إحكام النظر في أحكام النظر بحاسة البصر
ابن القطان الفاسي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
دَار الْقَلَم - دمشق أسَّسَها مُحَمَّد عَليّ دولة سنة 1967 م طبعة دَار الْقَلَم الأولى 1433 هـ - 2012 م حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة تطلب جَمِيع كتبنَا من: دَار الْقَلَم - دمشق هَاتِف: 2229177 - فاكس: 2255738 ص. ب: 4523 الدَّار الشامية - بيروت هَاتِف: 857222 (01) - فاكس: 857444 (01) ص. ب: 6501/ 113 توزّع جَمِيع كتبنَا فِي السعودية عَن طَرِيق: دَار البشير - جدّة 21461 ص. ب: 2895 - هَاتِف: 6657621 - فاكس: 6608904
تقديم الطبعة الثالثة
تَقديم الطبعة الثالثة الأستاذ الدكتور فاروق حمادة الحمدُ لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وبعد: فإن كتاب (إحكام النطر في أحكام النظر بحاسة البصر) للإمام الحافظ أبي الحسن علي بن محمد، المعروف بابن القطان الفاسي، كتاب عزّ نظيره، ونَدَر مثيله مضمونًا ومنهجًا، فقد تناول الأحكام الشرعية لحاسة البصر، وتتبَّعها في مظانها الفقهية وغير الفقهية، وصدَّرها بالآيات والأحاديث النبوية، واستخرج مدلولاتها من هذه وتلك بروح التمكُّن العلميِّ، والنظر الإجتهادي الذي يستند إلى الأصول والقواعد، فجاء أنموذجًا يحتذيه الدارسون الذين يستنبطون الأحكام، وينسبونها إلى الشريعة المحمدية، مع ورع ظاهر حتى في استعمال الألفاظ والكلمات، إنّه خزانة محشوَّة بالنصوص الشرعية، وآراء الفقهاء المذهبية، بترتيب محكم ورؤية تامة شمولية. وقد كشف وجه الحق في هذه الأحكام، ولم يخلط الرأي الذي يدعمه الدليل والحجة بالرأي الذي يستند إلى العاطفة والهوى، ويسقط ذلك على الشريعة الغراء، وأُذكَّر أنه المرجع الحجة في هذا الباب، وسيبقى كذلك إن شاء الله، ولقد لقي القبول والإستحسان عبر العصور إلا أنه بقي منزويًا في صقع ذلك
الإمام -المغرب- فنقل عنه علماء ذلك الصقع الذي كان نئيًّا بعيدًا، ولهجوا بذكره واستحسانه، واختصره بعض الفقهاء منهم، ولكن مخطوطاته غدت نادرة لم يعثر المحقق إلا على واحدةٍ وفيها سقم واضح، ومختصرٍ فقهي له لا يتلو من شيء من ذلك، نسأل الله تعالى أن يُهيِّئ لنا نسخًا مخطوطة جيدة منه، ومن المؤلفات البديعة المفقودة لهذا الحافظ الإمام. وقد طبع للمرة الأولى فنفدت طبعتُه، ثم صوّر مرة ثانية عنها فنفدت كذلك، وكنت أحثُّ المحقق على إعادة النظر فيه، ولكن ظروفه لم تكن تسمح له بذلك، فعُدت إليه وقوّمت ما أمكن تقويمه من نصوصه، وأضفتُ ما يمكن إضافته ممَّا يسهِّل قراءة النص، أو يلقي ضوءًا عليه، وأزلتُ أخطاءً مطبعية وقعت فيه، فجاءت هذه الطبعة أنقى من سابقتيها، وأصفى وأهنأ للواردين إن شاء الله. وحقيقٌ بكلِّ طالب علم مخلص، أو باحث جادٍّ، أو عالم طُلَعة أن يكون هذا الكتاب بين يديه، ومرجعه فيما تناوله مؤلفه وذهب إليه. كما جاءت طباعتُه أعلى وأرقى، طباعةً تليق بهذا الكتاب الفذِّ في المكتبة الإسلامية. فأسأل الله تبارك وتعالى أن ينفع به، وأن يغدق على مؤلِّفه شآبيب الرحمة، ويجازي بالخير والإحسان في الحال والمآل محققه ومراجعه، ويثيب ناشره ثواب العاملين. . إنه خير مسؤول وأكرم مأمول. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. في أبو ظبي بتاريخ 3 جمادى الآخرة 1431 هـ موافق 6 / ماي / 2010 م وكتبه المستشار الدكتور فاروق محمود حمادة
تقديم
تَقديم بقلم الأستاذ الدكتور فاروق حمادة إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِ الله فهو المهتد، ومَن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]. - 1 - أما بعد: فإن كثيرًا من الأفكار تتألَّق بمرور الزمن، وتعاقُب الأيام، فتتلألأ في جنبات التاريخ وموجات الفكر الإِنساني المتلاحق، نيِّرةً متميزة، يُشار إليها بالبنان ويُستشهد بها، وتُزين بها الآراء، ويُحتج بها في المحافل، ويرجع إليها
الناس في كل حين وآن، لا يُقلل من شأنها عند العقلاء أنها ليست من رعونات العصر، أو خارجة عن إبداع الجيل الحاضر ونزقه ونزغاته، وما ذلك إلا لأنها قامت من منطلق صحيح، وبُنيت بمنهج دقيق، وعالجت جانبًا من جوانب الإِنسانية الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير؛ لأنها من خصائص الإِنسان ومميزات وجوده. وإن أبقى الكتب مع الأيام هي التي تضمُّ قدرًا كبيرًا من هذه الأفكار، فلها القبول وعليها المدار. وإن هذا الكتاب الذي بين يديك أيها القارئ الكريم: (إحكام النظر في أحكام النظر بحاسّة البصر) من الأسفار التي ضمّت نيّر الأفكار، وقويَّ الآراء، وسديد الإستنباطات في جانب خطير من جوانبا الإنسانية الثابتة، ألا وهو النظر بالعين، وما تعكسه على النفس والمشاعر من آثار، قد تكون هذه الآثار في غاية النبل والسمو فترفع صاحبها إلى مقام الصدّيقين والشهداء، فيستحق النعيم المقيم في أعلى عليين، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191]. {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 6 - 8]. أو تهبط بصاحبها إلى دركات الحيوانية، بل دون ذلك، فيكون من الغاوين الذين اتبعوا هواهم، وعاثوا يطلبون مناهم، وأنّى لهم ذلك؟! بل شأنهم في تعب دائم، وشقاء متجدِّد متعاظم، وسُعَار لاهب متفاقم، وفي هؤلاء جاء قول الحق سبحانه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 175، 177]. ولخطورة حاسة البصر، وأهميتها في حياة الإِنسان جاءت الشريعة المطهَّرة بتحديد مساربها، وبيان الوجهِ الحقِّ لاستعمالها، وضبط العلاقة السليمة بين الناظر وما حوله من الوجود إنسانًا وجمادًا، كلُّ ذلك بما يتفق وتكوينه وغرائزه، وجِبِلَّته وفطرته حتى تكون حاسة البصر أداة خير وبناء، لا معول هدمٍ وإفسادٍ وشقاء. وإنَّ أخطر نظرة تكون بهذه الحالة هي النَّظرة التي تتوجَّه من الرجل نحو المرأة، ومن المرأة نحو الرجل، بحكم الفطرة التي ينجذب إليها أحدهما نحو الآخر، وهي التي في الحديث: "النظرة سهم من سهام إبليس". ولهذا جاءت النصوص الشرعية كثيرة ضافية تضبط النظر من أحدهما نحو الآخر حتى لا يزلَّ وينحرف، أو يسقط وينجرف، وليبقى كلاهما في إنسانية كريمة وعلاقة خيِّرة سليمة. وقد أولى علماء الإسلام عبر العصور ولا يزالون هذه النصوص الشريفة كامل العناية والرعاية من تفسير وشرح، واستنباط وبيان، وذلك خلال درسهم للقرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، أو في كتب الفقه الإسلامي وأبوابه، وكلُّ باب من أبواب كتب الفقه هو باب للإنسانية على حياتها، إن دخلت منه كان دخولها صحيحًا سليمًا، وسيرها مأمونًا قويمًا، فالفقه الإِسلامي هو كتاب الحياة الإِنسانية الواسعة في كلياتها وجزئياتها، في دقائقها ومخفياتها، وقد وقف الفقهاء مع حاسة البصر والنظر وقفات غير قليلة في كتب التفسير، وشروح الحديث، ومصنفات الفقه. ومع هذا فإنَّ هذا الكتاب فريد في بابه، إذ استقلَّ بجمعه دون غيره،
وعمل على الإحاطة بمسائله الكبرى وجزئياته، بل تعمق حتى بحث في خلجات النفس ودقائق الورع، وترك الإِنسان المسلم يواجه أفكاره وحركات نفسه، ويراقب الله وحده. . {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]. ولا نعلم كتابًا قبل هذا الكتاب أفرد مسائل هذا الباب بهذه الكيفية وهذه الشمولية. وإن مؤلفه أبا الحسن بن القطان إمام كبير، وناقد خطير، وحافظ جهبذ. . إنه شيخ شيوخ الدولة الموحِّدية التي أطلقت الفكر من عقاله، وألحَّت على ضرورة طوافه وتجواله للتجديد والإجتهاد، وإن أقوال هذا الإِمام وآراءه في علم الحديث والرجال انتهبَتهَا الدواوين، وتزينت بها الأسفار التي جاءت بعده وغدت متكأً للحفّاظ والنقّاد الكبار، ولئن كان كتابه الكبير (بيان الوهم والإِيهام، الواقعين في كتاب الأحكام) (¬1) هو الذي جعل صيته يطير شرقًا وغربًا، وسلَّم له بالإِمامة في علم الحديث كلُّ من اطَّلع عليه، فإن كتبه الأخرى -وخاصة هذا الكتاب- قد حظيت بكل قبول وتقدير، واهتبالٍ واحتفال، لما أبدى فيه من قوة عارضة، وسعة أُفق، وحسن تقدير. لقد كسر المصنف كتابه هذا على ثمانية أبواب، متيمِّنًا بأبواب الجنة الثمانية التي هي محطُّ نظر المؤمنين على الدوام، جعلنا الله وإياه من أهلها، متدرِّجًا في أحكام البصر تدرُّجًا سليمًا وقويمًا، بدءًا من غضِّ البصر عما لا يحلُّ، ومشروعية ذلك، إلى ما لا يجوز إبداؤه للناظرين وما يجوز، ثم في نظر الرجال إلى الرجال في شتى الأحوال، ثم في نظر النساء إلى النساء، ثم في نظر الرجال إلى النساء، والنساء إلى الرجال، وهذان البابان قد بلغ فيهما الذروة، وسامى المجتهدين الكبار، ثم عالج مسألة الضرورات المبيحة، وختمه في تقلبات ¬
الطرف في هذا الوجود، ومشروعية أقوال خاصة وأفعال محددة عند نظر بعض المرئيات، وفي خضمِّ هذه الأبواب الثمانية، جمع فأوعى، واستقصى فأوفى. وأما عن منهجه في هذا الكتاب، فهو نموذج رائع، وقدوة لكلِّ باحث ودارس، ويمكن إجمال ذلك من خلال النقاط التالية: 1 - لقد جمع ابن القطان كل الآيات القرآنية المتعلِّقة بالنظر، ووضعها في سياقها الصحيح مع ما قبلها وما بعدها، ونقل أقوال أئمة التفسير فيها بدءًا من الصحابة الكرام ومن تلاهم من التابعين، كاشفًا عن أقوال أئمة اللغة العربية، مع بيان موضع الدليل، ومناط الأحكام فيها. وأما نصوص السُّنَّة الشريفة، فحدِّث عن البحر ولا حرج، فلقد جمعها من مظانِّها، ولم يفته منها نصٌّ ذو شأن، وخطَّ لجمعها خطَّةً جليلةً، فقد التزم بأن يورد الحديث الشريف إذا كان صحيحًا دون إسناد مع بيان مصدره، وإن كان فيه نظر عند المحدِّثين أو تكلّم أحد فيه ساقه بإسناده، وتكلَّم عليه جرحًا وتعديلًا وتصحيحًا وتضعيفًا، وأما الحديث المعروف بالضعف فيورده ويشير إلى موضع العلة فيه. ومن خطته: تقديها الصحيح للإحتجاج، والتعريج على ما فيه كلام ويصلح للاستشهاد، ثم يورد الضعيف لبيان ضعفه حتَّى لا يأتي آتٍ بعده فيظنَّ به أنه لم يطَّلع عليه أو قصر في جمعه والنظر فيه. ويبيّن في كلِّ نصٍّ موضع الدليل، وما يمكن أن يثور في الإعتراض عليه، وما قاله فقهاء السُّنة إن تنازعت دلالتَه الآراء. لقد ذكر في كتابه هذا نحوًا من مئتين وسبعين حديثًا في موضوع النظر، وتكلَّم عليها بما يكفي ويشفي، واقتبس علماء الحديث من بعده طرفًا غير يسير من كلامه فيها. 2 - لقد أحاط المصنِّفُ في كتابه هذا في موضوع النظر وما يتعلق
به بمذاهب الفقهاء المعتبرين؛ بدءًا من الصحابة الكرام، ومَن تلاهم من التابعين، حتى الأئمة الأربعة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل، ومَن سار خلفهم من كبار علماء الإِسلام الذين يعتدُّ بقولهم، ويُرجع إلى رأيهم ونظرهم. . وكان يسوق أقوالَهم، ويستقصي مذاهبهم من كتبهم المعتمدة، بكلِّ أمانة وإنصاف وإتقان واستيفاء، ثم يبيِّن قويَّ هذه الآراء وقويمها بالحجة والبرهان، دون تعصُّب لمذهب أو انسياق مع فكرة لمكابقة، فهو متحرٍّ للدليل، مجتهدٍ في الرأي، غير منتقٍ من الآراء بدافع هوًى معين، أو ملفقٍ بين بعضها تحت ضغط رغبة جامحة أو نزوة طارئة!. . وقد بلغ في هذا شأوًا بعيدًا، فهذا الكتاب من هذه الناحية كتاب فقه مقارن، وبه يظهر لنماذج من عصرنا وقد نتفوا من القرآن أو السنّة نتفًا، ولم يلامسوا من العربية إلا القليق، وأرادوا الإجتهاد، يظهر لهم كيف يكون الإجتهاد، إنهم بنتفهم قد ضلوا وأضلوا، وزلوا أيما زلل وأزلوا، فالإجتهاد كلمة محبّبة، ولكن الوصول إليها ليس بالآمر الهين، إنه ليس بجمع نصوص لا يدري جامعها ما يصنع بها، أو النظر فيها دون معرفة تفسير الذين نقلوها ورووها. . إنَّ من المهمَّات في باب الإجتهاد الإِحاطة بمذاهب المتقدمين، ومعرفة دليل كل واحد منهم، وحجته فيما ذهب إليه، وإنَّ من ينظر إلى صنيع ابن القطان في هذا الكتاب يتيقَّن أنه من النخبة المتميزة في تاريخ الفقه الإِسلامي. وإن المكتبة الفقهية التي رجع إليها ابن القطان لاستعراض المذاهب والآراء واسعة جدًّا، عرفناها من خلال هذا الكتاب، ومن خلال كتابه البديع المسمى (الإِقناع في مسائل الإِجماع) (¬1)، الذي نخل فيه كتب فقه المذاهب المعتمدة وأصولها المتداولة المرضية في كل مذهب، وعرفنا من خلاله دقته وحسن تصرفه في كتب الفقه على اختلافها. ¬
3 - لقد أجاد ابن القطان وأفاد في بحثه لمسألة النظر، وما يجوز إبداؤه، وما لا يجوز وغير ذلك من المباحث الكثيرة التي عرض لها، أجاد وأفاد في ربط النصوص الشرعية بمقاصدها، والحكمة من تشريعها، وبيان الغاية منها في تكوين الإِنسان الربَّاني الصالح، وإبعاده عن مواطن الشبه والريبة، والسمو به عن دركات الفاحشة، فكان تعليل النصوص هاجسًا له يسير معه، ويستعين به، وهو ينظر في القرآن الكريم والسنّة المطهرة، فلم يكن نصيًّا جامدًا يقف مع الظواهر أو يحشر المتناقضات، بل كان يوجه النصوص تبعًا لمقاصدها ويوفق بين ما ظاهره التعارض بوضع كلِّ نصٍّ في محله الذي سيق من أجله. ومَن يقرأ هذا البحث يشعر شعورًا غامرًا بأن فقهاء الإِسلام، كانوا على الدوام أطباء المجتمع، وحرّاس الفضيلة فيه، ومصلحي خلل الأمة، بل كانوا نبضها المتحرك، وروحها الوثَّابة، خبرة ومعرفة بما يجري ويدور في خلد الناس، وجنبات المجتمع، وأعماق الأُسر. . فيدلُّون الناس على الخير، ويجهدون لهم بالنُّصح، ويضعون نصوص الشريعة طبقًا للغاية التي جاءت من أجلها دون تعسُّفا أو التواء؛ لأن الحياة بغير ذلك تفسد ولا تستقيم. . {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9]. 4 - ومن خلال الثمانية الأبواب التي أدار المؤلف كتابه عليها فرَّع كلَّ باب إلى مباحث ومسائل دقيقة جدًّا، استوعب بها ما هو واقع، وما يمكن أن يخطر بالبال في حياة الإِنسان وله تعلق بالنظر والبصر والعورات، والضرورات، وبهذا يمكن الجزم بأن هذا الكتاب موسوعة شاملة فيه ما ليس في غيره من كتب الفقه والتفسير وفقه الحديث، ويغني عن غيره ولا يغني غيره عنه، ويسوق المسائل بمنهجية صارمة وتسلسل دقيق دون تكرار أو إعادة، وقد بلغت مسائله نحوًا من مئة وإحدى وسبعين مسألة.
5 - لقد وصل ابن القطان في كتابه هذا إلى نتائج حاسمة في تحديد العورات للرجل والمرأة، وما يجوز للمرأة إبداؤه، وهو الوجه والكفّان فقط، وتردّد في القدمين، ومال إلى عدم الجواز، فجاء هذا الكتاب ردًّا على مَن أراد تجريد المرأة والرجل من الإِنسانية، وإِطلاقهما في غابة الهبوط الحيواني دون خلق، أو وازع، أو حياء، وهذه حالة مَرَضية في تاريخ الإِنسانية تتكرر آنًا بعد آن، فقد كانت قديمًا في الجاهلية: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] وتكون اليوم، وغدًا. . فلا بدَّ لعلماء الشريعة استهداءً بنور الوحي من بيان حكمها والعمل لسدّ خرقها. وجاء كذلك ليردَّ على تشدُّد طائفةٍ غَلَت في الأمر، وأرادت إحاطة المرأة بضباب كثيف، وفرضت عليها تغطية كلِّ شيء فيها، وزعمت أن هذا هو الدين الحق!. . واني أقول لهؤلاء على الدوام: لو قلتم: إنها الغيرة على الحُرَم، أو الورع والاحتياط، لسلمنا ذلك لكم، ولن يلومكم أحد بل يُحمد لكم ذلك، أما أن تعتقدوا وتروِّجوا للغلوِّ، وتفسِّقوا المخالف، فهذا أمر لا يصفو لكم، ولا حجة لديكم. وقد ردّ عليهم ابن القطان بالحجج الدامغة والأدلة البيّنة التي لا تدع قولًا لقائل، بعيدًا عن تطويح العواطف، ونزق الأحداث العارضة، فالشريعة دائمة بدوام الإِنسان، محيطة بكلِّ حياته وأفراده. إنَّ المسلمين جميعًا إن شاء الله سينتفعون بهذا الكتاب، وستكون فائدته أعظم عند الباحثين عن الحق المنقبين بطمأنينة عن الدليل، ولا سيما في هذا الوقت الذي نرى فيه أفكارًا شاذَّة عن الزمان والمكان. . تصبّ الجهود لفرض هيئة معينة، والإِسلام يحاول المحاولون اقتلاعه من جذوره، ويعطيهم السُّذَّج من هؤلاء البرهان والمتمسَّك بخروج المرأة المسلمة في هيئاتها التي يروِّجون لها: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة: 5].
- 2 - • لقد تشوَّف الباحثون والدارسون، وعلماء الإِسلام وطلاَّب العلم إلى هذا الكتاب عبر العصور لجلالته وأهميته، وتوارى عن الأنظار دهرًا طويلًا، وقد ادَّخر الله تعالى الفضل في إخراجه وتعميم نفعه في المشارق والمغارب للأخ الأستاذ إدريس الصَّمَدي، فأخرجه من ظلمات الرفوف في خزانة الأسكوريال بإسبانيا ليضعه تحت نور الأبصار، والله يختصُّ مَن يشاء بما يشاء. والنسخة الوحيدة التي نعلمها لهذا الكتاب هي نسخة الأسكوريال، وهي نسخة سقيمة وفيها أخطاء كثيرة، وقد عكف الأستاذ الصَّمدي عليها بصبر وتؤدة دون كَلَل أو مَلَل، ولقد كان يعمل بها، ومرَّت به عاصفة من الأسقام والأمراض فما وَنَته عنها، وما أقعدته عن متابعتها، وكنتُ أشفق عليه وهو يجد في ذلك لذّة وحلاوة، واستطاع أن يخرجها ويقوّم كثيرًا من كلماتها وعباراتها، ويردَّها إلى الصواب بما رجع إليه من مصادر ومظان استخدمها المصنف، وبقيت كلمات صعبت عليّ وعليه فنرجو الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن ييسِّر لنا نسخة أخرى لإِصلاحها واستكمالها. ثم قام بتخريج أحاديثها وتتبعها بشكل جيد، وترجم لعديد من الرواة الذين ذكروا في الأسانيد، أو حام حولهم تعليل ابن القطان وتضعيفه. كما ذكر مظانَّ كثيرٍ من المسائل الفقهية التي أوردها ابن القطان في كتابه، وتكلَّم فيها بما يسهل الرجوع إلى عديد من المصادر لمن أراد المزيد. كما عرَّف بالكتاب وبصاحبه قبل الدخول إليه تعريفًا مطولًا نافعًا إن شاء الله. لقد أسدى الأستاذ إدريس الصَّمَدي للمكتبة الإِسلامية: الحديثية والفقهية بهذا العمل كتابًا نفيسًا، تُشدُّ عليه يد الضّنانة، ويقتنى بكلِّ غالٍ ونفيس، أسدى
مرجعًا أساسيًّا لا يُستغنى عنه، تقبَّل الله منا ومنه هذا الجهد، وقد كان هذا الكتاب مع دراسة له رسالة نال بها درجة دبلوم الدراسات العليا من كلية الآداب والعلوم الإِنسانية بالرباط بتقدير "حسن جدًّا". • وقد تناولتُ الكتاب أثناء عمله فيه، وبعد انتهائه منه، فدققتُ كلِمَه، وأصلحتُ عددًا منها ومن عباراته من الأصل ومن غيره، وتتبعتُ مسائله وأحاديثه وعلَّقتُ على عدد منها بما يقنع ويفيد إن شاء الله. وقد ميزُتها عن عمل الأستاذ إدريس بوضعها بين قوسين، وتصديرها بـ (قال أبو محمود:. . .) واقتصدت في ذلك ما أمكن، وضبطت عددًا من النصوص بالشكل. وبذلك نرجو أن يكون هذا السِّفر النفيس قد غدا معينًا سائغًا للواردين ينهلون منه كلَّ آنٍ وحين، سائلين المولى تعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، ويفيد الأمة في عاجل أمرها وآجله، ويتولانا بكريم رحمته وعنايته، إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وكتبه الدكتور فاروق محمود حمادة أبو محمود في القنيطرة بالمغرب الأقصى
التعريف بابن قطان
التعريف بابن قطان لقد اشتهر ابن القطان عند رجال الحديث والفقه من خلال مؤلفاته القيِّمة، التي برهن فيها على قدرته العلمية الواسعة، واطِّلاعه الكبير، فكان في كثير ممَّا انتهى إليه من الآراء والأحكام حجةً. ولم يظفر بهذا المستوى العلميِّ الذي انتهى إليه ابن القطان من حيث سعة اطلاعه على الحديث: رواية ودراية، إلا نزر قليل في كلِّ طبقة من طبقات الحفاظ المحدِّثين، كشعبة بن الحجاج (ت 160 هـ)، وسفيان الثوري (ت 161 هـ)، ووكيع بن الجراح (ت 197 هـ)، ويحيى بن معين (ت 233 هـ)، وعلي بن المديني (ت 234 هـ)، ومحمد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ)، ومسلم بن الحجاج (ت 261 هـ)، وأبو زرعة الرازي (ت 264 هـ). . . وغيرهم. وابن القطان كهؤلاء برز بجهوده المباركة في جميع علوم الحديث، فكان على خبرة شاملة بعلل الحديث، ودراية واسعة بفقهه، فحاز الرتبة المرموقة بين جهابدة الحفّاظ، وكَثُرت النقول عنه في كتب الحديث والرجال من كتاب "بيان الوهم والإِيهام"، وكتاب "إحكام النطر في أحكام النظر بحاسة البصر". وإذا رجعنا مثلًا إلى كتاب "نصب الراية لأحاديث الهداية" للحافظ جمال الدين الزيلعي (ت 762 هـ) سنجده مملوءًا بالقول عن كتب ابن القطان، وكذلك كتاب "التلخيص الحبير" للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)، و"ميزان
أولا: اسمه ونسبه
الإعتدال في نقد الرجال" للحافظ الذهبي (ت 743 هـ)، وغيرها من كتب الحديث والفقه، كـ"نيل الأوطار" للشوكاني، و"مواهب الجليل لشرح مختصر خليل" للحطَّاب (ت 954 هـ)، و"التاج الإِكليل لمختصر خليل" لمحمد بن يوسف المعروف بالمواق (ت 897 هـ)، وغيرها. فمَن هو ابن القطان هذا؟. أولًا: اسمه ونسبه: سجَّلت جميع الكتب التي ترجمت له أن اسمه: علي بن محمد بن عبد الملك بن يحيى بن محمد بن إبراهيم بن خلصة بن سماحة الحميري الكتامي الأصل، الفاسي المولد والمنشأ، نزيل مراكش (¬1)، المعروف بابن القطان، يكنى: أبا الحسن. وذكر ابن الزبير وابن القاضي وأحمد بابا -من الذين ترجموا له- أن أصل أجداده من قرطبة بالأندلس (¬2)، وابن مسدي ذكر أنه "مصري الأصل، مراكشي الدار" (¬3). ثانيًا: مولده ووفاته: ذكر مَن ترجم له أنه وُلد بفاس فجر عيد الأضحى سنة اثنتين وستين وخمسمئة هجرية، وتوفي "بين العشاءين من الليلة التي أهلّ فيها هلال ربيع الأول من سنة ثمان وعشرين وستمئة، ودُفن بالركن الواصل بين الصحنين ¬
ثالثا: نشأته وتحصيله العلمي
الشمالي والغربي من الزنقة، لصق الجامع الأعظم بسجلماسة، وقبره معروف هناك إلى الآن" (¬1). ثالثًا: نشأته وتحصيله العلمي: نشأ ابن القطان بفاس، وبها تلقَّى علومه الأولى، ولازم العديد من شيوخها الذين كانوا يفدون عليها، أو استقروا بها، ونهل من معينهم جميع العلوم واستكثر من علم الحديث، فأجاده رواية ودراية، واشتهر أمره فيه حتى صار حجة فيما ينتهي إليه من الأحكام والآراء. وكان لنضوج الحركة العلمية في المغرب على عهد الموحدين أثر كبير على ابن القطان في تحصيله العلمي، حيث صادف تحصيله العلمي في فاس أولًا، ثم في مراكش ثانيًا بعد أن رحل إليها، اهتمام الدولة الموحدية بعلم الحديث اهتمامًا كبيرًا، إذ جلبوا لتحقيق هذا الهدف كل من اشتهر أمره من العلماء، في الحديت والمناظرة من الأندلس والمغرب، "حتى اجتمع في فاس: علم القيروان، وعلم قرطبة" (¬2) "وكان ملوك المغرب يكرمون الوافدين عليهم من العلماء ويجلُّونهم ويفتخرون بهم". وقال صاحب "القرطاس" في عبد المؤمن بن علي: "وكان محبًّا في أهل العلم والأدب، مقربًا لهم، متشوقًا لوفادتهم، منفقًا لبضاعتهم" (¬3). ويقول الأستاذ محمد المنوني: "هذا إلى جانب ما وجد في المغرب على عهدهم من أعلام كبار من الأندلس والقيروان وغيرهما حتى اجتمع في فاس على حد تعبير "المعجب" ¬
علم القيروان وعلم قرطبة، وصارت مراكش هي الأخرى عاصمة علم ثانية، الأمر الذي له دخل كبير في تسمية غير واحد لها ببغداد المغرب، وكذا سبتة وطنجة وغير مدينة من مدن المغرب" (¬1). ويقول أيضًا: "وكذا ازدهر الحديث في هذا العهد ازدهارًا لها يكن له من قبل، وقد استمد نهضته من اهتمام الموحدين به اهتيامًا كبيرًا، ظهر في استدعائهم للمحدثين من الأندلس وأمرهم بتدريسه إلى جانب المحدثين المغاربة" (¬2). وهكذا نلاحظ أن المغرب عرف على عهد الموحدين نهضةً علميةً عظيمةً، صادفها ابن القطَّان في تحصيله العلمي، فاستفاد منها كثيرًا. . قضى مرحلته الأولى في التحصيل العلمي بفاس، ثم انتقل بعدها إلى مراكش، مهد العلم الثانى بعد فاس، ولربما أصبحت على عهد الموحدين تحتل الرتبة الأولى في العلم، لكثرة وفادة العلماء عليها، بسبب إجلال الموحدين لهم واحترامهم وإكرامهم. وكان انتقال ابن القطان إلى مراكش بعد تجاوزه العشرين من العمر، ولم أقف على تاريخ انتقاله إليها بالضبط، وإنما كل ما هنالك أن ابن الأبار يروي: "أن ابن القطان روى عن أبي عبد الله بن البقار الفاسي بفاس، وتفقه بفقهه، وأجاز له جميع روايته سنة (582 هـ) " (¬3). وبالرجوع إلى الشيوخ الذين أخذ عنهم بمراكش، نجد ابن الأبار، وكذلك ابن عبد الملك يرويان أنه أخذ عن الحافظ أبي عبد الله بن الفخار الأندلسي ¬
الذي وفد إلى مراكش بطلب من المنصور سنة ثمانين وخمسمئة، وتوفي بها سنة تسعين وخمسمئة، ولازمه ملازمة طويلة. . فيفهم من هذا أن انتقاله إلى مراكش كان بعد سنة اثنتين وثمانين وخمسمئة. وقد ذكر شيخنا الدكتور إبراهيم بن الصديق في أطروحته: أن انتقاله إلى مراكش كان بين سنة (583 هـ) و (585 هـ)، وعزز هذا: بأن بعض شيوخه الذين أخذ عنهم بمراكش مات في هذا التاريخ أو بعده بقليل (¬1). وعلى كُلٍّ فإن سنة إنتقاله من فاس إلى مراكش بالضبط لم يذكرها الرواة المترجمون له؛ لأنهم لم يتحدثوا عنه، في مرحلته الأولى بفاس، كما تحدثوا عنه في مرحلته الثانية بمراكش؛ لأن في هذه المرحلة ظهر نبوغه العلمي، واشتهر أمره بين العامة والخاصة، وتم اتصاله بملوك الموحدين، وخاصة منهم يعقوب المنصكور الموحدي الذي كان ابن القطان "من أخص جلسائه، وقد صدر به ابن القطان شيوخه في معجم شيوخه" (¬2). والذي يمكن القطع به هنا هو أن انتقاله من فاس إلى مراكش، كان بعد أن جاوز العشرين من العمر؛ لأن شيخه أبا عبد الله بن البقار الفاسي أجازه جميع روايته بفاس سنة اثنتين وثمانين وخمسمئة -كما سبق أن ذكرنا- وابن القطان آنذاك كان قد بلغ العشرين من العمر؛ لأن مولده كان سنة اثنتين وستين وخمسمئة. ولما انتقل إلى مراكش لازم علماءها، ونال من حياضهم الكثير، واتصل بملوك الموحدين فاشتهر أمره. ومن العلماء الذين استفاد منهم ابن القطان -وكان يحظى بالتكريم والإِجلال من طرف المنصور بن عبد المؤمن- الحافظ أبو عبد الله بن ¬
الفخار المالقي، الذي استجلبه المنصور إلى مراكش ليسمع بها عليه، سنة ثمانين وخمسمئة. وأبو عبد الله هذا، وصفه الحافظ الذهبي في "تذكرة الحفّاظ": "بالحافظ الإِمام الأوحد" (¬1). وقال فيه ابن الأبار: "كان صدرًا في حفّاظ الحديث، مقدمًا في ذلك، معروفًا بسرد المتون والأسانيد، مع معرفته بالرجال وحفظ الغريب، سمع منه جلّة، وحدّث عنه أئمة، واعترف له بالحفظ أهل زمانه" (¬2). ومن الذين لازمهم ابن القطان في تحصيله العلمي، وكان من علماء المغرب النابغين في علوم الحديث، أبو عبد الله محمد بن طاهر الحسيني الشريف الصقلي الحافظ المغربي الكبير الذي قال فيه ابن عبد الملك: "وكان راوية للحديث، حافظًا لمتونه، بصيرًا بعلله، عارفًا برجاله، مشرفًا على طبقاتهم وتواريخهم" (¬3). وبتتبع ابن القطان مجالس مثل هذين العالمين الجليلين، يكون قد أخذ علم الحديث عن أهله المشهورين بالحفظ والإِتقان. . ولم يكن نبوغه فيه عن طريق المطالعة كما قال الحافظ الذهبي في ترجمته، بل كان نبوغه في جميع العلوم، ومنها علوم الحديث، عن طريق ملازمته للشيوخ الكبار الذين وصفهم الحافظ الذهبي نفسه بالحفّاظ. وقد تعرض شيخنا الدكتور إبراهيم بن الصديق لهذا الموضوع في أطروحته، واستوفى فيه البحث تحت عنوان: "الحافظ الذهبي وابن القطان" ¬
رابعا: شيوخه
وأكّد فيه بأدلة ناهضة، أن ابن القطان تلقى علوم الحديث، عن أصحاب الفن، فيكون بذلك قد "تأصل في الفن في مدرسة حديثية، تفاعل معها، كما هو شأن المحدثين في سائر الأقطار" (¬1)، بالإِضافة إلى ما ظفر به في هذا الجانب من خلال رحلاته العلمية التي قام بها إلى إفريقية والأندلس (¬2)، حيث التقى أثناءها بعلمائها فأخذ عنهم، كما ذكر ابن الأبار وابن عبد الملك في ترجمته. وقد مكنه ذكاؤه وحدة فطنته من استغلال الحركة العلمية المباركة والاستفادة من مدرسة الحديث التي أقيم صرحها على عهد الموحدين، والتي كانت تضم كبار المحدثين والمشهورين في سعة الرواية والدراية من علماء العدوتين: المغرب والأندلس، حتى بلغ مكانة الأئمة الحفَّاظ، يحتج بأقواله في الجرح والتعديل، وبيان علل الحديثا سندًا ومتنًا. رابعًا: شيوخه: تعلَّم ابن القطان أولًا في بلده فاس، سمع الحديث فيها عن جماعة، ثم انتقل إلى مراكش ليسمع عن علمائها ومحدثيها الوافدين عليها، وقد جمع شيوخه في "برنامجه" الذي يقول عنه ابن القاضي: "وجمع برنامجًا مفيدًا في مشيخته" (¬3). وقد وقف عليه ابن عبد الملك ونقل عنه شيوخه. ولابن القطان في تحصيله العلمي مرحلتان: الأولى بفاس، والثانية بمراكش، سمع في المرحلة الأولى من شيوخ فاس ومحدثيها، وفي المرحلة الثانية من علماء مراكش وحفّاظها. ¬
1 - الشيوخ الذين تلقى عنهم بفاس
ومن هنا أرى أن أبدأ أولًا بالشيوخ الذين تلقى عنهم بفاس، ثم أتبعهم بالشيوخ الذين تلقى عنهم بمراكش سماعًا وإجازة: 1 - الشُّيوخ الذين تلقَّى عنهم بفاس: • علي بن موسى بن علي بن خلف السالمي الجياني: يكنى: أبا الحسن بن الفرات، نزل مدينة فاس، وتولى مهمة التدريس والخطابة بجامع القرويين. ذكره ابن عبد الملك من شيوخ ابن القطان، حيث قال: "روى عنه أبو الحجاج بن محمد الأندي، وأبو الحسن ابن القطان. . .". وقال فيه: "كان مقرئًا مجوِّدًا محدِّثًا راوية" (¬1). وكان هذا من شيوخ ابن القطان الأوائل، ولازمه ملازمة طويلة، كما قال ابن عبد الملك في ترجمته. • عبد الرحمن بن عيسى بن يوسف: يكنى: أبا القاسم الملجوم الفاسي، اشتهر أمره في العدوتين: المغرب والأندلس، وكثر الرواة عنه، لما كان يتوفر عليه من علو السند، كما يقول ابن القاضي في "جذوة الاقتباس". وكان متصل العناية بالرواية، ولقاء الشيوخ، والإِكثار من حمل الرواية، بصيرًا بالحديث، محافظًا على تقييده وضبطه. . حدّث وأخذ الناس عنه واستجازه من أقاصي البلاد رغبة فيه، وتنافسًا في علو روايته، وكان أهلًا لذلك (¬2). وقد ذكره ابن الزبير وابن عبد الملك في شيوخ ابن القطان، توفي سكنة (604 هـ). ¬
• محمد بن إبراهيم بن حزب الله: يكنى: أبا عبد الله بن البقار، من شيوخ ابن القطان بفاس، ذكره ابن الأبار في شيوخه، وقال عنه: "وكان من أهل الفقه والحديث متحققًا بالرواية، والحديث عن رجالها، عاكفًا على التدريس، حافظًا متقنًا .. . روى عنه أبو الحسن بن القطان وتفقّه به، فأجاز له جميع روايته سنة (582 هـ) " (¬1). • إبراهيم بن إبراهيم الأنصاري، المقري، الأشبوني: يكنى: أبا إسحاق ابن العشاب، نزيل فاس، ذكره ابن الأبار في شيوخ ابن القطان وقال عنه: "حدّث وأقرأ وأخذ عنه، حكى أبو الحسن بن القطان أنه أجاز له جميع روايته سنة (582 هـ) .. توفي سنة (583 هـ) " (¬2). • محمد بن طاهر الحسيني الشريف الصقلي: يكنى: أبا عبد الله، يعتبر من أجلّ شيوخ فاس وحفّاظها .. عده ابن عبد الملك في شيوخ ابن القطان، حيث قال: "روى عنه أبو الحسن بن القطان، وأبو عبد الله بن حصاد العجلاني، وكان راوية للحديث، حافظًا لمتونه، بصيرًا بعلله، عارفًا برجاله، مشرفًا على طبقاتهم وتواريخهم، عني بهذا الشأن أتم عناية ودرسه ببلده، واستدرك على "الأحكام الكبرى" لعبد الحق أحاديث كثيرة في أكثر الكتب، رأى أن أبا محمد أغفلها، وأنها أولى بالذكر مما أورده أبو محمد في الأحكام، دل ذلك على حسن نظره، وجودة اختياره" (¬3). هذه جملة من الشيوخ الذين يرجح أن ابن القطان أخذ عنهم في مرحلته الأولى من التحصيل العلمي بفاس، ويحتمل أن يكون قد تلقى عن بعضهم بمراكش أيضًا بعد انتقالهم إليها. ¬
2 - أما الشيوخ الذين تلقى عنهم بمراكش فمنهم
2 - أما الشُّيوخ الذين تلقَّى عنهم بمراكش فمنهم: • أبو بكر بن خلف الأنصاري القرطبي: والد الحافظ أبي عبد الله بن أبي بكر بن المواق تلميذ ابن القطان، وقد عده ابن الأبار في شيوخ ابن القطان، وقال عنه: "وعني بالحديث على جهة التفقه والتعليل والبحث عن الأسانيد والرجال والزيادات، وما يعارض أو يعاضد، ولم يعنَ بالرواية، وقد حدّث وسمع منه أبو الحسن بن القطان، وحظي بخدمة السلطان بمراكش .. . وولي قضاء مدينة فاس، وتوفي بها وهو يتولاه في شوال سنة تسعين وخمسمئة" (¬1). • محمد بن إبراهيم بن خلف: يكنى: أبا عبد الله بن الفخار المالقي الأندلسي "الحافظ الإِمام الأوحد" (¬2). كما قال الحافظ الذهبي. وقال عنه ابن الأبار: "كان صدرًا في الحفَّاظ مقدمًا معروفًا بِسَرد المتون والأسانيد، مع معرفة بالرجال وحفظ للغريب، سمع منه جِلَّة، وحدّث عنه أئمة" (¬3). وهذا من الشيوخ الذين لازمهم ابن القطان ملازمة طويلة. توفي بمراكش سنة خمسمئة وتسعين (¬4). • يعيش بن علي بن مسعود بن يعيش بن القديم الأنصاري الشلبي: يكنى أبا البقاء، نزل بمراكش وبقي فيها مدة، ثم انتقل إلى فاس وبها توفي سنة (626 هـ)، عده ابن القاضي في "جذوة الإقتباس" من شيوخ ابن القطان، حيث قال: "حدّث عنه أبو الحسن بن القطان وأبو العباس بن البناء وأبو بكر بن عمر بن عتاب" (¬5). ¬
• أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن علي بن محمد بن سليمان المرسي: "الحافظ الإِمام محدث تلمسان" (¬1)، كما قال الحافظ الذهبي. أخذ عن علماء الأندلس ثم رحل إلى الشرق وبقي به مدة طويلة، روى خلالها عن علماء أجلاّء، منهم: السّلفي، ويقال: إنه دعا له بطول العمر، وقال له: "تكون محدث المغرب إن شاء الله" (¬2). وذكر ابن الأبار رحلته إلى الشرق هذه، فقال: "وقفل من رحلته الحافلة هذه، فأخذ عنه بسبتة سنة (574 هـ)، ثم نزل تلمسان، واتخذها وطنًا، وحدّث بها وألَّف، ورحل الناس إليه وسمعوا منه كثيرًا" (¬3). وذكره ابن عبد الملك في "الذيل والتكملة" وكذلك ابن الزبير في "صلة الصلة" في شيوخ ابن القطان .. وذكر ابن القاضي: أنه "قدم فاس عام أربعة وتسعين وخمسمئة، وروى عنه بها خلق كثير" (¬4). توفي بمراكش سنة (610 هـ). • أبو الخطَّاب بن واجب أحمد بن محمد بن عمر القيسي البلنسي: وصفه ابن الأبار بقوله: "حامل راية الرواية بشرق الأندلس، وآخر المحدثين المسندين" .. وقال فيه أيضًا: "فصار لا يعدل به أحد من أهل وقته عدالة وجلالة وسعة أسمعة وعلو إسناد وصحة قول وضبط، مع عناية كاملة بصناعة الحديث وبصر ¬
به، وتحقق بحمله وذكر لرجاله، وتهافت على جمع كتبه وما يتعلق بفنه، ومحافظة على اسمه ونشره، وترغيب لأهله فيه، وكانت الرحلة إليه في زمانه" (¬1). توفي بمراكش سنة (614 هـ). ونقل ابن عبد الملك عن برنامج ابن القطان أنه من شيوخه. • أحمد بن هارون بن أحمد بن جعفر بن عتاب النفزي: "الحافظ الإِمام الثقة" هكذا وصفه الحافظ الدهبي، يكنى: أبا عمر، وصفه ابن الأبار بقوله: "كان أحد الحفَّاظ، يسرد المتون، ويحفظ الأسانيد عن ظهر قلب لا يخل منها بشيء، موصوفًا بالدراية والرواية، يغلب عليه الورع والزهد على منهاج السلف، وله تآليف دالة على سعة حفظه" (¬2). وقال فيه ابن عبد الملك: "وكان من أكابر المحدثين الجلّة الحفّاظ المسندين للحديث، وكان أهل شاطبة يفاخرون بأبوي: عمر بن عبد البر، وابن عتّاب" (¬3). استشهد في وقعة "العقاب" سنة تسع وستمئة (¬4). ذكره ابن عبد الملك في "الذيل والتكملة" في شيوخ ابن القطان. • أحمد بن يزيد بن عبد الرحمن بن بقي: يكنى: أبا القاسم، من ذرية بقي بن مخلد، وصفه ابن الأبار بأنه: "قاضي قضاة المغرب، من أهل قرطبة، ولي قضاء الجماعة بمراكش، بالإضافة إلى خطَّتي: المظالم والكتابة العليا، توفي سنة (615 هـ) " (¬5). سمع منه ابن القطان مسند جده وتفسيره، ولازمه مدة طويلة. قاله ابن عبد الملك. ¬
• أحمد بن يحيى بن عميرة الضبي المرسي: يكنى: أبا جعفر. قال ابن الأبار: "روى عنه جماعة من شيوخنا وكبار أصحابنا" (¬1). ودخل مراكش (¬2)، وعده ابن الأبار وابن عبد الملك في شيوخ ابن القطان. توفي سنة (599 هـ). • أبو العباس الصيقل أحمد بن سلمة بن أحمد اللورقي الأندلسي: سكن تلمسان، قال ابن الأبار: "كان من أهل العناية الكاملة للحديث، والمعرفة بصناعته، والتقدم في الضبط والإِتقان" (¬3). وذكره ابن الأبار، وكذلك ابن عبد الملك في شيوخ ابن القطان. توفي سنة (598 هـ). هؤلاء هم الشيوخ الذين روى عنهم ابن القطان ولازمهم كثيرًا، بالإِضافة إلى عدد كبير من الشيوخ الذين تحمل عنهم ابن القطان عن طريق المكاتبة .. ورغم ما قام به من الرحلات إلى إفريقية والأندلس، فقد فاته اللقاء بعدد من الشيوخ ورغب في تحمُّل رواياتهم عن طريق المكاتبة. وصورة المكاتبة: "أن يكتب الشيخ بعض حديثه لمن حضر عنده، أو لمن غاب عنه ويرسله إليه، وسواء كتبه بنفسه، أو أمر غيره أن يكتبه، ويكفي أن يعرف المكتوب له خط الشيخ، أو خط الكاتب عن الشيخ، ويشترط فيها: أن يعلم أن الكاتب ثقة" (¬4). وقد كاتبا ابنَ القطان عددٌ كبيرٌ من الشيوخ، نذكر من بينهم: ¬
خامسا: تلامدته والرواة عنه
• الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عبيد الله الحجري الأندلسي: نزيل سبتة، وبها توفي سنة (591 هـ)، ذكره ابن عبد الملك وكذلك ابن الزبير في المجيزين لابن القطان. • أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن كوثر الغرناطي: سمع من علماء الأندلس والمشرق ورجع إلى بلده "بعلم كثير ورواية واسعة" (¬1)، أخذ عنه خلق كثير .. ذكره ابن عبد الملك وابن الزبير في شيوخ ابن القطان. • أبو عبد الله محمد بن سعيد بن زرقون الإِشبيلي: أخذ عن القاضي عياض ولازمه كثيرًا، قال ابن الأبار: "وكان الناس يرحلون إليه للسماع منه لعلو روايته، توفي سنة (586 هـ) " (¬2). جعله ابن عبد الملك في مَن روى عنهم ابن القطان مكاتبة، وكذلك ابن الزبير. • أبو محمد بن عبد المنعم بن محمد الخزرجي الغرناطي المعروف بابن الفرس: ذكره ابن عبد الملك في الشيوخ الذين روى عنهم ابن القطان سماعًا، أما ابن القاضي فقد عده في "جذوة الإقتباس" في الشيوخ الذين روى عنهم ابن القطان مكاتبة، توفي سنة (597 هـ). فهذه جملة من الشيوخ الذين روى عنهم ابن القطان سماعًا أو مكاتبة .. كلهم كما رأينا قد بلغوا مرتبة في الحفظ والإِتقان وسعة النظر، ساعدته ملكته القوية على الإستفادة منهم كثيرًا. خامسًا: تلامدته والرواة عنه: كان دور ابن القطان في تلقين طلبَة العلم في حلقاته المباركة الكبيرة التي كان يعقدها في قصر الخلافة وغيره بمراكش وغيرها، كدور كلِّ عالم ¬
متبحِّر في الرواية والدراية، فقد ضمَّت حلقاتُه العلميةُ عددًا كبيرًا من الذين كانت لهم الرغبة في الأخذ والتحديث عنه. وقد قال ابن الأبار عنه: "درَّس وحدث". وقال ابن عبد الملك بعد أن ذكر عددًا من تلامذته: "في خَلْق لا يحصون كثرة أخذوا عنه بمراكش وغيرها من بلاد العدوة إلى إفريقية، وبالأندلس". وابن عبد الملك هذا يُعد من تلامذة تلامذته، يقول ابن عبد الملك وهو يعد شيوخه الذين رووا عن ابن القطان: "ومن شيوخنا الرواة عنه سوى ابنه أبي محمد: أبو الحسن الكفيف، وأبو زيد بن القاسم الطراز، وأبو عبد الله بن الطراوة، وأبو عبد الله المدعو بالشريف، وأبو علي المقاري، وأبو القاسم العرفي، والمطماطي، وأبو محمد عبد الواحد بن مخلوف بن موسى المشّاط". ومن أشهر تلامذة ابن القطان: • ابناه: أبو محمد حسن وأبو عبد الله الحسين: وكان أبوهما شديد العناية بهما، يستجيز لهما المحدثين "ويرغب في أن يؤلفوا لهما كتب الدراسة والتلقين" (¬1). ومن الذين استجابوا لرغبة ابن القطان في التأليف لولديه أبو عبد الله التجيبي الذي ألّف لهما كتاب "التلقين"، وقد أكَّد شيخنا الدكتور إبراهيم بن الصديق في رسالته "علم العلل في المغرب" أن كتاب "التلقين" هذا، هو من تأليف أبي عبد الله التجيبي، وليس من تأليف عبد الحق الإِشبيلي، كما ذكر ابن عبد الملك في ترجمة ابن القطان، واعتبر ذلك وهمًا من ابن عبد الملك (¬2). وقد حظي أبو محمد حسن ابن القطان بالتكريم والتقدير من طرف أبي ¬
حفص عمر المرتضى، أحد خلفاء الموحدين، وولي القضاء على عهده وله مؤلفات. (¬1) • ومن تلامذة ابن القطان: الحافظ أبو عبد الله بن المواق محمد بن يحيى بن أبي بكر: المراكشي النشأة، القرطبي الفاسي الأصل، قال فيه ابن عبد الملك: وكان فقيهًا حافظًا محدِّثًا مقيدًا ضابطًا متقنًا، نبيل الخط بارعه، ناقدًا محققًا، ذاكرًا أسماء الرجال وتواريخهم وأحوالهم، وله تعقب على كتاب شيخه أبي الحسن ابن القطان الموسوم بـ "بيان الوهم والإِيهام الواقعين في كتاب الأحكام". ولأبي عبد الله أيضًا مصنفات غير ما ذكر، منها: "شيوخ الدارقطني" و"شرح مقدمة صحيح مسلم" ومقالات كثيرة في أغراض شتى حديثية وفقهية، وتنبيهات مفيدة، ووقفت على جملة من "شرح الموطأ" في غاية النبل وحسن الوضع ... استقضي ببلنسية وفاس، توفي سنة اثنتين وأربعين وستمئة (¬2). وقد ذكر صاحب "الرسالة المستطرفة" اسم الكتاب الذي تعقب فيه ابن المواق على كتاب شيخه: "بيان الوهم والإِيهام" فقال: "وقد تعقَّب كتابه هذا في توهيمه لعبد الحق تلميذه الحافظ الناقد المحقق أبو عبد الله محمد ابن الإِمام يحيى (ابن المواق) في كتاب سمّاه: "المآخذ الحفال السامية عن مآخذ الإِهمال في شرح ما تضمنه كتاب بيان الوهم والإيهام من الإخلال والإِغفال، وما انضاف إليه من تتميم وإِكمال"، تعقُّبًا ظهر فيه كما قال الشيخ القصَّار: إدراكه ونبله، وبراعة نقده .. إلا أنه تولَّى إخراجه من المبيضة ثم اخترمته المنية، ولم يبلغ من تكميله الأمنية، فتولى تكميل تخريجه مع زيادة تتمات، وكتب ما تركه المؤلف بياضًا: "أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن رشيد" (¬3) ¬
وذكر صاحب "كشف الظنون" أن كتاب "بغية النقّاد في أصول الحديث" للإِمام الحافظ عبد الله بن المواق، وقد علمت أن اسمه محمد وكنيته أبو عبد الله (¬1). وقد وصفه الحافظ العراقي بـ"الحافظ" (¬2). • ومن تلامذته أيضًا: أبو عبد الله محمد بن عياض بن محمد بن عياض بن موسكى اليحصبي: حفيد القاضي عياض. قال فيه ابن الزبير: "كان من عدول القضاة وجلّة سراتهم وأهل النزاهة فيهها .. . محبًّا في أهل العلم مقرِّبًا لأصاغر الطلبة، ومكرمًا لهم، ومعتنيًا بهم، يحبِّب إليهم العلم والتمسُّك به، قرأ بسبتة وأسند بها، ورحل إلى الجزيرة الخضراء .. . وُلد سنة (584 هـ)، وتوفي بغرناطة سنة (655 هـ) " (¬3). وهو من شيوخ شيوخ ابن عبد الملك (¬4). • ومن تلامذته كذلك: أبو عبد الله محمد بن السباني المعروف بابن الطراوة: قال فيه صاحب "الذيل والتكملة": "كان حافظًا للتواريخ على تبيان أنواعها، ذاكرًا لها محاضرًا بها .. . توفي بسجلماسة سنة (659 هـ) " (¬5). ومن الذين استجازهم ابن القطان ورووا عنه من غير أن يلقاهم: • أبو الحسن علي بن محمد بن علي الشاري السبتي: قال عنه ابن الزبير: "إن جلّة المحدثين الأندلسيين أخذوا عنه" (¬6). ¬
سادسا: مكانته العلمية
وقال ابن عبد الملك: "كتب إليه مجيزًا ولم يلقه: أبو جعفر بن مضاء، وأبو الحسن بن القطان" (¬1). وقائمة أسماء مَن روى عن ابن القطان طويلة لا يحصون، كما قال ابن عبد الملك: "في خلق لا يحصون كثرة .. ." نكتفي بهذا القدر منهم. وقد عدّ الحافظ العراقي في "طرح التثريب" ابن الأبار من تلامذة ابن القطان، حيث قال: "أخذ عنه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الأبار" (¬2). والغريب أن ابن الأبار نفسه لم يُشِرْ إلى هده التلمذة في "التكملة"، وكذلك ابن عبد الملك، ولعل الحافظ العراقي عثر على هذه التلمذة في مؤلف انتهى إلى علماء المشرق، ولم يتم العثور عليه من طرق علماء المغرب (¬3). • ومن الذين أجازهم ابن القطان الحافظ أبو بكر بن مسدي. قال في "برنامجه" عن ابن القطان: "عاقت الفتن المدلهمة عن لقائه، وقد أجاز لي مروياته" (¬4). سادسًا: مكانته العلمية: بقيت شخصية ابن القطان مغمورة منذ عهود بعيدة رغم ما عرف به من سعة العلم وقوة الحفظ وكثرة الإِنتاج في الأوساط العلمية، فهو لا يقل عن الأعلام الذين ظفروا بالدراسة الواسعة .. وقد أدى الإِغفال عن مثل هذه الشخصية المغربية العظيمة، إلى طمس الجانب العلميِّ الذي انتهى إليه المغاربة، وخصوصًا في علم الحديث، الذي يعتبر ابن القطان أحد أعلامه البارزين فيه ¬
رواية ودراية .. وأصبح من المشهور لدى المشارقة أن المغاربة لم يظهر لهم نجم في علم الحديث، وإنما انصبَّتْ دراساتهم على علم الفروع فقط. ولذلك وجب على الباحث المغربي أن يتَّجه إلى تراث أسلافه الكرام، ليقيم في ضوئه دراسات وبحوثًا، ويظهر من خلالها المكانة العلمية التي انتهى إليها المغاربة في جميع العلوم، ومنها علم الحديث .. والإهتمام بمثل شخصية ابن القطان يكشف النقاب عن حقيقة المغاربة في الميدانِ العلميِّ، وما خلّفه علماؤه الأمجاد من التراث الخالد. وشخصية ابن القطان ظلَّت مجهولة عند العديد من المهتمِّين بالتراجم والدراسات حتَّى إنَّ بعضهم يحسبه من حفّاظ المشرق. والذين وقفوا على إنتاجه العلميِّ من علماء المشرق كالحافظ الذهبيِّ، والحافظ العراقيِّ، والحافظ ابن حجر، يربطون بين شخصيته وبين ذلك الإِنتاج، ويعدُّونه من الحفّاظ المغاربة الذين اشتهروا في القرن السادس والسابع بالمشاركة والتطلُّع في جميع العلوم كالحديث والفقه والأصول والتاريخ والتفسير والعربية. وقد اهتم ابن عبد الملك في "الذيل والتكملة" بإنتاجه العلميِّ، فقال بعد أن ذكر عددًا من مؤلفاته: "إلى غير ذلك من المعلقات والفوائد في التفسير والحديث، والفقه وأصوله، والكلام والآداب، والتواريخ والأخبار". وقد وصفه ابن الأبار بقوله: "وكان من أبصر الناس بصناعة الحديث، وأحفظهم لأسماء رجاله، وأشدهم عناية بالرواية" (¬1). وأضاف ابن القاضي في "جذوة الإقتباس" إلى ما نقله عن ابن الأبار في ابن القطان: "مع التفنن في المعرفة والدراية" (¬2). ¬
وقال ابن الزبير (ت 708 هـ): "وكان ذاكرًا للرجال والتاريخ، عارفًا بعلل الحديث، نقّادًا ماهرًا" (¬1). وقال ابن عبد الملك: "وكان ذاكرًا للحديث، متبحِّرًا في علومه، بصيرًا بطرقه، عارفًا برجاله، عاكفًا على خدمته، مميزًا صحيحه من سقيمه، مثابرًا على التلبس بالعلم وتقييده عمره، كتب بخطه على ضعفه الكثير، وعني بخدمة كتب بلغ فيها الغاية، منها نسخته بخطه من صحيح مسلم، والسنن لأبي داود وغيرها" (¬2). أما إذا رجعنا إلى ما قاله فيه علماء المشرق الذين اطَّلعوا على إنتاجه العلميِّ، فنجدهم يُضفون عليه كلَّ الصفات التي لها يظفر بها إلا القليل من العلماء الأفاضل، فهذا الحافظ جمال الدين بن مسدي يقول فيه ما نصُّه: "كان معروفًا بالحفظ وإلإِتقان، ومن أئمة هذا الشأن" (¬3). وهذا الحافظ الذهبيُّ يصفه في "تذكرة الحفّاظ" بـ: "الحافظ العلّامة الناقد قاضي الجماعة"، ويقول: "طالعت كتابه المسمى بـ"الوهم والإِيهام" الذي وضعه على "الأحكام الكبرى" يدل على حفظه وقوة فهمه، لكنه تعنت في أحوال رجال فما أنصف، يحيث إنه أخذ يلين هشام بن عروة ونحوه". (¬4) وهذا أيضًا الحافظ العراقي يقول فيه في كتابه، "طرح التثريب": "أحد الحفّاظ الأعلام، صاحبا كتاب: بيان الوهم والإِيهام" (¬5). ¬
سابعا: إنتاجه العلمي
وهذا كذلك الحافظ السيوطيُّ يترجم له في "طبقات الحفّاظ" ويصفه: بـ "الحافظ الناقد العلّامة" (¬1). إلى غير ذلك من الشهادات المستفيضة فيه، وكلها تؤكد قوة حفظه ومتانة علمه وتفننه فيه مع الثقة والأمانة، ولم يحز هذه الأوصاف إلا القليل من الحفّاظ الكبار كعلي ابن المديني ويحيى بن معين والبخاري وغيرهم. سابعًا: إِنتاجه العلمي: إن إمامًا كابن القطان، الذي تتلمذ لشيوخ كبار عُرفوا بسعة الإطلاع، وقوة الحفظ، وبراعة النقد، لا بد وأن يكون له إنتاجٌ علميٌّ كبير في كلِّ العلوم التي طلبها، واشتهر أمره فيها. ولقد ذكر المترجمون لابن القطان -وخصوصًا ابن عبد الملك- قائمةً طويلةً من المؤلَّفات لم يعثر على معظمها حتَّى الآن، ولعلَّ بعضها يكون قد ضاع في حوادث المعتصم الموحدي مع عمِّه المأمون -كما يذكر صاحب "الإستقصاء"؛ حيث قال: "ولم يزل مع مغروره المعتصم في حركاته واضطراب أمره مع المأمون عمِّه إلى أن نجا المعتصم أمام عمِّه إلى سجلماسة، فأدركت أبا الحسن منيته مبطونًا، حسيرًا على ما فقد من أهله وبنيه وكتبه وسائر ممتلكاته" (¬2). ونذكر من مؤلفاته ما يلي: 1 - كتاب "بيان الوهم والإِيهام، الواقعين في كتاب الأحكام": وهذا الكتاب يُعتبر من أشهر كتبه وأهمها على الإِطلاق، إذ يشتمل على علم غزير في الحديث وعلله ورجاله برهن فيه على "حفظه وقوة فهمه" (¬3) كما قال الحافظ ¬
الذهبي عنه، وفيه حكم على رتبة مئات الأحاديث من عشرات المصنفات، ودرس إسنادها ومتنها، وعرَّف بحال رواتها. ومثل هذا المجهود العظيم لا يتأتَّى إلا لمتضلِّع في علوم الحديث بجميع فروعه، ولا نطيل في التعريف بهذا الكتاب؛ لأنه ليس من غرضنا، وقد أفاض شيخنا الدكتور إبراهيم بن الصديق في دراسته لهذا الكتاب، في أطروحته "علم العلل في المغرب"، من خلال كتاب "بيان الوهم والإِيهام الواقعين في كتاب الأحكام" لأبي الحسن ابن القطان الفاسي. فليرجع إليه. 2 - "الإِقناع في مسائل الإِجماع": ويطلق عليه بعضهم: "مراتب الإِجماع"، أما صاحب "طبقات المالكية" فيسميه: "الإِجماع". وتكثر النقول عنه في كتب الفقه والخلاف، ومنه نسخة في قصر غاليوم الثاني بقرية بوتسدام، التي تبعد سبعة كيلومترات عن برلين الشرقية، تحت رقم (95)، رأيتُ ذلك في قائمة المخطوطات التي أعدَّها الدكتور فوزي رئيس قسم الهندسة الميكانيكية بمصر، وجدتُ هذه القائمة عند الشيخ حمَّاد الأنصاري أستاذ بالجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة .. وذكر لي أن الشيوعيين ضربوا الحصار الشديد على هذه المكتبة، بحيث يمنعون كلَّ باحثٍ إسلاميٍّ من الدخول إليها والإستفادة من نفائسها، وقد كتبتُ إلى المسؤولين عنها مرارًا أسألهم عن كتاب "الإقناع في مسائل الإجماع" فلم ألقَ أي إجابة منهم، فتأكَّد لي ما ذكره فضيلة الشيخ حمَّاد الأنصاري! .. ونسأل الله أن يفكَّ عنها ذلك الحصار، حتى يتمكَّن الباحثون من الإستفادة من نفائسها الإِسلامية. وبالخزانة العامة بالرباط صورة من كتاب: "الإِقناع في مسائل الإِجماع" على الميكروفيلم تحمل نفس الرقم الذي تحمله النسخة الموجودة بقصر غاليوم المشار إليها قبل، والظاهر أنها مصورة عن هذه النسخة.
وفي هذا الكتاب يقتصر ابن القطان على استعراض ما أجمع عليه العلماء في المسائل الإعتقادية والفقهية من غير تعليق منه أو تدخل، وكثيرًا ما ينقل عن ابن عبد البر من كتاب "التمهيد" و"الاستذكار"، وعن ابن حزم من "مراتب الإِجماع"، و"المحلى"، وعن الشافعي من "الرسالة"، وعن ابن المنذر وغيرهم، وقد طبع كما تقدم بتحقيق ودراسة وشرح الدكتور فاروق حمادة. 3 - كتاب "إحكام النظر في أحكام النظر": ولهذا الكتاب شهرته الكبيرة عند المحدثين والفقهاء، وهو هذا الكتاب. 4 - "رسالة في فضل يوم عاشوراء، والترغيب في الإِنفاق فيه على الأهل": ومنها نسخة في خزانة ابن يوسف بمراكش، تضم نحو ثلاثين صفحة، تحدث فيها عن حديث: "مَن وسّع على أهله وعياله يوم عاشوراء، وسّع الله عليه سائر سنته" وحسنه. وله مؤلفات أخرى كثيرة ذكر أغلبها ابن عبد الملك في كتابه "الذيل والتكملة"، منها: 5 - "نقع الغلل والفوائد والعلل في الكلام على أحاديت السنن لأبي داود". 6 - "البستان في أحكام الجنان": يقول ابن عبد الملك: "مجلدان متوسطان". 7 - يذكر ابن عبد الملك أن له "كتابًا حافلًا جمع فيه الحديث الصحيح محذوف السند، جمعه من المسندات والمصنفات .. كمَّل منه كتاب الطهارة والصلاة والجنائز والزكاة في نحو عشر مجلدات"، ولم يذكر ابن عبد الملك اسم هذا الكتاب. 8 - "إنهاء البحث منتهاه، عن مغزى من أثبت القول بالقياس ومن نفاه".
9 - "النزع في القيالس لمناضلة من سلك غير المهيع في إثبات القياس": يردُّ فيه على عالم اسمه: أبو علي الطوير، ذكر ذلك ابن عبد الملك. 10 - "الردّ على أبي محمد بن حزم في كتاب المحلى". 11 - "شيوخ الدارقطني": مجلد متوسط. 12 - "تجريد من ذكره الخطيب في تاريخه من رجال الحديث بحكاية أو شعر". 13 - "تقريب الفتح القسي". 14 - "كتاب ما حاضر به الأمراء": مجلد متوسط. 15 - "أسماء الخيل وأنسابها وأخبارها": مجلد متوسط. 16 - "أبو قلمون": مجلدان ضخمان. 17 - "مسائل من أصول الفقه": زعم أنه لم يذكرها الأصوليون في كتبهم. 18 - "رسالة في الإِمامة الكبرى". 19 - "رسالة في القراءة خلف الإِمام". 20 - "رسالة في الوصية للوارث". 21 - "رسالة في المنع من إلقاء التفث في عشر ذي الحجة للمضحي". 22 - "رسالة في منع المجتهد من تقليد المحدث في تصحيح الحديث لدى العمل". 23 - "رسالة في الرهن يوضع على يد أمين فيعتدي فيه". 24 - "رسالة في مشاطرة العمّال". 25 - "رسالة في الطلاق الثلاث".
ثامنا: المناصب العلمية التي تبوأها، وحظوته عند الموحدين
26 - "رسالة في الأيمان اللازمة". 27 - "رسالة في الختان". 28 - "رسالة في التسعير". 29 - "رسالة في معاملة الكافر". 30 - "المقالة المعقولة في حكم فتوى الميت والفتوى المنقولة". 31 - "رسالة في الأوزان والمكاييل". 32 - "رسالة في حث الإِمام على القعود لسماع مظالم الرعية". 33 - "مقالة في تبيين التناسب بين قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ويتوب الله على مَن تاب"، وما قبله من الحديث". 34 - "مقالة في تفسير قول المحدثين في الحديث: إنه حسن". 35 - "رسالة في تحريم التساب". 36 - "مقالة في الوصية للجنين". 37 - "أحاديث في فضل التلاوة والذكر". 38 - "برنامج شيوخه" (¬1). هذه مجموعة من مؤلفاته تُظهر لنا قيمته العلمية، ومشاركته الواسعة، وقد اعتمدها المحدثون والفقهاء من بعده. ثامنًا: المناصب العلمية التي تبوَّأها، وحظوته عند الموحدين: لقد بوَّأه علمُه الغزيرُ مكانةً مرموقة بين أقرانه وعلماء عصره، وحاز قصب السبق عند العديد من ملوك الموحدين، وذاع صيتُه في الآفاق العلمية، وأعجب ¬
به كلُّ من سمعه أو اطلع على إنتاجه العلمي، وحلّاه بآيات من الثناء العاطر والشكر المتواصل. وقد أهَّله اطلاعه الواسع على علوم الحديت الشريف؛ لأن يكون رأس طلبة العلم بمراكش، وهو الذي يُعرف إلى عهد قريب بـ"سلطان الطلبة"، وكان هذا المنصب على عهد الموحدين من أرفع المناصب العلمية، لا يتقلدها إلا مَن بلغ مرتبة الإِمامة في الحديث والفقه والأصول، وقد كان ابن القطان كذلك .. . يقول جمال الدين بن مسدي: "كان شيخ شيوخ أهل العلم في الدولة المومنية" (¬1). بالإِضافة إلى ما كان يحوزه من التقدير والإحترام من طرف الجميع، يؤكِّد هذا ابن عبد الملك عندما يقول: "كان معظَّمًا عند الخاصة والعامة من آل دولة عبد المؤمن" (¬2). ولما كان ابن القطان هكذا، قرَّبه بعضُ ملوك الموحِّدين إليهم وجعلوه من أخصِّهم، ونال بخدمتهم دنيا عريضة، وخصوصًا منهم: يعقوب المنصور، وابنه الناصر، فالمستنصر بن الناصر، وأبو محمد عبد الواحد أخو المنصور، وأبو زكرياء المعتصم .. . ويوضِّح هذا ابن عبد الملك فيقول: "وكان معظَّمًا عند الخاصة والعامة، من آل دولة بني عبد المؤمن، حظي كثيرًا عند المنصور منهم، فابنه الناصر فالمستنصر بن الناصر، فأبي محمد عبد الواحد أخي المنصور، ثم أبي زكرياء المعتصم أبي الناصر، حتى كان رئيس الطلبة؛ مصروفة إليه الخطط المهمة، مرجوعًا إليه في الفتوى، وكان عند المنصور منهم كثيرًا .. .". ثم يذكر الخطط التي انتهت إليه على عهد الناصر، فيقول: "إنه في أيام ¬
الناصر انتهت خطط أبي الحسن بن القطان نحو ثلاث عشرة خطة، كلها أو جلها جليل مفيد، وكل واحد منها إنما كان يعين لها أكثر الموسومين بالعلم قدرًا وأبعدهم صيتًا". ويذكر ابن عبد الملك أن من جملة الخطط التي انتهت إلى ابن القطان: المحافظة على مكتبة قصر الموحدين. بالإِضافة إلى الحلقات العلمية التي كان يعقدها في قصر الخلافة ودار الطلبة، ويحضرها الأمراء وكبار الشخصيات، وعدد هائل من الشيوخ والطلبة، برهن فيها على قدرته العلمية وخصوصًا فيما يتعلق بعلم الحديث بسائر فروعه. ويذكر بعضُ المترجمين له: أن من المهام التي تولَّاها: قضاء الجماعة، ذكر ابن مسدي أنه: "ولي قضاء الجماعة في أثناء تقلب الدولة" (¬1)، وكذلك وصفه الذهبي في "تذكرة الحفّاظ" لما قاله عنه: "الحافظ العلّامة الناقد، قاضي الجماعة" (¬2). وقد استبعد شيخنا الدكتور إبراهيم بن الصديق في أطروحته "علم العلل في المغرب" أن يكون ابن القطان قد ولي هذه المهمة، وعلل ذلك، وذكر أن ما تولاه في هذا المضمار هو قضاء الجند للمعتصم بسجلماسة في أخريات حياته، وهذا ما يشير إليه ابن عبد الملك بقوله: "لما دخل المأمون مراكش على الوجه الشنيع الذي دخلها عليه، فصل المعتصم من ظاهرها في فل أصحابه وشيعته، وكان منهم أبو الحسن بن القطان متوليًا القضاء بين حزبه". وهذه المهام التي تقلَّب فيها ابن القطان على عهد الموحِّدين أكسبته أموالًا ¬
طائلة ودنيا عظيمة على حدِّ تعبير ابن الأبار، واتخذ لنفسه ضيعة خارج باب فاس، وكان يتردد عليها باستمرار. ويروي لنا ابن عبد الملك عن الحسن ولد ابن القطان أبياتًا يصف فيها أبوه نهرًا بضيعته تلك، كما يروي عنه أبياتًا شعرية قالها أبو الحسن لما عثرت به بغلته، عندما كان متوجِّهًا إلى ضيعته، وكان معه: أبو عبد الله بن المناصف الذي قال: ما بالها عثرت وما بها قُلبة؟ .. فأجابه ابن القطان بقوله: لم تعثر البغلةُ السفواء إذ عثرتْ ... من ضعفِ أيدٍ ولا من أنَّها خَرِقَهْ لكنَّها غَشيتْ من نورِ ما حَمَلَتْ ... من العلومِ فخرَّتْ تحتَهُ صَعِقَهْ والذين ترجموا لابن القطان متفقون على أنه لم يظفر بهذا الغنى والسعة في المال إلا بعد اتصاله بالموحدين، ونال من عطاءاتهم الشيء الكثير. والمعروف عن ملوك الموحدين أنهم كانوا يُكرمون العلماء، ويُغدقون عليهم العطاء من غير حدود، وخاصَّة منهم المنصور الذي كان يقرِّب إليه كلَّ من اشتهر من علماء الحديث ويبوِّئه المكانة الرفيعة، وطرد فقهاء الفروع وأمر بإحراق جميع كتب الفروع بعد تجريدها من القرآن والسنَّة! .. وكان هذا المبدأ الذي أقامت عليه الدولة الموحدية سياستها الدينية، مغايرًا للمبدأ الذي كانت عليه الدولة المرابطية، حيث كانت تجلُّ علماء الفروع، وتصرف إليهم العطاءات، وتسند إليهم الخطط، فانقلب الأمر على عهد الموحدين، وصار العلم المبجل هو علم الحديث، ولذلك نال من معروفهم كلُّ مَن اشتهر في علم الحديث، وكان ابن القطان من بينهم، فنال بخدمتهم دنيا عريضة، وكان ذلك أحد الأسباب المباشرة في الحقد عليه والكيد له عند "العادل" أحد ملوك الموحدين، حتى همّ العادل بإلقاء القبض عليه، لولا أنه راعى ما قدّمه من الخدمات الجليلة إلى جده وأبيه وأخيه وعمه، كما كان ذلك أيضًا سببًا في الوحشة التي وقعتْ بينه
وبين العادل، ومنعه من الدخول إلى القصر والتردد عليه .. ويشير ابن مسدي إلى هذا فيقول: "نقمت عليه أغراض انتهكت فيها أعراض" (¬1). وقد لُمز ابنُ القطان من طرف الحاقدين عليه، وأُلصقت بشخصه تهم كثيرة لا مبرر لها، وقد سجلها ابن عبد الملك في كتابه "الذيل والتكملة"، واعتمد فيها على أسلوب التفخيم والتعظيم والإِبهام، لا على التفسير والحجة، وهذا ما جعل العلماء الحفَّاظ والنقَّاد الكبار، كالحافظ الذهبي والسيوطي والعراقي وابن حجر -وكلهم ترجم لابن القطان- لا يلتفتون إليها رغم اطلاعهم على كتاب "الذيل والتكملة" لابن عبد الملك، واعتمادهم عليه في كثير من النقول. وإذا رجعنا إلى كتاب "التكملة" لابن الأبار نجده خاليًا من التهم التي حشدها ابن عبد الملك في ترجمته لابن القطان، ولم يسجل فيه عنه إلا ما يثبت عدالته .. والمعروف عن ابن الأبار هو تشدُّده في نقد الرجال، إذ لم يسلم من نقده إلا من كان سالمًا بالفعل مما يجرح به، كما أنه كان شديد التحرِّي في اختيار الشيوخ الذين يروي عنهم، وقد سبق أن ذكرنا أن الحافظ العراقي ذكره في تلامذة ابن القطان .. وما روى عنه إلا أنه كان من الشيوخ الذين ارتضاهم واطمأن إلى عدالتهم وثقتهم وحفظهم. والظاهر أن جميع التُّهم الموجهة لابن القطان، وقد سجَّلها ابن عبد الملك في كتابه "الذيل والتكملة" من غير تثبُّت منه ولا تمحيص، إنما هي صادرة عن أولئك الذين لم يسعفهم الحظ لأن يفزوا بما فاز به ابن القطان عند ملوك الموحدين، وهي لا تعدو أن تكون من التهم التي وجهها الحسّاد إلى الأئمة العظام كالإِمام مالك وعلي بن المديني والبخاري وغيرهم. * * * ¬
تصدير
تصدير مما لا شكَّ فيه أنَّ معرفة أحكام الإِسلام في كلِّ مجالات الحياة هي من ضروريات الحياة بالنسبة لكلِّ مسلم ومسلمة، وقد عني الشارع ببيانها البيانَ الكافي، وقام علماءُ الإِسلام بالبحث الشامل في كتاب الله وسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لتحديد مراد الله ورسوله منها، ورتبوها ترتيبًا فقهيًّا دقيقًا ليسهل الإطلاع على كلِّ حكم منها في بابه من غير عناء ولا مشقة. وكتاب "إحكام النظر في أحكام النظر بحاسة البصر" لمصنِّفه الحافظ سيد النقاد في عصره أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الملك بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى -رحمه الله-، المعروف بابن القطان الكتامي الفاسي، يُعتبر من البحوث القيِّمة التي قدَّمها صاحبها في باب النظر الذي أناط به الشارع مجموعة من الأحكام قصد صيانته من الوقوع فيما يفضي إلى معصية الله وارتكاب ما يهدم الكيان الخلقي والفضيلة، وجعل مسؤولية الإِنسان عن النظر كمسؤوليته عن السمع والبصر، قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]. والناس اليوم يُغفِلون هذه الحقيقةَ، ويطلقون العنانَ للبصر، حتَّى إنَّ الواحد منهم لا يكاد يميز بين ما يباح النظر إليه وما يملك، وأصبح المثل
القائل: "العين ما عليها شرع"! هو القاعدة المتبعة، في حين نجد الإسلام يحاسب عليها، ويضع لها حدودًا يجب أن لا تتعداها، بقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]. ويقول: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31]. فالآية صريحة في أن غضَّ البصر أصل لحفظ الفرج، لذلك كان تحريم النظر تحريم الوسائل، فيباح للمصلحة، كالنظر للمخطوبة مثلًا، ويحرم إذا حنيف منه الفساد، وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة. والأمر بغضِّ البصر يعني صرفه عمَّا حرَّم الله النظر إليه مخافة الوقوع في المعصية، ومعلوم أن العين بريد القلب، تنقل إليه الصور التي تحرِّك شهوته وإرادته، ولذلك إذا غضَّ العبدُ بصرَه، كفَّ القلبُ شهوتَه وإرادته، وإذا أطلق بصره، أطلق القلبُ شهوته .. ولهذا منع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الفضل بن عباس - رضي الله عنهما - من النظر إلى الظعن التي مرت به تجرين؛ حتى لا يؤدِّي به ذلك إلى تحريك شهوة القلب. روى الإِمام البخاري في صحيحه: "أن الفضل بن عباس - رضي الله عنهما - كان رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر من مزدلفة إلى منى، فمرت ظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فحوَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه إلى الشقِّ الآخر". وهذا يعني: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - منعه من النظر الذي كان منه، ولو كان جائزًا لأقرَّه عليه. وروى الإِمام مسلم: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله كتبَ على ابن آدم حظَّه من الزنى أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللِّسانِ النطق، والنفس تتمنَّى ذلك وتشتهي، والفرجُ يصدِّق ذلك أو يكذّبه".
أولا: التعريف بالكتاب
فهدا الحديثُ صريح في أن العين تعصي بالنظر، وأن ذلك زناها، وقد بدأ الله بزنى العين؛ لأنه زنى اليد والرجل والقلب والفرج، وجعل الفرج مصدِّقًا لذلك إن حقق الفعل، أو مكذِّبًا له إن لم يحققه. وروى الإِمام أحمد والترمذي وأبو داود: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي: "يا عليُّ! لا تتبع النظرة النطرة، فإن لك الأولى وليست لك الثانية". فالحديث صريح بأن النظرة الأولى جائزة وما بعدها ممنوع. وقد سُئل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجأة -وقد علم أنه يؤثر في القلب- فأمر بمداواته بصرف البصر، لا بتكرار النظرة روى مسلم والترمذي وأبو داود: عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -: أنه قال: "سألت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري". ونظرة الفجأة هي النظرة الأولى التي تقع بغير قصد من الناظر فلا إثم فيها، أما إذا نظر الثانية تعمُّدًا أثم، وكذلك إذا استدام النظر لأن استدامه كتكريره. وقد أرشد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من ابتلي بنظرة الفجأة، أن يعالجه بإتيان امرأته، وقال: "إن معها مثل الذي معها" رواه مسلم وأبو داود. والنصوص الواردات في الموضوع كثيرة جمعها ابن القطان في كتابه "إحكام النظر في أحكام النظر بحاسة البصر" ودرسها دراسة الناقد البصير بالحديث. أولًا: التعريف بالكتاب: سأتناول في هذا المبحث: اسم الكتاب، وموضوعه. 1 - اسم الكتاب: لقد كتب على الورقة الأولى من محْطوطة "الأسكريال" -وهي الأصل-
اسم الكتاب، وهو: "كتاب النظر في أحكام النظر بحاسة البصر": "مما عني بجمعه الشيخ الإِمام الفقيه المحدّث الحافظ أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك بن يحيى بن إبراهيم بن عيسى، عرف بابن القطان - رضي الله عنه - وعن سائر المسلمين آمين". لقد اختصره أبو العبَّاس أحمد بن قاسم القباب، المتوفى سنة (779 هـ) وسمَّاه: "اختصار أحكام النظر"، حذف منه الأدلة والحجج، واكتفى بسرد المسائل الفقهية الواردة فيه، وقد عزاه إلى مؤلِّفه ابن القطان باسمه الوارد في أصل المخطوطة مع حذف: "بحاسة البصر"، وقد ذكر في مقدمته الهدف من اختصاره، فقال: "قصدتُ إلى اختصار كتاب "النظر في أحكام النظر" للشيخ الفقيه المحدِّث أبي الحسن، علي بن عبد الملك بن القطان، إذ هو كتاب جليل القدر، عظيم النفع، فقيد المثل، والداعي إلى اختصاره: أن بعض أهل الدِّين الباحثين عمَّا يلزمهم من أمور دينهم ممَّن ليس لهم باع في العلم إذا رام طلب مسألة منه، شقَّ عليه استخراجها منه، لما اشتمل عليه الكتاب من سياق الأدلة من الكتاب والسُّنَّة والحجج، ممَّا ليس فيه للمريدين أربٌ، وإنَّما ينتفع بتلك الأدلة والحجج الخواصُّ من أهل العلم، فقصدتُ لتجريد مسائله ليسهلَ على المبتدئين والمريدين النظر فيه". وأغلب المترجمين لابن القطان يذكرون الكتاب بهذا الإسم، وينسبونه إلى مصنِّفه، منهم: ابن عبد الملك، ووصفه بأنه مجلد متوسط. والذين ينقلون عن أصل الكتاب يذكرون اسمه مختصرًا، فهذا الحافظ السيوطي ينقل عنه في "اللآلئ" وغيرها، فيذكره باسم "أحكام النظر"، يقول في "اللآلئ المصنوعة: 2/ 107 ": ذكر ابن القطان في كتاب "أحكام النظر".
2 - موضوعه
وكذلك يذكره الشوكاني في "نيل الأوطار" و"الفوائد المجموعة" .. قال في "الفوائد المجموعة" نقلاً عن الحافظ ابن حجر (ص: 138): "وقال ابن حجر: لكن ابن القطان ذكر في كتاب "أحكام النظر" أن بقي بن مخلد رواه عن هشام بن خالد عن بقية .. .". وكتب الفقه كالحطاب والمواق وحاشية الدردير كلها تذكره باسم "أحكام النظر"، وتنسبه إلى مصنفه ابن القطان إن كان النقل عن الأصل، أو إلى "القباب" مختصره إن كان النقل عن المختصر. فهذه المصادر كلها تذكر تسميته مختصرة وكاملة، مع اتفاقها على نسبته لابن القطان مصنفه (¬1). 2 - موضوعه: إن كتاب "إحكام النظر في أحكام النظر بحاسة البصر" تنحصر بحوثُه في الأحكام والمسائل المتعلقة بالنظر بحاسة البصر، وقد فصل في ذلك تفصيلًا دقيقًا، وبنى على ذلك تفريعات مهمَّة ومفيدة، قصد المصنف من ورائها الإِحاطة بما سُئل عنه من أحكام النظر، وقد كان ذلك هو الباعث على تصنيفه، وقد أعرب عن ذلك في مقدمة كتابه فقال: "ونبيِّن إن شاء الله بهذا القول جواب ما سُئلت عنه من أحكام النظر بحاسة البصر، مخلصًا في ثمانية أبواب". فهذا النص واضح في بيان الهدف من تصنيف الكتاب، ذلك أنه جاء تلبية لرغبة السائلين عن أحكام النظر، وكانت إجابته الواسعة المؤيَّدة بالدليل ¬
دواءً لكلِّ عليل بداء إطلاق العنان للنظر فيما لا يجوز شرعًا: وخاصَّة فيما يتعلَّق بما نصَّ الشارع على تحريم النظر إليه. وقد حدَّد من خلال أبواب الكتاب الثمانية ما يجوز ابداؤه والنظر إليه، وما لا يجوز، معتمدًا في حكمه على ما دلَّت عليه النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، والأقوال المأثورة عن الصحابة والتابعين والعلماء المعتمدين، مناقشًا ومحلِّلًا ومعلِّلًا ... شأنه في ذلك شأن الجهابذة من العلماء المجتهدين. والمتتبع لكتابه هذا عن كثب، يدرك مدى أهمية موضوعه، وعلاقته بالجانب الأخلاقيِّ، ذلك الجانب الذي يعتبر أساسيّا في إقامة المجتمعات السليمة .. وغضُّ البصر في الإِسلام هو صيانة النفس من الوقوع في المعصية، وكبح جماحها عمَّا تهواه، وإطلاقُ العنان للبصر يفضي إلى ارتكاب ما يشان شرعًا وعرفًا. ولمَّا كان النظر غير المباح، يشكِّل خطرًا على الناظر والمنظور إليه قد تنتهك به الأعراض والكرامات، ويتمُّ به الإطلاع على ما لا يحبُّ المنظور إليه الإطلاع عليه من طرف غيره، أمر الشارع بغضِّه في مواطن كثيرة، تتبَّعها المصنفُ في كتابه، وبيَّن أحكامها على ضوء الكتاب والسنّة وأقوال الأئمة المعتمدين. وليس كلُّ ما نهى الشرعُ عن النظر إليه، هو من قبيل ما يجلب للنفس هوىً، كالنظر إلى المرأة الأجنبية، وإنَّما هناك أمور نهي الشرع عن النظر إليها، وإن كانت لا تحدث في القلب هوًى، وفي النفس ولوعًا بها، وقد مثل لذلك: بالنظر في بيت الغير من ثقب، ورفع البصر إلى السَّماء في الصَّلاه، والنظر إلى ما يشغل في الصلاة، والنظر إلى ما يجلب حبَّ الدنيا والغنى، ويُنسي شكرَ الله على النعم المسداة ... وساق كلَّ ما يتعلَّق بهذه الأمور من الأدلة الثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. وقد نبّه المصنِّف إلى الغرض منْ غضِّ البصر، وهو تحقيق طاعة الله سواء كان الغضُّ واجبًا أو مندوبًا.
3 - بنية الكتاب وتقسيمه
ولتوضيح ما يجوز النظر إليه وما لا يجوز، قَسَم النظر إلى ما هو طاعة، وإلى ما هو معصية، وإلى ما هو معفوٌّ عنه، ومثَّل لهذا الأخير بنظر الفجأة، وانتهى في بحثه إلى أن جناية البصر من الصغائر تكفَّر بالطاعات، واحتجَّ بنصوص قرآنية وحديثية ... وهكذا تعرَّض لجميع الأحكام المتعلِّقة بالنظر؛ سواء كان المنظور إليه ممَّا يجلب إلى النفس هوًى وولوعًا به، أو كان غير ذلك، وبذلك جاء كتابه جامعًا لكلِّ ما يتصوَّر وقوع النظر إليه في الواقع مع بيان حكم الإِسلام فيه. إن كتاب: "إحكام النظر في أحكام النظر بحاسة البصر" يعتبر في الواقع من أجلِّ المصنَّفات في باب النظر، حيث أحاط بالجزئيات الصَّغيرة التي لا يلتفت إليها إلا مَن رزق سعة الإطلاع على اللصوص وبُعد النظر في فحواها. 3 - بنية الكتابِ وتقسيمُه: وإننا لنجد المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- يملك القدرةَ العجيبةَ على حُسن التبويب والتفريعات, وأن ما يُعَنْوِنُ به الباب أو الفصل يكون في منتهى الدِّقَّة من حيث ترجمته لما يتضمنه الباب أو الفصل ترجمةً تدلُّ على قوة الفهم والوعي والإِحاطة بالموضوع؛ فمثلًا نجده يقول: "الباب الثاني في بيان ما يجوز إبداؤه للناظر وما لا يجوز"؛ فهذا العنوان ترجم به ما يجوز إظهاره من الجسد للناس، وما لا يجوز على وجه الحرمة أو الكراهة، سواء كان الذي يجوز إظهاره أو لا يجوز، وبالتالي جواز النظر إليه، أو عدم جواز النظر إليه، من الذكور أو الإِناث أو الخنثى .. وقد عقد لكلِّ صنف من هؤلاء فصلًا خاصًّا به، وتحت كل فصل مسائل ... وهذه الدقة في العناوين والتبويب والتفصيل أكسبتْهُ الموضوعيةَ في الدِّراسة، والدِّقة في الترتيب، ولا تجده يكرِّر المسألة التي سبق الحديث عنها إلا إذا دعَتْه المناسبة إلى ذكرها على وجه المقارنة، أو التفريق بينها وبين المسألة المماثلة لها والتي هو بصدد دراستها.
ثانيا: منهجه في تأليف كتابه
ورغم صعوبةِ الموضوع وتشعُّب مسائله وتداخلها أحيانًا، لا تجد للمصنف اضطرابًا أو خلطًا أو غموضًا يشين بالموضوع، بل تجده يعرض الأمورَ بطريقةٍ موضوعيةٍ واضحةٍ، وبأسلوبٍ سهلٍ، وبلغةٍ رفيعةٍ مفهومةٍ، يستطيع القارئ للكتاب أدما يظفر بجملةٍ وافرةٍ من المعلومات من غير عناء. ثانيًا: منهجُهُ في تأليفِ كتابِهِ: قبل الحديث عن المنهج الذي سلكه ابن القطان في تصنيف كتابه: "النطر في أحكام النظر"؛ أذكرُ ملاحظتين تتعلقانِ بالكتاب من حيث الشكل: 1 - الملاحطة الأولى: إنَّ المؤلِّف لم يتكلَّف وضعَ مقدمة لكتابه هذا، كما هي عادة العديد من المصنِّفين، الذين تجدهم يُصَدِّرون مصنَّفاتهم بخطب بليغة؛ يجمعون فيها من المحسَّنات البديعية، وصناعة الأسجاع، وبراعة الإستهلال، وغير ذلك ما يعكس تكلُّفهم في اختيار العبارات، وانتقاء الأساليب في خطبهم .. وابن القطان يتجاوز هذا الصنيع في التقديم رغم فشوِّه في محصره، ويؤلِّف كتابه على طريقة المصنفين الأقدمين، إذ نجده يكتفي بالحمد لله والصلاة على النبيِّ، لا يتعدَّى في ذلك السطر الواحد، ثم يدخل في المقصود بالذات، ويبيّن الداعي لتصنيف كتابه، وهو الإجابة عمَّا سُئل عنه. 2 - الملاحطة الثانية: إنَّ الأسلوب الذي استعمله ابن القطالما في مصنَّفه، يمتاز بالسلاسة والوضوح التامِّ، بعيدًا عن التكلُّف والحشو والإستطرادات، رغم اشتمال مصنفه على مجموعةٍ من المصطلحات الفقهية والأصولية والحديثية، فإنَّك لا تجد فيه ما يعجز القارئ عن فهمه، لأنَّه يتولَّى شرحها وبيانها حتَّى تصبح في متناول الجميع. وبذلك يختلف أسلوبُه كثيرًا عن أسلوب الفقهاء المتشبثين بالمصطلحات في العرض، واعتماد الإِشارات والضمائر طلبًا للإختصار.
وإنَّ أسلوبَه لشبيهٌ بأسلوب علماء الأندلس، كابن العربي وابن عبد البر والقرطبي، ولا غرابة في ذلك، إذ علمنا أنَّه تتلمذ للعديد من علماء الأندلس الذين وفدوا على المغرب على عهد الموحدين، وخصوصًا منهم المحدِّثين. وبعد هاتين الملاحظتين العابرتين ننتقل للحديث عن المنهج الذي سلكه ابن القطان في كتابه هذا. ولا أكون قد جاوزتُ الحدَّ في الثناء إذا قلتُ: إن كتاب: "النطر في أحكام النطر" من المصنَّفات العظيمة، وتتجلَّى عظمته في نواحٍ متعددة، منها: 1 - أنَّه أولُ كتابٍ صُنِّف في موضوع "النظر"؛ فله فضل السبق الزمني، وكلُّ من جاء بعده يعتمد عليه في بابه. 2 - أنَّه يمتازُ بحسنِ العرض، وجودة الترتيب، والدقة في العناوين والتقسيمات والتفريعات، مع تتبع أقوال العلماء ومستنداتهم، ودراستها دراسة نقدية وموضوعية. 3 - ولأهميته اعتبره العلماءُ الدين جاؤوا من بعده، من المصادرِ المهمَّةِ في بابه، ونال القبول والرضا في المشرق والمغرب، يجد فيه الفقيهُ ضالَّته، وكذلك المحدِّث. ولبيان المنهج الذي اتبعه ابن القطان في تصنيفه كتاب: "النظر في أحكام النطر" أرى من الأفيد ذكر ما ورد في مقدّمته، حيث رسم فيه ما يوضح منهجه في العرض، وتتبع الأخبار والأحكام: قال في بداية كتابه: "وجعلتُ ما أذكره في كلِّ باب ممَّا بعد الباب الأول في مسائل، وهي منقسمة ثلاثة أقسام: قسم الفتوى فيه مقطوع بها، وقسم الفتوى فيه مظنونة، وقسم الفتوى فيه متردد فيها؛ كتبناه وبيَّنَّاه على الإحتمال فيه ليرى الناظر
فيه رأيه ... ونلتزم فيه من الخبر الحديثي ذكر الأحاديث الصحاح بغير إسناد، (وما) روي فيه عند المحدثين نظر، أذكره بإسناد، وأنبِّه على ما ينبغي عليه من أمره .. وانما أفعل ذلك إذا (كان داخلًا) في الباب، أما إذا لم يكن من الباب، فقد أكتفي بالإِشارة إليه، وما كان من الحديث في الباب ضعيفًا، أقتصر على ذكر (المتن) وموضع العلة من الإِسناد". ومن خلال هذا النصِّ الواضح تتبين لنا منهجيته في تصنيف كتابه، وقد التزم بها وما حاد عنها في كلِّ أبواب الكتاب، ويمكن عرض منهجيته في النقط التالية: ذكره المسائل التي فيها الفتوى مقطوع بها، لورود النصِّ فيها، من ذلك مثلًا: مسألة كشف العورة. وهي السوءتان؛ هده المسألة يقطع بها في الفتوى بتحريم كشفهما، ويستشهد بالإِجماع المنعقد على تحريك كشف العورة، لقوله تعالى: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] على الإحتمال بأنه يريد يحفظونها من الإنكشاف والبُدُوِّ. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: قلت: يارسول الله - صلى الله عليه وسلم - عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك ... " الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن أبي شيبة. ويفعل هذا في كلِّ ما كانت الفتوى فيه مقطوعًا بها. أما ما كانت الفتوى فيه مظنونةً. فإنه يحكي الخلاف الوارد فيه عن العلماء، ومتمسكات كلِّ فريق، ويناقشها مناقشة موضوعية، فيردُّ ما ضعف منها، ويستبعد ما لم يدلَّ على المقصود منها، وإذا لم يبقَ لديه من الخبر ما يفيد القطع في حكم الأمر الذي هو بصدد البحث عنه، لجأ إلى اللُّغة ومقاصد الشريعة؛ وهذا ما قام به بالنسبة لأمر الفخذ، فلمَّا لم تصحَّ متمسكات المانعين
كَشفَها، رَدَّها وكَشَف عن عللها، ولمَّا كانت أحاديث الصحيحين كَشْفَها، لم تدلَّ على المقصود دلالة بينة، وان كانت صحيحة، لم يعتمدها دليلًا مبيحًا لكشف الفخذ، فلجأ إلى اللغة لتحديد معنى العورة فيها، فوجد أنَّ العورة في اللغة هي: كلُّ ما يُستحيى منه، وأمر الفخذ كذلك، إذ ليس من المروءة كشفه، وبذلك أوجب ستره وحرم النظر إليه، لكن أمره أخفُّ من أمر السوءتين ... وهذا الذي انتهى إليه ابن القطان في أمر الفخذ هو شبيه بما ذهب إليه ابن رشد في "المقدمات"؛ إذ قال بعد ذكره الآثار الواردة في الفخذ: "والذي أقول به: إن ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفخذ ليس باختلاف تعارض، ومعناه: أنه ليس بعورة يجب سترها فرضًا كالقبل والدبر، وأنه عورة يجب سترها في مكارم الأخلاق ومحاسنها، فلا ينبغي التهاون بذلك في المحافل والجماعات، ولا عند ذي الأقدار والهيئات، فعلى هذا تستعمل الآثار كلها، واستعمالها كلها أولى من اطراح بعضها" (¬1). وهذا ما يفهم أيضًا من كلام البخاري: "وحديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط" بأنه يحتمل أنه يريد بالإحتياط: الوجوب، الورع، وهو أظهر، لقوله: "حتى يخرج من اختلافهم". وقد جمع ابن القيم أيضًا بين الآثار الواردة في الفخذ فقال: "وطريق الجمع بين هذه الأحاديث: أن العورة عورتان: مخففة ومغلظة، فالمغلظة: السَّوءتان، والمخففة: الفخذان. ولا تنافي بين الأمر بغضِّ البصر عن الفخذ لكونها عورة، وبين كشفها لكونها عورة مخففة" (¬2). ¬
وكذلك فعل بالنسبة لأمر الوجه والكفين؛ فقد حكى في إظهارهما من المرأة للأجانب خلافًا، سببه: اختلاف المفسرين في قوله تعالى: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]. وبعد حكايته الأقوال الواردة عن المفسِّرين في الزينة الظاهرة، تعرَّض لما ورد من الأخبار في الوجه والكفين، وقد أفاض في مناقشة جميعها بنَفَس المحدِّث الناقد البصير، والفقيه الواسع النظر البعيد الغور، وانتهى إلى ضرورة الأخذ بما تظاهرت به الظواهر، وتعاضدتْ عليه، من جواز إبداء المرأة وجهها وكفيها؛ شريطة أن لا تقصد بذلك التبرج واظهار المحاسن ... وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، وهو ما روي عن ابن عباس وابن عمر وأنس وعائشة وأبي هريرة في الزينة الظاهرة. وقال ابن عبد البر في (التمهيد: 6/ 369): "وعلى قول ابن عباس وابن عمر الفقهاء في هذا الباب". كما رجَّح ابن العربي في كتابه "أحكام القرآن"، (¬1) هذا القول في الزينة الظاهرة، واحتجَّ بأن المرأة تظهرهما في الصلاة والإِحرام، كما تظهرهما في العادة، وحكاه المصنِّف مذهبًا لإِسماعيل القاضي ... وعلى هذا فيجوز بُدُوُّهما (أي: الوجه والكفين) والنظر إليهما من غير ريبة أو مكروه، وقد ذكر ذلك ابن عبد البر في "التمهيد" فقال: "وجائز أن ينظر لذلك منها، كل ما نظر إليها بغير ريبة ولا مكروه، وأما النظر للشهوة، فحرام تأملها من فوق ثيابها، فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة" (¬2). ¬
وانظر ما حكاه ابن عبد البر في "التمهيد" من وقوع الإِجماع على أن للمرأة أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين (¬1)، وما حكاه المصنِّف أيضًا عن إسماعيل القاضي وابن المنذر، ولهذا يكون ما ذهب إليه ابن القطان في إبداء الوجه والكفين هو المشهور عند الجمهور، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في "سننه": من حديث خالد بن دريك، عن عائشة - رضي الله عنهما -: أنَّ أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها، وقال: "يا أسماء إنَّ المرأةَ إذا بلغتِ المحيضَ لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا" وأشار إلى وجهه وكفيه. لكن قال أبو داود وأبو حاتم الرازي: هو مرسل، خالد بن دريك لم يسمع من عائشة - رضي الله عنهما - انظر تعليقًا على الحديث رقم (176) في (الفصل الثاني من الباب الثاني) - فالمصنف إذن يأخذ برأي الجمهور فيما تكون فيه الفتوى مظنونة. أما فيما يتعلَّق بطريقة إيراده للأدلة، فإن منهجه في ذلك: أن يذكر الأحاديث الصحيحة بغير إسنادها، وما فيه عند المحدثين نظر يذكره بإسناده مع التنبيه على ما فيه من الإحتمال، وما كان من الحديث ضعيفًا يذكر متنه وموضع العلة من الإِسناد. ومثال ما يرويه بإسناده، وفيه نظر عند المحدثين: حديث جويرية. قال: قال أبو داود: إنَّ عبد العزيز بن يحيى الحواني أبو الأصبغ، قال: حدثنا محمد -يعني ابن مسلمة- عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: وقعت جويريةُ بنتُ الحارث بن المصطلق في سهم ثابت بن قيس بن الشماس أو ابن عمٍّ له، فكاتبت على نفسها، وكانت امرأة صالحة، تأخذها ¬
العين، فجاءت تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتابتها، فلما قامتا على الباب فرأيتها فكوهت مكانها، وعرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيرى منها مثل الذي رأيت، فقالت: يا رسول الله! أنا جويرية بنت الحارث، وأنا كان من أمري ما لا يخفى عليك، وإني قد وقعت في سهم ثابت بن قيس بن الشماس، وإني كاتبتُ على نفسي، فجئتُك أسألك في كتابتي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فهل لك إلى ما هو خير منه؟ ". قالت: وما هو يا رسول الله؟. قال: "أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك". قالت: قد فعلت. قالت: فتسامع -يعني الناس- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تزوَّجها، فأرسلوا ما في أيديهم من السبي، فأعتقوهم وقالوا: أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما رأينا امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها، أعتق في سببها مئة أهل بيت من بني المصطلق. قال ابن القطان بعده: "وهو حديث حسن، وابن إسحاق لم يصرح بما قيل فيه، والخوض فيه طويل عريض". ثم قال: "تندفع دلالته: باحتمال ألا تكون أبدت وجهها بحضرته، كما أبدته حين رأتها عائشة، وليس في الخبر دليل على أنه رآها بادية الوجه فأقرها، وفيه دليل على أرْ زمان رؤية عائشة لوجهها، غير زمان تكلُّمها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنها قالت: فلمَّا قامت على الباب فكرهت مكانها وعرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيرى منها مثل الذي رأيت؛ دلَّ على أنه لم يرها بعد، ولعله كان في صلاة أو غيرها". وهكذا نلاحظ أن ابن القطان لم يقبل هذا الحديث دليلًا على جواز بُدُوِّ الوجه لما فيه من الإحتمال الذي ذكره، والقاعدة: "ما اكتنفه الإحتمال سقط به الإستدلال". ومثال هذا في كتابه: "إحكام النظر في أحكام النظر بحاسة البصر" كثير.
ومثال ما يرويه من الضعيف ويبين علته: ما رواه أبو داود: عن عائشة: أن هند بنت عتبة، قالت: يا نبي الله! بايعني. قال: "لا أبايعك حتى تغيري كفيك، فكأنهما كفا سبع". قال: "فيه ثلاث نسوة لا يعرفن: غبطة بنت عمرو، عن عمتها أم الحسن، عن جدتها". وذكر رواية أخرى لأبي داود: عن عائشة أيضًا: أن امرأة ناولته كتابًا من وراء ستر، فقبض يده، وقال: "ما أدري أيد رجل أو امرأة؟ " قالت: بل يد امرأة، قال: "لو كنت امرأة لغيرت أظفارك بالحنا". قال المصنف: "فيه صفية بنت عصمة، وكل هؤلاء عدم". وهكذا يفعل في كل حديث ضعيف ذكره في كتابه، بالإِضافة إلى ما يقوم به من استقراء طرق الحديث الضعيف، مع بيان ما في كل طريق من العلة الموجبة لسقوط الإحتجاج به. ومن هنا كان كتاب "إحكام النظر في أحكام التظر بحاسة البصر، لابن القطان من أهمِّ المؤلفات في فقه الحديث، إذ جمع فيه بين الرواية والدراية، على عادة المحدثين الفقهاء. ومن خصائص هذا الكتاب: إنه يمتاز بإتقان الصنعة، واستيعاب المادة، وتتبع جميع الجزئيات المتعلقة بالنظر، وذكر ما ورد فيها من الخبر مع بيان ما ينبغي بيانه، من غير تعصب مذهبي أو جمود فقهي. وهذه الدراسة بمثل هذا النَّفَس لا تتأتَّى إلا للعالم الخبير المختص في علوم الحديث رواية ودراية، وكان ابن القطان من الجهابذة في علوم الحديث والفقه وأصوله، وبذلك كانت إنتاجاته العلمية تحظى بالقبول والرضا من طرف عامة علماء المشرق والمغرب.
ثالثا: اشتماله على الجانب الحديثي والفقهي
ثالثًا: اشتمالُه على الجانبِ الحديثيِّ والفقهيِّ: وممَّا يمتاز به كتاب "إحكام النظر في أحكام النظر بحاسة البصر" لابن القطان: أنه يجمع فيه بين الجانب الحديثيِّ والجانب الفقهيِّ، ولا يتأتَّى هذا العمل إلا للمحدِّث الفقيه .. وسأحاول إبراز هذين الجانبين للكتاب فيما يلي: 1 - الجانبُ الحديثيُّ: ويتجلَّى هذا الجانب في الكتاب من خلال النقط التالية: أ - يذكر المصنفُ الحديثَ ويعزوه لمخرجه، ثم يستقرئ طرقه وألفاظه المختلفة، وخصوصًا منها ما له علاقة بموضوعه. ب - يهتمُّ المصنِّف ببيان مرتبة الحديث، وقد حكم على عدد هائل من الأحاديث التي أوردها في كتابه بأنها صحيحة أو حسنة أو ضعيفة؛ متصلة أو مرسلة أو متقطعة أو معضلة أو منكرة أو معللة، وقد بلغت نحوًا من مئتين وسبعين حديثًا. ج - يهتم كذلك بدراسة الأسانيد وبيان أحوال الرواة ... وهذا العمل لا يتأتَّى إلا للمتخصِّص في علوم الحديث، وابن القطان يقوم بهذا العمل الجليل من غير أن يقلِّد أحدًا فيه، بل يعتمد على ملكاته العلمية والقواعد المتبعة في هذا الباب. ولإبراز صنيعه هذا أذكر بعضَ الأمثلة المقتطفة من كتابه، وهي كما يلي: • ورد في كتابه: أنه قال: "قال البزار: نا يوسف بن موسى، نا علي بن عبيد، نا سفيان وهو الثوري، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احذروا بيتًا يقال له: الحمام" قالوا: يا رسول الله! ينقي الوسخ، قال: "فاستتروا".
قال: هذا صحيح، ولا يضره إرسال من أرسله، فإن انتشار الخبر، وتفرد الحاملين له هو الموجب لأن يروى تارة مرسلًا وتارة مسندًا، ورواته: ثقات، فلا نبالي بإرسال من أرسله". * وورد أيضًا: أنه قال في حديث جرهد برواية زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد عن أبيه، قال: "كان جرهد من أصحاب الصُّفَّة، وأنه قال: جلس عندنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفخذي منكشفة، فقال: "أما علمت أن الفخذ عورة؟ ". قال: ولهذا الحديث علتان: أحدهما: الجهل بحال زرعة وأبيه، فإنهما غير معروفي الحال ولا مشهوري الرواية. الثانية: الإضطراب المؤدي لسقوط الثقة به، وذلك أنهم مختلفون فيه؛ فمنهم من يقول: زرعة بن عبد الرحمن، ومنهم من يقول: زرعة بن عبد الله، ومنهم مَن يقول: زرعة بن مسلم، ثم منهم مَن يقول: عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم من يقول: عن أبيه، عن جرهد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكل هذا وهن فيه، فلا يصح أصلًا، وإن كُنَّا لا نرى الإضطراب في الإِسناد علَّة، فإنما ذلك إذا كان الذي يدور عليه الحديث ثقة، فنجعل حينئذ اختلافَ أصحابه عليه إلى رافع وواقف، ومرسل وواصل، غير ضار، بل ربَّما كان سبب ذلك انتشار طرق الحديث، وكثرة روايته، وان كان المحدِّثون يرون ذلك علة تُسقط الثقة بالحديث المروي بالإِسناد المضطرب فيه". * وقال في حديث علي - رضي الله عنه -: "ومن ذلك حديث علي - رضي الله عنه - قسمان: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكشف فخذك, ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت" وهو حديث ذكره أبو داود من رواية ابن جريج، قال: أخبرت عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي - رضي الله عنه -، وهؤلاء كلهما ثقات، والإنقطاع فيه بين ابن جريج وحبيب في قوله: أخبرت، وزعم ابن معين: أنه منقطع في موضع
آخر؛ وهو ما بين حبيب وعاصم بن ضمرة، وأن حبيبًا لم يسمعه من عاصم، وأن بينهما رجلًا ليس بثقة، وقال البزار ذلك أيضًا، وفسَّر الرجل الذي بينهما بأنه: عمرو بن خالد، وهو متروك؛ فعلى هذا يكون إسناده مرويًّا ولا أدري مَنْ سوَّاه، وابن جريج لا يُعرف بالتسوية، وانما يعرف بالتدليس" ... • وقال أيضًا: "ولم يصحَّ حديث علي - رضي الله عنه -: أنَّه كان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أي شيء خير للمرأة؟ " فسكتوا، فلما رجعت قلتُ لفاطمة: أيُّ شيء خير للنساء؟ قالت: أن لا يراهن الرجال، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إنما فاطمة بضعة مني"، لأنه من رواية قيس بن الربيع، عن عبد الله بن عمر, عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيّب، عن علي - رضي الله عنه -، وعلي بن زيد هو: ابن جدعان، صدوق ولكن ضعيف، وقيس بن الربيع قد تقدم التنبيه على ما اعتراه من سوء الحفظ؛ كشريك وابن أبي ليلى". وهكذا يتتبَّع الأحاديث الواردة في الموضوع، ويبين حال رجالها وصفاتهم المعتبرة، كما يتعرَّض للتدليس والمدلسين، وطرق الإعتبار والمتابعات، واختلاف الرواة قي الأسانيد والمتون, والوصل وإلإِرسال، والوقف والرفع، وغير ذلك, حتى إنَّ هذا الجانب ليحتل جزءًا كبيرًا من كتابه، ولا تكاد تجد بابًا أو فصلًا أو مسألة فارغة من هذا الصنيع. وإطالته في هذا الجانب في بعض الأحيان، تكاد تطغى على الجانب الفقهيِّ الذي هو الموضوع الأساسي للكتاب، وهذا ممَّا يعسر معه تتبع المسائل الققهية فيه من غير المتخصصين، إذ أحيانًا يطرح المسألة الفقهية ويطرح رأي الفقهاء فيها، ثم يستعرض مستنداتهم، ويناقشها مناقشة طويلة تنسي القارئ نصَّ المسألة التي طرحها في أول الموضوع، فيصعب عليه أن يربط بين ما ذكره أولًا، وبين ما انتهى إليه أخيرًا، فهذا هو الذي جعل بعض من انتهى إليهم كتابه هذا أن يفكِّروا في اختصاره.
2 - الجانب الفقهي
ومن الذين علمت أنهم اختصروا كتاب "إحكام النظر في أحكام النظر بحاسة البصر" لابن القطان: أبو العباس أحمد بن قاسم القباب، المتوفى سنة (779 هـ)، ويوجد هذا المختصر في نسختين بالخزانة الملكية، تحت رقم (7233، 5705)، وقد حَذَفَ منه مختصرُهُ الأخبارَ والحججَ والمناقشات الحديثية الطويلة التي لا يستفيد منها إلا الخواصُّ من أهل العلم، وجرَّد مسائله الفقهية ليسهل على القارئين الإستفادة منه .. أمَّا الأصل فهو ذخيرة حديثية وفقهية مهمة يرجع إليها المتخصِّصون. 2 - الجانبُ الفقهيُّ: إن الغرض الأساسي من تصنيف الكتاب هو بيان الأحكام المتعلِّقة بالنظر من أدلتها الشرعية: الكتاب، والسنّة، والإِجماع، والقياس ... ومن هذا الجانب كان الكتاب عظيم القدر لا مثيل له في بابه. ويمكن إبراز أهمية الكتاب من الناحية الفقهية من خلال النقط التالية: أ - حُسْنُ التبويب، والدقة في العناوين، وكثرة التفريعات والتفصيلات تحت الباب الواحد: فإذا أخذنا مثلًا الباب الثاني -وهو أغزر أبواب الكتاب علمًا وتوسُّعًا- وهو "في بيان ما يجوز إبداؤه للناظر وما لا يجوز"؛ نجده أولًا يمتاز بالدقة من حيث عنوانه؛ فإثه معبِّر عن كلِّ الفصول والمسائل والجزئيات المذكورة تحته، ثم يمتاز ثانيًا: بكثرة الفصول والمسائل المنطوية تحته، إذ تبلغ عدد فصوله ثلاثة: فصل في الذكور، وفصل في الإِناث، وفصل في الخنثى؛ وهذه هي أقسام الناس، وتحت هذه الفصول مسائل بلغ عددها في الفصل الأول مثلًا ثلاث عشرة مسألة، أوجز مضمنها فيما يلي: المسألة الأولى: فيما يجوز للمكلَّف من الرجال إبداؤه، وهو ما فوق السرة ودون الركبة.
والثانية: فيما لا يجوز إبداؤه قطعًا إلا لزوجة أو أمة، وهو السوءتان. والثالثة: فيما يجب ستره إلّا على زوجة أو أمة، هل يجب ستره أيضًا في حال الخلوة؟. والرابعة: في أقسام الأمور المطلوبة من العباد بالتكليف. والخامسة: في بيان أن ما يجوز إبداؤه للناس يختلف باختلاف حالهم ومكانتهم في المجتمع. والسادسة: في الخلاف الوارد فيما بين السرة والركبة من غير السوءتين؛ وهو الفخذ، هل هو عورة أم لا؟. والسابعة: في الخلاف الوارد في الركبة والسرة، هل من العورة أم لا؟. والثامنة: في الخادم الخصي، هل يجوز له أن ينظر إلى فخذ سيدته؟. والتاسعة: في خادم الزوجة، هل يجوز لها أن تنظر إلى فخذ زوجها أم لا؟. والعاشرة: فيما يجوز إبداؤه من الزوجين لبعضهما. والحادية عشرة: فيما يجوز لغير الملَّكفين من الذكور إبداؤه. والثانية عشرة: فيما يمكن كشفه من الرجل المكلَّف. والثالثة عشرة: فيما يجب أن ينهى عنه الغلمان. وقد أفاد وأجاد في هذه المسائل، وكان يعتمد في إجابته على ما يُستفاد من القرآن والسنّة وآراء الفقهاء المعتبرين في المذاهب. ب - كثيرًا ما ينقل الآراء الفقهية عن علماء الأمصار، ويروي مذاهب الصحابة والتابعين فيها وما يشهد لها من الحجج والأدلة، ثم يقول رأيه فيها بما ترجح لديه من الأدلة: ولنأخذ مثلًا: مسألة: "هل يجوز للمؤمنة أن تبدي زينتها للكافرة؟ "، وهذه
المسألة في الباب الثاني؛ وهؤ في بيان ما يجوز إبداؤه للناظر، وما لا يجوز؛ قال بعدها: "هذا موضع نظر واختلاف بين العلماء مبنيٌّ على الإختلاف في معنى قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] ". قال: "فروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المنع من ذلك، وكتب إلى أبي عبيدة بن الجراح: بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمام مع نساء المؤمنين، فامنع من ذلك، وحُلْ دونه، فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عُرية المسلمة ... قال: فعند ذلك قام أبو عبيدة، فابتهل وقال: أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر، لا تريد إلا أن تبيض وجهها؛ سوَّد الله وجهها يوم تبيضُّ الوجوه". ثم قال: "وارتضى أبو حامد الغزالي: التسوية بين المؤمنة والذمية والكافرة في جواز ظهور المرأة لهما". وبعد هذه الآراء قال: "والأظهر عندي: المنع، لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31]، وهذا نهي مطلق عن الإبداء، لم يخصَّ أحدًا من أحد، استثني من ذلك [أمران]: أحدهما: الظاهرة من الزينة. والآخر: البعولة، وآباؤهن، والآباء، وأبناء البعولة، والإِخوة، وأبناؤهم، وبنو الأخوات، ونساء المؤمنات المخاطبات بهذا النهي، وما ملكت أيمانهم، والتابعين غير أولي الإِربة، والأطفال؛ فالنساء المستثنيات إن تبين فيهن أنهن عموم المؤمنات والكافرات، فالجواز، وان لم يتبين فيهن ذلك، يعني النهي عن الإِبداء لكل أحد مطلقًا كما كان، فنظرنا في قوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31]، فوجدناه يحتمل أن يكون المراد به: المسلمات، أي: نسائهن اللاتي على دينهن، ويحتمل أن يريد أعم من هذا، وهو النساء كلهن، وهو أبعدها، واللفظ ناب عنه. فإن كان المراد الأول، فالقول بالمنع ظاهر، وان كانت مجملة لا يتبين
المراد منها فكذلك على واحد من هذه الإحتمالات؛ هو الذي تشمل الآية به الكفارة بغير دليل لا يجوز، والله أعلم. وهذا ما يفعل في جميع المسائل التي فيها خلاف ونظر بين العلماء. ج - يقتصر على ذكر موضع الشاهد من الخبر: وهذا صنيع فقهي سلكه البخاري في "الجامع الصحيح"، فجاءت الأحاديث فيه مقطعة على الأبواب الفقهية، ومثال ما اقتصر فيه ابن القطان على ذكر موضع الشاهد: حديث جابر في العيدين؛ قال فيه: "فقامت امرأة من سِطَة الناس سَفْعَاء الْخَدَّيْن، فقالت: لمَ يا رسلول الله؟ ... " الحديث. والحديث طويل يشتمل على أمور، رواه مسلما بطوله، واقتطف منه المصنف محلَّ الشاهد فقط. د - استيعابه لجميع جوانب المسألة التي هو بصدد البحث عن حكمها، ومقارنتها بغيرها حتَّى يتسنَّى له الحكم الصحيح عليها، من غير أن يقلد أحدًا في ذلك: فمثلًا: مسألة البدوِّ للمخنث، روى فيها عن مالك الكراهة إذا كان حرًّا، ولم تدعُ ضرورة إليه. قال ابن القطان بعده: "وهذا الإشتراط عندي لا معنى له، فإن العبدَ والحرَّ إذ! كانا أجنبيين حكمهما واحد، لتساويهما فيما يريدان وُيراد منهما، وانما وقعت الرخصة في عبدها لمكان ضرورة طرقه وتصرفه وقوله، (وإن لم) تدُع إليه ضرورة (فيبقى) على المنع، وإلا فمن يجيز لا يحتاج إلى شرط ضرورة، فإن الضرورة إنما يعتبر تحققها لتبيح (المحظور) ". ثم قال: "وانظر كيف خرجت الفتوى من مالك -رَحِمَهُ اللهُ- في الخصي الحر، والمخنث الحر، مخرجًا واحدًا بالمنع، وفي الخصي العبد والمخنث العبد له
رابعا: المخطوط ومنهجية التحقيق
قولان: هما منصوصان في العبد الخصي، ومخرجان في العبد المخنث، ومتى قال بالإِباحة، فإنه يشترط عدم النظر". وهكذا نلاحظ أنه يخالف مالكًا فيما ذهب إليه من اشتراط الحرية فيما يكره إليه البدو من المخنثين، اعتمادًا على مذهبه بأن العبد الأجنبي عن المرأة كالحر، حكمهما واحد في النظر إلى الأجنبية، لأن مطلبهما من المرأة واحد. هذه جملة من المقتطفات، سُقْتُها من أصل الكتاب لإِظهار الناحية الفقهية فيه. رابعًا: المخطوطُ ومنهجيةُ التَّحقيق: 1 - وصفُ المخطوطةِ: تتكوَّن المخطوطة التي جعلتُها الأصلَ في ضبط النص من ثمانٍ وسبعين ورقة من الحجم المتوسط، أي ما يعادل مئة وستًّا وخمسين صفحة، وكل صفحة فيها سبعة وعشرون سطرًا، يضمُّ كلُّ سطر منها ما يقرب من ثلاث عشرة كلمة، مكتوبة بخطٍّ مشرقي معتاد، يبدو الطمس في بعض المواضع، وقد لاقيت فى قراءلّها مشقَّة كبيرة، يميل الناسخ فيها إلى مزج كثير من الكلمات، وأغلب كلماتها غير معجمة، فمثلًا يكتب: "فيلتفت قضاؤه" هكذا: "فيلتف قصاه"، ويكتب: "كان أو ذا محرم" هكذا "كان وذا محرم"، ويكتب: "الان" هكذا: "للان"، وكذلك لا يهمز، بالإِضافة إلى ما وقع فيه الناسخ من أخطاء إملائية كثيرة نبَّهتُ عليها، مع سقوط كثير من الكلمات أثبتُّ بعضها من المختصر والأصول التي نقل عنها ابن القطان. وأصل المخطوطة يوجد بمكتبة الأسكوريال بإسبانيا، وقد حصلت على مصورتها، وقد كتب الناسخ على ظهر ورقتها الأولى كلمة تعريف بالكتاب والمؤلف، فقال: كتاب "النظر في أحكام النظر بحاسة البصر" مما عني بجمعه: الشيخ الإِمام الفقيه المحدِّث الحافظ أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك بن
يحيى بن إبراهيم بن عيسى بن إبراهيم، عرف بابن القطان الفاسي - رضي الله عنه - وعلى سائر المسلمين آمين. وفي ذيل الورقة: "في نوبة أفقر الناس أبي بكر بن أبي يوسف بن قرقماش الشهير بالحمزل". وقد حاولت التعرُّف على الناسخ فلم أعثر على اسمه المضبوط لعدم وضوحه على مصورة المخطوطة، والمخطوطة لا تحمل تاريخًا في بدايتها ولا في نهايتها. وفي الصفحة المقابلة للأولى: كتب عليها بلغة لاتينية، ختم المكتوب برقم (124)، وقد بذلتُ الجهد للحصول على نسخة أخرى للأصل، فما وجدتُ لها أثرًا. أما النسخة الثانية التي اعتمدتُ عليها في المقابلة وتصحيح النص الفقهي هي: "مختصر أحكام النظر" لأبي العباس أحمد بن قاسم الجذامي القباب، وقد اختصره من الأصل: "المظر في أحكام النظر بحاسة البصر، لابق القطان، توجد منه نسختان بالخزانة الملكية: الأولى تحت رقم: (7233)، والثانية تحت رقم: (5705). كما اعتمدتُ في تصحيح الأخبار والأدلة التي ذكرها ابن القطان في كتابه، وأقوال العلماء على الأصول التي يروي عنها المصنِّف، أو بعض المستخرجات، وبعض الكتب الفقهية، منها: صحيح مسلم، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي، والكامل لابن عدي، وعلل الترمذي، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، والبيان والتحصيل والمقدمات لابن رشد، والأم للشافعي، والمجموع للنووي، حيث يتعرض فيه مؤلفه إلى أصول المذهب الشافعي، وغيرها من كتب الفقه على المذاهب الأربعة، بالإضافة إلى كتب التفسير والسير والمغازي، حيث أَسْعَفَتْني جميعها على إتمام ما كنتُ أجده من النقص في المخطوطة الأصل. والمخطوطة كما عرفنا هي عبارة عن أحكام تتعلَّق بالثظر بأدلتها من الكتاب والسنّة وأقوال العلماء.
2 - منهجيتي في التحقيق
2 - منهجيتي في التحقيق: ارتكز عملي في تحقيق الكتاب على قراءته وتتبُّعه، ومقابلة أصله بالمختصر، وبالكتب التي اعتمد عليها المصنِّف. وألخِّص عملي في تحقيق الكتاب في النقط التالية: أ - ضبطُ النصِّ الفقهيِّ: بمقابلته مع المختصر؛ لأن المختصر جرَّد النصوص الفقهية من الأصل من غير تغيير، إلا في بعض الحالات النادرة، يلخص النص إذا كان طويلًا. ب - ضبطُ الأسانيد: وذلك بتحرير أسماء الرجال، وتصحيح ما وقع فيها من أخطاء أو خفاء أو التباس ممَّا يؤدي إلى تغيير الأسماء، وهذا العمل دفعني إلى ترجمة بعضهم، بالإِضافة إلى ترجمة مَن تدور علَّة الحديث عليه، وبيان ما قيل فيه من جرح وتعديل، لأنَّ صحة الحديث تتوقَّف على سلامة رواتها من الجرح. ج - ضبط المتون: وذلك بمقابلتها مع المصدر الذي نقل منه ابن القطان، وأحيانًا أبيِّن بعض ما تضمنته من المعاني، أو أكتفي بشرح بعض عباراتها الغامضة. د - ما وقع مطموسًا أو غير مقروء أو محرفًا: أضعه بين قوسين وأُنبّه عليه في التعليق، وما كان ساقطًا منه أثبته مع وضعه بين معقوفتين إن وجدتُه في الأصول المعتمدة، وما وقع من بياض أضعه بين معقوفتين، وأشير إلى ما يَحْتمل أن يكون من الكلمات فيه. هـ - خرجتُ الأحاديت المذكورة في الكتاب: واعتمدتُ في تخريجها على الكتب الستة، مع الموطأ، ومسند الإِمام أحمد بن حنبل، وسنن البيهقي، والمستدرك للحاكم، وصحيح ابن حبان، ومصنف عبد الرزاق، ومصنفا ابن أبي شيبة، وسنن البيهقي، والكامل لابن عدي، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، ولسان الميزان لابن حجر، وغيرها، كما اعتمدتُ على بعض المستخرجات: ككشف الأستار، ومجمع
الزوائد للهيثمي، والترغيب والترهيب للحافظ المنذري، ورياض الصالحين للإِمام النووي، ونيل الأوطار للشوكاني، وغيرها من كتب الحديث والتفسير التي تستلزم ذلك. و- ذكرتُ أسماء السور وأرقام الآيات التي وردت في الكتاب. ز - اعتمدت في التعريف ببعض الرواة على كتب الرجال: منها: "الكامل" لابن عدي، و"المجروحين" للإِمام محمد بن حبان، و"الكاشف" و"المغني" للإِمام الذهبي، و"لسان الميزان" لابن حجر، وأكتفي بالإحالة على بعضها. ح - رقَّمتُ مسائل الكتاب والأحاديت الواردة فيه على طريقة المحدثين: وقد قصدتُ من وراء ذلك، ضبط عدد مسائله، والأحاديث الواردة فيه، وأغفلتُ: المكرر منها، أو ما أورده المصنف بمعناه، أو ما أكتفي بالإِشارة إليه، أو ما ذكر سنده من غير متنه. ط - أضفتُ بعض الشروح والبيانات اللغوية والفقهية: التي رأيتها أساسية وضرورية. ي - وضعتُ لكل فصل أرقامه الخاصة بتعليقاته: تنتهي بانتهائه، وما كان من الإِضافات في التعليق، رمزت له بعلامة: " * ". ك - ضبطتُ المشكل من العبارات، ووضعت الفواصل بين الجمل: مما يعين القارئ على سرعة القراءة والفهم. ولم أدّخر جهدًا في تقديم هذا النص النادر النفيس، الذي طالما تشوَّفَتْ إليه أنظار العلماء، في حالة تيسر الإنتفاع به وتحقق الغرض المقصود الذي هدف إليه مؤلفه، راجيًا من الله تعالى التوفيق؛ فإن وفِّقتُ في ذلك فمن فضل الله عليَّ، وإن جانبتُ الصواب في بعض المواطن؛ فالإِنسان مجبول على النقص والضعف والنسيان، وسأعمل على تدارك ذلك بإذن الله.
إحكام النَّظر في أحكَام النَّظر بحَاسَّة البَصَر
مقدمة المؤلف
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله قال الفقيه أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى -رَحِمَهُ اللهُ-، عُرف بابن القطان: نحمد الله على نعمه، ونصلِّي على محمد نبيِّه -عَلَيْهِ السَّلَامْ-، ونبيِّن إن شاء الله بهذا القول، جواب ما سئلت عنه من احكام النظر بحاسة البصر، مخلصًا (¬1) في ثمانية أبواب: - الباب الأول: في مشروعية غضِّ البصر. - الباب الثاني: في بيان ما يجوز إبداؤه للنَّاظر، وما لا يجوز. - الباب الثالث: في نظر الرجال إلى الرجال. - الباب الرابع: في نظر النساء إلى النساء. - الباب الخامس: في نظر الرجال إلى النساء. الباب السادس: في نظر النساء إلى الرجال. الباب السابع: في الضرورات المبيحة، إلى ما لا يجوز النظر إليه بغير ضرورة. - الباب الثامن: في بيان مشروعية أقوال وأفعال، عند رؤية بعض (المرئيات) (¬2). ¬
وجعلتُ ما أذكره في كل باب، مما بعد (الباب) (¬1) الأول، في مسائل، وهي منقسمة على ثلاثة أقسام: قسم الفتوى فيه مقطوع بها، وقسم الفتوى فيه مظنونة، وقسم الفتوى فيه متردد فيها. كتبناه (وبيناه) (¬2) على الإحتمال فيه، ليرى الناظر رأيه، ولعل نعثر على مزيد. وما نذكره في الباب الثامن، وهو في تراجم، بحسب الموجود منه، وتمرُّ فيه مسائل لها عند أهل النظر في الأصل موقعٌ عظيمٌ، نكتفي فيها بأيسر قول، اتِّكالًا على المسطور فيها في مواضعها. وإنَّما الإعتناء بها هو من أحكام النظر، ونلتزم فيه من الخبر الحديثي، ذكر الأحاديث الصحاح بغير إسناد؛ [ما] (¬3) روي فيه عند المحدثين نظر، أذكره بإسناد، وأنبِّه على ما ينبغي التنبيه عليه من أمره، وانما أفعل ذلك (إذا كان داخلًا) (¬4) في الباب، أمّا إذا لم يكن من الباب، فقد أكتفي بالإِشارة إليه. وما كان من الحديث في الباب ضعيفًا، أقتصر على ذكر (المتن) (¬5) وموضع العلة من الإِسناد. وينبغي لك أن تغضي (¬6) عن الزلل والتقصير، اللَّذَيْنِ لابدَّ (منهما) (¬7) ¬
للبشر، وتنظر (¬1) إلى ما تيسَّر بفضل الله من اجتماع سرِّه العزيز الوجود، (ولا اجتماع) (¬2) إلا بعد طول البحث، وأن ترغب إلى الله سبحانه أن يجعله من أسباب السعادة الأبدية، وأن يجعل أبوابه الثمانية أبوابًا للجنة، ومداخل لدار الحياة الدائمة، والنعيم الباقي بمنّه لا ربَّ غيره، وهو وليّ التوفيق وعليه التوكل. * * * ¬
الباب الأول في مشروعية غض البصر
الباب الأول في مشروعيَّةِ غضِّ البصرِ
حاسَّة البصر إحدى أبواب القلب، وأعمر الطرق إليه، وعملها أكثر أعمال الجوارح وقوعًا وتكرارًا ما عدا التنفُّس. وقد تقرَّر الشروع بطلب النظر بها في مواطن كثيرة، إمّا على جهة الوجوب، وأما على جهة الندب، وليس ذلك من غرضنا الآن (*). وتقرر الشرع أيضًا بالنَّهي عن النظر بها، وإيجاب غضِّها أو الندب إليه في مواطن كثيرة، واباحته والعفو عنه في مواطن كثيرة؛ نبين منها -إن شاء الله تعالى- بعد الفراغ من هذا الباب والذي بعده الممكن، إذ مقصود هذا الباب إنما هو بيان حكم غضِّ البصر على الجملة لا بالقياس إلى منظور إليه مخصوص. والباب الذي بعده أيضًا، مقصوده بيان ما يجوز للمكلف (رجلًا) (¬1) كان، أو امرأة، إبداؤه للناظرين، (والتلفت) (¬2) به إليها. ¬
والأصل في هذا الباب قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30، 31]. معنى هذه الآية: يا محمد! قل لمن آمن بما جئتَا به في غضِّ البصر، بأن (تقول) (*) لهم يغضوا، فيجزم يغفكوا على أنه جواب، أو انْهَهُمْ عن النظر، إن تَنْهَهُمْ، يغضوا. وعلى الوجهين، الجواب هو يغضوا (وهو) (**) خبرٌ من الله سبحانه، ولكنه بمعنى الأمر، أي: يكونوا مأمورين بالغضِّ، وكذلك نجد مَن لا يغض، وقد قيل له، أو نهي. والخبر المحض لا يدخل الحلف فيه إن كان من صادق. فإن قيل: وأين الأمر بالغضِّ على هذا؟ وإنما أُمر بأن يأمر -على ما قلت- أو بأن ينهى عن النظر. قيل: قد قلنا: إن إخباره عنهم بأنهم يغضون هو بمثابة قوله تعالى: {يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233] وأشباهه، أي: خبر بمعنى الأمر. ولا ريب في أن (الغرض) (¬1) من هذه الآية مشروع زَاكٍ، بل هو أزكى لهم. وقويت الأخبار منه تعالى عن نفسه عقبَ هذا، بأنه خبير بما يُصنع، مطَّلع على ما يُفعل، نازلة منزلة الوعيد، كأنه قال: غضوا أَبصاركم فإنه لا تخفى (عليَّ) (¬2) أسراركم. وقوله: [يَغُضُّواْ} معناه: ينقصوا من نظرهم؛ يقال: غضّ بصره وغض طَرْفه نَقَص منه. ¬
فغض الطَّرف إنك من نمير (¬1) ... معناه: انقص من نظرك سواء كان الطرف العين، أو الصوت. ويقال أيضًا: غَضّ صوته، ومعناه: نقص من جهارته، قال تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19]. 1 - وما روي أنه -عَلَيْهِ السَّلامْ-، كان إذا فرح، غَضَّ طرفه (¬2). معناه، لو صحَّ: أنه كان يفعل ذلك ليكون أبعد من (الأشر) (¬3) والمرح عند الفرح. ومنه الأثر (¬4): لمَّا مات عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وقال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: هنيئًا لك؛ خرجت من الدنيا ببطنتك لها يتغضغض منها شيء؛ أي: لم ينتقص. قال الأحوص (¬5): سأطلبُ بالشام الوليدَ فإنَّه ... هو البحرُ ذو التيَّار لا يتغَضْغَضُ أي: لا ينتقص. ¬
ضرب البطنة مثلًا لوفور أجره الذي استوجبه بهجرته وجهاده مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لم يتلبس بما ينتقص به أجره (¬1)، وكان موته قبل قتل عثمان - رضي الله عنه -. 2 - وفي الأثر: "لو غضَّ الناس من الثلث إلى الربع" (¬2). معناه: لو نقصوا. (وفلان) يغض من فلان، معناه: ينقص منه. و"من" في قوله: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} قيل: إنها (لابتداء) (¬3) الغاية، لأنَّ البصر باب (للقلب) (*) ابتداء يذكره. وقيل: لتبيين الجنس، كأنَّه لما قال: غض، أي: أنقص، احتمل أن يريد من بصرك، أو من كلامك بلسانك، أو من صوتك فأتى بـ "من" تبيينًا للجنس. وقيل: هي زائدة. ذهب إلى ذلك الأخفش، وأباه سيبويه. وقيل: إنها للتبعيض، وهو الذي ذهب إليه الأكثر من المفسرين. ووجهه: أن من النظر ما لا يدخل تحت التكليف، كالواقع فجأة من غير قصد، ومنه ما عُفي عنه وأبيح، كالنظر إلى ذوات المحارم والرجال، على ما سيأتي مشروحًا، يصلح بذلك دخول "من" للتبعيض بخلاف حفظ الفرج، فإنه لا يتعرض إلا على أعم ما يمكن، سواء كان معناه الإِعفاف، أو الحفظ ¬
من الإنكشاف أو مجموعهما، لذلك لم تدخل "من" في قوله: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]. وأصل هذا الباب من السنّة: 3 - حديث أبي هريرة: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله كتبَ على ابن آدم حظَّه من الزنى؛ أدرك ذلك لا محالة؛ فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النُّطق, والنفس تتمنَّى وتشتهي، والفرج يصدِّق ذلك أو يكذبه" (¬1). ذكره مسلم. 4 - وروى ابن مسعود، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرِّجلان تزنيان، والفرج يزني" (¬2). ذكره البزار من رواية مسروق عنه، وهو صحيح. 5 - وذكر البزار أيضًا: من حديث أبي موسى، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلُّ عين زانية" (¬3). ورواة إسناده مشهورون. ومعناه كمعنى حديث أبي هريرة في قوله: "أدرك ذلك لا محالة". ¬
6 - وحديث ابن مسعود أيضًا، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة (¬1) فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر, وأحصن للفرج". ذكره مسلم (¬2) -رَحِمَهُ اللهُ-. 7 - وحديث أبي سعيد الخدري: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم والجلوسَ بالطرقات" قالوا: يا رسول الله! وما لنا بد من مجالسنا، نتحدَّث فيها، قال: "إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقَّه" قالوا: وما حقُّه؟ قال: "غَضُّ البصر وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر" (¬3). ذكره مسلم أيضًا. 8 - وحديث عمر: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم والجلوسَ في الصُّعُدات (¬4) , فإن كنتم لا بدَّ (فاعلين) (¬5) فأعطوا الطريق حقَّه" قيل: وما ¬
حقُّه؟ قال: "غضُّ البصر، وردُّ السلام" أحسبه قال: "وإرشاد الضَّال" (¬1). ذكره البزار. 9 - فأما حديث مالك بن التيهان في هذا، فغير صحيح، قال فيه: "اجتمعت منا جماعة عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلنا: يا رسول الله! إنا أهل سافلة [وأهل] (*) عالية، نجلس هذه المجالس، فما تأمرنا؟ قال: "أعطوا المجالس حقَّها" قلنا: وما حقُّها؟ قال: "غُضوا أبصارَكم، وردُّوا السَّلامَ, وأرشدوا الأعمى، وأْمروا بالمعروف وانْهوا عن المنكر". ذكره ابن أبي شيبة (¬2). وفي إسناده موسى (¬3) بن عبيدة وهو ضعيف عندهم. وكذلك: 10 - حديث ابن عباس، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تجلسوا في المجالس، فإن ¬
كنتم لا بدَّ فاعلين, فردُّوا السلام، وغضُّوا الأبصار، واهدوا السَّبيل، وأعينوا على الحمولة" (¬1). هو أيضًا ضعيف، في إسناده: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى (¬2)؛ وهو أحد (مَن ساء) (¬3) حفظه بعد أن وُلّي القضاء، وفيه داود (¬4) بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو ضعيف في الحديث. (ذكر) (¬5) حديثه هذا البزار. ¬
فإن قيل: نرى هذا الحديث فيه الأمر بغضِّ البصر لا مبعضًا بـ "من"، أَمَا يكون هذا دليلًا على خلاف ما ارتضيتُ، من كون "من" للتبعيض في قوله: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}؟ إذ لا يكون في هذا الحديث أراد غضوا من أبصاركم وأتى به دون "من"، اعتمادًا على بيان الآية، فإن هذا إن توهَّمه متوهِّم باطل، لأنه عكس المرتبة، فإن كلام النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يجيء مبيِّنًا لكلام الله تعالى، أما كلام الله تعالى، فلا يحتمل أن يجيء مبيِّنًا لكلام النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بحيث يُجمل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - معتمدًا على بيان القرآن لمجمل كلامه. وإذا وجب أن يكون كلام النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث غير معتمد على بيان الآية؛ وجب أن يكون (مقتضاها) (¬1)، فتكون "من" المذكورة في الآية زائدة، بدليل إسقاط النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إياها قي مخاطبة أُمَّته. فالجوأب عن هذا أن نقول: بل هي غير زائدة، بل مبغِّضة كما قلناه. فأما الحديث (فإنه) (¬2) مخاطبهّ لمواجهين قد علم من أحوالهم -والله أعلم- ما لم ينقل إلينا, ممَّا لم يصحَّ معه إيجاد "من"، وذلك مثل أن يكون الجلّاس في غالب الأحوال لا تصدر منهم نظرة الفجأة، فإن المفاجأة أكثر ما تكون من المارّ الآخد في شأنه لا من الممرور به (الممعن) (¬3) المثبت بصره في المارَّة بطريق. وكذلك أيضًا قد لا يعرف الممرور به، أن المرأة المارَّة به، ذات رحم، أو ذات محرم، إلا بعد تثبت لسترها؛ فهو إذا قيل: التبين والتحقيق مأمور [به] (¬4) بغضِّ البصو مطلقًا، (فالجواب) (¬5): أن يقال للجلّاس على الطريق: ¬
غضَّوا أبصاركم، ولا يقال لهم: غضُّوا من أبصاركم، لأنَّ (النظر) (¬1) إلى ذات المحارم، أو الرحم، في غالب الأحوال، نظر المفاجأة، والى ذات الرحم أو المترم غير متأتٍّ في غالب الأحوال، أو غير كثير الوقوع. وكيف ما كان معنى الآية ومعنى الخبر؛ فلم نعدم منهما ما قُصِد بيانُه في هذا الباب من مشروعية (غضِّ) (¬2) البصر؛ وجوبًا، أو ندبًا. ومن ذلك أيضًا: 11 - حديث جرير بن عبد الله: أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجأة (¬3)، قال: فأمرني أن أصرف بصري (¬4). ذكره مسلم. 12 - فأمَّا حديثا علي في هذا فلا يصح، رواء بريدة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتبع النَّطرة النَّطرة، فإن لك الأولى وليست لك (الآخرة) " (¬5). ذكره أبو داود. ¬
وفي إسناده أبو ربيعة (الإيادي) (¬1). قال البزار: لا نعلم روى عنه إلا شريك (¬2) والحسن (¬3) بن صالح. وروى الدَّارِميُّ عن ابن معين قال: أبو ربيعة الذي يروي عنه شريك كوفي ثقة، فلعله هذا (الإِيادي) (¬4)، وفيه شريك بن عبد الله القاضي، وهو ضعيف، وهو أحد جماعة اعتراهم -لما وَلُوا القضاء- سوء الحفظ لتشاغلهم بالقضاء كمحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى (¬5) الفقيه المذكور الآن، وقيس بن الربيع (¬6) وغيرهم. 13 - وروي عن طريق علي نفسه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا علي! لا تُتبع النطرة النطرة، فإنما لك النظرة الأولى". ¬
يرويه عبد الرحمن بن إسحاق أبو شيبة الواسطي (¬1)، وهو منكر الحديث، عن النعمان بن سعيد بن علي. وله طريق آخر يرويه: 14 - محمد بن إسحاق (¬2)، عن محمد بن إبراهيم (¬3)، عن سلمة بن أبي الطفيل (¬4)، عن علي: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا علي! إن لك في الجنة كنزًا، ¬
فصل
وإنك ذو قرنيها (¬1)، فلا تتبع النطرة النظرة، فإن لك الأولى". ذكره والذي قبله البزار (¬2). وسلمة بن أبي الطفيل لا نعلم له عن علي إلا هذا الحديث، ولا يعرف حاله، وروى عنه فطر بن خليفة (¬3)، ومحمد بن إبراهيم بن الحارث، (وسيأتي) (*) هدا المعنى بكثير مما (نحن) (¬4) ذاكروه بعد، مثبوتًا في مواضعه إن شاء الله تعالى، وهو أمر لا نزاع فيه. * * * فصل ليس عمَّا يُحدِثُ في القلب هوى، وللنفس (وَلوعًا) (**) بالمنظور إليه فقط، يجب غضُّ البصر، بل وعن أشياء كثيرة حرم الشرع النظر إليها، كما: 15 - روى جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لينتهينَّ أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، أو لا ترجع إليهم". ¬
16 - وروى أبو هريرة: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء، (لَتُخْطَفَنَّ) (¬1) أبصارُهم". ذكرهما مسلم. وقد تضَمَّن هذان الحديثان -ولابدَّ- كون غضِّ البصر عن الجهة كورة مشروعًا في الصلاة وعند الدعاء، وإن شُكَّ في التحريم، من أجل أن الوعيد المتوعد به فيهما على ارتكاب ذلك الفعل دنيوي. ومثل: 17 - ما روي عن سهل بن سعد: أن رجلًا اطلع في جُحْر [في] (¬2) باب ¬
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ومعه مِدرى (¬1) يحك به رأسه، [فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]، (¬2) قال: "لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينيك، إنما جعل الإذن من أجل البصر". 18 - وروى أبو هريرة: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أن رجلًا اطَّلع عليك بغير إذنٍ، فخذفته (¬3) بحصاة ففقأت (¬4) عينه، ما كان عليك من جناح". ذكرهما مسلم (¬5) -رَحِمَهُ اللهُ-. ¬
وكذلك أيضًا هذان الحديثان هُمَا دَالَّانِ على مشروعية غضِّ البصر وإن لم يكن فيهما أمر به، ولا نهي عن النظر، ولكن من حيث جعله فيهما النظر سببًا يُستباح به منه ما لم يكن مباحًا؛ من الطعن في عينه، من غير إثم يلحق في ذلك معاقبته على فعل. ومثل: 19 - ما روى محمد (¬1) بن عبد الله بن حسن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا النظر إلى المحارم، كما تتقون الأسد" (¬2). قال البزار: حدثنا محمد بن مسكين (¬3)، حدثنا يحيى بن حسان (¬4) , حدثنا ¬
عبد العزيز (¬1) بن محمد، عن محمد بن عبد الله بن حسن، فذكره، وهؤلاء كلهم ثقات .. وأشباه هذا من هذا النوع كثيرة، إن تُتُبِّعَت، مما لا يجلب هوى من النظر، ولا يدعو إلى ولوع، وهو محذور منه، مأمورٌ بغض البصر عنه. وليس يصحُّ حديثه ابن عباس في النهي عن إدامة النظر إلى المجذومين (¬2) للجهل بإسناده. ولا: 20 - حديثه أيضًا: عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ نظر في كتاب غيره بغير إذنه, فكأنما ينطر في النار". لأن إسناده مجهول كذلك، رواه أبو داود (¬3). ¬
ولا حديث ابن مسعود في النَّهي عن إتباع البصر الكوكب (المنقضّ) (¬1)؛ للجهل بإسناده أيضًا. وكذلك ينهى عن النظر الذي يجلب حبَّ الدُّنيا والغنى، ويغيب عن النعم المسداة المعجوز عن شكر أيسرِها، كما: 21 - قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: "انظروا إلى مَن [هو] (¬2) أسفل منكم، ولا تنظروا إلى مَن هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم" ذكره مسلم (¬3) -رَحِمَهُ اللهُ-. وإنَّما قُصِد بذكر هذا النَّزرِ من صحيح هذا الباب وضعيفه، التمثيل به، والتنبيه على نوعه، ممَّا هو منهي عنه من النظر، الذي ليس يجلب هوًى، ولا يحرك نفسًا. * * * ¬
فصل
فصل وغضُّ البصر ليس من التروك المقصودة في نفسها، التي تتضمَّن معاني مقصودة كالصَّوم الذي يفيد كسر النَّفس، وكفَّها عن دواعي شهواتها، بل إنَّما يكون غضُّ البصر طاعةً، من حيث هو ترك معصية. وإذا عَزَّ (¬1) منظور إليه، حرم الشرع النظر إليه أو كرهه، كالكوز (¬2) الذي به، تارك لشرب الخمر (أو للزنى) (¬3) مثلًا، ليس باعتباره أنه كان أو يكون طاعة، بل باعتبار كونه تركاً للمعصية. فإذاً تحتاج هذه التروك -وغضُّ البصر منها- في كونها طاعة، إلى قصد ترك المحرم منها (¬4) والتقرب إلى الله سبحانه [وقصد ترك] (¬5) التلبس بها، بأحرى وأولى من احتياج التروك المقصودة في نفسها إلى ذلك؛ واذ لا يعدُّ كل من لم يصدر منه شرب الخمر مطيعاً بتركه شربها، (إنما) (¬6) يكون مطيعاً بترك شربها من عرضت له أو عرضت عليه، فأشعر نفسه الطاعة لله سبحانه، والتقرب إليه، بترك شربها، فتركها خوفاً وتقربًا؛ هذا هو الذي يكون مطيعاً بترك شرب الخمر، من حيث هو تارك لها. وكذلك غض البصر (عمَّا نُهي) (¬7) عن نظره، فأعرض عنه وغضَّ، ناوياً تركه كما أمر، متقرباً بذلك لمن (أمر) (*) به جلَّ وعلا؛ (فهذا) (¬8) هو الذي يكون بغضِّه طرفَهُ مطيعاً، إما بواجب، وإما بمندوب. ¬
فصل
أما من (هو الآن) (¬1) غير مبصر لعورة غائبة عنه، فلا يقال فيه: إنه (غاضّ) (¬2) لبصره عن تلك العورة، ولا يقال فيه أيضًا: إنه مطيع بترك النظر إليها، بل قد يكون متلبِّساً بمعصية، هو بها تارك للنظر، فلا يكون تركه للنظر طاعة، لكونها من جهة أخرى معصية، بل قد يقصد ترك النظر، وغض البصر، ولكن يقترن به ما يسلبه وصف الطاعة، مثل: أن يكون بحضرته من [يراقبه] (¬3)، وهو يستحيي منه، ويكره أن يطَّلع منه على إرسال طرفه، فيقصد إلى غضِّ بصره استحياءً منه أو رياء، فهذا أيضًا لا يكون غضُّه طاعةً، وإنما يكون طاعة حين يكون استحياءً من الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأنه يراه وإن لم يكن هو يراه. والأمر في هذا ال فصل هيِّن، وهذا القدر من التنبيه إليه كافٍ. * * * فصل ويقع مِن غضِّ البصر ما هو طاعة، وما هو معصية، وقد مضى ذلك، ويقع منه المباح وهو كثير، ويقع نقيضُه أيضًا، أعني النظر كذلك منقسماً لهذه الأقسام. وقسم آخر لا يوصف بأنه طاعهّ ولا معصية، ولا مباح، وإنما هو معفوٌّ عنه، غير مخاطب به، لأنه ليس (داخلًا) (¬4) تحت الاكتساب، فهو كرعشة المرتعش، وذلك كنظرة الفجأة التي لم تقصد، وقد تقدم بيان حكم الشرع فيها، في حديث جرير المتقدم (¬5)، ولم يُرِد بقوله له: "اصرف بصرك" جوابه عن نظرة ¬
الفجأة، وإنما أراد به أن يصرف بصره عما بعدها، أما هي فلا يصح فيها ذلك، لأنها بقدرها غير مقصودة، ولا نُهي عنها بعد وقوعها، والذي أمره به من صرف بصره بعدها لا يتعيَّن الأمر فيه، بل يقع الامتثال به، ولو (أمر) (¬1) مع ذلك بأمر آخر وهو تجنب ما فاجأه نظره مما لا ينبغي النظر إليه، كفعله - صلى الله عليه وسلم - في (تنحية) (¬2) أنبجانية أبي جهم (¬3)، وإخباره أنه نظر إلى عَلَمها في الصلاة حتى كاد يفتنه (¬4). وكما أمر عائشة أن تُميط فراشها، وعلل ذلك بأن تصاويره لا تزال تعرض له في الصلاة (¬5). وقد يكون ذلك بذهابه هو عن موضع هو فيه، أعني ما لا ينبغي النظر إليه فاعلمه. * * * ¬
فصل
فصل وجناية البصر إذا لم يقع غَضُّه عما حَرُم النظر إليه، ليست -والله أعلم- من الكبائر، إذا صح انقسام الذنوب إلى صغير وكبير، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر: 53]. و {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]. و {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]. ونحو هذا مما لسنا له الآن، وإنما قلنا: إنه لا يكون من صنف الكبائر لأمرين: أحدهما: أنَّا لا (نعده) (¬1) كبيرًا. والأمر الآخر: تحقق أثر من آثار صِغَرِهِ، وذلك أن المتقرِّرَ هو أن الكبائر لا يكفِّرها إلَّا التَّوبة منها، وأمَّا غير ذلك من الذنوب، فاختلف الناس فيه، هل يكفي في تكفيرها الطاعات ما عدا التوبة منها، وأنها إذا أتبعت السيئة الحسنة مَحَتْها؟ أو لا بدَّ مع ذلك من ضمِّ التَّوبة إلى الطاعة؟. والصحيح عندي هو أن صغائر الذنوب مكفَّرة بالطاعة إذا اجتُنبت الكبائر، إما أن يكون كلُّ صنف من أصناف الطاعات يكفر أي صنف فرض وجوده من أصناف الصغائر، وإمَّا أن يخصَّ (صنفاً من الذنوب صنف) (¬2) من الطاعات، من غير اشتراط ضميمة التوبة منها في ذلك. ¬
ولبيان هذا مواضعه، وهي بالجملة مسألة تظاهرت الظواهر على إثباتها حتى صارت مقطوعاً (بها) (¬1). وإذا تقرَّر هذا محالاً به على مواضعه، قلنا بعده: إن جناية النظر بالنظر من صنف ما (تكفره) (*) الطاعات، إذ لم يسمه الشرع كبيرًا، ولذا (¬2) قد جعله في حديث أبي هريرة مكفراً بالوضوء، حيث قال: 22 - "إذا توضأ العبدُ المؤمنُ أو المسلمُ فغسل وجهه، خرج من وجهه كلُّ خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء" (¬3). وقد (فسَّر) (¬4) ابن عباس - رضي الله عنهما - ذلك في الحديث المتقدم الذكر؛ حيث قال: ما رأيت أشبه باللمم ممَّا قال أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث (¬5)، جعل نظر العينين من اللمم المعفوِّ عنه في قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32]، وقد يدل على ¬
خاصِّ ما نحن فيه أيضاً حديث تظاهر الرواية به في قصة (¬1) الذي أصاب من المرأة ما دون أن يمسَّها، ثم جاء فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صلّ معنا" ثم نزلت: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]. (لستُ) (¬2) أعني أنه يدلُّ على ما نحن فيه من جهة السبب المذكور فيه، وهو أنه قبلها، وأَصاب منها ما دون الجماع، وكفَّرت له الصلاةُ ذلك، فإن هذا ليس بصحيح (الإستدلال به) (¬3)؛ لأن هذا الرجل ندم على ما فرط منه، وجاء يلتمس المخرج، فكفّر ذنبه بالندم الذي هو التوبة، ولعله قد أضاف إليه العزم على أن لا يعود، وجبرت له الصلاة ما فاته من الأجر في مكان المعصية، فيكون هذا موافقًا لما يذهب إليه من (يأبى) (¬4) تكفير الطاعات الصغائر، (ولكنني أعني) (¬5): أنه يدل عليه بظاهره قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. أخبر عن جنس الطاعات -التي الصلاة منها- أنها مذهبة للسيئات، ويكون المستفاد من السبب، هو أنَّ الصلاة مما تذهب السيئات، إذ لا بدَّ أن يتنزل ¬
الخطاب - وإن كان عامّاً- على سببه، فلا يُخرج منه، وإن كان لا يقصر عليه، فلو أقحم الخصم هاهنا بشرط التوبة حتى يكون تقدير الكلام: إن الحسنات يذهبن السيئات بشرط التوبة منها [،،، عز] (¬1) الخطاب عن الغاية، فإن التوبة كافية في إذهاب السيئات، مستقلة بالتكفير، فلا يبقى لقوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] معنى. ولا يصح أيضًا تنزيله عن السيئات، وحسن التوبة حتى يكون تقدير الخطاب هكذا: إن الحسنات التي هي التوبة يذهبن السيئات، لأنه قد تبيّن بالسبب: أن الصلاة منها، ولأنه أيضًا قد ذكر الصلاة في قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] فالمعنى: إن الحسنات التي الصلاة منها، يذهبن السيئات. وهذا الذي قلناه هاهنا، لم يقصد من حيث النظر في مسألة النزاع؛ لأن هذا ليس موضعه، وإنما قصد به من حيث النظر، في أن (جناية) (¬2) البصر صغيرة بدليل تكليف إياها. وهذا القدر من التنبيه عليه كافٍ. ولم يصح في هذا حديث ابن عباس: 23 - قال البزار: نا عباد (¬3) بن يعقوب، نا عبد الرحمن بن محمد ¬
العرزمي (¬1) قال: نا شبيب (¬2) بن شيبة، عن قتادة عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَشَلْشَلُ (*) وجهه دمًا، فقال: "ما هذا؟ أو ماذا؟ " قال: يا رسول الله! إنه مرَّت بي امرأة، فنظرت إليها فلم أزل أُتبعها بصري فاستقبلني جدار فصَدَمني، فصنع بي ما ترى، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله إذا أراد بعبدٍ خيراً عجل له عقوبةَ ذنبه في الدُّنيا، وإذا أراد بعبد شرّاً أمسك عليه ذنبه، حتى يوافي به يوم القيامة" (¬3) كأنه غير [هـ]. فإن شبيب بن شيبة وعبد الرحمن بن محمد (الفراري) العرْزمي ضعيفان. 24 - وحديث ابن مغفَّل الذي صحَّ فيه آخر هذا الحديث، وهو قوله: "إن ¬
الله إذا أراد بعبد خيراً" إلى آخره، ليس فيه من هذا الباب شيء، فإن المذكور فيه [ملأ عليه المعنى وعبه نائماً] (¬1) والحديث المذكور ذكره ابن أبي شيبة (¬2) فاعلمه، والله الموفق. * * * ¬
الباب الثاني فيما يجوز إبداؤه للناظرين من الجسد، وما يمنع فيحرم أو يكره
الباب الثاني فيما يجوزُ إبداؤه للنَّاظرين من الجسد، وما يمنع فيحرم أو يُكره والناس على ثلاثة أقسام: ذكور، وإناث، ومشترك، وهم الخناثى، إذا فرض أحدهم مشكلاً. فلنقسم هذا الباب على ثلاثة فصول، ونضمن كلَّ فصل مسائل بجنسه.
فصل الذكور على قسمين: مكلفين، وغير مكلفين
فصل الذكور على قسمين: مكلَّفين، وغير مكلَّفين (1) مسألة: المكلف من الرجال، منه ما يجوز له إبداؤه بالجملة، وذلك ما فوق السرة ودون الركبة، وهذا ما لا خلاف فيه: ويدل عليه من السنّة: 25 - حديث أبي أمامة بن سهل بن (حنيف) (¬1)، عن (المسور) (¬2) بن مخرمة قال: أقبلتُ بحجرٍ أحمله ثقيل، وعليَّ إزار خفيف، فانحلَّ إزاري، ومعي الحجر (¬3) لم أستطع أن أضعه، حتى بلغتُ به إلى موضعه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارجع إلى ثوبك فخذه، ولا تمشوا عراة" ذكره مسلم (¬4). وفيه جواز إبداء ما عدا العورة، وتحريم مشيهم عراة، أي: بادي العورات. وهذا أمر لم يزل متقرراً في الوجود، معلومًا بين الأمة، متداولاً، أعني: تجرُّد العمال في أعمالهم مبدين ما عدا العورات منهم. ويدل عليه أيضًا حديث ابن عباس: ¬
26 - قال البزار: نا يوسف بن موسى، نا يعلى بن عبيد، نا سفيان، هو الثوري، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احذروا بيتاً "يقال له: الحمام" قالوا: يا رسول الله! يُنْقِي (¬1) الوسخ، قال: "فاستتروا" (¬2). هذا صحيح ولا يضره (إرسال) (*) من أرسله، فإن انتشار الخبر، وتفرد الحاملين له، هو الموجب لأن يروى تارة مرسلاً، وتارة مسنداً، ورواته (¬3) ثقات فلا نبالي بإرسال من أرسله. ¬
وجهة دلالته على ما نحن فيه: هو من حيث تنزيله، على ما لم يزل معلومًا من دخول الناس الحمامات عراة لغسل الأبدان والشعور، بل ربما بالغوا في التعرِّي بإبداء العورات، فقال الشرع: "احذروا بيتاً يقال له: الحمام"، أي: لأن العادة فيه جارية بانكشاف العورات، فلما قالوا له: ينقي الوسخ، قال: "استتروا"، يعني: استروا عوراتكم، وبعيد لهذا أن يعني: استروا أبدانكم، فإن ذلك غير معهود، ثم لم يصر معهوداً. وليس استدلالنا هذا -متى استدللنا به فيما يأتي، مما يحتاج إليه فيه- استدلالاً بعمل، إنما هو استدلال بمتواتر لا يمكن المنازعة إلا في صحة وجوده (بحسب العلم) (¬1)، أو الظن الغالب المحتسب في مسائل الفقه. ولم يكن كلامنا الآن في نظر الناظرين، فإنه لو كان في ذلك أمكن أن يعترض بأن يقال: هب كأنه يبدي بدنه، فمن أين يجوز النظر إليه ممَّن يحضره؟. وإنَّما كلامنا في هذا الباب في بيان ما تُعبدنا بستره، وما لم نتعبد (بستره) (¬2). وفي الحديث النهي عن كشف العورة، من حيث أمره بسترها، والأمر في جواز إبداء الرجل ما عدا العورة قطعي، ولا خلاف فيه. ¬
ويستقرأ أيضًا: من إبدائه - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبوة (¬1) في ظهره لجماعة .. ومن تمكينه أسيد بن حضير من كشحه (¬2)، أو خاصرته يقتصُّ منه، فلما بدت له التزمها .. ومن بدوّ صفحة عنقه، حين جذبه (¬3) الأعرابي بردائه .. ومن كشفه ساقيه حتى رآهما مَن بحضرته (¬4)، من أبي بكر وعمر وعثمان وأبي موسى الأشعري - رضي الله عنهم -. ¬
ومن رؤية عمر جنبه - صلى الله عليه وسلم -، وقد أثَّر فيه رمال حصير (¬1). وكذلك: 27 - أبو موسى الأشعري في حديثه في قتل أخيه (¬2) أبي عامر: فلمَّا رجعتُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلتُ عليه، وهو في البيت على سرير مُرمَلٍ (¬3)، وما (¬4) عليه فراش، وقد أثَّر رمال السرير في ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجنبيه. ذكرهما مسلم. ¬
وكذلك قال ابن مسعود أيضًا: 28 - إنَّه رآه وقد أثَّر رمال الحصير في جنبه، في حديث: [ما أنا في الدنيا] (¬1). ذكره الترمذي. ومن رؤية قيس بن سعد بن عبادة، أثر الورس على عُكنه، حين اشتمل في بيتهم بالملحفة المورَّسة (¬2). ذكر حديثه بهذه الزيادة البزار. 29 - وروى زهير بن محمد، عن زيد بن أسلم، قال: رأيت ابن عمر (محلول الأزرار) (¬3)، وقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محلول الأزرار. ذكره البزار (¬4). وفي حديث أنس: 30 - فلقد كنت أرى أثر [ذلك] المخيط في صدره - صلى الله عليه وسلم -. ذكره مسلم (¬5). ¬
إلى غير ذلك مما يكثر أن تتبع. ومعلوم أنَّ شعر المرأة كصدرها وبطنها، فشعر الرجل أحرى وأولى أن يكون كصدره، وشعور الرجال بادية، وهذا ما لا نزاع فيه؛ فلا نطيل به. فإن قيل: فكيف بما ذكر أبو القاسم (البغوي) (¬1) قال: 31 - أنا وهب بن كعب، أنا خلف، عن بيان، عن قيس، عن جرير، قال: رآْني عمر متجرِّداً، فناداني: حذار ذلك، حذار ذلك .. فأخذتُ ردائي، ثم أقبلتُ إلى القوم فقلت: ما له ناداني: حذار ذلك؟ قالوا: لَمَّا رآك متجرِّداً. قال: ما (رأيت) (¬2) أحدًا من الناس صور صورة هذا إلا ما ذُكر عن يوسف. قلنا: ليس في هذا منع من إبداء، وإنما خاف أن يُلقَحَ (¬3). والله أعلم. (2) - مسألة: ومنه ما لا يجوز له إبداؤه قطعًا، لغير زوج أو أمة، وذلك سوءتاه، وهذا أيضًا ما لا خلاف فيه: والأصل قوله تعالى: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]. فإنه يحتمل أن يكون معناه: يحفظونها من الزنى، وما لا يحلُّ، أي: يعفونها من الزنى، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5]. وكما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
32 - "يا شبابَ قريشٍ! لا تزنوا، احفظوا فروجكم، ألا مَن حفظ فرجه فله الجنة" رواه عنه ابن عباس. ذكره البزار (¬1). ويحتمل أن يريد: يحفظونها من الإنكشاف والبدوّ. فإذا كان الأمرُ بالحفظ، يمكن توجُّهه إلى المعنيين، فوجه الأمر بالإتيان برجل إلى زيد وبكر وعمرو، وجاز أن يكون مطلقًا بالنسبة إلى كلِّ حفظ، فتتضمن الآية الأمر بكلِّ حفظ، إعفافاً كان أو صيانةً عن (الإنكشاف) (¬2)، ولهذا غور، وليس هذا موضع ذكره، والإِطناب فيه. ومن السُّنَّة: 33 - ما رواه بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدِّه قال: قلت: يا رسول الله! عوراتنا، ما نأتي منها وما (نذر) (¬3)؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك" قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعضٍ؟ قال: "إن استطعت أن لا يرى أحدٌ عورتك فافعل" قلت: فإذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: "فالله أحق أن يُستحيى منه من الناس" (¬4). ¬
وهذا الحديث صحيح ذكره أبو داود والنسائي وابن أبي شيبة. وبهز (¬1) وأبوه ثقتان، وللمحدثين فيه خوض. وقوله فيه: "احفظ عورتك إلّا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك"، هو وإن كان خطاباً بالمفرد مواجهة، فإنه خطاب للجميع، للحاضر منهم والغائب، بقرينة عموم السؤال ووجوب عموم الجواب حتى ينطبق عليه، وسؤاله كان: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ فقال: "احفظ عورتك ... " الحديث. اكتفى بتبيين الحكم له خاصة بمشاركة غيره له في ذلك، (ومساواته لهم فيما (¬2) شرع)، وقد تقدم: "استتروا" وقوله: "لا تمشوا عراة" فأما: ¬
34 - حديث أبي سعيد: "لا ينطر الرجل إلى عورة الرجل" (¬1)؛ فليس هو من هذا الباب، إنما هو من باب تحريم النظر إلى العورة، اللهمَّ إلا أن يثبت أن كلَّ ما يحرم النظر إليه من الناظر، يحرم إبداؤه على المنظور إليه، فحينئذ كان يصلح الإستدلال به هاهنا. ونحن بالإِجماع المنعقد على تحريم إبداء العورة التي هي السوءتان مستغنون عن هذه التعلقات، وإنما نذكر (لُبَابَه) (*) لطالب يطلب الاجتماع مستنداً متعينًا، ومستغنون عما في الباب من ضعيف الحديث، كحديث: 35 - عبد الله بن الحارث (¬2) بن جزء الزبيدي: أنه مرَّ وصاحبٌ له بناس وفتية من قريش (قد حلوا) (¬3) أزرهم، وهم عراة يتجالدون بها، قال: فلمَّا مررنا بهم، قالوا: إن هؤلاء هكذا؟ (فدعوهم) (¬4) .. ثم إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عليهم، فلما أبصروه تبادروا (¬5)، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغضباً، وكنت وراء الحجرة أسمعه يقول: "سبحان الله! لا من الله استَحْيَوا، ولا من رسوله استتروا". ¬
وهو حديث ذكره البزار (¬1) من طريق ابن لهيعة (¬2)، وهو مَن قد عُلِم. ¬
وقال الحربي (¬1): 36 - أنا هارون بن معروف، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو: أن سليمان بن زياد حدثه: أن عبد الله بن الحارث حدثه: أن أيمن وفتية معه تعرّوا واجتلدوا (¬2)، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا من الله استَحْيَوْا، ولا من رسوله استَتَروا"، وأم أيمن تقول: يا رسول الله! استغفر لهم (فبلأيِ ما) (¬3) استغفر لهم. وهذا الإسناد حسن، وسليمان بن زياد ثقة. وأحسن ما في هذا حديث ذكره البزار (¬4)، قال: 37 - أنا بشر بن آدم، قال: أنا إسرائيل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يغتسل من وراء الحجرات، وما رؤي عورته قط". قال: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجه متصل بأحسن من هذا الإسناد. ¬
وليس يعترض على شيء من هذا، ما رواه: 38 - أبو هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من كون بني إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى عورة بعض، وكان موسى يغتسل وحده، وإيذاؤهم له بقولهم: ما يغتسل وحده إلا أنه آدر (¬1)، فبرأه الله -عَزَّ وَجَلَّ- مما قالوا، بفرار الحجر بثوبه، واتباعه إياه، حتى قام بين أيديهم عرياناً ينظرون إليه (¬2). فإن هذا ليس بشرع لنا، فاعلم ذلك، والله الموفق. (3) - مسألة: هذا الذي (لا يجوز) (¬3) إبداؤه، ويجب ستره، هل يجب ذلك فيه في حال الخلوة؟: ¬
فيه عند بعض الفقهاء تردّد. وعندي: أن ذلك لا يجوز (*)، لقوله في حديث بهز بن حكيم المذكور: أرأيت إذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: "فالله أحق أن يُستحيى منه من الناس" (¬1). (وإذا) (¬2) كان ستره من الناس واجبًا، فهذا واجب كذلك، أو أوجب. وحديث يعلى بن أميَّة في هذا الباب حسن. 39 - قال أبو بكر بن الجهم: أنا الأزرق، أنا شاذان، أنا أبو (¬3) بكر بن عياش، عن عبد الملك، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه أبصر رجلًا يغتسل بالعراء (¬4)، فقال: "أيها الناس! إن الله حيي كريم سِتِّير، يحب الحياء والسَّتْر، فأيكم اغتسل فليتوارَ بشيء" (¬5). ¬
فأما حديث ابن عباس في هذا فضعيف، (وهو ما) (¬1) رواه: 40 - ابن لهيعة، عن عطاء، عن ابن عباس: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يغتسل وليس يتوارى، فكره ذلك، وقال: "الله سِتِّير يحبُّ السَّتْر، فمن اغتسل منكم فليتوارَ بشيء، بحجر أو شجرة" (¬2). وكذلك ما رواه: 41 - حفص بن سليمان، عن علقمة بن مرثد (¬3)، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ينهاكم عن التعري، فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم؛ الكرام الكاتبين، الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حالات: الغائط والجنابة والغسل، فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه، أو بجِذمة حائط (¬4)، أبو ببعيره". ¬
وحفص بن سليمان أحد المتروكين. 42 - وحديث أبي كاهل في هذا ضعيف أيضًا، قال فيه: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا كاهل! إنه مَن ستر عورتَه مِن الله سرّاً وعلانية، كان حقّاً على الله أن يستر عورته يوم القيامة". قال أبو علي بن السكن (¬1): أنا نصر بن عبد الرحمن الشيرازي، أنا أحمد بن يونس بن المسيب الضبي، أنا يونس بن محمد المؤدب، أنا الفضل بن عطاء، عن الفضل بن شعيب، عن ابن منظور، عن أبي معاذ، عن أبي كاهل، فذكره (¬2)، قال أبو علي: إسناده مجهول، وليس يروى إلا به. ¬
(4) - مسألة: وأعلم أنَّ الأمور المطلوبة منا بالتكليف قسمان: أفعال، وتروك لأفعال: فأمّا الأفعال؛ فيسقط التكليف بها عنَّا في الآخرة، وذلك كالصَّلاة والصَّوم وأشباههما. وأمَّا التروك؛ فعلى قسمين: قسم يسقط عنا التكليف به، فلا نُنهى عنه، وقسم فلا يصدر (منا ما هي) (*) تروك. فالذي يسقط: كشرب الخمر، ولبس الحرير مما لا يُنْهى عنه هناك، بل يباح لنا منه ما كان حرامًا علينا في الدنيا. والذي لا يصدر منا: كالقتل، والزنى، والإضرار (والأذى) (¬1)، والتحاسد وأشباهها، وكل هذا لا يصدر منا، ولا تتوفر الدواعي على فعل شيء منه، وهذا أمر لا تصحُّ إباحته بحال، ولا في وقت. ونريد الآن أن نبيّن أن إبداء العورات، والتكشُّف إلى الناظرين هو من هذا القبيل؛ (نجتنب) (¬2) منه في الآخرة ما كنا نجتنب منه في الدنيا، وما يقع منه في وقت يقع ضروريّاً، لا [نلام] (¬3) به من باب أحرى. ¬
وذلك (¬1) بَيِّنٌ فيما روته: 43 - عائشة - رضي الله عنها - من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرْلاً" (¬2) قلت: يا رسول الله! النساء والرجال ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: "يا عائشة، الأَمرُ أشدُّ من أن ينظر بعضهم إلى بعض". ذكره مسلم. وعند البخاري: "الأمر أشد (¬3) من أن يهمَّهم ذلك". هذه رواية القاسم عنها، عندهما، أعني: مسلمًا والبخاري. وعند النسائي: من رواية عروة عنها: 44 - فقالت: كيف بالعورات؟! فقال: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37]. ففي هذا: أن وقوع ذلك اضطرار، وأن النظر حال دونه الهول، فاعلمه. (5) - مسألة: من هذا الذي قلنا: إنه يجوز إبداؤه قطعًا، ولا يأثم بكشفه، ما هو من (المروءة) (¬4): ¬
وذلك بحسب الأشخاص والعادات، فليس إبداء الرجل الكبير كالسلطان (والممثل) (¬1) والعالم وأهل التخصص، شيئًا من ذلك، كإبداء أهل الأعمال والصنائع إياه، وحفظ المروءة مشروع، وإسقاطها قد ينجرح به العدل. وقد أمرنا الله تعالى بأخذ الزينة، وَمَن عادته أن يعتمَّ يخرج حاسر الرأس مثلًا لغير ضرورة، قد خالف ما أمر به، وهذا الفصل بيِّن (فيكفي) (¬2) فيه هذا القدر. (6) - مسألة: أما ما بين السرة والركبة مما عدا السوءتين، فهذا موضع اختلف الناس فيه: فمنهم من يقول: هو عورة كالسوءتين، ولا يجوز إبداؤه، وهو مذهب الشافعي، ومنهم من يقول: ليس كذلك، لا يأثم بإبدائه، ولكن ليس من المروءة إبداؤه. وللفريقين متمسكات من السنّة؛ منها: (صحاح) (¬3) تمسَّك بها المبيحون، إلا أنها لم تدل على المقصود دلالة بَيّنَة، ومنها: ضعاف تمسك بها المانعون، وهي (دالة) (¬4) على المنع، إلا أنها لم تصح .. نذكر ما أمكن من ذلك إن شاء الله تعالى. • ممّا تمسك به مَن لم يرَ ذلك عورة: 45 - حديث عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضطجعاً في بيته، كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحال، ثم استأذن ¬
عمر، فأذن له وهو كذلك، فتحدَّث، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسوّى ثيابه (¬1) .. . الحديث. وهو صحيح، ولكنَّه لا حجة لهم فيه، لأن مراده منه كشف الفخذين، وهو مشكوك فيه، والحديث المذكور ذكره مسلم. والذي صحَّ من رواية أبي (*) موسى بغير شكل: كشفه ساقيه فقط، وذلك حين جلس في الحائط على بئر أريس، مدلّياً رجليه، كاشفاً عن ساقيه، حتى دخل ثلاثتهم. ذكره أيضًا مسلم (¬2). وإذا لم يكن فيه للفخذين ذكر، خرج عن أن يكون له مدخل في هذا الباب. ومن ذلك: 46 - حديث أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا خيبر، قال: فصلَّينا عندها صلاة الغداة (بغَلس) (¬3)، فركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركب أبو طلحة، وأنا رديف أبي طلحة، فأجرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زقاق خيبر، وإن ركبتي لتمسّ فخذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانحسر الإِزار عن فخذ نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬
والحديثٌ صحيحٌ ذكره مسلم (¬1) -رَحِمَهُ اللهُ-. وتقرير دلالته لما ذهبوا إليه -على أبلغ ما يريدون- هو أن يقال: هو - صلى الله عليه وسلم - في باب التحفُّظ من الإنكشاف، أشدُّ من سائر الخلق، وأحرى به وأولى، وقد انكشفت فخذه فتركها، حتى وقعت عليها حاسة البصر من أنس، ومسَّتها ركبتُه. ويؤكد هذا المعنى ما وقع في كتاب البخاري في: 47 - حديث أنس هذا: "وحسر الإزار عن فخذيه" (¬2) دلَّ هذا على (أنها) (¬3) ¬
ليست بعورة؛ فإنها لو كانت عورة؛ ما كشفها، ولو انكشفت منه (كلها) (¬1) لا دليل لهم فيه. أما هذه الرواية التي في كتاب البخاري "حسر الإزارَ"، بالنصب، فإني أظنها "حسر الإِزارُ" برفع الإِزار، حتى تكون "حسر" بمعنى الحسر، وذلك هو الثابت في القصة، أعني أن الحسر بغير قصد منه، لكنه يغلبه أذى الفرس. وإذا كان "الحسر" كما هو في كتاب مسلم، فلمُ يبدها إذًا هو -عَلَيْهِ السَّلَامْ- بقصدٍ منه، لأنها بدت بغير اختياره، فلم يثبت أنه -عَلَيْهِ السَّلَامْ- معصوم من انكشاف ذلك منه بغير قصد، تم المقصود. ولكن لا يصحُّ للخصم أن يثبت العصمة عن الأمور التي تقع بغير قصد، وهي لا تُخلُّ بمنصب النبوة، ولا تنفر، فإنه -عَلَيْهِ السَّلَامْ- ليس عن الذنوب فقط هو معصوم، بل وعما ليس بذنب، إذا كان مما يخلُّ بمنصبه. فإن قال المستدلون به: قد عُصم - صلى الله عليه وسلم - من ذلك قبل أن يبعث، فكيف لا يكون معصوماً منه بعد البعثة؟! .. وذكروا حديث بناء قريش الكعبة، ونقله -عَلَيْهِ السَّلَامْ- معهم الحجارة، (وإشارة) (¬2) عمه العباس عليه بأن يحمل إزاره على منكبه دون الحجارة، فلما فعل سقط مغشياً عليه .. وما رؤي بعد ذلك اليوم عُرياناً. وقد روي عنه: أنه قد عصم من انكشاف ما لا ينبغي أن ينكشف منه قبل أن يبعث، فكيف لا يكون معصوماً من انكشاف ما لا ينبغي أن ينكشف منه فيما بعد البعثة؟! .. وهذا الحديث يرويه: 48 - جابر بن عبد الله قال: لما بُنيت الكعبة، ذهب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وعباس ¬
ينقلان الحجارة، فقال عباس: (اجعل) (¬1) إزارك (على) (¬2) عاتقك من الحجارة، ففعل، فخَرَّ إلى الأرض، وطمَحَت عيناه إلى السماء، ثم (قام) (¬3) فقال: "إزاري"، فشدّ عليه إزاره، وفي رواية: فما رؤي بعد ذلك عرياناً. ذكر رواية جابر هذه مسلم (¬4) -رَحِمَهُ اللهُ-. 49 - ورواه ابن عباس، عن أبيه العباس، فزاد فيه: فجئتُ أسعى، وألقيتُ الحجرين، وهو ينظر إلى شيء فوقه، قلت: ما شأنك؟ فقام فأخذ إزاره، وقال: "نُهيت أن أمشي عرياناً" (قال: كنتُ أكتمها) (¬5) الناس، مخافةَ أن (يقولوا) (¬6): مجنون. يرويه عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس. ذكره البزار (¬7). ¬
وقال: عمرو بن أبي قيس مستقيم الحديث. قلنا: لا يصحُّ هذا الحديث؛ لأنَّ جابراً لم يشاهد ذلك (¬1)، ولأنه إنما صحب بعد الهجرة، ولم يقل في الحديث: إنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أسرّ إليه. ورواية ابن عباس، عن العباس، هي من رواية سماك بن (¬2) حرب، وهو ممن كان يتلقّن، وإنما الحديث من أجله حسن، وعلي أنه لو صح لأمكن الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن نقول: إنما كان الكلام في انكشاف الفخذ وشبهها مما (عدا ما) (¬3) لا يجوز انكشافه قطعًا، وهذا الخبر فيه بدوّ ما نحن متفقون على أنه لا يجوز انكشافه منه بعد النبوة. ¬
والوجه الآخر: أن نقول: لم يكن الإستتار قبل البعثة مكلَّفاً به (¬1)، فما وقع منه لم يصادف أمراً، ولا ما وقع من نقيضه (خلاف نهياً) (¬2)، ولا تلزم العصمة مما ليس بذنب، إلا أن يخلَّ بالمنصب، ولا أيضًا عمَّا هو ذنب إلا أن (¬3) يكون مؤثِّراً (¬4) في المنصب، وكذلك ما قبل النبوة ليس كذلك، أما بعد النبوة، فنعم (هو) (¬5) صلوات الله عليه، معصوم من الكبائر قطعًا، ومن الصغائر بأدلة دلت على ذلك، وعما ليس بذنب، إذا كان مخلّاً بمنصب النبوة، إلى غير هذا مما يمكن الجواب به، والمشاركة فيه. فلا نرى شيئًا مما ذكر دليلاً على أن الفخذ -وما هو في (¬6) معناها- ليس بعورة. • وأما المانعون من إبدائها، القائلون: إنها عورة، فاستدلوا بأحاديث: أشهرها: 50 - حديث جرهد، برواية زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد، عن أبيه قال: كان جرهد من أصحاب الصفة، وأنه قال: جلس عندنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفخذي منكشفة، فقال: "أما علمت أن (الفخذ) (¬7) عورة؟ ". ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ولهذا الحديث علتان: إحداهما: الجهل بحال زرعة وأبيه، فإنهما غير مَعْروفَي الحال، ولا مشهوري الرواية. والثانية: الإضطراب (المؤدي) (*) لسقوط الثقة به، وذلك أنهم مختلفون فيه؛ فمنهم مَن يقول: زرعة بن عبد الرحمن، ومنهم مَن يقول: زرعة بن عبد الله، ومنهم مَن يقول: زرعة بن مسلم، (ثم) (**) منهم مَن يقول: عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم مَن يقول: عن أبيه، عن جرهد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم مَن يقول: زرعة (...) عن آل جرهد، عن جرهد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... وكل ¬
هذا وَهَنٌ فيه، فلا يصح أصلاً، وإن كنَّا لا نرى الإضطراب في الإِسناد علة، فإنَّما ذلك إذا كان الذي يدور عليه الحديث ثقة، فنجعل حينئذ اختلاف أصحابه عليه، إلى رافع، وواقف، ومرسل، وواصل غير ضارٍّ، بل ربما كان سبب ذلك انتشار طرق الحديث، وكثرة رواته، وإن كان المحدِّثون يرون ذلك علة تسقط الثقة بالحديث المروي بالإِسناد المضطرب فيه. ومن ذلك: 51 - حديث علي - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكشف فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت". وهو حديث ذكره أبو داود (¬1)، من رواية ابن جريج، قال: أُخبرت عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم (¬2) بن ضمرة، عن (*) علي - رضي الله عنه -، وهؤلاء كلهم ¬
ثقات، والإنقطاع فيه بين ابن جريج وحبيب، في قوله: أُخبرت، وزعم ابن معين: أنه أيضًا منقطع في موضع آخر، وهو ما بين حبيب وعاصم بن ضمرة، وأن حبيباً لم يسمعه من عاصم، وأن بينهما رجلًا ليس بثقة، وقال البزار ذلك أيضًا، وفسَّر الرجل الذي بينهما، بأنه عمرو بن (¬1) خالد، وهو متروك. فعلى هذا يكون إسناده مسوّى، ولا أدري من سوّاه، وابن جريج لا يعرف بالتسوية وإنما يعرف بالتدليس (¬2). وأحسن من هذا الإسناد، ومن هذا الحديث: ما ذكره الدارقطني (¬3) قال: 52 - أنا [أبو] (¬4) بكر النيسابوري، أنا أحمد بن منصور بن راشد، أنا روح بن عبادة: أن ابن جريج (¬5) قال: أخبرني حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكشف فخذك، فإن الفخذ من العورة". ¬
وهذا أيضًا رجاله ثقات .. والذي كان في إسناد الحديث الذي قبله (¬1) من الانقطاع بين ابن جريج وحبيب في قوله: أخبرت، عن حبيب، ارتفع هاهنا بقوله: أخبرني، وهو عنده [هكذا] (*) ولا بد. وليس لقائل أن يقول: لعلَّ ذلك الحديث بعينه، فإن لفظيهما مختلفان، إلا أنه مع ذلك يبقى منه في النَّفس شيء، من أجل ما قد قيل في الأول، من أن حبيباً لم يسمعه من عاصم بن ضمرة، فإن ذلك يورث شكّاً في سماعه منه هذا الباب، وذلك يوجب أن لا يطلق القول فيه بالصحة، وأهل هذه الصناعة -أعني المحدثين- بَنَوْا على الاحتياط، حتى صدق ما قيل فيهم: لا (تخف) (¬2) على المحدث أن يقبل الضعيف، وخف عليه أن يترك من الصحيح، وبذلك انحفظت الشريعة كما أراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- حفظها مما كيدت به من كذب الكاذبين عليها والزائدين فيها وقد رواه عن ابن جريج بلفظه الأول، وقال فيه: أخبرني حبيب بن أبي ثابت، [عن] (**) رجل آخر يقال له: يزيد بن عبد الله (أبو خالد) (¬3) القرشي البصري، يقال له: البيسري، يكنى أبا خالد، قال فيه: 53 - أنا جريج، قال: أخبرني حبيب بن ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبرز فخذك، [ولا تنظر إلى فخذ] (¬4) حي ولا ميت". ¬
رواه القواريري، ذكره ابن عدي، ويزيد بن عبد الله هذا لا يعرف أنه ثقة. ومن ذلك: 54 - حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"الفخذ عورة" ذكره الترمذي (¬1). وذكره أيضاً البزار، ولفظه عنده: 55 - مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي رجل، فرأى فخذه خارجة، فقال له: "غطِّ فخذك، فإنّ فخذ الرجل مِنْ عورته". وهو أيضًا حديث لا يصح، لأنه من رواية أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس ... وأبو يحيى هذا، اختلف في اسمه، فقيل: زاذان، وقيل: مسلم، وقيل: ¬
عبد الرحمن بن دينار، وهو ضعيف عندهم، وأحسنهم فيه رأياً البزار، فإنه قال: ما نعلم به بأساً، قد روى عنه جماعة من أهل العلم، واحتملوا حديثه، وهو كوفي معروف. ومن ذلك: 56 - حديث عبد الله بن مسعود، قال: عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا من جهينة، فألفاه قد جعل على عورته خِرقةً، وكشف عن فخذيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "غط فخذيك فإنَّها عورة". قال بقي بن مخلد: أنا أبو الطاهر، أنا ابن وهب، عن عمرو، عن سعيد بن أبي هلال، عن عثمان، عن رجل، عن ابن مسعود، فذكره (¬1). وضعف هذا لا خفاء (فيه) (*)، إذ لا يعرف مَن هذا الرجل الذي لم يسم (¬2). ¬
ومن ذلك: 57 - حديث محمد بن عبد الله بن جحش، قال: مرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -وأنا معه- على معمر، وفخذه مكشوفة، فقال: "غط فخذك، فإن الفخذ عورة". وهذا حديث أشار إليه البخاري في جامعه (¬1)، ساقه بإسناده في تاريخه، فقال: أنا إبراهيم بن موسى، أنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني العلاء، عن أبي كثير، عن محمد بن جحش، فذكره. وهو حديث ضعيف، لأنَّ أبا كثير (¬2) لا يعرف حاله، وهو مولى محمد بن ¬
عبد الله بن جحش، بيَّن ذلك سليمان بن هلال، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وعبد العزيز بن أبي حازم، في روايتهم هذا الحديث، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب. ذكر الطرق عنهم بذلك بقي بن مخلد، وبينهم في نفسه اختلاف، يعود عليه أيضًا بِوَهَن، وذلك أن سليمان بن هلال، وعبد العزيز الدراوردي قالا فيه: 58 - كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السوق، فمرَّ بمعمر جالس على بابه مكشوفة فخذه. وفي رواية ابن أبي حازم: 59 - مرَّ على معمر بفناءِ المسجد، ومعمر محتبٍ كاشفاً عن طرف فخذه، فقال: "خمِّر (*) فخذك يا معمر، فإن الفخذ عورة". 60 - وحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في: (أن ما) (¬1) بين السرة والركبة من العورة (¬2)؛ ضعيف أيضاً، وسيأتي ذكره في فصل الإِناث إن شاء الله تعالى. ونرى الأحاديث في هذا الباب غير صحيحة، وقد تقدَّم فيه البخاري بقوله؛ وهو: حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط، حتى يَخْرُجَ من اختلافهم، ورأى (في) (¬3) ذلك نظر، يقضي بأنه موضع لا يحلُّ النظر إليه، وهو الذي أراه. والنظر المذكور هو أن حديث بهز بن حكيم، وحديث أبي سعيد صحيحان (¬4)، وفي حديث بهز تحريم إبداء العورة، وذلك قوله: "احفظ عورتك ¬
إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك"، وفي حديث أبي سعيد: "لا ينطر الرجل إلى عورة الرجل". فوجب أن يُنْظَر ما العورة في اللسان العربي الذي هو (به خوطبنا) (¬1)؟ .. فوجدناها: كل ما يستحيى منه: السوءتان وغيرهما (*). قال أبو منصور النيسابوري صاحب كتاب "صحاح اللغة" (¬2): العورة سوءة الإِنسان، وكل ما يُستحيى منه. ¬
وقال ابن سيده (¬1) صاحب كتاب "المحكم": العورة كل (مكمن للستر) (¬2)، وعورة الرجل والمرأة: سوءتهما، وكل أمر يُستحيى منه عورة، والعورة: الساعة التي هي قمن (¬3) من ظهور العورة [فيها] (¬4)، وهي ثلاث: قبل الفجر، وعند نصف النهار، وبعد العشاء الآخرة؛ ثلاث عورات أُمِر الولدان (¬5) والخدم بالإستئذان فيها. وقال أبو علي البغدادي (¬6) صاحب كتاب "البارع": والعورة سوءة الإِنسان، وكل أمر يُستحيى منه فهو عورة، والنساء عورة، قال: ليس في جميع حافظي عوراتهم لا (يهمون بإذغاف السلل، إلا إذا كان السرعة، والتسلل: الطرة) (¬7). وثلاث ساعات في الليل والنهار عورات في قول الله (¬8) -عَزَّ وَجَلَّ- وكل ما يُستحيى ¬
منه، فهذا المفروض فيه الكلام، ممَّا يُستحيى من بدوِّه وإبدائه، وممَّا يستحيي الناظر من النظر إليه، فلا يجوز أن يُبدى ولا أن ينظر إليه. وأيضًا، فإن من المقطوع به في الشريعة، مراعاة حفظ المروءة، وليس مع كشف ذلك والتهاون به مروءة. - وأشد من كشفه تمكين دلّاك منه في حمام أو غيره. - ومسألة: هل ينجرح بذلك فاعله، أو لا ينجرح؟ ليس هذا موضع ذكرها. فإن قيل: وكيف يستقيم القول بأنها عورة، ومعلوم أن العورة -أعني السوءتين- لا يجوز مباشرتها، ولا الضرب عليها باليد، ولو حال دونها ثوب؛ وقد صح: 61 - حديث أبي العالية البرّاء، قال: ضرب عبد الله بن الصامت على فخذي، وقال: إني سألت أبا ذر كما سألتني، فضرب فخذي كما ضربت فخذك، وقال: إني سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني، فضرب فخذي كما ضربت فخذك، وقال: "صلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركت الصلاة معهم، فصلِّ ... " الحديث ذكره مسلم (¬1). 62 - وحديث ابن عباس قال: قدّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة أُغيلمة ¬
بني (¬1) عبد المطلب على حُمُرات، فجعل يلطح (أفخاذنا) (¬2) ويقول: "أُبَيْنيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس"؛ فلو كانت الفخذ عورة، ما جاز الضرب عليها باليد من فوق الثوب، كما لا يجوز ذلك في أحد السوءتين. قال أبو عبيدة (*): اللطح: الضرب ببطن الكف ونحوه، ليس بالشديد. ¬
فالجواب: ليس في شيء من هذا اطلاع عليها، ولا نظر إليها، ولا بُعد في تفاوت أمر العورة، فيكون منها ما حكمه أغلظ، وما حكمه أرقّ، وإن تساوى الجميع في وجوب الستر، ووجوب غضِّ النظر عنه؛ فيكون على هذا أمر الفخذ أخف من أمر السوءتين، يجوز هذا القدر فيها أخذًا من هذين الحديثين، ووجوب الستر وتحريمُ النظر مأخوذ مما تقدم، فاعلم ذلك، والله الموفق. (7) - مسألة: السرة والركبة: هل تدخل فيما ذكرناه إذا قلنا: إن الفخذ عورة؟ اختلف في ذلك: والأظهر: أنها لا تدخل في ذلك، فإن الأمر في الإستحياء منهما في مستقر العادات أقل. وأما إن قيل: إن الفخد ليست بعورة، فالأمر فيهما يكون بيِّنًا، والغزالي حكى الخلاف المذكور في السرة والركبة، كأنه للشافعي. والمعروف للشافعي: أنهما ليستا من العورة، ذكر ذلك ابن المنذر عنه (¬1). وروي عن مالك: أنه قال: لا بأس أن يأتزر الرجل تحت سرته، وييدي سرته، إن كان عظيم البطن (¬2). ¬
وروى عنه ابن وهب: أنه قال: ليست السرة (بعورة) (¬1)، ذكر ذلك في "موطئه"، وقال عطاء: الركبة من العورة (¬2). ولم يصحَّ في هذا: 63 - حديث أبي هريرة: أنه قال للحسن بن علي - رضي الله عنهما -: ارفع قميصك عن بطنك حتى أقبِّل حيث رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّل، فرفع قميصه فقبَّل سرته (¬3). فإنه من رواية ابن عون، عن أبي محمد عمير (¬4) بن إسحاق، عن أبي هريرة .. وأبو محمد هذا مجهول الحال، لم يُعرف أحدٌ روى عنه إلا ابن عون، ولو صح أيضًا لم يكن فيه حجة، لأن الحسن كان - إذْ قبَّل منه ذلك الموضع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صغيرًا. فأما فعل أبي هريرة، برأيه لا بروايته، والحديث المذكور ذكره أبو أحمد الجرجاني (¬5). ¬
(8) - مسألة: روي عن مالك -رَحِمَهُ اللهُ- في الخادم الخَصِيِّ للرجل يَرى فَخذَه مُنكشفة؛ فدلك خفيف. وذكر ذلك ابن المواز (¬1) عنه. وهذا عندي لا معنى له؛ لأن الخصيَّ لا أثر له في باب نظر الرجل إلى الرجل، ولا أيضًا ينبغي أن يخفف النظر إلى الفخذ إن كانتا من العورة، كما لا يخفف النظر إلى السوءتين وإن لم تكن عورة، فيجوز للخصي من النظر إليها (أو يكره) (¬2) ما يجوز من ذلك للفحل، أو يكره. وروي عنه أيضًا في "العتبية" (¬3) برواية ابن القاسم، قال: ولا يرى عبدُ الزوجة فخذَ الزوج منكشفة، كأنها تُفهم هده الرواية تخفيفَ الأمر في ¬
عبد نفسه، وهو لا معنى له إن كانت الفخذ عورة، وإن لم تكن عورة فعبد نفسه وغيره بمثابة واحدة، إلا إن كان يعني أن عبد نفسه لا يُستحيى منه كما يُستحيى من الأجنبي، والعورة ما يُستحيى منه، فالله أعلم إن كان ذلك عُني. (9) - مسألة: روي عن مالك: أنه قال: لا ترى خادم الزوجة فخذ الزوج, ولا تدخل عليه المرحاض خادم زوجته، ولا خادم ابنه، أو أبيه (¬1)؛ لأنه ليس لهن بمالكٍ فلا يجوز له التكشف لهن، هن منه أجنبيات، فلا يجوز لهن أن يرينه، والله الوفق. (10) - مسألة: لا يَحرُم على أحد الزوجين، إبداء شيء لصاحبه من نفسه: لحديث بهز بن حكيم في قوله: "احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك ... " (¬2). ولا خلاف فيه، وإنما الخلاف (¬3) في جواز النظر من الرجل إلى فرج امرأته أو أمته، وسيأتي ذكر ذلك في باب النظر إلى المرأة، ولكن مع ذلك فليس من المروءة، وحفظه أولى .. ولم يصح: 64 - حديث عائشة - رضي الله عنها -: "ما رأيت قط فرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". ¬
فإنه من رواية مولى لعائشة، عنها، ولا يعرف من هو هذا المولى، ذكر الحديث الترمذي (¬1). وروي أيضًا: 65 - عن قتادة، عن أنس: أن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: "ما رأيت عورة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط". ولا يصح أيضًا، فإنه من رواية بركه (¬2) بن محمد الحلبي، وهو ضعيف، ذكره أبو أحمد بن عدي الجرجاني. ولا يصح أيضًا الحديث الذي جاء في النهي عن التجرُّد عند المباضعة، ومع ذلك فليس فيه ذكر للنظر، ولا للإبداء، وهو ما ذكر النسائي (¬3) قال: ¬
66 - أخبرني أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن البرقي، قال: أنا عمرو بن أبي سلمة، عن صدقة بن عبد الله، عن زهير بن محمد، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أتى أحدكم أهله, فلْيُلْقِ على عجُزه وعجزها شيئًا, ولا يتجرَّدان تجرُّد العيْريْن". قال النسائي: هذا حديث منكر، وصدقة بن عبد الله ضعيف. وروي أيضًا: 67 - عن عبد الله بن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أتى أحدكم أهله فليستتر, ولا يتجرَّد تجرُّد العيرين". ولا يصح، فإنه من رواية مندل بن علي، وهو ضعيف، وابن معين يقول: ليس به بأس، يرويه عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله. قال الحسن بن أبي القاسم: ذكرناه لشريك، فقال: كذب، أنا أخبرت الأعمش، عن عاصم، عن أبي قلابة .. ذكره البزار (¬1) وأبو أحمد. ¬
68 - وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى أحدكم [أهله] (¬1) فليستتر، فإنه إذا لم يستتر استحيتِ الملائكة فخرجت، وبقي الشيطان، فإذا كان بينهما ولد كان للشيطان فيه نصيب" (¬2). يرويه عبيد الله بن زحر، عن أبي المنيب، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عنه؛ وهو حديث ضعيف يرويه عبيد الله بن زحر. وروي عن مالك في هذا: أنه قيل له: هل يجامع الرجل امرأته، ليس بينها وبينه ستر؟ قال: نعم، قيل: إنهم يرون كراهيته، قال: ألقِ ما يحدِّثون به، قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وعائشة (يغتسلان) (¬3) عريانين؛ فالجماع أولى بالتجريد. قال: ولا بأس أن ينظر إلى الفرج في الجماع. ¬
وسنذكر مسألة النظر إلى الفرج، وما روي فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله، في باب نظر الرجل إلى المرأة. (11) - مسألة: غير المكلفين من الذكور, لا يكلفون بتحريم انكشاف ولا غيره: ولكن من الصبيان مَن يعقل، أو مَن هو مراهق للبلوغ، فينبغي أن يؤدبوا عن الإنكشاف ويؤمروا بالستر، حتى يتدرَّبوا عليه، ويجدوا أنفسهم آخذة به (أوان) (¬1) التكليف، فقد حُمِلوا على الصلاة لسبع، وضُربوا عليها لعشر، وَفُرّق بينهم في المضاجع (¬2)، وصوّموا في يوم عاشوراء (¬3)، وهم بحيث يلهيهم ¬
اللعب عن الطعام، وسنذكر أيضًا ما يجب من تدريبهم على ترك النظر، ومجانبة المخالطة للنساء. (12) - مسألة: (المكلف) (*): إن كل ما عدا ما مرَّ ذكره (في حق) (**) الرجل المكلف، لا يجب عليه ستره، وإن كان منه ما (سِتره) (¬1) من المروءة، كما تقدم، وقد يعرض شك في المكلف من المُرْدان، الذين لم تخرج لحاهم بعد, أَيؤْمرون بتنقُّب أو بتستر عن الناس، لِمَا قَدْ عُلِم من مَيْل بعض النفوس إليهم, كما تؤمر الشابَّة الحسناء به, من أجل المَيْل إلى نظرِ وجهها؟ .. هذا ما لا سبيل إليه, ولا إلى وجود قائل به, فما أُمر منهم أحد قط بتنقُّب ولا غيره، بل هو في كل ما ذكرنا كالملتحي (¬2) سواء, إلا أن حكم النظر إليه وإلى الرجل مختلِف, ومختلَف فيه, وسيأتي بيان ذلك -إن شاء الله تعالى- في باب نظر الرجال إلى الرجال. وقد ينقدح معنى الفرق بينهما، بأن يقال: إن الشابة إذا أُطلق لها البُدُوّ، وإبداء المحاسن؛ بَادَرَ الإِبصار إلى نفسها وصرفها نحوها، وربما يكون في نظر الناظرين إليها ما يثير شهوتها، وزيادة إلى ما يثيره نظرها، فإن النظر مما يثير هواها، كذلك نظر الناظرين إليها ¬
قد يكون سببًا لثوران هواها، وسَنُبيّن هذا بَعدُ بأَبيَنَ من هذا، فوجب من أجل هذا أن لا يترك [لها] (¬1) البُدُوّ والإِبداء، (وتؤمر) (¬2) بالستر. أما الغلام الشاب الجميل، فليس في تركه إلى (¬3) البدو والإِبداء كلا هذين المعنيين، وإنما يتحقق له أحدهما، وهو استحسان بعض الناظرين له، وقد حكم عليهم بحسب ذلك، مما نبينه إن شاء الله، إذا ذكرنا حكم نظر الرجال إلى المردان .. فأما المعنى الآخر فمفقود في حقهم (وحقه) (¬4)، وهو ثوران الشهوة منه بالنظر إليه؛ فلأجل عدم ذلك منه تُرِك البُدُوُّ والإِبداء، والله أعلم. (13) - مسألة: قال القاضي أبو بكر بن الطيب (¬5): (ويُنهى) (¬6) الغلمان عن الزينة بما يدعو [به] (*) إلى الفساد، من عمل (الأصْدَاغِ والطُّرَرِ) (**)؛ فإنه ¬
فصل الإناث على قسمين: مكلفات، وغير مكلفات
ضرب من التشبُّه بالنساء، وتعمّد الفساد، إلا أن يكون ذلك عادة، (وزِيًّا) (¬1) لأهل البلد، (وعَامًّا فيهم أو في أكثرهم) (¬2) أو عادة لقوم منهم. وقال محمد بن الحسين الآجري (¬3): وعلى الإِمام أن ينهى الغلمان أن يظهروا (زيَّ) (¬4) الفسّاق، ولا يصحبوا أحدًا ممن يُشار إليه بأنه يتعرض للغلمان، وكذلك الآباء: عليهم أن ينهوا أبناءهم عن زي الفسّاق وصحبتهم؛ ذكر ذلك في كتاب: "تحريم الفواحش" له. والقول بمنعهم من التشبُّه بالنساء مطلقًا هو الصواب، كما تُنهى المرأة مطلقًا عن التشبه بالرجال، والله أعلم. * * * فصل الإناث على قسمين: مكلّفات، وغير مكلّفات (14) - مسألة: غير المكلَّفات: الكلام فيهن كالكلام في غير المكلَّفين، كما لا يؤمر منهم أحد، لا تؤمر منهنّ واحدة، ولكن يؤدّبن ويُدَرَّبن وينشَّأن على التَّحفُّظ والإستتار، ويجب على الآباء فيهن مزيد: وهو أن يحفظوا عوراتهن. ¬
وهل للصغير عورات (أم لا) (¬1) يحكم لما ليس في حق الناظرين بحكم العورات؟. هذا موضع نظر؛ أما في حق الرجل فيظهر أن ذلك (منه) (¬2) عورة ليس للرجال النظر إليه، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. (15) - مسألة: أما المكلفات: فمنهن ما لا يجوز لهنَّ إبداؤه قطعًا، وذلك السوءتان ولا خلاف فيه. وكل ما جعلناه أصلًا لذلك في حق الرجل، ما عدا الإجماع، هو خاص بالرجال، لا دلالة له في حق النساء، مثل قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "استتروا"، وقوله: "لا تمشوا عراة" (¬3). كل هذا للرجال، ولا يلزم أن يقحم في خطاب الذكور الإِناث إلا بدليل يعم؛ إذا تقدم ذكر الذكور والإِنات ثم أعيد عليهم ضمير الذكر أو نعت بالذين؛ صلح الإكتفاء به في حق الصنفين وليس ذلك ضربة لازب. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك" (¬4) هو كذلك خطاب المذكر المواجه، وإن لزم تعميمه بقرينة عموم السؤال في حق الرجال، وذلك في قوله: "إلا من زوجتك, أو ما ملكت يمينك"، فهذا لا مدخل فيه للمرأة، ولكن أصل هذا الباب في حق النساء مع الإِجماع (المنعقد) (¬5) قوله تعالى: {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31]. ¬
والقول فيه كالقول في: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]، وقد تقدّم .. ولنكتفِ بهذا القدر في محلٍّ لا نزاع فيه. (16) - مسألة: والذي قررناه في حق الرجل في حال الخلوة؛ من منع كشف ذلك منه, يتأكد في حق المرأة، فإنها في باب (التستر) (¬1) أحرى وأولى من الرجل. ولا يعترض على هذا مرسل مالك: 69 - عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأله رجل: يا رسول الله! أستأذن على أمي؟ قال: "نعم" قال الرجل: إني معها في البيت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتأْذِن عليها، أتحب أن تراها عُريانَة؟ " قال: لا، قال: "فاسْتأْذِن عليها" (¬2). لأنه لا خلاف في جواز تجرُّدها للاغتسال ونحوه، فوضع ذلك علة لوجوب الإستئذان، ولم يخرج منه ما نحن فيه من كشف المرأة نفسها في الخلوة من غير ضرورة. (17) - مسألة: ما فوق الركبة ودون السرة منهن، إن كان فيه تردد إذا فرض الكلام فيه من الرجال، فإنه لا ينبغي أق يكوق فيه تردد في حق النساء؛ فإنهن بوجوب (الستر) (¬3) أحرى وأولى. ¬
وقد يدلُّ على ذلك: 70 - حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا زوج أحدكم عبدَه: أَمَتَه، أو أجيره, فلا ينظر إلى عورتها" (¬1). هذه رواية الأوزاعي، عن عمرو. 71 - ورواه وكيع، عن داود بن سوار - قُلب اسمه، وإنما هو: سوار بن داود (¬2) , عن عمرو، وقال فيه: "فلا ينظر إلى ما فوق الركبة ودون السرة" ذكره أبو داود (¬3). 72 - ورواه الخليل بن مرة (¬4)، عن ليث (¬5) بن أبي سليم، عن عمرو بن ¬
شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "علّموا صبيانكم الصلاة في سبع سنين، وأدّبوهم عليها في عشر، وفَرّقوا بينهم في المضاجع، واذا زوج أحدكم أمته: عبده، أو أجيره، فلا ينظر إلى عورتها، والعورة ما بين السرة والركبة". والخليل وليث ضعيفان. ذكره أبو أحمد (¬1). 73 - ورواه النضر (¬2) بن شميل، قال: أنا أبو حمزة سوار بن داود الصيرفي، عن عمرو بن شُعيب، فقال فيه: "واذا زوَّج أحدُكم عبدَه، أو أمته، أو أجيره، فلد تنطر الأمةُ إلى شيء من عورته، فإن ما تحت سرته إلى ركبته من العورة". وهذا ليس بمناقض لرواية ليث، فإنه إذا منع التزوُّج من نظرها إلى ما كان مباحًا لها من سيدها، فإن النظر إلى ما كان له أن ينظر إليه منها يكون أحرى وأولى. ¬
وهذا الجمع بين الروايتين -لو صحتا- أصحُّ مِن قَدح مَن قَدَحَ فيه بذلك، ورآه اختلافًا فيه موهنًا له. وقد ذكره البيهقي (¬1) فقال فيه: أصحابنا يحملونه على عورة الأمة، وقد روي فيه: 74 - "إذا زوّج أحدكم أمته، فلا تنطر الأمة إلى شيء من ركبته (فإن ما) (*) بين السرة إلى الركبة عورة". قال: فالخبر في تحريم نظر المرأة الأمة إلى عورة سيدها بعدما زوَّجها. انتهى كلامه. وهو به قادح في الرواية الأولى بالثانية، وجمعهما كما ذكرنا -لو صحتا- أصحُّ، وقد يدلّ على ذلك أيضًا حديث أبي سعيد: "لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة" (¬2). ولكن بتنزيل العورة على ما يُستحيى منه، كما قلناه قبل هذا. ولو صحَّ حديث عمر في هذا، ثبت منه أن جميع بدنها عورة، وهو حديث يرويه: ¬
75 - زيد العمِّي، عن أبي الصديق الناجي، عن ابن عمر، عن عمر، قال: ذكر نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدلين من الثياب، قال: "شبرًا"، قلن: فإن شبرًا قليل، تخرج منه العورة، قال: "فذراع" قُلْنَ: تبدو أقدامهن، قال:، ذراعًا لا يزدن على ذلك". زيد العمي ضعيف. ذكر الحديث أبو بكر البزار (¬1). والله أعلم. (18) - مسألة: أما [ما] (¬2) عدا السوءتين، وما فوق الركبة إلنى السرة، أو دونه، من بطن، وظهر، وصدر، وعُنُق، وشَعَر، وكتف، وعَضُدٍ، ومِعصَم، وساق، ووجه، وكفين، وقدمين، فإنّه على قسمين: قسم منه استقرت فيه العادة بأن يستر, إلا أن يُظهر بقصد، وقسم يظهر إلا أن يُستر بقصد. وإنما نَعني بالعادة ههنا، عادة مَن نزل عليهم (القرآن) (¬3) وبلِّغوا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الشرع، (وخوطبوا) (¬4) به خطاب المواجهة, ومن لزم تلك العادة بعدهم إلى هلمَّ جرَّا, لا كعادة (السودان) (¬5) وغيرهم المبدين أجسادهم وعوراتهم، أو أجسامهم دون عوراتهم. ¬
فممَّا كان في هذه العادة المعتبرة مُظْهَرًا لا يستر إلا بقصد -أعني من النساء- الوجه والكفين والقدمين, وممّا كان فيها مستورًا لا يكشف إلا بقصد (كالبطن) (¬1) والصدر ونحوهما. (فلنبدأ) (¬2) بنظر القسم الواحد من القسمين؛ وهو ما كان مظهرًا في العادة المعتبرة، إلا أن يستر بقصد، فنقول: إنَّ الوجه والكفين والقدمين، هل يجوز للمرأة إبداؤها أو لا يجوز؟ أعني للأجانب؛ وهو موضع خلاف, ولن نبلغ إلى الكلام في تعيين الصحيح من ذلك، إلا بعد الكلام في الآية التي هي مستند الباب, وبعد الفراغ منها نعرض لثلاث مسائل: مسألة في الوجه، ومسألة في الكفين، ومسألة في القدمين. * أما الكلام في الآية، فهو أن نقول: قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] نهي مطلق للنساء كلِّهن، حرةً كانت أو أمة، عن إبداء كل زينة لكلِّ أحد، رجل أو امرأة، أجنبي أو قريب أو صهر، هي مطلقة بالنسبة إلى كلِّ زينة، ومطلقة بالنسبة إلى كل مبدية، ومطلقة بالنسبة إلى كل ناظر، ورد على إطلاقين، منها استثناءان: أحدهما: على مطلق الزينة، ومخصص به منها ما ظهر منها فيجوز إبداؤه لكل واحد. والآخر: على مطلق الناظرين الذين يُبدى لهم شيء من ذلك، فخصص منهم: البعولة ومَن بعدهم, جوّز لها إبداء ما كان زينة لهم على وجه يتفسَّر بعدُ إن شاء الله من أنه مشترك بين أقربهم وأبعدهم. ¬
وباطل أن يكون الذي أبيح إبداؤه لهؤلاء، هو ما أبيح إبداؤه للأجانب، أعني الظاهرة فقط، بل الظاهرة وبعض الباطنة. وباطل أن يقال: أبيح لها إبداءُ الظاهرة وكل الباطنة، فإن منها ما يجوز للبعل ولا يجوز للأب، ولا يجوز لأبي البعل، وهذا موضع سنفسره بعدُ إن شاء الله تعالى. والإِجماع منعقد على أن ما تبديه للمذكورين، أكثر مما تبديه للأجانب، وعلى أن المذكورين متفاوتون فيما تبديه لهم، فإذا قد انقسمت الزينة إلى ظاهرة تُبدى لكل أحد: أجنبي أو قريب أو صهر؛ وإلى باطنة، منها ما يُبدى لجميع المذكورين، ومنها ما يُبدى لبعضهم، فلا بد أن ينظر: ما الزينة الظاهرة؟ وما الزينة الباطنة؟ (ومَن) (¬1) الذي تبدي لهم من الزينتين؟. أما الزينة الباطنة؛ ما تبدي منها؟ ولمن تبديه؟ فسيأتي القول فيه إن شاء الله مستوفًى، وأما الزينة الظاهرة، فهذا مكان القول فيه، فنقول: نُقل عن عبد الله بن مسعود: أنها الثياب (¬2)، فعلى هذا يلزم المرأة ستر جميع جسدها، ولا تُبدي شيئًا منه. وجهًا ولا غيره. وروي عنه مفسرًا أنه قال: الزينة زينتان: ظاهرة، وباطنة، فالظاهرة: الثياب، والباطنة: الكحل والسِّوار والخواتِم؛ ففي هذا أن الوجه الذي فيه الكحل لا تبديه إلا لمن أُجيز لها إبداء الزينة الباطنة له: البعل ومَن بعده .. وروى في ذلك هو بنفسه حديثًا، أراه هو بظاهره. ¬
76 - قال الترمذي: نا [محمد (¬1) بن] بشار، نا عمرو بن عاصم، نا (همام) (¬2)، عن قتادة، عن مورق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان" (¬3). قال فيه: حسن غريب. 77 - ورواه محمد بن (بشار) (*)، عن [ابن] (¬4) عاصم المذكور بإسناده، وزاد فيه: "وأقرب ما تكون من وجه ربها وهي في قعر بيتها". ¬
ورواه سليمان التيمي، عن قتادة، كما رواه عنه همام. ذكر ذلك كله البزار وهو صحيح. ولم يصح: 78 - حديث علي - رضي الله عنه -: أنه كان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أيُّ شيء خير للمرأة؟ " فسكتوا، فلما رجعتُ قلتُ لفاطمة: أيُّ شيء خير للنساء؟ قالت: "أن لا يراهنّ الرجالَ" فذكرت ذلك للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إنما فاطمة بضْعةٌ منّي". لأنَّه مِن رواية قيس بن الربيع، عن عبد الله بن عمر، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن علي - رضي الله عنه - .. وعلي بن زيد هو: ابن جدعان، صدوق ولكن ضعيف، وقيس بن الربيع، وقد تقدم التنبيه على ما اعتراه من سوء الحفظ، كشريك، وابن أبي ليلى. والحديث المذكور ذكره البزار (¬1). ¬
• فهذا قول واحد في الزينة الظاهرة، ويشبه أن يكون مقولًا به لبعض الشافعية، وذلك (أن لهم قولين) (*) في جواز النظر إلى الأجنبية: أحدهما: المنع: وهو المشهور. والآخر: الإِجازة، ما لم يخف الفتنة. فإذا قلنا: إن كلَّ ما يحرم النظر إليه لا يجوز إبداؤه؛ فقد يخرج لهم من هاهنا مثل قول عبد الله بن مسعود في أن المرأة لا يجوز لها إبداء وجهها. وروي عن أبي بكر (¬1) بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: أنه قال: "كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها". ¬
وقال أحمد بن حنبل: إذا صلَّت المرأة تغطي كلَّ شيء منها، ولا ظفرها (¬1). • وقول ثانٍ في الزينة الظاهرة, وهو: أنها الثياب والوجه (¬2)، هذا قول يروى عن سعيد بن جبير. والحسن البصري روي عنه: أنه قال: إلا ما ظهر منها: وجهها وما ظهر من ثيابها؛ فعلى هذا يجوز لها إبداء وجهها فقط. • وقول ثالث (¬3) فيها، وهو: أنها الوجه والكفّان, هذا قول يروى عن ابن عباس، وابن عمر، وأنس، وعائشة، وأبي هريرة. روي عن عبد الله بن عمر: أنه قال: الزينة الظاهرة: الوجه والكفّان. ¬
. . . . . . . . ¬
وعن أنس: أنه قال: الكف والخاتم .. وبلا شك أنه يعني بذلك مع الوجه، إذ لا قائل يقول: يجوز لها أن تبدي كفيها، دون وجهها. وعن عائشة: أنها سُئلت عن الزينة الظاهرة، فقالت: إنها القُلب والفَتَخَة، وعن أبي هريرة مثله. والقُلب: السوار، والفتخة؟ الخاتم. (قال) (*): (تجول) خلاخيلُ النساءِ ولا أرى ... لرملةَ خلخالًا (يجول) ولا قُلْبا وهذا القول، هو قول الأوزاعي, والشافعي, وأبي ثور، كلهم يقول: تغطي في الصلاة كل جسدها, إلا الوجه والكفين، وهو الذي يخرج الشافعية مما قلناه عنهم في النظر إلى وجه الأجنبية، أن لهم قولين: أحدهما: الإجازة بشرط الأمن، فإنهم إذا قالوا ذلك في الوجه، كان في الكفين أحرى .. وإن كان هذا القول قد استضعفه الغزالي (¬1)، لأنه يؤدي عنده إلى أن تكون المرأة في حق الرجل كالأمرد في جواز النظر ما لم يخف. ¬
وأما مذهب مالك -رَحِمَهُ اللهُ-، فيشبه أن يقال: إنه هو هذا، وذلك أنه روي عن أبي القاسم: أن المظاهر لا بأس أن ينظر إلى وجه امرأته قبل أن يُكفّر، قال: وقد يراه غيره (¬1). وهذا قد كان يمكن تأويله على أنه قد يراه غيره للضرورة من شهادة أو خطبة أو غير ذلك .. ولكن يأبى ذلك ما نصَّ عليه في "موطئه" من قبله: سئل مالك على: [هل] (¬2) تأكل المرأة مع غير [ذي] (¬3) محرم أو مع غلامها؟ فقال: "ليس [في] (¬4) ذلك بأس، إذا كان ذلك على وجه [ما] (¬5) يُعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال، وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يؤاكله (¬6) , ومع أخيها على مثل ذلك، ويكره للمرأة أن تخلو مع رجل ليس بينه وبينها حرمة. هذا نص قوله وفيه إباحة إبدائها وجهها وكفيها ويديها للأجنبي، إذ لا يتصور الأكل إلا هكذا، وقد أبقاه الباجي (¬7) على ظاهره، وقال: إنه يقتضي أن ¬
نظر الرجال إلى وجه المرأة وكفيها مباح، لأن ذلك يبدو منها عند مؤاكلتها، وكذلك فهمه ابن عبد البر (¬1)، إلا أنه خالف مالكًا فيه، فلم يرَ ذلك جائزًا للمرأة، أعني البدوّ والمُؤاكلة. وممن منع من ذلك، وتأول قول مالك هذا في أنه في العجوز المتجالّة: ابن الجهم (*)، وقد أبعد في ذلك، ويحتمل عندي أن يقال: إن مذهب مالك هو أن نظر الرجل إلى وجه المرأة الأجنبية لا يجوز إلا من ضرورة (¬2)، وعلى هذا ¬
شرح ابن رشد (¬1) مسألة المرأة الكبيرة يقوم بحوائجها الأجنبي. وسنذكرها في باب الضرورات. ونص في كتاب "المقدمات" على أنه لا يجوز للرجل أن ينظر إلى الشابة إلا لعذر من شهادة [أو علاج] (¬2) أو (إرادة) (¬3) نكاح. ويوجد لبعض أشياخ المالكية غيره ة (مما) (¬4) يدل على أنهم اعتقدوا في مذهب مالك أنه كمذهب ابن مسعود، في أنه لا يجوز النظر إلى وجهها وإن كان ليس بعورة منها، بدليل جواز بدوِّه عند الحاجة إلى الشهادة أو الخطبة، فإن الشهادة لا تبيح النظر إلى السوءة، والخاطب لا ينظر منها إلى عورة. وهذا الإستقراء في أنه ليس بعورة صحيح، ولكن قد يمكن أن يقال: إنه ليس بعورة فيجوز النظر إليه، وأن يقال: [إنه] (¬5) ليس بعورة ولكن لا يجوز النظر إليه. ¬
وكذلك أيضًا استدل [به] (*) إسماعيل القاضي (¬1) لمذهبه، وهو جواز بُدُوِّ الوجه والكفين, بما أُجمع عليه من جواز بدوّ وجهها في الصلاة، بل وجوبه. وما ذكره من الإِجماع على ذلك، حكاه أيضًا غيره. قال ابن المنذر (¬2): أجمعوا أن لها [أن] (**) تصلي مكشوفة الوجه, وعليها عند جميعهم أن يكون كذلك في حال الإِحرام (¬3). ¬
وبيان مراده، وهو (أنه) (¬1) يقول: يرى كلَّ ما هو منها لا يجوز لها إبداؤه في غيو الصلاة، ويتأكَّد ذلك فيه إذا كانت في الصلاة، فإذا ما جاز لها إبداؤه في الصلاة يجوز لها إبداؤه في غير الصلاة. وهذا الذي استدلَّ به ليس بدليل على جواز إبدائه للأجانب ينظرون إليه. وكذلك أيضًا: ما تقرَّر من أمر الإِحرام في الحجِّ، أنه في وجهها وكفيها، و (أنه) (¬2) لايجوز لها سترهما .. كما جاء حديث عبد الله بن عمر في (نهيها) (¬3) عن التنقُّب ولبس القفازين (¬4)، فإنه لا (يبعد) (*) في أن يقال مع ذلك: إبداؤه في غير الإِحرام والصلاة حرام. ولم ننظر بعد: هل يجوز لها إبداؤه، أم لا يجوز؟ .. وإنما أوردت هذا كله الآن تخليصًا لمذهب مالك فيه. وجواز "البُدوِّ" وتحريمه مرتَّب عنده على جواز النظر، أو تحريمه، فكل ¬
موضع له فيه جواز النظر، فيه إجازة البدو، (وسنتعرض) (¬1) بعدُ لبيان هذا، إن شاء الله تعالى. • وقول رابع (¬2) في الزينة الظاهرة: روي عن ابن عباس: أنه قال: الكحل، والسواك، والخضاب إلى نصف الذراع، جعل نصف المعصم، مما يجوز لها إبداؤه والخضاب عند مالك من الزينة [الباطنة] (¬3)، وقد نبه على ذلك أبو بكر بن العربي (¬4). وهو عندي كما ذكر. وإذ قد فرغنا (¬5) من حكاية أقوالهم في الزينة الظاهرة، فلنذكر ما يخصُّ الوجهَ أولًا، مما يمكن التعلُّق به لإجازة النظر، أو منعه، ثم بعده ما يخص الكفين، ثم ما يجمعهما، ثم نذكر القدمين، حتى يتخلص الصواب إن شاء الله تعالى، وبعد الفراغ من ذلك نذكر الزينة الخفية، ومن يجوز لها أن تبديها له، بحول الله -عَزَّ وَجَلَّ-. (19) - مسألة: الوجه: مما يمكن أن يَستدِلَّ به مَن أجاز لها إبداؤه: 79 - حديث جابر بن عبد الله، في حجة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال فيه: "مرت به (¬6) ظُعُن يَجرين، فجعل الفضل- وكان رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليهن، وكان رجلًا حسن الشعر، أبيض وسيمًا (¬7) .. فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على وجهه، ¬
فَحَوَّلَ الفضل وجهه إلى الشق الآخر فنظر، فحوّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده من الشق الآخر على وجه الفضل" ذكره مسلم (¬1). وفي حديث علي - رضي الله عنه -، لما قال له العباس في هذا الموطن: لويت (عنق) (¬2) ابن عمك، يا رسول الله! قال: "رأيت شابًّا وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما" (¬3). (وسنذكره) (¬4) إن شاء الله في باب نظر الرجل إلى المرأة. ووجه دلالته لمن يتمسك به أن يقول: لم (يأمرهن) (¬5) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، أو لم يأمرها بالتنقُّب، بل أقرَّها على ما كانت عليه، وهي بحيث يمكن افتتان الناظر إليها بها، فلم يعرض لها، ولكنه عرض للناظر، (المتمتع) (¬6) بمحاسن وجهها. ويمكن أن يَدفع دلالته هذه مَن يذهب مذهب ابن مسعود في منعها من إبداء وجهها، بأن يقول: لعلهن أو لعلها، كن أو كانت، محرمات أو محرمة، فللإحرام حكم آخر في جواز إبداء الوجه ووجوبه، وبعيد أن [يَكُنَّ] (¬7) أو تكون منتقبات، فلا يعترض له هاهنا. ¬
وقد روى: 80 - ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: نهي المحرمة أن تنتقب، أو تلبس القفازين. ذكره أبو داود (¬1)، وموضع ذكره كتاب الحج. فإن قيل: وقد روى: 81 - يزيد بن زياد، عن مجاهد، عن عائشة، قالت: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن محرمات وكان تمرُّ بنا الرفقة، فإذا أدنت منا أَسْبَلْنا على وجوهنا طائفةً من خُمُرنا (¬2). قلنا: هذا ضعيف، لضعف: يزيد بن أبي زياد. ذكر: حديثه هذا البزار (¬3). ¬
ونقول أيضًا: لو صحَّ لم يكن فيه: ما يحرم (¬1) على المحرمة إبداء وجهها، ولا ما يوجب عليها ستره، فإنه ليس فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء. ومما يمكن أن يُستدل به أيضًا عليه: 82 - حديث (سهل بن سعد) (¬2) في الواهبة، ولفظه: فصعَّد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النظر، وصوَّبه، ثم طأطأ [رأسه] (¬3)، فقام رجل، فقال: زوجنيها، إن لم تكن لك بها حاجة" (¬4). ويمكن للمانعين (¬5) الجواب عنه، ودفع دلالته، بأن يقولوا: إذا كان استدلالكم ¬
بنظر النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فليس فيه إلى النظر إلى الوجه ذكر، ولو كان حملناه على أنه لما عرضت نفسها (وظهر) (¬1) مَن يريد النكاح (جاز) (¬2)، وسيأتي بيانه في باب الضرورات، وإن كان من حيث بدت للرجل الذي أراد زواجها، فالجواب عنه: إنَّ إبداء وجهها غير مذكور في الحديث، ولعلها مستترة .. وأيضًا [] (¬3) إن وجهها بَادٍ لعل (لمن) (¬4) يريد النكاح جائز لها إبداء وجهها (له) (¬5)، ويجوز (¬6) للمريدين النكاح النظر إليه .. وسنرسها في تشوف المرأة للخطاب مسألة. في باب الضرورات إن شاء الله تعالى، فانظرها هناك يتحقق لك إمكان الجواب به هاهنا عن الإستدلال بهذا الخبر. ومما يمكن أن يستدل به أيضًا: 83 - حديث عائشة، قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي حجرتي جارية، فألقى لي حِقوه، فقال: "شُقِّيه شِقَّتين؛ فأعطي هذه نصفًا، والفتاة التي عند أم سلمة نصفًا, فإني لا أراها إلا قد حاضت، أو لا (أراهما) (¬7) إلا حاضتا" (¬8). ¬
ووجه الدليل فيه: (أن ما) يعرف به أو يظن أن الفتاة قد حاضت، أغلب ما يكون أمارات في الوجه، أو في الصدر؛ والصدر لا يحل نظر الأجنبي إليه إجماعًا؛ فلم يبقَ إلا أنه رأى وجهها, أو وجوههما، وتندفع دلالته هذه اندفاعًا بيِّنًا، بأنه ليس للوجه فيه ذكر، ولعل إدراكه ذلك برؤية القرء أو الضرب، أو ما سمع من أزواجه عنهما، مما يعرف به أنهما قد حاضتا، أو غير ذلك، فلا حجة فيه. وهو مع ذلك حديث (منقطع) (¬1) الإِسناد، فيما بين محمد بن سيرين، وعائشة؛ لم يسمعه منها. وممَّا يمكن أن يستدل به أيضًا: 84 - حديث أم سلمة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لجارية في بيتها رأى في وجهها سَفعَة (¬2)، [فقال] (¬3): "بها نَظْرة, فاسْتَرْقُوا لها" (¬4). وهذا فيه النظر إلى الوجه نصًّا، ولكنه تندفع دلالته باحتمال ألا يكون مدركه، فلذلك لم يأمرها .. وإذا استدل [به] (¬5) في باب النظر على جواز النظر مطلقًا، يقول: لعلها نظرة فجأة، أو ممن لا يخاف الفتنة، ولا قائل بجواز النظر مطلقًا. ومما يمكن أن يستدل به أيضًا: ¬
85 - حديث جويرية: قال أبو داود: نا عبد العزيز بن يحيى الحراني أبو الأصبغ، قال: نا محمد يعني: ابن مسلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: وقعت جويرية بنت الحارث بن (المصطلق) (¬1)، في سهم ثابت بن قيس بن الشماس (¬2) أو ابن عمٍّ له، فكاتبت على نفسها، وكانت امرأة صالحة (¬3)، تأخذها العين، فجاءت تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتابتها، فلمَّا قامت على الباب فرأيتُها فكرهتُ (¬4) مكانها، وعرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيرى منها مثل الذي رأيت، فقالت: يا رسول الله! أنا جويرية بنت الحارث، وأنا كان من أموي ما لا يخفى عليك، وإني قد وقعتُ في سهم ثابت بن قيس بن الشماس، وإني كاتبت على نفسي، فجئتك (¬5) أسألك في كتابتي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فهل لك إلى ما هو خير منه؟ " قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: "أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك" قالت: قد فعلت، قالت: فتسامع -يعني الناس- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تزوَّجها، فأرسلوا ما في أيديهم من السبي (¬6) فأعتقوهم، وقالوا: أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما رأينا امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها، أعتق في سببها مئة أهل بيت من بني المصطلق (¬7). ¬
وهو حديث حسن، وابن إسحاق لم يُصَرّح بما قيل فيه، والخوض فيه طويل عريض .. وظاهر هذا الحديث: أنها كانت قد أسلمت من قولها في محاورتها: يا رسول الله!. ولكن تندفع دلالته باحتمال ألا تكون أبدت وجهها بحضرته، كما أبدته حين رأتها عائشة، وليس في الخبر دليل على أنه رآها بادية الوجه فأقرَّها، وفيه دليل على أن زمان رؤية عائشة لوجهها غير زمان تكلُّمها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنها قالت: فلما قامت على الباب فكرهت مكانها، وعرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيرى مثل الذي رأيت؛ دلَّ على أنه لم يرها بعد، ولعله كان في صلاة أو غيرها، فإن ذلك كان والله أعلم في موضع استقرار. وممَّا يمكن أن يستدلَّ به أيضًا: 86 - حديث جابر في العيدين، فيه: فقامت امرأة من سِطة (¬1) النساء، سفعَاء (¬2) الخَدَّين، فقالت: لمَ يا رسول الله؟ ... الحديث؛ ففيه أنَّ جابرًا أدرك من حديثها ما وصفها به، دل على بُدُوِّ وجهها بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تخاطبه، وهو يخاطبها. ذكره مسلم (¬3) -رَحِمَهُ اللهُ-. ¬
وتندفع دلالته بأن يقال: لا يمتنع أن يقع في الوجود إبداء امرأة وجهها: إما بسقوط ساترها، وإما عاصية بذلك، فيفاجئها جابر (¬1) أو غيره بنظرة يدرك بها منها (ما عرفنا وصفها به) (*)، وتسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتخاطبه، ويخاطبها. ولكن من أين أنه نظر إليها حتى عرف منها أنها بادية الوجه باقية على ما كانت عليه؟ إذ لَمحُها جائز (¬2) حتى لو قدرنا ذلك؛ فلقد كان من صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نظره إلى الأرض، وأنه أشد حياء من العذراء في خدرها (¬3). ¬
ومما يمكن أن يستدل به أيضًا: 87 - حديث جرير المتقدم الذكر، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظرة الفجأة، فأمرني أن أصرفَ بصري (¬1). يدلُّ ظاهره على أنَّ النساء وجوههن بادية، بحيث يقع عليها الإبصار مفاجأة وبالقصد. وتندفع دلالته بأن يقال: ليس فيه إقرار النساء على إبداء وجوههن، وإنما سأل جرير عمَّا يقع من النظر إلى مَن أبدت وجهها غافلة، أو حيث لم يكن لوجود مطلع عليها، كما صنعت عائشة حين مرَّت مع أخيها إلى التنعيم لتعتمر، فإنها كانت تكشف عن وجهها، فيضربها أخوها فتقول: وهل ترى من أحد؟ (¬2). أَو لضرورة، أو عاصية بذلك. ومما يمكن أت يستدل به أيضًا: 88 - حديث جابر: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى امرأة، فدخل على زينب بنت جحش فقضى حاجته منها، ثم خرج إلى أصحابه فقال: "إنَّ المرأة تقبل في صورهّ شيطان، فمَن وجد من ذلك شيئًا فليأتِ أهله، فإنه يردُّ ما في نفسه" (¬3)، وفي رواية: "يضمر ما في نفسه" (¬4). ¬
وهذا صحيح، [إلا أنه مندفع الدلالة] (¬1) من حيث [إنه] (¬2) ليس فيه ذكر للإِبداء، وَلَعَل حركة النفس من رؤية الشخص مستترًا. وما ذكره البزار: 89 - عن جابر في هذا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أعجبتكم المرأة فليلم بأهله، فإن ذلك يرد نفسه". هو أيضًا كذلك يحتمل، [إلا] (¬3) أنه من رواية (ابن أبي الزناد) (¬4)، وهو ضعيف. ¬
وكذلك أيضًا إن احتج (محتج) (¬1) به في باب النظر، اندفعت دلالته باحتمال أن يكون ذلك عن نظرة الفجأة، فاعلمه. وبعد الفراغ من مسألتي الكفين والقدمين، نذكر ما نراه في الوجه والكفين والقدمين من جواز إبدائها جميعًا، أو منعه، أو إجازة بعض (¬2) ذلك ومنع بعض إن شاء الله. (20) - مسألة الكفين: مما يمكن أن يستدلَّ به مَن أجاز لها إبداء كفيها: 90 - حديث بريدة، قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه، فلمَّا انصرف جاءت جارية سوداء، فقالت: يا رسول الله! إني كنتُ نذرتُ إن رَدَّك الله صالحًا، أن أضرب بين يديك بالدفِّ، وأتغنَّى. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن كنت نذرت، فاضربي، وإلا فلا". فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليٌّ وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقتِ الدفَّ تحت استها، ثم قعدت عليه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسًا وهي تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليٌّ وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلتَ أنْتَ يَا عُمَرُ ألقتِ الدفَّ". ¬
برواية الترمذي (¬1) عن الحسين (¬2) بن حُرَيث، قال: نا علي بن الحسين بن واقد، قال: نا أبي، نا عبد الله، فذكره، قال فيه: حديث حسن صحيح. وقوله هذا عندي صواب، فإنَّ علي بن الحسين بن واقد (¬3) المذكور لم ¬
يصحَّ عنه الإِرجاء، ولا أيضًا الدعاء إليه، فهو كسائر مَن ينسب إليه رأي من هذه الآراء من المحدثين، الذين لم يجتنب شيء من حديثهم، والعقيلي [هو] (¬1) الذي زعم أنه كان مرجئًا. ووجه الإستدلال من هذا الحديث: هو ما علم بالعادة من بُدُوّ [يدي] مَن يضرب الدفَّ، وما أشد تعسُّف مَن يدفع هذا بأن يقول: لعلها بقفازين ومتنقبة، ولكن مع هذا يمكن الجواب عنه، ممَّن يمنع إبداء المرأة يديها. ودفع دلالته بأن يقال: ولعلها لمَّا أمرها أن تضرب رجعت إلى جهة، أو رجعت وجهها إلى جهة، بحيث يغيب عنهم! وهذا بعيد جدًّا، ولكنه يحتمله. ويقال أيضًا: لعلها كانت أمة، وهذا ظاهر قوله: جارية سوداء؛ وللأمة عند طائفة من العلماء أو عند جميعهم حكم آخر، سنذكره بعدُ في موضعه إن شاء الله تعالى .. وبالجملة إن لم يكن إلا هذا، فالمسألة ضعيفة. فأما: 91 - حديث أنس، قال: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جوارٍ من بني النجار، وهن يضربن بالدف ويقلن: نحنُ جَوَارٍ من بني النَّجَّارِ ... يا حبَّذَا محمَّدٌ من جارِ فضعيف؛ لأنه من رواية: رُشَيْد أبي عبد الله الذريري (¬2)، وهو (مصري) (¬3) يحدث عن ثابت بأحاديث لا يتابع عليها. ¬
قال ابن عدي (¬1): 92 - وُيروى هذا عن عوف، عن ثمامة، عن أنس, رواه عن عوف: عيسى بن يونس (وابن أبي عدي) (¬2) وعمرو بن النعمان (¬3)، ومحمد بن إسحاق، صاحب المغازي. وذكره البزار قال: 93 - نا محمد بن مرداس، نا محمد بن أبي عدي، عن عوف، عن ثُمامة، عن أنس، قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة: تلقَّاه جواري الأنصار، فجعلن يقلن: نحنُ جَوَارٍ من بني النجَّارِ ... يا حبَّذَا محمَّدٌ من جارِ قال البزار: ولا نعلم أحدًا قال: عن ابن أبي عدي، عن عوف، عن ثمامة، عن أنس؛ إلّا رجل يقال له: موسى بن حيان (¬4)، لا يحتج بقوله، ومحمد بن مرداس (¬5): ليس به بأس، صدوق. انتهى قوله. فإن صحَّ هذا الخبر بزيادة ضرب الدف، لم يكن فيه حجة، لاحتمال أن يكنَّ غير مدركات، فلذلك لم يلمن على البُدُوِّ، أو مملوكات، فلا يلزمهن ستر ما يبديه منهن ضرب الدف. ¬
ومما يمكن أن يستدل به أيضًا: 94 - حديث حذيفة، قال: كنَّا إذا حضرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعامًا، لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيضع يده، وإنّا حضرنا معه مرة، فجاءت جارية كأنها تدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدها، ثم جاء أعرابي: كأنما يدفع، فأخذ بيده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشيطان ليستحلُّ الطعام, أن لا يذكر عليه اسم الله (¬1) .. وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها، فجاء (بهذا) (¬2) الأعرابي ليستحل (به) (¬3) فأخذت بيده؛ والذي نفسي بيده, إن يده في يدي مع يديهما". ذكره مسلم (¬4) -رَحِمَهُ اللهُ-. وفيه بحكم الظاهر: أنه (رأى يدها) (¬5)، ولكن يرد عليه سؤالان: أحدهما: يمكن الجواب عنه، وهو أن يقال: لعلها جارية لم تدرك، وهو أظهرها في جارية (كغلام) (¬6). ويندفع هذا بأن يقال: لو كانت غير مكلَّفة ما صحَّ للشيطان الاستحلال بها، كما لا يصحُّ له ذلك بأن تأكل منه بهيمة، وإنما يستحل بأكل مكلَّف مخاطب بالتسمية على وجه الوجوب أو الندب، (فيتركها) (¬7) عاصيًا كالأعرابي الذي في نفس الحديث. والسؤال الثاني: أن يقال: لعلها كانت كافرةً، فلا يلزم حينئذ من الإنكار ¬
عليها في إبدائها يدها إلا ما يلزم من الإِنكار عليها في ترك الصلاة والصيام والتطهر وسائر فروع الشرع. وسواء قلنا: الكفار (مخاطبون) (¬1) بفروع الشريعة، أو لم نقل، الإِنكار عليها في تركها شيئًا من ذلك لا يتَّجه، إنما يؤمر بالإِسلام فقط على المذهب الواحد، أو بتقديمه على فعل الفروع على المذهب الآخر، فاندفعت دلالة الخبر لمذهب المبيحين. وفي الباب (حديثان) (¬2) لعائشة، وهما في غاية الضعف. أحدهما: 95 - إن هند بنت عتبة قالت: يا نبيَّ الله! بايعني، قال: "لا أبايعك حتى (تغيري) (¬3) كفيك، فكأنهما كفا سبع". والآخر: 96 - إنَّ امرأة ناولته كتابًا من وراء ستر، فقبض يده وقال: "ما أدري أيد وجل أو امرأة؟ " قالت: بل يد امرأة، قال: "لو (كنت) (¬4) امرأة (لغيرت) (¬5) أظفارك بالحنا". أما الأول: فيه ثلاث نسوة لا يعرفن: غبطة (¬6) بنت عمرو، عن عمتها أم الحسن (¬7)، عن جدتها. ¬
والثاني: فيه صفية بنت عصمة (¬1)؛ وكل هؤلاء عدم. ذكر الحديثين أبو داود (¬2). وروي في هذا المعنى من حديث عبد الله بن عباس، ولا يصحُّ: 97 - قال البزار: نا إبراهيم، نا الحسين بن محمد، عن عبد الله بن عبد الملك الفهري، عن ليث، عن (مجاهد) (*)، عن ابن عباس: أنَّ امرأةً أتتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تبايعه، ولم تكن مختضبة، فلم يبايعها حتى اختضبت (¬3). قال البزار: لا نعلمه عن ابن عباس إلا من هذا الوجه، وعبد الله بن عبد الملك الفهري (¬4) ليس به بأس، وليس بالحافظ. انتهى قوله. وليث: هو ابن أبي سليم (¬5)، ضعيف، وفيه نكارة، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ¬
تصافحه المبايعات، إلا أن يكون معناه أنه أنكر عليها أن لا تكون مختضبة، فأمسك عن إجابتها. وذكر البزار أيضًا: 98 - حديث مسلم بن عبد الرحمن، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبايع النساء على الصفا، فجاءته امرأة يدها كيد الرجل، فلم يبايعها، حتى ذهبت فغيرت يدها بصفرة أو حمرة، وجاءه رجل عليه خاتم حديد، فقال: "ما طهر الله يدًا فيها خاتم حديد". هذا يرويه: عباد بن كثير (¬1)، وهو ضعيف، عن شميسة (¬2) بنت نبهان، عن مولاها مسلم بن عبد الرحمن، ولا يعرف مَنْ هذه شميسة أصلًا. والحديث في غاية الضعف. ¬
ومما يمكن أن يستدل به أيضًا في ذلك: 99 - حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن امرأة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعها بنت لها، وفي يد [ابنتها] (¬1) مَشْكَتَان (¬2) غليظتان من ذهب، فقال لها: "أتعطين زكاة هذا؟ " قالت: لا، [قال] (¬3): "أيسرك أن [يسورك] (¬4) الله بهما سوارين من نار؟! " (قال) (*): فخلعتهما، فألقتهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالت: (هما) (¬5) لله ورسوله. يرويه الحسين المعلم، عن عمرو بن شعيب (¬6)، وحسين ثقة. وتدفع دلالته باحتمال أن تكون البنت صغيرة، والأم هي المخاطبة بما خوطبت به، (فهوت) (¬7) إليهما فخلعتهما من يد ابنتها، وأيضًا فإنه ليس في الخبر أنه رأى ذلك منها، فلعل الأم سألت عما تجمَّلت [به] (¬8) البنت. ¬
ومما يستدل به للوجه والكفين معًا: 100 - حديث ذكره القاضي إسماعيل، قال: نا علي بن عبد الله، قال: نا زيد بن الربيع اليحمدي، قال: نا صالح الدهان، عن جابر بن زيد: أن ابن عباس كان يقول في هذه الآية: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] رفعه: الوجه والكفان (¬1). زياد بن الربيع (أبو خداش) (¬2) اليحمدي، قال فيه ابن حنبل: شيخ بصري، ليس به بأس، من الشيوخ الثقات. وصالح الدهان (¬3)، هو صالح بن إبراهيم بن نوح، يروي عن جابر (¬4) بن زيد، روى عنه أبان [بن] (¬5) يزيد العطار، وسالم بن أبي الرمال، وزياد بن الربيع، ¬
ونوح بن قيس، وهشام الدستوائي، قال ابن حنبل: ليس به بأس، وقال فيه ابن معين: ثقة، وذكر الساجي عن ابن معين: أنه قال فيه: (قدري) (¬1) يرى برأي الخوارج للزومه جابر بن زيد، وكان جابر (إباضيًّا) (¬2)، وعكرمة صفريًّا، وعمرو بن دينار يقول ببعض قول جابر وببعض قول عكرمة (¬3). وهذا الذي قال ابن معين، لا يناقض قوله فيه: ثقة؛ لأن رأيه -والله أعلم- كرأي مالك، وسفيان، ويحيى بن سعيد: أن مَن نسب إليه رأي ولم يدعُ إليه، لا تسقط الثقة بقوله، بل يحتج بروايته، وإنما تسقط الثقة بقوله؛ إذا خيف عليه التعصُّب لدعواه. وذكر (أبو أحمد) (¬4) بن عدي الجرجاني صالحًا الدهان هذا، فقال: ليس بمعروف، وهذا لا يبالى به إذا عرفه غيره، ولم يصح عليه ما ذكره ابن معين، وكذلك عن جابر بن زيد، ومن يُسقط (رواية) (¬5) صالح بهذا، ينبغي أن يُسقط رواية جابر بن زيد وعمرو بن دينار، وليس بفاعل، فإن حديثهما مخرج في الصحيحين، وهما عند الجميع ثقتان. والحديث المذكور نصٌّ في المقصود. ومن ذلك أيضًا: 101 - حديث ذكره أبو داود، قال: نا يعقوب بن كعب الأنطاكي، ومؤمل بن الفضل، قالا: نا الوليد، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن خالد، قال يعقوب: ¬
ابن دريك، عن عائشة: أنَّ أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها، وقال: "يا أسماء! إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا" وأومأ إلى وجهه وكفيه (¬1). هذا حديث ضعيف؛ لأن سعيد بن بشير يضعف برواية المنكرات عن قتادة، وإن كان قد شهد له سبعة بالصدق، وابن عيينة بالحفظ، ولكنهم مع ذلك يضعفونه. وخالد بن دريك لم يدرك عائشة. قاله أبو داود (¬2)، فالحديث منقطع (¬3)، وهو رجل شامي عسقلاني مشهور، يروي عن ابن محيريز، قال أبو حاتم: لا بأس به. ¬
102 - وروى هذا الحديث موسى بن أيوب، عن الوليد بإسناده، وقال فيه: "عليها ثياب شامية رقاق، فأعرض عنها". ذكره أبو أحمد بن عدي (¬1)، وقال: لا أعلم يرويه عن قتادة غير سعيد بن بشير، وقال فيه مرة: عن خالد بن دريك، عن أم سلمة، بدل عن عائشة. فهذه زيادة علة الإضطراب. وذكره أبو داود في المراسيل: 103 - نا محمد بن بشار، نا أبو داود، نا هشام، عن قتادة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الجارية إذا حاضت لم يصلح أن يرى منها إلا وجهها ويداها إلى المفصل" (¬2). وهذا ينبغي أن يكون معضلًا (¬3)، بحسب ما في رواية سعيد بن بشير، من ثبوت خالد بن دريك (بين عائشة وقتادة، وهي عن) (¬4) النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وممَّا يستدل به أيضًا للوجه والكفين معًا: ¬
104 - حديث ابن عمرو قال: كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمن النبيِّ هو في الإِناء الواحد جميعًا (¬1). وفي رواية: 105 - (كنا) (¬2) نتوضَّأ نحن والنساء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، ندلي فيه أيدينا (¬3). وهذا صحيح، ولكنه أيضًا مندفع الدلالة، بأن ينزل تنزيلًا على أنهم كانوا يتوضؤون مع منكوحاتهم من أزواجٍ وإماء، أو مع ذوات محارمهم من أُمِّ وبنت وأخت وعمَّة وخالة، ونحوهن. ¬
فأمَّا: 106 - حديث أم صُبَيَّة (¬1): خولة بنت قيس، قالت: "اختلفت يدي ويد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء، من إناء واحد"، فلم يصحَّ، لأن في إسناده ابن سرج (¬2)؛ وهو مجهول الحال مختلف في اسمه، اختلافًا لا يُعرَف معه مَن هو. والآن قد فرغنا من ذكر ما يمكن أن يتعلَّق به مَن يجيز للمرأة إبداء وجهها وكفيها من صحيح الحديث وسقيمه، ولم يمرَّ فيه كله ما هو النص (على) (¬3) المقصود، إلا حديثا عائشة، وابن عباس، فإنهما في غير المسألة. ¬
أحدهما فيه: أن معنى ما ظهر من الزينة: الوجه والكفان. والآخر فيه: أن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا الوجه والكفان. ولكن في إسنادهما ما ذكرتُ لك. فأمَّا سائر الأحاديث المذكورة في الباب، فإنها إمَّا أن تدلَّ على إبدائها جميع ذلك، أو بعضه، دلالة يمكن الانصراف عنها، بتحميل اللفظ أو القصة غير ذلك، لكق الانصراف عمَّا يدلُّ عليه ظاهر اللفظ، أو سياق القصة، لا يكون جائزًا إلا بدليل عاضد، يصير الانصراف تأويلًا، وإذا لم يكن هناك دليل، كان الإنصراف تحكمًا؛ فعلى هذا ليجب القول بما تظاهرت به هذه الظواهر، (وتعاضدت) (¬1) عليه من جواز إبداء المرأة وجهها وكفيها. لكن يُستثنى من ذلك، ما لا بد من استثنائه قطعًا، وهو ما إذا قصدت بإبداء ذلك: التبرج واظهار المحاسن، فإن هذا يكون حرامًا، ويكون الذي يجوز لها إنما هو إبداء ما هو في حكم العادة ظاهر حين التصرف والتبذل، فلا يجب عليها معاهدته بالستر، بخلاف ما هو في العادة مستور، إلا أن يظهر بقصد، كالصدر والبطن، فإن هذا لا يجوز لها إبداؤه، ولا يُعفى لها عن بدوِّه، ويجب عليها من ستره في حين التصرُّف ما يجب من ستره في حين الطمأنينة، ويعضد هذه الظواهر وهذا المنزع قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]. فمعنى الآية: لا يُبدين زينتهن في مواضعها لأحد من الخلق، إلا ما كان عادة، ظاهرًا حين التصرُّف، فما وقع من بدوِّه وإبدائه بغير قصد التبرج والتعرض للفتنة فلا حرج فيه، و (بهذا) (¬2) يقع الفرق بين ما هو ¬
من [الظاهرة] (¬1) ويظهر في العادة، إلا أن يستر بقصد، كالوجه والكفين، وما هو مستور إلا أن يظهر بقصد، يجوز لها إبداء الأول في أحوال التصرف [والتبذل] (¬2)، ولا يجب عليها تعاهده بالستر، ويحرم عليها إبداء الآخر في الأحوال كلِّها، ويجب عليها تعاهده بالستر، حتى القدمين كذلك في حال المشي على ما سنبين بعدُ إن شاء الله. وقد يكون ما ذكرناه علةً للعفو عن بدوِّ الظاهر وإبدائه في حق المصونة، غير المتصوفة، بحكم عموم القضية، وانسحاب ذيل العفو على جميعهن لتحقق الصون في بعضهن. وكلُّ ما أباحت الآية إبداءَه، ممَّا هو مشترك بين جميع ما ذكر فيها، لمن ذكر فيها، إنما سبب إباحته أيضًا ضرورة المحرميهّ أو الحرمة أو المخالطة فيما ملكت أيمانهن أو نسائهن، وفي معناهن (من) (¬3) لا أرب له من الأتباع، على ما سنبين بعد إن شاء الله تعالى. وإذا تقرَّر هذا هكذا، وجب بعده أن يحضر في الذهن تأكد ما وجب من الستر، وحرم من التبرج على الحسناء الجميلة، أكثر من تأكده على الشوهاء والعجوز. وسنفرد إن شاء الله تعالى العُجَّز بذكر بعضهن، لتخصيص الله تعالى بالذكر لهق في قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ .. .} الآية [النور: 60]. ويبقى عليفا بعد هذا المتقرر في حقِّ النساء؛ من جواز بدوِّ الوجه ¬
والكفين على غير قصد التبرج بحكم ضرورة التصرف، ما (يحضرنا) (*) من أمر النظر إلى ذلك؛ أيمنع مطلقًا؟ أم يجوز إذا لم يخف الفتنة، ولم تقصد اللذة؟ يأتي ذكره بعدُ إن شاء الله تعالى. ويتأكَّد هذا المعنى الذي حملنا عليه الآية؛ من أن الظاهر هو الوجه والكفان، بقوله متصلاً به: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]. فإنه يفهم منه: أن القرطة والقلائد قد (يغفلن) (¬1) عند بدو وجوههن، عن تعاهد سترها، فتنكشف، فأُمرن أن يضربن بالخُمُر على الجيوب، حتى لا يطهر شيء من ذلك، إلا الوجه الذي من شأنه أن يظهر في حين التصرُّف، إلا أن يستر بقصد وتكلُّف مشقة، وكذلك الكفان. وذكر أهل التفسير أن سبب نزول الآية: هو أن النساء كُنَّ وقت نزولها إذا غطين رؤوسهن بالخُمُر سدلنها خلفهن كما تصنع النَّبَط، فتبقى النحور والأعناق بادية، فأمر الله سبحانه (بلَيِّ) (¬2) الخُمُر على الجيوب (¬3)، ليستر جميع ما ذكر. وبالغ في امتثال هذا الأمر نساء المهاجرين والأنصار، فزدن فيه تكثيف الخمر. قال أبو داود: 107 - حدثنا أحمد بن صالح، وسليمان بن داود، وابن السرح، وأحمد بن سعيد الهمداني، قالوا: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني قرة بن عبد الرحمن، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، ¬
لمَّا أنزل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]؛ شققن أَكْثَفَ (¬1) -وقال ابن صالح: أكْنَف- مروطهن فاختمرن بها (¬2). هذا إسناد حسن. وهذه مبالغة في الإمتثال، فقد كان بخمرهن ما هو في الكثافة دون المتناهي. ومَن رواه "أكنف" بالنون؛ فمعناه أيضًا كذلك: أستر وأصفق، ومنه سمي الوعاء الذي يحرز (فيه) (¬3) الشيء: كنف، والبناء الساتر: كنيفًا. فهؤلاء نساء المهاجرين، وأما نساء الأنصار فقال أبو داود أيضًا: 108 - حدثنا أبو كامل، حدثنا أبو عوانة، عن إبراهيم بن مهاجر، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة: أنها ذكرت نساء الأنصار، فأثنت عليهن، وقالت لهن معروفًا، وقالت: لما نزلت سورة النور عمدن إلى حجور أو حجوز -شك أبو كامل- فشققنه، فاتخذنه خُمُرًا (¬4). ¬
المحفوظ في هذا: حجوز مناطقهن، لكنه سقط من كتاب أبي داود، ولا معنى للراء في ذلك، كذلك رواه ابن مهدي، عن أبي عوانة، قال: عمدن إلى حُجَز أو حُجُوز (¬1) مَنَاطقهن، ذكره أبو عبيد في شرح غرب الحديث. وهو مأخوذ من قولهم: (احتجز) (¬2) بالإِزار: إذا شدَّه على وسطه. فإن قيل: هذا الذي ذهبت إليه؛ من أن المرأة معفوٌّ لها عن بدوُّ وجهها وكفيها، وإن كانت مأمورة بالستر جهدها، يطهر خلافه من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59]. فالجواب أن نقول: يمكن أن نفسر هذا الإِدناء تفسيرًا لا يناقض ما قلناه، وكذلك بأن يكون معناه: يُدنين عليهن من جلابيبهن (ما لا) (¬3) يظهر معه القلائد والقرطة، مثل: قوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]. فإن (الإِدناء) (*) المأمور به مطلق بالنسبة إلى كل ما يطلق عليه أنه إدناء؛ فإذا حملناه على واحد ما يُقال له عليه إدناء يفضي به عن عهدة الخطاب، (إذ) (¬4) لم يطلب به كل إدناء، فإنه إيجاب بخلاف النهي والنفي. وعلى أن ¬
الآية قد قيل: إنها إنما جاءت للفرق بين الحرائر والإِماء، وسنذكر ذلك في مسألة: هل الأمة كالحرة في هذا كله أم لا؟. والأظهر فيها ما قلناه في معنى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]؟. قال أبو داود: 109 - حدثنا [محمد] (¬1) بن عبيد، [ثنا] ابن ثور، عن معمر، عن ابن خثيم، عن صفية بنت شيبة، عن أم سلمة، قالت: لما نزل: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59]؛ خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية (¬2). فإن قيل: فما معنى حديث أم سلمة الذي ذكر أبو داود، قال: 110 - حدثنا زهير (¬3)، نا عبد الرحمن، نا مسدد، نا يحيى، عن سفيان، عن حبيب عن وهب مولى أبي أحمد، عن أم سلمة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دخل عليها وهي تختمر، فقال: "ليّة لا ليَّتين" (¬4). ¬
كأنه يظهر منه كراهة ما فعل من تقدم ذكره من النساء، من تكثيف الخُمُر والمبالغة في الستر. فالجواب: أن نقول: هذا الحديث لو صحَّ كان معناه نهي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - المرأة أن تلبس لبسة الرجل وأن تتشبه به، كأنه يقول: لا تعتمِّي كالرجل (وذلك بأن تلوي لي الخمار) (¬1) على رأسك. (وأغنى) (¬2) عن تصحيح هذا التأويل (ضعف) (¬3) الخبر، للجهل بحال وهب المذكور، وأنه ليس مما نحن فيه، وإنما (عرض بحثًا) (¬4). ومما يؤكِّد ما قلناه من وجوب الستر على النساء على أبلغ ما يمكن تحريم حظر بدوّهن فيما (يصف) (¬5) أجسامهن من الثياب، وقد تقدَّم الآن حديث أسماء، واعراض النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عنها لمّا رأى عليها ثيابًا رقاقًا. ¬
111 - وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صنفان لم أرَهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البُخْت المائلة، لا يدخلن الجنهَ ولا يَرَحْن رائحتها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" ذكره مسلم (¬1). فأمّا حديث أبي أذينة، فلا يصح، قال أبو القاسم البغوي (¬2): (في سي حضى) (*) 112 - حدثنا الحسن بن سوار، نا موسى بن عُلَيّ بن رباح، عن أبيه، عن أبي أذينة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيرُ نسائكم الودود الولود، المواتية المواسية، إذا اتقين الله؛ وشر نسائكم المتبرجات (المختالات، هن) (¬3) المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم" (¬4). ¬
قال أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي: أبو أذينة من أهل مصر، ولا أدري أله صحبة أم لا؟. فإن قيل: وهل صحَّ: 113 - حديث يروى عن ابن عباس، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تعلموا نساءكم الكتابة، ولا تسكنوهن العلالي" (¬1). ومعناه قلناه، أما صحته فلا سبيل إليها، لأنه من رواية جعفر بن نصر (¬2)؛ أبي ميمون العنبري، وهو مجهول يحدث بالأباطيل. وفي بابه ذكر الحديث المذكور أبو أحمد بن عدي، وهو يرويه عن حفص بن غياث (¬3)، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس. ¬
وأما معناه فإنه لو صحَّ احتمل أن يكون نهيًا عن ذلك، لما يتطرقن إليه من التبرُّج بالزينة، والبدوّ بالمحاسن وإبدائها، فيكون من هذا الباب، ولما يتطرقن إليه من إرسال البصر لإشرافهن، فيكون من باب نظر النساء إلى الرجال، والله أعلم. 114 - وحديث دحية بن خليفة الكلبي في هذا لا يصحُّ أيضًا، وهو أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقباطي، فأعطاني منها قبطية، فقال: " (اصدعها صدعين) (¬1)، فاقطع أحدهما قميصين، وأعط الآخر امرأتك تختمر به" فلما أدبر قال: " (وأْمر امرأتك أن) (¬2) تجعل تحته ثوبًا لا يصفها" (¬3). في إسناده ابن لهيعة (¬4)، وموسى بن جبير (¬5). ¬
وكذلك: 115 - حديث أسامة بن زيد: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كساه قبطية، وكساها امرأته، فقال رسكول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما فعلت بالقبطية؟ " فقال: (كسوتها امرأتي) (¬1)، قال: "مُرها، فلتتخذ تحتها غلالة (¬2)، لا تصف حجم عظامها". هو أيضًا حديث يرويه عبد الله بن محمد بن عقيل (¬3)، عن محمد بن أسامة (ابن) (¬4) زيد، عن أبيه، ومحمد لا يعرف حاله، وعبد الله بن محمد بن عقيل: مختلف فيه، ذكر الحديث المذكور البزار (¬5)، وسيأتي لهذه المسألة حديثٌ آخر فيها، في باب نظر الرجال إلى النساء، إن شاء الله تعالى. ¬
وممَّا هو فيها غاية في الضعف [ما] (¬1) يرويه: عمرو (¬2) بن زياد بن عبد الرحمن بن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: 116 - حدثنا حماد بن زيد، وعبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا ركب النساء الخيل، ولبسن القباطي، واكتفى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، عمَّهم الله بعقوبة من عنده" (¬3). وعمرو بن زياد هذا غاية في الضعف، في حد من اتُّهم بالكذب. ¬
117 - وروي عن مالك -رَحِمَهُ اللهُ-: أنه قال: نهى عمر عن لبس القباطي، وقال: (إنها) (¬1) تصف أو تلصق بالجسد (¬2). والقباطي: جمع قِبطية، بكسر القاف، منسوبة إلى القبط، وهم أهل مصر، ومنها رجل قبطي، وثوب قبطي، وهي ثياب رقاق من كتان تتخذ بمصر، وقد يضم لأنهم يفرقوه في النسبة، كما قالوا: سملي ودهري. قال زهير: ليأتينَّك مني منطقٌ قَذِعٌ ... باقٍ كما دنَّس القبطية الورل (¬3) والله أسأل التوفيق. (21) - مسألة: قد قدمنا القول في الوجه والكفين، وأنهما يُعفى عن بدوِّهما، ويظهر بالنظر الأول أن القدمين أحرى، لما يُظَنّ من كونهما (يظهران) (¬4) في العادة، وليس كل امرأة تجد لهما ساترًا. والأظهر عندي: منع إبدائهما، على أشد ما في الوجه والكفين، لأن ¬
الضرورة في إبدائهما ليست كالضرورة في إبداء اليدين، وقد كادت تنصُّ على ذلك أحاديث الذيل. 118 - وروى ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن جرَّ ثوبه خيلاء؛ لها ينظر الله إليه يوم القيامة؛ فقالت أم سلمة: كيف تصنع النساءُ بذيولهن؟ قال: "يرخين (¬1) شبرًا" قالت: إذًا تنكشف إقدامهن، قال: "فيرخينه ذراعًا، لا يزدن على ذلك" (¬2). فهذا أمر بهذا القدر من التستر، وهو مبالغة في المنع من إبدائهما. وقد تقدَّم حديث عمر (¬3) وتعليله، وهو قوله: فقلن: إن شبرًا قليل تبدو منه العورة. قال: "فذراع". وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ذكر أبو داود (¬4)، قال: ¬
119 - حدثنا مجاهد بن موسى، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله؛ يعني: ابن دينار، عن محمد بن زيد، هو: ابن المهاجر، قال: عن أم سلمة: أنها قالت (*): سألتُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتُصلِّي المرأة في درع وخمار، وليس عليها إزار؟ قال: "إذا كان [الدرع] (¬1) سابغًا، يغطي ظهور قدميها". وهو حديث منقطع، فإن محمد بن زيد إنما رووه عنه، عن أمه، عن أم سلمة، موقوفًا. فالظن غالب بأنه لم يسمعة من أم سلمة، ولكنه موافق في معناه لما صحَّ من أن عليهن إرخاء ذيولهن حتى لا تبدو أقدامهن. اختلف (¬2) الفقهاء في هذه المسألة: فأبو حنيفة يقول: جائز لها إبداؤهما في الصلاة، ولا يجب عليها ستر ظهورهما فيها؛ فدل على أنّهما ليستا عنده بعورة. ¬
وأما مالك -رَحِمَهُ اللهُ- فإنه لا يجيز لها إبداء ظهور قدميها في الصلاة ولا في غيرها، ولكنه يقول مع ذلك: إن انكشف قدماها (¬1) أو شعرها أو ظهرها أو صدرها أو صدور قدميها أعادت ما دامت في الوقت، فيشبه أن يكونا عنده عورة، ولكن لا تجب الإِعادة [إلا في الوقت] (¬2) من انكشافها. وعلى مذهب الشافعي تعيد أبدًا. وقد جعل إسماعيل القاضي وغيره جواز إبدائها وجهها ويديها في الصلاة، دليلًا على جواز إبدائها ذلك في [غير] (¬3) الصلاة. وليس ذلك بلازم؛ فإنه لا بُعْد في أنه يجوز لها في الصلاة إبداء وجهها، ويحرم عليها في غيرها، وكذلك في الإِحرام بالحج (والعمرة) (¬4) في جواز إبدائها وجهها وكفيها غير متبرجة، ومنع إبدائها قدميها (كما) (¬5) وصفناه قبل، فاعلم ذلك، والله الموفق. (22) - مسألة: هذا الذي وصفنا أنه يجوز للمرأة إبداؤه، لا شك في جواز إبدائه أيضًا للأمَة، ولكن هل يجوز لها إبداء غير ذلك من نفسها؟. رأيت أبا عمر بن عبد البر حكى ما أنصُّه بلفظه (تبريًا) (¬6) من عهدته، قال: "وأجمعوا أنَّ الأمَة ليس منها عورة إلا ما من الرجال، والعلماء مجمعون على أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- لم يرد بما أمر به النساء من الإحتجاب، وأن {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} الإِماء، وإنما أراد بذلك الحرائر" هكذا قال (¬7). ¬
وفي هذا الإِجماع الذي حكاه نظر في الموضعين: أما قوله: "إن الأمة ليس منها عورة إلا ما من الرجل" فإن مالكًا رَحمه الله قد روي عنه في كتاب "الموازية" (¬1) قال: ولا يعجبني خروج الجواري للأسواق بالمشارب، ورآه من الباطل. وروى عنه أشهب: أنه كره خروج الأمة متجرِّدة؛ قال: وتضرب (عليه) (¬2). وروى عنه: أنه أنكر ما تفعل الجواري بالمدينة؛ يخرجن فيكشفن ما فوق الإزار، قال: وقد كلمت فيه السلطان، فلم أجب إلى ذاك، وقال: أضرب الأمة على ذلك. وذكر أبو حامد الغزالي في مسألة النظر إلى الأمة قولين لهم: قولًا بجواز النظر إليها، وأنها من المستثنيات، وقولًا بأنها كالحرة لا ينظر إليها إلا لحاجة الشراء. قال: وهو القياس. فهذا قد حكى القول بأنها كالحرة في جواز النظر إليها، وهذا يناقض الإِجماع الذي حكى ابن عبد البر في أنها كالرجل فيما هو منها عورة، فإنه [على] (¬3) ما حكاه من الإِجماع يجوز النظر إلى وجهها وصدرها وعنقها، وكل ما يجوز نظر الرجل إليه من الرجل. ¬
وعلى القول بأنها كالحرة في جواز النظر إليها، لا يجوز النظر إلى بطنها ولا صدرها ولا عنقها، فمن جعلها كالحرَّة يحرم عليها إذًا أن تبدي (قرطها) (¬1) كما لا تبديه الحرة. ومَن جعلها كالرجل (أجاز) (¬2) لها أن تُبدي ذلك كما يبديه، فتبين أن الإجماع ليس بصحيح. ومعلوم أنَّ أبا عبد البر إذا حكى الإِجماع، فما يحكيه بنقل متصل إلى المتعين به وإنما هو بتصفحه، والتصفح أكثر ما يحصل عنه فى هذا الباب عدم العلم بالخلاف فيه. ولننظر الآن في الدعوى الأخرى التي بيَّن أن الآية لم يرد بها الإِماء إجماعًا، فنقول: قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]. الجلابيب: جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار، وقيل: هو الرداء. (وللمفسرين) (¬3) في هذه الآية ما نذكره، وذلك أنهم يزعمون أنَّها جاءت للفرق بين الحرائر والإِماء، قالوا (¬4): كان سبب نزولها: أن النساء كن يخرجن فى حاجاتهن بالليل، فيظن المنافقون (أنهنَّ) (¬5) إماء، فيؤذونهن، فنزلت الآية. ¬
فيكون معناها على هذا التقرير في ألبسة من الإِماء حتى يُعرف أنهن إماء فلا يؤذين، وروي هذا المعنى عن الحسن البصري، قال: كان بالمدينة إماء يقال لهن: كذا وكذا، يخرجن فيعرض لهن السفهاء فيؤذونهن، وكانت المرأة الحرة تخرج فيحسبون أنها أمة، فيعرضون لها ويؤذونها، فأمر الله تعالى المؤمنات أن يُدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يُؤذَين (¬1). وبهذا جاء حديث أم سلمة الذي تقدَّم الآن ذكره (¬2): لما نزلت: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ .. .}: خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية. 120 - وروى ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن غير واحد: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بينما (هو) (¬3) يسير في السوق، مرَّ على امرأة محترمة بين أعلاج قائمة تسوم بعض السلع، فجلدها، فانطلقت حتى أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله! جلدني عمر بن الخطاب على غير شيء! فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عمر، فقال: "ما حملك على جلد بنت عمك؟ " فأخبره خبرها قال: وابنة عمي هي؟ فأنكرتها يا رسول الله! إذ لم أرَ عليها جلبابًا، وظننت أنها وليدة، فقال الناس: الآن ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، فقال: "يا عمر، وما نجد (لنسائنا) (¬4) جلابيب؛، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ .. .} الآية (¬5). ¬
هذا كل ما ذُكر في الآية، مما يؤول إلى الفرق بين الحرة والأمة، وليس في شيء منه معتمد [لعدم الصحة في جميعه] (¬1). والآية بلفظها دالة عليه (¬2)، بل هي عامة في نساء المؤمنين، وبلا شك أنهن حرائر وإماء، أزواج العبيد وسراري، وأزواج الأحرار وسراري كذلك. والقول بأن الآية لم يعنَ بها الإِماء يحتاج إلى دليل مخصوص، ودعوى الإِجماع في أنها لم يعنَ بها الإِماء مبنية على دعوى الإِجماع في أن الأمة ليست كالحرة، وقد بينّا بطلان ذلك. وقد قال بعض الناس (¬3): إنما كان بالمدينة قوم يجلسون على الطرق؛ لرؤية النساء ومعارضتهن، فنزلت الآية. فعلى هذا لا فرق بين الحرائر والإِماء (في) (¬4) الآية، وإنما معناها [الأمر] (¬5) بالتستر والتعفف، فلا يعرض لهن بأذى إذا عرفن قد قصدن التستر، بخلاف المتبرجات بالزينة، المتعرضات لأهل الفسوق. هذا هو الذي ليس في الآية مزيد عليه، أما ما يسترن من أنفسهن، أو يُبدين من زينتهن، فغير متعرض له، ونساء المؤمنين بلا ريب يعم الحرائر والإِماء، فإن المؤمنين منهم العبيد، ولهم الأزواج، ومن الأحرار مَن له الأمة ¬
زوجة، وإن كان لم يتحقق وجود ذلك في ذلك الزمان، فإنه جائز بشرطه في مستقبله. وإذا لم يكن في الآية الفرقُ بين الحرائر والإِماء بيِّنًا، وجب النظر في غيرها، فوجدنا الذاهبين إلى الفرق بينهن، ذكروا ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من ضربه الإِماء على التشبه بالحرائر في (الزي) (¬1)، وهو إذا تحقق لم يُفهم ذلك منه فهمًا متعينًا، ولا أيضًا أعرفه صحيحًا عنه (*). ¬
والمتمكن الذكر من ذلك هو ما ذكر (عن) (¬1) مالك في "موطئه": أنه بلغه: 121 - "أن أمة كانت (لعبد الله) (¬2) بن عمر بن الخطاب، رآها عمر وقد تهيَّأت بهيئة الحرائر، فدخل على ابنته حفصة، فقال: ألم أرَ جارية أخيك تجوس (¬3) الناس، وقد تهيأت لهيئة الحرائر؟! وأنكر ذلك" (¬4). هذا نصُّه، وليس بصحيح، ولا فيه أكثر من إنكاره عليها أن تتزيَّا بزي يظن يها من أجله أنها حرة، لم ينسب إليها- ما يرى من قلة استحيائها - التبرج على أنها حرة، فأدبهن - رضي الله عنه - ليعرفن بين الرقيق. أما ما يبدين أو يسترن؛ فما نراه مذكورًا فيه. وقال أبو بكر بن المنذر: ثبت أن عمر بن الخطاب قال لأمة رآها مقنعة: "اكشفى عن رأسك لا تتشبهي بالحرائر" (¬5) وهذا أيضًا كذلك. ولنقل بعد الإنتهاء إلى هاهنا: إنَّا قد فرغنا من بيان بطلان دعوى الإِجماع في أن لأمة مخالفة للحرة، وفي أن الآية لم يعنَ بها الإماء، ووجب أن ننظر ما الصحيح في أمر الإماء، فنقول: ¬
إنَّ الذي لا ريبَ فيه من أمرهن، هو أنهن لم يزلنَ مبتذلات في التصرُّفات والأعمال في الأحوال [كلها] (¬1)، يبدو منهن أكثر مما يبدو من الحرائر، كلما مرَّ منهن خلف [جاء] (¬2) بعده آخر، ولم نسمع قط بخبر فيه أن سيرهن تبدلت، ولا أنهن كن على خلاف ما يشاهدن عليه الآن، وهذا كافٍ في التفريق بين الحرائر والإِماء. وليس هذا النوع من الإستدلال -متى استدللنا به- استدلالًا بعمل، بل هو تمسُّك بنقل متواتر إذا صحَّ وجوده، وإنما لا يكفي هذا (في) (¬3) هذه المسألة في شيئين: أحدهما: ما (القدر) (¬4) الذي يزدن به على الحرائر حتى يجوز لهن من إبدائه ما لا يجوز للحرائر؟. والآخر: الإِماء الحسان الحاملات من (الجمال أكثر مما تحمل) (¬5) الحرائر المصونات المقصورات المنشَّآت على الحجب، فإن هؤلاء لم يستمرَّ فيهن ما استمرَّ في المبتذلات، فلا يجري فيهن من الفرق بين الحرائر وبينهن ما جرى منه بين الحرائر والمتصرفات القليلات الحسن أو العديمات له، فإن من المتعين الفرق بين جارية مشرقة الوجه (¬6)، مائسة القد، آمِلَة من حسنها ولباسها في أروق (مرأى) (¬7)، وبين شوهاء سوداء ذفراء (¬8)، قد (سئم) (¬9) الحياة منها القدماء. ¬
(ولعل) (¬1) المروي عن مالك من إنكاره خروجهن كاشفات ما فوق الإِزار: إنما هو فيمن لها عند العيون حظ منهن، وما للشافعية في أحد القولين من أنها كالحرة هو أيضًا فيمن هذه صفتها كذلك. وقد كان الحسن البصري من بين أهل العلم يوجب عليها الخمار إذا تزوَّجت، أو اتخذها لنفسه الرجل، حكى ذلك عنه هكذا ابن المنذر، ولا وجه لتخصيص الزوجة أو السرية، والمسألة عندي محتملة، والنظر في إيجابها متردد، والله الموفق المسدد. (23) - مسألة: أم الولد فيما تبديه أو لا تبديه كالحرة لا كالأمة، والذي ظُن به أنه فارق بين الحرة والأمة، غير متحقق في أمهات الأولاد؛ وهو التبذُّل والتصرُّف، فإن الأمة إذا ولدت لسيدها (ولو لم) (¬2) تكن حسناء جرت العادة فيها بأن (تُصان) (¬3) عن (التبذل) (¬4)، ويسقط عنهن أيضًا شرعًا أكثر ما كان للسادة عليهن من الخدمة والتصرُّف، فلا يكون لهم استخدامهن وتصريفهن كما كان قبل، لكن بعضه الأقل الأيسر. وقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] يشملهن بعمومه كما يشمل الحرائر ولا فرق. وكذلك قوله: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59]. فعليها بالآيتين من أن لا تبدي وأن تدني من جلبابها ما على الحرة، إذ لا دليل مخصّصًا لها من ذلك. ¬
وقد اختلف أهل العلم في صلاتها بغير خمار، فجعلتها طائفة كالأمة (¬1)؛ هذا مذهب الشافعي وأبي ثور، (ومن) (¬2) التابعين: النخعي. وقالت طائفة: بل تختمر؛ وهذا مذهب الحسن، وابن سيرين، ومالك، وأحمد بن حنبل، غير أنَّ مالكًا لم يرَ عليها الإِعادة من تركه إلا في الوقت. والأظهر وجوب إعادتها في الوقت وبعده كالحرة، إلا أنه لا يجب القضاء على تارك الصلاة عمدًا، وليس هذا (موضع بيان) (¬3) ذلك، فانظره في مواضعه. (24) - مسألة: الأمة المُدبَّرة (¬4) حكمها حكم الأمة ولا فرق، إذ لا مفرِّق. (25) - مسألة: المعتَقُ بعضُها، حكمها حكم الحرة، معاملة للجزء الحر منها بمقتضى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} وليست أمةً فيخرجها دليل مخصص (فننزل عنده لو صح) (¬5) خروج الأمة. ¬
فصل
(26) - مسألة: المعتقة إلى أجل، أمة (بعد) (¬1). (27) - مسألة: المكاتبة ينبني القول فيها على المكاتب، هل يعتق منه بقدر ما أدى أم لا؟ وسيأتي القول في ذلك في هذا الباب عند ذكر مَن يجوز للمرأة أن تبدو له بزينتها الخفية من عبيدها وغيرهم، والذي يتقرَّر هناك يوجد منه حكم هذه، وذلك أنها إن كانت قد أدت شيئًا من كتابتها أو كان (عندها) (¬2) وفاء بما عليها [وإن] (¬3) لم تؤدِّ بعد شيئًا، فحكمها حكم (الحرة) (¬4) فيما تبديه أو لا تبديه، وإن كانت لم تؤدِّ شيئًا ولا أيضًا عندها وفاء بما عليها، فهي أمة في جميع أحكامها، والله أعلم. * * * فصل قد فرغنا من ذكر المستنثى الواحد الذي هو ما ظهر من الزينة، وقد آن أن نذكو الآخر، وهو: مَنْ يجورْ لها إبداء الخفية له، ولكن [لا] (¬5) يصح ذلك إلا [بعد] (¬6) أن نعرف الزينة الخفية ما هي؛ فلنقدِّم ذكرها، فنقول: (28) - مسألة: اختُلف في الزينة الخفية، فقال ابن عباس: هي القرطة ¬
والقلائد والشنوف (¬1) والأسورة .. وأما الخلخالان والمعضدان فلا تبديهما إلا لزوجها (¬2). ففي هذا عنه: أن الآذان والمعاصم مما لا تُبدى للأجانب، وكذلك السوق لذكره الخلخال والمعضد، وجعل المذكورين في الآية، منهم مَن تُبدى له بعض الزينة ولا يبدى له بعض، وذلك حين ذكر الخلخالين والمعضدين كأنهما من الزينة الخفية؛ فالشنوف والقرطة والقلائد والأسورة تشترك في جواز (إبدائها لجميع) (¬3) المذكورين في الآية، بخلاف الخلخال والمعضد .. هذا هو قوله الآن، ويجب أن يتفقد فيه ما مر له في الزينة الظاهرة، فإنه قد كان ذكر فيها القرطة، ثم هو ذا قد ذكرها هاهنا (فى) (¬4) الخفية، وكذلك ذكر في الظاهرة الخضاب إلى نصف الذراع، وهو ذا ممن ذكر في الخفية الأسورة، والسِّوار لا يكاد يبلغ نصف الذراع إلا ممن ليست (أكبر) (¬5) من سوارها. والذي يبقى أن ينظر به [في] (¬6) هذا الموضع هو الجمع بين قوليه في المكانين، وحمله على الإتفاق بأن نقول: لما كان القرط والخضاب المعبَّر بهما عن الآذان والذراع -على ما سنبين بعد إن شاء الله تعالى- مما يجوز إبداؤه للناس كلهم، على غير وجه التبرج؛ كان أحرى وأولى أن يجوز لها إبداؤه لمن ذكر في الآية، فيحق أن يذكر في الموضعين. هذا قول ابن عباس في الزينة الخفية. ¬
وقال إبراهيم النخعي: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} معناه: ما فوق النحر (¬1). وقال ابن شهاب الزهري: لا تبدو لهؤلاء -الذين سمَّى الله تعالى ممَّن لا تحلُّ (لهم) (¬2) - الأسورة والأخمرة والقرطة من غير خُمُر، وهذا من النخعي والزهري [إعياء في] التستر (¬3). (وعيَّن) (¬4) الزهري ما يجوز لها إبداؤه لجميع المذكورين (باعتبار) (¬5) بُعدهم منها، فالذي يجوز لها أن تبديه لأبعدهم يجوز لها بلا شك أن تبديه لأقربهم، والذي يجوز لها أن تبديه لأقربهم، منه بلا شك ما لا يجوز لها أن تبديه لأبعدهم، بل ولا لمن بعده في الزينة؛ وهذا أمر مقطوع به من معنى الآية. وتقريره أن نقول: بَيّن أن البعل يجوز لها، بل يجب عليها، بحسن التبعُّل أن تُبدي (له) (¬6) كلَّ ما يدعوه إليها، ويزيدها في مودته وتصطاد به قلبه، وليس هذا موضع بيان هذا. وللأب أيضًا فيما يجوز لها أن تبديه له وتنبسط بإظهاره بين يديه ليس هو في ذلك كأحد ممن ذكر بعده، والابن أيضًا ليس في ذلك كأحد ممَّن بعده. ومقطوع به -لا شك فيه- أن الذي يجوز لها أن تبديه لأبعدهم- وليكن الأجنبي التابع الذي لا أرب له في النساء- يجوز لها أن تبديه لأقربهم، وليكن ¬
البعل، والذي يجوز لها أن تبديه للبعل، لا يجوز لها أن تبديه جميعه لأبعدهم؛ هذا ما لا شك فيه، ولا في وجوب تنزيل الآية عليه. فإذًا الزينة الخفية المنصوص على جواز إبدائها لمن ذكر في الآية، هو أمر يشترك في إبدائه جميعهم، ولا تظن أنه ما ظهر من زينتهاة أعني (المذكور) (¬1)، ولا جواز بدوه في حين المهنة والتصرُّف لكل أحد، لا على التبرُّج، بل هو زائد عليه، فإنه بلا شك أن المذكورين في الآية يجوز للمرأة إبداء ما زاد على وجهها وكفيها لبعضهم في الجملة، وسيرد لهذا تفصيل إن شاء الله تعالى. ومعنى آخر متيقَّن أيضًا وجوب تنزيل الآية عليه، وهو: أن هذه الزينة التي أجازت الآية إبداءها لمن ذكر، لم يُرد بإبدائها لهها أن يروها ممكنة في اليد المستترة، أو موضوعة في الأرض، حتى كأنه إنما رفع (عنهم) (*) الحرج في رؤية المعادن والحجارة، لا يختص بجواز النظر إليها أحد عن أحد، لا في الأرض، ولا في معدنها، ولا في حوانيت بائعيها، ولا في يد امرأة غير متزيِّنة بها. ومعنى آخر متيقَّن من الآية، وهو مما نبَّه عليه النص، وهو أن مَن [لا يجوز لها إظهار الزينة له من الأجانب] (¬2) لا يجوز لها أيضًا توصيل العلم إليه بتحمُّل الزينة وإن أخفتها عن حاسة البصر، مثل: أن تضرب برجلها أو تحرِّك رأسها، فَيُدرَك بذلك (حسنُ) (¬3) الحلي، أو يُسمَع حبوسه، فإن الذي يُخاف من الفتنة عند النظر إلى الحلي في موضعه، يُخاف مثلُه أو قريب منه عند العلم بتحمُّله، بل ربَّما كانت النفس حينئذ أحرص، وإلى (الهوى) (¬4) أسرع، فأحبُّ شيء إلى الإنسان ما مُنع. ¬
وقد فرغنا الآن من ذكر الزينة الخفية بالممكن من الذكر، فلنرجع إلى القول في المستثنى الثاني الذين هم مَن يجوز لها إبداؤها [لهم] (*)، فنقول وبالله التوفيق: (29) - مسألة: البعل (¬1) والأب يفترقان في إبداء العورة، فلا يحلُّ ذلك للأب، وهذا لا اختلاف ولا ريب فيه، وما عدا العورة- هذا بإطلاق- هل يجوز لها إبداؤه للأب، أو تتخصص منه مواضع المحاسن الباطنة؟ هذا موضع نظر. وليس في الآية دليل على جواز إبدائها، إنما هو الأمر الذي يشترك في رؤيته جميعهم، أقربهم وأبعدهم، كالوجه والكفين والقدمين، هذا هو الذي في الآية بلا شك إباحة إبدائه لهم كلهم، وهذا الذي يُنظر الآن فيه إنما هو مثل البطن، أو ما فوق السرة، وهذا ما لا يجوز إبداؤه لعبدها، ولا لابن بعلها، ولا لأبيه قطعًا، وهاهنا حديث تتقاصر دلالته عن كلِّ هذا المقصود، ويدلُّ على بعضه؛ وهو ما ذكره أبو داود (¬2)، قال: 122 - حدثنا محمد بن عيسى، نا أبو جميع سالم بن دينار، عن ثابت، عن أنس: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتى فاطمة بعبدٍ قد وهبه لها، قال: وعلى فاطمة ثوب إذا قَنَّعَت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ما (تلقى) (¬3)، قال: "إنه ليس عليك بأس؛ إنما هو أبوك وغلامك". ¬
أبو جميع سالم بن دينار، وقيل: سالم بن راشد، وثقه ابن معين، وقال أبو زرعة: لين ولا يُبَالَى بقول أبي زرعة، فإن العدول متفاوتون في الحفظ بعد تحصيل رتبة العدالة، والحديت صحيح؛ وفيه: جواز إبداء الشعر والقدمين والكفين للأب والمملوك؛ أما المملوك فسيأتي باب الكلام فيه، وأما الأب فهذا موضعه؛ وليس لقائل أن (يعترض) (*) فيه بأن يقول: لعل ذلك لمكان الضرورة، إذْ لم يكن بحضرتها ساتر آخر، ولو قامت إليه وقعت من الإنكشاف في أشد. والجواب عنه إن اعترض به معترض: أن نقول: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -[علل] (¬1) بالأبوة والملك، ولو كان كما قال المعترض علل بالضرورة وعدم السترة، لكان يقول: لا بأس عليك إنكِ غير واجدة. والمُتقَرر الآن من هذا: هو [أن] (¬2) الذي تبديه بمقتضى الآية للأب [هو الذي تبديه لأب] (¬3) البعل، وابنه، والأجنبي غير ذي الإربة، أعني المشترك بينهم، وبالخبر: الشعر والوجه والكفان والقدمان، أما (الزيادة) (¬4) على ذلك فلا أرى لها دليلًا؛ وهو موضع يجب إرجاء الأمر فيه إلى أن يوجد فيه دليل؛ من نصٍّ أو إجماع، أعني: جواز أن تبدي للأب من المحاسن الباطنة غير ما ذكروا، (أو منعه) (**)، وستأتي فيه زيادة على [ما ذكر] (¬5) في باب نظر الرجال إلى النساء إن شاء الله تعالى. ¬
(30) - مسألة: مَن بَعُد من الأب، كالجد وأبيه ما علوا، ومَن (بَعُد) (*) من الأبناء كالحفيد وابنه ما سفلوا، بمثابة الآباء والأبناء المباشرين في جواز إبداء الزينة المشتركة، (والثابت) (¬1) من الخبر المذكور لهذا، وقد (يتخالج) (¬2) الشك فيما وراء ذلك؛ فإنا لو أجزنا لها مثلًا إبداء بطنها للأب (والابن) (¬3) لم نكن على يقين، ولا ظن غالب عن جواز إبدائها ذلك لأب أب الأب، أو لابن ابن الابن، وهذه أمور محتملة. وإنما نبهتُ عليها ليُنتَبه فيها لِمَا لا بد للإِقرار به، وهو أن مضمّن الآية إنما هو إبداء المشترك، وأن مَن أجازت الآية التبسُّط بحضرتهم والتكشُّف لهم ليسوا سواء، فإنا لا نشك في أن ابن بعلها من غيرها ليس كابنها، وأن أبا بعلها ليس كأبيها، وأن إخوتها وبنيهم ليسوا كأبيها وابنها، ولا كابن بعلها وأبيه. هذا مما لا يختلف فيه كل مَن رأيته عرض للآية بتفسير، أو أجال فيها نظرًا. وكذلك أيضًا الأعضاء؛ فليس ما (تحت) (¬4) السرة إلى الركبة كالقدمين، وهذا أيضًا بَيِّنٌ. (31) - مسألة: أبو البعل منصوص على جواز إبداء المشترك له، ولكن جده وجد جده ما علوا، هل يجوز لها أيضًا ابداء ذلك لهذا؟. هذا موضع محتمل: والأظهر فيه عندي المنع، بما ثبت من أمرها بإدناء الجلباب، ونهيها عن الإِبداء إلا لمن ذكر في الآية، وليس جد البعل فيها، فإن الأب (يطلق) (¬5) حقيقة على أبيه المباشر، (ومجازًا) (¬6) على مَن فوقه، وليس يصلح أن يحمل ¬
اللفظ على معناه الحقيقي ومعناه المجازي بإطلاقه عليهما مرة واحدة، فيجب لذلك قصر اللفظ على أبي البعل المباشر. فإن قيل: قد تضمَّنت الآية بكل حال جواز التبسُّط والإنكشاف بحضرة الحمو: أبو (البعل) (¬1)، أو عفي لهما عمَّا يقع من ذلك بحكم ضرورة التصرف؛ فكيف يقول النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث عقبة بن عامر: 123 - "إياكم والدخول على النساء"، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أرأيت الحمو (¬2)؟ قال: "الحمو الموت" (¬3). قال: أليس الحمو يصدق على أبي البعل صدقه على أخيه في اللغة، فنرى إذن أبا البعل (قد رمَى) (*) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في التحذير منه بقوله: "الحمو الموت؟ ". ¬
فالجواب: أن نقول: ليس في الحديث لمنع إبداء الزينة ذكر، وإنما فيه منع الخلو بها، ولا أيضًا في الآية للخلو بها ذكر، وإنما (فيها) (¬1) إباحة الإبداء، فلا (نرى لهما تواردًا) (*) على شيء يتعارصْان بالنسبة إليه أصلًا، والله أعلم. (32) - مسألة: كلّ مَن جرى في الآية ذكرهم منقسمون أقسامًا: فمتهم مَن هو ذو رحم وذو محرم؛ كالأب (والابن) (¬2) والأخ وابنه وابن الأخت، ومنهم مَنْ هو ذو محرم، وليس ذا رحم؛ كأبي البعل وابنه، ومنهم مق هو غير ذلك رحم وغير ذي محرم؛ كالزوج ومَن لا أرب له في النساء، وإن اختلفا فى الحكم بسبب عُلْقة الزواج، وليس في الآية القسم الرابع، وهو (من) (¬3) يكون منها ذا رحم، وليس بمحرم. كمَن يزوج لها مَن تتزوج به من قرابتها، كابن عمها وابن عمتها، وابن خالها وابن خالتها، ومَن في معناهما، أو في معناهم؛ ما حكمهم بالنسبة إلى ما نحن فيه؟. الأمر [في] (¬4) ذلك بَيّن: أنهم كالأجانب؛ وهذا لا أعرف فيه خلافًا، ولهم منها ولها منهم بحكم الرحم والقرابة أحكام ليست بينها وبين الأجانب في مواضع كثيرة. وكذلك أيضًا: ليس في الآية ذكر لمَن ليس بينها وبينه رحم، وهو محرَّم عليها، وهو القسم الثاني ممن تضمنت الآية بعضه؛ فإنها تضمنت من هذه صفته، وأبا البعل، وابنَه، وبقي زوج ابنتها، وزوج أمها؛ وزوج أختها، وولد مستولدها، وأبوه وأخوه، ومَن في معناهم، هل يجوز لها البُدُوّ أو يمتنع؟ هو ¬
موضع نظر، والأظهر فيه: المنع من مطلق {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} معناه: لأحد من الخلق، إلا من ذكر، وما ذكر. وروي عن مالك: أنه سُئل: أتضع أم امرأة الرجل عنده -وهي قاعدة (¬1) - جلبابها؟ قال: لا بأس بذلك. قال ابن رشد بعده كلامًا ما معناه: أنه ذو (محرم) (¬2) ممَّن ذكر في الآية. والأظهر عندي: المنع، ويمكن في بعضهم تعلق ضعيف، وهو أبو السيد وابنه، وذلك بأن نقول: البعل قد يقاس على السيد من قولهم: مَن بعل هذه الناقة؟ أي: ربها، وقد قال: {أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31]؛ فهذا (للسيد) (*) كما هو للزوج. وضعف هذا التعلق من جهة أن اللفظ كاد يكون حينئذ مشتركًا، فلا يكون استعماله إلا على البدل، وقد أجمع على أن الزوج مراد بالآية؛ فلا يصح إرادة السيد بها، إلا لو صلح تعميمه، فاعلمه. ¬
(33) - مسألة: روي عن مالك -رَحِمَهُ اللهُ-: أنه قال: لا بأس أن يسافر الرجل بأخته من الرضاع. (فوجب) (¬1) النظر في جواز بدوَ المرأة لمن بينها وبينه رضاع، فنقول: كل مَن له بالرضاع من القعود مثل ما لمن ذكر في الآية من ذوي المحارم، فيكون لها من جواز البُدوّ والإِبْداء لهم، مثل ما لها بالنسبة إلى ذوي محارمها المذكورين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: 124 - "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" (¬2). مفهومه من حيث دلالة الخطاب: أنه يحلّ بالرضاع ما يحلّ بالنسب، ولكن إن أبى ذلك من (يمنعون) (¬3) القول بالمفهوم، أمكن عضده بقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: 125 - "إنه عمُّك (فليلج) (¬4) عليك". وكان هذا عمًّا من الرضاع. ويجب هاهنا أن يعرف أن العمَّ من الرضاعة، يُتَصَوَّر على تسعة أوجه: الأول منها: أن يكون لأبي بكر - رضي الله عنه - أخ قد رضع معه من أمه: أم الخير، ¬
لبنَ أبيه: أبي قحافة، فهدا أخ شقيق من الرضاعة لأبي بكر، فيكون لعائشة عمًّا؛ شقيق أبيها. والثاني: أن يكون هذا الراضع إنما رضع امرأة أخرى لأبي قحافة من لبنه، ليست أمًّا للصديق - رضي الله عنه - فهدا يكون أخًا لأبي بكر لأبيه، فيكون لعائشة عمًّا؛ أخا أمها للأب. الثالث: أن يكون الصديق وهذا الذي رضع معه إنما رضعا جميعًا امرأة دَرَّ لها لبَنٌ ولا زوج لها ولا سيد، فيكونا بذلك أخوين لأم، فهدا يكون لعائشة عمًّا أخا أبيها للأم. والرابع: هذه الصورة بعينها؛ أعني: أن يرضع الصبيان امرأة دَرَّ لَها لبَنٌ، ثم يرضع صبي من امرأة أحدهما، فيكون زوجها له أبًا، وأخوه الراضع معه له عمًّا: أخا أبيه من الرضاعة، والفرق بين هذه وبين التي قبلها: أن في التي قبلها: الأب بالنسب، وأخوه أخ بالرضاع لأم، وهاهنا: الأب أب بالرضاع، وأخوه أخ بالرضاع لأهم. والخامس: أن تكون عائشة - رضي الله عنها - رضعت امرأة لها زوج، فصار لها أبًا، وكذلك الأب أخ شقيق بالنسب. والسادس: أن يكون له أخ لأب بالنسب. والسابع: أن يكون له أخ لأم والده. والثامن: أن يكون له أخ شقيق بالرضاع. والتاسع: أن يكون له أخ بالرضاع، وقد تقدَّم ذكر أخ لأم بالرضاع، وهو الذي جعلناه الرابع. وبقي ثلاثة إخوة تتمة اثني عشر لا يصحُّ ذكرهم في هذا الباب، لأنهم لا يكونون أعمامًا بالرضاع.
وتلخيص هذا: أن الأب قسمان: أبٌ والد، وأبٌ بالرضاع، فيتصوَّر لكلِّ واحد منهما ستة إخوة ة ثلاثة بالنسب، ومثلهم بالرضاع، فذلك اثنا عشر، فيسقط في هذا الباب ذكر ثلاثة: الإخوة بالنسب للأب الوالد، وهم إخوة شقيقه من والده ووالدته، يبقى تسعة كما ذكرناة فإذا قلنا برضاع لبن الفحل وأنه يحرم؛ حرمت هذه الصور وجاز دخول كل (عم) (*) لإِطلاق قوله: "إنه (عمُّك) "، ولم يفصِّل، وقد تمكَّن العمومة بكلِّ واحد واحد من هذه الوجوه. فإن قلت: وما الذي كان الواقع في الوجود في قصة عائشة من هذه الصور؟ إذ لا يمكن أن يقع في الوجود منها إلا صورة واحدة. قلنا: عائشة - رضي الله عنها - رضعت لبن امرأة أبي القُعَيْس (¬1)، يمكن أن يكون له ستة إخوة: شقيق من وَالِدَيْه، أو لأب من والده، أو لأم من والدته، وشقيق من مرضعته، أو لأب من مرضعته، أو لأم كذلك، فالواقع في الوجود إحدى هذه الصور الست، والله أعلم بها. 126 - قال مسلم بن الحجاج: ني حرملة بن يحيى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: ني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أخبرته: أنه [لما]، (¬2) جاء أفلح أخو أبي القُعَيْس (يستأذن) (¬3) عليها بعدما نزل الحجاب - وكان أبو القعيس أبا عائشة من الرضاعة- قالت عائشة: فقلت: والله لا آذن لأفلح حتى أستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن أبا القعيس ليس هو (أرضعني) (¬4)، ولكن أرضعتني ¬
امرأته، قالت: فلمَّا دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قلت) (¬1): يا رسول الله! إن أفلح أخا أبي القعيس جاءني يستأذن علي، فكرهت أن آذن له حتى أستأذنك، قالت: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ائذني له" (¬2). قال عروة: فبذلك عائشة كانت تقول: "حرِّموا من الرضاعة ما تحرِّمون من النسب". وقد يدلُّ أيضًا على مقصود هذا الباب: 127 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "انظرن مَن إخوانكن؛ فإنما الرضاعة من المجاعة" (¬3). فإنه نبّه على أن الرضاع إذا كان في وقته ينزل منزلة النسب في كل شيء. والمتقرر من هذا هو أن المرضعين مع المرأة أو مع ابنها، ممَّن يجوز لها إبداء زينتها لهم بلا شك. وهذا لا خلاف فيه، وإنما الخلاف عند التفصيل. قال أبو الوليد بن رشد لما ذكر (الرواية) (¬4) عن مالك بما تقدم من جواز سفر الرجل مع أخته من الرضاع: "لا اختلاف أعلمه في أن ذوي المحارم من الرضاع، كذوي المحارم (من) (¬5) النسب في جميع الأحكام، إذا كان التحريم من قبل الأم المرضعة، ولم يكن من قبل الفحل [الذي اللبن منه؛ للاختلاف الذي جاء] (¬6) في لبن الفحل" هذا نص قوله، فاعلمه، والله الموفق. ¬
(34) - مسألة: هل يجوز إبداء زينتها لعبدها ملكِ يمينها أم لا؟. هذا موضع خلاف، ونعني بذلك ما زاد على القدر الذي يجوز لها إبداؤه لكلِّ أحد؛ فروي عن عبد الله بن عباس: "لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته" (¬1). وروي عنه إجازة بدوّها له، وهو الظّاهر من مذهب أُم سلمة وعائشة. ونصَّ أبو حامد الإسفراييني (¬2) فيه على قولين (¬3): أحدهما: أنه لها ذو محرم، فيخلو بها ويسافر معها، وينظر إلى شعرها وغيره من بدنها (¬4) ة قال: وهو ظاهر قول الشافعي، وسواء كان وَغْدًا (¬5) على ظاهر مذهبهم، أو غير وَغدٍ. وذهب بعض المحدثين إلى اشتراط أن يكون وغدًا وهو مذهب مالك (¬6). ومغزاه: ألاّ يكون مَنظرانيًّا، بحيث يكون عِلقُ نفسها به قريب الإِمكان. ¬
وذهب آخرون: إلى أنها لا يجوز لها ذلك (¬1) "قال أبو حامد الإسفراييني: وهو الصحيح عند أصحابنا: أنه ليس بمحرم لها، ورجح ابن القصار (¬2) هذا القول، وأن المراد بقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}: الأطفال من العبيد؛ وهو عندي ضعيف غير راجح ولا معادل، لأن الأطفال قد ذكروا ذِكرًا يخصهم، وهو يشمل الأحرار والعبيد منهم. وذهب آخرون: إلى أنه أيضًا لا يجوز، وأن الآية إنما أُريد بها الإِماء. كان سعيد بن المسيب يقول: لا تغرنكم هذه الآية، إنما يُعنى بها الإِماء، ولم يُعْنَ بها العبيد (¬3)، يعني قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}، وهذا قول الشافعي وعطاء ومجاهد، والى مثله ذهب ابن عبد الحكم، وذلك أن المكاتب عنده عبد، كما هو عند أصحابه المالكيين؛ فقال: إن المكاتب لا يجوز له أن يرى شعر سيدته وإن كان وَغدًا. وظاهر هذا من مذهبه: أنه لا يجوز لها البدوّ له، لأنه متى كان النظر حرامًا، كان البُدُوّ حرامًا، على ما سنبين بعد إن شاء الله تعالى. وقول هؤلاء [لا] (¬4) يستضعف بما استضعف به الذي قبله؛ لأن النساء قد ذكرت ذكرًا مخصوصًا، وذكرهن يشمل الحرائر والإِماء، فلا معنى للآية على تعسُّف التكرار. ¬
والحق في هذا عندي: هو أنَّ العبد معنيٌ [في] (¬1) الآية؛ يجوز لها إبداء المرأة له ما تبديه لجميع (من) (¬2) ذكر فيها، وهو اختيار إسماعيل القاضي، واستدل بأمرين: أحدهما: أنه منها محرم، أي: لا يحل له زواجها، وهذا ضعيف، فإنه قد يعتق فتحلُّ له، وأيضًا فلا دليل على جواز النظر والبدوّ لكل مَن لا يحل له النكاح. والثاني: قوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ...} [النور: 58]، فأجرى ما ملكت أيمانهم مجرى الذين لم يبلغوا الحلم منهم، وأُمروا بالاستئذان؛ لأن الناس في تلك الأوقات الثلاثة (ينبسطون) (¬3) ولا يكونون من التّستّر فيها كما يكونون في غيرها، وهذا أيضًا ضعيف؛ فإنه إن ساوى المملوك [على] (¬4) الأقل في أن لا يرى العورة، فما يلزم مساواته (له) (¬5) في جواز البدوِّ، ولكن مع ضعف استدلاله، فالذي أختاره مختار، والمعتمد فيه: ظاهر قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31]، أو يقيد كما قلنا: أن يريد بها الأطفال؛ فإنهم قد ذكروا، والإِماءة فإنهن (¬6) قد ذكرن في جملة النساء. ويعضده من السنّة: حديثه أم سلمة، ذكره الترمذي (¬7) بغير نصِّه، ¬
فأخرنا ذكره إلى موضع آخر، وذكره إسماعيل القاضي بنصِّه، يتبين (منه) (¬1) هذا المقصود الذي نحن بصدده. 128 - قال إسماعيل: حدثنا إسماعيل بن أبي [كثير] (¬2)، نا أبي، عن ابن شهاب، عن نبهان مولى أم سلمة: أنه قال: بَيْنَا هو يسير معها بطريق مكة، وقد بقي عليه من كتابته ألفا درهم، قالت: هما عندك؟ قلت: نعم، قالت. فادفع ما بقي مِنْ كتابتك إلى محمد بن عبد الله بن أبي أمية -يعني: ابنَ أخيها عبد الله بن أبي أمية- فإني قد أعنتُه بها في نكاحه، وعليك السلام، ثم ألقتْ دوني الحجاب، قال: فبكيت، ثم قلت: والله لا أعطيها إياه أبدًا، قالت: إنك والله يا بني لن تراني أبدًا، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلينا أنه "إذا كان عند مكاتب إحداكن وفاءٌ بما بقي من كتابته (¬3)، فاضربْن دونه الحجاب". ¬
ففي هذا الحديث بيان أن العبد لا يراها (إذا كان عليه وفاء) (¬1)، إنما ذلك فيه من حيث دليل خطابه، قال: "إذا كان عند مكاتب إحداكن وفاء"، دلَّ على أنَّه إذا لم يكن كذلك لا يحجب. قلنا: ذلك ليس من دليل خطابه، بل من المنطوق به، وذلك أن قوله -عَلَيْهِ السَّلَامْ-: "اضرب دونه الحجاب" لا يصح أن يقال إلا في مَن كان غير محجوب، فلو كان مَن لا وفاء عنده محجوبًا، كما يقدر مَن يبطل دليل الخطاب ما صح أن يقال: "إذا كان عنده وفاء فاحجبوه"، وإنما يقال ذلك فيمن كان غير محجوب. ويضاف إلى هذا فهم أم سلمة -رضي الله عنها-، فإنها كانت مبدية له إلى أن علمت بأن عنده وفاء بما عليه، فهي ببدوّها له حاملة لقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَاتْ أَيْمَنُهُنَّ} [النور: 31] على العبيد، إلا أنها أخبرت بمخصص عندها ورد على ذلك المطلق فقيَّده، وهو قوله: "إذا كان عند مكاتب إحداكن وفاء فلتحتجب منه" (¬2)، أقام وجدان الوفاء بما عليه مقام الأداء، فرتّب عليه وجوب الإحتجاب عنه. ويتأكَّد هذا بما علمناه من أن أم سلمة -رضي الله عنها- مستندة في هذا المعنى متحرجة فيه، حتى لقد أنكرت على عائشة دخول الغلام الأيفع عليها، مع أنها تتلو قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَوِ الْطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ الْنِّسَاءِ} [النور: 31]، وسنبين معنى إنكارها ذلك وما دار بينها وبين عائشة فيه إن شاء الله تعالى، إذا ذكرنا بدوّ المرأة للأطفال. وقد كانت -رضي الله عنها- قيل لها ولميمونة: "أفعمياوان أنتما؟! " (¬3)، ¬
في حق ابن [أم] (¬1) مكتوم الأعمى، فلا نظنها إلا أنها فهمت فهمًا صحيحًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نقلت إلينا بفعلها وقولها، من جواز البدو للعبد، والله الموفق. فإن قيل: فلِمَ لَمْ تستدلَّ بهذا المعنى بحديث فاطمة المتقدم الذكر، حين قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا بأس عليك إنما هو أبوك وغلامك" (¬2)، وكان رآها ¬
تَجَشَّم مشقة التستُّر من العبد الذي وهبه لها، [دلَّ] (*) ذلك على جواز بدُوّها لعبدها بما تبديه لأبيها. قلنا: لم يصحَّ من لفظ الخبر أدن هذا العبد مدرك، فلعله طفل، وعلى ذلك لفظ الغلام، إلا أن يتجوز به. فإن قيل: لو كان طفلًا، لم يعلل الإِباحة بالملك والأبوة، ولعلل بالأبوة والطفولة، فكان يقول: لا بأس عليك، إنما هو أبوك وطفل صغير. قلنا: بل ما علل إلا بالأبوة والطفولة: وذلك أنَّه قال: أبوك وغلامك: فالغلام حقيقة: هو الطفل، ولكنه أضافه إليها إضافة الملك، كأنه قال: لا بأس عليك إنما هو أبوك والطفل المملوك لك. فإن قيل: فلمَ لَمْ تستدلَّ له بحديثا: 129 - بزيع أبي عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سفر المرأة مع عبدها ضيعة" (¬1). ¬
قال البزار: نا الحسن بن عرفة، نا إسماعيل بن عباس، قال: حدثنا بزيع أبو عبد الله ... فذكره. وقد رواه أيضًا عبد الرحمن [بن أبي] (¬1) حاتم عن الحسن بن عرفة بإسناده مثله. قال أبو ذر الهروي (¬2): حدثنا محمد بن حنبل البسري (¬3) أبو جعفر الخطيب، نا عبد الوحمن بن أبي حاتها، فذكره، وذلك أنه يفهم منه جواز بدوِّها له في غير السفر، نعم، وفي السفر، ولكنه قد لا يقوم بما ينبغي من حقِّها، فتضيع. قلنا في الجواب: هذا حديث لم يصحَّ، لأن بزيعًا أبا عبد إلفه، هو بزيع بن عبد الرحمن (¬4)، ولا يُعرف هذا الحديث إلا من طريقه، ولا يُعرف رواه عنه إلا إسماعيل بن عياش، قاله البزار .. وقال أبو حاتها: إن حديثه ضعيف، وهو كما قال، وحتى لو صحَّ ما كانتا فيه حجة، لاحتمال أن يكون معناه: أن السفر لِمَسْغَبَة تُحوجها إلى ترك ما عليها من التستر منه، أو إلى التقصير في ذلك، فتضيِّع الواجب عليها، واذا احتمل لم تقم به حجة. ¬
وأما اعتبار مالك -رَحِمَهُ اللهُ- في هذه المسألة: أن يكون العبد وَغدًا، فإنه (مستقرأ) (¬1) من متقرر العادات، فإن ميل النفوس إلى ذي المنظر أكثر، فإن منظره محرك، فلذلك رأى أن لا تبدو له إذا كان له المنظر، لئلا يتفق لنفسها عُلُوق، (ولا يخاف) (¬2) عليها ذلك في الذي لا (يُؤْبهُ له) (*) ممَّن لا أرب لها فيه في أغلب الأحوال، كأنه -رَحِمَهُ اللهُ- خصص الآية بما فهم من مقاصد الشرع، في مصادره وموارده. والأظهر: الإستمساك بظاهر الآية (¬3) عمومًا، وعليها أن تعبد الله كأنها تراه: فإن لم تكن تراه فإنه يراها. فإن قيل: فما معنى أمره تعالى بالاستئذان في قوله -عَزَّ وَجَلَّ- {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور: 58]، أليس هذا دليلًا على أن العبد يحذر منه أن يراها؟ فإذًا لا تبدو له (ولذلك أمر) (**) بالإستئذان. قلنا: أما أنه ينبغي له أن يحذر رؤية العورات، ويحذر منه أن يراها، فنعم، فلقد حذر ذلك من الصبي الَّذي لم يبلغ الحلم، واستوى في هذه سيده وسيدته؛ فالآية في الحقيقة أدل على ما قررناه على نقيضه، والله أعلم. (35) - مسألة: إذا ثبت جواز يدو المرأة لعبدها، إنما تبدو له ولمن ذكر في الآية، وجب النظر فيما إذا كانت لا زوج لها، والعبد وَغد، كما تقدم، أما إذا كان مَنْظَرَانِيًّا، فالأمر أشد عند مالك منه فيما إذا كانت ذا زوج، وأولى ¬
بالإمتناع. لكن إذا جاز لها البدو للوغد حين يكون لها زوج، فهل يجوز لها البدو له حين تكون أيّمًا؟. رأى (¬1) أبو الحسن اللخمي (¬2): أن لا تبدو له. وهذا الذي قاله خارج خروجًا صحيحًا على مذهب مالك، فإنه إذا كان المراعى والمعتبر في جواز البدو وامتناعه قوة انبعاث شهوتها عند النظر وضعفه، فبلا شك أن انبعاث شهوتها، إذا رأت عبدها الوغد -وهي قد طال عهدها واشتدت غِلْمتُها- أقوى وأشد من انبعاث شهوتها إذا رأت المنظراني وهي ذات زوج، مستغنية به عن مخالطة الريبة. ولقد يُعتبر نظرها إلى (الوغد) (¬3) إذا كانت لا زوج لها، وهي بعيدة العهد من الجماع، مشتدة الغُلْمة، فكيف إلى عبدها الذي لها عليه سلطان الملك، فلئن جاز لها البدو لعبدها الوغد حين تكون ذات زوج، فلا ينبغي أن يجوز لها ذلك حين تكون أيّمًا، واذا امتنع عليها النظر إذا كانت لا زوج لها إلى عبدها الوغد (¬4)، فما ظنك به إذا كان مائس (¬5) الأعطاف، فتان المنظر؟! فقد تقرَّر بما ذكلرناه صحة تخريج قول اللخمي على مذهب مالك. ¬
والنظر في قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} مع هذا المتقرر يجب تكريره واعادته، فإنها عندي في غاية الإحتمال لولا حديث أم سلمة المتقدم (¬1) الذكر، والله الموفق. (36) - مسألة: أما عبد غيرها (ما عدا) (¬2) زوجها، فلا شك في امتناع بدوها له إلا على ما تبدو للأجانب الأحرار، فإن الحرَّ والعبد في المبتغى من النساء ومبتغاهن منهما واحد. فإن قمل: فما معنى ما ذكر النسائي: 130 - من طريق (جعيد) (¬3) بن عبد الرحمن: أن عبد الملك بن مروان (¬4) بن أبي الحارث بن أبي ذباب، قال: نا أبو عبد الله سالم، يعني: سبلان، قال: وكانت عائشة تستعجب بأمانته وتستأجره، فأرتني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، قال: فتمضمضت واستنثرتْ ثلاثًا، وغسلتْ وجهها ثلاثًا، ثم غسلتْ يدها اليمنى ثلاثًا، واليسرى ثلاثًا، ثم وضعت يدها في مقدم رأسها، ثم مسحت رأسها مسحة واحدة إلى مؤخرهِ، ثم مرت بيدها إلى أذنيها، ثم مرت على الخدين. قال سالم: كنت آتيها مكاتبًا [ما تختفي مني] (¬5) فتجلس بين يدي وتتحدث معي، [حتى] (¬6) جئتها ذات يوم، فقلت: ادعي [لي] (¬7) بالبركة، يا أم المؤمنين! قالت: وما ذاك؟ قلت: ¬
أعتقني الله، قالت: بارك الله لك، وأرختِ الحجاب دوني؛ فلم أرها بعد ذلك اليوم (¬1). قلنا في الجواب: هذا لم يصحَّ، فإن عبد الملك بن مروان بن الحارث بن أبي ذباب مجهول الحال، ولا يعرف روى عنه غير جعيد، وجعيد ثقة، وكلاهما مدني، فإذا لم يصحَّ كفينا مؤونته، ولو صحَّ احتمل أن يكون لها مذهب، في قوله-عَزَّ وَجَلَّ-: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31]، أنهن المماليك (¬2) لهن ولغيرهن، ولو ذهب إلى ذلك ذاهب أبعد، ولم يكن ما ذهب إليه صحيحًا، والله أعلم. ¬
(37) - مسألة: أما عبد زوجها؛ فقد أباح بعض المالكية دخوله عليها؛ ففي ضمن ذلك بدوُّها له فيما رأى. لأنه علَّل بأنها مضطرة إلى ذلك، وهو مضطر إلى خدمته والتصرُّف في حوائج سيده. وروي عن مالك -رَحِمَهُ اللهُ-: أنَّه كره ذلك وان كان وغدًا (¬1)، وقد كان بعض العلماء (مملوكه) (*) على أهله. والأظهر عندي: المنع تحريمًا، فإنه لا دليل على الإِباحة، وهو أجنبي، فلا تبدو له إلا بما تبديه للأجانب، والله أعلم. (38) - مسألة: مدبرها (¬2) في هذا كلِّه كعبدها. (39) - مسألة: عبد لها بعضه، وبعضه لغيرها: لا يجوز لها أن تبدو له، كما لا تبدو لعبد غيرها، إذ لا دليل لإباحة البدوِّ، والأصل وجوب الإستتار، بقوله -عَلَيْهِ السَّلَامْ-: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31]. (40) - مسألة: رجل لها نصفه، ونصفه حر: لا يجوز البدوُّ له، لأن نصفه أجنيي، وليس ملكًا، وقد روي عن مالك: المنع من أن يرى شعرها، ففي ضمن ذلك منع البدوِّ له. (41) - مسألة: معتقها إلى أجل عبدٌ بعدُ: ويمكن أن يقال فيه غير هذا؛ لأنه يصير إلى المعتق قطعًا، خلاف المكاتب. ¬
(42) - مسألة: مكاتبها (¬1): اختلف فيه، وقد قلنا: عن ابن عبد الحكم: أنه منع أن يرى سيدته، فأظن أن في ضمن ذلك منع أن تبدو له، ولكن لم يكن ذلك منه من أجل أنَّه مكاتب، إنما هو [عبد] (¬2)، لأن المكاتب عبد، والعبد عنده لا يجوز لسيدته أن تبدو له بدوَّها لمن ذُكر في الآية، لأن الآيةَ محمولةٌ عنده على الإِماء، فلذلك امتنع في المكاتب، فليس ينبغي أن يعد ابن عبد الحكم مانعًا من البدو للمكاتب، إنما هو مانع من البدو للعبد، والمكاتب عبد. أما إذا قلنا: إن البدو للعبد جائز (¬3)، وان العبيد في جواز بُدُوّ مولاتهم إليهم كسائر من ذكر في الآية: فهل يجوز للمكاتب أم لا؟. نقول: أما مالك -رَحِمَهُ اللهُ-: إذا حمل الآية على أنها في العبيد، فيجيء على قوله بَيّنًا جواز بدوها لمكاتبها، لأنه بعد عبدها، ما لم يؤدِّ جميع ما عليه فيعتق. وكذا ينبغي أن يكون وأي الشافعي، وكل مَن يقول: المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء (¬4). والآية تضمنت العبيد لا الإِماء، ويؤكِّد ذلك لهم من جهة المعنى تحقق حاجتهم في البدولمكاتبهن، لتحققها في البدو لمن ليس بمكاتب من العبيد والمدبرين. ¬
فأما من يقول: إن المكاتب إذا أدَّى من كتابته شيئًا عتق منه بقدره (¬1)، فينبغي بلا شك أتى يمنع بدو مولاتهم لهم، لأنهم حينئذ قد عتق من كل واحد منهم بقدر ما آدى، وبحكم بعضه حر، وبعضه محبد، في هذا حكم للحر. وهذا هو عنديَ الذي لا يثبغي أتى يقال سواه لصحة: 131 - حديث علي وابن عباس - رضي الله عنهم - من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "المكاتب يعتق منه بقدر ما أدَّى، ويُقام عليه الحدُّ بقدر ما عتق منه، ويرث بقدر ما عتق منه" (¬2). وطُرُقُه في كتاب النسائي وأبي داود والترمذي وغيرهم معروفة، وموضع ذكره كتاب المكاتب. فإن قيل: 132 - فحديث عبد الله (¬3) بن عمرو بن العاص، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه: "أيما ¬
عبد مكاتب على مئة أوقية فأداها إلا عشر أواق، فهو عبد، أو على مئة درهم فأداها إلا عشرة دراهم: فهو عبد"، يعارضه. قلنا: لم يصحَّ: فإنه منقطع (¬1) الإِسناد، ولو صحَّ أمكن القضاء عليه بالحديث المتقدِّم الذكر، لأنّه الناقل لحكم العبودية المتأصل، موضع الخوض في هذا كتاب المكاتب من كتب الفقه. ويلتحق بمن أَدَّى شيئًا من كتابته من عبده لمن عليه منها وفاءً، وان لم يؤدِّه بعد، في وجوب التستر منه، وقد ذكرنا ذهاب أم سلمة - رضي الله عنها - إلى ذلك، واعتمادها فيه ما روت، ونعيد هنا ذكره دون قصته: 133 - قال الترمذي: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن، نا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن نبهان مولى أم سلمة، عن أم سملمة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان عند مكاتب إحداكن ما يؤدِّي، فلتحتجب منه" (¬2). قال فيه: حسن صحيح. وهو نصٌّ في ذلك. ¬
(43) - مسألة: إذا كان عبدها، أو مدبرها، أو مكاتبها الذي لم يؤدِّ شيئًا، ولا وفاء عنده ممسوحًا: فالأمر في جواز بدوها لهم أبين، فإنه إذا جاز له اليدو لأحدهم وهو فحل، فهو لهم - وهم خصيان (¬1) - أجوز، وأولى بالجواز. ويعتبر فيه مع ذلك على مذهب مالك، أن لا يكون له منظر. والرواية عن مالك بذلك في كتاب [ابن] (¬2) المواز، مشترط فيها أن يكون وغدًا، والمختار عندي: التسوية. وقد تقدم ذكر ذلك. (44) - مسألة: إذا قلنا: قد تقدم أن بدوها لعبد زوجها لا يجوز لها؛ لأنه أجنبي، والآية رخصت فيما هو ملك لها؛ فهل يجوز لها أن تبدو له إذا كان ممسوحًا أم لا؟. وروي عن مالك: أنه قال: أرجو أن يكون خصيُّ زوجها خفيفًا، وكره خصيان غيره. وروي عنه أيضًا في خصي غيره: لا بأس به أن يرى شعرها إذا كان لا منظر له (¬3)، دلَّ على جواز بدوها له. والأولى أن يقال في ذلك: إن الآية نصٌّ في منع البدوِّ، لا لمن ذكر فيها، وليس هؤلاء منهم، فإنهم أجانبا، غير مملوكين، فلم يبقَ إلا أن يكون لهم أرب. وهذا أمر في الوجود خلافه، من صكحة الأرب، وتفاوت الشبق (*)، وبحسب ¬
ذلك ينبغي أن لا تبدو لهم المرأة، ولو قدرنا أن منهم من قطع الخصاء منهم معنى الفحولة، ولم يبقَ لهم أرب (¬1) في النساء، كان ذلك نافعًا له في باب نظره إليهن، إذا (استلت) (¬2) إحليله على ما يعلم من نفسه، فإن علم لها أرب امتنع عليه النظر، فإن لم يعلم لها أرب جاز، ولكن حتى جواز بدو المرأة له، لم ينتصب الخصاء لأمة ظاهرة على عدم الأرب بنصب شرعي، ولا هو أيضًا دليل وجوده، فامتنع بدوها لهم. وينجر بهذا ما ذكر قاسم بن ثابت، قال: حدثنا محمد بن عبد الله، عن سهل بن محمد، عن العتبي (¬3)، قال: كان هشام -يعني: ابن عبد الملك- أول مَن اتخذ الخصيان من بني أمية، فأقبل مسلمة بن عبد الملك ليدخل على هشام، فقام إليه فتى لهشام فدفع في صدره، وقال: لا تدخل على أمير المؤمنين بغير إذن، فلما توصَّل مسلمة إلى هشام، قال: يا أمير المؤمنين! علامَ (¬4) يجول هذا في قصرك؟! فوالله لقبلة من هذا أحبُّ إليهن من عضد منا، قال: فأخرجه هشام. والعضد: الجماع، وهو: (العود) أيضًا والعبيد. أما الخُنث (¬5) والبَرَم (¬6) والعنَّة وأشباه ذلك، فيمكن فيها ذلك. ¬
وكذلك اختلف في المُخَنَّث (¬1) اختلافًا بيّنًا، مستندًا إلى نظر يمكن اعتباره على ما سنبينه بعد إن شاء الله تعالى. وليس لكونه عبدًا أثر في الجواز، فإنه ليس لها. وقد قلنا: إن عبد زوجها أجنبي منها لا يجوز لها البدو له، فإذا زاد: أن يكون خصيًّا، ولم يكن الخصاء دليلَ عدمِ الأرب، بقي بحاله في الإمتناع، ويكون على هذا إبداؤها للخصي الحر أولى من الإمتناع، على ما نذكره الآن إن شاء الله تعالى. (45) - مسألة: الخصي الحر: روي عن مالك فيه المنع من دخوله على النساء (¬2)، قال عنه ابن المواز: وغدًا كان أو غيره، وهو صحيح، ولا أعرف الإِباحة لغيره، ولا سيما إذا كان له منظر، فلا يجوز البدو له إلا كما يجوز للأجنبي، إلا أن الخلاف فيه يمكن استقراؤه، وذلك أنه إذا قلنا: إن كل مَن يحرم عليه النظر يحرم على المرأة البدو له، ومَن يجوز له النظر يجوز للمرأة البدو له، فإنه يتخرج في (بدوها) (¬3) للخصي الحر قولان، من قولين لهم في نظره هو إلى النساء: أحدهما: الإِجازة: وهو مذهب الأكثرين من الشافعية، لأن الخصاء (*) صيره عندهم من غير أولي الإِربة، كأنهم رأوه سببًا ظاهرًا في قطع غاية الفحولة. ¬
ومنهم مَن منعه، لاحتمال [أن] (¬1) بها الشبق، وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى، وممن نص على هذا الخلاف والتعليل: الغزالي. وإن صحَّ استقراء الخلاف فيه هكذا للشافعيين، لم تعتبر الإِباحة إلا أن يكون منظرانيًّا، وان وجد فيه الإِباحة لمالكي لم يكن (بد) (¬2) عند مَن يبيح لها البدو له من اعتبار كونه غير ذي منظر، فإنهم يعتبرون ذلك (في عبدها) (¬3) الخصي؛ فكيف لا يشترطونه في الحر، هذا هو الأظهر. ولقد يمكن ألا يعتبر ذلك في الخصي كله، حرًّا كان أو عبدًا، وذلك بأن يقال: إنما يعتبر ذلك في العبد الفحل، لقوة الرجاء فيه، من أجل بقائه على خلقته، وصحة فحولته، فاحتيج في إجازة البدو له إلى اعتبار أن يكون لا (يؤبه) (¬4) له، حتى تكون النفس عن العلوق به أبعد. أما في الخصي فالسبب الذي يتوهمه مَن يبيح لها البدو له: أن وجه ذلك هو توهُّم أو تحقُّق عدم الفحولة، فما فائدة اعتبار كونه غير منظرانيٍّ أو منظرانيًّا، فاعلم ذلك، والله الموفق. وينبغي أن نذكر الآن ما قد جرت هذه المسائل إليه من عدم الأرب، فما كان ينبغي تقديم القول فيه، لولا تتابع القول فيما ملكت أيمانهن إلى هذا المنتهى، فنقول: عدم الأرب في النساء يمكن توهمه بالخنث والخصاء، فقد ذكرناه، فلنذكر الآن خمس مسائل، ثم نتبعها القول في أنه [هل] (¬5) يشترط الإتباع في قوله: {أَوِ الْتَّابِعِينَ} [النور: 31] أو لا يشترط؟. ¬
(46) - مسألة: المخنث: هل يجوز للمرأة أن تبدو له، لما يتوهم من كونه ممن لا أرب له في النساء، حتى يفتضح بقول أو فعل، فيمتنع، أو لا يجوز لها ذلك ابتداء؟. هذا مكان نظر واختلاف، فمن الناس مَن أجاز لما ذكرنا، ومنهم مَن منع، وروي عن مالك كراهة ذلك إذا كان حرًّا ولم تدع ضرورة إليه. وهذا الاشتراط عندي لا معنى له، فإن العبد والحر إذا كانا أجنبيين حكمهما واحد؛ لتساويهما فيما يريدان وُيراد منهما، وانما وقعت الرخصة في عبدها لمكان ضرورة طرقه وتصرفه وقوله، (وان لم) (¬1) تدع إليه ضرورة (فيبقى) (*) على المنع، وإلا فَمن يجيز لا يحتاج إلى اشتراط ضرورة؛ فإن الضرورة إنما يعتبر تحققها لتبيح (المحظور) (¬2)، وانظر كيف خرجت الفتوى من مالك -رَحِمَهُ اللهُ- في الخصي الحر والمخنث الحر مخرجًا واحدًا بالمنع، وفي الخصي العبد والمخنث العبد له قولان: هما منصوصان في العبد الخصي، ومخرجان في العبد المخنث، ومتى قال بالإِباحة فإنه يشترط عدم النظر. وأشياخ المذهب المالكيين مختلفون في هذه المسألة، فمنهم مَن يقول: يجوز دخول المخنث والبدوُّ له، ما لم يعرف منه أنه يفطن لمحاسن النساء؛ ومن هؤلاء: أبو الوليد الباجي (¬3)، ومنهم مَن يقول: لا يجوز دخول المخنث على النساء والبدو له، ومن هؤلاء: أبو عمر بن عبد البر (¬4). ¬
والمذهب الأول هو الذي كان ذهب إليه أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمر، ومَن كان يدخل عنده مخنث إلى أن (فضح) (¬1) هيت بما بدا من نعته للحسن فامتنع دخوله. وبقي النظر في أنه هل يحسن بتخنثه [منع] (¬2) الصنف كله فامتنع دخولهم على الإطلاق؛ [أو] (¬3) إنما يحسن [أن يمنع] (¬4) منهم مَن يُعرف أنه فطن لمحاسن النساء، فأما غيره ممن خنثه وانكساره قاتل، يجوز له أن يدخل، وللنساء أن يبدين له؟ هذا موضع نظر وفيه البحث. فممَّا يعتمده المبيحون أن يقال: 134 - روت أم سلمة: أن مخنثًا كان عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في البيت، فقال (لأخي) (¬5) أم سلمة: يا عبد الله بن أبي أمية [إن فتح الله عليكم الطائف غدًا، فإني أدلك علي بنت غيلان] (¬6)؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمانٍ (¬7)! قال: فسمعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لا يدخل هؤلاء عليكم". ¬
وفي رواية: "أخرجوهم من بيوتكم". ذ كر الأول مسلم (¬1) وهذه رواية أبي داود. 135 - وروت عائشة، قالت: كان يدخل على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - مخنث وكانوا يعدّونه من غير أولي الإِربة، قالت: فدخل [علينا] (*) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومًا وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة، قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع، واذا أدبرت أدبرت بثمانٍ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ألا لا أرى هذا يعرف ما هاهنا، لا يدخل عليكم"، قالت: فحجبوه (¬2). * وتقرير ما يؤيد هؤلاء المبيحين من هذه القصة هو أن يقال: قد كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - (يعدونه) (¬3) من غير أولي الإِربة الذين تضمنتهم الآية، فاستجزن البدو له، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك من مَنزَعِهنَّ وتركه يدخل اعتمادًا على ما بدا من تخنثه ¬
وتكسره (الموهم) (¬1) أنه بالنسبة إلى النساء (كالمرأة) (¬2) التي لا أرب لها فيهن، فلم يزل على ذلك، إلى أن فضحه لسانه بوصف (معلل) (¬3)، فتُوهمت منه الخديعة والدّلسة، فمُنع، وان كان محتملًا (أنه لم يرَ) (¬4) منعوتته بادية (¬5) بنت غيلان بن سلمة، بل تقرر ذلك عنده بوصف واصفة، أو واصفات، فكان هذا حكم يتوهم فيه أنه يفطن لمحاسن النساء، ويُخاف منه الفتنة. والأول حكم مَن لم يفتضح بقول ولا فعل، بل بقي على ما دلَّ عليه ظاهر تخنثه، فيكون على هذا قوله: "ألَا لَا أرى هذا يعرف ما هاهنا، لا يدخلن هؤلاء عليكم" أي: هؤلاء الذين هم بهذه الصفة. وممَّا يعتمده المانعون: أن يقال: "ألا لا أرى هذا يعرف ما هاهنا، لا يدخلن هؤلاء عليكلم " إشارة إلى الصنف كلِّه، فهو وقع للحكم الأول الذي هو إباحة البدو والدخول، ولذلك أعرض عن النساء فلم يخاطبهن، ولم يعتبر بعد ما عندهن، بل قال للرجال: "ألا لا يدخل هؤلاء عليكم"، ولم يقل: عليكنَّ. ومن رواه: "عليكن" (¬6)، لم يفهم هذا المعنى، فرده مصلحًا بزعمه، وليس بشيء، بل الصواب: "عليكم" كلما كان، يدل عليه قولها في الخبر قالت: فحجبوه، ولم تقل: فحجبنه. ¬
وممَّا يؤيد هذا: أن غير المخنث قد أخرج (وأسبل فيه) (*) هذا الأمر، وهم لم يبدُ منهم ما بدا من هذا. 136 - قال أبو داود: "حدثنا مسلم بن إبراهيم، نا هشام، عن يحيى، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن المخنثين من الرجال، والمترجلات (¬1) من النساء، وقال: "أخرجوهم من بيوتكم، وأخرجوا فلانًا وفلانًا؛ يعني: المخنثين" (¬2). فهذا أدلُّ دليل على أنه إنما عنى بذلك الصنف كله، فإنه لعنه بإطلاق، ثم حكم فيهم بالإِخراج، دلَّ على إعراضه عن الحكم الأول الذي هو إباحة الدخول. ويمكن أن يكون قوله: "أخرجوه من بيوتكم" عائدًا إلى الصنفين: المخنثين والمترجلات، أمر الرجال بإخراج الجميع. 137 - قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أخرجوا المخنثين" دون "المترجلات" (¬3). وكأن معمر اختصره، وهشام جاء به على الكمال. ¬
138 - وروى أيضًا عبد الرزاق: عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة قال: "أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل من المخنثين، فأخرج من المدينة، وأمر أبو بكر برجل منهم، فأخرج أيضًا" (¬1)، فهذا مرسل (¬2)، وفيه: أن أبا بكر أيضًا أخرج كما أخرج عمر، فهذان المخرجان هما المشار إليهما -والله أعلم - في رواية هشام (¬3)، عن يحيى (¬4)؛ حيث قال: "وأخرجوا فلانًا وفلانًا". قال معمر: عن أبي الزناد: لما أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النساء أن يحتجبن من المخنثين (هذا متدارحان) (*) وهذا كله دليل على أنه قد نسخ الحكم الأول. ¬
وللمحجيزين أن يقولوا: قد تقرر من الأحاديث جواز دخول المخنثين، واحتمل ما جاء بعده من الحكم أن يختص بمن يفطن لمحاسن النساء، أو يظن به ذلك، واحتمل ما قلتم: من رفع الحكم الأول؛ إذ لا يصح المصير إلى النسخ مع الإحتمال. ويجمع بين الموضعين: بإبقاء الحكم الأول، وتخصيص الثاني، بمن يظن به أو يتحقق منه أنه فطِنٌ مُدلِّس، حتى يتبين خلاف ذلك. وليس في إخراج الآخرين ما يدل على عموم الحكم في حق الصنف لاحتمال أن يكون حالهما كحال هذا الذي أخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أيضًا قوله: "لعن الله المخنثين" مما يصح تعميمه، فمَن خُلِق مخنثًا، لا حيلة له في دفع ذلك، ولا هو مدلس به، ولا خادع، وإنما تتوجه اللعنة على المتصنِّعين، فليلس ذلك إذًا بقرينة دالة على تعميم الحكم في جميع الصنف، ولهم أن يعتمدوا فرقًا (قائمًا) (¬1) قاد إليه مذهبهم؛ من منع الخصيان من الدخول والبدو، وإباحة ذلك للمخنثين، أن يقولوا: إذا نصب الشرع الخِنْث في حقِّ من لم لفضحه قول أو فعل (دليلًا) (¬2) على عدم الإرب وعلامة له، وجب امحتباره والإعتماد عليه، ولم يجز منه مثل ذلك في الخصاء، فبقي على: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ...}، وليس مِمَّن ذكر في الآية الخصي، وعديم الإرب مذكور (فيها) (¬3). والمخنث قد جعله الشرع عديم الإِرب بحكم الظاهو، ويشهد للفرق بينهما الوجود، فإن مما لا شك فيه أن من المخنثين عديمي الإرب في النساء، مخلوقين كأنهم نساء، ولا نعلم خصيًّا عديم الإرب غير ثابت الشبق، وإن علم ¬
أحدهم ذلك من نفسه نفعه فيما بينه وبين الله تعالى حين ينظر، ولم يجز للمرأة معاملته بحسب ما يدَّعي من ذلك. وإن كان في المخنثين متصنِّعون مدلِّسون؛ فإن حكمهم إذا عثر عليهم حكم الرجال الفحول، مع التنكيل على الدّلْسة بالنفي والكف. والمسألة عندي محتملة جدًّا، ونظر هؤلاء أقرب إلى الترجيح، ولم يصحَّ: 139 - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدخل بيتًا فيه مخنث؛ فإنه مرسل ذكره ابن أبي شيبة (¬1)، عن وكيع، عن إسرائيل، عن الوليد بن العيزار، عن عكرمة، عنه، فاعلم ذلك، وبالله التوفيق. (47) - مسألة: الشيخ الفاني: هل يجوز لها أن تبدو له وتبدي؟. فيبنى هذا -والله أعلم- على تحقق عدم الإِرب منه، والهرم المقيد كافٍ في ذلك، بل هو أدل على عدم الإرب من المخنث، الذي تمكن الخديعة به، ولهم في نظره قولان (¬2): أحدهما: المنع: نظرًا إلى ظاهر الفحولة، وحسمًا للباب. والآخر: الإجازة: اعتمادًا على العادة في قطع الكبر المقيد الشهوات. فيتخرج الخلاف في جواز البدو والإبداء بالأحرى والأولى، فإنه إذا كان الخلاف في جواز النظر، كان في هذا أبَين، لأن النظر يمكن أن يحمله من الفتوى على نفسه، وما يعلم منها، وستأتي في موضعها إن شاء الله تعالى. (48) - مسألة: العنين: مثله سواء، والأظهر أنه ممَّن لا إرب له. ¬
(49) - مسألة: الأحمق والمعتوه: روي عن الحسن، وطاوس، والأوزاعي: أنهم فسروا به غير أولي الإِربة (¬1). وزعم ابن رشد (¬2) أنه مذهب مالك -رَحِمَهُ اللهُ-. وعندي: أن تفسير: {غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} بذلك ليس بصحيح، فإنه إن كان الأحمق والمعتوه لا يعقلان: فهما في عدم التكليف كالطفل، وفي متحوك شلهواتهما عندما تتحرك طباعهما كالبالغ الصحيح، إلا أنهما بلا وازع، فلا ينبغي أن تبدو لهم المرأة. فإنها موضع شهوتهما، كالفرس الأنثى مع الفحل. وأما سعيد بن جبير والشعبي ومجاهد وغيرهم، فرأوهم [من لا يفسروا] (¬3) أعني: غير أولي الإِربة. وقد قدمنا الآن صحة القول بذلك فيمن له سبب دل على نفسه: كالتخنث والهرم، أما مَن لا سبب فيه ظاهر فها نحن نذكره. (50) - مسألة: إن فرض من الرجال من لا إرب له وليس به آفة ظاهرة تدل على ذلك إلا أنه يتحقق من نفسه: وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وأما في هذا الباب الذي هو: هل يجوز للمرأة أن تبدو له؟ فيضعف ¬
القول بإباحة ذلك لها، (إذ لا) (¬1) سبب عندنا نعتمده فيه، إذ ليس بهرم ولا مجبوب (¬2)؛ أي منكسر القول والحركات، فاعلم ذلك، والله الموفق. (51) - مسألة: كلّ منَ تحقق فيه أنه ممَّن لا إرب له: هل يعتبر فيما ذكرناه من جواز البدو له (شرط) (¬3) الإتباع، أم لا يشترط؟. اختلف الناس في ذلك: فمنهم مَن يقول: لا بد أن يكون تابعًا. كالخديم والوكيل ومَن لا يبتغي إلا ما يؤكل (أو أي شيء) (¬4) يُعطاه، فجواز بدو المرأة عند هؤلاء مشروط بشرطين: أحدهما: أن لا يكون له إرب. والآخر: أن يكون تابعًا، اعتمادًا على ظاهر قوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} [النور: 31]. ومنهم مَن قال: بل هذا الوصف الواحد ملغى، ولا يدخل له في الإعتبار، وانما الاعتبار غير ذي إرب في النساء لا غير، وكأن هؤلاء اعتقدوا: أن المخنث الذي ذكرت عائشة شأنه لم يكن خديمًا ولا وكيلًا ولا متصرفًا، (وإنما) (¬5) كان يدخل [على] (¬6) النساء، وأن قوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ} لم يراع فيه. وزعم بعض من ألّف في أحكام القرآن: [أن] (¬7) من الناس مَن قال: يكفي شرط الاتباع وحده؛ وهو قول غريب، ولا بَيَّن حاكيه، فإن صح أنه ¬
مقول، فإن قائله يمكن أن يكون اعتقد في غير أولي الإِربة، أن معناه: لا غرض له إلا تتبعٌ لما يصيب من طعام ومرفق، ولم يعتقد في غير أولي الإِربة: أنه عدم الإرب في النساء، إنما اعتقد: أنه غير ذي إرب، من: الآراب في شيء من الأشَياء لا الاتباع للمرافق، أمَّا أنَّه صحيح الشهوة، أو غير صحيحها؛ فلم يعرض له، وسببه: أن يتوهم أنه معنى قول مجاهد في رواية ابن أبي نجيح عنه، حيث قال: "هو الذي يريد الطعام ولا يريد النساء" (¬1)، وقول قتادة: "هو الذي يتبعك (يصيب) (¬2) من طعامك"، ليس له في النساء حاجة. وهذا القول باطل؛ فإن المخنث المذكور الذي عدوُّوه من غير أولي الإِربة؛ إنما يحسن حين يخيل فيه أنه يشعر بما يشعر به الرجال؛ فالقول الصحيح هو الأول على ظاهر الآية، والله أعلم. (52) - مسألة: أما الطفل الذي لا يعرف المبتغى من النساء مما يجوز لها إظهار الزينة له، ولا يجب عليها التستر مما عدا العورة مثه، أما العورة فقد أمرنا بسكتوها عن الأبصار، وقيل لنا: إذا كان أحدكم خاليًا، فالله أحق أن يُستحيى منه من الناس (¬3)، والمرأة في ذلك كالرجل أو أشد، فإذا كانت بهذا منهية عن إبداء عورتها في الخلوة بغير ضرورة، فبحضرة صبي من باب أولى وأحرى. (53) - مسألة: من الأطفال مراهقون للبلوغ، قد فهموا محاسن النساء، وقاربوا بلوغ الشهوة، هل يجوز للمرأة من إبداء خفي زينتها لهم ما جاز لها من ذلك إلى مَن ليس مراهقًا؟ اختلف في هذا: ¬
فقال القفال (¬1) من الشافعية: ثبت الحِلُّ فلا يرتفع إلا بسبب ظاهرة وهو البلوغ، وذهب الأكثرون منهم: أنها لا يجوز لها ذلك، وهذا هو اختيار الغزالي منهم. وأراهم ينزعون بقوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31]، يقولون: فهؤلاء قد ظهروا عليها ظهورًا. أما قول القفال عندي: أظهر، لأنهم لم يروا من النساء عورات، ولا تحققوا معنى اللذة بهن (هي) (¬2) في حقه بمثابة وجهها ويديها، وكل ما يتخيله من اللذة بهن هو بمثابة ما يتخيله من رائحة المسك مَن لم يشمه قط. ومما يجب نظره في هذا الموضع: 140 - حديث أم سلمة الذي ذكره مسلم (¬3) -رَحِمَهُ اللهُ-: وهو قولها لعائشة: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع، ووالله ما تطيب نفسي أن يراني الغلام قد استغنى عن الرضاع، فقالت لها عائشة: لِمَ؟ [قد] (¬4) جاءت سهلة بنت سهيل (إلى) (¬5) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت حديثها مع سالم في رضاعة الكبير. ¬
فيقال: كيف منعت أم سلمة أن يدخل عليها الغلام الذي لم يبلغ والفطيم؛ وهي تتلو: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31]؛ وكيف لم تحتج عليها عائشة فيما منعتها من القول به، من جواز دخول الغلام الأيفع بقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}؛ الجواب عن هذا: أن نقول: إن أم سلمة - رضي الله عنها - لم تذهب إلى تحريم ذلك، ولا إلى كراهته من جهة الشرع، وإنَّما أخبرت عن استثقالها إياه بطبعها، فقالت لها عائشة: قد أجاز الشرع ذلك .. على حدِّ ما يقول الإِنسان: والله ما يخفى علي، ولا تطيب نفسي أن (أجيزه) (*) في حقِّي، فيقال له: لقد أجاز الشرع ما هو أشد من ذلك، مما يدلُّ على جوازه: وهو أن يقتصر في الوضوء على مسح [الخفين] (¬1) بدلًا من غسل الرجلين، لئلا يتكلَّف أن ينزعهما، فكيف لا يكون جائزًا أن لا ينزعهما في الصلاة، هكذا ذكرت لها عائشة الغاية في الإستدلال على جواز ذلك بقصة سالم في رضاعته من سهلة، وهو كان ذا لحية إذ ذاك: كأنها تقول: فإذا كان هذا جائزًا بالشرع، فما معنى الحزاز في القلب بعد إجازة الشرع إياه، ألا ترين أن الشرع لما أجاز لسهلة من أمر سالم ما أجاز، لم ينبغِ لها أن تستثقل ذلك، وهو بلا شك: أثقل وأشنع مما له استشنعت من دخول الغلام (الأيفع) (¬2) الذي لم يظهر بعد من النساء على عورة، والقول في رضاع الكبير ليس هذا موضعه، والله الموفق. (54) - مسألة: هل يجوز للمؤمنة أن تبدي زينتها للكافرة؟. هذا موضع نظر واختلاف بين العلماء، مبني على الإختلاف في معنى قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31]. ¬
فروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المنع من ذلك، وكتب إلى أبي عبيدة بن الجراح: بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمام مع نساء المؤمنين، فامنع من ذلك وحُلّ دونه، فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عُريَّة المسلم. قال: فعند ذلك قام أبو عبيدة فابتهل وقال: أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر لا تريد إلا أن تبيض وجهها، سوَّد الله وجهها يوم تبيضُّ الوجوه (¬1). وارتضى أبو حامد الغزالي التسوية بين المؤمنة والذمية الكافرة في جواز ظهور المرأة لهما. والأظهر عندي: المنع لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] وهذا نهي مطلق عن الإبداء، لم يخصص أحدًا من أحد، استثني من ذلك [أمران] (¬2): أحدهما: الظاهر من الزينة. والآخر: البعولة وآباؤهن، والأبناء وأبناء البعولة، والإِخوة وأبناؤهم، وبنو الأخوات، ونساء المؤمنات المخاطبات بهذا النهي، وما ملكت أيمانهن، والتابعين غير أولي الإِربة، والأطفال. ¬
فالنساء المستثنيات إن تبين فيهن أنهن عموم: المؤمنات والكافرات؛ فالجواز، (وإلا فلا) (*)، وان لم يتبين فيهن ذلك، يعني النهي عن الإِبداء لكل أحد مطلقًا كما كان، فنظرنا في قوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ}، فوجدناه يحتمل أن يكون المراد به: المسلمات، أي: نسائهن اللاتي على دينهن، ويحتمل أن يريد أعم من هذا: وهو النساء كلهن، وهو أبعدها، واللفظ نابٍ عنه. فإن كان المراد الأول، فالقول بالمنع ظاهر، وان كانت مجملة لا يتبين المراد منها فكذلك على واحد من هذه الإحتمالات، وهو الذي تشمل الآية به الكافرة بغير دليل لا يجوز (¬1)، والله أعلم. ¬
(55) - مسألة: المرأة المؤمنة هل يجوز لها أن تبدي للمرأة المؤمنة الأجنبية من جسدها ما ليس بعورة، كالصدر والعنق والبطن والظهر ومراق البطن، أم لا؟. هذا موضع خلاف أيضًا، فمن العلماء مَن يقول: يجوز أن ترى منها ما يراه الرجل من الرجل، ومنهم مَن يقول: لا يجوز، وهي عورة كلها في حق المرأة كما هي في حق الرجل، فلا يجوز لها أن تظهر لرجل ولا لامرأة، هذا مذهب القاضي أبي محمد عبد الوهاب (¬1) بن نصر المالكي في "شرح الرسالة"، وعلى هذه المسألة انبنى الخلاف في دخولهن الحمام (مستورات) (¬2) العورات، إذ لا يجوز إبداء العورة أصلًا، ومنهم مَن يقول: إنما يجوز لها أن تبدي لها، ما تبدي لذوي محارمها من الزينة ومواضعها، وذلك الوجه والكفّان والقدمان سواء كانت المنظور إليها: المبدية لذلك من نفسها حسناء مشتهاة، أو غير حسناء. فأما مَن أجاز لها من ذلك ما يجوز للرجل من الرجل، فيشبه أن يتعلق بقوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ}، فيعتقد فيه أن معناه: النساء المؤملات، على ما تقدم في المسألة التي قبلها (¬3)، فيقول: يجوز لها أن تبدي من نفسها للمرأة المؤمنة ما شاءت، ويمنع هذا عليه بأن يقال: ليس في الآية [ما يشير ¬
إلى هذا] (¬1) من قريب أو بعيد، والذي يجوز لها إبداؤه لجميعهم: الوجه والكفان والقدمان، هذا هو مذهب من قال: لا تبدي للمرأة إلا ما تبديه لذوي محارمها. ومما تعلق به أيضًا هؤلاء -أعني المجيزين- إجماع العلماء على أتى المرأة تغسل المرأة كما يغسل الرجل [الرجل] (¬2) من غير ضرورة، بخلاف غسل الرجل المرأة، وغسل المرأة الرجل وان كان الرجل ذا رحم للمغسولة، والمرأة ذات محرم (للمغسول) (¬3)، فإن هذا يشترط في (جوازه) (*) عدم غاسل للرجل، وغاسلة للمرأة. وهذا أيضًا لا حجة لهم فيه، لأن إطلاق الغسل ليس فيه إطلاق النظر، فقد يكون الغسل فوق ثوب، وأيضًا فإن غسل الميت ضرورة، بخلاف مسألة النظر والبدُوّ من غير حاجة. والأظهو عندي: هو مذهب مَن يقول: تبدي المرأة للمرأة ما تبديه لذوي محارمها، وهي ممنوعة مما زاد عليه. أما امتناع الإِبداء ما زاد (فيما) (¬4) تقور عادة من ولوع بعضهن ببعض، على ما سنبين إن شاء الله في باب النظر إليها فهي إذن بتعرضها لم (يكن) (¬5) ولوعها بها بمثابة المرأة المبدية للرجل، (فما) (¬6) يمكن أن يجرَّ إليه هوى يمتنع، لأنه كالأمرد الذي يمكن أن يجرَّه إليه ¬
أيضًا ببدوِّه، ومع ذلك لا يمنع للإِجماع على أنه لا يجب عليه ذلك، وهو معلوم مستقر، والمرأة عورة، وشياعُ الحسن في النساء أغلب، وهي بنظرها تستثير هوى، وببدوِّها للناظرين تستثير أيضًا كذلك هواها، فهي إذ انظرت نظرت فانفعلت، وليس الأمر في الغلام هكذا، فافترقا، وقد بيَّنَّا هذا فيما قبل. وأما جواز إبداء الوجه والكفين والقدمين، فمن الآية: إذ الذي هو مشترك لجميع مَن ذكر فيها يجوز لها إبداؤه، وذلك: الشعر والعنق، لمن أمرهن معلوم استقراره في كل زمان ومكان، على تزيين بعضهن بعضًا، ومشط بعضهن بعضًا. وهذا لا يرتاب فيه. وقد أسلمت عائشةَ - رضي الله عنه - أُمُّها إلى النساء فمشطنها وصنعنها (¬1) حين تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال جابر: إني أردت [امراة تقوم] (¬2) بمشطهن؛ يعني: أخواته، وقالت أم عطية: مشطن رأسها ثلاثة قرون (¬3)، تعني بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - حين ماتت، وأشباه هذا كثيرة. ¬
ولفظ الآية مطلق في النهي عن إبداء الزينة لأحد من الخلق، استثنى منها ما ظهر، وما يشترك فيه المذكورون، وزيادة الشعر والعنق، مما علم عادة من أحوالهق في كل زمان، ومعلوم أن نهيهن عن إبداء الزينة إنما هو لئلا يجوز إبداؤهن إياها، للاستحسان الجالب للهوى، المُوقِع في الفتنة، وذلك موجود فيما بينهق، فاعلمه، والله الموفق. (56) مسألة: دخولهن الحمام مستترات العورات مبنية على هذه، نذكرها هاهنا، فنقول: لا خلاف بين الأمة في منع بعضهن من النظر إلى عورة بعض، ولا في منعهن من تجريد العورات للنساء أمثالهن (كتجريدهن) (¬1) إياها للرجال، هذا ما لا نزاع فيه، فإذًا إن قدرناهن يدخلن الحمام متجرِّدات العورات، فلا يتخالج أحدًا شك في تحريم ذلك، وتحريم ترك الأزواج لهن يفعلنه، فإنه إقرار على منكر لا خلاف فيه، فإن قدرنا (¬2) منهم من تدخل متسترة العورة، ومن تدخل منكشفتها، فكذلك؛ لأنه لا فائدة في استتارها وهي ترى غيرها، أما إذا دخلق مستترات العورات باديات الأجسام: فهل هي في جواز ذلك كالرجل في جواز ذلك لهم؟ هذا موضع للعلماء فيه أربعة أقوال: - بالمنع بإطلاق (*) ويمكن أن يقبل هذا القول لما تحقق من قلة تحفظهن وابداء عوراتهن، فلو قدرنا مستترة لم نعدم، ولعله أيضًا ممن لا يجيز للمرأة النظر إلى جسم المرأة، ما عدا ما قدمنا جواز النظر إليه وإبدائه. ¬
- وقول: بالمنع، إلا لضرورة مرض أو نفاس (¬1)، أو اغتسال ممتنع في غيره لشدة برد أو غيره، فهذا مع الأول، إلا أنه استثنى حالة الضرورة. - وقول: بالكراهة فقط، وهذا يقول بجواز رؤية المرأة جسم المرأة، وبجواز إبدائها (لها) (¬2) أيضًا، ولكنه يكره مخافة ما يتوقع من الإنكشاف. - وقول: بالإِجازة، وهذا ولا بد هنا من قائلة على جواز إبداء المرأة جسمها، وجواز نظر المرأة إلى جسم المرأة مما ليسس بعورة، وكان أسد بن الفرات قد ولي القضاء بعد سنين كثيرة من ولاية أبي محرز محمد بن عبد الله بن قيس بن بيسار بن مسلم الكمات، وكان أسد أوسع منه علمًا، وأغزر فقهًا، وأبو محرز أقل (علمًا) (¬3) وأكبر إصلابة إذا حاضره، وكان يوصف من الفضل بما لا يوصف (به غيره) (¬4)، فذكر محمد بن (زرزر) (*): أن الأمير زيادة الله بن إبواهيم بن الأغلب، قال لهما يومًا: [ما] (¬5) تقولان في دخول الحمام مع (الجواري) (¬6)؟ فقال أسد: ما به بأس، هن إماؤك، ونظرك إليهن وإلى فروجهن حلال، فقال أبو محرز: أخطأ، أصلح الله الأمير، إن كان لك أن تنظر إلى عوراتهن فلا يجوز لبعضهن أن ينظرن إلى عورة بعض. والأظهر عندي في هذه المسألة: الجواز إذا قدرنا الإستتار في جميع البدن في جميعهن، والكراهة: أو المنع إذا كان الإستتار لعوراتهن فقط. ¬
وقد رُوِيت في هذا أحاديث لا تصح، نجري على عادتنا في ذكرها ونبين عللها، وقد ككْا ذكرنا الصحيح في دخول الرجال للحمام، وهو حديث (¬1) ابن عباس في أول الكتاب، فمن الأحاديث المروية في هذا: 141 - حديث عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهر الرجال والنساء عن الحمامات، ثم رخص للرجال في المئزر (¬2). ذكره الترمذي، وأبو داود، وهو حديث لا يصح: لأن في إسناده رجلًا مجهولًا، وهو: عبد الله بن شداد، لم يروِ عنه غير حماد بن سلمة، وهو شيخ من تجار واسط، ذكر ذلك البخاري في تاريخه، عن حماد بن سلمة، وقال عباس الدوري (¬3): سمعنا ابن معين يقول: عبد الله بن شداد هو من أهل واسط ¬
من التجار، وكنّاه ابن أبي حاتم (¬1): أبا الحسن، وحاله مجهولة، ولا يعرف في شيء من الروايات غير هذا الحديث، فما مثله قبل منه مثل هذا الحكم. وأما أبو عذرة الذي (يروي) (¬2) [عنه] (¬3) عبد الله بن شداد، وهذا عنه عن عائشة، فقالوا: إنه أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، كذا قال ابن أبي حاتم الرازي، ومسلم بن الحجاج وغيرهما، ولا يعرف اسمه كذلك. وكذلك حديثها (¬4) أيضًا: 142 - أن نسوة من أهل الشام دخلن عليها، فقالت: لعلكن من الكورة (¬5) التي تدخل نساؤها الحمامات؟ قلن: نعم، قالت: أما إنني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيتها؛ إلا هتكت ما بينها وبين الله تعالى" (¬6). ¬
هذا يرويه أبو المليح، عن عائشة، ولم يسمعه منها، قاله أبو داود، وقال البزار: رأيته في موضعين، عن أبي المليح، عن عائشة، وأحسبه عن أبي المليح، عن مسروق، عنها. ورواه أيضًا: 143 - معاذ بن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها، فقد هتكت سترها فيما بينها وبين الله تعالى". [رواه] (¬1) (رشدين بن سعد) (¬2)، عن زبّان بن فائد (¬3)، عن سهل بن معاذ، عن أبيه، وهؤلاء ضعفاء، ذكر الحديث المذكور: أبو أحمد بن عدي (¬4). ومن ذلك: 144 - حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما تفتح لكم أرض العجم، وستجدون فيها بيوتًا يقال لها: الحمامات، فلا يدخلنها الرجال إلا بالأزر، وامنعوها [النساء] (¬5) إلا مريضة أو نفساء". ¬
هذا لا يصح، لأنه من رواية عبد الرحمن (¬1) بن زياد بن أنعم، عن عبد الرحمن بن رافع، عن عبد الله بن عمرو، (وعبد الرحمن) بن زياد هو قاضي إفريقية، ضعيف، وأخباره عند المحدثين مشهورة، وصلاحه معروف، ومنهم من يوثقه، وليس ذلك بصواب، فإن (النكارة) (¬2) فيما يرويه بيِّنة. (وعبد الرحمن) (¬3) بن رافع مجهول الحال، وكل هذه الأحاديث ذكرها أبو داود. ومن ذلك: 145 - حديث أبي هريرة: من رواية الزهري، عن سعيد بن المسيب، عنه، ¬
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخلن الحمام إلا بمنديل، ولا تدخل المرأة بمنديل ولا بغير منديل" (¬1). يرويه معلى بن عبد الرحمن الواسطي، عن عبد الحميد بن (¬2) جعفر، عن الزهري، ومعلى لا بأس به، إلا أنه انفرد بأحاديث. قال أبو أحمد بن عدي: نا ابن منير، قال: في كردوس، قال: نا معلى، فذكره في بابه. ومن ذلك: 146 - حديث جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يُدخل حليلته الحمام، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يُدار عليها الخمر". وهذا أيضًا ضعيفا، لأنه من رواية ليث بن أبي سليم (¬3)، وهو وإن كان غير ¬
متهم في صدقه؛ سيىء الحفظ، مضطرب الروايات، وقد حدّث عنه الناس، ذكر الحديث المذكور الترمذي (¬1). ¬
من ذلك. 147 - حديث عمر بن الخطاب، قال: أيها الناس! إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يُدار عليها الخمر، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بإزار، ومَن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تدخل الحمام" (¬1). ذكره ابن سنجر بإسناد فيه ثلاثة مجاهيل. ومن ذلك: 148 - حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر! ولا يحل لامرأة أن تدخل الحمام" (¬2). وهذا أَيضًا، فإنه من رواية سالم بن عبد الأعلى (¬3)، عن نافع، عن ابن عمر، وسالم هو أبو الفيض: كوفي ضعيف، أنكروا عليه ما جاء به: ¬
149 - عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أشفق من الحاجة ربط في يده خيطًا (¬1)، قال البخاري: تركوه. وقد روي أيضًا: 150 - عن ابن عمر. من رواية محمد بن عبد الملك الأنصاري، عن سالم، عن أبيه، قال: ذكرت الحمامات عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال:، هي حرام على أمتي"، قيل: إن فيها كذا وفيها كذا وفيها، فقال: "لا يحل لامرئ منكم (أن يدخلها) (¬2) إلا بمئزر، وعلى إثاث أمتي إلا من سقم أو مرض" (¬3). ذكره أبو أحمد بن عدي، وهو نهاية في الضعف، فإن محمد بن عبد الملك (¬4) هو في عداد المتهمين بالكذب. ومن ذلك: 151 - حديث أبي أيوب الأنصاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن كان يؤمن ¬
بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم فلا (يدخلن) (¬1) الحمام". ذكره ابن سنجر أيضًا بإسنادين فيهما مجاهيل وضعفاء، وقال فيه: إن عمر بن عبد العزيز بلغه ذلك، فكتب إلى أبي بكر بن محمد بن حزم: أن يسأل عن ذلك محمد بن ثابت بن شرحبيل راويه، فكتب إليه بما قال، فكتب عمر أن يمنع النساء الحمامات، ولا يصح ذلك أصلًا. ومن ذلك: 152 - حديث أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يُدخلنّ حليلته الحمام، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر". ¬
وفي إسناده عمر بن صهبان (¬1)، وخالد بن يزيد المكي (¬2)، وهما ضعيفان، ذكره البزار (¬3) -رَحِمَهُ اللهُ-. وأحاديث هذا الباب. على كثرتها لا تصلح، وهي أكثر من أن نجمعها هنا. ومن أضعفها وأنكرها: 153 - حديث يرويه محمد بن (عبيد) (¬4) الله بن أبي رافع، عن أبيه، ¬
عن جده أبي رافع قال: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[على موضع] (¬1) فقال: "نعم موضع الحمام هذا" (فبني فيه حمام) (¬2). ومحمد بن عبيد الله هذا ضعيف، [ومن] (¬3) دونه في الإِسناد ضعيف أيضًا، ولكننا اقتصرنا على التنبيه عليه؛ لأن أبا أحمد في بابه ذكره (¬4)، وذكره الترمذي في كتاب العلل، وقال: نا مرة، عن شيخه الذي حدثه وهو عباد بن يعقوب (¬5): أنه رآه ودخله. وقال الترمذي: إنه سأل البخاري عنه، فقال: محمد بن عبيد الله بن [أبي] (¬6) رافع ذاهب الحديث. (57) - مسألة: إبداء المرأة ذلك لمن هي منها ذات محرم جائز: لقوله تعالى: {أَو نِسَائِهِنَّ} [النور: 31]؛ فإنه بحكم الظاهر، لا بد من تناوله قريبات المؤمنات، ولا تكون مع أمها أو أختها أسوأ حالًا منها مع أبيها أو ابنها، وإن كان إنما جاز لها بالآية إبداء المشترك، فما زاد عليه لا أعلم فيه خلافًا في حق ذوات محارمها. أما نظر ذوات محارمها إليه فسيأتي القول فيه في باب نظر النساء إلى النساء، إن شاء الله تعالى. ¬
(58) -[مسألة] (¬1): العُجَّز القواعد اللاتي لا يرجون نكاحًا، ما حكمهن في هذا؟: أبدأ (فأقول) (¬2) وبالله التوفيق: بَيّن أن هؤلاء لا زينة عندهن، ولو حملن حليًّا (يكون) عليهن وبالًا، فإن الحلي إنما (حُسْنُه) (*) على حسن العضو الحامل له: ففي عنق الحسناء يستحسن العقد ... وبالعكس إذا جمّل عضو عضوًا، كان الأولى به أن يستر (ما قد) (¬3) كشف. وكذلك الخضاب، ولكن مع هذا فلا بد من تعلق الشرع، والأصل فيه قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60]. فيظهر ما الثياب التي رفع عنهن في وضعها الجناح؟ وأين رفع الجناح عنهن في وضعها؟. قال قوم: عُني بالثياب: الجلباب والرداء (¬4)، هذا قول ابن عباس وابن مسعود، وفي قراءة: "من ثيابهن" (¬5) بزيادة "من": وهو قول جماعة من التابعين, قالوا: والإستعفاف بأن لا (يزلنه) (¬6) أفضل. ¬
ثم اختلف هؤلاء، أين ذلك؟: فقال بعضهم: يعني بذلك في الدار والحجرة، لا إذا خرجن (¬1)، وهذه مبالغة في حقهن، وفي حق النساء الشواب، فإنه إذا كان محل الرخصة في وضع الجلباب والرداء للقواعد [في] (*) الدار والحجرة فالشواب لا يضعن ذلك في الدار والحجرة، وهذا بعيد عن الصحة، بل المرأة في دارها وحجرتها يجوز لها من وضع ذلك ما لا يجوز إذا خرجت، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة ابنته، ووجدها غير متجلببة ولا (متخمرة) (¬2): "لا بأس عليك، إنما هو أبوك وغلامك" (¬3). وقال لفاطمة بنت قيس: "تضعين ثيابك عنده" (¬4). ومنهم مَن قال: إنما تضع ذلك عند أبيها وأخيها وابنها، وهذا أيضًا بعيد: فإنه قد جاز وضع ذلك بحضرة هؤلاء للشواب بنص آية النور، وهي قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ...} الآية [النور: 31]. هذا قول واحد في الثياب المذكورة. وقولهم: (بأنه) (¬5) الحقو، يعني: الإزار، روي ذلك عن الحسن، وهذا قول ¬
غير صحيح، فإن الآية إنما أباحت وضع ثوب يمكن مع وضعه التبرجُ بالزينة، ممن عندها زينة، لقوله: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60]، وليس الحكم هكذا، فإن الحقو إذا وضع لم يجز (إبداء) (¬1) ما كان الحقو ساترًا له (لغير) (¬2) بعل أو سيد. وقول ثالث: الثياب المذكورة هي الخمار والجلباب (¬3)، رخص لها أن تخرج دونهما وتبدو للرجال، ولكن إذا كانت من الكبر بحيث (تنبو) (¬4) عنها الأبصار وتستقذرة هذا قول ربيعة بن [أبي] (¬5) عبد الرحمن، وهذا هو الأظهر، فإن الآية إنما رخصت في وضع ثوب إن وضعته ذات زينة أمكن أن تتبرج بعد وضعه بزينتها، ولا يعدُّ تبرجًا إلا ما كان على الأجانب، فهذا أبيح للعجَّز القواعد وضعه، ولكن بأن لا يقصدن تبرُّجًا، وان كنّ غير محسّنات (¬6) نيتهن وقصدهنّ فإنه أيضًا لا يصح منهن التبرج بالزينة، لما هن به من الكبر، فقوله: {أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60] إنما ¬
معناه: أن يضعن ثيابهن التي كان يجب عليهن إدناؤها، إذ كن شواب، من الجلباب والرداء وغيرهما، في هذه الحال التي لا يتصور منهن غيرها، وهي كونهن متبرجات بزينة، لعدم الزينة عندهن بالكبر. قال بعضهم: لما كان (القواعد؛ أي) (¬1) ذوات الكبر المفرط لا مذهب للرجال فيهن، أُرحن من [عناء] التستر، (وخُفِّفَ) عنهن (قلة) التحفظ، إذ (علة) وجوبه (منعدمة) (¬2). وأما معنى القواعد، فقيل: هن اللاتي قعدن عن التصرُّف (¬3)، وقيل: اللاتي قعدن عن الولد (¬4)، وقيل: اللاتي لا يؤبه لهن، بل يستقذرن (¬5)، وهذا هو الصحيح الذي خرجت به الآية في قوله: {اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} [النور: 60] أي: قد بلغن من الكبر إلى حدٍّ قُطع رجاؤهن في رضا أحد من الخلق بهن، فاعلم ذلك، والله الموفق. (59) - مسألة: المجنونة، وإن كان الخطاب ساقطًا عنها، فإنا مطالبون بسترها ما أمكن: وكلما (تَعَرَّت) (¬6) (سُترت) (¬7) وتُفقدت، ولا تترك بادية العورة، فإن علينا إذا أمرنا بأمر أن نفعل منه مستطاعنا، وها هنا: 154 - حديث ابن مسعود، قال: "كنت جالسًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه أصحابه، إذ أقبلت امرأة عريانة، فقام إليها رجل من القوم، فألقى عليها ثوبًا وضمّها، ¬
فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعض أصحابه: أحسبها امرأته، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحسبها غيرة، إن الله تبارك وتعالى كتب الغيرة على النساء، والجهاد على الرجال، فمَن صبر (منهن) (¬1) كان لها أجر شهيد". وهو حديث يرويه (البزار) (¬2)، قال: نا يوسف بن موسى ومحمد بن عمارة بن صبيح، قالا: حدثنا عبيد (بن الصباح) (¬3) الكوفي، قال: نا كامل بن العلاء، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، فذكره. وقال: وعبيد بن الصباح ليس به بأس، وكامل بن العلاء (¬4) مشهور من أهل الكوفة، روى عنه جماعة من الكوفيين، واحتملوا حديثه، على أنه لم يشاركه في هذا الحديث غيره. انتهى كلام البزار. ¬
كامل هذا وثقه ابن معين، وعبيد بن الصباح قال فيه أبو حاتم: ضعيف، ولم يبين علة ضعفه. وقد قال البزار ما تقدم من أنه: ليس به بأس، إلا أن الحديث المذكور غير محتاج إليه في المسألة، ولا أيضًا فيه منها شيء، إلا من حيث مبادرة زوجها إلى سترها، وهذا ما لا شك في أنه لا بد منه. وكذلك أيضًا: 155 - حديث ابن عباس: أن امرأة سوداء أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: إني أصرع، واني أتكشف، فادعُ الله لي، قال: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك" قالت: أصبر، قالت: فإني أنكشف، فادعُ الله أن لا أنكشف، فدعا لها. وهو حديث صحيح ذكره مسلم (¬1)، وليس فيه تكليف، ولكنا ذكرناه لئلا يمرَّ خاطر إليه فيظن أنا أغفلنا فيه النظر. وكذلك أيضًا: 156 - حديث أبي هريرة: جاءت امرأة بها طيف، فقالت: يا رسول الله! ادعُ الله أن يشفيني، قال:، إن شئت دعوت [الله أن يشفيك] (¬2)، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك" قالت: بل أصبر ولا حساب علي. ذكره ابن أبي شيبة (¬3) وهو صحيح، وليس فيه أيضًا شيء مما نحن فيه، فاعلم ذلك. وقد فرغنا من الفصل الثاني من فصول هذا الباب، وهو فصل الإِناث، بقي الفصل الثالث. * * * ¬
فصل [في] الخنثى
فصل [في] (¬1) الخنثى (60) - مسألة: الخنثى: إما أن يكون الغالب عليه طباع الرجال، أو طباع النساء، أو مشكلًا يتحرك حركتين ويميل إلى الجهتين، ونعني به مَن له فرجان: فرج رجل، وفرج امرأة: فإن كان الغالب عليه طابع الرجال، فهو رجل يعامل النساء في البدو لهن كما يعاملهن الرجال. وإن كان الغالب عليه طباع النساء، فهو امرأة يعامل الرجال في البدو لهم كما تعاملهم المرأة. وإن كان مشكلًا، لم يبعد أن يتعين (وجوب) (¬2) التحفظ من الصنفين، ولأنني لا أعرفه منصوصًا ولا أيضًا هو عندي بالبين حكمه. وسيأتي في مسألة النظر -إن شاء الله- ذكر معاملته في نظره للصنفين، إن شاء الله بالاحتياط، وقد وجب تفقد هذا الموضع بمزيد مشاهدة بعضهم على ما أصفه، وذلك أنه يوجد منهم مَن لا يشك من يراه في أنه رجل في جميع حركاته وخلقة أعضلائه، ونبات لحيته، فما ينبغي أن يعامل النساء هذا في باب البدو له إلا كما يعامل الرجال، ولو كان في شهوته وحركته مشكلًا، فذلك ما لا يتعين به؛ لأنه عيب في حق مَن تبدو له، وإنما يعتبر ذلك في جهة حقه إذا أراد أن ينظر. وعلى هذا القياس إن كان منهم مَن لا يشكل مَن يراه في أنه امرأة، كذلك فما ينبغي أن يعامله الرجال إلا كما يعاملون النساء في النظر إليهن. وإن كانت في شهوتها وحركتها وميلها مشكلة، فإن ذلك أيضًا عيب ¬
كذلك، وهل (يُعَدُّ) (¬1) الثديان دليلًا على الأنوثة كما دلَّ نبات اللحية على الذكورة؟ فيه خلاف، ليس هذا موضع ذكره، وأما مسألة ذكره هو، فيحال فيها على ما يعلم من نفسه، وسيأتي ذكر ذلك في بابه إن شاء الله تعالى، فاعلمه، والله الموفق، وقد فرغنا الآن من الباب الثاني. * * * ¬
الباب الثالث في نظر الرجال إلى الرجال
الباب الثالث في نظر الرجال إلى الرجال
هذا جائز بلد خلاف، ما لم يكن المنظور إليه من جسد الرجال عورة، وما لم يكن المنظور إليه من جنس الرجال أمرد، ونعني به مَن لم يلتحِ بعدُ، أو غلام لم يدرك، ممّن تميل الأبصار إليهم، وتتحرَّك الطباع من بعض الناس إلى الهوى باستحسانهم، فلنرسم في الفصلين (ما) (¬1) يتعلق بهما من مسائل بعد الفراغ من مقدمة نقدمهاة وهي: (أن) (¬2) نقول: كل ما قررنا (5) (*) في الباب الذي فرغنا منه، جواز الإِبداء من النساء للرجال الأجانب وللأقارب على ما تفسر، فهل يكون النظر إليه ممّن أُبدي له جائزًا أم لا؟ وكل ما قررنا فيه أنه لا يجوز إبداؤه، وَمَن قررنا أنها لا يجوز لها البدُوّ هل يكون النظر إليه جائزًا أم لا؟. هذا موضع نظر قد يتخالج فيه الشك، من حيث نقول في بعض المواضع: النظر حرام والبدّو جائز. (فنظر) (¬3) الرجل إلى الأمرد -إذا خاف الافتتان به- نقول: حرام عليه النظر، ولم يجب قط على الأمرد التنقيب، ولا حَرُم عليه البدوّ .. ومن حيث نقول أيضًا في بعض المواضع: إنّ النظر غير حرام؛ أي: معفوّ عنه، والبدوّ حرام غير جائزة (كنظرة) (¬4) الفجأة فإنها غير حرام؛ أي: لا إثم فيها، والمنظور إليها مأمورة بالتستر. ¬
ولكن الأظهر -وهو الذي أرى عليه نظر الأكثر من الفقهاء- وهو أن كلَّ مكان جاز فيه البدو جاز النظر إليه، وكل مكان حرم [فيه] (¬1) البدو حرم [فيه] (¬2) النظر إليه، لأنا إن قلنا: إن النظر فيه حرام والبدو للناظر جائز، كان إعانةً على الإِثم، وتمكينًا من المعصية، بمنزلة مَن تناول الحرير للباس ممّن لا يجوز له لباسه، والميتة للأكل ممن لا يجوز له أكلها، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. ولأن المفهوم من الشريعة: أن كل ما جاز إبداؤه إنما جاز إذا كان الأمن، وما حرم إبداؤه إنما حرم لئلا يقع النظر إليه فيستحق ما (خيف) (¬3) [عليه] (¬4) من الفتنة. فمتى أُجيز إبداء شيء فقد أُجيز النظر إليه، ومتى حرم إبداء شيء فالذي لأجله حرم هو خوف النظر إليه. فالقول بجواز النظر إليه يناقض المنع من إبدائه، ويكون إذا قلنا: إن النظر جائز إلى ما حرم إبداؤه، كأن قد اطلعنا [على] (¬5) الحرام وأبحنا الإطلاع على ما لا يحل وإن لم يجز إبداؤه، صار بمثابة العورة التي لا يجوز النظر إليها، لوجب سترها، وهل حرم إبداؤها (إلا) (¬6) لكيلا ينظر إليها؟ فتحريم إبدائها يناقض جواز النظر إليها، هذا هو الصحيح عندي، فاعلمه، وبالله التوفيق. ولنبدأ الآن بالمسائل في هذا الباب، والله الموفق. ¬
(61) - مسألة: لا يحل (للرجل) (¬1) النظر إلى السوءتين من جنس الرجال، هذا ما لا شك ولا خلاف فيه: وحديث أبي سعيد (¬2): نصّ في ذلك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة" (¬3). وقد قدمنا (¬4) أن العورة هي السوءتان، وكل ما يُستحيى منه. ولم يصح في هذا: 157 - مرسل عمرو (¬5) مولى المطلب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لعن الناظر والمنظور إليه" (*). ¬
يرويه أبو داود (¬1): عن أبي السرح، عن ابن وهب، أنا عبد الرحمن بن سلمان، عن عمرو، فذكره .. وعبد الرحمن (¬2) هذا أدخله البخاري في الضعفاء، قال أبو حاتم فيه: مضطرب الحديث، وعمرو أيضًا يضعف، وهو مع ذلك لا حاجة إليه. ولا أيضًا: 158 - حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الناظر إلى عورة أخيه متعمدًا لا يتلاقيان في الجنة" (¬3). قال أبو أحمد بن عدي: نا أبو عروبة، قال: نا مطر بن محمد (السكري) (*)، قال: حدثنا عبد الله بن داود الواسطي، قال: حدثنا الليث بن سعد المصري، عن نافع، عن ابن عمر، فذكره. قال: ولا أعلم يرويه عن ليث غير عبد الله بن داود (¬4)، قال أبو موسى محمد بن المثنى: كان صاحب ¬
سنة، قال أبو أحمد: وهو لا بأس به، كذا قال، وفيه نظر، ولم تثبت عدالته، ولا أعرف حال مطر. (62) - مسألة: استثني من هذا قطعًا نظر الأبوين، أو (الرابة) (¬1) وإن كانت أجنبية إلى عورة الرضيع: وهذا أيضًا لا خلاف فيه، ويمكن أن يقال: إنّ ذينك الموضعين ليسا من الصغير بعورة، وهذا لا يحتاج إلى [تحقيق] (¬2) منا، للإكتفاء بالإِجماع، وموضع تحقيقه والإحتياج إليه في باب النظر من الرجال إلى النساء. (63) - مسألة: أما الأجنبي في النظر إلى ذلك من الصغير، فموضع نظر: روي عن مالك ما يوهم: أنه للأجنبي أن [ينظر إلى عورة] (¬3) ابن سبع سنين ونحو ذلك، قال ابن الجلاب (¬4): ابن خمس سنين ونحو ذلك، (وغسل) (*) الرجال الأجانب له يكون بالجواز أحرى، إلا أنه إنما يعني -والله أعلم-، حيث لا يوجد: ذو محرم، أو ذات محرم، وما يتوهَّم من ذلك لا يلزم؛ فإن إطلاق الغسل ليس فيه إطلاق النظر كما في غسل الكبير. ¬
وذهب بعض الفقهاء من الشافعيين إلى أنه ممنوع أن ينظر الأجنبي إلى عورة الصغير وإن كان ابن يومه، (وتأَوَّل) (¬1) ما لوي من تقبيل النبي - صلى الله عليه وسلم - زُبَيْبَ الحسن والحسين (¬2)، على أنه كان وراء ثوب، ومَن يذهب إلى هذا يلتزم في غسله إذا مات ما يلتزم في غسل الكبير من ستره، والخبر الذي تكلف تأويله لا يصح، فلا حاجة إلى النظر فيه. والذي صحَّ في هذا الباب ليس بنص في المقصود، وهو: 159 - حديث (أم) (¬3) قيس بنت محصن: إذ أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأجلسه في حجره، فبال على ثوبه. هذا صحيح، ولكن ليس لانكشاف ذلك منه فيه ذكر، ولا للنظر إليه. ¬
ونرى أنه لا دليل على تحريم النظر إلى ذلك من الصغير الذي لا تميل الطباع إليه، ولا تتحرَّك شهوة للاطلاع عليه، وهو جائز بحكم الأصل، ولا يتناوله قوله: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل" (¬1). فإن هذا لا يقال له: رجل، ولا ذلك منه عورة، فإنه لا يستحيي من (بدوها) (¬2)، والله أعلم. (64) - مسألة: الغلام الذي قد تميل بعض الطباع إلى استحسانه، يحرم من النظر إلى عورته [ما يحرم من النظر إلى عورة] (¬3) البالغ بالأحرى والأولى: فإنّ النظر إلى وجهه قد يفارق في بعض الأحوال النظر إلى وجه الرجل، ويلتحق بباب النظر إلى وجه المرأة، على ما سيأتي بيانه في هذا الباب إن شاء الله تعالى، فكيف بالنظر إلى العورة منه؟!. (65) - مسألة: النظر إلى مؤتزر (¬4) الغلمان المسبيين، ليعرف منهم من أنبت فيجعل في المقاتلة، ومن لم ينبت فيجعل في الذرية، جائز بحديث عطية القرظي قال: 160 - كنت من سبي قريظة، فكانوا ينظرون، فمَن أنبت الشعر قتل، ومن لم ينبت لم يقتل، فكنتُ فيمن لم ينبت. هكذا رواه سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عنه. ¬
ورواه أبو عوانة، عن عبد الملك بن عمير، قال فيه: 161 - "فكشفوا عانتي فوجدوها لم تنبت، فجعلوني في السبي". ذكرهما أبو داود (¬1). ورواه حماد بن سلمة بن عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي، قال: 162 - "لما كان يوم قريظة جَعَل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَن أنبت [فيمن] (¬2) ضُربت عنُقُه، فكنتُ فيمن لم يُنبت، فعُرضتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخلّى عني" (¬3). قال ابن أيمن: حدثنا عبد الله بن روح، نا (يزيد) (¬4) بن هارون، نا (حماد) (*) بن سلمة، فذكره. ¬
ففي رواية حماد كما ترى أن ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فارتفع النزاع ووجب المصير إليه. وينجرُّ القول من هذا إلى مسألة ليست من هذا الغرض، نفردها بالقول، وهي ما إذا ادعى رجل على صبي أنه بالغ ليلزمه غرامة مُتلَفٍ، مما يلزم ذمته، أو أرش (¬1) جناية وما أشبه ذلك، (فأنكر) (¬2) الصبى، (فعلى) (¬3) المدعي البيِّنة، فإن قامت البينة عليه من ذلك من جهة إقراره بالبلوغ قبل (تلك) (¬4) الدعوى، أو على استكماله (سنًّا) (¬5) يكون صاحبها في مستقر العادة بالغًا (بذلك) (¬6)، فإن لم تشهد بذلك بينة، فلا يحلفُ الصبي المنكِرُ؛ لأن إحلافنا إياه أنه ليس ببالغ حكم بصحة يمين صغير (لأنا إذا أحلفناه نفينا صغره) (¬7)، والصغير لا يصح يمينه .. هكذا نصَّ عليها أَهل العلم، والجارّ لذكرها ها هنا هو أن يقال: فلمَ لا يكشف عن مؤتزره ويستعلم بذلك مغيبه؟. والجواب أن نقول: هذا ما لا سبيل إليه، ولم ترد شريعة به في غير ما ذكرناه، بخلاف مسائل البيوع في دعوى العيوب، على ما نذكره بعد في باب الضرورة إن شاء الله تعالى. (66) - مسألة: هل يجوز للرجل النظر إلى فرج نفسه، من غير حاجة إلى ذلك؟: ¬
كرهه بعض الفقهاء، ولا معنى له، ولعله لم يود بالكراهة [المنع] (¬1) إلا أنه ليس من المروءة، وإلا فلا مانع من جهة الشرع، ويكاد يكون مقطوعًا به، أن ما يجوز (لمسه) (¬2) يجوز النظر إليه، فإق قيل: ولعله داخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " (لا) (¬3) ينظر الرجل إلى عورة الرجل". فالجواب أن نقول: هذا إبعاد وتعسُّف على اللفظ. والذي لا شك فيه من معناه، إنما هو نظر الرجل إلى عورة غيره من جنسه. وقوله: " .. ولا المرأة إلى عورة المرأة" (¬4) كذلك. فلو صح حديث بريدة، كَان ذلك منهيًّا عنه، وهو: 163 - حديث يرويه أبو المنيب عبيد الله بن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن: "مجلسين وملبسين، فأما المجلسان: فالجلوس بين الشمس والظل، والمجلس الآخر: أن تختبئ (¬5) في ثوب يفضي بصرك إلى عورتك، (¬6) وأما الملبسان: فأحدهما: المصلي في ثوب واحد لا يتوشح به، وأما الآخر: أن يصلي [في] (¬7) سراويل ليس عليه رداؤه". ¬
ذكر هذا الحديث أبو أحمد (¬1)، من رواية أبي ثميلة (*)، وعلي بن الحسن بن شقيق، عن أبي المنيب (¬2)، وهو مما (أنكروه) (¬3) على أبي المنيب، وقد اختلف أهل العلم فيه فوثقه قوم، وضعفه آخرون، واعتلوا عليه بأحاديث منكرة يرويها. وأيضًا فإن زيد [بن] (¬4) الحباب رواه عن أبي المنيب بإسناده، وقال فيه: 164 - "أن يحتبي في الثوب فتظهر عورته". هذا اللفظ ذكره عن زيد بن الحباب: أبو بكر بن أبي شيبة (¬5)، وهو يفرج، ¬
وهو وجه التأويل في اللفظ المتقدم، أن يكون معناه: النهي عن أن يحتبي في ثوب بحيث يفضي بصره إلى عورته، فيكون (قصده) (¬1) أن يطلع عليها مطلع، بدليل قوله في حديث زيد بن (الحباب) (¬2): "فتظهر عورته" أي: لغيره. فَأَمَّا حديث (جبار) (¬3) بن صخر، وكان بدريًّا قال: 165 - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنا نهينا أن ترى عوراتنا". فإنه من رواية أبي المنذر زهير بن محمد (¬4)، عن شرحبيل بن سعد، عنه، وزهير ضعيف يحدث بمناكير، وابن معين يوثقه، ودونه مَن لا يعرف. ورواه أيضًا: 166 - شرحبيل بن سعد، [عن] (¬5) ابن أبي الزناد (¬6)، وهو ضعيف، ولفظه: "نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نرى عوراتنا". ¬
ذكر الحديثين أيضًا: أبو أحمد بن عدي (¬1)، في باب زهير بن محمد. وعلى أنه لو صح حملناه على: نهينا أن يرى بعضنا عورة بعض. 167 - وروي عن عكرمة: أنه قال: "اختتن إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَامْ-، ختن نفسه بالفأس، فصرف بصره عن عورته" (¬2). وهذا -كما ترى-[ضعيف] (¬3) لا نقلاً ولا صحة معنى، وإنما ذكرتُه لذكرهم إياه. قال أبو الوليد بن رشد: إنما فعل ذلك تكرُّمًا؛ إذ لا حرج على الرجل في النظر إلى عورته (¬4). والله أعلم. ¬
(67) - مسألة: كما لا يجوز النظر إلى عورة المؤمن كذلك لا يجوز النظر إلى عورة الكافر، إلا أن يكون مشكوكًا في بلوغه، فينظر إلى مؤتزره: كما تقدم (¬1)، وهذا ما أعلم فيه خلافًا، وقد اشتهرت هذه القضية، حتى لربما وقع وقاء بعضهم نفسه في الحرب بالإنكشاف. والمعتمد فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل" وقد تقدم (¬2). فإن قيل: فما معنى حديث سعد بن أبي وقاص الذي ذكره مسلم، قال: 168 - كان رجل من المشركين [قد] (¬3) أحرق المسلمين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد: "ارم فداك أبي وأمي" قال: فنزعت له (¬4) بسهم ليس فيه نصل، فأصبت جنبه فسقط فانكشفت عورته، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت (¬5) نواجذه (¬6)؟. قلنا: ضحكه -عَلَيْهِ السَّلَامْ- لم يكن مما (انكشف) (¬7) منه، إنما كان سرورًا بإصابته (وإراحة) (¬8) المسلمين منه، ولا فيه أيضًا أن أحدًا منهم أتبعها نظره بعد مفاجأتها لهم، فاعلم ذلك. (68) - مسألة: كل ما قلنا: إنه لا يجوز أن ينظر إليه الرجل، أو غيره من عورة أو شخص، فإنه لا يجوز أن ينظر إلى المنطبع منه في مرآة أو ماء أو جسم صقيل: ¬
ومن ها هنا لها يجز أن يقال في الزوجين، إذا اختلفا في الإِصابة عند (العيب) (¬1) والإعتراض: ينظر (إليهما) (¬2) في المرآة، وإنما لها يجز ذلك؛ لأن [المرآة] (¬3) قد أدّت إلى الناظر من صفة المنطبع فيها، أكثر مما أدَّته المرأة الواصفة لزوجها امرأة أخرى، فقد حرّم الشرع ذلك، وهو دون هذا. 169 - روى عبد الله بن مسعود، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "لا تباشر المرأة المرأة فتصفها لزوجها كأنه ينظر إليها" (¬4). ولأنه في الحقيقة قد نظر إلى ذلك الشيء بعينه، لكن إما (بانعكاس الأشعة) (¬5) أو على وجه آخر مما قيل في سبب الإِدراك، مما ليس على الفقيه اعتباره، فاعلم ذلك. (69) - مسألة: (ما انكشف) (*) مما لا يجوز كشفه، على قسمين: ¬
أحدهما: ما انكشف لعذر أو بغير قصد ممن انكشف ذلك منه. والآخر: ما انكشف بكشف مَن وَجَب عليه ستره عاصيًا بذلك، قاصدًا للمعصية. فالقسم الأول: في تأثيم من نظر إلى ما انكشف لذلك بَيّن. فأما القسم الثاني: فهل تسقط حرمته بما هتك منه كاشفه بمعصيته، فلا يأثم الناظر إليه، أم لا تسقط، بل تبقى حرمته، وحرمة النظر إليه؟. نقول: الناظر إليه الواقع بصره عليه لا يخلو من أن يكون ذلك بقصد منه أو بغير قصد، فإن كان بغير قصد فلا إثم، وحكها نظرة الفجأة قد تقدم (¬1)، وإن كان بقصد منه أثم، وسواء في القسم الأول والثاني، لا يحل له النظر لا إلى ما كشف ولا إلى ما انكشف، والمستند: ما تقدم ذكره من وجوب غض البصر (¬2)، ولم يفرق بين حالي المكشوف والمنكشف. وحديث أبي ذر الذي ذكره الترمذي في هذا لا يصح، قال الترمذي: 170 - حدثنا قتيبة، نا ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن (أبي) (¬3) عبد الرحمن الحُبُلي، عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كشف سترًا فأدخل بصره في البيت قبل أن يؤذن له، فرأى عورة أهله، فقد أتى حدًّا لا يحل له أن يأتيه، لو أنه حين أدخل بصره استقبله ¬
رجل ففقأ عينيه ما (غيرت) (¬1) عليه، وإن مر الرجل على باب (لا ستر له) (¬2) غير مغلق، فنظر فلا خطيئة عليه إنما الخطيئة على أهل البيت" (¬3). وعلته بادية، وهي ضعف ابن لهيعة (¬4)، ولو صح احتمل أن يكون فيمن نظر فيه بغير قصد، والله أعلم. (70) - مسألة: ما عدا السوءتين قسمان، منه ما يجوز للرجل أن ينظر إليه من الرجل غير الأمرد قطعًا: وذلك مَا فوق السرة من الصدر والبطن والعنق والوجه (¬5) واليدين، وما دون الركبتين كالقدم والساق، وهذا ما لا خلاف فيه، ومما يمكن أن يكون مستند الإِجماع فيه ما [هو] (¬6) لم يزل معلوم الجواز من الإقتصار على الأُزُر في الأعمال كما تقدم من نقله للحجارة في بناء المسجد، حسبما تضمنه حديث مسور (¬7) بن ¬
مخرمة، وبجواز دخول الرجال الحمامات بالأزُر، حسبما دلَّ عليه أيضًا حديث ابن عباس (¬1)، وقد تقدم. وقد قلنا: إذا كان جائزًا الإِبداء كان جائزًا النظر إليه، لو كان النظر حرامًا والإِبداء جائزًا كان معاونة على المعصية. (71) - مسألة: ما بين الركبة والسرة مما عدا السوءتين، كالفخذ ونحوها: إن قلنا: لا يجوز إبداؤه، لم يجز النظر إليه، وإن قلنا: جائز إبداؤه، أو مكروه، فالنظر إليه كذلك، وقد تقدم ذكر حكم إبدائه في الباب الذي قبل هذا. (72) - مسألة: قد قلنا في نظر الرجل إلى عورة الرجل، وفيما إذا لم يكن المنظور إليه عورة، فلنقل الآن فيما إذا كان المنظور إليه أمرد، أي: مدركًا لم يلتحِ، أو غلامًا، أي غير مدرك، هل يجوز النظر إليه أم لا يجوز؟. هذا فيه عند الفقهاء تفصيل، وذلك: أنه يحرم في موطنٍ بالإِجماع، ويجوز في موطنٍ بالإِجماع، ويختلف فيه في موطن. فالأول: هو أن يقصد بالنظر إليه التلذذ وإمتاع حاسة البصر بمحاسنه، بحيث يكون متعرِّضًا لجلب الهوى، وولوع النفس الموقع له في الإفتتان، هذا (مما) (¬2) لا خلاف في تحريم النظر إليه [بل يحرم بالإِجماع أن يقصد إلى ذلك] (¬3). ¬
والثاني: هو أن ينظر إليه غير قاصد اللذة، وهو مع ذلك آمن من الفتنة، فهذان شرطان: عدم قصد الإلتذاذ، وعدم خوف الإفتتان، فهذا لا خلاف فيه أنه لا إثم عليه في هذا النظر الواقع منه في هذا الموطن، ويكون حينئذ بنظره إليه بمثابة من ليس له أرب في النساء من الرجال، يجوز له من النظر إليهم ما يجوز لذلك من النظر إليهن، على ما سنبين إن شاء الله تعالى في باب نظر الرجال إلى النساء. الثالث: هو أن يتوفَّر له أحد هذين الشرطين دون الآخر، وذلك أن يفوته قصد الالتذاذ فينظر لا بقصد الإلتذاذ، فهذا أحد شرطي الجواز، وتأخر الشرط الآخر الذي هو عدم الخوف، بل خاف الافتتان واختلاف الهوى بالنظر بما يعلم من نفسه من أنها ربَّما تحركت، فهذا موضع الخلاف. فمن الفقهاء مَن يقول: النظر إليهم في حق هذا حرام؛ لأنه حينئذ كالمرأة في حقه يحرم عليه من النظر إليه ما يحرم عليه من النظر إليها، فإن خاف الافتتان بها كان المتقرر شرعًا -من وجوب غض البصر- معلوم التعليل، بصيانة النفس عن الهوى الموقع في المعاصي (والفواحش) (¬1)، وهذا مقطوع به على حدِّ ما يقطع، فإن القصاص مشروع للزجر عن سفك الدماء، وبأن الزنى منهي عنه، مرجوم فاعِلُه، حفظًا للأنساب، فإن شرع الرجم فيه للزجر عنه، كذلك الأمر بغضِّ البصر لم يقع تعبُّدًا، أعني: غير معقول المعنى، بل معروف المغزى، متقرر المعنى، وهو أن البصر رائد القلب، جالب الأحوال إلى النفس، (فحينئذٍ) (¬2) شرع ذلك، وحماه بتحريم النظر إلى ما يوقع في الفتن نعوذ بالله منها. وتلقى من هذا ما لم يزل موجودًا من الإفتتان بهم على حد الإفتتان بالنساء. ¬
171 - وقد روي: عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إن أكثر، وإن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط" (¬1). وهذا الحديث وإن لم يصح إسناده، فإن في الوجود ما يصدق بعض ما فيه، وهو حديث ذكره البزار، قال: نا عمرو بن يحيى بن عفرة البجلي، قال: نا عبد الوارث بن سعيد، قال: نا القاسم بن عبد الواحد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر ... فذكره. قال: ولا نعلم رواه عن ابن عقيك إلا القاسم، والقاسم روى عنه: عبد الوارث وهمام. انتهى قوله. القاسم هذا سئل أبو حاتم عنه، فقال: يكتب حديثه، قيل: يحتج به؟ قال: يحتج بشعبة وسفيان. ¬
وقد روى هذا الحديث عن القاسم المذكور: همام بن يحيى، كما رواه عبد الوارث بن سعيد. وكذلك: 172 - حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي بعثني بالحق لا تنقضي هذه الدنيا حتى يقع الخسف (والقذف) (¬1) والمسخ"، قالوا: ومتى ذلك يا نبي الله [بأبي أنت وأمي] (¬2)؟ قال: "إذا رأيت النساء ركبن السروج، وكثرت القينات، وفشت (¬3) شهادة الزور، [وشرب المصلون بآنية أهل الشرك: الذهب والفضة] (¬4)، واستغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء" (¬5). هذا هو أيضًا حديث ضعيف كذلك؛ لأنه من رواية سليمان بن داود اليمامي (¬6)، عن ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، عنه، وهو ضعيف. ¬
(قلت) (¬1): وقد صحَّتِ الأخبار بالنهي عن مباشرة الرجل الرجل، والمرأة المرأة (¬2)، وعن أن يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب، والمرأة إلى المرأة (¬3) كذلك، وعمل المكامعة (¬4). ومن ذلك: 173 - حديث سمرة بن جندب في النهي عن أن يضطجع الرجل إلى جنب الرجل إلا وبينهما ثوب (¬5). وحديث عبد الله بن عمرو في الأمر بالتفريق بين الغلمان في المضاجع إذا بلغوا عشر سنين (¬6). ¬
وغير هذا مما تعضده الوجوه (المترتب [عليها] القول) (¬1) بالمنع من النظر عند الخوف من الفتنة. ومن الأحاديث الواردة في هذا الباب -مما يمكن أن يتعلق بها هؤلاء المانعون- حديث يرويه: 174 - عبد الرحمن بن واقد، عن عمرو بن أزهر، عن أبان، عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجالسوا أبناء الملوك، فإن الأنفس تشتاق إليهم (ما لا) (¬2) تشتاق إلى الجواري (العواتق) " (¬3). هذا إسناده في غاية الضعف، وأبان المذكور فيه هو ابن أبي (عياش) (¬4)، وهو أشهرهم برواية المنكرات، وكان مع هذا رجلًا صالحًا. ذكر هذا الحديث أبو بكر بن ثابت الخطيب (¬5) في باب أحمد بن (هاشم) (¬6) الحربي. ¬
ومن ذلك: 175 - حديث يرويه عمر بن عمرو الطحان، عن سفيان الثوري، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تملؤوا أعينكم من أبناء الأغنياء، (فإن) (¬1) لهم فتنة أشد من فتنة العذارى". وفي رواية: "لا تجالسوا أبناء الأغنياء، فإن لهم شهوة كشهوة النساء" (*). وليس دون الثوري في إسناد هذا الحديث من يلتفت [إليه] (¬2)، وعمر بن عمرو أبو حفص الطحان العسقلاني، هو في عداد مَن يضلع الحديث، قال أبو أحمد بن عدي الجرجاني: وهو ذكر هذا الحديث فيما ذكر له، فهو لا يصح أصلًا. ومن ذلك: 176 - [حديث] (¬3) يرويه خَطَّاب بن يسار الحراني، قال: نا بقية، عن ¬
(الوازع) (¬1)، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحدَّ الرجل النظر إلى الغلام الأمرد" (¬2). وهذا أيضًا غاية في الضعف، وليس في إسناده أحسن حالًا من بقية (¬3)، على ضعفه وكثرة النكارة في حديثه، لا سيما إذا روى عمن لا يعرف. والوازع بن نافع ليس بثقة، وفي بابه ذكر أبو أحمد هذا الحديث. ومنه مَن يقول بالإِباحة مطلقًا لعموم القضية المتقررة من عدم أمرهم بالتنقب والإستتار، لئلا يلحق (الرجال) (¬4) بالمنع، مع كره المخالطة، ولكن مع الإِباحة إذا أحس بها حسًّا، أو حركة نفس، حرم التمادي؛ لأن الإِلحاح فيه دال على العمل بمقتضى (ثوران) (¬5) الهوى. ¬
ومن الأحاديث التي يمكن (أن) (¬1) يتعلق بها هؤلاء المبيحون: 177 - حديث مرسل: رواه أبو حفص بن شاهين بإسناد مجهول، إلى أبي أسامة حماد بن أسامة، عن مجالد، عن الشعبي، قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيهم غلام أمرد، ظاهر الوضاءة، فأجلسه النبي - صلى الله عليه وسلم - وراء ظهره، وقال: "كان خطيئة داود النظر" (¬2). قالوا: فلم يأمره بالإحتجاب، (فدل) (¬3) على إباحة النظر. وهكذا ذكره الغزالي حجة لهم، وهو لا حجة لهم فيه على الأمر، لضعفه، ¬
فإن من دون أبي أسامة لا يعرف، ومجالد (¬1) ضعيف. وهو مع ذلك مرسل، ولأنه ليس فيه الإِباحة التي ذهبوا إليها في محل النزاع، وهو ما إذا كان لا يأمن الفتنة، وإن توفَّر الشرط الآخر الذي هو عدم قصد الإلتذاذ ها هنا كان النزاع، وإنما لم يلزم أن يأمره بالتنقب؛ لأن الناس مغيبو السرائر، والأكثر لا يقصد الإلتذاذ بالنظر إليهم، ولكنهم يخافون الإفتتان بهم، فهؤلاء حكمهم جواز النظر بإجماع، والذين لا يقصدون الإلتذاذ بالنظر إليهم، ولكنهم يخافون الإفتتان بهم أَقل، وهذا محلُّ النزاع، والذين يقصدون الإلتذاذ بالنظر إليهم، ويخافون الإفتتان بهم أقل من الجميع، وحكمهم تحريم النظر بإجماع. فلما كان الناس في الأزمان: المقبلة، والماضية، والحاضرة، منقسمين (هذا) (¬2) الانقسام في الناظرين، والحرج لاحِقٌ بالمنع من النظر، أو بالأمر (بالتنقب) (¬3)، مع كره الملابسة والمخالطة، والناس كلهم غلمان قبل أن يكونوا رجالًا، نزلت القضية (مبيحة) (¬4)، فلم يَأمر بتنقب، ولا منع من نظر، لا سيما في زمانه. والذين بحضرته أفضل الصنف وخيره - رضي الله عنهم -، فوجب العمل بالمتقرر من وجوب غضِّ البصر عمَّا يجوز النظر إليه. (نقول) (¬5) هذا كله مما للقائلين بالتحريم أن يقولوه لو صح الخبر. ¬
ومن ذلك: 178 - حديث رواه أحمد بن [عمر بن] (¬1) عبيد الريحاني، وهو أحد المجهولين، قال: سمعت أبا البختري القاضي، واسمه وهب بن وهب (يقول) (¬2): كنت أدخل على الرشيد وابنه القاسم بين يديه، فكنت أُدمن النظر إليه، فقال: أراك تُدمن النظر إلى القاسم، أتريد (¬3) أن تجعل انقطاعه إليك؟ قلت: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن ترميني بما ليس فيَّ، وأما إدماني في النظر، فإن جعفر الصادق حدثني عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث يزدن في قوة النظر (¬4): النظر إلى الخضرة، وإلى الماء الجاري، وإلى الوجه الحسن". وهذا حديث لا يختلف العلماء في ضعفه؛ لأن أبا البختري متهم عندهم بوضع الحديث، ولو صح هذا الحديث لما كان فيه من (...) (¬5) شيء، فإن الوجه الحسن من الزوجة والأمة ينزّل الخبر عليهما نزولًا صحيحًا. والحديث المذكور ذكره الخطيب (¬6)، في باب أحمد بن عبيد المذكور. ¬
فأما حديث جابر في هذا فلا يصح، قال أبو نعيم (¬1) الحافظ في كتابه في رياضة المتعلمين: 179 - حدثنا ابن محمد بن حيان قال: نا محمد بن يعقوب، نا ابن أبي فديك (¬2)، نا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "النظرة إلى الخضرة، والوجه الحسن، يزيدان في [البصر] (¬3) ". هذا موقوف، وهو: 180 - "ثلاث تجلو (¬4) البصر: النظرة إلى الخضرة، والإثمد عند النوم، والوجه الحسن" (¬5). ¬
والذي روي عنه مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نصُّه: 181 - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحبُّ أن ينظر إلى الخضرة، والماء الجاري" (¬1). فليس له مدخل في هذا الباب، وما منها شيء صحيح. والقول الأول أظهر في حق الخائف، العديم من نفسه بالتحرُّك؛ لأنه الجاري على نظام الشرع في تحريم النظر. قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]. وقد قلنا: إن من المتيقَّن: أن النظر إنما حرم في محل الإِجماع حذرًا من الفتنة، كما حرم الزنى حذرًا من اختلاط الأنساب، وشرب الخمر توقيرًا للعقل، فإذا كان كذلك وجب غض البصر على كل خائف وحرم عليه أن يرسل طرفه في مواقع الفتن، فإنه إذا فعل ذلك رأى الذي لا كُلّه هو قادر عليه، ولا عن بعضه هو صابر، وصار الغلمان في حقه حينئذ بمثابة النساء في حق الغَزل المُولع بهن -فيجب أن يحرم عليه من النظر إليهم ما يحرم على الآخر من النظر إليهن بلا فرق، وعلى توقير ذلك والحذر منه درج العلماء وأهل الفضل منهم. ¬
وأعلى مَن روى عنه في ذلك شيء: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ولا يصح ما روي عنه من ذلك، وهو: 182 - [ما] (¬1) رواه سهل بن أسلم، قال: قال عمر بن الخطاب: "ما أنا على عالم من سَبُع ضارٍ بأخوف عليه من غلام أمرد" (¬2). وإنما لا يصح هذا للجهل برواته. وروي أيضًا عن سعيد بن المسيب: أنه قال: "إذا رأيتم الرجل يلحُّ بالنظر إلى الغلام فاتهموه" (¬3). وروي: عن أبي علي الروذباري (¬4) قال: سمعت (الجنيد) (¬5) يقول: جاء رجل إلى أحمد بن حنبل ومعه غلام حسن الوجه، فقال له: من هذا؟ فقال: ابني، فقال أحمد: (لا يجيء) (¬6) معك مرة أخرى، فلما قام قال له محمد بن ¬
عبد الرحمن (¬1) الحافظ: أيد الله الشيخ، إنه رجل مستور، وابنه أفضل منه، فقال أحمد بن حنبل: الذي قصدنا إليه ليس يمنع منه سترهما، على هذا رأينا أشياخنا، وبه خبرونا عن أسلافنا. وفي رواية عنه: أنه قال: لا يأثم الناس فيك. وكان ابن معين لا يحضر مجلسه غلام، وكذلك الحارث بن مسكين، وكذلك يقول النسائي -رَحِمَهُ اللهُ- في كتابه، في روايته عن الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع قال: أنا فلان، ولا يقول: نا ولا أخبرنا، وذلك أنه لم يحضر مجلسه حين القراءة عليه إلا محجوبًا؛ لأنه كان صغيرًا (¬2)، فسمع من وراء حجاب: جِدَارٍ أَوْ بابٍ، فتحرّى وتحرج من أن يقول كمن (¬3) حضر. وروى يعقوب بن سماك، قال: كنا عند أبي نصر بشر بن الحارث الحافي (¬4)، فوقفت عليه جارية ما رأينا أحسن منها، فقالت: يا شيخ! أين مكان باب حرب؟ فقال لها: هذا الباب. قم جاء غلام ما رأينا أحسن منه، فسأله عن مثل ذلك فأطرق، فأعاد السؤال، الشيخ عينيه، فدللنا الغلام على ¬
الباب، فلما غاب قلنا: يا أبا نصر! سألتك الجارية فأجبتها، (واستعففت) (¬1) للغلام؟! فقال: يروى عن سفيان الثوري: أنه قال: مع الجارية شيطان، ومع الغلام شيطانان، فخشيت على نفسي من شيطانيه. فإن قيل: فكيف بما روى سعيد بن سليمان سعدويه (¬2)، قال: نا عباد بن العوام، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري: أنه كان إذا رأى الشباب، قال: مرحبًا بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أُمِرنَا أن نحفّظكم الحديث، ونوسِّع لكم في المجالس. وهو حديث صحيح، رواه أبو جعفر محمد بن عبد الله بن سليمان المعروف (بمطين) (¬3)، عن سعدويه بالإِسناد المذكور، وكلهم ثقات؟. قلنا: كل ما قررناه في هذا الباب من ترجيح منع النظر، ووجوب غضِّ البصمر، إنما هو في حق الخائف من الفتنة، وليس في الحديث المذكور ما يناقض ذلك، وفي هذا الباب كثير من هذا المعنى اخترتُ منه يسيرًا دالًا على المقصود، ليكون متضمّنًا من الحديث وكلام العلماء بعض ما فيه، كسائر ما تقدم، والله الموفق. * * * ¬
الباب الرابع في نظر النساء إلى النساء
الباب الرابع في نظر النساء إلى النساء
(73) - مسألة: نظر المرأة إلى عورة المرأة التي هي السوءتان [حرام] (¬1): وهذا (مما) (¬2) لا خلاف فيه. وأما ما بين السرة والركبة، فمبني على ما تقدم، من كونهما عورة، أو أنهما ليسا بعورة، وقد تقدم (¬3) حديث أبي سعيد الخدري، فيه: "لا يَنْظُر الرجل إلى عورةِ الرجُل، ولا تنظر المرأة إلى [عورة] (¬4) المرأة". (74) - مسألة: نظر المرأة إلى ما عدا العورة من المرأة: إن قلنا: إن المرأة ليست كلها عورة، أو فرقنا بين (حالها) (¬5) مع الرجل، وحالها مع المرأة- (فيه) (¬6) الخلاف، [وهو] (*) مبني على ما تقدم ذكره مما يجوز للمرأة أن تبديه للمرأة مما عدا العورة. فمَن قال هناك: يجوز بإطلاق، يقول هنا: يجوز النظر إليه بإطلاق. ومَن قال هناك: لا يجوز لها أن تبدي شيئًا سوى ما تبديه للرجال الأجانب -وهي عورة كلها- لم يجز ها هنا للناظرة أن تنظر إلى شيء مما عدا العورة ¬
(إلا إلى) (¬1) ما يجوز للرجال الأجانب أن ينظروا إليه، وبيان ما يجوز للرجال أن ينظروا إليه من النساء يأتي في باب: نظر الرجال إلى النساء. ومَنْ قال هناك -أعني فيما تقدم-: يجوز لها أن تبدي للمرأة ما يجوز أن تبديه لذوي المحارم، أخذًا من قوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31]، يقول ها هنا: يجوز إلى المرأة أن تنظر مشتهاة كانت أو غير مشتهاة، ما لم تكن (رضيعًا) (¬2) ونحوها. أما الصغيرة، فلا شك في جواز النظر إلى ما عدا عورتها مطلقًا، أما إلى عورتها فالأبَوَان (والرَّابة) (¬3) في ذلك بخلاف الأجنبيات، وهو موضع نظر، وسنذكرها مسألة برأسها إذا فرغنا من هذه إن شاء الله تعالى، وإنما الغرض الآن: نظر المرأة إلى ما عدا السوءتين من المرأة، وقد حكينا الآن فيه اختلافهم، وعندي فيه استدراك (فلنبحثه) (¬4) حتى يظهر مكان الإستدراك، وهي ثلاثة أقوال: - قول بجواز النظر إلى ما عدا السوءتين: من البطن والصدر والعنق والظهر والوجه والشعر والكفين والمعصمين والقدمين والساقين مطلقًا، ويشبه أن يكون المحكي عن الحنفية موافقًا لهذا باعتبار ما بين السرة والركبتين عورة، وذلك أن القدوري (¬5) قال: وتنظر المرأة من المرأة إلى ما يجوز للرجل أن ينظر إليه من الرجل. ¬
وقد كان قدم: أن الرجل ينظر من الرجل إلى جميع بدنه، إلا ما بين سرته وركبته. - وقول بالمنع مطلقًا: هكذا حكي عن عبد الوهاب (¬1) بن نصر المالكي، ومعناه: أنها لا تنظر منها إلا إلى ما ينظر منها الأجنبي. - وقول: بجواز النظر من ذلك إلى ما ينظر إليه منها ذو محرمها. وعندي: أنه يجب أن يُدرأ في هذا الباب من التقسيم، ما أوثر في مسألة نظر الرجل إلى الغلام، وذلك لأن العادة استقرت -متقررة- بانقسام النساء إلى مَن لها ولوع بالشواب الحسان يجرُّ إلى الهوى الموقع في الفاحشة المحرّمة، على حد ولوع بعض الرجال بالغلمان الجارِّ إلى الهوى المُوقع أيضًا في (فاحشة) (¬2) اللياطة والسحاق، [وروي] (¬3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[فيهما أحاديث] (*)، ولا أعلم منها صحيحًا، وليس هذا بموضع ذكرها، فإنها ليست من غرضنا .. [وإلى مَن لا ولوع لها بالشواب الحسان] (**). وإذا تقرر هذا، وَجَبَ أن يُراعى في نظر المرأة إلى المرأة، من قصد الإلتذاذ وعدمه، وخوف الإفتتان وعدمه، ما روعي في نظر الرجل إلى الغلام، فنقول: إن قصدت الإلتذاذ بالنظر إليها حَرُم النظر كذلك سواء، وقصد ¬
الإلتذاذ كافٍ في جلب التحريم، فإن خافت مع ذلك الإفتتان اشتد الأمر (وها هنا الإِجماع) (¬1) معلوم، وإن هي لم تقصد الإلتذاذ فلا يخلو من أَحد أمرين: إما أن تكون تعلم من نفسها أنها إن نظرت ربما استحسنت، وربما علقت النفس بهوى، وعلمت طاعة نفسها لهواها، وتحقق خوفها، أو لا تكون هكذا، فإن لم تكن كذلك بل هي بالنظر إلى المرأة آمنة من الإفتتان غير خائفة، هذه يجوز لها النظر إلى الوجه والكفين والقدمين والشعر (والعنق) (¬2) إجماعًا، ونظرها حينئذ إلى ذلك كنظرها إلى الشاة والبقرة والظبية المستحسنة، بل كنظرها إلى ابنتها، أعني: حيث (خمدت) (¬3) طبيعتها عن ثوران شهوتها بالنسبة إلى البنت. أما إن خافت بنظرها ما ذكرناه، وعلمت من نفسها ما وصفناه ها هنا، كان فيما بين الرجل والغلام قولان: قول بالجواز، فإن نظر وخاف أمسك، وقول بالمنع بإطلاق، وتكون الأقوال ها هنا ثلاثة: - قول بجواز النظر بإطلاق: فإن خافت بعد (إمعان) (*) النظر أمسكت، كأحد القولين في نظر الرجل إلى الغلام كَأَنَّها لم تقصد اللذة، ولعل ما تخافه لا يقع، ولكنها إن خافت بعد النظر كفت. - والقول الثاني: أنها لا يجوز لها من النظر إلا ما جاز إلى المحرم من ذات محومه، فإن نظرت إلى ذلك وتحرك منها ما يخيفها من الفتنة امتنع. - والقول الثالث: منعها من النظر إلى ما ينظر إليه الرجل الأجنبي، فإذا نظرت إلى ما ينظر إليه الأجنبي فتحرك [منها داعية] (¬4) أمسكت. ¬
والمعتمد في هذا الباب هو ما قُطع به، من أن مقصود الشرع بتحريم النظر وإيجاب غضِّ البصر، هو صيانة النفس عما تثيره دواعي الهوى، الموقع في الفواحش، فيراعى ذلك في الفتوى، فإذا (تزينت) (¬1) المرأة في الاستفتاء عمَّا يجوز لها من النظر، أحيلت على ما تعلم من نفسها، فإن كانت تخاف الفتنة امتنع عليها النظر، كما أخبرنا في مسألة نظر الرجل إلى الغلام سواء، ولا فوق، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31]. وهذا مطلق في نظرهن إلى الرجال والى النساء، والله الموفق، وقد تقدَّم في باب ما تُبديه المرأة للمرأة مسألة دخولهن الحمام بما يغني عن الإِعادة، فاعلمه. (75) - مسألة: أما نظر المرأة إلى عورة الصغيرة: يجب التفصيل فيه، فإن كانت الناظرة أُمًّا أو (رابّة) (¬2) عن أم، فجواز النظر إلى ذلك لمكان الضرورة في زمان التربية بيِّن، أما ما فوق زمان التربية، فهل يجوز نظر الأم إلى ذلك من ابنتها، لغير حاجة أم لا؟ موضع نظر. والأظهر: الإِباحة ما دامت صغيرة غير مشتهاة لغيرها، والمنع إذا كانت مراهقة ونحوها، ولا أعرف لهم فيه نصًّا بالإِباحة. وقد نص الغزالي على أن النظر إلى فرج الصغيرة ممنوع، ولم يفرق بين أم ولا غيرها، ولا بين (المراهقة) (¬3) ولا غيرها. وليس بصحيح استقراء ذلك، أعني الإِباحة من قول أشهب وابن دينار: أن الرجل الأجنبي يغسل الصغيرة بنت أربعة أعوام وخمسة ما لم تكن تُشتهى، بأن يقال: إذا جاز للرجل، فما أجوزه للمرأة لا سيما للأم، وإنما لم يكن هذا الإستقراء صحيحًا؛ لأن غسل الرجل صغيرة ¬
إنما هو محل الضرورة حيث لا توجد امرأة، ولا أيضًا (جاز) (¬1) له بقولهما: إنه يغسلها، إنه ينظر إلى عورة، كما إذا غسل الرجل الرجل، لا ينظر منه إلى عورة. (76) - مسألة: فإن كانت المرأة أجنبية، ولم تكن (رابَّة) (¬2)، فهل يجوز لها أن تنطر من الصغيرة إلى السوءتين أو إحداهما؟: هذا موضع نظر أيضًا، وقد قلنا كيف نص الغزالي على ذلك مطلقًا. ويمكن عندي أن يقال في التي هي من الصكغر حيث لا تُشتهى: ليس ذلك منها بعورة؛ لأنه لا يُستحيى من بدوِّه، بل بمثابة وجهها، ولا هي امرأة فيتناولها قوله: "لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة" (¬3)، وهذا هو المنصوص عليه [من] (¬4) الفقهاء إلا ما حكيناه عن الغزالي، فأمّا إن كانت مراهقةً فامتناع نظر الأجنبية إلى ذلك منها، أحرى من امتناع الأم إليه. (77) - مسألة: (كل ما) (¬5) قلناه في هذا الباب، من نظر المرأة إلى المرأة فيما عدا العورة فإنما نعني به نظر الأجنبية إلى الأجنبية -أما ذات محرم مع ذات محرمها، كالأم والجدة والخالة والعمة والبنت وبنتها والأخت وبنتها وبنت الأخ، وبالجملة كل امرأتين لو قدرت إحداهما ذكرًا والأخرى أنثى حرم التناكح بينهما، (فإنه) (¬6) لا يجوز أن تنظر الواحدة منهن إلا ما يجوز لذي المحرم أن ينظر إليه منها، أمّا ما عدا ذلك كالبطن والصدر ونحوهما مما لا يجوز لذي المحرم النظر إليه، فهل يجوز نظرهن إليه أم لا؟. ¬
هذا [لا] (*) أعرف للفقهاء فيه نصًّا، والظاهر عندي: جوازه، لعدم المانع وأسبابه بينهما، كما هو بين الرجل وذوات محارمه، أعني: أن الشهوات لا تثور بينهن، لأجل القرابة، ولكن قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] مشير لمن هو للمرأة بمثابة من ذُكر في الآية من الرجال الذين يجوز للمرأة أن تبدي (لهم) (**) زينتها الخفية التي يتضمَّن إبداؤها إبداء ما هي فيه من ساق ومعصم، على ما قد ذكرناه في باب مَا يجوز لها إبداؤه، فإذا جاز لها إبداء صدرها وبطنها لمن هي منها ذات محرم، (جاز) (¬1) للتي (أبدي) (¬2) لها ذلك النظر إليه، إذ لا مانع، فإن فرض خوف امتنع، والله أعلها. (78) - مسألة: تنعطف على البابين، أعني باب نظر الرجال إلى الرجال، أو باب نظر النساء إلى النساء، وهي: أن كل ما منعه الرجل من النظر إلى الغلام، أو منعته المرأة من النظر إلى الجارية، لا مدخل للأهل في ذلك، لعدم الخوف بينهم غالبًا، ولم يكن لذكر هذا معنى لولا ذكر العلماء لها، بل قد جاز ما هو أشد من ذلك، وهو تقبيل الأب ابنته، قال مالك في الذي يقدم من سفره، فتتلقاه ابنته فتقبله، أو أخته وأهل بيته: لا بأس بذلك. قال القاضي أبو الوليد بن رشد: إنما خفف ذلك؛ لأن القصد فيه الحنان والرحمة، لا ابتغاء اللذة، إذ ليستا ممّن يُبتغى ذلك فيهما، والأحسن ألاّ يقبِّل مخافة أن يتلذذ بذلك، وإن لم يقصد الإلتذاذ به (¬3). والأظهر عندي: الجواز، وهو في الابن أحرى منه في البنت، وقد كان ¬
النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقبِّل فاطمة (¬1) - رضي الله عنه -، وكان أبو بكر يقبِّل عائشة (¬2)، وفعل ذلك أكابر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال إسماعيل القاضي: هذا إذا كان الوالد مأموناً, ويجوز مثل ذلك (للولد، أي: يجوز كذلك) (¬3) للولد أن يقبل أمه إذا كان أيضاً مأموناً، ولا يجوز ذلك للأخ ومَن دونه، ممَّن ذكر في الآية (¬4) من ذوي المحارم، وهذا الذي شرط إسماعيل لا معنى له، فإن الكلام إنما هو في أنه يجوز له ذلك فيما بينه وبين الله تعالى، وسواء في هذا كان مأموناً، أو غير مأمون، فإن المأمون إذا صح قصده جاز له، واذا فسد لم يجز له، وغير المأمون أيضاً كذلك. وهذا الباب إنما الغرض منه جواز النظر، ولما كان التقبيل أشد وأبلغ ذكرناه ليدل على ما يزيد بطريق الأحرى والأولى، فهذا اعتبار بذكر الأحاديث في ذلك الآن. ¬
فمنها: 183 - حديث أبي هريرة: أن الأقرع بن حابس أبصر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقبِّل الحسن فقال: إن لي عشرة من الولد، ما قبّلتُ واحداً منهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّه مَن لا يرحم لا يُرحم". 184 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قدم ناسٌ من الأعراب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: (أتقبِّلون) (¬1) صبيانكم؟ قالوا: نعم، فقالوا: لكنا والله ما نقبّل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَأمْلك إن كان الله نزع منكلم الرحمة"، وفي رواية: "من قلبك الرحمة". ذكرهما مسلم (¬2). وقال البزار: 185 - نا زيد بن (أخزم) (¬3) أبو طالب الطائي، نا سليمان بن حرب، نا حَمَّاد بن زيد، عن هشام، عن محمد (*)، عن أنس، قال: لما أُتي ابن زياد برأس الحسين، جعل ينظر إليه ويقلّبه بقضيب، فقال: إن كان جميلاً، قال أنس: فقلت: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبّله، أو يلثمه (¬4). ¬
ورواه (جرير) (¬1) بن حازم عن محمد مثله، وقال: إن كان لجميلاً، أو كلمة نحوها. (وهو) (*) حديث صحيح. وقال بقي بن مخلد: 186 - نا وهب، نا خالد، عن محمد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدلع (¬2) لسانه للحسين، فيرى الصبي حُمْرة لسانه فَيَهشّ (¬3) إليه. [قال] (¬4) عيينة بن حِصن: لا أراك تصنع هذا بهذا، فوالله إنّه ليكون ¬
لي الابن قد خرج وجهه ما قبّلته قط! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن لا يرحم لا يُرحم" (¬1). وقال النسائي (¬2): 187 - أنا زكريا بن يحيى، نا إسحاق، أنا النضر بن شميل، نا إسرائيل، عن (ميسرة) (¬3) بن حبيب النهدي، (أخبرني) (¬4) المنهال بن عمرو، قال: حدثتني عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين، قالت: ما رأيت أحداً أشبه كلاماً ¬
برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا حديثاً ولا جلسة من فاطمة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رآها أقبلت رحّب بها ثم قام إليها فقبّلها، ثم أخذ بيدها وجاء بها حتى يُجلسها في مكانه. 188 - ورواه عثمان بن عمر، عن إسرائيل بإسناده، وزاد فيه: وكان إذا دخل عليها، قامت إليه فأخذت بيده فقبّلته وأجلسته في مجلسها. ذكر ذلك أبو داود (¬1)، ورجال هذا الحديث ثقات، ولم ينقل عن المنهال بن عمرو (شيء يجرحه) (¬2). وذلك معووف في مواضعه. 189 - وروي: عن البراء: أن أبا بكر أول ما قدم المدينة أتى عائشة ابنته فوجدها مضطجعة قد أَصابتها حمى، فقال: كيف أنت يا بنية؟ ... فقبّل خدها (¬3). ¬
فأما: 190 - حديث عبد الله بن جعفر، قال: لما قدم جعفر من الحبشة أتاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقبّل بين عينيه، وقال: "ما أَنا بفتح خيبر أَشَدُّ فرحاً مني بقدوم جعفر" (*). فحديث يرويه ابن أبي مليكة، عن إسماعيل (¬1) بن عبد الله بن جعفر، عن أبيه، وقال، إسماعيل لا يعرف. 191 - وروته أيضاً عائشة: "أنه لما قدم هو وأصحابه، استقبله وقبّل بين عينيه" فيه محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير، وهو ضعيف (¬2). ¬
ذكرهما أبو أحمد (¬1). 192 - وحديث الشعبي: "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تلقَّى جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - فَالتَزَمَهُ وقبّل بين عينيه" مرسل ذكره أبو داود (¬2). 193 - وحديث ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن قبّل بين عيني أمه (كان) (¬3) له ستراً من النار" (¬4)، حديث منكر جدّاً؛ يرويه حفص بن سَلم أبو ¬
مقاتل السمرقندي، عن عبد العزيز بن أبي داود، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، وأبو مقاتل هذا: منكر الحديث جدّاً، والحديث المذكور ذكره أبو أحمد بن عدي. ولم يصحَّ في هذا الباب: 194 - حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يباشر الرجل الرجل، ولا المرأة المرأة، إلّا الوالد ولده، أو الولد والده" (¬1) للجهل بحال (الطُّفَاوي) (¬2). ¬
وفي رواية عن أبي هريرة: قال أبو بكر بن الجهم: نا مروان، عن الجريري، عن أبي نضرة، محن (الطُّفَاوي) (¬1)، عن أبي هريرة - فذكره أيضاً، فإن لفظه في غاية النَّكارة. * * * ¬
الباب الخامس في نظر الرجال إلى النساء
الباب الخامس في نظر الرجال إلى النساء
اعلم أن جلّ ما يُحذر من النظر إنما هو في هذا الباب والذي بعده، أعني: نظر الرجال إلى النساء، ونظر النساء إلى الرجال: لأن الدواعي متوفرة فيهما على شيئين: أحدهما: قضاء (الوطر) (¬1)، وقيل: الشهوة. والآخر: التناسل الذي هو في الجِبِلَّة .. وكل ذلك موجود في الجانبين، أعني: جانب الناظر والمنظور إليه، بخلاف ما تقدم من نظر الرجال إلى الرجال، ونظر النساء إلى النساء، فإنه ربما لا يكون الهوى إلا بأحد الجانبين، وهو جانب الرجال، ولهذا المعنى جاء قوله - صلى الله عليه وسلم -: 195 - "ما تركتُ في الناس بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء". رواه أسامة وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، ذكره مسلم (¬2) -رَحِمَهُ اللهُ-. وقوله: 196 - "اتقوا النساء، فإنّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء". رواه أبو سعيد الخدري، ذكره أيضاً مسلم (¬3). ¬
197 - وروى أبو سعيد الخدري أيضاً، قال: "ما مِنْ صباحٍ، إلّا وملَكَان يناديان: سبحان الملك القدوس، وملكان يناديان: اللهم أعطِ منفقًا خَلَفاً، وأعطِ مُمْسكاً تَلَفاً، ومَلَكَانِ موكلان بالصور، متى يؤمران فينفخان، ومَلَكان يناديان: ويلٌ للرجال من النساء، وويلٌ للنساء من الرجال" (¬1). قال البزار: نا عمرو بن عبد الله الأودي، وصالح بق معاذ العقدي، قالا: نا وكيع بن الجراح، عن خارجة بن مصعب، وهو صالح. ولم يصحَّ في هذا: 198 - حديث عمر: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا النساء لعبدالله حقّاً حقّاً" (¬2). ¬
فإن في إسناده: عبد الرحيم بن زيد العمي، وهو منكر الحديث. وكل ما يحذر فيما بين الرجال والنساء، أوله النظر، والقائد إليه البصر (فبحسب) (¬1) ذلك، اشتد الأمر في هذين البابين، فاعلم ذلك. (79) - مسألة: إذا كانت المرأة مِمَّن يحلُّ للرجل وَطْؤُها، فلا كلام في جواز النظر إلى ما عدا الفرج: أما النظر إلى الفرج، فموضع خلاف: أجازته المالكية، وقيل لأصبغ (¬2): إن قوماً يذكرون كراهيته، قال: مَن كرهه إنما كرهه بالطب، (لا) (¬3) بالعلم، لا بأس (¬4) به، وليس بمكروه، وروى ¬
عن مالك: أنه قال: لا بأس أن ينظر إلى الفرج في [حال] (¬1) الجماع، وزاد في رواية، ويلحسه بلسانه! وهذه (¬2) مبالغة في الإِباحة، وليس ذلك (¬3) على ظاهره، قال القاضي أبو الوليد بن رشد: أكثر العوام يعتقدون: أنه لا يجوز للرجل أن ينظر إلى فرج امرأته في حال من الأحوال، "وقد (¬4) سألني عن ذلك بعضهم، واستغرب أن يكون جائزاً". وعلى هذا أيضاً مذهب الحنفية: قال القدوري (¬5): وينظر الرجل من أمته التي يحل له وطؤها وزوجته إلى فرجها. وأما الشافعية: فلهم فيه قولان: أحدهما: الإِباحة كما تقدم. والآخر: المنع. والنظر عندهم إلى داخله أشد، ذكر ذلك: الغزالي. ولهم (نجد) (¬6) قولاً ثالثاً، وأعرفه لأبي إسحاق منهم، قال (¬7): يكره النظر إليه، لأنه سخف ودناءة، ولا يحرم. وروي [في] (¬8) ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث بالإِباحة، لم يصحّ. ¬
قال أبو بكر بن الجهم: 199 - نا إبراهيم، قال: نا محمد بن (نلهي) (¬1)، قال: نا إسماعيل بن عباس، عن عبد الرحمن بن زياد، عن سعد بن مسعود الكندي: أن عثمان بن مَظْعُون أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لا أحب أن أنظر إلى عورة امرأتي، ولا تَرَيَنَّ ذلك مني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ولمَ؟! إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- جعلك لها لباسًا، وجعلها لباساً لك، فإني أرى ذلك منهن، ويرينه مني" فقال: فمَن بعدك يا رسول الله أولى؟ فقال: "إن عثمان حيي ستير" (¬2). وهذا ضعيف بالضعفاء والمجاهيل، وعبد الرحمن بن زياد (¬3) كافٍ في ضعفه، وروي فيه أيضاً حديث بالمنع، لم يصح. قال بقي بن مخلد: 200 - نا هشام بن خالد، قال: نا بقية (¬4)، قال: نا (ابن جريج) (¬5)، عن ¬
عطاء، عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ينظر أحدكم إلى فرج زوجته، ولا فرج أمته، فإن ذلك يورث العمى". وقال أبو أحمد بن عدي: نا ابن قتيبة، [ثنا هشام بن خالد، ثنا بقية، حدثني ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس] (¬1)، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 201 - ، إذا جامع أحدكم زوجته أو جاريته، فلا ينظر إلى فرجها، فإن ذلك يورث العمى" (¬2). ¬
قال فيه: إنه منكر، ويشبه أن يكون بين بقية وابن جريج بعض المجهولين، أو بعض [الضعفاء] (¬1)؛ لأن بقية كثيراً ما يدخل بين نفسه وبين ابن جريج بعضى الضعفاء أو بعض المجهولين، إلا [أن] (¬2) هشام بن خالد، قال: عن بقية: حدثني ابن جريج. انتهى كلام ابن عدي (¬3). وكل مَن في هذا الإسناد ثقة، إلا بقية بن الوليد، فإن حاله عند المحدثين في رواية المنكرات عن قوم لا يعرفون أو ضعفاء معروفة، وأحسن أحواله إذا روى عن ثقة، وهو ههنا روى عن إمام، وهو ابن جريج، وفيه قالوا: أحاديث [بقية] (¬4) ليست بنقية، فكن منها على تقية. فإن صح هذا الخبر (¬5) لزم (¬6) الانتهاء، وإلا فكل شيء من المرأة لزوجها أو لسيدها حلال، وبالله التوفيق. (80) - مسألة: أما بعد الموت، فهل يرى أحد الزوجين ذلك من صاحبه؟: أعني إذا قلنا: إنّ كل واحدٍ منهما يغسل صاحبه، وليس هذا موضع ذكر هده، (فهذا) (¬7) موضع نظر، فقال مالك: لا بأس أن يغسل أحد الزوجين صاحبه من غير ضرورة، ولا يطلع أحدهما على عورة صاحبه، رواه عنه ابن ¬
عبد الحكم (¬1)، وابن وهب، وكذا هو في "المجموعة" (¬2)، وكذا قال سحنون: وروي عن أشهب: يغسل أحد الزوجين صاحبه مجرداً. وهذا قد يمكن أن يكون معناه: من غير نظر إلى العورة، فلا يكون خلافاً لمذهب مالك، وكذلك ما روى موسى (¬3) عن ابن القاسم من قوله: ولا بأس أن يغسل الرجل مَن يحلّ له، مثل: أمته وأم ولده ومدبّرته كالزوجة من غير ضرورة. يمكن أن يجعل قول مالك في أنه لا يرى العورة، ووجه ذلك: أن الإستمتاع قد بطل بالموت، فلا يحل الإطلاع من الرجل على عورة المرأة، ولا ¬
من المرأة على عورة الرجل. وإن كنا نقول: إن حكها الزوجية باقٍ على جواز الغسل من غير ضرورة، ومع وجود مَن يغسل؛ فإن الإطلاع مع ذلك (على) (¬1) العورة وهتك الحرمة عبث لا يحل، والله أعلم. وأما مكاتبته ولو لم تؤدِّ من كتابتها شيئاً، وكذلك معتقته إلى أجل، فلا يغسلهما. وهذا أيضاً مرويّ عن ابن القاسم (¬2)، وهو كله صحيح مع الاختيار، فأما مع الضرورة فلا، بل يجوز حينئذ أن يغسل الأجنبيُّ الأجنبيَّة. وموضع ذكر هذا: كتاب الجنائز. وإنما الغرض ههنا: أحكام النظر، وليس من ضرورة الغسل النظر. وسنذكر بعد هذا -إذا ذكرنا نظر الرجل إلى الأجنبيات- تحريم نظره إلى فرج الأجنبية بعد موتها، كما كان حراماً في حياتها، ونبين أن ذلك (يمنع بالأحرى) (¬3) من حيث قد حرم النظر إلى فرج امرأته، أو أمته بعد الموت، إن شاء الله تعالى. ونذكر الآن -إن شاء الله تعالى- نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية بما زاد على نظر الفجأة، فنقول: (81) - مسألة: نظر الفجأة قد قدمنا في الباب الأول حكمها، وحديث جرير بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - إيَّاه عن الزيادة عليها بقوله: "اصرف بصرك" يعني عمَّا قد زاد عليها، وذكرنا حديث علي (¬4) - رضي الله عنه - في ذلك، وعلله من طرقه. ¬
وكل ما عدا نظر الفجأة, فهو الذي يعتمد ههنا بيان حكمه: وقد جاء حديث ثواب الكف عمَّا زاد من النظر على نظر الفجأة [وإن] لم يصح ننص [عليه] (¬1)؛ لئلا يظن من يقف عليه غفلتنا عنه، فلذلك نذكره على علّاته، وهو: 202 - حديث يرويه ابن المبارك: عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن نظر إلى محاسن امرأة، فغضَ طرفه في أول نظرة، رزقه الله عبادة يجد حلاوتها في قلبه" (¬2). ¬
[وفي] (¬1) كلِّ مَن بين أبي أمامة وابن المبارك في هذا الإِسناد مقال، ومنهم مَن لا يُقبل ما يرويه أصلاً، وأمرهم عند المحدثين بَيِّنٌ. ولو صح كان معناه فيما زاد على نظرة الفجأة، ولقوله: "مَن نظر إلى محاسن امرأة". وكذلك: 203 - حديث عصمة بن محمد، عن موسى بن عقبة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من (عبد) (¬2) يكف بصره عن محاسن امرأة، ولو شاء أن ينطر إليها نظر، إلا أدخل الله قلبه عبادة يجد حلاوتها" (¬3). وهو أيضاً ضعيف؛ لأن عصمة هذا منكر الحديث، ذكر الحديثين أبو أحمد بن عدي. وكذلك: 204 - حديث أبي ريحانة، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة فسمعته يقول: "حُرِّمتِ النّار على عينٍ دَمَعَتْ من خشية الله، وحُرّمت [النار] (¬4) على ¬
عين سهرت في سبيل الله"، ونسيت الثالثة. وسمعت بعد أنه قال: "حرمت النار عين غَضَّتْ عن محارم الله" (¬1). ¬
فإن هذه القطعة المقصودة منه مرسلة كما ترى، لا يدري ممّن سمعها، وأيضاً فإنه من رواية عبد الرحمن بن شريح، عن محمد بن شمير، وهو الرعيني، عن أبي علي الحبلي، عن أبي ريحانة، ومحمد بن شمير لا يعرف حاله، وشمير بالشين المعجمة وهو أشهر، وقال عبد الغني (¬1): بالسين، يعني المهملة، وكنيته: أبو الصباح. ذكر هذا الحديث: النسائي -رَحِمَهُ اللهُ-، فاعلم ذلك. (82) - مسألة: إذا كانت المرأة ممّن لا يحل للرجل وطؤها، لم تخلُ لأن تكلون ذاتَ محرم, أو غيرَ ذات محرم، فلنجعلهما مسألتين, وتتعلق كل واحدة منهما بمسائل: (83) - مسألة: نطر الرجل إلى ذات محرمه: إما أن يكون إلى العورة، أو إلى غير العورة، فإن كان إلى العورة فهذا لا يتخالج أحداً الشكّ في تحريمه، اللهم [إلا] (¬2) أن تكون صغيرة، فههنا يختلف حكم ذوي المحارم، (فأما) (¬3): الأب والجدُّ في حال التربية فلا كلام في جوازه، وأمَّا مَن عداهم: كالأخ والعم وابن الأخ والخال، فهل يجوز لهم أن ينظروا إلى عورة الصغيرة أم لا؟. الظاهر: أنه ممتنع، (لأنه) (¬4) لا حاجة إلى ذلك، والتحرز ممكن، وباب ¬
الإطلاع على العورة ضيّق، والقول بأَنّ ذلك ليس بعورة من الصغيرة إن كانت غير مشتهاة مبنيٌّ على ما قدمناه من أنه لا يُستحيى من بدوِّه؛ والعورة: ما يُستحيى من بدوِّه، وقد يمكن أن يقال غير هذا من حيث يتحقق فيه معنى العورة، فإن العين إذا نظرت إليه، فيتعين المعنى الذي له ينظر إلى الوجه والكف والقدم. وليس عندنا دليل يبيح النظر إلى الصغار بإطلاق، حتى يقيد به مطلق قوله -عَزَّ وَجَلَّ- {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا} [النور: 30]، فامتنع النظر، ووجب غض البصر، إلا أن يصدّ عن هذا صاد يعثر عليه بعدُ إن شاء الله تعالى. والمسألة محتملة، والمنع أظهر، (لأن) (¬1) المسألة هل ذلك عورة من الصغيرة أم لا؟ فإن ذلك من الصغير لا شك (فيه) (¬2)، ولا تنظره العين إلا كما تنظر صدره أو بطنه، اللهم إلا في حق النساء فإنه يمكن أن يجعل ذلك منه مثل ما جعلناه من الصغير في حق الرجال. هذا كله مع الاختيار، وأما لو قدَّرنا أحد هؤلاء اضطر إلى (تربية) (¬3) صغيرة لا كافل لها (فيَخرُج) (¬4) ما يقع هنا من نظره إليها عن هذا الباب، [ويُلحق] (¬5) بباب الضرورات، فاعلم ذلك. (84) - مسألة: فإن كان زمان التربية قد انقضى، فما حكم الأب في جواز نظره إلى فرج ابنته، أو منعه؟: أما إذا كانت بحيث تشتهى، وتتميز (عن) (¬6) الغلام، فلا كلام في تحريم ¬
ذلك، وأما قبل ذلك كالفطيم (ونحوها) (¬1) فموضع نظر، وينبغي أن يستصحب حال الإِباحة التي كانت في زمان التربية حتى يرتفع ذلك بدليل، وهي مع هذا موضع نظر. (85) - مسألة: فإن كان إنما ينظر منها - أعني ذلك من ذات محرمه - إلى الوجه والكفين والقدمين؛ صغيرة كانت أو كبيرة، فهذا جائز بلا خلاف، لأنه شيء يبدو في حال المهنة، ولأنه قد نصت [الآية] (¬2) على جواز إبداء المرأة خَفِيَّ زينتها لمَن ذكر فيها، فلا بد أن يكون فيها الوجه والكفان والقدمان، فهذه يراها الأقرب ممن ذكر في الآية، وإلا تقرر إذا كان إبداؤها ذلك (جائزاً) (¬3) , كان النظر إليه جائزاً. كما قدمناه فلا نعيده. (86) - مسألة: اللهم إلا أن ينطر إلى ذلك من ذات محرمه بقصد اللذة، فهذا لا شك في تحريمه، وأظن أنه لا خلاف فيه، وابن عبد البر قد نص على تحريمه، ولم يحك فيه عن أحد شيْئاً, إلا أنه قال عن الشعبي: إنه كره أن يديم النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته. قال أبو عمر: وزمانه خير من زماننا، وهذا عندي من الشعبي إنما هو كراهة إدامة النظر، الذي يمكن (عنده) (¬4) التذاذ وافتتان، وإن لم (يقصد) (¬5) الإلتذاذ، فأما إذا قصد بالنظر اللذة فلا خلاف فيما أَرى [في] (¬6) تحريمه، والله أعلم. ¬
(87) - مسألة: فإن كان نظره من ذات مَحْرَمِهِ, إنما هو ما بين ذلك وبين (العورة) (¬1) مما لا (يظهر) (¬2) إلا بقصد الإِظهار, كالصدر والبطن ومراقه (¬3) والشعر ونحو ذلك: هذا فيه خلاف؛ قيل: يجوز بإطلاق، وقيل: لا يجوز بإطلاق، ويشبه أن يكون مذهب الحنفية هكذا، قال القدوري [منهم] (¬4): وينظر الرجل من ذات [محرمه] (¬5) إلى الوجه والرأس والساقين والعضدين، ولا ينظر بطنها وظهرها، ولا بأس أن يمسَّ ما جاز أن ينظر إليه منها. وما روي عن مالك من ذلك فهو مجمل، ذكره عنه ابن المواز من رواية ابن القاسها، قال: وليستأذن على أمه وأخته، ولا يجوز أن يرى أمه عريانة، فيحتمل أن يريد به: أَلَّا يَراهُما باديتي العورة، ويحتمل أن يريد جِسمَهُمَا. وينبغي أن (يجرى) (*) هذا الإختلاف باعتبار قربهم وبعدهم، فليس الأب (كأب) (¬6) البعل، الأبُ أحرى بالجواز، وأبو (البعل) (¬7) أحرى بالمنع. والذي دلَّت الآية (¬8) على جواز إبدائه هو ما يشتركون فيه، وليس ذلك إلا مواضع ¬
الحلي الخفي؛ كالسوارين والقلادة والقرطة والخواتم، وفي الخلخالين نظر، ولو قلنا: إن القدمين كاليدين - ومثله مواضع الزينة الأخرى التي هي الكحل والسواك هذا الذي يشترك جميع مَن في الآية في جواز إبداء ذلك (إليهم) (¬1)، فإذا جاز لها بنصِّ الآية إبداء (ذلك) (¬2) لجميعهم؛ فما معنى منع المانع بإطلاق لجميعهم أو لبعضهم؟ وإذا جاز أيضاً بدليلٍ للأب أن ينظر إلى البطن والصدر والظهر، فما معنى إجازة المُجِيزِ بإطلاق؟ وأبو البعل وابنه ليسا في ذلك كالأب، فالذي ينبغي أن يقال به هاهنا: هو أن هذه المواضع التي فرض فيها الكلام - أعني: ما هو مستور إلا أن يظهر بقصد، كالبطن والصلدر والعنق والظهر وما فوق السرة ونحو ذلك - لا يجوز لأحد ممن ذكر في الآية النظر إليه، إلا البعل، هذا الذي لا شك فيه. أما الأب والابن فموضع نظر، إذ الآية إنما أباحت ما يشترك فيه قريبهم وبعيدهم، وأما مَن عد اهم كالإِخوة أو (بنيهم) (¬3)، أو بني الأخوات، أو عبدها، أو مَن لا أَرَبَ له، فلا سبيل لهم إلى النظر؛ إذ لا سبيل لها إلى الإِبداء. أما هؤلاء (فبمطلق) (¬4) قوله تعالى: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، وأما هي، فبقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] استثنى من هذا النهي الظاهر من الزينة لكل أحدٍ، والمشترك من الباطنة (للذين) (¬5) ذُكروا في الآية، يعني ما ليس بمشترك منهيٌّ عن إبدائه، فينهى عن النظر إليه لكل أحد من الرجال، (محرماً) (¬6) كان أو أجنبيّاً، ويمكن استقراء هذا الذي شككنا فيه من أمر الأب والابن من حديث أم سلمة وعائشة زوجتي النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬
205 - أن سهلة بنت سهيل (¬1) قالت: يا رسول الله! إنا كنا نرى سالماً ولداً، وكان يأوي معي (ومع) (¬2) أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فُضُلاً (¬3)، وقد أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيهم ما قد علمت - تعني: قوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]- فكيف ترى فيه؟ فقال: "أرضعيه". الحديث ذكره بهذا اللفظ أبو داود (¬4)، وهو صحيح. وفي كتاب مسلم: إنه ذو لحية. ووجه دلالته لهذا الباب، من وجهين: أحدهما: أنها أخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن معتقدها، وعمَّا كانت تعامله به إبان كانت تعتقده (أنه) (¬5) من (أُولي الإِربة) (¬6)، [تجلس] (¬7) معه في بيت واحد متفضلة في ثوب واحد، وغير متفضلة، وتبذُّل المرأة في بيتها معلوم، فأقرها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليها. والوجه الثاني: أنه علّمها كيف تصير محرماً منه، حتى تبقى على ما كانت عليه من رؤيته لها، كما يراها [في] (¬8) سكناها، ومعلوم أنها في ¬
(حال) (¬1) مناولتها إياه الثدي غير أم؛ فقد دلّ هذا على جواز رؤية ما يتناول من الثدي؛ فإنه بيّن من هذا الخبر أن الابن يرى من أمه ما هو - غير الوجه والكفين والقَدَمين - مستور عادة, لا يكشف إلا بقصد - وإن كنا لا نقول برضاعة الكبير، لدليل (¬2) منع من القول بها، فلا مانع من هذا المعنى الذي تضمنه الخبر. وهذا إذا تقرر في الابن فهو أيضاً حكم الأب، بل هو أحرى بذلك. فالصواب إذاً هو قول مَن يقول: يجوز، ولكن لا بإطلاق (¬3)، لكن في حق هؤدلاء، ولا أعرف هذا القول لهم (¬4)، لكن مَن قال. يجوز بإطلاق نظر ذي المحرم إلى كل هذه المواضع، الحقيقة (أنه) (¬5) أجاز ذلك للأب وللابن، ومن قال: لا يجوز لواحد منهم النظر إليها؛ فقد منع [كذلك] (¬6) الأب والابن، فلم يخرج بهذا القول على أقوالهم، وعلى أن القولين المحكيين عنهم، قد قال بعض الناس: لا يجريان في الثديين، بل يلتحق الثديان بالوجه في جواز النظر إليهما، لكثرة (البدوّ) (¬7)، فلا يجريان على الثديين القولين. وسيأتي لهذا المعنى ذكر في مسألة نظر المخنث، فيما بعد إن شاء الله تعالى، فاعلم ذلك، وبالله التوفيق. ¬
(88) - مسألة: من ذوات المحارم من في (¬1) نظر ذي محرمها إليها خلاف، كأم الزوجة: جوّز مالك النظر إلى شعرها، ذكر ذلك ابن المواز عنه، ومنع [من] (¬2) ذلك سعيد بن جبير، وَتَلاَ حين (سُئل) (¬3) عنها [الآية] (¬4)، ثم قال: لا أراها فيها؛ وهو موضع نظر، فإن الشهوات لا تنضبط، وعلة الحرمة فيها، وهو كونها أمّاً للزوجة، لا يقتضي الطبع انكماشاً، كما فيما بينه وبين أخته مثلاً، وقد كان جائزاً له نكاحها قبل تزوجه بابنتها، وحدوث (الصهر) (*) بينهما (سببهما) (¬5) واحد، وهي مطيعة لطبعها، ولا زاجر لها عن ثوران الشهوة عند النظر. وزاجر الشرع ليس هو عن ثوران الشهوة، فإنه ليس داخلاً تحت الاكتساب، إنما هو عن التسبب لذلك، وعن العمل لحسمها، فعلى هذا لا يجوز له من النظر إليها ما يحرك شهوته، وهي في هذا بخلاف الأم والبنت والأخت، فإن الطباع نافرة عن قصد الإلتذاذ بهن، فاكتفى بذلك زاجراً، ولم يحتج معه إلى تحريم النظر. ولكن مع هذا فإن قول سعيد بن جبير في المنع من النظر إليها لا ينبغي الإِقدام على المصير إليه بإطلاق. والذي لا شك في جوازه: النظر منها إلى وجهها وكفيها، فإن ذلك قد جاز النظر إليه من الأجنبية (**)، والزيادة على ذلك عندي موضع توقف. ¬
(89) - مسألة: ربيبته أيضاً: نعني بدلك بنت امرأته هي أيضاً كذلك، ولأن كونها في حجره قَد انتهى إلى أن كان له أثر في الحرمة عند قوم. نبّه على ذلك قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]. 206 - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَا إنّها لو لم تكن رَبيبتي في حجري ما حلت لي" (¬1). ومثل هذا الوصف الذي قد أغني بدكره قرآناً وسنّة، اعتبر في الحكم بالتحريم، لا ينبغي إلغاؤه، فبحسب هذا يكون النظر (إليها) (¬2) جائزاً جوازه إلى ذوات محارمه القريبات، وباعتبار ما في الجبلات من أن النظر يحرك ¬
الشهوة حيث لا زاجر (للنفس (¬1) عن طبعها (¬2)) - يجب المنع، ولا أعرف فيها من القول بالمنع ما أعرفه في (التي) (¬3) قبلها من قول سعيد بن جبير. (90) - مسألة: جوّز مالك: أن يرى شعر امرأة ابنه: والقول فيها عندي، كالقول لي في أم امرأته. (91) - مسألة: أخت امرأته: هي عندي بالمنع أحرى، وذلك بيِّن فيها، فإن الحرمة التي بينه وبينها ليست كالحرمة التي بينه وبين أمّ زوجه وابنتها، فإن هده حرمة تزول بموت الزوج، أو طلاقها، وتلك لا ترتفع، فظهر الفرق، وغض البصر [واجب] (¬4) بإطلاق، وهذه أحرى [لأنه] (¬5) يقع بينهما [زواج] (¬6) لولا (¬7) أختها. وتعذرها تعذر أَخيه من أختها (¬8) زوجته، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الحمُ المو" فينبغي أن تكون هي موتاً آخر أحمر. وقد قال مالك -رَحِمَهُ اللهُ-: يبتعد عنها ما استطاع فاعلم ذلك. (92) - مسألة: زوجة الأب: جائز النظر إلى إلمشترك مما تبديه بلا نزاع، لقوله تعالى: {أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31]. ¬
وما روي عن الحسن والحسين - رضي الله عنهما -: أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين (¬1)، ذهاباً منهما إلى [أن] (¬2) أبناء البعولة لم يُذكروا في الآية التي في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي قوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} الآية [الأحزاب: 55]. كان ابن عباس - رضي الله عنهما - يخالفهما، ويقول: إن رؤيتهما لهن حلال، (ويحتج) (¬3) بآية النور. فإذا الذي يقع الآن من هذا لا ريب في جوازه، فاعلمه. (93) - مسألة: أُم ولد ابنه، هل يجوز أن ينطر منها إلى ما ينظر من زوج أبيه؟: الظاهر المنع بقاءً على الأصل، والسيد ليس بعلاً، وروى ابن القاسم عن مالك: قيل: أيسافر الرجل (¬4) بأمّ ولد ابنه ويحملها على الدابة، ويضمها إليه ولو صارت في عصمة غير أبيه؟ قال: لا أحب أن يسافر بها، ولا يعجبني، فارقها أبوه أو كانت تحته، وهذا ظاهر؛ لأنها منه أجنبية. قد قلنا فيما إذا كانت المرأة التي ينظر إليها الرجل ذات محرم، فلنقل الآن فيما إذا كانت أجنبية: ¬
(94) - مسألة: إذا كانت المرأة المنظور إليها غير ذات محرم - أعني أجنبية: فهي لا تخلو من أن تكون صغيرة، أو كبيرة، وإذا كانت كبيرة لا تخلو من أن تكون مسلمةً أو كافرة، إذا كانت مسلمة فلا تخلو من أن تكون حرَّة أو أمَة، شابَّة أو عجوزاً. (95) - مسألة: إن كانت هذه الأجنبية صغيرة, هل يجوز له النظر إلى وجهها أم لا؟: في ذلك قولان كما في الكبيرة على ما سنذكر الآن، إن شاء الله تعالى. والأظهر -إذا كانت لا تُشتهى لصغرها- الجواز، فإن كانت تشتهى جاز ما لم يخف الفتنة أو يقصد اللذة، كما نقوله بعدُ في الكبيرة، وهذه مبنية عليها، والتقسيم اقتضى تقديمها، وإلا فالأولى كان تأخيرها. ومن الفقهاء مَن قال: الأظهر المنع، نظراً إلى جنس الأنوثة. وقد صحَّ حديث أبي قتادة: 207 - "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤم الناس وأُمَامة بنت أبي العاص على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها" (¬1). ¬
ومستبعد جدّاً أن تكون على صغرها بنقاب، وقد رأوها وعرفوها. وحديث أم سلمة المتقدِّم الذكر (¬1) في الجارية التي رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجهها سفعة لا يدلُّ على المقصود ههنا، لاحتمال أن يكون أدرك ذلك منها بنظرة الفجأة. وسنقرر النظر إلى وجه الكبيرة بما لا يبقي إشكالاً في هذه، حتى يتبين بها جواز النظر إلى وجهها إذا لها يخف الفتنة، ولها يقصد اللذة، وامتناعه إذا قصد اللذة، وقد قلنا: إنه يحرم نظره بقصد اللذة لذات محرم؛ فكيف هذه التي فرضناها أجنبية، وجواز النظر إيضاً إذا لها يخف الفتنة، يتبين فيما بعد إن شاء الله تعالى. (96) - مسألة: أما نظره إلى فرج الأجنبية الصغيرة: فإنه لا يجوز، ولا أعلم في [ذلك] (¬2) خلافاً، وذكره الغزالي ولها يحكِ خلافاً. والذي تقدّم من إجازة مالك غسل النساء الصبي الصغير ابن سبع سنين ونحوه، إذ لزم عليه بالأحرى، والأولى غسل الرجال إياه، وغسل الرجال الصبية الصغيرة (¬3) لم يكن في ذلك إجازة نظر إلى العورة، كما في غسل الكبير والكبيرة. وأيضاً فإن الفتوى بذلك إنما هي حين لا يوجد مَن يغسل، فهي محل ضرورة. ¬
(97) - مسألة: فإن كانت هذه الأجنبية كبيرة, وهي مسلمة: فلا خفاء (في تحريم) (*) النظر من الأجنبي إلى ما عدا وجهها وكفيها وقدميها؛ كالصدر والبطن والعنق والشعر وما فوق السرة والظهر، هذه مواضع لا يجوز له النظر إلى شيء منها أصلاً، وهذا ما لا خلاف فيه، أما نظره إلى وجيها وكفيها وقدميها فموضع نظر، فلنبدأ بالوجه: (98) - مسألة: [أما] (¬1) نظره إلى وجهها: فمنهم: مَن جوزه [بإطلاق, ومنهم: مَن جوَّزه] (**) لا بإطلاق، ولكن مقيداً بأن لا يخاف (بالنظر) (¬2) إليه الفتنة، ومنهم: مَن حرمهُ بإطلاق، ومنهم: مَن جَعَلَه مكروهاً. وما روأه عاصم الأحول, عن الشعبي قال: قلت له: الرجل ينظر إلى المرأة لا يرى منها محرّماً، قال: ليس لك أن تتبعها ببصرك، يحتمل أن يكون به مانعاً من النظر، فيكون مع المحرّمين، ويحتمل أن يكون به مانعاً من الإِدامة والتحقق، فيكون مع المبيحين، وهذا أظهر في تأويله، فقد روي عنه: أنه كره أن يسِفَّ الرجل النظر إلى أُمه وابنته وأخته. قال أبو عبيد: الإسفاف: شدة النظر وحدته، وهذا منه بلا شك لا يكون به مانعاً، فإنه لا يمتنع عند أحد النظر هكذا إلى مَن ذكر، فهو إذاً مع المبيحين، فمَن حرَّم النظر إليه بإطلاق من الفقهاء، يَجيءُ قَولُهُ موافقاً لقول عبد الله بن مسعود: إن الزينة الظاهرة هي الثياب، فلا تبدي وجهها. [ومَن قال] (¬3): وما ¬
تبديه ينظر إليه، إلا أن يخاف الفتنة، يجيء قوله موافقاً لقول مَن قال في الزينة الظاهرة: إنها الثياب والوجه، إذ ما (يُبدى) (¬1) يجوز النظر إليه. وهذان القولان موجودان منصوص عليهما عند الشافعية, وأحدهما: وهو جواز النظر إليه إلا أن يخاف، هو مذهب الحنفية، نص على ذلك القدوري، ومن الشافعية مَن قال: إنه يكره النظر إلى ما ليس بعورة من الأجنبية، ولا يحرم، ويمكن أن يُقال: إن مذهب مالك منها هو أنه لا يجوز للرجل النظر [إلى وجه الأجنبية] (¬2) إلا من ضرورة، وإلى هذا ذهب ابن رشد، ونصَّ عليه في "المقدمات"، وسنورد (¬3) كلامه في باب تصرف الأجنبي للمرأة في حوائجها في باب الضرورات إن شاء الله تعالى، فإنه شرح الرواية في ذلك. وعلى هذا -وقد تقدم التنبيه على مواضع- تفهم أن مذهب مالك خلاف هذا، من جواز النظر إلى وجهها في باب ما تُبديه أو لا تبديه، عند الكلام على الزينة. ومذهب القاضي أبي بكر بن الطيب: تحريم النظر إلى وجه المرأة، إلا من ضرورة خطبة، وقد قدّمنا في مواضع أن إجازة الإِظهار دليل على إجازة النظر، فإذا نحن قلنا: ليجوز للمرأة أن تُبدي وجهها وكفيها لكل أحد, على غير وجه التبرج من غير ضرورة، لكون ذلك مما ظهر من زينتها، ومما يشق تعاهده بالستر في حال المهنة، فقد جاز للناس النظر إلى ذلك منها، لأنه لو كان النظر إليها ممنوعاً، مع أنها يجوز لها الإبداء، كان ذلك معاونة على الإِثم, وتعريضاً للمعصية، وإيقاعاً في الفتنة؛ بمثابة تناول الميتة للأكل لغير مضطر، فمن قال من الفقهاء بجواز البدوّ فهو غير محتاج إلى إقامة دليل على جواز النظر، وكذلك أيضاً ينبغي أن يكون مَن لم يجز للمرأة البدوّ ¬
والإِظهار، غير محتاج إلى إقامة الدليل على تحريم النظر، بل يكون النظر إليها من غير ضرورة حراماً، لأنه إذا كان إبداؤه حراماً، كان النظر إليه بمثابة النظر إلى العورة أو البطن أو غيرهما. وقد قدمنا أنه جائز للمرأة إبداء وجهها وكفيها، فإذاً النظر إلى ذلك جائز, لكن بشرط ألا يخاف الفتنة وأن لا يقصد اللذة، أما إذا قصد اللذة [وخاف الفتنة] (¬1) فلا نزاع في التحريم, بل لو كان نظره على هذا الوجه إلى ذات مَحرمه، بنته أو أخته، كان حراماً، واذا لم يقصد اللذة لكنه يخاف الفتنة بنظره، فينبغي أن يكون ممنوعاً، بقوله: "اصرف بصرك" (¬2)، وبليِّه عُنُق ابن عمه وقوله: "خشيت عليهما" (¬3)، وبما عُلم من قاعدة الشرع في الأمر بغضِّ البصر، أنّه لأجل الخوف على النفس وقصد صيانتها عما يجلب إليها هوًى، [وإن] كان لم يخف. [وما قلناه] (¬4) هاهنا، هو الخلاف الذي قدمنا حكايته، فمن مانع، ومن مجيز، وقد كان تقدم النظر في مسألة النظر إلى الغلام، وأنه إذا نظر إليه الناظر غير قاصد ولا خائف: أنه جائز بلد خلاف، والأمر هاهنا بخلاف ذلك، يعني أنه إذا نظر إلى وجه المرأة غير قاصد ولا خائف، فالخلاف قائم، استمداداً من غلبة الفتنة [بهن] (¬5)، أكثر من الفتنة بهم، وذلك أنهن محل ¬
قضاء (الوطر) (¬1) الذي ينبني عليه التناسل المقدر، فميل النفوس إليهن كميلها إلى الطعام والشراب، اللذين ينبني عليهما بقاء الجنس إلى أجله المقدر، فيلتحق هذا المعنى (بمَن حرم النظر من أجله) (¬2)، وإن كان الناظر غير قاصد ولا خائف، صيانة للنفس عن الهوى، حتى يكون ما ينال من اللذة، ويقضي من (الوطر) (¬3) على الوجه الشرعي، و (مَن) (¬4) غلب عليه الالتفات إلى المعنى الذي من أجله وجب غضُّ البصر في أصل الشريعة وهو الخوف على النفس مما يحد إليها الناظر، قال ههنا: هو غير خائفٍ ولا قاصدٍ؛ فالنظر جائز. أما نظر النساء إلى النساء، فينبغي أن يكون الأمر فيه كنظر الرجال إلى الغلمان، يعني أنه لا يكون الخلاف في ذلك، إن كان غير قاصدٍ ولا خائف كما لم يكن الخلاف في نظر الرجال إلى الغلمان. فهي إذاً أربع مسائل: نظر الرجال إلى الغلمان، ونظر النساء إلى النساء، هاتان متساويتان؛ إذا لم يكن خوف ولا قصد، جاز بلا خلاف, وإذا كان الأمران امتنعا بلد خلاف، فإن كان القصد دون الخوف، حرم ولو كان ابنه، أو من المرأة ابنتها، وعلى أن هذا القسم ممتنع التصور، فإن قصد اللذة هو عين الفتنة، وإن كان الخوف من غير قصد لذة وهو يعلم من نفسه الإنقياد إلى البصر، والنزع إلى الهوى افترقتا. أما (النظر) (¬5) إلى الغلام، فقيل: يحرم بإطلاق، وقيل: يجوز، فإن أَحَسَّ بشيء أمسك. ¬
وأما في نظر المرأة إلى المرأة، فقيل: يجوز, فإن خافت أمسكت، وقيل. يجوفي لها ما يجوز لذي المحرم من ذات محرمه، ويمتنع عليها ما يمتنع عليه، وقيل: يمتنع بإطلاق لأجل الخوف، كما في نظر الرجل إلى الغلام، وقد تقدم ذكر ذلك، وتوجيهه في بابه. أما نظر الرجال إلى النساء، أو نظر النساء إلى الرجال (فالقول) (¬1) فيهما على خلاف ذلك، وهو أنه إذا تحقق الأمران: الخوف والقصد، أو كان القصد وتُصور دون الخوف، حرم النظر في الحالين، ولو كان من الرجل إلى ابنته، ومن المرأة إلى ابنها، وإن عدم الأمران، فأما في [مسألة] (*) نظر الرجل إلى المرأة, فقيل: يجوز النظر إليها، التفاتاً إلى عدم سبب المنع، وقيل: لا يجوز تغليباً لمستقر العادة في ميل النفوس إليهن, وأما في مسألة نظر المرأة إلى الرجل، فأحرى بالجواز، إذ لا قصد ولا خوف، وإن كان الخوف دون القصد امتنع النظر ولا بد في مسألة نظر الرجل إلى المرأة، وهذا هو موضع غض البصر المشروع، خيفة الفتنة. وأما في مسألة نظر المرأة إلى الرجل، فمختلف فيه على ثلاثة أقوال (¬2)، سنبينها في الباب الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى. ولنعد تلخيصها على وجه آخر، فنقول: قصد الإلتذاذ محرِّمٌ النظرَ لذوي المحارم وذوات المحارم، فكيف للأجنبيات والأجانب، سواء كان الناظر رجلاً أو امرأة, لرجل أو امرأة، وينتظم قصد الإلتذاذ قسمين: إذ يكون مع الخوف ودونه، وعدم الأمرين يجوز معه ثلاث مسائل، ويختلف في الرابعة، وهو نظر ¬
الرجل إلى المرأة، فقيل فيها: يمتنع، لأنها محل الشهوة الجِبِلِّيَة (¬1)، وقيل: يجوز لعدم سبب المنع، فلم يبقَ إلا قسم واحد، وهو الخوف دون القصد. ففي مسألة نظر الرجل إلى الغلام قولان (¬2): قيل: يجوز، فإن تحرك أمسك. وقيل: يحرم بإطلاق. وفي مسألة نظر المرأة إلى المرأة ثلاثة أقوال: قيل: يجوز، فإنها لم تقصكد، ولعلَّ ما خفت لا يقع، ولكنها إن تحركت أمسكت. وقيل: يجوز لها ما يجوز لذي المحرم من ذات محرمه، وقيل: يمتنع بإطلاق، حذراً مما يخاف من الفتنة. وفي مسألة نظر الرجل إلى المرأة، يحرم قولاً واحداً، لأن المحكي فيه: قولان: أحدهما: يحرم بإطلاق، والآخر: يجوز ما لم يخف. فعلى القولين: إذا خاف حرم، وفي مسألة نظر الرجل إلى المرأة إذا خاف ولم يقصد، فيها ثلاثة أقوال، سنبينها في باب نظر النساء إلى الرجال إن شاء الله. (والمسألة) (¬3) التي نحن فيها قد نسيتُها بما خرجنا إليه، فلنعد لها؛ وهي نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية الحرة (البالغة) (¬4)؛ فإذا قصد اللذة وخاف الفتنة حرم النظر، وإذا قصد اللذة ولم يخف كذلك، بل وكذلك لابنته، وإذا لم يخف ولم يقصد قولان: أحدهما: المنع، والآخر: الجواز فإن تحرك أمسك، وفيما إذا خاف ولم يقصد، المنع ولا بد. وعلى هذا تخرج الأحاديث. أما قوله -عَلَيْهِ السَّلَامْ- لجرير بن عبد الله: "اصرف بصرك"، فإنه يعني به ما بعد نظر الفجأة، إذ لا يدخل نظر الفجأة تحت التكليف، فإنها بغير قصد ¬
إلى إيقاعها، وإنما قال له: "اصرف بصرك" عما وراءها، وذلك والله أعلم أنه خاف عليه الهوى، لما (رآه) (¬1) (معتنياً) (¬2) بالسؤال عنه، ولأنه معلوم من حاله - رضي الله عنه - أنه كان في الجمال (كيوسف) (¬3)، وكذلك كان يقال: جرير يوسف هذه الأمة (*). والنظر كما يجرُّ الناظر إلى الهوى، يجرُّه إلى المنظور إليه، كما قال (¬4): ويرفعُ الطرفَ نحوي إنْ مررتُ به ... ليُخجلني من شدَّة النَّظَرِ وما زالَ يفعلُ بي هذا ويدمنُه ... حتى لقد صارَ من همِّي ومن نَظَرِي فلعله -عَلَيْهِ السَّلَامْ- خاف أن يكون نظره جالباً إليه هوى، ومسبباً لمَن ينظر إليه هوى، فمنعه، وعلى هذا المعنى يخرج ما رُوي عن مالك -رَحِمَهُ اللهُ- من اشتراطه في نظر العبد إلى سيدته أن لا يكون له منظر، لأنه إذا كان له المنظر والجمال والشباب فنظر، (استمالها لا) (¬5) بد؛ إذ [المرأة] (¬6) تكون تارة ضعيفة سريعة الإنكسار، ولا سيما إن كانت لا زوج لها، بخلاف الوغد القبيح المنظر، هذا يمكن أن يكون نظره ترويعاً، فكيف أن يعد جالباً للهوى، والله أعلم. ¬
208 - وروى الترمذي: عن محمد بن (بشار) (¬1)، عن أبي أحمد الزبيري، عن سفيان، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة (¬2)، عن زيد بن (علي) (¬3)، عن أبيه، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث الفضل بن عباس، قال: ولوى عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله! [لمَ] (¬4) لويت عنق ابن عمِّك؟ قال: "رأيت شابّاً وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما". قال الترمذي (¬5): حديث حسن صحيح. وذكره البزّار أيضاً. وهو ظاهر قوي بما قلناه من إباحة النظر إذا لم يخف الفتنة، وذلك من حيث تركها لم يأمرها بالتنقب، ولم ينهَ الناس عن النظر إليها، وإنما نهى مَن خاف عليه الفتنة. فإن قيل: لعلها كانت محرمة، فلذلك لم تؤمر بستر وجهها. فالجواب أن (نقول) (¬6): لا يضرُّ ذلك ما نحن فيه، من إباحته ¬
(للفضل) (¬1) وغيره النظر، لولا ما خاف من الفتنة، هذا ما لا يقدر أحد أن يفهم من الخبر خلافه؛ أعني: أنه لولا خوفه عليه الإفتتان (لتركه) (¬2) كما ترك الناس. وقد فهم العباس أن النظر جائز, (ولذلك) (¬3) أنكر ليَّ عُنُق ابنه، حتى عرَّفه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالذي أوجب ذلك، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على (فهمه) (¬4)، ولو كان النظر حراماً لقال له: يا عم! إني رأيته ينظر، والنظر حرام. وهو لم يقل هكذا، وإما قال له: "رأيت شابّاً وشابة فخشيت ... "، فمنعه لما خاف عليه. أما المرأة، فإنه -والله أعلم- رآها مقبلة على شأنها سائلة عمَّا عنَّ (¬5) لها، فلذلك لم يعرض لها بنهي، فإق (تتبعها) (¬6) لم تدلَّ عليه قرينة، كما دلت قرينة التفات الفضل وإلحَاحِه بالنظر على مُغِيبَةٍ (¬7)، فلعل المرأة لم تقصد بالنظر التذاذاً ولا خافت فتنة، وسنزيد هذا بياناً في باب نظر المرأة إلى الرجل إن شاء الله تعالى. فإن قيل: فقد ذكر البزار ما هذا سياقه: 209 - نا يوسف بن موسى، نا عبيد الله بن موسى، نا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس: أنه قال: "كنت رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المزدلفة وأعرابي يسايره، ومعه ابنة له حسناء ¬
قد أردفها خلفه، فجعلت أنظر إليها، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يلوي وجهي ويصرفه عنها، فلم يقطع التلبية حتى رمى جمرة العقبة" (¬1). ففي هذا الحديث أنها مردفة خلف أبيها. وفي حديث: "فمرت [به] (*) ظُعُن يجرين" (¬2) فإن هذا تعارض. قلنا: لا تعارض فيه، بل يمكن وقوع ذلك كله، فمرت الظعن، وساير الأعرابي، وسألت الخثعمية (¬3)، وتكرر الفعل من الفضل، والمنع من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا يؤيد ما قلناه: من أنه عرض له لما رأى من إلحاحه، ولم يعرض للنساء ¬
لإقبالهن على شؤونهن أو لأنهن محرمات (¬1)، ولا أيضاً لغير الفضل من الرجال، ممّن لم يرَ (منهم) (¬2) ما رأى من الفضل من الإِلحاح. ويتبين من حديث رواه ابن جريج عن: 210 - [أبي] (¬3) الزبير، عن أبي معبد، عن ابن عباس، عن أخيه الفضل بن عباص: أنه كان مردفاً للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في دفعته من عرفة إلى المزدلفة يوم عرفة، ومن المزدلفة إلى منى يوم النحر. ذكر ذلك البزار (¬4) فاعلمه. فإن قيل: فقد ذكر البزار حديث أبي سهم، قال: 211 - مرَّت بي امرأة فنظرت إليها، فجبذتُها (¬5) جبذة ثم أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغد وهو يبايع الناس، فنظر إليَّ فقال: "ألستَ صاحب الجبذة بالأمس؟ " قلت: بلى يا رسول الله! لا أعود، قال: "فبايعني" (¬6). وإسناده صحيح. قال: نا محمد بن عبد المخرمي، قال: نا أسود بن عامر، قال: نا هريم، يعني: ابن سفيان، عن بيان بن بشر، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي شهم (¬7). ¬
ففي هذا أنه أنكر عليه الجبذة، ولم ينكر النظرة، وبلا ريب أنها قد كانت بقصد يمنع من النظر بدليل ما تبعها من الجبذة. قلنا: بل ظاهر القصة: أنه أنكر عليه النظر، فأما الجبذ فما فيه مس ولا لمس، فلعله كان بطرف من ثوبها. وإنما المنكر الذي أتاه النظر، وهو الذي أفهمه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أنه يمنعه من مبايعته، وليس في قوله: "ألستَ صاحب الجبذة بالأمس؟ " ما يدل على أنه لا (يعني) (¬1) إلا الجبذة، بل ما ذكر ذلك إلا كالصفة له المفهمة أنه قد عرف ما كان منه من غير تصريح به؛ فما في هذا ما يناقض شيئاً مما قلناه، لأنه لا خلاف في تحريم ما أشبه هذا من النظر، فاعلمه، والله الموفق. (99) - مسألة: نظره إلى القدمين والكفين، من الحرة الأجنبية المدركة المشتهاة: (ينبني) (¬2) القول فيه على ما تقدم مما تبديه للأجانب من زينتها الظاهرة، وقد كان منهم مَن قال: الثياب والوجه فقط، فهؤلاء لا يجيزون النظر إلى الكفين والقدمين، وكان منهم مَن قال: الوجه والكفان، فهؤلاء يجيزون النظر إلى ذلك، وكان منهم مَن قال: ظهور القدمين ليسا بعورة ولا يلزم سترهما في الصلاة، فهؤلاء يجيزون النظر إلى الوجه والكفين وظهور القدمين. فممَّن (¬3) يقول بأنها تبدي الوجه والكفين: سعيد بن جبير، والأوزاعي، وزاد ابن عباس: إلى نصف الذراع، وهذا هو الصواب عندي (أخذاً) (¬4) مما قد مرَّ في باب ما يجوز إبداؤه، وبما مرَّ الآن في مسألة النظر إلى الوجه، فإذاً يجوز ¬
للأجنبي النظر إلى الكفين، كما يجوز له النظر إلى الوجه، ما لها يخف. أما القدمان، فقد قلنا: إن الأظهر المنع من إبدائهما، فيمتنع على ذلك النظر إليهما. وهذا كله مبنيٌّ على ما قد تقدّم، وقد تمسّك بجواز النظر إلى اليدين بحديث حذيفة المتقدم (¬1) في الجارية التي أخذ بيدها، كَافّاً لها عن الطعام، بل القبض على يدها أشد من النظر إليها، ولكن يجوز النظر ولا يجوز القبض على يد الأجنبية، وإنما كان هذا من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنكاراً لمنكرها وتغييراً عليها، والممكن من تغييره باليد، لأنها لها تكن (منتهية) (¬2) باللسان، والذي أتت منكراً؛ وهو تناولها طعاماً لها تُدع إليه، [ومَن أتى طعاماً] (¬3) بغير إذن مالكه منتهباً أو شبه المنتهب، والله أعلم. (100) - مسألة: فإن كانت هذه الأجنبية المسلمة الحرة عجوزاً, قد بلغت من السن إلى حد لا تتحرك شهوةٌ بالنظر إليها: فالأظهر عند أبي حامد الغزالي المنع، بناه على أصل القائلين بالمنع من النظر إلى وجه الأجنبية مطلقاً، وسوّى بينها وبين الفتاة من حيث هي بالجملة محل الوطء، والشهوات لا تنضبط، ولكل ساقطة لاقطة، وإذ قد كان مختارها (جواز) (¬4) النظر إلى (وجهها) (¬5) كالفتاة، ما لم تخف الفتنة، أو تقصد اللذة، فإق النظر إلى هذه بالجواز أَحرى، فإنه أَمن من الفتنة بسبب قائم محقق. ¬
هذا هو المعتمد، ويعتضد بظواهرها: دخوله - صلى الله عليه وسلم - على أم سليم (¬1) وأم حرام، وائتمامهما به، وبعيد أن تكونا مستترتي الوجه، وإن جاز ذلك فإنه ليس بالظاهر، ولم تكن أم سليم من الكبر في هذا الحد الذي فرضناه، بل كانت في سن مَن يلد، وابنها عبد الله لمّا ولدته سماه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. كذلك: 212 - قوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس: "اعتدِّي عند أم شريك" (¬2). ¬
على معتادها من زيارة الرجال إياها، والفارق الموجب للإفتراق: أنها عجوز، وفاطمة شابة، هذا هو الأظهر فيه، ويحتمل أن يكون قد علم من أم شريك التحفظ، ومن فاطمة التساهل في التفضل، ولم يبح لواحدة منهن التبرج بالزينة. وكذلك أيضاً: غَزوُ أُمّ عطية (¬1) مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات، تداوي الجرحى وتقوم على المرضى. وكذلك غزو أم سليم (¬2)، وحضورها القتال بخنجرها لمزيد قوامتها. ¬
والغالب على مثل هذه الأحوال، البُدوُّ على الناس والنظر؛ فالظاهر من هذا كله جواز ما وراء نظر المفاجآت، إلا لمَن خاف أو قصد اللذة، وقد تقدّم القول في ذلك، وفي ما يجوز للقواعد من النساء إبداؤه، في باب ما يجوز إبداؤه وما لا يجوز. (101) - مسألة: فإن كانت هذه الأجنبية مسلمة أمة, هل هي في جواز النظر إليها وامتناعه مثل الحرة أم لا؟: اختُلف في ذلك؛ فمنهم مَن قال: إنها كالحرة سواء، ومنهم مَن قال: هي بالنسبة إلى الرجل كنسبة الرجل إلى الرجل، فيما يجوز أن ينظر منها، ومنهم مَن قال: ينظر منها إلى ما يجوز أن ينظر إليه من ذوات محارمه، وذلك مثل: الوجه والرأس والصدر والساقين والعضدين، ولا ينظر إلى بطن ولا ظهر، هذا ما حكاه القدوري على أنه مذهب الحنفية، وزعم أبو عمر بن عبد البر: أن (كون ما) (¬1) هو منها عورة كالرجل متمع عليه، وزعم الغزالي: أن القياس هو أن لا يجوز النظر منها إلا ما يجوز النظر إليه من الحرة، وحكاه قولاً قد قيل. وروي عن مالك من كراهة خروجهن متجردات ما قد ذكرنا جميعه، وبينَّا كيف لا يصح الإِجماع الذي حكاه أبو عمر معه مستوعباً، في باب ما يجوز للأمة إبداؤه، فعُد إليه بالنظر (¬2). والأظهر عندي في تلك المسألة: جواز إبدائهن من أنفسهن أكثر مما تبديه الحرة من نفسها، أخذاً مما قدَّمنا ذكره من مستقر الأمر فيهن جيلاً فجيلاً. وأما في هذه المسألة التي هي ما يجوز النظر إليه منهن؛ فموضع حذر ¬
وتوقف، فإن من الإِماء من هي أحسن من كل حرة تراها عين، والإِطلاق للرجال على النظو إلى محاسنهن (معناه) (¬1) مخالفة المتقرر شرعاً من وجوب مراعاة صيانة النفس بغضِّ البصر عمَّا يجلب إليه الهوى. فإن قلت: هذا [يعارض] (¬2) لما لم يزل معتصداً إياه في كل مَا مَرَّ مِن أنه: متى جاز الإِبداء جاز النظر، وما جاز إبداؤه جاز النظر إليه. وهنا قلت: إن الأمة يجوز لها أن تبدي من نفسها أكثر مما تبديه الحرة، ولا يجوز للرجل أن ينظر منها إلا إلى ما ينظر إليه من الحرة. فالجوابا أن نقول: إنما أثبتنا ذلك الأصل بقول مطلق، وهو: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ} [المائدة: 2]. فمَن أجاز الإِبداء أجاز النظر؛ فإنه لو حرم كان الإِبداء إعانة على الإِثم، وهذا القول المطلق على تقييده في موطن أو مواطن بأَدِلَّة مقيدة إن وردت، وهذا المكان من ذلك فإنا إن أبحنا للرجل النظر إلى غير الوجه والكفين من صدر أو عنق من جارية كالبدر، فقد خالفنا مقطوعاً به، وأرسلنا البصر حيث أمر بِغَضِّه، وتعرضنا للفتن أكثر من تعرضنا لها (بالنظر) (¬3) إلى ذلك من الحرة الشوهاء الهزيلة التي قد حرم النظو (إليها كلذلك) (¬4) هاهنا: وهذا النوع من النظر [من] (¬5) حكاه يكون فظيعاً. فإن قيل: 213 - فقد روى أنس بن مالك في قضية صفية: أنهم قالوا: لا ندري ¬
أتزوجها، أم اتخذها أم ولد؟ قالوا: إن حجبها فهي امرأته، وان لم يحجبها فهي أم ولد، فلمَّا أراد أن يركب حجبها فقعدت على عجز البعير، فعرفوا أنه قد تزوَّجها (¬1). ففي هذا: "إن لم يحجبها فهي أُم ولد"، يعنون أمة، فإنها لم تلد بعد، وبعيد أن يعنوا بذلك سَترَ وجهها، فإن الحرة والأمة في إبداء الوجه سواء، فإنما ذلك فيما زاد على الوجه؛ فقد دلَّ هذا على أنها تبدي إذا كانت أمة أكثر مما تبديه الحرة. فالجواب أن نقول: هذا عين ما قلناه من أن الأمة فيما تبديه بخلاف الحرة، أي: إنها تبدي من نفسها أكثر [من] (¬2) الحرة، وأما في النظر إليها كالحرة ليس ذلك في هذا الخبر، فإنهم لم يقولوا: إنهم نظروا منها إلى أكثر من الوجه، ولا ذكروا ذلك، والأظهر أن يكون قوله: "حجبها" إنما معناه: أنه ستر ركبتها حتى خلف (الحجاب) (¬3)، فلما (استقرت) (¬4) أرسل الحجاب، وإذا كان ذلك لم يكن منه اعتراض، وكفينا مؤونة الجواب. ¬
(102) - مسألة: أمة له بعضها ولغيره بعضها: لا يجوز له من النظر إليها إلا ما يجوز من نظره إلى أمة ليس له فيها شيء. (103) - مسألة: أمة له بعضها وبعضها حرة: نصَّ مالك على أنه لا يجوز له النظر إليها، يعني إلا كما يجوز للحرة الأجنبية، وهو صحيح، لعدم سبب الإِباحة. (104) - مسألة: أمته في كل ما قلناه كزوجه، ما لم يزوجها، فإذا زوجها حرم عليه الإستمتاع بها، وصارت بمنزلة ذوات محارمه: فلا يجوز أن ينظر إليها بقصد شهوة، ولا أن ينظر منها إلى ما بين السرة والركبة كما ينظر إلى ذلك من ذوات محارمه، وليس (¬1) ينبغي أن يكون في هذا خلاف، ولا أعلمه. والحديث الذي فيه قد تقدم ذكره في فصل الإِناث من الباب الثاني، وهو حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، (ونبهنا) (¬2) على ضعفه فاعلم ذلك. (105) - مسألة: فإن كانت هذه الأجنبية الحرة كافرة، هل هي في جواز نظر الرجال إليها كالمؤمنة؟ أو أقل حرمة؟: يظهر في ذلك مثل المؤمنة، ولا أعرف خلاف ذلك، وإنما وجب أن تكون مثلها لتساويها في تحريك الشهوة، وتعرض الناظر إليها للفتنة، بل ربما كانت النفس بما تعلم من (هوى) (¬3) مَن لا وازع له أسرع إلى الإفتتان بها، وقد ¬
تقدم الآن (¬1) الجواب عن حديث حذيفة في إمساك النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بيد الكافرة تغييراً لمنكرها في تناولها طعام غيرها بغير أمره، من بين أيدي رجال ليس لها من التبسط بحضرتهم هذا القدر، فغيّره بيده؛ وذلك إذا لم يكن التغيير باللسان كافياً .. ودرجات التغيير: باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب، وهذا ضعف [الإيمان]، ولم يكن الطعام للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيتركه لها، وواضعه بين أيديهم لا ندري ما فعل ولا نُقل [أنه] (*) كان حاضراً، وليس وضعه للطعام بين أيديهم تمليكاً لهم حتى يتصرَّفوا فيه بغير الأكل، ولا أيضاً وُضع بين يدي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وحده فيستبد فيه بنظره، وقد بينا قبل: أنها كانت مكلفة، غير صغيرة، والله أعلم. وليس من هذا الباب قول علي - رضي الله عنه - للمرأة: "لتُخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقيصتها" كما ضمنه البخاري (¬2) -رَحِمَهُ اللهُ-، حيث ترجم في كتابه عليه: إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة، والمؤمنات إذا عصين [الله] (¬3) وتجريدهن، لاحتمال ألا يكون أحد منهم نظر إلى عقيصتها، ولا أيضاً فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالمعتمد ما تقدم، والله الموفق. (106) - مسألة: [كل] (¬4) ما قلنا: أنه لا يجوز نظر الرجل [إليه] (¬5) من المرأة لو كانت (حية) (¬6) فإنه لا يجوز أيضاً (وإن) (¬7) ماتت: ¬
وقد بينّا قبل (¬1): أن نظر الرجل إلى فرج امرأته إت كان جائزاً حال الحياة، فإنه يمتنع بعد الموت، فما لم يكن النظر إليه جائزاً [في الحياة] (¬2)، أحرى بأن يمتنع النظر إليه بعد الموت، وذلك لأنها محترمة، والنظو (منتهك) (¬3) لحرمتها، وتحدث (للميت) (¬4) حرمة لم تكن (للحي) (¬5)، وذلك أن النظر إلى المرأة في حال الحياة إن كان حَرُم مخافة الإفتتان، وذلك معدوم في الميتة؛ فإن الحرمة التي حدثت بالموت مستقلة بتَسبِيب المنع، وإنما أحسب أنه لا خلاف فيها، ومن أجل ذلك تكلم الفقهاء في مسألة جواز غسل الرجل لها عند عدم النساء، وقد منعوا زوجها من النظر إلى فرجها إذا غسلها، وقد تقدم (¬6) ذكر ذلك. وقد روى أشهب: عن مالك في المرأة تموت بفلاة ومعها ابنها؛ أيغسلها؟ قال: ما أحبُّ أن يلي منها ذلك، قيل: (أييممها) (¬7)؟ قال: يصبُّ الماء عليها من وراء الثوب أحبُّ إلي (¬8). فانظر كيف منعه بعد موتها من نظر ما كان له جائزاً النظر إليه في حياتها ممّا عدا العورة؛ إذ العورة سواء في حال الموت وفي حال الحياة، لا يجوز نظرء (إليها) (¬9)، وهكذا قولهم في سائر ذوي المحارم: الأخ والأب وغيرهما، فاعلمه. ¬
(107) - مسألة: من المبالغة في أن لا ينطر الرجل من المرأة ولا بعد الموت، إلا إلى ما يجوز له: ما روى ابن القاسم: عن مالك من أنه سُئل عن تغطية القبر بالثوب على المرأة حين تدفن أواجب ذلك على الناس؟ ومن أول من فعله؟ فاستحسنه، وقال: أرى أن يعمل به، لأنه (ستر) (¬1) لها، لا يرى منها شيء من خَلقها. قال أبو الوليد بن رشد: وهو بيِّن المعنى، (كذا) (¬2) قال، وعندي: أنه شيء لا أصل له، إلا أنه مبالغة في الستر (*). ¬
(108) - مسألة: كل ما [لا] (¬1) يجوز للرجل أن ينطر إليه من المرأة, لا يحل النظر إليه من وراء ثوب رقيق لا يستر حجم عظامها (وصور) (¬2) لحمها: ¬
مثل أن ينظر إلى حلق (عجيزتها) (¬1)، أو إلى نهود ثدييها، وما أشبه ذلك، لأن هذا نظر نحسبه يؤدي من الفتنة إلى ما يؤدي إليه النظر بغير ساتر وقريباً منه، فامتنع. وفي هذا حديث لا يصحُّ، هو: 214 - ما روي في صحيفة خراش (¬2) بن عبد الله خادم أنس بن مالك المعمر، قال: نا مولاي أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن تأمل خلق امرأة حتى يستبين له حجم عظامها وَرَاءَ ثيابها وهو صائم فقد أفطر" (¬3). وأحاديثه عنه نحو أربعة عشر، كلها باطل، والرجل المعمّر المذكور مجهول (¬4): ذكره أبو أحمد بن عدي في باب الحسن بن علي العدوي (¬5)، فإنّه ¬
من روايته عن خراش، وهو في عداد مَن يضع الأحاديث، وقد تقدَّم من هذا في باب إبداء الوجه والكفّين شيء فعُدْ إليه. (109) - مسألة: ما أُبين منها وهي حيَّة أو ميتة لا يجوز النظر إليه: كذراعٍ أو قدم أو ثدي أو عقيصة (¬1)؛ لأن الحرمة باقية، فالحرمة كذلك .. أما إذا لم يتبين أنه جزء من المرأة، فجواز النظر إليه حكم الأصل، وعدم سبب المنع باقٍ. قد قلنا في النظر إلى المرأة محرَّمة كانت أو غير ذات محرم قولاً مفصلاً بالنظر إلى جانب الموأة، مجملاً بالنظر إلى جانب الرجل، وعلينا أن تفصِّله كذلك، فلنذكره مسائل: (110) - مسألة: أما الصغير فلا كلام فيه، لأنه ليس بمخاطب: وقد مر القول في جواز الإِبداء والبدوّ إليه وله، ولكن من الصبيان الذين لم يخاطبوا مراهقون، يفهمون ويفطنون للمحاسن، [فهم] (¬2) وإن كان التكليف لم يتوجَّه إليهم (¬3)، فينبغي أن يؤدَّبوا على النظر، وُيدَرَّبوا (¬4) على تركه، تدريبهم وتأديبهم على الصلاة، فإن المسألة الحاصلة لهم ههنا بإطلاعهم على ذلك (يعسر زوالها) (¬5). وقال القاضي أبو بكر بن الطيب: علينا نحن تكليف وإلزام في منعهم من كلِّ محرم، وليس (منعهم منه) (¬6) إنكار المحرم عليهم، وإنما نمنعهم امتثالاً ¬
لأمر الله تعالى لنا بذلك، لئلا يألفوا مجالسة الحُرَم والدخول عليهن، وطلب النظر إلى أبدانهن ومحاسنهن، (ينشؤون) (¬1) على ذلك ويألفونه، ويصعب عليهم مفارقته عند البلوغ، والله أعلم. (111) - مسألة: المخنَّث الذي يعلم من نفسه موت الشهوة أو عدمها من الأصل: يجوز له من النظر ما يجوز لمن ذكر في الآية، كما جاز للمرأة البدوّ له، فهو إذاً يُحرَم من النظر [إذا] (¬2) استفتى نفسه، فإن وجدها بحيث لا يأبه للمرأة إلا كما تأبه لها المرأة، كان حكمه في النظر حكم المرأة. والأصل في هذا قد تقدم ذكره من دخول المخنَّث على أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، باعتقادهن فيه أنه من غير أُولي الإِربة، فكان يَنظُر وُينظَر إليه، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - معهن على ذلك، إلى أن سمع منه ما سمع، مما دلَّ على أنه ممّن يفطن لمحاسن النساء، ولعل وراء ذلك أمراً قبيحاً، فتبين بإقراره إياه جواز نظره إلى ما ينظر إليه أبعد من ذكر في الآية (¬3)، إذ الذي يجوز له أن ينظر إليه هو ما يشترك في النظر إليه جميعهم، لا ما يجوز للأب والإبن النظر إليه. فإن قيل: يظهر من هذا الخبر (¬4) وكلامه جواز نظره إلى محاسن المرأة الباطنة التي لا تظهر إلا بإظهار المقصود، أخذاً من جعله -عَزَّوَجَلَّ- من لا أرب له بمثابة الآباء والأبناء، والإِخوان وبنيهم، وبني الأخوات، وأب البعل وابنه، ومن ¬
حيث أخبر المخنث عن نفسه برؤية منعوته على الوجه [الذي] (¬1) وصف، فلم ينكر ذلك عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنما منع من الدخول في المستقبل لمَّا رُؤي فطناً لمحاسن النساء، ولم يقل له مع ذلك: إن النظر إلى المواضع التي (وصفت) (¬2) منها لا يحل لك، ولو كنت على ما كنا نعتقد فيك قبل من (كونك) (¬3) غير ذي أرب. ويظهر منها أيضاً: جواز رؤية ذوي المحارم ذلك بجواز رؤية مَن ليس ذا أرب له، فإنه إذا جاز ذلك لمَن ليس له أرب، كان جوازه لذي المحارم أحرى، فإن غاية (¬4) نهايته أن يترك منزلهم، ويقرر المعترض حجته على هذين الأمرين، بأن يقول: قد سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نظر إلى الظهر والبطن ولم (يوبخه) (¬5) على ذلك (إنكاراً) (¬6) لما سمعه من نعته، المتضمن أنه قد يغلل (¬7) في النظر، لكنه منعه من الدخول في مستقبل الزمان، لما سقطت الثقة به وصار الظنُّ غالباً بأنه ذو أَرب، فبقي جواز النظر للبطن وغيره كما كان, ثم ذو المحرم يكون بهذا أحرى وأولى. قلنا في الجواب عن هذا: لا يُسَلَّم أنه أجاز له ما فرط منه، بل في الخبر اعتراف بأنه تعدَّى في النظر إلى ما لا يحل النظر إليه، فإن الذي يجوز له أن ينظر إليه إذا كان غير ذي أرب ليس الأعكان (¬8) وأطرافها في الظهر، بل إنما ¬
كان يجوز له النظر إلى المشترك الذي يراه أبو البعل وابنه، بل هو (أسوأ) (¬1) حالاً منهما، فكيف يكون قد اعترف بأنه نظر إلى ما لا يحلُّ له إليها النظر، ويظن أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أقرَّه على ذلك ولم ينكر عليه؟ وقد عرف أنه ممَّن يشعر ويفطن لما لا يشعر به ولا يفطن له إلا الفحل. وكذلك أيضاً يمانع (¬2) هذا المعترض بأن يقال له: أَرأيت إن نوزعت في أنه نظر مَا إلى [ما] (¬3) في الخبر بيانه؟ ولعل ما سمعه هو عنده مستقر بوصف واصف، أو واصفة، أو غير ذلك من الوجوه، وأقل الأحوال أن يكون الخبر محتملاً، فلا يحتج به لاستباحة ذوي المحارم النظر إلى هذه المواضع، لأنَّه لم يصحَّ ذلك لمَن هو غير ذات أرب. فإن قيل: فما معنى ما صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لعنه المخنثين من الرجال (¬4)؟ وهذا يدلُّ على أنهم يجب التغليظ عليهم بمنع النظر وغيره. قلنا: هذا والله أعلم معناه: أنه (لعن) (¬5) المتصنِّعين بالخَنَث، المدلّسين به، فأما مَن خُلق كذلك (ممَّن لا) (¬6) اختيار له فيه، فغير مؤاخذ ولا مذنب، وهو الذي إذا فرضناه وسأل متديناً أُفتي بما تقدم. ¬
215 - وروي: عن ابن عباس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: " (المؤنثون) (¬1) أولاد الجن". وهو حديث منكر يرويه أبو أحمد بن عدي (¬2)، قال: ثنا إبراهيم بن إسماعيل بن الفوج الغافقي، ثنا أحمد بن عبد الرحمن (¬3) بن وهب، ثنا عمر، حدثني يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، فذكره. وابن عبد الرحمن بن وهب، ويحيى بن أيوب: ضعيفان، ولكن لا يبلغان أن يتهما بوضع، وقد أخرج لهما مسلم. وفي باب يحيى بن أيوب، ذكر هذا الحديث أبو أحمد, قال (إثره) (¬4): قيل لابن عباس: يا أبا الفضل كيف ذلك؟ قال: 216 - "نهى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، أن يأتي الرجل امرأته وهي حائض، فإذا أتاها سبقه الشيطان إليها فحملت منه فأتت بالتأنث" (¬5). ¬
فلو صحَّ هذا الخبر كان فيه بيان صحة وجودهم مخلوقين كذلك، غير متصنِّعين ولا مدلِّسين، وإذا لم يصحَّ فشمهادة الوجود كافية، فاعلها ذلك. وقد تقدّم القول في جواز إبداء المرأة زينتها الخفيَّة للمخنَّث، في باب ما تبدي [وما] (¬1) لا تبدي بما يغني عن إعادته ههنا. (112) - مسألة: إن فرض من الرجال مَنْ لا أَرب له في النساء، ولا ينتشر (¬2)، وهو مع ذلك غير مخنث، أي: (منكسر) (¬3) الحركات والقول: جاز له فيما بينه وبين الله تعالى من النظر ما يجوز للمخنث المفروغ من ذكره الان، لأنه لا أرب له, ونُحِيله على ما يعلم من نفسه، أما المرأة في البدوّ له فليس لها علامة ظاهرة يُباح لها بها البدو، وقد تقدم هذا في بابه. (113) - مسألة: العبدفي النظر إلى سيدته، بمثابة مَن ليس له أرب: فإنا قررنا جواز بدوها له، واذا كان جائزاً لها البدو، جاز (له) (¬4) النظر إلى ما يبدو له منها، وقد تقدَّم ذلك، ومَن منع من بدو المرأة للعبد منع من النظر إليها، كما تقدَّم عن سعيد بن المسيب، وهو مذهب أبي حنيفة. قال القدوري: ولا يجوز للمملوك أن ينظر من سيدته إلا ما يجوز للأجنبي أن ينظر إليه منها، وقد منع النظر إليها مَن أجاز البدو (لها) (*)، ¬
روي (عن) (¬1) الشعبي: أنه كان لا يرى بأساً [أن تضع] (¬2) المرأة ثوبها عند مملوكها، وكان يكره أن يرى شعرها. وأما مالك فالرواية عنه مقيدة، وعلى ما ذكره ابن المواز عنه، قال: والعبد الفحل يرى [من شعر] (¬3) سيدته دون غيرها إذا كان لا منظر له، وكذلك (إذا) (¬4) كان مكاتبها. فإن قيل: ولم يشترط [فيه] (¬5) أن لا يكون له منظر، وإنما ينبغي أن يكون ذلك مشترطاً في بدو المرأة [] (¬6) طريقاً إليه، أما نظره إليها فلا. فالجواب أن يقال: يخرج اشتراط ذلك على مثل ما [قررنا] (¬7) عليه نهيه -عَلَيْهِ السَّلَامْ- (جريراً) (¬8) عن النظر لما كان به من الجمال ما كان، [والنظر] (¬9) من الجميل محرك جالب للهوى، بخلاف نظر القبيح فإنه أقرب إلى أن [] (¬10) ترويعاً منه إلى أن يجلب هوى. (114) - مسألة: عبد لها بعضه، وبعضه لغيرها: لا يجوز له أن ينظر إليها، فإنها لا يجوز لها البدو له، والأصل: الأمر بغضِّ البصر والتستر. ¬
(115) - مسألة: رجل لها بعضُه, وبعضُه حرّ كذلك, بل هو أحرى بهذا: وروي عن مالك: أنه قال: لا يجوز له النظر إليها، (وغداً) (¬1) كان أو غير وغدٍ، وهذا صحيح؛ لأن سبب الإِباحة معدوم، وسبب المنع قائم. (116) - مسألة: مدبّرها، عبدٌ لها: يجوز له ما جاز له. (117) - مسألة: مكاتَبُها: ينبني الأمر في جواز نظره على ما تقدم في جواز بدوّها له من اعتبار أدائه شيئاً من كتابته، أو وجود وفائها عنده، وقد تقدم ذلك كله، ومذهب مالك: أنه عبد، فيجوز له ما جاز له، ومذهب ابن عبد الحكم: أنه عبد، ولكن العبد لا تبدو له؛ لأن الآية عنده محمولة على الإماء، أعني {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31]، وقد تقدَّم جميع ذلك مستوعباً. (118) - مسألة: عبد (الأجنبي) (¬2): في امتناع نظره إليها كَالحُرّ سواء، ولا فرق، كما لا يجوز (لها) (¬3) أن تبدوَ له. (119) - مسألة: عبد زوجها: أباح له بعض الفقهاء الدخول والنّظر، وهو بعيد بما تقدَّم في باب البدوّ له، وروي عن ابن القاسم: أنه قال: أحبُّ إليّ أن لا يرى شعرها وزينتها مَن لا (تملكه) (¬4) ¬
كان لزوجها أو لغيره، مِمَّن (بلغ) (¬1) الحلم، وليس (وجهها) (¬2)، بخلاف مَن تملك. (120) - مسألة: إنْ كان عبدُها ممسوحاً: كان النظر إليها أجوز وأحرى بذلك، والرواية فيه عن مالك مقيدة [بما إذا كان وغداً] (¬3)، وذلك أنه قال: لا بأس أن يرى الخصي الوغد شعر سيدته [وغيره] (¬4)، فإن كان له المنظر فلا أحبه، وأمّا الحرّ فلا وإن كان وغداً، ويمكن توجيهه بما تقدم. (121) - مسألة: إن كان عبد زوجها (ممسوحاً) (¬5): استحب مالك نظره إليها، وينبغي إذ هو منها أجنبي (¬6) أن يراعى فيه ما يراعى في (الممسوح) (¬7) إذا كان حرّاً أو عبداً لأجنبي. (122) - مسألة: الممسوح الحر في جواز نظره للأجنبية: روي عن مالك فيه ما يدل على المنع، وذلك أنه لم يجز للمرأة أن تبدوَ له، (زاد) (¬8) في كتاب محمد: وإن كان وغداً. وقال القدوري عن الحنفية: والخصي في النظر إلى الأجنبية كالفحل. ¬
وينبغي عندي: أن يعتبر فيه أنه ذو أرب أو لا أرب له، فإذا سأل عن جواز النظر له أحلناه على ما يعلم من نفسه، فإن كان معه من الأرب (والشبق) (¬1) (شيء) (¬2) حرم عليه النظر، لأنه أجنبي مأمور بغضِّ البصر عن كلِّ ما لا يجوز للأجنبي النظر إليه، وإن لم يكن معه شيء من ذلك فهو بمنزلة جميع (مَن) (¬3) لا أرب له (مِمّن) (¬4) تقدم ذكره فيما مرَّ، وقد تقدمت أيضاً مسألة بدوّ المرأة له. (123) - مسألة: الممسوح إذا كان عبداً لأجنبي: القول فيه كالقول في الممسوح الحرّ، إذ لا أثر لكونه عبداً، فإنه مع كونه عبداً يبتغي من المرأة ما يبتغيه الحر، وأولى بالمنع، وروي عن مالك: أنه قال: أرجو أن يكون خصيّ زوجها خفيفاً، وأكره خصيان غيره. وظاهر هذا منه الكراهة لا التحريم. وروي عنه أيضاً: [أنه] (¬5) لا بأس بالخصيّ العبد يدخل على النساء، ويرى شعورهن إن لم يكن له منظر، وأمّا الحر فلا. وظاهر هذا منه الإِباحة، وعندى: أنه لا أثر لكونه عبداً، وانما المعتبر بقاء الأرب أو عدمه كما تقدم. (124) - مسألة: الشيخ الفاني في جواز نظره, (عالم) (¬6) بحكم نفسه: إن كان له أرب لم يجز، وإن كان لا أرب له جاز. وقد مر ذكر التسوية ¬
بينه وبين المخنث في جواز البدوّ له، من حيث قيام الهرم دليلاً على عدم الأرب (كالمخنّث) (¬1)، بل هو أحرى، فإن (الخنث) (¬2) يمكن الدُّلسَة به. (125) - مسألة: العنين: في جواز نظره، مثله سواء. (126) - مسألة: مَن ليس ذا أرب (يستتفل) (¬3) عدمه [للإرب] (¬4) في باب جواز [النظر] (¬5) بالإِجازة من غير شرط الاتباع، أخذاً من قصة ذلك المخنث الذي كان يدخل على أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يكن بالغاً. ومسألة بدوّ المرأة له، هل يشترط فيه ذلك أو لا يشترط؟ قد تقدمت مسألة الخنثى، هل ينظر أم لا ينظر؟. نقول: إن كان يعلم من نفسه الميل إلى جهة الرجولة، حرم عليه النظر إلى النساء، ويعرف ذلك من نفسه بأشياء، منها: أن يمني بفرج الرجل أو يبول، وإن كان مائلًا إلى جهة الأنوثة كان في نظره إلى الرجال كالمرأة، وسيأتي ذكره في بابه بعد هذا إن شاء الله تعالى، وتعرف ذلك من نفسها بأن تحيض بفرج المرأة أو تبول. فإن كان مشكلاً، كان نظره إلى الرجال نظر النساء إليهم، ونظره إلى النساء نظر الرجال إليهن؛ (فإن) (¬6) فرضناه يمني (بفرج) (¬7) الرجل ويحيض بفرج المرأة. ¬
أما إن بال بفرج الرجال (وحاض) (¬1) بفرج النساء، فاختلف فيه: فقيل: التعويل على (الميل) (*)؛ لأنه أدوم، فهو رجل، وقيل: يعد مشكلاً. وتفسيره في نظره إلى الرجال أو النساء هو أن نقول له: إذا أراد أن ينظر إلى رجل: اعمل على أنك امرأة، فلا تستبح من النظر إلى الرجال إلا ما تستبيحه المرأة، وسيأتي بيانه؛ وإذا أراد أن ينظر إلى المرأة: اعمل على أنك رجل، فلا تستبح من النظر إليها إلا ما يستبيحه الرجل، وقد مرَّ بيانه. وعلى هذا يجري الأمر في مسألة [مس] (**) ذَكَر نفسه أو فرجه، إذ تبينا على أن مَن مسّ ذكره انتقض وضوءُه، ومَن مست فرجها كذلك، فنقول: إذا مسّ فرجه انتقض وضوءُه قطعاً، وإن مسّ أحدهما، وتبينا على أن مَن أيقن في الوضوء وشك في الحدث لا شيء عليه، فلا وضوء عليه؛ لأن هذا الذي مسَّ من نفسه لا يدري لعله (عضو) (¬2) زائد، فإن مسَّ أحدهما (وصلّى) (¬3)، ثم توضأ ومسّ الآخر وصلّى، فإحدى صلاتيه باطلة بلا شك، فهل يقضيهما جميعاً (كمَن) (¬4) فاتته صلاة من صلاتين، أم لا يقضيهما (كصلاتين) (¬5) إلى جهتين بالاجتهاد؟ اختلف في ذلك. وعلى هذا ينبني الأمر فيما إذا مسّ رجل فرج خنثى، يُقال: إن مسّ ذكره انتقض وضوُءه؛ لأنه قد مسّ ذكر رجل، أو لمس فرج امرأة، وإن (شك) (¬6) لم ¬
ينتقض وضوءُه، لأنه لا شك في النقض بعد تيقن الطهارة، لاحتمال أن يكون ما مسَّ [إلا] (¬1) عضواً زائداً، وهو في الحقيقة رجل، فيكون بمسِّه إياه كمن مسّ ركبته أو عضداً أو إصبعاً زائدة من رجل، فإن كان الماسُّ امرأة، فإن مسّت من الخنثى فرجه انتقض وضوءُها؛ لأنه إن كان امرأة فقد مسّت هذه فرجها، وإن كان رجلاً فقد لمسته هذه المرأة في عضو من أعضائه، وإن كانت إنما مسّت منه ذكره، فلا وضوء عليها، لأنها متيقنة بالطهارة، (شاكّة) (¬2) في الناقض؛ لأن هذا الممسوس لعله عضو زائد؛ فإن (تكن) (¬3) امرأة (فهي) (¬4) لم تمسَّ منها فرجها، إنما مسّت منها ما هو بمثابة الإِصبع الزائدة. وعلى هذا لو أن خنثيين مسّ أحدهما من صاحبه الفرج، والآخر الذكر، فقد انتقضت طهارة أحدهما لا بعينه بكلِّ حال. وهل تصحُّ صلاتهما جميعاً؟ مذكوراً في مواضعه، وإنما ذكرنا هذا -وإن كان ليس مما نحن فيه- ليتبين منه أن المنزع الذي نزعناه في نظره، هل هو مثل منازع [الخنثى] (¬5) في أحكامه؟ ومسائل فرائضه معروفة، فلا نطيل بها. * * * ¬
الباب السادس في نظر النساء إلى الرجال
الباب السادس في نظر النساء إلى الرجال
(127) - مسألة: نظر المرأة إلى الزوج أو السيد: كنظرهما (إليها) (¬1) في جميع ما تقدم، ولا فرق إلا في نظرها إلى فرجه، فإنه لم يرد فيه من النهي ما ورد في نظره هو إلى فرجها، مما قد نبّهنا عليه وعلى (علته) (¬2). (128) - مسألة: نظرها إلى ذلك من أحدهما بعد موته: كنظره هو إلى ذلك [منها] (¬3) بعد موتها، وقد تقدم، والقول في غسيل المرأة زوجها أو سيدها ليس هذا موضع ذكره، ولا هو أيضاً مبيح للاطلاع على العورة، وهذا على مذهب مَن أباح لها غسله، أما [مَن] (¬4) لم يبح لها غسله فبالأحرى يقال: إنه لم يبح لها الإطلاع عليه، والقول في هذا الباب في أم الولد كالقول في الزوجة، هو مختلف فيه كذلك، ومَن قال: لا تغسل مستولدها: الحسن البصري. (129) - مسألة: نظرها إلى ذوي المحارم: جائز، كنظر الرجال إليهم، وإنما يحرم عليها النظر إلى العورات منهم، والأمر في هذا بَيّن، ولا خلاف فيه. وروي عن مالك: أنه قال: وكل مَن لا يحل [له] (*) فرجها فلا تطلع على ¬
عورته، في مرض ولا صحة ولا على اضطرار، قال: واحتجبت عائشة - رضي الله عنها - من أعمى، فقيل لها: إنه لا ينظر إليك، قالت: لكني أنظر إليه (¬1). فهذا عموم منه [في] (¬2) مَن لا يحلّ له فرجها، (أجنبيّاً) (¬3) (كان أو ذا) (¬4) محرم، وهذا صحيح ويمكن أن يفترق نظرها إليهم من نظرهم إليها فيما هو من البدن مستور عادة، إلا أن يظهر بقصدة كالصدر والبطن والظهر (ونحوها) (¬5)، فإنا قد قلنا في نظر ذوي المحارم إلى ذلك من ذوات محارمهم ما تقدم، والأمر أبيَنُ في جواز نظر النساء إلى تلك المواضع من ذوي محارمهن، إلا أنّه يجب التفريق في ذلك بين ذوي المحارم، فليس نظرها إلى صدر أبيها أو بطنه كنظرها إلى صدر ابن زوجها أو بطنه، وأَبين ما يفترق فيه البابان [أعني] (¬6) المحارم وهؤلاء، نظرها إلى ذلك ممَّن لا أَرب له في النساء أو من عبدها، فإنه أَخفُّ من نظرهم إلى ذلك منها، فليس نظر المرأة إلى صدر عبدها كنظره هو إلى صدرها؛ نظرهم يقع أشد من نظرهن، وإن كان نظرهن لتلك المواضع منهم محذوراً مخافة الهوى، والضابط المعتبر حاكم عدل (فليلتفت قضاؤه) (¬7) ويلزم، وهو أن الغضَّ عن كلِّ ما يمكن أن يكون ¬
النظر جالباً إليه هوى واجب، وذلك منتفٍ عن الأب والإبن والأخ وابن الأخت في أغلب الأحوال، وغير منتفٍ في أبي البعل وابنه وعبدها ومَن لا أرب له، فقد تستحسن هي له وإن لم يتحرك هو (لها) (¬1) ولا (أرب) (¬2) به لحسنها، فاعلم ذلك، والله الموفق. (130) - مسألة: نظر المرأة إلى عورة أجنبي ليس موضع نظر، لصحة الإجماع على تحريمه، وهو كحال نظر الرجل إلى عورة الأجنبي، واذا كان نظرها إلى عورة الأجنبية حراماً، فأحرى وأولى أن يكون نظرها إلى عورة الأجنبي حراماً: وقد قال في حديث أبي سعيد: "لا تنظر المرأة على عورة المرأة" (¬3). ولنص على عين المسألة: 217 - حديث جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر النساء! إذا سجد الرجال فاغضضن أبصاركن، لا ترين عورات الرجال من ضيق الأزر". ذكره ابن أبي شيبة (¬4)، وهو صحيح. ¬
(131) - مسألة: نظر المرأة إلى ما عدا العورة من الأجنبي: فيه للعلماء ثلاثة أقوال، نصَّ [على] (¬1) جميعها الغزالي: أحدها (¬2): أنه كنظر الرجال إليها، يجوز منه لها ما (جاز) (¬3) لهم منه، وقد تقدم ذكر ذلك. والثاني: أنه كنظر الرجال إلى ذوات محارمهم، وقد تقدَّم أيضاً. والثالث: أنه تنظر منهم إلى [ما] (¬4) وراء العورة مطلقاً، ويحترز عند خوف الفتنة. ويشبه أن يكون هذا مذهب الحنفية، قال القدوري: ويجوز للمرأة أن تنظر من الرجال إلى ما ينظر الرجل [إليه] (¬5) منه، وقدم قبله: إن الرجل يجوز له أن ينظر من الرجل إلى جميع بدنه ما عدا ما بين سرته إلى ركبته. ويتحصَّل للمالكية أيضاً فيها ثلاثة أقوال كذلك: أحدها: أن ينظرن من الرجل إلى جميع بدنه، ما عدا ما بين سرته إلى ركبته، هو الأول من الثلاثة المحكية الآن، فإنه لا خلاف أعلمه في جواز نظر المرأة إلى وجه الرجل مطلقاً (¬6) إذا لم تقصد اللذة ولم تخف الفتنة، كنظر الرجل إلى وجه الغلمان والمردان إذا لم يقصد ولا خوف، بخلاف نظر الرجل إلى وجه المرأة في الحالة المذكورة، فإنه مختلف فيه كما قدمنا ذكره، وكذلك ¬
أيضاً لا خلاف في جواز إبداء الرجال شعورهم وأذرعهم (¬1) وسوقهم؛ سواء بحضرة الرجال أو بحضرة النساء، وشعر المرأة وساقها لا يحلّ للأجنبي أن ينظر إليهما إجماعاً. فإذاً ليس الرجل من المرأة كالمرأة من الرجل في ذلك، فيجب أن [لا] (¬2) يجوَّز القول: بأن نظرها إليهم كنظرهم إليها بهذا (¬3) التحرير. والقول الثاني: لا يكون بدنه عورةً في حقِّها. والقول الثالث: من الثلاثة؛ بأن (¬4) الذي يجوز لها أن تنظر إليه من الرجل هو ما يجوز للرجل أن ينظر إليه من ذوات محارمه، وهذا هو الذي اختاره [أبو] (¬5) الوليد بن رشد، فلم (يزد) (¬6) في المسألة على ثلاثة أقوال شيئاً، ولكن كان يجب عندي أن (يُفصِّل) (¬7) القول في نظرهن إلى وجوه الرجال، كما يُفصَّل في نظر الرجال إلى وجوه النساء والى وجوه المردان، وكما يفصل القول في نظر النساء إلى وجوه النساء بالأحرى والأولى، فإنها إن نظرت إلى وجه شاب (حسنٍ) (¬8) بقصد الإلتذاذ، لم يُشكَّ في تحريم ذلك عليها، ووجوب غضِّ البصر عنه، وإن نظرت ولم تقصد الإلتذاذ بالجمال، ولا أيضاً خافت على نفسها من نظرها، لم يشكَّ في جواز النظر لتوفُّر الشرطين اللذين هما: ¬
عدم قصد الإلتذاذ، وعدم الخوف، وإن هي نظرت غير قاصدة الإلتذاذ ولكنها خائفة بالنظر على نفسها لما تعلم من طاعة قلبها (لعينها) (¬1)، فقد كانت الأقوال - فيما إذا نظرت في هذه الحال إلى امرأة - (ثلاثة) (¬2): أحدها: يجوز، لأنها لم تقصد، ولعل ما خافت لا يقع، ولكنها إن نظرت فتحركت كفت وأمسكت. والآخر: لا يجوز لها إلا ما جاز (لذي) (¬3) المحرم من (ذات) (¬4) محرمه، فإن نظرت وتحركت (أمسكت) (¬5). والثالث: لا يجوز أصلاً، فعلى هذا يجيء الأمر من مسألتنا أحرى بالمنع، لأن نظر المرأة إلى الرجل أقرب إلى ما يخاف بينهما من نظر المرأة إلى المرأة، (كما) (¬6) يخاف بينهما أيضاً، يعني فيما إذا لم تقصد ولكنها خافت، فينبغي أن تكون ممنوعة من النظر إلى الرجل متى خافت. وقد تقدّم تلخيص القول في المسائل الأربع في الباب الذي قبل هذا فعُد إليه. ومسألتنا الحاضرة هذه -أعني: نظر المرأة إلى الرجل- (فحظها) (¬7) من التقسيم المذكور ما نذكره الآن؛ فنقول: إن قصدت اللذة وخافت الفتنة حرم بلا نزاع، وكذلك إن قصدت ولم تخف، فإنها (تاركة) (¬8) لغض البصر حيث أُمِرت به، ومتعرضة بقصد الإلتذاذ ¬
(لجلب) (¬1) الهوى، ولعلّ قصد الإلتذاذ هو عين الفتنة، وإن هي لم تقصد ولم تخف جاز بلا نزاع بأحرى وأولى من جواز نظر الرجال إلى الرجال وإلى النساء، ولا يكون فيها من الخلاف ما في نظر الرجال إلى النساء، لأن الرجال لم يؤمروا قط بتنقب ولا بستر كما أُمر النساء. فإذاً للمرأة أن تنظر في هذه الحال التي هي لا خوف ولا قصد [التذاذ] (¬2) إلى وجوه الرجال، كما تنظر إلى [الكبش] (¬3) والخيل، واذا جاز إلى الوجه، جاز إلى الكفين والقدمين بالأحرى والأولى، فإن الوجه هو (مجمع) (*) المحاسن. أما إذا قصدت الإلتذاذ وخافت الإفتتان، فليس لها النظر ولا إلى (القِرد) (¬4) على هذا الوجه، وكذلك إذا قصدت وإن لم تخف، فإنها إذا قصدت الإستمتاع والتلذذ بالنظر تحقَّقَ من خوف الإفتتان ما ليس في حسبانها، إن لم يكن ذلك القصد هو عين الفتنة، (فيبقى) (¬5) (النظر فيما) (**) إذا لم تقصد الإلتذاذ ولكنها تعلم من نفسها أنها إذا استحسنت خافت الفتنة، وهي الآن قبل النظر غير مستحسنة، فهل يجوز لها إرسال طرفها أم لا؟. هذا هو عندي (من) (¬6) الموضع الذي ينبغي أن تكون فيه الأقوال (الثلاتة المحكية) (¬7): ¬
قول: نظرها إليهم (كنظرهم) (¬1) إليها، أي: فلا يجوز، لأنا فرضنا [ها] (¬2) خائفة. وقول: يجوز لها من النظر إليهم ما يجوز للرجال [من] (¬3) ذوي محارمهم، وذلك الوجه والكفان والقدمان؛ فإن نظرت فتحركت أمسكت، لا بد من هذا الشرط. وقول: إنها تنظر منهم إلى [ما] (*) وراء العورة بإطلاق، إلا أنه لا بد من الشرط المذكور، أعني: أنها إن تحركت أمسكت، لا بد من هذا الشرط فاحفظه، (إلا أنه) (¬4) إنما ننظر في مسألة نظر المرأة إلى الرجل ما إذا كان بغير قصلد الإلتذاذ، مع علمها من نفسها (باستحسان) (¬5) المستحسن وخوف الإفتتان. أيُّ هذه الأقوال الثلاثة أصح؟. فنقول وبالله التوفيق: الضابط المعتبر: هو جلب الهوى، الموقع في الفحشاء، من أجل ذلك نهينا عن النظر قطعاً، وأمرنا بغضِّ البصر في المواضع المسلَّمة التي لا نزاع فيها، والعلم بهذا كالعلم بأنا إنما نُهينا عن الزنى مخافة اختلاط الأنساب، [وأمرنا] (**) (بالقصاص) (¬6) زجراً عن (سفك) (¬7) الدماء، وقد تقدم هذا مبسوطاً. ¬
وإذا كان هذا هكذا، لم يَخف ترجيح القول الأول [الذي] (¬1) هو: أن نظرها إليهم كنظرهم [إليها] (¬2)، فإذا كان نظرهها إليها إذا خافوا حراماً، فليكن (نظرهن إليهم) (¬3) حراماً إذا حقق هذا - وإن لم يقصدن الإلتذاذ في الموضعين. ثم نزيد على هذا أن نقول: وإذا جاز لها النظر إلى الوجه حين [لا] (¬4) تخاف [ولا تقصد] (¬5)؛ فالنظر إلى الكفين والقدمين أجوز، وإذا حرم عليها النظر إلى الوجه وغير ذلك من (الجسد) (¬6) فإن كلاًّ من الحسن حسن، فتخرَّج من هذا أن أصوب الأقوال: هو قول مَن منع بإطلاق إذا كان الخوف، والله أعلم. وفي هذا المعنى أحاديث لا بد أَن نوردها حتى ننظر فيها، كما قد فعلنا في جميع ما تقدم: منها: حديث الخثعمية الذي تقدّم (¬7)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رأيت شابّاً وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما" وهو موافق لما قلناه، بل يصلح أن يكون لنا (متمسَّكاً) (¬8) (لظهوره) (¬9) فيه، فَإِنَّ هناك جانبين: جانبها وجانب الفضل، أما جانب الفضل؛ فمن حيث علم منه ما علم من إلحاحه على النظر خاف ¬
عليه، فَصَرَف وجهه، فهو قائم مقام النهي، وأما جانب المرأة؛ فمن حيث علم منها ما علم من إقبالها على شأنها وانشغالها بسؤالها، لم يعرض لها بنهي؛ لا عن النظر ولا عن البدوِّ، فأما البدر: فقد تقدم القول فيه، وأما النظر: فلعلها إن كانت نظرت (غير) (¬1) قاصدة ولا خائفة، ومنها لا يعلم، فلذلك لم يعرض لها. ومنها: حديث عائشة، قالت: 218 - جاء حبش يَزفُنُون في يوم عيدٍ في المسجد، فدعاني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فوضعت وأسي على منكبه، فتعلت أنظر إلى لعبهم، حتى كنت أنا (التي) (¬2) انصرفت عن النظر إليهم، وفي رواية: إنها هي قالت: وددتُ أني أَراهم، فدعاها، وفي رواية: يسترني بردائه، لكي أنظرَ إلى لعبهم. وفي رواية: أقامني وواءه، خدّي على خدّه. ذكر جميع هذه الألفاظ مسلم (¬3) -رَحِمَهُ اللهُ-. 219 - وروى أبو سَلَمة عنها، قال: قالت عائشة: دخلتِ الحبشةُ المسجدَ يلعبون في المسجد فقال: "يا حميراء! أتحبين أن تنظري (¬4) إليهم؟ " فقلت: ¬
نعم (فقام) (¬1) بالباب وحيدته، فوضعت ذقني على عاتقه، (وأسندت) (¬2) وجهي إلى خدِّه، قالت: ومن قولهم يومئذ: (أبا) (*) القاسم طيباً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حسبكِ؟ "، فقلت: لا تعجل يا رسول الله! فقام [لِي] (**) ثم قال: "حسبك؟ "، قلت: لا تعجل يا رسول الله! قالت: وما لي (حب) (¬3) النظر إليهم، ولكني أحببت أن يبلغ النساء مقامه (لي) (¬4) (ومكاني) (¬5) منه. ذكره النسائي (¬6). وهو صحيح، وتخريجه على ما قلناه (بين) (¬7). فإنها بلا ريب - رضي الله عنها وحاشاها -[لم ترد] (¬8) سوى رؤية اللعب ولا هي أيضاً خائفة، فخرج -كما قلناه- إقراره إياها على النظر, لعدم تحقق الشرطين المانعين. وقد جعل بعضهم لحديث عائشة هذا مخرجاً آخر، وهو أن قال: كانت غير ¬
بالغ، لأنه نكحها بنت ست أو سبع، وبنى بها بنت تسع، قال: ويجوز أن يكون قبل ضرب الحجاب، قال: ومع ما في السودان مما (تستقبحه) (¬1) العيون، قال: وليس (الصبيات) (¬2) كالنساء في معرفة ما هنالك من أمر الرجال، قال: خلاف ميمونة وأم سلمة اللتين قيل لهما في النظر إلى الأعمى: "أفعمياوان أنتما؟ " (¬3)، يعني: أنهما امرأتان بالغتان (مبلغ) (¬4) النساء. هذا الذي وصفناه منزع ابن عبد البر (¬5) في ذلك، وبعضه يحتاج فيه إلى نقل تاريخ، وهو ما (¬6) قال مِن سَبقه نزول الحجاب، وصِغَر عائشة بأنها [لم تكن] (¬7) قد بلغت، والنبي - صلى الله عليه وسلم -[ما بنى بها] (¬8) حتى [بلغت تسع سنين، فهذا] (¬9) بلا شك، فإنه توفي عنها وهي بنت ثماني عشرة. ¬
ومنها: 220 - قوله -عَلَيْهِ السَّلَامْ- لفاطمة بنت قيس: "اعتدِّي عند ابن أم مَكتوم" (¬1). فإنه يخرج أيضاً كذلك (¬2) خروجاً صحيحاً لو سُلّم أن فيه إطلاق النظر لها، وبهذا استدلَّ ابن رشد على ما ذهب إليه من جواز نظرها إلى ما ينظر إليه الرجل من ذات محرمه، وليس فيه ذلك. ومنها: حديث المخنّث (¬3)، وخروجه أيضاً على ذلك بَيّن جدّاً، باعتبار أحوال الفاضلات الزاكيات أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن -. 221 - وروى (أسامة) (¬4) بن زيد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ به (¬5) أبو سفيان بن الحارث، فقال: "يا عائشة! هلمي حتى أريك ابن عمي الذي بجانبي". ذكره البزار (¬6): عن عبد الله بن نافع، عن أسامة، (وكلاهما لو لووا ضعف فهو حسن) (¬7) ولو صحَّ خارج على ما قلناه: من إباحة النظر لها بغير قصد الإلتذاذ حين لا خوف، فإن الذي لأجله نظرت إليه فقد تعين، كلعب الحبشة. وأشدُّ ما يرد على هذا القول: حديث أم سلمة، قال الترمذي: ¬
222 - حدثنا سويد، نا عبد الله هو ابن مبارك، نا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن نبهان مولى [أم سلمة] (¬1): أنه حدثه: أن أم سلمة حدثته: أنها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وميمونة، قالت: فبينا نحن عنده، أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه [وذلك] (*) بعدما أُمرنا بالحجاب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احتجبا منه" فقلت: يا رسول الله! أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟! " (¬2). قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح. والمعترض به يقول: هذا نهي مطلوب للنساء الفاضلات الزاكيات البريئات من التهم عن النظر إلى أعمى جرب الوجه، فإن العينين أجمل [ما] (¬3) فيه، فما ظنك بنظر امرأة ليست في الزكاة والفضل يهذه (المرتبة) (¬4) إلى شابّ جميل صحيح البصر يلحظه قلب العمي؟!. والجواب محته أن نقول: هما - رضي الله عنهما - عللتا جواز النظر بعلة غير صحيحة، وهي كونه أعمى، وليست علة الجواز عدم النظر من المنظور إليه، وإنما علة جواز نظرهن إلى الرجال عدم القصد والخوف، أما عدم الخوف مع وجود القصد، أو عدم القصد مع وجود الخوف، (فلأنهما) (¬5) نظرتا في جواز نظرهما إليه نظراً غير صحيح، بأن جعلتا علة الجواز كونه لا يبصر ولا يعرف، رد قولهما ¬
- بالمعارضة بعلة أخرى - بالمنع، ولم يعط ذلك لهما [علة] (¬1) مستقلة بالمنع دون ضميمة الخوف، من حيث كان مبطلاً لعلتهما. ويبقى النظر في منعه لهما من النظر إليه، يُحال به على أمرين: القصد والخوف، وهما - رضي الله عنهما - وإن كانتا غير متهمتين باستباحة النظر على الوجه الممنوع، فإنه يظهر من أمرهما أنهما (استحلتا) (¬2) النظر إليه لما كان أعمى، والنظر إلى الأعمى (يتجدد) (¬3) ويدوم ويتتبع به المحاسن في وجه المنظور إليه الأعمى، ما لا يتَّبع به في وجه المبصرة فإنك إذا كلمت المبصر لم تنظر من وجهه في الأغلب إلا إلى عينيه، وهو كذلك إن نظر إليك حين تكلمه، وإذا كلمت الأعمى تتبعت بنظرك ما شئت من وجهه وبدنه (لا يلقاك) (¬4) صادّ، حتى صلح بهذا الاعتبار أن يُقال: "ألستما تبصرانه؟ " ولو كان صحيحاً صلح أن يقال: ألستما تبصرانه؟ وألستما تبصران عينيه؟ .. وهذا الوجه وإن كان (مستجمعاً) (¬5) من سننه بقيده، فإنه يمكن أن يحمل عليه باعتبار علو منصبهما - رضي الله عنهما -، ومطاليتهما بما خرجت، كما تقرر قبل. وقد نزع فيه ابن عبد البر منزعاً آخر؛ وهو أن الرجل أمر بحجب امرأته بقدر ما يراه، حتى لربما يمنع منها المرأة، فضلاً عن الأعمى، وأما [أُمّا] (¬6) المؤمنين - رضي الله عنهما - ليستا كأحد من النساء، وهذا محتمل لما قال، ومندفع من حيث وجوب المساواة بينهما وبين غيرهما فيما لم يثبت فيه دليل التخصيص، والذي أخرجنا عليه الحديث أعوض. ¬
فإن قيل: ولو صحَّ: 223 - حديث جعفر بن نصر أبي ميمون (¬1)، قال: نا حفص بن غياث، قال: نا ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "لا تعلموا نساءكم الكتابة، ولا تسكنوهن العلالي". ¬
قيل: كان يدل على منعهن من النظر، حيث نهى عن إسكانهنّ مكاناً يشرفن منه (ويمكنهن [من أن] ليطلعن) (¬1). قلت: ليس هذا المعنى بنص فيه، ويحتمل أن يريد: لا تسكنوهن العلالي، فيظهرن للناظرين حتى يكون مثل الحديث الضعيف الآخر: 224 - "استعينوا على النساء بالعري" (¬2)، أي: حتى يلزمن البيوت. وكلا الحديثين مستغنى عن النظر فيه، لضعفهما، والله أعلم. (132) - مسألة: أما نظر المرأة إلى ما عَدا الوجه والكفين والقدمين من (الرجال) (¬3): ¬
فيقع الأمر في ذلك أبين منه في التي قبلها، وههنا (¬1) يكون بالمنع أحرى، لا سيما إذا اعتبر انقسام الرجال: إلى الحسان الوجوه، الناعمي الأبدان، [وإلى] (¬2) مَن هو بعكس ذلك منهم، فإنه يتبين امتناع إطلاق المرأة النظر إلى جسم شاب حسن ناعم (وهيئته) (¬3)، لقد كاد يحرم ذلك على الرجال، أعني: وهم غير قاصدين الإلتذاذ، [فكيف] (¬4) لا يحرم على النساء؟!. (133) - مسألة: نظرهن إلى مَن يجوز النظر (إليه) (¬5) من غير أولي الإِربة: [هل] (¬6) يُعتبر في جواز ذلك لهن شرط واحد وهو: كونه غير ذي أرب، أو شرطان, هذا أحدهما، والآخر: أن يكون تابعاً؟ .. هذا موضع نظر ينبني على أن ذلك هل يُعتبر أيضاً بشرطين، أو شرط واحد في مسألة جواز بدوّهن له، وإظهارهن من الزينة ما يظهرن لمن ذكر (معه) (¬7) في الآية (¬8)؟ وقد تقدّم ذكر ذلك في موضعه مغنياً عن الإعادة. (134) - مسألة: قد ذكرنا في باب نظر الرجل إلى المرأة جواز نظر العبد إلى سيدته، ونذكر ههنا هل يجوز لها أن تنطر إليه مطلقاً، أو بشرط أن يكون لا منطر له؟: ¬
شرط ذلك [مالك] (¬1) -رَحِمَهُ اللهُ-، وفيه خلاف ينبني على ما تقدّم في باب بدوها له، فارجع إليه وأحرى ههنا باعتباره، فإن الأصل منع النظر، ووجوب غض البصو، ومَن أجيز لها أن تنظر إليه هو في [حكم] (¬2) المستثنى، والخوف عليها محقق فيما إذا كان العبد غلاماً حسناً جميلاً ناعماً، ومانظرها إليه - ولا سيما إذا لم يكن لها زوج - إلاّ عينَ الفتنة، بل ما نظرها في هذا الحال إلى العبد (*) إلا مكان نظره، فاعلمه. (135) - مسألة: نظر المرأة إلى الغلام الصغير إذا كان مشتهى، كنظر الرجل إلى الغلام أو الجارية سواء. (136) - مسألة: نظرها إلى الغلام الرضيع ونحوه, والفطيم ونحوه: جائز فيما عدا العورة، أما إلى عورته فلا يجوز نظرها إليه، كما لا يجوز النظر إلى فرج الصغيرة الأجنبية، وقد تقدّم ذكر ذلك في موضعه، والأصل فيه: الأمر (بغضِّ) (¬3) البصر، (وليس ما) (¬4) أجمعوا عليه من غسل المرأة الصبي الصغير يمنع الإطلاع على عورته, وإنما معناهم في ذلك: أن ذلك منه ليس بعورة. وكذلك لا يجوز عند بعضهم إلا في الفطيم ونحوه، وممّن [قال] (¬5) ذلك: الحسن ونحوه؛ إذ في الذي لم يتكلم بعد، وممن قال ذلك: أصحاب الرأي. ¬
ومَن أجاز ذلك في ابن سبع سنين كمالك بن أنس وأحمد بن حنبل، ليست إجازتهم إياه إباحة للإطلاع، فقد يستر كما يَستر الرجل الإبن، والله أعلم. (137) - مسألة: نظرها إلى عبد بعلها أو سيدها, أو إلى مكاتبها, أو مدبرها, أو المعتق بعضه, أو مَن لها فيه شرك، أو الشيخ الفاني: مبنيٌّ على ما تقدم في الباب الذي قبل هذا، وفي باب بدوها (لهم) (¬1) مِمّا هو مغنٍ عن الإِعادة لشيء منه ههنا، فاعلم ذلك. فقد فرغنا من ذلك النظر لغير ضرورة، وهو أشد ما يحذره المؤمن الشحيح (¬2) على دينه، فإنه جالب أعظم الفتن، والنفس طائعة لِلفِتَن (¬3) تنظر له، والبصر لا يشبع من النظر إلا أن يزعه وازع ديني. وقد روي في هذا حديث نختم [به] (¬4) هذه الأبواب (*)، وإن لم يصحَّ، ونبين علته قبل الشروع في باب الضرورات، وهو حديث رواه أبو أحمد بن عدي (¬5)، قال: ¬
225 - نا عمر بن سنان، نا عباس بن الوليد الخلاد، نا عبد السلام بن عبد القدوس، نا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أربع لا يشبعن من [أربع] (¬1): أرض من مطر، وأنثى من ذكر, وعين من نظر، وطالب علم من علم". وإنما لم يصح لمكان عبد السلام هذا، فإنه يروي منكرات عن هشام بن عروة والأعمش، ولكن معناه صحيح، ويساعده [أن] (¬2) (حاسة) (¬3) البصر بإطلاقها على النظر مهلكة، والله نسأله العصمة والتوفيق بمنّه لا رب غيره. * * * ¬
الباب السابع ما يجوز النظر إليه مما تقدم المنع منه لأجل ضرورة أو حاجة
الباب السابع ما يجوز النظر إليه مما تقدّم المنع منه لأجل ضرورة أو حاجة
اعلم أن كثيراً مما تقدَّم فيه جواز البدوِّ أو النظر من المرأة للرجل، أو من [الرجل] (¬1) للمرأة (سببه) (¬2) الضرورة، كما تقدّم في عبدها، أو أب بعلها، أو ابنه، أو حال تربية الولد، وأشباه ذلك. ويمكن أن يُقال ذلك فيما عفي للمرأة عن إبدائه، من وجهها وكفيها في حال تصرفها أو مَهنتها لا على وجه التبرج كما تقدم تقريره. ومنه ما سببه القرابة التي (هي) (¬3) مظنّة عدم انبعاث الشهوة. ونذكر من هذا الباب من الضرورات أو (عند) (*) الحاجات ما هو خارج عن ذلك، (مما) (¬4) يبيح النظر أو يوجبه في مسائل، فنقول: (138) - مسألة: مداواة عضو لا يجوز إبداؤه ولا النظر إليه, عورة كان أو غيرها: تجوز للضرورة اللاحقة (بالمريض) (¬5) المحوجة إلى المداواة (المفضية إلى) (¬6) الإبداء والنظر، فيجوز للمريض الإبداء وللمداوي النظر، ولكن مقصور ¬
على موضع الضرورة، (فما) (¬1) في الدين من حرج، وقد فصّل لنا ما حرم علينا، إلا ما اضطررنا إليه، ولا أعلم في جواز ذلك بالجملة خلافًا. قال القاضي أبو بكر بن الطيب (¬2): يجوز النظر إلى الفرج والعورة عند الضرورة الشديدة والحاجة عند العِلاج. وقال القدوري: يجوز للطبيب أن ينظر موضع المرض منها، والله أعلم. (ومذهب المالكية) (¬3) هكذا، وهو صحيح كما قلناه، وسنذكر بعد إن شاء الله حجم أبي طيية (¬4) لأم سلمة - رضي الله عنه -. (139) - مسألة: إذا ادّعى الزوج أن بالمرأة عيبًا بالفرج، دعا إلى نظر النساء إليه، هل يجوز ذلك أو لا؟: اختلف في ذلك. فمَن أجاز ذلك رآه ضرورة، لأنها (تُتهم) (¬5) بالدفع عن نفسها، فوجب النظر الذي لا يتم واجب الزوج ولا يبلغ إلى حقه إلا بالإطلاع عليه. ومَن منع ذلك اعتمد منع الحكم من الإطلاع على العورة، وكون المرأة مؤتمنة على فرجها، مصدقة في (أمرها) (¬6) في أشياء كثيرة، وهي عندي محتملة، ولا سيما إن كان الصداق (المدفوع) (¬7) إلى المرأة (نحلة) (¬8) (لا) (¬9) في مقابلة ¬
الإستمتاع، فحينئذ يفارق الصداق عن الجارية المبيعة المذكورة في المسألة التي بعد هذه، فاعلها ذلك. (140) - مسألة: أما إذا اشترى رجل امرأة، وادّعى أن بفرجها عيبًا، ودعا إلى أن ينطر النساء له: فإن الأظهر في هذه غير جواز نظرهن إليها ضرورة، والمشتري يدّعي أن البائع قد ذهب بجزء من الثمن بإطلاق، يطلب أن يمكن من حقه، وذلك لا يتم إلا بنظرهن ما ادعاه، وهذا هو منصوص الفقهاء، وهو صواب، والله أعلم. وكل ما ذكرناه هنا من جواز النظر إلى المبيعة، فهو (كذلك) (¬1) بالأحرى والأولى بالعبد المبيع، إذا كان ما يزعم البائع من العيب بالعورة منه، وليس القول يجواز ذلك مناقضًا لما قدّمناه قبل، من منع الإطلاع على مؤتزر الغلام، إذا ادّعى رجل أنه قد بلغ، لتحقيق غرامة عليه؛ لأن الحق ههنا لم يجب بعد، فاعلم ذلك. (141) - مسألة: إذا ادّعى مَنْ ظاهره الرجولة أنه خُنْثى, مائل إلى الأنوثة، وسأل أن (يخلى) (¬2) وراء الرجال: هل يجوز النظر إليه لتحقيق ذلك منه أم لا؟: هو موضع نظر، فإن الضرورة يمكن أن لا تكون متحققة، بحيث يجوز النظر إلى العورة منه، ويمكن أن يقال: ترك النظر يؤدي إلى أضرار كثيرة، فهي كالمريض في جواز نظر الطبيب إليه، وقد (تجب) (¬3) له أو عليه حقوق، بحسب اختلاف حاليه، فوجب النظر إليه، فضلًا عن أن (يجرب) (¬4)، وهذا هو الأظهر، والله أعلم. ¬
(142) - مسألة: إذا كان العيب من الحرة في غير العورة (فبقر) (¬1) عن الثوب, هل يجوز إطلاع الرجال عليه أم يقتصر على النساء؟: اختلف في ذلك على قولين؛ والأظهر: منع الرجال إذا كنا نتبلغ بالنساء إلى المقصود، فإن الضرورة لم تتحقق، أما إذا كان ذلك في العورة منها، فهل يستوي الرجال والنساء، لتساوي الصنفين في تحريم النظر إلى العورة، أو نقتصر أيضًا على النساء؟ هذه محتملة. (143) - مسألة: دلّت قصة (مجزّز المُدلجي) (¬2) في نظره إلى أقدام أسامة وزيد بن حارثة، وقوله: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، وسرور ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك على مشروعية نظر القائف (¬1) إلى الولد ذكرًا كان ذلك أم أنثى، ومدَّعِيهِ عند التنازع فيه على ما هو معروف في مواضعه من كتب الفقه، فإن ثبت ذلك فإنه من هذا الباب جارٍ مجرى نظر الشاهد ومختبر العيب والطبيب، فاعلم ذلك. (144) - مسألة: النظر من الخاتن لا خلاف في جوازه، ولو قلنا: إن الختان غير واجب: 226 - وروى أبو هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اختتن إبراهيم [وهو] (¬2) ابن ثمانين سنة" (¬3) وشرعه شرعنا. وقد أبعد من تأوله على أن ذلك من نفسه بيده. 227 - وروى أيضًا عنه -عَلَيْهِ السَّلَامْ- أنه قال: "الفطرة خمس" (¬4)، ذكر فيها: ¬
الختان، وهذه خلال كلها خوطب بها المكلف، والإِجماع على جواز تمكين الخاتن والإِبداء له. رأى بعض الفقهاء: أن الختان واجب (¬1)، من حيث جاز إبداء العورة الواجب سترها، والواجب لا يجوز (تركه) (¬2) بما ليس بواجب. والقول في الخافضة (¬3) والمخفوضة كذلك سواء. فأما: 228 - حديث أم عطية في هذا الباب: أن امرأةً كانت تختن بالمدينة، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنهكي (¬4)، فإن ذلك أحظى للمرأة (¬5) , وأحب للبعل" (¬6)، ¬
فلا يصح، فإن في إسناده رجلًا يقال له: محمد بن حسان، قال أبو داود: وهو مجهول. وجاء أيضًا من رواية ثابت، عن أنس: 229 - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأم عطية نفسها: "إذا خفضت فأشمِّي (¬1) تنهكي، فإنه (أسرى) (¬2) للوجه, وأحظى عند الزوج". يرويه عن ثابت (زائدة) (¬3) بن أبي الرقاد، قال فيه البخاري: منكر الحديث، ذكره أبو أحمد بن عدي (¬4)، وجاء أيضًا من رواية الليث، عن يزيد بن [أبي] (*) حبيب، عن سالم، عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: 230 - "يا معشر نساء الأنصار! اختضبن غمسًا (**)، واختفضن ولا تنهكن، فإنه أسرى للوجه، وأحظى عند الزوج". ¬
يرويه عن الليث: خالد بن عمرو (¬1) القرشي، وهو ضعيف جدًّا، في حد مَن يتهم، ذكر حديثه هذا أيضًا أبو أحمد (¬2). وقال البزار: 231 - نا سهل بن بحر، نا علي بن عبد الحميد، نا مندل بن علي، عن ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن أبي عمر، قال: دخل على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نسوةٌ من الأنصار، فقال: "يا نساء الأنصار! اختضبن غمسًا، واختفضن ولا تنهكن، فإنه أحظى عند أزواجكن، واياكن وكفر المنعمين" (¬3) قال مندل: يعني: الأزواج. وهذا أيضًا ضعيف، لضعف مندل. وكذلك: 232 - حديث شداد بن أوس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الختان سنّة للرجال، مكرمة للنساء" منقطع الإِسناد، ذكره ابن أبي شيبة (¬4). ¬
وكذلك: 233 - "ألق عنك شعر الكفر واختتن". ضعيف الإِسناد، للجهل براويه، ذكره أبو داود (¬1). ¬
فلا يصح في هذا شيء غير ما ذكرناه وليس مما قصدنا، ولكنه انجر في باب الضرورات المبيحة للنظر. (145) - مسألة: الحاجَّة أو المعتمرة، لا ينبغي أن يقصر رأسها رجل، بل هي أو امرأة غيرها: وقد جاء: 234 - عن ابن عياس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس على النساء حلق، إنما عليهن التقصير" (¬1). قال البزاز: حدثنا محمد بن أبي علي المعروف بالكرماني، قال: نا نجاح، يعني: ابن محمد، عن ابن جريج، عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة، عن صفية بنت شيبة، عن أم عثمان، عن ابن عباس فذكره. وهذا لا يصح، فإن أم عثمان لا تعرف، ولكنه مشتهر- (¬2). والحلقُ مُثلَةٌ، إلا أن تقصيرها قد يمكن بجمعها شعرها وفرقها إياه فرقتين تأخذ من كل فرقة [مقدار] (¬3) (الأَنملة) (¬4) أَو فوقها، والشوابّ والعجَّز في هذا سواء، فإن إباحة النظر لا تكون إلا بدليل ولم نجده. ¬
(146) - مسألة: نظر الحاجم إلى المحجومة: إن كان ذلك من ضرورة جاز إذا تحققت الضرورة، فإنها معالجة صحيحة وشرعية. وفي هذا المعنى حديث صحيح يرويه: 235 - الليث، عن أبي الزبير، عن جابر: أن أم سلمة استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحجامة، فأمر أبا طيبة أن يحجمها (¬1). قال: حسبت أنه [قال] (¬2): "كان أخاها من الرضاعة، أو غلامًا لم يحتلم"؛ هذا التأوبل من أحد الرواة وهو غير محتاج إليه إذا تحققت الضرورة. ولا يصحُّ في هذا رواية زمعة بن صالح، عن (زياد) (¬3) بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: 236 - "استأذنت أم سلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحجامة، فأذن لها، فأرسلها إلى أخ لها من الرضاعة فحجمها"؛ فإن زمعة ضعيف. ذكره أبو أحمد بن عدي (¬4). ¬
والفصد (¬1) بمثابة الحجامة ولا فرق. (147) - مسألة: النظر من القابلة: لا شك في أنه إن كان أمرًا يُضطر إليه فيما يتناول جاز للضرورة، بل هو أحرى وأولى بالجواز من المداواة، فإنه معالجة نفسين (¬2). (148) - مسألة: فهل يجوز أن تكون القابلة كافرة؟: هذا ينبني على ما تقدم ذكره [من تحريم] (¬3) بدوّ المرأة [المسلمة] (¬4) للكافرة أو جوازه، إلا أنه هاهنا إذا كان من هذا الباب -أعني أن يضطر إليها- جاز ذلك لمكان الضرورة. والحديث المروي في هذا الباب، هو نهاية في الضعف، ولو صح حمل على حالة الاختيار، وهو حديث يرويه: يحيى بن العلاء الرازي (¬5)، عن خالد بن (مَخدوج) (¬6)، عن أنس بن مالك، قال: ¬
237 - "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تقبل اليهودية أو النصرانية أو المجوسية المسلمة، أو تنظر إلى فرجها". قال أبو أحمد بن عدي: وهذا ليس البلاء فيه من خالد بن محدوج، وإنما البلاء فيه من يحيى بن العلاء الرازي، فإن أحاديثه موضوعات وهذا شبيه بالموضوع (¬1)، فاعلم ذلك. (149) - مسألة: النظر (لتحمل) (¬2) الشهادة في الزنى: أجازه قوم، ومنع منه آخرون. ومن الفقهاء المانعين: (الإِصطخري) (¬3)، جعل التحمُّل بما إذا وقع البصر (عليه) (¬4) من غير قصد، وحمى (¬5) باب النظر بما علم من مقصود الشرع في الستر والعفو. وهذا هو الظاهر فيها عندي، فإن الشهادة في الزنى قد عللت باشتراط عدد الأربعة (وايجاب (¬6) الاستفسار) (¬7) عن الكيفية على أبلغ الوجوه (إفدامًا للخلق) (¬8) قصد الستر والإِغضاء ما أمكن، فلا يناسب هذا إباحة الإطلاع، والله أعلم. ¬
(150) - مسألة: نظر الشهود إلى [وجه] (¬1) المرأة حين يحتاج إلى الشهادة عليها: جائز لمكان الضرورة، أو واجب، فإنها في الإِشهاد على نفسها بما يجب الإِشهاد به كالرجل، ولا يمكن (للشاهد) (¬2) ضبط شهادته عليها إلا بتحصيل صفاتها بالنظر إليها، واذا كان هذا الواجب لا يتم إلا بهذا فهو واجب، وعلى هذا مذهب الفقهاء. وقد نصّ القدوري عليه للحنفية مذهبًا، فقال: ويجوز للقاضي إذا أراد أن يحكم عليها، والشاهد إذا أراد الشهادة عليها: النظر إلى وجهها، وإن خاف أن يشتهي. ونصّ أبو حامد الإِسفرايني (¬3) عليه أيضًا للشافعية مذهبًا، فقال: وأما النظر لحاجة، مثل: أن يشتري منها شيئًا أو يبيع، فيجوز له النظر إلى وجهها ليعرفها، فيكون له الرجوع عليها بدرك إن وجب له، قال: وكذلك إذا تحمل الشهادهّ، قال: وكذلك الحاكم إذا أراد أن (يحكم عليها) (¬4) فيجوز أن ينظر إلى وجهها (وُيثبِت حالتها) (¬5). ومن الناس مَن يقول: لا يجوز النظر إليها أصلًا، ولا يشهد عليها إلا مَن يعرف صوتها أو مَن يعرفه بها معه. ¬
والأول هو الصواب، لا سيما مع ما قررناه في نظر الرجال الأجانب إلى النساء الأجنبيات، إذا لم يكن قصد التذاذ، ولا خوف افتتان. (151) - مسألة: ما عدا وجهها هل يجوز نظرهم إليه أم لا؟: منهم مَن قال: يجوز مع النظر إلى الوجه النظر إلى الكفين، وهو قول مالك وأصحابه، ومنه مَن زاد القدمين، ومنه مَن زاد نصف الذراع. والأصح عندي: ألا يجوز إلا ما كان جائز النظر إليه بغير ضرورة، وأن لا يجب إلا ما كان اضطرنا إليه مما لا يتم الواجب إلا به، أما (تفتيش الشهود) (¬1) عن غير ذلك فلا يحلُّ أصلًا، إنما هو الوجه والكفّان فحسب. (152) - مسألة: النظر إليها للقصاص منها: جائز في محل القصاص، لأن ذلك ضرورة، ولا خلاف فيه. وقد حكم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (على أخت) (¬2) الربيِّع بالقصاص حين كسرت ثنية الرجل لولا ما وقع من العفو عنها. ¬
(153) - مسألة: (يجوز) (¬1) النظر إلى المرأة التي يُقام عليها الحد، جلدًا أو رجمًا أو قطعًا: فقد قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد المخزومية (¬2)، ورجم (الغامدية) (¬3) ¬
واليهودية (¬1)، وقيل: القرظية، وأَمرَ عليًّا (¬2) - رضي الله عنه - أن يجلد أمة له ¬
زنت، وأنيسًا (¬1) أن يرجم المرأة التي، إن اعترفت، ولا نزاع فيه. (154) - مسألة: هل تجرد المرأة للجلد أم لا؟: قال الفقهاء: تجلد فوق ثوبٍ لا يمنع إيلامها؛ وذلك صواب، إذ لا يحل كشف بشرتها إلا أن يدل على ذلك دليل، ولا أعلمه. (155) - مسألة: مَن دفع إلى تربية غلام أو جارية، من رجل أو امرأة: جاز له في زمان التربية من الإطلاع على العورة ما يجوز للأم وللأب، وهذا محل ضرورة، ولا أعلم فيه نزاعًا. (156) - مسألة: كل مَن أجازت له الضرورة النظر؛ من خاتنٍ، أو طبيبٍ، أو مُقتضى، أو قاطع، أو جلاد ينبغي أن يشترط في إجازة ذلك لهم تمكن الضرورة: ¬
بأن لا يوجد غيرهم (ممَّن) (¬1) يجوز له النظر لغير ضرورة، كمَن لا أرب له في النساء من المخنثين أوغيرهم (ممَّن) (¬2) في معناهم. قال أبو بكر محمد بن أحمد بن الجهم (¬3): ولو أن امرأة قطعت (ثدي) (¬4) امرأة عمدًا فطلبت القصاص، ولم نجد امرأة تحسن القصاص، لوجب عليها أن تبدي لها ثديها حتى يَقتصّ منها رجلٌ، والمحرّمات تُباح عند الضرورات، وقد فصل لكم ما حرم عليكم (¬5). انتهى كلام ابن الجهم. وعلى أنه يمكن أن لا يشترط ذلك، باعتبار كون المحل عادة محل تنفر منه النفس وتنقبض عن التشوف إلى موانع الغير، فمَن يُقطع (ثديها) (¬6) أو يُرجم، (فإنما) (¬7) جرت العادة هنا بالإِشفاق والاعتبار، فيمكن أن يراعى مثل هذا، والمسألة محتملة، والله أعلم. ¬
(157) - مسألة: نظر الذي يريد أن يتزوج مندوب إليه: قال بعضهم: جائز، وهو مذهب الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ-، وكرهه بعضهم. قال أبو الوليد بن رشد: إنّ مِن أهل العلم مَن لم يُجز ذلك، وحكاه أبو حامد الإِسفرايني عن (المقبري) (¬1)، وذكر احتجاجه بالآية (¬2) للأمر بالغض. ومذهب مالك من هذه الأقوال هو الجواز، إذا كان ذلك بإذنها، ينظر إلى وجهها، كما يجوز ذلك في الشهادة لها وعليها. ومذهب القاضي أبي بكر بن الطيب (¬3)، وأبي حامد الإِسفرايني: جواز النظر إلى وجهها، وتكرار ذلك، والتأمل، إلا أن أبا حامد شرط أن يكون قد أجابته إلى التزويج. والصحيح عندي: هو الندب إلى النظر، لصحة الأحاديث بذلك، منها: 238 - حديثا أبي هريرة، قال: كنتُ عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه رجل فأخبره أنه تزوَّج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنظرتَ إليها؟ " قال: لا، قال: "اذهب فانظر إليها، فإنّ في أعين الأنصار شيئًا" ذكره مسلم (¬4) -رَحِمَهُ اللهُ-. ¬
239 - وحديث المغيرة بن شعبة، قال: خطبت امرأةً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنظرتَ إليها؟ " قلت: لا، قال: "فانظر إليها، فإنه أجدر أن يؤدم بينكما". [ذكره] (¬1) النسائي (¬2) -رَحِمَهُ اللهُ-، وهو صحيح. فأما حديث جابر الذي ذكره أبو داودة قال: 240 - نا مسدد، نا عبد الواحد بن زياد، حدثنا محمد بن إسحاق، عن داود بن حصين، عن واقد بن عبد الرحمن، يعني: ابن سعد، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينطر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل" (¬3) قال جابر: فخطبتُ امرأة من بني ¬
سَلِمة (فكنت) (¬1) أتخبأ لها تحت (الكرم) (¬2) حتى رأيت منها بعض ما دعاني إلى نكاحها. فلا يصح؛ فإن (واقدًا) (¬3) هذا لا يعرف حاله. ¬
وقال البزار بعد ذكره إياه: لا نعلمه يروى عن جابر إلا من هذا الوجه، ولا أسند واقد عن جابر إلا هذا الحديث، والذي يعرف برواية داود بن الحصين عنه، وهو واقد بن عمرو بن (¬1) سعد بن معاذ، هذا مدني ثقة. ولا يصحُّ أيضًا حديث (¬2) محمد بن مسلمة، قال محمد بن أبي حَثمَة، عن أبيه (¬3): 241 - "كنت جالسًا مع محمد بن مسلمة في داره، فرأى امرأة من الأنصار يقال لها: بثينة، على إِجَّارٍ (¬4) لها، فطاردها ببصره، فقلت: يرحمك الله، تنظر ¬
هذا النظر وأنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! [فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) يقول: "إذا قذف الله في قلب رجل خطبة امرأة، فلا بأس أن ينظر إليها". يرويه قاسم ابن أصبغ (¬2)، عن بكر، عن مسدد، عن عبد الواحد بن زياد، عن حجاج، قال: ثنا محمد بن سليمان بن أبي حثمة، فذكره، وحجاج هذا هو ابن أرطاة، وهو ضعيف، ومحمد بن سليمان: لا يعرف حاله، ولا يعرف راوٍ عنه غير ابن إسحاق وحجاج، (وفي) (¬3) الحديثين الصحيحين المتقدمين (ما يغني) (¬4) عنه وعن غيره. ¬
(158) - مسألة: لو كان خاطب المرأة عالمًا أنها لا تتزوجه، وأن وليَّها لا يجيبه، لم يجز له النظر وان كان قد خطب: لأنه إنما أبيح النظر ليكون سببًا للنكاح، فإذا كان على يقين من امتناعه (فيبقى) (¬1) النظر على أصله من المنع. (159) - مسألة: لا يحتاج في نظره إليها بعد عزمه على نكاحها وخطبته لها إلى استئذانها: وأبى ذلك مالك -رَحِمَهُ اللهُ-، وكره أن يغفلها من كُوَّة وغيرها، وذكر بعضهم أنه يشترط عند مالك إذنها، ولعل معناه في ذلك: سد الذريعة، فإنه من أصوله، كأنه خاف أن (يتسبب) (¬2) به أهل الفساد إلى الإطلاع على مواضع الفتن، فإذا غير على أحدهم، قال: أنا خاطب. فأما الحديث فأباح النظر مطلقًا، ولم يفصل، وهذا هو مذهب الشافعي وابن وهب، فإنهما لا يشترطان استئذانها (¬3)، وقيل لأصبغ: بلغنا أن ابن وهب روى عن مالك إجازته، قال: لم يكن ابن وهب يرويه، إنما كان يقوله هو برأيه ورواية الأحاديث (*). ولم يصحَّ حديث أبي حميد (¬4) بالنص على غير هذه المسألة، وهو ما ذكر ¬
البزار، قال: حدثنا يحيى بن حكيم، نا سالم بن قتيبة، نا محمد بن يحيى القطعي، قال: نا عمرو بن علي، قال: حدثنا قيس عن عبد الله بن يحيى، عن موسى بن عبد الله، عن أبي حميد، عن هذا الطريق. وموسى بن عبد الله: هو موسى بن عبد الله بن يزيد، هو مشهور. انتهى قوله. موسى هذا: الخطمي، وثقه ابن معين، وعبد الله بن عيسى، هو ابن أبي ليلى (¬1)، ثقة، وإنما لم نقل فيه صحيح لمكان قيس بن الربيع (¬2)، فإنه أحد مَن ساء حفظه بعد ولايته القضاء، والأكثرون على تضعيفه. ومطلق الأحاديث في هذه المسألة مغنٍ عن هذا وعن غيره، والله الموفق. ¬
(160) - مسألة: فما الذي يجوز أن ينظر إليه منها؟: أما السوءتان، فلا نظر في أنه [لا] (¬1) ينظر إليهما، وما يُحكى عن داود من إباحة النظر إلى الفرج (¬2)، لم أره عنه في كتب أصحابه، وإنما حكاه عنه أبو حامد الإِسفرايني وقد تقدمت الأدلة المانعة من النظر إلى العورة، وهي بإطلاقها تتناول هذا المحل [خصوصًا] (¬3)، وليس هناك ما يعارضها (نحكيه) (¬4). وأما الوجه والكفان، فاقتصر عليهما مالك -رَحِمَهُ اللهُ-، وزاد أبو حنيفة: ظهور القدمين على أصله المذكور عنه قبل، في أنه ليس عليها أن (تسترهما) (¬5) في الصلاة، فإذًا ليس ذلك عنده منها بعورة. ومنهم مَن أجاز له النظر إلى جميع البدن ما عدا السوءتين، وهذا هو ¬
الذي دلَّ عليه إطلاق لفظ الأحاديث، ويمكن تقييده (بالمعروف) (¬1) على مستقر العادة فِيمَا هُوَ ظَاهِرٌ منها إلا أن يُستر بقصد، أما ما هو مستور إلا أن يظهر بقصد فلا. وقد روى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن (¬2) علي: 242 - " (أن) (¬3) عمر بن الخطاب: خطب إلى علي - رضي الله عنه - ابنته أم كلثوم وذكر له صغرها، فقيل له: إنّه ردّك، فعاوده، فقال علي: أبعث بها إليك، فإن رضيت فهي امرأتك، فأرسل بها إليه فكشف عن ساقها، فقالت له: لولا أنك أمير المؤمنين للطمت عينك! وكانت أم كلثوم هذه ولدت قبل وفاة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أمها: فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و - رضي الله عنهما -. وهذه القصة رواها قاسم بن أصبغ، عن الخشني، عن ابن أبي عمرو، عن سفيان كما ذكرناها، ورواها عبد الرزاق في كتابه عن سفيان نحوه. فيه: 243 - قالت: أرسل: فلولا أنك أمير المؤمنين لصككت عينيك. ويزيد فيها أهل الأخبار: أنه بعثها إليه بثوب، وقال: قولي له: هذا الذي قلت ¬
لك، فقال لها عمر: قولي له: رضيتُ به، فلما (أدبرت) (¬1) كشف عن ساقها، فقالت له ما ذكر في الحديث الأول، فلما رجعت إلى أبيها قالت: بعثتني إلى شيخ (سوء) (¬2) فعل كذا، قال: هو زوجك يا بنيَّة!. (161) - مسألة: وله أن يبعث امرأة تنظر له: ذكر ابن شيبة (¬3): 244 - عن إسحاق بن منصور، ثنا (عمارة) (¬4) الصيدلاني، عن ثابت، عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى أم سليم تنظر إلى امرأة، فقال: "شُمِّي عوارضَها وانظري إلى عُرقوبها" (¬5). ¬
والمحدثون يقولون في مثل هذا الحديث: حسن، وذلك أن عُمَارة بن زاذان يروي عن أنس مناكير، وقائل ذلك هو أحمد بن حنبل، يقول: ما به بأس، وكذلك قال أبو زرعة أيضًا: ما به بأس، وكذا وقعت الحكاية عن أحمد يروي عن أنس، وإنما يزيد: بتوسط ثابت البناني (¬1)، فإنه إنما يروي عنه، عن أنس، وقال فيه ابن معين: صالح الحديث. وفرق عند (المحدثين بأن يقولوا) (*): روى مناكير، أو منكر الحديث؛ منكر الحديث: هو الذي يقولونه لمن سقطت الثقة بما يروي، (لكثرة) (¬2) المنكرات على لسانه، كالذي يشتهر فيما بيننا بقلة التوقي فيما يحدِّث به، وتتكرر فضيحته، حتى يكون إذا سمعنا حديثًا منكرًا نقول: فلان حدَّث به، إلا لما قدم به (عَهدُنا) (¬3) من نكارة حديثه؛ (فهذا عندهم هو الذي) (¬4) يطلقون عليه أنه منكر الحديث، ولا تحل الرواية عنه. أما (الذي) (¬5) يقولون فيه: عنده مناكير، أو روى أحاديث منكرة، فإنه رجل روى ما لا يعرفه غيره وحاله مع ذلك صالحة، فهذا لا يضره الإنفراد، لا ¬
أن (يكثر بعد قَبُولِهِ لِمَا عُلِمَ) (¬1) عليه من (الصلاح) (¬2) الذي يلي هذا يصح أن يقرأ هنا [إلا] (¬3) أن يكثر منه. ولا يصح في هذا المعنى ما رواه وكيع، عن سفيان، قال في حديث: 245 - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب امرأة فبعث عائشة تنظر إليها، فجاءت فقالت: يا رسول الله! ما رأيت طائلًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد رأيت بخدها خالًا اقشعرَّت كلُّ شعرة منكِ" فقالت: يا رسول الله ما دونك سِرٌّ" (*). وإنما لم يصحَّ، لأنه لا إسناد له من سفيان في رواية وكيع. ورواه أبو حذيفة، عن الثوري، عن جابر، عن عبد الرحمن بن (سابط) (¬4)، عن عائشة. ورواه إبن مهدي، [عن] (¬5) الثوري، عن جابر، عن ابن سابط مرسلًا. قال الدارقطني: قول ابن مهدي أشْبَهُها بالصواب: يعني: الإرسال. ¬
(وحديث جابر) (¬1) لا يصحُّ من جميع رواياته عن الثوري، وغير عمارة يرويه عن ثابت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، لا يذكر أَنسًا، كذلك رواه عنه حماد بن سلمة، ذكره أبو داود في المراسيل عن موسى بن إسماعيل، عنه. فإن قيل: [فلو صحَّ] (*): 246 - حديث ابن عمر الضعيف (لضعف) (¬2) رواية القاسم بن عبد الله العمري، عن ابن دينار، عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتلى (¬3) عائشة عند أبويها قبل أن (يبني) (¬4) بها. فهل له مدخل في هذا الباب؟ أعني: نظر الرجل إلى المنكوحة أو النظر عنه. قلنا: وانما هو ما جرت به عادة النساء من اجتلاء العروس بينهن، وروى بعضهم (بالخاء) (¬5)، وهذا أوجَه، والله أعلم (**). ¬
(162) -[مسألة] (¬1): للمرأة المخطوبة أن تَجمَّل للخطاب: وتتشوف (¬2) بزينتها للذين طلبوها للنكاح، الذين يريدون النظر [إليها] (¬3) إذا صحت في ذلك نيتها وسلمت (سريرتها) (¬4)، بل لو قيل: إنها مندوبة إلى ذلك ما كان بعيدًا، فإن النكاح مأمور به في النساء كما هو للرجال، إما وجوبًا أو ندبًا، وما لا يتم الواجب أو المندوب إلا به، يكون إما واجبًا واما مندوبًا. ويتناقض أن نبيح النظر إليها بقصد (الإستعفاف) (¬5)، ثم تكون هي منهية عن البدوِّ له، ولو قيل: (إنه) (¬6) يجوز لها التعرض بإبداء نفسها لمَن لم يخطبها بعد - إذا سلمت نيتها في قصد النكاح - جوازه للمطلقة الرجعية، لم يبعد. فإن العادة جارية بتخلُّف النكاح وتعذُّره، وتأخر الخطّاب عمَّن لا يُعرف حالها، ولقد نهى - رضي الله عنه - الولي عن الإِخبار بالمتقرر، فقال: ما لك وللخبر؟. 247 - ولما (تَعَلَّت) (¬7) سبيعة الأسلمية من نفاسها بعد وفاة زوجها تَجَمّلَت للخطَّاب، فدخل عليها أبو السنابل (ابن بعكك) (¬8)، فقال: ما لي أراك ¬
متجمِّلة؟! لعلك ترجين النكاح؟! والله ما (أنت) (¬1) بناكح حتى تمر عليك آربعة أشهر وعشرًا، (قالت) (¬2) سبيعة: فلمَّا [قال لي ذلك] (¬3) جمعت علي ثيابي حين أمسيت، فأَتيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مسألته عن ذلك، فأفتاني [بأني] (*) قد حللت حين وضعت حملي، وأَمرني (بالتزوُّج) (**). ذكر ذلك مسلم (¬4) -رَحِمَهُ اللهُ-. وفي رواية: 248 - تشوفت للأزواج، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ما يمنعها؟! (قد) (...) انقضى أجلها". ذكر ذلك النسائي (¬5)، وكلاهما صحيح. ¬
وفي قول:، "تشوفت (*) للأزواج فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -[دلَّ على] (¬1) علمه -عَلَيْهِ السَّلَامْ- (بصنيعها) (¬2). وقوله إياها: "ما يمنعها"، دل على جواز ما فعلت، وقد كان [التشوُّف] (¬3) والتجلِّي بالزينة. يُقال: هذا دينار (مشوف) (¬4): أي: (مجلوّ) (¬5). قال الشاعر: دنانير لما شيف في أرض قيصر. وشيفت المرآة، وشوفتها: جلوتها. قال الراعي: (شيفن الخدود إذ عرفن حسي وسفن الوجوه واجتلينا المرانان (¬6). وقال الأعشى: (أو دراهم) شيفت إلى تاجر: أي جُليت. وتشوفت المرأة: إذا تزينت وظهرت. فإذا تشوَّفت سبيعة، وأُخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بصنيعها، فأفتاها ولم يُنكر صنيعها، دلَّ ذلك على جواز ما فعلت. فإن قيل: لعلهم إنا أخبروا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بأنها تريد النكاح، وعلموا ذلك مما ¬
رأوا [من] (¬1) تزيُّنها وتجلِّيها وتجمُّلها، ولم يخبروا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بما رأوا من تشوُّفها، إنما أخبروه بمدلول ما رأوا. فالجواب: أن نقول: هذا خلاف ما في الخبر، فإن لفظه: تشوفت، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ولو كانوا إنما قالوا: إنها تريد النكاح، فلم يصحَّ أن يجزم [في] (¬2) الفتوى بالإباحة لها حتى يعلم من أين علموا إرادتها؟ وما دليلهم على ذلك، إذا لم يكن منها اختيار عن نفسها بذلك؟ فإذ قد اشتمل إعلامهم له باستخراج الفتوى، دلَّ ذلك على أنهم إنما قالوا له: إنها تشوَّفت كما هو منصوص عليه في نفس الخبر، وتشوّفها دليل على باطن إرادتها، وظاهر أمرها: أنها علمت بمن عسى أن يخطبها ممَّن لم يخطبها بعد، والأمر في تجمُّل المخطوبة (لخاطبها) (¬3) إذا أراد أن ينظر إليها للنكاح أبين في الجواز، بل ربَّما يتأكَّد عليها ذلك، فإنه لا معنى لأن تبتذل وتترك التزيُّن حتى ينفر عنها، هذا لو فعلته وقع مناقضًا لمقصود الشرع. أما تجمُّلها لمَن لم يخطب بعد، هذا أبعد من الجواز، وإن [كان] (¬4) هو الظاهر كما قلناه من حديث سبيعة. وقوله: تجملت للخُطَّاب، ليس معناه: الذين قد خطبوها، وإنما معناه: الذيق يخطبونها؛ فهي إنما تعرضت لمَن لا يخطب، لا لمَن قد خطب، ولا يمنع من القول بهذا إلا إذا تحقق إجماع بالمنع منه، وليس بكافٍ في ذلك (أن لا) (¬5) ¬
يعرف (خلافه) (*)، وإن أبيت من قبول هذا ولم تعرف (ظاهره) (¬1)، لم تأب من قبوله فيما إذا كان. ولا حاجة لنا في هذا إلى مرسل أبي عبد الرحمن السلمي (¬2)، قال: 249 - خرج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، فإذا امرأة قاعدة على الطريق قد تشوَّفت ترجو أن يتزوجها، فرجع إلى سودة بنت زمعة فوجد عندها نسوة يُذبن طيبًا، فلما أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرجن، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجته، ثم خرج ورأسه يقطر، ثم قال لأصحابه: "إنما حبسني عنكم أنني خرجت" (فذكر) (¬3) ما كان من المرأة (¬4) [ثم قال] (¬5): "فمَن رأى منكم امرأة تعجبه فليرجع إلى أهله، فإن الذي مع أهله مثل الذي معها". قال الخطيب أبو بكر بن ثابت في كتاب الفقيه: أخبرنا (أبو نعيم الأصبهاني، عن علي الكوفي) (¬6)، أخبرنا محمد بن علي بن دحيم الشيباني، ¬
أنبأ أحمد بن حازم (¬1)، أنبأ عبيد الله (¬2)، أنبأ إسرائيل (¬3)، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن، قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره، لأن المسند الصحيح من رواية جابر (¬4) ليس فيه قصة المرأة المتشوِّفة، وفيه: إنما دخل على زينب لا على سودة (*). ¬
وكذلك لا حاجة بنا أيضًا إلى ما: 250 - روي عن عائشة - رضي الله عنها -، من أنها شوَّفت (¬1) جارية لها فطافت بها، وقالت: "لعلنا نصيد بها بعض شباب قريش". فإنه لم يصحَّ عنها، لأنه من رواية وكيع، عن العلاء بن عبد الكريم، عن عَمَّار بن عمران رجل (من رانَ إليه عن امرأة فهم عنها) (¬2). وهذا غاية في الضعف للجهل بمَن هم فوق وكيع (¬3)، فاعلم ذلك. (163) - مسألة: الرجل إذا خطب امرأة، هل يجوز له أن يقصدها معرضًا لها محاسنه (التي) (¬4) لا يجوز له إبداؤها إليها، إذ لم تكن مخطوبة، ويتصنع لها (بلباسه) (¬5) وسواكه (وكحله) (¬6) وخضابه ومشيته وركبته؟ أم لا يجوز له من ذلك، إلا ما كان جائزًا بالنسبة إلى كل امرأة؟: فهو موضع نظر، والظاهر جوازه إن لم يتحقق في المنع منه إجماع. أما إذا لم تكن مخطوبته (ويتعرض) (¬7) بنفسه ذلك التعرض للنساء، فلا يجوز له، لأنه تعرُّض للفتن وتعريض لها، ولولا الظاهر ما أمكن أن يُقال بذلك في المرأة التي تخطب، على (أنه) (¬8) لم يجزم فيه (بالجواز) (¬9)، والله أعلم. ¬
(164) - مسألة: مَن يريد شراء أمة يجوز له تقليبها بالنظر إلى وجهها ويديها، وهذا لا خلاف فيه، وهل يجوز له أن ينظر إلى زيادة (على) (¬1) ذلك؟ اختلف فيه: فروي عن علي - رضي الله عنه - أنه: لا بأس أن ينظر إلى (ساقيها) (¬2) وعجزها وبطنها، وهذا (أحد) (¬3) قولين للشافعية: أجازوا له النظر إلى اليدين والساقين والشعر. وعن الشعبي: لا بأس أن ينظر إلى جميع بدنها إلا الفرج. وقال القاضي أبو بكر بن الطيب: ينظر إلى وجهها وصدرها وأطرافها؛ وهو أحد قولين للشافعية أيضًا، وانما [لا] (¬4) يجوز النظر عندهم إلى المواضع الباطنة. ومَن أجاز (للخاطب (¬5) النظر) إلى جميع (بدن التي) (¬6) يريد أن يتزوَّجها، ما عدا السوءتين وما بين السرة والركبة -أخذًا من إطلاق ألفاظ الحديث- لا ينبغي له هنا -إن كان قياسًا- أن يتوقَّف في إجازة مثل ذلك من الأمة (التي) (¬7) يريد شراءها، فهي بالجواز أحرى من حيث هي أمة، ويمكن المنازعة فيه، فهي عندي محتملة. ولم يصحَّ الحديث المروي في هذه المسألة، فلا نعرج عليه، وهو حديث ذكره أبو أحمد بن عدي من رواية حفص بن عمر قاضي حلب، وهو منكر الحديث، قال: ¬
251 - حدثني صالح بن حسان -وهو ضعيف-، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا بأس أن يقلب الرجل الجارية إذا أراد أن يشتريها، وينطر إليها، ما خلا عورتها، وعورتها ما بين ركبتها إلى معقد إزارها" (¬1). وقد رواه أبو أحمد أمن حديث، (¬2) ابن كعب، [عن] (¬3) رجل آخر ضعيف، وهو عيسى بن ميمون أبو يحيى الجرشي، مثله سواء، ذكر ذلك ابن عدي أيضًا (¬4). ¬
(165) - مسألة: أما مباشرة شيء منها [ممن] (¬1) لم يرد شراءها؛ فلا يجوز أصلًا، لأنه لا دليل للإِباحة: والمنع متيقن للأجنبي في حق الأجنبية، ما لم يجر سببٌ مبيح. وفي هذا عن الحنفية خلاف ما قلناه؛ قال القدوري منهم: وينظر الرجل من مملوكة غيره إلى ما يجوز أن ينظر (إليه (¬2) من) ذوات محارمه، يعني: ما عدا العورتين والبطن والظهر. قال: ولا بأس أن يمس ذلك إذا أراد الشراء، وإن خاف أن يشتهي، هذا نصُّ ما ذكره، والأول الصواب عندي، فاعلمه. وإنما ذكرنا هذه المسألة، وإن لم تكن من مسائل النظر، لأنها -إن جرت- متممة للمقصود، والله الموفق. (166) - مسألة: تقليب النساء لها نائبات [في ذلك (¬3)] عمَّن يريد شراءها: يجوز (منهن) (¬4) الإطلاع على ما يجوز لهن الإطلاع عليه بغير تقليب، أَما على السوءتين فلا يجوز ذلك أصلًا، لأنه [لا] (¬5) ضرورة إلى ذلك، فإن المشتري شأنه أن يخاف وجود عيب بها هنالك، (فكأنه) (¬6) بادٍ، لهذا لم ينهض دليلًا للإِباحة ولا سببًا لها، وهو إذا اشترى فاطَّلع على عيب، كان له من الخيار بين أن يمسك ولا شيء له، أو يرد ويأخذ (ماله من المشتري) (*)، ولا أعلم ¬
الإِجازة ههنا لأحد من أهل العلم بخلاف ما تقدَّم ذكره من وقوف النساء على ما يدّعيه المشتري بها من عيب هنالك بعد انعقاد بيعه. هذه (جائزة) (¬1)، لمكان ضرورة تمكينه من ماله الذي يدّعي أنه أخذ منه مقابلًا في مقابلة [المبيع] (¬2) الفائت بالعيب الموجود، فاعلمه. (167) - مسألة: ليس من الضرورات احتياجها [إلى] (¬3) أن تبيع أو تبتاع أو (تستصنع) (¬4): وقد رُوي عن مالك: أنه قال: أرى أن يتقدم إلى الصناع في قعود النساء إليهم، ولا تترك (الشابة) (¬5) تجلس إلى الصنَّاع، وأما المتجالَّة (¬6) والخادم الدّون (¬7)، ومَن لايهتَّم على القعود عنده؛ فلا بأس بذلك. وهذا كله صواب من القول، فإن أكثر هذه ليست بضرورات مبيحة للتكشُّف، قد تصنع وتستصنع وتتصرَّف بالبيع والشراء وغير ذلك وهي مستترة. ولا يمنعن من الخروج والمشي في حاجاتهن ولو كنّ معتدات (¬8)، والى المساجد، وانما يمنعن من التبرُّج والتكشُّف والتطيُّب للخروج والتزيُّن، بل يخرجن وهنّ (تفلات) (¬9) ولا يَحقُقن في المشي الطرقات، بل يلصقن ¬
بالجدران، وهذا كله وردت به الأخبار (¬1) وهي معروفة في مواضعها، واكتفينا بالإِشارة إليها بذكر ألفاظ منها. وقال القاضي أبو بكر بن الطيب (¬2): أما مرورهن للتهمة والنظر والتعرض للفساد فيجب إنكاره والمنع منه، وأما خروجهن للحوائج والمهمات، وعلى غير وجه التعرُّض للفساد، فإنه غير منكر، لأنه مصلق لهن، وقد يخرجن لسماع الوعظ وتعلُّم العلم والفضيلة من صلاة أو غير ذلك، ويجوز لمن أمن الإفتتان بهن من العجائز ومَن جرى مجراهن حضور الجمعة والأعياد، ويتوخين الاعتزال عن (الرجال) (¬3)، وأما الشوابّ منهن فيجب إنكار اختلاطهن بالرجال في المساجد ومَجمع القُصَّاص إلا أن يكون من وراء حجاب بحيث لا يراهن الرجال. انتهى كلامه بنصِّه. وهو صواب كما ذكر، وليس هذا كله مما نحن فيه، إلا أنه عرض لإمكان توهمه (مباحًا) (¬4)، وإنما كان حقه أن يذكر في باب ما يجوز أن يُبدى أو لا ¬
يجوز، حيث ذكرنا أيضًا كلام القاضي في أنه: لا يجوز أن يترك الغلمان للتزيي بزيّ أهل الفساد ومخالطة أهل الريّب. ومن صحيح هذا الباب: 252 - حديث أسماء بنت أبي بكر، قالت: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مالٍ ولا مملوك ولا شيء غير فرسه، قالت: فكنتُ أعلف فرسه، وأكفيه مؤونته وَأَسُوسُه، وأَدُقُّ النوى لِنَاضِحه وأعلفه، وأستقي الماء وأَغرِزُ غَربَه، وأعجن، (ولم) (¬1) أكن أُحسِنَ أخبِزُ، فكان تخبز لي جارات [لي] (¬2) من الأنصار، وكنَّ نِشوُة صِدق، قالت: وكنت أنقل النوى من أرض الزبير- (التي) (¬3) أقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأسي، وهي على ثلثي فرسخ، قالت: فجئتُ يومًا والنوى على رأسي، فلقيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه نفر من أصحابه، فدعاني، [ثم قال] (¬4):"أخّ أخّ" ليحملني خَلفه، قالت: فاستحييت وعرفت (غيرتك) (¬5)، فقال: والله لحملك النوى على رأسك أشدُّ من ركوبك معهُّ، قالت: حتى أرسل إليّ أبو بكر - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك بخادم فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني. ذكره مسلم (¬6) -رَحِمَهُ اللهُ-. وفيه التصرُّف في (الحاجة) (¬7) من غير تكشُّف ولا تبرُّج، وعلى تحفُّظ واستحياء. ¬
وليس بصحيح حديث مسلمة بن مخلد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: 253 - "اعروا النساء يلزمن الحجال" (¬1). وهو حديث ذكره الخطيب، قال: أخبرني الحسن بن علي الجوهري، أنا عمر بن محمد بن عبدالصمد المطري، نا ظفر بن محمد بن خالد بن العلاء بن ثابت بن مالك السراج، نا بكر بن سهل الدمياطي، قال: وأخبرنا القاضي أحمد بن الحسن الحوسي، نا أبو العباس محمد بن محمد بن يعقوب الأصم، نا بكر بن سهل، (نا شعيب) (¬2) بن يحيى، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عمرو بن الحارث، عن مجمع بن كعب، عن مسلمة بن مخلد - فذكره؛ لأن مجمع بن كعب هذا لا يعرف، ويحيى بن أيوب (¬3) ضعيف، وفي إسناده أيضًا دونه مَن لا يعرف حاله كذلك، والله الموفق. ¬
(168) - مسألة: وليس أيضًا من الضرورات التي يُباح لها (بها) (¬1) إبداء شيء لا يجوز لها -مع الاختيار- إبداؤه، موت زوج أو حميم: وبدوّهن في المناحات ونشرهن شعورهن منكر في منكر. وهذا ما لا خلاف في تحريمه ووجوب إنكاره. (169) - مسألة: إذا وكلت المرأة مَن يقوم لها بما لا بدَّ لها منه: لا يرخص لها في البدُوّ لوكيلها، ولا يجوز لوكيلها من النظر إليها إلا ما يجوز من (ذلك) (¬2) بين الأجانب. وليس هذا القدر بمبيح لما هو ممنوع. وأما إن كانت كبيرة، فقد روى عيسى (¬3)، عن ابن القاسم، قال: سُئل مالك عن المرأة العرفة -يعني الكبيرة- تلجأ إلى الرجل فيقوم لها بحوائجها ويناولها الحاجة، هل ترى ذلك حسنًا؟ قال: لا بأس به، وليدخل معه غيره أحب إليّ، ولو تركها الناس لضاعت. قال أبو الوليد بن رشد: وهذا (كما قال) (¬4) جائز للرجل أن يقوم للمرأة الأجنبية في حوائجها، ويناولها الحاجة إذا غضَّ بصره عمَّن لا يحل له النظر إليه، ممّا لا يظهر من زينتها لقول الله -عَزَّ وَجَلَّ- {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، وذلك الوجه والكفّان على ما قاله أهل التأويل، فجائز [للرجل] (¬5) أن ¬
ينظر إلى ذلك من المرأة عند الحاجة والضرورة، فإن اضطر إلى الدخول عليها دخل معه غيره، ليُبعد سوء الظن عن نفسه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: 254 - "إنها صفية": وذلك أنَّ رجلين من أصحابه لقياه ومعه صفية، فقال ذلك، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم (¬1) مجرى الدم، وَاني خشيت أن يقدف في قلوبكما فتهلكا" (¬2) أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -. هذا نص الرواية. وشرح ابن رشد إياها فيه تهافت، فإنه لما قال: إذا غضَّ بصره عمَّن لا يحل له النظر إليه مما لا يظهر من زينتها، أعطى أنه ممنوع لغير الوجه والكفين، وظهر من دليل خطابه: جواز النظر إلى ما ظهر [منها] (¬3) من زينتها، ثم قال: لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، وذلك الوجه والكفان [على ما قال أهل التأويل، فكان هذا نصًّا على ما فُهم قبل ¬
من دليل الخطاب، أعني: أن ما ظهر منها هو الوجه والكفان] (¬1)، وأن ذلك يجوز النظر إليه، ثم قال: فجائز للرجل أن ينظر إلى ذلك من المرأة عند الحاجة والضرورة، [فحكم] (¬2) بهذا القول على جميع ذلك بالإِبطال، وأعطى أن الظاهر من زينتها وهو الوجه والكفان لا ينظر إليه إلا عند الضرورة، [وفيه أنه شرح في حق المرأة بإطلاق، وقال: إنه يجوز لمن يتصرَّف لها النظر إلى ما ظهر، واذا الرواية في المرأة العرفة] (¬3)، وفيه: أنه ينظر إلى الوجه والكفين، وليس للنظر في الرواية ذكر، والصواب في هذه المسألة هو ما تقدم من أنه: ممنوع من النظر إلى الزينة الظاهرة، فيجوز كما يجوز لغيره إذا لم يقصد ولم يخف، والكبيرة وغيرها سواء. (170) - مسألة: لما قلنا: إن المرأة يجوز لها إبداء وجهها وكفيها، وأنه الظاهر من زينتها، وأن الرجال لا يحرم عليهم النظر إلى ذلك إلا عند قصد الإلتذاذ أو الخوف من الإفتتان، خرجتا مسألة إبداء المرأة المحرمة وجهها وكفيها من أن تكون من هذا الباب، وموضع ذكرها وذكر أحاديثها في إيجاب ذلك عليها كتاب الحج. والله الموفق. (171) - مسألة: وليس من الضرورات المبيحة لإطلاق النظر أن نكون عراة وقد حضرت صلاة. فإن الذي كان واجبًا من الغض [مع الستر] (¬4) يتأكد وجوبه [مع الكشف] (¬5)، ويفعل منه الممكن كما تقدم ذكره في حديث جابر من قوله للنساء في حق الرجال. ¬
ومثله أيضًا حديث أبي سعيد: 255 - وقد كانوا يصلون في الأُزُر عاقديها في أعناقهم مِن قصرها، حتى قيل للنساء: لا ترفعن رؤوسكن حتى يرفع الرجال، وحتى يستوي الرجال جلوسًا. ذكر هذا اللفظ البخاري (¬1) في حديث سهل بن عبدالله. ولا يسقط عن المرأة شيء من مشروعات الصلاة. والقول بأنهم يصلون قعودًا، فرادى، أو مومئين بالأركان، أَو بكل هذه الأحوال، أو بأن موقف الإمام ينتقل إلى وسط الصف، أو غير ذلك مما رام به الفقهاء لتوفير غَضّ البصرة؛ معنى له، لأنا لا نجعل مسقطًا لمشروع إلا ما جعله الشرع مسقطًا، كما أنا لا نجعل مثبتًا إلاَّ ما جعل، والذي قلنا من هذا هو قول ابن جريج وداود بن علي، ويسقط القول في هذه المسألة، وتصلح مستندات المختلفين فيها له لواضعه، وليس ذلك الآن من غرضنا، بك يكفي ما نبّهنا به عليها، إذ ليس من الضرورات، والله الموفق. * * * ¬
الباب الثامن في بيان مشروعية أقوال أو أفعال عند رؤية بعض المرئيات
الباب الثامن في بيان مشروعية أقوال أو أفعال عند رؤية بعض المرئيات
نذكر في هذا الباب إن شاء الله ما ترتب عليه شرع: قول أو فعل، مِن النّظر بحاسة البصر، فإنه كما هو النظر حرام في موطن، ومشروع في آخر، هو أيضاً سبب لمشروعية فعل أو قول، وجوباً أو ندباً، وذلك (يتلقى) (¬1) إمّا من أمره -عَلَيْهِ السَّلَامْ- لنا أن نقول أو نفعل إذا نحن رأينا، وإمّا من قوله أو فعله إذا هو رأى. ولم نقصد في هذا الباب ما يفعله أو يأمر به عند رؤية شيء لا تكون الرؤية سببه، ولا هو مشروع من أجلها، كما هو رأى قوماً تلوح أعقابهم لم يمسُّها الماء، فقال: "أسبغوا الوضوء" (¬2). ورأى لمعة على قدم آخر فقال: "ارجع فأسبغ وضوءك". ورأى رجلاً يصلي ركعتين بعد الصبح (أربعاً) (*). ¬
ورأى آخر لم يصل كما ينبغي فأمره أن يرجع فيصلي، وقال له: "إنك لم تصلَّ" (¬1) ورأى رجلاً يسوق بدنة فقال: "اركبها" (¬2). ويبدو ما لا يحصى ذكره من هذا النوع، مما ليست الرؤية فيها أسباباً للأحكام المذكورة، إنما هي عندها، وإنما أسبابها المرئي؛ فإت الذي وجب عليه إحسان الوضوء بسبب تقصيره، والذي وجب عليه إعادة الصلاة كذلك، والذي نهي عن الصلاة بعد الصبح، سبب نهيه: الزيادة على ركعتي الصبح، والمأمور بركوب البدنة، سبب أمره له: سوقه إياها وإتعابه نفسه، فهذا النوع لم نقصده، وإنما قصدت فيه من رأى امرأة، فأمِرَ أَن يأتي امرأته، أو مُشتَحسَناً فأمر بالتبريك، وأشباه ذلك مما يتبين في نفس الباب -إن شاء الله تعالى-. وهذا الذي هو مقصود إنما ذكرت منه ما يتَيسَّر وجودُه، وَبَان إلى المخاطر ¬
ما يفعل إذا رأى امرأة تعجبه
بذكره، وهو ما يمكن الزيادة عليه مع (قدم) (¬1) الأيام، (نكتفي) (¬2) بهذا القدر مثلاً للمقصود المعروف من أمر النظر (الذي) (*) قد يكون سبباً لمشروعية قول أو فعل، كما قد يترتب عليه أيضاً وجوب الغضّ تارة وتنحية المرئي أو مفارقته أخرى، مما تقدم ذكره في هذا الباب. • ما يفعل إذا رأى امرأة تعجبه: قد تقدّم في هذا حديث جابر فيه: 256 - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى امرأة فدخل على زينب فقضى حاجته منها، ثم خرج إلى أصحابه فقال:"إنّ المرأة تُقبل في سورة شيطان، فمَن رأى من ذلك شيئاً فليأت أهله، فإنه يردّ ما في نفسه" (¬3). • ما يفعل إذا رأى من نفسه أو ماله أو أخيه ما يعجبه: 257 - النسائي: عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: خرجت أنا وسهل بن حنيف، فوجدنا غديراً، وكان أحدنا يستحيي أن يراه أحد، فاستتر مني حتى إذا رأى أن قد فعل نزع (جبّته عنه) (¬4) فدخل الماء فنظرت فأعجبني خَلقُه فأصبته بعين، فأخذته قَغقَعَة فدعوته فلم يجبني، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخيرته [الخبر] (¬5)، فقال: "قم بنا" [فأتاه] (¬6) فرفع عن ساقه، كأني أنظر إلى بياض وضَح ساقه وهو يخوض (الماء حتى أتاه) (¬7) فقال: "اللهم أذهب ¬
حرها ووصبها"، (فقال) (¬1): "قم" [فقام] (¬2)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو أخيه ما يعجبه فليدعُ بالبركة" (¬3). ولم يصحَّ في هذا حديث أنس: 258 - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَن رأى شيئاً يعجبه فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لم يضرَّه" (¬4). فإنه من رواية أبي (بكر الهذلي) (¬5)، وهو متروك، عن ثمامة، عن أنس، ذكره البزار. ¬
ما يفعل إذا رأى آية
• ما يفعل إذا رأى آية: 259 - أبو داود، قال: حدثنا محمد بن عثمان الثقفي، قال: حدثنا يحيى بن كثير، قال: نا مسلم بن جعفر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، قال: قيل لابن عباسى: ماتت فلانة بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرّ ساجداً، فقيل له: تسجد هذه الساعة؟ فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم آية فاسجدوا"؛ وأي أية أعظم من ذهاب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -؟! (¬1). كل رجاله ثقات. • ما يفعل إذا رأى المادحين: 260 - البزار، قال: نا الحسن بن عبد العزيز الجروي (¬2) ومحمد بن (مسكين) (¬3)، قالا: حدثنا يحيى (الوحاظي) (¬4)، قال: حدثنا عبد الله بن ¬
زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا رأيتم (المادحين) (¬1) فاحثوا في وجوههم التراب". قال: رواه عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر أيضاً (¬2)، ولا نعلم يروى عن ابن عمر إلا من هذين الطريقين. انتهى قوله. وإنما اخترت حديث ابن عمر على حديث المقداد (¬3)، وحديث ¬
الرحمن بن أزهر (¬1) في هذا المكان؛ [لأن] (¬2) لفظه: "إذا رأيتم" وقد روي ذلك في حديث المقداد أيضاً [المتقدم] (¬3) ذكره. ¬
ما يقول إذا رأى من ينشد ضالة أو يبيع أو يبتاع في المسجد
• ما يقول إذا رأى مَنْ ينشد ضالةً أو يبيع أو يبتاع في المسجد: 261 - النسائي (¬1)، قال: أخبرني إبراهيم بن يعقوب، حدثنا علي بن المديني، نا عبدالعزيز بن محمد، عن يزيد بن خصيفة، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[قال] (¬2): "إذا رأيتم مَن يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله لك تجارتك! واذا رأيتم مَن ينشد ضالة في المسجد، فقولوا: لا ردّ الله عليك! ". • ما يقول إذا رأى ما يحبّ [أو يكره] (¬3): 262 - قال البؤار: نا محمد بن إسحاق البغدادي، نا يحيى بن أبي بكر، نا إسرائيل، عن محمد بن عبد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن عمه عبيد الله، عن أبي رافع، عن علي - صلى الله عليه وسلم - قال: كان النبيُ - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى ما يكره قال: ¬
ما يقول إذا رأى مبتلى
"الحمد لله على كل حال". واذا رأى ما يسره قال: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات" (¬1). قال البزار: لا نعلمه يروى عن علي إلا بهذا الإسناد، وهو حسن إن شاء الله، قال: ومحمد بن عبد الله بن أبي رافع لا يعرف، فأما محمد بن (عبيد) (¬2) الله بن أبي رافع فضعيف. • ما يقول إذا رأى مبتلًى: 263 - قال البزار: نا زكرياء، ثنا ابن [أبي] (¬3) يحيى بإسناد ابن سوار، نا [أبو] (المغيرة) (¬4) بن مسلم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن رأى مصاباً فقال: الحمد لله الذي عافاتي ممّا ابتلاك به، وفضلني على كثير ممّن خلقه تفضيلاً: لم يصبه ذلك" (¬5). ¬
ما يقول إذا رأى الريح
أبو المغيرة بن مسلم مشهور، ليس به بأس، فهو إسناد حسن. • ما يقول إذا رأى الريح: 264 - الترمذي: عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبُّوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهونه، فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أُمرتْ به، ونعوذ [بك] من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أُمرت به" (¬1) وهو حسن صحيح. • ما يقول إذا رأى المطر: 265 - البخاري: عن عائشة: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى المطر قال: "صيِّباً نافعأ" (¬2). ¬
ما يقول إذا رأى قرية يريد دخولها
266 - أبو داود: عن. عائشة: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، كان إذا رأى ناشئاً في أُفق السماء ترك العمل وإن كان في صلاة، [ثم] (¬1) يقول: "اللهم إني أعوذ بك من شرها"، فإن مُطر قال: " [اللهم] (¬2) صيِّباً نافعاً" (¬3). وفي رواية النسائي:"سَيْباً نافعاً" (¬4). • ما يقول إذا رأى قرية يريد دخولها: 267 - النسائي: عن أبي سهل بن مالك، عن أبيه: أنه كان يسمع عمر بن الخطاب - يريد وهو يؤم الناس في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من دار أبي (جهم)، وقال كعب (الأحبار) (¬5): والذي فلق البحر لموسى لإن صهيباً حدَّثني أنَّ محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يرَ قرية يريد دخولها، إلا قال حين يراها: ¬
"اللهم ربَّ السموات السبع ومَا أظللنَ، وربَّ الأرضين السبع وما أقللنَ، وربَّ الشياطين وما أضللنَ، وربَّ الرياح وما ذرين: فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها [وشر ما فيها] (¬1) " (¬2). 268 - النسائي أيضاً: عن أبي أمامة بن سهل، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قلنا: يا رسول الله! ما كان يتخوف القوم حيث كانوا يقولون إذا أشرفوا على المدينة: اجعل لنا فيها رزقاً وقراراً؟ قال: " (كانوا) (¬3) يتخوَّفون جور الولاة وقحوط المطر" (¬4). إسناده حسن، فيه يحيى بن أيوب (¬5) المصري يختلف فيه، وأخرج له مسلم -رَحِمَهُ اللهُ-. ¬
ما يقول إذا رأى القمر
• ما يقول إذا رأى القمر: 269 - الترمذي: عن عائشة: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى القمر فقال: "يا عائشة! استعيذي بالله، فإن هذا الغاسق إذا وقب" (¬1). قال فيه: حسن صحيح. • ما يفعل إذا رأى من فضل عليه: 270 - مسلم: عن أبي هريرة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا نظر أحدكم إلى مَن فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى مَن هو أسفل منه ممّن فضل عليه" (¬2). ¬
ما يفعل إذا رأى منكرا
• ما يفعل إذا رأى منكراً: 271 - مسلم: عن طارق بن شهاب، قال: أول مَن بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد تُرِك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أنها هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإِيمان" (¬1). وقد وردت أشياء كثيرة مما يصللح أن (يكتب) (¬2) في هذا الباب، لم نذكرها لضعفها، وليس (عندها) (¬3) مأخذ فنأخذ منها أحكام ما لم تصحَّ (فيها) (¬4)، كما علمت فيما تقدم مِن تَوَصُّلنا إلى الحكم التكليفي بدليل مُوَصِّل إليه، وإن ضعف الحديث المروي فيه. فلما لم تكن هذه كتلك، لم نرَ (لذكرها) (¬5) معنى، وذلك مثل: - ما يقول إذا نظر في المرآة (¬6)، من رواية عائشة وابن عباس وأبي هريرة وأنس. ¬
- وما يقول ويفعل إذا رأى باكورة الثمرة (¬1)، من رواية أبي هريرة وعائشة وأنس. - وما يقول إذا رأى الحريق (¬2)، من رواية عبد [الله] (¬3) بن عمرو بن العاص وابن عباس. - وما يقول إذا رأى الهلال (¬4) (ما ينظر منه) (¬5) من رواية عروة وابن عباس. - وما يقول إذا رأى الهلال من رواية طلحة بن عبيد الله، وأنس بن مالك، وأبي سعيد بن رافع بن خديج وغيرهم. - وما يفعل إذا رأى (نُغَاشِياً) (¬6) وهو القصير، من رواية أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين مرسلاً. ¬
- وما يكرهه من الضحك عند رؤية الجنازة، وعند رؤية القبر من رواية أبي هريرة. - وحديث: "المؤمن مرآة المؤمن" (¬1)، من رواية أنس بن مالك، فإنه لو صحَّ لكان فيه مشروعية أقوال أو أفعال على الرائي في حق المرئي ... ومثل هذا مما عسى أن يعثر عليه مطالع. وهذا القدر الذي كتب فيه كافٍ في التنبيه على المقصود، وخاتم لهذا المجموع المتيسِّر الذي يمسر الوقوف عليه في المواضع التي جمع منها، لندرته وإبهام مأخذه، فقد سهلت بفضل الله سبحانه مستنداته للنظر فيها، ويعرف الحق من مقتضياتها، بحسب اجتهاد مَن ينظر فيها، والله سبحانه مسؤول ومرغوب ¬
إليه في العفو عن الزلل، والأجر والثواب [على] (¬1) الصواب، وبه الحول والقوة والتسديد، وصلاته وتسليمه على خيرته من خلقه محمد نبيه، وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليماً كثيراً. * * * ¬
قائمة المصادر والمراجع
قائمة المصادر والمراجع - أ - 1 - أبو زرعة الرازىِ وجهوده في السنة - مع كتابه "الضعفاء"، تحقيق: الدكتور سعدي الهاشمي، ط 1، 1402 هـ - 1982 م. 2 - أحكام القرآن، للإمام القاضي أبي بكر محمد بن عبد الله، المعروف بابن العربي المعافري، ط 1، خولاني عبد الحفيظ. 3 - أحكام القرآن، للإِمام أبي بكر أحمد بن علي الجصاص، دار الكتاب العربي، بيروت. 4 - أحكام النساء، للإِمام أحمد بن حنبل، تحقيق: عبد القادر أحمد العطا، دار الكتب العلمية. 5 - إحياء علوم الدين، للإِمام الغزالي. 6 - أدب الدنيا والدين، لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي، دار الفكر. 7 - أدب الزفاف في السنّة المطهرة، للمحدث محمد ناصر الدين الألباني، ط 7، المكتب الإسلامي. 8 - الأدب المفرد، للإِمام البخاري. 9 - الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (10) أجزاء، الدار البيضاء، 1954 م.
- ب -
10 - الإستيعاب في معرفة الأصحاب، للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)، نسخة مصورة، عن ط 1، 1328 هـ، 4 مجلدات. 11 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقران، للإِمام محمد الأمين الشنقيطي، مطبعة المدينة. 12 - الأعلام، لخير الدين الزركلي (ت 1397 هـ - 1977 م)، ط 7، دار العلم للملايين. - ب - 13 - البدائع. 14 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد،. لأبي الوليد أحمد بن رشد القرطبي، دار الفكر، مكتبه الخانجي. 15 - البداية والنهاية، لابن كثير عماد الدين إسماعيل (ت 774 هـ)، نسخة مصورة بدار الفكر. 16 - البيان والتحصيل، لأبي الوليد بن رشد القرطبي، دار الغرب الإِسلامي. - ت - 17 - تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي أحمد بن علي (ت 463 هـ)، ط 1، 1349 هـ. 18 - التاريخ الكبير، للإِمام البخاري محمد بن إسماعيل (ت 256 هـ)، نسخة مصورة عن الهندية. 19 - تحفة الإشراف بمعرفة الأطراف، للحافظ المزي جمال الدين يوسف (ت 472 هـ).
20 - تذكرة الحفّاظ، للإِمام الذهبي (ت 748 هـ)، دار إحياء التراث العربي - بيروت. 21 - الترغيب والترهيب، للحافظ المنذري عبد العظيم بن عبد القوي (ت 656 هـ)، محمد علي صبيح - ميدان الأزهر بمصر. 22 - تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة، للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)، طبعة السيد - عبد الله هاشم اليماني. 23 - تفسير: جامع البيان في تفسير القرآن، لابن جرير الطبري (ت 310 هـ)، دار الفكر. 24 - تفسير سورة النور، للشيخ أبي الأعلى المودودي، دار الفكر. 25 - تفسير القرآن العظيم، لعماد الدين إسماعيل بن كثير (ت 474 هـ)، دار الفكر. 26 - التفسير الكبير، للإِمام محمد فخر الدين الرازي، ط 1، دار الفكر. 27 - تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 825 هـ)، نشر المكتبة العلمية بالمدينة المنورة. 28 - التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، للحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي، ط / دار الفكر. 29 - التلخيص الحبير، للحافظ ابن حجر (ت 825 هـ). 30 - تلخيص المستدرك، للحافظ الذهبي (ت 748 هـ)، بذيل المستدرك، نشر دار المعرفة - بيروت. 31 - التمهيد، للحافظ أبي عمر يوسف بن عبد البر القرطبي، ط / وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية بالمغرب. 32 - تمييز الطيب من الخبيث، للعلّامة عبد الرحمن بن علي الشيباني.
- ج -
33 - تنوير الحوالك بشرح موطأ الإمام مالك، لجمال الدين السيوطي (ت 911 هـ)، ط / دار إحياء الكتب العربية. 34 - تهذيب الأسماء واللغات، للإِمام النووي يحيى بن شرف (ت 676 هـ)، الطبعة المنيرية. 35 - تهذيب التهذيب، للإِمام ابن حجر العسقلاني (ت 825 هـ)، نسخة مصورة من الهندية، (12) مجلداً. 36 - تهذيب، الإمام ابن قيم الجوزية، بهامش سنن أبي داود، دار المعرفة. - ج - 37 - جامع الأصول في أحاديث الرسول، لابن الأثير الجزري (ت 606 هـ)، دمشق. 38 - الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار إحياء التراث العربي - بيروت. 39 - الجامع الصحيح، للإمام البخاري محمد بن إسماعيل (ت 216 هـ)، مأخوذ عن النسخة الأميرية المطبوعة، 1314 هـ. 40 - الجامع الصغير، للإِمام السيوطي جمال الدين (ت 911 هـ)، مع شرح المناوي. 41 - الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، دار إحياء التراث العربي - بيروت. 42 - جذوة الإقتباس في من حل من الأعلام بمدينة فاس، لأحمد بن أحمد المكناسي - مخطوط.
- ح -
43 - جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، للحميدي محمد بن أبي نصر الأزدي، (ت 488 هـ). 44 - الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم الرازي (ت 327 هـ)، حيدر آباد. - ح - 45 - حلية الأولياء، للإِمام أبي نعيم الأصبهاني. 46 - حياة الصحابة، لمحمد يوسف الكندهلوي، ط 1، دار القلم. - خ - 47 - خلاصة تهذيب الكمال في أسماء الرجال، لصفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي، 1322 هـ. - د - 48 - الدر المتتور في التفسير بالمأثور، للإِمام جلال الدين السيوطي، دار المعرفة - بيروت. 49 - الدراية في تخريج أحاديث الهداية، لابن حجر العسقلاني، دار المعرفة - بيروت. - ذ - 50 - الذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب الحنبلي (ت 795 هـ)، أنصار السنّة المحمدية، 1372 هـ.
- ر -
51 - الذيل والتكملة لكتابي الموصل والصلة، لمحمد بن عبد الملك الأنصاري المراكشي، دار الثقافة - بيروت. - ر - 52 - روضة المحبين ونزهة المشتاقين، لابن قيّم الجوزية، دار الكتب العلمية. 53 - رياض الصالحين، للإِمام النووي أبي زكرياء يحيى بن شرف. - ز - 54 - زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن قيّم الجوزية (ت 751 هـ)، الطبعة المصرية. - س - 55 - سبل السلام شرح بلوغ المرام، للإِمام محمد بن إسماعيل الصغاني، تعليق: محمد عبد العزيز الخولي، دار الجيل - بيروت. 56 - سلسلة الأحاديث الصحيحة، للمحدث محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإِسلامي. 57 - سلسلة الأحاديث الضعيفة، للمحدث محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي. 58 - سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي.
- ش -
59 - سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث، ضبطه: الشيخ محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر. 60 - سنن الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن أبو محمد (ت 255 هـ)، تعليق: الشيخ عبد الله هاشم الباني، 1386 هـ - 1966 م. 61 - السنن الكبرى، للإِمام البيهقي أحمد بن الحسن (ت 458 هـ)، نسخة مصورة عن الهندية. 62 - سنن الدارقطني، علي بن عمر، عالم الكتب. 63 - سنن النسائي، شرح الحافظ السيوطي، دار الفكر. 64 - السيرة النبوية، لابن هشام، دار إحياء التراث العربي - بيروت. - ش - 65 - شرح المواق على مختصر خليل بن إسحاق. 66 - شرح الخطاب على مختصر خليل بن إسحاق. 67 - شرح الرسالة، للشيخ زروق. 68 - شرح علل الترمذي، للحافظ ابن رجب الحنبلي (ت 795 هـ)، تعليق: الحاج صبحي السامرائي، وزارة الأوقاف العراقية. 69 - الشرح الكبير. 70 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، للقاضي عياض بن موسى اليَحصبي (ت 544 هـ).
- ص -
- ص - 71 - صحيح مسلم، بشرح النووي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. - ض - 72 - الضعفاء الصغير، للإِمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ)، تحقيق: محمود زايد، دار الوعي بحلب. - ط - 73 - طبقات الشافعية الكبرى، لتاج الدين السبكي، ط 2، دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت. 74 - الطبقات الكبرى، للشعراني. - ع - 75 - العلل لعلي بن المديني (ت 234 هـ)، المكتب الإِسلامي، تحقيق: الدكتور مصطفى العظيمي. 76 - عمل اليوم والليلة، للإِمام النسائي، دراسة وتحقيق: الدكتور فاروق حمادة. - غ - 77 - غذاء الألباب لشرح منطومة الأدب، للشيخ العلّامة محمد السفاريني الحنبلي، نشر مكتبة الرياض الحديثة.
- ف -
- ف - 78 - فتح الباري بشرح صحيح الإمام البخاري، للحافظ ابن حجر العسقلاني، مكتبة الرياض الحديثة. 79 - فتح المغيث، للسخاوي محمد بن عبد إلرحمن (ت 902 هـ)، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. 80 - الفتوحات الربانية على الأذكار النووية، لابن علمان، محمد بن علمان الصديقي (ت 1057 هـ)، نشر جمعية النشر والتأليف الأزهرية بالقاهرة، 1347 هـ - 1929 م. 81 - فهرست، ابن خير الإِشبيلي أبي بكر محمد (ت 575 هـ)، سلسلة المكتبة الأندلسية. 82 - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، للشوكاني. 83 - الفيض القدير شرح الجامع الصغير، لعبد الرؤوف المناوي، المكتبة التجارية، 1356 هـ. - ق - 84 - القاموس المحيط، لمجد الدين الفيروزآبادي، دار الفكر. 85 - القوانين الفقهية، لابن جزي الكلبي. - ك - 86 - الكاشف في معرفة مَن له رواية في الكتب الستة، للإِمام الذهبي، دار الكتب العلمية.
- ل -
87 - الكامل في ضعفاء الرجال، لأبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، دار الفكر. 88 - كتاب الضعفاء والمتروكين، للإِمام النسائي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. 89 - كتاب الضعفاء، لأبي نعيم الأصبهاني (ت 430 هـ)، تحقيق: الدكتور فاروق حمادة، 1440 هـ - 1984 م، دار الثقافة. 90 - كتاب المجروحين، للإِمام محمد بن حبان، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، ط 2. 91 - كتاب المجموع (شرح المهذب)، للنووي، من منشورات زكريا علي يوسف. 92 - كتاب المراسيل، لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، ط 2، مؤسسة الرسالة. 93 - كشف الأستار عن زوائد البزار، للهيثمي. 94 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة (ت 1067 هـ). 95 - كشف الظنون وذيله، لحاجي خليفة وإسماعيل باشا البغدادي، نسخة مصورة. 96 - الكفاية، للخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية. - ل - 97 - لسان الميزان، للحافظ نور الدين بن حجر، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. 98 - اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، للحافظ السيوطي.
- م -
- م - 99 - مجمع الزوائد، للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (807 هـ)، ط 3، دار الكتاب العربي - بيروت. 100 - مجموعة الفتاوى الكبرى، لابن تيمية أحمد بن عبد الحليم (ت 728 هـ)، ط 1، الرياض. 101 - المحلى بالآثار، لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم الأندلسي. 102 - مختار الصحاح، لمحمد بن أبي بكر الرازي، دار الفكر - بيروت. 103 - مختصر سنن أبي داود، للحافظ المنذري، تحقيق: أحمد شاكر ومحمد حامد الفقي، دار المعرفة - بيروت. 104 - مسند: الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ)، مصور عن الطبعة الأولى، (6) مجلدات. 105 - المستدرك، للحاكم، دار الفكر. 106 - مشكاة المصابيح، للخطيب التبريزي. 107 - مصنف أبي بكر بن أبي شيبة، الدار السلفية بالهند. 108 - مصنف عبد الرزاق، من طبع المجلس العلمي لجنوب إفريقية. 109 - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 582 هـ)، دار الكتب. 110 - معالم السنن، لأبي سليمان الخطابي، بهامش مختصر السنن، لأبي داود، تحقيق: محمد حامد الفقي، طبعة دار المعرفة - بيروت. 111 - المعجب في تلخيص أخبار المغرب، لعبد الواحد بن علي التميمي المراكشي، دوزي - ليدن، 1881 م.
- ن -
112 - معجم أصحاب أبي علي الصدفي، لابن الأبار (ت 685 هـ). 113 - معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، نشر المكتبة العربيهّ بدمشق، 1377 هـ - 1957 م. 114 - المغني في الضعفاء، للحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق: نور الدين عتر. 115 - المقدمات، لأبي الوليد بن رشد، بهامش المدونة الكبرى، لسحنون. 116 - المقاصد الحسنة، لشمس الدين أبي الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت 902 هـ)، دار الكتب العلمية، 117 - المنجد في اللغة والأدب والعلوم، الكاثوليكية - بيروت. 118 - موارد الظمآن في زوائد ابن حبان، للهيثمي. 119 - الموضوعات، لأبي الفرح بن الجوزي (ت 597 هـ)، نشر المكتبة السلفية بالمدينهّ، سنة 1386 هـ. 120 - موطأ الإمام مالك، بشرح السيوطى. 121 - ميزان الإعتدال في نقد الرجال، للإِمام شمس الدين الذهبي (ت 748 هـ)، تحقيق: البجاوى، دار إحياء الكتب العربية. - ن - 122 - نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، للعلّامة جمال الدين أبي محمد الزيلعي (ت 762 هـ)، ط 2. 123 - النكت الظراف على الأظراف، للحافظ ابن حجر، دار المعرفة - بيروت.
- و -
124 - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، لأحمد بن محمد المقرى (ت 1041)، القاهرة، 1949 م. 125 - نقد الإمام الذهبي لبيان الوهم والإيهام، دراسة وتحقيق: الدكتور فاروق حمادة، دار الثقافة - الدار البيضاء. 126 - نيل الأوطار، للإِمام محمد بن علي الشوكاني، ط 2، شركة ومطبعة ومكتبة مصطفى البابي الحلبي. - و - 127 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لابن خلكان أحمد القاضي (ت 681 هـ)، ط 1، بلا تاريخ. اهـ.