إخلاص الوداد في صدق الميعاد

مرعي الكرمي

جَميعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَةٌ الطّبْعَةُ الأولى 1421 هـ - 2000 م دَارُ البَشَائِر الإسْلَامِيَّة للطباعة والنشر والتوزيع هاتف: 702857 - فاكس: 704963/ 009611 بيروت - لبنان ص. ب: 5955/ 14 e-mail: [email protected]

[مقدمة التحقيق]

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الطاهرين، وصحابته الطيبين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، فقد تَشَرَّفْتُ بدعوة الأخ الوَدُود المُتَوَدِّد، بحَّاثة الكويت الشيخ محمد بن ناصر العجمي إلى المشاركة بقراءة بعض الرسائل المخطوطة بفِنَاءِ صَحْنِ المسجد الحرام المبارك؛ حيث اقترح بعض الأفاضل وفي مُقَدمتهم الشيخ الكريم، والباحث المتفنِّن، مُتَعَدِّد المواهب نظام محمد صالح يعقوبي البحريني، والأستاذ المجتهد المتقن الشيخ رمزي دمشقية، صاحب دار البشائر الإِسلامية، منذ فترة، قراءة بعض المخطوطات اللطيفة الحجم والمحتوى في العشر الأواخر من رمضان بالمسجد الحرام، فاجتمع لهم بذلك شَرَفُ الزَّمَان، والمَكَان، والقَدْر. وقد أَلْفَيْتُهَا طَرِيقَةَ حَسَنَة، وَإِحْيَاء لِعَالَةِ لِلعُلَمَاءِ مَنْسِيّة؛ إذ حرص عليها عُلَمَاء من المغرب والمشرق قديمًا، فيستحضرون الكتب والأجزاء

لقراءتها داخل المسجد الحرام لبركة المكان؛ وذلك إما على وجه المذاكرة مع الأقران، أو الاستجازة من الشيوخ والمسندين. فهذا الحافظ ابن خَيْر الإِشبيلي (575 هـ) يذكر أنه قرأ كتاب "التَّلْخِيص في القِرَاءَات الثمَان عَن القُرَّاء الثَّمَانِيَة المَشْهُورِين" لأبي معشر الطبري على الشيخ أبي جعفر أحمد بن شعبان الكلبي المكي بقراءته على شيخه بالحرم المكي الشريف (¬1). والحافظ المسند التُّجيبي، قرأ كتاب صحيح الإِمام البخاري على الشيخين فخر الدِّين أبي عمرو التَّوْزَري المالكي، وظهير الدِّين أبي الفداء المصري الشافعي داخل الحرم الشريف تجاه الكعبة المعظَّمة، وسمع جزءًا فيه حديث الرحمة المسلسل بشرطه على شمس الدِّين أبي عبد الله الجَيَّاني الأندلسي بالحرم الشريف تجاه الكعبة المشرَّفة بإزاء باب العمرة، وغيرها من الكتب والأجزاء التي تحصَّلت له بقراءته وسماعه من الشيوخ داخل الحرم المكي الشريف (¬2). ومن علماء المشرق الحافظ المحدِّث المتقن شمس الدِّين السخاوي (902 هـ)، الذي تحصل له من ذلك الكثير والكثير (¬3). وقد اخترت رسالتين لطيفتين للفقيه المتقن مَرْعِي الكَرمِي الحنبلي (1033 هـ)، هما: "إِخْلاَصُ الوِدَادِ في صِدْقِ المِيعَاد"، ورسالة: "مَا يَفْعَلُه الأَطِبَّاءُ وَالدَّاعُونَ بِدَفْعِ شَرّ الطَّاعُون". ¬

_ (¬1) فهرسة ابن خير ص 30. (¬2) برنامج التجيبي ص 68، 171، 239. (¬3) راجع لذلك كتابه الحافل في الترجمة لنفسه: "إِرْشَادُ الْغَاوِي بَل إِسْعَادُ الطَالِبِ وَالرَّاوِي بِتَرْجَمَةِ السَّخَاوي" (مخطوط ل/ 27 أوغيرها).

رسالة "إخلاص الوداد في صدق الميعاد"

رسالة "إِخْلاَصُ الوِدَادِ في صِدْقِ المِيعَاد" صدْقُ الوَعْدِ مِنَ الخِصَالِ الكريمة الفاضلة، التي اتَّصَفَ بها العرب في جاهليتهم قبل البعثة المحمدية، فمدحوا من يَصْدُقُ في وَعْدِه ويُوفي به، وذَمُّوا مَنْ يُخْلِفُه ولا يَحرِصُ عليه، يُصَدِّقُهم في ذلك قول عامر بن الطفيل: وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُه ... لأخْلِفُ إِيْعَادِي وَأُنْجِزُ مَوْعِدِي ومع مجيء الإِسلام أكَّدت النصوص الشرعية على الوفاء بالوعد وإنجازه، وجعله من كرائم الأخلاق التي يتَّصف بها المؤمنون، وفي مقابل ذلك -والعياذ بالله- الكذب في الوعد، وهو من الرَّذَائِل الخُلُقِية التي يَتَرَفَّع عنها المؤمن من عباد الله. وقد اهتمَّ الفقهاء بالكلام على حُكْمِ الوَفَاء بالوعد لما يترتب عليه من أحكام فقهية وقضائية؛ فَتَنَاوَلُوها ضمن كتاب "الأَيمان والنذور"، ولم يُغفِل الحديث عنها علماء العقائد من أهل السنَّة عند التفصيل في قضية إنفاذ وعد الله ووعيده، والرد على مذهب المعتزلة في ذلك. ومن العلماء الذين سَبَقُوا الشيخ مَرْعِي الكَرْمِي إلى التصنيف في

الوفاء بالوعد: الحافظُ المُتقِن شَمسُ الدِّين السخاوي (902 هـ) في كتابه المَوْسُوم: "الْتِمَاسُ السَّعْدِ في الوَفَاءِ بِالْوَعْدِ" (¬1)، وهو من الكتب التي صنَّفها لأجل السلطان الأشرف قَايِتْبَاي (¬2)، وقد أجاد السخاوي فيه وأفاد في عرض الأحاديث والآثار الواردة في الأمر بالوفاء بالوعد، والكلام على درجتها، ثم تطرَّق إلى بعض الفوائد والأحكام. أما رسالة الشيخ الفقيه مرعي الكرمي "إِخلاَصُ الوِدَاد" فقد جمع فيها فَوَائِد، وَاصْطَادَ لها فَرَائِد، وبناها على ضوء قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)} [مريم: 54]. وساق فيها كلام جماعة من المفسِّرين عل الآية الكريمة في كون الوفاء بالوعد من خُلُق الأنبياء، ومن صفات المؤمنين الأصفياء، وانتقل إلى وفاء إسماعيل عليه السلام بوعده، وصبره على الذبح، كما ساق بعض الأحاديث والآثار في صدق الوعد، والوفاء بالعهد، ثم ختمها بالكلام على حكم الوعد الفقهي، وهل يلزم من حيث الحكم القضائي؛ بحيث يلزم القاضي من أخلف وعده بأدائه والالتزام به؟ تناول كل ذلك نَاهِجًا فيه منهج الاختصار والإِيجاز، البعيد عن الإِخلال والانحياز. ¬

_ (¬1) مطبوع بتحقيق د. عبد الله الخميس، عن مكتبة العبيكان. (¬2) أَلَّفَ الحافظ السخاوي مجموعة من الكتب والمصنفات بطلب من السلطان قايتباي حاكم مصر (873 - 901 هـ) وأهداها له، ويعتبر بعضها من أجود ما صُنِّف في بابه، وقد تكلَّمت عنها في دراسة أنجزتها عن تراث الحافظ السخاوي.

رسالة "ما يفعله الأطباء والداعون بدفع شر الطاعون"

رسالة "مَا يَفْعَلُه الأَطِبَّاءُ وَالدَّاعُونَ بِدَفْعِ شَرِّ الطَّاعُون" عَرَّف المُتَقَدِّمُون الطَّاعُونَ بِتَعَارِيف مختلفة، بحسب ما تَوَفَّر لهم من مَعْلُومَاتٍ عَن هذا الوَبَاء في ذلك الوقت، وقد حَدَّهُ علماء الطب الحديث بقولهم: الطَّاعون سَبَبُه بَكتِرْيَا عُضْوِية عُنْقُودِية تَصْطَبغ سَلْبًا بِصِبْغَة جرام، وتعتبر بَرَاغِيثُ الفِئْرَانِ النَّاقِلَ الأساسي لميكروب الطَّاعون، وتَتَغَذَّى هذه البَرَاغِيثُ عَلَى الدم (¬1). والطَّاعون عند أهل الطب عدة أنواع بالنظر إلى نوعيتها وخطورتها (¬2)، ويعتبر بنو إسرائيل أول من أصيب به في القديم؛ إذ انتشر بينهم الفساد والزنا والربا، فعاقبهم الله عزَّ وجلّ بالطاعون ابْتِلاءً لَهُم وتأدِيبًا؛ وقد جعله الله تعالى سُنَّةً كَونيَّةً، وَوَعِيدًا إِلهِيًّا لِلنَّاس إِذا هُم عصوه جلَّ وعلا، وخالفوا أمره بِنَشر الفساد بينهم، ولهذا صَحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لَمْ تَظْهَر الفَاحِشَةُ في قَوْمٍ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِم ¬

_ (¬1) مقدمة د. محمد البار لكتاب ما رواه الواعون للسيوطي ص 8، 35. (¬2) نفس المرجع ص 53.

الطاعُونُ والأَوْجَاعُ التي لَم تَكُنْ مَضَت في أَسْلاَفِهِم" (¬1). ويمكن القول بأنَّ علماء المسلمين أَوْلَوا اهتمامًا كبيرًا بالحديث عن مرض الطَّاعون، وتفصيل الكلام عنه سواء كان ذلك ضمن شروحهم على كتب الحديث والسنن، أو بالتصنيف المستقل فيه؛ بل إنَّ النصوص التي وصلتنا من تراثنا الإِسلامي عن الطَّاعون في كلام الفقهاء والمحدِّثين تَفُوقُ نُصُوصَ الأطبَّاء المتقدِّمين عنه؛ إذ لا نجد عند هؤلاء سِوَى إِشَارَاتٍ مُتَوَاضِعَة لا تُقَاسُ بِتَفْصيل العلماء من أهل الفقه والحديث إطلاقًا. وهكذا نجد أنَّ الإِمام البخاري قد عَقَد تحت كتاب الطب بابين في الكلام عن الطاعون، وبَوَّبَ الإِمام مسلم في صحيحه بابًا مُستَقِلًا، وكذا باقي كتب السنَّة النبويَّة، ويأتي بجانب ذلك كله مصنفات العلماء المستقلة عن الطَّاعون، والتي لا يزال تراثنا المجيد يزخر بنصيب وافر منها. ويُعَد "كتاب الطواعين" لابن أبي الدنيا (281 هـ) أَوَّلَ مُصَنَّفِ عن الطَّاعون، اعتمد عليه جَمْعٌ مِن الحفَّاظ الذين ألفوا بعده في هذا الموضوع كالحافظ ابن حجر، والسيوطي، وفقيهنا مرعي الكرمي، ثم توالت بعد ذلك المصنَّفات إلى غاية القرن الرابع عشر الهجري. وفي محاولة لإِحصاء هذه المصنَّفات بلغت قرابة سبعين كتابًا في ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه في السنن ح (4019)، والدَّاني في السنن الواردة في الفتن ح (326)، وإسناده صحيح.

الطَّاعون (¬1)، لا يزال أغلبها دفين قبور المخطوطات، ولم ير منها نور الطباعة سوى كتاب الحافظ ابن حجر، والسيوطي، وابن كمال باشا؛ مما يدعو الباحثين إلى محاولة النظر فيها، وانْتِقَاء ذَاتِ الأَصَالَةِ منها لتحقيقها، حتى يَتَسَنَّى بذلك لدارسي هذا الموضوع الإِفادة من نصوص العلماء المتقدِّمين على ضوء نتائج علم الطب الحديث. ¬

_ (¬1) انظر عن المصنفات في موضوع الطَّاعون: مقدمة الباحث أحمد عصام الكاتب، لكتاب بذل الماعون ص 29، 41، ود. محمد البار في مقدمة ما رواه الواعون ص 81، 99.

منهج الفقيه مرعي الكرمي في كتابه "ما يفعله الأطباء والداعون"

مَنْهَجُ الْفَقِيهِ مَرْعِي الكَرْمي في كِتَابِه "مَا يَفْعَلُه الأَطِبَّاءُ وَالدَّاعُونَ" اهتمَّ الفقيه مرعي الكرمي بموضوع الطَّاعون اهتمامًا بالغًا دفعه لتصنيف أكثر من كتاب فيه، فقد جمع في رسالته: "تَحْقِيق الظُّنُونِ بِأَخْبَارِ الطَّاعُون" (¬1)، عدَّة نصوص حول موضوع الطَّاعون، وجعله في عشرين فصلًا تناول في كل فصل منه مسألة من مسائله، وناقشها في ضوء كلام العلماء. ويظهر جيِّدًا من خلال المقارنة الأولية لكتاب "تحقيق الظنون" مع رسالة "ما يفعله الأطبَّاء والدَّاعون"، أنَّ هذا الأخير يكاد يكون مختصرًا لكتابه الأصل تحقيق الظنون؛ إذ تحدَّث فيه عن قضيتين مهمَّتين، هما: جدوى الأدعية والأذكار في دفع الطَّاعون، والتساؤل عن دَوْرِ الطب في دفع الطَّاعون عن الناس. وقد وجدته يحيل في كتابه "ما يفعله الأطباء والداعون" على كتاب "تحقيق الظنون". ¬

_ (¬1) مخطوط تحصَّلت على مصورة منه، تقع في 40 ق.

ولم يكتف بتصنيف هذين الكتابين؛ بل عقد أبوابًا في كتابه: "سلوان المصاب بفرقة الأحباب" (¬1)، تكلم فيها عن الطَّاعون، ويكاد يكون ما ذكره في "سلوان المصاب" شبه تكرار لما تناوله في كتابيه السابقين. ولم تذكر لنا المصادر سبب اهتمام شيخنا مرعي الكرمي بموضوع الطَّاعون، وهل كان ذلك استجابة لمن طلب منه جمع مسائل عن الطَّاعون كما صرَّح به في مقدمة "ما يفعله الأطبَّاء والدَّاعون"، أو لانشغال الناس في عصره بهذا الموضوع. ويمكن تلخيص أهم معالم منهجه في هذه الرسالة في النقاط التالية: * افتتح كتابه بالحديث عن اختلاف العلماء في جدوى التداوي للطاعون من جهة، وتساءل هل ينفع فيه ما ورد من الأدعية والأذكار؟ فنقل كلام العلماء في ذلك وخلافهم، واستأنس بكلام الحافظ ابن القيم والسيوطي، مع الاستشهاد ببعض النصوص عن ابن سينا في الطب. * بيَّن حقيقة الطَّاعون عند المتقدمين والخلاف فيه، وكان الشيخ مرعي يتدخَّل بتوجيه ما يراه مناسبًا من النصوص، أو ردّ ما يستبعده فكره ورأيه. * حاول ترجيح كلام أهل العلم والشرع على كلام الأطباء في مسألة وقت ظهور الطَّاعون، وتحديد الأطباء لذلك ببعض الفصول من ¬

_ (¬1) نشر دار الحرمين بالقاهرة عام 1420 هـ.

السنة، وهي قضية واضحة لمن قارن بعض النصوص التراثية، إذ يجد بِكُلِّ جَلاءٍ أنَّ علماء الشرع كانوا أَدَقَّ في عدة قضايا عن الطَّاعون من الأطباء كابن سِينا، وَابْنِ النَّفِيس وغيرهم ممن تكلَّموا في مصنفاتهم الطبية عن الطَّاعون (¬1). * وأكَّد الشيخ مرعي الكرمي على أنَّ السبب الأكبر في ظهور الطَّاعون وتَفَشِّيه هو ما يقترفه الناس من ذنوب وفواحش، مستشهدًا في ذلك بالأدلة الواردة من السنَّة النبوية. * استفاد من نُصُوص العلماء الذين سبقوه في التصنيف في الطَّاعون، كابن حجر في كتابه "بذل الماعون"، وخاصة أثناء الحديث عن الألفاظ المشكلة في بعض النصوص النبوية، والسيوطي، وزكريا الأنصاري. * رَجَّحَ مَذْهبَ جَمَاعَةٍ مِن العلماء في إفادة التداوي والعلاج من الطَّاعون، وإجراءاتهم في هذا الباب، وهي تدابير اشتهرت في تلك العصور. * رَدَّ بعض الاعتقادات المنحرفة في اتَّقاء الطَّاعون، والتي سادت بين بعض النَّاس في عصره. * أورد بعض الأدعية والأذكار التي تقال عند الابتلاء بوباء الطَّاعون من السنَّة النبوية، ومن كلام بعض العلماء، في بعضها مَقَالٌ نبَّهت عليه في موضعه. ¬

_ (¬1) حاول د. محمد البار مقارنة بعض النصوص الواردة بخصوصها في مقدمته لكتاب السيوطي في الطَّاعون ص 51، 57.

* خَتَم كِتَابَه بِإِبْطَالِ كَلامِ المُنَجِّمِين، وتَوضِيحِ أَنَّ تَخَرُّصَاتِهم ضَرْبٌ من الرجم بالغيب، وأَكَّدَ عَلَى عَدَمِ جَوَاز تصديقهم في ما يَدَّعُونه وَيَتَقَوَّلُونَه، وذلك في ضوء الآيات والأحاديث الواردة في التأكيد على انفراد الرب جلَّ وعلا بعلم الغيب، وكذب من ادَّعاه لنفسه كائنًا مَن كان، {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65].

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف (¬1) اسمه ونسبه: هو الشيخ العلَّامة الفقيه مرعي بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد بن أبي بكر بن يوسف بن أحمد الكرمي (¬2) المقدسي. مولده ونشأته: وُلِد رحمه الله في قرية طور كرم، وانتقل بعد ذلك إلى القدس، ثم ارتحل إلى القاهرة حيث توفي بها. ¬

_ (¬1) انظر للمزيد عن حياة المؤلف: النعت الأكمل لأصحاب الإِمام أحمد بن حنبل ص 189، وخلاصة الأثر للمحبي 4/ 358، وعنوان المجد 1/ 31، ومختصر طبقات الحنابلة ص 99، والسحب الوابلة 4/ 1118، وكشف الظنون 1948، وهدية العارفين 2/ 426، وإيضاح المكنون 1/ 7، 18، 34، والأعلام 7/ 203، ومعجم المؤلفين 12/ 218، وتقدمة كتاب أقاويل الثقات للشيخ شعيب الأرنؤوط، وتقدمة كتاب تحقيق البرهان في شأن الدخان للأستاذ مشهور سلمان، وتقدمة كتاب الكواكب الدرِّيَّة في مناقب ابن تيمية للباحث نجم عبد الرحمن خلف. (¬2) نسبة لطور كرم في فلسطين.

عقيدته ومذهبه

عقيدته ومذهبه: كان مرعي الكرمي رحمه الله ينهج في مسائل الاعتقاد منهج السلف في فهم نصوص الصفات، وذلك باعتقاد حقيقتها ومعناها، مع تفويض العلم بالكيفية إلى علم الله تعالى، يظهر ذلك جليًّا في كتابه "أَقَاوِيل الثقَاتِ في تأوِيلِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَات". أما عن مذهبه في الفروع، فقد كان حنبليًّا، مُخْلِصًا لمذهب الحنابلة؛ يدلُّ على ذلك قوله: لَئِن قَلَّد النَّاسُ الأَئِمَّة إِنَّنِي ... لَفِي مَذْهَبِ الحَبْرِ ابن حَنْبَلٍ رَاغِبُ أُقَلِّدُ فَتوَاهُ وَأَعْشَقُ قَوْلَهُ ... وَلِلنَاسِ فِيمَا يَعْشَقُونَ مَذَاهِبُ ثناء العلماء عليه وشيوخه: اشتهر الشيخ الفقيه مرعي الكرمي عند العلماء باشتغاله الكلِّي بالعلم، وانهماكه التام في فنون المعرفة والتحصيل، مع الانصراف الكبير إلى التدريس والإِقراء والإِفتاء زمنًا طويلًا، وصفه المُحِبِّي بقوله: أحد أكابر علماء الحنابلة بمصر، كان إمامًا محدِّثًا، فقيهًا، ذا اطِّلاع واسع على نقول الفقه، ودقائق الحديث، ومعرفة تامَّة بالعلوم المتداولة (¬1). وأثنى عليه ابن حميد النجدي فقال: العالم العلاَّمة، البحر الفهَّامة، المدقِّق المحقق، المفسِّر المحدِّث، الفقيه الأصولي، النحوي، أحد أكابر علماء الحنابلة في عصره (¬2). ¬

_ (¬1) خلاصة الأثر 4/ 358. (¬2) السحب الوابلة 3/ 1118.

آثاره العلمية

وذكره الأستاذ الزِّرِكلي بقوله: مؤرِّخ، أديب، من كبار الفقهاء (¬1). وبالجملة فقد وصفه جميع من ترجم له بصفات عالية في العلم والجمع، والتحصيل والتأليف. آثاره العلمية: يعتبر الشيخ الفقيه مرعي الكرمي من المكثرين في التأليف والتصنيف؛ فالناظر في مصنفاته يَلفِتُ نَظَرَه تنوُّعُ العلوم والفنون التي صنف فيها من: توحيد، وفقه، وحديث، وتفسير، مما يدل على سَعَة حصيلة الرجل العلمية، وإن كان يغلب على أكثرها الاختصار، لكن ذلك لا يمنع من تمكُّنه في التصنيف، وخاصة ما تعلَّق منها بفقه الحنابلة؛ إذ يُعَدُّ مرجعًا معتمدًا عندهم، وقد لقيت قَبولًا عند أهل المذهب، ويصف المُحِبِّي ذلك بقوله: فسارت بتآليفه الركبان، ومع كثرة أضداده، وأعدائه، ما أمكن أن يطعن فيها أحد، ولا أن ينظر بعين الازدراء إليها (¬2). وقد بلغ إحصاء بعض المترجمين له في عَدِّ مصنفاته زهاء سبعين مصنف كما أثبته المُحِبِّي (¬3)، وابن حميد النجدي (¬4)، والبغدادي (¬5)، والزِّرِكلي (¬6)، وانفرد الدكتور عبد الرحمن العثيمين بإيصالها إلى نحو مائة ¬

_ (¬1) الأعلام 7/ 203. (¬2) خلاصة الأثر 4/ 358. (¬3) نفس المرجع 4/ 358 - 360. (¬4) السحب الوابلة 3/ 119 - 1121. (¬5) هدية العارفين 2/ 426 - 427. (¬6) الأعلام 7/ 203.

وفاته

كتاب مصنف لمرعي الكرمي، اعتمد في إحصائه -حسب كلامه- على مكتبات خاصة وعامة غير مفهرسة، ولا ندري شيئًا عنها لأنه لم يُسَمِّهَا (¬1). كما اجتهد الشيخ شعيب الأرنؤوط في تتبُّع المخطوط منها في خزائن العالم التراثية (¬2)، والباحث نجم عبد الرحمن خلف في مقدمة تحقيقه لكتابه: "الكواكب الدرِّيَّة" (¬3). وفاته: وتوفِّي الشيخ مرعي الكرمي رحمه الله مُخَلِّفًا وراءه مكتبة زاخرة بالرسائل والتصانيف النفيسة في شهر ربيع الأول من عام 1033 هـ، ودُفن بتربة المجاورين بالقاهرة (¬4)، وأَرَّخ صاحب "السُّحب الوابلة" وَفَاته نقلًا عن ابن سلوم في ذي القعدة من عام 1032 هـ (¬5). ¬

_ (¬1) في حاشية له على السحب الوابلة 3/ 1118. (¬2) مقدمة أقاويل الثقات ص 32 - 38. (¬3) مقدمة الكواكب الدرِّيَّة ص 21 - 28. (¬4) خلاصة الأثر 4/ 361، معجم المؤلفين 12/ 218. (¬5) السحب الوابلة 3/ 1125.

وصف النسخ المعتمدة في إخراج الرسالتين

وصف النسخ المعتَمَدة في إخراج الرِّسالتين - الرسالة الأولى: "إِخْلاَصُ الوِدَاد": اعتمدت على نسخة من ذخائر دار الكتب والوثائق المصرية، ضمن مجموع برقم: 1781 ف، يضم عدة رسائل للشيخ مرعي الكرمي، وهي تشكِّل الرسالة الثالثة من المجموع، تقع في ورقتين، عدد أسطرها خمسة وعشرون سطرًا، بمعدل ثلاث عشرة كلمة في كل سطر، كُتِبت بخط مشرقي غير واضح في بعض الأحيان، بها إلحاقات ساقطة بالهوامش بنفس خط ناسخ الكتاب. وقد ترجَّح لدي أنَّ الرسالة بخط المؤلف كما يظهر من مقدمة الكتاب، ويلاحظ عدم وجود ما يفيد انتهاء الرسالة من تصريح المؤلف كما حصل بالنسبة لباقي رسائله، ولعلَّ ذلك قد سقط منها، وهي النسخة الوحيدة -فيما أعلم- إذ لم أجد من أشار إلى وجود نسخة أخرى. - الرسالة الثانية: كتاب "ما يفعله الأطبَّاء والدَّاعون بدفع شرِّ الطَّاعون": نَشَرْتُه بناء على نسخة دار الكتب المصرية ضمن مجموع برقم 1781 ف، شكلت فيه الرسالة الثانية، تقع في أربع لوحات، كل لوحة تضم ورقتين، عدد أسطرها خمسة وعشرون سطرًا، في كل سطر ما يقرب من ثلاث عشرة كلمة، خطبها مشرقي غير واضح في بعض المواضع، كتبت الرسالة بخط المؤلف، ولم تخل من السَّقْط الذي كان يلحقه في

كثير من الأحيان بالهامش، ورد في آخرها أنها نُسِخت بتاريخ حادي عشر ربيع الأول من عام إحدى وثلاثين وألف. وينبغي التنبيه على أنَّ جميع المصادر التي نَسَبَت هذه الرسالة إلى الشيخ مرعي الكرمي، تذكرها بعنوان "ما يفعله الأطبَّاء والدَّاعون لدفع شرِّ الطَّاعون"، بينما الذي وجدته على غلاف الرسالة "بدفع شرِّ الطاعون"، وقد أَثْبَت ما وجدته على غلاف عنوان الكتاب، خاصة وأنَّ الرسالة بخط المؤلف، كما أنَّ لها توجيه من حيث اللغة، إذ يصح قَوْلُ القَائِل لُغَةً: "فعله به" كما نصَّ عليه صاحب "اللسان" (¬1). وقد أجمعت المصادر التي ترجمت للشيخ على نسبة الرسالتين له. كما حاولت أن أسلك مسلك التوسُّط في التعليق على النص، وعدم التوسُّع بإثقال الحواشي، وإنما يكون التعليق على الضروري، مع الحرص على تخريج الأحاديث من مصادرها، ونقل حكم الحفَّاظ على إسنادها. هذا وأسأل الله العليّ القدير أن يوفِّقنا لحسن العمل، ويجنِّبنا الخطأ والزلل. وصلَّى الله على نبيِّه ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم. وكتب خالد بن العربي مُدْرِك العَرُوسي الإِدريسي الحسني بجوار بيت الله الحرام في منتصف ليلة الخميس غزَّة ربيع الأول من عام 1421 هـ ¬

_ (¬1) لسان العرب [مادة: دفع].

صورة أول رسالة "إخلاص الوداد"

صورة أول رسالة "ما يفعله الأطبَّاء"

صورة الورقة الأخيرة من رسالة "ما يفعله الأطبَّاء"

قال العبد الفقير إلى الله تعالى مرعي بن يوسف الحنبلي المقدسي

بسم الله الرحمن الرحيم قال العبد الفقير إلى الله تعالى مرعي بن يوسف الحنبلي المقدسي: الحمدُ لله الذي جَعَل الوَفَاء بِالوَعدِ مِن أَوْصَافِ الكِرَام، وأَخْلاق الأنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلاةُ والسَّلام، فقال سبحانه يمدح إسماعيل بن إبراهيم الإِمَام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54]، يعني بالفِعْل المُصَدِّقِ لِلكَلام. والصلاة والسلام على أَصْدَقِ الخَلْقِ كَلامًا، وأَوْفَاهُم بِالوَعدِ إمَامًا، وَأَعلاهُم في المَجْدِ مَقَامًا، الْمَبْعُوث رَحْمَةً لِكَافَّة الأنَّامِ، وَعَلَى آله وأَصْحَابِه الَّذِين كَانَت تَهُزُّهُم نَخْوَةُ الكِرَامِ، وَتُحَرِّكُهُم حَمِيَّةُ الإِسلام. وبعد، فَقَد أَحْبَبْتُ أَن أذكر فَوَائِدَ حَسَنَة، وفَرَائِدَ مُسْتَحْسَنَة، تميل إليها طِبَاعُ الكِرَام، وأَرْبَابُ المناصب الفِخَام، وأَصْحَابُ السُّيُوفِ والأَقْلام، وأَهْل المُرُوءة والفُتُوَّة مِنَ الأَنَام، تتعَلَّق بِوَفَاءِ الوَعْد والعَهْد، ونِعمَ المُرَادُ بذلك القَصْد، وقوله سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} على سبيل التَّلْخِيص والِاخْتِصَار، وإلى ذلك مَيْلُ نُفُوسُ الأَخْيَار، وَسَمَّيْتُه: "إِخْلاصُ الوِدَادِ في صِدْقِ المِيْعَادِ". قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ}، أي

اذكر في الكتاب الذي أُنزِل عليك وهو القرآن العزيز، قِصَّةَ إسماعيل وخَبَرَه، وما كان فيه من صِدْقِ المواعيد والثَّبَات في كل موطن شديد (¬1). وإِسْمَاعِيلُ مِنَ الأَسْمَاء الأَعْجَمِيَّة الممنُوعَة مِنَ الصَّرفِ (¬2)، ويِقَال: إسماعين بِالنُونِ لُغَتَانِ لِلعَرَب (¬3)، وإِسمَاعِيلُ هذا قيل: هُو إسماعيل بْنُ حَزْقِيل عليهما السلام، حكاه القرطبي في تفسيره (¬4). والذي ذهب إليه جماهير العلماء والمفسِّرين أنه إسماعيل الذَّبِيح أبو العرب وابن إبراهيم خليل الرحمن عليهما الصلاة والسلام (¬5). {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} وخَصَّ الله تعالى إسماعيل بذكره بصدق الوعد -وإن كان صِدقُ الوَعدِ مَوجُودًا في غيره من الأنبياء عليه السلام- تشريفًا له، وتفخيمًا لشأنه، ولأنه المشهور المتعارف من خصاله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) ذكره الطبري في تفسيره 8/ 349، والبغوي في معالم التنزيل 3/ 166، وأبو حيان في البحر المحيط 6/ 188، وابن كثير في تفسيره 3/ 122، والسيوطي في الدر المنثور 5/ 516، والشوكاني في فتح القدير 3/ 418، والطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير 16/ 129. (¬2) العُجْمَة والتَّعرِيفُ مِن دَوَاعِي مَنع الاسْمِ مِنَ الصَّرْف؛ شَرْطَ كَوْنِهِ عَلَمًا في اللسان الأعجمي، وزائدًا على ثلاثة أحرف، نحو: إبراهيم وإسماعيل. انظر: شرح ابن عقيل 2/ 304، وحاشية الصبان 3/ 376 - 377. (¬3) لسان العرب [مادة: اسم]. (¬4) الجامع لأحكام القرآن 11/ 114. (¬5) نصَّ على ذلك البغوي في معالم التنزيل 3/ 166، وأبو حيان في البحر المحيط 6/ 188، وابن كثير في تفسيره 3/ 122، والشوكاني في فتح القدير 3/ 418، ومحمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان 4/ 299.

قال الإِمام القرطبي في تفسيره: صِدقُ الوَعدِ مَحمُود، وهو من أخلاق النبيِّين والمرسلين (¬1). وقال البيضاوي: ذَكَّرَه تعالى بذلك لأنه المشهور به، والمَوْصُوفُ بِأَشْيَاءَ في هذا الباب لم تُعهد من غيره، ونَاهِيكَ به أنه وعد الصَّبْرَ على الذبح، فقال لأبيه: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)} [الصافات]، فوفى بوعده (¬2). وفي النَّهْرِ تفسير الإِمام أبي حيان: وصِدْقُ وَعْدِه عليه السلام أنه كانت منه مَوَاعِيد لله تعالى وللناس فَوَفَّى بالجميع، فلذلك خُصَّ بصدق الوعد (¬3). وفي تفسير القرطبي: واختلف العلماء في ذلك فقيل: لأنه وعده من نفسه بالصبر على الذبح، فصبر حتى فَدَاهُ الله ببركة صبره (¬4)، كما قال تعالي: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات]. وفي كَونهِ هُو الذَّبِيحُ أو إسحاق خِلافٌ لَيسَ هذا موضعه. وقيل: إنه عليه السلام وعد رجلًا أن يلقاه في موضع، فجاء إسماعيل وانتظر الرجل يومه وليلته، فلما كان من اليوم الآخر جاء، فقال ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن 11/ 115. (¬2) تفسير البيضاوي 4/ 10. (¬3) النهر الماد 6/ 198. (¬4) الجامع لأحكام القرآن 11/ 115.

له: ما زِلْتُ هنا في انتظارك منذ أَمْسِ. وقيل: انتظره ثلاثة أيام، وقيل: فعل مثله نبينا - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثه، ذكره النَّقَّاش (¬1). ورواه الترمذي وغيره عن عبد الله بن أَبِي الحَمسَاءِ قال: بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يُبْعَثَ وبَقِيَت لَه بَقِيَّة، فوعدته أن آتيه في مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث، فجئت فإذا هو عليه السلام في مكانه فقال: يَا فَتَى، لَقَد شَقَقْتَ عَلَيَّ أنا ها هنا منذ ثلاث (¬2). وقيل: إنَّ إسماعيل انْتَظَر مَنْ وَعَدَه اثنين وعشرين يومًا، ذكره ¬

_ (¬1) لابن النَّقَّاش الشافعي (763 هـ) تفسير "السابق واللاحق" وصفه الحافظ السخاوي بأنه تفسير مُطَوَّل الْتَزَم فيه بِأَلاَّ يَنقُل حَرفًا واحدًا مِن تَفسيرِ مُتَقَدِّم؛ ولكنه لم يكتمل. انظر: وجيز الكلام 1/ 124، ولا يزال في عداد المفقود من تراثنا، فلعل الزمن يكشف عنه في إحدى الخزائن التراثية من بلاد العالم. وقد أورد هذه القصة عن إسماعيل عليه السلام من رواية مقاتل وابن جريج: الطبري في تفسيره 8/ 351، والبغوي في معالم التنزيل 3/ 166، وابن كثير في تفسيره 3/ 122، وأورده القرطبي في تفسيره 11/ 115، والسيوطي في الدر المنثور 5/ 516. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه ح (4996) كتاب الأدب، باب في العدة، وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت ح (457) ص 236، والخرائطي في مكارم الأخلاق ح (177) 1/ 194، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 198. والحديث في إسناده ضعف، فيه عبد الله بن ميسرة، ضعَّفه ابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة وغيره. انظر: الجرح والتعديل 5/ 177، والتهذيب 2/ 441. وقال الحافظ السخاوي بعد إيراد إسناده: وفي إسناده خُلْفٌ. انظر: المغني عن حمل الأسفار للعراقي 2/ 802، والتماس السَّعد للسخاوي ص 67.

الماوردي (¬1)، وفي تفسير الزمخشري وابن عادل (¬2) أنه عليه السلام انتظره سنة (¬3)، ورُوِي ذلك عن ابن عباس (¬4). قلت: ولَعَلَّ ذلك كان مع تَعَاطي مَصَالحه، ومُبَاشَرَة أَسبَابِه مع ملاحظة الانتظار، والتَّطَلُّب لمجيء من وعده. وبالجملة، فإسماعيل - صلى الله عليه وسلم - لم يَعِد شيئًا إلَّا وَفَّى به. قاله بعض المحقِّقين (¬5)، قال القرطبي: وهذا قول صحيح، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية (¬6). ¬

_ (¬1) هو: أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي (450 هـ) له تفسير أسماه: "النُّكَتُ وَالعُيُون"، يقع في ثلاثة مجلدات. ذكره الداودي في طبقاته 1/ 428، وحاجي خليفة في الكشف 1/ 458، ورمز له الزِّرِكْلي في الأعلام بكونه مخطوطًا 4/ 327. وقد روى قصة انتظار إسماعيل عليه السلام من وعده اثنين وعشرين يومًا ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت ح (458) ص 237، وذكرها القرطبي في تفسيره 11/ 115. (¬2) هو: عمر بن علي بن عادل أبو حفص سراج الدِّين الحنبلي الدِّمشقي، مات بعد عام 880 هـ، له تفسير كبير "اللُّبَابُ في عُلُوم الكِتَاب"، منه عدَّة نسخ خطية في الخزانة العامة بالرباط المحروسة، وفي خزانة كتاب سراي (نسخة سلطانية)، وفي دار الكتب المصرية وغيرها. (¬3) الكشاف 3/ 22. (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره عن سفيان الثوري 7/ 2411، وذكره السيوطي في الدر المنثور 5/ 516. (¬5) قال به من أئمة التفسير كعب، ومجاهد، وابن جريج، ورواه الطبري في تفسيره 8/ 351، والبغوي في معالم التزيل 3/ 166، وذكره السيوطي في الدر المنثور 5/ 516. (¬6) تفسير القرطبي 11/ 115.

وفي تفسير ابن عادل سُئل الشعبي رحمه الله تعالى عن الرجل يَعِدُ صاحبه ميعادًا إلى أي وقت ينتظره؟ قال: إنْ واعده نهارًا فكل النهار، وإن واعده ليلًا فكل الليل. وسُئِل إبراهيم بن زيد عن ذلك فقال: إذا وَعَدتَه في وَقْتِ الصَّلاةِ فَانْتَظِره إلى وقت صلاة أخرى (¬1). وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "العِدَةُ دَيْنٌ وَاجِبٌ" (¬2)، قال القرطبي: أي في أخلاق المؤمنين، وأوصاف الصدِّيقين (¬3). وقال المحقِّقون من العلماء كما ذكرته في كتابي: "غَايَةِ الْمُنْتَهَى" في الفقه: إنَّ الوفاء بالوعد يلزم من حَيْثُ الوُجُوبُ، وإن كان لا يلزم من حَيْثُ الحكمُ به؛ بمعنى أن من وَعَدَ أَحَدًا بشيء وامتنع من الوفاء فإنه ليس للقاضي أن يُلزِمَه بذلك؛ لما يلزم عليه من الكذب، فيحرم خُلْفُ الوعد بلا استثناء. قال الله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24] (¬4). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت ح (460) ص 237. (¬2) أخرجه الطبراني في الأوسط ح (3513) 4/ 131، وفي الصغير ح (420) ص 179، والقضاعي في مسنده كما في فتح الوهاب 1/ 21 بلفظ: "العِدَة دَيْن"، وقال الهيثمي في "المجمع 4/ 166: وفيه حمزة بن داود، ضعَّفه الدارقطني. وأخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق ح (190) 1/ 205 بلفظ: "العِدَّة عَطِية". (¬3) تفسير القرطبي 11/ 115. (¬4) اختلف العلماء في حُكْمِ الوَفَاءِ بِالوَعْدِ: فَذَهَبَت طَائِفَة إلى القول بوجوبه، وآخرون إلى عَدَمِ لُزُومِ الوَفَاء بِه، واحْتَجَّ القائِلُون بِالوُجُوب بظاهر الآيات =

والدليل على الوجوب قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)} [الإسراء]، في آيات أُخَر وأحاديث ليس هذا محل ذكرها (¬1) (¬2). وفي تفسير القرطبي: والعرب تمدح الوفاء بالوعد، وكذلك سائر الأُمم. وقد أحسن القائل حيث يقول: مَتَى مَا يَقُل حُرٌّ لِصَاحِبِ حَاجَةٍ ... نَعَم يَقْضِهَا وَالحُرُّ لِلْوَأْيِ (¬3) ضَامِنُ (¬4) ¬

_ = الواردة في الباب، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وغيرها، من الآيات الدالة بظاهرها على الوجوب. واستدلوا أيضًا بعدة أحاديث، منها حديث: "العِدَةُ دَيْنٌ"، وحديث: "العِدَةُ عَطِيَّةٌ"، وقد سبق الكلام على سندها. وأما القائلون بعدم وجوب الالتزام بالوعد فاحتجوا بانعقاد إجماع العلماء على عدم لزوم الوفاء بالدين في حق من وعد رجلًا بمال فأفلس، فإنه لا يُضرَب للمَوعُود بالوعد مع الغرماء اتِّفاقًا، ولا ينزل منزلة ديون غرمائه عليه. وقد رَجَّحَ جَمْعٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ وُجُوب الوفاء بالوعد، وعدم جواز إخلافه، ولكن لا يُلزَم به جَبْرًا وإنما يؤمر به ولا يجبر عليه. ولمزيد من البيان يُنظر: فتح الباري 5/ 341 - 344، أضواء البيان 4/ 300 - 305. (¬1) غاية المنتهى مع شرحه مطالب أولي النهى 6/ 435. (¬2) ساق الحافظ السخاوي جمعًا من الأدلة من السنَّة النبوية على وجوب الوفاء بالوعد، والالتزام بأدائه في رسالته الماتعة "التماس السعد" ص 73 - 96، فانظره إن شئت. (¬3) الوَأْيُ: وَأَى وَأْيًا وهو الوَعْد. انظر: لسان العرب [مادة: وأي]. (¬4) تفسير القرطبي 11/ 115.

إِذَا قُلْتَ في شَيء نَعَم فَأَتِمَّهُ ... فإِنَّ نَعَم دَيْنٌ عَلَى الحُرِّ وَاجِبُ تَفُزْ بِجَزِيْلِ الأَجْرِ وَالْحَمْدِ وَالثنَا ... فَبَادِرْ بِإِنْجَازٍ لِمَا أَنْتَ وَاهِبُ (¬1) وقول الآخر: تَحَنَّنْ عَلَيْنَا حِذَارَ الْمَلِيْكِ ... فَإِنَ لِكُل مَقَامٍ مَقَالا وَأَنْجِزْ لَنَا الْوَعْدَ يَا سَيِّدِي ... فَإِنَّ لِكُل سُؤَالٍ نَوَالا وقول الآخر: الوَفَاءُ بِالمَوَاعِيدِ مِنْ أَوْصَافِ الكِرَامِ ... وصِدْقُ الوَعْدِ يُحَبِّبُ في المرءِ الأَنَامَ (¬2) ¬

_ (¬1) تُنْسَب هذه الأبيات لابن أبي حازم. انظر: العقد الفريد 1/ 264. (¬2) أنهيتُ بحمد الله وفضله مقابلة آخر ما وجدت من رسالة: "إِخلاصُ الوِدَادِ في صِدقِ المِيعَاد"، مع فضيلة الأستاذ البحَّاثة محمد بن ناصر العجمي ببيت الله الحرام، تُجاه الكعبة المعظَّمة عصر الاثنين لثلاث بقين من شهر رمضان المبارك لعام 1420 هـ، ثم التَّعلِيقَ بعد ذلك على ما رَأَيْتُه لازِمًا، مُقتَدِيًا ومُصَلِّيًا ومُسَلِّمًا. أفقر الورى إلى عفو ربه ورحمته خالد بن العربي مُدْرِك العَرُوسِي غفر الله له ولوالديه

§1/1