللحاق بهم. ((مُقَصِّرٌ)): ومن قصَّر عما وصلوا إليه: فهو مقصر، قد فوَّت على نفسه الفضائل والكمال والعلم والعمل الصالح. ((لقد قَصُر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا)): لم يتجاوزوهم بالفضل والكمال، وإنما تجاوزوا الطريق الذي هم عليه، ومن تجاوز الطريق السوي ضَلَّ. ((وإنهم)): أي: الصحابة، والسلف الصالح. ((فيما بين ذلك)): بين الغلو والجفاء، والإفراط والتفريط. ((لعلى هدى مستقيم)): وهو هدى الله الذي بعث به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فالحق والهدى والخير في سبيلهم، لأن الخير والفضائل والكمالات كلها: بين الإفراط والتفريط، بين الغلو والجفاء، والناس أمام الحق: بين الغالي والجافي، ودين الله سبحانه وسط بين ذلك. قوله: ((وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي - رضي الله عنه -: ((عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال، وإن

زخرفوه لك بالقول)) (¬1): وهذا من الوصايا الطيِّبة في لزوم منهج السلف الصالح، فأهل السنة والجماعة يختصون بأنهم يقتفون آثار السلف الصالح من الصحابة، والتابعين. والتابعون للصحابة بإحسان: شاملٌ لكل من أتى بعدهم إلى يوم القيامة، كما قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100]، فيشمل التابعين الذين لقوا الصحابة، وتابعيهم، وتابع التابعين، ومن بعدهم، وكل من سار على نهجهم. ((وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول)): فعلى المسلم أن يتبع الكتاب والسنة، وأن يحذر من التعصب لآراء الرجال، ومذاهب الناس، فالواجب تحكيم النصوص من الكتاب والسنة، وتحري المنهج الذي درج عليه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم. قوله: ((وقال محمد بن عبدالرحمن الأذرمي (¬2) لرجل ¬

_ (¬1) رواه الآجري في الشريعة (1/ 445 - ح 127)، والذهبي في السير (7/ 120) بلفظ قريب من هذا. (¬2) الأذرمي: بالذال المعجمة، هو: أبو عبدالرحمن، عبدالله بن محمد بن إسحاق الأذرمي -بخلاف ما ذكره المصنف هنا-، أخذ العلم عن: وكيع بن الجراح، وسفيان بن عيينة، وعبدالرحمن بن مهدي. وروى عنه: أبو داود والنسائي وعبدالله بن الإمام أحمد وأبو يعلى، له ترجمة في تهذيب التهذيب (2/ 240) لابن حجر، وأشار إلى هذه القصة. والأذرمي: نسبة إلى أذرمة، قرية من أعمال الموصل، قال ياقوت الحموي في معجم البلدان (1/ 132): ((وأذرمة اليوم: من أعمال الموصل ... وإليها ينسب أبو عبدالرحمن، عبد الله بن محمد بن إسحاق الأذرمي النصيبيني. قال ابن عساكر: أذرمة من قرى نصيبين. وكان عبد الله المذكور: من العباد الصالحين، انتقل إلى الثغر فأقام بأذرمة حتى مات، وهو الذي ناظر أحمد بن أبي دواد في خلق القران فقطعه في قصة فيها طول)) ا. هـ. * وانظر: سير أعلام النبلاء (11/ 313) في ترجمة الواثق بالله.

تكلم ببدعة ودعا الناس إليها: هل علِمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي؛ أو لم يعلموها؟ قال: لم يعلموها. قال: فشيء لم يعلمه هؤلاء أعلمته أنت؟ قال الرجل: فإني أقول: قد علموها. قال: أفَوسِعَهم ألا يتكلموا به ولا يدعوا الناس إليه؛ أم لم يَسَعْهم؟ قال: بلى وَسِعَهم. قال: فشيءٌ وَسِع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه لا يسعك أنت؟ فانقطع الرجل، فقال الخليفة: -وكان حاضراً- ((لا وسَّع الله على من لم يَسَعْه ما وسعهم)). وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، والأئمة من بعدهم، والراسخين في العلم، من تلاوة آيات الصفات، وقراءة أخبارها، وإمرارها كما جاءت؛ فلا وسَّع الله عليه)): على كل حال لا شك أن هذا الكلام السديد من الأذرمي -رحمه الله- في الرد على هذا المبتدع، من أن ما يتكلم به هذا المبتدع لم يتكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه ولا التابعون له بإحسان، فلماذا تتكلم به يا (فلان) وتدعيه وتدعو الناس إليه؟ فكان هذا الرد مفحماً له في اعتراضه الأول، حيث انقطع المبتدع ولم يحر جواباً، فأقره في المرة الأولى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلمها، ثم تراجع وأقر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمها لكن وسعه السكوت

عليها، فلا يستطيع أن يقول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه وكتمه، وكانا يتناظران عند الخليفة الواثق، فأعجب بهذا الرد وهذا الإفحام. وقريبٌ من هذا جرى للإمام أحمد رحمه الله (¬1)، واحتج على من ناظره بمثل ذلك. وقول المؤلف: أن منهج الأئمة من السابقين: ((تلاوة آيات الصفات، وقراءة أخبارها، وإمرارها كما جاءت))، أنهم يقرؤون آيات الصفات وأخبارها؛ هذا مما يوهم أن مذهبهم التفويض، وأنهم يهتمون بقراءتها فقط، ولعله لا يقصد ما يقصده أهل التفويض -كما تقدم-، بل يقرؤونها وهم مؤمنون بما دلت عليه، وما دل عليه ظاهرها، من غير أن يتكلفوا في صرفها عن ظواهرها، فإن ما تقدم من كلامه يتضمن أنه -رحمه الله- يقول بإثبات الصفات لله تعالى، ولا ينتحل مذهب أهل التفويض، وأن ما أشكل واشتبه: فإنه يجب إمراره وإقراره، إمرارٌ دون التعرض له بالتأويل، والتفسيرات المخالفة لظاهرها، وإقرار هذه النصوص على ما دلت عليه، وإقرار ما يتضمن الإثبات، لأنه لا أحد من المبتدعة ينكر النصوص، بل كل المسلمين يقرون بالآيات، ويؤمنون بأنها من القرآن، ويقرون بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكنهم يتعرضون لها ويؤلونها، ولذلك قال المؤلف: ((إمرارها وإقرارها))، أي: إقرارها على ما دلت عليه، وذلك بترك التعرض لها بالتأويل، الذي هو في الحقيقة تحريف، لأنه صرف لهذه النصوص عن ظاهرها من غير حجة. ¬

_ (¬1) ذكرها ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد (ص 475)، وعقد لهذه المناظرة فصلاً مستقلاً.

الاستدلال والتمثيل لبعض الصفات الواردة في القرآن

الاستدلال والتمثيل لبعض الصفات الواردة في القرآن فمما جاء من آيات الصفات قول الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27]، وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، وقوله تعالى إخباراً عن عيسى - عليه السلام -: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، وقوله سبحانه: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22]، وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَاتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:210]، وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (¬1)، وقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، وقوله في الكفار: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح:6]، وقوله: {اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} [محمد:28]، وقوله: {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة:46] الشرح ذكر -رحمه الله- هذه الآيات من جملة آيات الصفات في معرض إثباته للصفات، ففي كل هذه الآيات إثبات للصفات، والواجب فيها: إثبات ما دلت عليه من الصفات، كالوجه واليدين والمحبة والرضا والكراهة والغضب؛ على ما يليق به سبحانه، ¬

_ (¬1) جاءت هذه الجملة في أربع آيات من كتاب الله: [المائدة:119]، [التوبة:100]، [المجادلة:22]، [البينة:8]، فنسأل الله من واسع فضله وجوده وكرمه.

فلا تعطيل ولا تشبيه، فأهل السنة يثبتون هذه المعاني لله تعالى على ما يليق به، إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل، فيثبتونها لله خلافاً للمعطلة، وعلى ما يليق به خلافاً للمشبهة. فالله تعالى له وجه موصوف بالجلال والإكرام، وموصوف بالأنوار (¬1). وله يدان؛ يفعل بهما، ويبسطهما، ويقبضهما، ويمسك بهما السماوات والأرض (¬2)، وخلق بهما آدم، وغير ذلك. وهو سبحانه يغضب على أعداءه، وهو يكره بعض خلقه، وبعض عباده، كما قال سبحانه: {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة:46]. وهو سبحانه يحب عباده: أولياءه المؤمنين، وعباده المتقين، وهم يحبونه، كما قال الله - عز وجل -: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، ويرضى عنهم، ويرضون عنه، كما قال الله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}. فالمعطلة ينفون حقائق هذه الصفات كلها، والمشبهة يقولون: له سمع كسمعي، وبصر كبصري، ويد كيدي، ورضا ¬

_ (¬1) كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه برقم (179) عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب فيهم فقال: ((حجابه النور -وفي رواية أبي بكر: النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)). (¬2) كما في قوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65]، وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41].

الاستدلال والتمثيل لبعض الصفات الواردة في السنة

كرضاي، وحب كحبي، والطائفتان منحرفتان عن الصراط المستقيم، والصراط المستقيم: هو ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ومن سلك سبيلهم؛ وهم أهل السنة والجماعة. الاستدلال والتمثيل لبعض الصفات الواردة في السنة ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا))، وقوله: ((يعجب ربك من شاب ليست له صبوة))، وقوله: ((يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر، ثم يدخلان الجنة))، فهذا وما أشبهه مما صح سنده وعدلت رواته؛ نؤمن به، ولا نرده ولا نجحده، ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره، ولا نشبهه بصفات المخلوقين، ولا بسمات المُحْدَثِين، ونعلم أن الله سبحانه لا شبيه له ولا نظير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]، وكل ما تخيل في الذهن أو خطر بالبال فإن الله تعالى بخلافه. الشرح قوله: ((ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا)) (¬1)، وقوله: ((يعجب ربك من شاب ليست له ¬

_ (¬1) حديث متواتر سبق الحديث عنه في (ص 14).

صبوة)) (¬1)، وقوله: ((يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر، ثم يدخلان الجنة)) (¬2)، فهذا وما أشبهه مما صح سنده وعدلت رواته؛ نؤمن به، ولا نرده ولا نجحده، ولا نتأوله بتأويل يخالف ظاهره، ولا نشبهه بصفات المخلوقين، ولا بسمات المُحْدَثِين، ¬

_ (¬1) رواه أحمد في مسنده برقم (17371)، وفي تحقيق المسند: ((حسن لغيره)) وساق له بعض الشواهد. وساق الألباني في السلسلة الصحيحة بعض الشواهد له برقم (2843)، وقال بعدها: ((فصح الحديث والحمد لله))، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 345 - ح 17954): ((رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني وإسناده حسن)). قال الشارح الشيخ عبدالرحمن البراك حفظه الله في كتابه توضيح مقاصد الواسطية (ص 171): ((ومن الأدلة القرآنية على إثبات العَجَب: قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ} -بضم التاء-[الصافات:12]، في قراءة صحيحة سبعية، فالضمير في: {عَجِبْتُ} يعود لمن؟ إلى الله تعالى، كما دل على صفة العجب قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد:5]، وهذا الحديث [أي: الذي ذكره شيخ الإسلام في الواسطية وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجب ربك من قنوط عباده وقرب غِيَرِهِ))] كذلك من الأدلة على إثبات صفة العجب، فهو تعالى يوصف بالعجب على المنهج المقرر: إثبات مع نفي التمثيل، ونفي العلم بالكيفية، وليس عجبه تعالى لجهله بالأسباب، فهذا شأن المخلوق الذي يعجب أحياناً لجهله بالسبب، كما يقال: (إذا ظهر السبب بطل العجب)، هذا في عجب المخلوق، أو بعض عجب المخلوق)) ا. هـ. (¬2) قطعة من حديث رواه البخاري في صحيحه برقم (2826)، ومسلم في صحيحه برقم (1890) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وتمامه: ((فقالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: ((يقاتل هذا في سبيل الله - عز وجل - فيستشهد، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم؛ فيقاتل في سبيل الله - عز وجل - فيستشهد)) واللفظ لمسلم.

ونعلم أن الله سبحانه لا شبيه له ولا نظير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11])): على كل حال هذه العبارات وهذه الكلمات تبين لنا أن الشيخ المؤلف الموفق ابن قدامة -رحمه الله- جارٍ في هذه النصوص من الآيات والأحاديث في باب الصفات مجرى أهل السنة والجماعة، فنؤمن بهذا كله ولا نرده، نؤمن بكل ما أخبر به الله تعالى من الصفات، من الوجه واليدين والمحبة والرضا والغضب، وما أخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - كالنزول والضحك والعَجَب، فنؤمن بهذا كله حقاً ولا نرده؛ كما يفعل أصحاب الأهواء من الجهمية ومن وافقهم، ولا نتأوله تأويلاً يخرجها عن ظاهرها، ولا نشبه صفات الله بصفات خلقه، بل نؤمن بأنه سبحانه منزه عن صفات المخلوقين، وسمات المحدثين. وقوله: ((ولا نشبهه بصفات المخلوقين، ولا بسمات المُحْدَثِين)): إنما هما جملتان بمعنى واحد، ولكنه أراد التنويع في العبارة. وقد قرر -رحمه الله- أن المذهب الحق هو الإيمان بهذه النصوص، وإمرارها على ظاهرها، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل، وهذا يبين أن بعض العبارات المتقدمة التي توهم التفويض؛ أنه لا يريد نفي المعنى، ونفي التفسير الصحيح، بل نفي التشبيه والتمثيل، ونفي التأويل الذي يخرج النصوص عن ظاهرها. قوله: ((وكل ما تخيل في الذهن أو خطر بالبال فإن الله تعالى بخلافه)): هذه قاعدة عظيمة في الكيفيات، وإلا فالمؤمن

تتمة النصوص في الاستدلال للصفات

يخطر بباله؛ بل ويعلم ويعتقد أن الله في السماء، فوق جميع المخلوقات، ويعلم ويعتقد بأنه سبحانه له هذه الصفات الذاتية والفعلية، فكل هذا يؤمن به ويعتقده، لكن الشأن فيما يخطر بالبال من الكيفيات، وما يتخيله الإنسان؛ فإن الله تعالى بخلاف ذلك، لأن العبد إنما يتخيل في حدود ضيقة، مما يحسه وما يشاهده ونحو ذلك، وكيفية ذاته وصفاته بخلاف كيفية ذات وصفات المخلوقين، وقد عَلِمْنا أن الخوض في الكيفية يستلزم التمثيل، فالتشبيه يستلزم التمثيل، ولا يمكن للمرء أن يفكر في ذات الله سبحانه، لأن الكيف مجهول. تتمة النصوص في الاستدلال للصفات ومن ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]}، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ربَّنا الله الذي في السماء تقدَّس اسمك))، وقال للجارية: ((أين الله؟)) قالت: في السماء. قال: ((اعتقها فإنها مؤمنة))، رواه مالك بن أنس، ومسلم، وغيرهما من الأئمة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحُصَين: ((كم إلهاً تعبد؟)) قال: سبعة؛ ستة في الأرض، وواحداً في السماء، قال: ((ومن لرهبتك ورغبتك؟)) قال: الذي في السماء. قال: ((فاترك الستة، واعبد الذي في السماء، وأنا أعلمك دعوتين)). فأسلم وعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: ((اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي))، وفيما نقل من علامات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الكتب المتقدمة: أنهم يسجدون بالأرض، ويزعمون

أن إلههم في السماء، وروى أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن ما بين سماءٍ إلى سماءٍ مسيرة كذا وكذا -وذكر الخبر إلى قوله: - وفوق ذلك العرش، والله سبحانه فوق ذلك))، فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف -رحمهم الله- على نقله وقبوله، ولم يتعرضوا لرده ولا تأويله، ولا تشبيهه ولا تمثيله، سئل مالك بن أنس الإمام - رضي الله عنه - فقيل: يا أبا عبدالله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ فقال: ((الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)) ثم أَمَر بالرجل فَأُخرج. الشرح قوله: ((ومن ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]})): عاد -رحمه الله- إلى ذكر بعض النصوص الدالة على بعض الصفات. قوله: ((وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ربَّنا (¬1) الله الذي في السماء تقدَّس اسمك)) (¬2)، وقال للجارية: ((أين الله؟)) قالت: في السماء. ¬

_ (¬1) ضبصها الشارح حفظه الله بقوله: ((ربَّنا: أي يا ربَّنا))، وفي عون المعبود (10/ 274): ((ربَّنا: بالنصب على النداء)). (¬2) رواه أحمد في مسنده برقم (23957)، عن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه -، وفي إسناده: ابن أبي مريم عن الأشياخ. وفي تحقيق المسند: ((إسناده ضعيف، لضعف أبي بكر بن عبدالله بن أبي مريم، ولإبهام الشيوخ الذين روى عنهم)). ورواه أبو داود في سننه برقم (3892)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (10807)، والحاكم في المستدرك (1/ 344)، وقال: ((قد احتج الشيخان بجميع رواة هذا الحديث؛ غير زيادة بن محمد، وهو شيخ من أهل مصر قليل الحديث))، والثلاثة رووه: عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -، وفي إسناده عندهم: زيادة بن محمد الأنصاري، قال عنه الحافظ في التقريب (ص 350): ((منكر الحديث))، قال عنه الذهبي في الميزان (2/ 98 - 2988): ((قال البخاري والنسائي: منكر الحديث ... وقد انفرد بحديث الرقية ...))، وانظر عون المعبود (10/ 275).

قال: ((اعتقها فإنها مؤمنة))، رواه مالك بن أنس (¬1)، ومسلم (¬2)، وغيرهما من الأئمة (¬3)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحُصَين: ((كم إلهاً تعبد؟)) قال: سبعة؛ ستة في الأرض، وواحداً في السماء، قال: ((ومن لرهبتك ورغبتك؟)) قال: الذي في السماء. قال: ((فاترك الستة، واعبد الذي في السماء، وأنا أعلمك دعوتين)). فأسلم وعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: ((اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي)) (¬4))): ذكر المؤلف -رحمه الله- آيتين وأحاديث؛ وفيها الدلالة على علو الله ¬

_ (¬1) رواه مالك في الموطأ (ص 552/ 1464). (¬2) رواه مسلم في صحيحه برقم (537)، عن معاوية بن الحكم - رضي الله عنه -. (¬3) رواه أحمد في مسنده برقم (19992)، وأبو داود في سننه برقم (930 - 3282)، والنسائي في سننه برقم (1218)، قال محقق المسند: ((إسناده صحيح على شرط الشيخين)). (¬4) رواه الترمذي في سننه برقم (3483) وقال: ((هذا حديث غريب، وقد روي هذا الحديث عن عمران بن حصين من غير هذا الوجه))، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي، ونقل المزي في تحفة الأشراف عن الترمذي قوله: ((حسن غريب))، ونقل النووي في رياض الصالحين قوله: ((حسن))، قال الألباني في تعليقه على رياض الصالحين: ((ولعله في بعض نسخ الترمذي، وإلا ففي نسخ بولاق: ((حديث غريب)) يعني: ضعيف، وهو اللائق بحال إسناده فإن فيه انقطاعاً وضعفاً)).

على خلقه، واستواءه على عرشه، والقول في أدلة العلو والاستواء: كالقول في سائر أدلة الصفات، فنؤمن بما دلت عليه من الصفات، ولا نصرفها عن ظاهرها، فنؤمن بأنه سبحانه فوق العرش، مستوٍ عليه، وأن العرش سقف المخلوقات، وهو في السماء، أي: في جهة العلو المطلق؛ الذي ليس وراءه شيءٌ، فهو تعالى الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو فوق كل شيء، وليس فوقه شيءٌ. قوله: ((وفيما نقل من علامات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الكتب المتقدمة: أنهم يسجدون بالأرض، ويزعمون أن إلههم في السماء (¬1)، وروى أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن ما بين سماءٍ إلى سماءٍ مسيرة كذا وكذا -وذكر الخبر إلى قوله: - وفوق ذلك العرش، والله سبحانه فوق ذلك)) (¬2))): وتمام هذا ¬

_ (¬1) أسنده المصنف -رحمه الله- في كتابه العلو (ص 78) عن عدي بن عميرة بن فروة العبدي - رضي الله عنه -، حيث سمع يهودياً اسمه: ابن شهلاء يحدث بهذا الخبر. وذكره الذهبي في كتابه (العلو للعلي الغفار) من طريقين، قال عن الأول (1/ 325 - ح 35): ((هذا حديث غريب))، والثاني من طريق ابن قدامة (1/ 373 - ح 50) -رحمهم الله-، وهذا الخبر سمعه عدي بن عميرة من الحبر اليهودي، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك أسلم وتبعه. وأورد القصة ابن حجر في كتابه (الإصابة في معرفة الصحابة 7/ 132). (¬2) قطعة من حديثٍ رواه أحمد في مسنده برقم (1770)، وأبو داود في سننه برقم (4723)، والترمذي في جامعه برقم (3320)، وابن ماجه في سننه برقم (193) من حديث العباس - رضي الله عنه -، قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مناظرة الواسطية (3/ 192): ((هذا الحديث مع أنه رو ... اه أهل السنن كأبي داود، وابن ماجه، والترمذي، وغيرهم: فهو مروي من طريقين مشهورين؛ فالقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر)). وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (3/ 398 - ح 1247)، وأجاب عن تقوية شيخ الإسلام ابن تيمية له، رحم الله الجميع.

الحديث: ((ويعلم ما أنتم عليه))، وهذا الحديث من شواهد إثبات علو على خلقه، واستواءه على عرشه، وقد دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، والآثار من أقوال الصحابة والتابعين والأئمة؛ كلها متطابقة ومتضافرة على إثبات العلو لله تعالى، وهي تدل على أن العلو لله تعالى على ثلاثة أنواع: - الأول: علو بذاته. - الثاني: علو القدر. - الثالث: علو القهر. فالثاني والثالث ليس فيهما نزاع بين الطوائف، وإنما النزاع في النوع الأول؛ في علوه تعالى بذاته، ففيه نزاع بين أهل السنة ومخالفيهم من أهل البدعة. قوله: ((فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف -رحمهم الله- على نقله وقبوله، ولم يتعرضوا لرده ولا تأويله، ولا تشبيهه ولا تمثيله. سئل مالك بن أنس الإمام - رضي الله عنه - فقيل: يا أبا عبدالله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ فقال: ((الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب،

والسؤال عنه بدعة)) ثم أَمَر بالرجل فَأُخرج)) (¬1): هذه الكلمات تروى عن الإمام مالك -رحمه الله-، وهي أشهر، وعن شيخه ربيعة، وهذه الكلمات الأربع منهج في إثبات الصفات، فهي تتضمن الإثبات والعلم بالمعنى؛ لكن مع الإمساك عن التكييف. قوله: ((الاستواء غير مجهول)): أي معلوم، لأن الله تعالى خاطبنا بلسان عربي مبين، فمعنى الاستواء في اللغة معلوم. ¬

_ (¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (5/ 365) في شرح حديث النزول: ((ومثل هذا الجواب ثابت عن ربيعة شيخ مالك، وقد روى هذا الجواب عن أم سلمة رضى الله عنها موقوفاً ومرفوعاً، ولكن ليس إسناده مما يعتمد عليه، وهكذا سائر الأئمة قولهم يوافق قول مالك)) وقال في الفتوى الحموية (ص 303): ((وروى الخلال بإسناد كلهم ثقات عن سفيان بن عيينة قال: سئل ربيعة بن أبي عبدالرحمن عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ ... فذكر الجواب؛ ثم قال: وهذا الكلام مروى عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة بن أبى عبدالرحمن من غير وجه ...)) وساق بعض هذه الأوجه. قال الذهبي في العلو (2/ 954): ((هذا ثابت عن مالك، وتقدم نحوه عن ربيعة شيخ مالك، وهو قول أهل السنة قاطبة: أن كيفية الاستواء لا نعقلها؛ بل نجهلها، وأن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به، لا نعمق ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك نفياً ولا إثباتاً، بل نسكت ونقف كما وقف السلف، ونعلم أنه لو كان له تأويل لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون، ولما وسعهم إقراره وإمراره والسكوت عنه، ونعلم يقيناً مع ذلك أن الله - جل جلاله - لا مثل له في صفاته، ولا في استوائه، ولا في نزوله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً))، قال ابن حجر في فتح الباري (13/ 417): ((وأخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك ...)) فذكره.

إثبات صفة الكلام لله تعالى

قوله: ((والكيف غير معقول)): معناه: غير مدرك بالمعقول، فهو غير معلوم. قوله: ((والإيمان به واجب)): لأنه مما أخبر الله به ورسوله، فيجب إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله. قوله: ((والسؤال عنه بدعة)): لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر، ولا سبيل إلى معرفته، وهو من التكلف والتنطع المذموم. إثبات صفة الكلام لله تعالى ومن صفات الله تعالى أنه متكلم بكلام قديم، يسمعه منه من شاء من خلقه، سمعه موسى - عليه السلام - منه من غير واسطة، ومن أَذِنَ له من ملائكته ورسله، وأنه سبحانه يكلِّم المؤمنين في الآخرة ويكلِّمونه، ويأذن لهم فيزورونه، قال الله تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً} [النساء:164]، وقال سبحانه: {يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} [الأعراف:144]، وقال سبحانه: {منهم من كلَّمَ اللهُ} [البقرة:253]، وقال سبحانه: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب} [الشورى:51]، وقال تعالى: {فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك} [طه:11 - 12]، وقال: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} [طه:14]، وغير جائز أن يقول هذا إلا الله، وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء، كسلسلة على صفوان)). ورُويَ ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى عبد الله بن أُنيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يحشر الله الخلائق يوم القيامة حفاة عراة غُرلا بهما، فيناديهم بصوت يسمعه من

بَعُد، كما يسمعه من قرُب، أنا الملك، أنا الديان))، رواه الأئمة، واستشهد به البخاري. وفي بعض الآثار أن موسى - عليه السلام - ليلة رأى النار فهالته وفزع منها، ناداه ربه: ((يا موسى))، فأجاب سريعاً استئناساً بالصوت؛ فقال: ((لبيك، لبيك، أسمعُ صوتك، ولا أرى مكانك، فأين أنت))؟ فقال: ((أنا فوقك، ووراءك، وعن يمينك، وعن شمالك))، فعَلِم أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله تعالى، قال: ((فكذلك أنت يا إلهي، أفكلامك أسمع أم كلام رسولك))؟ قال: ((بل كلامي يا موسى)). الشرح قوله: ((ومن صفات الله تعالى أنه متكلم بكلام قديم)): استَظْهِر من كلام المصنف -رحمه الله- أنه ينحو منحى السالمية، فإنهم يقولون: أن كلام الله حروف وأصوات لكنها قديمة، فكلامه لا تتعلق به المشيئة، وإنما المشيئة تتعلق بإسماعه، فيُسمع كلامه القديم من شاء، فموسى إنما سمع كلام الله القديم، وهو قائم به على حد زعمهم، فهو مثل حياته وسمعه وبصره، قائم به لم يزل موصوفاً بهذا الكلام. والمذهب الحق الذي هو موجب العقل والنقل والسمع: أن كلام الله قديم النوع، حادث الآحاد، أي: أن الله لم يزل يتكلم بما شاء، إذا شاء، كيف شاء، وأما آحاد الكلام فهي في أوقات تابعة للمشيئة، فخطاب الله لموسى كان في وقته عند مجيئه لميقات ربه، ونادى الأبوين حين أكلا من الشجرة، وخطابه للناس يوم القيامة سيكون، فالله نادى وينادي، وقال ويقول،

وهناك كلام قاله الله سبحانه من قبل، وكلام سيقوله في المستقبل، فهو يخاطب من شاء، متى شاء. قوله: ((يسمعه منه من شاء من خلقه، سمعه موسى - عليه السلام - منه من غير واسطة، ومن أَذِنَ له من ملائكته ورسله، وأنه سبحانه يكلِّم المؤمنين في الآخرة ويكلِّمونه، ويأذن لهم فيزورونه)): يريد أن الله تعالى يكلم المؤمنين في الجنة ويكلمونه، ويأذن لهم فيزورونه، وذلك في يوم المزيد، الذي يوافق وقته يوم الجمعة في الدنيا، فيحضر المؤمنون فينعمون بالنظر إلى وجهه الكريم، وذلك أجل نعيم أهل الجنة، نسأله تعالى لذة النظر إلى وجهه الكريم. قوله: ((قال الله تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً} [النساء:164]، وقال سبحانه: {يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} [الأعراف:144]، وقال سبحانه: {منهم من كلَّمَ اللهُ} [البقرة:253]، وقال سبحانه: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب} [الشورى:51]، وقال تعالى: {فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك} [طه:11 - 12]، وقال: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} [طه:14]، وغير جائز أن يقول هذا إلا الله)): وقد استدل المؤلف -رحمه الله- في إثبات كلام الله بهذه الآيات، وهي ظاهرة الدلالة على ما أراد من إثبات صفة الكلام لله، وأنه تعالى يتكلم ويكلم، وأن كلامه بصوت يسمعه المخاطب، وكل الآيات التي ذكرها في شأن تكليم الله لموسى، وتكليمه لمن شاء من البشر، وأشهر من كلمه الله من الرسل هو موسى - عليه السلام -، ولذا يعرف بأنه كليم الله، أي: مُكلَّم من الله،

وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه نادى الأبوين، قال تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف:22]، وفي قصة آدم وإبليس ذِكْرُ خطابه تعالى للملائكة، وتوبيخه لإبليس، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)} [الحجر]، إلى آخر القصة، والأدلة الدالة على إثبات صفة الكلام لله تعالى من نصوص الكتاب والسنة كثيرة. قوله: ((وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء، كسلسلة على صفوان)) (¬1). ورُويَ ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وروى عبد الله بن أُنيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يحشر الله الخلائق يوم القيامة حفاة عراة غُرلا بهما، فيناديهم بصوت يسمعه ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه تعليقاً بصيغة الجزم، موقوفاً في (كتاب التوحيد)، باب رقم (32). (¬2) روي ذلك مرفوعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، رواه أبو داود في سننه برقم (4738)، قال الألباني في الصحيحة (3/ 282 - ح 1293): ((قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين))، وقال: ((والموقوف وإن كان أصح من المرفوع، ولذلك علقه البخاري في صحيحه، فإنه لا يعل المرفوع، لأنه لا يقال من قبل الرأي كما هو ظاهر، لاسيما وله شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعاً نحوه؛ أخرجه البخاري، والترمذي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وأبو جعفر ابن أبي شيبة في العرش، والبيهقي، بعضهم مطولاً، وبعضهم مختصراً، وقال الترمذي: ((حديث حسن صحيح)). ا. هـ.

من بَعُد، كما يسمعه من قرُب، أنا الملك، أنا الديان))، رواه الأئمة (¬1)، واستشهد به البخاري (¬2). وفي بعض الآثار أن موسى - عليه السلام - ليلة رأى النار فهالته وفزع منها، ناداه ربه: ((يا موسى))، فأجاب سريعاً استئناساً بالصوت؛ فقال: ((لبيك، لبيك، أسمعُ صوتك، ولا أرى مكانك، فأين أنت))؟ فقال: ((أنا فوقك، ووراءك، وعن يمينك، وعن شمالك))، فعَلِم أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله تعالى، قال: ((فكذلك أنت يا إلهي، أفكلامك أسمع أم كلام رسولك))؟ قال: ((بل كلامي يا موسى)) (¬3): هذه الآثار والأحاديث التي ذكرها المصنف -رحمه الله- أوردها للاستدلال على أن الله يتكلم بصوت، وهذا حق: أن الله يتكلم بصوت، وهو مستفاد من القرآن الكريم، لا من هذه الآثار التي نقل، فإن الأصل في الكلام أن يكون بصوت، وقد قال الله تعالى في غير موضع: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء:10]، والنداء: هو الخطاب بصوت مرتفع، وقال سبحانه: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52]، ففيها: أن الله كلم ¬

_ (¬1) رواه أحمد في مسنده برقم (16042)، والحاكم في المستدرك (2/ 438) وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه))، قال محقق المسند: ((إسناده حسن)). (¬2) رواه البخاري في صحيحه تعليقاً بصيغة التمريض مرفوعاً في (كتاب التوحيد)، باب (32). (¬3) أورده السيوطي في الدر المنثور (10/ 163) عند تفسير الآية العاشرة من سورة (طه)، وهو أثر طويل جداً من كلام وهب بن منبه، ونسبه السيوطي إلى: ((أحمد في الزهد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم)).

موسى، وأصرح منها في الدلالة قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، وفيها: أن الله ناداه، وفيها أنه ناجاه، فكلمه نِداء ونِجاء، وهذا إنما يكون بصوت، وهذا هو الأصل، وجاء في المتفق عليه أن الله سبحانه وتعالى يقول: ((يا آدم! ...)) (¬1) فينادى بصوت. ويُستشهد بما ذكره المؤلف من أثر ابن مسعود - رضي الله عنه -، وحديث عبدالله بن أنيس الذي يقول فيه المؤلف: ((رواه الأئمة واستشهد به البخاري)). وأهل السنة متفقون على أن الله يتكلم بصوت، يسمعه من شاء، وأن موسى - عليه السلام - سمع كلام الله من الله، وأن الملائكة تسمع كلام الله إذا تكلم بالوحي، فيسمعونه ويأخذهم من ذلك صعق وغشي. وأما الأثر الذي ذكره في قصة موسى؛ وتكليم الله له، فهو خبر إسرائيلي لا يعول عليه في شيء، فقد يكون في بعضه ما هو حق، كسماع موسى لكلام الله؛ فهذا حق لا شك فيه، ولا نحتاج في إثباته إلى هذا الأثر، والمؤلف استشهد به لإثبات مسألة الصوت. فموسى - عليه السلام - سمع كلام الله بلا واسطة؛ ولكن من وراء حجاب، حيث قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ ¬

_ (¬1) قطعة من حديثٍ رواه البخاري في صحيحه برقم (3348)، ومسلم في صحيحه برقم (222).

فصل في إثبات أن القرآن كلام الله

إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف:143]، وفي هذا الأثر يقول: ((أنا فوقك، ووراءك، وعن يمينك، وعن شمالك))، فالله فوق كل شيء، ومحيط بكل شيء. وقد تقدم قريباً قول المؤلف -رحمه الله- في ذلك. فصل في إثبات أن القرآن كلام الله ومن كلام الله تعالى: القرآن العظيم، وهو كتاب الله المبين، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وهو سور محكمات، وآيات بينات، وحروف وكلمات، من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، له أول وآخر، وأجزاء وأبعاض، متلو بالألسنة، محفوظ في الصدور، مسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف، فيه محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وأمر ونهي، {لَا يَاتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَاتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَاتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]. وهو هذا الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا: {وَقَالَ

الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ:31]، وقال بعضهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25]، فقال سبحانه: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26]، وقال بعضهم: هو شعر، فقال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ} [يس:69]، فلما نفى الله عنه أنه شعر وأثبته قرآنا، لم يبق شبهة لذي لب في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي، الذي هو كلمات وحروف وآيات، لأن ما ليس كذلك لا يقول أحد: إنه شعر، وقال عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يُدرى ما هو ولا يُعقل، وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس:15]، فأثبت أن القرآن هو الآيات التي تتلى عليهم، وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:49]، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77 - 78] بعد أن أقسم على ذلك، وقال تعالى: {كهيعص} [مريم:1]، {حم * عسق} [الشورى:1 - 2]. وافتتح تسعاً وعشرين سورة بالحروف المقطعة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة)) حديث صحيح، وقال - عليه السلام -: ((اقرءوا القرآن قبل أن يأتي قومٌ يقيمون حروفه إقامة السهم لا يجاوز تراقيهم، يتعجلون أجره ولا

يتأجلونه))، وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: ((إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه))، وقال علي - رضي الله عنه -: ((من كفر بحرف منه؛ فقد كفر به كله))، واتفق المسلمون على عد سور القرآن، وآياته، وكلماته، وحروفه، ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة، أو آية، أو كلمة، أو حرفاً متفقاً عليه: أنه كافر؛ وفي هذا حجة قاطعة على أنه حروف. الشرح قوله: ((ومن كلام الله تعالى: القرآن العظيم، وهو كتاب الله المبين، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود)): بعد أن ذكر المؤلف -رحمه الله- ما يجب اعتقاده في كلام الله؛ وأنه سبحانه متكلم حقيقة بكلام حقيقي، يسمعه من قرب ومن بعد، ويسمعه من شاء الله من عباده، ذكر بعد ذلك ما يجب اعتقاده في القرآن، وأن القرآن من كلام الله، فكلام الله ليس محصوراً في القرآن، فالتوراة والإنجيل وغيرها من الكتب كلها من كلام الله، والله - عز وجل - لم يزل متكلماً، فالقرآن كلام الله، منزل من عند الله غير مخلوق، خلافاً للجهمية، نزل بلسان عربي مبين، على قلب سيد المرسلين، كما قاله الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192 - 195]. ومن صفات هذا القرآن: أنه الهادي إلى الصراط المستقيم،

وهو حبل الله المتين؛ الذي من تمسك به نجا، كما قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقيل في الحبل: أنه القرآن (¬1). قوله: ((وهو سور محكمات، وآيات بينات، وحروف وكلمات، من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات (¬2)، له أول وآخر، وأجزاء وأبعاض)): القرآن أربعة عشر ومئة سورة، وهذه السور مشتملة على آيات، وحروف وكلمات، وله أول وآخر، أوله سورة الفاتحة، وآخره سورة الناس، وله أجزاء وأبعاض، فالسورة الواحدة بعض القرآن، كما أن الآية بعض السورة، والكلمة بعض الآية. ¬

_ (¬1) قال ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير (1/ 432): ((فأما الحبل؛ ففيه ستة أقوال، أحدها: أنه كتاب الله القرآن، رواه شقيق عن ابن مسعود، وبه قال قتادة والضحاك والسدي)). (¬2) يشير إلى ما رواه عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أعربوا القرآن؛ فإن من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، وكفارة عشر سيئات، ورفع عشر درجات))، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 244 - ح 11655): ((رواه الطبراني في الأوسط، وفيه نهشل وهو متروك))، وذكره الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (2348) وقال: ((موضوع ... وقد روي الحديث من طرق أخرى عن ابن مسعود وغيره بألفاظ قريبة من هذا، ويزيد بعضهم على بعض، ولا يصح شيء منها، وبعضها أشد ضعفاً من بعض))، ولكن جاء عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: {آلم} حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف))، رواه الترمذي في جامعه برقم (2910)، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه))، وصححه الألباني.

والمؤلف يردُّ بهذا الكلام وما بعده على من يقول: إن كلام الله معنى نفسي واحد لا يتبعض، وهذا القرآن المكتوب المحفوظ المسموع عبارة عن ذلك المعنى النفسي. قوله: ((متلو بالألسنة، محفوظ في الصدور، مسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف)): فالقرآن هو كلام الله كيفما تصرَّف، سواء كان محفوظاً في صدور العباد، أو مكتوباً في المصاحف، أو مسموعاً بالآذان، أو منطوقاً به بالألسن، فنقول في المصحف: أن فيه كلام الله، ونقول عن المحفوظ في صدور العالِمين: هو كلام الله، كما قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:49]، ونقول فيما يقرأه القارئ: هذا كلام الله، فالصوت صوت القارئ، والكلام كلام الباري، ونقول فيما نسمعه: هذا كلام الله، فمن يستمع إلى القرآن فإنما يسمع كلام الله، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، فسمَّى المسموع المتْلُوَّ: كلام الله. قوله: ((فيه محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وأمر ونهي، {لَا يَاتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَاتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَاتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]. وهو هذا الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ:31]، وقال بعضهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25]، فقال سبحانه:

{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26]، وقال بعضهم: هو شعر، فقال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ} [يس:69]، فلما نفى الله عنه أنه شعر وأثبته قرآنا، لم يبق شبهة لذي لب في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي، الذي هو كلمات وحروف وآيات، لأن ما ليس كذلك لا يقول أحد: إنه شعر، وقال عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يُدرى ما هو ولا يُعقل، وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس:15]، فأثبت أن القرآن هو الآيات التي تتلى عليهم)): يشير -رحمه الله- إلى تحدي الله - عز وجل - للثقلين -الجن والإنس- بهذا القرآن، وذكر بعض الآيات الدالة على ذلك، وقد تحداهم الله تعالى بالإتيان بمثله فقال سبحانه: {فَلْيَاتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:34]، وتحداهم بالإتيان بعشر سور مثله فقال - عز وجل -: {قُلْ فَاتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13]، وتحداهم بالإتيان بسورة من مثله فقال: {فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]. والمؤلف -رحمه الله- حين يذكر مثل هذه الجوانب فإنه يذكرها ويقررها للرد على الأشاعرة؛ القائلين: أن كلام الله -ومنه القرآن- معنى نفسي واحد قديم، ليس بصوت ولا حرف ولا أبعاض، معنى نفسي واحد، لا يتجزؤ ولا يتبعض، ولذلك يقرر أن له أولاً وآخراً، وأجزاء وأبعاض، وأنه مكتوب ومتلو ومسموع،

ونحو ذلك من الجوانب والمعاني التي يصف بها القرآن؛ وهي متضمنة للرد على الأشاعرة ومن نهج نهجهم. ويؤكد -رحمه الله- هذه المعاني ببعض العبارات الدالة على أن القرآن فيه معانٍ مختلفة، كقوله: ((محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وأمر ونهي))، فهذا خلاف ما تقوله الأشاعرة، من أن كلام الله معنى واحد لا تنويع فيه، وذكر هذا التنويع فيه رد عليهم، إذ أنهم يقولون: كيف يكون هذا المتنوع ما بين متلو ومسموع ومكتوب ومحفوظ ونحوها؛ كيف يكون كلام الله حقيقة؟! فهم ينفون كون هذا المتنوع هو كلام الله، وكفى بهذا ضلالاً عن الهدى، وعمى عن الحق؛ والعياذ بالله. والرد عليهم هو الحق، لأن مذهبهم يقتضي أن هذا القرآن الموجود هو عبارة عن كلام الله، وأن القرآن الحقيقي هو المعنى الواحد الذي في نفس الرب تبارك وتعالى، فإن عُبِّر عنه بالعبرية فهو توراة، وإن عُبِّر عنه بالعربية فهو قرآن، وما إلى ذلك من الكلام المبتدع المنكر الذي لا أصل له. قوله: ((وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:49]، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77 - 78] بعد أن أقسم على ذلك، وقال تعالى: {كهيعص} [مريم:1]، {حم * عسق} [الشورى:1 - 2]، وافتتح تسعاً وعشرين سورة بالحروف المقطعة)): فمن هذه السور ما افتُتح بحرف واحد، وهي ثلاث سور،

{ص}، وَ {ق}، وَ {ن}، ومنها ما افتُتح بحرفين، كالسور المفتتحة بـ {حم} وهي سبع سور، ومنها ما افتُتح بثلاثة أحرف، وهو كثير، كسورة البقرة، وآل عمران، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة، فكلها مفتتحة بـ {آلم}، ومنها ما افتُتح بأربعة أحرف؛ كسورة الرعد {المر}، وسورة الأعراف: {المص}، ومنها ما افتُتح بخمسة أحرف؛ كسورة مريم: {كهيعص}، وسورة الشورى: {حم * عسق}. وهذه الحروف التي افتتح الله بها بعض سور كتابه يسميها العلماء: الحروف المقطعة، وقد ذكرت غير مرتبة، وتنطق هذه الحروف في القرآن بأسمائها، ألف لام ميم، ونحو ذلك، ولا تنطق كلمة مركبة من الأحرف الثلاثة، فلا تقول في ألف لام ميم: أَلَمْ. ولا في طاء سين ميم: طَسَمْ. قوله: ((وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة)) حديث صحيح، وقال - عليه السلام -: ((اقرءوا القرآن قبل أن يأتي قومٌ يقيمون حروفه إقامة السهم لا يجاوز تراقيهم (¬1)، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه)) (¬2). ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير في النهاية (ص 107): ((التراقي: جمع ترقوة، وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق. وهما ترقوتان من الجانبين. ووزنها فَعْلُوَة بالفتح. والمعنى: أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها، فكأنها لن تتجاوز حلوقهم. وقيل: المعنى أنهم لا يعملون بالقرآن، ولا يثابون على قراءته فلا يحصل لهم غير القراءة)). (¬2) رواه الإمام أحمد في مسنده برقم (22865)، وأبو داود في سننه برقم (831).

وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: ((إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه)): يشير المؤلف -رحمه الله- إلى ما رتب الله - عز وجل - من الأجر والفضل لمن قرأ القرآن وتلاه، كما جاء ذلك من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: {آلم} حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) (¬1)، وذكر حديث: ((من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة)) حديث صحيح، وإعراب القرآن: هو النطق به وقراءته على الوجه الصحيح، مما يوافق قواعد اللسان العربي -اللغة العربية-، ويقابل الإعراب في المعنى: اللحن. وأما التجويد: فإن كان فيه إقامة الحروف والإتيان بها على الوجه الصحيح؛ فهو واجب لابد منه، وأما قواعد التجويد المعروفة التي فيها تحسين القراءة فليست بواجبة، بل ربما أدى مراعاته إلى التكلف. وأصح من هذا الحديث الذي ذكره المؤلف: حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)) (¬2)، وهو حديث صحيح. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 39). (¬2) رواه البخاري في صحيحه برقم (4937)، ومسلم في صحيحه برقم (798)، واللفظ له.

وأشار إلى ما ورد من النصوص في الحث على قراءة القرآن، قراءةً وإعراباً، وأنه سيأتي قوم يقرئون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يتعجلون أجره؛ فيتوصلون به إلى أغراضهم الدنيوية، ولا يتأجلون أجره إلى يوم القيامة. قوله: ((وقال علي - رضي الله عنه -: ((من كفر بحرف منه؛ فقد كفر به كله))، واتفق المسلمون على عد سور القرآن، وآياته، وكلماته، وحروفه)): لا يزال المؤلف -رحمه الله- في معرض الرد على الأشاعرة؛ القائلين بأن كلام الله معنى نفسي واحد قديم، وأن هذا القرآن المكتوب الذي نقرؤه إنما هو عبارة عن كلام الله. وقد ذكر المؤلف -رحمه الله- اتفاق العلماء على عد سوره وآياته وكلماته وحروفه، وقد ذكر أهل العلم أشياء حول عدها، وقد يختلفون في العدّ، لكن المهم في ذلك: هو معرفة عدد سور القرآن، وأن عددها مئة وأربعة عشر سورة، وأن ذلك أمر متفق عليه. قوله: ((ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة، أو آية، أو كلمة، أو حرفاً متفقاً عليه: أنه كافر)): ثم ذكر -رحمه الله- مسألة التكذيب ببعض القرآن، وأن من كذب ببعض القرآن فقد كفر؛ لأن من كذب ببعض القرآن فهو مكذب بالقرآن كله، كما أن من كذَّب الرسول في شيءٍ واحد ثابت عنه يكون مكذباً لجميع ما جاء عنه، ومن كذَّب رسولاً واحداً فهو مكذب لجميع الرسل. قوله: ((وفي هذا حجة قاطعة على أنه حروف)): وفي هذه الجملة تتمة للرد على من يقول: إن القرآن ليس بحروفٍ ولا

فصل في رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة

كلمات، وإنما هو كلام الله، الذي هو معنى نفسي قائم بالرب سبحانه، لا يتعدد ولا يتبعض ولا نحو ذلك، مما هو مخالف لمنهج أهل السنة. فصل في رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة والمؤمنون يرون الله تعالى في الآخرة بأبصارهم، ويزورونه، ويكلمهم ويكلمونه، قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، فلما حجب أولئك في حال السخط، دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضا، وإلا لم يكن بينهما فرق، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر، لا تضامون في رؤيته)) حديث صحيح متفق عليه، وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية، لا للمرئي بالمرئي، فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير. الشرح يذكر المؤلف -رحمه الله- في هذا الفصل مسألة رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وهي من المسائل التي اختلفت فيها فرق الأمة وطوائفها، فأهل السنة والجماعة يؤمنون بما أخبر الله به، وما أخبر به رسوله؛ من أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة عياناً بأبصارهم، وقد دل على ذلك: الكتاب، والسنة، وإجماع سلف

الأمة، فمن القرآن قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] أي: بهيَّة مشرقة مضيئة، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، أي: تنظر إلى ربها. والفعل: (نَظَرَ) إذا عُدَّي بـ (إلى) كان معناه: رؤية البصر، فتقول: نظرت إلى كذا وكذا. وأما (نَظَر) المتعدي بنفسه فإن معناه الانتظار، فتقول: نظرته أي انتظرته. وأما (نَظَر) المُعَدَّى بـ (في) فإن معناه التفكر، كما قال الله تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف:185]. ومن أدلة الرؤية في القرآن قول الله جل وعلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وجاء تفسير الزيادة: بأنها النظر إلى وجه الله الكريم (¬1). ومن الأدلة من القرآن أيضاً: قول الله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35]. ¬

_ (¬1) قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الزيادة: ((وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم؛ عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، قال البغوي: وأبو موسى، وعبادة بن الصامت، وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن سابط، ومجاهد، وعكرمة، وعامر بن سعد، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم من السلف والخلف. وقد وردت في ذلك أحاديثُ كثيرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...)) تفسير ابن كثير (7/ 354).

ومن الأدلة من القرآن أيضاً قول الله تبارك وتعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، وهذه الآية في حق الكفار وأهل النار، ويقول المؤلف معلقاً على هذه الآية: ((فلما حجب أولئك في حال السخط، دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضا، وإلا لم يكن بينهما فرق))، فدل على أن هذه الآية من آيات الرؤية، حيث إن المؤمنين لا يحجبون عنه، بل يرونه. قوله: ((وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر، لا تضامون في رؤيته)) حديث صحيح متفق عليه (¬1))): ثم استدل المؤلف -رحمه الله- للرؤية من السنة، وقد استفاضت السنة بالإخبار عنها، وذكر حديث جرير بن عبدالله - رضي الله عنه - في المتفق عليه، وجاء من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن ناساً قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله؛ هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟)) قالوا: لا؛ يا رسول الله. قال: ((هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟)) قالوا: لا؛ يا رسول الله. قال: ((فإنكم ترونه كذلك ...)) (¬2). قوله: ((وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية، لا للمرئي بالمرئي، فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير)): فالمشبَّه إذاً: رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، ورؤيتهم لربهم هي صفة لهم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 17). (¬2) رواه البخاري في صحيحه برقم (7437)، ومسلم في صحيحه برقم (2968).

والمشبَّه به: هو رؤيتهم للشمس والقمر، فالمذكور في الحديث هو تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي، ((فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير))، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((... سترون ربكم كما ...))، أي: سترونه رؤية كرؤيتكم، وهذا هو التقدير الصحيح. ووجه الشبه: أنها رؤية بصرية، عيانية، جلية، ليس فيها خفاء، ولا معاناة، ولا ضيم، ولا تضام، ولا ضرر، كما يرون الشمس والقمر وهي صحو، حيث يرونهما الناس وهم في أماكنهم متباعدين، ولا يجدون معاناة في ذلك، بخلاف رؤية الهلال؛ لأن رؤيته تحتاج إلى عناء وتحري وتحديق وتعب. وأيضاً: فهي رؤية ليس فيها إحاطة، فالمؤمنون يرون ربهم، ولا تحيط به أبصارهم، كما يرون الشمس والقمر رؤية من غير إحاطة بهما، وقد قال الله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103]. وأيضاً: فهي رؤية من علو، كما يرون الشمس والقمر من علو. وأنكرت المعتزلة والجهمية الرؤية مطلقاً، وكذبوا بها، وتأولوا النصوص أو ردوها، فما قدروا على ردِّه ردوه، وما لم يقدروا على رده -كالقرآن- أوَّلوه، فأمرهم دائر بين التكذيب والتحريف، وبنوا هذا على أصول فاسدة، زعموا أنها عقليات؛ وهي في حقيقتها جهليات، فهم ينفون العلو، وينفون قيام الصفات به، وأن الرؤية تستلزم المقابلة، وأن المرئي لا بد أن

فصل في القضاء والقدر

يكون لوناً ونحو ذلك من الخيالات التي يعارضون بها النصوص الصريحة الصحيحة. وأما الأشاعرة: فإن طريقتهم في الرؤية طريقة فيها تذبذب، فليسوا مع المعتزلة ولا مع أهل السنة، فهم يقولون: إن الله يُرى لا في جهة، لا من فوق، ولا عن يمين، ولا عن شمال، ولا من أمام، ولا غير ذلك من الجهات، وبهذا أضحكوا عليهم العقلاء، وفتحوا الباب على المعترضين عليهم؛ إذ أنهم يثبتون رؤية لا حقيقة لها ولا معنى، وإذا حُقق مذهبهم: تبين أنهم لا يثبتون الرؤية، لأن ما أثبتوه منها غير معقول. فصل في القضاء والقدر ومن صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد، لا يكون شيءٌ إلا بإرادته، ولا يخرج شيءٌ عن مشيئته، وليس في العالم شيءٌ يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يُتجاوز ما خُط في اللوح المسطور، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، خلق الخلق وأفعالهم، وقدَّر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ

فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125]، وروى ابن عمر أن جبريل - عليه السلام - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره))، قال: صدقت. انفرد بإخراجه مسلم، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((آمنت بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره))، ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي علمه الحسنَ بن علي يدعو به في قنوت الوتر: ((وقني شر ما قضيت)). الشرح القضاء يطلق على عدة معانٍ، ومنها: الحُكْم. وأما القدر: فهو التقدير. وكل منهما يطلق على اسم المفعول، فيطلق القضاء على المقْضِيِّ، والقدر على المقدَّر، فتقول عن الشيء الواقع الذي حدث: هذا قَدَرٌ الله. وتقول: هذا قضاء الله؛ أي: ما حكم به سبحانه وتعالى. والإيمان بالقدر أصلٌ من أصول الإيمان العظيمة؛ كما في حديث عمر - رضي الله عنه - في حديث جبريل - عليه السلام -، حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أن تؤمن بالقدر خيره وشره)).

والإيمان بالقدر يتضمن أربع مراتب: 1. الإيمان بعلم الله السابق بكل شيءٍ. 2. والإيمان بكتابته سبحانه لمقادير الأشياء كلها. 3. والإيمان بعموم مشيئته تبارك وتعالى. 4. والإيمان بأن الله خالق كل شيءٍ، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. فالإيمان بالقدر لابد أن يشتمل على هذه الأصول والمراتب الأربع، وعلى هذا فكل ما في هذا الوجود فهو بقدر الله، وهو حاصل بتقديره، وتدبيره، وقضاءه، وحكمه، كما قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، فلا يكون في هذا الوجود شيءٌ إلا ما شاءه سبحانه وتعالى، فلا خروج لشيء عن مشيئته، وعن تقديره، وعن تدبيره، ولا يمكن لأحد أن يتجاوز الأمر المقدور، فالله قدَّر أحوال العباد وأعمالهم، وقدر أرزاقهم، وسعادتهم وشقاوتهم، وآجالهم، كما جاء في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثم يرسل الملك، فينفخ فيه الروح، ويُؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)) (¬1). قوله: ((ومن صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد)): كما في قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16]، وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]. قوله: ((لا يكون شيءٌ إلا بإرادته)): أي: إرادته الكونية. ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه برقم (7454)، ومسلم في صحيحه برقم (2643).

قوله: ((ولا يخرج شيءٌ عن مشيئته)): والمشيئة مرادفة للإرادة الكونية. والإرادة إرادتان: - الإرادة العامة، وهي التي بمعنى: المشيئة، وتُسمى: الإرادة العامة، أو الإرادة الكونية، وهذا النوع من الإرادة لا يستلزم المحبة، بل تشمل ما يحبه الله، وما يسخطه. ومن أدلة هذا النوع من الإرادة؛ قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16]، وقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125]، وقوله تعالى: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34]، إلى غير ذلك من الأدلة. - الإرادة الشرعية: وتأتي هذه الإرادة متضمنة للمحبة، ومستلزمة لها، ومختصة بها. ومن أدلة هذا النوع: قول الله تبارك وتعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:158]، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} [الأنفال:67]. قوله: ((وليس في العالم شيءٌ يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره)): فكل ما في هذا الكون، وما في هذا الوجود؛ يسير بتقدير الله وتدبيره. قوله: ((ولا محيد لأحد عن القدر المقدور)): كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في وصيته لابن عباس - رضي الله عنه -: ((واعلم أن الأمة لو

اجتمعت على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام، وجفت الصحف)) (¬1)، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك)) (¬2). قوله: ((ولا يُتجاوز ما خُط في اللوح المسطور، أراد ما العباد فاعلوه)): فالله تعالى أراد أفعال العباد، وشاء أعمالهم كلها، طاعاتهم ومعاصيهم، فكل ما يعمله العباد فهو بمشيئة الله وتقديره. قوله: ((ولو عصمهم لما خالفوه)): فلو عصمهم عن جميع المخالفات لما وقعوا فيها، لأنه لا خروج لشيء عن حكمه ومشيئته. قوله: ((ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه)): كما قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس:99]، وكما في قوله: {لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31]، وكما في قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:31]. قوله: ((خلق الخلق وأفعالهم)): فالله جل وعلا خلق العباد، وخلق قدرتهم وإرادتهم، وخلق أفعالهم أيضاً، كما قال الله ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في مسنده برقم (2669)، والترمذي في جامعه برقم (2516). (¬2) رواه الإمام أحمد في مسنده برقم (21589)، وأبو داود في سننه برقم (4699)، وابن ماجه في سننه برقم (77)، من حديث أبي بن كعب وعبدالله بن مسعود وحذيفة بن اليمان -رضي الله عنهم- موقوفاً عليهم، وأما زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.

تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، وقال جل وعلا: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، لكنه يخلق الأسباب، ويخلق بالأسباب. خلافاً للقدرية؛ الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه. قوله: ((وقدَّر أرزاقهم وآجالهم)): والنصوص الدالة على هذا الأصل كثيرة، كما في قوله سبحانه: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49]، وكما قال - عز وجل -: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:145]، وكما في قوله: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11]، فالله سبحانه وتعالى قد ضرب للعباد آجالاً مقدَّرة معلومة، لا يتأخرون عنها ولا يتقدمونها، وكما جاء في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - السابق. قوله: ((يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته)): فهو يهدي من يشاء بفضله ورحمته وحكمته، ويضل من يشاء بحكمته وعدله، فله الحمد على كل حال، والنصوص الدالة على هذا كثيرة، فمنها قوله تعالى: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل:93]، وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125]. قوله: (({لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23])): وذلك لكمال حكمته سبحانه، وليس ذلك لقوته وعظمته وملكه، بل لكمال حكمته وتمامها، بل هو الحكيم -سبحانه- الذي له الحكمة البالغة.

ولكن العباد يُسألون عن أعمالهم، كما قال الله جل وعلا: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93]. قوله: ((قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49])): وهذه الآية العظيمة من أدلة إثبات القدر، ومعناها: إنا خلقنا كل شيءٍ بقدر، فـ (كُلَّ): مفعول به منصوب، وناصبه: فعل محذوف دل عليه الفعل المذكور، ويُسمى هذا النوع في علم النحو: (الاشتغال) (¬1). قوله: ((وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2])): وجعل له قدْراً، كما في الآية الأخرى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]. قوله: ((وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22])): نبرأها: أي نوجدها. فما يقع في الأرض ولا في النفوس من مصيبة إلا وهي مكتوبة قبل وجودها. قوله: ((وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125])): فمن أراد الله به الخير نور قلبه، وشرح صدره، كما قال سبحانه: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22]، وإذا أراد الله ¬

_ (¬1) ينظر أوضح المسالك شرح ألفية ابن مالك لابن هشام (2/ 141).

إضلال العبد جعل صدره ضيقاً حرجاً، فلا ينشرح لقبول الحق، نسأل الله السلامة والعافية. قوله: ((وروى ابن عمر أن جبريل - عليه السلام - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره))، قال: صدقت. انفرد بإخراجه مسلم (¬1))): هذا الحديث: قطعة من حديث جبريل الطويل، وفيه ذِكرٌ لأركان الإيمان، والشاهد منه قوله: ((تؤمن بالقدر خيره وشره))، أي: تؤمن أن الله قدَّر مقادير الأشياء كلها، خيرها وشرها. أما تقديره وتدبيره وحكمه سبحانه: فكله خير، فله الحكمة البالغة في خلقه لهذه الأضداد. قوله: ((وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((آمنت بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره)) (¬2). ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي علمه الحسنَ بن علي يدعو به في قنوت الوتر: ((وقني شر ما قضيت)) (¬3))): هذه ¬

_ (¬1) رواه مسلم في صحيحه برقم (8). (¬2) أورده الحاكم بهذا اللفظ مسنداً مسلسلاً في معرفة علوم الحديث (ص 178)، والذهبي أيضاً في السير (8/ 287)، وقال: ((وهو كلام صحيح، لكن الحديث واهٍ؛ لمكان الرقاشي)). (¬3) رواه أحمد في مسنده برقم (1718)، وأبو داود في سننه برقم (1425)، والترمذي في جامعه برقم (464) وقال: ((هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث أبي الحوراء السعدي، واسمه ربيعة بن شيبان، ولا نعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قنوت الوتر شيئاً أحسن من هذا))، ورواه النسائي في سننه برقم (1745)، وابن ماجه في سننه برقم (1178)، من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما، وصححه الألباني في إرواء الغليل (2/ 172).

الاعتقاد الحق في الجمع بين الشرع والقدر

الأحاديث فيها إثبات القضاء لله سبحانه وتعالى، وأن ما يقع فهو بقضائه وتقديره وتدبيره. الاعتقاد الحق في الجمع بين الشرع والقدر ولا نجعلُ قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره، واجتناب نواهيه، بل يجب أن نؤمن ونعلم أن لله علينا الحجة بإنزال الكتب، وبعثة الرسل، قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، ونعلم أن الله سبحانه وتعالى ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، وأنه لم يجبر أحداً على معصية، ولا اضطره إلى ترك طاعة، قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17]، فدل على أن للعبد فعلاً وكسباً، يجزى على حسنه بالثواب، وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره. الشرح قوله: ((ولا نجعلُ قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره، واجتناب نواهيه، بل يجب أن نؤمن ونعلم أن لله علينا الحجة بإنزال الكتب، وبعثة الرسل، قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165])): يقول -رحمه الله-: لا تفعل فعل القدرية الجبرية المُشْركيَّة، الذين يغلون في إثبات

القدر، ويعارضون به الشرع، ويحتجون به على الشرك والذنوب، كما قال الله تعالى عن المشركين: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]، وهي كلمة حق أريد بها باطل، وهي حجة داحضة، ولله الحجة البالغة. يقول الشيخ -رحمه الله-: فلا نجعل القدر عذراً لنا في مخالفة أوامر الله ونواهيه، بل نعترف بذنوبنا، ونستغفر الله منها، ونؤمن بأن الحجة لله علينا، بإرسال رسله، وإنزال كتبه، وأن ليس للناس حجة على بعد ذلك: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:165]. قوله: ((واجتناب نواهيه)): عطف على ((أوامره))، والتقدير: في ترك أوامره، وترك اجتناب نواهيه. والاحتجاج بالقدر على الذنوب هو سبيل إبليس وأتباعه، كما قال الله تعالى عنه: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16]. قوله: ((ونعلم أن الله سبحانه وتعالى ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، وأنه لم يجبر أحداً على معصية، ولا اضطره إلى ترك طاعة، قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17]، فدل على أن للعبد فعلاً وكسباً، يجزى على حسنه بالثواب، وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره)): أراد الشيخ -رحمه الله- بهذا الفصل الرد على الجبرية

القائلين: بأن العبد مجبور على أفعاله، ليس له قدرة ولا إرادة، بل أفعاله كحركة المرتعش، وكالريشة في مهب الريح، وهذا مذهب الجهمية. والحق أن الله لم يأمر العباد ولم يكلفهم إلا بما لهم قدرة عليه، لا يكلفهم بما يعجزون عنه، ولا يستطيعونه، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. ومما يدل على بطلان قول الجبرية: أن الله تعالى رتب الجزاء على الأعمال ثواباً وعقاباً، فأخبر أنه يثيب المحسنين، ويعاقب المسيئين، كما قال تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31]، والجزاء إنما يكون على ما للعبد عليه قدرة، وله فيه اختيار. ويجب مع الإيمان بأن للعبد قدرة ومشيئة وله فعل حقيقة؛ يجب الإيمان بأن كل ذلك جار بقدر الله، فالعبد لا يشاء إلا أن يشاء الله، والله خالق قدرته ومشيئته وفعله، إذ لا خروج لشيء عن قدرة الله ومشيئته، كما لا خروج لشيء عن علمه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62]، فمذهب أهل السنة والجماعة في أفعال العباد وسط بين مذهبي الجبرية والقدرية؛ النافين للقدر، القائلين بأن العباد هم الخالقون لأفعالهم.

فصل في بيان الإيمان

فصل في بيان الإيمان والإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، فجعل عبادة الله، وإخلاص القلب، وإقام الصلاة؛ كله من الدين. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (¬1)، فجعل القول والعمل من الإيمان. وقال تعالى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124]، وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} [الفتح:4]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه مثقال برة أو خردلة من الإيمان)) (¬2)، فجعله متفاضلاً. الشرح قوله: ((والإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان، قال الله تعالى: ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه برقم (9)، ومسلم في صحيحه برقم (35) واللفظ له؛ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري في صحيحه برقم (44 - 7410)، ومسلم في صحيحه برقم (193) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، فجعل عبادة الله، وإخلاص القلب، وإقام الصلاة؛ كله من الدين. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (¬1)، فجعل القول والعمل من الإيمان)): يقرر الشيخ -رحمه الله- في هذا الفصل مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان، وأنه قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، فقول القلب اعتقاده، وقول اللسان الإقرار، وعمل القلب والجوارح: هي الأعمال الظاهرة والباطنة، ولهذا قال الشيخ -رحمه الله-: ((الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان -وهي الجوارح-، وعقد بالجنان -وهو القلب-، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان))، فأدخل الأعمال في مسمى الإيمان، خلافاً للمرجئة القائلين بأن الإيمان هو التصديق فقط، أو التصديق والإقرار، فأخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان. ومما يدل على دخول الأعمال في مسمى الإيمان: ما استدل به الشيخ من قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق))، فدل الحديث على أن جميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة من الإيمان. ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه برقم (9)، ومسلم في صحيحه برقم (35) واللفظ له؛ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

فصل في تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم -، والإيمان بالمغيبات

قوله: ((وقال تعالى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124]، وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} [الفتح:4]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه مثقال برة أو خردلة من الإيمان))، فجعله متفاضلاً)): ومن مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان: أنه يزيد وينقص، ويقوى ويضعف، خلافاً للمرجئة والوعيدية من الخوارج والمعتزلة الذين يقولون: إن الإيمان شيء واحد؛ إذا ذهب بعضه ذهب كله. والدليل على زيادة الإيمان ونقصانه من القرآن قوله تعالى: {إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124]، أي: السورة المنزلة، وقوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، وأيضاً قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:173]. ومما يدل على تفاضل الإيمان من السنة: حديث الشفاعة في خروج الموحدين من النار، وأنه يخرج منا كل من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال برة أو خردلة أو شعيرة من الإيمان. فصل في تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم -، والإيمان بالمغيبات ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصح به النقل عنه، فيما شاهدناه أو غاب عنا؛ نعلم أنه حق وصدق، وسواءٌ في ذلك ما عقلناه وجهلناه، ولم نطلع على حقيقة معناه.

مثل: حديث الإسراء والمعراج (¬1)، وكان يقظة لا مناماً، فإن قريشاً أنكرته وأكبرته، ولم تنكر المنامات. ومن ذلك: أن ملك الموت لما جاء إلى موسى - عليه السلام - ليقبض روحه لطمه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فرد عليه عينه (¬2). الشرح قوله: ((ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصح به النقل عنه، فيما شاهدناه أو غاب عنا؛ نعلم أنه حق وصدق، وسواءٌ في ذلك ما عقلناه وجهلناه، ولم نطلع على حقيقة معناه)): يبين الشيخ -رحمه الله- في هذا الفصل ما يجب اعتقاده فيما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغيب، وهو الإيمان بكل ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، وهذا مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، وموجب الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبالنور الذي جاء به، {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن:8]، ويجب مع الإيمان بهذه الأخبار المتعلقة بالغيوب: الإمساك عن البحث عن كيفيتها، والخوض في ذلك. قوله: ((مثل: حديث الإسراء والمعراج، وكان يقظة لا مناماً، فإن قريشاً أنكرته وأكبرته، ولم تنكر المنامات)): ومثل ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه برقم (3207)، ومسلم في صحيحه برقم (162). (¬2) رواه البخاري في صحيحه برقم (3407)، ومسلم في صحيحه برقم (2372) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

الشيخ -رحمه الله- لهذه الأخبار -وهي كثيرة في السنة- بقصة الإسراء والمعراج، فإنه أمر عظيم؛ أن يذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ويعرج حتى بلغ ما فوق السماوات السبع، ولقي من لقي من الأنبياء والملائكة، وفرض الله عليه الصلوات الخمس، وتردد بين ربه وموسى، كل ذلك في صحبة جبريل - عليه السلام -، ثم يعود من ليلته. كما نبه الشيخ على إبطال زعم من زعم أن ذلك كان مناماً -أي: رؤيا منام-، وأنه لو كان كذلك لما أنكرته قريش وطعنت به على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشبهوا به على بعض المؤمنين، حتى ارتد بعضهم. فالصواب أن الإسراء والمعراج كان بشخص النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ بروحه وبدنه، يقظة لا مناماً. قوله: ((ومن ذلك: أن ملك الموت لما جاء إلى موسى - عليه السلام - ليقبض روحه لطمه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فرد عليه عينه)): ومثل أيضاً بقصة ملك الموت مع موسى عليهما السلام حين جاء لقبض روحه، فصكه ففقأ عينه، إلى آخر القصة، فإنها كذلك حدث عجيب، تعرِّف بشيء من شأن الملائكة، والملائكة من عالم الغيب، الذي لا تبلغ العقول كنهه، والإيمان بهم على ما جاء في الكتاب والسنة: هو أحد أصول الإيمان، كما جاء في القرآن، وفي جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل حين سأله عن الإيمان.

ومن المغيبات التي يجب الإيمان بها: أشراط الساعة

ومن المغيبات التي يجب الإيمان بها: أشراط الساعة ومن ذلك: أشراط الساعة، مثل خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم - عليه السلام - فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مما صح به النقل. الشرح قوله: ((ومن ذلك: أشراط الساعة)): ومثل الشيخ أيضاً بأشراط الساعة؛ وهي: علاماتها، كما قال الله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَاتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18]، وأشراط الساعة مما يجب الإيمان به، وأهل السنة والجماعة يثبتونها ويؤمنون بها. وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأشياء كثيرة مما تكون قبل يوم القيامة؛ يعدها العلماء من أشراط الساعة، ومن ذلك: ما جاء في حديث جبريل أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((أخبرني عن الساعة))، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل))، قال: ((فأخبرني عن أماراتها؟)) قال: ((أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رِعاء الشاء يتطاولون في البنيان)) (¬1). ¬

_ (¬1) رواه مسلم في صحيحه برقم (8).

وأشراط الساعة عند أهل العلم نوعان: 1 - صغرى؛ وهي كثيرة جداً، تحدث شيئاً فشيئاً، وقد تتكرر. 2 - كبرى؛ وهي الأحداث العظيمة الدالة على قرب الساعة، ومنها ما ذكره المؤلف: قوله: ((مثل خروج الدجال)): وهو الإنسان الشرير، الذي يدَّعي النبوة، ثم يدَّعي الربوبية، ويأتي بأمور خارقة للعادة، وفيها فتنة لأكثر الناس، وقد حذَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته منه (¬1)، ووصفه ونعته وبيَّنه (¬2)، وشرع لنا الاستعاذة بالله منه في كل صلاة، كما جاء في الحديث: ((إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، ... وذكر منها: فتنة المسيح الدجال)) (¬3). ¬

_ (¬1) كما في حديث أنس عند البخاري في صحيحه برقم (7131) ومسلم في صحيحه برقم (2933) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما بُعث نبي إلا أنذر أمته الأعور الكذاب)). وجاء عند أبي داود في سننه برقم (4319) عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من سمع بالدجال فلينأ عنه)). (¬2) ومما جاء في وصفه ما رواه البخاري في صحيحه برقم (7131) ومسلم برقم (2933) عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر))، وعند مسلم: (ك ف ر). وفي رواية لمسلم برقم (169): ((ألا وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافئة))، وجاء عند أحمد في مسنده برقم (22764)، وأبي داود في سننه برقم (4320) عن عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفه بقوله: ((إن مسيح الدجال رجل قصير، أفحج، جعد، أعور، مطموس العين، ليس بناتئة ولا جحراء ...))، وجاءت أحاديث كثيرة في وصفه. (¬3) كما روى البخاري في صحيحه برقم (832) عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو قبل السلام بقوله: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال ...)). ومسلم في صحيحه برقم (588) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه: ((إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع ...)).

قوله: ((ونزول عيسى بن مريم - عليه السلام - فيقتله)): وهو المسيح ابن مريم، وهو مسيح الهدى، وذاك مسيح الضلالة، فيقتل مسيحُ الهدى مسيحَ الضلالة، كما ثبت في الأحاديث الصحاح (¬1)، حيث يخرج الدجال، ويعيث في الأرض ما شاء الله (¬2) فإذا أراد الله إهلاكه نزل المسيح ابن مريم من السماء فيقتله. ومن الأمور التي يجب الإيمان بها: أن الله رفع عيسى ابن مريم إليه، كما قال الله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:158]، وأنه ينزل في آخر الزمان، كما أخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((والذي نفسي بيده؛ ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع ¬

_ (¬1) من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه برقم (2137) من حديث النواس بن سمعان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فبينما هو -أي: الدجال- كذلك، إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مهرُودَتَين، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله)). (¬2) كما روى مسلم في صحيحه برقم (2137) من حديث النواس بن سمعان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنه خارج خلة بين الشام والعراق، فعاث يميناً وشمالاً، يا عباد الله فاثبتوا، قلنا: يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم)).

الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد)) (¬1)، وقال الله تعالى في شأن عيسى ابن مريم: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف:61]، وقرئ: {لَعَلَمٌ} أي: علامة على قربها (¬2). قوله: ((وخروج يأجوج ومأجوج)): وهم يخرجون أيضاً في عهد المسيح ابن مريم - عليه السلام -، وجاء الإخبار عن قدرتهم وفسادهم وإفسادهم، وقد ذكروا في القرآن؛ كما في قوله تعالى: {إِنَّ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [الكهف:94]، وكما في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَاجُوجُ وَمَاجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء:96]، فهم مفسدون أشرار، فإذا خرجوا وعاثوا في الأرض فساداً؛ بسفك الدماء، وقتل الأرواح، يتحصن المسلمون منهم، فيسلط الله عليهم داءً يصيبهم فيموتون (¬3)، ثم يسخر الله طيوراً تأخذ جثثهم وتلقيها حيث شاء الله (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه برقم (222)، ومسلم في صحيحه برقم (155)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) جامع البيان لابن جرير (20/ 631)، زاد المسير لابن الجوزي (7/ 325). (¬3) روى مسلم في صحيحه برقم (2137) من حديث النواس بن سمعان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعدما ذكر فسادهم وإفسادهم: ((فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فَرْسَى كموت نفس واحدة)). (¬4) في حديث النواس المتقدم: ((فيرسل الله طيراً كأعناق البخت، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله))، وجاء عند الترمذي في جامعه برقم (2240): ((فتحملهم فتطرحهم في المهبل))، قال ابن الأثير في النهاية (998): ((المهبل: الهوة الذاهبة في الأرض)).

قوله: ((وخروج الدابة)): وهذه العلامة من العلامات العظيمة التي دل عليها الكتاب والسنة، وذلك كما في قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النمل:82]، وكما جاء في الحديث الصحيح (¬1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تقوم الساعة ... وذكر منها: وخروج الدابة على الناس ضحى)). قوله: ((وطلوع الشمس من مغربها)): وهذه من الآيات العظام، بينما ينتظر الناس أن تطلع عليهم الشمس من المشرق؛ فإذا بها تطلع من المغرب، وهي (البعض) الذي قال الله فيه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَاتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَاتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَاتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَاتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، وجاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، فيومئذٍ: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا})) (¬2)، وحينئذٍ يغلق باب التوبة، فالكافر لا يقبل منه إيمان، والعاصي لا تقبل منه توبته، وفي الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أول الآيات طلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض من موضعها، فأيتهما خرج أولاً؛ فالأخرى على إثرها)) (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم في صحيحه برقم (2941) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري في صحيحه برقم (4635)، ومسلم في صحيحه برقم (157). (¬3) رواه مسلم في صحيحه برقم (2941).

ومن المغيبات التي يجب الإيمان بها: عذاب القبر ونعيمه

قوله: ((وأشباه ذلك مما صح به النقل)): فيجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما كان ويكون. ومن المغيبات التي يجب الإيمان بها: عذاب القبر ونعيمه وعذاب القبر ونعيمه حق، وقد استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - منه، وأمر به في كل صلاة، وفتنة القبر حق، وسؤال منكر ونكير حق. الشرح قوله: ((وعذاب القبر ونعيمه حق)): ومما يؤمن به أهل السنة والجماعة أيضاً: عذاب القبر ونعيمه، وأن القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة. فمن القرآن قوله تعالى في حق قوم فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، وأخبر سبحانه وتعالى أن الملائكة تقول للظالمين: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93]. وقال تعالى في المتقين: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32].

وقد تواترت السنة في نعيم القبر وعذابه، وذلك في نصوص كثيرة، وكذلك فتنة القبر، والسؤال، فيمتحنون في قبورهم ويُسألون، فإذا وضع الميت في قبره؛ أتاه ملكان فيسألانه: عن ربه؟ وعن دينه؟ وعن نبيه؟ وأنكرت ذلك بعض طوائف المبتدعة؛ حيث أنكروا عذاب القبر ونعيمه، لأن الروح بزعمهم عَرَضٌ لا حقيقة له، فلا تنعم ولا تعذب، وهذا باطل، ترده النصوص الصحيحة الصريحة. قوله: ((وقد استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - منه، وأمر به في كل صلاة)): حيث استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأمور العظيمة، من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن المسيح الدجال (¬1)، والأحاديث في الباب كثيرة. قوله: ((وفتنة القبر حق)): فإن الناس يفتنون في قبورهم، فأما المؤمن: فيجيب ويثبت في هذه الفتنة، فيفتح له باب إلى الجنة يأتيه من روحها وطيبها، وأما الكافر فيقول: هاه، هاه لا أدري؛ كما جاء في حديث البراء الطويل (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص 74) (¬2) رواه أحمد في مسنده برقم (18543)، وأبو داود في سننه برقم (4735)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (): ((رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح))، قال ابن القيم في كتاب الروح (ص 85): ((هذا حديث ثابت مشهور مستفيض، صححه جماعة من الحفاظ، ولا نعلم أحداً من أئمة الحديث طعن فيه، بل رروه في كتبهم، وتلقوه بالقبول، وجعلوه أصلاً من أصول الدين في عذاب القبر ونعيمه)).

ومن المغيبات التي يجب الإيمان بها: البعث بعد الموت، والحساب بعده

قوله: ((وسؤال منكر ونكير حق)): سؤال منكر ونكير هو فتنة القبر، وهو الامتحان، لكن أراد المؤلف بهذا: النص على تسمية الملكين بهذا، فإن الوارد في الصحيحين وغيرهما أنه: ((يأتيه ملكان ...))، وجاء عند الترمذي (¬1) تسميتهما: ((منكراً ونكيراً)). ثم شرع المؤلف -رحمه الله- في بيان عدد من المسائل التي يجب اعتقادها والإيمان بها، وأول تلك المسائل: هو الإيمان بالبعث، وما يتبع ذلك مما يأتي بعده من الأمور التي أخبر الله بها في كتابه، وأخبر عنها رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومن المغيبات التي يجب الإيمان بها: البعث بعد الموت، والحساب بعده والبعث بعد الموت حق، وذلك حين ينفخ إسرافيل - عليه السلام - في الصور، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس:51]، ويحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً بهماً، فيقفون في موقف القيامة؛ حتى يشفع فيهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويحاسبهم الله تبارك وتعالى، وتنصب الموازين، وتنشر الدواوين، وتتطاير صحائف الأعمال إلى الأَيمان والشمائل، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)} [الانشقاق]. ¬

_ (¬1) في جامعه برقم (1071) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه: ((أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، وللآخر: النكير)).

الشرح قوله: ((والبعث بعد الموت حق)): فأما البعث: فكل الأمم من أهل الملل تؤمن به؛ من اليهود والنصارى وغيرهم، وجميع فرق المسلمين كذلك. إلا الباطنية في حقيقة مذهبهم، والفلاسفة؛ فلا يؤمنون بالبعث، بل من الفلاسفة من يقول: إن البعث روحاني، فليس هناك بعث للأجساد من القبور، وإعادة الموتى أحياءً، والجنة والنار كذلك، كل هذا من الأمور المعنوية التي لا حقيقة لها، فليس هناك جنة ولا نار حقيقيتان فيهما ما ذكر في النصوص، بل كل هذا -عندهم- من التخييل. قوله: ((وذلك حين ينفخ إسرافيل - عليه السلام - في الصور، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس:51])): فالبعث بعد الموت: هو القيامة الكبرى، حين يؤمر إسرافيل بالنفخ في الصور، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، ففي الآية دليل أنهما نفختان: - نفخة الصعق. - ونفخة البعث؛ حيث ترد الأرواح إلى الأبدان بعد إنشاءها، فيقوم الناس من قبورهم: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}. قوله: ((ويحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً بهماً)):

يجمع الناس يومئذٍ من جميع أقطار الأرض، حفاة غير منتعلين، وعراة غير مكتسين، غرلاً غير مختونين، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الأمر أشد من أن يهمهم ذاك)) (¬1)، وذلك للرعب والخوف والفزع العظيم الحاصل في ذلك اليوم، فسبحان الله! قوله: ((فيقفون في موقف القيامة؛ حتى يشفع فيهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -)): فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع إلى ربه في الفصل بين عباده، بعد أن يترادَّ الأنبياء الشفاعة، فإذا اشتد بالناس الكرب؛ قالوا: انظروا من يشفع لكم إلى ربكم، فيأتون إلى آدم، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، وكلهم يعتذر عنها، ثم يأتون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فينهض ويأتي فيسجد لربه ويحمده، ثم يقال له: ((ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع)) (¬2). وهذه الشفاعة لأهل الموقف في أن يقضى بينهم؛ وهي: المقام المحمود، ولا ينكرها أحد من الفرق الإسلامية. قوله: ((ويحاسبهم الله تبارك وتعالى، وتنصب الموازين، وتنشر الدواوين، وتتطاير صحائف الأعمال إلى الأَيمان ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه برقم (6527)، ومسلم في صحيحه برقم (2859)، بدون لفظة (بهماً)، وجاءت في رواية عند أحمد في مسنده برقم (16024)، وجاء تفسيرها في نفس الرواية: ((قلنا: وما بهما؟ قال: ليس معهم شيء)). (¬2) رواه البخاري في صحيحه برقم (7410)، ومسلم في صحيحه برقم (193)، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

ومن المغيبات التي يجب الإيمان بها: الميزان والحوض والصراط

والشمائل، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)} [الانشقاق])): ووزن الأعمال، ونشر الصحف، وأخذ الكتاب باليمين أو الشمال؛ كل ذلك من صور الحساب، قال الله تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير:10]، وقال سبحانه: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَا كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء]. ومن المغيبات التي يجب الإيمان بها: الميزان والحوض والصراط والميزان له كفتان ولسان، توزن به الأعمال، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)} [المؤمنون]، ولنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حوض في القيامة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأباريقه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، والصراط حق، يجوزه الأبرار، ويزل عنه الفجار. الشرح قوله: ((والميزان له كفتان ولسان، توزن به الأعمال، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ

فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)} [المؤمنون])): وأما الميزان فقد دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة المتواترة، والميزان حقيقي، له كفتان، وقد ذكر الله تعالى الموازين في القرآن بقوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)} [المؤمنون]، وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] (¬1). قوله: ((ولنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حوض في القيامة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأباريقه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً)): ومما جاءت به النصوص مما يكون في الآخرة: الحوض لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، وهو حوض عظيم، جاء تحديده في روايات كثيرة، منها ما جاء في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منها فلا يظمأ أبداً)) (¬2)، وجاء أيضاً: ((عرضه مثل طوله؛ ما بين عمان إلى أيلة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل)) (¬3)، ترد ¬

_ (¬1) للاستزادة في بيان الميزان؛ انظر شرح العقيدة الطحاوية للشارح (ص 309). (¬2) رواه البخاري في صحيحه برقم (6579)، ومسلم في صحيحه برقم (2292)، وعنده زيادة: ((زواياه سواء، وماؤه أبيض من الورق)). (¬3) رواه مسلم في صحيحه برقم (2300).

عليه هذه الأمة ممن كان على دين الله، مستقيماً على شرع الله، أما من ارتد أو زاغ عن صراط الله وعن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يذاد عنه ويصد عنه، ويمنع من الورود كما تواترت بذلك سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قوله: ((والصراط حق، يجوزه الأبرار، ويزل عنه الفجار)): والصراط: جسر منصوب على متن جهنم، يمر عليه الناس ويعبرون، ويسير الناس عليه على قدر أعمالهم، وجاء وصف ذلك في الأحاديث الصحاح، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو، ومنهم من يمشي، ومنهم من يزحف، فناج مسلَّم، ومكدوس في النار (¬2). ¬

_ (¬1) جاء ذلك في عدة أحاديث منها ما رواه البخاري في صحيحه برقم (6582) -واللفظ له- ومسلم في صحيحه برقم (2304) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليردن علي ناس من أصحابي الحوض، حتى عرفتهم اختلجوا دوني؛ فأقول: أصيحابي! فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك)). (¬2) روى البخاري في صحيحه برقم (7439) ومسلم في صحيحه برقم (183) واللفظ له من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلم سلم، قيل يا رسول الله! وما لالجسر؟ قال: دحض مزلة، فيه خطاطيف وكلاليب، وحسك تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان، فيمر المؤمنون كطرف العين، وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم)).

الشفاعة

الشفاعة ويشفع نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر، فيخرجون بشفاعته بعدما احترقوا وصاروا فحماً وحمما، فيدخلون الجنة بشفاعته، ولسائر الأنبياء والمؤمنين والملائكة شفاعات، قال الله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]، ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين. الشرح قوله: ((ويشفع نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر، فيخرجون بشفاعته بعدما احترقوا وصاروا فحماً وحمما، فيدخلون الجنة بشفاعته)): هذه الشفاعة في أهل التوحيد ممن يدخل النار، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشفع في من دخل النار من أمته أربع مرات، في كل مرة يحد الله له حداً فيخرجهم من النار (¬1). والشفاعة في أهل التوحيد: هي التي ينكرها الخوارج والمعتزلة، لأنها تخالف أصلاً من أصولهم، وهو: القول بتخليد أهل الكبائر. وأما أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون: لا يخلد في النار إلا الكفار، أما عصاة الموحدين: فإنهم وإن دخلوا النار إلا أنهم ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه برقم (7410)، ومسلم في صحيحه برقم (193) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

يخرجون منها بعد أن ماتوا وصاروا حمما فحماً، ثم يلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحِبة في حميل السيل (¬1). قوله: ((ولسائر الأنبياء والمؤمنين والملائكة شفاعات، قال الله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28])): فكلهم يشفعون، وكل بحسبه. قوله: ((ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين)): كل هذه المسائل التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- مما يكون بعد الموت: مما يجب اعتقاده والإيمان به. فأهل السنة والجماعة يؤمنون بكل ما أخبر الله - عز وجل - به، وما أخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت، وكل ذلك داخل تحت الإيمان باليوم الآخر، فالإيمان باليوم الآخر يدخل فيه كل ما يكون بعد الموت، من فتنة القبر، وعذاب القبر، ونعيم القبر، والبعث، والنشور، وما يكون يوم القيامة من وزن الأعمال، وتطاير الصحف عن الأيمان والشمائل، ومحاسبة العباد، فكل ذلك يؤمنون به على مراد الله ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يبحثون عن كيفية هذه الأحداث والأمور العظيمة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه برقم (806)، ومسلم في صحيحه برقم (182) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال النووي في شرحه على مسلم (2/ 24) عند هذا الحديث: ((الحبة: فبكسر الحاء، وهي بزر البقول والعشب، تنبت في البراري وجوانب السيول، وجمعها: حبب، بكسر الحاء المهملة وفتح الباء. وأما حميل السيل: فبفتح الحاء وكسر الميم، وهو: ما جاء به السيل من طين أو غثاء، ومعناه: محمول السيل. والمراد: التشبيه في سرعة النبات وحسنه وطراوته)).

خلق الجنة والنار ودوامهما

خلق الجنة والنار ودوامهما والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، فالجنة مأوى أولياءه، والنار عقاب لأعداءه، وأهل الجنة فيها مخلدون، والمجرمون: {فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)} [الزخرف]، ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت. الشرح قوله: ((والجنة والنار مخلوقتان)): أي مخلوقتان الآن وموجودتان، والأدلة على ذلك كثيرة، فمن القرآن: - قوله تعالى في سورة النجم: {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَاوَى (15)}. - وقوله تعالى في سورة النحل: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)}. - وقال سبحانه في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]. - وقال في النار: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131]. - وقال سبحانه عن قوم فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].

والأحاديث في هذا الباب كثيرة أيضاً، فمنها: - أحاديث عذاب القبر ونعيمه، فكلها تدل على أن الجنة والنار موجودتان، ومنها: حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - في أنه يفتح للمؤمن باب إلى الجنة، ويفتح للكافر باب إلى النار (¬1). - وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أرواح الشهداء: ((أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل)) (¬2). - وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة)) (¬3). وأما المعتزلة فقالوا: إن الجنة والنار لم تخلقا، وإنما تخلقان يوم القيامة، وقالوا: إن خلقهما الآن عبث، وهذا كعادتهم في تحكيم عقولهم، وتقديمها على النصوص الشرعية، وهذا كلام ساقط. قوله: ((لا تفنيان)): فهما دائمتان، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة؛ خلافاً للجهم بن صفوان، فهو يزعم أن الجنة والنار تفنيان. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه مسلم في صحيحه برقم (1887). (¬3) رواه أحمد في مسنده برقم (15776)، والنسائي في سننه برقم (2073)، وابن ماجه في سننه برقم (4271)، من حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه -. وعند أحمد في مسنده برقم (27166) والترمذي في جامعه برقم (1641): ((أرواح الشهداء))، وهي لفظة شاذة كما بينه الألباني في الصحيحة (2/ 695 - ح 995).

والأدلة على دوام الجنة والنار كثيرة جداً، فمنها في بقاء الجنة: - قول الله تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. - وقوله تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48]. - وقوله تبارك وتعالى: {وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة:21]. - وقوله سبحانه: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54]. - وقوله جل وعلا: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد:35]. ومثلها في بقاء النار، ومنها: - قوله الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]. - وقوله سبحانه: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. - وقوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37 / التوبة:68]. والآيات في هذا الباب كثيرة، ومن الأدلة من السنة على دوام الجنة والنار، وخلود أهلهما فيهما: - حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً: أنه: ((يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت)) (¬1)، ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه برقم (4730)، ومسلم في صحيحه برقم (2849).

فصل في بعض ما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الواجبات والحقوق

وفُسر بذلك يوم الحسرة (¬1)، كما في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39]. وأما ما نسب إلى بعض أهل السنة من القول بفناء النار: فهو قول ليس عليه دليل ظاهر، بل الأدلة تقتضي دوام الجنة والنار. وأما قول الله تبارك وتعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]، فأحسن ما قيل في جوابه: أن فيه بيان أن خلود أهل الجنة وأهل النار فيهما: إنما ذلك بمشيئته سبحانه، فلو شاء لأفنى الجنة، ولو شاء لأفنى النار، فالأمر إليه، وهو بمشيئته، لكنه أخبر بخلودهما سبحانه. فصل في بعض ما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الواجبات والحقوق ومحمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، وسيد المرسلين، لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته، ولا يقضى بين الناس يوم القيامة إلا بشفاعته، ولا يدخل الجنة أمة إلا بعد أمته، صاحب لواء الحمد (¬2)، والمقام المحمود، والحوض المورود، وهو ¬

_ (¬1) فسره بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما في تتمة حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -. (¬2) روى الإمام أحمد في مسنده برقم (2546) والترمذي في جامعه (3148) وابن ماجه في سننه برقم (4308) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن نفسه يوم القيامة: ((وبيدي لواء الحمد ولا فخر)). من حديث أبي سعيد وابن عباس وأنس رضي الله عنهم أجمعين.

إمام النبيين وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم (¬1)، أمته خير الأمم. الشرح بعد أن ذكر المؤلف -رحمه الله- بعض ما يتعلق بالقرآن، وبعض ما يتعلق باليوم الآخر، أتبع ذلك بما يجب اعتقاده في رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو: محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب الهاشمي القرشي، الواجب الإيمان به، وأنه عبد الله ورسوله، فلا يصح إيمان أحد حتى يشهد بأنه عبدالله ورسوله، وأنه رسول الله إلى الناس كافة، كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]، وأنه خاتم النبيين، كما قال الله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]. فلا طريق إلى الله بعد مبعثه إلا باتباعه، فكل من طلب القربى إلى الله، وطلب النجاة من عذابه، والفوز بمرضاته؛ من غير طريق ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه خاسر، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، فلا هدى ولا رحمة ولا سعادة ولا فوز ولا فلاح إلا باتباعه - صلى الله عليه وسلم -، وهو رسول الله إلى جميع الناس، ولا بد من الإيمان بذلك، وكل من دان بغير شريعته فهو كافر هالك شقي إذا مات على ذلك، وهو من أهل النار. ¬

_ (¬1) روى الإمام أحمد في مسنده برقم (21245) والترمذي في جامعه برقم (3616) وابن ماجه في سننه برقم (4314) من حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم غير فخر)).

بيان بعض ما للخلفاء الراشدين من الواجبات والحقوق

وله - صلى الله عليه وسلم - فضائل عظيمة في الدنيا والآخرة، فهو صاحب المقام المحمود (¬1)، والحوض المورود (¬2)، وهو سيد ولد آدم على الإطلاق (¬3). ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم -: الشفاعة، وهي المقام المحمود -كما تقدم-، وأنه لا يدخل الجنة أحد قبله، ولا تدخل الجنة أمة قبل أمته، كما جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بَيْدَ أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم)) (¬4). بيان بعض ما للخلفاء الراشدين من الواجبات والحقوق وأصحابه خير أصحاب الأنبياء عليهم السلام، وأفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم ¬

_ (¬1) تقدم الكلام على المقام المحمود في (ص 82). (¬2) تقدم الكلام على الحوض في (ص 85). (¬3) روى البخاري في صحيحه برقم (4712) ومسلم في صحيحه برقم (194) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أنا سيد الناس يوم القيامة))، وروى مسلم في صحيحه برقم (2278) لفظ: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)). (¬4) رواه البخاري في صحيحه برقم (3486)، ومسلم في صحيحه برقم (855).

علي المرتضى، لما روى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((كنا نقول والنبي - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي)) (¬1)، ((فيبلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره)) (¬2)، وصحت الرواية عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: ((خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر)) (¬3)، ((ولو شئت لسميت الثالث)) (¬4)، وروى أبو الدرداء: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر)) (¬5)، وهو أحق خلق الله تعالى بالخلافة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لفضله وسابقته، وتقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم على تقديمه ومبايعته، ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة، ثم من بعده ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في سننه برقم (4627) والترمذي في جامعه برقم (3707)، وروى البخاري في صحيحه برقم (3655) عن ابن عمر بلفظ: ((كنا نخير بين الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -: فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، رضي الله عنهم))، وفي هذا الحديث لم يرد التربيع بعلي - رضي الله عنه -، وسيأتي كلام الشارح عليه. (¬2) هذه اللفظة زيادة ابن أبي عاصم في السنة (1193)، وقال عنها الألباني في ظلال الجنة: ((وهي زيادة ثابتة)). (¬3) رواه البخاري في صحيحه برقم (3671) من حديث محمد بن الحنفية، حكم عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بالتواتر كما في الواسطية (ص 260)، ومجموع الفتاوى (2/ 223). (¬4) هذه التتمة للحديث رواها الإمام أحمد في مسنده برقم (879) من مسند علي - رضي الله عنه -. (¬5) نسبه البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (7/ 149) إلى مسند عبد بن حميد من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - وتتمته: ((إلا أن يكون نبي)).

عمر - رضي الله عنه - لفضله، وعهد أبي بكر إليه، ثم عثمان - رضي الله عنه -، لتقديم أهل الشورى له، ثم علي لفضله، وإجماع أهل عصره عليه. وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون، والأئمة المهديون، الذين قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)) (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((الخلافة بعدي ثلاثون سنة)) (¬2)، فكان آخرها خلافة علي - رضي الله عنه -. الشرح بعدما ذكر المؤلف -رحمه الله- منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وذكر بعض ما له من الخصال والفضائل؛ ذكر أن أمته خير الأمم، فكما أنه خير الرسل، فأمته خير الأمم، كما قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وكما جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أنتم توفون سبعين أمة؛ أنتم خيرها وأكرمها على الله تبارك وتعالى)) (¬3)، وكما في الحديث المتفق عليه: ((خير الناس قرني، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص 24). (¬2) رواه الإمام أحمد في مسنده برقم (17144)، وأبو داود في سننه برقم (4646)، والترمذي في جامعه برقم (2226)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 724 - ح 459). (¬3) رواه الإمام أحمد في مسنده برقم (20015)، والترمذي في جامعه برقم (3001)، والنسائي في الكبرى برقم (11367)، وابن ماجه في سننه برقم (4288).

ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بَيْدَ أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم)) (¬2). ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- بعد ذلك: أن خير هذه الأمة: هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأدلة على فضلهم كثيرة جداً من الكتاب والسنة. قوله: ((وأفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى)): وخير الأمة وأفضل الصحابة على الإطلاق: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، هو صديق الأمة، وخيرها بعد نبيها، ثم عمر الفاروق - رضي الله عنه -، ثم عثمان ذو النورين - رضي الله عنه -، ثم علي المرتضى - رضي الله عنه -، وهذا الترتيب مما اتفق عليه أهل السنة (¬3). أما تقديم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فهذا فيه إجماع قطعي قائم من هذه الأمة من أولها إلى آخرها، وأما عثمان وعلي رضي الله عنهما فقد كان في المفاضلة بينهما خلاف، قال ابن تيمية -رحمه الله- في ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه برقم (2651)، ومسلم في صحيحه برقم (2533). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في العقيدة الواسطية: ((ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وغيره من ((أن خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر))، ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي، كما دلت عليه الآثار)). انظر شرح فضيلة الشيخ عبدالرحمن البراك على الواسطية (ص 260).

الواسطية: ((مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر أيهما أفضل؟ فقدم قوم عثمان وسكتوا، أو ربعوا بعلي، وقدم قوم علياً، وقوم توقفوا، لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان. وإن كانت المسألة -مسألة عثمان وعلي- ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن المسألة التي يضلل فيها: مسألة الخلافة، وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله)) (¬1)، فترتيبهم عند أهل السنة في الفضل كترتيبهم في الخلافة. وقد دلت الأدلة على فضل الخلفاء الراشدين عموماً وخصوصاً، وأشار المؤلف إلى فضل هؤلاء الأربعة، حيث ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((كنا نقول والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، فيبلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره)) (¬2)، وأما زيادة ((ثم علي))، فهذا لفظ ليس في الحديث، فلا أدري أسهو هو أم سقط قلم؟ حيث رواه الإمام البخاري (¬3) ولم يذكر هذه الزيادة، ولو صحت هذه الزيادة لما كان هناك مجال للاختلاف. قوله: ((وهو أحق خلق الله تعالى بالخلافة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لفضله وسابقته، وتقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - له في الصلاة على جميع ¬

_ (¬1) العقيدة الواسطية بشرح فضيلة الشيخ عبدالرحمن البراك (ص 260). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) في صحيحه برقم (3655)، وتقدم.

الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم على تقديمه ومبايعته، ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة)): ومن الأدلة على فضل أبي بكر - رضي الله عنه - وأنه الحق بالأمر والخلافة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدمه في إمامة الصلاة على غيره في مرض موته، وقال: ((مروا أبا بكر فليصل بالناس)) (¬1)، ولما سأله عمرو بن العاص - رضي الله عنه - بقوله: من أحب الناس إليك؟ قال: ((عائشة))، قال من الرجال؟ قال: ((أبوها)) (¬2)، فهو أحب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه، وفي الحديث المتفق عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، إن صاحبكم خليل الله)) (¬3)، فدلت النصوص على فضله، وأنه أفضل الأمة، وأقامه النبي - صلى الله عليه وسلم - مقامه في الصلاة بالناس في مرض موته. قوله: ((ثم من بعده عمر - رضي الله عنه - لفضله، وعهد أبي بكر إليه)): ثم بعد أبي بكر بالفضل والخلافة: عمر الفاروق - رضي الله عنه -، وقد ثبتت خلافته بعهد أبي بكر - رضي الله عنه - إليه، واستقامت بذلك الأمور، وقام عمر - رضي الله عنه - بالأمر خير قيام، كما جاء في الحديث المتفق عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بينا أنا نائم رأيتُني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ماشاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع بها ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه برقم (664)، ومسلم في صحيحه برقم (418)، من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) رواه البخاري في صحيحه برقم (3662)، ومسلم في صحيحه برقم (2384). (¬3) رواه البخاري في صحيحه برقم (3654)، ومسلم في صحيحه برقم (2383)، واللفظ له.

ذنوباً أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غرباً، فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقرياً من الناس ينزع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن)) (¬1)، حيث فتح الفتوح في خلافته، وانتشر الإسلام في أقطار الأرض. قوله: ((ثم عثمان - رضي الله عنه -، لتقديم أهل الشورى له)): حيث عهد عمر - رضي الله عنه - بالأمر إلى ستة من الصحابة، وهم أهل الشورى، وهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهم أجمعين، وشاور عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - الناس فقال: ((لم أر الناس يعدلون بعثمان أحداً))، فتم الأمر له باتفاق المهاجرين والأنصار (¬2)، ولذلك نقل عن بعض السلف: ((من طعن في خلافة عثمان؛ فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار)) (¬3). قوله: ((ثم علي لفضله)): فهو رابع الخلفاء الراشدين، وهو أفضل الصحابة بعد الثلاثة. وأما قوله: ((وإجماع أهل عصره عليه)): فليس بمستقيم، فلم يجمع الصحابة على خلافته، بل نازعه في ذلك أهل الشام، وامتنعوا عن مبايعته، ولم يتم له الأمر، لكن باتفاق أهل السنة ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه برقم (3664)، ومسلم في صحيحه برقم (2392)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) انظر تفصيل ذلك في البداية والنهاية لابن كثير (9/ 414). (¬3) نقله شيخ الإسلام ابن تيمية عن: أيوب السختياني، وأحمد بن حنبل، والدارقطني، كما في مجموع الفتاوى (4/ 426).

والجماعة أنه رابع الخلفاء الراشدين، وأنه أفضل الصحابة بعد الثلاثة، وحتى أهل الشام لا ينازعون في فضله، ولا في أحقيته بالأمر، لكن لشبه عرضت لهم بسبب مقتل عثمان - رضي الله عنه -، فامتنعوا لأجلها عن مبايعة علي - رضي الله عنه -، وجرى من جراء ذلك فتناً عظيمة (¬1). ثم بمقتل علي - رضي الله عنه - واستخلاف ابنه الحسن - رضي الله عنه -، وبعد ستة أشهر رأى الحسن أن الأمر لا يمكن أن يستقيم، ولا يصلح أمر الأمة مع هذا النزاع؛ فتنازل عن الأمر لمعاوية - رضي الله عنه -، فاجتمعت الكلمة، وسمي ذلك العام: عام الجماعة، وتحقق فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) (¬2). ومن أفضل ما جرى لعلي - رضي الله عنه - في خلافته: قتله للخوارج، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((تمرق مارقة من الدين على حين فرقة من المسلمين، يقتلها أولى الطائفتين بالحق)) (¬3). وقد ضل في هذا الأمر: الرافضة، حيث ضلوا في الصحابة عموماً، وفي أمر الخلفاء الثلاثة خصوصاً، فجمعوا بين عداوة جمهور الصحابة وبغضهم، وبين الغلو في علي وأهل بيته، ولهم ¬

_ (¬1) انظر موقف المسلم من الفتن التي جرت بين الصحابة في شرح فضيلة الشيخ عبدالرحمن البراك على الواسطية (ص 272)، وعلى الطحاوية (ص 361). (¬2) رواه البخاري في صحيحه برقم (2704) من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه مسلم في صحيحه برقم (113)، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

في هذا فنون وأقاويل وجهالات تدل على سخف عقولهم وسفههم، فمذهب الرفض مذهب خبيث، ومذهب في غاية الضلالة والبعد عن الصراط المستقيم، وقد أصيبت هذه الأمة بهذا المذهب وبأهله مصاباً جللاً مذ كانوا ومذ نبتوا، وقد بدأت هذه الطائفة في عهد علي - رضي الله عنه -، وأول من ظهر منهم: السبئية، حيث أظهروا تأليه علي - رضي الله عنه -، ولما ظهر عليهم علي - رضي الله عنه - سجدوا له، فأنكر عليهم، فقالوا: أنت إلهنا، فأمر بتحريقهم، وقال البيت المشهور: لما رأيت الأمر أمراً منكراً ... أججت ناري ودعوت قمبراً (¬1). وهذا لم يزد من كان عنده هذا المرض إلا بعداً وضلالة، ثم احتجوا بعد هذا بحجة شيطانية؛ فقالوا: إن تحريقه دليل على ألوهيته، لأنه: ((لا يعذب بالنار إلا رب النار)) (¬2)، ثم انقسمت الرافضة إلى طوائف (¬3)، حتى على عهد علي - رضي الله عنه -، ومنها: - الغلاة: وهم السبئية، الذين يقولون: بإلهية علي - رضي الله عنه -، والذين من بعدهم قالوا: بإلهيته وإلهية الأئمة من بعده، وهذا المذهب سرى في الإسماعيلية والنصيرية. ¬

_ (¬1) انظر هذه القصة وتعليق شيخ الإسلام عليها في مجموع الفتاوى (35/ 185). (¬2) رواه الإمام أحمد في مسنده برقم (16034)، وأبو داود في سننه برقم (2673). (¬3) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/ 407)، وشرح فضيلة الشيخ عبدالرحمن البراك على الطحاوية (ص 379).

أحكام الشهادة لمعين بجنة أو نار

- ومنهم فرقة تدعى: السبابة، الذين يسبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. - ومنهم: المفضلة، الذين يفضلون علياً على أبي بكر وعمر من دون سب لهما. والمذهب الظاهر للفرقة الاثني عشرية المشهورة التي يقوم عليها مذهب الرافضة في إيران: أنهم سبابة، ويقولون: بعصمة الأئمة الاثني عشر، وآخرهم: الإمام المنتظر المزعوم. والخوارج -على ما عندهم من بدعة وضلال- خير من الرافضة بكثير. أحكام الشهادة لمعين بجنة أو نار ونشهد للعشرة بالجنة، كما شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وعبدالرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة))، وكل من شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة شهدنا له بها، كقوله: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة))، وقوله لثابت بن قيس: ((إنه من أهل الجنة))، ولا نجزم لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار إلا من جزم له الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا نشهد لمعين بجنة ولا بنار؛ إلا لمن ورد به النص، لكن نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء.

الشرح بعدما ذكر المؤلف -رحمه الله- فضل الخلفاء الراشدين، وأنهم في الفضل على ترتيبهم في الخلافة؛ قال: ((ونشهد للعشرة بالجنة))، كما شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، جاء ذلك من رواية عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - (¬1)، ورواية سعيد بن زيد - رضي الله عنه - (¬2). وهم: الخلفاء الراشدون الأربعة، ((وطلحة)) بن عبيد الله، ((والزبير)) بن العوام، ((وسعد)) بن أبي وقاص، ((وسعيد)) بن زيد، ((وعبدالرحمن بن عوف، وأبو عبيدة)) عامر ((بن الجراح))، رضي الله عنهم أجمعين، فهؤلاء العشرة ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عدهم وشهد لهم بالجنة، وأهل السنة والجماعة يشهدون لكل من شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، إيماناً بالله ورسوله، وتصديقاً لخبره - صلى الله عليه وسلم -، وهو الصادق المصدوق. قوله: ((وكل من شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة شهدنا له بها، كقوله: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)) (¬3)، وقوله لثابت بن ¬

_ (¬1) رواه أحمد في مسنده برقم (1675)، والترمذي في جامعه برقم (3747). (¬2) رواه أحمد في مسنده برقم (1629)، وأبو داود في سننه برقم (4648)، والترمذي في جامعه برقم (3748)، وقال: ((وسمعت محمداً -يعني البخاري- يقول: هو أصح من الحديث الأول)) أي: حديث ابن زيد أصح من حديث ابن عوف رضي الله عنهما، وابن ماجه في سننه برقم (133). (¬3) رواه أحمد في مسنده برقم (10999)، والترمذي في جامعه برقم (3768)، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وابن ماجه برقم (118)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

قيس: ((إنه من أهل الجنة)) (¬1): سواء كان المشهود له من هؤلاء العشرة أو من غيرهم، كالحسن والحسين، وثابت بن قيس، رضي الله عنهم. بل كل أهل بيعة الرضوان نشهد لهم بالجنة، لأن الله تعالى قال عنهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة)) (¬2). قوله: ((ولا نجزم لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار إلا من جزم له الرسول - صلى الله عليه وسلم -)): أهل القبلة هم: كل من يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولم يظهر منهم ناقض من نواقض الإيمان التي توجب ردته، والعبارة الثانية تأكيد للعبارة الأولى. فلا نشهد لأحد منهم بجنة ولا نار، فلا نشهد لعصاتهم أو لمبتدعتهم بالنار، ولا لأهل الطاعة منهم بالجنة؛ إلا بالنص الصحيح. قوله: ((لكن نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء)): فنعلم أن الذنوب والمعاصي سبب للعقاب، ودخول النار، وأن الإيمان والتقوى سبب للنجاة والفوز والسعادة. ¬

_ (¬1) قطعة من حديث رواه البخاري في صحيحه برقم (3613)، ومسلم في صحيحه برقم (119) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم في صحيحه برقم (2496) من حديث جابر - رضي الله عنه - بلفظ قريب من هذا، وأخرجه بهذا اللفظ: أحمد في مسنده برقم (14778)، وأبو داود في سننه برقم (4653)، والترمذي في جامعه برقم (3860).

تكفير المعين

تكفير المعين ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه عن الإسلام بعمل. الشرح قوله: ((ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه عن الإسلام بعمل)): فلا نحكم على أحد من المسلمين بسبب ذنب ارتكبه، مما هو من دون الشرك والكفر. فمن المعاصي ما هو كفر أو شرك في نفسها؛ كعبادة غير الله، أو سب الله تعالى، أو سب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والاستهانة بالمصحف، ومنها ما هو دون ذلك. وهذه العبارة من المؤلف فيها نظر؛ وقد استعملها الإمام الطحاوي -رحمه الله- في متن عقيدته، وتعقبه ابن أبي العز -رحمه الله- في شرحه بقوله: ((ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: ((بأنا لا نكفر أحداً بذنب))، بل يقال: ((لا نكفرهم بكل ذنب))، كما تفعله الخوارج. وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم، مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب. ولهذا -والله أعلم- قيده الشيخ -رحمه الله- بقوله: ((ما لم يستحله)) (¬1) أ. هـ. ¬

_ (¬1) انظر شرح ابن أبي العز لمتن الطحاوية وتعقبه (ص 433)، وشرح فضيلة الشيخ عبدالرحمن البراك على الطحاوية (ص 214).

والذين يكفرون بالمعاصي هم الخوارج، وهم الذين ابتدعوا بدعة التكفير بالذنوب، فعندهم أن الزاني والسارق وشارب الخمر والقاتل وغيرهم من أصحاب المعاصي كلهم كفار، ولهم عدد من الشبه. منها: مجيء بعض النصوص بتسمية بعض الذنوب كفراً، مع اتفاق أهل السنة والجماعة على كونها ليست كفراً، ولو كانت كفراً لوجب قتل فاعلها لكونه مرتداً، وشأن الخوارج معروف، وقد وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وذمهم، وحذر منهم، وحث على قتالهم، وقاتلهم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم. وقد جرى المعتزلة مجرى الخوارج، فقالوا: إن مرتكب الكبيرة يكون في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، ووافقوا الخوارج في مآله في الآخرة بتخليد أهل الكبائر في النار. أما أهل السنة والجماعة: فإنهم لا يكفرون بكل ذنب، بل الذنوب التي دون الكفر؛ هي من المعاصي، وسبب للعقاب، وهم في الآخرة تحت المشيئة، على حد قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48/ 116]، ولذلك قال الطحاوي -رحمه الله- في عقيدته المشهورة: ((وأهل الكبائر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين)) (¬1). ¬

_ (¬1) انظر شرح فضيلة الشيخ عبدالرحمن البراك على الطحاوية (252).

من أحكام الإمامة

من أحكام الإمامة (¬1) ونرى الحج والجهاد ماضيين مع كل إمام؛ براً كان أو فاجراً، وصلاة الجمعة خلفهم جائزة، قال أنس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ولانكفره بذنب سبق، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله - عز وجل -، حتى يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار))، رواه أبو داود. الشرح قوله: ((ونرى الحج والجهاد ماضيين مع كل إمام؛ براً كان أو فاجراً)): هذا هو منهج أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، خلافاً لأهل البدع، فأهل السنة والجماعة يجاهدون مع كل إمام؛ ولو كان فاجراً، لأن فجوره على نفسه، فما دام أن الراية المرفوعة راية جهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، ولقتال أعداء الله، وكسر شوكتهم، وفتح البلاد، ونشر دين الإسلام؛ فإنه يجاهد تحتها، ولا يخرج عنها، ويترك الجهاد بسبب فجور أميرها أو فسقه، بل هذا يسبب تعطيل هذه الشعائر، فإن كانت نية الإمام صالحة نفعه ذلك، وإن أراد مطامع دنيوية فعليه ذلك، ولا يضر إلا نفسه. قوله: ((وصلاة الجمعة خلفهم جائزة)): ومن منهج أهل ¬

_ (¬1) ستأتي تتمة لهذا الفصل في (ص 113).

السنة والجماعة: إقامة الشعائر خلف الولاة، وإن كانوا أهل فجور وفسق، فيرون إقامة صلاة الجماعة والجمع والأعياد ونحوها، ولا تعطل هذه الشعائر بسبب فجور الإمام. قوله: ((قال أنس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ولانكفره بذنب سبق، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله - عز وجل -، حتى يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار))، رواه أبو داود)) (¬1): هذا الحديث ضعيف بهذا اللفظ، لكنه تضمن جملة من الأمور التي دلت عليها النصوص والأصول الشرعية، منها: - الكف عن الكافر إذا أعلن إسلامه وقال: ((لا إله إلا الله))، كما في قصة أسامة بن زيد - رضي الله عنه -، حينما قتل ذلك الرجل الذي نطق بالشهادة (¬2)، ثم بعد ذلك ينظر في أمره؛ فإن استقام وحسن إسلامه ولم يأت بناقض من نواقض الإسلام؛ وإلا حل دمه، كما في الحديث: ((من بدل دينه فاقتلوه)) (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في سننه برقم (2532)، وقال الزيلعي في نصب الراية (3/ 377): ((قال المنذري في مختصره: ((يزيد بن أبي نشبة في معنى المجهول)). وقال عبدالحق: ((يزيد بن أبي نشبة هو رجل من بني سليم، لم يرو عنه إلا جعفر بن برقان))، انتهى))، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (2/ 311). (¬2) روى القصة البخاري في صحيحه برقم (4269)، ومسلم في صحيحه برقم (96). (¬3) رواه البخاري في صحيحه برقم (3017)، من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -.

بيان بعض ما لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الواجبات والحقوق

قوله: ((ولانكفره بذنب سبق، ولا نخرجه من الإسلام بعمل)): تقدم قريباً الكلام على مثل هذه العبارة من كلام المؤلف -رحمه الله- في الفصل السابق. قوله: ((والإيمان بالأقدار)): وهذا أحد أصول الإيمان العظام، كما في الحديث الصحيح: ((وتؤمن بالقدر خيره وشره)) (¬1). بيان بعض ما لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الواجبات والحقوق ومن السنة تولي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومحبتهم، وذكر محاسنهم، والترحم عليهم، والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساوئهم، وما شجر بينهم، واعتقاد فضلهم، ومعرفة سابقتهم، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبوا أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الشرح قوله: ((ومن السنة)): أي: ومن السنة التي يجب اتباعها، وهي: الطريقة المثلى. قوله: ((تولي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومحبتهم، وذكر محاسنهم، والترحم عليهم، والاستغفار لهم)): أي: موالاتهم، ومحبتهم، ومعرفة فضلهم، وإنزال كل منزلته، وذكرهم بالجميل، وبغض من يبغضهم، هذا هو الواجب لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم خيار هذه الأمة، فإذا كان يجب على المؤمن محبة المؤمنين، وبغض الكافرين؛ فأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق بالمحبة والتقدير والتعظيم من سائر المؤمنين، لسابقتهم، وعلو منزلتهم، فهم خير هذه الأمة على الإطلاق، كما صح في الحديث: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) (¬1)، وهم على منازلهم، فبعضهم أفضل من بعض -كما تقدم-، فأفضلهم: الخلفاء الأربعة الراشدون، وأفضلهم: أبو بكر الصديق، ثم عمر الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين، ثم بقية العشرة، ثم أهل بيعة الرضوان، وهكذا. وقد أثنى الله تعالى على صحابة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأثنى على الذين لا يكون في قلوبهم غلٌّ عليهم، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

بيان بعض ما لأزواج سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - من الواجبات والحقوق

رَحِيمٌ} [الحشر:10]، وكذلك في سورة الفتح، ذكر الله صفاتهم، وأثنى عليهم، فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح:29]. ومن الأحاديث الواردة في فضلهم، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبوا أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) (¬1)، وهذا فضل عظيم، وقد قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالد بن الوليد - رضي الله عنه - وقد تأخر إسلامه- حينما كان بينه وبين عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - بعض ما يكون، فسبَّ خالدٌ عبدَالرحمن، فأنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه، وقال له هذا الحديث (¬2)، وعبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - من السابقين الأولين، فله الصحبة الخاصة، والمزية العالية. والصحبة ليست مرتبة واحدة، بل مراتب متفاوتة، فأين من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ بعثته وحتى وفاته ممن صحبه ساعة؟! بيان بعض ما لأزواج سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - من الواجبات والحقوق ومن السنة الترضي عن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أمهات المؤمنين، المطهرات المبرءات من كل سوء، أفضلهن خديجة بنت خويلد، وعائشة بنت الصديق؛ التي برأها الله سبحانه وتعالى في ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه برقم (3673)، ومسلم في صحيحه برقم (2540). (¬2) انظر سبب ورود الحديث في مسلم برقم (2541).

كتابه، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة، فمن قذفها بما برأها الله منه فقد كفر بالله العظيم. الشرح قوله: ((ومن السنة الترضي عن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أمهات المؤمنين، المطهرات المبرءات من كل سوء)): انتقل الشيخ -رحمه الله- إلى بيان حقوق أمهات المؤمنين، أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومجموعهن إحدى عشرة (¬1)، واللواتي اجتعن في عصمته: تسع، حيث مات - صلى الله عليه وسلم - وفي عصمته تسع نسوة، وقد سماهن الله - عز وجل - بهذا اللقب؛ كما في قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]، وحرم الله نكاحهن بعده كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53]، وقد اجتمع لهن فضل الصحبة، وفضل الزوجية؛ بكونهن أزواجاً له - صلى الله عليه وسلم -، ومن عقيدة أهل السنة والجماعة: أنهن أزواجه في الآخرة. والترضي عنهن: دليل على الاعتراف بفضلهن، والإيمان بفضائلهن، ويدل على معرفة قدرهن؛ رضي الله عنهن. ¬

_ (¬1) وهن: (خديجة بنت خويلد - سودة بنت زمعة - عائشة بنت أبي بكر الصديق - حفصة بنت عمر بن الخطاب - زينب بنت خزيمة - أم سلمة هند بنت أبي أمية - زينب بنت جحش - جويرية بنت الحارث - أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان - صفية بنت حيي بن أخطب - ميمونة بنت الحارث). رضي الله عنهن. انظر: زاد المعاد (1/ 102)، والرحيق المختوم (ص 504).

قوله: ((خديجة بنت خويلد، وعائشة بنت الصديق)): للفضائل الثابتة في حقهن، وأهل السنة والجماعة: منهم من يفضل عائشة على خديجة، ومنهم من يفضل خديجة على عائشة، ومنهم من يقول: كل منهما أفضل من وجه (¬1). قوله: ((التي برأها الله سبحانه وتعالى في كتابه، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة، فمن قذفها بما برأها الله منه فقد كفر بالله العظيم)): أي من قذفها بالزنا؛ فهو كافر بالله العظيم؛ لأنه تكذيب لله - عز وجل -، وتكذيب لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وطعن في جنابه عليه الصلاة والسلام (¬2). والذين اشتهر عنهم هذا القذف: هم الرافضة البعداء البغضاء، شر طوائف الأمة على الإطلاق، فيصرح بعضهم بذلك، وبعضهم يستعمل التَّقِيَّة، وإن كانوا يتدينون بها، ويأخذون بها في غالب أحوالهم. وقد فضحهم الله تعالى في هذه العصور بما يسر من وسائل ¬

_ (¬1) قال الشارح فضيلة الشيخ عبدالرحمن البراك في شرحه على الواسطية (ص 271): ((وأهل السنة مختلفون في المفاضلة بينهما، فقوم فضلوا عائشة، وقوم فضلوا خديجة، ومنهم من قال: إن هذه أفضل من وجه، وهذه أفضل من وجه. وعندي -والله أعلم- أن القول بتفضيل خديجة؛ قول قوي، لأدلة كثيرة دالة على فضلها، وكلهن فُضْليات، رضي الله عنهن)). وراجع شرحه على الطحاوية (ص 374). (¬2) لقوله تعالى في سورة النور: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وما بعدها من الآيات، انظر: صحيح البخاري برقم (4749)، وصحيح مسلم برقم (2770)، وتفسير ابن كثير (10/ 179).

منزلة معاوية - رضي الله عنه -

الضبط والتسجيل والرصد لما يقولون وما يكتبون، حتى تكشفت عوراتهم بما ظهر من كتبهم ومؤلفاتهم، وما سجل من أصواتهم، والحمد لله رب العالمين. منزلة معاوية - رضي الله عنه - ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، أحد خلفاء المسلمين؛ رضي الله عنهم. الشرح انتقل المؤلف -رحمه الله- إلى بيان حق معاوية - رضي الله عنه -، وهو معاوية بن أبي سفيان، وهو أحد الصحابة الكرام، هو وأبوه من مسلمة الفتح، الذين يقال لهم: الطلقاء (¬1). قوله: ((خال المؤمنين)): هذا لقب لمعاوية - رضي الله عنه -، لأنه أخ لأم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهم، فأخوها إذاً: خال المؤمنين، فهذا وجه تلقيبه بهذا اللقب، وهذا توصيف لا أدري من ابتدأه (¬2). قوله: ((وكاتب وحي الله)): وهذه فضيلة عظيمة من فضائله - رضي الله عنه -. قوله: ((أحد خلفاء المسلمين)): يعني الخلافة العامة، ¬

_ (¬1) انظر تتمة سيرته في سير أعلام النبلاء للذهبي (3/ 120). (¬2) انظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية (4/ 369).

بيان معتقد أهل السنة والجماعة في وجوب الطاعة لأئمة المسلمين

لأن كل من قام مقام من قبله فهو خليفة له، وقد ذكر ابن تيمية -رحمه الله- أن معاوية أول ملوك المسلمين (¬1)، لأن الذين قبله هم الخلفاء الراشدون، الذين كانت خلافتهم خلافة نبوة، أما بعدهم: فهو مُلك، لكن هؤلاء الملوك يسمون خلفاء، كما يقال: خلفاء بني أمية، وخلفاء بني العباس، وهكذا؛ فيوصفون بهذا الاعتبار. فاجتمع لمعاوية - رضي الله عنه - فضل الصحبة، وفضل كتابة الوحي، وفضل المصاهرة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، من جهة أنه أخ لأم المؤمنين، فرضي الله عنه ورحمه. بيان معتقد أهل السنة والجماعة في وجوب الطاعة لأئمة المسلمين (¬2) ومن السنة: السمع والطاعة لأئمة المسلمين، وأمراء المؤمنين، برهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله، ومن ولي الخلافة، واجتمع عليه ¬

_ (¬1) كما في مجموع الفتاوى (4/ 478) حيث قال: ((واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك؛ كان ملكه ملكاً ورحمة؛ كما جاء في الحديث: ((يكون الملك نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة ...)). وانظر تخريج هذا الحديث في السلسلة الصحيحة للألباني (1/ 8 - ح 5). (¬2) انظر ما سبق بيانه في (ص 5).

الناس، ورضوا به، أو غلبهم بسيفه، حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين؛ وجبت طاعته، وحرمت مخالفته، والخروج عليه، وشق عصا المسلمين. الشرح قوله: ((ومن السنة)): التي تواترت فيها الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومضى عليها السلف الصالح، والتابعون لهم بإحسان من أهل السنة والجماعة: ((السمع والطاعة لأئمة المسلمين، وأمراء المؤمنين، برهم وفاجرهم)). قوله: ((ما لم يأمروا بمعصية الله، فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله)): فالطاعة التي تجب لهم: هي الطاعة في المعروف، فلا يطاعون -هم ولا غيرهم- في معصية الله - عز وجل -، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الطاعة في المعروف)) (¬1)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره؛ إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) (¬2)، هذا الذي عليه أهل السنة والجماعة (¬3). قوله: ((ومن ولي الخلافة، واجتمع عليه الناس، ورضوا ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه برقم (4340)، ومسلم في صحيحه برقم (1840)، من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري في صحيحه برقم (7144)، ومسلم في صحيحه برقم (1839)، من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما. (¬3) انظر شرح الطحاوية لفضيلة الشيخ عبدالرحمن البراك (ص 268).

به، أو غلبهم بسيفه، حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين؛ وجبت طاعته، وحرمت مخالفته، والخروج عليه، وشق عصا المسلمين)): أشار المؤلف -رحمه الله- إلى ما تثبت به الولاية، والإمامة الكبرى: - فمن ولي أمر المسلمين، واجتمعوا عليه، ورضوا به؛ بأن يكون تولى برضاهم واختيارهم: فقد ثبتت إمامته، ووجب له السمع والطاعة. - وكذلك: من غلبهم بسيفه، ثم اجتمع عليه الناس، فإنه تثبت بذلك ولايته، ويستقر الأمر، ولا يحل لأحد الخروج عليه؛ لأن الخروج عليه حينئذٍ فساد عريض، ويفتح بهذا باب التناحر بين الأمة، وسفك الدماء، وانتهاك الحرمات، وهذا هو الذي درج عليه أهل السنة والجماعة؛ من عدم الخروج على ولاة الأمور؛ وإن كانوا فجاراً، أو وقع منهم ظلم؛ فيطاعون بالمعروف، ويعانون على ما شرع الله، كما جاء في الصحيح عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أنه قال: ((بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله؛ إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله فيه برهان)) (¬1). وهذا موطن قد غلط فيه كثير من الناس، جهلاً وهوى وخطأ، فيجب على الإنسان أن يدين بالسمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف، وأن يدين بتحريم الخروج عليهم، وأن لا يعين أحداً ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه برقم (7056)، ومسلم في صحيحه برقم (1709).

موقف أهل السنة والجماعة من البدع وأهلها

على الخروج؛ لا بالقول ولا بالفعل، وحسابهم على الله تعالى في ظلمهم وفجورهم وعصيانهم، وهذا هو ما يعتقده أهل السنة والجماعة. خلافاً للخوارج والمعتزلة؛ الذين من مذهبهم الخروج على ولاة الأمور، بحجة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول المعتزلة، ويدرجون فيه: الخروج على الولاة (¬1). لكن عند أهل السنة والجماعة: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم على قاعدة عظيمة؛ هي: ((احتمال أدنى المفسدتين لتحقيق أعلاهما))، فالخروج على ولاة الأمور باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى مزيد من المنكر، وتتفاقم بذلك الشرور والفتن. موقف أهل السنة والجماعة من البدع وأهلها ومن السنة: هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين، وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم، وكل محدثة بدعة، وكل متسم بغير الإسلام مبتدع، كالرافضة، والجهمية، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، والمعتزلة، والكرامية، والكلابية، والسالمية، ونظائرهم؛ فهذه فرق الضلال، وطوائف البدع، أعاذنا الله منها. ¬

_ (¬1) انظر شرح الطحاوية لفضيلة الشيخ عبدالرحمن البراك (ص 420).

الشرح قوله: ((ومن السنة: هجران أهل البدع، ومباينتهم)): وذلك بالإعراض عنهم، وترك مجالستهم، إما زجراً لهم عن بدعتهم، وإما اتقاء لشرهم، لأن مجالستهم تجر إلى الوقوع في بدعتهم، وإلى التهاون في شأن البدع التي هم عليها. والهجر إما أن يكون تأديباً وزجراً من باب إنكار المنكر، وإما أن يكون توقياً للشر الذي هم عليه. وهذا لا يمنع من دعوتهم لمن رأى من نفسه ذلك، ورأى للدعوة مجالاً، وكان ممن يحسن الحجاج، والرد على الخصوم، لأن أهل البدع والكلام أصحاب جدل وشبهات، فيحتاج من يدعوهم إلى علم يرد به عليهم، ويدحض الشبهات. قوله: ((وترك الجدال والخصومات في الدين)): وذلك بالخصومات التي لا طائل تحتها، بل على المسلم أن يتعلم الحق، ولا يدخل في معامع الجدل والمناظرات التي يقصد من وراءها الانتصار على الخصم؛ لا إحقاق الحق. لكن إن تهيأت الأسباب للمناظرة التي ينصر بها الحق، ويدحض بها الباطل؛ فإن الله تعالى يقول: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، فيكون حينئذ من طرق الدعوة. قوله: ((وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم)): لأن النظر فيها يؤدي إلى وقوع الشبهات في القلب،

وقد لا يستطيع الإنسان دفعها عن نفسه، فإما أن تولد عنده شكوكاً، أو تزعزع يقينه وإيمانه، فلا ينبغي النظر في كتبهم الكلامية، التي تشتمل على الاعتقادات الباطلة، والشبهات التي يعارض بها الحق. اللهم إلا أهل الشأن وأهل التخصص الذين عندهم من البصيرة في الدين، والقدرة على دحض الشبهات؛ فهؤلاء لهم شأن آخر، وينظر فيها بقدر ما يحصل به المقصود من بيان زيف أقاويلهم واستدلالاتهم وحججهم. ومن أعظم من برز في هذا: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فله الاطلاع الواسع على كتب الطوائف وأرباب النحل من المبتدعة؛ كالمعتزلة والأشاعرة والفلاسفة والرافضة وغيرهم، وقد سدده الله؛ فألف المؤلفات في الرد على هذه الطوائف، وناقش أقوالهم مناقشة بديعة هائلة عظيمة، وصارت مصدراً لطلاب العلم الذين يريدون البيان ودحض الشبهات، فأحسن الله جزاءه عن الإسلام والمسلمين خيراً. قوله: ((وكل محدثة بدعة)): دليل هذه الجملة قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (¬1)، أي: مردود، وفي اللفظ الآخر: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (¬2)، ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه برقم (2697)، ومسلم في صحيحه برقم (1718)، من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) رواه البخاري في صحيحه معلقاً مجزوماً في كتاب البيوع، باب النجش. ووصله مسلم في صحيحه برقم (1718)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) (¬1)، فكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وتكون عملاً مردوداً. قوله: ((وكل متسم بغير الإسلام مبتدع)): فالتسمي فيه انتساب إلى أئمة البدع، أو إلى المذهب البدعية. ثم ضرب المؤلف -رحمه الله- لذلك أمثلة، فقال: قوله: ((والجهمية)): نسبة إلى الجهم بن صفوان، إمام المعطلة. قوله: ((والقدرية)): نسبة إلى القول بنفي القدر، فهو انتساب إلى مذهب باطل. قوله: ((والكرامية)): نسبة إلى محمد بن كرام شيخ الكرامية. قوله: ((والكلابية)): نسبة إلى عبدالله بن سعيد بن كلاب، وله أقوال بدعية، وهو أقرب إلى السنة من غيره، وهو الذي سلك الأشعري خطته، كما قاله ابن تيمية -رحمه الله-. قوله: ((والسالمية)): نسبة إلى محمد بن أحمد بن سالم البصري. ¬

_ (¬1) قطعة من حديث رواه مسلم في صحيحه برقم (867)، من حديث جابر - رضي الله عنه -. وعند أبي داود في سننه برقم (4607) من حديث العرباض - رضي الله عنه - مرفوعاً: ((إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)).

موقف أهل السنة والجماعة من الخلاف في الفروع

موقف أهل السنة والجماعة من الخلاف في الفروع وأما النسبة إلى إمام في الفروع كالطوائف الأربع فليس بمذموم، فإن الاختلاف في الفروع رحمة، والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم، مثابون في اجتهادهم، واختلافهم رحمة واسعة، وإجماعهم حجة قاطعة. الشرح قوله: ((وأما النسبة إلى إمام في الفروع كالطوائف الأربع فليس بمذموم)): وأما التسمي إذا كان مجرد انتماء إلى شخص ليس بإمام ضلالة؛ كالحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، فالأمر فيه واسع، إذا سلم من التعصب، والبغي على الآخرين، وكان انتساباً إلى المدرسة والمذهب، وترك الانتماء أفضل، فتلاميذ المشايخ ينتسبون إليهم بحكم التتلمذ، والسير على مناهجهم، وهذا الانتماء له أسباب، فالمذاهب كثيرة، والعلماء كثر، لكن الذي استمر وانتشر منها: هي المذاهب الأربعة، ولكن الحق لا ينحصر فيها. قوله: ((فإن الاختلاف في الفروع رحمة، والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم، مثابون في اجتهادهم، واختلافهم رحمة واسعة)): إطلاق هذه الجملة فيه نظر، فليست بمسلمة، لعدم وجود الدليل عليها، فإن الاختلاف لله فيه حكمة، وقد قدر

الخاتمة

الاختلاف بين العباد، لكن المختلفون تارة يكونون مذمومين كلهم، وتارة يحمد أحد الطرفين ويذم الآخر، وتارة يحمدون كلهم، فكل منهم يحمد على اجتهاده، وطلبه للحق، وتحريه للصواب، فلا يحمدون على اختلافهم، بل يحمدون على اجتماعهم، وهو المطلب الشرعي، فإن تيسر الاجتماع وجدت الرحمة، فالرحمة في الاجتماع لا في الاختلاف، والصراط المستقيم هو ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته. قوله: ((وإجماعهم حجة قاطعة)): يشير المؤلف -رحمه الله- إلى أن الإجماع عند أهل السنة والجماعة حجة قاطعة، ولكن الإجماع الذي ينضبط هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في العقيدة الواسطية بقوله: ((والإجماع الذي ينضبط: هو ما كان عليه السلف الصالح؛ إذ بعدهم كثر الاختلاف، وانتشرت الأمة)) (¬1)، فالإجماع الذي ينضبط هو إجماع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم. الخاتمة نسأل الله أن يعصمنا من البدع والفتنة، ويحيينا على الإسلام والسنة، ويجعلنا ممن اتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحياة، ويحشرنا في زمرته بعد الممات، برحمته وفضله؛ آمين. ¬

_ (¬1) انظر توضيح مقاصد الواسطية لفضيلة الشيخ عبدالرحمن البراك (ص 281).

الشرح آمين، ورحم الله المؤلف، ونسأل الله أن يوفقنا إلى كل خير، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يعيذنا من الفرقة والاختلاف، وأن يلزمنا هداه وهدي نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وثبتنا على ذلك بمنه وكرمه، والحمد لله رب العالمين.

§1/1