إتحاف ذوي الألباب
مرعي الكرمي
[تقديم]
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِِيمِ [تَقْدِيم] الحَمْدُ لِله حَقَّ حَمْدِهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّهِ وَعَبْدِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَوَفْدِهِ. أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ أَحْسَنَ بِيَ الظَّنَّ أَخِي المُكَرَّمُ الفَاضِلُ (حَازِم خَنْفَر) - وَفَّقَهُ اللهُ إِلَى مَزِيدِ هُدَاهُ -؛ فَدَفَعَ إِلَيَّ رِسَالَةً عِلْمِيَّةً حَقَّقَهَا، وَهِيَ رِسَالَةٌ لِلعَلَّامَةِ الشَّيْخِ مَرْعِيٍّ الكَرْمِيِّ الحَنْبَليِّ - رَحِمَهُ اللهُ -، بِعُنْوَانِ: «إِتْحَافِ ذَوِي الأَلْبَابِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}». فَأَلْفَيْتُ جُهْدَهُ ظَاهِرًا فِي ضَبْطِ نَصِّهَا، وَالتَّعْلِيقِ عَلَيْهَا، وَتَخْرِيجِ أَحَادِيثِهَا. فَجَزَاهُ اللهُ خَيْرًا عَلَى هَذَا الجُهْدِ المَبْذُولِ، وَعَلَى هَذَا الصَّنِيعِ الَّذِي أَرْجُو لَهُ مِنْ رَبِّي القَبُولَ. وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ، وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. وَكَتَبَ عَلِيُّ بْنُ حَسَن الحَلَبِيُّ الأَثرِيُّ عَمَّانَ - الأُرْدُن فِي ضُحَى يَوْمِ الثُّلاثَاءِ 20 /شَعْبَان /1433 هـ
[مقدمة المحقق]
بِسْمِِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [مُقَدِّمَةُ المُحَقِّقِ] الحَمْدُ لِله، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ. أَمَّا بَعْدُ: فَمِمَّا لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا امْتِرَاءَ - عِنْدَ ذَوِي الأَفْئِدَةِ المُؤْمِنَةِ -: أَنَّ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ لِطَعْنٍ أَوْ نَقْدٍ؛ فَهُوَ بِنَجْوَةٍ مِنَ الاخْتِلَافِ وَالتَّنَافِي، وَمِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ؛ فَالقُرْآنُ كَلَامُ رَبِّ العِزَّةِ وَالجَلَالِ القَائِلِ فِيهِ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬1). وَلَمْ يَزَلِ القُرَّحُ مِنْ أَهْلِ الاجْتِهَادِ وَحَضَنَةِ العِلْمِ يَسْتَبِرُونَ غَوْرَ مَعَانِيهِ وَيَغُوصُونَ فِي دَرْكِهَا؛ كَشْفًا عَمَّا غَمُضَ تَفْسِيرُهُ وَاخْتَلَطَ بَيَانُهُ، فَدُوِّنَتِ الدَّوَاوِينُ وَصُنِّفَتِ المُصَنَّفَاتُ - مَا بَيْنَ أَسْفَارٍ وَكَرَارِيسَ -. وَمِنْ تِلْكَ المُؤَلَّفَاتِ: هَذِهِ الرِّسَالَةُ؛ الَّتِي تَضَمَّنْتِ الإِشْكَالَ الحَاصِلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬2) ... ؛ ¬
فَقَدْ تَنَازَعَ فِي تَفْسِيرِهَا أَهْلُ العِلْمِ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ: الأُولَى: عَلَى مَاذَا يَقَعُ المَحْوُ وَالإِثْبَاتُ؟ وَالثَّانِيَةُ: مَا المُرَادُ بِـ (أُمِّ الكِتَابِ)؟ وذَكَرَ المَاوَرْدِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» (¬1) المَسْأَلَةَ الأُولَى عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ، وَالثَّانِيَةَ عَلَى سِتَّةٍ. وَلَقَدْ أَظْهَرَ المُصَنِّفُ فِي رِسَالَتِهِ - هَذِهِ - الأَقْوَالَ المَشْهُورَةَ فِي تَفْسِيرِ الآيَةِ، وَأدِلَّةَ كُلِّ قَوْلٍ، ثُمَّ أَثْبَتَ رَأْيَهُ بِالدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ وَالحُجَّةِ العَقْلِيَّةِ، وَتَكَلَّمَ - أَيْضًا - فِي بَعْضِ المَسَائِلِ المُتَعَلِّقَةِ بِالقَدَرِ، وَرَدَّ أَقْوَالَ المُخَالِفِينَ لِأُصُولِ الشَّرْعِ - كَالمُعْتَزِلَةِ -، فَكَانَتْ رِسَالَةً جَامِعَةً مَاتِعَةً نَفِيسَةً، اسْتَوْعَبَتْ أُصُولَ المَسْأَلَةِ وَفُرُوعَهَا. وَقَدْ وَفَّقَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنْشَطَ لَهَا - ضَبْطًا وَتَحْقِيقًا وَتَعْلِيقًا وَتَخْرِيجًا -، وَفَرَغْتُ مِنْهَا - بِعَوْنِ اللهِ تَعَالَى - فِي الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ، سَنَةَ (1433هـ). أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُقِرَّ عَمَلَنَا - هَذَا - فِي مِيزَانِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ يَوْمَ القِيَامَةِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ. حَازِم خَنْفَر 8/ 7/2012م ¬
[عملي في الكتاب]
[عَمَلِي فِي الكِتَابِ] 1 - قَيَّدْتُ حُرُوفَ الكَلِمَاتِ بِالشَّكْلِ، وَضَبَطْتُ المُشْكِلَ - مِنْهَا - ضَبْطَ حُرُوفٍ؛ تَقْوِيمًا لِلِّسَانِ العَرَبِيِّ - مِنْ إِعْرَابٍ وَصَرْفٍ -، وَكَذَلِكَ مَنْعًا لِلإِشْكَالِ - مِنْ مُشَتَبِهٍ لِلأَسْمَاءِ -. 2 - عَزَوْتُ الآيَاتِ، وَخَرَّجْتُ الأَحَادِيثَ وَالآثَارَ، وَلَمْ أَتَوَسَّعْ فِي ذِكْرِ المَصَادِرِ، وَمَا وَجَدْتُ لِلْعَلَمَاءِ فِيهِ حُكْمًا أَوْرَدْتُهُ، وَأَكْثَرُ مَا عَوَّلْتُ عَلَيْهِ فِي هَذَا البَابِ: حُكْمُ العَلَّامَةِ المُحَدِّثِ الأَلْبَانِيِّ - رَحِمَهُ اللهُ -. 3 - تَرْجَمْتُ لِمَا وَرَدَ مِنَ الأَعْلَامِ فِي الكِتَابِ. 4 - أَظْهَرْتُ مَا غَرُبَ مِنَ المَعَانِي. 5 - أَضَفْتُ فَوَائِدَ فِي بَعْضِ مَوَاضِعَ مِنَ الرِّسَالَةِ. 6 - أَشَرْتُ إِلَى المَوَاضِعِ الَّتِي عَزَاهَا المُصَنِّفُ إِلَى قَائِلِيهَا، وَكَذَلِكَ الَّتِي لَمْ يَعْزُهَا، وَهُنَا تَنْبِيهٌ، وَهُوَ: أَنَّ المُصَنِّفَ قَدْ يَعْزُو إِلَى كِتَابٍ لِعَالِمٍ فَيَذْكُرُ مِنْهُ نَصًّا، ثُمَّ يَتَصَرَّفُ فِيهِ - إِمَّا اخْتِصَارًا أَوْ زِيَادَةً أَوْ لَفْظًا -، وَلَوْلَا أَنَّهُ كَثِيرٌ - عِنْدَهُ - لَسَلَّمْتُ بِأَنَّهُ اخْتِلَافُ نُسَخٍ خَطِّيَّةٍ. 7 - ضَبْطُ النَّصِّ وَتَصْحِيحُهُ - مِمَّا ظَهَرَ خَطَؤُهُ -، وَالإِشَارَةُ إِلَى المُعَدَّلِ.
[ترجمة المصنف]
[تَرْجَمَةُ المُصَنِّفِ] مُصَنِّفُ هَذِهِ الرِّسَالَةِ: هُوَ الإِمَامُ المُحَدِّثُ الفَقِيهُ: مَرْعِيُّ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَحْمَدَ الكَرْمِيُّ المَقْدِسِيُّ الحَنْبَليُّ؛ مِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ الحَنَابِلَةِ. وَالكَرْمِيُّ: نِسْبَةً إِلَى (طُورِ كَرْمٍ) المَعْرُوفَةِ الآنَ بِـ (طُولِ كَرْمٍ) - بِفِلَسْطِينَ - الَّتِي وُلِدَ بِهَا. أَخَذَ عَنِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ المَرْدَاوِيِّ، وَالقَاضِي يَحْيَى الحَجَّاوِيِّ - وَغَيْرِهِمَا -. كَانَ ذَا اطِّلَاعٍ وَاسِعٍ عَلَى نُقُولِ الْفِقْهِ وَدَقَائِقِ الحَدِيثِ، وَمَعْرِفَةٍ تَامَّةٍ بِالعُلُومِ المُتَدَاوَلَةِ، وَكَانَ مُنْهَمِكًا عَلَى الْعُلُومِ انْهِمَاكًا كُلِّيًّا، فَقَطَعَ زَمَانَهُ بِالإِفْتَاءِ وَالتَّدْرِيسِ وَالتَّحْقِيقِ وَالتَّصْنِيفِ. دَخَلَ مِصْرَ وَتَوَطَّنَهَا، وَأَخَذَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ مَشَايِخِهَا، ثُمَّ تَصَدَّرَ لِلإِقْرَاءِ وَالتَّدْرِيسِ بِجَامِعِ الأَزْهَرِ، ثُمَّ تَوَّلَى المَشْيَخَةَ بِجَامِعِ السُّلْطَانِ حَسَنٍ، وَتُوُفِّيَ فِيهَا سَنَةَ (1033هـ)، وَلَهُ نَحْوُ سَبْعِينَ كِتَاباً؛ مِنْ أَشْهَرِهَا: «دَلِيلُ الطَّالِبِ» وَ «غَايَةُ المُنْتَهَى» (¬1). ¬
[صحة نسبة الكتاب إلى المؤلف]
[صِحَّةُ نِسْبَةِ الكِتَابِ إِلَى المُؤَلِّفِ] صَحَّتْ نِسْبَةُ الكِتَابِ إِلَى المُصَنِّفِ لأُمُورٍ؛ مِنْهَا: 1 - مَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ - نَفْسُهُ - فِي كِتَابِهِ «رَفْعِ الشُّبْهَةِ وَالغَرَرِ عَمَّنْ يَحْتَجُّ عَلَى فِعْلِ المَعَاصِي بِالقَدَرِ» (ص21) بِقَوْلِهِ: «وَقَدْ بَسَطْتُ الكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي كِتَابِي «إِتْحَاف ذَوِي الأَلْبَابِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ)»». 2 - مَا نَسَبَهُ لَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ؛ كَالمُحِبِّي فِي «خُلَاصَةِ الأَثَرِ» (4/ 358)، وَإِسْمَاعِيلَ البَغْدَادِيِّ فِي «إِيضَاحِ المَكْنُونِ» (3/ 18).
[وصف المخطوط]
[وَصْفُ المَخْطُوطِ] المُقَدِّمَةُ: «الحَمْدُ لِله المُنَزَّهِ بِذَاتِهِ، الرَّفِيعِ الجَنَابِ، المُقَدَّسِ بِصِفَاتِهِ عَنْ إِدْرَاكِ عُقُولِ ذَوِي الأَلْبَابِ». الخَاتِمَةُ: «وَفِي هَذَا القَدْرِ كِفَايَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ بِعَيْنِ البَصِيرَةِ - وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ -». رَقْمُ النُّسْخَةِ: 309486. عَدَدُ الأَوْرَاقِ: (21) وَرَقَةً. مَصْدَرُ المَخْطُوطِ: مَكْتَبَةُ الأَزْهَرِ الشَّرِيفِ.
[صورة من المخطوط]
[صُورَةٌ مِنَ المَخْطُوطِ] الصَّفْحَةُ الأولَى مِنَ المَخْطُوطِ
الصفحة الأخيرة من المخطوط
الصَّفْحَةُ الأَخِيرَةُ مِنَ المَخْطُوطِ
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم وبه نستعين الحَمْدُ لِله المُنَزَّهِ بِذَاتِهِ، الرَّفِيعِ الجَنَابِ (¬1)، المُقَدَّسِ بِصِفَاتِهِ عَنْ إِدْرَاكِ عُقُولِ ذَوِي الأَلْبَابِ، المَوْصُوفِ بِالأُلُوهِيَّةِ قَبْلَ كُلِّ مَوْجُودٍ، البَاقِي بِنَعْتِ السَّرْمَدِيَّةِ بَعْدَ كُلِّ مَحْدُودٍ (¬2)، المَنِيعِ الحِجَابِ (¬3)، المَلِكِ الَّذِي طَمَسَتْ ¬
سُبُحَاتُ (¬1) جَلَالِهِ الأَبْصَارَ، وَحَارَتْ فِي بَدِيعِ جَمَالِهِ الأَفْكَارُ، العَزِيزِ الوَهَّابِ، الَّذِي كَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ المَقْدُورِ فِي أُمِّ الكِتَابِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (¬2)، فَلَا رَادَّ لأَمْرِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ. وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَخَلِيفَتِهِ (¬3)، المَبْعُوثِ إِلَى كَافَّةِ خَلِيقَتِهِ، المَنْعُوتِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ (¬4)، الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬5)، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ خَيْرِ آلٍ وَأَصْحَابٍ، مَا انْهلَّتْ بِالغَيْثِ مُزَنُ (¬6) السَّحَابِ، وَاشْتَاقَتْ لِلْمُتَّقِينَ الكَوَاعِبُ (¬7) ¬
الأَتْرَابُ (¬1). أَمَّا بَعْدُ: فَهَذِهِ فَرَائِدُ يَتِيمَةٌ، وَفَوَائِدُ ثَمِينَةٌ، وَعُقُودُ جَوَاهِرَ مُضِيئَةٍ، وَبُدُورٌ سَوَافِرُ (¬2) مُسْتَضِيئَةٌ، فِي الكَلَامِ عَلَى قَوْلِ العَزِيزِ الوَهَّابِ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬3) مُتَكَلِّمًا فِي ذَلِكَ عَلَى زِيَادَةِ العُمُرِ (¬4) وَنُقْصَانِهِ، وَبَيَانِ إِثْبَاتِ القَدَرِ وَتِبْيَانِهِ، وَأَنَّ المَقْدُورَ مَسْطُورٌ، وَالمَسْتُورَ مَنْشُورٌ، يَوْمَ البَعْثِ وَالنُّشُورِ، جَانِحًا فِي ذَلِكَ لاخْتِصَارِ كَلَامِ أُولِي الأَلْبَابِ، جَامِعًا مَا تَفَرَّقَ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي هَذَا الكِتَابِ، مَعَ زِيَادَاتٍ مُحَقَّقَةٍ، وَإِفَادَاتٍ مُدَقَّقَةٍ، وَسَمَّيْتُهُ: إِتْحَافَ ذَوِي الأَلْبَابِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}. ¬
مقدمة في إثبات حقيقة القدر
مقدِّمة في إِثْبات حقيقة القدر اعْلَمْ - وَفَّقَكَ اللهُ تَعَالَى - أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الحَقِّ هُوَ الحَقُّ. وَمَذْهَبُهُمْ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدَّرَ مَقَادِيرَ الخَلْقِ وَمَا يَكُونُ مِنَ الأَشْيَاءِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ فِي الأَزَلِ، وَعَلِمَ - سُبْحَانَهُ - أَنَّهَا سَتَقَعُ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَهُ - تَعَالَى - وَعَلَى صِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ؛ فَهِيَ تَقَعُ عَلَى حَسَبِ مَا قَدَّرَهَا. وَخَالَفَتِ القَدَرِيَّةُ (¬1) فِي ذَلِكَ - وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى مَذْهَبِهِمْ (¬2) -؛ فَقَالُوا: إِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - لَمْ يُقَدِّرِ الأَشْيَاءَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عِلْمُهُ بِهَا، وَأَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةُ العِلْمِ؛ أَيْ: إِنَّمَا يَعْلَمُهَا - سُبْحَانَهُ - بَعْدَ وُقُوعِهَا (¬3). وَكَذَبُوا عَلَى اللهِ فِي قَوْلِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ، وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ بِالكِتَابِ ¬
وَالسُنَّةِ (¬1). أَمَّا الكِتَابُ: فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (¬2). وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (¬3). إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآيَاتِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ جَمَّةٌ فِي «البُخَارِيِّ» وَ «مُسْلِمٍ» - وَغَيْرِهِمَا -: فَفِي «مُسْلِمٍ»: عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ (¬4) - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ - تَعَالَى - مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ» (¬5)، وَفِي حَدِيثِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: «قَدَّرَ المَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ ¬
وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» (¬1). وَحَدِيثِ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ؛ حَتَّى العَجْزُ (¬2) وَالكَيْسُ» (¬3). وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللهِ مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالقَدَرِ، فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مُتَّ (¬4) عَلَى غَيْرِ هَذِهِ لَدَخَلْتَ النَّارَ» (¬5)، رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ - أَيْضًا - وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ¬
وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَحُذَيْفَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَفِي «مُسْلِمٍ» - أَيْضًا - حِينَ تَحَاجَّ (¬1) آدَمُ وَمُوسَى، وَفِيهِ: قَالَ آدَمُ لِمُوسَى: «أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟!» (¬2). وَفِي «مُسْلِمٍ» - أَيْضًا - مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَفِيهِ: قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ (¬3) إِلَّا وَكَتَبَ اللهُ مَكَانَهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ؟ فَقَالَ: «مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ» (¬4). وَرَوَى الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللهُ - عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ (¬5)، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ نَفْسٍ إِلَّا ¬
وَقَدْ كَتَبَ اللهُ مَخْرَجَهَا وَمَدْخَلَهَا (¬1) وَمَا هِيَ لَاقِيَةٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: فَفِيمَ العَمَلُ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ: «اعْمَلُوا؛ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُونَ (¬2) لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ، وَأَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ (¬3) لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ»، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: الآنَ حَقَّ (¬4) العَمَلُ (¬5). وَأَخْرَجَ البَزَّارُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: سَمِعْتُ ¬
رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «أَوَّلُ (¬1) مَا خَلَقَ اللهُ: القَلَمُ (¬2)، فَقَالَ: اجْرِ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» (¬3). ¬
قَالَ عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ (¬1): إِسْنَادُهُ حَسَنٌ (¬2). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ - وَصَحَّحَهُ - عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ: القَلَمُ، قَالَ لَهُ: اُكْتُبْ، قَالَ: يَا رَبِّ! وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اُكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ» (¬3). وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ: القَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأَبَدِ» (¬4). قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي زُرَارَةَ: وَهَذَا الحَدِيثُ مِنَ الصِّحَاحِ (¬5). وَفِي «تَفْسِيرِ مَكِّيٍّ» (¬6) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: خَلَقَ ¬
اللهُ النُّونَ (¬1) - وَهُوَ الدَّوَاةُ -، وَخَلَقَ القَلَمَ، فَقَالَ: اكْتُبْ، قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مِنْ عَمْلٍ مَعْمُولٍ - بِرٍّ أَوْ فُجُورٍ - وَرِزْقٍ مَقْسُومٍ - حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ -، ثُمَّ الْزَمْ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ شَأْنَهُ مِنْ دُخُولِهِ فِي الدُّنْيَا وَمُقَامِهِ (¬2) فِيهَا كَمْ هُوَ، وَخُرُوجِهِ مِنْهَا كَيْفَ (¬3). وَفِي «تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ» (¬4): قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَ اللهُ: القَلَمُ؛ مِنْ نُورٍ، طُولُهُ خَمْسُ مِئَةِ (¬5) عَامٍ (¬6)، فَقَالَ القَلَمُ: اِجْرِ، ¬
المسألة الأولى: في تفسير قوله - تعالى -: {يمحو الله ما يشاء ويثبت}
فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلٍ؛ بَرِّهَا (¬1) وَفَاجِرِهَا، وَرَطْبِهَا وَيَابِسِهَا» (¬2). فَثَبَتَ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بُطْلَانُ مَذْهَبِ القَدَرِيَّةِ - وَمَنْ وَافَقَهُمْ -. وَفِي الحَدِيثِ: «القَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ، إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ» (¬3). وَهَذَا أَوَانُ الشُّرُوعِ فِي المُرَادِ، وَعَلَى اللهِ الهِدَايَةُ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ. أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬4)؛ فَـ (المَحْوُ): ذَهَابُ أَثَرِ الكِتَابَةِ، يُقَالُ: (مَحَاهُ يَمْحُوهُ مَحْوًا)، إِذَا ذَهَبَ أَثَرُهُ، كَذَا فِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَادِلٍ» (¬5)، وَ (يُثْبِتُ) قَرَأَهُ أَبُو ¬
حجة القائلين بزيادة العمر ونقصه والمحو والإثبات
عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ بِالتَّخْفِيفِ، مِنْ (أَثْبَتَ)، وَقَرَأَهُ البَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ (¬1) وَأَبِي حَاتِمٍ (¬2) لِكَثْرَةِ مَنْ قَرَأَ بِهَا، وَلِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬3). وَمَفْعُولُ (يُثْبِتُ) مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: (وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ)، إِلَّا إِنَّهُ اسْتُغْنِيَ بِتَعْدِيَةِ الفِعْلِ الأَوَّلِ عَنْ تَعْدِيَةِ الثَّانِي (¬4)؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ -: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} ... (¬5). إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَذَهَبَ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ إِلَى أَنَّ العُمُرَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَكَذَا القَوْلُ فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَالإِيمَانِ وَالكُفْرِ؛ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ ¬
الشَّرِيفَةِ، وَبِهِ قَالَ الإِمَامُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو وَائِلٍ (¬1)، وَكَعْبُ الأَحْبَارِ (¬2)، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ (¬3) - وَغَيْرُهُمْ -. وَهُوَ قَوْلُ الكَلْبِيِّ (¬4)؛ فَإِنَّهُ قَالَ: يَمْحُو مِنَ الرِّزْقِ وَيَزِيدُ فِيهِ، وَيَمْحُو مِنَ الأَجَلِ وَيَزِيدُ فِيهِ. وَرَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬
قَالَ الإِمَامُ الفَخْرُ (¬1): «قَالُوا: إِنَّ اللهَ يَمْحُو مِنَ الرِّزْقِ وَيَزِيدُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ القَوْلُ فِي الأَجَلِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَالإِيمَانِ وَالكُفْرِ» (¬2). قَالَ: «وَالقَائِلُونَ بِهَذَا القَوْلِ كَانُوا يَدْعُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللهِ أَنْ يَجْعَلَهُمْ سُعَدَاءَ لَا أَشْقِيَاءَ». فَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ (¬3)، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كَانَ يَطُوفُ بِالبَيْتِ وَهُوَ يَبْكِي، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ فَأَثْبِتْنِي بِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أَهْلِ الشَّقَاوَةِ وَالذَّنْبِ فَامْحُنِي (¬4) وَأَثْبِتْنِي فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالمَغْفِرَةِ؛ فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الكِتَابِ (¬5). وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي السُّعَدَاءِ فَأَثْبِتْنِي فِيهِمْ، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي الأَشْقِيَاءِ فَامْحُنِي مِنَ الأَشْقِيَاءِ ¬
وَاكْتُبْنِي فِي السُّعَدَاءِ؛ فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ (¬1). وَكَانَ أَبُو وَائِلٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يُكْثِرُ أَنْ يَدْعُو: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا أَشْقِيَاءَ فَامْحُنَا وَاكْتُبْنَا سُعَدَاءَ، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا سُعَدَاءَ فَأَثْبِتْنَا؛ فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الكِتَابِ» (¬2). وَقَالَ كَعْبٌ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: لَوْلَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ لأَنْبَأْتُكَ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬3). وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي دَعَا لَهَا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا جَارِيَةٌ فَأَبْدِلْهَا غُلَامًا؛ فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ (¬4). وَحُجَّةُ القَائِلِينَ بِذَلِكَ: الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. فَأَمَّا الكِتَابُ فَهَذِهِ الآيَةُ الشَّرِيفَةُ. وَجْهُ الحُجَّةِ مِنْهَا أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. ¬
وَأَمَّا دَعْوَى التَّخْصِيصِ فَفِيهَا نَظَرٌ كَمَا يَأْتِي: فَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: يَمْحُو السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ، وَيَمْحُو الرِّزْقَ وَالأَجَلَ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ (¬1). وَفِي «تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ» (¬2) وَ «ابْنِ عَادِلٍ» (¬3): رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ اللهَ - سُبْحَانَهُ - يَفْتَحُ الذِّكْرَ فِي ثَلَاثِ سَاعَاتٍ يَبْقَيْنَ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَنْظُرُ فِي الكِتَابِ الَّذِي لَا يَنْظُرُ فِيهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ» (¬4). وَفِي «تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ» - وَغَيْرِهِ -: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ لِله لَوْحًا مَحْفُوظًا، مَسِيرَةَ (¬5) خَمْسِ مِئَةِ عَامٍ، مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، لَهُ دَفَّتَانِ (¬6) مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، لِلهِ فِيهِ كُلَّ (¬7) يَوْمٍ ثَلَاثُ مِئَةٍ وَسِتُّونَ نَظْرَةً، يُثْبِتُ مَا يَشَاءُ وَيَمْحُو مَا ¬
يَشَاءُ (¬1). وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: خَلَقَ اللهُ لَوْحًا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، قَلَمُهُ مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ، وَكِتَابُهُ نُورٌ، يَنْظُرُ اللهُ فِيهِ كَلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مِئَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيَرْفَعُ أَقْوَامًا وَيَخْفِضُ آخَرِينَ، وَيَحْكُمُ مَا يَشَاءُ، وَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (¬2). وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عُبَادٍ (¬3) - فِي اليَوْمِ العَاشِرِ مِنْ رَجَبٍ -: هُوَ اليَوْمُ الَّذِي يَمْحُو اللهُ فِيهِ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ (¬4). ¬
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُحْكِمُ اللهُ أَمْرَ السَّنَةِ فِي رَمَضَانَ، فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ (¬1). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللهَ يَقْضِي الأَقْضِيَةَ فِي لَيْلَةِ نِصْفِ شَعْبَانَ، وَيُسَلِّمُهَا لأَرْبَابِهَا فِي لَيْلَةِ القَدْرِ (¬2). وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي (سُورَةِ فَاطِرٍ): {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (¬3)؛ أَيْ: لَا يَطُولُ عُمُرُ إِنْسَانٍ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا وَهُوَ فِي كِتَابٍ؛ أَيْ: فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ. وَقَالَ كَعْبُ الأَحْبَارِ - حِينَ طُعِنَ عُمَرُ وَحَضَرَتْهُ الوَفَاةُ -: وَاللهِ لَوْ دَعَا اللهَ عُمَرُ أَنْ يُؤَخِّرَ أَجَلَهُ لأَخَّرَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (¬4)، فَقَالَ: (هَذَا إِذَا حَضَرَ الأَجَلُ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَيَجُوزُ أَنْ يُزَادَ وَيُنْقَصَ)، وَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ (¬5)، حَكَاهُ البَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ. ¬
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «وَقَدِ اسْتَفَاضَ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ: (أَطَالَ اللهُ عُمُرَكَ وَفَسَحَ فِي مُدَّتِكَ) - وَمَا أَشْبَهَهُ -» (¬1). وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي (سُورَةِ الأَنْعَامِ): {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} ... (¬2). فَثَبَتَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ لِلإِنْسَانِ أَجَلَيْنِ، وَتَأَوَّلَهَا حُكَمَاءُ الإِسْلَامِ - عَلَى مَا حَكَاهُ الإِمَامُ الفَخْرُ (¬3) - أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ أَجَلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الآجَالُ الطَّبِيعِيَّةُ. الثَّانِي: الآجَالُ الاخْتِرَامِيَّةُ (¬4). فَالآجَالُ الطَّبِيعِيَّةُ هِيَ الَّتِي لَوْ بَقِيَ المِزَاجُ مَصُونًا عَنِ العَوَارِضِ الخَارِجِيَّةِ - كَالغَرَقِ وَالحَرْقِ وَلَسْعِ الحَشَرَاتِ وَغَيْرِهَا - لانْتَهَتْ مُدَّةُ بَقَائِهِ إِلَى الأَوْقَاتِ الفَلَكِيَّةِ. ¬
وَالآجَالُ الاخْتِرَامِيَّةُ: هِيَ الَّتِي تَحْصُلُ بِسَبَبٍ مِنَ الأَسْبَابِ الخَارِجِيَّةِ - كَالغَرَقِ وَالحَرْقِ وَلَسْعِ الحَشَرَاتِ -. وَعَلَيْهِ: فَالعُمُرُ الطَّبِيعِيُّ: أَنْ يَمُوتَ الشَّخْصُ لَا بِعِلَّةٍ خَارِجِيَّةٍ (¬1). هَذَا احْتِجَاجُهُمْ مِنَ الكِتَابِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَاحْتَجُّوا مِنْهَا بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الخُلُقِ ¬
وَحُسْنُ الجِوَارِ يَعْمُرْنَ (¬1) الدِّيَارَ وَيَزِدْنَ فِي الأَعْمَارِ»، رَوَاهُ إِمَامُنَا أَحْمَدُ، وَالبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ (¬2). وَقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي العُمُرِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ» (¬3)، رَوَاهُ القُضَاعِيُّ (¬4) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ (¬5) لَهُ فِي أَثَرِهِ (¬6)؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» (¬7)، رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ (¬8): «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمُدَّ اللهُ فِي عُمُرِهِ وَأَجَلِهِ، وَيَبْسُطَ فِي ¬
رِزْقِهِ؛ فَلْيَتَّقِ اللهَ وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» (¬1). وَفِي آخَرَ: «صِلْ رَحِمَكَ؛ يُزَدْ فِي عُمُرِكَ» (¬2). وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ (¬3) عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ ¬
اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الصَّدَقَةُ عَلَى وَجْهِهَا (¬1)، وَبِرُّ الوَالِدَيْنِ، وَاصْطِنَاعُ المَعْرُوفِ: تُحَوِّلُ الشَّقَاءَ سَعَادَةً، وَتَزِيدُ فِي العُمُرِ، وَتَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ» (¬2). وَرَوَى الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللهُ - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الجَعْدِ، عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَزِيدُ فِي العُمُرِ إِلَّا البِرُّ، وَلَا يَرُدُّ القَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» (¬3). هَذَا حَاصِلُ اسْتِدْلَالِ مَنْ قَالَ بِزِيَادَةِ العُمُرِ وَنَقْصِهِ، وَالمَحْوِ وَالإِثْبَاتِ ¬
حجة القائلين بأن العمر لا يزيد ولا ينقص وأن المحو والإثبات ليس على عمومه
عَلَى سَبِيلِ العُمُومِ. وَذَهَبَ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ إِلَى أَنَّ العُمُرَ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَأَنَّ المُرَادَ بِالمَحْوِ وَالإِثْبَاتِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ العُمُومِ، وَبِهِ قَالَ الجُمْهُورُ، وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ (¬1) أَنَّهُ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ (¬2). وَاحْتَجُّوا - أَيْضًا - عَلَى ذَلِكَ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا الكِتَابُ؛ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} (¬3)، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (¬4)، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} (¬5). وَأَمَّا السُّنَّةُ؛ فَاحْتَجُّوا مِنْهَا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكًا، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: ¬
اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ (¬1) أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ ... » - الحَدِيثَ (¬2) -، رَوَاهُ السِّتَّةُ: البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ ¬
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ (¬1). وَقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَرَغَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَى كُلِّ عَبْدٍ مِنْ خَمْسٍ: مِنْ أَجَلِهِ، وَرِزْقِهِ، وَأَثَرِهِ، وَمَضْجَعِهِ، وَشَقِيٌّ (¬2) أَوْ سَعِيدٌ»، رَوَاهُ إِمَامُنَا أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - (¬3). وَقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فُرِغَ إِلَى ابْنِ آدَمَ مِنْ أَرْبَعٍ: الخَلْقِ وَالخُلُقِ (¬4) وَالرِّزْقِ وَالأَجَلِ»، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (¬5). وَحَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ؛ حَيْثُ قَالَتْ: اللَّهُمَ أَمْتِعْنِي بِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ، وَبِزَوْجِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ لَهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَقَدْ سَأَلْتِ اللهَ فِي آجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَا يُؤَخَّرُ ¬
مِنْهَا شَيْءٌ» (¬1). وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (¬2) بِعَدَمِ حَمْلِهَا عَلَى العُمُومِ؛ فَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ (¬3) وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالفَرَائِضِ فَيَنْسَخُهُ وَيُبَدِّلُهُ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ فَلَا يَنْسَخُهُ، وَجُمْلَةُ النَّاسِخِ وَالمَنسُوخِ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ. وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ: (المُرَادُ بِالمَحْوِ وَالإِثْبَاتِ: نَسْخُ الحُكْمِ المُتَقَدِّمِ بِحُكْمٍ آخَرَ بَدَلًا مِنَ الأَوَّلِ) (¬4)، وَنَحْوُهُ (¬5) ذَكَرَ النَّحَّاسُ (¬6) وَالمَهْدَوِيُّ (¬7) عَنِ ابْنِ ¬
عَبَّاسٍ (¬1). قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لأَنَّ القَلَمَ جَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ: الحُكْمُ، فَكَمَا جَازَ نَسْخُ الحُكْمِ وَإِثْبَاتُهُ فَكَذَلِكَ العُمْرُ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ (¬2) وَالضَّحَّاكُ (¬3): المُرَادُ بِالآيَةِ: مَحْوُ مَا فِي دِيوَانِ الحَفَظَةِ مَا لَيْسَ بِحَسَنَةٍ وَلَا سَيِّئَةٍ؛ لأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِكَتْبِ (¬4) كُلِّ مَا يَنْطِقُ بِهِ الإِنْسَانُ (¬5). قُلْتُ: هُوَ قَرِيبٌ؛ لَكِنَّ المُرَادَ لَا يَدْفَعُ الإِيرَادَ (¬6)، وَهُوَ تَخْصِيصٌ مِنْ ¬
غَيْرِ مُخَصِّصٍ (¬1). وَفِي لَفْظٍ آخَرَ عَنِ الضَّحَّاكِ: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ مِنْ دِيوَانِ الحَفَظَةِ مَا لَيْسَ فِيهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، وَيُثْبِتُ مَا فِيهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ (¬2). وَرَوَى مَعْنَاهُ: أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (¬3). وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَادِلٍ» (¬4): قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ (¬5): هُمَا كِتَابَانِ؛ كِتَابٌ سِوَى أُمِّ الكِتَابِ، يَمْحُو مِنْهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، وَأُمُّ الكِتَابِ لَا يُغَيَّرُ مِنْهُ شَيْءٌ (¬6). ¬
وَسُئِلَ الكَلْبِيُّ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ، فَقَالَ: يُكْتَبُ القَوْلُ كُلُّهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الخَمْيِسِ طُرِحَ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ؛ مِثْلُ قَوْلِكَ: أَكَلْتُ وَشَرِبْتُ وَدَخَلْتُ وَخَرَجْتُ - وَنَحْوِهِ - وَهُوَ صَادِقٌ، وَيُثْبِتُ مَا فِيهِ الثَّوَابُ وَالعِقَابُ (¬1). وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - أَيْضًا -: يَغْفِرُ مَا يَشَاءُ مِنْ ذُنُوبِ عِبَادِهِ، وَيَتْرُكُ مَا يَشَاءُ فَلَا يَغْفِرُهُ (¬2). وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَمْحُو مَا يَشَاءُ - يَعْنِي بِالتَّوبَةِ - جَمِيعَ الذُّنُوبِ، وَيُثْبِتُ بَدَلَ الذُّنُوبِ حَسَنَاتٍ؛ {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ... } (¬3) - الآيَةَ -. وَعَنْهُ - أَيْضًا -: يَمْحُو الآبَاءَ وَيُثْبِتُ الأَبْنَاءَ (¬4). ¬
وَقَالَ السُّدِّيُّ (¬1): {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} يَعْنِي القَمَرَ، {وَيُثْبِتُ} يَعْنِي الشَّمْسَ، بَيَانُهُ: قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} (¬2). وَقَالَ الحَسَنُ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ}: مَنْ جَاءَ أَجَلُهُ، {وَيُثْبِتُ}: مَنْ لَمْ يَأْتِ أَجَلُهُ (¬3). وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ (¬4): هَذَا فِي الأَرْوَاحِ حَالَةَ (¬5) النَّوْمِ يَقْبِضُهَا، فَمَنْ أَرَادَ مَوْتَهُ فَجْأَةً أَمْسَكَهُ (¬6)، وَمَنْ أَرَادَ إِبْقَاءَهُ أَثْبَتَهُ وَرَدَّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، بَيَانُهُ: ¬
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ... } (¬1) - الآيَةَ - (¬2). وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ مِنَ القُرُونِ؛ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} (¬3)، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ مِنْهَا؛ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} (¬4)، فَيَمْحُو قَرْنًا وَيُثْبِتُ قَرْنًا (¬5). وَقِيلَ: هُوَ الرَّجُلُ يَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِطَاعَةِ اللهِ، ثُمَّ يَعْمَلُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَيَمُوتُ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَهَذَا الَّذِي يَمْحُو، وَالَّذِيَ يُثْبِتُ: الرَّجُلُ يَعْمَلُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ ثُمَّ يَتُوبُ، فَيَمْحُوهُ اللهُ مِنْ دِيوَانِ السَّيِّئَاتِ وَيُثْبِتُهُ فِي دِيوَانِ الحَسَنَاتِ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ وَالمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ عَادِلٍ (¬6) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (¬7). وَقِيلَ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} يَعْنِي: الدُّنْيَا، {وَيُثْبِتُ} الآخِرَةَ (¬8). ¬
قُلْتُ: وَفِي هَذِهِ الأَجْوِبَةِ كُلِّهَا نَظَرٌ لِمَا مَرَّ، وَلأَنَّهُ تَخْصِيصٌ مِنْ غَيْرِ مُخَصِّصٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ إِلَّا السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ» (¬1). وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُحْكِمُ اللهُ أَمْرَ السَّنَةِ فِي رَمَضَانَ، فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ؛ إِلَّا الحَيَاةَ وَالمَوْتَ وَالسَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ (¬2). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ؛ إِلَّا سِتًّا: الخَلْقَ وَالخُلُقَ، وَالرِّزْقَ وَالأَجَلَ، وَالسَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ (¬3). وَعَنْهُ: هُمَا كِتَابَانِ سِوَى أُمِّ الكِتَابِ، يَمْحُو مِنْهَا مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ مِنْهُ شَيْءٌ (¬4). ¬
وَقَالَ القُشَيْرِيُّ (¬1): وَقِيلَ: السَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ وَالخَلْقُ وَالخُلُقُ وَالرِّزْقُ لَا تَتغَيَّرُ، فَالآيَةُ فِيمَا عَدَا هَذِهِ الأَشْيَاءَ (¬2). قُلْتُ: وَفِي هَذِهِ الأَجْوِبَةِ - أَيْضًا - نَظَرٌ ظَاهِرٌ. ثُمَّ رَأَيْتُ القُرْطُبِيَّ قَالَ فِي «تَفْسِيرِهِ»: «وَفِي هَذَا القَوْلِ نَوْعُ تَحَكُّمٍ»، قَالَ: «وَمِثْلُ هَذَا لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ وَلَا بِالاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ تَوْقِيفًا، فَإِنْ صَحَّ فَالقَوْلُ بِهِ يَجِبُ، وَيُوقَفُ عِنْدَهُ، وَإِلَّا فَتَكُونُ الآيَةُ عَامَّةً فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ، وَهُوَ الأَظْهَرُ» (¬3). وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ... } (¬4) - الآيَةَ - بِأَنَّ المُرَادَ بِالعُمُرِ: الطَّوِيلُ العُمُرِ، وَالمُرَادَ بِالنَّاقِصِ: قَصِيرُ العُمُرِ، وَالمَعْنَى: كُلُّ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ أَوْ قَصُرَ فَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي الكِتَابِ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: «النَّقْصُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا القُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الإِضَافَةِ»، قَالَ: «[وَبِالضَّرُورَةِ عَلِمْنَا أَنَّ مَنْ عُمِّرَ مِئَةَ عَامٍ وَعُمِّرَ آخَرَ ثَمَانِينَ ¬
عَامًا؛ فَإِنَّ الَّذِي عُمِّرَ ثَمَانِينَ عَامًا نَقَّصَ مِنْ عَدَدِ عُمُرِ الآخَرِ عِشْرِينَ عَامًا] (¬1)، فَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الآيَةِ وَمُقْتَضَاهَا عَلَى الحَقِيقَةِ». وَفِي الضَّمِيرِ مِنْ (عُمُرِهِ) قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى (مُعَمَّرٍ) (¬2) - لَفْظًا وَمَعْنًى -، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ (¬3) وَابْنُ جُبَيْرٍ (¬4) وَأَبُو مَالِكٍ (¬5). الثَّانِي: أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى مُعَمَّرٍ آخَرَ، حَكَاهُ ابْنُ عَادِلٍ فِي «تَفْسِيرِهِ» (¬6). وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ إِلَّا كُتِبَ ¬
عُمْرُهُ كَمْ هُوَ سَنَةً، كَمْ هُوَ شَهْرًا، كَمْ هُوَ يَوْمًا، كَمْ هُوَ سَاعَةً، ثُمَّ يُكْتَبُ فِي كِتَابٍ آخَرَ: نَقَصَ مِنْ عُمُرِهِ يَوْمٌ، نَقَصَ مِنْ عُمُرِهِ شَهْرٌ، نَقَصَ مِنْ عُمُرِهِ سَنَةٌ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ أَجَلَهُ (¬1). وَقَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ: فَمَا مَضَى مِنْ أَجَلِهِ فَهُوَ النُّقْصَانُ، وَمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ عُمُرِهِ فَهُوَ الَّذِي يُعَمَّرُهُ، فَالهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى هَذَا المُعَمَّرِ (¬2). وَعَنْ سَعِيدٍ - أَيْضًا -: يُكْتَبُ: (عُمْرُهُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً)، ثُمَّ يُكْتَبُ أَسْفَلَ ذَلِكَ: (ذَهَبَ يَوْمٌ، ذَهَبَ يَوْمَانِ، ذَهَبَ ثَلَاثَةٌ ... )، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى آخِرِهِ، حَكَاهُ القُرْطُبِيُّ وَالبَغَوِيُّ (¬3). وَمَذْهَبُ الفَرَّاءِ فِي مَعْنَى {وَمَا يُعَمَّرُ}؛ أَيْ: مَا [يُطَوَّلُ] (¬4) مِنْ عُمُرِهِ، {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} بِمَعْنَى: مُعَمَّرٍ آخَرَ؛ أَيْ: وَلَا يُنْقَصُ الآخَرُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ، فَالكِنَايَةُ فِي {عُمُرِهِ} تَرْجِعُ إِلَى آخَرَ غَيْرِ الأَوَّلِ، وَكَنَى عَنْهُ بِالهَاءِ كَأَنَّهُ الأَوَّلُ؛ لأَنَّ لَفْظَ الثَّانِي لَوْ ظَهَرَ كَانَ كَالأَوَّلِ، وَمِثْلُهُ: قَوْلُكُ: (عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ)؛ أَيْ: نِصْفٌ آخَرُ (¬5). ¬
وَقِيلَ: المَعْنَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ}؛ أَيْ: هَرِمَ، {وَلَا يُنْقَصُ} آخَرُ مِنْ عُمُرِ ذَلِكَ الهَرِمِ {إِلَّا فِي كِتَابٍ}؛ أَيْ: بِقَضَاءٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ الضَّحَّاكِ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ (¬1)، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ القُرْطُبِيُّ: «فَالهَاءُ - عَلَى هَذَا - يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْمُعَمَّرِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِ المُعَمَّرِ» (¬2). وَعَنْ قَتَادَةَ: (المُعَمَّرُ): مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً، وَالمَنْقُوصُ مِنْ عُمُرِهِ: مَنْ يَمُوتُ قَبْلَ سِتِّينَ سَنَةً (¬3). وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} (¬4) بِأَنَّ المُرَادَ بِالأَجْلِ الأَوَّلِ: أَجَلُ المَاضِينَ، وَبِالأَجَلِ الثَّانِي: أَجَلُ البَاقِينَ (¬5). ¬
وَقِيلَ: المُرَادُ بِالأَوَّلِ: أَجَلُ المَوْتِ، وَبِالثَّانِي: أَجَلُ الحَيَاةِ فِي الآخِرَةِ؛ لأَنَّهُ لاَ آخِرَ لَهَا وَلَا انْقِضَاءَ (¬1). وَقِيلَ: إِنَّ الأَجَلَ الأَوَّلَ هُوَ مَا بَيْنَ خَلْقِ الإِنْسَانِ إِلَى مَوْتِهِ، وَالثَّانِي: مَا بَيْنَ مَوْتِهِ إِلَى بَعْثِهِ (¬2). وَقِيلَ: إِنَّ الأَجَلَ الأَوَّلَ هُوَ النَّوْمُ، وَالثَّانِي هُوَ الوَفَاةُ (¬3). وَقِيلَ: إِنَّ الأَوَّلَ: مَا انْقَضَى مِنْ عُمُرِ كُلِّ وَاحِدٍ، وَالثَّانِي: مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِ كُلِّ وَاحِدٍ (¬4). ¬
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {أَجَلًا} فِي المَوْتِ، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}؛ أَيْ: أَجَلُ القِيَامَةِ (¬1). قَالَ القُرْطُبِيُّ: «فَالمَعْنَى عَلَى هَذَا: حَكَمَ (¬2) أَجَلًا، وَأَعْلَمَكُمْ أَنَّكُمْ تُقِيمُونَ إِلَى المَوْتِ، وَلَمْ يُعْلِمْكُمْ بِأَجَلِ القِيَامَةِ» (¬3). وَفِي «الوَسِيطِ» - تَفْسِيرِ الوَاحِدِيِّ (¬4) -: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} يَعْنِي: أَجَلَ الحَيَاةِ إِلَى المَوْتِ، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} يَعْنِي: أَجَلَ المَوْتِ إِلَى البَعْثِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ (¬5). قَالَ: «وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ (¬6) وَقَتَادَةَ ¬
وَالضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ» (¬1). وَقَالَ الحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ - وَهَذَا لَفْظُ الحَسَنِ -: قَضَى أَجَلَ الدُّنْيَا مِنْ يَوْمِ خَلَقَكَ إِلَى أَنْ تَمُوتَ، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} يَعْنِي: الآخِرَةَ (¬2). وَقِيلَ: {قَضَى أَجَلًا}: مَا نَعْرِفُهُ مِنْ أَوْقَاتِ الأَهِلَّةِ وَالزُّرُوعِ وَمَا أَشْبَهَهَا، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى}: أَجَلُ المَوْتِ، لَا يَعْلَمُ الإِنْسَانُ مَتَى يَمُوتُ (¬3). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: {قَضَى أَجَلًا} بِقَضَاءِ الدُّنْيَا، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} لابْتِدَاءِ الآخِرَةِ (¬4). وَقَالَ الإِمَامُ ابْنُ حَزْمٍ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي «المِلَلِ وَالنِّحَلِ»: «وَهَذِهِ الآيَةُ ¬
حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ»؛ أَيْ: عَلَى القَائِلِينَ بِزِيَادَةِ العُمُرِ وَنَقْصِهِ. قَالَ: «لأَنَّهُ - تَعَالَى - نَصَّ عَلَى أَنَّهُ قَضَى أَجَلًا، وَلَمْ يَقُلْ لِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، لَكِنْ عَلَى الجُمْلَةِ، ثُمَّ قَالَ - تَعَالى -: {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}، فَهَذَا الأَجَلُ المُسَمَّى عِنْدَهُ - عَزَّ وَجَلَّ - هُوَ الأَجَلُ الَّذِي قَضَى نَفْسُهُ - بِلَا شَكٍّ -؛ إِذْ لَوْ كَانَ غَيْرَهُ لَكَانَ أَحَدُهُمَا لَيْسَ أَجَلًا إِذَا أَمْكَنَ التَّقْصِيرُ عَنْهُ أَوْ مُجَاوَزَتُهُ [وَلَكَانَ الْبَارِي - تَعَالَى - مُبْطِلًا إِذْ سَمَّاهُ أَجَلًا، وَهَذَا كُفْرٌ لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ] (¬1)، وَأَجَلُ الشَّيْءِ - فِي اللُّغَةِ - هُوَ مِيعَادُهُ (¬2) الَّذِي لَا يَتَعَدَّاهُ، وَإِلَّا فَلَا يُسَمَّى أَجَلًا الْبَتَّةَ (¬3)، وَلَمْ يَقُلْ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنَّ الأَجَلَ المُسَمَّى عِنْدَهُ هُوَ غَيْرُ الأَجَلِ الَّذِي قَضَى، فَأَجَلُ كُلِّ شَيْءٍ مُنْتَهَاهُ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (¬4)، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} (¬5)» (¬6). ¬
وَعَلَى هَذَا: فَأَجَلُ الثَّانِي خَبَرٌ لِمُضْمَرٍ مَحْذُوفٍ يَرْجِعُ لِلأَوَّلِ، وَالتَّقْدِيرُ: (وَهُوَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ)، فَالأَجَلَانِ شَيْءٌ وَاحِدٌ (¬1). وَفِي «تَفْسِيرِ الخَازِنِ» (¬2): «وَقِيلَ: هُمَا وَاحِدٌ، وَمَعْنَاهُ: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} يَعْنِي: قَدَّرَ مُدَّةً لِأَعْمَارِكُمْ تَنْتَهُونَ إِلَيْهَا، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} يَعْنِي: أَنَّ ذَلِكَ الأَجَلَ مُسَمًّى عِنْدَهُ، لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ، وَالمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {عِنْدَهُ}: يَعْنِي: فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ الَّذِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ». وَأَجَابُوا عَنْ أَحَادِيثِ: «صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي العُمُرِ» (¬3) - وَنَحْوِهَا (¬4) - بِأَجْوِبَةٍ: ¬
فَقِيلَ: المُرَادُ بِالزِّيَادَةِ فِي العُمُرِ: السَّعَةُ (¬1) فِي الرِّزْقِ وَاليَسَارُ وَالزِّيَادَةُ فِيهِ؛ لأَنَّ الفَقْرَ مَوْتٌ؛ كَمَا فِي الآثَارِ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَعْلَمَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنَّهُ يُمَوِّتُ عَدُوَّهُ، ثُمَّ رَآهُ - بَعْدَ ذَلِكَ - يَنْسِجُ الخُوصَ (¬2)، فَقَالَ: يَا رَبِّ! وَعَدْتَنِي أَنْ تُمِيتَهُ! قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ؛ لأَنِّي أَفْقَرْتُهُ (¬3). قُلْتُ: وَفِي هَذَا الجَوَابِ نَظَرٌ؛ لأَنَّ السَّعَةَ فِي الرِّزْقِ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ فِي الأَزَلِ - كَالعُمُرِ -. وَقِيلَ: المُرَادُ بِالزِّيَادَةِ فِي العُمُرِ: نَفْيُ الآفَاتِ عَنْهُمْ، وَالزِّيَادَةُ فِي أَفْهَامِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَبَصَائِرِهِمْ. وَفِي «تَفْسِيرِ الخَازِنِ»: «وَأَجَابَ العُلَمَاءُ عَمَّا وَرَدَ فِي الحَدِيثِ: «صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي العُمُرِ» (¬4) بِأَجْوِبَةٍ، الصَّحِيحُ مِنْهَا: أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ تَكُونُ بِالبَرَكَةِ فِي عُمُرِهِ بِالتَّوْفِيقِ لِلطَّاعَاتِ، وَعِمَارَةِ أَوْقَاتِهِ، وَصِيَانَتِهَا عَنِ الضَّيَاعِ - وَغَيْرِ ذَلِكَ -» (¬5). ¬
قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ - لِمَا مَرَّ -. وَقِيلَ لابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَرَوَى الحَدِيثَ الصَّحِيحَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمُدَّ اللهُ فِي عُمُرِهِ وَأَجَلِهِ وَيَبْسُطَ فِي رِزْقِهِ؛ فَلْيَتَّقِ اللهَ وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» (¬1): كَيْفَ يُزَادُ فِي العُمُرِ؟ فَقَالَ: قَالَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} (¬2)، فَالأَجَلُ الأَوَّلُ: أَجَلُ العَبْدِ مِنْ حِينِ وِلَادَتِهِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ، وَالأَجَلُ المُسَمَّى عِنْدَهُ: مِنْ حِينِ وَفَاتِهِ إِلَى يَوْمِ لِقَائِهِ فِي البَرْزَخِ، لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا اتَّقَى العَبْدُ رَبَّهُ وَوَصَلَ رَحِمَهُ زَادَ اللهُ فِي أَجَلِ عُمُرِهِ الأَوَّلِ مِنْ أَجَلِ البَرْزَخِ مَا شَاءَ، وَإِذَا قَطَعَ رَحِمَهُ وَعَصَى نَقَّصَ اللهُ مِنْ أَجَلِهِ فِي الدُّنْيَا مَا شَاءَ، فَيَزِيدُهُ فِي أَجَلِ البَرْزَخِ، فَإِذَا انْحَتَمَ (¬3) الأَجَلُ فِي عِلْمِهِ السَّابِقِ امْتَنَعَ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ؛ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (¬4). ¬
قَالَ القُرْطُبِيُّ: «فَتَوَافَقَ الخَبَرُ وَالآيَةُ، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ فِي نَفْسِ العُمُرِ وَذَاتِ الأَجَلِ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ فِي اخْتِيَارِ حَبْرِ الأُمَّةِ - وَاللهُ أَعْلَمُ -» (¬1). وَعِبَارَةُ الوَاحِدِيِّ فِي «الوَسِيطِ»: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَضَى لِكُلِّ شَخْصٍ أَجَلَيْنِ: مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مَوْتِهِ، وَمِنْ مَوْتِهِ إِلَى مَبْعَثِهِ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا وَاصِلًا لِرَحِمِهِ؛ زَادَ اللهُ فِي أَجَلِ الحَيَاةِ مِنْ أَجَلِ المَمَاتِ إِلَى المَبْعَثِ، وَإِذَا كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ وَلَا وَاصِلٍ (¬2) لِلرَّحِمِ نَقَصَهُ اللهُ مِنْ أَجَلِ الحَيَاةِ وَزَادَ فِي أَجَلِ المَبْعَثِ، قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (¬3)» (¬4). وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَظْهَرُ لِلْمَلَائِكَةِ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، فَيَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّ عُمَرَ زَيْدٍ - مَثَلًا - سِتُّونِ سَنَةً إِلَّا أَنْ يَصِلَ رَحِمَهُ، فَإِنْ وَصَلَهَا (¬5) زِيدَ لَهُ أَرْبَعُونَ، وَقَدْ عَلِمَ اللهُ مَا سَيَقَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا أَزَلِيًّا، حَكَاهُ الخَازِنُ فِي «تَفْسِيرِهِ» (¬6). ¬
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «يُكْتَبُ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ: إِنْ حَجَّ فُلَانٌ وَلَمْ يَغْزُ فَعُمُرُهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَإِنْ حَجَّ وَغَزَا فَعُمُرُهُ سِتُّونَ سَنَةً، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ بَلَغَ السِّتِّينَ وَقَدْ عُمِّرَ، وَإِذَا أَفْرَدَ أَحَدَهُمَا عَنِ الآخَرِ فَلَا يُجَاوِزُ الأَرْبَعِينَ؛ فَقَدْ نُقِصَ مِنْ عُمُرِهِ الَّذِي هُوَ الغَايَةُ - وَهُوَ السِّتُّونَ -» (¬1). قَالَ: «وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ قَالَ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ وَالصِّلَةَ (¬2) يَعْمُرانِ (¬3) الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الأَعْمَارِ»» (¬4). وَقَالَ الحَافِظُ الجَلَالُ السُّيُوطِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: «قَدْ تَظَاهَرَتِ الأَحَادِيثُ وَالآثَارُ عِنْدِي عَلَى زِيَادَةِ العُمْرِ وَنَقْصِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ أَوْ بُرِّزَ (¬5) إِلَى المَلَائِكَةِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَلِمَ اللهُ - تَعَالَى -؛ ¬
نقض المصنف لبعض الأقوال في المسألة
فَإِنَّ عِلْمَهُ أَزَلِيٌّ لَا يَتَغَيَّرُ، وَالأَشْيَاءُ كُلُّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى وَفْقِ (¬1) عِلْمِهِ فِي الأَزَلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ». قُلْتُ: هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ الفَرِيقَيْنِ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ وَمَا قَالُوهُ مِنْ دَلِيلٍ وَتَعْلِيلٍ، غَيْرَ أَنَّهَا كُلُّهَا (¬2) - عِنْدِي - لَا تَشْفِي العَلِيلَ وَلَا تُرْوِي الغَلِيلَ. وَكَلَامُ الحَافِظِ السُّيُوطِيِّ مُسَلَّمٌ فِي قَوْلِهِ: «إِنَّ عِلْمَ اللهِ أَزَلِيٌّ لَا يَتَغَيَّرُ ... » - إِلخ - (¬3)، بَلْ لَا تَحِلُّ مُخَالَفَتُهُ، وَإِلَّا انْقَلَبَ العِلْمُ جَهْلًا. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: «لَا يَكُونُ أَلْبَتَّةَ إِلَّا مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ - تَعَالَى - أَنَّهُ سَيَكُونُ» (¬4). وَقَوْلُ السُّيُوطِيِّ أَنَّ (زِيَادَةَ العُمْرِ وَنَقْصَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ أَوْ بُرِّزَ إِلَى المَلَائِكَةِ)؛ فَأَنَا أُسَلِّمُهُ - أَيْضًا - عَلَى مَا فِيهِ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِالجَوَابِ الدَّافِعِ لِلإِشْكَالِ عَمَّا وَرَدَ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَالتَّغْيِيرِ ¬
وَالتَّبْدِيلِ بِالمَحْوِ وَالإِثْبَاتِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ. قُلْتُ: وَعَلَى تَسْلِيمِ وُقُوعِ المَحْوِ وَالإِثْبَاتِ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ؛ فَفِيهِ عِنْدِي إِشْكَالاَنِ لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُمَا وَلَا لِلْجَوَابِ عَنْهُمَا: الأَوَّلُ: أَنَّ اللَّوْحَ المَحْفُوظَ مَحْفُوظٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَمِنْ أَنْ يُغَيَّرَ وَيُبَدَّلَ. وَلَعَلَّ الجَوَابَ: أَنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ صَوْنِهِ وَحِفْظِهِ مِنْ أَنْ يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ خَلَلٌ أَوْ فَسَادٌ مِنْ أَحَدٍ مِنَ المَخْلُوقَاتِ؛ بَلِ اللهُ هُوَ يَمْحُو وَيُثْبِتُ، أَلَا تَرَاهُ أَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} وَإِلَّا فَهَذَا - أَيْضًا - يَرِدُ عَلَى مَنْ قَالَ: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ؛ إِلَّا السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ وَنَحْوَهُمَا. الثَّانِي: أَنَّهُ يَرُدُّ القَوْلَ بِالمَحْوِ وَالإِثْبَاتِ: مَا مَرَّ نَقْلُهُ مِنَ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمَّا خَلَقَ القَلَمَ كَتَبَ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَالمُثْبَتُ بَعْدَ المَحْوِ لَمْ يُكْتَبْ إِلَّا بَعْدَ المَحْوِ، فَيَلْزَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ مُقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ - حِينَئِذٍ -، وَذَلِكَ فَاسِدٌ. قُلْتُ: هُوَ قَوِيٌّ، وَلَعَلَّ جَوَابَهُ: أَنَّ المُثْبَتَ بَعْدَ المَحْوِ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِ، وَلَكِنَّ اللهَ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ المَلائِكَةَ إِلَّا بَعْدَ إِثْبَاتِهِ، فَعَلَى هَذَا فَالمَحْوُ وَالإِثْبَاتُ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ مَا يَظْهَرُ لِلْمَلَائِكَةِ بِحَسَبِ مَا يَتَرَاءَى لَهُمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ لَهُمْ عِبْرَةً تَامَّةً وَحِكْمَةً بَالِغَةً مِنْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ المُتَصَرِّفُ فِي العَالَمِ التَّصَرُّفَ العَامَّ المُطْلَقَ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.
ترجيح المصنف في المسألة
وَيُؤِيِّدُ هَذَا: مَا ذَكَرَ الإِمَامُ الفَخْرُ - وَغَيْرُهُ - فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ... (¬1) أَنَّ مِنْ فَوَائِدِ هَذَا الكِتَابِ: «أَنَّهُ - تَعَالَى - إِنَّمَا كَتَبَ هَذِهِ الأَحْوَالَ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ لِتَقِفَ المَلَائِكَةُ عَلَى إِنْفَاذِ (¬2) عِلْمِ اللهِ - تَعَالَى - فِي المَعْلُومَاتِ، وَأَنَّهُ لَا يَغِيبُ عَنْهُ مِمَّا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْءٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عِبْرَةً تَامَّةً لِلْمَلَائِكَةِ المُوَكَّلِينَ بِاللَّوْحِ؛ لأَنَّهُمْ يُقَابِلُونَ بِهِ مَا يَحْدُثُ فِي هَذَا العَالَمِ، فَيَجِدُونَهُ مَوَافِقًا لَهُ» (¬3). قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي - وَهُوَ الحَقُّ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى -: أَنَّ القَوْلَ بِوُقُوعِ الإِثْبَاتِ الآنَ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ لَا يُقَالُ بِهِ؛ لأَنَّ كِتَابَةَ المَقَادِيرِ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ وَتَمَّ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (¬4). وَأَمَّا القَوْلُ بِمَحْوِ الكِتَابَةِ الآنَ مِنَ اللَّوْحِ فَلَا يَنْبَغِي القَوْلُ بِهِ - أَيْضًا -؛ ¬
إِذْ لَا مَعْنَى لِمَحْوِهَا مِنْهُ يَقْتَضِي كَبِيرَ فَائِدَةٍ. فَإِنْ قُلْتَ: عَلَامَ (¬1) تَحْمِلُ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}؟ وَهَلْ هُوَ عَلَى العُمُومِ وَالخُصُوصِ؟ قُلْتُ: هُوَ عَلَى العُمُومِ فِيمَا يَشَاؤُهُ - تَعَالَى - مِنْ سَعَادَةٍ وَشَقَاوَةٍ وَرِزْقٍ وَأَجَلٍ - وَغَيْرِ ذَلِكَ - كَمَا هُوَ ظَاهِرُ إِطْلَاقِ الآيَةِ، لَكِنَّ المَحْوَ وَالإِثْبَاتَ لَا يُحْمَلُ عَلَى نَفْسِ الكِتَابَةِ الَّتِي فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ؛ بَلْ فِي مُتَعَلَّقِ الكِتَابَةِ الَّتِي فِي الخَارِجِ مِنَ المَوْجُودَاتِ؛ فَإِنَّ المَحْوَ تَارَةً (¬2) يُرَادُ بِهِ ذَهَابُ أَثَرِ الكِتَابَةِ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادًا فِي اللَّوْحِ، وَتَارَةً يُرَادُ بِالمَحْوِ مُطْلَقُ الإِزَالَةِ وَالتَّغْيِيرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ المُرَادُ هُنَا، وَذَلِكَ مَشْهُورٌ فِي اللُّغَةِ، شَائِعٌ بِكَثْرَةٍ؛ قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} (¬3)، وَقَالَ الشَّاعِرُ (¬4): مَحَا حُبُّهَا حُبَّ الأُلَى كُنَّ قَبْلَهَا ... . . . . . . . . . . . . وَيُقَالُ: مَحَتِ الرِّيَاحُ رُسُومَ (¬5) الدَّارِ. ¬
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: يَمْحُو مَا يَشَاءُ مِنَ القُرُونِ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ مِنْهَا (¬1). فَهَذَا المَحْوُ - لُغَةً - يُطْلَقُ عَلَى الإِزَالَةِ وَالتَّغْيِيرِ. وَحَيْثُ عَلِمْتَ هَذَا؛ فَكُلُّ شَيْءٍ تَغَيَّرَ مِنْ حَالٍ وَثَبَتَ عَلَى حَالٍ أُخْرَى يُقَالُ فِيهِ: مَحْوٌ وَإِثْبَاتٌ. وَحِينَئِذٍ تَعْرِفُ عُمُومَ الآيَةِ وَمَا المُرَادُ بِالمَحْوِ وَالإِثْبَاتِ، وَأَنَّهُمَا لَا يَقَعَانِ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ بِاعْتِبَارِ الكِتَابَةِ؛ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّ القَلَمَ جَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ؛ قَالَ - سُبْحَانَهُ -: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬2)؛ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ -: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (¬3). فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ إِثْبَاتُ شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ فِي اللَّوْحِ إِلَّا إِنْ أُرِيدَ بِإِثْبَاتِهِ دَوَامُهُ وَاسْتِمْرَارُهُ؟! وَهَذَا خِلَافُ المُتَبَادَرِ مِنَ الآيَةِ، وَلَا كَبِيرَ فَائِدَةٍ فِيهِ بِهَذَا الاعْتِبَارِ؛ بَلِ المَحْوُ وَالإِثْبَاتُ وَالتَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ جَارٍ فِي مُتَعَلَّقِ الكِتَابَةِ - كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ -؛ فَإِنَّ الحُبَّ يُوجَدُ فِي الشَّخْصِ ثُمَّ يُمْحَى وَتُثْبَتُ البَغْضَاءُ، ¬
وَاليَسَارَ (¬1) ثُمَّ الإِعْسَارَ وَعَكْسَهُ، وَالكُفْرَ ثُمَّ الإِسْلَامَ وَعَكْسَهُ، - وَهَلُمَّ جَرًّا (¬2) -. وَتَغَيُّرُ الإِنْسَانِ مِنْ حَالٍ وَإِثْبَاتُ حَالَةٍ أُخْرَى لَهُ - بَلْ وَتَغَيُّرُ سَائِرِ العَالَمِ -: مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ المُشَاهَدَةِ، وَالإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى الدُّعَاءِ بِمَحْوِ المَعْصِيَةِ وَزَوَالِهَا عَنِ المُرَائِي وَإِثْبَاتِ الطَّاعَةِ لَهُ، وَمَحْوِ المَرَضِ وَإِثْبَاتِ الصِّحَّةِ، وَمَحْوِ الجَهْلِ وَإِثْبَاتِ العِلْمِ. وَأَمَّا عِلْمُ اللهِ - تَعَالَى - فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ أَصْلًا، وَمَعَاذَ (¬3) اللهِ أَنْ يَكْتُبَ فِي اللَّوْحِ خِلَافَ مَا عَلِمَ، فَثَبَتَ أَنَّ التَّغَيُّرَ وَالمَحْوَ وَالإِثْبَاتَ إِنَّمَا هُوَ فِي المَعْلُومِ عَلَى حَسَبِ مَا عَلِمَهُ - تَعَالَى -. فَتَأَمَّلْ - أَيَّدَكَ اللهُ - مَا لَمْ أَخَلْ (¬4) أَنَّكَ تَرَاهُ مَسْطُورًا فِي كِتَابٍ - وَاللهُ تَعَالَى المَسْؤُولُ فِي التَّوْفِيقِ لِلصَّوَابِ -، وَتَسْتَرِيحُ مِنْ خِلَافِيَّاتٍ وَقَعَتْ فِي أَلْفَاظِ المُفَسِّرِينَ، لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهَا عَمَّا حَقَّقْنَاهُ، وَلَا يُمْكِنُ العُدُولُ عَنْهُ، وَيَكَادُ أَنْ يَكُونَ الخِلَافُ لَفْظِيًّا؛ فَإِنَّهُ لَا يَسَعُ أَحَدًا إِنْكَارُ المَحْوِ وَالإِثْبَاتِ فِي العَالَمِ بِاعْتِبَارِ تَغْيِيرِهِ وَتَبَدُّلِهِ، وَلَا أَنْ يَقُولَ بِتَغَيُّرِ عِلْمِ اللهِ - تَعَالَى -، فَيَكُونَ ¬
المسألة الثانية: في تفسير قوله - تعالى -: {وعنده أم الكتاب}
ذَلِكَ هُوَ البَدَاءَ (¬1) وَالجَهْلَ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الرَّافِضَةِ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: (إِنَّ البَدَاءَ جَائِزٌ عَلَى اللهِ - تَعَالَى -)، وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ شَيْئًا ثُمَّ يَظْهَرَ لَهُ خِلَافُ مَا اعْتَقَدَهُ - تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ -، فَتَأَمَّلْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}؛ أَيْ: أَصْلُ الكِتَابِ؛ لأَنَّ الأُمَّ أَصْلُ الشَّيْءِ، وَالعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَا يَجْرِي مَجْرَى الأَصْلِ لِلشَّيْءِ أُمًّا لَهُ، وَمِنْهُ: (أُمُّ الرَّأْسِ) لِلدِّمَاغِ، وَ (أُمُّ القُرَى) لِمَكَّةَ، وَكُلُّ مَدِينَةٍ فَهِيَ أُمٌّ لِمَا حَوْلَهَا مِنَ القُرَى، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّحْوِيِّينَ: (كَانَ) أُمُّ النَّوَاسِخِ (¬2)، وَ (أَنْ) المَصْدَرِيَّةُ أُمُّ النَّوَاصِبِ (¬3) - وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مُهِمٍّ -. وَاخْتُلِفَ فِي (أُمِّ الكِتَابِ) - هُنَا -: فَقِيلَ: أُمُّ الكِتَابِ: اللَّوْحُ المَحْفُوظُ الَّذِي لَا يُبَدَّلُ وَلَا يُغَيَّرُ، حَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ يَجْرِي فِيهِ التَّبْدِيلُ. وَأَنْتَ قَدْ عَلِمْتَ رَدَّهُ بِمَا مَرَّ؛ فَفِي «تَفْسِيرِ الخَازِنِ»: «وَسُمِّيَ اللَّوْحُ ¬
المَحْفُوظُ (أُمَّ الكِتَابِ) لأَنَّ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ مُثْبَتَةٌ فِيهِ، وَمِنْهُ تُنْسَخُ الكُتُبُ المُنْزَلَةُ، وَقِيلَ: إِنَّ العُلُومَ كُلَّهَا تُنْسَبُ إِلَيْهِ، وَتَتَوَلَّدُ مِنْهُ» (¬1). وَفِي «تَفْسِيرِ البَغَوِيِّ» وَغَيْرِهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (¬2): «وَهُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِاللَّوْحِ المَحْفُوظِ، وَهُوَ أُمُّ الكِتَابِ، وَمِنْهُ تُنْسَخُ الكُتُبُ، مَحْفُوظٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَمِنَ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنُّقْصَانِ» (¬3). وَذَكَرَ الإِمَامُ الفَخْرُ فِي «تَفْسِيرِهِ»: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}: أَنَّهُ اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، قَالَ: «وَجَمِيعُ حَوَادِثِ العَالَمِ العُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ مُثْبَتَةٌ فِيهِ» (¬4). وَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُهُ. وَفِي «تَفْسِيرِ البَيْضَاوِيِّ» (¬5): «وَهُوَ اللَّوْحُ المَحْفُوظُ؛ إِذْ مَا مِنْ كَائِنٍ إِلَّا وَهُوَ مَكْتُوبٌ فِيهِ» (¬6). ¬
وَفِي «تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ»: «وَقِيلَ: اللَّوْحُ المَحْفُوظُ هُوَ الَّذِي فِيهِ أَصْنَافُ الخَلْقِ وَالخَلِيقَةِ، وَبَيَانُ أُمُورِهِمْ، وَذِكْرُ آجَالِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَالأَقْضِيَةِ النَّافِذَةِ فِيهِمْ وَمَآلِ عَوَاقِبِ أُمُورِهِمْ، وَهُوَ أُمُّ الكِتَابِ» (¬1). قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا: فَهَلَّا اكْتُفِيَ بِمَا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ عَنْ كِتَابَةِ أَعْمَالِنَا فِي الصُّحُفِ وَفِي الكِتَابِ المُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} (¬2)؟! وَلَعَلَّ الجَوَابَ: أَنَّ المَكْتُوبَ فِي اللَّوْحِ المَحفُوظِ عَامٌّ يَشْمَلُ الأَعْمَالَ وَغَيْرَهَا، فَاقْتَضَتِ الحِكْمَةُ الإِلَهِيَّةُ لِذَلِكَ انْفِرَادَ الأَعْمَالِ بِكِتَابٍ يَخُصُّهَا، كَمَا اقْتَضَتْ - أَيْضًا - مَعَ ذَلِكَ كِتَابَةَ عَمَلِ كُلِّ إِنْسَانٍ بِكِتَابٍ يَخُصُّهُ - كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (¬3) -. وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ (¬4) عَلَى مَزِيدِ الضَّبْطِ وَالحِسَابِ؛ كَمَا يَقَعُ لِكَتَبَةِ الدَّوَاوِينِ - اليَوْمَ - مِنْ ضَبْطِهِمُ الحِسَابَ فِي دَفْتَرٍ (¬5) بَعْدَ دَفْتَرٍ. ¬
وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «اللَّوْحُ: مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، أَعْلَاهُ مَعْقُودٌ بِالعَرْشِ، وَأَسْفَلَهُ فِي حَجْرِ (¬1) مَلَكٍ يُقَالُ لَهُ: (مَاطِرْيُونَ) (¬2)، كِتَابُهُ نُورٌ، وَقَلَمُهُ نُورٌ، وَيَنْظُرُ اللهُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مِئَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً، لَيْسَ مِنْهَا نَظْرَةٌ إِلَّا وَهُوَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ؛ يَرْفَعُ وَضِيعًا وَيَضَعُ رَفِيعًا، وَيُغْنِي فَقِيرًا وَيُفْقِرُ غَنِيًّا، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ» (¬3)، حَكَاهُ القُرْطُبِيُّ (¬4) - وَغَيْرُهُ -. وَقَدْ مَرَّ أَنَّ اللَّوْحَ المَحْفُوظَ خَمْسُ مِئَةِ عَامٍ (¬5)، وَنَقَلَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ أَنَّهُ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، طُولُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَعَرْضُهُ: مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ (¬6). وَيُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «كَانَ اللهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ، ثُمَّ خَلَقَ اللَّوْحَ المَحْفُوظَ، وَأَثْبَتَ فِيهِ جَمِيعَ أَحْوَالِ الخَلْقِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» (¬7). ¬
وَمَرَّ - قَرِيبًا - أَنَّ فِيهِ جَمِيعَ حَوَادِثِ العَالَمِ العُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ (¬1). قُلْتُ: وَهُنَا إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ مَا مِقْدَارُهُ (¬2) خَمْسُ مِئَةِ عَامٍ كَيْفَ يَسَعُ كِتَابَةَ جَمِيعِ حَوَادِثِ العَالَمِ، مَعَ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ أَحْرُفَ القُرْآنِ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا كَجَبَلِ ق (¬3)، تَحْتَ كُلِّ حَرْفٍ مِنَ المَعَانِي مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ. فَعَلَى هَذَا: حُرُوفُ القُرْآنِ - وَحْدَهُ - تَمْلَأُ اللَّوْحَ المَحْفُوظَ - أَوْ تَكَادُ تَمْلَؤُهُ -، فَضْلًا (¬4) عَنْ بَقِيَّةِ حَوَادِثَ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا. ¬
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا المِقْدَارَ إِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ سَعَتِهِ وَعِظَمِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (¬1)، مَعَ أَنَّهَا قُدِّرَتْ أَضْعَافًا كَثِيرَةً. فَالجَوَابُ: إِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ؛ لأَنَّ حَوَادِثَ العَالَمِ بِأَسْرِهِ - الَّتِي حَوَادِثُ اللَّوْحِ مِنْهَا - لَا يَسَعُهَا إِلَّا قَدْرَ مَا هُوَ مِنَ العَالَمِ مَرَّاتٍ عَدِيدَةً؛ فَإِنَّ الشَّخْصَ مِنَّا لَا يَسَعُ حَوَادِثَهُ مِنْ يَوْمِ وِلَادَتِهِ إِلَى مَوْتِهِ إِلَّا لَوْحٌ قَدْرُهُ فَوْقَ المِئَةِ مَرَّةٍ - كَمَا ¬
هُوَ مُشَاهَدٌ -، فَتَأَمَّلْ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّوْحُ المَحْفُوظُ أَعْظَمَ مِنَ العَرْشِ وَالكُرْسِيِّ - وَغَيْرِهِمَا -، وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ؛ فَقَدْ وَقَعَ الاتِّفَاقُ أَنَّ أَعْظَمَ العَالَمِ - أَوْ أَكْبَرَهُ -: العَرْشُ. وَرُبَّمَا يُقَالُ: وَلَا تَتَدَاخَلُ الأَجْسَامُ - هُنَا - لِفَوَاتِ الغَرَضِ المَطْلُوبِ مِنَ الكِتَابَةِ. قُلْتُ: وَهَلْ حَوَادِثُ العَرْشِ وَالماءِ - المَخْلُوقَيْنِ قَبْلَ القَلَمِ - مَكْتُوبَةٌ فِي اللَّوْحِ؟ أَوِ المُرَادُ بِكَوْنِ القَلَمِ كَتَبَ كُلَّ شَيْءٍ - أَيْ: حَادِثٍ - بَعْدَهُ، وَإِلَّا فَهُمَا قَبْلَهُ؛ لِمَا فِي «الصَّحِيحِ» مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِي، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قَدَّرَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ» (¬1). فَهَذَا صَرِيحٌ أَنَّ التَّقْدِيرَ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ خَلْقِ العَرْشِ وَالمَاءِ؛ لأَنَّ التَّقْدِيرَ وَقَعَ عِنْدَ أَوَّلِ خَلْقِ القَلَمِ، وَحَدِيثُ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ: القَلَمُ» (¬2)؛ أَيْ: بِالنِّسْبَةِ لِمَا عَدَا المَاءَ (¬3) وَالعَرْشَ وَالكُرْسِيَّ. ¬
قُلْتُ: وَهَلْ تَدْخُلُ الغَايَةُ فِي حَدِيثِ: «فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» (¬1)، فَيَكُونُ مَقَادِيرُ أَهْلِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَعَدَدُ حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ وَأَنْفَاسِهِمْ مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ؟ أَوِ الغَايَةُ غَيْرُ دَاخِلَةٍ؟ الظَّاهِرُ: الدُّخُولُ؛ لِلْحَدِيثِ الآخَرِ: «فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأَبَدِ» (¬2)، لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَنَاهٍ؛ لأَنَّهَا حَوَادِثُ لَا آخِرَ لَهَا، فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ كِتَابَةُ مَا لَا يَتَنَاهَى، وَمَا لَا يَتَنَاهَى ضَبْطُهُ مُحَالٌ. بَلْ سُئِلْنَا: هَلْ يَعْلَمُ اللهُ عَدَدَ أَنْفَاسِ أَهْلِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ؟ لَمْ يَسَعْنَا أَنْ نَقُولَ: (لَا)؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِشْعَارِ بِالجَهْلِ، وَلَا (نَعَمْ)؛ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ يَفْنَوْنَ. قَالَ النَّسَفِيُّ (¬3) فِي «بَحْرِ الكَلَامِ»: «وَالجَوَابُ: أَنْ نَقُولَ: إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ [أَنَّ] (¬4) أَنْفَاسَ أَهْلِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ لَيْسَتْ بِمَعْدُودَةٍ، وَلَا تَنْقَطِعُ» (¬5). ¬
وَعَلَى هَذَا: فَيَنْبَغِي أَنَّ الغَايَةَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ، وَأَنَّ المُرَادَ بِالأَبَدِ: (إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ)، أَوْ هِيَ دَاخِلَةٌ وَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَتَنَاهَى؛ كَالحِسَابِ وَالمِيزَانِ وَأَحْوَالِ المَحْشَرِ، لَا مَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ: أَنَّ كَوْنَ القَلَمِ كَتَبَ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ مَخْصُوصٍ بِأَمْرٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا عَلِمَهُ - سُبْحَانَهُ - أَبْرَزَهُ أَوْ أَظْهَرَهُ فِي اللَّوْحِ - وَلَوْ لِلْمَلَائَكَةِ -؛ لأَنَّ إِسْرَافِيلَ خَادِمُ اللَّوْحِ مُلْتَقِمُ الصُّورِ (¬1)، وَيَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فِيهِ (¬2). وَيَحْتَمِلُ (¬3) أَنْ يُقَالَ: هُوَ فِيهِ، وَلَكِنْ لَمْ يُطْلِعْهُ عَلَيْهِ عَالِمُ الغَيْبِ، فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولِهِ، وَاللهُ - تَعَالَى - بِحَقِيقَةِ الحَالِ أَعْلَمُ. ¬
وَلَعَمْرِي (¬1)؛ إِنَّ عُقُولَنَا لَا تُدْرِكُ اللَّوْحَ، وَلَا القَلَمَ، وَلَا كَيْفِيَّةَ جَرَيَانِهِ بِمَقَادِيرَ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا - هَلْ كَانَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؟ أَوْ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ؟ وَأَيُّ مُدَّةٍ تَسَعُ ذَلِكَ؟! -، وَلَا كَيْفِيَّةَ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَسُؤَالِ المَلَكَيْنِ لِخَلَائِقَ لَا يُحْصَوْنَ - مَعَ تَبَاعُدِهِمْ - فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَلَا تُدْرِكُ الصِّرَاطَ وَالمِيزَانَ وَكَيْفِيَّةَ الوَزْنِ، وَلَا مُسَاءَلَةَ المَلَكِ فِي القَبْرِ؛ بَلْ وَلَا تُدْرِكُ أَنْفُسَنَا (¬2) الَّتِي مَعَنَا. فَلَا يَسَعُنَا إِلَّا الإِيمَانُ بِذَلِكَ، وَكَيْفِيَّةُ ذَلِكَ وَحَقِيقَتُهُ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -؛ {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} (¬3)؛ سِيَّمَا (¬4) مُدَّعِي (¬5) العِلْمِ؛ ¬
سِيَّمَا الخَائِضِينَ - بِلَا عِلْمٍ - فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ المُقَدَّسَةِ - وَاللهُ أَعْلَمُ -. وَقِيلَ: أُمُّ الكِتَابِ: عِلْمُ اللهِ - تَعَالَى -؛ فَفِي «تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ»: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أُمِّ الكِتَابِ، فَقَالَ: عِلْمُ اللهِ مَا هُوَ خَالِقٌ وَمَا خَلَقَهُ (¬1). وَفِيهِ - أَيْضًا -: قَالَ كَعْبُ الأَحْبَارِ: أُمُّ الكِتَابِ: عِلْمُ اللهِ - تَعَالَى - بِمَا خَلَقَ وَمَا هُوَ خَالِقٌ (¬2). وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَادِلٍ» - وَغَيْرِهِ -: سَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا عَنْ أُمِّ الكِتَابِ، فَقَالَ: عِلْمُ اللهِ مَا هُوَ خَالِقٌ وَمَا خَلَقَ (¬3). قُلْتُ: مَا أَجْدَرَ هَذَا القَوْلَ بِالصِّحَّةِ؛ فَإِنَّهُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ. ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ عَادِلٍ قَالَ فِي (سُورَةِ الأَنْعَامِ): «فِي الكِتَابِ المُبِينَ قَوْلَانِ: الأَوَّلُ: هُوَ عِلْمُ اللهِ - تَعَالَى -، وَهُوَ الأَصْوَبُ» (¬4). وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: «وَالكِتَابُ: عِلْمُ اللهِ أَوِ اللَّوْحُ» (¬5). وَاللهُ - سُبْحَانَهُ - أَعْلَمُ. (تَنْبِيهٌ): اعْلَمْ - أَيَّدَكَ اللهُ - أَنِّي جَمَعْتُ مِنْ مُتَفَرِّقَاتِ كَلَامِ المُفَسِّرِينَ فِي ¬
هَذَا الكِتَابِ مَا لَا تَرَاهُ مَجْمُوعًا فِي غَيْرِهِ، وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ فِي كَلَامِهِمُ المَذْكُورِ مَا يُوَضِّحُ المُرَادَ وَيُزِيلُ اللَّبْسَ وَالإِشْكَالَ عَمَّا وَرَدَ مِنَ المَحْوِ وَالإِثْبَاتِ وَزِيَادَةِ العُمُرِ وَنَقْصِهِ - وَنَحْوِ ذَلِكَ -، فَنَحْتَاجُ لاسْتِئْنَافِ كَلَامٍ آخَرَ لِيَظْهَرَ الحَقُّ وَالمُرَادُ، وَيَرْتَفِعَ اللَّبْسُ وَيَزُولَ الخَفَاءُ، فَنَقُولُ قَبْلَ ذَلِكَ: قَدْ أَوْلَعَ نَقَلَةُ التَّفْسِيرِ بِنَقْلِ كُلِّ مَا يَرَوْنَهُ مَسْطُورًا مِنَ الأَقَاوِيلِ مِنْ صَحِيحٍ أَوْ ضَعِيفٍ أَوْ مَوْضُوعٍ عَنِ الكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ (¬1) - وَنَحْوِهِمَا -. وَلِهَذَا تَجِدُ أَئِمَّةَ النَّقْلِ وَأَهْلَ التَّثَبُّتِ فِيهِ يَلْتَفِتُونَ لِكُلِّ مُهِمٍّ فِي الغَالِبِ وَلَا يَسْتَدِلُّ بِهِ الفُقَهَاءُ فِي الأَحْكَامِ. قَالَ المَيْمُونِيُّ (¬2): سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: ثَلَاثَةُ كُتُبٍ لَيْسَ لَهَا أُصُولٌ: المَغَازِي وَالمَلَاحِمُ وَبَعْضُ التَّفَاسِيرِ (¬3). ¬
قَالَ الخَطِيبُ (¬1): وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى كُتُبٍ مَخْصُوصَةٍ فِي هَذِهِ المَعَانِي الثَّلَاثَةِ، غَيْرِ مُعْتَمَدٍ عَلَيْهَا؛ لِعَدَمِ عَدَالَةِ نَاقِلِيهَا وَزِيَادَاتِ القُصَّاصِ فِيهَا. فَأَمَّا كُتُبُ المَلَاحِمِ فَجَمِيعُهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي ذِكْرِ المَلَاحِمِ وَالفِتَنِ المُنْتَظَرَةِ [غَيْرُ] (¬2) أَحَادِيثَ يَسِيرَةٍ. وَأَمَّا كُتُبُ التَّفْسِيرِ فَمِنْ أَشْهَرِهَا: كِتَابُ الكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي «تَفْسِيرِ الكَلْبِيِّ»: «مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ كَذِبٌ»، قِيلَ لَهُ: فَهَلِ النَّظَرُ فِيهِ يَحِلُّ؟ قَالَ: «لَا» (¬3). وَسُئِلَ وَكِيعٌ عَنْ «تَفْسِيرِ مُقَاتِلٍ»، فَقَالَ: «لَا تَنْظُرُوا فِيهِ»، قَالَ: مَا أَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: «ادْفِنْهُ» - يَعْنِي تَفْسِيرَهُ - (¬4). وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ أَرْوِيَ عَنْ [مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ] (¬5) شَيْئًا (¬6). وَأَمَّا المَغَازِي فَمِنْ أَشْهَرِهَا: كِتَابُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ (¬7)، وَكَانَ يَأْخُذُ ¬
عَنْ أَهْلِ الكِتَابِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: «كُتُبُ الوَاقِدِيِّ كَذِبٌ» (¬1). وَلَيْسَ فِي المَغَازِي أَصَحُّ مِنْ «مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ» (¬2). وَلِعَدَمِ احْتِيَاطِ كَثِيرٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ فِي النَّقْلِ: يَنْقُلُونَ خُرَافَاتِ القُصَّاصِ وَأُكْذُوبَاتِهِمْ فِي حَقِّ الأَنْبِيَاءِ وَالمَلَائِكَةِ؛ الموُهِمَةَ لِوُقُوعِ مَا هُمْ مُنَزَّهُونَ عَنْهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ الوَاقِفُ عَلَى كَلَامِهِمْ. وَبَعْضُهُمْ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ الرَّافِضَةُ أَوِ المُعْتَزِلَةُ لِنُصْرَةِ مَذَاهِبِهِمْ، فَيَنْقُلُ، فَيُوهِمُ النَّاظِرَ فِيهِ أَنَّهُ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَالعُمْدَةُ - فِي مَقَامِ الاحْتِجَاجِ وَالاسْتِدْلَالِ - إِنَّمَا هُوَ بِكَلَامِ ذَوِي التَّحْقِيقِ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ مَدَارُ التَّعْوِيلِ، وَإِلَيْهِمُ المَرْجِعُ فِيمَا فِيهِ شُبْهَةٌ أَوْ إِشْكَالٌ. وَكَلَامُهُمْ وَاعْتِقَادُهُمْ: أَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لِقَضَاءِ اللهِ، وَالمَحْوُ وَالإِثْبَاتُ مِمَّا سَبَقَ بِهِ القَضَاءُ، وَقَدْ عَلِمَ اللهُ - تَعَالَى - عِلْمًا أَزَلِيًّا وُقُوعَ ذَلِكَ. كَذَلِكَ قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ»: «إِنَّ اللهَ ¬
- تَعَالَى - قَدَّرَ مَقَادِيرَ الخَلْقِ وَمَا يَكُونُ مِنَ الأَشْيَاءِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ فِي الأَزَلِ، وَعَلِمَ - سُبْحَانَهُ - أَنَّهَا سَتَقَعُ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَهُ - تَعَالَى -، وَعَلَى صِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، فَهِيَ تَقَعُ عَلَى حَسَبِ [مَا] (¬1) قَدَّرَهَا» (¬2). وَقَالَ الخَازِنُ فِي «تَفْسِيرِهِ»: «مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ المَقَادِيرَ سَابِقَةٌ، وَقَدْ جَفَّ القَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَأَنَّ المَحْوَ وَالإِثْبَاتَ مِمَّا جَفَّ بِهِ القَلَمُ وَسَبَقَ بِهِ القَدَرُ، فَلَا يَمْحُو شَيْئًا وَلَا يُثْبِتُ شَيْئًا إِلَّا سَبَقَ عِلْمُهُ بِهِ فِي الأَزَلِ» (¬3). وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: «إِنَّ عِلْمَ اللهِ - تَعَالَى - السَّابِقَ مُحِيطٌ بِالأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَلَا مَحْوَ فِيهِ وَلَا تَغْيِيرَ وَلَا زِيَادَةَ وَلَا نُقْصَانَ؛ فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ، وَأَمَّا مَا جَرَى بِهِ القَلَمُ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ فَهَلْ يَكُونُ فِيهِ مَحْوٌ وَإِثْبَاتٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا الصُّحُفُ الَّتِي بِيَدِ المَلَائِكَةِ - كَمَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَيُؤْمَرُ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيُّ أَوْ سَعِيدٌ» (¬4) -؛ فَهَذَا يَحْصُلُ فِيهِ المَحْوُ وَالإِثْبَاتُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَدَّرُ لَهُ مُدَّةٌ، ثُمَّ يَعْمَلُ شَيْئًا يَزِيدُ ¬
عَلَى ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ اللهُ أَنْ يَفْعَلَهُ؛ مِثْلَ أَنْ يَصِلَ رَحِمَهُ، فَيُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَجَلِهِ» (¬1). قَالَ القُرْطُبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ»: «وَمِنَ القَضَاءِ مَا يَكُونُ وَاقِعًا مَحْتُومًا، وَهُوَ الثَّابِتُ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مَصْرُوفًا بِأَسْبَابٍ، وَهُوَ المَحْوُ» (¬2). وَقَالَ العَلَّامَةُ ابْنُ القَيِّمِ فِي كِتَابِهِ «الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ»: «إِنَّ مِنَ المَقْدُورِ مَا قُدِّرَ بِأَسْبَابٍ، وَلَمْ يُقَدَّرْ مُجَرَّدًا عَنْ سَبَبِهِ، فَمَتَى أَتَى العَبْدُ بِالسَّبَبِ وَقَعَ المَقْدُورُ، وَمَتَى لَمْ يَأْتِ بِالسَّبَبِ انْتَفَى» (¬3). قَالَ: «وَهَذَا كَمَا قُدِّرَ الشِّبَعُ (¬4) وَالرَّيِّ (¬5) بِالأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَقُدِّرَ الوَلَدُ بِالوَطْءِ، وَقُدِّرَ حُصُولُ الزَّرْعِ بِالبَذْرِ، وَقُدِّرَ خُرُوجُ نَفْسِ (¬6) الحَيَوَانِ بِالذَّبْحِ» (¬7). يَعْنِي: وَاللهُ - تَعَالَى - لَمْ يَزَلْ يَعْلَمُ وُجُودَ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَوُجُودَ سَبَبِهِ المُرَتَّبِ هُوَ عَلَيْهِ، وَمَا عَلِمَ اللهُ وُجُودَهُ فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَخَلُّفِهِ الْبَتَّةَ. ¬
قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ: «صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي العُمُرِ» (¬1)، وَدُعَاءُ مَنْ دَعَا مِنَ السَّلَفِ: «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا شَقِيًّا فَامْحُنَا وَأَثْبِتْنَا سُعَدَاءَ» (¬2)؛ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ المَقْدُورِ المُقَدَّرِ بِأَسْبَابٍ، وَأَنَّ السَّعَادَةَ - وَنَحْوَهَا - مُقَدَّرَةٌ بِهَذَا الدُّعَاءِ - كَمَا يُقَالُ فِي بَقِيَّةِ الأَدْعِيَةِ -، وَإِلَّا لَكَانَ الدُّعَاءُ كُلُّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ - كَمَا هُوَ مَذْهَبُ قَوْمٍ -، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ القَوْلَيْنِ يُرِيحُكَ مِنَ الخُلْفِ (¬3) الوَاقِعِ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ - كَمَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ -، وَإِلَّا فَمَعَاذَ اللهِ - وَحَاشَا - لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ وَابْنِ مَسْعُودٍ - وَأَضْرَابِهِمَا -؛ فَإِنَّهُمْ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَتَوَهَّمُوا أَنَّ عِلْمَ اللهِ يَتَغَيَّرُ، وَأَنَّهُ يُبَدِّلُ شَقَاوَةَ مَنْ عَلِمَ شَقَاوَتَهُ فِي الأَزَلِ أَبَدًا بِسَعَادَةٍ (¬4)، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ لِلْبَدَاءِ القَائِلِ بِهِ الرَّافِضَةُ، وَهُوَ عَلَى اللهِ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا دَعَوْا بِذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ تَكُونَ السَّعَادَةُ مِنَ المَقْدُورِ المُقَدَّرِ بِأَسْبَابٍ، فَتَأَمَّلْ تَحْرِيرَاتٍ لَا تَرَاهَا مَسْطُورَةً فِي كِتَابٍ؛ بَلْ هِيَ مِمَّا فَتَحَ عَلَى عَبْدِهِ الفَتَّاحُ الوَهَّابُ. ¬
وَسَأَذْكُرُ لَكَ مَا يَزِيدُ المَسْأَلَةَ بَيَانًا شَافِيًا: قَالَ العَلَّامَةُ ابْنُ حَزْمٍ فِي «المِلَلِ وَالنِّحَلِ»: «وَأَمَّا قَوْلُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْسَأَ فِي أَجَلِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» (¬1)؛ فَصَحِيحٌ مُوَافِقٌ لِلْقُرْآنِ» (¬2). قَالَ: «وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَزَلْ يَعْلَمُ أَنَّ زَيْدًا سَيَصِلُ رَحِمَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ مِنَ العُمُرِ كَذَا وَكَذَا، كُلُّ حَيٍّ قَدْ عَلِمَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنَّهُ سُيَعَمِّرُهُ كَذَا وَكَذَا مِنَ الزَّمَانِ، وَأَنَّهُ - تَعَالَى - قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيُغَذَّى بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَيَتَنَفَّسُ بِالهَوَاءِ، وَيَسْلَمُ مِنَ الآفَاتِ القَاتِلَةِ تِلْكَ المُدَّةَ (¬3)، وَيَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى بُلُوغِهِ تِلْكَ المُدَّةَ (¬4) الَّتِي لَا بُدَّ مِنَ اسْتِيفَائِهَا، فَالسَّبَبُ وَالمُسَبَّبُ - كُلُّ ذَلِكَ - قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - كَمَا هُوَ؛ لَا يُبَدَّلُ؛ قَالَ - تَعَالَى -: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} (¬5)» (¬6). وَقَالَ: «الخَلْقُ كُلُّهُ مُصَرَّفٌ تَحْتَ أَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - وَعِلْمِهِ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى تَعَدِّي عِلْمِ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَا يَكُونُ البَتَّةَ إِلَّا مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنْ ¬
يَكُونَ» (¬1). وَقَالَ: «وَقَدْ قَالَ بَعْضُ المُعْتَزِلَةِ: (لَوْ لَمْ يُقْتَلْ زَيْدٌ لَعَاشَ)، وَقَالَ أَبُو الهُذَيْلِ (¬2): (لَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَمَاتَ)، وَشَغَّبَ القَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَعَاشَ بِقَوْلِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (¬3)، وَبِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْسَأَ فِي أَجَلِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» (¬4)» (¬5). قَالَ: «وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} ... (¬6)» (¬7). قَالَ: «وَكُلُّ هَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ بَلْ هُوَ - بِظَاهِرِهِ - حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ» (¬8). قَالَ: «وَالقَتْلُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ المَوْتِ، فَمَنْ سَأَلَ عَنِ المَقْتُولِ: (لَوْ لَمْ ¬
يُقْتَلْ، أَكَانَ يَمُوتُ أَوْ يَعِيشُ؟)، فَسُؤَالُهُ سَخِيفٌ فَاسِدٌ؛ لأَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَ: (لَوْ لَمْ يَمُتْ هَذَا المَيِّتُ، أَكَانَ يَمُوتُ أَمْ كَانَ لَا يَمُوتُ؟!)، وَهَذِهِ حَمَاقَةٌ؛ لأَنَّ القَتْلَ عِلَّةٌ لِلمَوْتِ كَمَا أَنَّ الحُمَّى القَاتلَةَ وَالبَطْنَ القَاتِلَ وَسَائِرَ الأَمْرَاضِ القَاتِلَةِ عِلَلٌ لِلْمَوْتِ الحَادِثِ عَنْهَا، وَلَا فَرْقَ» (¬1). قَالَ: «وَنَصُّ القُرْآنِ يَشْهَدُ بِمَا قُلْنَا؛ قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} (¬2)، وَقَالَ - تَعَالَى -: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (¬3)، وَقَالَ - تَعَالَى -: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬4) ... » (¬5) - وَذَكَرَ آيَاتٍ أُخَرَ -. وَفِي «تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ» - فِي (سُورَةِ الأَعْرَافِ) -، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (¬6): (أَجَلٌ)؛ أَيْ: وَقْتٌ مُؤَقَّتٌ، (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ)؛ أَيِ الوَقْتُ المَعْلُومُ عِنْدَ اللهِ ¬
- عَزَّ وَجَلَّ -» (¬1). قَالَ: «فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ المَقْتُولَ إِنَّمَا يُقْتَلُ بِأَجَلِهِ، وَأَجَلُ المَوْتِ هُوَ وَقْتُ المَوْتِ كَمَا أَنَّ أَجَلَ الدَّيْنِ هُوَ وَقْتُ حُلُولِهِ، وَأَجَلُ الإِنْسَانِ هُوَ الوَقْتُ الَّذِي يَعْلَمُ اللهُ أَنَّهُ يَمُوتُ الحَيُّ فِيهِ - لَا مَحَالَةَ -، وَهُوَ وَقْتٌ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ مَوْتِهِ عَنْهُ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ المُعْتَزِلَةِ - إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ -: إِنَّ المَقْتُولَ مَاتَ بِغَيْرِ أَجَلِهِ الَّذِي ضُرِبَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَحَيِيَ» (¬2). قَالَ: «وَهَذَا غَلَطٌ؛ لأَنَّ المَقْتُولَ لَمْ يَمُتْ مِنْ أَجْلِ قَتْلِ غَيْرِهِ لَهُ؛ بَلْ مِنْ أَجْلِ مَا فَعَلَهُ اللهُ مِنْ إِزْهَاقِ نَفْسِهِ عِنْدَ الضَّرْبِ لَهُ» (¬3). وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: «صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَصْحِيحُ الطِّبِّ وَالأَمْرُ بِالعِلَاجِ، وَأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «تَدَاوَوْا؛ فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَخْلُقْ دَاءً إِلَّا خَلَقَ لَهُ دَوَاءً؛ إِلَّا السَّامَ (¬4)، وَالسَّامُ: المَوْتُ» (¬5)». ¬
قَالَ: «فَاعْتَرَضَ قَوْمٌ، فَقَالُوا: قَدْ سَبَقَ عِلْمُ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِنِهَايَةِ أَجَلِ المَرْءِ وَمُدَّةِ صِحَّتِهِ وَشِدَّةِ سَقَمِهِ؛ فَأَيُّ مَعْنًى لِلْعِلَاجِ؟!». قَالَ: «فَقُلْنَا لَهُمْ: نَسْأَلُكُمْ هَذَا السُّؤَالَ نَفْسَهُ فِي جَمِيعِ مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَاللِّبَاسِ لِلْمَطَرِ وَالبَرْدِ وَالحَرِّ، وَالسَّعْيِ بِالمَعَاشِ بِالحَرْثِ وَالغَرْسِ وَالقِيَامِ عَلَى المَاشِيَةِ وَالتَّحَرُّفِ بِالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ، وَنَقُولُ لَهُمْ: قَدْ سَبَقَ عِلْمُ اللهِ - تَعَالَى - بِنِهَايَةِ أَجَلِ المَرْءِ وَمُدَّةِ صِحَّتِهِ وَمُدَّةِ سَقَمِهِ؛ فَأَيُّ مَعْنًى لِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا؟! فَلَا جَوَابَ لَهُمْ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ عِلْمَ اللهِ - تَعَالَى - أَيْضًا قَدْ سَبَقَ بِمَا يَكُونُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَبِأَنَّهَا أَسْبَابٌ إِلَى بُلُوغِ نِهَايَةِ العُمُرِ المَقُدَّرَةِ، فَنَقُولُ لَهُمْ: وَهَكَذَا الطِّبُّ؛ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللهِ - تَعَالَى - أَنَّ هَذَا العَلِيلَ يَتَدَاوَى، وَأَنَّ تَدَاوِيَهُ سَبَبٌ إِلَى بُلُوغِ نِهَايَةِ أَجَلِهِ، فَالعِلَلُ مُقَدَّرَةٌ، وَالزَّمَانَةُ (¬1) مُقَدَّرَةٌ، وَالمَوْتُ مُقَدَّرٌ، وَالعِلَاجُ مُقَدَّرٌ، وَلَا مَرَدَّ لِحُكْمِ اللهِ - تَعَالَى -، وَنَافِذٌ عِلْمُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَهَذَا الكَسْبُ: مِنْهُ مَا لَيْسَ رِزْقًا، فَلَا يَصِلُ العَبْدُ إِلَيْهِ وَلَوْ جَهِدَ جَهْدَهُ أَوْ سَعَى لَهُ دَهْرَهُ، وَلَوْ صَارَ فِي يَدَيْهِ لَتَلِفَ، وَلَوْ صَارَ فِي فِيهِ لَسَقَطَ مِنْهُ، وَمِنْهُ: مَا هُوَ رِزْقٌ لِلإِنْسَانِ مَحْتُومٌ لَهُ؛ فَقَدْ يَأْتِيهِ بِلَا عَنَاءٍ، وَلَوْ رَامَ أَهْلُ الأَرْضِ صَرْفَهُ عَنْهُ مَا قَدِرُوا؛ فَقَدْ نَجِدُ الفُلْفُلَ (¬2) بِبِلَادِ الهِنْدِ ثُمَّ يُسَخِّرُ اللهُ لَهُ مَنْ يَجْلِبُهُ (¬3) إِلَى مَنْ ¬
هُوَ مَكْتُوبٌ لَهُ بِأَقْصَى الأَنْدَلُسِ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ» (¬1). وَقَالَ العَلَّامَةُ ابْنُ القَيِّمِ - رَحِمَهُ اللهُ - بَعْدَ تَقْرِيرِهِ نَفْعَ الدُّعَاءِ وَالأَمْرَ بِهِ وَدَفْعَهُ لِلْبَلَاءِ: «وَقَدِ اعْتَرَضَ قَوْمٌ بِأَنَّ المَدْعُوَّ بِهِ إِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ وُقُوعِهِ - دَعَا بِهِ العَبْدُ أَوْ لَمْ يَدْعُ -؛ لأَنَّ كُلَّ مُقَدَّرٍ كَائِنٌ - كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآيَاتُ الصَّرِيحَةُ وَالأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ -، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُدِّرَ لَمْ يَقَعْ - سَأَلَهُ العَبْدُ أَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ -، فَظَنَّتْ طَائِفَةٌ صِحَّةَ هَذَا الكَلَامِ، فَتَرَكَتِ الدُّعَاءَ، وَقَالُوا: لَا فَائِدَةَ فِيهِ» (¬2). قَالَ: «وَهَؤُلَاءِ - مَعَ فَرْطِ جَهْلِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ - مُتَنَاقِضُونَ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَهُمْ يُوجِبُ تَعْطِيلَ جَمِيعِ الأَسْبَابِ، فَيُقَالُ لأَحَدِهِمْ: إِنْ كَانَ الشِّبَعُ وَالرَّيُّ قَدْ قُدِّرَا لَكَ فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِمَا؛ أَكَلْتَ أَوْ لَمْ تَأْكُلْ؛ شَرِبْتَ أَوْ لَمْ تَشْرَبْ، فَلَا حَاجَةَ لِلأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَإِنْ كَانَ الوَلَدُ قَدْ قُدِّرَ لَكَ فَلَا بُدَّ مِنْهُ؛ وُطِئْتِ الزَّوْجَةُ وَالأَمَةُ أَوْ لَمْ تُوْطَأْ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَمْ يَكُنْ، فَلَا حَاجَةَ لِلتَّزْوِيجِ وَالتَّسَرِّي - وَهَلُمَّ جَرًّا -، فَهَلْ يَقُولُ هَذَا عَاقِلٌ أَوْ آدَمِيٌّ؟! بَلِ الحَيَوَانُ البَهِيمُ مَفْطُورٌ عَلَى مُبَاشَرَةِ الأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا قِوَامُهُ وَحَيَاتُهُ، فَالحَيَوَانَاتُ أَعْقَلُ وَأَفْهَمُ مِنْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ هُمْ كَالأَنْعَامِ؛ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ¬
سَبِيلًا» (¬1). قَالَ: «وَعَلَى هَذَا: فَالدُّعَاءُ مِنْ أَقْوَى الأَسْبَابِ، فَإِذَا قُدِّرَ وُقُوعُ المَدْعُوِّ بِهِ بِالدُّعَاءِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: لَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ كَمَا لَا يُقَالُ: لَا فَائِدَةَ فِي الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَجَمِيعِ الحَرَكَاتِ وَالأَعْمَالِ» (¬2). وَاعْلَمْ - أَيَّدَكَ اللهُ - أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يَظُنُّهُ الإِنْسَانُ سَبَبًا يَكُونُ سَبَبًا، وَلَيْسَ كُلُّ سَبَبٍ مُبَاحًا فِي الشَّرِيعَةِ، وَلَيْسَ كُلُّ سَبَبٍ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ، فَالعَبْدُ يُؤْمَرُ بِالسَّبَبِ الَّذِي أَذِنَ اللهُ فِيهِ وَيَنْهَى عَنْ غَيْرِهِ، وَغَيْرُ المَقْدُورِ لِلْعَبْدِ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الدُّعَاءُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - (¬3). وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا: مَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ»، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: «لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ» (¬4). فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّذْرَ لَيْسَ مِنَ الأَسْبَابِ المَأْذُونِ فِيهَا لِجَلْبِ المَنْفَعَةِ وَدَفْعِ المَضَرَّةِ، وَلَكِنْ نُلْقِيهِ إِلَى مَا قُدِّرَ لَهُ، فَنُهِيَ عَنْهُ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ (¬5). وَكَذَلِكَ حَدِيثُ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ - زَوَجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - -: اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللهِ وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِي ¬
القول الفصل في المسألتين
مُعَاوِيَةَ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ سَأَلْتِ اللهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَأَيَّامٍٍ مَعْدُودَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ اللهُ شَيْئًا قَبْلَ أَجَلِهِ (¬1)، وَلَنْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ أَجَلِهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي القَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ» (¬2). فَفِي هَذَا الحَدِيثِ: أَنَّ الدُّعَاءَ يَكُونُ مَشْرُوعًا نَافِعًا فِي بَعْضِ الأَسْبَابِ دُونَ بَعْضٍ، فَالأَعْمَارُ المُقَدَّرَةُ لَمْ يُشْرَعِ الدُّعَاءُ بِتَغْيِيرِهَا، بِخِلَافِ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ؛ فَإِنَّ الدُّعَاءَ مَشْرُوعٌ لَهُ، نَافِعٌ فِيهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الإِمَامُ أَحْمَدُ يَكْرَهُ أَنْ يُدْعَى لَهُ بِطُولِ العُمُرِ، وَيَقُولُ: هَذَا فُرِغَ مِنْهُ (¬3)، فَتَأَمَّلْ هَذَا؛ فَإِنَّهُ نَفِيسٌ جِدًّا (¬4). (تَنْبِيهٌ): اعْلَمْ - أَيَّدَكَ اللهُ - أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا أَسْلَفْنَاهُ: أَنَّ حَاصِلَ مَا مَرَّ مِنَ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ: أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي ¬
كِتَابٍ} (¬1) أَنَّ مَعْنَاهُ: كُلُّ مَنْ طَالَ عُمْرُهُ أَوْ قَصُرَ فَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي الكِتَابِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} (¬2) أَنَّ الأَجَلَ المُسَمَّى عِنْدَهُ هُوَ الأَجَلُ الَّذِي قَضَاهُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (¬3) عَلَى عُمُومِهِ، حَتَّى فِي الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ وَالأَجَلِ وَالرِّزْقِ وَالخَلْقِ وَالخُلُقِ، لَكِنْ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلَّقِ الكِتَابَةِ وَالعِلْمِ - كَمَا مَرَّ -؛ لأَنَّ مِنَ المُشَاهَدِ أَنَّ الشَّخْصَ يَكُونُ كَافِرًا - وَذَلِكَ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ لأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الحَوَادِثِ - ثُمَّ يُسْلِمُ، وَمُسْلِمًا ثُمَّ يَكْفُرُ، وَفَقِيرًا ثُمَّ يَسْتَغْنِي، وَعَكْسُهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَوَادِثُ، وَالحَوَادِثُ كُلُّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، فَبِالضَّرُورَةِ حَصَلَ المَحْوُ وَالإِثْبَاتُ، وَأَنَّ عِلْمَ اللِه - تَعَالَى - بِذَلِكَ أَزَلِيٌّ، لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَبَدَّلُ؛ فَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ القَطْعِيَّةِ أَنَّ اللهَ عَالِمٌ بِالآجَالِ وَالأَرْزَاقِ - وَغَيْرِهَا -. وَحَقِيقَةُ العِلْمِ: مَعْرِفَةُ المَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِذَا عَلِمَ اللهُ أَنَّ زَيْدًا يَمُوتُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ اسْتَحَالَ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَهَ أَوْ بَعْدَهُ، فَلَا يَتَغَيَّرُ عِلْمُهُ - تَعَالَى - بِذَلِكَ، وَإِنَّ المَعْلُومَ هُوَ الَّذِي يَتَغَيَّرُ وَيَتَبَدَّلُ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ، وَيَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ المُشَاهَدَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْحُو شَيْئًا وَلَا ¬
يُثْبِتُ شَيْئًا إِلَى مَا سَبَقَ عِلْمُهُ بِهِ، وَأَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ - وَنَحْوَهُ مِمَّا قُدِّرَ طُولُ العُمُرِ بِسَبَبِهِ - يَزِيدُ فِي الأَجَلِ فِي أَنَّ الدُّعَاءَ المُقَدَّرَ دَفْعُ البَلَاءِ بِهِ يَدْفَعُهُ (¬1). فَقَدْ ظَهَرَ لَكَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ غَايَةُ البَيَانَ، وَارْتَفَعَ بِهِ اللَّبْسُ وَالإِشْكَالُ، وَأَغْنَاكَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الهَذَيَانِ - وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ -. وَبِالجُمْلَةِ (¬2): فَاعْلَمْ - وَفَّقَكَ اللهُ - أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزيدُ فِي العُمُرِ بِشَرْطِهِ، وَأَنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ وَتَحْصُلُ بِهِ النَّجَاةُ وَالهَلَاكُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ دَلَّ العَقْلُ وَالنَّقْلُ وَالفِطْرَةُ وَتَجَارِبُ الأُمَمِ - عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا وَمِلَلِهَا وَنِحَلِهَا - عَلَى أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى رَبِّ الأَرْبَابِ وَطَلَبَ مَرْضَاتِهِ وَالإِحْسَانَ إِلَى خَلْقِهِ: مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَأَضْدَادَهَا مِنْ أَكْبَرِ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِكُلِّ شَرٍّ، فَمَا اسْتُجْلِبَتْ نِعَمُ اللهِ وَاسْتُدْفِعَتْ نِقْمُهُ بِمِثْلِ طَاعَتِهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ وَالإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ، وَقَدْ رَتَّبَ اللهُ - سُبْحَانَهُ - حُصُولَ الخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَحُصُولَ الشُّرُورِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فِي كِتَابِهِ العَزِيزِ عَلَى الأَعْمَالِ تَرَتُّبَ الجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ وَالعِلَّةِ عَلَى المَعْلُولِ وَالمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، فَقَالَ - جَلَّ مِنْ قَائِلٍ -: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (¬3)، وَقَالَ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ ¬
سَيِّئَاتِكُمْ} (¬1)، وَقَالَ: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (¬2)، وَقَالَ: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (¬3). وَبِالجُمْلَةِ: فَالقُرْآنُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ صَرِيحٌ فِي تَرَتُّبِ الجَزَاءِ بِالخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الأَسْبَابِ؛ بَلْ أَحْكَامُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَصَالِحُهُمَا وَمَفَاسِدُهُمَا عَلَى الأَسْبَابِ وَالأَعْمَالِ (¬4). وَمَنْ فَقِهَ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ وَتَأَمَّلَهَا حَقَّ التَّأَمُّلِ انْتَفَعَ بِهَا غَايَةَ النَّفْعِ، وَلَمْ يَتَّكِلْ عَلَى القَدَرِ جَهْلًا مِنْهُ وَعَجْزًا وَتَفْرِيطًا وَإِضَاعَةً - فَيَكُونُ تَوَكُلُّهُ عَجْزًا وَعَجْزُهُ تَوَكُّلًا -؛ بَلِ الفَقِيهُ - كُلُّ الفَقِيهِ - الَّذِي يَرُدُّ القَدَرَ بِالقَدَرِ وَيَدْفَعُ القَدَرَ بِالقَدَرِ وَيُعَارِضُ القَدَرَ بِالقَدَرِ؛ بَلْ لَا يُمْكِنُ الإِنْسَانُ أَنْ يَعِيشَ إِلَّا بِذَلِكَ؛ فَإِنَّ الجُوعَ وَالعَطَشَ وَالبَرْدَ وَأَنْوَاعَ المَخَاوِفِ وَالمَحَاذِيرِ هِيَ مِنَ القَدَرِ، وَالخَلْقُ كُلُّهُمْ سَاعُونَ فِي دَفْعِ هَذَا القَدَرِ بِالقَدَرِ حَتَّى يَأْتِيَ القَضَاءُ المَحْتُومُ الَّذِي لَا يَدْفَعُهُ أَحَدٌ وَلَا يُغَيِّرُهُ؛ بِخِلَافِ مَا قُضِيَ صَرْفُهُ بِالتَّوْبِةِ وَالدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ وَالحِفْظِ؛ فَفِي تَفْسِيرِ {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} (¬5)؛ أَيْ: ¬
يَحْفَظُهَا مِنَ الآفَاتِ حَتَّى يُسَلِّمَهَا إِلَى القَدَرِ، قَالَ الفَرَّاءُ: «الحَافِظُ مِنَ اللهِ، يَحْفَظُهَا حَتَّى يُسَلِّمَهَا إِلَى المَقَادِيرِ»، وَقَالَهُ الكَلْبِيُّ (¬1). وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ} (¬2)؛ يَعْنِي: المَلَائِكَةَ المُوَكَّلِينَ بِهِ لِحِفْظِهِ مِنَ الوُحُوشِ وَالهَوَامِّ (¬3) وَالأَشْيَاءِ المُضِرَّةِ لُطْفًا مِنْهُ، فَإِذَا جَاءَ القَدَرُ خَلَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (¬4). وَنَقَلَ المَاوَرْدِيُّ: يَحْفَظُونَهُ مِنَ المَوْتِ مَا لَمْ يَأْتِ أَجَلُهُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَقِيلَ: يَحْفَظُونَهُ مِنَ الجِنِّ وَالهَوَامِّ المُؤْذِيَةِ مَا يَأْتِ قَدَرٌ، قَالَهُ أَبُو أُمَامَةَ (¬5) وَكَعْبُ الأَحْبَارِ، فَإِذَا جَاءَ القَدَرُ خَلَّوْا عَنْهُ (¬6). ¬
وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ (¬1): جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لَهُ: احْتَرِسْ؛ فَإِنَّ نَاسًا يُرِيدُونَ قَتْلَكَ، فَقَالَ: إِنَّ مَعَ كُلِّ رَجُلَيْنِ مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِهِ مِمَّا لَمْ يُقَدَّرْ، فَإِذَا جَاءَ القَدَرُ خَلَّيَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَدَرِ اللهِ، وَإِنَّ الأَجَلَ حِصْنٌ حَصِينٌ (¬2). وَهَكَذَا مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ - تَعَالَى - وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ؛ يَدْفَعُ قَدَرَ العُقُوبَةِ الأُخَرْوِيَّةِ (¬3) بِقَدَرِ التَّوْبَةِ وَالإِيمَانِ وَالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ فَهَذَا وِزَانُ (¬4) القَدَرِ المَخُوفِ (¬5) فِي الدُّنْيَا، وَمَا يُضَادُّهُ سَوَاءٌ، فَرَبُّ الدَّارَيْنِ وَاحِدٌ وَحِكْمَتُهُ وَاحِدَةٌ، لَا يُنَاقِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَا يُبْطِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ مِنْ أَشْرَفِ المَسَائِلِ لِمَنْ عَرَفَ قَدْرَهَا وَرَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا؛ فَإِنَّ الأَعْمَالَ ¬
الصَّالِحَةَ تَنْفَعُ فِي الآخِرَةِ - بِإِجْمَاعِ العُلَمَاءِ -، وَإِنَّ الكُفْرَ مُحَرِّمٌ لِدُخُولِ الجَنَّةِ - بِنَصِّ القُرْآنِ -، وَالعَمَلَ الصَّالِحَ وَالدُّعَاءَ يَدْفَعُ البَلَاءَ المُقَدَّرَ دَفْعُهُ بِهِ، وَيَحْصُلُ بِهِ المَحْوُ وَالإِثْبَاتُ المُقَدَّرَانِ بِهِ؛ فَقَدْ نَقَلَ القُرْطُبِيُّ - وَغَيْرُهُ - قَالَ: بَيْنَمَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَوْمًا جَالِسٌ؛ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا يَحْيَى! ادْعُ لامْرَأَةٍ حُبْلَى مُنْذُ أَرْبَعِ سِنِينَ قَدْ أَصْبَحَتْ فِي كَرْبٍ شَدِيدٍ، فَغَضِبَ مَالِكٌ، وَأَطْبَقَ المُصْحَفَ، ثُمَّ قَالَ: مَا يَرَى هَؤُلَاءِ القَوْمُ إِلَّا أَنَّا أَنْبِيَاءُ، ثُمَّ قَرَأَ، ثُمَّ دَعَا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَذِهِ المَرْأَةُ إِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا رِيحٌ فَأَخْرِجْهُ السَّاعَةَ، وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا جَارِيَةٌ فَأَبْدِلْهَا بِهَا غُلَامًا؛ فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الكِتَابِ، ثُمَّ رَفَعَ مَالِكٌ يَدَيْهِ، وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ، وَجَاءَ الرَّسُولُ إِلَى الرَّجُلِ، فَقَالَ: أَدْرِكِ امْرَأَتَكَ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ، فَمَا حَطَّ مَالِكٌ يَدَهُ حَتَّى طَلَعَ الرَّجُلُ مِنْ بَابِ المَسْجِدِ عَلَى رَقَبَتِهِ غُلَامٌ جَعْدٌ (¬1)، ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ، قَدِ اسْتَوَتْ أَسْنَانُهُ (¬2). فَهَذَا دُعَاءُ مَالِكٍ قَدْ كَانَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ ظَاهِرًا، كَمَا أَنَّ الأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَعَدَمَ ذَبْحِ الحَيَوَانِ سَبَبٌ ظَاهِرٌ فِي الحَيَاةِ، وَالسَّبَبُ وَالمُسَبَّبُ كُلُّ ذَلِكَ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللهِ وَتَقْدِيرِهِ كَمَا هُوَ؛ لَا يُبَدَّلُ، وَلَا يَكُونُ الْبَتَّةَ إِلَّا مَا سَبَقَ فِي ¬
عِلْمِهِ وَتَقْدِيرِهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. وَاعْلَمْ - أَيَّدَكَ اللهُ - كَمَا قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ (¬1): أَنَّ أَهْلَ المِلَلِ كُلَّهُمْ (¬2) مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللهَ يُثِيبُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُعَاقِبُ عَلَى المَعَاصِي. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ المُدَّعِينَ لِلْمَعْرِفَةِ وَالحَقِيقَةِ وَالفَنَاءِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ مُرَادٌ؛ بَلْ يُرِيدُونَ مَا يُرِيدُ الحَقُّ - تَعَالَى -، فَقَالُوا: إِنَّ الكَمَالَ أَنْ تَفْنَى عَنْ إِرَادَتِكَ وَتَبْقَى مَعَ إِرَادَةِ رَبِّكَ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ جَمِيعَ الكَائِنَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّبِّ سَوَاءٌ، فَلَا يَسْتَحْسِنُونَ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُونَ سَيِّئَةً. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا، مُحَرَّمٌ شَرْعًا، وَلَيْسَتِ الطَّاعَاتُ عِنْدَهُمْ سَبَبًا لِلثَّوَابِ، وَلَا المَعَاصِي سَبَبًا لِلْعِقَابِ، وَالعَارِفُ عِنْدَهُمْ مَنْ يَكُونُ مُشَاهِدًا سَبْقَ الحَقِّ بِحُكْمِهِ وَعِلْمِهِ؛ أَيْ: يَشْهَدُ أَنَّهُ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ وَحَكَمَ بِهِ؛ أَيْ: أَرَادَهُ وَقَضَاهُ وَكَتَبَهُ. وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا المَذْهَبِ يَتْرُكُونَ الأَسْبَابَ الدُّنْيَوِيَّةَ، وَيَجْعَلُونَ وُجُودَ السَّبَبِ كَعَدَمِهِ، وَمِنْهُمْ قَوْمٌ زَنَادِقَةٌ؛ يَتْرُكُونَ الأَسْبَابَ الأُخْرَوِيَّةَ، فَيَقُولُونَ: إِنْ سَبَقَ العِلْمُ وَالحُكْمُ أَنَّا سُعَدَاءُ فَنَحْنُ سُعَدَاءُ، وَإِنْ سَبَقَ أَنَّا أَشْقِيَاءُ فَنَحْنُ أَشْقِيَاءُ، فَلَا فَائِدَةَ فِي العَمَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُ العَمَلَ بِنَاءً عَلَى هَذَا الأَصْلِ الفَاسِدِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الأَصْلَ الفَاسِدَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ¬
وَأَئِمَّةِ الدِّينِ، وَمُخَالِفٌ لِصَرِيحِ المَعْقُولِ، وَمُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالمُشَاهَدَةِ، وَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ إِسْقَاطِ الأَسْبَابِ نَظَرًا إِلَى القَضَاءِ وَالقَدَرِ، فَرَدَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَلِكَ؛ كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ عُلِمَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَلَا نَدَعُ العَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الكِتَابِ؟! فَقَالَ: «لَا؛ اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» (¬1)، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الأَحَادِيثِ وَالآيَاتِ. وَفِي «السُّنَنِ» أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نَسْتَرْقِي بِهَا وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «هِيَ مِنْ قَدَرِ اللهِ - تَعَالَى -» (¬2). فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - جَعَلَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ أَسْبَابًا، وَأَنَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - هُوَ مُسَبِّبُ الأَسْبَابِ وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِسَبَبٍ، لَكِنَّ الأَسْبَابَ - كَمَا قَالَ فِيهَا الغَزَالِيُّ وَابْنُ الجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمَا -: الالْتِفَاتُ إِلَى الأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَالإِعْرَاضُ عَنِ الأَسْبَابِ بِالكُلِّيَّةِ قَدْحٌ في الشَّرْعِ، وَالتَّوَكُّلُ مَعْنًى يَلْتَئِمُ مِنْ مَعْنَى التَّوْحِيدِ وَالعَقْلِ وَالشَّرْعِ؛ فَالمُؤْمِنُ المُتَوَكِّلُ لَا يَلْتَفِتُ إلَى الأَسْبَابِ؛ بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا وَلَا يَثِقُ بِهَا، وَلَا ¬
خاتمة المصنف
يَرْجُوهَا، وَلَا يَخَافُهَا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الوُجُودِ سَبَبٌ يَسْتَقِلُّ بِحُكْمٍ؛ بَلْ كُلُّ سَبَبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى أُمُورٍ أُخَرَ تُضَمُّ إِلَيْهِ - كَالإِخْلَاصِ وَالقَبُولِ مَثَلًا -، وَلَهُ مَوَانِعُ وَعَوَائِقُ تَمْنَعُ مُوجِبَهُ، وَمَا ثَمَّ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ إِلَّا مَشِيئَةَ اللهِ وَحْدَهُ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَمَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وَحُكْمُهُ فَهُوَ حَقٌّ، وَقَدْ عَلِمَ وَحَكَمَ أَنَّ الشَّيْءَ الفُلَانِيَّ يَقَعُ بِالسَّبَبِ الفُلَانِيِّ. خَاتِمَةٌ: اعْلَمْ يَا أَخِي - وَفَّقَنِي اللهُ وَإِيَّاكَ - أَنَّ القَدَرَ عِبَارَةٌ عَنْ سَبْقِ عِلْمِ اللهِ - تَعَالَى - بِالمَقْدُورِ، وَمَا عَلِمَهُ اللهُ فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَخَلُّفِهِ قَطْعًا - كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَتَقْرِيرُهُ -، وَالقَضَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ اللهِ - تَعَالَى - لِذَلِكَ المَقْدُورِ، وَقَدْ أُمِرْتَ أَنْ تُدَافِعَ القَدَرَ بِالقَدَرِ، وَتَفِرَّ مِنَ القَدَرِ إِلَى القَدَرِ، فَإِذَا وَقَعَ فَعَلَى كُلِّ عَاقِلٍ حُرٍّ التَّسْلِيمُ وَالصَّبْرُ وَإِلَّا أَثِمَ وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا يُرِيدُ، فَالتَّسْلِيمُ أَسْلَمُ وَهُوَ بِالحَالِ أَعْلَمُ؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَوَّلُ شَيْءٍ كَتَبَهُ اللهُ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ: إِنِّي أَنَا اللهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، مُحَمَّدٌ رَسُولِي، مَنِ اسْتَسْلَمَ لِقَضَائِي وَصَبَرَ عَلَى بَلَائِي وَشَكَرَ نَعْمَائِي (¬1)؛ كَتَبْتُهُ صِدِّيقًا وَبَعَثْتُهُ مَعَ الصِّدِّيقِينَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لِقَضَائِي وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي وَلَمْ يَشْكُرْ نَعْمَائِي؛ فَلْيَتَّخِذْ إِلَهًا سِوَايَ (¬2). ¬
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الحَرْبِيُّ (¬1): «اتَّفَقَ العُقَلَاءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ أَنَّ مَنْ لَمْ يَمْشِ مَعَ القَدَرِ لَمْ يَتَهَنَّ بِعَيْشٍ» (¬2). وَقَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: مَنْ عَلِمَ أَنَّ مَا قُضِيَ لَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَهُ قَلَّ حُزْنُهُ (¬3). عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالقَدَرِ كَيْفَ يَحْزَنُ؟! (¬4). وَقَالَ - أَيْضًا -: مَنْ تَأَمَّلْ حَقَائِقَ الأَشْيَاءِ رَأَى الابْتِلَاءَ عَامًّا وَالأَغرَاضَ مُنْعَكِسَةً، وَعَلَى هَذَا وَضْعُ هَذِهِ الدَّارِ (¬5). فَالعَجَبُ مِمَّنْ يَدُهُ فِي سَلَّةِ الأَفَاعِي كَيْفَ يُنْكِرُ اللَّسْعَ؟! وَأَعْجَبَ مِنْهُ مَنْ ¬
يَطْلُبُ مِنَ المَطْبُوعِ عَلَى الضُّرِّ (¬1) النَّفْعَ؟! (¬2) وَقَدْ قِيلَ: وَمَا اسْتَغْرَبَتْ عَيْنِي فِرَاقًا رَأَيْتُهُ ... وَلَا عَلَّمَتْنِي غَيْرَ مَا أَنَا عَالِمُهُ (¬3) وَفِي هَذَا القَدَرِ كِفَايَةٌ لِمَنْ تَدَبَرَهُ بِعَيْنِ البَصِيرَةِ - وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ -. ************** قَالَ مُؤَلِّفُهُ - سَامَحَهُ اللهُ تَعَالَى وَعَفَا عَنْهُ -: فَرَغْتُ مِنْهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ - بَعْدَ العِشَاءِ - الآخِرَةِ فِي العِشْرِينَ مِنْ ذِي الحِجَّةِ، سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ بَعْدَ أَلْفٍ، وَذَلِكَ بِمَحْرُوسَةِ مِصْرَ، بِجِوَارِ المَشْهَدِ الحُسَيْنِيِّ (¬4). وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. ¬