إجماع المحدثين

حاتم العوني

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة لك اللهمَّ الحمدُ أجمع، حمداً يُرضيك عَجْزُهُ، ويَسْتَزِيدُك الإنعامَ تقصيرُهُ. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدُهُ ورسوله. فاللهم صَلِّ على مُحمّد وعلى أزواجه وذُرِّيَّتِهِ كما صلّيتَ على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجِه وذُرِّيَّتِهِ كما باركتَ على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ. أمّا بعد: فإن من أصول دعوتي في (المنهج المقترح لفهم المصطلح) الرجوعَ إلى المعين الصافي للسنة النبويّة وعلومها، والدعوة إلى إحياء منهج أئمة السنة في أصول علومها وفروعها، وتنقيتها من رُكام الجهل والتقليد والعلوم الدخيلة على الإسلام وحضارته. ونحن اليوم مع أثرٍ جديد من آثار (المنهج المقترح) ، قائم على نَبْذِ التقليد وعلى اعتمادِ الدليل. وهو أساس الدعوة السلفيّة السُّنِّيَّة التي بلغت بركاتُها أقطارَ الأرض، وغزت - بعُدّتها وعتادها من أدلّة الوحيين (الكتاب والسنة) ومنهجِ سلف الأمّة - أعتى القلوبِ وأعدى النفوس، فما برحت أن خالطت بشَاشةَ القلوب، واستلّت عداواتِ النفوس، وشرحتِ الصدورَ لما كان قد انشرح له صَدْرُ أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم، وعلمتْ أنه الحق!

وبناءً على ذلك: فإني لا أُحِلُّ لمن لم يتشرّب قَلْبُه ودمُه وعظامُه الدعوةَ السلفيّةَ، القائمة على نَبْذِ التقليد واعتماد الدليل= أن يقرأ هذا البحث، فإنك لستَ محدِّثًا قومًا بحديثٍ لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. وأي فتنةٍ أعظم من فتنة من يرى التقليدَ هو الدين، ويَعُدُّ اتباعَ الدليل هو البدعة، إذا ما قرأ بحثًا قائمًا على ضدِّ ما يراه؟! أقول ذلك، لأني في هذا البحث قد ناقشت إحدى مُسَلَّمات التقليد، وسمحتُ لنفسي أن أجعلها مسألةً قابلةً للبحث والعَرْض على الدليل. فأوصلني هذا النظرُ السلفيُّ إلى نَسْفِ تلك المُسَلَّمة، وبيان أنها خطأٌ محضٌ، ليس لها من الحقّ نصيب!! فماذا أعمل؟! إذا كان الدليلُ ينقض تلك المُسَلَّمة!! لقد عانيتُ -أنا قبل غيري- من زعزعة الأدلة لتلك المسلّمة، وكنتُ أعالج من آثار الإلف العلميّ ورسوخِ البدهيّات الوهميّة شدّةً عظيمة، لم أتجاوزها إلا بتوفيق من الله تعالى، حين صَدَقْتُ مع المنهج السلفي في نَبْذِهِ التقليدَ واعتمادِه الدليلَ! لذلك فإني لن أَعْجَبَ إن عالجَ غيري مثلَ تلك الشِّدّةِ أو أشدّ، بل لن أعجب إن حال الإلف العلميُّ ورسوخُ البدهيّات الوهميّة دون اقتناعه بما جاء في هذا البحث، ولن أعجب -بعد ذلك- إن أنكره وشنّع في إنكاره. لكن ليعلم هذا أنه قد غُلبَ عن منهجه القائم على الدليل، وأنه قد حيل بينه وبين ما يشتهي من السموِّ عن التقليد الأعمى. أقول هذا كُلَّه، لشدّة ثقتي بصحّة ما توصّلتُ إليه، ولأني لم أترك سبيلاً من سُبُل التحرِّي والتثبّت إلا وسلكته، وكبحتُ نفسي بالحِلم

والأناة، حتى عزمت على نِشْر ما أثمره ذلك الجُهدُ والتدبُّر والاستدلالُ والتحلُّمُ والتأنّي. وإن كنتُ (ولم أزل) أعلم من ضعف الإنسان وجهله ما يمكن معه أن يحيف الحيفَ العظيم، وهو يحسب أنه على الصراط المستقيم. لكن ماذا أعمل؟! والحقُّ أمامي أراه كالشمس، والأدلّةُ تتوارد تَتْرى على إحقاقه وإزهاق الباطل. ليست المسألة من مسائل العقيدة الكبار، ولا من أصول الدين العظمى، لكنها -بحقّ- من أمهات مسائل علوم الحديث، إنها مسألة شروط قبول الحديث المعنعن. لقد ابتدأتُ التفكير في هذه المسألة، ومناقشة إحدى أكبر مسلّماتها من عام (1410هـ) ، فانهارت عندي هذه المسلّمة من عام (1411هـ) . لكني بقيتُ مفكّرًا متدبّرًا، لا أكاد أذكرها لأحدٍ، إلا آحادًا قلائل، حرصًا مني على زيادة التثبّت، وبغرضٍ آخر: هو التفرّغُ لها في بحث مُسْتَقِلّ. ولقد أعانتني -بعد ذلك- النتائجُ المهمة التي توصّلت لها في كتابي (المرسل الخفي) ، وفيها نتائج لم أسبق إلى التنصيص عليها من قَبْلُ أبدًا في كتب المصطلح وعلوم الحديث= فازددتُ يقينًا من صحّة ما كانت قد قادتنى إليها الأدلّةُ التي سبق أن تنبّهت لها، وزاد عُمقُ المسألة عندي، واسْتَنَارت أدلّتها في قلبي. حتى ابتدأت إعلانَ ذلك في دروسي الخاصة من عام (1414هـ) ، ثم أعلنتها في محاضرة عامة في مسجد من مساجد مدينة جدّة سنة

(1418هـ) ، وسُجِّلت المحاضرة في شريطين، وانتشرت انتشارًا واسعًا، وتواردت عليّ الأسئلة والاستفسارات والاستشكالات. ثم عُدتُ إلى بَسْطها في دروسي في شرح كتاب ابن الصلاح في علوم الحديث عام (1420هـ) ، وسُجِّلت في ثلاثة أشرطة، شرّقت وغرّبت بين طلبة العلم المهتمّين بعلوم السنة. وقد تكرّر إليّ الطلبُ بنشر بحثي في هذه المسألة مطبوعًا، وما كنت أؤخّره إلا طلبًا للتفرّغ له. فما أن أنعم الله عليّ بذلك، حتى عاجلت أوراقي وبطاقاتي، كاتبًا هذا البحث المختصر، في هذه المسألة المهمّة. وممّا عاجلني بإخراج بحثي هذا، أني مع ما أتوقُّعه من تشنيع بعض المقلدين عليّ فيه، إلا أني ضنينٌ بنسبة نتائجه إليّ، معتزٌ بما توصلت إليه فيه، لأني لا أعلم أحدًا من قرون متطاولة قد أفصح بما ذكرته، ولا قرّر ما حرّرته. وقد ابتُلينا في هذا الزمان بما يسمَّى بـ (السرقات العلمية) ، وقد كنت أحدَ ضحاياها في يوم من الأيام (1) ، فلم أر أن السكوت يسعني، وأنه من الواجب عليّ النهيُ عن منكر لُبْسِ ثَوْبَيِ الزُّور، والزجرُ عن تشبُّعِ المَرْءِ بما لم يُعْطَ!!! خاصّةً بعد انتشار أشرطة المحاضرات من سنوات، كما سبق. ولا أشك أن القارىء الكريم قد عَرَفَ بعضَ تفاصيل المسألة، وما هي المسلّمةُ التي نقضتُها، إما من خلال الأشرطة المشار إليها، أو من خلال عنوان هذا البحث.

_ (1) ولن أذكر تفاصيل ذلك حتى حين!!!

فالحديث المعنعن (وهو الحديث الذي يرويه الراوي عمن يروي عنه بلفظ: عن) ، قد نُقِل أن في شروط قبوله خلافًا، بسبب أن لفظ (عن) لا يدلّ على الاتّصال في اللغة، والاتصال -كما لا يخفى- أحد أهمّ أركان قبول وصحة المنقولات من الأحاديث والأثار. وأوّلُ من أثار هذه المسألة هو الإمامُ مسلمٌ في مقدّمة صحيحه، عندما عقد لهذه المسألة فصلاً خاصًا في تلك المقدّمة. وذكر مسلمٌ في ذلك الفصل أن أحدَ الجَهَلَةِ الخاملي الذِّكْرِ قد عَرَض لشروط قبول الحديث المعنعن، مُضيفًا شرطًا زائدًا عمّا عليه أهلُ الحديث قاطبة، ألا وهو شَرْطُ: أن نَقِفَ على ما يدل على السماع واللقاء ولو مَرّةً واحدةً في حديث كُلِّ راويين متعاصِرَيْنِ. فشنّ عليه مسلمٌ لذلك غارةً شديدةً، مُبيّنًا أنه مخالفٌ للإجماع، وأن قوله هذا مبتدع مستحدث. وبعد الإمام مسلم سكت العلماء عن إثارة هذا الخلاف، حتى جاء القاضي عياض (ت 544هـ) ، فنسب ذلك الشرط الزائد، (الذي بدّعه مسلم ونقل الإجماع على خلافه) إلى الإمام البخاري وشيخه علي بن المديني وغيرهما. ومن هنا تحوّلت المسألة تحوُّلاً خطيرًا، حيث تبنَّى ابنُ الصلاح (ت 643هـ) الرأيَ المنسوب إلى البخاري. وتتابع العلماء على ذلك، حتى هذا العصر. بل صَنّفَ أحدُ العلماء كتابًا منفردًا في ترجيح المذهب الذي نُسب إلى البخاري على مذهب مسلم، وهذا العالم هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد الفِهْرِي الشهير بابن رُشَيد السبتي (ت 721هـ) ، وذلك في كتابه (السنن الأبين والمورد الأمعن في المحاكمة بين الإمامين في السند المعنعن) .

وكتب أحدُ الباحثين المعاصرين بحثًا لنيل درجة الماجستير في الموضوع ذاته، وبالنتيجة ذاتها. وهو بحث جيّد، لولا أنه سلّم لتلك المسلّمة، وهي إثبات نسبة شرط العلم باللقاء إلى البخاري وغيره من أئمة الحديث. أعني كتاب (موقف الإمامين البخاري ومسلم من اشتراط اللُّقْيَا والسماع في السند المعنعن بين المتعاصرين) ، لمؤلِّفه خالد منصور عبد الله الدريس. ومع أن هذا البحث الأخير قد طُبع عام (1417هـ) ، ومع أني قد كنت انتهيتُ قبل طباعته من ترجيح عدم صحّة نسبة شرط العلم باللقاء إلى البخاري وإلى غيره من نُقَّاد الحديث= إلا أن اطلاعي عليه بعد ذلك لم يزدني من ترجيحي السابق ذكره إلا يقينًا، لأن ذلك البحث، وكتاب ابن رُشيد قبله، وكتب المصطلح عمومًا بعد القاضي عياض، لم تكن تتعرّض لأصل المسألة، وهي: (ما مدى صحّة نسبة ذلك الشرط إلى البخاري) ، وإنما كان هَمُّ الجميعِ الترجيحَ بين مذهب البخاري (في حُسبانهم) ومذهب مسلم!!! ومن هذا التسليم أُتيَ الجميع!!! ومن مناقشة تلك المسلَّمة وُفّقْتُ إلى الصواب (بحمد الله تعالى) !! وعرضت هذا البحث تحت ست مسائل: المسألة الأولى: تحريرُ شَرْطِ البخاري (المنسوب إليه) ، وشَرْطِ مسلم، وشَرْطِ أبي المظفّر السمعاني. المسألة الثانية: نسبةُ القول باشتراط العلم بالسماع إلى البخاري (تاريخُها، ودليلها، ومناقشة الدليل) .

المسألة الثالثة: الأدلّة على بطلان نسبة اشتراط العلم باللقاء إلى البخاري وغيره من العلماء. المسألة الرابعة: بيانُ صواب مذهب مسلم وقُوّة حُجّته فيه. المسألة الخامسة: أثر تحرير شرط الحديث المعنعن على السنة النبويّة. المسألة السادسة: الردّ على آخر شُبْهَتين. وإني من خلال هذه المسائل، وما تضمَّنَتْهُ من عَرْض، لأرجو أن أكون قد نصحتُ للسنة النبويّة، ولطلبة علومها، وللمسلمين عمومًا. وأُذكّر كُلَّ قارىء لهذا الكتاب أن ينصح لنفسه، بحُسْن القراءة، وتمام التَّفَهُّم (1) ، والتجرُّدِ من الإلف العلميّ، والتحرُّر من قيود التقليد. وأن يُقبل على القراءة وهو مستعدٌ لتغيير أيِّ اعتقادٍ سابقٍ دَلَّهُ الدليلُ على بُطلانه، لا أن يُقْبِل جازمًا بخطأ الكاتب، باحثًا عن العثرات، راغبًا في اكتشاف الزلات. وأن يحرص على مخالفة سَنَنِ الذين في قلوبهم زيغ، فلا يَتَّبعُ المتشابهَ، بل يردُّ المتشابهَ إلى المُحْكَمِ. وعليه بعد ذلك من واجب إحسان النيّة، وحَمْل الكلام على أفضل مَحَامِله، وعلى الصواب ما أمكن= ما يأثم بعدم قيامه به. فإن خالف أحدٌ هذه الأخلاق، فليعلم أنه أوّل مخذول، فالحق أبلج، والدين محفوظ، فلن ينفعه أن يشنّع على الحق، ولا أن يسعى

_ (1) وأنصح القارىء المبتغي للحق، بما نصبح به شيخُ الإسلام ابن تيميّة أحدَ مُنَاظريه، بقوله له: ((المعاني الدقيقة تحتاجُ إلى إصغاءٍ واستماعٍ وتدبُّرٍ)) . العقود الدريّة لابن عبد الهادي (72) .

في تخريب علوم الدين.. ولا بأي حُجّة، ولو ركب كل مركب، فليُرحْ وليسترحْ!!! أسأل الله تعالى لي وللقراء علمًا نافعًا، وعملاً صالحًا مُتَقبَّلاً، وخاتمةً حسنة. وإلى مسائل البحث:

المسألة الأولى: تحرير شرط البخاري (المنسوب إليه) ، وشرط مسلم، وشرط أبي المظفر السمعاني أولا: تحرير الشرط المنسوب إلى البخاري:

المسألة الأولى: تحرير شَرْطِ البخاري (المنسوب إليه) ، وشَرْطِ مسلم، وشَرْطِ أبي المظفّرِ السمعاني أولاً: تحرير الشرط المنسوب إلى البخاري: نسب عامّةُ أهلِ العلم ممّن جاء بعد القاضي عياض (ت 544هـ) -أخذًا من القاضي عياض- إلى البخاري أنه يخالف مسلمًا في الحديث المعنعن، وأنه لا يكتفي بالشرط الذي بيّنه مسلم في صحيحه، بل يُضيفُ شرطًا زائدًا عليه. ثم اختلفوا في ذلك: - فذهب ابنُ رُشَيْد السَّبْتي (ت 721هـ) في كتابه (السَّنَن الأبين) إلى أن البخاري لا يكتفي بالمعاصرة مثل مسلم، بل لا يكتفي أيضًا بما يدل على اللقاء بين الراويين، وإنّما يشترط أن يقف على ما يدلّ على السماع. مُعَلِّلاً ذلك -مع تصريحه بعدم وقوفه على نَصٍّ صريح فيه من البخاري- بأنّه الأليق بتحَرِّي البخاري، إذ هو الأقرب إلى الصواب (في رأي ابن رُشيد) ، لأنّه كم مِن تابعيٍّ لقي صحابيًّا وما سمع منه شيئًا (1) . - وذهب ابنُ رجب الحنبلي (ت 795هـ) في شرحه لعلل الترمذي إلى أن الإمام أحمد وأبا زرعة وأبا حاتم الرازيين يشترطون العلمَ بالسماع، بخلاف البخاري وابن المديني، فإنّ المَحْكِيَّ عنهما (كما يقول ابن رجب) الاكتفاءُ باللقاء (2) .

_ (1) السنن الأبين (54- 55) . (2) شرح علل الترمذي لابن رجب (2/ 592) .

* وأيَّد ابنَ رجب في ذلك صاحبُ كتاب: (موقف الإمامين البخاري ومسلم من اشتراط اللقيا والسماع في السند المعنعن بين المعاصرين) ، ألا وهو خالد الدريس. محتجًّا بأقوالٍ للبخاري فيها أنه اكتفى بمطلق اللقاء للدلالة على الاتّصال، وبأن مسلمًا نصّ في ردِّهِ الذي في مقدّمة صحيحه أنه يردُّ على من كان يشترط اللقاء، ولم يذكر مسلمٌ اشتراطَ السماع (1) . ومع أن ابن رُشيد تشدّد ذلك التشدُّدَ إلاّ أنه عاد في آخر كتابه المذكور إلى الاكتفاء بالمعاصرة (دون العلم بالسماع أو اللقاء) ، لكن مع قُوّة القرائن الدالّة على السماع، كرواية المخضرم عن الصحابة (2) . إلا أن ابن رُشيد لم ينسب هذا التَّخَفُّف إلى البخاري صراحة، وإنما عرضه وكأنه رأيٌ له قاله بناءً على نظره الخاصّ. ووافَقَ العلائيُّ في ذلك كلّه ابنَ رُشيد، في كتابه (جامع التحصيل) (3) . وأيّدهما في ذلك خالد الدريس صاحبُ الدراسة الآنفة الذكر، لكن مع نِسبة ذلك التَّخَفُّفِ إلى البخاري، وأنه شَرْطُه. معتمدًا في تصحيح نسبته إلى البخاري على نُقُولٍ عنه، تدلّ على اكتفاء البخاري بالمعاصرة مع قرائن تُقَوِّي احتمالَ وُقُوعِ اللقاء (4) . - وهناك قولٌ آخر في تحرير شرط البخاري المنسوب إليه، وهو أنه شرطٌ للبخاري في كتابه (الجامع الصحيح) ، لا في أصل الصحّة. أي

_ (1) موقف الإمامين لخالد الدريس (108- 114) . (2) السنن الأبين (150- 151، 151- 152) . (3) جامع التحصيل للعلائي (120- 121) . (4) موقف الإمامين لخالد الدريس (141- 157) .

أنه تشدّدَ في صحيحه، فاشترط العلم باللقاء (أو السماع) ، مع كونه خارجَ الصحيح لا يشترط ذلك الشرط. أو كما عَبّر بعض أهلُ العلم عن ذلك بقوله: إن هذا الشرط شرط كمال، لا شرط صحّة (1) . ونخلص من هذا: أن شرط البخاري في الحديث المعنعن، بعد السلامة من وصمة التدليس، اختُلفَ فيه إلى أربعة أقوال: الأول: أن البخاري يشترط أن يقف على ما يدل على السماع نصًّا. الثاني: أن البخاري يشترط أن يقف على ما يدل على اللقاء. الثالث: أن البخاري يشترط أن يقف على ما يدل على اللقاء، وأنه يكتفي بالمعاصرة أحيانًا إذا وُجدت قرائن قويّة تدل على اللقاء والسماع. الرابع: أن البخاري يشترط أن يقف على ما يدل على اللقاء أو السماع في كتابه الصحيح، ولا يشترط ذلك للقول بالاتصال خارج كتابه. ملاحظة: لم يتنبّه ابنُ رُشيد والعلائي والدريس إلى أنهم بمَيْلِهم إلى الاكتفاء بالقرائن القويّة قد نسفوا ما ذهبوا إليه من تقويةِ اشتراط اللقاء أو السماع، إذ مِنْ أين لهم أن مسلمًا لم يكن مراعيًا لمثل تلك القرائن؟! حتى يجعلونه مخالفًا للبخاري!!!

_ (1) انظر: اختصار علوم الحديث لابن كثير (1/ 169) ، ومحاسن الاصطلاح للبلقيني (224) ، والموقظة للذهبي -تتمات أبي غُدّة في آخرها - (137- 138) ، والنصيحة بالتحذير من تخريب ابن عبد المنان لكتب الأئمة الرجيحة للألباني (19- 26) .

بقي أمرٌ آخر يتعلق بتحرير شرط البخاري المنسوب إليه: وهو: ما هو حكم الحديث المعنعن الذي لم يتحقق فيه العلم باللقاء أو السماع عند البخاري بناءً على هذا الشرط المنسوب إليه، هل يُحكم بانقطاعه؟ أم يُكتفى بالتوقّف عن الحكم له بالاتّصال؟ لازمُ هذا الشرط المنسوب إلى البخاري، ومقتضى دليله: أنه لا يُجزم بانقطاع الإسناد الذي لا يتحقق فيه شرط العلم باللقاء، وإنّما يُكتفى بالتوقف، لأن اشتراط العلم باللقاء إنما توجَّهَ عند القائلين به لاحتمال عدم اللقاء، لا لتحقق عدم اللقاء، فإذا لم نعلم باللقاء يقينًا، يبقى احتمال اللقاء واحتمال عدمه احتمالين متساويين، فالتوقّف حينها هو الواجب (1) . وهذا هو ما نصَّ عليه مسلم في نقله لمذهب مخالفه، حيث ذكر مذهبه في الحديث المعنعن بين المتعاصرين اللذين لم يُعلم لقاؤهما، ثم قال في حكم هذا الحديث عند ذلك المخالف: ((وكان الخبر عنده موقوفًا، حتى يرد عليه سماعُه منه لشيءٍ من الحديث، قلَّ أو كَثُر..)) . (2) وهذا هو ما نصَّ عليه ابن القطان الفاسي (ت 628هـ) أيضًا، ونسبه إلى البخاري وعلي بن المديني، حيث قال في الحديث المعنعن الذي لم يُعلم انتفاء اللقاء بين رواته: ((فإن الحكم فيه أن يُحكم له بالاتصال له عند الجمهور، وشرط البخاري وعلي بن المديني أن يُعلم اجتماعُهما ولو مَرّةً واحدة، فهما -أعني البخاري وابن المديني- إذا لم يعلما لقاء

_ (1) انظر السنن الأبين لابن رشيد (45) . (2) صحيح مسلم (29) ، وانظر السنن الأبين لابن رُشيد (45) .

ثانيا: تحرير شرط مسلم

أحدهما للآخر لا يقولان في حديث أحدهما عن الآخر: منقطع، وإنما يقولان: لم يثبت سماع فلان من فلان. فإذن ليس في حديث المتعاصرين إلا رأيان: أحدهما: هو محمول على الاتصال، والآخر: لم يُعلم اتصال ما بينهما. فأمّا الثالث: وهو منقطع، فلا. فاعلم ذلك، والله الموفّق)) (1) . أمّا الذهبي فتعقّب ابن القطان بقوله: ((بل رأيهما دالٌّ على الانقطاع)) (2) . قلت: لكن لازم المذهب، ونصّ مسلم في مقدمته، كلاهما يؤيدان ما ذكره ابن القطان، كما سبق. أمّا موقف الذهبي فغريب مضطرب، لأنّه يصحح نسبة اشتراط العلم باللقاء إلى البخاري، وهذه النسبة إنما تصح على المذهب الذي ذكره ابن القطان هنا، لا على ما اختاره الذهبي.. كما سيأتي شرحه مستقبلاً (3) . ثانيًا: تحرير شرط مسلم: لقد أبان مسلمٌ عن رأيه في مقدّمة صحيحه بصراحةٍ، حيث قال: ((ذلك أن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديمًا وحديثًا: أن كل رجلٍ ثقةٍ روى عن مثله حديثًا، وجائزٌ ممكنٌ له لقاؤه والسماعُ منه، لكونهما جميعًا كانا في عصرٍ واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا، ولا تشافها بكلام= فالرواية ثابتة، والحجّة بها لازمة. إلا أن يكون هناك دلالةٌ بيّنةٌ أن هذا الراوي لم يَلْقَ من روى

_ (1) بيان الوهم والإيهام لابن القطان (2/ 576) . (2) نقد الإمام الذهبي لبيان الوهم والإيهام (84 رقم16) . (3) انظر ما سيأتي (42- 43) .

عنه، أو لم يسمع منه شيئًا. فأمّا والأمرُ مُبْهَمٌ، على الإمكان الذي فسّرنا= فالرواية على السماع أبدًا، حتى تكونَ الدلالةُ التي بيّنّا)) (1) . ويقول في موطنٍ آخر: ((وإنما كان تَفَقُّدُ من تَفَقَّدَ منهم سماعَ رواةِ الحديث ممن روى عنهم= إذا كان الراوي ممن عُرف بالتدليس في الحديث وشُهِر به، فحينئذٍ يبحثون عن سماعه في روايته، ويتفقّدون ذلك منه، كي تنزاح عنهم عِلّةُ التدليس. فمن ابتغى ذلك من غير مُدَلِّس، على الوجه الذي زعم من حكينا قولَه، فما سمعنا ذلك عن أحدٍ ممن سمّينا ولم نُسَمِّ من الأئمة)) (2) . ويقول في تقديمه لمقالة صاحب المذهب المخالفِ له: ((أن كل إسنادٍ لحديث فيه فلانٌ عن فلان، وقد أحاط العلم بأنهما كانا في عصر واحد، وجائزٌ أن يكون الحديثُ الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به. . .)) (3) . وقال عقب ذكره لأمثلةٍ للأسانيد الصحيحة مع عدم العلم بالسماع: ((إذِ السماعُ لكل واحدٍ منهم ممكنٌ من صاحبه غير مستنكر، لكونهم جميعًا كانوا في العصر الذي اتفقوا فيه)) (4) . فمن خلال هذه النقول يتبيّن أن الإمامَ مسلمًا كان يشترطُ لقبول الحديث المعنعن ثلاثةَ شروط:

_ (1) صحيح مسلم (29- 30) . (2) صحيح مسلم (33) . (3) صحيح مسلم (29) . (4) صحيح مسلم (35) .

الأول: المعاصرة. الثاني: أن لا يكون الراوي الذي عنعن مدلِّسًا (ممن تُرَدُّ عنعنتهم بذلك) . الثالث: أن لا يكون هناك ما يدل على عدم السماع. فأما الشرطان الأولان فظاهران لا خلافَ فيهما ولا غموض، وأمّا الشرط الثالث فقد وقع فيه خلاف، ويحتاج إلى بيان. لقد صَرّح مسلمٌ بهذا الشرط عندما قال -كما سبق-: ((إلا أن يكون هناك دلالة بيّنةٌ أن هذا الراوي لم يَلْقَ من روى عنه أو لم يسمع منه شيئًا)) . فهذا نصٌّ صريحٌ أن المعاصرة قد تحصل بين الراويين، لكن يمنع من الحكم بالاتصال -عند مسلم- وجودُ دلالةٍ واضحةٍ تنفيه وتمنعه. فما هو مقصود مسلم بـ (الدلالة البيّنة) ؟ لا شك أن الراوي لو نَفَى عن نفسه السماعَ ممن عاصره، أو علمنا من أخبارهما أنهما لم يجتمعا في بلدٍ واحد قطّ، ولا كانت بينهما مكاتبةٌ أو إجازة= فإن هذه من أبين الدلائل على عدم الاتصال. وحينها فلن يحكم مسلم بالاتّصال، على ما يقتضيه كلامُه الصريحُ في ذلك، وعلى ما نصّ عليه ابن رُشيد السبتي أيضًا (1) . بل هذه الحالة لا تحتاج إلى تنصيص، لأن شرط الاتّصال الذي يشترطه مسلم هنا قد تيقّنا من عدم تحققه، وأصبح انتفاؤه واضحًا، لا قيمةَ معه من اشتراطِ المعاصرة وعدم التدليس.

_ (1) السنن الأبين (67- 68) .

لكن هناك دلائل بيّنةٌ عند أهل الحديث غير تلك الدلائل اليقينيّة، مثل بُعْدِ البلدان، أو إدخال الوسائط، ونحو ذلك من القرائن التي تشهد لعدم السماع وتُغلّبُ عدمَ حصوله. فهل هذه الدلائل تَدْخُل في (الدلالة البيّنة) التي ذكرها مسلم؟ الظاهرُ والأصل دخولها فيها، لأنها داخلةٌ في معنى ما ذكره مسلم. ويؤكد مراعاة مسلم لهذه القرائن أمور: الأول: صريحُ كلامه، وذلك في قوله بعد ذكره (الدلالة البيّنة) : ((فأمّا والأمر مبهم، على الإمكان الذي فسّرنا، فالرواية على السماع أبدًا، حتى تكون الدلالة التي بيّنا)) . فتأمّل قوله: ((والأمر مبهم)) ، وما تدل عليه من أن الحكم بالاتّصال بين المتعاصرين إنما يقول به مسلم عندما لا تكون هناك مرجّحات وقرائن تميل بكفّة المسألة إلى عدم السماع، إذ لو كانت هناك مثل تلك المرجحات والقرائن لم تُوصفِ المسألةُ بأن الأمر (أي أمر الاتصال) فيها مبهمٌ. ثم يؤكّد مسلمٌ أنه كان يراعي القرائن التي تحتفُّ برواية المتعاصرين، فإما أن تؤيدَ احتمال السماع أو أن تُضْعِف احتماله، وذلك في قوله: ((أن كل إسنادٍ لحديثٍ فيه فلانٌ عن فلان، وقد أحاط العلمُ بأنهما قد كانا في عصر واحد، وجائزٌ أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به..)) . فَتَنَبَّهْ إلى أنه ذكر المعاصرة، ثم أضاف إليها شرطًا آخر، وهو جواز السماع وإمكانه، وهو يعني عدم وجود قرائن تُبعد احتمال اللقاء.

نعم هناك قولان آخران لمسلم لا يدلاّن على اشتراط إمكان اللقاء، وهما مقدِّمة كلامه الأول، عندما قال: ((وجائزٌ ممكن له لقاؤه والسماع منه، لكونهما جميعًا كانا في عصر واحد)) ، وقوله: ((إذ السماع لكل واحدٍ منهم ممكن من صاحبه غير مستنكر، لكونهم جميعًا كانوا في العصر الذي اتفقوا فيه)) . لكن هذين القولين المجملين لا يقضيان على النصين المبينين السابقين، خاصة وأن أحدهما جاء استثناءً في آخر كلامه الأول، كما سبق. الثاني: تطبيقاتٌ لمسلم تدل على مراعاته للقرائن: ولها عِدّة أمثلة، سنُأجّلُها إلى موطنٍ لاحقٍ (1) . وسأكتفي منها هنا بمثال واحدٍ: لقد تجنّب الإمامُ مسلم الإخراجَ للحسن البصري عن عمران بن حصين رضي الله عنه في صحيحه خوفًا من عدم تحقق السماع بينهما، مع أن الحسن البصري وُلد سنة (21هـ) ، وتوفي عمران بن حصين سنة (52هـ أو 53هـ) . فالحسن معاصرٌ لعمران زيادةً على ثلاثين عامًا، ساكنَ الحسنُ خلالها عمران بين حصين في بلد واحد (هو البصرة) خمس عشرة سنة. ثم إن عمران بين حصين رضي الله عنه كان أحدَ فقهاء الصحابة الذين بعثهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتعليم الناس بالبصرة، فكان عمران بن حصين بذلك متصدِّرًا للتعليم في بلد الحسن البصري، ولم يكن منعزلاً أو محجوبًا بإمارة أو ولاية.

_ (1) انظر ما يأتي (73، 74، 75) .

ومع ذلك كلِّه يقول الحاكم في (المستدرك) عقب حديث للحسن عن عمران رضي الله عنه: ((حديث صحيح الإسناد، ولم يُخرجاه بطوله. والذي عندي أنهما لم يُخرجا من ذلك خشية الإرسال. . .)) (1) . وقال في موطن آخر، مُصَرِّحًا بأنّ للشيخين قولاً في هذه المسألة ينقله الحاكم عنهما: ((لم يُخرج محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج في هذه الترجمة حرفًا، وذكرا أن الحسن لم يسمع من عمران، والذي عندي أن الحسن سمع من عمران)) (2) . فلمَ خشيَ مسلمٌ الإرسالَ، مع تحقق المعاصرة الطويلة؟! الثالث: نصَّ على مراعاة مسلم للقرائن غيرُ واحدٍ من العلماء: يقول ابن القطان الفاسي (ت 638هـ) في (بيان الوهم والإبهام) ، متحدّثًا عن أن إدخال الوسائط بين الراويين يدل على عدم السماع، عند عدم تصريح أحدهما بلقائه الآخر في رواية أخرى: ((ويكون هذا (يعني: الإنقطاع) أبين في اثنين لم يُعلم سماعُ أحدهما من الآخر، وإن كان الزمانُ قد جمعهما. وعلى هذا المحدِّثون، وعليه وضعوا كتبهم: كمسلم في كتاب (التمييز) ، والدارقطني في (علله) ، والترمذي، وما يقع للبخاري، والنسائي، والبزار، وغيرهم ممن لا يُحصَى كثرة: تجدُهم دائبين يقضون بانقطاع الحديث المعنعن، إذا رُوي بزيادة واحدٍ بينهما)) (3) .

_ (1) المستدرك (1/ 29) . (2) المستدرك (4/ 567) . (3) بيان الوهم والإيهام لابن القطان (2/ 416) .

ويقول العلائي في (جامع التحصيل) ، في سياق ذكره لمذاهب العلماء في الحديث المعنعن: ((والقول الرابع: أنه يُكتفى بمجرّد إمكان اللقاء، دون ثبوت أصله. فمتى كان الراوي بريئًا من تُهمة التدليس، وكان لقاؤه لمن روى عنه بالعنعنة ممكنًا من حيث السِّنّ والبلد= كان الحديثُ مُتّصلاً، وإن لم يأتِ أنهما اجتمعا قط. وهذا قول الإمام مسلم، والحاكم أبي عبد الله، والقاضي أبي بكر الباقلاني، والإمام أبي بكر الصيرفي من أصحابنا. وقد جعله مسلم (رحمه الله) قولَ كافّةِ أهل الحديث)) (1) . فهذان عالمان يَنُصَّان على مراعاة الإمام مسلم للقرائن، فذكر الأولُ: قرينةَ إدخالِ للوسائط (2) ، وذكر الثاني: قرينةَ بُعْدِ البلدان بين الراويين. ويزيد قول هذين الإمامين قوّةً أمران: - أن ابن القطان معتمدٌ في نقله لمذهب الإمام مسلم على كتاب له قد فُقِد أغلبه، وهو كتاب (التمييز) . فعند ابن القطان زيادةُ علم، ليس لدينا منها إلا اليسير. - وأن العلائي ممن ينصر رأي البخاري، ومع ذلك فقد أنصف مسلمًا عندما نقل هذا عنه. ومع أني ما كنتُ أحسب أن أحدًا سيشكُ في أن إمامًا مثل مسلم (في نَقْدِه وجَهْبَذَتِه) كان مراعيًا للقرائن الشاهدة للسماع أو عدمه، لأن مراعاة هذه القرائن أمرٌ لا يخفى على طلبة الحديث في زماننا، فكيف

_ (1) جامع التحصيل (117) . (2) وانظر موقف الإمامين لخالد الدريس (350- 353) .

بأحدِ أئمة العصر الذهبي للسنة؟!! = لكني أقول أخيرًا: هل يتصّورُ أحدٌ أن ناقدًا من النّقاد (دون مسلمٍ في العلم، فضلاً عن مسلم) كان يكتفي بالمعاصرة مطلقًا، دون نظرٍ منه إلى القرائن أبدًا؟!! وهل يتصوّرُ أحدٌ أنه لو روى راوٍ خراساني عن آخر أندلسيٍّ، أو روى يمانيٌّ عن قوقازي حديثًا واحدًا معنعنًا، مع روايته عنه أحاديث أخرى بواسطةِ راوٍ أو راويين فأكثر، وكان الحديث الأول (الذي يرويه معنعنًا بغير واسطة) فيه نكارةٌ لا يحتملها أحدُ من رواته= أن مسلمًا سيحكم باتّصال مثل هذا الحديث؟!!! فإن قيل: بَالَغْتَ في ذكر القرائن، فلا يقول أحدٌ باتّصال مثل هذا الحديث. فأقول: هذا هو معنى قولكم إن مسلمًا لا ينظر إلى شيءٍ سوى المعاصرة وانتفاء التدليس، فالمبالغة منكم لا مني! وعليه فلا بُدَّ أن تُقِرَّ بأن لمسلمٍ نظرًا ما إلى القرائن، بل قد أقررتَ! يبقى أن يزعم زاعمٌ بغير دليل، وغير ناظرٍ إلى الأدلّة المخالفةِ لقوله: إن نَظَرَ مسلمٍ إلى القرائن ضعيفٌ، لا كنظر غيره من الأئمة. وكفى بحكاية مثل هذا الزعم بيانًا لبطلانه. فإن ادُّعى دليلٌ لذلك: بأن مسلمًا أخرج أسانيد في صحيحه حُكم فيها بعدم لقاء رواتها لبعضهم، فإنه يلزم على هذا الاستدلال أن يكون البخاريُّ مثلَ مسلم، لأنه أخرج أيضًا أسانيد حُكم فيها بعدم لقاء رواتها لبعضهم (1) !!

_ (1) انظر أمثلةً لذلك في تحفة التحصيل للعراقي (رقم 275، 426، 457، 688، 358، 773، 790، 956 مع الحاشية، 983 مرتين، 1002، 1095، 1186) .

على أن الصواب: هو أن الشيخين (البخاريَّ ومسلمًا) كانا مراعيين لقرائن السماع وعدمه أتمَّ مراعاة، وأمّا ما أخرجاه وحُكم عليه بعدم السماع فإنه لا يتجاوز أن يكون اختلافَ اجتهادٍ بين الأئمة غالبًا، وقد يصح أن يُعتذر في بعض الأحاديث بأنهما إنما أخرجاها متابعةً أو شاهدًا لا على وَجْهِ الأصالة والاحتجاج (1) ، وقد يصحُّ أيضًا أن يكون إخراجُه بيانًا لعلّته!! فيما إذا كان سياقُ ذكرهما له يدل على هذا المعنى. وانظر كيف قاد اعتقادُ عدمِ مراعاة مسلم للقرائن إلى ظُلمِ مسلم (عليه رحمة الله) !! وذلك في قول ابن رجب: ((ويردُّ على ما ذكره مسلمٌ: أنه يلزمه أن يحكم باتّصال كل حديث رواه من ثبت له رؤيةٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل هؤلاء أولى، لأن هؤلاء ثبت لهم اللُّقِيّ، وهو يكتفي بمجرّد إمكان السماع. ويلزمه أيضًا الحُكْمُ باتصال حديث كل من عاصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمكن لُقِيُّهُ له، إذا روى عنه شيئًا، وإن لم يثبت سماعه منه، ولا يكون حديثُه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وهذا خلافُ إجماع أئمة الحديث)) (2) . لقد ظنَّ ابنُ رجب أن مسلمًا لا يراعي قرائن عد السماع، ولذلك ألزمه بهذين الإلزامين. فلن تجدَ في الردّ على ذلك الظنّ، ولا في دَفْعِ هذين الإلزامين، أقوى من تصريح مسلم بعدم التزامه بهما. ففي الإلزام الأول: يقول مسلم في كتابه (الطبقات) ، وفي طبقة

_ (1) وانظر موقف الإمامين لخالد الدريس (153- 156) . (2) شرح علل الترمذي لابن رجب (2/ 598) .

التابعين: ((فأوّل ما نبدأ بذكره منهم، من قيل له إنه وُلد في حاية النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعضُهم سمّاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالاسم الذي هو اسمه)) (1) . فيُعلن مسلم هنا أن هؤلاء ممن وُلد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمّاه النبي - صلى الله عليه وسلم -= أنهم من التابعين، وحديث التابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصفه أحدٌ بأنه متّصل. وأمّا الإلزام الثاني: فإن مسلمًا أول من صنّف جزءًا في المخضرمين، والمخضرمون أعلى طبقةٍ في التابعين. ومع ذلك فقد صَرّح مسلمٌ بعدم الحكم بلقائهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، عندما قال في افتتاح جزئه فيهم: ((ذكر من أدرك الجاهليّة، ولم يَلْقَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه صحب الصحابة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (2) . فانظر إلى قوله: ((ولم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم -)) وما يتضمّنه من عدم الاكتفاء المطلق بالمعاصرة. ونخلص بذلك أن شروط مسلم لقبول الحديث المعنعن ثلاثة (كما سبق) ، هي: الأول: المعاصرة. الثاني: أن لا يكون الراوي ممن تُرَدُّ عنعنته بالتدليس. الثالث: عدمُ وجود دليل يقطع بانتفاء اللقاء، أو قرينةٍ تشهد لعدمه.

_ (1) الطبقات لمسلم (1/ 227) . (2) معرفة علوم الحديث للحاكم (44) .

ثالثا: تحرير شرط أبي المظفر السمعاني (ت 489هـ)

ملاحظة: تعبيرُ بعضِ أهل العلم: ((بأن البخاري يشترط العلم باللقاء أو السماع، وأن مسلمًا لا يشترط العلم بذلك)) تعبيرٌ فيه تجوُّزٌ وتسمُّحٌ، الداعي إليه عند هؤلاء العلماء: الاختصارُ، وعدم خفاء المعنى المقصود لدى السامعين. ذلك أن الشيخين كليهما -في الحقيقة- يشترطان العلم بالسماع، لأن هذا هو مقتضى شرط الاتّصال الذي يتّفقُ الشيخان عليه. وإنما يظهر الفرق بين المذهب المنسوب إلى البخاري ومذهب مسلم في وسيلة العلم بالسماع، لا في العلم بالسماع المتّفق عليه بالاتفاق على اشتراط الاتصال. فالبخاري (في الشرط المنسوب إليه) لا يعلم بالسماع حتى يقف على نصٍّ صريح يدل عليه، ومسلمٌ لا يعلم بالسماع إلا بالشروط الثلاثة المذكورة سابقًا. لذلك فإن الأدقّ أن يقال في التعبير عن شرط الشيخين: إن البخاري (فيما يُنسب إليه) يشترط أن يثبت لديه نصٌّ صريح دالٌّ على اللقاء أو السماع، وأمّا مسلم فلا يشترط ذلك. مع اشتراطهما جميعًا الاتصال، الذي إنما يُتَصَوَّرُ حصوله باللقاء والسماع. وأنبِّه إلى هذا حتى لا يقع في بعض الأذهان أن مسلمًا لا يشترط العلم باللقاء والسماع، بمعنى أنه لا يشترط الاتصال!! ‍‍ ومع هذا التنبيه فلا أجدُ عليَّ من غضاضةٍ إذا ما استخدمتُ العبارة المختصرةَ التي استخدمها العلماءُ من قبل، تجوُّزًا وتسمُّحًا أيضًا‍ ثالثًا: تحريرُ شَرْطِ أبي المُظَفَّر السمعاني (ت 489هـ) . ذكر أبو المظفّر السمعاني مجادلةً بين الشافعيّة والحنفيّة حول حُجِّيَّة الحديث المرسل، وأن الحنفيّة احتجّوا على الشافعيّة بقبول الشافعيّة

للحديث المعنعن، مع احتمال الانقطاع والتدليس. فأجاب أبو المظفَّر السمعاني بقوله في (قواطع الأدلّة) : ((أمّا قولهم: إنه تُقبل الرواية بالعنعنة. قلنا: نحن لا نقبل، إلا أن نعلم أو يغلب على الظن أنه غير مرسل، وهو أن يقول: (حدثنا فلان) أو (سمعت فلاناً) ، أو يقول (عن فلان) ويكون قد أطال صحبته، لأن ذلك أمارة تدلّ على أنه سمعه منه. فأمّا بغير هذا، فلا يُقبل حديثُه)) (1) . فاحتجَّ بهذه العبارة جَمْعٌ من أهل العلم على أن أبا المظفر السمعاني يشترط في الحديث المعنعن شرطًا هو فوق الشرط المنسوب إلى البخاري، ألا وهو اشتراط طول الصُّحْبة، وعدم الاكتفاء بمجرّد اللقاء، فضلاً عن المعاصرة‍! إلا أن لأبي المظفّر السمعاني كلامًا أَحْكَمَ من كلامه السابق، واحد أهمّ وجوه إحكامه أنه ذكره في سياق كلامه عن حكم الحديث المعنعن وحكم التدليس، فهو واردٌ في موطنه اللائق به، والذي هو أَوْلَى المواطن بأن يُوفَّى فيه حقّه من البيان. يقول أبو المظفّر السمعاني: ((فأمّا من لم يشتهر بالتدليس ولم يُعرف به، قُبِل منه إذا قال (عن فلان) ، وحُمل في ذلك على السماع، لأن الناس قد يفعلون ذلك طلبًا للخِفّة، إذ هو أسهل عليهم من أن يقولوا في كل حديث: (حدثنا) . والعُرْفُ الجاري في ذلك يُقَامُ مقامَ التصريح)) (2) . ثم نقل السمعاني كلام الحاكم في قبول الحديث المعنعن

_ (1) قواطع الأدلة للسمعاني (2/ 456- 457) . (2) قواطع الأدلة (2/ 311- 312) .

مع السلامة من التدليس، بما تضمّنه كلام الحاكم من نَقْلِ الإجماع عليه (1) ، دون أن يخالفه في شيءٍ، بل نقله نَقْل المحتجِّ به المعتمدِ عليه. ففي هذا الموطن يصرّح أبو المظفّر أنه يقبل الحديث المعنعن دون قيد أو شرط، إلا من شرط أن لا يكون الراوي مدلّسًا. فإن قيل: لكنه أيضًا لم يشترط المعاصرة؟ قلت: لكن اشتراط المعاصرة أمرٌ بَدَهيّ، إذ كيف يتحقق الاتصال مع عدم المعاصرة؟ ‍! ثم ما معنى اشتراط سلامة الراوي من وصمة التدليس إذا لم يَكن هناك معاصرةٌ أصلاً؟ ‍‍!! وعليه: فإن اشتراط المعاصرة في مثل هذا السياق لا حاجةَ إليها، كما أن اشتراطَ أن لا يكونَ الراوي قد صَرّح بعدم اللقاء غير محتاج إليه فيه. فإن قيل: فأيُّ القولين المعبِّرُ عن مذهب أبي المظفّر السمعاني؟ فأقول: هذا السؤال بُني على محاولة الترجيح، فإن أردنا الترجيح، فلا شك أن كلام أبي المظفر في اشتراط طول الصحبة كلامٌ مرجوحٌ، في مقابل كلامه الذي لم يشترط فيه هذا الشرط، وذلك لأسباب: أولاً: أن كلامه الذي لم يشترط فيه طول الصحبة جاء في موطنه وسياقه المستحقِّ له، وهو موطن الحديث عن حكم الحديث المعنعن. بخلاف كلامه الذي اشترط فيه طول الصحبة، فإنه جاء في غير موطنه، على ما بيّنّاه عند ذكره. والكلام الوارد في سياقه الطبيعي وموطنه اللائق به أولى بالتحرير والتدقيق من كلامٍ ورد عَرَضًا في غير مظنّته، لذلك

_ (1) انظر ما يأتي (95- 102) .

كان كلامه الذي لم يشترط فيه طول الصحبة أولى بالتقديم وأحق بالترجيح. ثانيًا: أن كلامه الذي لم يشترط فيه طولَ الصحبة، والذي جاء في موطنه اللائق به= كلامٌ يوافقه عليه جَمْعٌ من الأئمة (إن لم يكن جميع الأئمة) ، وعلى رأسهم الإمام مسلم والحاكم (الذي أورد كلامه محتجًّا به) . بخلاف كلامه الذي اشترط فيه طول الصحبة، والذي جاء في غير سياقه الطبيعي= فإنه كلامٌ لا يوافقه عليه أحدٌ، ومذهبٌ غريب لا متابع له فيه. وأَوْلى بالإمام الذي له قولان، أحدهما موافقٌ لجَمْع من الأئمة، والآخرُ مخالفٌ لجميع مذاهب الأئمة، أن يكون أولى المذهبين وأحرى القولين أن يُنْسَبَ إليه= ما كان موافقًا، لا ما كان شاذًّا مستنكرًا. ثالثًا: أن السمعاني لمّا قال كلامه الذي لم يشترط فيه طول الصحبة، علَّلَ قبول العنعنة بأن للعنعنة معنىً عُرْفيًّا يدل على الاتّصال. وهذا التعليل الذي صدر من السمعاني نفسه لبيان سبب قبول العنعنة، لا يكون لاشتراط طول الصحبة معه أيّ معنى، ولا يُتصَوَّر أن صاحب هذا التعليل يعود إلى اشتراط طول الصحبة، الذي هو شرطٌ يدل على أن القائل به كان غافلاً عن ذلك التعليل كل الغفلة (1) . رابعاً: أن كلام السمعاني الذي لم يشترط فيه طول الصحبة جاء مُعَلَّلاً، ومستدلاً عليه بكلام الحاكم أحدِ أئمة الحديث، بما تضمّنه كلامه من نقل الإجماع. بخلاف كلامه الذي فيه اشتراط طول الصحبة، فإنه لم يحشد له تلك الأدلّة. والكلام المؤيَّد بالدليل، أولى من الكلام الغُفْل المهمل من الدليل والبرهان.

_ (1) انظر ما يأتي من أَثَرِ دلالةِ (عن) العرفيّة على الاتصال في ترجيح مذهب مسلم (148- 151) .

هذا كله إن أردنا الترجيح بين قولي السمعاني، لكن الأولى أن نحاول الجمع بين قوليه، فذلك خيرٌ من ضربهما ببعضهما، خاصةً وأنهما قولان صادران من إمام واحد، بل في كتاب واحد أيضًا. والجمع يظهر من التدقيق في كلام السمعاني الذي اشترط فيه طُولَ الصحبة، والتنبُّهِ إلى أنه لم يشترط فيه انتفاءَ التدليس لقبول العنعنة أنه كان يريد أن يذكر حالةً من حالات الرواية بالعنعنة تكون محكومًا عليها بالاتّصال مطلقًا، حتى لو كان الراوي المُعَنْعِنُ مدلِّسًا. ولذلك ذكر شَرْطَ طول الصحبة، حيث إن من كان مختصًّا بشيخ ملازمًا له حُملت عنعنته عنه على الاتّصال، ولو كان من مشاهير المدلسين، كما هو مقرّر في هذا العلم (1) . وبذلك يكون السمعاني قد بيّن سِعَةَ دائرة قبول الحديث المعنعن، ففي كلامه الذي كان يتحدّث فيه عن حُكم الحديث المعنعن بيّن أنه حديثٌ مُتّصل من عامّة الرواة، ولم يَسْتَثْنِ إلا المدلسين، فهم وحدَهم الذين لا تُحمل عنعنتهم على الاتصال. ثم عاد السمعاني في الموطن الآخر إلى بيان أن الحديث المعنعن قد يُقبل حتى من المدلِّس، وذلك فيما إذا كان المدلِّس يروي عمن أطال صحبته من شيوخه. وقَصْدُهُ من ذلك إظهارُ ضَعْفِ حُجّة من شَبَّه الحديث المرسل بالحديث المعنعن بجامع الإرسال في الأول واحتماله في الثاني، فبيّن له بذلك أن من الأحاديث المعنعنة ما تُقبل من كل الرواة، ومنها ما

_ (1) انظر المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس (1/ 350، 492) .

يُقبل من غير المدلسين، لضعف احتمال الإرسال، وغلبه الظن بالاتّصال فيهما. وبذلك يظهر لمن كان يناظره السمعاني أن غالب الأحاديث المعنعنة محمولة على الاتّصال، وأن احتمال الإرسال فيها ضعيفٌ بعيد. وغايةُ ما يقال: إن السمعاني أراد أن يذكر حالةً للحديث المعنعن يُقبل فيها من جميع الرواة ولو كانوا مدلِّسين، لذلك اشترط طول الصُّحْبة، بدليل عدم اشتراطه انتفاء التدليس لقبول العنعنة، وبدليل أن الشرط الذي ذكره هو الشرط الذي تُقْبَل معه العنعنة من المدلِّس. وكفى بهذين الدليلين بيانًا لمقصود السمعاني‍!! وبذلك يتّضحُ مثالٌ جديدٌ لما اكتنفَ هذه المسألة من الإشكالات، وما أحاط بها من الفُهُوم غير الموفّقة، التي كادت تُخفي معالم الصواب فيها. إذ إن اعتقادَ بعضِ أهل العلم أن أبا المظفَّر السمعاني يشترط طول الصُّحْبة، قد ساعدَ في تثبيت الشرط المنسوب إلى البخاري، إذْ إن في شرط طول الصُّحْبة مخالفةً قويّةً لشرط مسلم من جهة، ويقدح في الإجماع الذي نقله مسلم من جهةٍ أخرى، وأخيرًا: يجعل الشرط الذي نُسِبَ إلى البخاري مذهبًا وَسَطًا بين إفراط السمعاني وتفريط مسلم (1) !! ‍! وهذا الموقف ذكّرني بعددٍ من الأقوال لبعض الأئمة، فُهِمت خطأً، وتضاربت الأقوال في تحديد مذهب أصحابها. سأذكر منهم هنا واحدًا، وأرجيءُ البقيّة إلى صُلْب البحث.

_ (1) يقول ابنُ رُشيد عقب ذكره مذهب أبي المظفر السمعاني عن المذهب المنسوب إلى البخاري: ((وهو مذهبٌ متوسّط)) ، ويقول: ((وهو أرجح المذاهب وأوسطها فلا تَغْلُ في شيءٍ من الأمر واقتصد ... كلا طَرَفَيْ قَصْدِ الأمور ذميمُ)) السنن الأبين (52، 65) .

فهذا الإمام أبوبكر الصيرفي (ت 330هـ) شارحُ (الرسالة) للشافعي، بينما ينقل عنه ابنُ رجب الحنبلي أنه يشترط العلم بالسماع (1) ، ينقل عنه غيرُه خلافَ ذلك، فنقل العلائي (2) وابنُ رُشَيد (3) (كلاهما) عن الصيرفي أنه على مذهب مسلم. وقد وجدتُ عبارةً طويلةً للصيرفي تؤيّد مذهب مسلم، نقلها عنه الزركشي في (البحر المحيط) (4) . وبذلك تعلم مقدارَ ما استولت نسبةُ ذلك الشرط إلى البخاري على أذهان بعض أهلِ العلم، حتى ربما فُهمت العبارة الواحدة أكثر من فهم، ونُسب إلى الإمام الواحد أكثر من مذهب!! فالتجرُّدُ في دراسة هذه المسألة، وهَجْرُ المألوفات العلميّة، وتَرْكُ ما يُظَنّ أنها مُسَلَّماتٌ ثوابت دون أن يكون لها من ذلك نصيب، وعَرْضُ كُلِّ قولٍ على مُسْتَنَدِهِ ودليله، فما قام به مُسْتَنَدُه قُبِل، وما أيّده الدليلُ نُصر، وما لم.. رُدَّ وهُجِر= هذا هو السبيل الوحيد لمن كَرِهَ الخطأ، وأَنِف من مَعَرَّةِ الجهل، وأَحبَّ الصواب، ورغب في زينة العلم.

_ (1) شرح علل الترمذي لابن رجب (2/ 586) . (2) جامع التحصيل (117) . (3) السنن الأبين (70) . (4) البحر المحيط للزركشي (4/ 311) .

المسألة الثانية: نسبة القول باشتراط العلم بالسماع إلى البخاري: تاريخها، ودليلها، ومناقشة الدليل

المسألة الثانية: نسبة القول باشتراط العلم بالسماع إلى البخاري: تاريخُها، ودليلُها، ومناقشة الدليل الذي لا يختلف فيه اثنان: أن البخاري لم يُصَرِّح بالشرط المنسوب إليه، وهو اشتراطُ النصِّ الدال على اللقاء أو السماع، وأنه لا صَرّح بذلك في صحيحه ولا خارج صحيحه. وهذه قاعدةٌ، نبني عليها، لأنها محلّ اتّفاق. والقاعدة الثانية: أن كتاب (صحيح البخاري) لا ينفع أن يكون دليلاً على صحة نسبة ذلك الشرط إلى البخاري، ولو تحقّق فيه ذلك الشرط فعلاً دون انخرام، فكيف والشأن أنه لم يتحقق فيه!!! أمّا عدمُ صَلاَحِيَتِهِ لإثبات نسبة ذلك الشرط إلى البخاري ولو كان الشرطُ مُتحقّقًا فيه= فلأن البخاري أسَّسَ كتابه على شدّة الاحتياط، وبناه على المبالغة في التحرِّي. فتحقُّقُ ذلك الشرط في صحيح البخاري (لو تحقق) لا يلزم منه أن البخاريَّ كان يشترطه، لأنه حينها خرج مخرج الاحتياط والتَّحَرِّي. فكم من حديثٍ صحيح عند البخاري، لم يخرجه في الصحيح احتياطًا لصحيحه، وكم من رجل ثقةٍ عنده تجنّب التخريج له في الصحيح زيادةً في التنزيه لكتابه. فكما لم يدل تركه لذلك الحديث أنه غير صحيح عند البخاري، وكما لم يدل تجنُّبُهُ ذلك الراوي أنه ضعيف عنده= فكذلك تجنُّبُهُ لحديث من عَنْعَنَ عمّن عاصره ولم

يأت ما ينصُّ على لقائه به (لو التزمه البخاري) لا يدل على أن البخاري يردّ هذه الحالة من حالات الحديث المعنعن، ولا يدل (بالتّالي) أنه يشترط العلم باللقاء. فإن قيل: هذا فيه مَيْلٌ إلى ترجيح قَوْلِ من زَعَمَ أن شَرْطَ البخاري المنسوب إليه شَرْطُ كمال، بمعنى أنه شرطٌ له في (الجامع الصحيح) لا في أصل الصحّة. فأقول: لا، حاشا أن نميل إلى قولٍ لا دليل عليه، بل الدليل ينقضه. فإني أقول لأصحاب هذا الرأي: أبرزوا الدليل على ما تقولون؟ فالبخاري لم يصرّح به، و (الصحيح) ينقضُه (كما يأتي) ، والعلماء لمّا أعلُّوا بعض أحاديث (الصحيح) بعدم السماع -كما يأتي-، لم يعتبروا لهذا الشرط وجودًا، وإلا لكانوا أعرف الناس بقاعدة (من علم حجّة على من لم يعلم) ، فما بالُهم بَنَوْا تعليلهم على المشاحّةِ في ذلك؟ ‍! أمّا عدمُ تحقُّقِ شرط العلم باللقاء في صحيح البخاري نفسه، فهذا ما سيأتي إثباته، وأن البخاري أخرج أحاديث تحقّق فيها عدمُ اللقاء (عند البخاري قبل غيره) ، وأحاديثَ لم يعلم فيها باللقاء! ‍!! (1) . والقاعدة الثالثة: أنّ أوّل من نسب هذا الشرط إلى البخاري وعلي ابن المديني هو القاضي عياض (ت 544هـ) في كتابه (إكمال المعلم) ، حتى إن ابن رُشيد (ت 721هـ) في كتابه الذي خصَّهُ لهذه المسألة لم يذكر أحدًا قبل القاضي عياض نسب هذا الشرط إلى البخاري.

_ (1) وانظر ردّ خالد الدريس على أصحاب هذا المذهب في كتابه: موقف الإمامين (137- 140) .

والقاضي عياض لمّا نسب هذا الشرط إلى البخاري لم يذكر دليلاً على ذلك، ولا شِبْهَ دليل، ولا أشار إلى شيءٍ من ذلك. بل كانت نسبته له نسبةً مختصرةً، لا دليل ولا تعليل ولا تطويل. حيث قال في شرحه لمقدّمة مسلم وما تضمّنته من الكلام عن الحديث المعنعن: ((والقول الذي ردّه مسلم هو الذي عليه أئمةُ هذا العلم: علي ابن المديني، والبخاري، وغيرهما)) (1) . فانقسم العلماء بعده قسمين: - قِسْمٌ قلّدوه تقليدًا محضًا في إثبات ذلك الشرط، ولم يبحثوا عن دليله أصلا، لكنّهم صُدِموا بأن صحيح مسلم يخالفه في هذا الشرط، فقادتهم جلالةُ مسلم ومكانة صحيحه إلى أن يدّعوا أن شرط العلم باللقاء شَرْطُ كمال. ونَسُوا أن قولهم هذا لا دليل عليه أيضًا‍! بل الدليل ينقضه!! ولم يتذكّروا أن مسلمًا إنما ردّ في مقدّمته على من اعتبر ذلك الشرط شَرْطَ صِحّة لا شَرْط كمال، بل إن دليل نسبة ذلك الشَرْط إلى البخاري مأخوذٌ من خارج صحيحه (كما يأتي) لا من صحيحه، فأنَّى يكون ذلك الشرط شرطًا للبخاري في الصحيح دون خارجه؟! ‍! ومن هؤلاء العلماء: ابن كثير، والبلقيني، وتبعهم أبو غُدّة، والألباني (2) . - والقسم الآخر من العلماء: قلَّدوا القاضيَ عياضًا تقليدًا محضًا في أنّ البخاري يشترط ذلك الشرط، فنسبة ذلك الشرط إلى البخاري عندهم مستغنيةٌ عن الدليل! ‍! لكنّهم بحثوا عن نماذج تطبيقيّة لهذا

_ (1) إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض -مقدّمة- (307- 312) . (2) سبق العزو إلى كتبهم (15) .

الشرط (في ظنّهم) ، إما لأجل ترجيح مذهب البخاري (كما نسبوه إليه) على مذهب مسلم (مثلما فعل ابن رُشيد وابن رجب) ، وإمّا لأجل الردّ على من ادّعى أنه شرطُ كمال للبخاري في صحيحه وليس شرطًا له في أصل الصحّة (مثلما فعل الحافظ ابن حجر في نكته) . وهؤلاء العلماء يأتي في مقدّمتهم: ابن رُشيد، وابن رجب، وابن حجر. وأيّدهم صاحبُ الرسالة المختصّة بهذه المسألة: خالد الدريس. ونستخلص من هذه القاعدة فوائد: الأولى: أن قسمًا من العلماء ليس لهم في إثبات نسبة هذا الشرط إلى البخاري ثقلٌ كبير، لأنّه لا جُهْدَ لهم فيها غير محض التقليد للقاضي عياض! فلا يُستغرب من كثرة المخطئين بعد ذلك في هذه المسألة، لأنّ بعض هذه الكثرة خرج عن سَنَنِه المعتاد في عدم قبول القول إلا بعد الاجتهاد والنظر في الدليل. الثانية: أنّ العلماء الذين استدلّوا لم يكن استدلالُهم لأجْلِ التحقُّقِ من صحّة نسبة ذلك الشرط إلى البخاري، إنما كان استدلالهم (في الغالب) لترجيح المذهب الذي نسبوه إلى البخاري على مذهب مسلم. وهذه نقطةُ ضَعْفٍ كبرى في منهج الاستدلال في هذه المسألة، هي التي أدّت إلى كل ذلك الخطأ الكبير العميق فيها. بل وهذه النقطة تجعلني أدخل غمار هذه المسألة وحدي، لا خَصْم لديَّ أناظره، لأن مُخَالِفِيَّ في هذه المسألة كانوا يستدلون على غير محلّ النزاع. الثالثة: أنّ العلماء الذين استدلّوا لم يلجؤوا إلى (صحيح البخاري) لانتزاع الأدلّة منه، وإنما ذهبوا إلى كتب البخاري الأخرى كـ (التاريخ

الكبير) و (الأوسط) و (القراءة خلف الإمام) . فعلوا ذلك مع أن (صحيح البخاري) هو المُسْتَدَلُّ له والمقصود بالمسألة أصلاً، وفعلوا ذلك مع خبرتهم الكبيرة بـ (صحيح البخاري) ، كصاحبي (فَتْحَيِ الباري) . ابنِ رجب، وابنِ حجر‍‍!! تأمَّلْ هذا الأمر وتدبَّرْهُ: لِمَ فعلوا ذلك؟! فستصلُ إلى أن جوابَ هذا الموقفِ الغريبِ في أحد احتمالين: إمّا أنّهم لم يجدوا فيه الدليل‍! أو أنّهم عرفوا أنه لا يصلح للاستدلال (كما سبق بيانه) ! وأيَّ الجوابين رضيتَ، فهو الذي سيعينُك على معرفة الحق في هذه المسألة (إن شاء الله تعالى) . وبعد هذه القواعد لسائل أن يَسْأَل: ما هو دليل نسبة هذا الشرط إلى البخاري وغيرِه من أهل العلم ممن نُسب إليهم؟ والجواب: أنّ السؤال خطأ من أساسه، لأن العلماء لم يستدلُّوا لذلك أصلاً، خاصةً في حق البخاري وابن المديني (اللذين نسب إليهما القاضي عياض ذلك الشرط) ، كما سبق. حتى مَنْ نسب ذلك الشرط إلى غير البخاري وابن المديني (كابن رجب) ، فإنما كان يذكر أدلّة نسبته إلى غيرهما بعد التسليم منه أنه شرطهما، وأن مسلمًا يخالفهما ويردّ عليهما، دون التثبُّت من صحّة هذا التسليم (أو قُل: التقليد) . فالسؤال يجب أن يكون: ألمْ يذكر العلماء ما ينفع أن يكون دليلاً على صحّة تلك النِّسبة في وجهة نظرهم؟ وإن لم يَقْصُدُوا هُمُ الاستدلالَ لذلك؟ فإن كان هذا هو السؤالَ، فالجوابُ: نعم، ذكروا ما يظنونه دليلاً. لكن قبل ذِكْرِ شُبْهَتِهم، يكفيك من قولٍ ضَعْفًا أنه لم يُسْتَدَلَّ عليه‍!!

إذن ما هو الدليل؟ هو باختصار: إعلالُ بعضِ الأحاديث بنفي العلم بالسماع أو اللقاء، كقول البخاري وغيره: ((فلان لا أعرف له سماعًا من فلان)) ، أو ((فلان لم أجد له سماعًا من فلان)) ، أو ((لا يذكر سماعًا من فلان)) ، ونحو ذلك من العبارات. وَوَجْهُ استدلالهم بذلك: أن الإعلال بنفي العلم بالسماع يدل على اشتراط العلم بالسماع، وإلا لم يكن لذلك الإعلال معنى. هذه هي الحجة الوحيدة التي ذكرها العلماء، والتي دَلّ إيرادُهم لها عَرَضًا لغير أصل مسألتنا (كما سبق) ، أنهم يعتبرونها حُجّةً على صحّة نسبة ذلك الشرط إلى البخاري وغيره من أهل العلم. ولم يذكر أحدٌ من أهل العلم علمتُهُ حُجّةً أخرى تنفع لتصحيح تلك النِّسبة، فليس لهم سواها. ومن ادّعى وجود حُجّة غيره هذه، فَلْيُظْهِرْها لي. أما وأنّ دليل نسبة اشتراط العلم بالسماع إلى البخاري هو ذلك الدليل وحدَه، فإن تصحيح هذه النسبة أو عدم تصحيحها منوطٌ بهذا الدليل وَحده أيضًا. فإن قام بالحُجّة: فالنسبة صحيحة، وإن لم يقم بالحُجّة: فالنسبة غير صحيحة، لأن القول العاري من الدليل عارٍ من أسباب القبول، ولا ترضاه العُقُول. لذلك فإن مناقشة ذلك الدليل مهمّةٌ جدًّا، وهذا ما سأقوم به الآن: لقد قام ذلك الدليل على أن إعلال البخاري وغيره للحديث بعدم العلم بالسماع يدل على اشتراط العلم بالسماع. وَوَجْهُ الاستدلال هذا

- أن نفي العلم بالسماع هو ترجيح أو قطع بعدم السماع

إنما يصح فيما لو كان الإعلالُ بنحو قولهم ((لا أعرف لفلان سماعًا من فلان)) إعلالاً بعدم العلم بالسماع فعلاً، وإعلالاً بعدم العلم بالسماع وَحْدَهُ، فهل الأمر في نحو تلك العبارة على هذا المعنى حقًّا؟ قبل الجواب التفصيلي المدلَّل عليه، أذكّر بأمرٍ لا يخفى على المتخصِّصين، يتعلّق بأحكام أئمة الحديث بعدم السماع أو الانقطاع والإرسال بين راويين متعاصرين، تلك الأحكام التي صُنِّفت لجمعها مؤلفات مفردة، كـ (المراسيل) لابن أبي حاتم و (جامع التحصيل) للعلائي و (تحفة التحصيل) لأبي زرعة العراقي. لا يشكُّ من نظر في تلك الأحكام بعدم السماع وبالانقطاع، والتي ظاهرُها الجزم بعدم وقوع سماع= أنها غالبًا مبنيّةٌ على قرائن تتعلّق بالراوي أو المرويِّ عنه أو بالخبر المروي أو بذلك كله أو بعضه. وأنها ليست مبنيّةً على خبرٍ من الراوي (المحكوم بعد سماعه) ، يُعلنُ فيه بأنه لم يسمع من فلان.. إلا نادرًا أو قليلاً. هذا أمرٌ لا يشكُّ فيه المتخصّصون، ولن يشك فيه غيرهم فيما لو تمهّل حتى ينظرَ في الأمثلة الآتية بعد هذا الجواب الإجمالي. والقرائن الدالّة على عدم السماع قد تتوارد، فتفيد القطع بعدم وقوعه فعلاً. وقد لا تصل إلى هذا الحدّ، فتفيدّ غلبة الظن بعدم وقوعه فقط. فإن كانت القرائن الدالّة على عدم السماع فيما دون حَدِّ القطع بعدم وقوعه، فإن الراوي لو صَرّح بالسماع (فيما يثبتُ عنه) ممن أفادت القرائنُ غلبةَ الظن بعدم سماعه منه، فإن الأصل تقديمُ النصِّ على القرائن، لأنه من باب تقديم القطعي الدلالة على الظنّي الدلالة. فيكون

الأصلُ في هذه الحالة الحكمَ بالسماع، وعدمَ النظر إلى القرائن. لكن إن لم يوجد نصٌّ دالٌّ على السماع، فإن إفادة القرائن غلبةَ الظن بعدم وقوع السماع تبقى هي المعمولُ بإفادتها المحكومُ بما تُرجّحُهُ. وهنا يظهر أن الوقوفَ على نصٍّ دالٍّ على السماع أو عدم الوقوف عليه هو القاعدة التي ننطلق منها في إعمال دلالة القرائن أو عدم إعمالها، ولذلك كان التنصيص على عدم وجود لفظٍ دالٍّ على السماع عند وجود تلك القرائن أمرًا محتَّمًا، لاستكمال المقدِّمات التي ستُوصِلنا إلى النتيجة. وهذا وَجْهٌ أوّلٌ لسبب الإعلال بعدم العلم بالسماع، وهو أنه إعلامٌ بأن الراوي لم يذكر نصًّا دالاًّ على السماع، وغالبًا لا يكون لهذا الإعلام أيّ فائدة إلا إن كانت هناك قرائن تشهد لعدم السماع. والوجه الثاني: أننا بيّنّا آنفًا أن الحكم بعدم السماع الذي يرد كثيرًا في أحكام الأئمة مبنيٌّ (في الغالب) على مُلاحَظَةِ القرائن، وليس مبنيًّا على خبرٍ يقيني ونصٍّ من الراوي نفسه (مثلاً) بأنه لم يسمع من فلان.. إلا نادرًا. وما دام الأمر كذلك، فإن القرائن وحدها قد لا تصل إلى حدّ إفادة القطع بعدم اللقاء، وقد تقترب من إفادة القطع، وقد تفيده. لكن يبقى أن الطريق إلى ذلك كله (وهو القرائن) طريقٌ وعر، والحكم الصادر من خلاله حكمٌ على مُغَيَّبٍ مجهول، لذلك كان من تمام الورع ومن الدقَّة في التعبير أن يستخدم الأئمة عباراتٍ تتضمن التشكيكَ في السماع وترجيحَ عدمِ وقوعه، دون تَجَاوُزِ ذلك إلى عباراتِ الجزم والقطع. فكانت عبارة نفي العلم بالسماع إحدى هذه العبارات، التي إنما قُصِد بها إعلانُ الشكِّ في السماع وترجيح عدمه.

كما كان منها ايضًا نحو قولهم: ((فلان لا أدري سمع من فلان أو لم يسمع)) (1) . والمقصود من نحو هذه العبارات بيان أن هناك قرائن تشهد لعدم حصول السماع، مع عدم قيام ما يدفع هذه القرائن، وهو النصّ الصريح الدال على السماع. وما زال العلماء (قديمًا وحديثًا) يتعاملون مع عبارات نفي العلم بالسماع على هذا المعنى الصحيح، وهي أنها عباراتُ نفيٍ للسماع، وأنها مثل قول العالم ((لم يسمع فلان من فلان)) أو ((فلان عن فلان منقطع)) أو ((مرسل)) ونحوها من العبارات التي فيها جزمٌ بعدم السماع. ولم يتعاملوا معها على أنَّها عباراتٌ تدلُّ على خبرٍ مجرّد بعدم العلم بالسماع، خبرٍ قائمٍ على اشتراط العلم بالسماع. وهذا أمرٌ جليٌّ، لا أظن أنه محلّ نزاع. فإن كانت ((لا أعرف لفلان سماعًا من فلان)) تُساوي ((لم يسمع فلان من فلان)) ، وأنها تعني ترجيح عدم السماع لقيام القرائن الدالة على عدمه= فبيّنوا لي وَجْهَ الاستدلال بنفي العلم بالسماع على أنه دليل اشتراطِ العلمِ به؟ ‍! بيّنوا لي ذلك، فإني لا أرى له وجهًا! ‍! وأرجو أن لا يتجاوز القارىء المدقِّق هذه المسألة حتى يجيب، وإلا فلا داعي لأن يُتِمَّ، لأنه حينها لا يُريد أن يتمَّ القراءة بفهم! ‍!! ‍ وأزيد مقصودي توضيحًا فأقول: إن الاستدلال بعبارات نفي العلم بالسماع على أنّ قائلها يشترط العلم بالسماع إنما يصحّ ويتوجّه إذا ما

_ (1) انظر امثلةً لهذا التعبير في المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 433، 378، 449، 558، 559، 813، 814، 939) .

كانت هذه العبارات خبرًا مجرّدًا عن عدم العلم باللقاء، لأن عدَمَ العلم باللقاء وحده هو سبب الإعلال وعدم القبول. ولذلك كان لازِمُ هذا المذهب، وهو نصُّ قائله أيضًا، ومن تابعه (كابن القطان الفاسي) (1) = أن الحديث المعنعن الذي لم يُعلم لقاء رواته ببعضهم أنه لا يقال عنه منقطع، وإنما يُكتفى بالتوقّفِ عن الحكم له بالاتصال. وهذا موقفٌ صريحٌ أن ((لا أعلم لفلان سماعًا من فلان)) عند أصحاب هذا المذهب لا تعني ترجيحَ الانقطاع على الاتصال، وإنما هي خبرٌ مجرّدٌ عن عدم العلم باللقاء، الذي هو علّةٌ كافيةٌ وحدها للتوقف عن الحكم بالاتصال. ولا شك أن هذا هو لازم مذهبهم، والذي التزموه فعلاً. وهذا الفهم لعبارات نفي العلم بالسماع وما بُني عليه من الاستدلال فهمٌ غريبٌ جدًّا، وفهمٌ بعيدٌ كل البُعْد، ويتعارض مع تطبيقات العلماء قديمًا وحديثًا (كما سبق) . فلم يزل العلماء يُوردون عباراتِ نفي العلم بالسماع على أنها عباراتُ نفيٍ للسماع، وأنها تدل على ترجيح الانقطاع، بل على أنها تدل على الجزم بالانقطاع أيضًا!! ‍ وهذا الفهم الذي عليه عمل العلماء (والذي يُناقِضُ تنظيرهم في مسألتنا هذه) هو الفهم الصحيح، وهو الفهم الذي يقضي على ذلك الاستدلال البعيد المأخوذِ من ذلك الفهم الغريب!!!

_ (1) انظر ما سبق (16- 17) .

ومع أن عبارات نفي العلم بالسماع كانت وما زالت تدلّ (عند المشتغلين بعلم الحديث) على نفي السماع، وأنه لا فرق بينها في المعنى غالبًا، لأن عبارات نفي العلم بالسماع وعبارات نفي السماع إنما هي مبنيّة على القرائن= إلا أنّ هذه المُسلَّمةَ الصحيحةَ ستصبح عند بعضهم محلَّ نظر وشك، لا لشيءٍ، إلا لأنّها سَتَنْسِفُ مسلّمةً أخرى، قد تكون أكثر رسوخًا في نفوسهم!! ‍ لذلك فإني سأذكّر هنا بأمثلةٍ يسيرةٍ جدًّا، تدل على أن نفي العلم بالسماع يعني ترجيح عدم حصول السماع، لا أنه مجرّد خبرٍ عن عدم الوقوف على ما يدل عليه، كما يريد المستدلون به على أنه دليلُ اشتراط العلم بالسماع. * فانظر إلى قول الترمذي: ((لا نعرف للأسود سماعًا من أبي السنابل، وسمعت محمدًا يقول: لا أعرف أن أبا السنابل عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (1) فهذا نفي للعلم بالسماع، مع عدم المعاصرة أصلاً بين الراويين!! فهل هو إعلالٌ بعدم العلم بالسماع بناءً على اشتراط العلم به؟ ‍! * ويقول الترمذي: ((لا نعرف لأبي قلابة سماعًا من عائشة، وقد روى أبو قلابة عن عبد الله بن يزيد رضيع عائشة عن عائشة غير هذا الحديث)) (2) فهذا نفي للعلم بالسماع، مُعلّلاً بقرينة ذكر الواسطة.

_ (1) جامع الترمذي (رقم 1193) . (2) جامع الترمذي (رثم 2612) .

هذا مع قول الدارقطني: ((أبو قلابة عن عائشة: مرسل)) (1) . كذا على الجزم. * ويقول الترمذي: ((هذا حديث ليس إسناده بمتّصل، ربيعةُ بن سيف إنما يروي عن أبي عبد الرحمن الحُبُلِّي عن عبد الله بن عَمرو، ولا نعرف لربيعة بن سيف سماعًا من عبد الله بن عَمرو)) (2) . فانظر كيف جزمَ أوّلاً بعدم الاتصال، وبيّن قرينة ذلك، ثم عاد لنفي العلم بالسماع! هذا من أوضح ما يكون. * ويقول الترمذي: ((لا نعرف لزيد بن أسلم سماعًا من أبي هريرة، وهو عندي حديث مرسل)) (3) . فينفي العلم بالسماع، ثم يجزم بالإرسال. ويؤكد نفي السماع أن يحيى بن معين وعلي بن الحسين بن الجنيد نفيا السماع (4) . * ومثلهُ في الوضوح قول النسائي في ((المجتبى)) : ((هذا الحديث عندي مرسل، وطلحة بن يزيد لا أعلمه سمع من حذيفة شيئًا، وغير العلاء بن المسيب قال في هذا الحديث: عن طلحة عن رجل عن حذيفة)) (5) .

_ (1) العلل للدارقطني (5/ 137/أ) . (2) جامع الترمذي (رقم 1074) . (3) جامع الترمذي (رقم 3846) . (4) تحفة التحصيل لأبي زرعة العراقي (رقم 287) . (5) سنن النسائي (رقم 1665) ، وانظر تحفة الأشراف (3/ 43- 44) .

* وقال عبد العزيز النخشبي: ((لا نعرف سماع سلامة من علي، والحديث مرسل)) (1) . * ويقول البزار: ((محمد بن المنكدر لا نعلمه سمع من أبي هريرة)) ثم قال في آخر الباب: ((وقد ذكرنا أن محمد بن المنكدر لم يسمع من أبي هريرة. . .)) إلى آخر كلامه (2) . ألا تراه ينفي العلم بالسماع، ثم يُبَيِّنُ أنه استفاد من ذلك الحكمَ بالإرسالِ وعدمِ الاتصال. • ومن الأمثلة الواضحة على ذلك: أنهم قد ينفون العلم بالسماع للشك في المعاصرة أصلاً، بل ربّما مع العلم بعدم حصول المعاصرة‍! * كقول البخاري: ((إبراهيم [بن محمد بن طلحة] قديم، ولا أدري سمع منه عبد الله بن محمد بن عقيل، أم لا)) (3) . * وقوله: ((لا نعرف لمحمد بن أبان سماعًا من عائشة)) (4) . مع كون محمد بن أبان من أتباع التابعين (5) ، أي مع عدم المعاصرة. * وذكر البخاري حديثًا لعبد الله بن نافع بن العمياء عن ربيعة بن الحارث عن الفضل بن العباس، ثم قال: ((لا يُعرف سماع هؤلاء بعضهم من بعض)) (6) .

_ (1) تحفة التحصيل للعراقي (رقم 360) . (2) بيان الوهم والإيهام لابن القطان (2/ 397) . (3) العلل الكبير للترمذي (1/ 187- 188) . (4) التاريخ الكبير للبخاري (1/ 32) . (5) انظر لسان الميزان (5/ 32) . (6) التاريخ الكبير للبخاري (3/ 283- 284) .

فبيّن الطحاوي في (مشكل الآثار) عدمَ معاصرة عبد الله بن نافع لربيعة بن الحارث، حتى قال: ((محالٌ أن يكون عبد الله بن نافع لقي ربيعة بن الحارث)) (1) . * وقال البخاري: ((شعيب بن محمد الغفاري سمع محمد بن قنفذ عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: مرسل، ولا يُعلم سماعٌ لمحمد من أبي هريرة)) (2) . * وقال البخاري: ((محمد بن أبي سارة عن الحسن بن علي، روى عنه محمد بن عبيد الطنافسي، ولا يُعرف له سماع من الحسن)) (3) . وقال في موطن آخر: ((محمد بن عبد الله بن أبي سارة المكي القرشي: سمع سالمًا، روى عنه ابن المبارك وزيد بن الحباب. ويُقال: محمد بن أبي سارة منقطع)) (4) . أي حديثه الذي نُسب فيه إلى جَدّه منقطع، وهو حديثه عن الحسن بن علي الذي نفى فيه علمَه بسماعِهِ منه. هذا مع كون محمد بن أبي سارة مجزومٌ بعدم سماعه من الصحابة، ولذلك جزم بها البخاري في الموطن الآخر، فقال: ((منقطع)) . أضف إلى ذلك أنه من طبقة أتباع التابعين، بدليل طبقة شيوخه، وتلميذه محمد بن عبيد الطنافسي، الذي هو من أتباع أتباع التابعين. * وقال البزار: ((لا نعلم لعطاء بن يسار من معاذ سماعًا)) (5) .

_ (1) شرح مشكل الآثار للطحاوي (3/ 130- 131) . (2) التاريخ الكبير للبخاري (4/ 221) . (3) التهذيب (7/ 423) . (4) التاريخ الكبير للبخاري (1/ 110) . (5) التاريخ الكبير للبخاري (1/ 131) .

مع تعبير الترمذي عن ذلك بقوله: ((لم يدرك معاذ بن جبل)) (1) . ففسّر أبو زرعة العراقي ذلك بقوله: ((وما قالاه من عدم الإدراك، لأنه وُلد سنة تسع عشرة، ومات معاذ سنة ثماني عشرة)) (2) . * وقال الدارقطني عن عمارة بن غَزِيّة: ((لا نعلم له سماعًا من أنس)) (3) . مع أن الدارقطني نفسه يقول في (سؤالات البرقاني) له: ((مرسل: عمارةُ لم يلحق أنسًا)) (4) . وأكد ابن حبان هذا المعنى عندما ذكر عمارة بن غزية في أتباع التابعين (5) ، ومع أنه ذكره أيضًا في التابعين، لكنه قال: ((يروي عن أنس، إن كان سمع منه)) (6) . • وربّما نفى أحدُ الأئمة العلمَ بالسماع، ثم هو نفسُه نفى السماع (كما سبق بعض أمثلته) ، ممّا يدل على تساوي معنى العبارتين. ومن أمثلة ذلك أيضًا: * يقول ابن أبي حاتم في (المراسيل) : ((سألت أبي عن عبد الله بن عُكيم. قلت: إنه يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من علَّق شيئًا وُكِل إليه؟

_ (1) جامع الترمذي (رقم 2530) . (2) تحفة التحصيل للعراقي (353 رقم 700) . (3) العلل للدارقطني (2/ 118 رقم 151) . (4) سؤالات البرقاني (رقم 375) . (5) الثقات لابن حبان (7/ 260) . (6) الثقات لابن حبان (5/ 244) .

فقال: ليس له سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما كُتب إليه. . . (ثم قال:) لا يُعرف له سماع صحيح، أدرك زمانَ النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (1) . * ويقول أبو حاتم الرازي أيضًا: ((لا أدري سمع الشعبي من سمرة أم لا، لأنه أدخل بينه وبينه رجل)) (2) . فهنا يشك في السماع لوجود واسطة بين الراويين. لكنه عاد في موطن آخر فجزم، حيث قال عن الشعبي: ((لم يسمع من سمرة، روى عن سمعان بن مُشَنَّج عن سمرة)) (3) . • وقد ينفي أحدُ الأئمة العلمَ بالسماع في رواية، وغيره من أهل العلم ينفون السماع فيها، ممّا يدل أيضًا على اتّحاد معنى التعبيرين. وقد سبق لذلك أمثلة، ومن أمثلته أيضًا (وهي كثيرةٌ) : * يقول البخاري في ترجمة سلمة بن محمد بن عمار بن ياسر: ((لا يُعرف أنه سمع من عمار)) (4) . مع أن يحيى بن معين يقول: ((حديثه عن جدّه مرسل)) (5) ، وكذا قال الذهبي (6) .

_ (1) المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 370، 373) . (2) المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 594) . (3) العلل لابن أبي حاتم (رقم 550) . (4) التاريخ الكبير للبخاري (4/ 77) . (5) التهذيب (4/ 158) . (6) تحفة التحصيل لأبي زرعة العراقي (رقم 336) .

* وقال البخاري: ((عبد الله بن أبي مُرّة: عن خارجة بن حذافة، روى عنه عبد الله بن راشد. . . ولا يعرف سماع بعضهم من بعض)) (1) . فعبّر عن ذلك ابن حبان في (الثقات) بقوله: ((عبد الله بن أبي مُرّة: يروي عن خارجة بن حذافة في الوتر: إن كان سمع منه، روى عنه يزيد ابن أبي حبيب. إسنادٌ منقطع، ومتنٌ باطل)) (2) . * ولمّا ذكر الترمذي حديث ((لا يجب الوضوء إلا على من نام مضطجعًا)) ، سأل البخاري عنه، فقال البخاري: ((هذا لا شيء. . . (إلى أن قال:) ولا أعرف لأبي خالد الدالاني سماعًا من قتادة)) (3) . فلما ذكر أبو داود هذا الحديث للإمام أحمد، أنكره الإمام أحمد بشدّة، ثم قال: ((ما ليزيد الدالاني يُدْخَل في أصحاب قتادة)) (4) . فانظر (أخيرًا) ماذا فهم البيهقي من هذين القولين، حيث قال: ((فأمّا هذا الحديث: فإنه أنكره على أبي خالد الدالاني جميعُ الحُفّاظ، وأنكر سماعَه من قتادة: أحمد بن حنبل، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وغيرهما)) (5) . وبعد هذا كُلِّه، فإن جميع هذه الأقوال إنما هي غيضٌ من فيض من الأدلّة على أن نفي العلم بالسماع إنما هو نفيٌ للسماع، وليس خبرًا

_ (1) التاريخ الكبير للبخاري (5/ 192- 193) . (2) الثقات لابن حبان (5/ 45) . (3) العلل الكبير للترمذي (1/ 149) . (4) السنن لأبي داود (رقم 202) . (5) معرفة السنن والآثار للبيهقي (1/ 364- 365 رقم 925) .

ذكر بعض القرائن التي تشهد لعدم السماع

مجرّدًا عن عدم العلم بالسماع، مبنيًّا على اشتراط العلم به. . كما زُعم!! وقد قام خالد الدريس بدراسة أقوال البخاري التي نفى فيها العلم بالسماع، ثم خرج بالنتيجة التالية: ((فيكون أكثر ما انتقده البخاريُّ من سماعات الرواة على مذهب مسلم أيضًا منتقدًا، لعدم توفُّر ضابط الاكتفاء بالمعاصرة أو أحدها)) (1) . هذه هي نتيجة دراسةٍ استقرائيّة لأقوال البخاري في نفي العلم بالسماع، والقائم بها لا يُتّهم في مقصده، لأنه كان ناصرًا لمذهب البخاري، بعد أن استقرّت صحّة نسبته إليه عنده. وبذلك يُلاحِظُ أخي القاريءُ أن الداعي لذاك النفي للسماع هو وجود قرائن تشهد لعدم حصول السماع: كالوسائط، أو نكارة الحديث، أو الشك في المعاصرة، وربما كان مع الجزم بعدم المعاصرة. وأن الداعي إليه ليس هو اشتراط العلم بالسماع، كما ادُّعي!! ولا بأس بإتمام هذا المبحث، بذكر أمثلةٍ لهذه القرائن وغيرها، لتتسع نظرة الدارِسِ لهذه المسألة، وليعلم أسبابًا من أسباب نفي السماع ونفي العلم به، تَقِيْهِ (بإذن الله تعالى) من أن يظن أن بعض أقوال الأئمة بنفي العلم بالسماع مَبْنِيّةٌ على اشتراط العلم به. مع أن فيما سبق وفي بعض ما سيأتي كفايةٌ، لمن ألهمه الله الحق وحبّبَ إليه العلمَ الصحيح. • فمن هذه القرائ: الجهالةُ بالراوي، مما يعني الجهل بحصول معاصرةٍ بينه وبين مَنْ روى عنه.

_ (1) موقف الإمامين لخالد الدريس (250) .

* ومثاله: يقول الإمام البخاري في ترجمة محمد بن ركانة القرشي: ((إسناده مجهول، لا يعرف سماع بعضهم من بعض)) (1) . * وقد تجتمع مع الجهالة نكارة الحديث، كما في حديثٍ يرويه أبو سورة عن أبي أيوب في تخليل اللحية، قال عنه البخاري: ((لا شيء)) ، فسأله الترمذي ((أبو سورة، ما اسمه؟ فقال: لا أدري، ما يُصنع به، عنده منَاكير، ولا يُعرف له سماع من أبي أيوب)) (2) . * ولما ذكر علي بن المديني حديثَ أبي زيد المخزومي عن عبد الله بن مسعود في الوضوء بالنبيذ ليلة الجنّ، قال: ((أخاف ألا يكون أبو زيد سمعه من عبد الله، لأني لم أعرفه، ولم أعرف لُقِيَّهُ. فرواه شريك عن أبي فزارة عن أبي زيد حدثنا عبد الله، فجوّده بقوله: حدثنا عبد الله)) (3) . * وقال ابن المنذر في (الأوسط) عن هذا الحديث: ((ليس بثابت، لأن أبا زيد مجهول، لا يُعرف بصحبة عبد الله، ولا بالسماع منه)) (4) . ولهذه القرينة أمثلة كثيرة. • ومن أكثر القرائن وجودًا وسببًا لنفي السماع: ذكر الوسائط بين راويين لم يثبت التقاؤهما. وسبق لها عدّة أمثلة، ومن أمثلتها أيضًا:

_ (1) التاريخ الكبير للبخاري (1/ 82) . (2) العلل الكبير للترمذي (1/ 115) . (3) العلل لابن المديني (100- 101 رقم 174) ، والمراسيل لابن أبي حاتم (رقم 966) . (4) الأوسط لابن المنذر (1/ 256) .

* يقول أبو حاتم الرازي: ((يحيى بن أبي كثير ما أُراه سمع من عروة ابن الزبير، لأنه يُدْخِلُ بينه وبينه رجلاً أو رجلين، ولا يذكر سماعًا ولا رؤية ولا سؤاله عن مسألة)) (1) . فهذا مثالٌ واضحٌ ودقيق على أن نفي العلم بالسماع يدل على ترجيح عدم السماع بعد وجود قرينةٍ تشهد لعدمه. ولها أمثلةٌ أخرى كثيرة، لها ولنفي السماع بسبب الوسائط أيضًا (2) . لتعلم أن نفي السماع ما هو إلا معتمدًا على القرائن نفسها التي اعتُمد عليها عند نفي العلم به، ليكون هذا وجهًا آخر في الدلالة على أن نفي العلم بالسماع مُسَاوٍ لنفي السماع في المعنى والسبب. . غالبًا. حيث إن القرينة التي بلغت بالناقد إلى جزم الحكم بعدم السماع، ستكون هذه القرينة في عبارة نفي العلم بالسماع (التي هي عبارةٌ عن ترجيحٍ لعدم حصوله) = أدلَّ وأولى أن يُعتمد عليها في إصدار مثل هذا الحُكم. • ومن هذه القرائن أيضًا: نكارة الحديث في إسنادٍ ليس فيه من يُجزم بتحمُّله لتلك النكارة، وقد سبق له أمثلة.

_ (1) المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 904) . (2) انظر المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 36، 118، 125، 157، 171، 184، 192، 202، 224، 226، 239، 262، 268، 288، 290، 292، 306، 311، 317، 318، 320، 323، 324، 361، 362، 399، 401، 420، 468، 469، 478، 481، 508، 557، 562، 591، 623، 625، 627، 637، 680، 696، 701، 702، 703، 721، 729، 757، 760، 774، 787، 809، 823، 824، 828، 862، 904، 918، 920، 925، 928، 945) ، وشرح العلل لابن رجب (2/ 594-595) .

* ومن أمثلته أيضًا: ما جاء في العلل للإمام أحمد، قال عبد الله بن الإمام أحمد: ((حدثت أبي بحديث المحاربي عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري، قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشبيه في الصلاة؟ فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا. فأنكره أبي. قال أبي: المحاربي عن معمر؟! قلت نعم، وأنكره جدًّا. والحديث حدثني به أبو الشعثاء وأبو كريب قالا: حدثنا المحاربي. قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد: ولم نعلم أن المحاربي سمع من معمر شيئًا، وبلغنا أن المحاربي كان يدلس)) (1) . * ولما أورد البخاري حديثًا يخالفه في (القراءة خلف الإمام) من رواية مختار بن عبد الله بن أبي ليلى عن أبيه، قال: ((لا يُدرى أنه سمعه من أبيه أم لا، ولا أبوه، ولا يحتج أهل الحديث بمثله)) (2) . * ولمّا سأل ابن أبي حاتم أباه عن حديث في الحجامة للصائم، قال أبوه: ((هذا حديث منكر. . . (ثم قال:) وجعفر بن برقان لا يصح له السماع من أبي الزبير، ولعل بينهما رجلاً ضعيفًا)) (3) . * وقال البخاري عن عَمرو بن أبي عَمرو مولى المطلب بن عبد الله: ((عن عكرمة في قصّة البهيمة: فلا أدري سمع أم لا)) (4) . وقال في موطن آخر: ((عَمرو بن أبي عَمرو صدوق، ولكن روى عن عكرمة مناكير، ولم يذكر في شيء من ذلك أنه سمع عن عكرمة)) (5) .

_ (1) العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد (رقم 5597) . (2) القراءة خلف الإمام (14= 15 رقم 38) . (3) العلل لابن أبي حاتم (رقم 753) ، والمراسيل له (رقم 76) . (4) تهذيب الكمال (22/ 170) ، والتهذيب (8/ 83) . (5) العلل الكبير للترمذي (2/ 622) .

* وقال البخاري في (التاريخ الكبير) : ((سليمان بن عبد الله: عن معاذة العدويّة، سمعت عليًّا أخا الصِّدِّيق الأكبر. . . لا يُتابع عليه، ولا يُعرف سماع سليمان من معاذة)) (1) . • ومن قرائن ترجيح عدم السماع: بُعْدُ البُلْدان بين الرواة المتعاصرين. قال الإمام الشافعي: ((لا نعلم عبد الرحمن بن أبي ليلى رأى بلالاً قط، عبد الرحمن بالكوفة، وبلال بالشام)) (2) . * وقال البخاري عن عيسى بن عاصم الأسدي الكوفي: ((يسكن أرمينيّة، سمع منه سلمة بن كهيل قديمًا (3) ، وجرير بن حازم وقع بها فسمع منه شيئًا (4) ، ولا أعلم أحدًا روى عنه غيرهما (5) ، وروى عنه معاوية. (قال الترمذي:) فكأنّه لم يَعُدَّهُ سماعًا منه)) (6) . * وقال ابن أبي حاتم: ((سألت أبي عن ابن سيرين: سمع من أبي الدرداء؟ قال: قد أدركه، ولا أظنّه سمع منه، ذاك بالشام، وهذا بالبصرة)) (7) . * وانظر: مسألة سماع الحسن البصري من أسامة بن زيد، وثوبان، والأسود بن سريع، والضحاك بن سفيان، وعقبة بن عامر، والمغيرة بن

_ (1) التاريخ الكبير (4/ 23) . (2) مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 542) ، وانظر: معرفة السنن والآثار للبيهقي (1/ 277 رقم 633) (2/ 257 رقم 2610) . (3) أي بالكوفة قبل انتقاله إلى أرمينيّة، لأن سلمة بن كهيل من أقرانه. (4) أي أن جريرًا رحل إلى أرمينيّة، ولذلك أثبت له السماع. (5) أي سماعًا. (6) العلل الكبير للترمذي (2/ 691) . (7) المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 683) .

شعبة، والنعمان بن بشير، وأبي موسى الأشعري. . في كتابي (المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس) . * ونبّهَ إلى هذه القرينة، وأورد لها أمثلة متعدّدة= ابنُ رجب في شرحه للعلل (1) . • ومن هذه القرائن: استصغار طبقة الراوي (المستنبطة من شيوخه وتلاميذه) عن الرواية عمّن روى عنه. * قال الإمام أحمد: ((العوام بن حوشب لم يلق ابن أبي أوفى، أكبر من لقيه سعيد بن جبير، إن كان لقيه، وهو يروى عنه وعن طاووس)) (2) . * وقال علي بن المديني عن حديث من رواية ناجية بن خُفَاف عن عمار بن ياسر: ((لم يسمعه عندي من عمار، لأن ناجية هذا لقيه يونس ابن أبي إسحاق، وليس هذا بالقديم)) . وقال يعقوب بن شيبة: ((لا أحسبه مُتّصلاً، لأن بعضهم ذكر أن ناجية ليس بالقديم)) (3) . * وقال أبو حاتم الرازي: ((سَيابة الذي يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنا ابن العواتك، ليس له صحبة. (قال ابن أبي حاتم:) سمعت أبي يذكر حديثًا: روى هُشَيمٌ عن يحيى بن سعيد عن عَمرو بن سعيد بن العاص أخبرنا سَيَابة الأسلمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم حنين: أنا ابن العواتك. قال أبي: حدثنا بعض أصحاب هُشَيم عن هُشَيم عن يحيى بن عَمرو بن

_ (1) شرح علل الترمذي لابن رجب (2/ 594- 596) . (2) تحفة التحصيل (رقم 800) . (3) تحفة التحصيل (رقم 1090) .

سعيد بن العاص أخبرنا سيابة بن عاصم الأسلمي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال أبي: هذا أشبه، وهذا الحديث دليل عى أن سيابة ليس هو من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (قال ابن أبي حاتم:) يعني بأن يحيى بن سعيد بن عَمرو بن سعيد بن العاص لم يكن يُشبه أن يكون يلحق صحابيًّا، وبروايته بانَ أن سيابة تابعي)) (1) . * ومن الأمثلة اللطيفة على هذه القرينة: ترجمة بُكير بن الأخنس. فقد ذكره ابن حبان في التابعين ثم قال: ((يروي عن أنس، روى عنه مسعر ابن كدام: إن كان سمع منه)) (2) . ثم أعاده في أتباع التابعين، وقال: ((يروي عن مجاهد، روى عنه أبو عوانة، وقد قيل إنه سمع من أنس بن مالك)) (3) . فابن حبان هنا متردّدٌ، إن أثبت سماع بكير من أنس فلا بد أن يشك في سماع مسعر وأبي عوانة من بكير، لاستصغارهما عن أن يرويا عنه. وإن أثبت سماعهما منه، شك في سماعه هو من أنس بن مالك (4) . أمّا أبو حاتم الرازي فأثبت سماعه من أنس وشك في سماع أبي عوانة منه، حيث قال: ((روى أبو عوانة عن بكير بن الأخنس وهو قديم، لم يرو عنه الثوري ولا شعبة، إنما روى عنه الأعمش وأبو

_ (1) تحفة التحصيل لابن زرعة (رقم 361) ، وانظر المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 242) . (2) الثقات لابن حبان (4/ 76) . (3) الثقات لابن حبان (6/ 105) . (4) سماعه من أنس ثابت في صحيح مسلم (2/ 961 رقم 1323) ، ومسند أحمد (رقم 12711، 12892، 13750) .

إسحاق الشيباني ومسعر، فلا أدري أين لقيه وكيف أدركه)) (1) . * ومن الأمثلة الدالة على قوّة هذه القرينة، حتى مع وُرُود صيغةٍ دالةٍ على السماع: ما أورده ابن أبي حاتم في (العلل) ، قال: ((سألت أبي عن اختلاف حديث عمار بن ياسر في التيمُّم، وما الصحيح منه؟ فقال: رواه الثوري عن سلمة عن أبي مالك الغفاري عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التيمّم، ورواه شعبة عن الحكم عن ذر عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه شعبة عن سلمة عن ذر عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه حصين عن أبي مالك قال: سمعت عمارًا يذكر التيمّم، موقوف. قال أبي: الثوري أحفظ من شعبة. قلت لأبي: فحديث حصين عن أبي مالك؟ قال: الثوري أحفظ، ويُحتمل أن يكون سمع أبو مالك من عمار كلامًا غير مرفوع، ويسمع مرفوعًا من عبد الرحمن بن أبزى عن عمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: القصّة. قلت: فأبو مالك سمع من عمار شيئًا؟ قال: ما أدري ما أقول لك‍‍! قد روى شعبة عن حصين عن أبي مالك: سمعت عمارًا، ولو لم يعلم شعبة أنه سمع من عمار ما كان شعبة يرويه، وسلمة أحفظ من حصين. قلت: ما تنكر أن يكون سمع من عمار وقد سمع من ابن عباس؟! قال: بين موت ابن عباس وبين موت عمار قريبٌ من عشرين سنة)) (2) . وقد قال الدارقطني: ((في سماع أبي مالك من عمار نظر)) (3) .

_ (1) العلل لابن أبي حاتم (رقم 306) . (2) العلل لابن أبي حاتم (رقم 34) . (3) سنن الدارقطني (1/ 183) .

* وذكر الطحاوي حديثًا لسعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن عبد الله ابن حُبْشي، وقال: ((يبعد في القلوب أن يكون لقيه، لأننا لم نجد شيئًا من حديث عبد الله بن حُبْشي إلا عن من سِنُّهُ فوق سنِّ هذا الرجل)) (1) . * وقال الخطيب البغدادي: ((يستحيل أن يكون ميمون بن مهران أدرك أمّ الدرداء (يعني الكبرى) التي ماتت قبل أبي الدرداء، فأبو الدرداء قديم الوفاة، مات في خلافة عثمان. وإنما يروي ميمون عن ابن عباس وابن عمر ومن بعدهما)) (2) . • ومن القرائن: أن يقع للراوي كتابٌ لمن روى عنه، فإذا لم يصرّح بالسماع منه، خُشي أن يكون ما يرويه عنه من ذلك الكتاب. * وسبق من أمثلته حديث عبد الله بن عُكيم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. * وقال أحمد بن صالح المصري: عطاء بن دينار هو من ثقات أهل مصر، وتفسيره فيما نرى عن سعيد بن جبير صحيفة، وليس له دلالة على أنه سمع سعيد بن جبير)) (3) . * وقال الأثرم للإمام أحمد: ((يحيى بن أبي كثير سمع من أبي قلابَه؟ فقال: لا أدري بأي شيءٍ يُدفع، أو نحو هذا. قلت: زعموا أن كتب أبي قلابة وقعت إليه؟ قال: لا)) (4) .

_ (1) مشكل الآثار (7/ 429- 430 رقم 2980) . (2) الموضع لأوهام الجمع والتفريق (1/ 361) . (3) المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 581) . (4) المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 894) .

فالأثرم بيّن للإمام أحمد سببَ الشك في سماع يحيى بن أبي كثير من أبي قلابة، ووضّحَ له الشيءَ الذي يُدفع به هذا السماع. ولم يخطئه الإمام أحمد على هذا الاستدلال، وإنما أبطل الزعم من أساسه، بنفي أن تكون كتب أبي قلابة وقعت ليحيى بن أبي كثير. * وانظر أيضًا: مسألة سماع الحسن من جابر بن عبد الله ومن سمرة في (المرسل الخفي) ، ومسألة سماع وهب بن منبّه من جابر بن عبد الله أيضًا في (أحاديث الشيوخ الثقات) لأبي بكر الأنصاري (1) ، ومسألة سماع خِلاَسِ بن عَمرو من علي بن أبي طالب (2) . • ومن القرائن: قلّة حديث الراوي عن شيخ لو كان لقيه لكَثُر حديثه عنه لجلالة ذلك الشيخ وَسعة علمه. * قال علي بن المديني في (العلل) : ((لم يلق القاسم بن عبد الرحمن من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير جابر بن سمرة. قيل له: فلقي ابن عمر؟ قال: كان يحدث عن ابن عمر بحديثين، ولم يسمع من ابن عمر شيئًا)) (3) . مع أن الفلاس يقول: ((لم يلق أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه روى عن ابن عمر، ولا أشك أنه قد لقيه)) (4) .

_ (1) أحاديث الشيوخ الثقات (رقم 718) . (2) تحفة التحصيل (رقم 242) . (3) العلل لابن المديني (63 رقم 81) . (4) المراسيل لابن أبي حاتم -بتصرّف- (رقم 642) .

* وقال أبو حاتم الرازي: ((كان عمر بن عبد العزيز واليًا على المدينة، وسلمة بن الأكوع وسهل بن سعد حَيَّين، فلو كان حضرهما لكتب عنهما)) (1) . * وقال الأثرم: ((قلت لأبي عبد الله: عاصم عن عبد الله بن شقيق عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بادروا الصبح بالوتر؟ فقال: عاصم لم يرو عن عبد الله بن شقيق شيئًا، ولم يرو هذا إلا ابن أبي زائدة، ولا أدري)) (2) . • ومن لطيف القرائن: ثناء الراوي على شيخ من شيوخه بأنه ما رأى خيرًا منه، فإذا روى عمّن هو أكبرُ شأنًا منه شُكِّكَ في لقائه به! * مثاله: أخرج أبو زرعة الدمشقي بإسناد صحيح إلى مكحول الشامي أنه قال: ((ما رأيت مثل الشعبي)) ، وقال أبو زرعة عقبه: ((فقلت لأحمد ابن صالح: قال مكحول: حدثنا مسروق، فأنكر أن يكون سمع منه للرواية السابقة)) (3) . • ومن القرائن: أن يصرّح الراوي بعدم السماع في بعض حديثه عمن عاصره، ولا يصرّح بالسماع في شيءٍ من حديثه عنه، فيكون ذلك شاهداً على عدم السماع. * ومن أمثلة ذلك: قال أبو حاتم الرازي: ((لم أختلف أنا وأبو زرعة

_ (1) المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 493) . (2) المراسيل (رقم 561) . (3) تاريخ أبي زرعة الدمشقي (رقم 631، 632 بتصرف يسير) .

وجماعة من أصحابنا: أن الزهري لم يسمع من أبان بن عثمان شيئًا. وكيف سمع من أبان، وهو يقول: بلغني عن أبان؟! قيل له: فإن محمد ابن يحيى النيسابوري كان يقول: قد سمع، قال: محمد بن يحيى بابه السلامة. . . الزهري لم يسمع من أبان بن عثمان شيئًا، لا لأنه لم يدركه، قد أدركه، وأدرك من هو أكبر منه، ولكن لا يثبت له السماع منه، كما لا يثبت لحبيب بن أبي ثابت سماع من عروة بن الزبير، وهو قد سمع ممن هو أكبر منه. غير أن أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك، واتفاق أهل الحديث على شيء يكون حُجّة)) (1) . وهناك قرائن أخرى، أتركها لغير هذا المجال. ومن هذه القرائن وأمثلتها لا يعود هناك أدنى شك ولا أخفى ريبة في أن نفي العلم بالسماع إنما يَعني ترجيحَ عدم حصول السماع، بسبب وجود قرائن تشهد لعدم حصوله. وأنه لا علاقةَ (ولا من وَجْهٍ) بين نفي العلم بالسماع واشتراط العلم به، إلا إن كان هناك علاقةٌ بين نفي السماع جَزْمًا بعدم حصوله وبين اشتراط العلم بالسماع!!! بل إنك ستعلم بُعْدَ استدلالِ من استدل بالإعلال بنفي العلم بالسماع على أنه يدل على اشتراط العلم به فوقَ ما سبق، ببيان أن لنفي العلم بالسماع معانيَ أخرى، بعيدةً كل البعد عن الدلالة على اشتراط العلم بالسماع. فإن كان سبق منها معنى: نفي السماع، أو ترجيح عدم حصول السماع، لوجود قرائن تشهد لعدمه، الذي هو أغلب معنىً يُراد

_ (1) المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 701- 703) .

- من معاني نفي العلم بالسماع: ما لا يعارض أن يكون الراوي قد تحمل الرواية عرضا أو مناولة أو مكاتبة ونحوها

من عبارات نفي العلم بالسماع= فإن هناك أكثر من معنى آخر، سأوردها بأمثلتها: • فمن معاني نفي العلم بالسماع: نفي أن يكون الراوي قد تلقي روايته عن شيخه بطريقة السماع، وإن كان قد تلقّاها إجازةً أو مكاتبةً أو وجادة، بل ربّما تلقّاها عَرْضًا. * وقد سبق من أمثلة ذلك: في ذكرنا لقرينة وقوع الراوي على كتابٍ لمن عاصره، مع عدم تصريحه بالسماع منه في حديث. * ومن أمثلته أيضًا: يقول البخاري: ((روى أبو بشر [يعني: عن سليمان بن قيس اليشكري] وما له سماع منه)) (1) . بينما يقول البخاري في موطن آخر: ((روى أبو بشر عن كتاب سليمان)) (2) . * وبينما ينفي أبو داود سماع يزيد بن أبي حبيب من الزهري نفيًا مطلقًا، إذ يقول: ((لم يسمع يزيد من الزهري)) (3) ، بل ويقول عبد الله بن يزيد المقرىء: ((لم يسمع من الزهري شيئًا، ولم يُعاينه)) (4) = يقول أبو حاتم الرازي: ((لم يسمع من الزهري، إنما كتب إليه)) (5) ، ويقول الإمام أحمد: ((لم يسمع من الزهري شيئًا، وإنما كتب إليه الزهري)) ، وقال: ((يزيد عن الزهري كتاب، إلا ما سمى بينه وبين الزهري)) (6) .

_ (1) العلل الكبير للترمذي (2/ 755) . (2) التاريخ الكبير للبخاري (4/ 31) . (3) سؤالات الآجري (رقم 1486) . (4) المراسيل (رقم 889) . (5) العلل لابن أبي حاتم (رقم 1137) . (6) مسائل صالح للإمام أحمد (رقم 1017) .

* وقال بشر بن السري عن عبد العزيز بن عبد الله الماجشون: ((لم يسمع من الزهري. (قال أحمد بن سنان القطان:) معناه أنه عَرَض)) (1) . * وقال جعفر بن أبي عثمان: ((عن ابن معين: لم يسمع ابن أبي ذئب من الزهري، يعني أنه عرض)) (2) . * وقال العلائي في (جامع التحصيل) : ((حكى الترمذي في العلل عن البخاري أنه قال: بَشير بن نَهِيك: لا أرى له سماعًا من أبي هريرة. وقد احتجّ هو ومسلم في كتابيهما بروايته عن أبي هريرة. والجمع بين ذلك: أن وكيعًا روى عن عمران بن حُدير عن أبي مِجْلَز عن بشير عن نهيك، قال: أتيت أبا هريرة بكتاب، وقلت له: هذا حديثٌ أرويه عنك؟ قال: نعم. والإجازة أحد أنواع التحمّل، فاحتجّ به الشيخان لذلك. وما ذكره الترمذي ليس فيه إلا نفي السماع، فلا تناقض)) (3) . ويبدو أن الترمذي فهم ما فهمه العلائي، لأنه بعد أن ذكر كلام البخاري، أسند عقبه كلام بشير بن نهيك باللفظ الذي ذكره العلائي (4) . لكن البخاري رجع عن هذا الرأي، ذلك أنه أثبت سماع بشير بن نهيك من أبي هريرة في (التاريخ الكبير) (5) . وهذا الذي استقرّ عليه رأي البخاري هو الصحيح، على ما سنبيّنه

_ (1) التهذيب (6/ 344) . (2) تحفة التحصيل -حاشية- (454 رقم 931) . (3) جامع التحصيل (150 رقم 63) . (4) العلل الكبير للترمذي (1/ 554- 555) . (5) التاريخ الكبير للبخاري (2/ 105) .

- من معاني نفي العلم بالسماع: الخبر المجرد بذلك، دون إعلال للرواية، بل مع الحكم باتصالها

في مكانٍ آخر إن شاء الله تعالى. لكننا نحتجّ بفهم الترمذي والعلائي. • وآخر ما أريد ذكره من معاني نفي العلم بالسماع: هو الخبر المُجرّد عن أن الراوي لم يذكر ما يدل على السماع ممّن روى عنه، دون إعلالٍ للحديث بذلك، بل مع الحكم بالاتّصال والقبول! وبذلك يظهر لك الفرق بين زعم أن نفي العلم بالسماع إعلالٌ بمجرّد عدم العلم وبين ما ذكرناه نحن هنا، فالفرق كبيرٌ جدًّا، يبلغُ حدَّ الفرق بين الضّدَّين!! إذ من خلال هذا المعنى يصبح الحكمُ بنفي العلم بالسماع دليلاً على عدم اشتراط العلم بالسماع، وهو دليلٌ قاطعٌ لا محيد عنه على ذلك، بخلاف ذلك المعنى الذي يصبح معه نفي العلم بالسماع دليلاً على اشتراط العلم به!!! وهناك مثالان قاطعان على هذا المعنى، صادران ممن نُسب إليه اشتراط العلم بالسماع، ألا وهو البخاري!!! وهذان المثالان يتعلقان برواية أخوين توأمين عن أبيهما، هما سليمان، وعبد الله: ابنا بُريدة بن الحُصيب رضي الله عنه. قال البخاري: ((كانا وُلدا في بطن واحد على عهد عمر)) (1) . وثبت عن عبد الله بن بريدة أنه ذكر ما يدل على أنه كان يوم مقتل عثمان رضي الله عنه غلامًا يافعًا (2) .

_ (1) التاريخ الكبير للبخاري (4/ 4) . (2) تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/ 630 رقم 1818) ، وتاريخ دمشق -المطبوع: ترجمة عبد الله بن بريدة- (419) .

فإن كان عبد الله بن بريدة وأخوه سليمان وُلدا في آخر خلافة عمر، فمعنى ذلك أنّهما وُلدا سنة (23هـ) ، وربما وُلدا قبل ذلك، بل ذُكر أنهما وُلدا سنة (15هـ) . أمّا أبوهما بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، فذكره البخاري في (التاريخ الأوسط) فيمن مات بين ستين إلى السبعين (1) ، وقال: ((يقال مات في خلافة يزيد بن معاوية)) (2) . وهذا هو المستقرُّ الذي لا أعلم فيه خلافًا، وهو أنه توفي بمرور سنة اثنتين وستين أو ثلاث وستين (3) . وعلى ذلك يكون ابناه سليمان وعبد الله قد أدركا من أبيهما ثلاثين سنة أو أكثر. فهل يُتَصَوَّر أنهما لم يسمعا منه؟! وقد كانا معه بالمدينة، إلى أن ذهب إلى البصرة، إلى أن استقرّ أخيرًا بمرو في خراسان، وهما معه في جميع تنقّلاته هذه، كما نصّ على ذلك ابن حبان في (صحيحه) (4) . ولو لم ينصّ ابن حبان على ذلك، فابنان لرجل، عاصراه ثلاثين سنة، هل يُتَصَوَّر أنه اختفى عنهما، وما سمعا منه شيئًا حتى مات؟!! كيف وينضاف إلى ذلك أنّ من المتفق عليه أنهما كانا قد نزلا مع أبيهما مرو إلى أن توفي أبوهما!!! وقبل أن أدخل في صُلب المسألة، فإني أسأل: أي الدليلين أقوى

_ (1) التاريخ الأوسط للبخاري (1/ 240) . (2) التاريخ الأوسط للبخاري (1/ 261) . (3) انظر: أسد الغابة (1/ 209- 210) ، والإصابة (1/ 286) ، وسير أعلام النبلاء للذهبي (2/ 470) . (4) الإحسان (6/ 259 رقم 2513) .

على السماع واللقاء؟ دليلٌ مثلُ هاتيك البُنُوَّة مع المعاصرة الطويلة والمعاشرة الأكيدة بين الأب وأبنائه؟ أم تصريحُ راوٍ بالسماع مرّةً واحدةً عن راوٍ أخى لا علاقة بينهما، لا قرابة ولا بلد، بل ربما كان بلداهما متباعدين: كشامي عن عراقي، أو يماني عن حجازي، ونحوها؟ أي الدليلين أقوى على السماع يا معشر العقلاء؟!!! هل يمكن أن يقول عاقل إن مجرّدَ ذلك التصريح هو الذي يدل السماع، وأن ذلك الابن -مع كل تلك الملاصقة والمعايشة- لم يسمع من أبيه شيئًا؟!! ثم هل يجرؤ أحدٌ أن ينسب إلى الإمام البخاري تلك العقلية المتحجّرة على ذلك الشرط المزعوم؟!!! وعلى كل حال، لنبدأ الآن الدخول في ذكر المثالين: المثال الأول: سليمان بن بريدة، قال عنه البخاري في (التاريخ الكبير) : ((لم يذكر سليمان سماعًا من أبيه)) (1) . فهل يتجرّأ أحدٌ، بعد ادلّة السماع التي ذكرناها آنفًا من كلام البخاري نفسه، الذي أثبت تلك المعاصرة الطويلة بين سليمان وأبيه= أن يزعمَ أن البخاري يردّ حديث سليمان عن أبيه لعدم علمه بالسماع؟!! وأن البخاري لم يكن ملتفتًا إلى كل تلك الأدلّة، مع أنه لم يكن بينه وبين أن يقبل حديثه إلا أن يصرّح بالسماع في حديث واحد؟!! وأنه لم يكن بينه وبين أن يقبل حديث شامي عن يمني إلا أن يصرّح بالسماع في حديث واحد، وإن لم يكن بينهما داعٍ من دواعي اللقاء ولا قرينة إلا ذلك الحديث الواحد؟!!!

_ (1) التاريخ الكبير للبخاري (4/ 4) .

إن تجرّا أحدٌ على ذلك، فإني -والله- لأجْبَنُ الناس عنه!!! فإن كنت لا أجرؤ على ذلك، وأربأ بأخي القارىء إلا أن لا يَجْرُؤَ أيضًا، فما هو معنى قول البخاري ((لم يذكر سليمان سماعًا من أبيه)) ؟ المعنى: هو ظاهر العبادة، وهو الخبر المجرّد عن أنه لم يذكر سماعًا من أبيه، وليس في ذلك إعلالٌ بذلك ولا حكمٌ بعدم الاتّصال ولا بالتوقّف فيه. فإن بقي هناك من يجرؤ على القول بأن البخاري أعلّ أحاديث سليمان عن أبيه لعدم علمه بالسماع، فعليه أن يعلم قبل ذلك أن البخاري حَسَّن حديثًا لسليمان عن أبيه!!! فقد قال الترمذي في (العلل) : ((قال محمد (يعني البخاري) : أصحّ الأحاديث عندي في المواقيت: حديث جابر بن عبد الله، وحديث أبي موسى. قال: وحديث سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن ابن بُريدة عن أبيه في المواقيت، وهو حديث حسن. ولم يعرفه إلا من حديث الثوري)) (1) . وحديث سليمان بن بريدة هذا الذي هو من أصح أحاديث المواقيت عند البخاري: أخرجه مسلم (رقم 613) ، وابن خزيمة في صحيحه (ناصًّا على صحته بصريح مقاله فيه) (رقم 323، 324) ، وابن الجارود في المنتقى (رقم 151) ، وابن حبان في صحيحه (رقم 1492) . فهل تجد حُجةً أنصع من هذه: على أن نفي البخاري لعلمه بسماع سليمان من أبيه ما هو إلا خبر مجرّد عن ذلك، من غير قَصْدِ إعلالٍ أو توقُفٍ عن الحكم بالاتصال؟!

_ (1) العلل الكبير للترمذي (1/ 202- 203) .

المثال الثاني: عبد الله بن بريدة عن أبيه. قال البخاري في ترجمته: ((عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي: قاضي مرو، عن أبيه، سمع سمرة، ومن عمران بن الحصين)) (1) . وهُنَا أنقل ما ذكره خالد الدريس في كتابه الذي ينصر فيه الشرط المنسوب إلى البخاري (موقف الإمامين. .) ، حيث قال: ((ذكرتُ فيما سبق: أن قول البخاري (عن) بدل (سمع) فيما يرويه صاحب الترجمة عن شيوخه تدل على أن البخاري لم يثبت عنده سماع صاحب الترجمة ممن روى عنه، وإلا لقال: (سمع) بدل (عن) . وهنا أشار الإمام البخاري أن عبد الله بن بريدة روى عن أبيه بالعنعنة، مما يدل على أن البخاري لم يقف على ما يُثبت سماع عبد الله من أبيه. ورُغم ذلك فقد أخرج البخاري في صحيحه لعبد الله بن بريدة حديثين، ليس فيهما ما يثبت السماع أو اللقاء بينهما)) ! ثم ذكر الحديثين، وهما في صحيح البخاري فعلاً بغير تصريح بالسماع (2) . ثم عاد خالد الدريس ليقول: ((فعلى أي شيءٍ اعتمد البخاري في تصحيحه لهذين الحديثين؟ يبدو أن البخاري أخرج هذين الحديثين لعبد الله بن بريدة عن أبيه مع عدم ثبوت سماع من أبيه لأمرين. .)) ، ثم ذكرهما، وهما حسب رأيه: أن احتمال سماع عبد الله من أبيه أقوى بكثير من احتمال عدم السماع، وأن البخاري لم يعتمد على الحديث الأول أو الثاني في بابهما. . كذا قال (3) !!

_ (1) التاريخ الكبير للبخاري (5/ 51) . (2) صحيح البخاري (رقم 4473، 4350) . (3) موقف الإمامين لخالد الدريس (148- 149) .

وكان يكفيه الاحتمال الأول، فإنا نقول: ألم يصححه البخاري بإخراجه في صحيحه؟ ومن قال بأنه لم يعتمد عليه؟ لمَ لا أقول إنه لم يعتمد على الأحاديث الأخرى واعتمد على هذا؟ ثم هذا الحاكم يقول: ((قد احتجّا جميعًا بعبد الله بن بريدة عن أبيه)) (1) . ولمّا ذكر الدارقطني من أخرج له البخاري اعتبارًا أو مقرونًا لم يذكر عبد الله بن بريدة، بل ذكره في مسرده ممن أخرج لهم البخاري احتجاجًا (2) . وهذا الحافظ لما أراد الاعتذار للبخاري لم يزعم أنه أخرج له في المتابعات أو الشواهد، وإنما قال: ((ليس له في البخاري من روايته عن أبيه سوى حديث واحد)) (3) . ومع ما في قوله من أنه لم يخرج له إلا حديثًا وحدًا من نظر، حيث أخرج له حديثين كما سبق، إلا أن هذا اعترافٌ من الحافظ (الذي تبنّى أنه لم يسمع من أبيه) بأنه لا عُذْرَ للبخاري في إخراجه، وكأنه يقول: إنما هو حديثٌ واحد أخطأ فيه البخاري!!! وبذلك يتّضح أن البخاري قد يقول: ((لا أعلم لفلان سماعًا من فلان)) ، وهو لا يريد الإعلال بذلك، وإنما يريد إخبارَنا بذلك فقط! فأين هذا ممن جعل كل خبرٍ بعدم العلم بالسماع إعلالاً بعدم العلم به، وبالتالي فهو دليل على اشتراط العلم به؟!!

_ (1) المستدرك (1/ 7) . (2) ذكر أسماء التابعين للدارقطني (رقم 500) . (3) هدي الساري (433) .

- أن مسلما أعل أحاديث بعدم العلم بالسماع

وما زلنا نناقش الاستدلالَ بالإعلال بعدم العلم بالسماع على أنه دليلٌ على اشتراط العلم به، وقد كان فيما سبق كفاية، وفوق الكفاية. لكنني سأختم بحُجّةٍ لا تحتاج إلى كثير تأمُّل، وهي حجّةٌ كافيةٌ وحدها في إبطال ذلك الاستدلال، وقَطْعِ كل قيل وقال!! فأقول: أنتم تقولون: إن البخاري يشترط العلم باللقاء لأنه أعلّ أحاديث بعدم العلم باللقاء، أليس كذلك؟ فسيقولون: بلى، إلا إن كانوا قد تراجعوا عن قولهم. فسأقول لهم: يلزمكم أن مسلمًا يشترط العلم باللقاء أيضًا!!! فسيقولون: هذا مستحيل، لأنه هو صاحب تلك الحملة الشديدة والغارة الشعواء على من اشترط هذا الشرط. فأقول لهم: إذا كنتم أخذتم اشتراطَ البخاري للعلم باللقاء واستفدتموه من إعلاله لأحاديث بعدم العلم باللقاء، فيلزمكم أن تقولوا بأن مسلمًا يشترط العلم باللقاء أيضًا، لأنه قد أعلّ أحاديث بعدم العلم باللقاء كذلك!!! وذلك في ثلاثة أمثلة: الأول: ذكر الإمام مسلم حديثًا في كتابه (التمييز) من رواية محمد ابن علي بن عبد الله بن العباس عن جدّه عبد الله بن العباس رضي الله عنهما، ثم تعقّبه بقوله: ((لا يُعلم له سماعٌ من ابن عباس، ولا أنه لقيه أو رآه)) (1) .

_ (1) التمييز لمسلم (215) .

ومع أن هذه العبارة كافية في إلزام الخصم، لكني أعود إليها بالتأكيد على قوّتها في الإلزام! ذلك أن مسلمًا أعلّ بعدم العلم بالسماع، مع احتمال وقوعه، لحصول المعاصرة. ولذلك لم يلجأ مسلم إلى الجزم بعدم السماع اعتمادًا على عدم المعاصرة، وإنما لجأ إلى الإعلال بنفي العلم بالسماع، التي هي عبارة عن ترجيح لعدم السماع كما سبق بيانه. ويشهد لوقوع المعاصرة فعلاً بين محمد بن علي وجدِّه: أن ابن حبان ذكر محمد بن علي في طبقة التابعين، ولم يذكر له رواية عن صحابي غير جدّه ابن عباس (1) . واستدل لوقوع المعاصرة أيضًا الشيخُ أحمد محمد شاكر بطبقة الآخذين عن محمد بن علي، حتى مال إلى صحّة سماعه من جَدِّه (2) . فلماذا إذن توقّف مسلمٌ عن قبول هذه الرواية مع تحقق المعاصرة؟ أجاب عن ذلك ابن القطان الفاسي في (بيان الوهم والإيهام) ، مبيّنًا أن سبب الشك في سماع محمد بن علي من جدّه ابن عباس أنه أدخل بينه وبينه واسطةً في بعض حديثه عنه (3) . وبذلك يتضح أن مسلمًا نظر إلى هذه الوسائط بين الحفيد وجدّه، ثم غلب على ظنّه، مع عدم ذكره السماع، ومع كونه حفيدًا وليس ابنًا= أنه لم يعاصره فترةً طويلةً، وإلا لاستغنى بالسماع من جدّه عن أن يروي

_ (1) الثقات لابن حبان (5/ 352) . (2) مسند الإمام أحمد -حاشية التحقيق- (5/ 73- 74 رقم 3205) . (3) بيان الوهم والإيهام لابن قطان (2/ 558) .

عنه بواسطة. ولذك ترجح عنده عدم السماع، فعبّر عنه كما كان يعبر البخاري وغيره: بعدم علمه بالسماع. ونحن لم نكن في حاجةٍ إلى كل هذا الشرح، لأن المخالف يحتج بمجرّد الإعلال بنفي العلم بالسماع على أنه دليلٌ على اشتراط العلم به. وهُنَا قد أعل مسلمٌ بعدم العلم بالسماع، فماذا عساه يقول؟!! ومن جهة أخرى: نستفيد فائدةً مهمّة تتعلّق بما كنّا قد ذكرناه في تحرير شرط مسلم، وهو أنه لم يكن يكتفي بمطلق المعاصرة، وأنه كان يراعي القرائن. فهذا الإعلال راعى فيه مسلم ذكر الراوي لواسطة بينه وبين من روى عنه، وعليها بنى الإعلال بعدم العلم بالسماع، أي الإعلال بترجيح عدم السماع. والمثال الثاني: ذكر ابن رجب في (فتح الباري) حديثًا لأبي صالح مولى أمّ هانىء عن ابن عباس، ثم قال: ((وقال مسلم في كتابه (التفصيل) : هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذام قد اتّقى الناسُ حديثَه، ولا يثبت له سماعٌ من ابن عباس)) (1) . مع أنّ أبا صالح هذا قديمٌ، وقد أدرك من هو أقدم من ابن عباس، فقد ذكروا له روايةً عن علي بن ابي طالب، وهو مولى أخته أم هانىء فاخِته بنت ابي طالب، وروى عنها أيضًا، وروى عن أبي هريرة (2) .

_ (1) فتح الباري لابن رجب (3/ 201) ، في كتاب الصلاة، باب (48) : هل تُنبش قبور مشركي الجاهلية. (2) انظر: التاريخ الكبير للبخاري (2/ 144) ، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/ =

وقد ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من التابعين من أهل المدينة (1) ، وقال في بيانها: ((ممن روى عن أسامة بن زيد وعبد الله بن عامر وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري ورافع بن خديج وعبد الله بن عَمرو وأبي هريرة وسلمة بن الأكوع وعبد الله بن عباس وعائشة وأم سلمة وميمونة وغيرهم)) (2) . وروى عنه من الكبار: الأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، وغيرهما. وتذكّر -بعد ثبوت المعاصرة- أن مسلمًا لم يحكم بالاتّصال، ليتأكد لديك أن مسلمًا كان يراعي القرائن، وأنه لم يكن يكتفي بمطلق المعاصرة. المثال الثالث: تذكر قصّةٌ صحيحةٌ أن مسلمًا دخل على البخاري، فقال له مسلم: ((دعني أُقَبِّل رجليك! يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدّثين، وطبيب الحديث في علله!!!)) . ثم ذُكر بمحضرهما حديث كفّارة المجلس، من رواية موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة. فقال مسلم للبخاري: ((في الدنيا أحسن من هذا؟! تعرف بهذا الإسناد في الدنيا حديثًا غير هذا؟! فقال البخاري: لا، إلا أنه معلول. فقال مسلم: لا إله إلا الله!! (وارْتَعَدَ) ، أخبرني به؟ فقال: استر ما ستر الله، فألحَّ عليه، وقبّل رأسه، وكاد أن يبكي. فقال: اكتب إن كان ولا بُدّ. وأملى عليه رواية وهيب عن سهيل بن أبي صالح

_ = 431- 432) ، والتهذيب (1/ 416- 417) . (1) طبقات ابن سعد (5/ 302) . (2) طبقات ابن سعد (5/ 178) .

عن عون بن عبد الله بن عتبة موقوفاً عليه، وقال له: ((لم يذكر موسى بن عقبة سماعًا من سهيل، وحديث وُهيب أولى. فقال مسلم: لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك!!)) (1) . فهذا إعلالٌ من البخاري بعدم العلم بالسماع، ويرضى به مسلم، بل يكاد يطير فرحاً به. أمّا قرينة الإعلال بذلك فقد ذكرها البخاري، وهي رواية وهيب عن سهيل عن عون بن عبد الله بن عتبة، إذ لو كان الحديث عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا، لما رواه عن غير أبيه مقطوعًا، ولما خالف وهيبٌ الجادّة في حديث سهيل، وهي روايته عن أبيه عن أبي هريرة. وهنا نرجع إلى الفائدة الجانبيّة: وهي التأكيد على أن مسلمًا لم يكن يكتفي بمطلق المعاصرة، وأنه كان مراعيًا لقرائن اللقاء كغيره من أهل العلم. وهنا ننتهي من الردّ على حُجّة من نسب إلى البخاري وغيره من أهل الحديث اشتراط العلم باللقاء بين المتعاصرين في الحديث المعنعن. وخلصنا من هذه المناقشة بإبطال تلك الحجّة!!

_ (1) انظر: معرفة علوم الحديث للحاكم (113- 114) ، والإرشاد للخليلي (960- 961) ، وتاريخ بغداد للخطيب (2/ 28- 29) (13/ 102- 103) ، وسير أعلام النبلاء للذهبي (12/ 437) ، والنكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (2/ 715- 726) ، مع كتاب البخاري: التاريخ الكبير (4/ 105) .

ولقد كان هذا وحده كافيًا في نفي نسبة ذلك الشرط إلى البخاري وغيره من أهل العلم، لأن الحجّة التي أثبتنا بطلانها هي الحجّة الوحيدة على تلك النّسبة، وما دامت حجةً باطلة، فما احْتُجَّ بها عليه -من تلك النسبة- باطلٌ أيضًا!! لكني أعلم أنني أنتزع قناعةً راسخةً منذ قرون طويلة، وهذا ما هوّنَ عليّ إتمام الاحتجاج على نفي نسبة ذلك الشرط إلى البخاري وإلى غيره من أئمة الحديث، وهذه هي مسألتنا التالية:

المسألة الثالثة: الأدلة على بطلان نسبة اشتراط العلم باللقاء إلى البخاري وغيره من العلماء

المسألة الثالثة: الأدلّة على بطلان نسبة اشتراط العلم باللقاء إلى البخاري وغيره من العلماء الدليل الأول: سقوط الحُجّة التي اعتمد عليها الناسبون لذلك الشرط إلى البخاري وغيره من الأئمة، لتبقى تلك النِّسبة قولاً عاريًا من الدليل، ولا يسندها برهان. وكل قولٍ خلا من دليل يسنده فهو ادّعاء باطل، ووَهْمٌ لا حقيقة. وهذا السقوط هو ما بيّنّاه آنفًا من مناقشة دليل تلك النسبة، فأتينا ذلك الدليل من جوانبه، حتى لم يَبْقَ له أثرٌ!! الدليل الثاني: الإجماعُ الذي نقله مسلم في مقدّمة صحيحه، على أن الحديث المعنعن بين المتعاصرين مقبولٌ مع سلامة رواته من التدليس. وَوَصْفُهُ لقول من اشترط العلم باللقاء بأنه قول مبتدع مستحدث، لا يُوافقه عليه أحدٌ من أهل العلم متقدِّمهم ومتأخِّرِهم. وهذا الإجماع الذي نقله مسلم فيه من القوّة ما لا يثبت أمامها شيءٌ من الشُّبَهِ إلا هتكته، وله من الجلالة ما تتضاءل أمامها كل الأقوال المخالفة!!! كيف وهو مدعوم بأنْ لا دليلَ للمخالفين، وبأدلّة أخرى متواردةٍ على نَصْرِه وتأييده؟!!

أمّا أسبابُ قوّةِ هذا النقل للإجماع، وملامحُ جلالته، فالآتية: الأول: إمامة ناقل هذا الإجماع في علم الحديث الإمامةَ المسلَّم بها عند كُلِّ الأُمّة، بل يكفي أن نذكر اسمه (وهو الإمام مسلم) لندرك مكانته بين جهابذة الأئمة ومنزلته عند نقاد الحديث. وهو الإمام الجامع لهذا العلم من أطرافه، المتتلمذُ على الجمّ الغفير من علماء عصره، الآخذُ لأصول هذا العلم وفروعه وظواهره وبواطنه عن أكبر أئمة عصره، وشيوخ الحديث في زمانه. فهل يُتَصوَّر أن يُخطىءَ هذا الإمام: لا في تحرير مسألة جُزئيّة من هذا العلم، ولا في أصل من أصوله، ولا في أصل عظيم من أصوله، بل في ادّعاء الإجماع على أصل عظيم من أصول علم الحديث، ألا وهو شرط قبول الحديث المعنعن. . الحديث المعنعن الذي ملأ دواوين السنّة، وغلبَ على جُلّ الروايات؟!!! ثم يدّعي الإجماع على هذا الأصل العظيم خطأ!!! هل يستطيعُ أحدٌ أن يصدّق أن هذا قد وقع؟!!! نعم. . إنّ مسلمًا ينقل الإجماع، ينقل الإجماعَ مسمٌ!! ولا يذكر رأيَه واجتهادَه الخاصّ في هذه المسألة. هو لو ذكر رأيه الخاص في مسألته هذه، لاسْتبعدنا كُلَّ الاستبعاد أن يُخطىء فيها، لأنّها مسألة من أمهات المسائل، ومن القواعد العظام في علوم الحديث، التي يستحيل أن يخطىء فيها حديثي (مبتدىء في علم الحديث) ، فكيف بإمام الحديث؟!!! ولا يذكر مسلمٌ رأيه الخاصّ، بل ينقل الإجماع. . أيها الناس!! ثم يريد منا الإمام النووي (رحمه الله) أن نصدّق أن الإجماع الذي

نقله مسلم منخرمٌ بمخالفة المحقّقين (1) !!! بل يريد منا ابن رجب (رحمه الله) أن نصدِّق أنه منخرمٌ بقول الجماهير (2) !!! بل منخرمٌ بالإجماع على خلاف قول مسلم. . .!!! (3) . أُعلن أني لا أستطيع أن أتصوّر ما ذكراه، فضلاً عن تصديقه أو تكذيبه!!! لأنه شيءٌ غير معقول وأمرٌ مستحيل!!! لقد كان يكفيهما لكي يُتَصَوَّر قولُهما أن يزعما كما زعم ابن القطان الفاسي: من أن الجمهور على رأي مسلم موافقين له، خلافًا للبخاري وعلي بن المديني (4) . لكني سأترك الحكم للناظرين. الثاني: أنه من الثابت أن مسلمًا عرض صحيحه على حافظين من كبار حفاظ الإسلام، هما أبو زرعة الرازي، ومحمد بن مسلم بن وارة (5) ، وعُرض عليهما (6) . فانتقدا عليه أشياء يسيرة، والتزم بآراء أبي زرعة خاصة، واعتذر إلى ابن وارة بما أرضاه. فهل ينضافُ أبو زرعة وابن وارة إلى مسلم: على نقل الإجماع المنخرم بقول المحققين أو الجماهير، بل الجميع. . سواهم؟!! فيكون

_ (1) انظر التقريب للنووي، مع شرحه التدريب (1/ 246) . (2) شرح علل الترمذي (2/ 589) . (3) شرح علل الترمذي (2/ 596) . (4) بيان الوهم والإيهام (2/ 576) (3/ 287) . (5) انظر: تسمية من أخرجهم البخاري ومسلم للحاكم (281) ، وصيانة صحيح مسلم لابن الصلاح (68، 99) . (6) سؤالات البرذعي لأبي زرعة (674- 677) .

خفي عليهما من هذا الأصل العظيم ما كان خفي على مسلم من قبل!!! وخفي عليهما أنهما مخالفان لإجماع العلماء أيضًا!!! الثالث: أن مسلمًا انتهى من تصنيف كتابه سنة (250هـ) تقريبًا، كما يميل إليه بعض الباحثين (1) . ويعني ذلك أن مسلمًا عاش بعد انتهائه منه أحدَ عشر عامًا، كان خلالها يروي كتابَه، ويسمعه منه الجَمُّ الغفير، إلى أن سمعه منه تلميذه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان (ت 308هـ) ، منتهيًا من قراءته عليه سنة (257هـ) (2) . وهو خلال هذه السنوات يقرأ الصحيح بنقل ذلك الإجماع الذي فيه، مجابهًا بذلك أهلَ عصره، دون نكير من أحد، ولا يُنبَّه مسلمٌ إلى خطئه الكبير بمخالفة المحققين والجماهير فيما ادّعى عليه الإجماع؟!! أم أنه بُيِّنَ له خطؤه، وردَّ عليه أهلُ عصره، لكن لم يبلغنا من ذلك شيءٌ البتّة، والأهمّ أن مسلمًا أصرَّ مستكبرًا على رأيه. . لا بل على نقله للإجماع؟!! أجيبوني بأحد هذه الاحتمالات التي أحسنها ما لا يُمكن أن يُقبل. فإن قيل: لعل مسلمًا لم يكتب مقدّمة صحيحه إلا متأخّرًا؟! فأقول: ما أسمج هذا الاحتمال!!!

_ (1) الموقظة للذهبي -تتمّات أبي غدة في آخرها- (138- 140) ، والإمام مسلم ومنهجه في صحيحه للدكتور محمد الطوالبة (105- 106) ، والإمام مسلم بن الحجاج ومنهجه في الصحيح لمشهور حسن سلمان (1/ 356- 357) . (2) الإمام مسلم ومنهجه لمشهور حسن سلمان (1/ 358) .

وعلى فرض صحته فقد سمع ابنُ سفيان الصحيحَ بمقدّناع ستى (257هـ) ، عاش بعدها مسلم أربع سنوات، فهل ترضى ببقاء تلك الاحتمالات؟!! ثم إن مقدّمة مسلم ناطقةٌ بأنها كُتبت قبل الصحيح (بل ذهب بعض العلماء -كأبي عبد الله الحاكم- إلى أنّ الإمامَ مسلمًا بعد أن كتب مقدّمة كتابه، وابتدأَ بكتابةِ الصحيحِ وَفقَ خُطّتها، اخترمتْهُ المنيّةُ قبل استيفاءِ جميع الخُطّة) . وانظر إلى قول مسلم: ((وظننت حين سألتني تجشّمَ ذلك، أن لو عُزِمَ لي عليه وقُضي لي تمامه، كان أولُ من يُصيبُه نفعُ ذلك إيّايَ خاصة، قبل غيري من الناس. . .، ثم إنا إن شاء الله مبتدئون في تخريج ما سألتَ، وتأليفِهِ على شريطةٍ سوف أذكرها لك. . .)) . الرابع: قوّة عبارات مسلم في نقل الإجماع، وثقته بذلك كل الثقة، واعتداده به غايةَ الاعتداد. مما لا يُمكن معه أن يكون نقلُه لهذا الإجماع فلتةً من غير رويّة، وزلّةً لم تسبقها أناة. انظر إليه وهو يقول بعد نقله للمذهب الذي وصفه بأنه مخترع مستحدث، قال: ((ذلك أن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديمًا وحديثًا. . (ثم ذكر رأيه الذي نقل عليه الإجماع، وطالب صاحب القول المخترع بالدليل قائلاً:) فهل تجد هذا الشرط الذي اشترطته عن أحد يلزم قولُه، وإلا فهلمّ دليلاً على ما زعمتَ. فإن ادعى قولَ أحدٍ من علماء السلف بما زعم من إدخال الشريطة في تثبيت الخبر، طُولب به، ولن يجد هو ولا غيره إلى إيجاده سبيلاً)) (1) .

_ (1) صحيح مسلم (1/ 29) .

وقال: ((وما علمنا أحدًا من أئمة السلف، ممن يستعمل الأخبارَ ويتفقّد صحة الأسانيد وسقمها، مثلَ أيوبَ، وابنِ عونٍ، ومالكٍ، وشعبةَ، والقطانِ، وابن مهدي، ومن بعدهم من أهل الحديث= فتّشوا عن موضع الأسانيد كما ادّعاه الذي وصفنا قوله من قبل، وإنما كان تفقّدُ من تفقّدَ منهم سماعَ رواةِ الحديث ممن روى عنهم إذا كان الراوي ممن عرف بالتدليس في الحديث وشُهِر به)) (1) . وسوف أترك عبارات التشنيع على الخصم، فهي دليلٌ منفصل وحجة دامغة، سنأتي إليها (إن شاء الله تعالى) . الخامس: لقد سَمَّى مسلمٌ كما سبق جمعًا من أهل العلم بأسمائهم ممن رأى أنهم يوافقونه في رأيه، وأبهم بقيّة العلماء، الذين لا يعرف فيهم إلا الموافق، حتى نقل الإجماع على رأيه كما سبق. لكن في هؤلاء العلماء الذين سمّاهم مسلم بعضٌ من العلماء الذين لهم عبارات بنفي العلم بالسماع، وهي أقوال مشهورة عنهم متداولة، لا أشك أن مسلمًا اطلع عليها وعلى أكثر منها، واحتجَّ بها المخالفون لمسلم كابن رجب في الرد على مسلم. فهل خفيت على الإمام مسلم؟! أم علمها، لكن لم تدل عنده على اشتراط العلم باللقاء؟! الجوابُ القريبُ أتركه لكَ.

_ (1) صحيح مسلم (1/ 32- 33) .

السادس: أن مسلمًا أفرد مسألة العنعنة بالحديث في مقدّمته غير المُطوَّلة، وأخذت من مقدّمته مساحةً كبيرة، وأطال فيها. ممّا يدل على أنه أولاها عنايته الخاصّة، ومحَّصَ فيها علمه، وأخلص فيها جهده. فهل يصح تصوّر الخطأ من مثله، والحالة كما وصفنا؟! السابع: أن البخاري شيخُ مسلم الأجلُّ لديه، الأكبر في عينيه. ولم يزل مسلم معظّمًا للبخاري، منابذًا لأعدائه. وهو القائل له لما ورد البخاري نيسابور سنة (250هـ) (1) ، أي سنة انتهاء مسلم من تصنيف صحيحه (كما سبق) : ((دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدّثين وطبيب الحديث في علله)) . ويقول الخطيب في (تاريخ بغداد) : ((وكان مسلمٌ يناضل عن البخاري، حتى أوحش ما بينه وبين محمد بن يحيى الذهلي بسببه)) ثم أسند الخطيب إلى عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ أنه قال: ((لما استوطن محمد بن إسماعيل البخاري نيسابور، أكثر مسلم بن الحجاج الاختلافَ إليه. فلما وقع بين محمد بن يحيى والبخاري ما وقع في مسألة اللفظ، ونادى عليه، ومنع الناسَ من الاختلاف إليه. حتى هُجر، وخرج من نيسابور في تلك المحنة= قطعه أكثر الناس غير مسلم، فإنه لم يتخلّف عن زيارته. فأُنهيَ إلى محمد بن يحيى أن مسلم بن الحجاج على مذهبة قديمًا وحديثًا، وأنه عوتب على ذلك بالعراق والحجاز ولم يرجع عنه. فلما كان يوم مجلس محمد بن يحيى، قال في آخر

_ (1) سير أعلام النبلاء (12/ 404) .

مجلسه: ألا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا. فأخذ مسلم الرداء فوق عمامته، وقام على رؤوس الناس، وخرج من مجلسه، وجمع كلَّ ما كان كتب عنه وبعث به على ظهر حمّال إلى باب محمد بن يحيى. فاستحكمت بذلك الوحشة، وتخلّف عنه وعن زيارته)) (1) . فهل بعد هذه المحبّة وذلك التعظيم والتقديم يمكن أن يكون مسلم يقصد البخاريَّ بتلك العبارات البالغة الشدّة، التي سيأتي ذكرها، والتي يصف فيها مخالفَه بالجهل وخمول الذكر وأنه لا وزن له ولا اعتبار؟!! الثامن: سبق أن مسلمًا انتهى من تصنيف صحيحه سنة (250هـ) ، وهي سنة لقائه الطويل بالبخاري، حيث ورد البخاري نيسابور في هذه السنة، ليمكث فيها خمس سنوات. لازمه مسلم خلالها أشدَّ الملازمة، وعظّمه أشدّ التعظيم، وقال له تلك العبارات الدالة على إجلاله الذي لا يساويه إجلال، بل وناضل عنه وهَجَر الذهلي وحديثَه من أجل البخاري. ولم يزل يزور البخاري حتى بعد أن ترك البخاريُّ نيسابور، كما سبق في خبر الخطيب البغدادي. يفعل مسلمٌ ذلك الإجلال كله، وتمتلكه تلك المحبة لشيخه، مع أنه كان قد كتب تلك المقدّمة، التي شنّع فيها على مشترط العلم بالسماع أشد تشنيع، وحمل عليه بكل قوّة!!! وأنا أعجب غاية العجب ممن استدل بزمن تصنيف مسلم لصحيحه وزمن لقائه بالبخاري على أن مسلمًا قصد علي بن المديني دون

_ (1) تاريخ بغداد للخطيب (13/ 103) .

البخاري، لا لأنّ البخاري في رأيه لا يشترط ذلك الشرط، ولكن لأنّ مسلمًا لم يكن قد التقى بالبخاري بعد، أي لأنّ مسلمًا لم يكن يعلم أن البخاري على رأي علي بن المديني!! أَفَبَعْدَ أن لازمَ مسلمٌ البخاريَّ خمس سنوات، تُراه لم يزل جاهلاً بشرط شيخه؟!! والواقع أن البخاري قد أعل حديث كفارة المجلس بعدم العلم بالسماع، ووافقه مسلم على ذلك كل الموافقة!!! فلماذا أبقى مسلم تلك المقدمة كما هي عليه؟! أمْ أن مسلمًا رجع عن رأيه ووافق البخاري، لكنه ترك مقدّمته وما فيها من تشنيعٍ على مخالفه كما هي، وتُقرأ عليه بعد رجوعه، وتُروى عنه؟!!! (1) ولو ذهبت أُفصِّلُ دلالةَ الإجماع الذي نقله مسلم على نقض ذلك القول الذي يزعم أن مسلمًا قصد أحدَ أئمة الحديث كالبخاري أو ابن المديني أو غيرهما، وأن المحققين والجماهير على خلاف ما نقل مسلمٌ الإجماعَ عليه= لطال بي الحديث إلى حدٍّ بعيد. لكن فيما سبق كفاية. فهل تُصغي لهذه الأدلّة الأسماعُ التي أوقرها الإلْفُ العلميّ، وهل تعي الألبابُ هذه البراهين منطلقةً من قيود المسلّمات الموهومة وأغلالِ الفكر المسمومة.

_ (1) انظر موقف الإمامين لخالد الدريس (433) .

الدليل الثالث: وصف مسلم لخصمه بأنه جاهل خامل الذكر

الدليل الثالث: وَصْفُ مسلم لصاحب ذلك الشرط بأنه جاهلٌ خامل الذكر لا وزن له ولا اعتبار في العلم. يقول مسلم: ((وقد تكلم بعض منتحلي الحديث من أهل عصرنا في تصحيح الأسانيد وتسقيمها بقوله، لو ضربنا عن حكايته وذكر فساده صفحًا لكان رأيًا متينًا ومذهبًا صحيحًا، إذ الإعراضُ عن القول المطَّرح أحْرى، لإماتته وإخمال ذكر قائله، وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيهًا للجُهّال عليه. غير أن تخوّفْنا من شرور العواقب، واغترار الجهلة بمحدثات الأمور، وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين، والأقوال الساقطة عند العلماء، رأينا الكشف عن فساد قوله وردّ مقالته بقدر ما يليق به من الردّ= أجدى على الأنام، وأحمدَ للعاقبة إن شاء الله)) (1) . ثم قال بعد نقل من حكى قولَه: ((وهذا القول يرحمك الله في الطعن في الأسانيد قول مخترع مستحدث غير مسبوق صاحبه إليه، ولا مُساعِدَ له من أهل العلم عليه)) (2) . إلى أن قال في آخر كلامه: ((وكان هذا القولُ الذي أحدثه القائل الذي حكيناه في توهين الحديث، بالعلة التي وصفتُ= أقلَّ من أن يُعرَّجَ عليه، ويُثَارَ ذكره. إذ كان قولاً محدثًا، وكلامًا خَلْفًا، لم يَقُلْهُ أحدٌ من أهل العلم سلف، ويستنكره من بعدهم خَلَفٌ. فلا حاجة بنا في ردّه بأكثر مما شرحنا، إذ كان قَدْرُ المقالة وقائلها القدر الذي وصفناه. والله

_ (1) صحيح مسلم (28- 29) . (2) صحيح مسلم (1/ 29) .

المستعان على دفع ما خالف مذهب العلماء، وعليه التكلان)) (1) . فالذي أريد أن أستفهم عنه: هل البخاري وعلي بن المديني أو أحدهما جاهلٌ خاملُ الذكر لا وزن له في العلم وأحقر من أن يُردّ عليه؟!!! لا يمكنني أن أجمع بين أن الإمام مسلمًا مسلمٌ عاقلٌ متصوِّنٌ، فضلاً عن كونه أحدَ أئمة الدين وسادة الأمة ورعًا وعبادةً وعلمًا وعملاً، وأنه يكذب ذلك الكذب الصريح. فلو أتيتَ بالذهلي أو بأي إمامٍ آخر ممن عادَى البخاريّ، هل تظنّ أنه سيقول عن البخاري إنه جاهلٌ خامل الذكر لا وزن له. قد يقول (في اعتدائه) : إنه مبتدع، إنه ضال. لكن أنه خاملُ الذكر!! قائلُ ذلك معلنٌ على نفسه بالكذب أو نقصان العقل. يا قوم، من يقول عن طاغية مثل فرعون إنه خامل الذكر؟! هذا كذب صريح. أقصد من هذا أن هذه الأوصاف لا تناسبُ أحدًا من علماء السنة الذين نُسب ذلك الشرط إليهم، ولا يصح عقلاً أن نتصور أن مسلمًا وصف واحدًا منهم بها. كان يمكن أن يقول مسلم عن البخاري ما يشفي به غيظه، ويروي به غليله (فيما لو كان يتغيّظُ عليه، ويحمل عليه غِلاًّ) ، كأن يقول عنه: إنه ضلّ ضلالاً مبينًا، وأفحش في الخطأ، ويجب أن يستتاب!! لكن أن

_ (1) صيحيح مسلم (1/ 35) .

الدليل الرابع: الصمت التام بعد مسلم وقبل القاضي عياض عن التعرض لهذه المسألة في كتب السنة

يقول إنه خامل الذكر جاهل حقير، فهذا لا يقبله أحدٌ!!! لأنه خبرٌ مخالفٌ للواقع كُلَّ المخالفة، مفضوحُ البطلان، ينادي على المقالة وقائلها بالكذب والبهتان!! الدليل الرابع: الصمتُ التامّ والسكوت المُطْبِقُ عن الخلاف المزعوم بين البخاري ومسلم في الحديث المعنعن، ويستمرّ هذا الصمت الأصم نحو ثلاثة قرون، إلى أن ينسب القاضي عياض (ت 544هـ) ذلك الشرط إلى البخاري وعلي بن المديني وغيرهما (كما قال) . لقد شنّ مسلمٌ تلك الحرب الشعواء، في مقدّمة ثاني أشهر كتاب في السنة، ونقل الإجماعَ على رأي يخالفُه فيه صاحبُ أول كتاب في السنة، ويصف مسلمٌ مخالفَه هذا بأقبح الأوصاف (كما زعموا) . ثم المسألة التي شنّ مسلمٌ لها تلك الحرب وناضل فيها وصاول من أمهات مسائل علوم الحديث، بل من قواعده العظام. ثم -بعد ذلك كله- لا تنتطح فيها عنزان، ولا يعرض لها أحدٌ ممن جاء بعد مسلم، لا ممن ألف في دواوين السنة، ولا في العلل، ولا في التواريخ، ولا في علوم الحديث، كالحاكم والخطيب والبيهقي وغيرهم. لا يعرض لها أحدٌ بشيء، ولا يشير إلى الخلاف، ولا يردّون على مسلم ولا ينتصرون، ولا يدفعون عن البخاري ولا يُحامون عن عرضه، ولا ولا!!! لمَ يحصل كل هذا؟! بل لمَ يحصلُ بعض هذا؟!

لقد تعرّضوا مثلاً في كتب المصطلح (مثل كتاب الحاكم والخطيب) لدقائق الأمور ولطائف المسائل (كرواية الأقران والمدبّج والعالي والنازل ورواية الأكابر عن الأصاغر) ، فلمَ تركوا هذه الحرب المشتعلة في مقدّمة صحيح مسلم، فلم يشاركوا فيها ولا بحذف حصاة (أي: ولا بحرفٍ واحد) ؟!! ألا يدل ذلك على أنّ الأمر محطّ إجماع فعلاً، وأنّه لا خلاف بين أهل العلم فيه حقًّا، وأن مسلمًا لا معارضَ له فيما قال، وأنه لم يَجُرْ ولم يظلم صاحبَ تلك المقالة في وصفه له بأنه جاهل خامل لا قيمة له ولا لرأيه. ثم قابِلْ بين ذلك الصمت قبل القاضي عياض، وماذا حدث بعد القاضي عياض، لمّا أُخِذَ قوله مُسلَّمًا في نسبته ذلك الشرط إلى البخاري: - كيف صار الخلاف في هذه المسألة من أشهر مسائل الخلاف في علم الحديث؟! - وكيف صار هذا الفارق من أعظم الفروق بين البخاري ومسلم حتى في كتاب مختصرٍ جدًّا مثل (نزهة النظر) لابن حجر؟!! - وكم أخذت هذه المسألة مساحاتٍ واسعةً في كتب المصطلح؟! - وكم استنزفت من جهود العلماء، حتى أفردوها بالتصنيف؟! فهل تريد مني أن أصدّق أن هذا لم يحصل قبل القاضي عياض، ولمدّة ثلاثة قرون= مصادفة؟!!! أم ماذا؟!!!

الدليل الخامس: أن في الأسانيد التي ضرب مسلم بها المثل، ولا يعلم سماع بعض رواتها من بعض، ويصححها مسلم، ويضعفها خصمه= أسانيد صححها البخاري

الدليل الخامس: أن مسلمًا لما أراد أن يبيّنَ لخصمه أنه مخالفٌ للإجماع، استدلّ (فيما استدلّ) بأسانيد لم يذكر فيها بعضُ رواتها ما يدلّ على سماعهم ممّن رووا عنهم، ولا في شيءٍ من مروياتهم عنهم، مع ذلك لم يتردّد أحدٌ في أن يحكم على تلك الأسانيد بالاتّصال والصحّة، كما يقول مسلم. إلا ذلك الخصمُ المخالِفُ لمسلم، فإنه طعن في تلك الأسانيد بعدم الاتصال، بناءً على شرطه في قبول الحديث المعنعن. يقول الإمام مسلم: ((فمن ذلك أن عبد الله بن يزيد الأنصاري، وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روى عن حذيفة وعن أبي مسعود الأنصاري، وعن كل واحدٍ منهما حديثًا يُسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وليس في روايته عنهما ذِكْرُ السماع منهما، ولا حفظنا في شيء من الروايات أن عبد الله بن يزيد شافه حذيفة وأبا مسعود بحديث قط، ولا وجدنا ذكر رؤيته إيّاهما في رواية بعينها. ولم نسمع عن أحدٍ من أهل العلم ممن مضى، ولا ممن أدركنا، أنه طعن في هذيه الخبرين، اللذين رواهما عبد الله بن يزيد عن حذيفة وأبي مسعود بضعفٍ فيهما، بل هما وما أشبههما عند من لاقَيْنا من أهل العلم بالحديث من صحاح الأسانيد وقويِّها، يرون استعمال ما نُقل بها، والاحتجاجَ بما أتت من سننٍ وآثار. وهي في زعم من حكينا قوله من قبلُ واهيةٌ مهملةٌ، حتى يُصيبَ سماعَ الراوي عمن روى)) (1) .

_ (1) صحيح مسلم (1/ 33) .

ثم نقل مسلمٌ عددًا من الأسانيد وقال عقبها: ((فكل هؤلاء التابعين الذين نصبنا روايتهم عن الصحابة الذين سميناهم، لم يُحفظ عنهم سماعٌ علمناه منهم في رواية بعينها، ولا أنهم لَقُوهم في نفس خبرٍ بعينه. وهي أسانيد عند ذوي المعرفة بالأخبار والروايات من صحاح الأسانيد، لا نعلمهم وَهّنوا منها شيئًا قط، ولا التمسوا فيها سماعً بعضِهم من بعض. إذ السماع لكل واحدٍ منهم ممكن من صاحبه غير مستنكر، لكونهم جميعًا كانوا في العصر الذي اتفقوا فيه)) (1) . وحتى هنا لم نذكر موطن الشاهد: وموطن الشاهد هو أن البخاري أحدُ من صحّح بعض الأسانيد التي ذكرها مسلم. فأخرج البخاري حديث عبد الله بن يزيد عن أبي مسعود (رقم 55) . وأخرج البخاري حديث قيس بن أبي حازم عن أبي مسعود (رقم 3302) (رقم 90) (رقم 1041) (رقم 702) . وأخرج البخاري حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أنس (رقم 5381) . وأخرج البخاري حديث نافع بن جبير بن مطعم عن أبي شريح الخزاعي (رقم 6019) . وأخرج البخاري حديث النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري (رقم 2840، 6553) .

_ (1) صحيح مسلم (1/ 35) .

وأخرج البخاري حديث سليمان بن يسار عن رافع بن خديج (رقم 2346) . فالبخاري يصحح هذه الأسانيد الستة كلَّها، مع أن مسلمًا أورد هذه الأسانيد ليضرب بها مثالاً على الأحاديث التي يضعّفها خصمُه، وهي صحيحة عند غيره من العلماء الذين لا يشترطون شرطَه. فهل يُمكن أن يكون مسلم يُحَاجُّ البخاريَّ بذلك؟ والبخاري لا يخالفه في تصحيح ما صحّح. أو بعبارة أدق: والبخاري يُصحِّحُ ما يضعفه خصمُ مسلم! نخرج من هذا بأمرين: الأول: أن مسلمًا لم يقصد البخاري يقينًا. الثاني: أن البخاري من ذوي المعرفة بالأخبار والروايات، ممن لم يلتمسوا في تلك الأسانيد سماع بعض الرواة من بعض (على حد تعبير مسلم) . وهنا أذكّر بما استملحه بعضُ أهل العلم من التعقّب على مسلم في بعض الأسانيد التي ذكرها، بوقوفهم على تصريحٍ لبعض الرواة بالسماع من بعض، وأن من تلك الأسانيد ما وقع التصريح بالسماع لرواتها في صحيح مسلم نفسه. وأخذوا ذلك على مسلم، واستغربوه منه. وهذا لا أثر له في مسألتنا، التي هي: التثبت من نسبة اشتراط العلم باللقاء إلى البخاري، لأنّ ذلك التعقّب لا علاقة له بتصحيح النسبة أو ردّها.

الدليل السادس: أن جماعة من أهل العلم نقلوا الإجماع على مذهب مسلم:

بل إني لأتلمّس من وقوع السهو لمسلم في بعض ذلك أنه كان مستهينًا بخصمه غاية الاستهانة، وأنه كان عنده أقل وأدنى من أن يُنقّر له الأدلّة ويُصفِّي له الرويّة. ولو كان مسلم يرد على البخاري أو عليِّ بن المديني أو غيرهما من أئمة السنة، لرأيت غير ذلك، ولاختلف الأمر تمامًا. لقد كان مسلمٌ متردّدًا في الردّ (كما ذكر) ، استخفافًا بذلك المبتدع المستحدث لذلك القول. ثم تصبّر على الردّ، وهو مُسْتَثْقِلُهُ، ولذلك لم يحزم له كُلّ حُمُولِهِ، ولا أعدَّ له كل عُدّته. الدليل السادس: أنّ مسلمًا لم ينفرد بنقل الإجماع على قبول عنعنة المتعاصرين مع السلامة من التدليس، بل يوافقه على نقل الإجماع جَمْعٌ من أهل العلم، كلُّهم قبل القاضي عياض!! فهل هؤلاء العلماء جميعهم (الآتي ذكرهم) غفلوا عن الخلاف في هذه المسألة الكبرى كما غفل مسلم؟!! ولئن غفل مسلم -وعقلنا من ذلك ما لا يُعقل- فهل يغفل من جاء بعده ممن وقف على تلك الحملة الشديدة التي شنّها مسلم على خصمه؟ فأولهم: أبو الوليد الطيالسي (ت 227هـ) : قال ابن رجب: ((قال الحاكم: قرأت بخط محمد بن يحيى: سألت أبا الوليد (هشام بن عبد الملك الطيالسي) : أكان شعبة يقرّق بين

(أخبرني) و (عن) ؟ فقال: أدركت العلماء وهم لا يفرّقون بينهما. وحمله البيهقي على من لا يُعرف بالتدليس. (قال ابن رجب:) ((ويمكن حَمْلُه على من ثبت لُقيّهُ أيضًا)) (1) . أمّا حَمْلُ البيهقي فصحيح، لأنّ عدم التفريق بين صيغ السماع والعنعنة إنما هو في حَقّ غير المدلس، وهذا موطن إجماع. لكن حَمْلُ ابن رجب فيه نظر قوي، بل هو حَمْلٌ متعسَّفٌ لا دليل عليه، بل هو حَمْلٌ يجعل الكلام لا معنى له. أولاً: حمل البيهقي موطن إجماع، أما حمل ابن رجب فهو محل النزاع، وهو مصادرة على المطلوب، ولا دليل عليه، فهو مردود. ثانيًا: أن أبا الوليد الطيالسي نفى الفرق بين (عن) و (أخبرني) ، ومع القيد الذي ذكره البيهقي (وهو السلامة من التدليس) يتضح عدمُ وجود الفرق بين الصيغتين، لأن (عن) ستكون دالةً على السماع مثل (أخبرني) في عموم الرواة وعُظْم الروايات، لا يُستثنى بذلك القيد إلا عددٌ محصورٌ من الرواة القلة الذين أكثروا من التدليس وغلب عليهم. أمّا القيد الذي ذكره ابن رجب فهو قيدٌ لا يصح معه نفي الفرق بين (عن) و (أخبرني) ، لأنه قيدٌ أثبت فرقًا واضحًا بين الصيغتين!! ففي حين تدل (أخبرني) على السماع مطلقًا، فـ (عن) لا تدل السماع في كل راوٍ، بل وعن كل شيخ من شيوخ ذلك الراوي، إلا إذا جاء ما يدل على حصول اللقاء بينهما، هذا مع اشتراط السلامة من التدليس أيضًا.

_ (1) شرح علل الترمذي (2/ 588) .

2- الحاكم النيسابوري

فكيف يصح بعد حمل ابن رجب أن يكون: لا فرق بين (عن) و (أخبرني) ؟! مع وجود هذا الفرق الكبير!! وثاني من نقل الإجماع: أبو عبد الله الحاكم النيسابوري (ت 405هـ) : قال الحاكم في (معرفة علوم الحديث) : ((معرفة الأحاديث المعنعنة وليس فيها تدليس: وهي متّصلةٌ بإجماع أئمة أهل النقل، على تورُّع رواتها عن أنواع التدليس)) (1) . كذلك أطلق الحاكم، دون قيد العلم باللقاء، وينقل الإجماع على هذا الإطلاق، ولذلك صرّح العلائي والبُلْقيني (2) أن الحاكم على مذهب مسلم في الحديث المعنعن. ونحن لا يُهمّنا أن الحاكم على مذهب مسلم (وإن كان لذلك أهميّته) ، لكن يهمّنا أنه ينقل الإجماع على ما نقل مسلم عليه الإجماعَ من قبل، فقيل أن مسلمًا غَفِل عن مخالفته للجماهير!!! فإن قيل: لكن الحاكم لم يشترط المعاصرة، فأقول: هذا شرط بَدَهيٌّ لا يحتاج إلى تنصيص. فالكلام هنا عن (الاتّصال) ، كيف يثبت (الاتّصالُ) في الحديث المعنعن، فاشترطوا لذلك أن لا يكون الراوي مدلسًا، فهل هناك حاجةٌ -بعد ذلك- إلى التنصيص على المعاصرة، وأنه يجب أن لا يكون الراويان غيرَ متعاصرَين (3) ؟!

_ (1) معرفة علوم الحديث للحاكم (34) . (2) انظر: جامع التحصيل (117) ، ومحاسن الاصطلاح للبلقيني (224) . (3) انظر السنن الأبين (57) .

أمّا محاولة بعض المعاصرين (1) الزعم بأن الحاكم على المذهب المنسوب للبخاري، من اشتراط العلم باللقاء، بدليل أنه لمّا مَثَّلَ للحديث المعنعن المتّصل، الذي قدّمه بالعبارة السابقة، مَثَّلَ له بحديثين معلومٌ سماعُ رواتهما من بعض= فهذا استدلالٌ ضعيف جدًّا. لأن الحاكم عَقَدَ بابًا للحديث المعنعن، وذكر شرط قبوله، ولو كان على غير مذهب مسلم، فهل يُتَصَوَّر أن يسكت عن شرط العلم باللقاء اكتفاءً بمثالٍ أورده؟! وهو يعلم الخلاف الذي أثاره مسلم بقوّة. ثم كيف ينقل الإجماع على أمرٍ نقل الإجماعَ على خلافه صاحبُ ثاني أصح كتاب في السنة وإمامُ نيسابور (بلد الحاكم) : ألا وهو مسلم؟! فأقلّ ما في الأمر: كان الواجب عليه أن يذكر رأيه في هذه المسألة الخلافيّة (بزعمهم) ، لا أن ينقل الإجماع عليها، ويكتفي بالمثال للدلالة على مذهبه!! ثم أيّ معنى لاشتراط الحاكم انتفاءَ التدليس وذِكْرِه له بذلك الوضوح والقوّة في كلامه، مع أنه شَرْطٌ متّفقٌ عليه، ثم يترك التنصيصَ على الشرط الذي يتبنّاهُ ويُرجِّحُه (بزعمهم) ، مع ما وقع فيه من ذلك الخلاف الكبير؟!! وأخيرًا نقول: إن الطبعي أن يُحاول الحاكم، وهو في مجال ضرب مثال لحديثٍ معنعنٍ لا اختلاف في اتّصاله، أن يضرب له بمثالين من ألوف الأمثلة يتحقق فيهما الاتّصال على أوضح صورة، وغالبًا ما سيوافق ذلك أن يكون اللقاءُ (بل وطولُ الصحبة) قد تحقق لهؤلاء الرواة، فلا علاقة لذلك باشتراط العلم باللقاء ولا من وَجْه!!

_ (1) انظر: تتمّات أبي غدّة (رحمه الله) على الموقظة للذهبي (125) .

ثم هناك كلامٌ آخر للحاكم صريحٌ بعدم اشتراط العلم باللقاء، وإنّما أخّرته، لأن الكلام السابق هو كلام الحاكم في النوع الذي عقده للحديث المعنعن، ولأن كلامه الآخر (الآتي ذكره هنا) قد وقع في نقله عنه خلاف. أعني قول الحاكم في (معرفة علوم الحديث) : ((المسند من الحديث: أن يرويه المحدّث عن شيخ يَظْهَرُ سماعُه منه لِسِنٍّ يحتمله، وكذلك سماعُ شيخه من شيخه، إلى أن يصل الإسنادُ إلى صحابي مشهور إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (1) . كذا جاءت العبارة في مطبوعة (معرفة علوم الحديث) للحاكم، بلفظ: ((لسنٍّ يحتمله)) ، التي هي عبارةٌ صريحةٌ على الاكتفاء بالمعاصرة. مع أن المحقق أشار في الحاشية أن النسخة الأصل لديه، قد جاءت فيها العبارة بلفظ ((ليس يجهله)) ، وظاهر تصرُّفه أن الخمس النسخ الأخرى كلها (التي اعتمدها في التحقيق) على خلافها، وأنها جاءت كما أثبته في الأصل: ((لسنٍّ يحتمله)) . وإن كنتُ أشك في صحّة ما ذكره عن النسخة الأصل، لأنه ذكر في مقدّمة تحقيقه أنه نسخ النسخة الأصل من بريطانيا، وظاهر كلامه أنه بعد سفره من بريطانيا أخذ يقابل ما نَسَخَه هو من النسخة الأصل على النُّسخ الأخرى (2) ، وهذا يختلف تمامًا عمّا لو كانت صورةٌ من النسخة الأصل بين يديه حين المقابلة، لاحتمال أن تكون قراءتُه ونَسْخُهُ الأول غيرَ مطابق للأصل.

_ (1) معرفة علوم الحديث للحاكم (17) . (2) مقدّمة تحقيق معرفة علوم الحديث للحاكم (كج، إلى: كط) .

أمّا أول من أشار إلى وجود خلاف بين نسخ كتاب الحاكم في هذا الموطن فهو ابنُ رُشيد السبتي (ت 721هـ) ، حيث نقل كلام الحاكم بلفظ ((بسنٍّ مُحتملة)) ، وبلفظ: ((لسنٍّ يحتمله)) ، وكلاهما ظاهران على مذهب مسلم. ثم ذكر أنه وجده أيضًا في نسخة بلفظ: ((ليس يحتمله)) (1) ، وهذه على رأي ابن رشيد على خلاف رأي مسلم، وهي عنده أرجح، بدليل أن الحاكم مَثّل للمسند بمثالٍ معروفٌ سماعُ رواتِه بعضهم من بعض. ثم لمّا نقل الحافظ ابن حجر كلامَ الحاكم في كتابه (النكت) ، جاء في نُسخه الخطيّة على الوجه الذي رجّحه ابنُ رُشيد: ((ليس يحتمله)) ، لكن محقق (النكت) غيّره إلى ((لسنٍّ يحتمله)) (2) ، وهو تغييرٌ في محلِّه ولا شك، لأن كلامَ الحافظ واحتجاجَه بكلام الحاكم لا يستقيم إلا إن كانت العبارة عند الحافظ بلفظ ((لسنّ يحتمله)) . حيث إن الحافظ أورد كلام الحاكم في مجال الاستدلال به على أنّ (المسند) لا يُشترط فيه حقيقة الاتصال، وإنما يكفي فيه أن يكون ظاهره الاتصال، فلا يُعارض وَصْفَ الحديث بأنه (مسند) وُجُودُ انقطاعٍ خفيٍّ فيه. وهذا السياق لا يستقيم معه أن يكون الحاكم قد قال: ((ليس يحتمله)) ، على فهم ابن رُشيد منه. ثم جاء السخاوي بعد ذلك، فنقل عبارة الحاكم بلفظ ((ليس يحتمله)) (3) ، وواضحٌ من سياق كلامه أنه هكذا يرى العبارة، وأنها دالّةٌ على الاتصال القطعي، لا الظاهري فحسب.

_ (1) السنن الأبين لابن رشيد (58- 61) . (2) النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (1/ 508) . (3) فتح المغيث للسخاوي (1/ 121- 122) .

لكن يرجّح أن عبارة الحاكم هي ((لسنٍّ يحتمله)) أمور: أولها: أن هذا هو الذي عليه جُلّ نسخ الكتاب الخطية، كما يقتضيه ظاهر تصرّف محققه. ثانيها: أني وقفت على نسخة خطية قديمة، هي أقدم من جميع نسخ الكتاب التي حُقِّق عليها، بما فيها النسخة الأصل للكتاب المطبوع، حيث نُسخت سنة (550هـ) ، وقوبلت بالأصل سنة (551هـ) ، وعليها سماع سنة (555هـ) . والناسخ أحدُ العلماء المترجمين، والشيخ المسموعةُ عليه النسخةُ عالمٌ من العلماء، وليس بينه وبين الحاكم إلا راويان فقط. جاء في هذه النسخة أن الحاكم قال: ((لسنٍّ يحتمله)) ، واضحةً غاية الوضوح، وبكسر اللام والسين ووضع علامة الإهمال فوق السين وبعدها نون لاشك فيها (1) . ثالثها: أن كلام الحاكم على السياق الذي أرجّحه: ((يظهر سماعه منه لسنٍّ يحتمله)) كلامٌ مستقيمٌ لا ركاكة فيه، ثم زِنْ هذا بالعبارة الأخرى: ((يظهر سماعه منه، ليس يحتمله)) وما يَعْتَوِرُ هذه العبارة من الركاكة الظاهرة. رابعها: أن أبا عَمرو الداني (ت 444هـ) ، وهو كثير النقل عن الحاكم والاعتماد على كلامه، ذكر أن: ((المسند من الآثار، الذي لا إشكالَ في اتّصاله: هو ما يرويه المحدث عن شيخ يظهر سماعه منه بسنٍّ يحتملها)) ، كما يأتي (2) .

_ (1) نسخة مكتبة عارف حكمت المحفوظة بمكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة، رقم: 74/ 231 (و7/ ب) . (2) انظر ما يأتي (104) .

خامسها: أن ابن الأثير (ت 606هـ) في مقدّمة (جامع الأصول) ، وهو الذي لا يكاد يخرج عن كلام الحاكم والخطيب، بل قد نصّ على كتاب الحاكم ضمن مصادره في مقدّمة كتابه (1) = يقول أيضًا في تعريفه المسند: ((أن يرويه المحدّث عن شيخ يظهر سماعه منه والسنّ يحتمله. . .)) (2) . سادسها: أن الحاكم قد نصَّ على مذهب مسلم، ونقل عليه الإجماع، في مبحث الحديث المعنعن، كما سبق. فكيف يأتي بعد ذلك لينصّ على خلافه؟! بل وتطبيق الحاكم على مذهب مسلم (كما يأتي) ، فأنّى نقبل أن يكون على خلافه؟!! وأخيرًا: لو افترضنا أن عبارة الحاكم كانت كما أراد ابنُ رشيد: ((ليس يحتمله)) ، فلمسلم أن يقول: إن الحديث المعنعن بشروطي التي ذكرتها يظهر سماع رواته من بعضهم، وليس السماع فيه مجرّدَ احتمال. فهذه هي حقيقة مذهب مسلم: أنه يرى الاتّصالَ (الذي هو السماع) يثبت بشروطه التي ذكرها، كما سبق أو أوضحنا (3) . ألا ترى عبارة أبي عَمرو الداني، التي ذكرناها آنفًا، والتي يعترف ابن رشيد (كما يأتي) أنها عبارةٌ تؤيد مذهب مسلم، كيف قدَّمها الداني بقوله: ((الذي لا إشكال في اتّصاله)) ، مع أنه على مذهب مسلم؟!! وبعد هذا كُلّه، تتوارد الأدلّة على بيان مذهب الحاكم الذي نقل عليه الإجماع، وهو مذهب مسلمٍ الذي نقل عليه الإجماعَ أيضًا، وذلك

_ (1) جامع الأصول (1/ 69) . (2) جامع الأصول (1/ 107) . (3) انظر ما سبق (27) .

من خلال تطبيقات الحاكم: ففي (المستدرك) يقول الحاكم عقب حديثٍ لثابت البُنَاني: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، إذ لا يَبْعُدُ سماعُ ثابتٍ من عبد الله ابن مُغَفَّل. وقد اتّفقا على إخراج حديث معاوية بن قُرّة، وحديث حميد بن هلال عنه، وثابتٌ أسنُّ منه)) (1) . وقال أيضًا: ((سماع خالد بن معدان من أبي هريرة غير مستبعد، فقد حكى الوليدُ بن مسلم عن ثور بن يزيد عنه أنه قال: لقيتُ سبعة عشر رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (2) . وقال مصحِّحًا حديثًا لقتادة عن عبد الله بن سَرْجِس: ((ولعل متوهِّمًا يتوهّمُ أن قتادةَ لم يذكر سماعًا من عبد الله بن سَرْجِس، وليس هذا بمستبدع، فقد سمع قتادة من جماعةٍ من الصحابة لم يسمع منهم عاصم بن سليمان الأحول، وقد احتجّ مسلمٌ بحديث عاصم عن عبد الله ابن سَرْجِس، وهو (3) من ساكني البصرة)) (4) . وهذا مع صراحته في الاكتفاء بالمعاصرة، فهو صريحٌ كذلك في أن عبارة ((فلان لم يذكر سماعًا)) تعني غالبًا: ((لم يسمع)) . فإن قتادة لم يصرّح بالسماع فعلاً، ولذلك لجأ الحاكم إلى إثبات السماع بالمعاصرة،

_ (1) المستدرك (2/ 461) . (2) المستدرك (1/ 21) . (3) أي إن عبد الله بين سرجس من البصرة بلد قتادة. (4) المستدرك (1/ 186) .

3- أبو عمرو الداني

مع ذلك يقول الحاكم: ((ولعل متوهِّمًا يتوهَّمُ (أي خطأً) أن قتادة لم يذكر سماعًا من ابن سرجس)) ، أي: لم يسمع كما سبق. وقال مصحّحًا حديثًا لسعيد بن المسيب: ((وقد توهَّمَ بعضُ أئمتنا أن سعيدًا لم يلحق عبد الله بن زيد بن عبدربّه، وليس كذلك، فإن سعيد ابن المسيب كان فيمن يدخل بين علي وعثمان في التوسُّط، وإنما تُوفّي عبد الله في أواخر خلافة عثمان)) (1) . وقال أيضًا عن موسى بن طلحة بن عُبيدالله التيمي: ((تابعي كبير، لا يُنكر أنه يُدركُ أيامَ معاذ بن جبل)) (2) . وعلى هذا: فالحاكم على مذهب مسلم، وينقل الإجماعَ عليه أيضًا!! فالإنصافَ الإنصافَ!!! وثالثُ من نقل الإجماع: الحافظ المقرىء أبو عَمرو الدَّاني (ت 444هـ) : فقد نقل ابنُ رُشيد عن جزء لأبي عَمرو الداني باسم: (بيان المتّصل والمرسل والموقوف والمنقطع) أنه قال: ((وما كان من الأحاديث المعنعنة التي يقول فيها ناقلوها: عن، عن= فهي متّصلةٌ، بإجماع أهل النقل، إذا عُرف أن الناقلَ أدرك المنقولَ عنه إدراكًا بَيِّنًا، ولم يكن ممن عُرف بالتدليس، وإن لم يذكر سماعًا)) (3) .

_ (1) المستدرك (3/ 336) . (2) المستدرك (1/ 401) . (3) السنن الأبين لابن رُشيد (51) .

فهذا كلامٌ واضح في الاكتفاء بالمعاصرة، فالإدراك البيِّن هو المعاصرة (1) - فلما قال أبو حاتم الرازي: ((لم يدرك مكحولٌ شريحًا)) ، قال رشيد الدين العطار: ((لعل أبا حاتم أراد بقوله (لم يدرك) اللقاءَ والرؤية، وإن كان خلاف الظاهر)) . تحفة التحصيل (516) . - ولما قال يحيى بن معين: ((عَمرو بن الأسود العنسي أدرك عمر)) ، قال أبو زرعة العراقي: ((ظاهره أنه لم يسمع منه)) ، تحفة التحصيل (377) ، وقال ذلك لأنه حمل (أدرك) على المعاصرة، واكتفاء ابن معين بقوله عنه: عاصر عُمر، فيه إشارة إلى أنه لا يصح له فوق المعاصرة شيءٌ، وإلا لقال: (سمع) أو حتى (روى) . الحقيقيّة الكافية لاحتمال السماع. فليس من الإدراك البيّنِ تَوَهُّمُ الإدراك (أي المعاصرة) مع عدم وقوعها في الحقيقة، وليس من الإدراك البيّنِ معاصرة الرواوي لمن روى عنه زمنًا غيرَ كافٍ لاحتمال السماع، إذ من وُلد سنة (103هـ) وإن كان معاصرًا لمن توفي سنة (100هـ) أو (99) ونحوها، لكن هذه المعاصرة غير كافية لاحتمال السماع. وهذا هو سبب تقييد الداني للإدراك بوصفه أنه إدراكٌ بيّن، وليس في هذه العبارة إجمالٌ كما قال ابن رُشيد (2) ، ولا هي قريبةٌ من شرط طول الصحبة الذي نُقل عن السمعاني كما يُلمح إليه سياق كلام ابن الصلاح في هذه المسألة (3) . وأقلّ ما يُقال في كلام الداني أن ظاهره على مذهب مسلم، وأنه ينقل الإجماعَ عليه. أمّا أنه مجمل، لا يظهر مقصوده منه: فهذا بعيدٌ جدًّا!

_ (1) الأصل في (الإدراك) عند إطلاقه في استخدامات أهل العلم: المعاصرة. (2) انظر الحاشية التي قبل السابقة. (3) علوم الحديث لابن الصلاح (65- 66) .

وإن تنزّلنا فوافقنا أن في كلام أبي عَمرو الداني السابقِ إجمالاً، فيبيّنه كلامه الآتي، الذي يصرّح ابنُ رشيد أنه يدل بظاهره على مذهب مسلم. يقول أبو عَمرو الداني: ((المسند من الآثار الذي لا إشكالَ في اتّصاله: هو ما يرويه المحدّث عن شيخ يظهر سماعُه منه بسنٍّ يحتملها)) (1) . وأذكر هنا عَرَضًا عبارةً لعالم آخر، ليس فيها نقلٌ للإجماع، ولكن أذكرها لقُرْبها من عبارة الداني في اللفظ، وحصل في فهمها اضطرابٌ كما حصل في فهم عبارة الداني. فقد قال أبو الحسن القابسي (ت 403هـ) في مقدّمة كتابه (الملخِّص) : ((البَيِّنُ الاتصال: ما قال فيه ناقلوه: حدثنا، أو أخبرنا، أو أنبأنا، أو سمعنا منه قراءةً عليه، فهذا اتّصالٌ لا إشكال فيه. وكذلك ما قالوا فيه: عن، عن، فهو متصل، إذا عُرف أن ناقله أدرك المنقول عنه إدراكًا بيّنًا، ولم يكن ممن عُرف بالتدليس)) (2) . وأكّد القابسي مقصوده عقب كلامه السابق بنحو صفحةٍ واحدة، عندما مثَّلَ للحديثِ المتّصل بقوله: ((وكذا قولُ عروة: كذلك كان بشير ابن أبي مسعود يحدّث عن أبيه، لاستيقان إدراك عروة من هو أكبر من بشير، على أن في حديث غير مالك بيانَ اتّصال ذلك)) (3) .

_ (1) السنن الأبين (59) . (2) الموطأ برواية ابن القاسم وتلخيص القابسي (37- 38) . (3) الموطأ برواية ابن القاسم وتلخيص القابسي (39) .

4- البيهقي

ومع عدم مراعاة ابنُ رُشيد لدلالة كلام القابسي الأخير، إلا أنه قال بعد كلامه الأول: ((أمّا لفظ القابسي فيُمكن أنه يريد به ثبوت المعاصرة البيّنة، وهو أظهر احتماليه فيه، ويمكن أن يريد طول الصحبة، فيكون موافقًا لما ذكره أبو المظفّر السمعاني)) (1) . فهنا يعترف ابن رُشيد أن ظاهر كلام القابسي على مذهب مسلم، مفسِّرًا الإدراك البيّن (الذي جاء في كلام الداني أيضًا) : بالمعاصرة البيّنة. فكيف لو لاحَظَ ابنُ رُشيد كلام القابسي الأخير؟! وكيف لو استحضر أن اشتراط طول الصحبة من قرائن بُعْد احتماله أنه قولٌ شاذٌ بمرّة؟!! وكيف لو علم ابنُ رشيد أن اشتراط طول الصحبة لا يصح أصلاً ولا عن أبي المظفر السمعاني (كما سبق) ؟!!! وهنا أستغرب من ابن الصلاح، كيف ألمح إلى قُرْبِ مذهب القابسي من المذهب المذكور عن أبي المظفر السمعاني، وهو اشتراط طول الصحبة (2) ؟! ورابعُ من نقل الإجماع أيضًا أبو بكر البيهقي (ت 458هـ) : فبعد أن ذكر البيهقي في (معرفة السنن والآثار) كلامًا للطحاوي أعل به حديثًا بعدم العلم بالسماع، أجابه البيهقي بقوله: ((والذي يقتضيه مذهب أهل الحفظ والفقه في قبول الأخبار: أنه متى ما كان قيس بن

_ (1) السنن الأبين (61) . (2) علوم الحديث لابن الصلاح (66) .

5- ابن عبد البر

سعد ثقةً والراوي عنه ثقةً، ثم يروي عن شيخ يحتمله سنُّهُ ولُقِيُّهُ، وكان غير معروف بالتدليس= كان ذلك مقبولاً. وقيس بن سعد مكي وعَمرو بن دينار مكي. وقد روى قيس عمّن هو أكبر سنًّا وأقدم موتًا من عَمرو: ابنِ أبي رباح، ومجاهد بن جبر. . . (إلى أن قال:) فمن أين جاء إنكار رواية قيس عن عَمرو)) (1) . وأعجب بعد هذا من بعض المعاصرين الذين ادعوا أن البيهقي يشترط العلم باللقاء بدليل وصف البيهقي (أحيانًا) حديثَ التابعي عن المبهم من الصحابة بأنه مرسل، غافلين عن عدم تحقُّقِ المعاصرة أصلاً في هذه الصورة (في بعض الأحيان) . وخامس من نقل الإجماع ابن عبد البر الأندلسي (ت 463هـ) : قال ابن عبد البر: ((اعلم (وفقك الله) أني تأمّلت أقاويل أئمة أهل الحديث، ونظرت في كتب من اشترط الصحيحَ في النقل منهم ومن لم يشترطه، فوجدتهم أجمعوا على قبول الإسناد المعنعن، لا خلاف بينهم في ذلك= إذا جمع شروطًا ثلاثة، وهي: - عدالة المحدّثين في أحوالهم. - لقاء بعضهم بعضًا مجالسةً ومشاهدَة.

_ (1) معرفة السنن والآثار للبيهقي (14/ 287 رقم 19969) .

- وأن يكونوا برآءَ من التدليس. (ثم قال:) وقد أعلمتك أن المتأخرين من أئمة الحديث والمشترطين في تصنيفهم الصحيح قد أجمعوا على ماذكرت لك، وهو قول مالك وعامة أهل العلم (والحمد لله) . إلا أن يكون الرجل معروفًا بالتدليس، فلا يُقبل حديثه حتى يقول: حدثنا أو سمعت، فهذا ما لا أعلم فيه أيضًا خلافًا. ومن الدليل على أن (عن) محمولة عند أهل العلم بالحديث على الاتصال حتى يتبيّن الانقطاع فيها، ما حكاه أبوبكر الأثرم عن أحمد بن حنبل [فذكر رواية أبدل فيها الوليد بن مسلم عبارة (حُدِّثْتُ) بـ (عن) فقال ابن عبد البر:] ألا ترى أن أحمد بن حنبل (رحمه الله) عاب على الوليد بن مسلم قوله (عن) في المنقطع، ليدخله في الاتصال؟! فهذا بيانُ أن (عن) ظاهرُها الاتصال، حتى يثبت غيرُ ذلك، ومثل هذا عن العلماء كثير)) (1) . ومع وضوح كلام ابن عبد البر هذا، فقد احتج به بعضُ أهل العلم على أن ابن عبد البر مخالفٌ لمسلم، وأنه يشترط العلم باللقاء!!! لذكره في شروط قبول الحديث المعنعن اللقاءَ والمجالسةَ والمشاهدة. لكن ابن عبد البر لا يرجِّحُ قولاً على قول حتى يصح هذا الفهم، فهو لا يقول إن اشتراط العلم باللقاء قولٌ أصح من قول من لم يشترطه، بل هو ينقل الإجماعَ وعدمَ وجودِ خلافٍ على الرأي الذي يعرضه!!!

_ (1) التمهيد لابن عبد البر (1/ 12- 14) .

فهل بلغ بابن عبد البر أن اعتبر قول مسلم قولاً شاذًّا، لا يؤثر في حصول الإجماع؟!! والحاصل أن أحدًا لم يقل ذلك، حتى ابن رجب الذي بالغ فزعم أن اشتراط العلم باللقاء رأي الجماهير، فقد نصّ على أن مسلمًا موافَقٌ من ابن حبان وغيره من المتأخرين (حسب وصف ابن رجب) . إذن لا يمكن أن يكون هناك إجماعٌ على اشتراط العلم باللقاء، ولا يمكن أن يكون هذا مقصود ابن عبد البر. ويزداد عدمُ قبول ذلك في فهم كلام ابن عبد البر أنه نصَّ على أنّ رأيه الذي يعرضه رأيٌ اتفق عليه المشترطون للصحّة والمصنفون في الصحيح. ولا أحسب ابنَ عبد البر قد نسي صحيح مسلم بمقدّمته التي نقل فيها الإجماع على عدم اشتراط العلم باللقاء!! فإن نسبه، فماذا ذَكَرَ بالله عليكم؟!! ثم لا تنسى أن من الموافقين لمسلم: ابنَ خزيمة وابنَ حبان والحاكم. وهؤلاء هم المصنّفون في الصحيح. فمن يقصد ابنُ عبد البر إن كان يقصد غير هؤلاء؟! وعليه فإن كان هناك إجماعٌ ينقله ابن عبد البر فلا بُدَّ أن يكون إجماعًا موافقًا لرأي مسلم وغيره، بل التعبير الصحيح أن يقال: إنه لا إجماع إلا على ما نقل مسلمٌ عليه الإجماع. والنتيجة: أن كلام ابن عبد البر يستحيل أن يقصد به نقل الإجماع على اشتراط العلم باللقاء.

وهذه النتيجة خرجنا بها بيقين لا يُساوره شك. فإن أردنا فَْم كلام ابن عبد البر، أُذكّر أولاً بأمور: أن ابن عبد البر ذكر شرط اللقاء قائلاً: ((لقاء بعضهم بعضًا مجالسةً ومشاهدةً)) ، وسبق في أول المبحث بيان أن مسلمًا لا يُعارض في اشتراط اللقاء والسماع، إنما يعارض مسلم في اشتراط الوقوف على نصّ صريح دال على اللقاء أو السماع. وعليه فإن كلامَ ابن عبد البر لا يكون دالاًّ على اشتراط العلم باللقاء، بمجرّد اشتراط اللقاء، إذ لا يكون كلامُه دالاًّ على اشتراط العلم إلا إذا قال مثلاً: والعلم صراحةً أو تنصيصًا بلقاء بعضهم بعضًا. . إذن ما هو مقصود ابن عبد البر من ذلك الشرط، فأقول: إن مقصوده به: المعاصرة مع وجودِ دلائلِ اللقاء وعدمِ وجودِ قرائنَ على عدمه، لأن هذا هو شرطُ مسلم كما تقدّم، فلا تكفي المعاصرةُ إلا مع عدم وجود ما يشهد لعدم اللقاء، وعند حصول ذلك تكون عنعنةُ ذلك الراوي محمولةً على اللقاء والسماع والمشاهدة بالإجماع. إذن فكأن ابن عبد البر قال: إنه يقبل الحديث المعنعن بشرط ثقة رواته، وعدم قيام قرائن تغلِّبُ نَفْيَ اللقاء وتدل على عدم وقوعه، مع السلامة من التدليس. ويؤكّد هذا المعنى قوله في كلامه السابق: ((ومن الدليل على أن (عن) محمولةٌ عند أهل العلم بالحديث على الاتّصال حتى يتبيّن الانقطاع فيها. . . (وذكر قصة الوليد بن مسلم، ثم قال) : فهذا بيان أن (عن) ظاهرها الاتصال، حتى يثبت فيها غير هذا)) .

فهذا النصّ بيّنَ ابن عبد البر فيه متى يتوقّف عن قبول (العنعنة) ، بأنّه إذا تبيّن الانقطاع وثبت. فهل رواية المعاصر عمن لم يذكر سماعَه منه يتبيّن فيها الانقطاع ويثبت، حتى عند مشترط العلم باللقاء؟ أم أنها متوقّفٌ في الحكم عليها بالاتصال، وأنها -ولا شك- لاتبلغ درجة بيان الانقطاع وثبوته. إذن فابن عبد البر إنما يحترز في الإسناد المعنعن من أن تأتي دلائل تدل أو تشهد على الانقطاع، ويدل على ذلك المثال الذي ذكره. فإن لم يأت ما يدل على الانقطاع، وبالتالي وُجدت قرائن تشهد على الاتصال، فعندها يحكم بالقبول، لأن هذا الإسناد المعنعن دلّ على المشاهدة واللقاء والمجالسة. وأخيرًا نستمرّ في استجلاب ما يبلغ بنا بَرْدَ اليقين، بالنظر في تطبيقات ابن عبد البر، الدالة على اكتفائه بالمعاصرة، وهي بالغة الكثرة. قال في التمهيد (16/ 219) : ((طاوس سماعه من صفوان بن أمية ممكن، لأنه أدرك زمن عثمان)) . وذكر ابن عبد البر في التمهيد (16/ 328) حديثًا من رواية عُبيدالله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - في العيدين، ثم قال: ((قد زعم بعض أهل العلم بالحديث أن هذا الحديث منقطع، لأن عبيد الله لم يلق عمر. وقال غيره: هو متصل مسند، ولقاء عبيد الله لأبي واقد الليثي غير مدفوع، وقد سمع عبيد الله من جماعة من الصحابة)) .

6- ابن حزم

وقال (3/ 251) : ((قال قوم لم يسمع زيد بن أسلم من جابر بن عبد الله، وقال آخرون سمع منه، وسماعه من جابر غير مدفوع عندي، وقد سمع من ابن عمر، وتوفي ابن عمر قبل جابر بنحو أربعة أعوام)) . وهناك مواطن أخرى كثيرة في كلام ابن عبد البر على هذا المنوال (1) . وسادسُ من نقل الإجماع أبو محمد ابن حزم (ت 456هـ) : قال ابن حزم (في الإحكام في أصول الأحكام) : ((وإذا علمنا أن الراوي العدل قد أدرك من روى عنه من العدول، فهو على اللقاء والسماع، لأن شرط العدل القبول، والقبول يضاد تكذيبه في أن يسند إلى غيره ما لم يسمعه، الغ أن يقوم دليل على ذلك من فعله. وسواء قال (حدثنا) أو (أنبأنا) ، أو قال (عن فلان) ، أو قال (قال فلان) = كل ذلك محمول على السماع منه. ولو علمنا أن أحدًا منهم يستجيز التلبيس بذلك كان ساقط العدالة، في حكم المدلس. وحكم العدل الذي قد ثبتت عدالته فهو على الورع والصدق، لا على الفسقِ والتهمةِ وسوءِ الظن المحرَّم بالنص، حتى يصحَّ خلافُ ذلك. ولا خلاف في هذه الجملة بين أحدٍ من المسلمين، وإنما تناقض من تناقض في تفريع المسائل)) (2) .

_ (1) انظر التمهيد (20/ 136) (21/ 93، 202) (22/ 263) (24/ 9) والاستذكار (الطبعة القديمة 1/ 323- 324) . (2) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (2/ 21) .

الدليل السابع: أن كتب شروط الأئمة لم تنص على هذا الشرط أبدا

الدليل السابع: أنّ أصحاب الكتب المتخصّصة في بيان شروط الأئمة الستة أو الخمسة لم يذكروا شرطَ العلم باللقاء عن البخاري أو غيره. فقد أُلِّفَتْ في شروط الأئمة كتبٌ أقدمُها وأهمّها ثلاثة كتب، نحمد الله تعالى أنها أُلّفت قبل القاضي عياض ودعواه نسبة ذلك الشرط إلى البخاري وابن المديني. فأول من ألف في شروط الأئمة: أبو عبد الله ابن منده (ت 395هـ) . وتلاه محمد بن طاهر المقدسي (ت 507هـ) . وجاء آخرهم أبوبكر محمد بن موسى الحازمي (ت 584هـ) . ومع أن كتب هؤلاء الأئمة متخصّصةٌ في بيان شروط هؤلاء الأئمة، وخاصة الشيخين، ومعتنيةٌ خاصة بنقاط الاختلاف وبيان الفروق بينهما، ومع أهميّة مسألة العنعنة، ومع حَمْلَةِ مسلمٍ الشديدةِ على مشترط العلم باللقاء في مقدّمة صحيحه= هل يُتصوَّر أن يُغفل هؤلاء الأئمةُ ثلاثتُهم هذه المسألة تمامًا في كتبهم، لو كان المخالِفُ لمسلمٍ هو البخاريُّ وغيره من أئمة الحديث؟!! والواقع أنهم أغفلوا هذه المسألة تمامًا. . بالفعل. وازن بين ذلك وكتابٍ جاء بعد انتشار تلك الدعوى، كيف أن مسألة الحديث المعنعن أصبحت أكبرَ فرقٍ بالفعل بين الصحيحين. حتى في كتاب مختصر وغير متخصص في شروط الأئمة، كنزهة النظر. كيف إذا علمت أن الأمر لم يقتصر على عدم ذكر شرط العلم

الدليل الثامن: نسبة ابن طاهر شرط الاكتفاء بالمعاصرة إلى البخاري ومسلم

باللقاء بشيءٍ البتّة، بل تجاوز إلى نسبة نقيضه إلى البخاري!!! وهذا هو الدليل التالي. الدليل الثامن: نسبةُ محمد بن طاهر المقدسي شرطَ الاكتفاء بالمعاصرة إلى البخاري ومسلم كليهما. ولا تنسى أن ابن طاهرهو صاحب شروط الأئمة الستة. يقول ابن طاهر في مقدّمة كتابه (الجمع بين رجال الصحيحين) : ((إن كُلَّ من أخرجا حديثه في هذين الكتابين -وإن تكلم فيه بعضُ الناس- يكون حديثُه حجةً، لروايتهما عنه في الصحيح. إذ كانا (رحمةُ الله عليهما) لم يُخرجا إلا عن ثقة عدل حافظ، يحتمل سِنُّهُ ومولدُه السماعَ مِمّن تقدّمه، على هذه الوتيرة، إلى أن يصل الإسنادُ إلى الصحابي المشهور)) (1) . وهكذا لا يفرّق ابن طاهر بين الشيخين في شرط الحديث المعنعن، وينصّ على اكتفائهما بالمعاصرة. ومعرفة ابن طاهر بالصحيحين عظيمة، حتى إن محمد بن عبد الواحد الدقاق لما طعن على ابن طاهر في كل شيء، لم يستطع إلا أن يعترف بمعرفته بالصحيحين وما يتعلق بهما.

_ (1) الجمع بين رجال الصحيحين لابن طاهر (1/ 3) .

الدليل التاسع: النصوص الدالة على أن أهل العلم لا يشترطون العلم بالسماع

الدليل التاسع: نصوصٌ للعلماء تدل على أنهم لا يشترطون في الحديث المعنعن العلمَ باللقاء. أولاً: الإمام الشافعي (ت 204هـ) . فمع أن الحافظ قد نقل كلام الشافعي مستدلاًّ به على أنه يشترط العلم باللقاء، إلا أنّنا سنقف عند كلامه، لنرى هل فيه دلالةٌ على ذلك، أم أنّه على نقيض ما ذكر؟! قال الشافعي في الرسالة على لسان سائل: ((فقال: فما بالك قبلت ممن لم تعرفه بالتدليس أن يقول (عن) ، وقد يمكن فيه أن يكون لم يسمعه؟ فقلت له: المسلمون العدولُ عدولٌ أصحّاءُ الأمر في أنفسهم. . . (إلى أن قال:) وقولُهم (عن) خبرُ (1) أنفسِهم، وتسميتُهم على الصحّة. حتى نستدلّ من فعلهم بما يخالف ذلك، فنحترسَ منهم في الموضع الذي خالف فعلُهم فيه ما يجب عليهم. ولم نعرف بالتدليس ببلدنا، فيمن من مضى ولا من أدركنا من أصحابنا، إلا حديثًا، فإن منهم من قبله عمن لو تركه عليه كان خيرًا له.

_ (1) ضبطها الشيخ أحمد شاكر بكسر الراء، على أنها مجرورة بعن. وقد كنت أميل إلى تخطئة هذه القراءة، وأرى الصواب هو أن تكون بضم الراء، خبرًا لـ (قولهم) ، حتى وقفت على ما يؤكد هذا الظن، وهو نسخة خطية نفيسة، نسخت سنة (775هـ) من أصل الربيع بن سليمان، وقد ضبطت فيه الراء بالضمّ كما كنت أميل إليه (و47/ أ) ، فلله الحمد.

وكان قولُ الرجل (سمعت فلانًا يقول سمعت فلانًا) وقوله (حدثني فلان عن فلان) سواء عندهم، لا يحدث واحد منهم عمن لقي إلا ما سمع منه، ممن عناه بهذه الطريق، قبلنا منه (حدثني فلان عن فلان) -)) (1) . أولاً: لا شك أن الشافعي لا يقبل الحديث المعنعن من غير المتعاصرين. فالسائل إذن يقول للشافعي: ما بالك قبلت من المتعاصرين العنعنة إذا سلموا من التدليس؟ إذن فالسؤال عن مذهب مسلم عينِه.. حرفًا بحرف، ينسبه السائلُ إلى الشافعي. فلم يقل له الشافعي أخطأتَ في ما نسبتَه إليّ، بل أقرّ ما تضمّنه سؤاله، وأخذ يجيب عن سؤاله مبيّنًا مسوّغات وأسباب ذلك المذهب. وهذا أوّل ما دلّنا على أن الشافعي على مذهب مسلم في الحديث المعنعن!!! ثم أخذ الشافعي يُوضّحُ لسائله سبب قبوله للحديث المعنعن بين المتعاصرين من غير المدلسين، قائلاً له: إن المسلم العدل غير المدلّس إذا قال (عن) فلان دلّ ذلك بظاهره على صحّة تلقّيه ممن سمّاه، إلا إذا جاء ما يدل على خلاف هذا الأصل، فيحترس منه في ذلك الإسناد المستثنى. أمّا قول الشافعي الذي احتج به من نسب إليه اشتراط العلم باللقاء: ((لا يحدث واحدٌ منهم عن من لقي إلا ما سمع منه ممن عناه بهذه الطريق)) ،

_ (1) الرسالة للشافعي (رقم 1028- 1032) .

2- أبوبكر الحميدي

فإنما ورد هذا القول في سياق بيان أن (عن) من غير المدلس دالة على اللقاء، فهي دالة على نقيض ما أرادوا. فهو يقول: [لمّا] كان قول الرجل (سمعت فلانًا يقول سمعت فلانًا) وقولُه (حدثني فلان عن فلان) سواءً عندهم، [بسبب أنه] لا يحدث واحدٌ منهم عن من لقي إلا ما سمع منه، ممن عناه [أي سمّاه] بهذه الطريق: [لذلك] قبلنا منه حدثني فلان عن فلان [أي قبلنا عنعنته] . ثم انظر إلى استدلال الحافظ كيف قال: ((فذكر أنه إنما قبل العنعنة لما ثبت عنده أن المعنعِنَ غير المدلِّس وإنما يقول (عن) فيما سمع، فأشبه ما ذهب إليه البخاري)) (1) . فلو حذف الحافظ واو العطف بعد كلمة (غير المدلس) ، لكان كلامه موافقًا لكلام الشافعي حقًّا، لكن حينها يكون كلام الشافعي لا يشبه. . بل يناقض ما نُسب إلى البخاري!! فتأمّلْ ذلك طويلاً!! فقد بنيتُ هذا البحثَ على الاختصار. ثانيًا: الإمام أبوبكر عبد الله بن الزبير الحميدي (ت 219هـ) . أسند الخطيب إليه في (الكفاية) أنه قال بعد بيان شروط قبول الحديث: ((وإن لم يقل كل واحد ممن حدثه سمعت أو حدثنا (2) حتى

_ (1) النكت لابن حجر (2/ 596) . (2) يعني: إذا لم يُصرّح الراوي بالسماع، فأتي بصيغة محتملة مثل (عن) .

3- الخطيب البغدادي

ينتهي ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن أمكن أن يكون بين المحدِّث والمحدَّثِ عنه واحدٌ فأكثر، لأن ذلك عندي على السماع، لإدراك المحدِّث مَن حَدّث عنه، حتى ينتهي ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولازمٌ صحيحٌ يلزمنا قبوله ممن حمله إلينا، إذا كان صادقًا مدركًا لمن روى ذلك عنه)) (1) . وقال الحميدي في موطن آخر: ((قلت: لأن الموصول وإن لم يقل فيه: (سمعت) ، حتى ينتهي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن ظاهره كظاهر السامع المُدْرِك، حتى يتبيّنَ فيه غير ذلك)) (2) . فهنا يصرّح الحميدي أن الحديث الذي لم يُصرِّح رواته بالسماع، أي الحديث المعنعن، ظاهره يدل على الاتصال، وأن العمل على دلالة هذا الظاهر، حتى يأتي ما ينقض هذا الظاهر. وبذلك نضيف الحُميديَّ شيخَ البخاري إلى مصافّ من كان على مذهب مسلم!! ثالثًا: أبوبكر الخطيب البغدادي (ت 463هـ) : للخطيب عبارةٌ استدلّ بها من نسب ذلك الشرط إلى البخاري على أن الخطيب موافقٌ للبخاري فيه!! وقبل ذكر تلك العبارة أسوق عبارةً أخرى للخطيب، صريحةً في أن الخطيب على مذهب مسلم.

_ (1) الكفاية للخطيب (41) . (2) الكفاية للخطيب (429- 430) .

قال الخطيب في (الكفاية) : ((وأمّا قول المحدّث: (قال فلان) ، فإن كان المعروف من حاله أنه لا يروي إلا ما سمعه= جُعل ذلك بمنزلة ما يقول فيه غيره (حدّثنا) . وإن كان قد يروي سماعًا وغير سماع= لم يُحْتَجَّ من رواياته إلا ما بيَّنَ الخبر فيه)) (1) . فظاهرٌ من هذه العبارة أن الخطيب لا يشترط لقبول (قال) إلا انتفاء التدليس، وهذا هو مذهب مسلم. ويؤكد الخطيبُ معنى كلامه، وأنه لا يشترط في (قال) إلا انتفاء التدليس، وأنه إنما أراد بقوله: ((فإن كان المعروفُ من حاله. .)) عدمَ التدليس، لا أمرًا آخر= أنه قال عقب كلامه السابق: ((قلت: والحكم الذي ذكرناه إنما فيمن روى غير سماع وكان ممن يجوز عليه التدليس وأَخْذُ الأحاديث من كل جهة. .)) ، ثم أورد أخبارًا تدل على أن (قال) لها دلالة عُرفيّة (مثل: عن) ، هذه الدلالة هي الاتّصال بالسماع ونحوه. فإذا كان هذا هو حكم (قال) عند الخطيب، وهي في دلالتها العرفيّة على الاتّصال أضعف (أو قُل: أخفى) من دلالة (عن) عليه، فماذا سيكون حكم الخطيب في (عن) ؟ بعد أن انتهى الخطيب من حُكم (قال) ، أورد بعده مباشرةً الكلام عن حكم (عن) . وأوّل ما بدأ به فيها: أن أسند إلى الرامهرمزي ما نقله في كتابه (المحدث الفاصل) عن بعض المتأخرين من الفقهاء (حسب تغبير الرامهرمزي) ، أنه لا يقبل العنعنة مطلقًا (2) .

_ (1) الكفاية للخطيب (326) . (2) المحدّث الفاصل للرامهرمزي (رقم 539) ، والكفاية للخطيب (327- 328) .

ثم بدأ الخطيبُ رَدَّه على هذا الرأي قائلاً: ((قلت: وأهل العلم بالحديث مُجْمِعون على أن قول المحدّث: (حدثنا فلان عن فلان) صحيحٌ معمولٌ به، إذا كان شيخه الذي ذكره يُعرف أنه قد أدرك الذي حدّث عنه ولقيه وسمع منه، ولم يكن هذا المحدِّثُ ممن يُدَلِّس. . .)) (1) . ثم أسند الخطيب إلى الإمام الشافعي، وأورد كلامه الذي نقلناه عنه آنفًا من كتابه (الرسالة) ، والذي هو نصٌّ صريح على أن الشافعي على مذهب مسلم. أورده الخطيب على طريقة المستدِلِّ به، لا المخالِفِ له ولا المتعقِّبِ عليه. فهل كلام الخطيب هذا يدل على أنه على مذهب البخاري؟ فأوّل ما أبدأ به الإجابةَ: هو أن أقول تَنزُّلاً: إن كُلَّ الذي يدلّ عليه كلام الخطيب: أن الحديث المعنعن بين راويين عُرف لقاؤهما وسماعهما وسَلِمَ الراوي من التدليس أنه يكون صحيحًا معمولاً به، وهذا لا شك أنّه موطنُ إجماعٍ كما قال الخطيب، لا يُخالف فيه الإمامُ مسلمٌ ولا غيره ممن هو على رأي مسلم. وليس في كلام الخطيب أنّ ما سوى ذلك مردودٌ غير ومقبول، ولا يمكن أن يقول الخطيب ذلك!! فأمّا أنَّ كلام الخطيب ليس فيه مخالفةٌ لمذهب مسلم: فهذا واضحٌ لمن تأمّل كلامه، كما أوضحناه آنفًا. وأمّا أن الخطيب لا يمكن أن يكون كلامه السابق فيه مخالفةٌ لمذهب مسلم، فلأنّ الخطيب نقل الإجماعَ على الرأي الذي ذكره، ولا

_ (1) الكفاية للخطيب (328) .

أحسب أحدًا سيقول: إن الخطيب نقل الإجماع على خلاف ما نقل مسلمٌ عليه الإجماع، إذن أين مذهب مسلمٌ (في أقل تقدير) ؟! بل أين مسلمٌ ومَنْ وافقه؟!! بل أين مسلم وكل العلماء معه؟!!! ثم يأتي حُكمُ الخطيب في (قال) ، وموافقته لمذهب مسلم فيها، ويأتي استدلالُه بكلام الشافعي، الذي هو على مذهب مسلم= ليدلَّ ذلك على أن الخطيب لن ينقل الإجماعَ إلا عى ما نقل مسلمٌ والحاكمُ عليه الإجماع مِنْ قَبْل!! لكن هنا ينقدحُ في الأذهان سؤال: فلمَ قال الخطيب إذن: ((إذا كان شيخُه الذي ذكره يُعرف أنه قد أدرك الذي حدّث عنه ولقيه وسمع منه. .)) ؟ فأقول: لذلك جوابان: الأول: أن الخطيب لاحظَ في نَقْلِهِ الإجماعَ مَنْ ردّ عليه مسلمٌ، ذلك الجاهلَ الخاملَ الذكر، الذي انتحل الآثار والحديث، ولا يُعَدُّ من أهل الحديث، ولا تؤثِّرُ مخالفتُه في الإجماع الذي عليه أهل الحديث. فأراد الخطيب أن يبدأ في بيان حُكم (عن) بنقطة اتفاقٍ، يدخل في الموافقة عليها حتى ذلك الجاهل الخامل الذِّكر، وهي قبول الحديث المعنعن بشرط العلم باللقاء والسلامة من وصمة التدليس. ويُرشِّحُ هذا المعنى (ربّما) : أن الخطيب في سياق الردّ على من ردَّ العنعنةَ مطلقًا، وهو ذلك المتأخِّر من الفقهاء، كما سبق، فأراد الخطيبُ أن يقول لهذا الفقيه المتأخِّر: إن قولك بردّ العنعنة مطلقًا قولٌ لم يَسبِقْكَ إليه أحدٌ (لا عالمٌ ولا جاهلٌ خاملُ الذِّكر) . ثم إن الخطيب قد بيّن حكم (عن) عنده وفي مذهبه بما كان قد ذكره في حكم (قال) ، وبما استدلّ به من كلام الشافعي بعد ذلك.

الثاني (وهو عندي الأوجهُ والأقوى) : أن الخطيبَ في الحقيقة ينقل الإجماعَ على ما نقل مسلمٌ عليه الإجماع سواء، وأنه لم يَقُم بذهن الخطيب اعتبارُ وُجُودِ خلافٍ في المسألةِ أصلاً. فجاء قولُه بعد ذلك ((إذا كان شيخه الذي ذكره يُعرف أنه قد أدرك الذي حدّث عنه ولقيه وسمع منه)) وصفًا كاشفًا لا قيدًا، وإنما جاء بيانًا لحال الغالب على عنعنات الرواة غير المدلِّسين. كما لو قال قائل: ((المشركون كلُّهم في النار بإجماع، إذا سجدوا لصنم وطافوا على وثن وذبحوا لحجر أو شجر)) . فإنه لا يكون هناك غرابةٌ في هذا التعبير، ولا هناك ما يدعوا إلى وقفةٍ من هذه الأوصاف. ويكون قوله: ((إذا سجدوات. . وطافوا. . وذبحوا)) ليس قيدًا، ولا يفهمه أحدٌ أنه قيد. ولكنه خرج مخرج الغالب، ومن المقرَّر في الأصول: أنه لا يُحتجُّ بمفهوم المخالفة إذا خرج الكلام مخرج الغالب. وبذلك نُضيفُ الخطيب إلى الناقلين الإجماعَ على ما نقل مسلمٌ عليه الإجماع، وإنما أخّرته هنا تلطُّفًا وتنزُّلاً، واكتفاءً ببعض الحجة عن جميعها. فأمّا أن الخطيب على مذهب مسلم: فلا أحسب هناك من سيخالف في ذلك. وأمّا أن الخطيب على مذهب البخاري: فليس هناك قول للخطيب يشهد له! فضلاً عن ادّعاء من ادعى أن الخطيب ينقل الإجماع على مذهب البخاري!! ليكون الخطيب -على رأي هذا المدّعي- قد ألغى مسلمًا ومن وافقه من الاعتبار!!!

4- أبو الحسن القابسي

رابعًا: أبو الحسن القابسي (ت 403هـ) : وقد سبق نَقْلُ عبارته، وما تضمّنتْهُ من الاكتفاء بما اكتفى به الإمامُ مسلمُ، باعتراف ابن رُشَيْد على ذلك! (1) الدليل العاشر: صحيح البخاري نَفْسُه. فمع أنه قد سبق أن قلنا: إن صحيح البخاري لا ينفع أن يكون دليلاً على أن البخاري يشترط العلم باللقاء، حتى لو تحقّق فيه هذا الشرط، لأن البخاري أقام كتابه على: منهج الاحتياط، والمبالغة في التحرِّي، ومُجانبةِ مواطن الخلاف كُلَّ المجانبة= إلا أن صحيح البخاري (من جهةٍ أخرى) نافعٌ لنقض دعوى نسبة ذلك الشرط إلى البخاري، فيما لو وُجد حديثٌ واحدٌ (نعم. . حديثٌ واحدٌ فقط) لم يتحقّق فيه ذلك الشرط، لأنّ هذا الحديث الواحد دلَّنا على أن البخاري مع شدّة احتياطه وتَوَقِّيه لكتابه لم يَرَ في انتفاء ذلك الشرط ما يُخالفُ الصحّةَ والشروطَ التي أقام عليها كتابَه. وقد قرّر صحّة هذا الدليل الحافظُ ابن حجر (قبل غيره) ، وهو المنافح عن صحيح البخاري، والذي لم يكن يُساوره أدنى شك في أن البخاري يشترط العلم باللقاء. فإنه قال مُجيبًا على الإمام مسلم: ((وإنما كان يتمُّ له النّقْضُ والإلزامُ لو رأى في صحيح البخاري حديثًا معنعنًا لم يثبت لُقِيّ راويه لشيخه فيه، فكان ذلك واردًا عليه)) (2) .

_ (1) انظر (104- 105) . (2) النكت لابن حجر (2/ 598) .

يقرّر الحافظ صحّة هذا الدليل، ولو في حديثٍ واحدٍ فقط، ثم هو نفسه يعترف بوجود هذا الدليل الذي يتمّ لمسلمٍ به النقضُ والإلزام!!! يقول الحافظ: ((ومسألة التعليل بالإنقطاع وعدم اللِّحاق: قلَّ أن تقع في البخاري بخصوصه، لأنه معلوم أن مذهبَهُ عدمُ الاكتفاءِ في الإسنادِ المعنعن بمجرّد إمكانِ اللقاء)) (1) . فانتبهْ لقوله: ((قلَّ)) !!! وسنترك الإجمال إلى البيان، بضرب أمثلةٍ تدل على اكتفاء البخاري في صحيحه بالمعاصرة: المثال الأول: حديثا أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، الأول حديث: ((خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه)) (2) ، والثاني: حديث حصار عثمان، وما فيه من قصّة حفر بئر رومة وتجهيز جيش العُسْرة (3) . أخرجهما البخاري في صحيحه: مع نفي كُلٍّ من شعبةَ وابنِ معين سماعَ أبي عبد الرحمن السُّلمي من عثمان رضي الله عنه، ومع قول أبي حاتم الرازي: ((روى عنه ولم يذكر سماعًا)) ، ورضي الإمام أحمد عن نفي شعبة لسماعه من عثمان (4) .

_ (1) النكت لابن حجر (1/ 383) . (2) صحيح البخاري (رقم 5027) . (3) صحيح البخاري (رقم 2778) . (4) المراسيل لابن أبي حاتم (106-108 رقم 382-387) .

فيقول الحافظُ في (الفتح) مدافعًا: ((لكن ظهر لي أن البخاري اعتمد في وصله وفي ترجيح لقاء أبي عبد الرحمن لعثمان= على ما وقع في رواية شعبة (1) عن سعيد بن عبيدة من الزيادة، وهي أن أبا عبد الرحمن أقرأ من زمن عثمان إلى زمن الحجّاج، وأنّ الذي حمله على ذلك هو الحديث المذكور، فدلَّ ذلك على أنه سمعه في ذلك الزمن. وإذا سمعه في ذلك الزمن، ولم يُوصَف بالتدليس، اقتضى ذلك سماعَه ممن عَنْعَنَهُ عنه، وهو عثمان. ولا سيّما ما اشتهر بين القُرّاء: أنه قرأ القرآن على عثمان، وأسندوا ذلك عنه من رواية عاصم بن أبي النجود وغيره. فكان هذا أولى من قول من قال: إنه لم يسمع منه)) (2) . فهُنا يعترف الحافظ أن البخاري إنما كان اعتمادُهُ في تصحيح حديثين لأبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان رضي الله عنه على المعاصرة وحدها!! وهذا يكفينا من أشدِّ العلماء دفاعًا عن صحيح البخاري، وأبلغهم قناعةً بنسبة شرط العلم باللقاء إليه!! وأمّا ما ذكره الحافظ من مسألة القراءة، فالحافظ نفسُه لم يزعم أن البخاريَّ اعتمد عليها في تصحيحه لحديث السلمي عن عثمان رضي الله عنه. والظاهر أن الحافظ لم يزعم هذا الزعم، لأنه كان يعلم أن إسناد ذلك لا يثبت (3) .

_ (1) لكن إن كان شعبةُ وهو راوي دليلِ اللقاء، هو نفسُه الذي ينفي هذا اللقاء، فبماذا يُجيبُ الحافظ؟! (2) فتح الباري (8/ 694) . (3) انظر: العلل للدارقطني (3/ 60 رقم 284) ، وسير أعلام النبلاء للذهبي (4/ =

وهنا أُنبِّهُ إلى أن حديثَيْ أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان رضي الله عنه، وإن لم نعلم بلقائه، إلا أنه تصحيحهما بناءً على الاكتفاء بالمعاصرة هو المتوجِّه، أو له وَجْهٌ قويٌ في أقلّ تقدير. المثال الثاني: حديث عروة بن الزبير، عن أمّ سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((إذا أقيمت صلاة الصبح فطُوفي على بعيرك، والناسُ يُصلّون)) (1) . ذكره الدارقطني في (التتبُّع) ، وقال: ((هذا مرسل)) ، وبيّن أنه رُوي من طريق عُروة عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة (2) . وقال الطحاوي في (بيان مشكل أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) : ((عروة لا نعلم له سماعًا من أم سلمة)) (3) . فحاول الحافظُ الدفاع عن ذلك بثلاثة أمور (4) : الأول: أنه قد جاء في رواية الأصيلي لصحيح البخاري ذكر زينب بنت أبي سلمة بين عروة وأم سلمة في هذا الحديث من هذا الوجه، إلا أن الحافظ بيّن أن ذكر زينب خطأٌ في رواية الأصيلي (5) . فلا حُجّة فيها، حتى عند الحافظ.

_ = 268، 270- 271) ، وموقف الإمامين لخالد الدريس (119- 120) . (1) صحيح البخاري (رقم 1626) . (2) التتبع للدارقطني (246- 247 رقم 107) . (3) شرح مشكل الآثار للطحاوي (9/ 141) . (4) انظر: هدي الساري (376- 377) ، وفتح الباري (3/ 569) . (5) انظر: تقييد المهمل لأبي علي الغساني (2/ 608- 610) ، والتعليقة السابقة.

الثاني: أن البخاري اعتمد روايةَ مالك عن محمد بن عبد الرحمن ابن نوفل عن عروة عن زينب عن أم سلمة (1) ، التي أخرجها البخاري قبل رواية هشام بن عروة عن أبيه عن أم سلمة بإسقاط زينب من إسنادها، أي أن البخاري أخرجها متابعة. مع اعتراف الحافظ أنّ لفظ الروايتين مختلف، بل قد رجّح الحافظ أنهما حديثان مختلفان: أحدهما في طواف الإفاضة يوم النحر، والآخر في طواف الوداع. بل يظهر أن البخاري كان معتمدُا على رواية عروة عن أم سلمة، لأنه أورد إسناد حديث عروة عن زينب عن أم سلمة، ثم لم يذكر لفظه، وأحال على لفظ حديث عروة عن أم سلمة، وأورده بإسناده ومتنه كاملاً. إذن فهذا الحديث داخلٌ في أصل موضوع كتاب البخاري، الذي يشترط فيه الصحّة. الثالث: يقول الحافظ: ((مع أن سماع عروة من أمّ سلمة ليس بمستبعد)) (2) ويقول: ((وسماع عروة من أمّ سلمة ممكن، فإنه أدرك من حياتها نيّفًا وثلاثين سنة، وهو معها في بلدٍ واحد)) (3) . فعاد الحافظ إلى الاكتفاء بالمعاصرة!!! ولذلك تعقّبه محقّقُ (التتبع) للدارقطني (وهو الشيخُ مقبل الوادعي) بقوله: ((أقول: البخاري يشترط تحقُّقَ اللقاء، فهل تحقق؟ والظاهر عدم تحقُّقه، إذ لو تحقّق لصرّح به الحافظ)) (4) .

_ (1) صحيح البخاري (رقم 1619، 1626، 1633) . (2) هدي الساري (377) . (3) فتح الباري (3/ 569) . (4) التتبع للدارقطني -حاشية التحقيق- (247) .

المثال الثالث: حديث قيس بن أبي حازم عن بلال بن رباح رضي الله عنه أنه قال لأبي بكر: ((إن كنتَ إنما اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنتَ إنما اشتريتني لله فدعني وعملَ الله)) (1) . وقد قال علي بن المديني في (العلل) : ((روى عن بلال ولم يلقه)) (2) . فلمّا أزاد العلائي الدفاع عن ذلك قال: ((في هذا القول نظر، فإن قيسًا لم يكن مدلّسًا، وقد وَرَدَ المدينةَ عقب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة بها مجتمعون، فإذا روى عن أحدٍ الظاهرُ سماعُه عنه)) (3) . وبنحو ذلك دافع خالد الدريس عن هذا الحديث في صحيح البخاري، مضيفًا أنه حديثٌ موقوفٌ وفي باب المناقب (4) . وبذلك نرجع أن البخاري اكتفى في إخراجه لهذا الحديث بشرط مسلم. المثال الرابع: حديثا عبد الله بن بريدة عن أبيه، وسبق ذكرهما، وبيان أن البخاري مع عدم وقوفه على تصريح عبد الله بالسماع من أبيه، إلا أنه أخرج له عنه حديثين في صحيحه (5) !!

_ (1) صحيح البخاري (رقم 3755) . (2) العلل لابن المديني (50) . (3) جامع التحصيل (257 رقم 640) . (4) موقف الإمامين لخالد الدريس (140- 151) . (5) انظر ما سبق (69- 70) .

وهناك مجموعةٌ من الأسانيد نُفي سماعُ رواتها من بعضهم وهي في صحيح البخاري، والنفاة للسماع بعض كبار الأئمة: منهم: أبو داود (1) ، وأبو حاتم الرازي (2) ، والإسماعيلي (3) ، والدارقطني (4) ، والعقيلي (5) ، وابن مردويه (6) ، وأبو مسعود الدمشقي (7) ، وابن عبد البر، والخطيب (8) ، والحازمي (9) . فهؤلاء العلماء، وفيهم بعض أعرف الناس بصحيح البخاري: كالإسماعيلي، والدارقطني، وأبي مسعود الدمشقي= لو كان متقرّرًا عندهم أن البخاري يشترط العلم بالسماع، لَمَا تجرّؤا على انتقاد بعض أحاديث صحيحه بعدم السماع، لمجرّد أنّهم لم يقفوا على ما يدل على السماع مع قرائن عدم السماع التي لاحت لهم، لأنّهم (أولاً) : أعرف الناس بمكانة الإمام البخاري وعظيمِ اطّلاعه على السنة وأسانيدها وأحوال رواتها وأخبارهم، ولأنّهم (ثانيًا) : أدْرَى الناس بالأدب العلميِّ القائل: من عَلم حُجّةٌ على من لم يعلم، وأن عدمَ العلم لا يدل على العدم.

_ (1) تحفة التحصيل (رقم 1186) . (2) جامع التحصيل (رقم 200، 524) . (3) التهذيب (3/ 120) ، وفتح الباري (رقم 2072، 2128) . (4) التتبع للدارقطني (رقم 29، 30، 88، 89، 90، 91) . (5) تحفة التحصيل -الحاشية- (رقم 790) . (6) جامع التحصيل (رقم 8) . (7) فتح الباري (رقم 2877، 2878) (6/ 90-91) . (8) هدي الساري (392) ، وتحفة التحصيل (رقم 790) . (9) الاعتبار للحازمي (رقم 473) ، وانظر دفاع الحافظ في الفتح (12/ 121) .

لذلك فإني أعود لأقول: لو كان متقرّرًا عند أولئك العلماء أن البخاري يشترط العلم باللقاء، لَمَا نازعوه عِلْمَه، لمجرّد عدم علمهم!! ثم ألا ترى كيف اعتقد بعضُ المتأخرين (الذين تَحَلَّوا بذلك الأدب العلميّ السابق ذكره) أن أولئك العلماءَ المتقدّمين لم يتحلَّوا بذلك الأدب!!! ولذلك تجدُهم دائبين على الإجابة عن كل اعتراضٍ بنفي السماع صادرٍ من أحد أولئك المتقدّمين، بنحو قولهم: البخاري مُثْبِت، وهم نافون، والمثبت مقدَّم على النافي، لأنه معه زيادة علم، ومن علم حجة على من لم يعلم. فهل كان أولئك العلماءُ المتقدّمون غافلين عن هذا الأدب حقًّا؟! أم أنّهم عندما نفوا السماع لم يَرَوْا في شَرْطِ البخاري ما يُناقِضُ التزامهم به؟! ولذلك أباحوا لأنفسهم الانتقادَ والاعتراضَ!! الحقُّ أنّ أولئك العلماء الذين انتقدوا واعترضوا على البخاري هم أهلٌ للتحلِّي بكل أدب، ومحلٌّ للقُدوة في كل خير (رحمة الله عليهم) . فكم لابن عدي من موقفٍ يعلن فيه أنه مقلِّدٌ فيه البخاري (1) !! وكم لأبي القاسم البغوي من ترجمةٍ اتّبع فيها البخاري، دون أن يقف على الدليل فيما ادّعاه البخاري من صحبةٍ لإحدى التراجم (2) . كل ذلك مراعاة منهم لأدب: (من كان عنده زيادةُ علمٍ حُجّةٌ على من لم يكن لديه تلك الزيادة) . فما بالُهم عارضوا البخاري في إثبات السماع؟!

_ (1) الكامل لابن عدي (4/ 204، 232، 306) (5/ 63، 70) . (2) معجم الصحابة للبغوي (3/ 304-307، 315، 437) (5/ 44) .

الدليل الحادي عشر: احتجاج البخاري في صحيحه بالمكاتبة، والمناولة، والوجادة

هذا يشهد -كما سبق- على أنهم لمّا عارضوه لم يفعلوا ذلك وهم يعتبرونه يشترط العلم بالسماع. الدليل الحادي عشر: احتجاجُ البخاري في صحيحه بالمكاتبة، والمناولة المقترنة بالإجازة، بل واحتجاجُه بالوجادة. وَوَجْهُ الدلالة في ذلك ما يلي: أوّلاً: أنه على من نسب شَرْطَ العلم باللقاء إلى البخاري، أن يضيف إليه القيود السابقة، فيقول: إن البخاري يشترط العلم باللقاء، أو بالمكاتبة، أو بالإجازة، أو بالوجادة!! وبذلك ينفرط عَقْدُ ذلك الشرط المدَّعَى، ولم يَعُد هو ذاك الشرط بكل تلك الصرامة والغُلُوّ. وأنه كان الواجبُ تقييدُه بتلك القيود، مَمّن نسبه إلى البخاري من أهل العلم المتأخرين. ثانيًا: قبولُ البخاري للمكاتبة والإجازة والوجادة، وهي طُرُقُ تَحَمُّلٍ للسنّة لا تكون مع السماع والمشافهة= يشهد لعدم اشتراط البخاري العلمَ بالسماع، إذ ما هو معنى اشتراط العلم بالسماع، مع قَبول ما لم يتحقّق فيه السماع؟!! فأمّا المكاتبة: فقد صَرَّح البخاري بقبولها في صحيحه، وعقد لها بابًا خاصًّا في كتاب العلم منه (1) .

_ (1) صحيح البخاري (1/ 185) .

وقد قال الدارقطني في (التتبّع) : ((واتفقا على إخراج حديث أبي عثمان: كتب إلينا عمر في الحرير إلا موضع أصبعين. وهذا لم يسمعه أبو عثمان من عمر، وهو مكاتبة، وهو حُجَّةٌ في قبول الإجازة)) (1) . وأمّا المناولة: فقد ذكر الدارقطني في التتبع حديثين لمحمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري، عن أبيه، عن ثمامة بن أنس، ثم قال: ((وهذا لم يسمعه ثمامة من أنس، ولا سمعه عبد الله بن المثنى من ثمامة)) ، ثم بيَّنَ أنه كتاب (2) . فقال الحافظ: ((فلا يدلّ على قدح في هذا الإسناد، بل فيه دليل على صحّة الرواية بالمناولة)) (3) . وأمّا الوجادة: فقد قال الدارقطني في (التتبع) : ((وأخرجا جميعًا حديثَ موسى بن عقبة، عن أبي النضر مولى عمر بن عُبيدالله، قال: كتب إليه ابن أبي أوفى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تَمَنَّوْا لقاء العدوّ. . (الحديث، ثم قال الدارقطني:) وهو صحيحٌ، حُجّةٌ في جواز الإجازة والمكاتبة، لأن أبا النضر لم يسمع من ابن أبي أوفى، وإنما رآه في كتابه)) (4) . والصحيح أن هذه الرواية وجادة، لأنها من رواية سالم أبي النضر عن كتاب ابن أبي أوفى إلى عمر بن عُبيدالله. كما بيّنه الشيخ مقبل

_ (1) التتبع للدارقطني (رقم 119) . (2) التتبع للدارقطني (رقم 110، 111) . (3) هدي الساري (376) . (4) التتبع للدارقطني (رقم 152) .

الدليل الثاني عشر: اكتفاء البخاري بالمعاصرة في نصوص صريحة عنه

الوادعي في تعليقه على (التتبع) للدارقطني (1) ، خلافًا لما توصّل إليه الحافظ (2) ! الدليل الثاني عشر: اكتفاء البخاري بالمعاصرة، في نصوص صريحةٍ عنه. وهذا الدليل، مع الإجماع الذي نقله مسلم، كافيان مستغنيان عن بقيّة الأدلّة. . لو أنصف المنصفون!! *سأل الترمذيُّ البخاريَّ في (العلل الكبير) عن حديثٍ لعطاء بن يسار، عن أبي واقد الليثي، قائلاً: ((أَترى هذا الحديثَ محفوظًا؟ قال: نعم. قلت له: عطاء بن يسار أدرك أبا واقد؟ فقال: ينبغي أن يكون أدركه، عطاء بن يسار قديم)) (3) . فهنا يكتفي البخاري بالمعاصرة!!! ولا يُعترض على الاستدلال بهذا النقل على اكتفاء البخاري بالمعاصرة: أن عطاء بن يسار قد وجدتُه (أنا) صَرّح بالسماع من أبي واقد (4) ، لأنّ البخاري لم يحتجّ بذلك، إما لعدم استحضاره لذلك حينها، وإمّا أنه لا يصحّح هذا التصريح. المقصود: إن احتجاج البخاري على صحّة الحديث بإدراك عطاء لأبي واقد دليلٌ على اكتفائه

_ (1) المصدر السابق. (2) هدي الساري (380) . (3) العلل الكبير للترمذي (2/ 632- 633) . (4) انظر سنن الدارمي (رقم 6) .

بالمعاصرة وعدم اشتراط العلم بالسماع، لأنه لو كان يعلم بالسماع حينها لكان أولى أن يحتجّ بذلك من اللجوء إلى المعاصرة ومحاولة إثباتها بقِدَمِ عطاء. وقال البخاري في (الأوسط) : ((حدثني عبدة، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا عبد الله بن بكر بن عبد الله المزني، قال: سمعت يوسف بن عبد الله بن الحارث: كنت عند الأحنف بن قيس. . (ثم قال البخاري:) وعبد الله أبو الوليد روى عن عائشة وأبي هريرة، ولا ننكر أن يكون سمع منهما، لأن بين موت عائشة والأحنف قريبٌ من اثنتي عشرة سنة)) (1) . ومقصود البخاري من هذه الترجمة خفيٌّ جدًّا، غرضُه منها إثبات معاصرة أبي الوليد عبد الله بن الحارث والدِ يوسف لعائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما. فأورد أوّلاً قصّةً ليوسف بن عبد الله بن الحارث تُبيِّنُ أنه دخل على الأحنف بن قيس، فإذا افترضنا أنه دخل عليه وهو بين العشرين عامًا والخمسة عشر عامًا، وأنه دخل على الأحنف في آخر عمره: بين (67هـ) و (72هـ) (حيث اختُلف في سنة وفاة الأحنف على هذين القولين) = فنستدلّ بذلك أن يوسف بن عبد الله بن الحارث وُلد سنة (50هـ) . فإن كان يوسف وُلد سنة (50هـ) ، فلا بُدّ أن يكون لأبيه عبد الله بن الحارث عند ولادته في سنة خمسين خمسَ عشرة سنةً في أقلّ تقدير.

_ (1) التاريخ الأوسط للبخاري (1/ 286) .

الدليل الثالث عشر: اكتفاء جمع من الأئمة بالمعاصرة

ومن كان ابن خمس عشرة سنة في سنةِ خمسين، فإن مولده سيكون في أقل الأحوال سنة (35هـ) . ومَن وُلد سنة (35هـ) لا يُنكر أن يكون سمع من عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما، اللذين توفِّيا سنة (57هـ) . . كما قال الإمام البخاري. فانظر: إلى هذا الأسلوب البديع والطريقة الذكيّة لإثبات المعاصرة، كل ذلك من أجل الحكم بالاتّصال والسماع! فهل مَنْ كان لا يقبل إلا النصَّ الدالّ على السماع، سيقوم بمثل هذا التنبيش الدقيق، وبمثل هذا الاستنباط الخفي، لإثبات المعاصرة فقط؟! فما فائدة كل ذلك الجُهد والتفكير العميق إذن؟! لقد صَرّح البخاري بالفائدة عندما قال: ((ولا ننكر أن يكون سمع منهما: لأن بين موت عائشة والأحنف قريبٌ من اثنتي عشرة سنة)) . وسيأتي في الدليل الرابع عشر والخامس عشر ما يعزّزُ أن البخاري (وجميع الأئمة) لا بُدّ أن يكونوا مكتفين بالمعاصرة على مذهب الإمام مسلم، وهو المذهب الذي نقل مسلمٌ عليه الإجماع!! فانظر ذينك الدليلين. الدليل الثالث عشر: اكتفاءُ جمعٍ من الأئمة بالمعاصرة: وأنا إذْ أحتجّ بهذا الدليل، لا أحتجّ به ابتداءً على نفي نسبة ذلك الشرط إلى البخاري، ولكني أحتج به للتأكيد على أن الاكتفاء بالمعاصرة

1- علي بن المديني

إجماعٌ كما نقله مسلم وغيره. ثم إنه إذا كان إجماعًا، صحّ الاستدلال به على نفي نسبة ذلك الشرط إلى البخاري!!! أولاً: علي بن المديني: ولعلي بن المديني ولرأيه من هذه المسألة أهمية خاصّة، لأنه أحدُ من زُعم أنه المقصود بالردّ في كلام مسلم، بل رجّح بعضهم أنه وحده المقصود بالرد. * قال علي بن المديني في (العلل) : ((زياد بن عِلاقة لقي سعد بن أبي وقاص عندي، كان كبيرًا، قد لقي عدة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لقي المغيرة بن شعبة وجرير بن عبد الله. . .)) (1) . مع أن أبا زرعة والإمام أحمد نفيا سماعه من سعد. * وقال في (العلل) : ((قد لقي عطاء بن يزيد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقي أبا أيوب وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري وتميمًا الداري وأبا شريح الخزاعي، ولا ننكر أن يكون سمع من أبي أَسِيْد)) (2) . * ونقل ابن عساكر في ترجمة صفوان بن مُعَطِّل من (تاريخ دمشق) : عن علي بن المديني أنه قال: ((أبوبكر بن عبد الرحمن أحد العشرة الفقهاء، وهو قديم، لقي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أنكر أن يكون سمع من صفوان بن معطل)) (3) .

_ (1) العلل لعلي بن المديني (67 رقم 92) . (2) العلل لابن المديني (68 رقم 96) . (3) تاريخ دمشق لابن عساكر (8/ 346) .

2- أحمد بن حنبل

ثانيًا: الإمام أحمد: * قال عبد الله بن الإمام أحمد في (العلل) : ((قتادة سمع من عبد الله بن سَرْجِس؟ قال: ما أَشْبَهَهُ، قد روى عنه عاصم الأحول)) (1) . فهنا يحتج الإمام أحمد بسماع قرينٍ لقتادة من ابن سَرْجس، للدلالة على أن قتادة قد أدركه. ثم يثبت الإمام أحمد سماعه منه، كما يؤيده قوله في (العلل) وسئل: ((سمع قتادة بن عبد الله بن سَرْجِس؟ قال: نعم)) (2) . * وقال الإمام أحمد وسئل: ((هل سمع عَمرو بن دينار من سليمان اليشكري؟ قال: قُتل سليمان في فتنة ابن الزبير، وعَمرو رجل قديم، قد حدث شعبة عن عَمرو عن سليمان، وأراه قد سمع منه)) (3) . * وفي (مسائل أبي داود للإمام أحمد) : ((قيل لأحمد: سمع الحسن من عمران؟ قال: ما أُنكره، ابن سيرين أصغر منه بعشر سنين سمع منه)) (4) . * وفي (الإعلام بسنته عليه السلام) لمغلطاي: ((سئل الإمام أحمد عن أبي ريحانة سمع من سفينة؟ فقال: ينبغي، هو قديم، سمع من ابن عمر)) (5) .

_ (1) العلل للإمام أحمد (رقم 4300) . (2) العلل للإمام أحمد (رقم 5264) . (3) العلل للإمام أحمد (رقم 5263) . (4) مسائل أبي داود للإمام أحمد (322) . (5) الإعلام بسُنّته لمغلطاي (1/ 2/ أ) .

3- يحيى بن معين

ثالثًا: يحيى بن معين: * سأل الدوريُّ ابنَ معين في (التاريخ) : ((ابن شبرمة يروي عن ابن سيرين؟ قال: دخل ابن سيرين الكوفة في وقت لم يكن ابن شبرمة، ولكن لعله سمع منه في الموسم)) (1) . يقول ابن معين ذلك، لأن ابن سيرين لم يكن مكثرًا من الرواية عمن عاصره ولم يلقه. * وسأله ابن الجنيد: ((حماد بن سلمة دخل الكوفة؟ قال: لا أعلمه دخل الكوفة. قلت: فمن أين لقي هؤلاء؟ قال: قدم عليهم عاصم، وحماد بن أبي سليمان، والحجاجُ بن أرطاة. قلت: فأين لقي سماك بن حرب؟ قال: عسى لقيه في بعض المواضع، ولو كان دخل الكوفة لأجادَ عنهم)) (2) . رابعًا: أبو حاتم الرازي: * قال أبو حاتم الرازي -كما في (العلل) لابنه-: ((يحتمل أن يكون أبو إدريس قد سمع عوف بن مالك الأشجعي والمغيرة بن شعبة، فإنه من قدماء تابعي الشام، وله إدراك حسن)) (3) . * وقال -كما في (المراسيل) لابنه-: ((كنت أرى أن أبا حمزة السُّكري أدرك بكير بن الأخنس، حتى قيل لي: إن المراوزة يُدخلون

_ (1) التاريخ لابن معين (رقم 3988) . (2) سؤالات ابن الجنيد (رقم 760) . (3) العلل لابن أبي حاتم (رقم 82) .

5- أبو زرعة الرازي

بينهما: أيوبَ بنَ عائذ)) (1) . فأبو حاتم كان يحكم بالاتصال، حتى علم بقرينةٍ تشهد لعدم السماع، وهي الواسطة. وهذا فِعْلُ من كان مكتفيًا بالمعاصرة، حتى جاءت قرينة تُشكِّكُ في اللقاء. * وقال أبو حاتم: ((يُشبه أن يكون زيد بن أبي أُنيسة قد سمع من عبيد بن فيروز، لأنه من أهل بلده)) (2) . خامسًا: أبو زرعة الرازي: * سئل أبو زرعة -كما في (الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم-: ((هل سمع المطلب بن عبد الله بن حنطب من عائشة؟ فقال: نرجو أن يكون سمع منها)) (3) . فلو كان أبو زرعة يُقوِّي احتمالَ السماع بناءً على نصّ يدل عليه لما أجاب بهذا الجواب، ولقال: نعم قد سمع منها! سادسًا: أبوبكر البزار: * قال البزار: ((روى الحسن عن محمد بن مسلمة، ولا أُبعد سماعَه منه)) (4) .

_ (1) المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 721) . (2) العلل لابن أبي حاتم (2/ 43) ، وانظر موقف الإمامين لخالد الدريس (484) . (3) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (8/ 359) . (4) انظر: نصب الراية للزيلعي (1/ 90) .

7- ابن خزيمة

فبيّنَ أبو حاتم الرازي سببَ تقريب البزار لسماع الحسن من محمد بن مسلمة، وقد سئل عن سماع الحسن من محمد بن مسلمة فقال: ((قد أدركه)) (1) . هذا مع أن إبراهيم الحربي قد نفى سماعه منه (2) . سابعًا: ابن خزيمة: * أخرج ابنُ خزيمة في (التوحيد) حديثًا، مُصَحِّحًا له بذلك، من طريق مسلم بن جندب عن حكيم بن حزام بالعنعنة، ثم قال: ((مسلم بن جندب قد سمع من ابن عمر، وقال: أمرني ابن عمر أن أشتري له بَدَنَة، فلستُ أنكر أن يكون قد سمع من حكيم بن حزام)) (3) . ولا ينافي ذلك أن ابن خزيمة قد أعلّ بعض الأحاديث بعبارات نفي العلم بالسماع (4) ، كما لم يُنَافِ ذلك أن يفعل ذلك الأئمةُ السابقُ ذكرهم والآتُون، بل كما لم يُنَافِ ذلك أن يعلّ مسلمٌ بعضَ الأحاديث بذلك!!! ثامنًا: ابن حبان: لقد صَرّح ابنُ رجب بأن ابن حبان على مذهب مسلم (5) ، فليس في إيراد الأمثلة التالية إلا التأكيد على صحّة هذه النسبة.

_ (1) المراسيل لابن أبي حاتم (رقم 150) . (2) إكمال تهذيب الكمال لمغلطاي (155/ب) . (3) التوحيد لابن خزيمة (1/ 156 رقم 85، 86) . (4) انظر التوحيد لابن خزيمة (2/ 678، 890) . (5) شرح علل الترمذي لابن رجب (2/ 588) ، وانظر: موقف الإمامين لخالد الدريس (462- 463) .

ومن هذه الأمثلة: * قال ابن حبان في صحيحه: ((وزيد بن أسلم سمع جابر بن عبد الله، لأن جابرًا مات سنة تسع وسبعين، ومات أسلم مولى عمر في إمارة معاوية سنة بضع وخمسين، وصلّى عليه مروان بن الحكم، وكان مروان على المدينة إذ ذاك، فهذا يدلُّكَ على أنه سمع جابرًا وهو كبير. ومات زيد بن أسلم سنة ستٍّ وثلاثين ومائة، وقد عُمِّر)) (1) . وهو يعني بذلك: أن آخر سنةٍ يمكن أن يكون وُلد بها زيدٌ هي نحو سنة (55هـ) ، وجابر بن عبد الله توفي -كما ذكر ابن حبان- سنة (79هـ) ، فيكون زيد قد أدرك من حياة جابر أربعًا وعشرين سنة. * وأخرج ابن حبان في صحيحه حديثًا لعبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب الرومي رضي الله عنه، ثم قال: ((مات صهيبٌ سنة ثمانٍ وثلاثين في رجب، في خلافة علي رضي الله عنه، ووُلد عبد الرحمن بن أبي ليلى لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه)) (2) . * وأخرج في صحيحه من حديث هاشم بن عبد الله بن الزبير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مُؤَنْأنًا، ثم قال: ((توفي عمر بن الخطاب وهاشم بن عبد الله بن الزبير ابنُ تسع سنين)) (3) . * وأخرج حديثًا لعبد الله بن بريدة عن عمران بن حصين، ثم قال: ((هذا إسنادٌ قد توهَّمَ من لم يُحكم صناعةَ الأخبار، ولا تفقّه في صحيح

_ (1) الإحسان (رقم 5418) . (2) الإحسان (رقم 1975) . (3) الإحسان (رقم 934) .

الآثار= أنه مُنفصلٌ غير متّصل، وليس كذلك، لأن عبد الله بن بريدة وُلد في السنة الثالثة من خلافة عمر بن الخطاب سنة خمس عشرة، هو وسليمان بن بريدة أخوه تَوْأم. فلما وقعت فتنة عثمان بالمدينة، خرج بريدةُ عنها بابنيه، وسكن البصرة، وبها إذ ذاك عمران بن حصين وسمرةُ ابن جندب، فسمع منهما. ومات عمران سنة اثنتين وخمسين في ولاية معاوية. ثم خرج بريدة بابنيه منها إلى سجستان، فأقام بها غازيًا مُدّة، ثم خرج منها إلى مرو طريق هراة، فلما دخلها وَطَنها. ومات سليمان ابن بريدة بمرو، وهو على القضاء بها، سنة خمس ومائة. فهذا يَدُلُّكَ على أن عبد الله بن بُريدة سمع عمران بن حصين)) (1) . * وأخرج في صحيحه لمجاهد عن عائشة رضي الله عنها، ثم قال: ((ماتت عائشةُ سنة سبع وخمسين، ووُلد مجاهد سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر، فدَلَّكَ هذا على أن مَنْ زعم أن مجاهدًا لم يسمع من عائشة كان واهمًا في قوله ذلك)) (2) . فإن قيل: لكن مجاهدًا قد ثبت عنه التصريح بالسماع من عائشة رضي الله عنها، قلنا: لكننا نحتجُّ بكلام ابن حبان واستدلاله على السماع بالمعاصرة، وهو إنما أخرج لمجاهد عن عائشة رضي الله عنها بالعنعنة. ومع هذه الأقوال القويّة الدالة على اكتفاء ابن حبان بالمعاصرة، ومع نسبة ابن رجب ابنَ حبان إلى مذهب مسلم، إلا أن بعض الأفاضل احتجَّ بكلامٍ لابن حبان على أنه يشترط العلم باللقاء!

_ (1) الإحسان (رقم 2513) . (2) الإحسان (رقم 3021) .

فقد احتجّوا بما ذكره ابن حبان في ثقات أتباع أتباع التابعين، حيث ترجم لنافع بن يزيد المصري، ثم قال: ((ولست أحفظ له سماعًا عن تابعي، فلذلك أدخلناه في هذه الطبقة. فأمّا رؤيتُه للتابعين فليس بمنكر، لكنّ اعتمادنا في هذا الكتاب في تقسيم هذه الطبقات الأربع على ما صحّ عندنا من لُقِيّ بعضهم بعضًا مع السماع. فأمّا عند وجود الإمكان وعدم العلم به، فهو لا نقول به)) (1) . وأُرْدِفُ حجتهم بنقلٍ آخر عن ابن حبان لم يذكروه، حيث قال في نفس الطبقة، وفي ترجمة مفضل بن مهلهل السعدي: ((لستُ أحفظ له عن تابعي سماعًا، فلذلك أدخلناه في هذه الطبقة، ولست أُنكر أن يكون سمع من أبي خالد والأعمش)) (2) . فذهب المحتجّون بذاك النقل ونحوه أن ابن حبان لا يكتفي بإمكان اللقاء مع المعاصرة، وأنه يشترط العلم بالسماع. لكن سياق كلام ابن حبان لا في الحكم بالاتّصال في حديث معيَّن أو في رواية راوٍ عن شيخ معيَّن، وإنما سياق كلامه في إدخال الراوي في طبقةٍ من الطبقات، والسياقان مختلفان تمامًا. وبيانُ ذلك: أن إثبات كون الرجل من التابعين أو أتباعهم كإثبات كونه صحابيًّا، فكما لا يكفي في إثبات الصُّحبة مجرَّدُ المعاصرة واحتمالُ اللقاء وعدمُ استحالته (إذا لم يثبت اللقاء والسماع، كما في المخضرمين) ، فكذلك الأمر في التابعين وأتباعهم: لا يكفي في إثبات

_ (1) الثقات لابن حبان (9/ 209) . (2) الثقات لابن حبان (9/ 183- 184) .

9- الدارقطني

كون الرجل من التابعين وأبتاعهم مجرّدُ معاصرته للصحابة واحتمالُ لقائه بهم، ولكن يشترط ثبوت السماع أو اللقاء. فإذا ثبت سماعُ الراوي من صحابي، وثبت بذلك أنه تابعي، فإن ابن حبان لا يشترط بعد ذلك العلم بالسماع في كل شيخ من شيوخه الصحابة الذين عاصرهم ولم تقم قرائنُ تُبعد احتمالَ لقائه بهم، كما فعل مع عبد الله بن بريدة في سماعه من عمران بن حصين، على ما سبق ذكره. وتذكّر أن مذاهب العلماء في إثبات كون الراوي من التابعين مختلفةٌ، فمنهم من يكتفي بالرؤية ولا يشترط السماع، ومنهم من يشترط السماع ولا يكتفي بالرؤية، كما قد يكون هو ظاهر مذهب الحاكم (تلميذ ابن حبان) في كتابه (معرفة علوم الحديث) (1) . تاسعًا: الدارقطني: قال الدارقطني في (العلل) ، وسئل عن سماع ابن لهيعة من الأعرج، فقال: ((صحيح، قدم الأعرجُ مصر وابنُ لهيعة كبير)) (2) . * ولمّا نفى ابنُ معين سماع عطاء بن السائب من أنس (3) ، تعقبه الدارقطني بقوله: ((هو كبير، أدركه)) (4) .

_ (1) معرفة علوم الحديث للحاكم (45- 46) . (2) العلل للدارقطني (3/ 213/ ب) . (3) التاريخ لابن معين (رقم 2801) . (4) العلل للدارقطني (4/ 16/ ب) .

الدليل الرابع عشر: أن إجماع العلماء على اعتبار رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه تدليسا يقتضي الإجماع منهم على الاكتفاء بالمعاصرة (أي على مذهب مسلم)

ثم أضف إلى هؤلاء العلماء من نقل الإجماع أو صرّح بتبنّيه لمذهبٍ هو مذهب مسلم: كالشافعي، والحميدي، والحاكم، والبيهقي، وابن عبد البر، والخطيب، وغيرهم. ويؤكد صحة هذا الإجماع فوق ما سبق كله الدليلان التاليان: الدليل الرابع عشر: وهو مبنيٌّ على ما كنتُ قد أَفَضْتُ في بيانه، واستدلَلْتُ له كُلّ استدلال، في كتابي (المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس) ، من أن رواية الراوي عمّن عاصره ولم يلقه تدليسٌ، وفاعل ذلك مُدلِّس. هذا ما كان عليه جميع أهل العلم، متقدّمهم ومتأخرهم، كما ستراه في كتابي المذكور. إلى أن خالفهم في ذلك كله الحافظ ابن حجر، وعامّةُ من جاء بعده!!! والإمام البخاري أحدُ الأئمة الذين وصفوا رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه بأنها تدليس. كما قال: ((لا أعرف لابن أبي عروبة سماعًا من الأعمش (1) ، وهو يدلس ويروي عنه)) (2) . أقول وأنقل ذلك، مع أنني لستُ مضطرًا إليه، إذ إن المسألة مسألة اتفاق (كما سبق) ، فمن لم نجد له قولاً مخالفًا (إن وُجد قولٌ مخالِفٌ) فلن يكون إلا أحدَ الموافقين للإجماع.

_ (1) وقد عبَّرَ الإمام أحمد عن ذلك بقوله -كما في العلل ومعرفة الرجال: برواية ابنه عبد الله (رقم 4858) -: ((لم يسمع سعيد بن أبي عروبة من الأعمش شيئًا)) . (2) العلل الكبير للترمذي (2/ 877) .

وبذلك نخرج بالمقدّمة الأولى: أن رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه تدليس، وعلى ذلك جميع الأئمة، ومنهم الإمام البخاري. والمقدّمة الثانية هي: أن الوصف بالتدليس في الإسناد، لا يكون إلا إذا كان هناك إيهامٌ وتلبيس، وأن يكون في ظاهر الإسناد ما يوحي بخلاف حقيقته. وذلك مما لا يُخالف فيه أحد، لأنه لازِمُ ذلك الوصف: (التدليس) . والمقدّمة الثالثة: أن التدليس والإيهامَ الواقعَ في رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه هو إيهامُ الاتصال ولا شك، وهذا هو وجه وصف هذه الرواية بأنها تدليس. والنتيجة: أن رواية الراوي عمن عاصره ظاهرها يدل على الاتصال واللقاء، ولذلك نصفُ ما خالف هذا الظاهر بأنه تدليس. وهذه النتيجة المهمّة هي المقدّمة الأولى لقضيّتنا الأساسيّة هنا: - فإنه إذا كانت رواية الراوي عمن عاصره تدل على اللقاء في ظاهرها، وهذا هو الأصل فيها. - إذا كان هذا هو قول جميع أهل العلم، بدليل وصفهم -جميعًا- رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه بأنها تدليس. - دلَّ ذلك على أن الأصلَ عند جميع أهل العلم في رواية الراوي عمن عاصره الاتّصال. ممّا يعني أنّهم يحكمون باتّصالها دون أي شرط آخر، إلا إذا لاحت قرينةٌ تحملهم على مخالفة الأصل، أو إذا كان الراوي مُدلّسًا (أي أنّنا علمنا من حالته الخاصّة أن روايته عمن عاصره لا تدل على الاتصال) .

الدليل الخامس عشر: بطلان المذهب المنسوب إلى البخاري، ووضوح سقوطه، وسوء أثره على السنة

فالخلاصة: أن إجماع العلماء على وصف رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه بالتدليس، يلزم منه إجماعُهم على الاكتفاء بالمعاصرة بين الراويين. وزيادةً في الإيضاح، فإني أسأل: لو كان البخاري (وغيره من أهل العلم) لا يحكم باتصال رواية الراوي عمن عاصره حتى يعلم باللقاء من خلال نصٍّ صريح يدل عليه، فما وَجْهُ وصفه رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه بالتدليس؟!! وما هو الإيهام الذي جعله يصفها بذلك؟!! والحاصل أنّها -باشتراطه العلمَ باللقاء- يجب أن لا تُوهِمَهُ بشيء، لأنه لم يحكم باتصالها أصلا، فهي هي قبل أن يعلم بعدم اللقاء وبعد أن علم، غيرُ محكومٍ لها بالاتصال!!! فلا وجه لوصف رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه بالتدليس، إلا أن رواية الراوي عمن عاصره تدل على الاتصال. لنعود في آخر هذا الدليل إلى تأكيد الإجماع الذي نقله مسلم وغيره، وإلى بيان صحّته والاستدلال له، وأن البخاري لا يُمكن أن يكون مخالفًا لمسلم في اكتفائه بالمعاصرة. الدليل الخامس عشر: بطلانُ المذهبِ المنسوب إلى البخاري، ووضوحُ سقوطه وسقوطِ حُجّته، وسُوءُ أثره على السنة النبويّة. وَوَجْهُ الدلالةِ في ذلك على عدم صحّةِ نسبةِ ذلك الشرط إلى البخاري وغيره من الأئمة: هو استحالةُ أن يقع أئمةُ السنة، الذين كانوا

هم أركانَ علومها وأُسُسَ فنونها، والذين كان علمهم بها كالكهانة عند الجُهّال أمثالنا= في ذلك الخطأ الفاحش، الذي ينمُّ عن جهل شديد وبُعْدٍ عن السنة وعلومها. ولذلك حُقَّ لمسلمٍ أن يصف صاحب ذلك الشرط بتلك الأوصاف التي سبق ذكرها، من كونه جاهلاً خامل الذكر لا وزن له في العلم ولا اعتبار!! أمّا العلماء المتأخرون الذين وقعوا في ذلك الخطأ الفاحش، فعذرهم هو أنهم تلقَّوْا تلك النسبة بالتسليم (أو قُلْ: بالتقليد) ، وجلالة البخاري (شيخ الصنعة) عندهم فوقَ الوصف، ووجدوا شُبهة دليل= فلم ينظروا في أصل المسألة، وإنما صار هَمُّهم الردَّ على مسلم، ونُصْرةَ البخاريِّ عليه. ومن تمعّن في أحوال النفس وأهوائها يعلم صعوبةَ زحزحةِ القناعةِ الراسخةِ في النفس، وكيف أن النَّفْس حينها تُصيّر الشُّبَهَ أدلّةً والأدلّةَ شُبَهًا. وإنما يُوَفَّقُ للحق في هذه الحالة من أعانه الله تعالى ووفّقه، ثم كان صادقًا في إرادة معرفة الحق، متجرّدًا عن كل هوى. أمّا بيان بطلان ذلك المذهب، فهو المسألة الرابعة، وهي المسألة التالية:

المسألة الرابعة: بيان صواب مذهب مسلم وقوة حجته فيه

المسألة الرابعة: بيَانُ صَوَابِ مَذْهَبِ مُسْلِمٍ وقُوّةِ حُجّتِهِ فيه لقد كان الإمامُ مسلمٌ موفَّقًا في حِجَاجِه لذلك الخصم الجاهل الخامل الذكر، فقد خَصَمه وردّ عليه مذهبه من خلال دليلٍ نقليٍّ ودليلٍ تأصيليّ: أمّا الدليل النقلي: فهو الإجماعُ المتضمّنُ إطباقَ أئمة الحديث على عدم اشتراط الوقوف على نصٍّ صريح على السماع بين كل متعاصِرَين. وهو إجماعٌ وافقه على نقله جَمْعٌ من الأئمة، كما تقدّم. وأمّا الدليل التأصيليّ، فينبني على أصلين: الأصل الأول: أن (عن) في عُرْف المحدّثين دالّةٌ على الاتّصال، ومن نازع في ذلك، فلم يكن للعنعنة عنده دلالةٌ على الاتّصال= يلزمه أن لا يقبل العنعنة مطلقًا، سواءً ثبت السماع المطلق بين الراويين أو لم يثبت. وأمّا الأدلّة على أن (عن) تدل على الاتّصال عُرْفًا، فأكثر من أن تُجْمَعَ في مختصرنا هذا، لكني أقول: لو لم تكن (عن) تدل على الاتّصال: لمَ إذن استثنى العلماءُ قِلّةً من الرواة وعددًا يسيرًا من ألوف النَّقلة (وهم من غلب عليهم التدليس) من أن تكون (عن) منهم دالّةً على الاتّصال؟ بل ولمَ عابوا على المدلسين فعلَهم هذا؟ أو ليس سبب ذلك

أنهم أوهموا السماع؟ وهل يحصل الإيهام إلا باستخدام ما كان يدل على السماع غالبًا؟!! وأقوال العلماء في أن (عن) تدل على الاتصلا كثيرةٌ، سبق بعضها في هذا البحث. ويكفي أن نقول لمن نازع في الدلالة العرفيّة لـ (عن) على الاتصال، نصْرةً للمذهب المنسوب إلى البخاري: على ماذا اعتمدت إذن في حَمْل (عن) على الاتصال بالشرط الذي ادّعيته؟ على الدلالة اللغويّة؟ أم العرفيّة؟ فإنه لا مناص له من أحد هذين الجوابين، وكل واحدٍ منهما كافٍ في الردّ عليه. وإن كان الجواب الأخير: وهو أن (عن) تدل عرفًا على الاتصال= هو الصواب، كما لا يخفى على من درس المسألة أدنى دراسة. وهذا الأصلُ أصلٌ عظيمٌ في مسألة الحديث المعنعن، وهي كافيةٌ في دحض دعوى مشترط العلم باللقاء. وبذلك ألزمَ مسلمٌ خَصْمه، لأنّ الخَصْمَ إما أن يعترف بالدلالة العرفيّة لـ (عن) ، وهي الدلالة على الاتصال، وحينها يلزمه إجراءُ هذه الدلالة بين كل راويين لم يقم دليلٌ أو قرينةٌ على عدم سماعهما، وهذا يتحقق في كُلِّ راويين متعاصرين لا يستحيل ولا يُستبعد لقاؤهما. وهذه قاعدةٌ معروفة في كل لفظٍ له دلالةٌ عرفيةٌ، أن الأصلَ استخدامُهُ بالدلالة العرفيّة، ولا نخرجه عن ذلك إلى الدلالة اللغويّة إلا بدليل أو قرينة. وعليه: فإما أن يعترف الخصم بهذه الدلالة العرفيّة لـ (عن) ، وحينها يلزمه أن يقول بقول مسلم، وإمّا أن ينفي دلالة (عن) على الاتصال،

وحينها يلزمه عدمُ قبولِ العنعنةِ مطلقًا، ليكون بذلك مُظْهِرًا بُطلانَ قولِهِ لنفسه، داعيًا لها للرجوع عن مذهبه، أو يكونَ فاضحًا سوءَ نيّته، مُعْلنًا خُبْثَ طويّته على السنة النبويّة. أمّا أن يقول مَنْ ينسب شرط اللقاء إلى البخاري وينصره: إن (عن) تدل على الاتصال بذلك الشرط، ولا تدل عليه بغيره= فهذا تناقضٌ، وتحكُّمٌ لا وَجْه له، على ما شرحناه آنفًا. وقد وَقَعَ ابنُ رُشيد في هذا التناقض!! فانظر إليه وهو يستدلّ لمذهب من ردَّ العنعنة مطلقًا، فيقول: ((وحُجّتُه أن (عن) لا تقتضي اتّصالاً، لا لغةً ولا عُرفًا، (ثم بيَّنَ عدم اقتضائها الاتصال لغةً، وقال عن العُرْف:) وليس فيها دليلٌ على اتّصال الراوي بالمرويّ عنه، وما عُلم أنّهم يأتون بـ (عن) في موضع الإرسال والانقطاع يَخْرُمُ ادّعاءَ العُرْف)) (1) . وقال في ردّه على مذهب مسلم: ((ولا شكَّ أنه مذهبٌ مُتَسَاهَلٌ فيه. نعم. . لو علمنا من كل واحدٍ من رواة الحديث أنه لا يُطلق (عن) إلا في موضع الاتّصال، ولا يُجيز غير ذلك، أو صحَّ فيه إجماعٌ من الرواة كُلِّهم، وعُرْفٌ لا ينخرم ضبطه، ولكن ذلك لم يَثْبُت. نعم. . قد يُسلِّمُ المنصف أنه كثير، ولا يلزم من كثرته الحكمُ به مطلقًا، لوجود الاحتمال)) (2) .

_ (1) السنن الأبين (44- 45) . (2) السنن الأبين (70- 71) .

وقبل أن أُثبت لك تناقضَ ابن رُشيد، قِفْ مع كلامه الأخير هذا متأمّلاً، كيف أنه اعترف بأن (عن) مُسْتَخْدَمَةٌ بكثرة في الدلالة على الاتّصال، ولكنّه اشْتَرَط لحملها على الاتّصال في العُرْف إجماعًا على ذلك وعُرْفًا لا ينخرم، وهذا الشرط لا يصحُّ، إذ تكفي غلبة الاستعمال بمعنى معيَّنٍ ليكون ذلك الاستعمالُ عرفًا لا يُخْرَجُ عنه إلا بقرينة. ثم انظر كيف اختلف موقفه كل الاختلاف، عندما جاء لتقرير صحّة المذهب الذي تبنّاه، والذي كان يعتقد أنه مذهب البخاري وعلي بن المديني= حيث قال في تقريره: ((وأمّا من حيثُ النظر: فكان الأصل (كما قدّمنا) أن لا نقبل إلا ما عُلِم فيه السماعُ حديثًا حديثًا، عند من لا يقول بالمرسل، لاحتمال الانفصال. إلا أن علماءَ الحديث رَأَوْا أن تَتَبُّعَ طلبِ لفظٍ صريح في الاتّصال يعزُّ وجودُه، وأنه إذا ثبت اللقاء ظُنَّ معه السماع غالبًا، وأن الأئمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم فمن بعدهم استغنوا كثيرًا بلفظ (عن) في موضع (سمعت) و (حدثنا) وغيرهما من الألفاظ الصريحة في الاتّصال اختصارًا، ولما عُرِفَ من عُرْفِهم الغالب في ذلك، وأنه لا يضعُها في محلّ الانقطاع عَمَّن عُلِمَ سماعُهُ منه لغير ذلك الحديث بقَصْد الإيهام إلا مُدَلِّسٌ يُوهم أنه سمع ما لم يسمع. .)) (1) . فانظر كيف اضطُّرَّ أن يرجع فيقول: ((ولما عُرِفَ من عُرفهم الغالب في ذلك)) !!! فإن قيل: ألا يخرم هذا العُرْفَ روايةُ الراوي عَمّن عاصره ولم يلقه؟ فالجواب هو الأصل الثاني.

_ (1) السنن الأبين (62) .

والأصل الثاني هو: أن رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه بالصيغة الموهمة تدليسٌ، وفاعلُ ذلك مكثرًا من فعله مدلِّسٌ. وهذا ما كنتُ قرّرتُه بوضوح، وبرهنتُ عليه بجلاء، في كتابي (المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس) . ومن آثار ذلك التقرير العظيمة، ومن نتائجه المهمّة= ما نبحثه الآن، من بيان صحّة مذهب مسلم في الحديث المعنعن، وبيان بطلان المذهب المخالِفِ له. وذاك الذي كنتُ قررته وبرهنت عليه، من أن رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه تدليسٌ، هو ما قرّره عمومُ أئمة الحديث: من أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والبخاري، إلى ابن عدي وابن حبان، إلى الحاكم والخطيب، إلى ابن الصلاح والنووي والبلقيني وابن الملقن، بل إلى السيوطي. . . وغيرهم من أهل طبقاتهم ومَنْ سواهم. . كُلُّهم على أن رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه تدليس. حتى جاء ابنُ رُشيد، مُشيرًا إلى عدم اعتبارها تدليسًا. ثم تلاه الحافظ ابن حجر، ليصرّح بذلك، مؤصِّلاً للمسألة، مُسْتَدِلاًّ لها، مفرّقًا بين رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه (حاصرًا لمُسمَّى التدليس في هذه الصورة من الرواية) وبين رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه (مطلقًا عليها اسمَ الإرسال الخفي، مُخرِجًا لها بذلك عن أن تكون تدليسًا) . وكنتُ قد بيّنتُ خطأ رأي ابن رشيد والحافظ ابن حجر في كتابي المشار إليه، ومخالفتهما لعامّة الأئمة متقدِّمهم ومتأخِّرهم، كل ذلك بالأدلّة الواضحات والحُجَج الباهرات. فما دامت (رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه) : تدليسًا، وما دامَ أن مذهب مسلم قد تضمَّن صراحةً اشتراطَ أن لا يكون الراوي المعنعِنُ

مدلِّسًا، فلا يصحُّ إيراد احتمال أن يكون هذا الراوي غير المدلِّس عندما عنعن عمّن عاصره قد روى عنه مع عدم اللقاء، لأن روايته كذلك تدليسٌ، والأصلُ فيه عدمُ فعل ذلك، لكونه ليس مدلِّسًا. أعدِ النظر في هذه الحُجَّة مَرّات، وقَلِّبْها ما شئت، فلن تخرج منها إلا باليقين المطمئن على صحّة نتيجتها، وأنّها دافعةٌ لأقوى شبهةٍ وقعت في ذهن المخالِف للإمام مسلم. فمشكلة بعض العلماء الذين نصروا المذهب المنسوب إلى البخاري، كالحافظ ابن حجر ومن تبعه، أنهم أخرجوا رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه من مُسَمَّى التدليس، فلم يصحّ عندهم بناءً على ذلك إلزام مسلم خَصْمَه بردّ العنعنة مطلقًا، اطّرادًا مع مذهبهم في التدليس وتعريفه (كما سبق) . فانظر إلى الحافظ ماذا يقول في (النزهة) عن الإمام مسلم: ((وما ألزمه به ليس بلازم، لأن الراوي إذا ثبت له اللقاء مَرّة، لا يجري في روايته احتمال أن لا يكون سمع منه، لأنه يلزم من جَرَيَانه أن يكون مدلّسًا، والمسألةُ مفروضةٌ في غير المدلِّس)) (1) . فنقول للحافظ: إنما لا يلزم إلزامُ مسلم على تفريقك أنت بين الإرسال الخفي والتدليس، وإخراجِك المخالِفِ لجمهور المحدّثين روايةَ الراوي عمن عاصره ولم يلقه من مُسَمَّى التدليس. إذ للإمام مسلم أن يردَّ على الحافظ قولَه بقوله: كما أنه لا يجري في رواية من يثبت له اللقاء احتمالُ أن لا يكون سمع منه، لأنه غير

_ (1) نزهة النظر (59- 60) ، وانظر موقف الإمامين لخالد الدريس (371- 374، 426- 429) .

مدلِّس. فكذلك لا يجري في رواية الراوي عمن عاصره احتمالُ أن لا يكون سمع منه، لأنه غير مدلِّس أيضًا، لشُمول اسم التدليس (رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه) و (رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه) . فباشتراط انتفاء التدليس، انتفى الاحتمالان كلاهما. بل لقد أبلغ مسلم في الحُجّة وأَعْذَرَ في البيان عندما ضربَ لخصمه مثالاً من رواية هشام بن عروة عن أبيه، وهشام بن عروة مشهور السماع من أبيه، بل هو أشهر من روى عن أبيه. فذكر مسلمٌ حديثًا من رواية هشام بن عروة عن أبيه، دلّسه هشامٌ، إذ لم يكن قد سمعه من أبيه، وإنما سمعه من رجل عن أبيه. فيحتجُّ مسلمٌ بهذا الحديث وأمثاله، أنّه مع وقوع مثل ذلك من هشام بن عروة في روايته عن أبيه، إلا أن العلماء لم يتردّدوا في قبول رواية هشام عن أبيه بالعنعنة، بل عُدّت هذه النسخة من أصحّ الأسانيد. ذلك أن وقوعَ ذلك من هشام بن عروة قليلٌ جدًّا، وهو إن كان تدليسًا (بالإجماع: حتى عند الحافظ ابن حجر) ، إلا أنّه لم يستحقّ هشام بن عروة بوقوعه فيه في مَرّاتٍ نادرةٍ أن يكون مردودَ العنعنة، لأنّ الحكم للغالب، والغالب من عنعنات هشام أنها وقعت منه مع السماع والاتّصال. فإن كان هذا هو حُكمُ من روى عمن سمع منه ما لم يسمعه قليلاً، وأنه لم يستحق بذلك أن يوصف بأنه مدلِّس، بمعنى أنه مردود العنعنة= فكذلك ليكن حكم من روى عمن عاصره ولم يلقه قليلاً، أن لا يوصف بردّ العنعنة بناءً على أنه دلّس. وإن كان هذا هو حُكْمُ مَنْ دَلَّسَ قليلاً في جنب ما روى، سواء أكان قد دلَّس بروايته عمن سمع منه ما لم يسمعه أو بروايته عمن

عاصره ولم يلقه= فماذا سيكون حُكْمُ من روى عمن عاصره ولم يثبت قط أنه روى عَمّن عاصره ولم يلقه؟!! وَوَجْهُ ردّ مسلم على خصمه بهذا المثال: هو أن خَصْم مسلم رأى أن شرط انتفاءِ كون الراوي مدلّسًا شرطٌ لا يكفي للقول بالاتّصال، لأن راوية الراوي عمن عاصره ولم يلقه تدليس، وقد وَجَدَ خَصْمُ مسلم أن هذا النوع من الرواية قد وقع من جماعةٍ من الرواة، ولم تُردَّ عنعنةُ بعضهم بالتدليس، فيبقى في رواية هؤلاء احتمال أن يكون الراوي قد روى عمن عاصره ولم يلقه. فأجابه مسلم بمثال هشام بن عروة، أنه أيضًا قد وقع من جماعةٍ من الرواة أنهم رَوَوْا عمن سمعوا منه ما لم يسمعوه، ولم تُردَّ عنعنتهم بذلك أيضًا. فيلزم الخصم حينها ردّ العنعنة مطلقًا، حتى ممن عُلِم سماعه. ذلك أن أئمة الحديث لا يردّون عنعنة كل من وقعت منه صورة التدليس، مع أنّهم قد يصفونه تجوُّزًا بأنه مُدَلِّس. إذ المدلِّس حقيقةً من غلبَ التدليسُ على معنعناته، وهذا هو الذي يستحق ردّ العنعنة. أمّا من كان تدليسه قليلاً أو نادرًا فلا تُردُّ عنعنته، وإن وُصف بأنه مدلّس. وأمّا المدلِّس الذي اشتُرِطَ عدمُ وجوده في الإسناد لقبول العنعنة فهو المدلِّس على الحقيقة، وهو مَن غلب عليه التدليس. ولهذا فسواءٌ أكان الراوي المعنعِنُ ممن قد وقعت منه قليلاً روايةٌ عمّن سمع ما لم يسمعه، أو روايةٌ عمن عاصره ولم يلقه، فلا أثر لذلك في باقي عنعناته، لأن الحكم للغالب، والنادر لاحكم له. ولا يستحق لذلك أن يُوصف بأنه مدلس على الحقيقة، بمعنى أنه مدلِّسٌ مردودُ العنعنة.

فالنتيجة: أن اشتراط انتفاء التدليس في الحديث المعنعن بين المتعاصرين اشتراطٌ كافٍ للحكم بالاتّصال، واستبعادِ احتمالِ الانقطاع فيه، لأنه تضمّن احترازًا من قبول عنعنة من يستحق أن تُرَدَّ عنعنته، دون من لا يستحقّ ذلك من عامّة الرواة، الذين لم يثبت عنهم التدليس مطلقًا، أو ثبت لكنه قليلٌ في جنب ما رَوَوْهُ. وبذلك جميعه، وبعد بيان الأصلين اللذين بنى مسلمٌ ردَّه عليهما: تَتّضح حقيقةً قوّةُ مذهب مسلم (بل مذهب جميع أئمة الحديث، بمن فيهم البخاري) ، ويظهر وَهَاءُ وهَلْهَلَةُ مذهب خصمِه، وبُطلانُ قوله، وسقوطِ حُجّته، ممّا يُنَزَّه معه البخاري وعلي بن المديني من أن يقعا فيه، وأن يُنسب إليهما مثلُ هذا المذهب المتهافت بحُجّته الواهية، وهُمَا مَنْ هُمَا في قِمّة علم الحديث. . بل على يديهما بلغ هذا العلم غايةَ مبلغه، ومنهما تفجّرت فنونُه أنهارًا وبحارًا. لله درُّ مسلم!! لقد أجاب فأسكت خَصْمَه، وحاجَّ فأفحم، وبيَّنَ فأفهم، وردَّ فألزمَ. وعفا الله عن مسلم، لقد تردّد في الردّ على ذلك الجاهل الخامل الذكر، خوفًا من أن يُشهر قوله أو أن يُرفع ذكره، وكان قد رأى أن عدم الرد عليه أخمل لذكره وأحرى بإماتة القول وقائله. وليته فعل، فإنه لمّا ردَّ على ذلك الجاهل الخامل الذكر، نُسب ذلك القول المردودُ عليه إلى البخاري وعلي بن المديني!! ثم المحققين!! ثم إلى الجماهير. .!! لكن عُذْر مسلم أنه أبانَ الحقّ، وردّ على الباطل. . فأبلغ في العذر بذلك. وليته لمَّا ردَّ على ذلك الجاهل سمّاه وعيّنه، ليدفع عن أعراض العلماء المحققين والجماهير!!!

لكن عذره أنه نقل إجماع أهل العلم، وصرّح أن المخالف لا وزن له في العلم ولا اعتبار، فأنّى يَرِدُ في ذهن مسلم -بعد ذلك- أن يُنسب ذلك القول المبتدع إلى شيخه الأجلِّ لديه، العزيز عليه، ألا وهو الإمام البخاري، الذي ليس في الدنيا مثلُه (كما كان مسلمٌ يعتقد ذلك فيه) !!! رحمَ الله البخاريَّ ومسلمًا وجميعَ أئمة المسلمين، المتقدّمين منهم والمتأخرين!!

المسألة الخامسة: أثر تحرير شرط الحديث المعنعن على السنة

المسألة الخامسة: أثر تحرير شرط الحديث المعنعن على السنة النبوية لقد أوردت هذه المسألة، وحرصتُ على توضيح بعض أثر تحريرنا السابق، لسببين: الأول: بيانًا لثمرة هذا التحرير العلميّة والعمليّة في السنة النبويّة. والثاني: أن يُعلم أنها من أمهات المسائل الحديثيّة، وليست ترفًا علميًّا. فمن آثار تحريرنا السابق في شرط الحديث المعنعن: أولاً: بيان حكم الحديث المعنعن الذي مَلأَ خزائن السنّة وغطَّى صحائفَ الرواية. فإن من نسب إلى البخاري شرطَ العلمِ باللقاء من أهل العلم المتأخّرين، رجّحوا (في الغالب) مذهب البخاري على مذهب مسلم. وبناءً على ذلك يلزمهم أن يبحثوا في رواية كل متعاصرَين، فإن ثبت السماع مَرّة قُبل حديثه عنه، وإلا رُدّ حديثه. أمّا بعد ردِّنا لتلك النّسبة، وبعد بيان أن كل أهل العلم (قبل القاضي عياض) على مذهب واحد، هو مذهب مسلم. فلن أتوقّف عن

قبول حديث المتعاصرين حتى يثبت السماع، بل سأحكم بالاتّصال بالشروط التي وضعها مسلم. فأيُّ أثرٍ أعظم من أثرٍ يُحَكَّم في جُلّ السنة وغالب الروايات؟!! ثانيًا: الدفاعُ عن السنّة النبويّة عمومًا، وعن ثاني أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى خصوصًا، ألا وهو صحيح الإمام مسلم. فإنه إن كان اشتراطُ العلم باللقاء خطأً لم يقل به أحدٌ من أهل النقد والتعليل من أئمة الحديث، فلن يكون في الحُكم على السنة باعتباره إلا إخراجٌ لجزءٍ عظيم من ثابت السنة وصحيح الأثر من السنة والأثر، وإبطالٌ للاحتجاج والعمل بما تلزم حجته ويجب العمل بمقتضاه. وماذا يريد علماء السنة من علم السنة إلا الدفاع عنها من أن يُلحَقَ بها ما ليس منها، أو يُنفى عنها ما هو منها؟!! أمّا صحيح مسلم، ومسلمٌ نفسه، فقد كان جَرّاء نسبة ذلك الشرط إلى البخاري أن وقع عليهما ظُلمٌ عظيم، واستُخِفّ بهما استخفافًا ما كان حقُّهما علينا أن نواجههما به!!! فانظر مثلاً إلى إمامٍ كالعلائي، كيف قاده اعتقادُ صحّة نسبة شرط العلم إلى البخاري، واستحضارُ جلالةِ البخاري وأنه لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء= إلى أن لا يقسم بالسويّة، ولا يعدل في المسألة العلميّة!! فإذا جاء حديثٌ في صحيح مسلم نُفي أو شُكِّكَ في سماع راويه ممن روى عنه، قال: ((هذا على قاعدة مسلم في الاكتفاء

بالمعاصرة)) (1) . وإذا جاء حديثٌ مثله في صحيح البخاري أجاب: بأن مجرّد إخراج البخاري يُثبت الاتصال، لما عُلِم من شرطه في ذلك (2) . ثم أي ظلم أعظم من أن يُخطَّا المصيب، وأن يُجَهَّل العالم، وأن يُتّهم في ورعه إمامٌ من أئمة الورع والدين؟!! لقد خُطِّىءَ مسلمٌ وهو مُحقّ! وجُهِّل لمّا زُعم أن الإجماعَ الذي نقله عن شيوخه وأهل العلم في عصره ومن قبلهم منخرمٌ. . بل باطلٌ بإجماعٍ على ضِدِّه!!! أو بمخالفة المحققين والجماهير في أقل تقدير!!! واتُّهم في ورعه لمّا ادُّعيَ أنه قصد بحَمْلته الشديدة تلك، وبتشنيعه على من كان يردّ قوله= الإمامَ البخاريَّ، أو عليَّ بنَ المديني، أو غيرهما من أئمة المحدثين. ومع كُلّ هذا الظلم الذي نالَ مسلمًا، فإن الأشنعَ منه والأخطر الظلمُ الذي نال صحيحَه!! فإن مسلمًا قد نزل في أول منازل الآخرة، وسيلقى ربَّه عز وجل، وسيجازيه تعالى بما هو له أهلٌ بعفوه ورحمته وجوده سبحانه، و (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ) . أمّا صحيح مسلم فهو الباقي بين أيدينا، وهو المصدر العظيم من مصادر السنة، الذي يستحقُّ أن نبذل في سبيل الدفاع عنه دُنيانا كلَّها.

_ (1) انظر: جامع التحصيل للعلائي (رقم 264، 295، 328) . (2) انظر: جامع التحصيل (رقم 8، 200، 347) .

ولن أُطيل في بيان الظلم الذي نال صحيح مسلم، ولن أُفَصِّل وُجُوهَ هذا الظلم، فيكفيك منها الوجه المؤلم التالي ذكره: فبعد أن رجّح ابنُ رجب الشرط المنسوب إلى البخاري، قال: ((فإن قال قائل: هذا يلزمُ منه طَرْحُ أكثر الأحاديث وتركُ الاحتجاج بها؟! قيل: من هاهُنا عَظُمَ ذلك على مسلم (رحمه الله) . والصواب: أن ما لم يرد فيه السماع من الأسانيد لا يُحكم باتّصاله، ويُحتجُّ به مع إمكان اللُّقِيّ، كما يُحتجّ بمرسل أكابر التابعين، كما نصَّ عليه الإمامُ أحمد، وقد سبق ذكر ذلك في المرسل)) (1) . فاللهمّ أسألك عفوَك!! خرجنا بأن صحيح مسلم (ثاني أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى) حكمُه حكم المراسيل!!! والحاصل أن مسلمًا أقرّ قاعدةً في مقدّمة صحيحه تقول: والمرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجّة!!! أبمثل هذا ندافع عن صحيح مسلم؟!! فعن السنة النبويّة كُلِّها؟!!! رحم الله ابنَ رجب!! فهو معذورٌ مأجورٌ (إن شاء الله تعالى) ، فقد قال ما أدّى إليه اجتهادُهُ. لكنّي ملومٌ مأزورٌ إن سكتُّ عن بيان خطئه فيما قال!! ثم يأتي بحثنا هذا، بنتيجته تلك، ليدفع عن مسلم وصحيحِه ذلك الظلمَ جميعَه، منافحًا عن السنة النبويّة المشرّفة كلِّها في مضامينه. ثم إن للبحث بعد ذلك من النتائج الأخرى الفرعيّة والجانبيّة ما لن يُحرمَها مَنْ تمعّن فيه، وأجال فكره في معانيه.

_ (1) شرح علل الترمذي لابن رجب (2/ 597) .

المسألة السادسة: الرد على آخر شبهتين

المسألة السادسة: الردُّ على آخر شُبْهَتَيْنِ الشُّبْهَةُ الأُولى: أن العلماء الذين نسبوا شَرْطَ العلم بالسماع إلى البخاري إنما نسبوه إليه بناءً على استقراء تصرُّفاته في (الصحيح) وخارجه، فكيف تخالفُهم بغير استقراء؟! والجواب عن ذلك: أولاً: أثبتْ -يارعاك الله- أنهم نسبوا الذي نسبوه إلى البخاري بناءً على الاستقراء، هل زعموه هُمْ؟ أم أنتَ زعمته لهم؟!! أم أنّك تظنّ أن كل قولٍ لأهل العلم لا بُدَّ أن يكون مَبْنيًّا على استقراء؟! وأنّه لا دليل إلاّ الاستقراء؟! ثمّ ألا يمكن أن يُخطىء صاحبُ الاستقراء فيه؟ بلى، ولذلك نصُّوا على أن دلالته ظنيّة لا قطعيّة (1) ، ولذلك قد نخالف الاستقراء بدليلٍ أقوى منه، كالإجماع الذي نقله مسلم والحاكم وغيرهما. أعود فأقول: ما دليلُك أنهم قاموا باستقراءٍ أَوْصَلَهُم إلى تلك النتيجة؟ اللهمّ إلا إن كان دليلك: أنهم لا يقولون قولاً إلا بناءً على استقراء!!! فقولُهم قولاً هو دليلُ استقرائهم الذي أخذوا من نتيجته ذلك القول!!! فيلزم من ذلك الدَّوْر، وهو باطل!!

_ (1) حيث إن الاستقراء هنا ليس استقراءً عقليًّا قطعيًّا، وإنما هو النوع الثاني من الاستقراء، وهو الاستقراء الناقص. وانظر البحر المحيط للزركشي (6/ 10- 11) .

ثانيًا: بيّنّا آنفًا -في هذا البحث- أن (صحيح البخاري) لا ينفع أن يكون دليلاً على اشتراطه العلم بالسماع، فلا حاجةَ لإعادة ما ذكرناه (1) . وبيّنّا أيضًا أن أقوال البخاري خارج صحيحه بنفي العلم بالسماع لا تدلّ -ولا من وجه- على اشتراط العلم به (2) . فأيُّ استقراءٍ -بعد هذا- قام به العلماء فأوصلهم إلى تلك النتيجة؟! ثالثًا: صورة الاستقراء التي يظن صاحبُ هذه الشبهة أن العلماء قد قاموا بها، والتي يطالبني بالقيام بها حتّى يصحّ لي الردّ عليهم (في رَأْيِه) = هي الصورة التالية: أن آتي إلى كل إسنادٍ في صحيح البخاري، وإلى كل راويين في كل إسنادٍ فيه، روى أحدهما عن الآخر بالعنعنة، لأبحثَ حينها في جميع روايات ذلك الراوي عمّن روى عنه، لا في صحيح البخاري وحده، ولا في الكتب الستة، ولا الستين. . بل في جميع كتب السنّة، لأنظر: هل صَرّح بالسماع أو اللقاء مَرّةً عنه بإسنادٍ مقبول سالمٍ من العلل، أم لم يُصرِّح. وهكذا أعمل مع الراوي الثاني في روايته عن الثالث، ومع الثالث في روايته عن الرابع. ثم أنتقل إلى جميع أسانيد البخاري على هذا المنوال، إسنادًا إسنادًا، وراويًا راويًا فيه.

_ (1) انظر ما سبق (34- 35، 36- 37) . (2) انظر ما سبق (39- 75) .

فالذي يزعمه ذلك الزاعم: أن العلماء قد قاموا بذلك، ووجدوا أن البخاريَّ لم يُخرج قطُّ لراويين إلا وقد ثبت عند ذلك العالم الذي قام بالاستقراء أنه قد صرّح الراوي بالسماع في بعض حديثه عمّن روى عنه، وأن ذلك لم يتخلّف -باستقرائه- في أحدٍ من الرواة. فهذا الاستقراء. . هل قام به أحدٌ فعلاً؟!!! ولو قام به أحدٌ، وأمكنه القيام به، هل سيسكت عن الإفصاح والافتخار بأنه قد قام بهذا الاستقراء المعجِز (أي المستحيل) ؟!!! أمّا الاستقراء الذي يُطالبني به صاحبُ هذه الشبهة، فهو نفس الاستقراء السابق. لكن يجب أن آتي له بعددٍ كبيرٍ من الرواة (1) لم أقف على تصريحٍ بسماع أحدهم من الآخر في شيءٍ من كتب السنّة!! فوالله لو فعلتُ ذلك، فقمتُ بهذا الاستقراء، وأفنيتُ فيه عمرًا مديدًا، لجاء صاحبُ هذه الشبهة، وقال -بكل سهولة-: لعلّه قد فاتك ما يدل على سماع أولئك الرواة بعضهم من بعض، واطلاعُ البخاري أعظم من اطلاعك، ومن علم حُجّةٌ على من لم يعلم!!! لكني أعود فأختم الردّ على هذه الشبهة بأن أقول: مَنْ قال إنّ الحجّة في الاستقراء وحده، ولا حجّة في غير الاستقراء؟! حتى تُلزمني به!! أين ذهب الإجماع الذي توارد على نقله جمعٌ من أهل العلم؟!

_ (1) ولا يكفي القليل، لأنه لم يكفه القليل الذي ذكرتُه في هذا البحث. فإن سألتَهُ: لمَ لا يكفي المثالُ الواحد على نَقْض تلك الدعوى؟ قال: ((واحدٌ لا يكفي)) ، وكأنّه قد أجاب!! ولو أعدتَ عليه السؤال أعاد الإجابةَ نَفْسَها!!! لأنه عند نفسه قد أجاب!!!

الشبهة الثانية

أين ذهبت أقوال البخاري وتصرّفاته الدالة على نقض تلك الدعوى؟! أين ذهبت أقوال وتصرّفات بقيّة العلماء الدالة على نَقْضِها أيضًا؟! أين ذَهَبَ وَهاءُ المذهب نفسه وعدمُ تصوُّرِ صُدُورِهِ من إمامٍ من أئمة الحديث؟! وأخيرًا: أين ذَهَبَ عَدَمُ صحّةِ تلك الدعوى، وأنه لا دليل لها أصلاً؟! هذه كلّها لا تدلّ!!! إلا الاستقراء الذي ليس لصاحب هذه الشُّبهة من جُهْدٍ في المطالبة به إلا جُهْد النُّطْق بحروفه الثمانية!! متغافلاً عن استقراءٍ مُثْمِر، قمتُ به خلال زيادة عن عشر سنوات، خرجتُ بعد جُهْدِهِ بهاتيك الأدلّة الصحيحة!!! أمّا الشُّبْهَةُ الثانية والأخيرة: فتتلخّصُ في سؤال يقول: مَنْ سبقك إلى هذا القول؟! والسائل يقصد بذلك: أنني ما دُمْتُ غير مسبوق إليه فهو قول مبتدعٌ باطل. والجواب الأول عن هذه الشبهة: أني مسبوق من الإمام مسلم والحاكم وابن عبد البر والبيهقي والخطيب وغيرهم، ومن ابن طاهر المقدسي الذي نص على نسبة الاكتفاء بالمعاصرة إلى البخاري ومسلم كليهما. نعم. . الذي أعتزُّ به، ولا أتنازل عن الاعتزاز به، وأحمد الله تعالى عليه: أن هذه النتيجة التي توصّلتُ إليها لم يسبقني إليها أحدٌ من زمن القاضي عياض (544هـ) إلى حين أن توصّلتُ إليها في سنة (1411هـ) ، بل إلى هذه الساعة، حسب علمي.

والجواب الثاني: أنه ليس كل قول لا سلف له مردودًا، ولا كل رأي يجب أن يكون المرْءُ مسبوقًا إليه، إذ هذا هو القول الذي لا سلف له حقًّا!! فالأقوال والآراء التي يصحّ أن تُردّ لمجرّد أنها مستحدثة، ويجب إنكارُها إذا لم يكن أصحابها مسبوقين إليها من سلف الأمّة= هي الأقوال المخالفة لثوابت الشرع من الاعتقادات والأحكام الشرعيّة، التي يلزم من مخالفة سلف الأمّة فيها تضليلُهم واعتقادُ أن الأمّة كلّها كانت جاهلةً بدين الله تعالى. أمّا ما سوى ذلك: - من فَهْمٍ يُؤتَاهُ رجلٌ في كتاب الله تعالى، تحتمله الآية، ولا يقتضي إبطال فَهْمِ سلف الأمّة. - ومن استنباطٍ لفوائد من النصوص الشرعيّة لم يُسبق إليها صاحبُها. - ومن استلالٍ جديد يصل إليه مُتَدبِّر. - ومن تأصيلٍ وتنظير في علوم الآلات قائمٍ على منهجٍ قويمٍ من الاستقراء والدراسة. = فهذا ونحوه هو مضمار التسابق الكبير بين قرائح الأفهام، وبه تميّزَ العلماءُ عن سائر الأنام، بل تميّز الأنام عن الأنعام!!! وإلا فماذا يرجو ذووا الهِمَم العليّة والعقول الذكيّة والنفوس الزكيّة من تعلُّمِ العلوم، إذا كان دأبَهم اجترارُ ما قيل فقط؟!! إن الردّ على كل قول لا سلف له بأنه لا سلف له، فوق أنه هو نفسه لا سلف له أيضًا= فهو طاعونُ العقول، وأغلال الأفكار، وصليبُ الابتكار. إذْ كان مِنَ الممكنِ أن يُوَاجَهَ عباقرةُ الأمّة وأئمّة الإسلام وصُنّاعُ

حضارته، ممّن ابتدعوا العلوم، وفجّروا المعارف، وأسّسوا وقعّدوا وبَنوا وتمّموا= بأنه لا سلف لكم في ذلك كُلّه. . وانتهى الأمر!!! فمن سلف الشافعي في وضعه لأصول الفقه؟! ومن سلف الخليل بن أحمد في اكتشافه لأوزان الشعر؟! ومن سلف سيبويه في تأليفه النحو؟! ومن سلف البخاري في تجريده الصحيح وفي جمعه التاريخ على حروف المعجم؟! لقد قبلت الأُمّةُ منهم ذلك، وشكرت لهم فِعْلَهم هذا. . مع أنه لا سلف لهم فيه!! لكن تأبى أمراضُ القلوب إلا أن تنضح بما فيها!! واللهُ المستعان، عليه التكلان، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. والله أعلم. والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه. وكتب الشريف حاتم بن عارف العوني تم تبييضه بمدينة الطائف في 27/4/1421هـ

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع 1-أحاديث الشيوخ الثقات: لأبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري. تحقيق: الشريف حاتم بن عارف العوني. (رسالة دكتوراه) . 2- الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان: لابن بلبان الفارسي. تحقيق: شعيب الأرناؤوط. الطبعة الأولى (1408هـ- 1412هـ) . مؤسسة الرسالة: بيروت. 3- الإحكام في أصول الأحكام: لأبي محمد علي بن سعيد= ابن حزم الأندلسي. طبعة مقابلة على عدّة نسخ خطية، وعلى النسخة التي حققها الشيخ أحمد محمد شاكر. قدّم لها الدكتور إحسان عباس. الطبعة الأولى (1400هـ) ، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت. 4- اختصار علوم الحديث (مع شرحه: الباعث الحثيث) : لابن كثير. تحقيق علي حسن عبد الحميد. النشرة الأولى (1415هـ) . دار العاصمة: الرياض. 5- الإرشاد (منتخبه) : تحقيق الدكتور محمد سعيد بن عمر إدريس. الطبعة الأولى (1409هـ) . مكتبة الرشد: الرياض. 6- أسد الغابة في معرفة الصحابة: لعز الدين ابن الأثير. تحقيق: محمد إبراهيم البنا، ومحمد أحمد عاشور. الطبعة الأولى. دار الشعب: القاهرة. 7- الإصابة في تمييز الصحابة: ابن حجر. تحقيق: علي محمد البجاوي. الطبعة الأولى. تصوير نهضة مصر: القاهرة. 8- الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار: للحازمي. تحقيق الدكتور عبد المعطي قلعجي. الطبعة الثانية (1410هـ) . منشورات جامعة الدراسات الإسلامية: باكستان. 9- الاعلام بسنّته عليه السلام (شرح سنن ابن ماجه) : لمُغُلْطاي بن قُلَيْج. مخطوط بدار الكتب المصرية. 10- إكمال المعلم بفوائد مسلم: للقاضي عياض. (المقدّمة) . تحقيق الدكتور الحسين محمد شوّاط. الطبعة الأولى (1414هـ) . دار ابن عفان: الخبر. 11- الإمام مسلم بن الحجاج ومنهجه في الصحيح وأثره في علم الحديث: لأبي عبيدة مشهور حسن آل سلمان. الطبعة الأولى (1417هـ) . دار الصميعي: الرياض) .

12- الإمام مسلم ومنهجه في صحيحه: للدكتور محمد عبد الرحمن طوالبة. الطبعة الأولى (1418هـ) . دار البيارق، ودار عمار: الأردن. 13- الأوسط: لابن المنذر. تحقيق: صغير أحمد بن محمد حنيف. الطبعة الأولى (1405هـ) . دار طيبة: الرياض. 14- البحر المحيط في أصول الفقه: للزركشي. تحقيق: عبد القادر عبد الله العاني، وعمر سليمان الأشقر، وعبد الستار أو غدة. الطبعة الثانية (1413هـ) . دار الصفوة: الغردقة. 15- بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام: لابن القطان الفاسي. تحقيق: د. الحسين آيت سعيد. الطبعة الأولى (1418هـ) . دار طيبة: الرياض. 16- التاريخ الأوسط: للبخاري. تحقيق محمد بن إبراهيم اللحيدان. الطبعة الأولى (1418هـ) . دار الصميعي: الرياض. 17- تاريخ بغداد: لأحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي. الطبعة الأولى (1931م) . مكتبة الخانجي: القاهرة. 18- تاريخ دمشق لابن عساكر: أ- المخطوط: تصوير دار البشير. ب- المطبوعة: تحقيق جماعة، وطبع مجمع اللغة العربية بدمشق. 19- تاريخ أبي زرعة الدمشقي: تحقيق شكر الله نعمة الله القوجاني. مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق. 20- التاريخ: ليحيى بن معين (برواية الدوري) . تحقيق د. أحمد محمد نور سيف. الطبعة الأولى (1399هـ) . جامعة الملك عبد العزيز، كلية الشريعة: مكة المكرمة. 21- التتبع: للدارقطني. تحقيق مقبل بن هادي الوادعي. الطبعة الثانية (1405هـ) . دار الكتب العلمية: بيروت. 22- تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف: لأبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزّي. تحقيق عبد الصمد شرف الدين. الطبعة الثانية (1403هـ) . المكتب الإسلامي، بيروت، والدر القيمة، الهند. 23- تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل: لأبي زرعة العراقي. تحقيق: د. رفعت فوزي عبد المطلب، ود. نافذ حسين حماد، ود. علي عبد الباسط مزير.

الطبعة الأولى (1420هـ) . مكتبة الرشد: الرياض. 24- تدريب الراوي: للسيوطي. تحقيق: نظر محمد الفاريابي. الطبعة الثالثة (1417هـ) . مكتبة الكوثر: الرياض. 25- تسمية من أخرجهم البخاري ومسلم (وهو جزء من كتاب المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم) : للحاكم. تحقيق: كمال يوسف الحوت. الطبعة الأولى (1407هـ) . مؤسسة الكتب الثقافية: بيروت. 26- التقريب: للنووي (مع شرحه: تدريب الراوي: للسيوطي) . 27- تقييد المهمل وتمييز المشكل: لأبي علي الغساني. تحقيق: علي بن محمد العمران، وعزير محمد شمس. الطبعة الأولى (1421هـ) . دار عالم الفوائد: مكة المكرمة. 28- التمهيد: لابن عبد البر. تحقيق هيئة من العلماء بوزارة الأوقاف المغربية. 29- التمييز: للإمام بن الحجاج. تحقيق محمد مصطفى الأعظمي. الطبعة الثانية (1402هـ) . شركة الطباعة العربية السعودية: الرياض. 30- تهذيب التهذيب: لابن حجر. الطبعة الأولى (1325هـ) . مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية: الهند. 31- تهذيب الكمال: للمزّي. تحقيق بشار عواد معروف. الطبعة الثانية (1403هـ) . مؤسسة الرسالة: بيروت. 32- التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل: لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة. تحقيق الدكتور عبد العزيز إبراهيم الشهوان. الطبعة الأولى (1408هـ) . دار الرشد: الرياض. 33- الثقات: لابن حبان. تحت مراقبة د. محمد عبد المعين خان. الطبعة الأولى (1393هـ- 1403هـ) . مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية: الهند. 34- جامع الأصول في أحاديث الرسول: مجد الدين ابن الأثير. تحقيق عبد القادر الأرناؤوط. الطبعة الأولى (1389هـ) . مكتبة الحلواني، ومطبعة الملاح، ومكتبة دار البيان: دمشق. 35- جامع التحصيل في أحكام المراسيل: للعلائي. تحقيق: حمدي السلفي. الطبعة الثانية (1407هـ) . عالم الكتب، ومكتبة النهضة الحديثة: بيروت.

36- جامع الترمذي: تحقيق: أحمد محمد شاكر، ومحمد فؤاد عبد الباقي، وإبراهيم عطوة. تصوير دار إحياء التراث العربي: بيروت. 37- الجرح والتعديل: لابن أبي حاتم. الطبعة الأولى (1371هـ) . مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية: الهند. تصوير دار الكتب العلمية: بيروت. 38- الجمع بين رجال الصحيحين: لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي. الطبعة الأولى (1323هـ) . تصوير دار الكتب العلمية: بيروت. 39- ذكر أسماء التابعين ومن بعدهم ممن صحّت روايته من الثقات عند البخاري ومسلم: للدارقطني. تحقيق: بوران الضناوي، وكمال يوسف الحوت. الطبعة الأولى (1406هـ) . مؤسسة الكتب الثقافية: بيروت. 40- الرسالة: للشافعي. تحقيق: أحمد محمد شاكر. الطبعة الثانية (1399هـ) . دار التراث: القاهرة. 41- السنن الأبينُ والمورد الأمعن في المحاكمة بين الإمامين في السند المعنعن: لابن رُشَيْد الفِهْرِي السبتي. تحقيق صلاح سالم المصراتي. الطبعة الأولى (1417هـ) . مكتبة الغرباء الأثرية: المدينة المنورة. 42- السنن الصغرى (المجتبى) : لأحمد بن شعيب بن علي النسائي. ترقيم عبد الفتاح أبو غدة. تصوير مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب. 43- السنن: لأبي داود السجستاني. تحقيق: محمد عوامة. الطبعة الأولى (1419هـ) . دار القبلة: جدّة. 44- السنن: للدارقطني. تصحيح وترقيم السيد عبد الله هاشم يماني المدني. دار المحاسن للطباعة: القاهرة. 45- السنن: للدارمي (وهو المسند) . تحقيق حسين سليم أسد الداراني. الطبعة الأولى (1421هـ) . دار المغني: الرياض. 46- سؤالات الآجري: لأبي داود. تحقيق: د. عبد العليم البستوي. الطبعة الأولى (1418هـ) . مكتبة دار الاستقامة: مكة المكرمة. 47- سؤالات ابن الجنيد (لأبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخُتَلي) : لأبي زكريا يحيى بن معين. تحقيق الدكتور أحمد محمد نور سيف. الطبعة الأولى (1408هـ) .

مكتبة الدار: المدينة المنورة. 48- سؤالات البرذعي: لأبي زرعة الرازي (ضمن كتاب: أبو زرعة الرازي، وجهوده في السنة النبوية) . تحقيق أد. سعدي الهاشمي. الطبعة الثانية (1409هـ) . دار الوفاء: المنصورة. ومكتبة ابن القيم: المدينة المنورة. 49- سؤالات البرقاني: للدارقطني. تحقيق: د. عبد الرحيم القشقري. الطبعة الأولى (1404هـ) . كتب خانة جميلي: باكستان. 50- سير أعلام النبلاء: للذهبي. تحقيق حسين الأسدي، وشعيب الأرناؤوط، وبشار عواد، وجماعة. الطبعة الثانية (1402هـ) . مؤسسة الرسالة: بيروت. 51- شرح علل الترمذي: لابن رجب. تحقيق الدكتور همام عبد الرحيم سعيد. الطبعة الأولى (1407هـ) ، مكتبة المنار: الأردن. 52- شرح مشكل الآثار: للطحاوي. تحقيق: شعيب الأرناؤوط. الطبعة الأولى (1415هـ) . مؤسسة الرسالة: بيروت. 53- صحيح البخاري: تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. 54- صحيح مسلم: تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. 55- الطبقات: لابن سعد. تحقيق د. إحسان عباس. دار صادر: بيروت. 56- الطبقات: لمسلم بن الحجاج. تحقيق: أبي عبيدة مشهور بن حسن بن محمود ابن سلمان. الطبعة الأولى (1411هـ) . دار الهجرة: الثقبة. 57- العقود الدُّرّيّة من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: محمد بن أحمد بن الهادي. تقديم: علي صبح المدني. مطبعة المدني: القاهرة. 58- العلل الكبير للترمذي: ترتيب أبي طالب القاضي. تحقيق: حمزة ديب مصطفى. الطبعة الأولى (1406هـ) . مكتبة الأقصى: عمان. 59- العلل ومعرفة الرجال: للإمام أحمد. (برواية عبد الله بن الإمام أحمد) . تحقيق د. وصي الله محمد عباس. الطبعة الأولى (1408هـ) . المكتب الإسلامي: بيروت، ودار الخاني: الرياض. 60- العلل ومعرفة الرجال: للإمام أحمد بن حنبل، (برواية المرّوذي وغيره) . تحقيق: وصي الله بن محمد عباس. الطبعة الأولى (1408هـ) . الدار السلفية: الهند.

61- العلل: لابن المديني. تحقيق محمد مصطفى الأعظمي. الطبعة الثانية (1400هـ) . المكتب الإسلامي: بيروت. 62- العلل: لابن أبي حاتم. (المطبوعة) . تحقيق محب الدين الخطيب. تصوير دار المعرفة: بيروت. 63- العلل: للدارقطني. أ- المخطوط: نسخة دار الكتب المصريّو 394/ حديث. ب- المطبوعة: تحقيق محفوظ الرحمن زين الله. الطبعة الأولى (1405هـ- 1416هـ) . دار طيبة: المدينة. 64- علوم الحديث: لأبي عَمرو عثمان بن عبد الرحمن= ابن الصلاح الشهرزوري. تحقيق نور الدين عتر. الطبعة الثالثة (1404هـ) . دار الفكر: دمشق. 65- فتح الباري بشرح صحيح البخاري: لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني. تحقيق محب الدين الخطيب، وراجعه قصي محب الدين الخطيب. الطبعة الأولى (1407هـ) . دار الريّان للتراث: القاهرة. 66- فتح الباري: لابن رجب. تحقيق جماعة منهم: محمود بن شعبان بن عبد المقصود، ومجدي عبد الخالق الشافعي. الطبعة الأولى (1417هـ) . مكتبة الغرباء: المدينة المنورة. 67- فتح المغيث بشرح ألفيّة الحديث للعراقي: لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن السخاوي. تحقيق علي حسين علي. الطبعة الثانية (1412هـ) . تصوير دار الإمام الطبري. 68- القراءة خلف الإمام: للبخاري. الطبعة الأولى (1405هـ) . دار الكتب العلمية: بيروت. 69- قواطع الأدلّة في أصول الفقه: لأبي المظفّر السمعاني. تحقيق: د. عبد الله بن حافظ الحكمي، ود. علي بن عباس الحكمي. الطبعة الأولى (1419هـ) . مكتبة التوبة: الرياض. 70- الكامل في معرفة ضعفاء المحدّثين وعلل الحديث: لابن عدي (المطبوع باسم: الكامل في ضعفاء الرجال) . تحقيق: د. سهيل زكار. الطبعة الثالثة (1409هـ) دار الفكر: بيروت.

71- الكفاية في علم الرواية: لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي. تحقيق أحمد عمر هاشم. الطبعة الأولى (1405هـ) . دار الكتاب العربي: بيروت. 72- لسان الميزان: لابن حجر. الطبعة الأولى (1329هـ) . مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية: الهند. تصوير مؤسسة الأعلمي: بيروت. 73- محاسن الاصطلاح: للبُلْقِيني. تحقيق الدكتورة عائشة بنت عبد الرحمن. الطبعة الثانية (1411هـ) . دار المعارف: القاهرة. 74- المحدث الفاصل بين الراوي والواعي: للرامهرمزي. تحقيق د. محمد عجاج الخطيب. الطبعة الثالثة (1404هـ) . دار الفكر: بيروت. 75- المراسيل: لعبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي= ابن أبي حاتم. تحقيق: شكر الله نعمة الله قوجاني. الطبعة الثانية (1402هـ) . مؤسسة الرسالة: بيروت. 76- المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس، دراسة نظرية وتطبيقية على مرويات الحسن البصري: للشريف حاتم بن عارف العوني. الطبعة الأولى (1418هـ) . دار الهجرة: الثقبة. 77- مسائل الإمام أحمد: تأليف أبي داود السجستاني. تحقيق: محمد رشيد رضا. تصوير دار المعرفة: بيروت. 78- مسائل صالح: للإمام أحمد. تحقيق: الدكتور فضل الرحمن دين محمد. الطبعة الأولى (1408هـ) . الدار العلمية: الهند. 79- المستدرك: للحاكم. الطبعة الأولى (1334هـ) . دائرة المعارف العثمانية: الهند. تصوير دار المعرفة: بيروت. 80- مسند الإمام أحمد: تحقيق: جماعة، بإشراف شعيب الأرناؤوط. الطبعة الثانية (1420هـ) . مؤسسة الرسالة: بيروت. 81- معجم الصحابة: لأبي القاسم البغوي. تحقيق محمد الأمين بن محمد محمود أحمد الجكني. الطبعة الأولى (1421هـ) . مكتبة دار البيان: الكويت. 82- معرفة السنن والآثار: للبيهقي. تحقيق د. عبد المعطي قلعجي. الطبعة الأولى (1411هـ) . جامعة الدراسات الإسلامية: باكستان، ودار قتيبة: دمشق، ودار الوعي: حلب، ودار الوفاء: القاهرة.

83- معرفة علوم الحديث: للحاكم. تحقيق السيد معظم حسين. الطبعة الثانية (1397هـ) . تصوير المكتبة العلمية: المدينة المنورة. 84- مناقب الشافعي: للبيهقي. تحقيق: السيد أحمد صقر. تصوير دار التراث: القاهرة. 85- الموطَّأ: برواية ابن القاسم وتلخيص القابسي (وهو: الملخِّص لمسند موطأ مالك: برواية ابن القاسم) . تحقيق المالكي. الطبعة الأولى (1405هـ) . دار الشروق: جدّة. 86- الموضح لأوهام الجمع والتفريق: للخطيب البغدادي. تحقيق المعلمي. الطبعة الثانية (1405هـ) . تصوير دار الفكر الإسلامي. 87- الموقظة: للذهبي. تحقيق عبد الفتاح أبو غُدّة. الطبعة الثانية (1412هـ) . دار البشائر الإسلامية: بيروت. 88- موقف الإمامين البخاري ومسلم من اشتراط اللقيا والسماع في السند المعنعن بين المتعاصرين: لخالد منصور عبد الله الدريس. الطبعة الأولى (1417هـ) . مكتبة الرشد: الرياض. 89- نزهة النظر بتوضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر: ابن حجر العسقلاني. تحقيق نور الدين عتر. الطبعة الثانية (1414هـ) . دار الخير: بيروت. 90- نصب الراية: للزيلعي. تحقيق أعضاء المجلس العلمي بدابهيل، الهند. الطبعة الأولى (1357هـ) . دار المأمون: القاهرة. 91- النصيحة بالتحذير من تخريب ابن عبد المنان لكتب الأئمة الرجيحة وتضعيفه لمئاتٍ من الأحاديث الصحيحة: لمحمد ناصر الدين الألباني. الطبعة الأولى (1420هـ) . دار ابن عفان: القاهرة. 92- نقد الإمام الذهبي لبيان الوهم والإيهام: تحقيق: د. فاروق حمادة. الطبعة الأولى (1408هـ) . دار الثقافة: الدار البيضاء. 93- النكت على كتاب ابن الصلاح: لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني. تحقيق الدكتور ربيع هادي عمير. الطبعة الأولى (1404هـ) . طبع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 94- هدى الساري: لابن حجر. طبعة دار الريان بالقاهرة. الطبعة الأولى (1407هـ) .

دليل الموضوعات

دليل الموضوعات المقدمة المسألة الأولى: تحرير الشرط المنسوب إلى البخاري تحرير شرط مسلم تحرير شرط أبي المظفّر السمعاني المسألة الثانية: نسبةُ القول باشتراط العلم بالسماع إلى البخاري: (تاريخُها، ودليلُها، ومناقشةُ الدليل) وفي المناقشة: - أن نفي العلم بالسماع هو ترجيحٌ أو قطع بعدم السماع - ذكر بعض القرائن التي تشهد لعدم السماع - من معاني نفي العلم بالسماع: ما لا يُعارض أن يكون الراوي قد تحمَّل الرواية عَرْضًا أو مناولة أو مكاتبة ونحوها - من معاني نفي العلم بالسماع: الخبرُ المجرّد بذلك، دون إعلالٍ للرواية، بل مع الحكم باتّصالها - أن مسلمًا أعلّ أحاديث بعدم العلم بالسماع المسألة الثالثة: الأدلّة على بُطلان نسبة اشتراط العلم باللقاء إلى البخاري وغيره من العلماء الدليل الأول: سقوطُ حُجّة تلك النسبة الدليل الثاني: الإجماعُ الذي نقله الإمام مسلم الدليل الثالث: وَصْفُ مسلم لخصمه بأنه جاهل خامل الذكر الدليل الرابع: الصمتُ التامّ بعد مسلم وقبل القاضي عياض عن التعرّض لهذه المسألة في كتب السنة

الدليل الخامس: أن في الأسانيد التي ضربَ مسلمٌ بها المثل، ولا يُعلم سماعُ بعض رواتها من بعض، ويُصحّحها مسلم، ويضعّفها خصمه= أسانيدَ صحّحَها البخاري الدليل السادس: أن جماعة من أهل العلم نقلوا الإجماعَ على مذهب مسلم: 1- أبو الوليد الطيالسي 2- الحاكم النيسابوري 3- أبو عَمرو الداني 4- البيهقي 5- ابن عبد البر 6- ابن حزم الدليل السابع: أن كتب شروط الأئمة لم تنصّ على هذا الشرط أبدًا الدليل الثامن: نسبةُ ابنِ طاهر شرطَ الاكتفاء بالمعاصرة إلى البخاري ومسلم الدليل التاسع: النصوص الدالة على أن أهل العلم لا يشترطون العلم بالسماع: 1- الإمام الشافعي 2- أبوبكر الحُميدي 3- الخطيب البغدادي 4- أبو الحسن القابسي الدليل العاشر: صحيح البخاري نفسه الدليل الحادي عشر: احتجاج البخاري في صحيحه بالمكاتبة، والمناولة، والوجادة الدليل الثاني عشر: اكتفاء البخاري بالمعاصرة في نصوصٍ صريحةٍ عنه الدليل الثالث عشر: اكتفاءُ جَمْعٍ من الأئمة بالمعاصرة: 1- علي بن المديني 2- أحمد بن حنبل 3- يحيى بن معين

4- أبو حاتم الرازي 5- أبو زرعة الرازي 6- أبوبكر البزّار 7- ابن خزيمة 8- ابن حبان 9- الدارقطني الدليل الرابع عشر: أن إجماع العلماء على اعتبار رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه تدليسًا يقتضي الإجماعَ منهم على الاكتفاء بالمعاصرة (أي على مذهب مسلم) الدليل الخامس عشر: بُطلان المذهب المنسوب إلى البخاري، ووُضوحُ سقوطه، وسوءُ أثره على السنة المسألة الرابعة: بيانُ صوابِ مذهبِ مسلم وقُوّة حُجّته فيه المسألة الخامسة: أثر تحرير شرط الحديث المعنعن على السنّة المسألة السادسة: الردُّ على آخر شُبهتين فهرس المصادر والمراجع دليل الموضوعات

§1/1