إحسان سلوك العبد المملوك إلى ملك الملوك

عبد الكريم الحميد

إحسان سلوك العبد المملوك إلى ملك الملوك للشيخ عبد الكريم بن صالح الحميد حفظه الله

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد سيد المرسلين وأجلّ السالكين، وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد: فإنه ليس من المبالغة والتهويل أن نقول: إننا أجهل شيء بنفوسنا وبربنا، ولعل من قرأ هذا الكتاب بتأمل أن يعرف صدق هذه العبارة، فيتبين له أن كل عبد بحاجة إلى معرفتين جليلتين: (معرفته بنفسه، ومعرفته بربه) لتصلح عبوديته التي خُلق لأجلها، وهذا موضوع الكتاب، وقد اشتد الإعراض عنه في زماننا، لأن موضعه في القلوب مشغول بما هو آثر عندنا منه. وقد جمعت موضوعه باختصار من ميراث السلف عموماً، وابن القيم وشيخه على وجه الخصوص -فعليهم رحمة الله أجمعين-، مع ما كتبت فيه مما هو استفادة منهم، وسمّيته: (إحسان سلوك العبد المملوك إلى ملك الملوك). والسلوك هو: العبودية، والسير على الصراط المستقيم، وهو تحقيق التوحيد والدين.

- وقفة حول ما يسمى بـ[علم النفس].

وفيه من العلم بالنفس المقتبس من وحي بارئها ما يبين أن ما سواه جهل وضلال. وكيف يؤخذ علم النفس ممن لا يعرف ما تَسْعد به وما تشقى به ولا يدري لأي شيء خُلِقَت، بل ممن لا يعرفون من الإنسان إلا ما يشترك فيه مع الحيوان، فالروح ينكرونها والشأن كله فيها، إنها سر عجيب غريب، عند ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم عِلْمه، فهم علماء النفوس وأطباء القلوب على الحقيقة، ولقد ورّث لنا السلف من علم النفس ما هو كفيل لمن علمه وعمل به بسعادة الدنيا والآخرة، وما هو إلا الإقتباس من وحي بارئ النفوس عز وجل. ولتعلم فضل علم السلف على من سواهم؛ تأمل هذا السؤال وقل لي بربك من يقدر على جوابه غير ورثة محمد صلى الله عليه وسلم!!. فقد أورد ابن القيم رحمه الله في كتاب (الروح) سؤالاً هو: ما جوابنا للملاحدة والزنادقة المنكرين لعذاب القبر وسَعَتِه وضيقه وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، وكون الميت يُجْلس ويُقْعَدُ فيه؟. قالوا: فإنا نكشف القبر فلا نجد فيه ملائكة يضربون الموتى بمطارق من حديد. ولا نجد هناك حيات ولا ثعابين ولا نيران تأجّج. ولو كشفنا

القبر لوجدنا الميت لم يتغير، ولو وضعنا على عينيه الزئبق وعلى صدره الخردل لوجدناه على حاله. وكيف يُفسح مدّ بصره أو يُضيّق عليه ونحن نجده بحاله ونجد مساحته على حد ما حفرناها لم يزد ولم ينقص، وكيف يسع ذلك اللحد له وللملائكة وللصورة التي تؤنسه أو توحشه؟ بعد أن أورد رحمه الله السؤال ذكر جواب أهل البدع والضلال عليه وهم في زماننا كثيرون لا كثّرهم الله. يزعمون أنهم أهل العقل والمعقول وهم أهل الجهالة والضلالة، قال رحمه الله: قال إخوانهم من أهل البدع والضلال: كل حديث يخالف مقتضى العقول والحِسّ يُقطع بتخطئة قائله، ونحن نرى المصلوب على خشبة مدة طويلة لا يُسأل ولا يُجيب ولا يتحرك. ولا يتوقّد جسمه ناراً. وكيف يُتصوّر مسألة الملكين لمن هذا وَصْفه وكيف يصير القبر على هذا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار وكيف يضيق عليه حتى تختلف أضلاعه؟ الجواب: جعل الله سبحانه الدور ثلاثاً، دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار وجعل لكل دار أحكاماً تختص بها.

- قاعدة مهمة حول ظهور الأبدان والأرواح وخفائها في الدور الثلاث.

[فالأبدان هنا ظاهرة والأرواح خفية، والأبدان كالقبور لها .. والأرواح هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها] (¬1) فتجري أحكام البرزخ على الأرواح فتسري إلى أبدانها نعيماً أو عذاباً كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان فتسري إلى أرواحها نعيماً أو عذاباً .. فأحِطْ بهذا الموضع علماً واعرفه كما ينبغي يُزيل عنك كل إشكال يورَد عليك من داخل وخارج. وقد أرانا الله بلطفه ورحمته وهدايته من ذلك أنموذجاً في الدنيا من حال النائم. فإن ما يُنَعّم به أو يُعذّب في نومه يجري على روحه أصلاً والبدن تبع له. ويقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيراً مشاهداً، فيرى النائم في نومه أنه ضُرِب فيصبح وأثر الضرب في جسمه. ويرى أنه قد أكل أو شرب فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه. ويذهب عنه الجوع والظمأ. وأعجب من ذلك أنك ترى النائم يقوم في نومه ويضرب ويبطش ويُدافع كأنه يقظان وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك. وذلك أن الحكم لما جرى على الروح استعانت بالبدن من خارجه. ولو دَخَلَتْ فيه لاستيقظ وأحسّ. ¬

_ (¬1) - تمام هذه القاعدة فيما تحته خط في ص (7). قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: استبدلنا الخط بـ[معكوفين]

فإذا كانت الروح تتألم وتتنعّم ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع. فهكذا في البرزخ. بل أعظم فإن تجرّد الروح هنالك أكمل وأقوى. وهي متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كل الإنقطاع. [فإذا كان يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهراً بادياً أصلا.] ومتى أعطيت هذا الموضع حقة تبين لك ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه وضيقه وسعته وضمّه، وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة مطابق للعقل وأنه حق لا مِرْيَة فيه، وأن مَنْ أشكل عليه ذلك فمن سوء فهمه وقلة علمه أُتِيَ كما قيل: وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم وأعجب من ذلك أنك تجد النائمين في فراش واحد وهذا روحه في النعيم ويستيقظ وأثر النعيم على بدنه. وهذا روحه في العذاب ويستيقظ وأثر العذاب على بدنه. وليس عند أحدهما خبر بما عند الآخر. كذلك فإن النار التي في القبر والخضرة ليست من نار الدنيا ولا من زروع الدنيا فيشاهده من شاهد نار الدنيا وخَضِرَها. وإنما هي من نار الآخرة وخَضِرِها. وهي أشد من نار الدنيا فلا يُحِسُّ به أهل الدنيا.

فإن الله سبحانه يُحمي عليه ذلك التراب والحجارة التي عليه وتحته حتى يكون أعظم حراً من جمر الدنيا، ولو مسّها أهل الدنيا لم يحسّوا بذلك. بل أعجب من هذا أن الرجلين يُدفنان أحدهما إلى جنب الآخر وهذا في حفرة من حفر النار لا يصل حرها إلى جاره وذلك في روضة من رياض الجنة لا يصل رَوْحها ونعيمها إلى جاره. وقدرة الرب أوسع وأعجب من ذلك وقد أرانا الله من آيات قدرته في هذه الدار ما هو أعجب من ذلك بكثير ولكن النفوس مولَعة بالتكذيب بما لم تحط به علماً إلا من وفقه الله وعَصَمه. فرؤية عذاب القبر ونعيمه كرؤية الملائكة والجن تقع أحياناً لمن شاء الله أن يريه ذلك. والله سبحانه وتعالى يُحدث في هذه الدار ما هو أعجب من ذلك. فهذا جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم ويتمثل له رجلاً فيكلمه بكلام يسمعه، ومَنْ إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم لا يراه ولا يسمعه، وكذلك غيره من الأنبياء. وأحياناً يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس ولا يسمعه غيره من الحاضرين.

وهؤلاء الجن يتحدثون ويتكلمون بالأصوات المرتفعة بيننا ونحن لا نسمعهم، وقد كانت الملائكة تضرب الكفار بالسِّياط وتضرب رقابهم وتصيح بهم، والمسلمون معهم لا يرونهم ولا يسمعون كلامهم، والله سبحانه قد حجب بني آدم عن كثير مما يُحدثه في الأرض وهو بينهم، وقد كان جبريل يُقرئ النبي صلى الله عليه وسلم ويُدارسه القرآن والحاضرون لا يسمعونه. وكيف يستنكر من يعرف الله سبحانه ويُقِرّ بقدرته أن يُحدث حوادث يصرف عنها أبصار بعض خلقه حكمة منه ورحمة بهم لأنهم لا يطيقون رؤيتها وسماعها، والعبد أضعف بصراً وسمعاً من أن يَثْبت لمشاهدة عذاب القبر، وكثيراً ممن أشهده الله ذلك صَعِقَ وغُشي عليه ولم ينتفع بالعيش زمناً. وبعضهم كُشِف قناع قلبه فمات، فكيف يُنكّر في الحكمة الإلهية إسبال غطاء يحول بين المكلفين وبين مشاهدة ذلك حتى إذا انكشف الغطاء رأوه وشاهدوه عياناً. ثم إن العبد قادر على أن يُزيل الزئبق والخردل عن عين الميت وصدره ثم يردّه بسرعة فكيف يعجز عنه الملك وكيف لا يقدر عليه من هو على كل شيء قدير. وكيف تعجز قدرته عن إبقائه في عينيه وعلى صدره لا يسقط عنه، وهل قياس أمر البرزخ على ما يُشاهده الناس في

الدنيا إلا محض الجهل والضلال وتكذيب أصدق الصادقين وتعجيز رب العالمين؟ وذلك غاية الجهل والظلم. وإذا كان أحدنا يمكنه توسعة القبر عشرة أذرع ومائة ذراع وأكثر طولاً وعرضاً وعمقاً ويستر توسيعه عن الناس ويُطلع عليه من يشاء، فكيف يعجز رب العالمين أن يوسعه ما يشاء على من يشاء ويستر ذلك عن أعين بني آدم، فيراه بنو آدم ضيقاً وهو أوسع شيء وأطيبه ريحاً وأعظمه إضاءة ونوراً وهم لا يرون ذلك. وسر المسألة أن هذه السعة والضيق والإضاءة والخضرة والنار ليس من جنس المعهود في هذا العالَم. فلو كان الميت بين الناس موضوعاً لم يممتنع أن يأتيه الملكان ويسألانه من غير أن يشعر الحاضرون بذلك ويجيبهما من غير أن يسمعوا كلامه ويضربانه من غير أن يشاهد الحاضرون ضربه. وهذا الواحد منا ينام إلى جنب صاحبه فيُعذب في النوم ويُضرب ويألَم وليس عند المستيقظ خبر من ذلك البتة. وقد سرى أثر الضرب والألم إلى جسده. ومن أعظم الجهل استبعاد شق الملك الأرض والحجر وقد جعلهما الله سبحانه كالهواء للطير، ولا يلزم من حجبهما للأجسام الكثيفة أن تتولّج حُجُبها الأرواح اللطيفة وهل هذا إلا من أفسد القياس!!، وبهذا وأمثاله كُذِّبَت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم. انتهى.

-[21] ثمرة من دقائق ثمرات العمل بمقتضى علم السلوك.

ولا تستطل هذه المقدمة، فإن ما ذكرناه فيها من كلام ابن القيم وما سنذكره أيضاً من كلامه -بمشيئة الله تعالى- مما يُهمُّ السالك أمر حارت به العقول، ولا تمكن معرفته إلا بقبس من علم الرسول، وقد أنكر عذاب القبر ونعيمه جَهَلة وضُلاّل زماننا -على وجه الخصوص-، وقد ورثوا ذلك من الملاحدة. كما أنه يتفرّع من هذا العلم معرفة شأن يأجوج ومأجوج، وأن من أنكر وجودهم خلف السدّ وزعم خروجهم مخطئ أقبح الخطأ، وقد كتبت في ذلك كتاباَ هو (إبطال دعوى الخروج ليأجوج ومأجوج) (¬1). كذلك يتبين من هذه المقدمة خطأ من أنكر وجود الدجال، والذي صحّ الخبر بوجوده حالياً، كما ورد في الحديث المرفوع الذي أخرجه مسلم عن تميم الداري -رضي الله عنه-، كذلك فإن ما في هذه المقدمة أنموذج لِعِلْم ذلك الإمام العظيم ليطلعك على ما ورائها من علمه وفقهه في السلوك على الصراط المستقيم حيث أن أكثر ما في هذا الكتاب من كلامه. ثم إن من دقائق ثمرات العمل بمقتضى علم السلوك هي كالتالي: 1 - معرفة النفس ومعرفة عبوديتها لله تعالى، وأن هذا هو المقصود بعلم السلوك حيث هو العبودية. ¬

_ (¬1) - زعم بعض المتأخرين أن يأجوج ومأجوج هم الصينيون والأوربيون والإمريكيون وأنهم قد خرجوا منذ فترة من الزمن ولا حجة له في ذلك، والكتاب المشار إليه ردّ عليه، والحمد لله رب العالمين.

2 - معرفة الله وخشيته في الغيب والشهادة. 3 - التخلص من حظوظ النفس وشوائبها. 4 - استشعار عظمة الإله المعبود سبحانه وبحمده. 5 - معرفة حقيقة علم النفس، وأنه في التشريع وما سواه ضلال. 6 - العمل بما يرضي الله تعالى، واجتناب ما يسخطه. 7 - زيادة الإيمان واستحضار مشاهد اليوم الموعود مما يعين على الاستعداد له. 8 - التعرّف على خفايا نعم الله على عباده، والإقرار بها، وشكرها بإخلاص العمل لوجهه الكريم. 9 - عدم الاغترار بالعمل، وعدم التهاون به. 10 - علو الهمة، وعدم الركون إلى الدنيا ركوناً قاطعاً عن الله. 11 - تيسير محاسبة النفس عملياً والحد من غرورها وطغيانها بالعبادة أو بالعلم. 12 - امتلاء القلب بمحبة الله والشوق إليه. 13 - صحة القلب، والتخلص من أمراضه، وثباته على الاستقامة. 14 - معرفة التوكل بالعبادة. 15 - فقه أسماء الله الحسنى وصفاته العلى بفقه العبادة. 16 - التحقق بالفقر الحقيقي وأنه ليس ما يُنافي الجِدة التي هي الغنى.

17 - التحقق بمعرفة الغِنى العالي والغِنى السافل. كما ستعرفه فيما بعد إن شاء الله تعالى. 18 - انشراح الصدر واستنارة القلب الذي لا يحصل إلا بهذا الفقه العظيم. 19 - انشغال القلب بما خلق له ونزوله بمنازل: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). 20 - التخلص من رؤية العمل الصالح ومن طلب العِوَض عليه، والتخلص كذلك من الرضى به ومن السكون إليه. 21 - تيسير العمل الصالح والعمل به كما شُرع. وكتابنا هذا -بفضل الله تعالى- مِنْ أوجز وأحسن ما يثمر لك هذه الثمار العُظمى، فاعمل به -مستعيناً بالله وحده- ليثمر لك العمل بالعبودية الحقة والمثمرة لهذه الثمار -بإذنه سبحانه-. ثُمّ اعلم أن كنوز هذا الكتاب وتُحَفَه وذخائره مجلوبة لك من معادتها وهم سلفنا الصالح عامة، وابن القيم وشيخه خاصة -فرحمهم الله أجمعين-. ولئن ظننت أن قرائح المتأخرين تجود بمثل هذا أو تبلغه علومهم فهذا وَهْم منك، والله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. عبد الكريم بن صالح الحميد القصيم -بريدة يوم الجمعة 14/ 8/1421هـ

فوائد عن الروح والموت والقبر.

فوائد عن الروح والموت والقبر لقد كاد شأن الروح أن يُهمل في زماننا على حساب العناية الزائدة عن الحد بالبدن وحيث أن موضوع الكتاب عن سعادة روح الإنسان وشقائها فهنا لزيادة العلم أذكر فوائداً من كتاب (الروح) لابن القيم؛ وهي حسبما يلي:

تعارف الأرواح وتناكرها.

تعارف الأرواح وتناكرها سأل عمر رضي الله عنه علياً عن الرجل يحب الرجل ولم ير منه خيراً، والرجل يبغض الرجل ولم ير منه شراً، فقال علي: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الأرواح جنود مجندة تلتقي في الهواء فتشام، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف). فيه من الفوائد أن من لا يبغض الفساق وينفر منهم إنما لتآلف روحه مع أرواحهم. وقد كاد أن يعدم البغض في الله في زماننا بل كثيرون لا يبغضون الكفار بل يحبونهم فأين الفرقان؟.

ما هو الموت؟

ما هو الموت؟ موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أُريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت. وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدماً محضاً فهي لا تموت بهذا الإعتبار بل هي باقية في نعيم أو عذاب. والموت ليس بعدم محض وإنما هو انتقال من حال إلى حال.

صورة الروح.

صورة الروح قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) فأخبر أنه سوّى النفس كما أخبر أنه سوى البدن في قوله: (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) فهو سبحانه سوى نفس الإنسان كما سوى بدنه. بل سوى بدنه كالقالب لنفسه، فتسوية البدن تابع لتسوية النفس، والبدن موضوع لها كالقالب لما هو موضوع له. ومن ها هنا يُعلم أنها تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها، وتميزها بعد المفارقة يكون أظهر من تميز الأبدان، والإشتباه بينهما أبعد من اشتباه الأبدان. فإن الأبدان تشتبه كثيراً، وأما الأرواح فقلما تشتبه، وإذا كانت الأرواح العلوية وهم الملائكة متميزاً بعضهم عن بعض من غير أجسام تحملهم، وكذلك الجن، فتميّز الأرواح البشرية أولى.

صفة الروح.

صفة الروح الروح جسم مخالف بالماهيّة لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك. ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم. فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكاً لهذه الأعضاء وأفادها هذه الآثار من الحِسّ والحركة الإرادية. وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح. وأنت تجد الإنسان في غاية الثقالة وبدنه نحيل جداً، وتجده في غاية الخفّة وبدنه ثقيل لأن للروح خفّة وثقل وحرارة وبرودة ويُبْس ولين بحسبها، وبعض النفوس ليّنة وادِعَة وبعضها يابسة قاسية.

رائحة الروح

رائحة الروح الذي له حِسّ سليم يشم رائحة بعض النفوس كالجيفة المنتنة، ورائحة بعضها أطيب من ريح المسك. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر في طريق بقي أثر رائحته في الطريق ويُعرف أنه مرّ بها. وتلك رائحة نفسه وقلبه، وكانت رائحة عرقه من أطيب شيء وذلك تابع لطيب نفسه وبدنه. وأخبر وهو أصدق البشر أن الروح عند المفارقة يوجد لها كأطيب نفحة مسك وُجدت على وجه الأرض، أو كأنتن ريح جيفة وُجدت على وجه الأرض. ولولا الزكام الغالب لشمّ الحاضرون ذلك، على أن كثيراً من الناس يجد ذلك، وقد أخبر به غير واحد، ويكفي خبر الصادق المصدوق، وكذلك أخبر بأن أرواح المؤمنين مشرقة وأرواح الكفر سود.

الحياة في القبر.

الحياة في القبر وحياة الميت في قبره من أراد بها الحياة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبّره وتصرّفه وتحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس فهو مخطئ. والحِسّ والعقل يكذبه كما يكذبه النص. ومن أراد به حياة أخرى غير هذه الحياة بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا ليُسأل ويُمتحن في قبره فهذا حق ونَفْيه خطأ. وقد دلّ عليه النص الصحيح الصريح وهو قوله صلى الله عليه وسلم (فتعاد روحه في جسده). وسرّ ذلك أن الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام. أحدها: تعلقها به في بطن الأم جنيناً. الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض. الثالث: تعلقها به في حال النوم، فلها به تعلّق من وجه ومفارقة من وجه.

الرابع: تعلقها به في البرزخ فإنها وإن فارقته وتجرّدت عنه فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً بحيث لا يبقى لها التفات إليه ألبتّه، وردّها سلام المسلّم إعادة خاصة لا توجب حياة البدن قبل يوم القيامة. الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد، وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه إذ أنه تعلّق لا يقبل البدن معه موتاً ولا نوماً ولا فساداً.

وجه الشبه بين النائم والميت.

وجه الشبه بين النائم والميت وإذا كان النائم روحه في جسده وهو حي، وحياته غير حياة المستيقظ فإن النوم شقيق الموت، فهكذا الميت إذا أُعيدت روحه إلى جسده كانت له حال متوسطة بين الحي وبين الميت الذي لم تردّ روحه إلى بدنه كحال النائم المتوسطة بين الحي والميت. فتأمل هذا يُزيح عنك إشكالات كثيرة.

تقارب الأرواح وتباعدها.

تقارب الأرواح وتباعدها تجد الروحين المتماثلتين المتناسبتين في غاية التجاور والقُرب وإن كان بينهما بُعد المشرقين. وتجد الروحين المتنافرتين المتباغضتين بينهما غاية البعد وإن كان جسداهما متجاورين متلاصقين.

هل يشارك البدن النفس في النعيم والعذاب أم لا؟

هل يشارك البدن النفس في النعيم والعذاب أم لا؟ العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة تنعّم النفس وتعذّب منفردة عن البدن. وتنعم وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها. فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين كما يكون على الروح منفردة عن البدن. فمذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعّمة أو مُعذبة، وأنها تتصل بالبدن أحياناً، ويحصل له معها النعيم أو العذاب. ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أُعيدت الأرواح إلى الأجساد وقاموا من قبورهم لرب العالمين.

الميت في البرزخ ولم لم يقبر.

الميت في البرزخ ولو لم يُقبر ومما ينب أن يُعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيب منه قُبِر أو لم يُقْبَر. فلو أكلته السباع أو أُحرق حتى صار رماداً ونُسِفَ في الهواء أو صُلِب أو غَرق في البحر وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور، (ومثله ما يحفظ بالتحنيط والتبريد).

هل تخبر الرسل بالمستحيل؟

هل تُخبر الرسل بالمستحيل؟ لِيُعْلَم أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بما تحيله العقول وتقطع باستحالته بل أخبارهم قسمان: أحدهما: ما تشهد به العقول والفِطَر. الثاني: ما لا تدركه العقول بمجردها كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر، وتفاصيل الثواب والعقاب، ولا يكون خبرهم محالاً في العقول أصلاً. وكل خبر يُظَن أن العقل يحيله فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون الخبر كذباً عليهم أو يكون ذلك العقل فاسداً، وهو شبهة خيالية يظن صاحبها أنها معقول صريح، قال تعالى: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ). وقال تعالى: (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى).

خلط الحق بالباطل.

خلط الحق بالباطل الملَك الموكّل بأرواح العباد يُريَ الإنسان ما أراد أن يريه فإذا كان الإنسان في اليقظة غافلاً ذكياً صدوقاً لا يلتفت في يقظته إلى شيء من الباطل رجع إليه روحه فأدّى إلى قلبه الصدق مما أراه الله عز وجل. وإن كان خفيفاً نَزِقاً يحب الباطل والنظر إليه فإذا نام وأراه الله أمراً من خير أو شر رجعت روحه إليه فحيث ما رأى شيئاً من مخاريق الشيطان أو الباطل وقفت روحه عليه كما تقف في يقظته، فكذلك لا يؤدي إلى قلبه فلا يعقل ما رأى لأنه خلط الحق بالباطل. قال ابن القيم بعد هذا الكلام: وهذا من أحسن الكلام وهو دليل على معرفة قائله وبصيرته بالأرواح وأحكامها. وأنت ترى الرجل يسمع العلم والحكمة وما هو أنفع شيء له ثم يمر بباطل ولهو من غناء أو شبهة أو زور أو غيره فيُصْغي إليه ويفتح له قلبه حتى يتأدّى إليه فيتخبط عليه ذلك الذي سمعه من العلم والحكمة ويلتبس عليه الحق بالباطل. إنتهى.

وفيه من الفائدة أن الإصغاء إلى الباطل والشُّبه وفتح القلب لذلك يُسبب التباس الحق بالباطل والتخبط في الحق، وهذا مطابق لما فُتح في زماننا من علوم دخيلة على علم الرسول مزاحمة له فقد أحدثت من التخبيط ما يُناسب هذا التخليط. ثم ذكر رحمه الله أن الروح تعذب بتلك الاعتقادات والشُّبه الباطلة وينضاف إلى ذلك عذابها بتلك الإرادات والشهوات التي حيل بينها وبينها، وينضاف إلى ذلك عذاب آخر يُنشئه الله لها ولبدنها من الأعمال التي اشتركت معه فيها، وهذه هي المعيشة الضنك في البرزخ والزاد الذي تزوّد به إليه. والروح الزكية العلوية المحقة التي لا تحب الباطل ولا تألفه بضد ذلك كله تنعم بتلك الاعتقادات الصحيحة والعلوم والمعارف التي تلقتها من مشكاة النبوة، وتلك الإرادات والهمم الزكية وينشئ الله سبحانه لها من أعمالها نعيماً يُنعمها به في البرزخ فتصير لها روضة من رياض الجنة ولتلك حفرة من حفر النار. إنتهى. أنظر قوله: (الإعتقادات الصحيحة والعلوم والمعارف التي تلقتها من مشكاة النبوة) يتبين لك ما هو العلم الذي تَسْعد الأرواح وتُنَعَّم به، وأنه المتلقى من مشكاة النبوة والعلوم والاعتقادات التي تعذب بها وأنها ما سوى ذلك.

مواعظ القبور.

مواعظ القبور قال ابن القيم -رحمه الله-: لما كان أكثر الناس أهل معاصي وذنوب كان أكثر أصحاب القبور معذبين والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب وبواطنها حسرات وعذاب. ظواهرها بالتراب والحجارة مَبْنيات، وفي بواطنها الدواهي والبليات، تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها، ويحق لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها. تالله لقد وَعَظَتْ فما تركت لواعظ مقالاً، ونادت: يا عُمار الدنيا لقد عمرتم داراً موشكة بكم زوالا، وخزيتم داراً أنتم مسرعون إليها انتقالا، عمرتم بيوتاً لغيركم منافعها وسكناها، وخربتم بيوتاً ليس لكم مساكن سواها، هذه دار الإستباق ومستودع الأعمال وبَذْر الزرع، وهذه محل للعير، رياض من رياض الجنة أو حفر من حفر النار. إنتهى. وإذا كان هذا شأن القبور ووعظها فما الظن بما آلت إليه أحوال

قصيدة تبين حال أهل الوقت مع الجنائز والقبور.

كثير من أهل وقتنا عند حضورهم الجنائز والقبور. لقد أصبحنا نسمع العجائب من أقوالهم، كما أنه يُرى من أفعالهم ما إن دل على شيء فإنما يدل على أن القلوب في مرض خطير أو أنها ميّتة والعياذ بالله. وقد كتبت أبياتاً في هذا الموضوع بعنوان (القبور الواعظة) وهي كالآتي: عجائب الوقت لا نُحصي لها عدداً ... وإنما بعضها نَذْكُرُه للعجب قبورنا حولنا والميت مُنْجدل ... وضحكنا حاضر في البال لم يغِبِ أمَحْفَل العرس أم ميتاً نشيّعه ... نقارب الأمر .. واغوثاه من كُرب وصفقة البيع عند القبر نعقدها ... وصعقة الموت تدنينا من العطب كأننا بعد هذا الميت في أمد ... من الحياة بدار اللهو واللعب قساوة القلب داء لا دواء له ... إلا الرجوع إلى درب لنا رَحِب هذي القبور بها الذكرى لمتعظ ... صوامت .. إنما نادتك بالطلب كم في القبور نعيماً لستَ تدركُهُ ... وكم بها حفر للنار واللهب ما مؤمن ينظر الأجداث معتبراً ... إلا تغيّر مِنْ همّ ومِن نَصَب وميت القلب عند القبر في عَمَهٍ (¬1) ... وليس يَنفذ خلف الستر والحجب وغافل القلب عند القبر في مَرَح ... سيماه تخبر .. لا تسأل عن السبب وكيف يغفل والأيام تنقله ... إلى المقابر لو قد جدّ بالهرب ¬

_ (¬1) - العمه، هو/ عمى البصيرة.

إن القبور مزار سوف تسكنه ... عما قليل وما الأعمار كالحُقُب فروضة من رياض الخلد مشرقة ... أو الجحيم .. ويا بؤساً لمنقلب هذا النعيم إذا تطلب له شبهاً ... كذا العذاب، فأَمْر غاية العجب كنائم سُرّ في أحلام نومته ... وآخر كم رأى في النوم من كُرَب هذا يشابه بالتقريب برزخنا ... وما المشبَّه كالمرئي عن كثب إذا رأيت أناساً عند مقبرة ... في شُغْلِ دُنْياهمو فالدين في عطب جوّالهم جال في هَذْر يروق لهم ... وسامع الهذر ظن القوم في طرب أسلافنا كلهم بالغم مشتمل ... عند القبور لأمر ليس باللعب تذكّروا الموت إذ يأتي فيفجؤهم ... لأنهم بالدُّنى كانوا كمغترب إن مات ميْتٌ ترى الأحزان شاملة ... أين المعزّى فكل القوم في رهب-!! في داخل القبر أهوال مهوِّلة ... من عاين القبر لم يرغب بمنقلب إلا ليعمل أعمالاً تكون له ... ذُخْراً إذا جاء وعد ليس بالكذب من لم تعظه قبور سوف يسكنها ... فعقله تائه لاه بمستلب حال الجنائز -يا من غُرَّ- قائلة: ... إحذر!! فإنك يا مغرور بالطلب لا تُلْهِينّك دنياً سوف تتركها ... وآخر الأمر محمول على الخشب من حين جئت إلى الدنيا فمُتَّجه ... نحو القبور ولو أمعَنْت بالهرب هذي الحقيقة يا من غرّه أمل ... قد جاوز الأجل المخطوط بالكتب أنفاسنا والخُطى عدّا بلا خطأ ... معاول هادمات عُمرنا الخرب من كان يضحك والأجداث ترقبه ... فأمره عجب يدعو إلى العجب! (¬1) ¬

_ (¬1) - كتبت في 27/ 6/1421هـ وقد نشرت في حينها -بحمد الله تعالى-.

عذاب القبر نوعان: دائم ومنقطع.

عذاب القبر نوعان: دائم ومنقطع المنقطع من عذاب القبر عذاب بعض العصاة الذين خفّت جرائمهم، فيعذب بحسب جرمه ثم يخفف عنه كما يعذب في النار مدة ثم يزول عنه العذاب، ونوع دائم لا ينقطع.

الروح ذات مستقلة.

الروح ذات مستقلة لقد خاطب الله سبحانه النفس بالرجوع والدخول والخروج ودلت النصوص الصحيحة الصريحة على أنها تصعد وتنزل وتُقبض وتُمسك وترسل وتستفتح لها أبواب السماء وتسجد وتتكلم، وأنها تخرج تسيل كما تسيل القطرة، وتكفّن وتحنط في أكفان الجنة والنار، وأن ملك الموت يأخذها بيده ثم تتناولها الملائكة من يده ويُشم لها كأطيب نفحة مسك أو أنتن جيفة، وتشيّع من سماء إلى سماء ثم تُعاد إلى الأرض مع الملائكة، وأنها إذا خرجت تبعها البصر بحيث يراها وهي خارجة، ودل القرآن على أنها تنتقل من مكان إلى مكان حتى تبلغ الحلقوم في حركتها.

هل النفس والروح شيء واحد أم شيئان متغايران؟

هل النفس والروح شيء واحد أم شيئان متغايران؟ الروح غير النفس، والنفس غير الروح، وقوام النفس بالروح والنفس صورة العبد، والهوى والشهوة والبلاء معجون فيها، ولاعدو أعدى لابن آدم من نفسه. فالنفس لا تريد إلا الدنيا ولا تحب إلا إياها، والروح تدعو إلى الآخرة وتؤثرها. وجُعل الهوى تبعاً للنفس، والشيطان تبع النفس والهوى، والملك مع العقل والروح، والله تعالى يُمدّهما بإلهامه وتوفيقه. والنصوص دالة على أن الإنسان عبد بجملته، وليست عبوديته واقعة على بدنه دون روحه بل عبودية الروح أصل وعبودية البدن تبع كما أنه تبع لها في الأحكام، وهي التي تحركه وتستعمله وهو تبع لها في العبودية.

الروح تخلق من نفخة الملك.

الروح تخلق من نفخة الملك يظن الغالطون أن الملَك يُرسَل إلى الجنين، بروح قديمة أزلية ينفخها فيه كما يرسل الرسول بثوب إلى الإنسان يُلْبِسه إياه، وهذا ضلال وخطأ، وإنما يرسل الله سبحانه إليه الملَك فينفخ فيه نفخة تحدث له الروح بواسطة تلك النفخة. فتكون النفخة هي سبب حصول الروح وحدوثها له كما كان الوطء والإنزال سبب تكوين جسمه، والغذاء سبب نموه. فمادة الروح من نفخة الملَك، ومادة الجسم من صبّ الماء في الرحم، فهذه مادة سماوية وهذه مادة أرضية. فمن الناس من تغلب عليه المادة السماوية فتصير روحه علوية شريفة تناسب الملائكة. ومنهم من تغلب عليه المادة الأرضية فتصير روحه سفلية ترابية مهينة تناسب الأرواح السفلية. فالملَك أب لروحه، والتراب أب لبدنه وجسمه.

يوضّح ما تقدم أنه ثبت بالحديث الصحيح أن خلق ابن آدم يُجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يُرسل إليه الملَك فينفخ فيه الروح. فالملَك وحده يرسل إليه فينفخ فيه، فإذا نفخ فيه كان ذلك سبب حدوث الروح فيه. ولم يقل يرسل الملَك إليه بالروح فيُدخلها في بدنه، وإنما أرسل إليه الملَك فأحدث فيه الروح بنفخته فيه، لا أن الله سبحانه أرسل إليه الروح التي كانت موجودة قبل ذلك بالزمان الطويل مع الملَك. فَفَرْق بين أن يُرسل إليه ملَك ينفخ فيها الروح وبين أن يُرسل إليه روح مخلوقة قائمة بنفسها مع الملَك، وتأمل ما دل عليه النص من هذين المعنيين وبالله التوفيق.

الروح ليست من أمر الغيب.

الروح ليست من أمر الغيب أرواح بني آدم ليست من الغيب وقد تكلم بها العلماء من هذه الأمة وغيرها. أما الروح المسئول عنها في الآية: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) فليست أرواح بني آدم بل هو الروح الذي أخبر الله عنه في كتابه أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة وهو ملَك عظيم، قال تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ) الآية. فعن هذا الروح سأل اليهود وقد جاءهم الجواب: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي). وقيل أنها الروح المذكور في قوله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم).

روح الله.

روح الله الروح المضافة إلى الرب عز وجل روح مخلوقة، وإنما أضافها إلى نفسه إضافة تخصيص وتشريف مثل بيت الله ناقة الله مع أن البيوت والنوق كلها لله، كذلك الأرواح كلها مخلوقة لله وهي ملكه سواء عيسى عليه السلام أو غيره. فالروح الذي نفخ في مريم هو الروح المضاف إلى الله الذي اختصه لنفسه وأضافه إليه، وهو روح خاص من بين سائر الأرواح وليس بالملَك الموكّل بالنفخ في بطون الحوامل من المؤمنين والكفار، فإن الله سبحانه وكّل بالرحم ملكا ينفخ الروح في الجنين فيكتب رزق المولود وأجله وعمله وشقاوته وسعادته. وأما هذا الروح المرسَل إلى مريم فهو روح الله الذي اصطفاه من الأرواح لنفسه، فكان بمنزلة الأب لسائر النوع، فإن نفخته لما دخلت في فرجها كان ذلك بمنزلة لِقاح الذكر للأنثى من غير أن يكون هناك وطء.

أما آدم عليه السلام فقد خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه فالروح مخلوقة واليد غير مخلوقة. إذا تبين ما تقدم عُلم أن ما نسب إلى الله وهو قائم بنفسه فليس هو من ذات الله فقوله تعالى: (وَرُوحٌ مِّنْهُ) مثل قوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ). وقوله تعالى: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) مثل قوله تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) الآية. انتهى.

(العقلانيون/ الجاهليون).

(العقلانيون/ الجاهليون) إن تسمية من حمّلوا عقولهم السخيفة مالا تحتمل بـ (العقلانيين) تسمية خاطئة، وإنما هم (الجاهليون) وهم الضُّلال حيث حمّلوا عقولهم السخيفة ما لا تحتمل كما تقدم، وذلك بعرضهم النصوص عليها، فهي الميزان عندهم للقبول والرد!! وقد تبين أن الرسل لا تأتي بالمحال، ولكنها تأتي في بعض ما تأتي من الأمور الغيبية بما يُحَيِّر العقول، وهذا مجال الإيمان بالغيب ومناط التكليف في أمور الكثيرة برزخية وأخروية. وحَسْب العقول من الكمال تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يقول، واعلم أن من حكّم عقله في نصوص الكتاب والسنة كمن يُحَكِّم بصره في الموجودات، فيقول: كل ما لا أُبْصره لا وجود له. إن كل واحد منا يعلم أن بصره محدود بل قواه كلها محدودة فما بال العقل شذ عن هذه القاعدة؟ لقد شذ عنها من شذ لأنه لا يعقل، فهو مهووس، والجنون ألوان وأنواع وفنون، بل إنه عقل تافه حقير صاحبه قاصر مأفون، إذ

ما الظن بمن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يتلو آية من كتاب ربه أو يحدث بكلامه الذي هو وحي ثم يعارضه شخص ويقول: عرضتُ ما جئت به على عقلي فردّه ولم يقبله؟، فهذا يردّ أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وما أكثر من يحذو حذو هذا في هذا الزمان السوء لا كثرهم الله فبعداً وسحقاً لأهل الخزي والضلال.

لا يتم الإسلام إلا على ظهر التسليم.

لا يتم الإسلام إلا على ظهر التسليم النبي صلى الله عليه وسلم علمنا السلام على أهل القبور، وكان الصحابة يسلمون على شهداء أحد وقد ثبت أن أرواحهم في الجنة تسرح حيث شاءت. ولا يضيق عقلك عن كَوْن الروح في الملأ الأعلى تسرح في الجنة حيث شاءت وتسمع سلام المسلم عليها عند قبرها وتدنو حتى ترد عليه السلام. وللروح شأن آخر غير شأن البدن، وهذا جبريل صلوات الله وسلامه عليه رآه النبي صلى الله عليه وسلم وله ستمائة جناح منها جناحان قد سدّ بهما ما بين المشرق والمغرب، وكان من النبي صلى الله عليه وسلم حتى يضع ركبتيه بين ركبتيه ويديه على فخذيه، وما أظنك يتسع بطانك أنه كان حينئذ في الملأ الأعلى فوق السموات حيث هو مستقره. وقد دنا من النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدنو، فإن التصديق بهذا له قلوب خُلِقَت له وأُهِّلَتْ لمعرفته، ومن لم يتسع بطانه لهذا فهو أضيق من أن يتّسع للإيمان بالنزول الإلهي إلى سماء الدنيا كل ليلة وهو فوق سمواته على عرشه

لا يكون فوقه شيء ألبته بل هو العالي على كل شيء، وعلوه من لوازم ذاته، وكذلك دُنوّه عشيّة عرفة من أهل الموقف، وكذلك مجيئه يوم القيامة لمحاسبة خلقه وإشراق الأرض بنوره، وكذلك مجيئه إلى الأرض حين دحاها وسوّاها ومدّها وبسطها وهيأها لما يُراد منها، وكذلك مجيئه يوم القيامة حين يقبض من عليها ولا يبقى بها أحد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأصبح ربك يطوف في الأرض وقد خَلَتْ عليه البلاد) هذا وهو فوق سماواته على عرشه فما يقول الجاهليون في هذا؟!!.

الثواب والأجر، والفروق بين أجر الخالق وأجر المخلوق.

الثواب والأجر والفروق بين أجر الخالق وأجر المخلوق إن الإنسان إذا أدّى عملاً لغيره من المخلوقين فله عليه ثواب وأجر مستحق سواء كان معيناً قبل العمل أو لم يُعيّن. هذا في عامة الأحوال وهو بديهي معلوم ليس المراد بيانه إذ أن ذلك تحصيل حاصل. وإنما المراد ما ورد من ذلك في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وأنه يختلف عن هذا اختلافاً كلياً وإنما يتفق معه في التسمية فقط يوضح ذلك فروق كثيرة بين الأول والثاني منها، وهي كالآتي:

الفرق الأول.

الفرق الأول من فروق ما بين أجر الخالق وأجر المخلوق الإنسان عبد مملوك لربه والعبد المملوك لا يستحق على مالكه أجراً مهما عمل له لأن عمله مستحق لمالكه بمقتضى العبودية، لكن إن تفضّل عليه مالِكه وأثابه فهذا فضل منه لاستحقاق المملوك ذلك. أما ثواب وأجر المخلوق لمخلوق مثله على عمل أداه فإنما هو لاستحقاق العامل الأجير الأجر مقابل ما عمل ومعاوضة لعمله.

الفرق الثاني.

الفرق الثاني من فروق ما بين أجر الخالق وأجر المخلوق الإنسان إذا عمل لربه فهو على الحقيقة يعمل لنفسه لأن النفع عائد له في الدنيا والآخرة. أما في الآخرة فظاهر وهو نجاته من النار ودخوله الجنة، وهذا منتهى زوال الرهبة وتحقق الرغبة، وغاية ما سمَتْ إليه همم الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم على الحقيقة. وأما في الدنيا فهذا الذي قد لا يعرفه كثير من المعرضين، وقد يعرفه مجملاً من غير تفصيل كثير من المتعبدين. وهنا لا بد من الكلام في علة التكليف وحكمته ليتبين هذا الأمر. وحيث أنه قد اختلفت طرق الناس في ذلك مع كون الرب سبحانه لا ينتفع بالطاعة ولا تضره المعصية فقد ذكر ابن القيم رحمه الله هذه الطرق وهي: طريق الجبرية والقدرية والفلاسفة، ثم ذكر الرابع وهو طريق أتباع الرسل، قال: وأما أتباع الرسل الذين هم أهل البصائر فحكمة الله عز وجل

في تكليفهم ما كلفهم به أعظم وأجلّ عندهم مما يخطر بالبال أو يجري به المقال، ويشهدون له سبحانه في ذلك بالحِكَم الباهرة والأسرار العظيمة أكثر مما يشهدونه في مخلوقاته وما تضمنته من الأسرار والحِكَم. فهم يعبدونه سبحانه بأمره ونهيه لأنه تعالى أهل أن يُعبد وأهل أن يكون الحب كله له والعبادة كلها له حتى لو لم يخلق جنة ولا ناراً ولا وضع ثواباً ولا عقاباً لكان أهلاً أن يعبد أقصى ما تناله قدرة خلقه من العبادة. وفي بعض الآثار الإلهية: لو لم أخلق جنة ولا ناراً لم أكن أهلاً أن أُعْبَد. فإن الله فطر خليقته على محبته والإقبال عليه وابتغاء الوسيلة إليه، وأنه لا شيء على الإطلاق أحب إليها منه وإن فسدت فِطَر أكثر الخلق بما طرأ عليها مما اقتطعها واجتالها عما خُلِق فيها. فكونه سبحانه أهلاً أن يعبد ويُحَب ويُحمد ويثنى عليه أمر ثابت له لذاته فلا يكون إلا كذلك. فأولياؤه وخاصته وحزبه لما شهدت عقولهم وفطرهم أنه أهل أن يُعبد وإن لم يرسل إليهم رسولاً ولم ينزل عليه كتاباً ولو لم يخلق جنة

ولا ناراً علموا أنه لا شيء في العقول والفطر أحسن من عبادته ولا أقبح من الإعراض عنه، وجاءت الرسل وأنزلت الكتب لتقرير ما استودع سبحانه في الفطر والعقول من ذلك وتكميله وتفصيله وزيادته حسناً إلى حسنه. فاتفقت شريعته وفطرته وتطابقا وتوافقا وظهر أنهما من مشكاة واحدة فعبدوه وأحبوه ومجدوه وحمدوه بداعي الفطرة وداعي الشرع وداعي العقل فاجتمعت لهم الدواعي ونادتهم من كل جهة ودعتهم إلى وليهم وإلههم وفاطرهم فأقبلوا إليه بقلوب سليمة لم يُعارض خبره عندها شبهة توجب ريباً وشكاً ولا أمره شهوة توجب رغبتها عنه وإيثارها سواه. فأجابوا دواعي المحبة والطاعة إذ نادت بهم: حي على الفلاح، وبذلوا أنفسهم في مرضاة مولاهم الحق بذل أخي السماح، وحمدوا عند الوصول إليه مسراهم وإنما يحمد القوم السّرى عند الصباح. فدينهم دين الحب وهو الدين الذي لا إكراه فيه، وسيرهم سير المحبين وهو الذي لا وقفة تعتريه: إني أدين بدين الحب ويْحَكُم ... فذاك ديني ولا إكراه في الدين ... ومن يكن دينه كرهاً فليس له ... إلا العناء وإلا السير في الطين ... وما استوى سَيْر عبد في محبته ... وسير خال من الأشواق في دين ...

قل لغير أخي الأشواق ويحك قد ... غُبْنت حظك لا تغتر بالدون ... نجائب الحب تعلوا بالمحب إلى ... أعلى المراتب من فوق السلاطين ... وأطيب العيش في الدارين قد رغبت ... عنه التّجار فباعت بيع مغبون ... فإن ترد علمه فاقرأه ويحك في ... آيات (طه) وفي آيات (يس) يبين ما تقدم ويوضحه ما ذكر رحمه الله من أدلة الكتاب والسنة على ذلك وهو قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا). قال: فبين سبحانه أن إقامة الوجه وهو إخلاص القصد وبذل الوسع لدينه المتضمن محبته وعبادته حنيفاً مقبلاً عليه معرضاً عما سواه هو فطرته التي فطر عليها عباده فلو خُلّوا ودواعي فطرهم لما رغبوا عن ذلك ولا اختاروا سواه. ولكن غيّرت الفطر وأفسدت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها) ثم يقول أبو هريرة: إقرأوا إن شئتم: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ). إنتهى.

مما تقدم تظهر حكمة التكليف وهو أن الشريعة النازلة تفصيل وبيان لما في الفطرة المخلوقة وأن صلاح حال العبد في الدنيا بتوافق الشرعة مع الفطرة، ويأتي إن شاء الله زيادة توضيح لهذا الأصل العظيم الذي هو أصل الدين وأساسه.

الفرق الثالث.

الفرق الثالث من فروق ما بين أجر الخالق وأجر المخلوق الله عز وجل هو الخالق لطاعة العبد بخلاف المتسأجر من المخلوقين فإنه لا تأثير له في عمل الأجير. وإذا كان الرب سبحانه هو الخالق لأفعال العباد فهذا أيضاً فارق بين ثوابه وأجره وثواب المخلوق للمخلوق وأجره فإنه سبحانه هو المحرّك لعبده في طاعته وهو الذي يجعله مريداً لذلك وهو الذي قوّاه على طاعته ووفقه لها.

الفرق الرابع.

الفرق الرابع من فروق ما بين أجر الخالق وأجر المخلوق المخلوق محتاج إلى عمل الأجير ينتفع بحصوله ويتضرر بفقده، والرب عز وجل لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية ففي حديث أبي ذر رضي الله عنه: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني). لكنه يرضى من عبده الطاعة ويحبها كما أنه يسخط منه المعصية (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ).

العمل لله ليس كالعمل لغيره من المخلوقين.

العمل لله ليس كالعمل لغيره من المخلوقين بمعرفة ما تقدم يظهر جلياً أن العمل لله ليس كالعمل للمخلوقين فكما أنه سبحانه لا يماثل بذاته وصفاته فالعمل له أيضاً لا يماثَل بالعمل لغيره. إذ العمل لغيره يكون مع عدم المِلْكِيّة ويكون بعدم انتفاع العامل غير ما يُعاوَض به من معاوضات دنيوية وبعدم التأثير على العامل بالتخليق، وبانتفاع صاحب العمل، وهذا كله لا يماثل العمل لله وينزه الله عنه. يوضح ما تقدم أنه لو كان الذي بين العباد وبين ربهم أجر ومعاوضات مستحقة كما بين المخلوقين لما استطاع أحد أن يؤدّي لله حقاً مطلقاً. وسوف يظهر ذلك فيما يأتي إن شاء الله.

نعمة النفس تستوعب الأعمال الصالحة كلها.

نعمة النفس تستوعب الأعمال الصالحة كلها قال ابن القيم رحمه الله: ويكفي أن النفس من أدنى نِعمه التي لا يكادون يعدونها، ثم ذكر آلافاً مؤلفة لعدد الأنفاس التي يتنفسها الإنسان في اليوم والليلة. قال: ولكل نعمة من هذه النعم حق من الشكر يستدعيه ويقتضيه، فإذا وُزّعت طاعات العبد كلها على هذه النعم لم يخرج قسط كل نعمة منها إلا جزء يسير جداً لا نسبة له إلى قدر تلك النعمة بوجه من الوجوه، إنتهى. لقد ظهر أنه لو وزّعت طاعات العبد كلها على نعمة النفس لاستوعبتها دون استكمال واستيفاء لحقها. فهذا يبين إفلاس العبد من ثمن للجنة يُعاوض به ربه.

نعمة البصر تأخذ عبادة خمسمائة سنة.

نعمة البصر تأخذ عبادة خمسمائة سنة وفي صحيح الحاكم حديث صاحب الرمانة الذي عبد الله خمسمائة سنة يأكل كل يوم رمانة تخرج له من شجرة ثم يقوم إلى صلاته، فسأل ربه وقت الأجل أن يقبضه ساجداً وأن لا يجعل للأرض عليه سبيلاً حتى يُبْعَث وهو ساجد، فإذا كان يوم القيامة وُقِف بين يدي الرب فيقول تعالى: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول: رب بل بعملي، فيقول الرب جل جلاله، قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله فتؤخذ نعمة البصر بعبادة خمسمائة سنة، وبقيت نعمة الجسد فضلاً عليه، فيقول: أدخلوا عبدي النار، فيُجر إلى النار فينادي: رب برحمتك رب برحمتك أدخلني الجنة، فيقول: ردوه، فيوقف بين يديه، فيقول: يا عبدي من خلقك ولم تكن شيئاً؟ فيقول: أنت يا رب، فيقول: من قوّاك على عبادة خمسمائة سنة؟ فيقول: أنت يا رب، فيقول: من أنزلك في جبل وسط اللجة وأخرج لك الماء العذب من الماء المالح، وأخرج لك كل يوم رمانة

وإنما تخرج مرة في السنة، وسألتني أن أقبضك ساجداً ففعلت ذلك بك؟ فيقول: أنت يا رب، فيقول الله: فذلك برحمتي وبرحمتي أدخلك الجنة). قال ابن القيم رحمه الله: إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحيح ومعناه صحيح لا ريب فيه، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن ينجو أحد منكم بعمله) وفي لفظ: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل). إنتهى. بتأمل ما تقدم يتضح بزيادة الفرق بين أجر الخالق وأجر المخلوق، فالأول فضل سمّاه سبحانه ثواباً وأجراً، والثاني معاوضة على مصالح ومكاسب مشتركة بين المخلوقين. ومما يوضح ما تقدم ما قاله ابن القيم رحمه الله أن من تمكّن في قلبه شهود الأسماء والصفات وصفى له علمه وحاله: اندرج عمله جميعه وأضعافه وأضعاف أضعافه في حق ربه تعالى ورآه في جنب حقه أقلّ من خردلة بالنسبة إلى جبال الدنيا. فسقط من قلبه اقتضاء حظه من المجازاة عليه لاحتقاره له وقلّته عنده وصغره في عينه.

ثم ذكر الأثر الذي رواه الإمام أحمد (أن الله تعالى أوحى إلى داود: يا داود أنذر عبادي الصادقين فلا يعجبن بأنفسهم ولا يتكلنّ على أعمالهم فإنه ليس أحد من عبادي أنصبه للحساب وأقيم عليه عدلي إلا عذّبته من غير أن أظلمه، وبشر عبادي الخطائين أنه لا يتعاظمني ذنب أن أغفره وأتجاوز عنه). والأثر الآخر أيضاً أن رجلاً تعبّد سبعين سنة، وكان يقول في دعائه: رب اجزني بعملي، فمات فأُدخل الجنة فكان فيها سبعين عاماً فلما فرغ وقته قيل له: أخرج فقد استوفيت عملك. فقلّب أمره: أي شيء كان في الدنيا أوثق في نفسه؟ فلم يجد شيئاً أوثق في نفسه من دعاء الله والرغبة إليه، فأقبل يقول في دعائه: رب سمعتك وأنا في الدنيا وأنت تُقيل العشرات فأقل عثرتي فتُرك في الجنة. وروى الإمام أحمد أيضاً أن موسى عليه السلام قال: إلهي كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمتك لا يُجازيها عملي كله؟ فأوحى الله تعالى إليه الآن شكرتني. قال ابن القيم: لو فُرض أن العبد يأتي بمقدوره كله من الطاعة ظاهراً وباطناً فالذي ينبغي لربه فوق ذلك وأضعاف أضعافه، فإذا

عجز العبد عنه لم يستحق ما يترتب عليه من الجزاء، والذي أتى به لا يقابل أقل النعم. إنتهى. كيف إذا علم العبد يقيناً لا مرية فيه أن طاعته لربه أفضل وأجلّ نعمة أوتيها في الدنيا لا لما يترتّب على ذلك من ثواب الآخرة فقط وإنما لأن صلاحه ونعيمه وسرور قلبه في طاعة ربه في الدنيا، ولا تُدفع الهموم والغموم بغير ذلك.

الدواوين الثلاثة.

الدواوين الثلاثة ذكر ابن القيم أثر أنس بن مالك رضي الله عنه: (يُنشر للعبد يوم القيامة ثلاثة دواوين؛ ديوان فيه ذنوبه، وديوان فيه العمل الصالح، وديوان فيه النعم فيأمر الله تعالى أصغر نعمة من نعمه فتقوم فتسْتوعب عمله كله، ثم تقول: أي رب وعزتك وجلالك ما استوفيت ثمني، وقد بقيت الذنوب والنعم فإذا أراد الله بعبد خيراً قال: ابن آدم ضعّفت حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك ووهبت لك نعمي فيما بيني وبينك). انتهى. إن من يوفق لمعرفة ما تقدم لا يبقى له التفات إلى عمله ونفسه وإنما يجرّد تعلق رجائه برحمة ربه، وليس معنى هذا تقليل وتهوين شأن الأعمال الصالحة بل يجتهد فيها العبد باعتبار أنها سبب لا ثمن. كذلك فهي غذاء القلب وقوته في الدنيا وهو مأمور بذلك.

حق الله على عبده.

حق الله على عبده قال ابن القيم رحمه الله: فإن من حق الله على عبده أن يعبده لا يشرك به شيئاً وأن يذكره ولا ينساه وأن يشكره ولا يكفره، وأن يرضى به رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا. وليس الرضى بذلك مجرد إطلاق هذا اللفظ وحاله وإرادته تكذّبه وتخالفه. فكيف يرضى به رباً من يسخط ما يقضيه له إذا لم يكن موافقاً لإرادته وهواه، فيظل ساخطاً به متبرّماً، يرضى وربه غضبان ويغضب وربه راض، فهذا إنما رضي من ربه حظاً لم يرض بالله ربا. وكيف يدّعي الرضى بالإسلام ديناً من ينبذ أصوله خلف ظهره إذا خالفت بدعته وهواه، وفروعه وراءه إذا لم يوافق غرضه وشهوته. وكيف يصح الرضى بمحمد رسولاً لمن لم يُحكّمه على ظاهره وباطنه ويتلقّ أصول دينه وفروعه من مشكاته وحده، وكيف يرضى

به رسولاً من يترك ما جاء به لقول غيره ولا يترك قول غيره لقوله، ثم قال: والمقصود أن من حقه سبحانه على كل أحد من عبيده أن يكون حبه كله لله وبغضه في الله وقوله لله وتركه لله وأن يذكره ولا ينساه ويطيعه ولا يعصيه ويشكره ولا يكفره، وإذا قام بذلك كله كانت نعم الله عليه أكثر من عمله، بل ذلك نفسه من نعم الله عليه حيث وفقه له ويسّره، وأعانه عليه وجعله من أهله، واختصّه به على غيره، فهو يستدعي شكراً آخر عليه ولا سبيل له إلى القيام بما يجب لله من الشكر أبداً. فنعم الله تطالبه بالشكر وأعماله لا تقابلها، وذنوبه وغفلته وتقصيره قد تستنفد عمله. فديوان النعم وديوان الذنوب يستنفدان طاعاته كلها. إنتهى. تأمل قوله: (ولا سبيل له إلى القيام بما يجب لله من الشكر أبداً) وذلك لأن الثمن المزغوم من العبد هو أجلّ نعم الرب سبحانه عليه وهو الذي وفقه له وجعله من أهله، وهو طاعته.

أعمال العبد مستحقة عليه بموجب العبودية.

أعمال العبد مستحقة عليه بموجب العبودية قال ابن القيم رحمه الله: هذا وأعمال العبد مستحقة عليه بمقتضى كونه عبداً مملوكاً مستعملاً فيما يأمره به سيده. فنفسه مملوكة وأعماله مستحقة بموجب العبودية فليس له شيء من أعماله كما أنه ليس له ذرّة من نفسه، فلا هو مالك لنفسه ولا صفاته ولا أعماله ولا لما بيده من المال في الحقيقة بل كل ذلك مملوك عليه مستحق عليه لمالكه أعظم استحقاقاً من سيد اشترى عبداً بخالص ماله ثم قال: إعمل وأدّ إليّ، فليس لك في نفسك ولا في كسبك شيء، فلو عمل هذا العبد من الأعمال ما عمل فإن ذلك كله مستحق عليه لسيده وحق من حقوقه عليه. فكيف بالمنعم المالك على الحقيقة الذي لا تُعَدّ نعمه وحقوقه على عبده ولا يمكن أن تقابلها طاعاته بوجه فلو عذّبه سبحانه لعذبه وهو غير ظالم له وإذا رحمه فرحمته خير له من أعماله، ولا تكون أعماله ثمناً لرحمته ألبتّه. إنتهى.

أنظر قوله: (فنفسه مملوكه وأعماله مستحقه بموجب العبودية فليس له شيء من أعماله). فهذا يظهر به المراد جلياً وهو أنه كما أن نفس العبد مملوكه فكذلك أعماله مملوكه. وتأمل قوله في المثال السابق: (فلو عمل هذا العبد من الأعمال ما عمل فإن ذلك كله مستحق عليه لسيده وحق من حقوقه عليه فكيف بالمنعم المالك على الحقيقة). إن تأمل هذا وكونه يصير حالاً للعبد فيه من المنفعة وشفاء القلب من قواطعه عن ربه مالا يُقدّر؛ قال ابن القيم: فإذا أعطاه الثواب كان مجرّد صدقة منه وفضل تصدق به عليه لا ينالها عمله بل هي خير من عمله وأفضل وأكثر ليست معاوضة عليه والله أعلم.

النظر في حق الله على العبد.

النظر في حق الله على العبد قال ابن القيم رحمه الله: ومن فوائد محاسبة النفس أنه يعرف بذلك حق الله تعالى ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه، وهي قليلة المنفعة جداً. ثم ذكر الأثر الذي في مسند الإمام أحمد عن وهب قال: (بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع فقال: يا رب ارحمه فإني قد رحمته فأوحى الله تعالى إليه: لو دعاني حتى ينقطع فؤاده ما استجبت له حتى ينظر في حقي عليه). فمن أنفع ما للقلب النظر في حق الله على العبد فإن ذلك يورثه مقت نفسه والإزراء عليها ويخلّصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والإنكسار بين يدي ربه، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، ثم قال: فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عَلِم علم اليقين أنه غير مؤدّ له كما ينبغي وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة، وأنه إن أُحيل على عمله هلك.

ومن له بصيرة بنفسه وبصيرة بحقوق الله وهو صادق في طلبه لم يُبْقِ له نظره في سيئاته حسنة ألبته، فلا يلقى الله إلا بالإفلاس المحض والفقر الصِّرف لأنه إذا فتّش عن عيوب نفسه وعيوب عمله عَلِم أنها لا تصلح لله وأن تلك البضاعة لا تُشْترى بها النجاة من عذاب الله فضلاً عن الفوز بعظيم ثواب الله. فإن خلص له عمل وحال مع الله وصفى له معه وقت شاهد مِنَّة الله عليه به ومجرد فضله. وأنه ليس من نفسه ولا هي أهل لذاك، فهو دائماً مشاد لمِنّة الله عليه ولعيوب نفسه وعمله لأنه متى تطلّبها رآها. وهذا من أجلّ المعارف وأنفعها للعبد.

الفرق بين نظر أهل المعرفة ونظر الجهال.

الفرق بين نظر أهل المعرفة ونظر الجهال قال ابن القيم –رحمه الله-: فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذي أيْأسهم من أنفسهم وعلّق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته. وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله ولا ينظرون في حق الله عليهم، ومن ههنا انقطعوا عن الله، وحُجبت قلوبهم عن معرفته ومحبته والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه، فمحاسبة النفس هي نظر العبد في حق الله عليه أولاً ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانياً. وأفضل الفكر: الفكر في ذلك فإنه يُسَيِّر القلب إلى الله ويطرحه بين يديه ذليلاً خاضعاً منكسراً كَسْراً فيه جبره، ومفتقراً فقراً فيه غناه، وذليلاً ذلاً فيه عزه، ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل فإنه إذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى. انتهى.

تأمل قوله: (فإنه إذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى) مع أن هذا ليس بعمل جوارح وإنما هو فكر وعمل قلب. ومما تقدم يظهر معنى قول بعض السلف: قليل العمل مع المعرفة خير من كثير العمل بلا معرفة. ثم اعلم أن إحسان ظن الإنسان بنفسه جهالة وضلاله، ولقد ساءت ظنون سادات الأولياء بنفوسهم ومقتوها في ذات الإله ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا)، وما تمكن الشيطان من الإنسان إلا من غروره وإحسانه الظن بنفسه. قال ابن القيم: وأما سوء الظن بالنفس فإنما احتاج إليه لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش ويلبّس عليه فيرى المساوئ محاسن والعيوب كمالاً فإن المحب يرى مساوئ محبوبه وعيوبه كذلك. فعين الرضى عن كل عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها، ومن أحسن ظنه بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه.

وقال رحمه الله: رضاء العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه، وجهله بحقوق العبودية وعدم علمه بما يستحقه الرب جل جلالته ويليق أن يعامَل به. وحاصل ذلك أن جهله بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله، وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به يتولّد منهما رضاه بطاعته وإحسان ظنه بها ويتولّد من ذلك من العجب والكبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة من الزنا وشرب الخمر والفرار من الزحف ونحوها. فالرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها، وأرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفاراً عقيب الطاعات لشهودهم تقصيرهم فيها، وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه، وأنه لولا الأمر لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية، إنتهى. تأمل هذا فإنه نافع بإذن الله لمن فهمه وعمل بمقتضاه، وإذا كان هذا فعل أرباب العزائم والبصائر في الطاعات فكيف تكون حالنا إذاً؟ ثم ذكر رحمه الله قول بعض العارفين: متى رضيت نفسك وعملك لله فاعلم أنه غير راض به، ومن عرف أن نفسه مأوى كل عيب وشر، وعمله عرضة لكل آفة ونقص كيف يرضى لله بنفسه

وعمله؟، ولله در الشيخ أبي مدْين حيث يقول: من تحقق بالعبودية نظر أفعاله بعين الرياء، وأحواله بعين الدعوى، وأقواله بعين الإفتراء وكلما عظم المطلوب في قلبك صفرت نفسك عندك، وتضاءلت القيمة التي تبذلها في تحصيله. وكلما شهدت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية، وعرفت الله، وعرفت النفس تبين لك أن ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق،، ولو جئت بعمل الثقلين خشيت عاقبته، وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيبك عليه أيضاً بكرمه وجوده وتفضله. إنتهى. فالمؤمن جمع إحساناً في مخافة وسوء ظن بنفسه، والمغرور حسن الظن بنفسه مع إساءته. ثم ذكر رحمه الله بعد ذلك الأثر الذي في مسند الإمام أحمد أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: (إذا ذكرتني فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك، وكن عند ذكري خاشعاً مطمئناً، وإذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء قلبك، وإذا قمت بين يدي فقم مقام العبد الحقير الذليل، وذُمّ نفسك فهي أولى بالذم، وناجني حين تناجيني بقلب وَجِلٍ ولسان صادق).

من فوائد نظر العبد في حق الله عليه.

من فوائد نظر العبد في حق الله عليه وقال ابن القيم رحمه الله: ومن فوائد نظر العبد في حق الله عليه أن لا يتركه ذلك يُدلّ (¬1) بعمل أصلا كائناً ما كان. ومن أدلّ بعمله لم يصعد إلى الله تعالى، كما ذكر الإمام أحمد عن بعض أهل العلم بالله أنه قال له رجل: إني لأقوم في صلاتي فأبكي حتى يكاد ينبت البقل من دموعي. فقال له: إنك أن تضحك وأنت تعترف لله بخطيئتك خير من أن تبكي وأنت مُدِلّ بعملك فإن صلاة الدال لا تصعد فوقه. ثم ذكر رحمه الله الأثر الذي في مسند الإمام أحمد أن رجلاً من بني إسرائيل كانت له إلى الله عز وجل حاجة فتعبّد واجتهد ثم طلب إلى الله تعالى حاجته فلم ير نجاحاً، فبات ليلة مُزْرياً على نفسه، وقال: يا نفس مالك لا تقضى حاجتك؟ فبات محزوناً قد أزرى على نفسه وألزم الملامة نفسه فقال: أما والله ما مِن قِبَل ربي أُتيت ولكن من قِبَل نفسي أُتيت، وألزم نفسه الملامة فقضيت حاجته. ¬

_ (¬1) - يُدلّ: أي يُعجب بعمله ويستكثره ويمنّ به.

فوائد محاسبة النفس.

فوائد محاسبة النفس ذكر ابن القيم رحمه الله: أن صلاح القلب بمحاسبة النفس وفساده بإهمالها والإسترسال معها. ومن مصالح محاسبتها الإطلاع على عيوبها ومن لم يطالع عيب نفسه لم يمكنه إزالته. فإذا اطّلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى، وقد روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً). انتهى. تأمل فقه الصحابة رضي الله عنهم فإن مقت الناس في ذات الله هو من علامات صحة السلوك وليس من باب من يقول: هلك الناس وهو أهلكهم، لأن الفقيه ماقت لنفسه أعظم من مقته للناس، وذاك معجب بنفسه وبعمله، والإعجاب حجاب. قال بكر بن عبد الله المزني: (لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غُفِر لهم لولا أني كنت فيهم).

وقال أيوب السختياني: (إذا ذُكر الصالحون كنت عنهم بمعزل). ولما احتُضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب وحماد بن سلمة فقال له حماد: يا أبا عبد الله، أليس قد أمِنْتَ مما كنت تخافه؟ وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين فقال: يا أبا سلمة أتطمع لمثلي أن ينجو من النار؟ قال: إي والله إني لأرجو لك ذلك. وقال يونس بن عبيد: (إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي منها واحدة). قال أبو حفص [النيسابوري] (من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يُجْرها إلى مكروهها في سائر أوقاته كان مغروراً، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها). ثم قال ابن القيم: فالنفس داعية إلى المهالك، معينة للأعداء، طامحة إلى كل قبيح، متبعة لكل سوء، فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة.

فالنعمة التي لا خطر لها: الخروج منها والتخلص من رِقّها، فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله تعالى، وأعرف الناس بها أشدهم إزراء عليها ومقتاً لها. ثم ذكر دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اللهم اغفر لي ظلمي وكفري) فقال قائل: يا أمير المؤمنين، هذا الظلم فما بال الكفر؟ قال: (إن الإنسان لظلوم كفار). ثم قال رحمه الله: ومقت النفس في ذات الله من صفات الصّدّيقين، ويدنو العبد به من الله تعالى في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل، وترك المحاسبة والإسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها فإن هذا يؤول به إلى الهلاك. وهذه حال أهل الغرور، يغمض عينيه عن العواقب ويُمَشِّي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مُواقعة الذنوب وأنِسَ بها، وعسر عليه فطامها. ولو حضره رشده لعلم أن الحُمْية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد.

قال الحسن: (إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من هِمَّته). وقال ميمون بن مهران: (لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه). ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوّان إن لم تحاسبه ذهب بمالك. وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: (حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضى والغبطة، ومن ألْهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة). قال مالك بن دينار: (رحم الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم زمّها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائداً). ثم ذكر ابن القيم: أن الذي يُعين العبد على نفسه معرفته أن ربح هذه التجارة سُكْنى الفردوس والنظر إلى وجه الرب سبحانه، وخسارتها دخول النار والحجاب عن الرب تعالى، فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم، فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر

أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها. فكل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا خطر لها يمكن أن يشترى بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد، فإضاعة هذه الأنفاس أو اشتراء صاحبها بها ما يجلب هلاكه خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس، وأحمقهم وأقلّهم عقلاً. وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً). إنتهى. ذكر ابن القيم أن توبة بن الصّمّة كان محاسباً لنفيه، فحسب يوماً فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي إحدى وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم فصرخ وقال: يا ويلتي ألقى ربي بإحدى وعشرين ألف ذنب؟ كيف وفي كل يوم آلاف من الذنوب؟ ثم خرّ مغشياً عليه فإذا هو ميت، فسمعوا قائلاً يقول: (يا لك ركْضة إلى الفردوس الأعلى).

التوبة.

التوبة الحقيقة أن أحوالنا مزرية وقد لا تخطر هذه الأمور لنا على بال فضلاً أن تكون لنا حالاً كما كانت للسلف. والأسباب القاطعة المانعة كثيرة لكن أهمها عدم الصدق والإخلاص اللذان يقول عنهما الإمام أحمد: بهما ارتفع القوم. إن تحقيق التوبة النصوح والعبودية الحقة للإله الحق سبحانه أمر شاق وصعب إلا على من يسره الله عليه، وكثير من الناس يظن أن التوبة إنما هي من الفواحش ونحوها من كبائر الذنوب، والصحيح أنها مطلوبة من كل عبد كما قال تعالى: (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فالعباد إما تائب أو ظالم. ومن عرف ما تقدم تبين له أن التوبة حتى من الأعمال الصالحة من نقصها والغفلة فيها والتفريط وعدم صلاحيتها لرب العالمين. ومما يوضح أن التوبة غاية كل أحد ما قرّره ابن القيم رحمه الله بقوله:

وكثير من الناس ينظر إلى نفس ما يُتاب منه فيراه نقصاً ولا ينظر إلى كمال الغاية الحاصلة بالتوبة وأن العبد يعد التوبة النصوح خير منه قبل الذنب، ولا ينظر إلى كمال الربوبية وتفرد الرب بالكمال وحده وأن لوازم البشرية لا ينفك منها البشر. وأن التوبة غاية كل أحد من ولد آدم وكماله كما كانت هي غايته وكماله. فليس للعبد كمال بدون التوبة ألبتّة، كما أنه ليس له انفكاك عن سببها، فإنه سبحانه هو المتفرد المستأثر بالغنى والحمد من كل وجه وبكل اعتبار، فرحمته للعبد خير له من عمله فإن عمله لا يستقل بنجاته ولا سعادته، ولو وُكِلَ إلى عمله لم ينج به ألبتّة. انتهى. مِن عدم معرفة التوبة وشأنها يغتر كثير من الناس ممن نشأوا على الإسلام يصلون ويصومون ويحجون ويظنون أن التوبة لغيرهم من أهل الفواحش ونحوهم، ولم يعلم هؤلاء عِظَمَ ما فاتهم من معرفة حقيقة التوبة والسلوك عليها، فهم على دين العادة والمنشأ، ومما يُعلم به شأن التوبة ما ذكره أهل العلم من أن العبد يتوب من التوبة وهذا ظاهره خطأ فاحش لمن لم يعرف المراد، لأن التوبة أجل الأعمال فكيف يقال: التوبة من التوبة، وإنما مرادهم التوبة من رؤية

التوبة لأن العبد في البداية يشهد نفسه ورجوعه إلى ربه وتوبته إليه غائباً عن شهود من جعله كذلك ومنّ عليه به. وليس الكلام في هذا فهو طويل عريض والإحالة فيه على كتاب (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين) و (شفاء العليل) و (طريق الهجرتين) والكل لابن القيم. لكن هنا إشارة فقط وهو أن التائب لم يتب بحوله وقوته استقلالاً ولا أن الله جعل الهدى في قلبه ثم اهتدى هو استقلالاً أيضاً بل ما يزال ربه يجعله مهتدياً بتخليقه له في كل آناته وأوقاته، فإذا استشعر العبد هذا وعرفه معرفة قلب تاب من شهود نفسه مستقلاً بالتوبة والهدى فهنا يتوب من التوبة. وهذا إنما يظهر بمعرفة القدر والإيمان به، ويأتي الكلام عليه فيما بعد إن شاء الله. ولتعلم أن التوبة ليست لأحد دون أحد وأنها كما قال ابن القيم بداية العبد ونهايته. وحاجته إليها في النهاية ضرورية كما أن حاجته إليها في البداية كذلك وقد قال الله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وهذه الآية في سورة مدنية، خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم ثم علّق الفلاح بالتوبة تعليق المسبِّب بسببه. إنتهى. تأمل هذا تعرف جهل كثير من الناس بالتوبة حيث يظن أنها مقصورة على من ترك الواجبات وفعل المحرمات وهذا غلط فأمر التوبة أجلّ من هذا وهي أشمل وأعمّ من ذلك وقد أمر الله بها سادات الأولياء أهل الإيمان وخيار الخلق ويأتي إن شاء الله زيادة بيان لهذا بل هذا الكتاب كله في شأن التوبة وتصحيحها. ثم قال رحمه الله: قال تعالى: (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قسم العباد إلى تائب وظالم وما ثمّ قسم ثالث البتّه وأوقع اسم الظالم على من لم يتب، ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه وبعيب نفسه وآفات أعماله، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا أيها الناس توبوا إلى الله فو الله إني لأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة). ومن علامات التوبة انخلاع قلبه وتقطعه ندماً وخوفاً، وهذا على قدر عظم الجناية وصغرها وهذا تأويل ابن عيينة لقوله تعالى: (لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) قال: تقطّعها بالتوبة.

ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يوجب انصداع القلب وانخلاعه. وهذا هو تقطّعه، وهذا حقيقة التوبة لأنه يتقطع قلبه حسرة على ما فرط منه وخوفاً من سوء عاقبته، فمن لم ينقطع قلبه في الدنيا على ما فرّط حسرة وخوفاً تقطع في الآخرة إذا حقّت الحقائق وعاين ثواب المطيعين وعقاب العاصين، فلا بد من تقطع القلب إما في الدنيا وإما في الآخرة. ومن موجبات التوبة الصحيحة أيضاً: كَسْرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء، ولا تكون لغير المذنب، لا تحصل بجوع ولا رياضة ولا حب مجرّد وإنما هي أمر وراء هذا كله، تكسر القلب بين يدي الرب كسرة تامة، قد أحاطت به من جميع جهاته وألقته بين يدي ربه طريحاً ذليلاً خاشعاً كحال عبد جان آبق من سيده فأُخِذَ فأُحضر بين يديه ولم يجد من ينجيه من سطوته ولم يجد منه بُدّاً ولا عنه غناء ولا منه مهربا، وعَلِمَ أن حياته وسعادته وفلاحه ونجاحه في رضاه عنه، وقد عَلِم إحاطة سيده بتفاصيل جناياته، هذا مع حبه لسيده وشدة حاجته إليه وعلمه بضعفه وعجزه وقوة سيده وعز سيده.

فيجتمع من هذه الأحوال كسرة وذلة وخضوع ما أنفعها للعبد وما أجْدى عائدتها عليه وما أعظم جبْره بها وما أقربه بها من سيده فليس شيء أحب إلى سيده من هذه الكسرة والخضوع والتذلل والإخبات والإنطراح بين يديه والإستسلام له. فلله ما أحلى قوله في هذه الحال: أسألك بعزك وقوتك وغناك فأنا الذليل وأنا الضعيف وأنا الفقير هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته ورَغِم لك أنفه وفاضت لك عيناه وذلّ لك قلبه. يا من ألوذ به فيما أومّله ... ومن أعوذ به مما أحاذره ... لا يخبر الناس عظماً أنت كاسره ... ولا يهيضون عظماً أنت جابره فهذا وأمثاله من آثار التوبة المقبولة، فمن لم يجد ذلك في قلبه فليتّهم توبته وليرحع إلى تصحيحها، فما أصعب التوبة الصحيحة بالحقيقة وما أسهلها باللسان والدعوى، وما عالج الصادق بشيء أشقّ عليه من التوبة الخالصة الصادقة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وذكر رحمه الله مقاماً من مقامات التوبة قال: لا يعرفه إلا الخواص المحبون الذين يستقلون في حق محبوبهم جميع أعمالهم وأحوالهم وأقوالهم، فلا يرونها قط إلا بعين النقص والإزراء عليها، ويرون شأن محبوبهم أعظم وقدره أعلى من أن يرضوا نفوسهم وأعمالهم لهم، فهم أشد شيء احتقاراً لها وإزراء عليها. وإذا غفلوا من مراد محبوبهم منهم ولم يوفوه حقه تابوا إليه من ذلك توبة أرباب الكبائر منها فالتوبة لا تفارقهم أبداً. وتوبتهم لون وتوبة غيرهم لون (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) وكلما ازدادوا حباً له ازدادوا معرفة بحقه وشهوداً لتقصيرهم فعظمت لذلك توبتهم ولذلك كان خوفهم أشد وإزراؤهم على أنفسهم أعظم، وما يتوب منه هؤلاء قد يكون من كبار حسنات غيرهم. وبالجملة فتوبة المحبين الصادقين العارفين بربهم وبحقه هي التوبة، وسواهم محجوب عنها. وفوق هذه توبة أخرى الأَوْلى بنا الإضراب عنها صفحاً. إنتهى. ونحن متى نعرف ما ذكر كما ينبغي فضلاً عن أن يكون مقاماً لنا وحالاً؟!! فكيف بهذا الذي فوقه؟!! فإنا لله وإنا إليه راجعون، واللهم اجبر مصيبتنا بعفوك عنا.

وبما تقدم يُعلم أن التوبة غاية العارفين ونهاية أولياء الله المقربين، ومن عَلِم أن الذنوب على القلوب كالسموم في الأبدان عرف شأن التوبة وقَدْرها. قال شيخ الإسلام: ومن ظن أن الذنوب لا تضره لكون الله بحبه فهو كمن ظن أن السم لا يضره مع مداومته عليه لصحة مزاجه. ولو تدبّر الأحمق ما قصّه الله في كتابه من توبة الأنبياء وما جرى لهم من البلاء الذي فيه تطهير لهم لاستدل على ضرر الذنوب بأصحابها ولو كانوا أرفع الناس.

من أسرار التوبة.

من أسرار التوبة قد ظهر مما تقدم أنه لا وصول إلى الله إلا بالتوبة وأنها لا تخص أحداً دون أحد بل هي طريق الأنبياء وأتباعهم على الحقيقة لعظم حق الرب على عبده واستحالة وفاء العبد به، وهنا يحسن ذكر بعض أسرارها ليزداد الأمر وضوحاً وجلاء. فقد ذكر ابن القيم منها: أن يُكَمِّل لعبده مراتب الذل والخضوع والإنكسار بين يديه والإفتقار إليه، فإن النفس فيها مضاهاة للربوبية، ولو قَدِرَتْ لقالت كقول فرعون، ولكنه قدر فأظهر، وغيره عَجِز فأضْمر (¬1). ¬

_ (¬1) - وهنا أريد الإشارة إلى عدم استعظام كلام ابن القيم هذا وهو أن النفس فيها مضاهاة للربوبية ولو قَدِرت لقالت كقول فرعون، ولا يستعظم هذا إلا من لا يعرف حقيقة نفسه المعرفة التامة ولا يعرف حقيقة أنفس أكثر الخلق وما تنطوي عليه من الطغيان والكبر، ويكفي لمعرفة صدق كلامه رحمه الله قوله عز وجل عن الإنسان: (إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) وهذا لا يخرج منه أحد من بني آدم حيث أن الله عز وجل أوجدهم من العدم، والعدم ليس بشيء أصلاً، فما هو إلا فضل الإله ومنته أن يُخرج العبد من ظلمه إلى العدل، وأعدل العدل التوحيد ويعم الدين كله، وأظلم الظلم الشرك، ثم المعاصي كلها ظلم دون الشرك، ويخرجه من جهله بربه وبنفسه وبدينه، والمراد هنا أن الظلم والجهل الذي هو وصف ثابت لأنفسنا لا يصدر منه خير قط كما أنه لا حدّ لشرّه وما قال فرعون مقالته إلا لظلمه العظيم وجهله الفاضح، وإنما كان سلطانه بالقوة لا بالعلم والعدل، ولقد استخف قومه فأطاعوه لاشتراكهم معه في الجهل والظلم والله المستعان.

وإنما يُخلّصها من هذه المضاهاة (ذل العبودية) وهو أربع مراتب [ومنها تظهر بعض أسرار التوبة]: المرتبة الأولى: مشتركة بين الخلق وهي ذل الحاجة والفقر إلى الله، فأهل السموات والأرض جميعاً محتاجون إليه، فقراء إليه وهو وحده الغني عنهم، وكل أهل السموات والأرض يسألونه وهو لا يسأل أحداً. المرتبة الثانية: ذل الطاعة والعبودية، وهو ذل الإختيار، وهو خاص بأهل طاعته، وهو سِر العبودية. المرتبة الثالثة: ذل المحبة، فإن المحب ذليل بالذات، وعلى قدر محبته يكون ذلّه، فالمحبة أُسِّسَت على الذلة للمحبوب كما قيل: إخضع وذلَّ لمن تحب فليس في ... حكم الهوى أنف يُشال ويُعقدُ وقال آخر: مساكين أهل الحب حتى قبورهم ... عليها تراب الذلّ بين المقابر المرتبة الرابعة: ذل المعصية والجناية، فإذا اجتمعت هذه المراتب الأربع، كان الذل لله والخضوع أكمل وأتم، إذ يذلّ له خوفً وخشية ومحبة وإنابة وطاعة وفقراً وفاقة.

وحقيقة ذلك: هو الفقر الذي يشير إليه القوم، وهذا المعنى أجلّ من أن يسمى بالفقر، بل هو لبّ العبودية وسرّها، وحصوله أنفع شيء للعبد وأحب شيء إلى الله، فلا بد من تقدير لوازمه من أسباب الضعف والحاجة وأسباب العبودية والطاعة وأسباب المحبة والإنابة وأسباب المعصية والمخالفة. ومنها السر الأعظم الذي لا تقتحمه العبارة ولا تجسر عليه الإشارة، ولا ينادي عليه منادي الإيمان على رؤوس الأشهاد، بل شهدته قلوب خوّاص العباد، فازدادت به معرفة لربها ومحبة له وطمأنينة به وشوقاً إليه ولهجاً بذكره وشهوداً لبرِّه ولطفه وكرمه وإحسانه، ومطالعة لسر العبودية، وإشرافاً على على حقيقة الإلهية، وهو ما ثبت في الصحيحن من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلة بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيِسَ منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيِسَ من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) هذا لفظ مسلم.

والقصد أن هذا الفرح له شأن لا ينبغي للعبد إهماله والإعراض عنه، ولا يطلع عليه إلا من له معرفة خاصة بالله وأسمائه وصفاته وما يليق بعز جلاله. ثم قال رحمه الله: وقد كان الأولى بنا طيُّ الكلام فيه إلا ما هو اللائق بأفهام بني الزمان وعلومهم ونهاية أقدامهم من المعرفة وضعف عقولهم عن احتماله، غير أنا نعلم أن الله عز وجل سيسوق هذه البضاعة إلى تجارها، ومن هو عارف بقدرها. وإن وقعت في الطريق بيد من ليس عارفاً بها فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورُب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. فاعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرّمه وفضّله وشرّفه، وخلقه لنفسه، وخلق كل شيء له، وخصّه من معرفته ومحبته وقربه وإكرامه بما لم يعطه غيره، وسخر له ما في سماواته وأرضه وما بينهما، حتى ملائكته الذين هم أهل قربه استخدمهم له، وجعلهم حفظة له في منامه ويقظته وظعنه وإقامته وأنزل إليه وعليه كتبه، وأرسله وأرسل إليه، وخاطبه وكلّمه منه إليه واتخذ منهم الخليل والكليم، والأولياء والخواص والأحبار، وجعلهم

معدن أسراره، ومحل حكمته، وموضع حبه، وخلق لهم الجنة والنار. فالخلق والأمر والثواب والعقاب مداره على النوع الإنساني، فإنه خلاصة الخلق، وهو المقصود بالأمر والنهي، وعليه الثواب والعقاب. فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات، وقد خلق أباه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأظهر فضله على الملائكة فمَنْ دونهم من جميع المخلوقات، وطرد إبليس عن قربه، وأبعده عن بابه إذ لم يسجد له مع الساجدين واتخذه عدواً له. فالمؤمن من نوع الإنسان خير البرية على الإطلاق، وخيرة الله من العالمين فإنه خلقه ليتم نعمته عليه، وليتواتر إحسانه إليه، وليخصه من كرامته وفضله بما لم تنلْه أمنيته، ولم يخطر على باله ولم يشعر به، ليسأله من المواهب والعطايا الباطنة والظاهرة، العاجلة والآجلة التي لا تُنال إلا بمحبته، ولا تنال محبته إلا بطاعته وإيثاره على ما سواه، فاتخذه محبوباً له وأعدّ له أفضل ما يُعده محب غني قادر جواد لمحبوبه إذا قَدِم عليه.

وعهد إليه عهداً تقدم إليه فيه بأوامره ونواهيه، وأعلمه في عهده ما يقربه إليه، ويزيده محبة له وكرامة عليه، وما يُبعده منه ويُسخطه عليه ويُسقطه من عينه، وللمحبوب عدو هو أبغض خلقه إليه، قد جاهره بالعداوة، وأمر عباده أن يكون دينهم وطاعتهم وعبادتهم له دون وليهم ومعبودهم الحق، واستقطع عباده، واتخذ منه حزباً ظاهروه ووالوْه على ربه، وكانوا أعداء له مع هذا العدو، يدعون إلى سخطه، ويطعنون في ربوبيته وإلهيته ووحدانيته ويسبونه ويكذبونه، ويفتنون أولياءه ويؤذونهم بأنواع الأذى، فعرّفه بهذا العدو وطرائقهم وأعمالهم وحذّره موالاتهم والدخول في زمرتهم. وأخبره في عهده أنه أجود الأجودين وأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وأنه سبقت رحمته غضبه وحلمه عقوبته وعفوه مؤاخذته وأنه قد أفاض على خلقه النعمة وكتب على نفسه الرحمة. فإذا تعرّض عبده ومحبوبه الذي خلقه لنفسه وأعدّ له أنواع كرامته وفضّله على غيره لغضبه وارتكب مساخطه وأبَق منه ووالى عدوه وظاهره عليه فقد استدعى من الجواد الكريم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر وتعرّض لإغضابه، فبينما هو حبيبه المقرب المخصص بالكرامة إذ انقلب آبقاً شارداً راداً لكرامته

مائلاً عنه إلى عدوه مع شدة حاجته إليه وعدم استغنائه عنه طرفة عين. فبينما ذلك الحبيب مع العدو في طاعته وخدمته ناسياً لسيده إذ عرضت له فكرة فتذكر برّ سيده وعطفه وجوده وكرمه وعَلِم أنه لا بد له منه وأن مصيره إليه وعرضه عليه وأنه إن لم يَقْدم عليه بنفسه قُدِمَ به عليه على أسوأ الأحوال، ففرّ إلى سيده من بلد عدوه وجدّ في الهرب إليه حتى وصل إلى بابه، فوضع خده على عتبة بابه وتوسد ثرى أعتابه متذللاً متضرعاً خاشعاً باكياً آسفاً يتملق سيده ويسترحمه ويستعطفه ويعتذر إليه، قد ألقى بيده إليه واستسلم له وأعطاه قِياده وألقى إليه زمامه فعلم سيده ما في قلبه فعاد مكان الغضب عليه رضاً عنه ومكان الشدة عليه رحمة به، وأبدله بالعقوبة عفواً وبالمنع عطاء وبالمؤاخذة حلماً، فاستدعى بالتوبة والرجوع من سيده ما هو أهله وما هو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العليا فكيف يكون فرح سيده به؟ وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعاً واختياراً وراجع ما يحبه سيده منه برضاه، وفتح طريق البر والإحسان والجود التي هي أحب إلى سيده من طريق الغضب والإنتقام والعقوبة.

وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين أنه حصل له شرود وإباق من سيده، فرأى في بعض السكك باباً قد فُتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير يعيد ثم وقف مفكراً فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أُخرج منه ولا من يؤيه غير والدته فرجع مكسور القلب حزيناً فوجد الباب مُرْتجاً فتوسّده ووضع خده على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبّله وتبكي وتقول: يا ولدي أين تذهب عني، ومن يؤيك سواي؟ ألم أقل لك: لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبِلْتُ عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادتي الخير لك؟ ثم أخَذَتْه ودخلت. فتأمل قول الأم: (لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة والشفقة) وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: (لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها) وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء.

فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرف تلك الرحمة عنه فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به. فهذه نبذة يسيرة تطلعك على سِرّ فرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح هذا الواجد لراحلته في الأرض المهلكة بعد اليأس منها، ووراء هذا ما تجفوا عنه العبارة وتدقّ عن إدراكه الأذهان. انتهى.

فقر العبد إلى ربه.

فقر العبد إلى ربه ليس المراد بهذا الفقر الذي نعرفه من حاجة العبد إلى ربه في أمور دنياه، وإنما المراد به شيء آخر وأعظم من هذا، وسيتبين فيما بعد إن شاء الله، وهذا كالتقديم له. قال ابن القيم رحمه الله: وحقيقة الأمر أن العبد فقير إلى الله من كل وجه وبكل اعتبار، فهو فقير إليه من جهة ربوبيته له وإحسانه إليه وقيامه بمصالحه وتدبيره له. إنتهى. هذا الفقر قد لا يجهله أحد وليس هو المراد هنا، وإنما المراد النوع الثاني من الفقر الذي مَنْ أحكم معرفته عرف سرّ عبوديته لربه وأنه بدون حصولها مُعذب القلب والروح في معاشه قبل معاده. قال رحمه الله: وفقير إليه من جهة إلهيته وكونه معبوده وإلهه ومحبوبه الأعظم الذي لا صلاح له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا بأن يكون أحب شيء إليه. فيكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله ووالده وولده ومن الخلق كلهم.

وقال: (واجعل حبه ومرضاته هو كعبة قلبك التي لا تزال طائفاً بها مستلماً لأركانها واقفاً بملتزمها، فيا فَوْزك ويا سعادتك إن اطلع سبحانه على ذلك من قلبك ماذا يفيض عليك من ملابس نعمه وخُلَع إفضاله). والفقر الذي يتكلمون به ويمدحونه ليس هو الفقر الذي يقابله الغنى بالمال وإنما هو فقر كما قال ابن القيم نتيجة علمين شريفين أحدهما: معرفة العبد بربه والثاني: معرفته بنفسه، فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجتا فقراً هو عين غناه وعنوان فلاحه وسعادته. قال: وهذا هو الفقر النافع والذي يشير إليه القوم ويتكلمون عليه ويشيرون إليه. ثم ذكر قول الأنصاري: الفقر إسم للبراءة من رؤية المِلكَة يعني أن الفقير هو الذي يجرّد رؤية الملْك لمالكه الحق فيرى نفسه مملوكة لله لا يرى نفسه مالكاً بوجه من الوجوه ويرى أعماله مستحقّة عليه بمقتضى كونه مملوكاً عبداً مستعملاً فيما أمره به سيده. فنفسه مملوكه وأعماله مستحقة بموجب العبودية، فليس مالكاً لنفسه ولا لشيء من ذرّاته ولا لشيء من أعماله.

ثم قال: ولو عرف نفسه حق لمعرفة لعلم أنما هو مملوك ممتحن في صورة مَلِك متصرّف. ثم ذكر من لم تؤثّر فيهم ملكية المال لشهودهم لفقرهم وشهودهم ملكية الرب لهم ولأموالهم وأعمالهم وهم الأنبياء. ثم ذكر أن من لم يُعافَ من رؤية المِلْكَة ادّعت نفسه ذلك وتعلقت به النفس تعلقها بالشيء المحبوب المعشوق فهو أكبر همه ومبلغ علمه، إن أُعطي رضي وإن مُنع سخط فهو عبد الدينار والدرهم. يصبح مهموماً ويمسي كذلك، يبيت مضاجعاً له تفرح نفسه إذا ازداد وتحزن وتأسف إذا فات منه شيء، بل يكاد يتلف إذا توهّمت نفسه الفقر، وقد يُؤثر الموت على الفقر. والأول مستغن بمولاه المالك الحق الذي بيده خزائن السموات والأرض، وإذا أصاب المال الذي في يده نائبة رأى أن المالك الحق هو الذي أصاب مال نفسه فما للعبد وما لِلْجزع والهلع وإنما تصرف مالك المال في مُلْكه الذي هو وديعة في يد مملوكه فله الحكم في ماله إن شاء أبقاه وإن شاء ذهب به وأفناه.

فلا يتّهم مولاه في تصرفه في ملْكه، ويرى تدبيره هو موجب الحكمة فليس لقلبه بالمال تعلّق ولا له به اكتراث لصعوده عنه وارتفاع همته إلى المالك الحق فهو غني به وبحبه ومعرفته وقربه منه عن كل ما سواه. قد تبين بعض معاني الفقر فيما سبق وهنا زيادة بيان له لعظم أهميته وأنه كما قال ابن القيم: أشرف منازل القوم وأعلاها وأرفعها وأنه روح كل منزلة [من منازل إياك نعبد وإياك نستعين] وسرّها ولبّها وغايتها، وأنه تحقيق العبودية والإفتقار إلى الله تعالى في كل حالة. وأنه عزل النفس عن مزاحمة الربوبية. إنتهى. قد يسْتعظم الإنسان هذا الكلام ويقول: ومن يزاحم الربوبية؟ ولو فهم المراد حقيقة لعلم أننا نزاحم الربوبية وقد لا نشعر بذلك. إن دعوانا ملكيتنا لنفوسنا وذواتنا ولو لم نتكلم بذلك هو مزاحمة الربوبية لأن التحقق بالفقر يُخرج العبد من كل دعوى، والمراد هنا معرفة القلب وحال القلب، وأما أن نقول: نحن مماليك لله بأحوال مخالفة فهذا لا يكلّفنا عناء.

ولعل تأمُّل بعض ما ورد بهذا المعنى يبين المراد فتحصل لنا يقظة نعلم منها ما نحن فيه قبلها. قال بعضهم وقد سُئل: متى يستحق الفقير اسم الفقر؟ فقال: إذا لم يبق عليه بقية منه، فقيل له: وكيف ذاك؟ فقال: إذا كان له فليس له، وإذا لم يكن له فهو له. قال ابن القيم: وهذه من أحسن العبارات عن معنى الفقر الذي يشير إليه القوم، وهو أن يصير كله لله عز وجل لا يبقى عليه بقية من نفسه وحظه وهواه، فمتى بقي عليه شيء من أحكام نفسه ففقره مدخول. ثم فسّر ذلك بقوله: (إذا كان له فليس له) أي إذا كان لنفسه فليس لله وإذا لم يكن لنفسه فهو لله. فحقيقة الفقر أن لا تكون لنفسك ولا يكون لها منك شيء، بحيث تكون كلك لله، وإذا كنت لنفسك فثمّ مِلْك، واستغناء مناف للفقر. انتهى. قد ننظر في هذا الكلام فنرى أنه تحصيل حاصل فمَنْ منا لا يرى أنه كله لله؟ والواقع غير هذا، فاللسان يقول ولكن حال القلب

شيئ آخر، إننا نتصرف بأنفسنا كمُلاك لها ولذلك إن تفكرنا بالعبودية فعلى سبيل المعاوضة والإستحقاق، وقد تقدم بيان ذلك. قال ابن القيم: وهذا الفقر الذي يشيرون إليه لا تُنافيه الجِدّة ولا الأملاك، فقد كان رسل الله وأنبياؤه في ذروته مع جدتهم وملكهم فكانوا أغنياء في فقرهم فقراء في غناهم. إنتهى. تأمل كونهم فقراء في غناهم وذلك لتمام شهودهم ملكية الرب سبحانه لهم ولما في أيديهم. قال ابن القيم: فالفقر ذاتي للعبد، وإنما يتجدد له شهوده ووجوده حالاً وإلا فهو حقيقة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه: والفقر لي وصف ذات لازم أبداً ... كما الغنى أبداً وصف له ذاتي واتفقت كلمة القوم على أن دوام الإفتقار إلى الله مع التخليط خير من دوام الصفاء مع رؤية النفس والعجب مع أنه لا صفاء معهما. وإذا عرفت معنى الفقر علمت أنه عين الغنى بالله، وقالوا عن الفقر أنه: البراءة من المِلكة بحيث لا ينازع مالكه الحق.

ولما كانت نفس الإنسان ليست له وإنما هي ملك لله فما لم يخرج عنها ويسلمها لمالكها الحق لم يثبت له في الفقر قدم، فالوصول إلى الله من طريق الفقر ولا دخول عليه إلا من بابه. ومما يحقق شهود العبد لفقره التفاته إلى ما سبقت به السابقة من الله بمطالعة فضله وجوده ومنّته وأن العبد وكل ما فيه من خير فهو محض جود الله وإحسانه، وليس للعبد من ذاته سوى العُدْم، وذاته وصفاته وإيمانه وأعماله كلها من فضل الله عليه. فإذا شَهِد هذا وأحضره قلبه وتحقق به خلّصه من رؤية أعماله فإنه لا يراها إلا من الله وبالله وليست منه هو ولا به. ورؤية الأعمال حجاب بين العبد وبين الله ويخلصه منها شهود السبق ومطالعة الفضل. لأنه إذا طالع سبق فضل الله علم أن كل ما حصل له من حال أو غيره فهو محض جوده، فلا يشهد له حالاً مع الله ولا مقاماً كما لم يشهد له عملاً. فقد جعل عُدَّته للقاء ربه فقره من أعماله وأحواله فهو لا يَقْدم عليه إلا بالفقر المحض.

فالفقر خير العلاقة التي بينه وبين ربه، والنسبة التي ينتسب بها إليه والباب الذي يدخل منه عليه. ويُحكى عن بعض العارفين أنه قال: دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام فلم أتمكّن من الدخول حتى جئت من باب الذل والإفتقار فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه ولا مزاحم فيه ولا مُعوّق. فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه يقول: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية. وقال بعض العارفين: لا طريق أقرب إلى الله من العبودية ولا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا ينفع مع الإعجاب والكبر عمل واجتهاد. لزوم عتبة العبودية إنما يتخقق بالإفتقار، فالفقر إلى الله على ما تقدم بيانه هو العبودية قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ). وقال: فهنا وقفت شهادة العبد مع فضل خالقه ومنته، فلا يرى لغيره شيئاً إلا به وبحوله وقوته، وغاب بفضل مولاه الحق عن جميع

ما منه هو مما كان يستند إليه أو يتحلى به أو يتخذه عقدة أو يراه ليوم فاقته أو يعتمد عليه في مهم من مهماته، فكل ذلك من قصور نظره وانعكاسه عن الحقائق والأصول إلى الأسباب والفروع كما هو شأن الطبيعة والهوى وموجب الظلم والجهل. والإنسان ظلوم جهول، فمن جَلى الله سبحانه صدأ بصيرته وكمّل فطرته ووقْفه على مبادئ الأمور وغاياتها ومناطها ومصادرها ومواردها أصبح كالمفلس حقاً من علومه وأعماله وأحواله وأذواقه يقول: أستغفر الله من علمي ومن عملي، أي من انتسابي إليهما وغيْبتي بهما عن فضل من ذكرني بهما وابتدأني بإعطائهما من غير تقدم سبب مني يوجب ذلك. فهو لا يشهد غير فضل مولاه وسبْق منته ودوامه. إنتهى.

الغنى السافل.

الغنى السافل تقدم ذكر فقر العبد إلى ربه وهنا يأتي ذكر الغنى وأنه قسمان: عال وسافل. قال ابن القيم رحمه الله: فالغنى السافل الغني بالعواري المستردة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث. وهذا أضعف الغنى فإنه غِنى بظل زائل وعارية ترجع عن قريب إلى أربابها فإذا الفقر بأجمعه بعد ذهابها وكأن الغنى بها كان حلماً فانقضى. إنتهى. وصف الغنى السافل بالعواري المستردة من أبلغ الوصف فالمعنى مطابق غاية المطابقة. فالإنسان إذا تفكر في نفسه وغيره حين وُلد وليس معه شيء فكبر فأتاه ما أتاه من هذه الأعراض الدنيوية وتصرّف بها ثم جاءه الموت فخرج من الدنيا كما جاء.

فالذي يغتر بهذه العواري ويربط أسباب سعادته بها وأن غناه بها هو الغنى هو الهارب حقيقة من الغنى إلى الفقر لأنها أولاً: عارية بيده وليست مُلْكاً له بل هو وإياها مملوكين لمن له ملك السموات والأرض وما فيهن، وهو الوارث سبحانه الذي يرث الأرض ومن عليها. وثانياً: لأن فقره الحقيقي الملازم لذاته لا تَسُدّه وتغنيه هذه العواري بل هو فقير مع وجودها وتوفرها. ثالثاً: هذا خلاف الفطرة لأن الذي في الفطرة إرادة الله وحده لا لإحسانه إليه فقط من إعداده وإمداده وإنما إرادة ذات الإله سبحانه محبة وشوقاً وطلباً وإرادة لا ينفك عنها العبد لا في الدنيا ولا في الآخرة، لكن في الآخرة تحصل الغاية من ذلك بالزلفى للمؤمن والرؤية، إذا تبين هذا ظهر اختلال الموازين عند أكثر الخلق والجهل بالفقر والغنى وأن هذا لا يعرفه من جعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، قال تعالى: (ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ) وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو لا يخصّه بل للأمة كلها: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) بعد أن أمره أن يصبر نفسه مع الذين

يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، فتأمل تعلق إرادتهم بماذا؟. وبعد أن نهاه أن يَعْدُ عيناه عنهم ملتفتاً إلى زينة الحياة الدنيا، وأخبر سبحانه أن من تلك حاله فقد انفرط عليه أمره فهو يسير خلاف فطرته وخلاف ما خُلق له. والمؤمن الصادق يضع الدنيا موضعها الذي وضعها الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم. فهي في اعتقاده وعمله وسيلة لا غاية ومركب يوصله إلى ربه ليس أن تركبه هي كما تفعل بمن تعبّدها قلبه فصار عبداً للدينار والدرهم. وهي لما صارت كذلك طُلبت من أي وجه. وحيث أنه قد تبين شأن الغنى السافل والذي عليه يتنافس المتنافسون فقد ذكر ابن القيم أنه لا هِمة أضعف من همّة من رضي بهذا الغنى الذي هو ظل زائل، وهذا غِنى أرباب الدنيا الذي فيه يتنافسون، وإياه يطلبون، وحوله يحومون. ولا أحب إلى الشيطان وأبعد من الرحمن من قلب ملآن بحب هذا الغنى والخوف من فقده.

قال بعض السلف: إذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أشياء: مؤمن قتل مؤمناً، ورجل يموت على الكفر وقلب فيه خوف الفقر. وهذا الغنى محفوف بفقرين: فقر قبله وفقر بعده وهو كالغفوة بينهما. فحقيق لمن تصح نفسه أن لا يغترّ به ولا يجعله نهاية مطلبه، بل إذا حصل له جعله سبباً لغناه سبباً لغناه الأكبر ووسيلة إليه، ويجعله خادماً من خدمة لا مخدوماً له وتكون نفسه أعزّ عليه أن يُعبِّدها لغير مولاه الحق أو يجعلها خادمة لغيره. إنتهى. إعلم أن قوله: (بل إذا حصل له جعله سبباً لغناه الأكبر ووسيلة إليه) ليس المراد هنا بالغنى الأكبر إلا الغنى بالله عز وجل بمحبته والشوق إليه والعمل بطاعته، وإنما ذكرت هذا التنبيه لئلا يصرف الفهم إلى أن الغنى الأكبر أن يعطي الله العبد في الآخرة ما يعطيه فقط لأن هذا وإن كان يحصل للمؤمن في الآخرة وهو يريده أيضاً وإنما المقصود التنبيه هنا لما يَسُدُّ فاقة القلب ويغني فقره وأنه الإله الحق سبحانه، فالغنى به بذاته ولو قُدّر أنه لم يخلق الجنة، وهذا معنى الإله، وهو مألوه القلب ليس معناه فقط الخالق بل المألوه بغاية المحبة

والإجلال والتعظيم والخوف والرجاء. ومما يقرب هذا للفهم حال الملائكة عليهم السلام حيث أنهم في نعيم لا يبلغه الوصف ليس لأجل الجنة المخلوقة فهي لم تخلق لهم وليسوا كبني آدم يأكلون ويشربون ويتلذذون بالنكاح ونحو ذلك وإنما نعيمهم بتحقيق عبوديتهم لإلههم الحق سبحانه ومحبتهم له وقربهم منه. وحالهم هذه تشبهها فطرتنا التي فطرنا عليها وإنما انصراف قلوبنا وأرواحنا عن هذا النعيم طارئ دخيل ليس هو في أصل الفطرة. إن الشيطان لا يحتاج معنا إلى جهد وعناء فلكثافة جهلنا بما أتى به نبينا صلى الله عليه وسلم –وأعني الفقه فيه ليس مجرد قراءته-، وكذلك لإيثارنا العاجل أصبحنا بهذا وذاك صيداً هيّناً سهلاً بخلاف ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم والسلف من عدم تمكّنه منهم، فاللهم أعِذْنا من الشيطان الرجيم.

الغني العالي.

الغنى العالي والآن يحسن ذكر الغنى العالي الذي سمَت إليه همم أولياء الله. قال ابن القيم رحمه الله: فالغني إنما يصير غنياً بحصول ما يسدّ فاقته ويدفع حاجته. وفي القلب فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة لا يسدّها إلا فوْزه بحصول الغني الحميد الذي إن حصل للعبد حصل له كل شيء، وإن فاته فاته كل شيء. إنتهى. أنظر قوله: (لا يسدّها –يعني فاقته- وضرورته وحاجته إلا فوزه بحصول الغني الحميد) ولأن أفكارنا وهممنا لا تزال هنا فنظن أن فوزنا بالغني الحميد ليعطينا ويغنينا بالأعراض المخلوقة في الدنيا وفي الآخرة، وهذا يريده المؤمن ويطلبه من ربه لئلا نشطح لكن القوم في كلامهم عن الفقر والغِنَى في واد غير وادينا فتعلقهم بذات الإله سبحانه. ثم قال رحمه الله: فكما أنه سبحانه الغني على الحقيقة ولا غني سواه، فالغنى به هو الغنى في الحقيقة ولا غنى بغيره البته، فمن لم

يستغن به عما سواه تقطعت نفسه على السّوي حسرات، ومن استغنى به زالت عنه كل حسرة وحضَره كل سرور وفرح. وحقيقة غنى القلب تعلقه بالله وحده، وحقيقة فقره المذوم تعلقه بغيره. إنتهى. وكمال المخلوق إنما هو بتحقيقه لهذه المقامات السامية العليّة إذ كماله في تحقيقه عبوديته لله تعالى، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعَلَتْ درجته.

معرفة المعبود الحق بلا جنة ولا نار.

معرفة المعبود الحق بلا جنة ولا نار قال ابن القيم رحمه الله: وما يستحقه الرب تعالى لذاته وأنه أهل أن يُعبد أعظم مما يستحقه لإحسانه. فهو المستحق لنهاية العبادة والخضوع والذل لذاته ولإحسانه وإنعامه. وفي بعض الآثار: لو لم أخلق جنة ولا ناراً لكنت أهلاً أن أُعْبَد ولهذا يقول أعبد خلقه له يوم القيامة وهم الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، فمِن كرمه وجوده ورحمته أن رضي من عباده بدون اليسير مما ينبغي أن يُعبد به ويستحقه لذاته وإحسانه، فلا نسبه للواقع منهم إلى ما يستحقه بوجه من الوجوه، فلا يسعهم إلا عفوه وتجاوزه. إنتهى. إن كون الرب معبوداً لذاته ولو لم يخلق جنة ولا ناراً لاتّصافه بصفات الجلال والكمال والجمال بما لم تُحِطْ به عقول خلقه؛ ومن هنا يظهر جلياً سِرُّ عبادته سبحانه وأنه لا يكون إلا معبوداً لذاته.

ولذلك فلو تجلى الله عز وجل لخلقه في الدنيا لَذَهِلوا عن كل شيء سواه لما يجدونه في رؤيته سبحانه من لذة يستحيل أن يجدوا مثلها أو ما يقاربها في شيء آخر مهما يكون، ولذلك صارت رؤيته وسماع كلامه في الجنة أعلى نعيمهم وأعظم ما يلتذون به. غير أن رؤيته في الدنيا مستحيلة لضعف البشر، ولأنها ليست دار جزاء بل امتحان وابتلاء وإيمان بغيب. ولذلك فإن أصل العبادة المحبة وهي تابعة للشعور بالمحبوب فلما كان الشعور بالمحبوب في الجنة معاينة وسماعاً على الكمال كَمُلَت اللذة، وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (واسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك).

أقسام القلوب.

أقسام القلوب ذكر ابن القيم قول المسيح عليه السلام للحواريين: إنكم لن تلحوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين. وذكر أن أرواح المؤمنين وقلوبهم وُلِدَت بالنبي صلى الله عليه وسلم ولادة أخرى غير ولادة الأمهات. فإنه أخرج أرواجهم وقلوبهم من ظلمات الجهل والضلال والغي إلى نور العلم والإيمان وقضاء المعرفة والتوحيد فشاهدت حقائق أُخر وأموراً لم يكن لها بها شعور قبله قال تعالى: (الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ). ثم قال: والمقصود أن القلوب في هذه الولادة ثلاثة: قلب لا يولد ولم يأنِ له بل هو جنين في بطن الشهوات والغي والجهل والضلال. وقلب قد وُلِد وخرج إلى قضاء التوحيد والمعرفة وتخلص من مشيمة الطباع وظلمات النفس والهوى فقرتْ عينه بالله وقرّت عيون به وقلوب، وأنِسَت بقربه الأرواح، وذكّرَتْ رؤيته بالله فاطمأن

بالله وسكن إليه وعكف بهمته عليه، وسافرت هممه وعزائمه إلى الرفيق الأعلى لا يقرّ بشيء غير الله ولا يسكن إلى شيء سواه، ولا يطمئن بغيره. يجد من كل شيء سوى الله عوضاً ولا يجد من الله عوضاً أبداً. فذِكره حياة قلبه، ورضاه غاية مطلبه، ومحبته قُوّته، ومعرفته أنيسه، عدوّه من جذب قلبه عن الله وإن كان القريب المصافيا، ووليه من رده إلى الله وجمع قلبه عليه وإن كان البعيد المناويا. فهذان قلبان متباينان غاية التباين، وقلب ثالث في البرزخ ينتظر الولادة صباحاً ومساءً، قد أصبح على فضاء التجريد، وأنِسَ من خلال الديار أشعّه التوحيد، تأبى غلبات الحب والشوق إلا تقرباً إلى من السعادة كلها بقربه، والحظ كل الحظ في طاعته وحبه، وتأبى غلبات الطباع إلا جَذْبه وإيقافه وتعويقه، فهو بين الداعيين تارة وتارة، قد قطع عقبات وآفات، وبقي عليه مفاوز وفلَوات.

(لم يجعل الله لرجل من قلبين في جوفه).

(لم يجعل الله لرجل من قلبين في جوفه) قال ابن القيم رحمه الله: والله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه، فبِقَدْر ما يدل القلب من هم وإرادة وحب يخرج منه همّ وإرادة وحب يقابله. فهو إناء واحد والأشربة متعددة، فأيّ شراب ملأه لم يبق فيه موضع لغيره، وإنما يمتلئ الإناء بأعلى الأشربه إذا صادفه خالياً فأما إذا صادفه ممتلئاً من غيره لم يساكنه حتى يرج ما فيه ثم يسكن موضعه كما قال بعضهم: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكّنا ففقر صاحب هذه الدرجة تفريغه إناءه من كل شراب غير شراب المحبة والمعرفة لأن كل شراب فمسكر ولا بد وما أسكر كثيره فقليله حرام. وأين سكر الهوى والدنيا من سكر الخمر، وكيف يوضع شراب التسنيم الذي هو أعلى أشربة المحبين في إناء ملآن بخمر الدنيا والهوى ولا يفيق من سُكْرِه ولا يستفيق، ولو فارق هذا السُّكْر القلب لطار

بأجنحة الشوق إلى الله والدار الآخرة، ولكن رضي المسكين بالدون وباع حظه من قرب الله ومعرفته وكرامته بأخس الثمن صفقة خاسر مغبون، فسيعلم أي حظ أضاع إذا فاز المحبون وخسر المبطلون.

قبلة القلب.

قِبْلة القلب قِبْلة كل قلب ما يتعبّده مهما يكن وهو ما يعكف على ذاته أو على صورته وينجذب إليه بكليته، وليس لقلوب المؤمنين وأرواحهم قبلة سوى معبودهم الحق، كما أن بيته قبلة أبدانهم، والرب سبحانه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ومهما خطر ببالك فالرب خلاف ذلك، ومهما تصور العبد ربه بصورة فهي حجاب بينه وبينه لا لأنه سبحانه ليس له صورة وإنما لعدم العلم بها رؤية ومشاهدة، ولا لأن ليس لصورته كيفية وإنما لعدم العلم بكيفيتها، فيبقى المثال العلمي في القلوب على مقتضى الإثبات ونفي المثيل، (وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ) والقلب لم يُفْطَر على صورة لإلهه يتصوّرها ويعكف عليها وإنما تُنقش فيه الصور ليتعلق بها دونه فهو مفطور على المحبة والإرادة والطلب لمعبوده الحق سبحانه، وهذه الفطرة تغذّيها الشّرعة وتفصل لها صفات الإله الحق سبحانه كالحادي المُشَوِّق. فالفطرة في الأصل فيها المحبة والطلب والإرادة لفاطرها وإنما الصرف يأتي بعد، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على

الفطرة الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه والمراد بذكر الأبوين هنا أن الأولاد ينشئون على مقتضى تربية الوالدين غالباً لكن لا يمنع هذا أن يحصل الصرف للأولاد من غير الأبوين، كما أن ذكر التهويد والتنصير ليس لحصر الصرف والإنحراف عن مقتضى الفطرة وخلقتها الأولى لهما فقط بل ويمجسانه ويُرفّضانه ويُجهمانه، وهكذا. قال ابن القيم رحمه الله: فإذا تحقق العبد علوّه المطلق على كل شيء بذاته وأنه ليس فوقه شيء ألبتّه وأنه قاهر فوق عباده يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) صار لقلبه أمماً بقصده ورباً يعبده وإلهاً يتوجه إليه إليه بخلاف من لا يدري أين ربه فإنه ضائع مُشتّت القلب ليس لقلبه قبلة يتوجه نحوها ولا معبود يتوجه إليه قصده. إنتهى. كلام ابن القيم هذا الأخير ينطبق على من يعتقد أن الفضاء لا حدّ له وأنه لا يتناهى فهو لا يدري أين ربه ضائع مشتت القلب ليس لقلبه قبلة يتوجّه نحوها، لأن قلبه إذا طلب ربه في العلو تجلى له اعتقاده الباطل من الفضاء الذي لا ينتهي وملايين المجرات وأنه غير مستقر ولا ثابت والعلو والسفول بتغير مستمر فكيف يكون لقلب هذا قبلة

وأمما؟ وقد شرحت هذا وبينته ولله الحمد في (هداية الحيران في مسألة الدوران). ثم قال ابن القيم: وصاحب هذه الحال إذا سلك وتألّه وتعبّد طلب قلبه إلهاً يسكن إليه ويتوجه إليه وقد اعتقد أنه ليس فوق العرش شيء إلا العدم وأنه ليس فوق العالم إله يعبد ويصلى له ويُسجد وأنه ليس على العرش من يصعد إليه الكلم الطيب ولا يُرفع إليه العمل الصالح، جال قلبه في الوجود جميعه فوقع في الإتحاد ولا بد وتعلّق قلبه بالوجود المطلق الساري في المعيّنات فاتخذ إلهه من دون الإله الحق وظن أنه وصل إلى عين الحقيقة وإنما تألّه وتعبّد لمخلوق مثله ولِخيال تحته بفكره واتخذه إلهاً من دون الله سبحانه وإليه الرسل وراء ذلك كله: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ). إنتهى. ثم اعلم أن من اعتقد أن أصل الإنسان من الحيوان واعقتد نظريات الغرب في العالم العلوي كما تقدم والعالم السفلي ينطبق عليه كلام ابن القيم هذا حيث يجول قلبه في الوجود جميعه فيقع في الاتحاد وهو أن الوجود واحد؛ وقد بيّنت ذلك ولله الحمد في كتاب

(وحدة الوجود العصرية) حيث ذكرت ما في نظرية (داروين) من الزيغ والضلال المبين. ثم إنه لا بد من الاعتقاد السليم من علو وسفول صابت للكون ليعرف العبد ربه أين هو، ونظرية الدوران تنفي هذا مطلقاً فلا سفول ولا علو للكون على استقرار إذ الحركة دائبة؛ والرب سبحانه فوق السموات فوق العرش، ومن أسمائه (العلي) (الأعلى) (الظاهر) والظاهر هو الذي ليس فوقه شيء كما فسره بذلك صلى الله عليه وسلم. قال ابن القيم رحمه الله: فقد تعرف سبحانه إلى عباده بكلامه معرفة لا يجحدها إلا من أنكره سبحانه وإن زعم أنه مُقِرٌّ به والمقصود أن التعبد باسمه (الظاهر) يجمع القلب على المعبود ويجعل له رباً يقصده وصمداً يصمد إليه في حوائجه وملجأ يلجأ إليه، فإذا استقر ذلك في قلبه وعرف ربه باسمه (الظاهر) استقامت عبوديته وصار له معقل ومَوْثل يلجأ إليه ويهرب إليه ويفرّ كل وقت إليه. إنتهى. من عرف ما تقدم علم أن النظريات الغربية من دوران الأرض وأن أصل الإنسان من الحيوان مبناها على التعطيل ولا يمكن إثبات وجود الرب على مقتضاها ولا معرفة عرشه واستوائه عليه وعلوه

وفوقيته ولا يكون للقلب مع اعتقاد صحتها وجهة صحيحة ثابتة يقصدها ويتوجه نحوها، وهذا عين التضليل عن الرب الجليل. وليُعلم أن الأرض محصورة محجورة في جوف السماء الدنيا بحيث لو غادرت موضعها لاصطدمت بجُرْمِ السماء المحيطة بها إحاطة الكرة بما في وسطها، فكيف إذاً يتفق إقرار واعتقاد بسموات وكرسي وعرش وجنة وملائكة مع اعتقاد فضاء لا ينتهي ولا حد له؟!! بل كيف تتفق معرفة الإله ووجوده ومكانه سبحانه وتوجه القلب إليه على هذا الإعتقاد التعطيلي؟!!.

العرش.

العرش وحيث أنه بلا ريب قد أضلّت علوم المعطلة قلوب كثير من المقلدة الأتباع عن قبلتها التي فطرت متوجهة إليها وهي العلو الثابت في الكون فيحسن هنا الإشارة لبيان هذا الأمر الخطير بوصف المخلوقات الكبيرة العظيمة كما خلقها رب السموات والأرض وحتى لا تتوه القلوب عن فاطرها، ضائعة في فضاء لا ينتهي. ليعلم أن الأرض هي مركز العالم وأسفله، وضعها رب العالمين للأنام ليستقروا عليها وفوقها السموات السبع، فالسماء الدنيا محيطة بالأرض من كل جانب، والسموات محيط بعضها ببعض والكرسي فوقها وفوق السموات عرش الرحمن العظيم، فالسموات على عظمها واتساعها صغيرة بالنسبة للعرش حيث هو أكبر المخلوقات على الإطلاق وهو فوقها، والرب سبحانه مستو عليه كما يليق بجلاله. فعلو الكون ثابت دائماً وهو جهة العرش المجيد كما أن السُّفل ثابت وهو الأرض فلا يُطلب الرب سبحانه إلا من فوق.

وبما أن السموات مبنية ولها جرم وسمك وأبواب فكيف يقال: فضاء لا ينتهي، وفضاء لا حدّ له؟ كيف يهتدي قلب مُضيّع عن ربه لا يقدر على إثبات علوه على خلقه لأنه يعتقد أن الأرض كوكب طائر في فضاء لا ينتهي ولا حدّ له وأن هذا الكوكب صغير جداً ونسبته إلى الكون كنسبة حبّة رمل إليه؟ فيا له من ضلال!.

أقسام الناس في العبادة.

أقسام الناس في العبادة حيث أنه قد تبين توجّه القلب في هداه وتبين أيضاً تشتّته وضياعه في ضلاله فيحسن هنا ذكر مثل تظهر منه صور للعبادة واختلاف الناس فيها وأن أعلى المقامات في ذلك هو الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه كما في الحديث وأنه لا يكون هذا إلا بإحساس وشعور بالمعبود وكيف يحصل مع عدم إثبات علو ثابت وفوقية ثابتة للمعبود الحق سبحانه ومعرفة عرشه واستقرار هذا العلم بالقلب؟. قال ابن القيم في مدارج السالكين بعد أن ذكر أن أكثر السالكين سلكوا بجدّهم واجتهادهم غير منتبهين إلى المقصود. وإذا كان عدم الانتباه إلى المقصود والغاية من العبادة يحصل لأكثر الجادّين المجتهدين فكيف إذاً يكون غيرهم؟. قال: وأضرب لك في هذا مثالاً حسناً جداً، وهو: أن قوماً قدموا من بلاد بعيدة عليهم أثر النعيم والبهجة، والملابس السَّنِية والهيئة العجيبة، فعجب الناس لهم فسألوهم عن حالهم؟.

فقالوا: بلادنا من أحسن البلاد وأجمعها لسائر أنواع النعيم وأرخاها، وأكثرها مياهاً، وأصحّها هواء، وأكثرها فاكهة وأعظمها اعتدالاً، وأهلها كذلك أحسن الناس صوراً وأبشاراً. ومع هذا فمَلِكُها لا يناله الوصف جمالاً وكمالاً، وإحساناً وعلماً وحلماً، وجوداً ورحمة للرعية، وقرباً منهم، وله الهيبة والسطوة على سائر ملوك الأطراف، فلا يطمع أحد منهم في مقاومته ومحاربته، فأهل بلده في أمان من عدوهم، لا يحلّ الخوف بساحتهم. ومع هذا فله أوقات يبرز فيها لرعيته، ويُسهِّل لهم الدخول عليه ويرفع الحجاب بينه وبينهم، فإذا وقعت أبصارهم عليه تلاشى عندهم كل ما هم فيه من النعيم واضمحل، حتى لا يلتفتون إلى شيء منه. فإذا أقبل على واحد منهم أقبل عليه سائر أهل المملكة بالتعظيم والإجلال. ونحن رسله إلى أهل البلاد ندعوهم إلى حضرته، وهذه كتبه إلى الناس، ومعنا من الشهود ما يزيل سوء الظن بنا ويدفع اتهامنا بالكذب عليه. فلما سمع الناس ذلك، وشاهدوا أحوال الرسل انقسموا أقساماً:

فطائفة قالت: لا نفارق أوطاننا، ولا نخرج من ديارنا، ولا نتحشّم مشقة السفر البعيد، ونترك ما ألِفْناه من عيشنا ومنازلنا ومفارقة آبائنا وأبنائنا وإخواننا لأمر وُعِدْنا به في غير هذه البلاد ونحن لا نقدر على تحصيل ما نحن فيه إلا بعد الجهد والمشقة فكيف ننتقل عنه؟ ورأت هذه الفرقة مفارقتها لأوطانها وبلادها كمفارقة أنفسها لأبدانها فإن النفس لشدة إلْفها للبدن أكره ما إليها مفارقته. ثم قال: فهذه الطائفة غلب عليها داعي الحس والطبع على داعي العقل والرشد. والطائفة الثانية: لما رأت حال الرسل وما هم فيه من البهجة وحسن الحال وعلموا صدقهم: تأهبوا للسير إلى بلاد الملك، فأخذوا في المسير، فعارضهم أهلوهم وأصحابهم وعشائرهم من القاعدين. وعارضهم إلْفُهم مساكنهم ودورهم وبساتينهم، فجعلوا يُقدّمون رِجلاً ويؤخرون أخرى، فإذا تذكروا طيب بلاد الملك وما فيها من سَلْوة العيش: تقدموا نحوها وإذا عارضهم ما ألِفوه واعتادوه من ظلال بلادهم وعيشها وصحبة أهلهم وأصحابهم:

تأخروا عن المسير والتفتوا إليهم، فهم دائماً بين الداعيين والجاذبين، إلى أن يغلب أحدهما ويقوى على الآخر فيصيرون إليه. والطائفة الثالثة: ركبت ظهور عزائمها ورأت أن بلاد الملك أولى بها فوطّنت أنفسها على قصدها ولم يثْنِها لوْم اللوام، لكن في سيرها بطء بحسب ضعف ما كُشِفَ لها من أحوال تلك البلاد وحال الملك. والطائفة الرابعة جدّت في السير وواصلته فسارت سيراً حثيثاً فهم كما قيل: وركب سروا والليل مُرْخ سدوله ... على كل مُغبر المطالع قائم ... حدوا عزمات ضاعت الأرض بينها ... فصار سُراهم في ظهور العزائم ... تريهم نجوم الليل ما يطلبونه ... على عاتق الشعرى وهام النعائم فهؤلاء هممهم مصروفة إلى السير وقُواهم موقوفة عليه من غير تثنية (¬1) منهم إلى المقصود الأعظم والغاية العلياء. الطائفة الخامسة: أخذوا في الجد في المسير وهمّتهم متعلقة بالغاية، فهم في سيرهم ناظرون إلى المقصود بالمسير، فكأنهم ¬

_ (¬1) - أي من غير انثناء ولا التفات.

يشاهدونه من بُعْد، وهو يدعوهم إلى نفسه وإلى بلاده، فهم عاملون على هذا الشاهد الذي قام بقلوبهم. وعمل كل أحد منهم على قدر شاهده، فمن شاهد المقصود بالعمل في علمه كان ناصحاً فيه وإخلاصه وتحسينه، وبذل الجهد فيه أتم ممن لم يشاهده ولم يلاحظه، ولم يجد مسّ التعب والنصب ما يجده الغائب، والوجود شاهد بذلك، فمن عمل عملاً لملك بحضرته وهو يُشاهده ليس كحال من عمل في غيبته وبُعْده عنه وهو غير متيقن وصوله إليه. انتهى. أنظر قوله عن الطوائف الثلاث وهي: الثانية والثالثة والرابعة أن هممهم مصروفة إلى السير من غير التفات إلى المقصود الأعظم والغاية العلياء. وقوله عن الطائفة الخامسة أن همتهم متعلقة بالغاية وأنهم في سيرهم ناظرون إلى المقصود بالمسير فكأنهم يشاهدونه من بُعْد كمن يعمل بحضرة الملك. والمراد أنه لا بد للقلب من توجّه وأمم هو قبلته التي يصمد إليها بخلاف القلب المضيّع المشتت بضلالات نظريات الدوران وأن أصل الإنسان من الحيوان، وبخلاف أيضاً من بذل جهده وجدّ في السير

لكن من غير شعور بالمقصود والغاية، فكأن هذا يتعبد العبادة نفسها أو أن شعوره وإحساسه وإرادته لم تُفْض إلى ما وراء المخلوقات التي يُلْتّذ ويُتنعّم بها في الدنيا والآخرة. إن علو الإله سبحانه بل ووجوده لا يثبت مع هذه النظريات لأن مبناها على التعطيل. قال ذو النون المصري لما سُئل: لماذا خلق الله العرش؟ قال: لئلا تتوه قلوب العارفين. إنتهى. ألا فقد تاهت قلوب مقلّدة المعطلة عن المعبود الحق. قال ابن القيم رحمه الله: فمن شهد مشهد علو الله على خلقه وفوقيته لعباده واستوائه على عرشه كما أخبر به أعرف الخلق وأعلمهم به الصادق المصدوق وتعبّد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج القلب إليه مناجياً له مطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز فيُشعر بأن كَلِمَهُ وعمله صاعد إليه معروض عليه مع أوفى خاصته وأوليائه فيستحي أن يصعد إليه من كلمه ما يزيه ويفضحه هناك. ويشهد نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كل وقت بأنواع التدبير والتصرف من الإماتة والإحياء، والتولية والعزل

والخفض والرفع والعطاء والمنع، وكشف البلاء وإرساله، وتقلّب الدول ومداولة الأيام بين الناس إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه. فمراسمه نافذة فيها كما يشاء (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به.

محبة الإله.

محبة الإله يظن كثير من الناس أن محبة الله مقام من مقامات العبودية لا أنها أصل لها وقد يؤدي الأركان والواجبات لكنه لا يعتني بشأن المحبة ولا يتفقدها في قلبه ولا يبالي بتوجّهها للأغيار سواء كانت أموالاً أو رئاسة أو صوراً، ويظن أنه ما دام يؤدي شعائر الإسلام الظاهرة لم يبق عليه من شيء، وهذا من الجهل بحقيقة العبودية التي أصلها ولبّها المحبة وهي أعظم معاني التألّه. ولقد كثر الكلام في وقتنا عن أمم الكفر وما يعانونه مما يسمى (بالخواء الروحي) ويعلّلون ذلك بطغيان الماديات حتى سرى هذا الوباء على غيرهم ممن ينتسب إلى الإسلام انتساباً دون تحقيق، وما زلنا نسمع بين حين وآر عما يعانيه كثيرون حتى من أرباب الأموال والرئاسات من الأمراض النفسية والهموم المتواترة والهواجس والتوقعات المخيفة ونحو ذلك مما يكدّر صفاء عيشهم وينغّص حياتهم.

كما أصبح ما يُلهي ويشغل القلب والروح من الضروريات لأكثر الخلق يداوون به همومهم بزعمهم مِنْ نظر إلى ملهي أو سماع لمطرب أو شراب لمسكر إذ لا بد من هذه البدائل لدفع الهم والغم حينما يفقد القلب أنسه وسروره الذي فُطر عليه لكن البدائل مهما تكن فهي تواري الهموم والغموم وعذاب القلب والروح وقت مباشرتها والإنغمار فيها كالمخدر تماماً، فإذا ارتفع مفعولها وزال عاد العذاب أشد منه قبل حتماً لزيادة إعراض القلب وصدوده عما خلق له وزيادة بعده عن ربه وقربه من عدوه الشيطان وتمكّنه منه وهذا محسوس وإنما المصاب به قد لا يعرف سرّه ويظن أنه لا بد من هذا العذاب القلبي ولا دواء له إلا ما تقدم ذكره مما يزيد علّته وعاه فيتداوى المصاب بدائه. والمراد هنا أن ما يعانيه الكفار وصل إلينا وظهرت أعراضه جليّة بكثرة ولا يحيط بخطر وضرر ذلك إلا الله. والسبب سلوك مسالكهم واتباع سننهم وهديهم، وأثر هذا بليغ على القلوب، كيف إذا انضاف إلى ذلك إيثار الدنيا على الآخرة وظهور الضلالات والمنكرات وإلْف القلوب لها بل واستئناسها بمباشرتها، وتأبى سنة الله أن يكون للكفار المُرّة ولنا الحلوة إذا سلكنا طريقهم كما صرّح بذلك بعض الصحابة رضي الله عنهم.

وهل يقال: إن السموم تضر بعض الأجسام دون بعض! كذلك الذنوب والمعاصي والإعراض عن الآخرة والإقبال بالقلب والقالب على الدنيا هي سموم القلوب والأرواح، وليس لذلك كله دواء شاف إلا التوبة النصوح بالرجوع إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الدّال على الإله الذي بقربه نزول كل وحشة، ويذهب كل هم، ويحل النعيم والسرور. ونرجع الآن إلى الكلام على المحبة وتقرير أنها أصل الدين. قال ابن القيم رحمه الله: والمقصود من الخلق والأمر إنما هو هذه المحبة، وهي أول دعوة الرسل، وآخر كلام العبد المؤمن الذي إذا مات عليه دل الجنة اعترافه وإقراره بهذه المحبة وإفراد الرب بها. انتهى. يريد رحمه الله بآخر كلام العبد المؤمن كلمة (لا إله إلا الله) لأن هذه الكلمة العظئمة من قالها صادقاً عالماً بما تعنيه انجذبت روحه إلى ربه بالمحبة والتعظيم والإجلال. قال شيخ الإسلام رحمه الله في معنى كلمة (لا إله إلا الله) التي هي كلمة التوحيد، قال: فإن حقية التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة لأن

الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحاً. إنتهى. وإذا كان تحقيق هذه الكلمة العظيمة انجذاب الروح والقلب إلى الله تعالى فلا بد إذاً من التخلص من الجواذب المانعة. ومن عجيب ما يُرى شدّة الإعتناء بالوصفات الطبية للأبدان مع أنها قد لا تنفع وقد تضاعف الألم، وعدم الإعتناء بما وصفه الله ورسوله دواء وشفاء مضموناً لقلوبنا وأرواحنا، مع أنه ليس مرض الجسم كمرض القلب. ثم قال ابن القيم رحمه الله: فهو أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا إلى الله. وجميع الأعمال كالأدوات والآلات لها، وجميع المقامات وسائل إليها وأسباب لتحصيلها وتكميلها، وتحصينها من الشوائب والعلل. فهي قُطْب رحى السعادة وروح الإيمان وساق شجرة الإسلام، ولأجلها أنزل الله الكتاب والحديد، فالكتاب هادٍ إليها ودال عليها ومفصل لها، والحديد لمن خرج عنها وأشرك فيها مع الله غيره ولأجلها خلقت الجنة والنار، فالجنة دار أهلها الذين أخلصوها لله وحده فأخلصهم لها، والنار دار من أشرك فيها مع الله غيره وسوّى

بينه وبين الله فيها كما أخبر تعالى عن أهلها أنهم يقولون في النار لآلهتهم: (تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وهذه التسوية لم تكن منهم في الأفعال والصفات بحيث اعتقدوا أنها مساوية لله سبحانه في أفعاله وصفاته، وإنما كانت تسوية منهم بين الله وبينها في المحبة والعبودية مع إقرارهم بالفرق بين الله وبينها. فتصحيح هذه [يعني المحبة] هو تصحيح شهادة أن لا إله إلا الله. فحقيق لمن نصح نفسه وأحب سعادتها ونجاتها أن يتيقّظ لهذه المسألة علماً وعملاً وحالاً، وتكون هي أهم الأشياء عنده وأجلّ علومه وأعماله. فإن الشأن كله فيها والمدار عليها والسؤال يوم القيامة عنها قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) قال غير واحد من السلف: هو عن قول لا إله إلا الله. والمحبة هي الغاية التي شمّر إليها السالكون، وأمّها القاصدون ولحظ إليها العاملون وهذا مشهد العبودية لله والشوق إلى لقائه والابتهاج به والفرح والسرور به، فنقرّ به عينه ويسكن إليه قلبه

وتطمئن إليه جوارحه، ويستولي ذكره على لسان مُحِبّه وقلبه، فتصير خطرات المحبة مكان خطرات المعصية، وإرادات التقرب إليه وإلى مرضاته مكان إرادة معاصيه ومساخطه وحركات اللسان والجوارح بالطاعات مكان حركتها بالمعاصي. قد امتلأ قلبه من محبته ولهج لسانه بذكره وانقادت الجوارح لطاعته. قال شيخ الإسلام: وفي التوراة والإنجيل مِنْ ذكر محبة الله ما هم متفقون عليه، حتى أن عندهم أن ذلك أعظم وصايا الناموس. ففي الإنجيل أن المسيح قال: أعظم وصايا المسيح أن تحب الله بكل قلبك وعقلك ونفسك.

محبة يقارنها إجلال وتعظيم ومهابة.

محبة يقارنها إجلال وتعظيم ومهابه قال ابن القيم: لا ريب أن الحب والأنس المجرد عن التعظيم والإجلال يبسط النفس ويحملها على بعض الدعاوي والرعونات والأماني الباطلة وإساءة الأدب والجناية على حق المحبة. فإذا قارن المحبة مهابة المحبوب وإجلاله وتعظيمه وشهود عِز جلاله وعظيم سلطانه انكسرت نفسه له وذلّت لعظمته واستكانت لعزته وتصاغرت لجلاله، وصفت من رعونات النفس وحماقاتها ودعاويها الباطلة وأمانيها الكاذبة، ولهذا في الحديث يقول الله عز وجل: (أين المتحابون بجلالي) فهو حب بجلاله وتعظيمه ومهابته ليس حباً لمجرد جماله فإنه سبحانه الجليل الجميل، والحب الناشئ عن شهود هذين الوصفين هو الحب النافع الموجب لكونهم في ظل عرشه يوم القيامة. فشهود الجلال وحده يوجب خوفاً وخشية وانكساراً. وشهود الجمال وحده يوجب حباً بانبساط وإذلال ورعونة.

وشهود الوصفين معاً يوجب حباً مقروناً بتعظيم وإجلال ومهابة وهذا هو غاية كمال العبد والله أعلم. انتهى. إنما صار غاية كمال العبد لكمال متعلّقه، ولأن ذلك هو الغاية التي ُخُلق لها؛ ولقد تزخرفت الدنيا في زماننا بأنواع المحبوبات وجواذب الروح وصوارفها بما لم يسبق لمثله نظير وهو ابتلاء من الله عز وجل وإيذاناً بالنهاية وتوْطئة للدجال، بل ومن أجْل أن تستحكم الغفلة ويعْظم الإعراض عما خُلق له الخلق.

طريق المحبة.

طريق المحبة الرب سبحانه يعلم ما في نفوس عباده من الدعاوي والخيالات والأماني ولذلك أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم من العلم ما يُبطل كل دعوى زائفة. قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) قال الحسن رحمه الله: قال قوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: إنا نحب ربنا فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الجنيد إدّعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحبة: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ). وقال مالك: من أحب طاعة الله أحبه الله وحبّبه إلى خلقه. قال ابن القيم في الآية: يعني أن متابعة الرسول هي موافقة حبيبكم فإنه المبلغ عنه ما يحبه وما يكرهه. وقال: وإنما كانت موافقة المحبوب دليلاً على محبته لأن من أحب حبيباً فلا بدأن يحب ما يحبه ويبغض ما يبغضه وإلا لم يكن محباً له محبة صادقة. إنتهى.

ولا بد من العلم هنا بأن محبته سبحانه ومحبة ما يحبه لا تحصل إلا ببغض ما يبغضه، ولما كان بغض ما يبغضه من الأعمال والأشخاص في زماننا يخالف الهوى ثَقُل على النفوس وثقل من يعمل ولو بقليل منه لأن الصدق متخلف والفتن مشتركة أيضاً، ومهما كانت الحال فملّة إبراهيم ليست تنظر بعين واحدة ولا تمشي بساق واحدة أيضاً؛ فالحب والبغض إذاً متلازمان، وهما أوثق عُرى الإيمان. ومما يزيد المحبة وينميها تهذيب القصد وتصفيته وتجريده بأن يكون قصده وعبوديته –كما قال ابن القيم- محبة لله بلا عِلّة؛ وأن لايحب الله لما يعطيه ويحميه منه فتكون محبته لله محبة الوسائل، ومحبته بالقصد الأول لما يناله من الثواب المخلوق فهو المحبوب له بالذات بحيث إذا حصل له محبوبه [يعني الثواب المخلوق] تسلّى به عن محبة من أعطاه إياه، فإن من أحبك لأمر والاك عند حصوله ومَلْكَ عند انقضائه. والمحب الصادق يخاف أن تكون محبته لغرض من الأغراض فتنقضي محبته عند انقضاء ذلك الغرض، وإنما مراده أن محبته تدوم لا تنقضي أبداً، وأن لا يجعل محبوبه وسيلة له إلى غيره، بل يجعل ما سواه وسيلة له إلى محبوبه.

وهذا القَدْر هو الذي حام عليه القوم وداروا حوله وتكلموا فيه وشمروا إليه. انتهى. قال الحسن رحمه الله: لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت أنفسهم في الدنيا. قال ابن القيم رحمه الله: ولو شهد بقلبه صفة واحدة من أوصاف كماله لاستدعت منه المحبة التامة عليها. وهل مع المحبين محبة إلا من آثار صفات كماله؟ فإنهم لم يروه في هذه الدار وإنما وصل إليهم العلم بآثار صفاته وآثار صنعه فاستدلوا بما علموه على ما غاب عنهم. فلو شاهدوه ورأوا جلاله وجماله وكماله سبحانه وتعالى لكان لهم في حبه شأن آخر، وإنما تفاوت منازلهم ومراتبهم في محبته على حسب تفاوت مراتبهم في معرفته والعلم به، فأعرفهم بالله أشدهم حباً له، ولهذا كانت رسله أعظم الناس حباً له، والخليلان من أعظمهم حباً، وأعرف الأمة أشدهم له حباً. ثم قال: وهل هُيِّئ الإنسان إلا لها؟ كما قيل: قد هيؤوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

وهل في الوجود محبة حق غير باطلة إلا محبته سبحانه؟ فإن كل محبة متعلقة بغيره فباطله زائلة ببطلان متعلّقها. وأما محبته سبحانه فهي الحق الذي لا يزول ولا يبطل كما لا يزول متعلقها ولا يفنى، وكل ما سوى الله باطل ومحبة الباطل باطل. فسبحان الله كيف تُنْكَر المحبة الحق التي لا محبة أحق منها ويُعترف بوجود المحبة الباطلة المتلاشية؟. وهل تعلقت المحبة بوجود مُحْدَث إلا لكمال في وجوده بالنسبة إلى غيره؟ وهل ذلك الكمال إلا من آثار صنع الله الذي أتقن كل شيء؟ وهل الكمال كله إلا له؟ فكل من أحب شيئاً لكمال يدعوه إلى محبته فهو دليل وعبرة على محبة الله، وأنه أولى بكمال الحب من كل شيء، ولكن إذا كانت النفوس صغاراً كانت محبوباتها على قدْرها، وأما النفوس الكبار الشريفة فإنها تبذل حبها لأجلّ الأشياء وأشرفها. إنتهى. يريد رحمه الله أن من أحب شيئاً من هذا العالم السفلي وصوره المخلوقة فإنما أحبه وانجذب قلبه إليه لما رآه فيه من جمال وكمال وما حصل ذلك منه إلا لجهله بالمحبوب الحق أو غلبة هواه مع علمه

بذلك، وهذا فعل النفوس الصغار تصيدها صُوَر المخلوقات فتوثقها وتقطها عما فُطرت عليه من السمو إلى مطلوبها الذي هو في العلو. قال ابن القيم: ولما كانت المحبة التامة مَيْل القلب بكليته إلى المحبوب كان ذلك الميل حاملاً على طاعته وتعظيمه، وكلما كان الميل أقوى كانت الطاعة أتم والتعظيم أوفر. وهذا الميل يُلازم الإيمان بل هو روح الإيمان ولبّه، فأي شيء يكون أعلى من أمر يتضمن أن يكون الله سبحانه أحب الأشياء إلى العبد وأولى الأشياء بالتعظيم وأحق الأشياء بالطاعة؟ وبهذا يجد العبد حلاوة الإيمان كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار). فعلّق وجود حلاوته بما هو موقوف عليه ولا يتم إلا به وهو كونه أحب الأشياء إلى العبد هو ورسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى.

تصحيح الغلط في مسمى الجنة.

تصحيح الغلط في مسمى الجنة بعد ذكر شيء عن المحبة يحسن هنا معرفة المراد باسم الجنة وهل هي فقط المواد المخلوقة مما يتلذذ به أم أنها أعم وأشمل من هذا؟ قال ابن القيم: والتحقيق أن الجنة ليست اسماً لمجرد الأشجار والفواكه والطعام والشراب والحور العين والأنهار والقصور وأكثر الناس يغلطون في مسمى الجنة، فإن الجنة اسم لدار النعيم المطلق الكامل. ومن أعظم نعيم الجنة التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم وسماع كلامه وقرّة العين بالقرب منه ورضوانه. فلا نسبه لِلذّة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور إلى هذه اللذة أبداً. فأيسر يسير من رضوانه أكبر من الجنان وما فيها من ذلك كما قال تعالى: (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ) وأتى به منكراً في سياق الإثبات.

أيْ أيّ شيء كان من رضاه عن عبده فهو أكبر من الجنة .. إنتهى. ويقال: قليل منك يُقْنعني ولكن ... قليلك لا يُقال له قليل فهل من سالك إلى الله تعالى بشوق إليه واستعداد إلى لقائه!!. فاللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك.

سر (لا إله إلا الله) وحقيقتها.

سِرُّ (لا إله إلا الله) وحقيقتها وقال ابن القيم في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ). فالمؤمنون أشد حباً لربهم ومعبودهم من كل محب لكل محبوب؛ هذا مقتضى عقد الإيمان الذي لا يتم إلا به وليست هذه المسألة من المسائل التي للعبد عنها غنى أو منها بُدٌّ كدقائق العلم والمسائل التي يختص بها بعض الناس دون بعض، بل هذه أفرض مسألة على العبد، وهي أصل عقد الإيمان الذي لا يدخل فيه الداخل إلا بها ولا فلاح للعبد ولا نجاة له من عذاب الله إلا بها. فليشتغل بها العبد أو ليُعْرِض عنها، ومن لم يتحقق بها علماً وحالاً وعملاً لم يتحقق بشهادة أن لا إله إلا الله، فإنها سِرّها وحقيقتها ومعناها، وإن أبى ذلك الجاحدون وقصر عن علمه الجاهلون. فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له، وتذل له، وتخافه وترجوه وتنيب إليه في شدائدها وتدعوه في

مهماتها وتتوكل عليه في مصالحها وتلجأ إليه وتطمئن بذكره وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا الله وحده. ولهذا كانت أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه والمنكرون لها أعداؤه وأهل غضبه ونقمته. فهذه المسألة قطب رحى الدين الذي عليه مداره، وإذا صحّت صحّ بها كل مسألة وحال وذوق. وإذا لم يُصحّحها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله وأحواله وأقواله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. إنتهى. الكلام في المحبة أذكره لبيان التوحيد، ولأن الموانع عنها والقواطع لا تحصى في زماننا هذا، ولا يلزم من الوصف الإنصاف، ولا من العلم الحال وإنما أسأل الله أن يمنّ بذلك، والأجدر بنا الخوف. وقال ابن القيم: فأصل العبادة محبة الله بل إفراده بالمحبة وأن يكون الحب كله لله فلا يُحب معه سواه، وإنما يُحب لأجله وفيه كما تحب أنبياءه ورسله وملائكته، وأولياءه، فمحبتنا لهم من تمام محبته، وليست محبة معه، كمحبة من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله.

ثم ذكر أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي حب الله ورسوله. وقال رحمه الله: إعلم أن أشعّة (لا إله إلا الله) تبدّد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفاً لا يحصيه إلا الله تعالى. فمن الناس: مَنْ نورُ هذه الكلمة في قلبه (كالشمس) ومنهم من نورُها في قلبه (كالكوكب الدري). ومنهم من نورها في قلبه (كالمشعل العظيم). وآخر (كالسراج المضيء). وآخر (كالسراج الضعيف). ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علماً وعملاً ومعرفة وحالاً. وكلما عَظُمَ نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنباً إلا أحرقه. وهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك بالله شيئاً؛ فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنَتْ من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد

حُرست بالنجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا على غِرّة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سُرق منه استنقذه من سارقه أو حصّل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبداً مع لصوص الجن والإنس ليس كمن فتح خزنته وولّى الباب ظهره. ولا بد في قول (لا إله إلا الله) من قول القلب وقول اللسان وقول القلب يتضمن من معرفتها والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفيّة عن غير الله المختصة به التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب علماً ومعرفة ويقيناً وحالاً ما يوجب تحريم قائلها على النار، فقد ورد في الحديث الصحيح (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) وحديث (لا يدخل النار من قال: لا إله إلا الله) ونحو ذلك من الأحاديث التي لم يجعل الشارع صلوات الله وسلامه عليه ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار، فكل قول رتّب الشارع ما رتّب عليه من الثواب فإنما هو القول التام كقوله صلى الله عليه وسلم: (من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائة مرة حُطّت عنه خطاياه أو غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زَبَدِ البحر).

وليس هذا مرتباً على مجرد قول اللسان، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحداً وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض. وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفّة ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مدّ البصر فتثقل البطاقة وتطيش السجلات فلا يُعذب. وإذا أردت زيادة الإيضاح لهذا المعنى فانظر إلى ذِكر مَن قلبه ملآن بمحبتك وذكر من هو معرض عنك ساه مشغول بغيرك قد انجذبت دواعي قلبه إلى محبة غيرك وإيثاره عليك، هل يكون ذكرهما واحداً؟ أم هل يكون ولداك اللذان هما بهذه المثابة أو عَبْداك أو زوجتاك عندك سواء؟. فهكذا الأعمال والعُمال عند الله والغافل في غفلة عن هذا إنتهى.

فينبغي تأمُّل هذا والتفطن له؛ ففي وقتنا كثُر إيراد أحاديث الفضائل، كـ (من قال كذا فله كذا) (ومن عمل كذا فله كذا) وقلّ من تنفذ بصيرته إلى الحقائق؛ فأعِدِ النظر في قوله رحمه الله: (فكل قول رتّب الشارع ما رتّب عليه من الثواب فإنما هو القول التام). ثم أعِد النظر في شرحه وبيانه للقول التام وخلافه. وهذا لا يعني عدم العمل بهذه الفضائل، بل من البديهي المعلوم أن من يقولها باللسان دون مُواطأة القلب أفضل ممن لا يقولها، ولكن المقصود هنا التنبيه بالجملة على أن ما رُتب عليها من الثواب فإنما هو القول التام كما هو موضَّحٌ شأنه.

معرفة النفس.

معرفة النفس ذكر ابن القيم رحمه الله اتفاق السالكين إلى الله على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب وأنه لا يُدْخَل عليه سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد إماتتها وتركها بمخالفتها والظّفر بها. وذكر أن الناس على قسمين: - قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار طوعاً لها تحت أوامرها. - وقسم ظفروا بنفوسهم فقهروها فصارت طوعاً لهم منقادة لأوامرهم. قال بعض العارفين: إنتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم، فمن ظفر بنفسه أفلح وأنجح، ومن ظفرت به نفسه خسر وهلك قال تعالى: (فَأَمَّا مَن طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).

قال: فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يدعو عبده إلى خوفه ونَهْي النفس عن الهوى، والقلب بين الداعيين يميل إلى هذا تارة وإلى هذا تارة، وهذا موضع المحنة والابتلاء. وقد وصف سبحانه النفس في القرآن بثلاث صفات: (المطمئنة) و (الأمارة بالسوء) و (اللوامة). ثم ذكر أن هذه صفات للنفس وإلا فهي واحدة، وأن النفس قد تكون تارة أمارة وتارة لوامة وتارة مطمئنة بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل منها هذا وهذا، والحكم للغالب عليها من أحوالها. فكونها مطمئنة وصف مدح لها، وكونها أمارة بالسوء وصف ذم لها، وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم بحسب ما تلوم عليه. انتهى. يريد رحمه الله أنها قد تلوم على فوات الطاعة وهي نفس المؤمن، وقد تلوم على فوات حظها من المعصية والفجور وهي نفس الفاجر.

النفس المطمئنة.

النفس المطمئنة ذكر ابن القيم رحمه الله: أن النفس إذا سكنت إلى الله واطمأنت بذكره وأنابت إليه واشتاقت إلى لقائه وأنِسَتْ بقربه فهي مطمئنة، وهي التي يقال لها عند الوفاة: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً). وهي في كلام السلف: المصدِّقة، المطمئنة إلى ما وعد الله المنيبة المخبتة الموقنة بلقاء الله. قال رحمه الله: وحقيقة الطمأنينة: السكون والإستقرار، فهي التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذكره، ولم تسكن إلى سواه فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره، واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره واطمأنت إلى لقائه ووعده، واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسمائه وصفاته، واطمأنت إلى الرضى به ربا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولا. واطمأنت إلى قضائه وقدره، واطمأنت إلى كفايته وحسْبه وضمانه، فاطمأنت بأنه وحده ربها وإلهها ومعبودها ومليكها ومالك

أمرها كله وأن مرجعها إليه، وأنها لا غنى لها عنه طرفة عين، وإذا كانت بضد ذلك فهي الأمارة بالسوء. وذكر ابن القيم سراً لطيفاً حيث قال عنه: يجب التنبيه عليه والتنبه له والتوفيق له بيد من أزمّة التوفيق بيده. -يريد رحمه الله أن يبين سر طمأنينة القلب ببيان وظيفته وعمله الذي خلق له وأنه بوجوده وقيامه به تحصل له الطمأنينة وبفقده تستحيل مهما كان البديل والعِوَض-. قال: وهو أن الله سبحانه جعل لكل عضو من أعضاء الإنسان كمالاً إن لم يحصل له فهو في قلق واضطراب وانزعاج بسبب فقد كماله الذي جُعِل له. مثاله: كمال العين بالإبصار، وكمال الأذن بالسمع، وكمال اللسان بالنطق. فإذا عدمت هذه الأعضاء القُوى التي بها كمالها حصل الألم والنقص بحسب فوات ذلك. وجُعِل كمال القلب ونعيمه وسروره ولذته وابتهاجه في معرفته سبحانه، وإرادته، ومحبته، والإنابة إليه، والإقبال عليه، والشوق إليه، والأنس به.

فإذا عدم القلب ذلك كان أشد عذاباً واضطراباً من العين التي فقدت النور الباصر، ومن اللسان الذي فقد قوّة الكلام والذوق. ولا سبيل له إلى الطمأنينة بوجه من الوجوه ولو نال من الدنيا وأسبابها ومن العلوم ما نال إلا بأن يكون الله وحده هو محبوبه وإلهه ومعبوده، وغاية مطلوبه وأن يكون هو وحده مستعان على تحصيل ذلك. فحقيقة الأمر أنه لا طمأنينة له بدون التحقيق بإياك نعبد وإياك نستعين، وأقوال المفسرين في الطمأنينة ترجع إلى ذلك.

النفس الإمارة بالسوء.

النفس الأمارة بالسوء قال ابن القيم –رحمه الله- عن النفس الأمارة بالسوء: تأمر صاحبها بما تهواه من شهوات الغي واتباع الباطل، فهي مأوى كل سوء، وإن أطاعها قادته إلى كل قبيح وكل مكروه. وقد أبر سبحانه أنها أمارة بالسوء ولم يقل: (آمرة) لكثرة ذلك منها، وأنه عادتها ودأبها إلا إذا رحمها الله وجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير فذلك من رحمة الله لا منها، فإنها بذاتها أمارة بالسوء لأنها خُلقت في الأصل جاهلة ظالمة. انتهى. إذا كانت صفات النفس الأصلية أنها جاهلة وذلك يعني عدم العلم، وظالمة وذلك يعني عدم العدل؛ فما كان فيها من علم يخرجها من جهلها وعدل يخرجها من ظلمها فمِنْ فاطرها، وفهْم هذا يقطع عروق الإعجاب بالنفس فما لها من ذاتها خير تُعْجب به وتدّعيه، قال تعالى: (إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً). ثم قال: والعدل والعلم طارئ عليها بإلهام ربها وفاطرها لها ذلك، فإذا لم يلهمها رشدها بقيت على ظلمها وجهلها.

فلم تكن أمارة إلا بموجب الجهل والظلم، فلولا فضل الله ورحمته على المؤمنين ما زكت منهم نفس واحدة. إن من نظر إلى محل الجناية ومصدرها وهو النفس الأمارة بالسوء أفاده نظره إليها أموراً منها: أن يعرف أنها جاهلة ظالمة وأن الجهل والظلم يصدر عنهما كل قول وعمل قبيح. ومَن وَصْفُه الجهل والظلم لا مطمع في استقامته واعتداله البتة فيوجب له ذلك بذل الجهد في العلم النافع الذي يخرجها به عن وصف الجهل والعمل الصالح الذي يخرجها به عن وصف الظلم ومع هذا فجهلها أكثر من علمها وظلمها أعظم من عدلها. فحقيق بمن هذا شأنه أن يرغب إلى خالقها وفاطرها أن يقيه شرها وأن يؤتيها تقواها ويزكيها فهو خير من زكاها فإنه ربها ومولاها وأن لا يَكِلَه إليها طرفة عين فإنه إن وَكَلَهُ إليها هلك، فما هلك من هلك إلا حيث وُكِلَ إلى نفسه. قال تعالى: (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين بن المنذر: (قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي).

فمن عرف حقيقة نفسه وما طُبعت عليه علم أنها منبع كل شر ومأوى كل سوء، وأن كل خير فيها ففضل من الله مَنَّ به عليها لم يكن منها كما قال تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً) وقال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ). فهذا الحب وهذه الكراهة لم يكونا بالنفس ولا بها ولكن هو الله الذي منّ بهما فجعل العبد بسببهما من الراشدين (فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (عليم) بمن يصلح لهذا الفضل ويزكو عليها وبه يثمر عنده، (حكيم) فلا يضعه عند غير أهله فيضيعه بوضعه في غير موضعه. والنفس الأمارة جُعل الشيطان قرينها وصاحبها الذي يليها فهو يَعِدُها ويُمنيها ويقذف فيها الباطل ويأمرها بالسوء ويزيّنه لها ويطيل في الأمل، ويريها الباطل في صورة تقبلها وتستحسنها ويُمدّها بأنواع الإمداد الباطل من الأماني الكاذبة والشهوات المهلكة. ويستعين عليها بهواها وإرادتها، فمنه يُدْخل عليها كل مكروه فما استعان على النفوس بشيء هو أبلغ من هواها وإرادتها، وقد

علّم ذلك إخوانه من شياطين الإنس، فإذا فتحت لهم النفس باب الهوى دخلوا منه فجاسوا خلال الديار فعاثوا وأفسدوا وفتكوا وسبَوْا وفعلوا ما يفعله العدو ببلاد عدوه إذا تحكم فيها. ثم قال: وبهذا يُعلم أن ضرورة العبد إلى ربه فوق كل ضرورة ولا تشبهها ضرورة تقاس بها، فإنه إن أمسك عنه رحمته وتوفيقه وهدايته طرفة عين خسر وهلك.

النفس اللوامة.

النفس اللوامة قال الحسن: إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته، يستقصرها في كل ما يفعل فيندم ويلوم نفسه، وإن الفاجر ليمضي قُدْماً لا يُعاتب نفسه. انتهى. فهذا المؤمن؛ أما الفاجر فيلوم نفسه على فوات الشر الذي تهواه وهذا معنى كلام ابن القيم المتقدم: (وكوْنها لوامة ينقسم إلى المدح والذم بحسب ما تلوم عليه). وجملة القول في النفس أنه قد أجمع العارفون بالله على أن الخذلان أن يَكِلَك الله إلى نفسك ويخلي بينك وبينها، والتوفيق أن لا يكلك الله إلى نفسك.

علامات مرض القلب.

علامات مرض القلب ذكر ابن القيم –رحمه الله- أن كل عضو من أعضاء البدن خُلق لفعل خاص به، كما له في حصول ذلك الفعل منه. ومرضه أن يتعذر عليه الفعل الذي خلق له حتى لا يصدر منه أو يصدر مع نوع من الاضطراب. فمرض اليد: أن يتعذر عليها البطش، ومرض العين: أن يتعذر عليها النظر والرؤية، ومرض اللسان أن يتعذر عليه النطق، ومرض البدن: أن تتعذر عليه حركته الطبيعية أو يضعف عنها. ومرض (القلب) أن يتعذر عليه ما خلق له من معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والإنابة إليه وإيثار ذلك على كل شهوة. فلو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئاً ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها ولم يظفر بمحبة الله والشوق إليه والأنس به فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين. بل إذا كان القلب خالياً من ذلك عادت تلك الحظوظ واللذات عذاباً له ولا بد، فيصير مُعذّباً بنفس ما كان منعماً به من جهتين:

من جهة حسرة فوْته وأنه حيل بينه وبينه مع شدة تعلق روحه به ومن جهة فوْت ما هو خير له وأنفع وأدْوَم حيث لم يحصل له. فالمحبوب الحاصل فات والمحبوب الأعظم لم يظفر به، وكل من عرف الله أحبه وأخلص العبادة له ولا بد ولم يؤثر عليه شيئاً من المحبوبات، فمن آثر عليه شيئاً من المحبوبات فقلبه مريض كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث وآثرته على الطيب سقطت عنها شهوة الطيب وتعوّضت بمحبة غيره. وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يعرف به صاحبه لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته. وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يُوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألّم بورود القبيح عليه، وتألّم بجهله بالحق بحسب حياته، وما لجرح بميت إيلام. ومن علامات موت القلب نسيان ذكر الله، كما قيل: فنسيان ذكر الله موت قلوبهم ... وأجسامهم فهي القبور الدوارسُ ... وأزواجهم في وحشة من حبيبهم ... ولكنها عند الخبيث أوانس

قال شيخ الإسلام: ولذة القلب وألمه أعظم من لذة الجسم وألمه، فلذلك كان مرض القلب وشفاؤه أعظم من مرض الجسم وشفائه، فكما أن الإنسان إذا صار لا يسمع بأذنه ولا يبصر بعينه ولا ينطق بلسانه كان ذلك مرضاً مؤلماً له يفوّته من المصالح ويحصل له من المضار. فكذلك إذا لم يسمع ولم يبصر ولم يعلم بقلبه الحق من الباطل ولم يميز بين الخير والشر والغيّ والرشاد كان ذلك من أعظم أمراض قلبه وألمه، فكذلك إذا بُلِيَ بحب من لا ينفعه العشق ونحوه سواء كان لصورة أو لرئاسة أو لمال ونحو ذلك فإن لم يحصل محبوبه ومطلوبه فهو متألم ومريض سقيم، وإن حصل محبوبه فهو أشد مرضاً وألماً وسقماً، ولذلك كما أن المريض إذا كان يبغض ما يحتاج إليه من الطعام والشراب كان ذلك الألم حاصلاً وكان دوامه على ذلك يوجب من الألم أكثر من ذلك حتى يقتله حتى يزول ما يوجب بغضه لما ينفعه ويحتاج إليه فهو متألم في الحال وتألّمه فيما بعد إن لم يُعافه الله أعظم وأكبر، فبغض الحاسد لنعمة الله على المحسود كبُغض المريض لأكل الأصحاء لأطعمتهم وأشربتهم حتى لا يقدر أن يراهم يأكلون، وعمى القلب وبَكَمُهُ أن يبصر الحقائق ويميّز ما ينفعه ويضرّه كعمى

الجسم وخرسه عن أن يبصر الأمور المرئية ويتكلم بها ويميّز بين ما ينفعه ويضرّه، وكما أن الضرير (¬1) إذا أبْصر وجد من الراحة والعافية والسرور أمراً عظيماً فبصر القلب ورؤيته الحقائق بينه وبين بصر الرأس من التفاوت ما لا يحصيه إلا الله، وإنما الغرض تشبيه أحد المرضَيْن بالآخر، فطب الأديان يحتذي حذو طب الأبدان. ¬

_ (¬1) - الضرير: الأعمى.

دواء مرض القلب.

دواء مرض القلب قد تبين أن مرض القلب يتعين ويتشخّص كما تتشخص أمراض الأعضاء وتتعيّن، وذلك بأن يتعذر عليه ما خلق له من معرفة الله ومحبته، ومرضه ليس كمرض الأعضاء في الأهمية والخطر. وقد ذكر ابن القيم أن الإنسان قد يشعر بمرض قلبه ولكن يشتد عليه تحمّل مرارة الدواء والصبر عليها، فهو يُؤْثر بقاء ألمه على مشقه الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى، وذلك أصعب شيء على النفس وليس لها أنفع منه. وتارة يُوَطّن نفسه على الصبر ثم ينفسخ عزمه ولا يستمر معه لضعف علمه وبصيرته وصبره، كمن دخل في طريق مَخُوف مُقْضٍ إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن. فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها ولا سيّما إن عَدِمَ

الرفيق واستوحش من الوحدة وجعل يقول: أين يذهب الناس؟ فلي بهم أسوة، وهذه حال أكثر الخلق وهي التي أهلكتهم .. فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده إذا استشعر قلبة مرافقة الرعيل الأول الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. فتفرّد العبد في طريق طلبه دليل على صدق الطلب. ثم ذكر ابن القيم مثالاً يبين ما تقدم وذك أن إسحق بن راهويه سُئل عن مسألة فأجاب فقيل له: إن أخاك أحمد بن حنبل يقول فيها بمثل ذلك، فقال: ما ظننت أن أحداً يوافقني عليها. ثم قال ابن القيم بعد هذا: ولم يستوحش بعد ظهور الصواب له من عدم الموافقة فإن الحق إذا لاح وتبين لم يحتج إلى شاهد يشهد به. والقلب يبصر الحق كما تبصر العين الشمس، فإذا رأى الرائي الشمس لم يحتج في علمه بها واعتقاده أنها طالعة إلى من يشهد بذلك ويوافقه عليه. إنتهى.

علامات صحة القلب.

علامات صحة القلب ذكر ابن القيم من علامات صحة القلب أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها جاء إلى هذه الدار غريباً يأخذ منها حاجته ويعود إلى وطنه كما قال عليه السلام لعبد الله بن عمر: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعُدَّ نفسك من أهل القبور). وكلما صحّ القلب من مرضه ترحّل إلى الآخرة وقَرُب منها حتى يصير من أهلها. وكلما مرض القلب واعتلّ آثر الدنيا واستوطنها حتى يصير من أهلها. ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويُخبت إليه ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به.

فبه يطمئن وإليه يسكن وإليه يأوي وبه يفرح وعليه يتوكل وبه يثق وإياه يرجو وله يخاف. فذِكْرُه قُوته وغذاؤه، ومحبته والشوق إليه حياته ونعيمه ولذته وسروره، والإلتفات إلى غيره والتعلق بسواه داؤه، والرجوع إليه دواؤه، فإذا حصل له ربه سكن إليه واطمأن به وزال ذلك الإضطراب والقلب وانسدّت تلك الفاقة، فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله تعالى أبداً، وفيه شَعث لا يلمّه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده. فهو دائماً يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خُلق الخلق ولأجله خلقت الجنة والنار، وله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء وكفى بفوْته حسرة وعقوبة. انتهى. يريد رحمه الله بهذا الكلام الأخير أن صحة القلب وحياته التي وصف بتقدير أن لا جزاء عليها فكفى بها جزاء، يوضح ذلك ما ذكر عن بعض من حصل لهم هذا النعيم العاجل.

- تبيان شيخ الإسلام للأثر البليغ على صحة القلب من الإدمان من قول (يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت).

قال بعض العارفين: مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وطاعته. وقال آخر: إنه ليمرّ بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب. وذكر من علامات صحة القلب أن لا يفتر عن ذكر ربه ولا يسأم من خدمته ولا يأنس بغيره إلا بمن يدله عليه ويذكّره به ويذاكره بهذا الأمر. إنتهى. قال ابن القيم: ومن تجريبات السالكين التي جربوها فألقوها صحيحة أن من أدْمَن (يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت) أورثه ذلك حياة القلب والعقل. ثم قال رحمه الله: وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه شديد اللهج بها جداً، وقال لي يوماً: لهذين الإسمين وهما (الحي القيوم) تأثير عظيم في حياة القلب، وكان يشير إلى أنهما الإسم الأعظم.

كسرة التائب وصولة المدل.

كسرة التائب وصَوْلة المُدِل (¬1) حديث (من عيّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله) فسّره الإمام أحمد رحمه الله أنه من ذنب قد تاب منه والمراد هنا النظر في تنوّع السلوك والحذر مما يوقع في المهالك. ذكر ابن القيم رحمه الله في معاني الحديث أن تعبيرك لأخيك بذنبه أعظم إثماً من ذنبه وأشد من معصيته لما فيه من صولة الطاعة وتزكية النفس وشكرها، والمناداة عليها بالبراءة من الذنب، وأن أخاك باء به. ولعل كسْرته بذنبه وما أحدث له من الذلة والخضوع والإزراء على نفسه والتخلص من مرض الدعوى والكبر والعجب، ووقوفه بين يدي الله ناكس الرأس خاشع الطرف منكسر القلب أنفع له وخير من صَوْلة طاعتك وتكثُّرك بها والإعتداد بها والمنّة على الله وخلْقه بها. ¬

_ (¬1) - المُدِل –بضم الميم وكسر الدال .. وهو: من يعجب بعمله ويستكثره ويمُنّ به.

فما أقرب هذا العاصي من رحمة الله، وما أقرب هذا المُدِلّ من مقْت الله. فذنب تَذِلّ به لديه أحب إليه من طاعة تُدِلُّ بها عليه، وإنك أن تبيت نائماً وتصبح نادماً خير من أن تبيت قائماً وتصبح معجَباً، فإن المعجَب لا يصعد له عمل، وإنك أن تضحك وأنت معترف خير من أن تبكي وأنت مُدِلّ. وأنين المذنبين أحبّ إلى الله من زجَلَ المسبّحين والمدلّين ولعل الله أسقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داء قاتلاً هو فيك وأنت لا تشعر، فلله في أهل طاعته ومعصيته أسرار لا يعلمها إلا هو، ولا يُطالعها إلا أهل البصائر فيعرفون منها بقدر ما تناله معارف البشر ووراء ذلك مالا يطّلع عليه الكرام الكاتبون. إنتهى. ولذلك يقال: أوحش الوحشة العُجْب. وقال ابن القيم –أيضاً-: وأكثر الناس من المتنزهين عن الكبائر الحسية والقاذورات في كبائر مثلها أو أعظم منها أو دونها ولا يخطر بقلوبهم أنها ذنوب ليتوبوا منها، فعندهم من الإزراء على أهل الكبائر واحتقارهم وصوْلة طاعاتهم ومنّتهم على الخلق بلسان الحال واقتضاء بواطنهم لتعظيم الخلق لهم على طاعاتهم اقتضاء لا يخفى على

أحد غيرهم وتوابع ذلك ما هو أبغض إلى الله وأبعدُ لهم عن بابه من كبائر أولئك؛ فإن تدارك الله أحدهم بقاذورة أو كبيرة يوقعه فيها ليكسر بها نفسه ويُعرّفه قدره، ويذلّه بها ويُخرج بها صوْلة الطاعة من قلبه فهي رحمة في حقه. كما أنه إذا تدارك أصحاب الكبائر بتوبة نصوح وإقبال بقلوبهم إليه فهو رحمة في حقهم وإلا فكلاهما على خطر. قال مالك بن دينار رحمه الله: خرجت إلى مكة حاجاً، فبينما أنا سائر إذ رأيت شاباً ساكتاً لا يذكر الله تعالى، فلما جن الليل رفع وجهه نحو السماء وقال: يا من لا تنفعه الطاعات ولا تضره المعاصي إغفر لي ما لا يضرك. ثم رأيته بذي الحليفة وقد لبس إحرامه والناس يلبّون وهو لا يلبي فقلت: هذا جاهل فدنوْت منه فقلت له: يا فتى، قال: لبيك، قلت له: لِمَ لا تلبي؟ فقال: يا شيخ وما تعني التلبية وقد بارزته بذنوب سالفات وجرائم مكتوبات؟ والله إني لأخشى أن أقول: لبيك، فيقول: لا لبيك ولا سعديك لا أسمع كلامك ولا أنظر إليك، فقلت له: لا تقل ذلك فإنه حليم، إذا غضب رضي وإذا رضي لم يغضب، وإذا وَعد وفى

ومتى توعّد عفا. فقال يا شيخ أتشير عليّ بالتلبية؟ قلت: نعم، فبادر إلى الأرض واضطجع ووضع خده على التراب وأخذ حجراً فوضعه على خده وأسبل دموعه وقال: لبيك اللهم لبيك قد خضعت لك وهذا مصرعي بين يديك، فأقام كذلك ساعة ثم مضى فما رأيته إلا بمنى وهو يقول: اللهم إن الناس ذبحوا ونحروا وتقربوا إليك وليس لي شيء أتقرب به سوى نفسي فتقبلها مني ثم شهق شهقة وخرّ ميتاً رحمة الله تعالى عليه. وذكر ابن القيم في التوبة الصادقة شهود الذل والإنكسار بين يدي الله عز وجل وأن هذا أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المُدِلّين المعجبين. قال: وهو مشهد الذل والإنكسار والخضوع والإفتقار للرب جل جلاله، فيشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة وافتقاراً تاماً إلى ربه وَوَليه ومَن بيده صلاحه وفلاحه وهداه وسعادته، وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها وإنما تُدرَك بالحصول، فيحصل لقلبه كسرة خاصة لا يشبهها شيء بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل الذي لا شيء فيه ولا به

ولا منه، ولا فيه منفعة ولا يُرغب في مثله وأنه لا يصلح للإنتفاع إلا بجبر جديد من صانعه وقيَمه. فحينئذ يستكثر في هذا المشهد ما من ربه إليه من الخير ويرى أنه لا يستحق قليلاً منه ولا كثيراً فأيّ خير ناله من الله استكثره على نفسه. وعَلِمَ أن قدره دونه وأن رحمة ربه هي التي اقتضت ذكره به وسياقته إليه، واستقل ما من نفسه من الطاعات لربه ورآها ولو ساوَتْ طاعات الثقلين من أقل ما ينبغي لربه عليه، واستكثر قليل معاصيه وذنوبه. فإن الكَسْرة التي حصلت لقلبه أوجبت به هذا كله. فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه، وما أنفع هذا المشهد له وأجْداه عليه، وذرّة من هذا ونَفَس منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المُدِلّين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم. وأحب القلوب إلى الله سبحانه قلب قد تمكّنت منه هذه الكسرة وملكتْه هذه الذلة.

فهو ناكس الرأس بين يدي ربه لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلاً من الله. قيل لبعض العارفين: أيسجد القلب؟ قال: نعم يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء، فهذا سجود القلب. فقلب لا تباشره هذه الكسرة فهو غير ساجد السجود المراد منه وإذا سجد القلب لله هذه السجدة العظمى سجدت معه جميع الجوارح وعَنا الوجه حينئذ للحي القيوم وخشع الصوت والجوارح كلها، وذَل العبد وخضع واسْتكان ووضع خده على عتبة العبودية ناظراً بقلبه إلى ربه ووليّه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم، فلا يُرَى إلا متملقاً لربه خاضعاً له ذليلاً مستعطفاً له يسأله عطفه ورحمته. فهو يترضى ربه كما يترضى المحب الكامل المحبة محبوبه المالك له الذي لا غِنى له عنه ولا بُدّ له منه، فليس له همّ إلا استرضائه واستعطافه، لأنه لا حياة له ولا فلاح إلا في قربه ورضاه عنه ومحبته له. يقول: كيف أُغضب مَن حياتي في رضاه؟ وكيف أعدل عمن سعادتي وفلاحي وفوزي في قربه وحبه وذكره؟!

والقصد أن هذه الذلّة والكسْرة الخاصة تُدخله على الله وترميه على طريق المحبة فيفتح له منها باب لا يفتح له من غير هذه الطريق وإن كانت طرق سائر الأعمال والطاعات تفتح للعبد أبواباً من المحبة لكن الذي يُفتح منها من طريق الذل والإنكسار والإفتقار وازدراء النفس ورؤيتها بعين الضعف والعجز والعيب والنقص والذم بحيث يشاهدها ضَيْعة وعجزاً وتفريطاً وذَنْباً وخطيئة نوع آخر وفتح آخر. والسالك بهذه الطريق غريب في الناس، هم في واد وهو في واد، وهي تسمى: طريق الطير، يسْبق النائم فيها على فراشه السُّعاة فيصبح وقد قطع الطريق وسبق الركب، بينما هو يحدثك إذا به قد سبق الطرْف وفات السُّعاة، فالله المستعان وهو خير الغافرين. وهذا الذي حصل له من آثار محبة الله له وفرحه بتوبة عبده فإنه سبحانه يحب التوابين ويفرح بتوبتهم أعظم فرح وأكمله. انتهى. وبهذا يتبيّن أن كسرة التائب أحب إلى الله تعالى من صولة المُدِلّ إذ الإدْلال (أي المَنُّ والإعجاب) بالعمل بغيضٌ لدى الله .. مُفْسِد للعمل نفسه كما قال سبحانه –كما في الحديث القدسي- (وإن من عبادي من يريد باباً من العبادة فأكفُّه عنه لئلا يدخله عُجْبٌ فيفسده ذلك .. ) فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه.

الإخلاص.

الإخلاص إنه فرق بين أن نعمل العمل وبين أن ننظر فيه، وأكثر الخلق من العالمين منصرفة همته كلها على إيقاع العمل وحصوله وقلّ أن ينظر فيه، وكأنه على ثقة من صحته وقبوله. والإخلاص شأنه عظيم، وهو والصدق قرينان في معاملة الله عز وجل، وقد خاف سادات الأولياء من حبوط الأعمال وردّها لتخلف الإخلاص. قال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً) وهي الأعمال التي كانت على غير السنة أو أُريد بها غير وجه الله. وفي أثر إلهي: (الإخلاص سِرٌّ من سرّي استودعته قلب مَنْ أحببته من عبادي). وقيل في الإخلاص أنه: (تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين).

وهنا أمر مهم لتفقد الإخلاص من غفل عنه أهلكه العجب وإلا فما زال أهل الصدق والإخلاص في عناء شديد مع نفوسهم دون أن يَمَشُّوا الحال على ما حَسُنَ أو ساء من الأعمال. وهذا الأمر هو قول بعض السلف: من شهد في إخلاصه الإخلاص احتاج إخلاصه إلى إخلاص. قال ابن القيم رحمه الله على هذا الكلام: فنقصان كل مخلص في إخلاصه بقدر رؤية إخلاصه، فإذا سقط عن نفسه رؤية الإخلاص صار مخلِصاً مخلَصاً. وقيل في الإخلاص أنه استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، والرياء أن يكون ظاهره خيراً من باطنه، والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعمر من ظاهره. وقيل: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق، ومن تزيّن للناس بما ليس فيه سقط من عين الله. وقال الجنيد: الإخلاص سِرّ بين الله وبين العبد لا يعلمه ملَك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوى فيميله. وقال أبو سليمان الداراني: إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء.

ومما يُخيف ما قاله يوسف بن الحسين: أعزّ شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكأنه ينبت على لون آخر. فانظر كيف ينظرون في أعمالهم وكيف يتهمون نفوسهم لعلمهم بظلمها وجهلها. قال الهروي: الإخلاص تصفية العمل من كل شَوْب. قال ابن القيم على هذا الكلام: أي لا يُمازج عمله ما يشوبه من شوائب إرادات النفس إما طلب التزيّن في قلوب الخلق، وإما طلب مدحهم والهرب من ذمّهم، أو طلب تعظيمهم، أو طلب أموالهم أو خدمتهم ومحبتهم وقضاء حوائجه، أو غير ذلك من العلل والشوائب التي عَقْدُ متفرقاتها: هو إرادة ما سوى الله بعمله كائناً ما كان. إنتهى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والشرك غالب على النفوس كما في الحديث أخفى من دبيب النمل. وكثير ما يخالط النفوس من الشهوات ما يفسد عليها تحقيق ذلك كما قال شداد بن أوس: (أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفيّة) قال أبو داود: هي حب الرياسة. وفي الحديث: (ما ذِئبان جائعان أُرسلا في

غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) وفي الصحيح: (تعس عبد الدينار) الحديث؛ وهذا في المال والجاه والصُّور. ولقد ذكر ابن القيم –رحمه الله- أن العبد كلما قوي إخلاصه لله وعَظُم كلما ابتعد عن الشهوات والشبهات، وكلما ضعُف إخلاصه وقلّ كلما توغّل فيها، والعياذ بالله. وذكر ابن القيم –أيضاً-: أن العبد يقوى إخلاصه لله وصدقه ومعاملته حتى لا يُحب أن يطلع أحد من الخلق على حاله مع الله ومقامه معه فهو يخفي أحواله غيْرة عليها من أن تشوبها شائبة الأغيار. وكان بعضهم إذا غلبه البكاء وعجز عن دفعه قال: لا إله إلا الله ما أمرّ الزكام. فالصادق إذا غلب عليه الوجْد والحال وهاج من قلبه لواعج الشوق أخلد إلى السكون ما أمكنه فإن غُلِبَ أظهر ألماً ووجعاً يستر به حاله مع الله. فالصادقون يعملون على كتمان المعاني واجتناب الدعاوي، فظواهرهم ظواهر الناس وقلوبهم مع الحق تعالى، لا نلتفت عنه يَمْنة ولا يَسْرة، فهم في واد والناس في واد. إنتهى.

ويُذكر أن الإنسان يعمل العمل سراً بينه وبين الله فيُكتب بديوان السرّ فما يزال يذكره حتى يُكتب بديوان العلانية؛ ففي هذا التنبيه على الإخلاص وكتمان المعاني إلا لمصلحة كالإقتداء بالعامل ونحو ذلك مما يحسن فيه ذكر العمل.

عاقبة الإخلاص لله.

عاقبة الإخلاص لله قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تزيّن بما ليس فيه شانه الله). قال ابن القيم رحمه الله على كلام عمر: هذا شقيق كلام النبوة، وهو جدير بأن يخرج من مِشْكاة المحدَّث المُلْهَم، وهاتان الكلمتان من كنوز العلم ومَن أحسن الإنفاق منهما نفع غيره وانتفع غاية الانتفاع. فأما الكلمة الأولى فهي منبع الخير وأصله. والثاية أصل الشر وفصله. فإن العبد إذا خلصت نيته لله تعالى وكان قصده وهمّه عمله لوجهه سبحانه كان الله معه فإنه سبحانه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. ورأس التقوى والإحسان خلوص النية لله في إقامة الحق، والله سبحانه لا غالب له فمن كان معه فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوء؟

فإن كان الله مع العبد فمن يخاف؟ وإن لم يكن معه فمن يرجو؟ وبمن يتق؟ ومن ينصره من بعده؟ فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولاً وكان قيامه بالله ولله لم يقم له شيء ولو كادته السموات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها وجعل له فرجاً ومخرجاً. وإنما يُؤتى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة أو في اثنين منها أو في واحد. فمن كان قيامه في باطل لم يُنصر، وإن نُصر نصراً عارضاً فلا عاقبة له وهو مذموم مخذول. وإن قام في حق لكن لم يقم فيه لله وإنما قام لطلب المحمدة والشكور والجزاء من الخلق أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولاً والقيام في الحق وسيلة إليه، فهذا لم تُضمن له النصرة فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، لا لِمن كان قيامه لنفسه وهواه فإنه ليس من المتقين ولا من المحسنين، وإن نُصر فبحسب ما معه من الحق فإن الله لا ينصر إلا الحق، وإن كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر،

والصبر منصور أبداً فإن كان صاحبه مُحِقاً كان منصوراً له العاقبة، وإن كان مبطلاً لم يكن له عاقبة. وإذا قام العبد في الحق لله ولكن قام بنفسه وقوته ولم يقم بالله مستعيناً به متوكلاً عليه مفوضاً إليه بَرِياً من الحول والقوة إلا به فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك ونُكتة المسألة أن تجريد التوحيد في أمر الله لا يقوم له شيء البتة وصاحبه منصور ولو توالت عليه زمر الأعداء. وعن عائشة رضي الله عنها: (من أسخط الناس برضى الله عز وجل كفاه الله الناس ومن أرضى الناس بسخط الله وَكَلَه إلى الناس) إنتهى. قال ابن تيمية رحمه الله: وإذا أخلص العبد اجتباه ربه فأحيا قلبه، وجذبه إليه، بخلاف القلب الذي لم يخلص، فإن فيه طلباً وإرادة: تارة إلى الرئاسة فترضيه الكلمة ولو كانت باطلاً، وتغيظه ولو كانت حقاً، وتارة إلى الدرهم والدينار وأمثال ذلك فيتخذ إلهه هواه. ومَن لم يكن مخلصاً لله بحيث يكون أحب إليه مما سواه وإلا استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشياطين، وهذا أمر ضروري

لا حيلة فيه، فالقلب إن لم يكن حنيفاً وإلا كان مشركاً (فأقم وجهك للدين حنيفاً). وقال: وإذا أذاق طعم الإخلاص انقهر له هواه بلا علاج.

آفات الأعمال.

آفات الأعمال كم ممن يسير وقد يكون جاداً في سَيْره لكنه لا يبالي بمعالم الطريق وإنما هِمته منصرفة إلى أن يسير لا كيف يسير، وهذا الصنف عُرْضة لكل آفة حيث أن الطريق محفوف بالأخطار والقُطّاع. قال ابن القيم رحمه الله: وأما الاستقصاء في رؤية علل الأعمال فهو التفتيش عما يشوبها من حظوظ النفس وتمييز حق الرب منها من حظ النفس ولعل أكثرها أو كلها أن تكون حظاً لنفسك وأنت لا تشعر. فلا إله إلا الله، كم في النفوس من عِلل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة وأن تصل إليه. وإن العبد ليعمل العمل حيث لا يراه بشر البتة وهو غير خالص لله، ويعمل العمل والعيون قد استدارت عليه نطاقاً وهو خالص لوجه الله، ولا يميز هذا إلا أهل البصائر وأطبّاء القلوب العالمون بأدوائها وعِللها.

فبين العمل وبين القلب مسافة وفي تلك المسافة قُطّاع تمنع وصول العمل إلى القلب، فيكون الرجل كثير العمل وما وصل منه إلى قلبه محبة ولا خوف ولا رجاء ولا زهد في الدنيا ولا رغبة في الآخرة، ولا نور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه وبين الحق والباطل، فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه لاستنار وأشرق، ورأى الحق والباطل، وميّز بين أولياء الله وأعدائه، وأوجب له ذلك المزيد من الأحوال. ثم بين القلب وبين الرب مسافة وعليها قُطّاع تمنع وصول العمل إليه من كبر وإعجاب وإدْلال ورؤية عمل ونسيان المنّة وغير ذلك. إنتهى. تأمل هذا الكلام النفيس وقوله فيه: (ولا نور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه وبين الحق والباطل) وانظر أحوالنا وضعف الفرقان أو عدمه بين أولياء الله وأعدائه والتباس الحق بالباطل تعرف أن الفرقان الديني كاد أن يتلاشى ويضمحل من قلوب أكثر الخلق فيُخشى علينا من الأمرين جميعاً، ما بين العمل وبين القلب، وما بين القلب وبين الرب، وأين من يفقه قبل أن يقال: أين من يتفقد؟ إن الفقه في دين الله يوجب حالاً للعبد خاصة لا يرضاها أكثر الناس بل وينكرونها.

قال بعض السلف: لن تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في ذات الله ثم ترجع إلى نفسك فتكون لها أشد مقتاً (¬1) قال ابن القيم في شرح هذه العبارة: وهذا الكلام لا يفقه معناه إلا الفقيه في دين الله فإن من شهد حقيقة الخلق وعجزهم وضعفهم وتقصيرهم بل تفريطهم وإضاعتهم لِحق الله وإقبالهم على غيره، وبيعهم حظهم من الله بأبخس الثمن من هذا العاجل الفاني لم يجد بداً من مقتهم، ولا يمكنه غير ذلك ألبتة. ولكن إذا رجع إلى نفسه وحاله وتقصيره وكان على بصيرة من ذلك كان لنفسه أشد مقتاً واستهانة، فهذا هو الفقيه. ¬

_ (¬1) - تقدم هذا وأنه من كلام أبي الدرداء رضي الله عنه.

التخلص من رؤية العمل.

التخلص من رؤية العمل قال ابن القيم: يَعْرض للعامل في عمله ثلاث آفات رؤيته وملاحظته وطلب العوض عليه، ورضاه به وسكونه إليه. فالذي يخلّصه من رؤية عمله: مشاهدته لمنّة الله عليه وفضله وتوفيقه له، وأنه بالله لا بنفسه، وأنه إنما أوجب عمله مشيئة الله لا مشيئته هو كما قال تعالى: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). فهذا ينفعه شهود الجبر وأنه آلة محضه وأن فعله كحركات الأشجار، وهبوب الرياح، وأن المحرك له غيره، والفاعل فيه سواه، وأنه ميت والميت لا يفعل شيئاً، وأنه لو خُلّي ونفسه لم يكن من فعله الصالح شيء البتّة، فإن النفس جاهلة ظالمة، طبعها الكسل وإيثار الشهوات والبطالة، وهي منبع كل شر ومأوى كل سوء، وما كان هكذا لم يصدر منه خير ولا هو من شأنه.

فالخير الذي يصدر منها إنما هو من الله وبه، لا من العبد ولا به، كما قال تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ). (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ). فكل خير في العبد فهو مجرد فضل الله ومنته، وإحسانه ونعمته وهو المحمود عليه. فرؤية العبد لأعماله في الحقيقة كرؤيته لصفاته الخَلْقِيّة من سمعه وبصره وإدراكه وقوته، بل من صحته وسلامة أعضائه، ونحو ذلك، فالكل مجرد عطاء الله ونعمته وفضله. فالذي يخلص العبد من هذه الآفة معرفة ربة ومعرفة نفسه. إنتهى. تأمله فإن نفعه عظيم لإسقاط الإعجاب بالعمل ورؤيته بتوفيق الله. ورؤية العمل واستكثاره ذنب كما أن استقلال المعصية ذنب. قال ابن القيم رحمه الله: والعارف من صغرت حسناته في عينه وعظمت ذنوبه عنده، وكلما صغرت الحسنات في عينك كبرت عند الله، وكلما كبرت وعظمت في قلبك قلّت وصغرت عند الله، وسيئاتك بالعكس.

ومن عرف الله وحقه وما ينبغي لعظمته من العبودية تلاشت حسناته عنده وصغرت جداً في عينه، وعَلِم أنها ليست مما ينجو بها من عذابه وأن الذي يليق بعزته ويصلح له من العبودية أمر آخر وكلما استكثر منها استقلها واستصغرها، لأنه كلما استكثر منها فُتحت له أبواب المعرفة بالله والقرب منه فشاهد قلبه من عظمته سبحانه وجلاله ما يستصغر معه جميع أعماله ولو كانت أعمال الثقلين، وإذا كثرت في عينه وعظمت دلّ على أنه محجوب عن الله غير عارف به وبما ينبغي له. وبحسب هذه المعرفة ومعرفته بنفسه يستكثر ذنوبه وتعظم في عينه لمشاهدته الحق ومستحقه وتقصيره في القيام به وإيقاعه على الوجه اللائق الموافق لما يحبه الرب ويرضاه من كل وجه. إذا عُرف هذا فاستقلال العبد المعصية عين الجرأة على الله وجهل بقدر من عصاه وبقدر حقه، وإنما كان مبارزة لأنه إذا استصغر المعصية واستقلها هان عليه أمرها وخفّت على قلبه، وذلك نوع مبارزة. إنتهى. من هنا تعلم أنه قد يكون السير إلى وراء باستصغار المعصية واستكثار الطاعة، وهذا لا يصدر إلا من جهل بالنفس والرب.

التخلص من طلب العوض على العمل.

التخلص من طلب العوض على العمل قد تقدم الفرق بين ما سماه الله ثواباً وأجراً وبين معاوضات المخلوقين بعضهم مع بعض وأن العبد مملوك لله من كل وجه فما الذي يخرج عمله من ملك سيده؟ كيف وعمل العبد الصالح أعظم مِنّة ونعمة منّ بها وأنعم بها عليه. وهنا قال ابن القيم: والذي يخلصه من طلب العِوَض على العمل: علمه بأنه عبد محض، والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضاً ولا أجرة، إذ هو يخدمه بمقتضى عبوديته، فما يناله من سيده من الأجر والثواب تفضل منه، وإحسان إليه، وإنعام عليه لا معاوضة إذ الأجرة إنما يستحقها الحر، أو عبد الغير، فأما عبد السيد نفسه فلا.

التخلص من الرضى بالعمل والسكون إليه.

التخلص من الرضى بالعمل والسكون إليه الرضى بالعمل والسكون إليه يجعل أرض القلب تربة خصيبة لننمو نبات الإعجاب والكبر والدعاوي، والموفق يستعمل هذه الأدوية التي يصفها أطباء القلوب ليزكو عمله ويتخفف من الذنوب، فقد يكون بالإنسان الذي يرى نفسه تقياً نقياً من الكبائر الباطنة ما هو أشد من الكبائر الظاهرة، نسأل الله أن يتوب علينا. قال ابن القيم في هذه الآفة: والذي يخلّصه من رضاه بعمله وسكونه إليه أمران: أحدهما: مطالعة عيوبه وآفاته وتقصيره فيه وما فيه من حظ النفس ونصيب الشيطان. فقلّ عمل من الأعمال إلا وللشيطان فيه نصيب وإن قلّ وللنفس فيه حظ، سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في صلاته؟ فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد).

فإذا كان هذا التفات طَرْفه أو لحظِه فكيف التفات قلبه إلى ما سوى الله؟ هذا أعظم نصيب الشيطان من العبودية. وأما حظ النفس من العمل فلا يعرفه إلا أهل البصائر الصادقون. الثاني: علمه بما يستحقه الرب جل جلاله من حقوق العبودية وآدابها الظاهرة والباطنة وشروطها، وأن العبد أضعف وأعجز وأقلّ من أن يوفيها حقها وأن يرضى بها لربه. فالعارف لا يرضى بشيء من عمله لربه ولا يرضى نفسه لله طرفة عين، ويستحيي من مقابلة الله بعمله. فَسوء ظنه بنفسه وعمله وبغضه لها وكراهته لإنفاسه وصعودها إلى الله يحول بينه وبين الرضى بعمله والرضى عن نفسه. وكان بعض السلف يصلي في اليوم والليلة أربعمائة ركعة ثم يقبض على لحيته ويهزها ويقول لنفسه: يا مأوى كل سوء وهل رضيتك لله طرفة عين؟ وقال بعضهم: آفة العبد رضاه عن نفسه، ومن نظر إلى نفسه باستحسان شيء منها فقد أهلكها، ومن لم يتّهم نفسه على دوام الأوقات فهو مغرور. إنتهى.

تدبره فما أنفعه لشفاء القلب فإن رؤية العمل وطلب العوض عليه والرضى به آفات ما زال أرباب السلوك الصادقين يعرفونها بنفوسهم وفي غيرهم ولذلك وصفوا هذه الوصفات التي تزيلها أو تخفف منها بإذن الله. ولاحظ هنا قوله رحمه الله: (وأما حظ النفس من العمل فلا يعرفه إلا أهل البصائر الصادقون) مثل طلب حمد الناس ومدحهم والهرب من ذمهم وطلب الرئاسة وتسمى: الشهوة الخفية حيث قد تخفى على من اشتمل بها، وقد ذكر أهل العلم أن الإنسان قد يزهد بالذهب والفضة ولا يزهد بالرئاسة. وما زال أرباب البصائر أهل المعرفة بالله وبنفوسهم يخافون هذا الداء الخفي، لأن التعلق بالخلق طلباً لتعظيمهم للعبد ومدحهم له يقطع عن الله حيث أن القلب تعلّق بغير مُتَعلّقه الحق وانحرف عن مسيره وصار يُثامن الخلق بطاعاته لحظّ نفسه، فهو يتطلب العِوَض عليها منهم ويستشرف قلبه لذلك، ويتفرع من هذا البلاء فروع خبيثة، منها الميل إلى من يعظمه وإن كان من أهل المعاصي الظاهرة وإن كان من لا يعظمه أطْوَع لله منه فيفضل ذاك عليه ومنها التغاضي

عن منكرات من يعظمه وتهوينها، وغير ذلك من الآفات المفسدة لإخلاص العبد. وبعض الناس قد يظن أن دواء ما يخافه على نفسه من الغلو والتعظيم للمعظمين إساءة الأدب وعدم الإحترام، يُصور له الشيطان هذه الأدواء التي يوقِعه فيها بأنها علامة الإخلاص ومراده أن يجعله في حالة مُزْرية يُمْقت عليها ويثقل على الثقلاء فضلاً عمن روحه لطيفة لا تحتمل. ففرق بين الغلو المذموم والتعظيم الزائد وبين الأدب وإنزال الناس منازلهم.

الخوف.

الخوف من الأمور التي لا تخفى أن الخوف في عصرنا كاد أن يذهب من القلوب وما ذاك إلا لتراكم الخطايا والذنوب، والجهل بنفوسنا وبربنا وحقه، وما كان على هذا سلف الأمة ففي المسند والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، قول الله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: (لا يا ابنة الصّدّيق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يُقبل منه). قال الحسن: عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جَمَع إحساناً وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمناً. هذه الآية وبيان النبي صلى الله عليه وسلم لمعناها وكلام الحسن يدل على أن الخوف فقارن للإيمان والأمن مقارن للإساءة، وإن من يتفقد الخوف اليوم في نفسه وفي غيره ليخاف إن كان مؤمناً من عدم الخوف، حتى الآيات العامة التي يُخوِّف الله بها العباد مثل الزلازل والكسوف

والأوبئة المخيفة، كل هذا يُحال إلى أسباب طبيعية مفصولة عن مسببها المكوّن لها ولأسبابها، وهذا نذير شر؛ ثم إنه لا يتغير شيء في أحوال الناس سواء من رأى الآيات بعينه ومن سمع بها فكل شيء على حاله وقد قال تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً) وإذا لم تكن ثمرة التخويف تغيّر الأحوال مما يسخط الله إلى ما يرضيه وإلا يكون لنا نصيب من قوله تعالى: (وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ) (وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ). قال ابن القيم رحمه الله: الخوف من أجلّ منازل الطريق وأنفعها للقلب، وهو فرض على كل أحد. قال الله تعالى: (فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ) وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ) الآيات. قال الجنيد: الخوف توقع العقوبة على مجاري الأنفاس. وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية) وفي رواية (خوفاً). قال أبو حفص: الخوف سَوْط الله يقوِّم به الشاردين عن بابه.

وقال: الخوف سراج في القلب به يبصر ما فيه من الخير والشر وكل أحد إذا خِفته هربت منه إلا الله عز وجل فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه. قال أبو سليمان الداراني: ما فارق الخوف قلباً إلا خَرَب. وقال إبراهيم بن سفيان: إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها. وقال ذو النون: الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق. والخوف ليس مقصوداً لذاته بل هو مقصود لغيره قصد الوسائل ولهذا يزول بزوال المخوف، فإن أهل الجنة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله عز وجل فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط. ثم قال ابن القيم: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله. وقال ابن القيم: فكم من مغبوط بحاله انعكس عليه الحال، ورجع من حسن المعاملة إلى قبيح الأعمال، فأصبج يُقلّب كفّيه

ويضرب باليمين على الشمال، بينما بَدْرُ أحواله مستنيراً في ليالي التمام، إذ أصابه الكسوف فدخل في الظلام. فَبُدِّل بالأنس وحشة، وبالحضور غَيْبَة، وبالإقبال إعراضاً، وبالتقريب إبعاداً وبالجمع تَفْرقة كما قيل: أحسنت ظنّك بالأيام إذ حسنت ... ولم تَخَفْ سوء ما يأتي به القدر ... وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر إن القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر. فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سَلِم الرأس والجناحان فالطائر جيّد الطيران ومتى قُطع الرأس مات الطائر ومتى فُقِد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر، ولكن السلف استحبوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناح الخوف. فالمحبة هي المركب، والرجاء حاد، والخوف سائق، والله الموصل بمنه وكرمه.

الرجاء.

الرجاء تعلق الرجاء بالله من حيث اسمه (المحسن البر) فذلك التعلق والتعبد بهذا الاسم والمعرفة بالله: هو الذي أوجب للعبد الرجاء من حيث يدري ومن حيث لا يدري. فقوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته، وغلبت رحمتُه غضبَه. ولولا روح الرجاء لتعطلت عبودية القلب والجوارح وهدّمت مساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، بل لولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة، ولولا ريحه الطيبة لما جرَتْ سفن الأعمال في بحر الإرادات. لولا التعلق بالرجاء تقطعت ... نفس المحب تحسّراً وتمزقا ... وكذاك لولا بَرْدُهُ بحرارة الـ ... أكباد ذابت بالحجاب تحرّقا ... أيكون قطّ حليف حب لا يُرى ... برجائه لحبيبه متعلقا ... أم كلما قَوِيَت محبته له ... قوي الرجاء فزاد فيه تشوقا ... لولا الرجا يحدو المطيّ لما سرت ... بحُمولها لديارهم ترجو اللقا

وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء، فكل محب راج خائف بالضرورة، فهو أرجى ما يكون لحبيبه أحب ما يكون إليه وكذلك خوفه، فإنه يخاف سقوطه من عينه، وطرد محبوبه له وإبعاده، واحتجابه عنه، فخوفه أشد خوف، ورجاؤه ذاتي للمحبة فإنه يرجوه قبل لقائه والوصول إليه، فإذا لقيه ووصل إليه اشتد الرجاء له لما يحصل له به من حياة روحه ونعيم قلبه من ألطاف محبوبه وبره وإقباله عليه ونظره إليه بعين الرضى وتأهيله في محبته، وغير ذلك مما لا حياة للمحب ولا نعيم ولا فوز إلا بوصوله إليه من محبوبه، فرجاؤه أعظم رجاء وأجلّه وأتمه. فتأمل هذا الموضع حق التأمل يُطْلعك على أسرار عظيمة من أسرار العبودية والمحبة، فكل محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه لكن خوف المحب لا يصحبه وحْشة، بخلاف خوف المسيء، ورجاء المحب لا يصحبه عِلّة بخلاف رجاء الأجير، وأين رجاء المحب من رجاء الأجير؟ وبينهما كما بين حالهما. وبالجملة فالرجاء ضروري للمريد السالك، والعارف لو فارقه لحظة لتلِف أو كاد، فإنه دائر بين ذنب يرجو غفرانه، وعيب يرجو

إصلاحه، وعمل صالح يرجو قبوله، واستقامة يرجو حصولها ودوامها، وقرب من الله ومنزلة عنده يرجو وصوله إليها، ولا ينفك أحد من السالكين عن هذه الأمور أو بعضها.

الكرامة والإستقامة.

الكرامة والاستقامة قد تتطلّع بعض النفوس الجاهلة إلى حصول كرامة من الكرامات بما يخرق العادة المطّردة في السنن الكونية، فهذا للنفوس فيه تعلّق كبير. وإنما ينبني هذا التطلع على أمرين: أحدهما: جهل العبد بربه وبنفسه، ولو عرف ربه ونفسه كما ينبغي لم يخطر بباله مثل هذا فضلاً عن أن يطلبه أو يتعرض له، وفي هذا الكتاب بعض التعريفات بهذين الأصلين العظيمين مما يجعل العبد الموفق يستحيي من ربه بل ويخاف أن يخطر بباله مثل هذا لِعلمه بعظم حق الله عليه وأنه لا يقدر على تأديته ولعلمه بنفسه الظلومة الجهولة كيف واللفظ نفسه يُفْهم معنى التكريم بالخارق ومن رأى أنه يستحق التكريم من ربه فهو جاهل بربه وبنفسه، قد لبس من الإعجاب إزاراً ورداءاً. الثاني: تعظيم شأن الكرامة ومن تحصل له أو تجري على يديه وهذا جهل أيضاً لأنها قد تحصل لمن هو أضعف إيماناُ ممن لم تحصل له

ويشبه هذا من بعض الوجوه إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم المال الكثير لقوم إيمانهم ضعيف يتألّف قلوبهم مع أن من لم يعطهم أو يعطيهم عطاء أقلّ من أولئك أحب إليه لقوة إيمانهم. والمراد هنا أن الكمال انصراف القلب عن التطلّع لمثل التصرف في الكوْنيات على ما يخالف العادات. وقد يحصل لمن يُبتلى بذلك من الإعجاب بنفسه وظنه أنه أهل لذلك لِخير في نفسه يستحق به ذلك ما يفسد عمله، وقد يحطّه كثيراً عن مقام الإستقامة فحسبك بالإعجاب ورؤية النفس شراً. ولذلك فإن العارفين بالله لا يطمئنون لمثل ذلك لو حصل لهم فضلاً عن أن يطلبوه، وبعضهم يدعو الله بزوال ذلك خشية فساد قلبه ومعاملته مع ربه. وقد بقي شيء واحد؛ وهو أن تطلّع النفس لخرق عادة في الهداية الخاصة والعامة فاعلم أن هذا مقام الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم على الحقيقة ومفتاح هذا التوكل الصادق مع الإستقامة، فإن القلوب ليس يتصرف فيها غير خالقها فهو مقلبها من ضلال إلى هدى ومن هدى إلى ضلال.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة. انتهى. فتأمل حسن التطلّع والتشوّق وكمال الإرادة، فالكرامة لزوم الإستقامة حتى الموت وهي أعظم منّة الله على عبده وأجلّ نعمه عليه. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ). قال عمر رضي الله عنه: الإستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ رَوَغان الثعالب. قال ابن القيم: فالإستقامة كلمة جامعة آخذه بمجامع الدين وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد، والإستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات، فالإستقامة فيها وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله. يريد بوقوعها لله: الإخلاص، وبالله الإستعانة وعلى أمر الله لزوم الشريعة.

قال بعض العارفين: كن صاحب الإستقامة لا طالب الكرامة فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة وربك يطالبك بالإستقامة. إنتهى. والموصل للإستقامة شيئان ذكرهما شيخ الإسلام، وهما: أحدهما: حراسة الخواطر وحفظها من الأفكار والإرادات الضارة حياء من الله وإجلالاً له وخوفاً من سقوطه من عينه وحذراً من تولّد الخواطر بالشرور. والثاني: إشغال القلب بخواطر الإيمان التي هي أصل الخير ومادته من المحبة والإنابة والتوكل ومحبة الخير للمسلمين ونحوها. ومن أبلغ ما تحصل به الإستقامة صدق التأهّب للقاء الله ... إنتهى. ومن أعظم ما يعين بإذن الله على حراسة الخواطر وحفظها من الأفكار والإرادات الضارة غض البصر عن الصور الفاتنة ففي ذلك من النفع ما لا يُقدّر كما أن في إطلاق النظر من الضرر ما لا يُقدّر فالحذر الحذر من مكامن الخطر.

التوكل.

التوكل شأن التوكل عظيم وأمره كبير ويكفيك أنه نصف الدين. قال ابن القيم رحمه الله: التوكل نصف الدين والنصف الثاني: الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الإستعانة، والإنابة هي العبادة. وأولياء الله وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان ونصرة دينه وإعلاء كلمته وجهاد أعدائه وفي محابّه وتنفيذ أوامره، وهذا أوسع التوكل وأنفعه وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكل ورثتهم. إنتهى. الإيمان بالقدر عن علم ومعرفة هو مفتاح باب التوكل إذ لا يُتصوَّر التوكل ممن يظن أنه يخلق أفعال نفسه كحال القدرية. والقدر أربع مراتب: (العلم) و (الإرادة) و (الكتابة) وهذه المراتب الثلاث سابقة لمرتبة (الإيجاد والخلق) والتي تحصل في وقتها، يعني في وقت خلق المخلوق نفسه.

فالله سبحانه عالم بما يريد إيجاده من العدم وهو كل شيء مريد لذلك باختياره وقد كتبه في اللوح المحفوط، أما المخلوق فيخلقه في حينه كما يخلق سبحانه الآن كتابتي هذه الأحرف، وأنت أيها القارئ لها يخلق قراءتك وأنت تقرأ وهذا متأخر عن كتابتي وإنما وُجد في حينه. وعلى هذا قياس خلق المخلوقات كلها لكن المراد هنا المرتبة الرابعة وهي: خلق أفعال العباد، ليسهل التوكل وعمل القلب على مقتضاه لأنه عمل قلبي، وهو نتيجة اعتقاد العبد أن كل ما سوى الله سبحانه مخلوق له، وليس المراد فقط أنه خلق ذات المخلوقات حتى يتوهم الجاهل أنه يخلق فعل نفسه أو يشارك ربه في ذلك بل إنه سبحانه لم يزل يخلق المخلوقات وأفعالها يحرك المتحرك، ويسكن الساكن سواء العالم العلوي أو السفلي. وقد قيل في التوكل: هو ترك تدبير النفس والإنخلاع من الحول والقوة؛ وإنما يقوى العبد على التوكل إذا علم أن الحق سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه. وقيل فيه: التوكل أن ترِدَ عليك موارد الفاقات فلا تسمو إلا إلى من إليه الكفايات.

وقالوا: التوكل على الله بكمال الحقيقة كما وقع لإبراهيم الخليل عليه السلام في الوقت الذي قال لجبريل: (أما إليك فلا) لأنه غائب عن نفسه بالله فلم ير مع الله غيره. والتوكل لا ينافي القيام بالأسباب، فلا يصح التوكل إلا مع القيام بها وإلا فهو بطالة وتوكل فاسد. والتوكل إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية، يعني استرسالها مع الأمر وقيامها بالطاعة وبراءتها من حولها وقوتها وشهود حصول المدعو به فلا تعطل الأسباب من أجله كما أن الأكل سبب بحصول الشِّيَع والشرب بحصول الرّي. وحال المتوكل كالطفل الرضيع في اعتماده وسكونه وطمأنينته بثدي أمه لا يعرف غيره وليس في قلبه التفات إلى غيره. قال ابن القيم: وكثير من المتوكلين يكون مغبوناً في توكله وقد توكل حقيقة التوكل وهو مغبون، كمن صرف توكله إلى حاجة جزئية استفرغ فيها قوة توكله، ويمكنه نيْلها بأيْسر شيء، وتفريغ قلبه للتوكل في زيادة الإيمان والعلم ونصرة الدين والتأثير في العالم خيراً.

فهذا توكل العاجز القاصر الهمة كما يصرف بعضهم همته وتوكله ودعاءه إلى وجع يمكن مداواته بأدنى شيء أو جوع يمكن زواله بنصف رغيف أو نصف درهم ويدع صرفه إلى نصرة الدين وقمع المبتدعين وزيادة الإيمان ومصالح المسلمين. والله أعلم. وحقيقة التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة. قال سعيد بن جبير: التوكل جماع الإيمان. وقال وهب بن منبه: الغاية القصوى التوكل. وتأمل الآن هذا الكلام في معرفة خلق أفعال العباد والتوكل. قال ابن القيم رحمه الله: والرب تعالى يريد من عبده أن يفعل ولا يقع الفعل حتى يريد سبحانه من نفسه أن يعينه كما قال تعالى: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). فهو سبحانه أراد منا الإستقامة دائماً واتخذ السبيل إليه وأخبرنا أن هذا المراد لا يقع حتى يريد من نفسه إعانتنا عليه ومشيئتها لنا. فهما إرادتان: إرادة من عبده أن يفعل وإرادته من نفسه أن يعينه ولا سبيل له إلى الفعل إلا بهذه الإرادة ولا يملك منها شيئاً.

فإن كان مع العبد روح أخرى نسبتها إلى روحه كنسبة روحه إلى بدنه تستدعي بها إرادة الله من نفسه أن يفعل به ما يكون به العبد فاعلاً وإلا فمحله غير قابل للعطاء وليس معه إناء يوضع فيه العطاء، فمن جاء بغير إناء رجع بالحرمان ولا يلومن إلا نفسه. وتوكيل العبد ربه تفويضه إليه وعزل نفسه عن التصرف وإثباته لأهله ووليّه. ولهذا قيل في التوكل: إنه عزل النفس عن الربوبية وقيامها بالعبودية، وهذا معنى كون الرب وكيل عبده أي كافيه والقائم بأموره ومصالحه لأنه نائبه في التصرف. وعِلم العبد بتفرد الحق تعالى وحده بملك الأشياء كلها وأنه ليس له مشارك في ذرّة من ذرات الكون من أقوى أسباب توكله وأعظم دواعيه. فإذا تحقق ذلك علماً ومعرفة وباشر قلبه حالاً لم يجد أبداً من اعتماد قلبه على الحق وحده وثقته به وسكونه إليه وحده وطمأنينته به وحده لعلمه أن حاجاته وفاقاته وضروراته وجميع مصالحه كلها بيده وحده لا بيد غيره، فأين يجد قلبه مناصاً من التوكل بعد هذا؟

وفي صحيح البخاري رحمه الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قرأت في التوراة صفة النبي صلى الله عليه وسلم: محمد رسول الله سمّيته المتوكل. الحديث. وأخبر عن رسله بأن حالهم كان التوكل، وبه انتصروا على قومهم. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم أهل مقام التوكل. وقد يظن الظان أنالتوكل مقصور على معلوم الرزق وقوة البدن وصحة الجسم ولا ريب أن هذا اتلوكل ناقص بالنسبة إلى التوكل في إقامة الدين والدعوة إلى الله .. ثم ليعلم العبد أنه لا يملك قبل علمه استطاعة فلا يأمن من مكر ولا يَيْأس من معونة ولا يُعوّل على نيّة. قال ابن القيم على هذه الأربع الاستطاعة والمكر والمعونة والنية أي يتحقق أن استطاعته بيد الله لا بيده فهو مالكها دونه، فإنه إن لم يُعطِه الاستطاعة فهو عاجز، فهو لا يتحرك إلا بالله لا بنفسه فكيف يأمن المكر وهو مُحَرَّك لا مُحَرِّك؟.

يحركه من حركته بيده فإن شاء ثبّطه وأقعده مع القاعدين كما قال فيمن مَنَعَهُ هذا التوفيق: (وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ). فهذا مكر الله بالعبد: أن يقطع عنه مواد توفيقه ويخلي بينه وبين نفسه ولا يبعث دواعيه ولا يحركه إلى مراضيه ومحابّه، وليس هذا حقاً على الله فيكون ظالماً بمنعه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل هو مجرد فضله الذي يحمد على بذله لمن بذله له وعلى منعه لمن منعه إياه، فله الحمد وعلى هذا وهذا. ومن فَهِم هذا فَهِم باباً عظيماً من سر القدر وانجلت له إشكالات كثيرة. (¬1) فهو سبحانه لا يريد من نفسه فعلاً يفعله بعبده يقع منه ما يحبه ويرضاه، فيمنعه فعل نفسه به وهو توفيقه لا أنه يكرهه ويقهره على فعل مساخطه، بل يَكِلْه إلى نفسه وحَوْله وقوته ويتخلى عنه، فهذا هو المكر. ¬

_ (¬1) - كتبت في القدر كتاباً هو: (نور البصيرة والبصر في مسائل القضاء والقدر). وقد طُبع آنفاً بحمد الله عز وجل.

أما أنه لا ييأس من معونة فيعني أنه إذا كان المحرِّك له هو الرب جل جلاله وهو أقدر القادرين وهو الذي تفرّد بخلقه رزقه وهو أرحم الراحمين، فكيف ييأس من معونته له؟ أما أنه لا يُعوِّل على نية فمعناه أن لا يعتمد على نيته وعزمه ويثق بها فإن نيته وعزمه بيد الله تعالى لا بيده، وهي إلى الله لا إليه، فلتكن ثقته بمن هي في يده حقاً لا بمن هي جارية عليه حكماً. إنتهى. وحيث أنه يخطر على بال الإنسان الإضلال السابق فهنا يقول ابن القيم: وأما الإضلال السابق الذي ضَلّ به عن قبول الإهتداء فهو إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى ولا يليق به وأن محلّه غير قابل له، فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه. إنتهى. كلامه رحمه الله المتقدم عن المكر وأنه قطع مواد توفيق الله عن عبده وتخْليته بينه وبين نفسه وكون الرب سبحانه لا يبعث دواعيه ولا يحركه إلى مراضيه ومحابّه هو الخذلان. والمعنى أن نفس العبد خلقها الرب متحركة بالإرادة فإذا لم يحركها بتوفيقه وما يرضيه فليس معناه أن لا تتحرك أو تُحرِّك نفسها بل يحرِّكها خالقها وخالق أفعالها لكن يحركها مخذولة ممكور بها

وذلك بأن يَكِلَ العبد إلى نفسه وهو ظلوم جهول لا يمكن أن يصدر منه خيراً قط إلا بتوفيق خالقه وخالق أفعاله، فهذا هو الخذلان، وتقدم بيان أن التوفيق أن لا يكلك الله إلى نفسك، والخذلان أن يكلك الله إلى نفسك. ولا يتأتى التوكل ممن لا يعرف القدر ويشهد حركات العالَم وسكونه صادرة عن الحق تعالى في كل متحرك وساكن. ومما يوضح ما تقدم من الكلام في التوكل الذي هو نصف الدين ويبين القدر أيضاً الذي هو الركن السادس من أركان الإيمان وهو نظام التوحيد كما قال ابن عباس رضي الله عنهما مما يوضح ذلك ما قاله ابن القيم رحمه الله عن الذين يتعبدون ممن نقص توكلهم يقول عن هؤلاء أن لهم عبادات وأوراد ولكن حظهم ناقص من التوكل والإستعانة، لم تتّسِع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر وتلاشيها في ضمنه وقيامها به وأنها بدون القدر كالموات الذي لا تأثير له بل كالعدم الذي لا وجود له وأن القدر كالروح المحرّك لها والمعوّل على المحرك الأول. إنتهى. تأمله في نفسك وفي غيرك واعلم أنه لا يتسع القلب لارتباط الأسباب بالقدر وأنها تتلاشى في ضمنه ولا تقوم إلا به إلا أن يوفق

الله العبد فيلقي بقلبه نوراً يبصر به هذا الأمر حقيقة وحالاً لا علماً فقط فإنه فرق بين العلم والحال المقارنة وبين العلم المجرّد عن الحال. وانظر كيف أن أسبابنا التي هي حركاتنا وسكناتنا روحها هو القدر الفاعل إذ هي بدونه مَوَات وعدم يظهر لك عظم شأن التوكل وكونه نصف الدين. ثم قال رحمه الله: فلم تنفذ بصائرهم من المتحرك إلى المحرّك ومن السبب إلى المسبِّب ومن الآلة إلى الفاعل، فضعفت عزائمهم وقصرت هممهم فقل نصيبهم من (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ولم يجدوا ذوْق التعبد بالتوكل والاستعانة وإن وجدوا ذوْقه بالأوراد والوظائف. انتهى. المحرِّك هو القدَر وهو قدرة الله عز وجل، والمتحرك هو المخلوق وهو الآلة، والفاعل هو القدر، فشهود هذه الأحوال بالبصيرة يوجب التوكل. ثم قال: فهؤلاء لهم نصيب من التوفيق والنفوذ والتأثير بحسب استعانتهم وتوكلهم، ولهم من الخذلان والضعف والمهانة والعجز بحسب قلّة استعانتهم وتوكلهم.

ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه وكان مأموراً بإزالته لأزالَه. فإن قلت: فما معنى التوكل والإستعانة؟ قلت: هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله والإيمان بتفرّده بالخلق والتدبير والضر والنفع والعطاء والمنع وأنه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس، فيوجب له هذا اعتماداً عليه وتفويضاً إليه وطمأنينة به وثقة به ويقيناً بكفايته لما توكل عليه فيه وأنه مَلِيٌّ به ولا يكون إلا بمشيئته شاء الله أم أبَوْه. إنتهى. هذه الحال التي تكون للقلب ولا تحصل إلا بإحكام معرفة القَدَر وقد كتب فيه ابن القيم رحمه الله كتاباً في غاية النفاسة وبيّن مع القدر ومراتبه حكمة الإله العظيم فيما خلق وتعليل أفعاله سبحانه والكتاب هو: (شفاء العليل في مسائل القضار والقدر والحكمة والتعليل) وفيه الرد على من نفى حكمة الإله وإثبات الحكمة في كل ما خلق لا يخرج عن ذلك مثقال ذرة في الكون وفيه الرد على من لا يجعل عِلّة لأفعال الرب سبحانه ومن يشبّه أفعاله بأفعال المخلوقين، وفيه مناظرات بين أهل السنة وبعض طوائف الضلال مثل القدرية

والجبرية ينجلي للناظر فيها حسن وكمال مذهب السُّني في القدَر ولوازمه، وفي الكتاب غير هذا الكنوز مما لا يوجد في غيره فقدّس الله روح هذا الإمام وشيخه ورضي الله عنهما وجميع علماء المسلمين الذين حَمَوا هذا الدين ودافعوا عنه وأظهروا من جماله وكماله وحسنه ما وفقهم الله إليه مما خصّهم به. لقد بين رحمه الله في ذلك الكتاب ما قد تحارّ به العقول مثل تقدير الشرور وخلق من فيه شر وعذاب الكفار كل ذلك وغيره بينه أحسن بيان وأنه صادر عن حكيم في كل ما خلق. ثم قال رحمه الله يصف حال المتوكل الصادق لا ما نقوله بألسنتا عادة ودعوى: فتُشبه حالته حالة الطفل مع أبويه فيما ينوبه من رغبة ورهبة هما مَلِيَّان بهما. فانظر في تجرّد قلبه عن الإلتفات إلى غير أبَوَيْه وحبْس همّه على إنزال ما يَنوبُه بهما. فهذه حال المتوكل ومن كان هكذا مع الله فالله كافيه ولا بد، قال الله تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي كافيه و (الحسْب) الكافي فإن كان مع هذا من أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة. إنتهى.

تأثير المعاصي والطاعات على العبد.

تأثير المعاصي والطاعات على العبد قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى). ذكر ابن القيم رحمه الله أن المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ، قال: فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزله فله من ضيق الصدر ونكد العيش وكثرة الخوف وشدة الحرص والتعب على الدنيا والتحسّر على فواتها قبل حصولها وبعد حصولها والآلام التي في خلال ذلك ما لا يُشعر به القلب لسكرته وانغماسه في السكر. انتهى. أنظر كيف كانت هذه الآلام وحصلت والقلب لا يُشعر بها لسكرته وليست هذه سكرة الخمر وإنما هي سكرة حب الدنيا واتباع الهوى والمعاصي والغفلة عن الله والدار الآخرة والجهل بحق الله على عبده، وقد يصحب هذه الآفات سكر الخمر ونحوه. ثم قال: فهو لا يصحو ساعة إلا أحسّ وشعر بهذا الألم فبادر إلى إزالته بسكر ثان، فهو هكذا مدة حياته، وأي عيشة أضيق من هذه لو كان للقلب شعور؟.

فقلوب أهل البدع والمعرضين عن القرآن وأهل الغفلة عن الله وأهل المعاصي في جحيم قبل الجحيم الأكبر، وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) هذا في دورهم الثلاث ليس مختصاً بالدار الآخرة، وإن كان تمامه وظهوره إنما هو في الدار الآخرة وفي البرزخ دون ذلك، وفي هذه الدار دون ما في البرزخ ولكن يمنع من الإحساس به الاستغراق في سكرة الشهوات وطرح ذلك عن القلب وعدم التفكّر فيه. وقد جعل الله سبحانه للحسنات والطاعات آثاراً محبوبة لذيذة طيبة، لذّتها فوق لذة المعصية بأضعاف مضاعفة لا نسبة لها إليها، وجعل للسيئات والمعاصي آلاماً وآثاراً مكروهة وحزازات تُرْبي على لذة تناولها بأضعاف مضاعفة، فما حصل للعبد حال مكروهة قط إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر، فكل نقص وبلاء وشر في الدنيا والآخرة فسببه الذنوب ومخالفة أوامر الرب، فليس في العالم شر قط إلا الذنوب وموجباتها. وآثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان والأموال أمر مشهود في العالَم لا ينكره ذو عقل سليم بل يعرفه المؤمن والكافر والبر والفاجر.

وشهود العبد هذا في نفسه وفي غيره وتأمله ومطالعته مما يقوي إيمانه بما جاءت به الرسل وبالثواب والعقاب فإن هذا عدل مشهود محسوس في هذا العالَم ومثوبات وعقوبات عاجلة دالة على ما هو أعظم منها لمن كانت له بصيرة. فالذنوب مثل السموم مضرة بالذات، فإن تداركها من سَقْي بالأدوية المقاومة لها وإلا قَهَرَتْ القوة الإيمانية وكان الهلاك كما قال بعض السلف: (المعاصي يريد الكفر كما أن الحُمّى يريد الموت) فشهود العبد نقص حاله إذا عصى ربه وتقير القلوب عليه وجُفُولها منه واسنداد الأبواب في وجهه وتوعّر المسالك عليه وهوانه على أهل بيته وأولاده وزوجته وإخوانه وتطلّبه ذلك حتى يعلم من أين أُتي، ووقوعه على السبب الموجب لذلك مما يُقوي إيمانه. فإن أقلع وباشر الأسباب التي تفضي به إلى ضد هذه الحال رأى العز بعد الذل والغنى بعد الفقر والسرور بعد الحزن والأمن بعد الخوف والقوة في قلبه بعد ضعفه ووهنه ازداد إيماناُ مع إيمانه فتقوة شواهد الإيمان في قلبه وبراهينه وأدلته في حال معصيته وطاعته، فهذا من الذين قال الله فيهم: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ). إنتهى.

وإليك هذا المثل الذي يوضح كلام ابن القيم السابق: بينما المسيح عليه السلام في رهط من الحواريين بين نهر جار وحيّة منتنة إذ أقبل طائر حسن اللون يتلون كأنما هو الذهب فوقع قريباً فانتفض فسلخ عنه مسكه فإذا هو أقبح شيء منظراً، أُقَيْرع أُحَيْمر كأقبح ما يكون، فأتى بِرْكة فتلوّث في حمأتها فخرج أسوداً قبيحاً. فاستقبل جرية الماء فاغتسل ثم عاد إلى مسلاخه فلبسه، فعاد إليه حسنه وجماله حين رجع إلى مسكه فتدرّعه كما كان أول مرة. فكذلك عامل الخطيئة حين يخرج من دينه ويكون في الخطايا وكذلك مثل التوبة كمثل اغتساله من النِّتْن في النهر ثم راجع دينه حتى تدرّع مسكه. فقال عيسى عليه السلام: إن هذا بُعث لكم آية، إن مثل هذا كمثل المؤمن إذا تلوّث في الذنوب والخطايا نُزع منه حسنه وجماله وإذا تاب إلى الله عاد إليه حسنه وجماله، وقد كتبت ما يوضح هذا في نسخة (دش ودين كيف يجتمعان؟!) والمراد هنا تأثير المعاصي والطاعات على العبد باطناً وظاهراً لا أن ذلك مخصوص فقط بالثواب والعقاب الأخروي.

مدح الناس لا يزين وذمهم لا يشين.

مدح الناس لا يزين وذمهم لا يشين قال ابن القيم: إذا تمكن العبد من عبوديته لربه عز وجل ارتفعت همّته وعلت نفسه عن خطفات المدح والذم، فلا يفرح بمدح الناس ولا يحزن لذمّهم. هذا وصف من خرج عن حظ نفسه وتأهّل للفناء في عبودية ربه، وصار قلبه مَطْرحاً لأشعة أنوار الأسماء والصفات، وباشر حلاوة الإيمان واليقين قلبه. والوقوف عند مدح الناس وذمّهم علامة انقطاع القلب وخُلُوِّه من الله، وأنه لم تباشره روح محبته ومعرفته، ولم يذق حلاوة التعلق به والطمأنينة إليه. لا يجتمع (الإخلاص) في القلب و (محبة المدح والثناء) و (الطمع فيما عند الناس) إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت.

فإذا حدّثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على (الطمع) أولاً فاذبحه بسكين اليأس وأقبل على (المدح والثناء) فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة. فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سَهُل عليك الإخلاص. فإن قلت: وما الذي يُسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقيناً أنه ليس من شيء يُطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره، ولا يؤتي العبد منها شيئاً سواه. وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمّه ويشين، إلا الله وحده كما قال ذلك الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم إن مدحي زين وذمي شين، فقال: ذلك الله عز وجل، فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذم من لا يشينك ذمه، وارغب في مدح من كل الزين في مدحه وكل الشين في ذمه، ولن تقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب، قال تعالى:

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ).

النفس جبل عظيم شاق في طريق العبودية.

النفس جبل عظيم شاق في طريق العبودية وقال ابن القيم: النفس حجاب بين العبد وبين الله لا يصل إلى الله حتى يقطع هذا الحجاب، وهي جبل عظيم شاق في طريق السير إلى الله عز وجل، وكل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل، فلا بد أن ينتهي إليه، ولكن منهم من هو شاق عليه ومنهم من هو سهل عليه وإنه ليسير على من يسره الله عليه. وفي ذلك الجبل أودية وشعوب وعقبات ووهود وشوك وعوسج وعُليق وشبرق، ولصوص يقطعون الطريق على السائرين ولا سيما أهل الليل المدلجين، فإذا لم يكن معهم عُدد الإيمان ومصابيح اليقين تَنْقِد بزيت الإخبات وإلا تعلقت بهم تلك الموانع وتشبّثت بهم تلك القواطع وحالت بينهم وبين السير. فإن أكثر السائرين فيه رجعوا على أعقابهم لما عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته. والشيطان على قلّة ذلك الجبل يُحذّر الناس من صعوده وارتفاعه ويخوفهم منه، فيتّفق مشقة الصعود وقعود ذلك المُخوِّف على قُلَّته

وضعف عزيمة السائر ونيته، فيتولّد من ذلك: الإنقطاع والرجوع والمعصوم من عصمه الله. وكلما رقى السائر في ذلك الجبل اشتد به صياح القاطع وتحذيره وتخويفه. فإذا قطعه وبلغ قٌلّته: انقلبت تلك المخاوف كلهن أماناً، وحينئذ يسهل السير، وتزول عنه عوارض الطريق ومشقة عقباتها ويرى طريقاً واسعاً آمناً يُفضي به إلى المنازل والمناهل، وعليه الأعلام، وفيه الإقامات قد أُعدّت لركب الرحمن. فبين العبد وبين السعادة والفلاح قوة عزيمة وصبر ساعة وشجاعة نفس وثبات قلب، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة.

شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة قال ابن القيم رحمه الله: فأول شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة أن يقوم به شاهد من (الدنيا وحقارتها) وقلة وفائها وكثرة جفائها وخِسّة شركائها وسرعة انقضائها. [وما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويذهب هذا كله ويزول] ويرى أهلها وعشاقها صرعى حولها قد بدّعَتْ وعذبتهم بأنواع العذاب وأذاقتهم أمرّ الشراب. أضحكتهم قليلاً وأبكتهم طويلا، سقَتْهم كؤوس سمّها بعد كؤوس خمرها، فسكروا بحبها وماتوا بهجرها. فإذا قام بالعبد هذا الشاهد منها ترحّل قلبه عنها وسافر في طلب الدار الآخرة، وحينئذ يقوم بقلبه شاهد من (الآخرة ودوامها) وأنها هي الحيوان حقاً، فأهلها لا يرتحلون منها ولا يظعنون عنها بل هي دار القرار ومحط الرّحال ومنتهى السير، وأن الدنيا بالنسبة إليها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم ترجع).

وقال بعض التابعين: ما الدنيا في الآخرة إلا أقلّ من ذرة واحدة في جبال الدنيا. ثم يقوم بقلبه شاهد من [النار] وتوقدها واضطرامها، وبُعْد قعرها وشدة حرّها وعظيم عذاب أهلها، فيشاهدهم وقد سبقوا إليها سود الوجود زُرْق العيون، والسلاسل والأغلال في أعناقهم. فلما انتهوا إليها فُتحت في وجوههم أبوابها فشاهدوا ذلك المنظر الفظيع، وقد تقطعت قلوبهم حسرة وأسفاً، (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً) فيشاهدهم بقلبه وهم إليها يُدفعون. وأتى النداء من قِبَل رب العالمين: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) ثم قيل لهم: (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ، اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). ويراهم وهم في الحميم على وجوههم يسحبون، وفي النار كالحطب يُسْجَرون (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) فبئس اللحاف، وبئس الفراش، وإن استغاثوا من شدة العطش (يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ).

فإذا شربوه قطّع أمعاءهم في أجوافهم، وصهر ما في بطونهم، وشرابهم الحميم وطعامهم الزقوم: (لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ). فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد انخلع من الذنوب والمعاصي واتباع الشهوات ولَبِسَ ثياب الخوف والحذر، وأخْصَبَ قلبه من مطر أجفانه وهان عليه كل مصيبة تصيبه في غير دينه وقلبه. وعلى حسب قوة هذا الشاهد يكون بُعده من المعاصي والمخالفات، فَيُذيب هذا الشاهد من قلبه الفضلات والمواد المهلكة ويُنضجها ثم يُخرجها، فيجد القلب لذة العافية وسرورها. فيقوم بعد ذلك شاهد من [الجنة] وما أعدّ الله فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فضلاً عما وصفه الله لعباده على لسان رسوله من النعيم المفصّل الكفيل بأعلى أنواع اللذة من المطاعم والمشارب والملابس والصور، والبهجة والسرور.

فيقوم بقلبه شاهد دار قد جعل الله النعيم المقيم الدائم بحذافيره فيها، تربتها المسك، وحصاؤها الدُّر، وبناؤها لَبِن الذهب والفضة وقصب اللؤلؤ، وشرابها أحلى من العسل، وأطيب رائحة من المسك، ونساؤها لو بَرَز وجه إحداهن في هذه الدنيا لَغَلَب على ضوء الشمس، ولباسهم الحرير من السندس والإستبرق، وخدمهم ولدان كاللؤلؤ المنثور، وفاكهتهم دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة، وغذاؤهم لحم طير مما يشتهون، وشرابهم عليه حمرة لا فيها غَوْل ولا هم عنها يُنْزَفون، وخضرتهم فاكهة مما يتخيرون، وشاهدهم حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، فهم على الأرائك متكئون، وفي تلك الرياض يُحبَرون، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون. فإذا انضمّ إلى هذا الشاهد شاهد (يوم المزيد) والنظر إلى وجه الرب جل جلاله وسماع كلامه منه بلا واسطة كما قال صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤسهم فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: (سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) ثم يتوارى عنهم وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم.

فإذا انضم هذا الشاهد إلى الشواهد التي قبله فهناك يسير القلب إلى ربه أسرع من سير الرياح في مهابّها، فلا يلتفت في طريقه يميناً ولا شمالاً. هذا وفوق ذلك شاهد آخر تضمحل فيه هذه الشواهد ويغيب به العبد عنها كلها وهو شاهد [جلال الرب تعالى وجماله وكماله] وعزه وسلطانه وقيوميته وعلوه فوق عرشه وتكلمه بكتبه وكلمات تكوينه وخطابه لملائكته وأنبيائه. فإذا شاهده شاهد بقلبه قيوماً قاهراً فوق عباده مستوياً على عرشه منفرداً بتدبير مملكته آمراً ناهياً مُرْسلاً رسله ومنزلاً كتبه، يرضى ويغضب ويُثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويُذل ويحب ويبغض ويرحم إذا استرحم ويغفر إذا استُغْفِر ويعطي إذا سُئل ويجيب إذا دُعي ويُقيل إذا استُقيل. أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء وأعز من كل شيء وأقدر من كل شيء وأعلم من كل شيء وأحكم من كل شيء. ثم ذكر حمه الله قوة الرب وجماله وصفاته ثم قال: فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد اضمحلت فيه الشواهد المتقدمة من غير أن

تعدم بل تصير الغلبة والقهر لهذا الشاهد، وتندرج فيه الشواهد كلها. ومَنْ هذا شاهده فله سلوك وسير خاص ليس لغيره ممن هو عن هذا في غفلة أو معرفة مجملة. فصاحب هذ الشاهد سائر إلى الله في يقظته ومنامه وحركته وسكونه وفطره وصيامه، له شأن وللناس شأن هو في واد والناس في واد. خليلَيَّ لا والله ما أنا منكما ... إذا عَلَمٌ من آل ليلى بدا ليا والمقصود أن العيان والكشف والمشاهدة في هذه الدار إنما تقع على الشواهد والأمثلة العلمية، وهو المثل الأعلى الذي ذكره سبحانه في ثلاثة مواضع من كتابه.

وطن القلب.

وطن القلب قال ابن القيم –رحمه الله-: أنقل قلبك من وطن الدنيا وأسكنه في وطن الآخرة ثم أقْبِل به كله على معاني القرآن واستجلائها وتدبرها وفهم ما يراد منه وما نزل لأجله، وخذ نصيبك وحظك من كل آية من آياته ونزّلها على داء قلبك. فهذه طريق مختصرة قريبة سهلة موصلة إلى الرفيق الأعلى، آمنة لا يلحق سالكها خوف ولا عطب ولا جوع ولا عطش، ولا فيها آفة من آفاق سائر الطرق البتة، وعليها من الله حارس وحافظ يكلأ السالكين فيها ويحميهم ويدفع عنهم. ولا يعرف قدر هذه الطريق إلا من عرف طرق الناس وغوائلها وآفاتها وقطاعها، والله المستعان. أجمع العارفون: أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا وأخذِه في منازل الآخرة، ولا يحصل سفر القلب إلا باليقظة وهي انزعاج القلب لروعة الإنتباه من رقدة الغافلين، ولله ما أنفع هذه الروعة وما أعظم قدرها وخطرها وما أشد إعانتها على السلوك.

فمن أحسّ بها فقد أحس والله بالفلاح وإلا فهو في سكرات الغفلة، فإذا انتبه شمّر لله بهمته إلى السفر إلى منازله الأولى وأوطانه التي سُبي منها. فحيّ على جنات عدن فإنها ... منازلنا الأولى وفيها المخيّم ... ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونُسَلّم فأخذ في أهبة السفر، فانتقل إلى منزلة (العزم) وهو العقد الجازم على المسير، ومفارقة كل قاطع ومُعوّق ومرافقة كل معين وموصل، وبحسب كمال انتباهه ويقظته يكون عزمه، وبحسب قوة عزمه يكون استعداده. فإذا استيقظ أوجبت له اليقظة (الفكرة) وهي تحديق القلب نحو المطلوب الذي قد استعدّ لها مجملاً ولمّا يهتد إلى تفصيله وطريق الوصول إليه. فإذا صحّت فكرته أوْجبت له (البصيرة) فهي نور في القلب يبصر به الوعد والوعيد والجنة والنار، وما أعدّ الله في هذا لأوليائه وفي هذا لأعدائه. فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق، وقد نزلت ملائكة السموات فأحاطت بهم، وقد جاء الله، وقد نُصِب

كرسيه لفصل القضاء، وقد أشرقت الأرض بنوره، ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء، وقد نُصب الميزان وتطايرت الصحف واجتمعت الخصوم وتعلق كل غريم بغريمه، ولاح الحوض وأكوابه عن كثَب، وكثر العطاش وقلّ الوارد، ونُصب الجسر للعبور ولُزّ الناس إليه، وقُسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه، والنار يحطم بعضها بعضاً تحته، والمتساقطون فيها أضعاف أضعاف الناجين. فيُفتح في قلبه عين يرى بها ذلك، ويقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة يُريه الآخرة ودوامها والدنيا وسرعة انقضائها. فالبصير نور يقذفه الله في القلب يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل كأنه يشاهده رأي عين فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل وتضرّره بمخالفته.

اليقظة أول مفاتيح الخير.

اليقظة أول مفاتيح الخير ذكر ابن القيم –رحمه الله-: أن النفس إذا اطمأنت من الشك إلى اليقين ومن الجهل إلى العلم ومن الغفلة إلى الذكر ومن الخيانة إلى التوبة ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الكذب إلى الصدق ومن العجز إلى الكَيْس ومن صولة العجب إلى ذِلّة الإخبات ومن التيه إلى التواضع ومن الفتور إلى العمل فقد باشرت روح الطمأنينة. وأصل ذلك ومنشؤه من اليقظة فهل أول مفاتيح الخير، فإن الغافل عن الاستعداد للقاء ربه والتزوّد لمعاده بمنزلة النائم بل أسوأ حالاً منه، فإن الغافل يعلم وعد الله ووعيده وما تتقاضاه أوامر الرب تعالى ونواهيه وأحكامه من الحقوق لكن يحجبه عن حقيقة الإدراك ويُقْعده عن الاستدراك سِنَة القلب وهي غفلته التي رقد فيها فطال رقوده وركَدَ وأخلد إلى نوازع الشهوات فاشتد إخلاده وركوده، وانغمس في غمار الشهوات واستولت عليه العادات ومخالطة أهل البطالات ورضي بالتشبه بأهل إضاعة الأوقات.

فهو في رقاده مع النائمين، وفي سكرته مع المخمورين، فمتى انكشف عن قلبه سِنَة هذه الغفلة بزجرة من زواجر الحق في قلبه استجاب فيها لواعظ الله في قلب عبده المؤمن أو هِمّة علِيَّة أثارها مِعْوَل الفكر في المحل القابل فضرب بمعول فكره وكبّر تكبيرة أضاءت له منها قصور الجنة فقال: ألا يا نفس ويحك ساعديني ... يسعى منك في ظلم الليالي ... لعلك في القيامة أن تفوزي ... بطيب العيش في تلك العلالي فأثارت تلك الفكرة نوراً رأى في ضوئه ما خُلق له وما سيلقاه بين يديه من حين الموت إلى دخول دار القرار، ورأى سرعة انقضاء الدنيا وعدم وفائها لبنيها وقَتْلها لعشاقها، وفعلها بهم أنواع المثلات فنهض في ذلك الصوء على ساق عزمه قائلاً: (يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ) فاستقبل بقية عمره التي لا قيمة لها مستدركاً بها ما فات، ومحيياً بها ما أمات، مستقلاً بها ما تقدم من العثرات، منتهزاً فرصة الإمكان التي إن فاتت فاتته جميع الخيرات. ثم يلحظ في نور تلك اليقظة وُفُور نعمة ربه عليه من حين استقر في الرّحم إلى وقته وهو ينقلب فيها ظاهراً وباطناً ليلاً ونهاراً ويقظة ومناماً سراً وعلانية.

فلو اجتهد في إحصاء أنواعها لما قَدِر، ويكفي أن أدناها نعمة النفس فما ظنك بغيرها؟ ثم يرى في ضوء ذلك النور أنه آيس من حصرها وإحصائها عاجز عن أداء حقها، وأن المنعِم بها إن طالبه بحقوقها استوعب جميع أعماله حق نعمة واحدة منها. فيتيقن حينئذ أنه لا مطمع له في النجاة إلا بعفو الله ورحمته وفضله. ثم يرى في ضوء تلك اليقظة أنه لو عمل أعمال الثقلين من البرّ لاحتقرها بالنسبة إلى جنب عظمة الرب تعالى وما يستحقه لجلال وجهه وعظيم سلطانه. هذا لو كانت أعماله منه فكيف وهي مجرد فضل الله ومنته وإحسانه حيث يسّرها له وأعانه عليها وهيّأه لها وشاءها منه وكوّنها ولو لم يفعل ذلك لم يكن له سبيل إليها، فحينئذ لا يرى أعماله منه وأن الله سبحانه لن يقبل عملاً يراه صاحبه من نفسه حتى يرى عين توفيق الله وفضله عليه ومنته، وأنه من الله لا من نفسه، وأنه ليس له من نفسه إلا الشر وأسبابه، وما به من نعمة فمن الله وحده فضلاً ساقه إليه من غير أن يستحقه بسبب ويستأهله بوسيلة، فيرى ربه

ووليه ومعبوده أهلاً لكل خير ويرى نفسه أهلاً لكل شر، وهذا أساس جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، وهو الذي يرفعها ويجعلها في ديوان أصحاب اليمين. ثم يبرق له في نور اليقظة بارقة أخرى يرى في ضوئها عيوب نفسه وآفات عمله وما تقدم له من الجنايات والإساءات وهتك الحرمات والتقاعد عن كثير من الحقوق والواجبات، فإذا انضمّ ذلك إلى شهود نعم الله عليه وأياديه لديه رأى أن حق المنعِم عليه في نعمه وأوامره لم يُبْقِ له حسنة واحدة يرفع بها رأسه، وقد اطمئن قلبه وانكسرت نفسه وخشعت جوارحه وسار إلى الله ناكس الرأس بين مشاهدة نعمه ومطالعة جناياته وعيوب نفسه وآفات عمله قائلاً: أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. فلا يرى لنفسه حسنة ولا يراها أهلاً لخير فيُوجب له أمرين عظيمين: أحدهما: إستكثار ما مِن الله عليه. والثاني: إستقلال ما منه من الطاعة كائنة ما كانت، ثم تبرق له بارقة أخرى يرى في ضوئها عزّة وقته وخطره وشرفه وأنه رأس مال

سعادته فيبخل به أن يضيعه فيما لا يقربه إلى ربه، فإن في إضاعته الخسران والحسرة والندامة، وفي حفظه وعمارته الربح والسعادة فيشِحّ بأنفاسه أن يضيعها فيما لا ينفعه يوم معاده. ثم يلحظ في ضوء تلك البارقة ما تقتضيه يقظته من سِنة غفلته من التوبة والمحاسبة والمراقبة والغَيْرة لربه أن يُؤثِر عليه غيره، وعلى حظه من رضاه وقربه وكرامته أن يبيعه بثمن بخس في دار سريعة الزوال، وعلى نفسه أن يُمَلِّك رقّها لمعشوق لو فكّر في منتهى حُسْنه ورأى آخره بعين بصيرته لأنِفَ لها من محبته. فهذا كله من آثار اليقظة وموجباتها، وهي أولى منازل النفس المطمئنة التي نشأ منها سفرها إلى الله والدار الآخرة.

الخاتمة.

الخاتمة وأخيراً أريد أن أشير إلى أنه من الخطأ أن يُظن أني متصف بما وصفت فقد يحمّل الإنسان مالا يحتمل ولكني أكتب وأتعلم وأرجو توفيق الله وهدايته لي وللمسلمين. ثم إن هذا الذي كتبته من أراد التوسّع فيه فلينظر في مؤلفات ابن القيم وشيخه خاصة ومؤلفات أئمة السلف عموماً. أما من تأخر فلا مطمع فيه لمثل هذا، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. كتبه عبد الكريم بن صالح الحميد القصيم- بريدة 1421هـ

فهرس الموضوعات.

فهرس الموضوعات. الموضوع ... رقم الصفحة المقدمة .. وفيها:- ... 3 - حال ذوي هذا الزمان مع السلوك، مع ذكر مصدر جمع هذا الكتاب. ... 3 - تعريف السلوك. ... 3 - وقفة حول ما يُسمى بـ[علم النفس]. ... 4 - إيراد سؤال على ألسنة لملاحدة عن عذاب القبر ونعيمه وسِعته وضيقه ونحو ذلك مع إيراد الإجابة عليه بإجابة عجيبة مما يُبين فضل علم السلف على مَنْ سواهم. ... 4 - قاعدة مهمة حول ظهور الأبدان والأرواح وخفائها في الدور الثلاث. ... 6 و 7 -[21] ثمرة من دقائق ثمرات العمل بمقتضى علم السلوك. ... 11 فوائد عن الروح والموت والقبر. ... 14 تعارف الأرواح وتناكرها. ... 15 ما هو الموت؟ ... 16 صورة الروح. ... 17 صفة الروح. ... 18 رائحة الروح ... 19

الحياة في القبر. ... 20 الأنواع الخمسة لتعلّق الروح بالبدن. ... 20 وجه الشبه بين النائم والميت. ... 22 تقارب الأرواح وتباعدها. ... 23 هل يشارك البدن النفس في النعيم والعذاب أم لا؟ ... 24 الميت في البرزخ ولم لم يقبر. ... 25 هل تخبر الرسل بالمستحيل؟ ... 26 خلط الحق بالباطل. ... 27 مواعظ القبور. ... 29 قصيدة تبيّن حال أهل الوقت مع الجنائز والقبور. ... 30 عذاب القبر نوعان: دائم ومنقطع. ... 32 الروح ذات مستقلة. ... 33 هل النفس والروح شيء واحد أم شيئان متغايران؟ ... 34 الروح تُخلق من نفخة الملك. ... 35 الروح ليست من أمر الغيب. ... 37 روح الله. ... 38 (العقلانيون/ الجاهليون). ... 40

لا يتم الإسلام إلا على ظهر التسليم. ... 42 الثواب والأجر، والفروق بين أجر الخالق وأجر المخلوق. ... 44 الفرق الأول. ... 45 الفرق الثاني. ... 46 الفرق الثالث. ... 51 الفرق الرابع. ... 52 العمل لله ليس كالعمل لغيره من المخلوقين. ... 53 نعمة النفس تستوعب الأعمال الصالحة كلها. ... 54 نعمة البصر تأخذ عبادة خمسمائة سنة. ... 55 الدواوين الثلاثة. ... 59 حق الله على عبده. ... 60 أعمال العبد مستحقّة عليه بموجب العبودية. ... 62 النظر في حق الله على العبد. ... 64 الفرق بين نظر أهل المعرفة ونظر الجهال. ... 66 من فوائد نظر العبد في حق الله عليه. ... 70 فوائد محاسبة النفس. ... 71 التوبة. ... 76

من أسرار التوبة. ... 84 فقر العبد إلى ربه. ... 93 الغنى السافل. ... 102 الغني العالي. ... 107 معرفة المعبود الحق بلا جنة ولا نار. ... 109 أقسام القلوب. ... 111 (لم يجعل الله لرجل من قلبين في جوفه). ... 113 قِبْلَة القلب. ... 115 العرش. ... 120 أقسام الناس في العبادة. ... 122 محبة الإله. ... 129 - وقفة حول ما يُسمّى بـ[الخواء الروحي]. ... 129 محبة يقارنها إجلال وتعظيم ومهابة. ... 135 طريق المحبة. ... 137 تصحيح الغلط في مسمى الجنة. ... 142 سِرّ (لا إله إلا الله) وحقيقتها. ... 144 معرفة النفس. ... 150

النفس المطمئنة. ... 152 النفس الإمارة بالسوء. ... 155 النفس اللوامة. ... 159 علامات مرض القلب. ... 160 دواء مرض القلب. ... 164 علامات صحة القلب. ... 166 - تبيان شيخ الإسلام للأثر البليغ على صحة القلب من الإدمان من قول (يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت). ... 168 كسرة التائب وصولة المَدِل. ... 169 الإخلاص. ... 176 عاقبة الإخلاص لله. ... 181 آفات الأعمال. ... 185 التخلص من رؤية العمل. ... 188 التخلص من طلب العوض على العمل. ... 191 التخلص من الرضى بالعمل والسكون إليه. ... 192 الخوف. ... 196 الرجاء. ... 200

الكرامة والإستقامة. ... 203 التوكل. ... 207 تأثير المعاصي والطاعات على العبد. ... 219 مدح الناس لا يزين وذمّهم لا يشين. ... 223 النفس جبل عظيم شاق في طريق العبودية. ... 226 شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة. ... 228 وطن القلب. ... 234 اليقظة أول مفاتيح الخير. ... 237 الخاتمة. ... 242 فهرس الموضوعات. ... 243 - 248

§1/1