إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى

المنهاجي الأسيوطي

[مقدمة المصنف]

بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه الذي جلّت نعماؤه عن الإحصاء وعلت آلاؤه عن أن تعد أو تحد أو تستقصى، وبهرت حكمته وسبقت رحمته. فالسعيد من كان بها مختصا، فمن أجل نعمائه التي عم بها وخص إظهار مظهر الحلال وهو المخصوص مع زيادة الشرف بقضاء فرض الحج وما يتعلق به من المناسك مما به وصى، وإظهار مظهر الجمال المقدس عن دواعي الشوائب وتخصيصه من بين مساجد الإسلام إذ هو أكثرها من صلة بقول اللَّه عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]. أحمده وأشكره على ما منَّ به من حصول القصد وبلوغ المرام من زيارة بيت اللَّه الحرام، وقبر نبينا عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. والمسجد الأقصى الشريف والصخرة المقدسة وما حولها "المشاهد"

والمعاهد المعروفة بإجابة الدعوات وخرق العادات، وهذا واللَّه ما كنت أرجوه قبل هجوم الحمام وأرجو من كرم اللَّه -عز وجل- إتمام هذا القصد الجميل بحسن الختام والموت على الإسلام. وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له. إله عمت نعمته "فشملت" الداني والقاصي، وتوفرت منته فاستوى في قصد حصولها الطائع والعاصي. وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي من كمال فضله عليه وزيادة شرفه لديه المعراج وإسرائه به ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إلى السموات العلى على ظهر البراق في جنح ليل داج. وقدَّمه على الأنبياء إمامًا فصلى بهم في تلك الليلة عند قبة صخرة بيت المقدس. ومؤذنه وخادمه إذ ذاك جبريل المطوق بالنور الوهاج وأوحى إليه ما أوحى. وأعاده إلى مضجعه بمكة. وسحاب تلك الليلة ما انجاب وظاهر صبح غرتنا الميمون ما هاج. صلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه وابتغوا النور الذي أنزل معه وعقدوا الخناجر على تمكين مقاعد عزه برفع لوائه وإظهار دينه الذي شرعه وجاهدوا في اللَّه حق جهاده ومازالوا على الوفاء بعهده، إلى أن عادت منارات جوامع الإسلام مرتفعة ومنابر خطبائها بجواهر التوحيد مرصعة، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته الطيبين الطاهرين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. وبعد فلما راق لى مشرع الحب وصفا، ورق لى ظل الغمام وصفا

ورد على عزمي الساكن مما حركه إلى أشرف الأماكن، فقلت من الواجب المبادرة، إلى أداء فرض الحج الواجب وعزمت بكلي على مجاهدة كلي، وركبت سفينة نجاة كنت أتمناها وقلت لما استويت عليها. باسم اللَّه مجراها ومرساها وساقني سائق الإنعام، والفضل الذي يحل عني الصفة إلى مكة المشرفة، فدخلتها في الثاني من شهر ربيع الأول سنة ثمان وأربعين وثمانمائة مهلا بعمرة وحللت من ذلك البيت الحرام محلا يتمنى أعظم ملوك الأرض أن لو قضى فيه عمره، واستمريت وللَّه الحمد بقية تلك السنة في ذلك المحل الشريف من العبادة والطواف على حالة حسنة ولما آن أوان الحج حججنا وقمنا من "أداء" الفرض بما يجب على كل حاج حسًّا ومعنى، وحين انقضت أيام مني وقع في العزم فتور في الحركة عن قصد العود إلى الديار المصرية إنشا (إن شاء اللَّه) فنويت المجاورة وقلت مجاورة بيت اللَّه الحرام، أفضل من الرجوع إلى القاهرة. (وفي أوائل ثمانمائة وتسع وأربعين سنة) من الهجرة النبوية حصل التوجه إلى المدينة الشريفة النبوية وزيارة قبر سيدنا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وعلى أبيه آدم ومن بينهما من الأنبياء والمرسلين وسلم وشرف وكرم. وكان هذا القصد المبارك هو قصدي الثاني لما فيه من حصول عوارف الفضل ولطف المعاني، ووجوب الشفاعة لمن زار قبره

وانضمامه يوم القيامة إلى لوائه المعقود في المقام المحمود. وما أسعد من أدخله اللَّه -تعالى- في تلك الزمر وإبلاغ السلام إلى الذات الشريفة النبوية المصطفوية شفاها ورده عليه نفسه والتمتع بين قبره ومنبره الشريفين بما يجتنيه الزائر من ثمار العبادة في روضة أنسه المحفوفة من اللَّه عز وجل بالأنوار المشعشعة من أنوار حضرة قدسه. وتلك علامات الرضا غير أنها من اللَّه لم تحصل لغير موفق وتم هذا القصد المبارك الجميل في تلك السنة بعون اللَّه تعالى وتوفيقه وتيسيره وعدنا إلى مكة المشرفة بقصد الحج ثانيا وكان ذلك مما لا يوافق بواعث النفوس على الانصراف إلى غيره. فحججت وقصدت الرجوع من حيث جئت، والنفس تأبى الموافقة على ما أردت، فلما رأيتها لا تنقاد ولا تلين، استخرت اللَّه الذي ما خاب من استخاره ولا ندم من استجاره، وأقمت بمن معي من أهلي في بلد اللَّه الأمين متوكلا في طلب الرزق على من هو يرزقنا من (حين) خلقنا وإلى أن يتوفانا ضمين تاليا قول اللَّه عز وجل: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2]. وقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] وحصل الخير ودرت الأرزاق ونودينا من سر الغيب الكامن في مستودع اللطف الخفي ما عندكم ينفد وما عند اللَّه باق.

وصار الرزق علينا وعلى أهلينا ومن معنا في كل وقت يزيد وملبس السعة والسكون والدعة عند البيت العتيق في كل يوم جديد. وحصلت من فوائد عديدة، ومن ملازمة أنواع العبادة على أشياء ليس هذا موضع ذكرها، ولكن بديع الاستطراد أوجب التنبيه على ذكر المقاصد الحسنة بطريق العادة، بعد مضي تسع سنين في أوائل سنة سبع وخمسين عدت إلى القاهرة المحروسة جعلها اللَّه دار الإسلام إلى يوم الدين. وما رجعت حين رجعت من الحجاز الشريف وحصول ما حصلت عليه من بركته إلا وخاطري مشغول وقلبي متعلق برؤية بيت المقدس وقضاء الوطر من زيارته فلما صرت بالديار المصرية أشغلتني عن ذلك شواغل الخدمة التي من أجلها نقتات وعاقتني عن ذلك عوائق وحالت بيني وبينه من الأقدار الإلهية حالات. واتفق أن المخدوم الذي كنت في خدمته ولى نيابة حلب، فقلت الحمد للَّه حصل القصد ونجح الطلب وبلغت إن شاء اللَّه تعالى من زيارة المسجد الأقصى والصخرة المقدسة وما جاور من المعاهد والمشاهد التي هي على التقوى والرضوان مؤسسة، غاية الأرب. وفي الطريق حصلت أيضًا عوائق مانعة وتعذر الذهاب إلى ذلك المحل المقدس لأسباب لا يليق معها إلا المتابعة، ثم إني رجعت إلى عقلي وتمسكت من هذه الفاصلة بالسبب الأصلي

وقلت لو أن صاحب البيت الذي أذن أن يرفع ويذكر فيه اسمه، ليسر الغرض المطلوب ولكن الأمر أمره والحكم حكمه، ثم ثنيت عنان العزم عن قصد الزيارة، وترخيت، ولازمت الدعاء في مواطن الإجابة وتوخيت وشرعت أقول الأمور مرتهنة بأوقاتها. ومضت على ذلك مدة زمانية والردد كثير من المملكة الشامية إلى الديار المصرية والعزم العزم والشوق الشوق والنية النية، غير أني توهمت من نفسي أن ذلك حجب وطرد وحرمان، وخفت أن أموت ولم أحصل من الزيارة. على طائل، ثم قلت إن متُّ فلا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم ولا يضر شيء مع الإيمان. وفي غضون ذلك التوهم الذي حصل جعلت للَّه تعالى على إن دخلت بيت المقدس وقضيت الوطر فيه من الزيارة وبلغت مع الزائرين فيه غاية التمني، واقتفيت فيه من نهج الهدى آثاره، لأؤلفن من فضائل بيت المقدس وعجائبه وما اشتمل عليه من الصفات القديمة والهيائب (الهيئات) التي سارت أحاديثها الحسنة في الآفاق، وهى إلى الآن على عهدها مقيمة. تأليفًا لطيفا أجمع فيه بين الطريف التالد وأقضي به الأرب من خدمة هذا البيت هو في شد الرحال، أحد الثلاثة المساجد، آتي فيه

بما يوفي بالغرض المقصود وأستوفي فيه التليد والطارف، من عجائب الوجود وأشير إلى ما هو مشهور في حرماته العظيمة البركات الطاهرة الكرامات. رجاء أن أجد ذلك مذخورا عند المولى الكريم الذي يضاعف لعبده الحسنات ويعفو عن السيئات وأنه هو القصد الجميل الذي ما عليه مزيد واللَّه هو الولى الحميد. فلما كان الثالث من شعبان الذي تنشعب فيه الأنوار، خرجت من الشام المحروسة إلى جهة الأغوار، فزرت من جملة الصحابة، معاذ بن جبل وشرحبيل بن حسنة وأبا عبيدة بن الجراح رضى اللَّه عنهم أجمعين وقد فعل. ومن هناك صممت العزم على المسير، فكانت علامة الإذن التيسير

وربك على كل شيء قدير وكان ممن أجرى اللَّه تعالى به قلم قدرته المحقق إطلاقي من قيد الحرمان المضيق إلى سعة منارة ذلك الفضاء المطلق. فدخلت القدس الشريف في يوم السبت المبارك الثامن والعشرين من شهر رمضان المعظم قدره وحرمته سنة ثمانمائة وأربع وسبعين من الهجرة النبوية. فحصل لى في أول وهلة من بقية العشر الأواخر من شهر رمضان ما حصل لأهل السعادة إن شاء اللَّه -تعالى- من جزيل الفضل ووافر الامتنان وحضرت العيد في ذلك الجمع الذي تفرد بخطيبه ومنبره وتوضح بشر فلاح الفلاح على قوس محرابه، وأوضح غوره وسطح لنا الملك العظيم من مطالع أفقه وحلية طرازه ومسرى سواريه وعضائد السهى. (هذا وقد أشرقت فيه الصخرة الشريفة على السها) وازدهرت مصابيح أنسها في سماء قدسها والصخرة قائمة بنفسها رفعها اللَّه الذي رفع السماء بغير عمد ترونها فأنشدت: بلغ الصدود المنتهى ... والقلب عنكم ما انتهى وإذا رضيتم حالتي ... فيكم فذاك المشتهى ها قد حللت بأرضكم ... متفيئا في ظلها مستمطرا من سحبكم ... أهنئ هواطل وبلها

فلئن سمحتم فهو من ... عاداتكم وأجلها وعوارف الحسنى لكم ... معروفة من أصلها ثم قلت: الآن تم القصد وحصل المراد وخلت سلمى بسليم فلا راد له عنها ولا صاد ومن ثم بادرت إلى وفاء نذري الذي تقدم (و) نظرت في الكتب الموجودة المتضمنة لما نحن فيه قال الشيخ الإمام العالم شهاب الدين أبو محمود أحمد بن محمد بن إبراهيم بن هلال بن تميم بن سرور المقدسي الشافعي صاحب مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام -رحمه اللَّه تعالى- ممن سلك ونظم ونثر في حسن التأليف على المنهج الأقوم. والشيخ الإمام، العالم، العلّامة الحبر، البحر، الفهامة، سيد الأشراف وواسطة عقد المنتمين بالنسب المنيف إلى بنى عبد مناف شيخ الإسلام علّامة العلماء الأعلام تاج الدين أبو النصر عبد الوهاب الحسيني الشافعي الدمشقي جمل اللَّه الوجود بوجوده وأنار في أفق العلياء كواكب سعوده، صاحب الروض المغرس في فضائل بيت المقدس ممن تمنى وثمر وارتضى وانتقى وصبر واعتبر وأحاط واحتاط وتتبع المقاصد الحسنة من مظانها وصنف ما ألف على صفة لا تحاط بمكانها، ونقل ما نقل من كلام السابقين الأولين بنصه وصاغ في مبادئه وخواتمه، حديث الفضائل بقصة فياللَّه ما أحلى وباللَّه ما أجلى، ولقد أغناني بفوائده التي أهداها عن الافتقار إلى الاطلاع على أهل الصدر الأول فمن بعدهم من الكلام على ما نحن فيه بما يحصل يه كمال الانتفاع، فإنه أخبر في كتابه الكريم المبدئ من فاتحة (كل) كتاب، "بألم" أنه

وقف على فضائل القدس للشيخ الإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي رحمه اللَّه، وهو جزء لطيف وأنه وقف على ما حضره من الجامع (المستقصى) -في فضائل المسجد الأقصى للإمام الحافظ بهاء الدين أبي محمد القاسم ابن الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة اللَّه بن عساكر، وهو المجلد الأوسط وعلى بعض كراريس يتلوه فيها الجزء السادس عشر والسابع عشر، والمجلد المذكور مقروء على مؤلفه وهو أجزاء أوله الثاني عشر وطبقة سماع على مؤلفه مؤرخة بتاسع عشر شهر رمضان سنة ست وتسعين وخمسمائة بالمسجد الأقصى وطبقة أخرى على مؤلفه أيضًا مؤرخة بسابع ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وطبقة أيضا على غير مؤلفه وهو الشيخ الإمام العالم تقي الدين أبو محمد إسماعيل التنوخي سمع عليه الإمام

الحافظ العلامة تاج الدين عبد الرحمن بن ضياء الفزاري، والإمام أبو زكريا يحيى النووي وغيرهما بقراءة الفقيه العالم المحدث شرف الدين أحمد بن ضياء الفزاري وأنه وقف على مجلد أوله الجزء الأول، وآخره أوائل الجزء العاشر من كتاب الأنس في فضائل القدس لابن عم الحافظ شهاب الدين المذكور وهو القاضي الإمام الثقة أمين الدين أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة اللَّه الشافعي. والمجلد المذكور مقروء على مؤلفه وعليه طبقات سماع عليه آخرها مؤرخ بيوم الخميس خامس عشر من شهر شوال سنة ثلاث وستمائة بجامع دمشق ومقروء على غيره، ثم قال القاضي أمين الدين أحمد المذكور. وقد جمعت هذا الكتاب واعتمدت فيه على كتاب ابن عمي الحافظ أبي محمد القاسم بن الحافظ أبي القاسم رحمه اللَّه يعنى المسمى "بالجامع المستقصى في فضائل المسجد الأقصى" وخرجت في مسموعاتي ورواياتي ما ساويته في إسناده وشاركته في روايته عن مشايخه وأفراده مع ما له من المقدمة والسبق وتفرد به من الحفظ والحذق

وكونه أعلى الجماعة سنًّا وأحسن في جميع الحديث فنًّا انتهى كلامه. قال السيد صاحب "الروض المغرس في فضائل بيت المقدس" ووقفت أيضا على كتاب "باعث النفوس إلى زيارة القدس المحروس" للشيخ برهان الدين الفزاري وقد قال في ديباجته: إنه منتخب في فضائل بيت المقدس وقبر الخليل -عليه الصلاة والسلام- من اللَّه الجليل غالبا من كتاب "المستقصى" للحافظ بهاء الدين بن عساكر والقليل من كتاب أبي المعالي المشرف بن المرجا المقدسي وأعزو إليه ما نقلته منه والباقي من المستقصى. قال وحذفت الأسانيد من ذلك كله لما اقتضته المصلحة في ذلك انتهى كلامه. قال السيد: ووقفت على كتاب "إعلام الساجد بأحكام المساجد" للشيخ بدر الدين الزركشي قال: ووقفت أيضًا على تسهيل المقاصد لزيارة المساجد للشيخ شهاب الدين أحمد بن العماد الأقفهشي الشافعي بخطه قال: ووقفت أيضا على جزء لطيف فيه فضائل الشام ودمشق للشيخ أبي الحسن علي بن محمد

بن شجاع الربعي المالكي وسمع هذا الجزء بدمشق في المسجد الجامع سنة 435 واختصره الشيخ برهان الدين الفزاري بحذف الأسانيد وحذفت ما قام غيره مقامه وسماه "الإعلام بفضائل الشام" قال السيد: ووقفت أيضا على تأليف بالمسجد الخليلي -على ساكنه أفضل الصلاة والسلام- لشخص متأخر عاصرناه يدعى إسحاق بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن كامل التدمري الشافعي الخطيب، والإمام بمقام سيدنا الخليل -عليه السلام- سماه "مثير الغرام في زيارة الخليل عليه السلام" وحكى فيه عن الشيخين الإسنوي والبلقيني فوائد فقال فيه في مواضع وقال شيخنا عبد الرحيم الإسنوي وأفاد وقال شيخنا سراج الدين البلقيني وأجاد قلت: وهذا الذي وقف عليه السيد المشار إليه واعتمد النقل منه في تأليفه

المسمى "بالروض المغرس" أصل كبير لا يحتاج معه إلى زيادة نظر في شيء من كتب الفضائل وهو أدام اللَّه النفع به وبعلومه عمدة في الحديث حجة في النقل فيما عزمت عليه من إتمام هذا التأليف الذي قصدته وترتيبه على النحو الذي أردته وقد جعلته مشتملا على سبعة عشر بابا: الباب الأول: في أسماء المسجد الأقصى وفضائله وفضل زيارته وما ورد في ذلك على العموم والتخصيص والإفراد والاشتراك. الباب الثاني: مبدأ وضعه وبناء داود إياه وبناء سليمان عليه السلام له على الصورة التي كانت من عجائب الدنيا وذكر دعائه الذي دعا به بعد تمامه لمن دخله ومكان الدعاء. الباب الثالث: في فضل الصخرة الشريفة والأوصاف التى كانت لها في زمن سيدنا سليمان -عليه السلام- وارتفاع القبة المبنية عليها يوم ذاك وذكر أنها من الجنة ذاتها تحول يوم القيامة مرجانة بيضاء وما في معنى ذلك. الباب الرابع: في فضل الصلاة في بيت المقدس ومضاعفتها فيه وهل المضاعفة في الصلاة تعم الفرض والنفل أم لا وهل المضاعفة تشمل الحسنات والسيئات، وفضل الصدقة والصوم والأذان فيه، والإهلال بالحج والعمرة فيه وفضل إسراجه، وأنه يقوم مقام زيارته عند العجز عن قصده. الباب الخامس: في ذكر الماء الذي يخرج من أصل الصخرة المشرفة وأنها على نهر من أنهار الجنة وأنها انقطعت في وسط المسجد من كل جهة لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وفي آداب دخولها وما يستحب أن يدعى به عندها ومن أين يدخلها إذا أراد الدخول إليها وما يكره من الصلاة على ظهرها وذكر السلسلة التي كانت عندها وسبب رفعها وذكر البلاطة السوداء التي على باب الجنة واستحباب الصلاة عليها والدعاء بالدعاء المعين والمعين. الباب السادس: في ذكر الإسراء بالنبي

-صلى اللَّه عليه وسلم- إلى بيت المقدس ومعراجه إلى السماء منه وذكر فضل الصلوات الخمس وذكر فضل قبة المعراج والدعاء عندها وفي مقام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وفضل قبته وصلاته -صلى اللَّه عليه وسلم- بالأنبياء والملائكة ليلة الإسراء به عندها استحباب الوقوف في موضع العروج به في مقامه -صلى اللَّه عليه وسلم- والدعاء بالدعاء المعين. الباب السابع: في ذكر السور المحيط بالمسجد الأقصى وما في داخله من المعاهد والمشاهد والمحاريب المقصود بالزيارة والصلاة فيها كمحراب داود ومحراب زكريا ومحراب مريم عليهم السلام ومحراب عمر بن الخطاب ومحراب معاوية -رضي اللَّه عنهما- وما يشرع إليه من الأبواب وعدتها، وذكر الصخور اللاتي في آخر باب المسجد وذكر ذرعه طولا وعرضا وحديث الورقات وذكر وادي جهنم الذي هو خارج السور من جهة الشرق من ذلك المحل. الباب الثامن: في ذكر عين سلوان والعين التي كانت عندها والبئر المنسوبة لسيدنا أيوب -عليه السلام- وذكر البرك والعجائب التي كانت ببيت المقدس وما كان به عند قتل علي بن أبي طالب وولده الحسين -رضي اللَّه عنهما- ومن قال: إنه كالأجمة ورغب عن أهله وذكر طلسم الحياة وذكر طورزيتا والساهرة والجبال

المقدسة وذكر جبل قايسون بخصوصه وما جاء فيه. الباب التاسع: في ذكر فتح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- بيت المقدس وما فعله فيه من كشف التراب والرمل عن الصخرة الشريفة، وذكر بناء عبد الملك بن مروان وما صنعه فيه وذكر الدرة اليتيمة التي كانت في وسط الصخرة وقرنا كبش إبراهيم وتاج كسرى وتحويلهم منها إلى الكعبة الشريفة حتى صارت الخلافة لبني هاشم وذكر تغلب الفرنج على بيت المقدس وأخذه من المسلمين بعد الفتح العمري وذكر مدة مقامه في أيديهم وذكر فتح السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب -رحمه اللَّه تعالى- واستنقاذه من أيدي الفرنج وإزالة آثارهم منه وإعادة المسجد الأقصى إلى ما كان عليه واستمراره على ذلك حتى الآن وإلى يوم القيامة -إن شاء اللَّه تعالى-. الباب العاشر: في ذكر من دخل من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وأعيان الصحابة والتابعين رضوان اللَّه عليهم أجمعين وغيرهم ومن توفي منهم ودفن فيه وإجماع الطوائف كلها على تعظيم بيت المقدس ماخلا السامرة. الباب الحادي عشر: في فضل سيدنا الخليل -عليه السلام- وفضل زيارته وذكر مولده، وقصته عند إلقائه في النار وذكر ضيافته وكرمه وذكر معنى الخلة واختصاصه بها، وذكر ختانه وتسروله وشفقته ورأفته بهذه الأمة وأخلاقه الكريمة وسنته المرضية التى لم تكن لأحد قبله، وأنها صارت من الشرائع والآداب لمن بعده، وذكر عمره وقصته عند موته

وكسوته يوم القيامة. الباب الثاني عشر: في ذكر ابتلائه -صلى اللَّه عليه وسلم- بذبح ولده ومن هو الذبيح وعمر إسحاق -عليه السلام- وكم عمر أبيه وأمه حين ولد، وكرامة سارة والخلاف المذكور في نبوتها ونبوة غيرها من النساء وقصة يعقوب -عليه السلام- وعمره، وشيء من قصة ولده يوسف -عليه السلام- وصفته ومدة سنه عند فراقه لأبيه يعقوب ومدة غيبته عنه ومدفنه وذكر ما كان بينه وبين موسى عليه السلام. الباب الثالث عشر: في ذكر المغارة التي دفن فيها الخليل عليه الصلاة والسلام. هو وأبناؤه الأكرمون وذكر شرائها من ملك ذلك الموضع وهو عفرون وأول من دفن في تلك المغارة وذكر علامات القبور التي بها وما استدل به على صحتها وكم لبناء الحيز الذي بناه سليمان عليه الصلاة وذكر آداب زيارة القبور المشار إليها وبيان موضع قبر يوسف -عليه الصلاة والسلام- وتسميته داخله الحيز وجواز دخوله وإثبات أحكام المساجد له وتسميته حرمًا وإقطاع تميم الداري -رضي اللَّه عنه- الذي أقطعه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- له ولمن وفد معه من الداريين ونسخه وما كتب به لهم في ذلك. الباب الرابع عشر: في ذكر مولد إسماعيل -عليه السلام- ونقله إلى مكة المشرفة، وركوب سيدنا الخليل عليه الصلاة والسلام البراق لزيارته وزيارة أمه هاجر وموتها ومدفنها وعمر إسماعيل ومدفنه وكم بين وفاته ومولد نبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- واللَّه أعلم. الباب الخامس عشر: في قصة لوط عليه الصلاة والسلام

وموضع قبره وذكر المغارة الغربية التي تحت المسجد العتيق تجاهه وذكر مسجد اليقين والمغارة التي في شرقيه. الباب السادس عشر: فيما قيل في قبر سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام وعمره وفائدة سؤاله الدنو من الأرض المقدسة، رميه بحجر وصلاته بقبره ورأفته بهذه الأمة وشفقته عليهم، وذكر شيء من بعض معجزاته وذكر السبب في تسميته موسى واللَّه أعلم. الباب السابع عشر: في فضل الشام وما ورد في ذلك من الآثار والأخبار وسبب تسميتها بالشام، وذكر حدودها وما ورد من حث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "إسكانها" وما تكفل اللَّه "تعالى" به لها ولأهلها وأنها غير دار المؤمنين وعمود الإسلام بها وأن الشام صفوة اللَّه من بلاده يسكنها من يشاء من عباده ودعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لها بالبركة وذكر ما بها من المعاهد والمشاهد المقصودة بالزيارة المعروفة بإجابة الدعوات والتنبيه عليها، وفي معنى ذلك مجملا ومفصلا وأضفت إلى هذا التأليف الحسن الأحسن فالأحسن مما انتقيته وانتخبته مما وقفت عليه من كتب المتقدمين والمتأخرين في الفضائل محذوفة الأسانيد وسميته "إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى" واللَّه سبحانه أسأل وهو أجل مسئول أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم موصلا إلى ما لديه من الزلفى والنعيم المقيم وأن ينفع به مؤلفه وكاتبه وقارئه والناظر فيه، إنه قريب مجيب لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب.

الباب الأول في أسماء المسجد الأقصى وفضائله وفضل زيارته وما ورد في ذلك على العموم والتخصيص والإفراد والاشتراك،

الباب الأول في أسماء المسجد الأقصى وفضائله وفضل زيارته وما ورد في ذلك على العموم والتخصيص والإفراد والاشتراك، اعلم أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى قال صاحب إعلام الساجد بأحكام المساجد: جمعت في ذلك سبعة عشر اسمًا وهي من النفائس المهمة المسجد الأقصى وسمي الأقصى لأنه أبعد المساجد التي تزار ويبتغى بها الأجر من المسجد الحرام وقيل لأنه ليس وراءه موضع عبادة، وقيل لبعده عن الأقذار والخبائث وروي أن عبد اللَّه بن سلام قال للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما تلا قوله تعالى: {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] ولم سماه الأقصى قال: لأنه وسط الدنيا لا يزيد شيئًا ولا ينقص قال: صدقت ومسجد إيليا بهمزة مكسورة ثم ياء ساكنة ثم لام مكسورة ثم ياء آخر الحروف ثم ألف ممدودة ككبرياء وحكى البكري فيها القصر ومعناه بيت المقدس حكاه الواسطي في فضائله وحكى

صاحب الطوالع فيه لغة ثالثة حذف الياء الأولى وسكون اللام وبالمد وفي مسند أبي يعلى الموصلي عن ابن عباس الياء بألف ولام، واستغربه النووي. وبيت المقدس بفتح الميم وسكون القاف، أي المكان المطهر من الذنوب، واشتقاقه من القدس، وهي الطهارة والبركة. والقدس: اسم مصدر في معنى الطهارة والتطهير، وروح القدس: جبريل عليه السلام؛ لأنه روح مقدسة، والتقديس: التطهير، ومنه وتقدس لك: أي تنزهك عما لا يليق بك، وفيه قيل للسطل: قدس لأنه يتطهر منه فمعنى بيت المقدس المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب، ويقال: المرتفع المنزه عن الشرك، والبيت المُقَدَّس: بضم الميم وفتح الدال المشددة، أي المطهر وتطهيره إخلاؤه من الأصنام، وبيت المقدس بضم الدال وسكونها لغتان، وسلم لكثره سلام الملائكة فيه. قال ابن موسى: وأصله شلّم بالمعجمة وتشديد اللام اسم بيت المقدس، ويروى بالمهملة وكسر اللام، كأنه عربه ومعناه بالعبرانية: بيت السلام، "وأرشلم" بضم الهمزة وفتح الشين المعجمة وكسر اللام المخففة قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى والأكثرون بفتح الشين واللام وكوره الياء وأرشليم، وبيت آيل وصيهون، وقصرون بصاد مهملة وثاء مثلثة، وبابوش بموحدتين وشين معجمة، وكور شلاه وشليم وأزيزل وصلون. وقال في مثير الغرام: يقال: بيت المقدس بالتخفيف والتثقيل، والقدس بالسكون والتحريك، والأرض المقدسة والمسجد الأقصى وإليا وإيليا وشلم بالتشديد، وأورشلم أي بيت الرب وصهيون بصاد مهملة مكسورة، ويقال لبيت المقدس: الزيتون، ولا يقال له: الحرم. وأما فضائله فلا تحصى ولا تحصر ولا تستقصى، والذي يدل على فضله من كتاب اللَّه -تعالى-

قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] فلو لم يكن لبيت المقدس من الفضيلة غير هذه الآية لكانت كافية، وبجميع البركات وافية؛ لأنه إذا بورك حوله فالبركة فيه مضاعفة، ولأن اللَّه -تعالى- لما أراد أن يعرج بنبيه محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى سمائه جعل طريقه عليه تبينا لفضله، وليجعل له فضل البيتين وشرفهما، وإلا فالطريق من البيت الحرام إلى السماء كالطريق من بيت المقدس إليها، وسبحان اللَّه تنزيه عن السوء ومضاه يسبح اللَّه تعالى تسبيحا، والمسجدان المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وبهما وقع التصريح في الآية الشريفة، وباركنا حوله: أجرى اللَّه حول بيت المقدس الأنهار وأنبت الثمار وأظهر البركة، والبركة: الثبات يراد به ثبات الخير، ومضى تبارك اللَّه: ثبت الخير عنده أو في خزائنه، وقيل: علا وتقدس من العظمة والجلال، وقيل: من البقاء والدوام، وقال خالد بن حازم: قدم الزهري بيت المقدس فجعلت

أطوف به في تلك المواضع فيصلي فيها، قال: فقلت له: إن ههنا شيخا يحدث عن الكميت يقال له: عقبة بن أبي زينب، فلو جلسنا إليه، قال: فجلسنا إليه فجعل يحدث عن فضائل بيت المقدس، فلما أكثر قال الزهري: أيها الشيخ إنك لن تنتهى إلى ما انتهى إليه قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] ومنها قوله تعالى لبني إسرائيل {ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 58] فلم يخص اللَّه تعالى مسجدا سوى بيت المقدس بأن وعدهم أن يغفر لهم خطاياهم بسجدة فيه دون غيره إلا بفضل خصه به، ومنها قوله تعالى لإبراهيم ولوط عليهما السلام: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] والمراد به بيت المقدس، ومنها قوله تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] قال بعض المفسرين: المراد بيت المقدس، ومنها قوله تعالى لبني إسرائيل: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21] فسماه اللَّه تعالى مرة مباركا ومرة مقدسا ومنها قوله تعالى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43]

قيل: إلى صخرة بيت المقدس، ومنها قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: 93] قيل: بوأهم الشام وبيت المقدس خاصة، ومنها قوله تعالى: {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق: 41] قيل: إنه ينادي من صخرة بيت المقدس، ومنها قوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 14] والساهرة إلى جانب بيت المقدس. ومنها قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] قال عقبة بن عامر التين دمشق والزيتون بيت المقدس، ومنها قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] هو سور بيت المقدس؛ باطنه أبواب الرحمة وظاهره "واد" جهنم ومما يدل على فضله من السنة ما رواه أبو هريرة -رضي اللَّه عنه- يبلغ به قال: "تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد:

المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا" وفي لفظ من رواية أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام وإلى مسجدي هذا وإلى بيت المقدس، ولا صيام في يومين: يوم الأضحى ويوم الفطر، ولا صلاة في ساعتين: بعد صلاة الغداة إلى طلوع الشمس وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، ولا تسافر امرأة يومين إلا مع زوج أو ذوي رحم محرم". وفي لفظ آخر من رواية أبي سعيد الخدري وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنهما- عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا، ولا تسافر امرأة مسيرة يومين إلا مع زوجها أو ذي رحم محرم من أهلها".

عن أبي ذر -رضي اللَّه عنه- قال: قلت يا رسول اللَّه أي مسجد وضع في الأرض أولا؟ قال: "المسجد الحرام" قلت: ثم قال: "المسجد الأقصى" قال: قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة" قال: "فأيهما أدركت الصلاة فصل فهو مسجد" وعن عمران (بن حصين) قال: قلت: يا رسول اللَّه ما أحسن المدينة! قال: "كيف لو رأيت بيت المقدس وهو أحسن". فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وكيف لا يكون وكل من بها يزار ولا يزور، وتهدى إليه الأرواح ولا يهدى روح بيت المقدس إلا إلى اللَّه، أكرم المدينة وطيبها بي وأنا فيها حي، وأنا فيها ميت، ولولا ذلك ما هاجرت من مكة، فإني ما رأيت القمر في بلد قط إلا وهو بمكة أحسن". وقال كعب: "لا تقوم الساعة حتى يزور البيت الحرام

بيت المقدس فيقادان إلى الجنة جميعا، وفيهما أهلهما والعرض والحساب ببيت المقدس) وقال سليمان: لقد يأتي مسجد اللَّه إلى بيت المقدس يعنى يؤتى بالكعبة إلى بيت المقدس، قال: وأنزل اللَّه بني إسرائيل الأرض المقدسة وكان منهم من الأنبياء داود وسليمان عليهما السلام ملكوا الأرض فسماها اللَّه -تعالى- مرة مباركة ومرة مقدسة. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] يقال: أرض الجنة يرثها العالمون بطاعة اللَّه -تعالى- وقيل: الأرض الدنيا، والصالحون أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقيل: هم بنو إسرائيل، وقيل: الأرض ههنا التي يجتمع عليها أرواح المؤمنين، يعني يكون البعث، ويقال: الأرض المقدسة يرثها محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114] نزلت في منع الروم المسلمين من بيت المقدس فأذلهم اللَّه وأخزاهم ولا يدخله أحد منهم أبدا إلا وهو خائف متلفع ثوب الخزي والهوان والصغار، قال عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنه-:

إن الحرم المحرم في السموات السبع بمقداره في الأرض وإن بيت المقدس لمقدس في السموات السبع بمقداره في الأرض. وقال كعب: إن اللَّه ينظر إلى بيت المقدس كل يوم مرتين، وقال: باب مفتوح من السماء من أبواب الجنة ينزل منه الحنان والرحمة على بيت المقدس كل صباح حتى تقوم الساعة، وقال: ما مثل بيت المقدس عند اللَّه وسائر الأرضين، وللَّه المثل الأعلى، إلا كمثل رجل له مال كثير وفيه كنز وهو أحب ماله إليه فإذا أصبح لم يطلع على شيء من ماله قبل كنزه ذلك، كذلك رب العالمين في كل صباح لا يطلع في شيء من الأرض قبلها يدر عليها حنانه ورحمته ثم يدرها بعده على سائر الأرضين. عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أراد أن ينظر إلى بقعة من بقع الجنة فلينظر إلى بيت المقدس" قال أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-: إن الجنة لتحن شوقًا إلى بيت المقدس وبيت المقدس من جنة الفردوس والفردوس الأعلى هو ههنا ربوة في الجنة هي أواسط الجنة وأعلاها وأفضلها. وقال: من أتى البيت الحرام غفر له ورفع له ثماني درجات،

ومن أتى مسجد الرسول غفر له ورفع له ست درجات، ومن أتى بيت المقدس غفر له ورفع له أربع درجات قال: من استعفر للمؤمنين والمؤمنات ببيت المقدس في كل يوم خمسا وعشرين مرة؛ وقاه اللَّه المتالف وأدخله في البدلاء، وعن خالد بن سعدان أن حذو بيت المقدس باب من السماء يهبط اللَّه كل يوم منه سبعين ألف ملك يستغفرون لمن يجدونه يصلي فيه قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن للَّه بابا في سماء الدنيا نحو بيت المقدس ينزل منه كل يوم سبعون ألف ملك يستغفرون اللَّه لمن أتى بيت المقدس فصلى فيه". وعن وهب بن منبه: أهل بيت المقدس جيران اللَّه تعالى وحق على اللَّه -تعالى- أن لا يعذب جيرانه". وعن أبي جريج عن عطاء أنه قال: لا تقوم الساعة

حتى يسوق خيار عباده إلى بيت المقدس فيسكنهم اللَّه إياها. وقال عبد اللَّه بن عمر: بيت المقدس بنته الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وعمرته، وما فيه موضع شبر إلا وقد سجد عليه ملك أو نبي، فلعل جبهتك أن توافي جبهة ملك أو نبي، وقال مقاتل بن سليمان: ما فيه موضع شبر إلا وقد صلى عليه نبي مرسل، أو قام عليه ملك مقرب. وذكر أن في كل ليلة ينزل سبعون ألف ملك إلى مسجد بيت المقدس، يهللون اللَّه ويكبرونه ويسبحونه ويحمدونه ويقدسونه ويمجدونه ويعظمونه ولا يعودون إلى أن تقوم الساعة ويروى عن معاذ أنه أتى بيت المقدس فأقام به ثلاثة أيام ولياليها يصوم ويصلي، فلما خرج منه وكان على الشرف ثم أقبل على أصحابه فقال: أما ما مضى من ذنوبكم فقد غفر اللَّه تعالى لكم، فانظروا ما أنتم صانعون ما بقي من أعماركم. "أقول ولبيت المقدس فضائل جمة نبه على غالبها بطريق العموم والإفراد والاشتراك الحافظ أبو محمد القاسم وذكرها في نسخة معتمدة مقروءة عليه وحكاها عنه في باعث النفوس في الفصل الثاني عشر فقال الحافظ بهاء الدين عن مقاتل وساق ما ذكره من جامع الفضائل وترجم

عليها صاحب كتاب "الأنس الجليل" فقال جميع أبواب فضائل القدس، ثم ذكر آيات تتعلق بالمسجد الأقصى وبيت المقدس، والأرض المقدسة وبعض أخبار ولم يزد على ذلك، ولم يعرج على ما ذكره ابن عمه الحافظ صاحب المستقصى "الشريف" وأسانيد ما ذكره الحافظ في جامع فضائل بيت المقدس متشعبة؛ منها ما هو بسنده إلى الهذيل عن مقاتل بن سليمان ومنها ما هو بسنده إلى محمد بن عبد اللَّه الإسكندراني قال: قال مقاتل بن سليمان: وبعضهم يزيد على بعض في التقديم والتأخير وقد جمع السيد صاحب الروض المغرس "بين" الروايتين لاتفاقها لفظا ومعنى وتواردهما وجامع الفضائل على محل واحد قال: قال محمد بن عبد اللَّه الإسكندراني وحده وقال مقاتل: صخرة بيت المقدس وسط الدنيا، "وإذا" قال العبد لصاحبه: انطلق بنا إلى بيت المقدس. يقول اللَّه تعالى: يا ملائكتي اشهدوا أني

قد غفرت لهما قبل أن يخرجا. هذا إذا كانا لا يصران على الذنوب. "يقال" قال: إن اللَّه -تعالى- تكفل لمن سكن بيت المقدس بالرزق وإن فاته المال، ومن مات مقيما محتسبا في بيت المقدس، فكأنما مات في السماء، ومن مات حول بيت المقدس فكأنما مات في بيت المقدس، وأول أرض بارك اللَّه فيها بيت المقدس ويجعل الرب -جل جلاله- مقامه يوم القيامة في أرض بيت المقدس وجعل صفوته من الأرض كلها. أرض بيت المقدس، والأرض المقدسة التى ذكرها اللَّه -تعالى- في القرآن "العظيم" فقال: {إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] هي أرض بيت المقدس وقال تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام انطلق إلى بيت المقدس فإن فيه ناري ونوري وتنوري يعني وفار التنور وكلم اللَّه تعالى موسى "في الأرض المقدسة"، وتجلى اللَّه -جل جلاله- للجبل في أرض بيت المقدس ورأى موسى عليه السلام نور رب العزة -جل جلاله- في أرض بيت المقدس، وصخرة بيت المقدس هي أوسط الأرض كلها وإذا قال الرجل لصاحبه انطلق بنا إلى بيت المقدس ففعلا، يقول اللَّه تعالى: طوبى للقائل والمقول له وقد تقدم بمعناه. وقال مقاتل: وتاب اللَّه على داود وسليمان -عليهما السلام- في أرض بيت المقدس ورد

اللَّه على سليمان ملكه في بيت المقدس، وبشر اللَّه زكريا بيحيى في بيت المقدس، وتسورت الملائكة على داود المحراب ببيت المقدس، وسخر اللَّه لداود الجبال والطير ببيت المقدس، وكانت الأنبياء -صلوات اللَّه وسلامه عليهم- يقربون القرابين ببيت المقدس، وتهبط الملائكة -عليهم السلام- كل ليلة ببيت المقدس، وأوتيت مريم -عليها السلام- فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ببيت المقدس، وأنبت "اللَّه تعالى" النخلة لها ببيت المقدس، وولد عيسى -عليه السلام- ببيت المقدس، ورفعه اللَّه تعالى إلى السماء من بيت المقدس، وأنزلت عليه "المائدة" في أرض بيت المقدس، ويغلب يأجوج ومأجوج على الأرض كلها غير بيت المقدس، ويهلكهم اللَّه "تعالى" في أرض بيت المقدس وينظر اللَّه تعالى في كل يوم بخير إلى بيت المقدس، وأعطى اللَّه "تعالى البراق للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فحمله إلى بيت المقدس، وأوصى إبراهيم وإسحاق -عليهما السلام- لما ماتا أن يدفنا في أرض بيت المقدس، وأوصى آدم -عليه السلام- لما مات بأرض الهند أن يدفن في بيت المقدس، وماتت مريم -عليها السلام- ببيت المقدس، وهاجر إبراهيم -عليه السلام- من كوثا إلى بيت المقدس وتكون الهجرة في آخر الزمان إلى بيت المقدس، ورفع التابوت والسكينة من أرض بيت المقدس، وصلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- زمانًا إلى بيت المقدس ورأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مالكا خازن النار ليلة أسري به ببيت المقدس، وركب

النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- البراق إلى بيت المقدس وهبط به من السماء إلى بيت المقدس، وأسري به -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى بيت المقدس، والمحشر والمنشر إلى بيت المقدس، ويأتي اللَّه في ظلل من الغمام والملائكة إلى بيت المقدس وينصب الصراط على جهنم إلى الجنة "بأرض" بيت المقدس، وتوضع الموازين يوم القيامة ببيت المقدس، وصفوف الملائكة يوم القيامة ببيت المقدس وينفخ إسرافيل "يوم القيامة" في الصور ببيت المقدس، ينادي: أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والعروق المتقطعة، اخرجوا إلى حسابكم "وتنفخ" "فيه" أرواحكم وتجازون "على أعمالكم". ويتفرق الناس من بيت المقدس إلى الجنة والنار، فذلك قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14] "الناس" ويومئذ يعرضون فريق إلى الجنة وفريق إلى السعير" كل ذلك ببيت المقدس. وكفل زكريا مريم -عليهما السلام- ببيت المقدس، وفهم اللَّه سليمان منطق الطير ببيت المقدس وسأل سليمان ربه مُلْكًا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه ذلك ببيت المقدس، والحوت الذي على ظهره الأرضين رأسه في مطلع الشمس وذنبه في المغرب ووسطه تحت بيت المقدس، ومن سره أن يمشي في روضة من رياض الجنة فليمش في صخرة ببيت المقدس وشدد اللَّه لداود ملكه ببيت المقدس، وألان له الحديد ببيت المقدس،

وتقبل اللَّه من امرأة عمران نذرها ببيت المقدس ووهب اللَّه لدواد "ذنبه" ببيت المقدس وأيد اللَّه "تعالى" عيسى -عليه السلام- بروح القدس ببيت المقدس، وآتى اللَّه الحكم ليحيى صبيا في بيت المقدس وكان عيسى -عليه السلام- يحيي الموتى ويصنع العجائب في بيت المقدس، ومن صلى في بيت المقدس فكأنما صلى "في السماء" الدنيا، وتخرب الأرض كلها ويعمر بيت المقدس. ويحشر اللَّه الأنبياء كلهم إلى بيت المقدس، "ويحشر اللَّه محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى بيت المقدس"، وأول ما انحسر ماء الطوفان عن صخرة بيت المقدس، ويسر اللَّه الأنبياء كلهم لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فصلى بهم في بيت المقدس، وينفخ في الصور النفخة الثانية من بيت المقدس وينادي المنادي على صخرة المقدس، وتصف الملائكة حول بيت المقدس وتسجد النار في بيت المقدس وباب السماء مفتوح في بيت المقدس وهزت النخلة لمريم -عليها السلام- رطبا جنيا ببيت المقدس، وتطير أرواح المؤمنين إلى أجسامهم في بيت المقدس. وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن خيار أمتي تهاجر هجرة بعد هجرة إلى بيت المقدس، ومن صلى ببيت المقدس بعد أن يتوضأ ويسبغ الوضوء ركعتين أو أربعا غفر له ما كان قبل ذلك". وفي رواية: "من صلى ببيت المقدس خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وكان له بكل شعرة من جسده مائة نور عند اللَّه يوم القيامة، وكانت له حجة مبرورة متقبلة، وأعطاه اللَّه قلبا شاكرًا، ولسانا ذاكرا، وعصمه من المعاصي، وحشره مع الأنبياء، صلوات

اللَّه عليهم أجمعين، ومن "عبر" ببيت المقدس سنة على "أذاها" وشدتها جاء اللَّه برزقه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن تحته ومن فوقه يأكل رغدا ويدخل الجنة إن شاء اللَّه تعالى". وأول بقعة بنيت من الأرض كلها موضع صخرة بيت المقدس. قال وينظر اللَّه تعالى بالرحمة كل يوم إلى بيت المقدس، وتظهر عين موسى في آخر الزمان في بيت المقدس وبشر اللَّه مريم بعيسى -عليه السلام- في بيت المقدس. وفضل اللَّه مريم على نساء العالمين في بيت المقدس، ويمنع اللَّه عدوه الدجال من الدخول إلى بيت المقدس، ويغلب على الأرض كلها إلا بيت المقدس ومكة والمدينة وتاب اللَّه على آدم ببيت المقدس وفيها صفوة اللَّه من عباده ومنها بسطت الأرض ومنها تطوى. قال: ويطلع اللَّه كل صباح إلى سكان بيت المقدس فيدر عليهم من رحمته وحنانه، ثم يدره على "سائر" البلدان. قال: والطل الذي ينزل على بيت المقدس شفاء من كل داء؛ لأنه من حنان الجنة، وما يسكن أحد في بيت المقدس حتى يشفع له سبعون ألف ملك إلى اللَّه تعالى قال: ويقول اللَّه تعالى: "المقبور في بيت "المقدس" يجاورني في "داري" ألا وإن الجنة داري لا يجاورني فيها إلا السخاء والحلم" قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبي عبيدة بن الجراح -رضي اللَّه عنه-: "النجاء النجاء إلى بيت المقدس إذا ظهرت الفتن" قال: يا رسول فإن لم أدرك بيت المقدس؟ قال: "فابذل مالك واحرز دينك" وكذلك قال علي -رضي اللَّه عنه- لصعصعة: نعم المسكن عند ظهور الفتن بيت

المقدس، القائم فيها "كالمجاهد" في سبيل اللَّه تعالى، وليأتين على الناس زمان يقول أحدهم: ليتنى في لبنة في في بيت المقدس". وأحب الشام إلى اللَّه تعالى بيت المقدس، وأحب جبالها إليه الصخرة وهي آخر الأرضين خرابا بأربعين عاما، قال: وهي روضة من رياض الجنة. قال: ويقول اللَّه تعالى لصخرة بيت المقدس: "وعزتي وجلالي لأضعن عليك عرشي ولأحشرن إليك خلقي ولأجرين أنهارك نهرا من لبن ونهرا من عسل ونهرا من خمر أنا يومئذ ربهم وداود ملكهم". قال: وأخبرنا المشرف وأنبأنا أبو الفرج أنبانا أحمد بن خلف الهمداني حدثني أبو عبد اللَّه بن محمد الخزري وكان يعد من الأبدال. قال: رأيت ليلة عاشوراء سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة فيما يرى النائم، كأن في صحن مسجد بيت المقدس وأنا مقابل قبة الصخرة، فإذا هى قبة عظيمة، من نور بيضاء عالية وعلى رأسها درة ثم دخلت إلى القبة حتى يلي المسجد وباب من حديد مما يلي الوادي ثم قيل لي: إن لكل نبي من الأنبياء -صلوات اللَّه عليهم- سهما من هذا المسجد، وكذلك لكل مؤمن ثم دخلت المسجد نحو الصف الأول فقيل لي: انظر فإذا قوم قد ابتلعتهم الأرض ورؤوسهم خارجة. فقلت: من هؤلاء؟ فقيل لي: من يبغض السلف ثم كلمني أربع، فقلت في سري: ملائكة فقيل لي: هم جبريل "وميكائيل" وإسرافيل

ولم أعرف الرابع وهم يقولون لي "أقرئ" أبا محمد السلام يعنون إمام المسجد الجامع المقدس وقل: له اجعل الخطب التي تخطبها للَّه "تعالى" وكذلك سائر عمله، فإذا تم له ذلك وضعنا له سريرا من نور في الجنة، حتى يرتفع عليه ويرتفع على الناس وكذلك أبو بكر بن علاوة وأبو أحمد محمد بن عبد الرحيم القيسراني وليدوموا على ما هم عليه وفي هذا الوقت سبعة من المؤمنين أوتاد الأرض ببيت المقدس "وفيه" سهام المؤمنين باللَّه فقلت فسهام أهل البدع؟ فقيل لى: في وادي جهنم. فأشرقت على الوادي قلت أشتهي أنظر فإذا فيها نار ترمي "بشرر" مثل النخلة إذا قطعت بالمنشار كبارا أعاذنا اللَّه منها بمّنه وكرمه واللَّه أعلم.

الباب الثاني في مبدأ وضعه وبناء داود إياه وبناء سليمان -عليه السلام- على الصورة التى كانت من عجائب الدنيا، وذكر دعائه الذي دعا به بعد إتمامه "لمن دخله" ومكان "الدعاء".

الباب الثاني في مبدأ وضعه وبناء داود إياه وبناء سليمان -عليه السلام- على الصورة التى كانت من عجائب الدنيا، وذكر دعائه الذي دعا به بعد إتمامه "لمن دخله" ومكان "الدعاء". روى عن ابن مبارك عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن سعيد بن المسيب -رضي اللَّه عنه- قال: لما أمر اللَّه تعالى داود عليه السلام أن يبني مسجد القدس قال: يارب وأين أبنيه؟ قال: حيث ترى الملك شاهرا سيفه، قال: فرآه داود في ذلك المكان فأخذ داود وأسس قواعده ورفع حائطه فلما ارتفع انهدم فقال داود "عليه السلام": يا رب أمرتني أن أبني لك بيتا فلما ارتفع هدمته فقال يا داود إنما جعلتك خليفتي في خلقي، فلم أخذت المكان من صاحبه بغير ثمن؟ إنه سيبنيه رجل من ولدك. وقيل إن معنى الهدم بعد "ارتفاع" البناء أن المكان كان لجماعة من بني إسرائيل ولكل واحد منهم فيه حق فطلبه داود منهم

فانضم به البعض "باللفظ" والبعض بالسكوت ففهم داود "عليه السلام" من الساكنين الرضا، وكان بعضهم غير راض في "الباطن" فحمل داود "عليه السلام" الأمر على ظاهره فبناه فجاء بعض أصحاب الحق إلى بني إسرائيل فقال لهم: إنكم تريدون أن تبنوا على حقي وأنا مسكين وإنه موضع "بيدي" أجمع فيه طعامي فأرتفق بحمله إلى منزلي لقربه، فإن بنيتم عليه أضررتم (بحالي)، فانظروا في أمري "فقال" له: كل من بني إسرائيل له مثل حقك وأنت أبخلهم "بالخير" فإن أعطيت طوعا وإلا أخذناه على كره منك. فقال: أتجدون هذا في حكم داود؟ ثم انطلق وشكاهم إليه، فدعاهم وقال لهم: تريدون أن تبنوا بيت اللَّه تعالى بالظلم! ما أراكم يا بنى إسرائيل تشتكون للَّه -عز وجل- ولا أرى إلا أمن "البلاء" يضعفكم ثم قال: له داود -عليه السلام- أتطب نفسك عن حقك فتبيعه بحكمك؟ فقال: وما تعطيني فيه؟ قال: أملؤه لك إن شئت غنمًا، وإن شئت بقرًا، وإن شئت إبلًا فقال: يا نبي اللَّه زدني فإن ما تشريه للَّه تعالى، فلا تبخل علي فقال له داود -عليه السلام- احتكم فإنك لا تسألني إلا أعطيتك فقال: ابن عليه حائطًا قدر قامتي ثم املأه لي ذهبا فقال له داود -عليه السلام- نعم وهو في اللَّه قليل، فالتفت

الرجل إلى بني إسرائيل وقال: هذا واللَّه التائب الصادق المخلص. ثم قال: يا نبي اللَّه قد علم اللَّه "عز وجل مني" لمغفرة ذنب من ذنوبي "هؤلاء" أحب إلي من ملء الأرض ذهبا فكيف يظن هؤلاء أني أبخل عليهم وعلى نفسي؟ بما أرجو به المغفرة لذنوبي وذنوبهم ولكني جزيتهم رحمة لهم وشفقة عليهم، وقد جعلته للَّه تعالى. فأقبلوا على عمل بيت المقدس، وباشر داود العمل بنفسه، وجعل ينقل الحجر على عاتقه، ويصنعه بيده "في مواضعه" ومعه أحبار بني إسرائيل، والسبب في بناء داود -عليه السلام- بيت المقدس ما رواه ابن إسحاق أن اللَّه تعالى أوحى إلى داود -عليه السلام- لما كثر طغيان بني إسرائيل: (إني أقسمت بعزتي لأبتلينهم بالقحط سنين أو أسلطن عليهم العدو شهرين أو الطاعون ثلاثة أيام. قال: فجمعهم داود، وخيرهم بين إحدى الثلاث فقالوا له: أنت نبينا وأنت أنظر لنا من أنفسنا. فاختر لنا فقال: أما الجوع فإنه "بلاء" فاضح لا يصبر عليه أحد، وأما العدو والموت فإني أخيركم إن أخذت تسليط" العدو فإنه لا يبقي لكم والموت بيد اللَّه -تعالى- تموتون بآجالكم في بيوتكم ففوضوا "كل ذلك" إلى اللَّه تعالى فهو أرحم بكم فاختار لهم الطاعون وأمرهم أن يتجهزوا ويلبسوا أكفانهم ويخرجوا نساءهم وأموالهم وأولادهم وهم خلفهم على الصخرة والصعيد الذي بني عليه بيت المقدس وهو يومئذ صعيد واحد ففعلوا ثم نادى يا رب أنت أمرتنا بالصدقة وأنت تحب المتصدقين فتصدق علينا برحمتك. اللهم إنك أمرتنا بعتق الرقاب فنسألك

برحمتك أن تعتقنا اليوم اللهم وقد أمرتنا أن لا نرد "السائل" إذا وقف بأبوابنا وأنت تحب من لا يرد السائل وقد جئناك سائلين فلا تردنا "ثم" خروا سجدا من حين طلع الصبح فسلط اللَّه عليهم الطاعون في ذلك الوقت إلى أن زالت الشمس، ثم رفعه عنهم، ثم أوحى إلى داود -عليه السلام- أن ارفعوا رؤوسكم فقد شفعتك فيهم. فرفعوا رؤوسهم وقد مات منهم مائة ألف وسبعون ألفا أصابهم الطاعون وهم سجود فنظروا إلى الملائكة يمشون بينهم بأيديهم الخناجر ثم عمد داود -عليه السلام- فارتقى الصخرة رافعا يديه يحدث اللَّه شاكرا ثم إنه جمع بنى إسرائيل بعد ذلك وقال إن اللَّه -تعالى- قد رحمكم وعفا عنكم "فاسجدوا" للَّه شكرا بقدر ما أبلاكم فقالوا له: مرنا بما شئت قال: إني لا أعلم أمرا أبلغ في شكركم من بناء مسجد نعبد اللَّه تعالى فيه ونقدسه أنتم ومن بعدكم قالوا نفعل وسأل داود ربه فأذن له فأقبلوا على بنائه. وكذلك قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الطاعون رجس أرسله اللَّه على بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم" الحديث أخرجه البخاري ومسلم وقال "غير" ابن إسحاق أصاب بني إسرائيل طاعون في زمن داود -عليه السلام- وهو داود بن أبشا من ذرية يهود بن يعقوب فخرج بهم إلى موضع بيت المقدس يدعون اللَّه تعالى ويسألون كشف البلاء عنهم، فاستجاب اللَّه لهم فاتخذوا ذلك الموضع مسجدا وذلك لإحدى عشرة سنة خلت من ملكه، وتوفي قبل أن يتم بناؤه فأوصى إلى سليمان -عليه السلام- فبناه فى ثماني سنين ولما فرغ من بنائه أطعم فيه بنى إسرائيل اثني عشر ألف ثور قيل: إن سببه أن داود عليه السلام رأى الملائكة سالين سيوفهم يغمدونها ويرتقون في سلم من ذهب من الصخرة إلى السماء فقال داود عليه السلام: هذا مكان ينبغي أن يبنى فيه مسجد للَّه تعالى قاله

وهب بن منبه. وقول ابن المسيب حيث قال لما أمر اللَّه داود عليه السلام: أن يبني مسجد بيت المقدس قال: رب وأين أبنيه؟ قال: حيث ترى الملك شاهرا سيفه ويمكن الجمع بين هذه الأقوال أن يكون داود هَمَّ ببنائه لما كشف عن بني إسرائيل البلاء ورفع عنهم الطاعون ورأى الملائكة عقب ذلك وقال لهم عن البناء وسأل اللَّه تعالى أن يبني مسجدا. فأوحى اللَّه تعالى إليه أن يبنيه فسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- وقال: يا رب أين أبنيه؟ قال حيث ترى الملك شاهرا سيفه فبناه ثم توفي قبل إتمامه فأوصى سليمان -عليه السلام- ببنائه فبناه وأتمه. وكان من أمر سليمان -عليه السلام- في بنائه ما رواه عبد اللَّه بن الزبير الحميدي عن سفيان عن بشر بن عاصم عن كعب قال: إن اللَّه تعالى لمَّا أوحى إلى سليمان -عليه السلام- أن ابن بيت المقدس جمع حكماء الإنس والجن وعفاريت الأرض وعظماء الشياطين وجعل منهم فريقا يبنون وفريقا يقطعون الصخور والعمد من معادن الرخام وفريقا يغوصون في البحر، يخرجون منه الدر والمرجان وكان في الدر ما هو مثل بيضة النعامة وبيضة الدجاجة وأخذ في "بناء" بيت المقدس فلم يثبت البناء فأمر بهدمه. ثم حفر الأرض حتى بلغ الماء، فأسسه على الماء وألقوا فيه الحجارة فكان الماء "يلفظها" فدعا. سليمان -عليه السلام- الحكماء الأخيار ورئيسهم أصف

بن برخيا وقال لهم: أشيروا علي. فقالوا: إنا نرى أن نتخذ قلالا من نحاس ثم نملؤها حجارة، ثم تكتب عليها "الكتاب" الذي في خاتمكم، ثم تلقى القلال في الماء ففعلوا فثبتت القلال في الماء، فألقوا المون والحجارة عليها، وبني حتى ارتفع بناؤه وفرق الشياطين في أنواع العمل، فدأبوا في عمله وجعل فرقة منهم يقطعون معادن الياقوت بأنواع الجواهر وجعل الشياطين صفًّا مرصوصا من معادن الرخام إلى حائط المسجد، فإذا قطعوا من المعادن حجرا أو أسطوانة تلقاه الأول منهم "ثم الذي يليه" ويلقيه بعضهم إلى بعض حتى ينتهي إلى المسجد، وجعل فرقة لقطع الرخام الأبيض الذي منه ما هو مثل بياض اللبن بمعدن يقال له السامور ليس هو هذا السامور الذي هو في يدي الناس الآن ولكن هذا به يسمى. والذي دلهم على معدن السامور عفريت من الشياطين كان في جزيرة من جزائر البحر فذكره سليمان -عليه السلام- "عليه"، فأرسل إليه بطابع من حديد وكان خاتمه يرسخ في الحديد والنحاس فيطبع إلى الجن بالنحاس وإلى الشياطين بالحديد وكأن خاتما نزل عليهم من السماء حلقته بيضاء وطابعه كالبرق الخاطف، لا يستطيع أحد أن يملأ بصره منه فلما وصل الطابع إلى العفريت وجيء به قال له: هل عندك من حيلة أقطع بها "الصخور"؟ فإني أكره صوت الحديد في مسجدنا هذا فقال له العفريت: إني لا أعلم في السماء طيرا أشد من العقاب، ولا أكثر حيلة منه. وذهب يبتغي "وكر" عقاب فوجد وكرا "فيه أفراخ العقاب" فغطى عليه بترس "غليظ من حديد"، فجاء

العقاب "إلى وكره فوجد الترس الحديد" فنفخه برجله ليزيحه أو ليقطعه فلم يقدر عليه، فحلق في السماء ولبث يومه وليله ثم أقبل ومعه قطعة من السامور فتفرقت عليه الشياطين حتى أخذوها منه وأتوا بها إلى سليمان -عليه السلام- فكان يقطع بها "الصخرة العظيمة". وقال وهب: لما أراد سليمان -عليه السلام- أن يبني بيت المقدس قال للشياطين: إن اللَّه تبارك وتعالى أمرني أن أبني بيتا لا يقطع فيه حجر بحديدة. فقالوا: لا يقدر على هذا إلا شيطان في بحر له مشربة يردها. قال: فانطلقوا إلى مشربته، فأخرجوا ماءها، واجعلوا مكانه خمرا ففعلوا "فجاء ذلك الشيطان يشرب". فوجد ريحا فقال: شرا. ولم يشرب، فلما اشتد ظمؤه جاء وشرب فأخذ فبينما هم في الطريق إذا هم برجل يبيع الفوم بالبصل، فضحك "ثم مر بامرأة تكهن بقوم فضحك" فلما انتهي به إلى سليمان -عليه السلام- أخبر بضحكه فسأله فقال: مررت برجل يبيع الدواء ومررت "بامرأة" تكهن وتحتها كنز لا تعلم به. قال: فذكر له شأن البناء فأمر أن يؤتى بقدر من نحاس لا تعملها النفس، فأتي بها فقال: اجعلوها على أفراخ النسور، ففعلوا ذلك فأقبلت النسور إلى أفراخها فلم تصل إليها فارتفعت وعلت في جو السماء ثم نزلت فأقبلت بعود في منقارها فوضعته على القدر، فانشق فعمدوا إلى ذلك العود فأخذوه وجعلوا يقطعون به الحجارة. قال: وكان عدد من عمل معه في بناء بيت المقدس ثلاثين ألف رجل؛ عشرة آلاف منهم عليهم قطع الخشب وكان الذين يعملون في الحجارة سبعين ألف رجل، وعدد الأمناء عليهم ثلاثمائة غير المسخرين

من الجن والشياطين، قال: وعمل فيه سليمان -عليه السلام- عملا يوصف ولا يبلغ كنهه أحد وزينه بالذهب والفضة والدر والياقوت والمرجان وأنواع الجواهر في سمائه وأرضه وأبوابه وجدرانه وأركانه، مما لا يرى مثله وأسقفه بالعود إلا ليخرج وصنع له ما يضيء سكرة من الذهب زنة كل سكرة منها عشرة أرطال وأولج فيه تابوت موسى وهارون. قال الكلبي: ولما فرغ سليمان -عليه السلام- من بناء بيت المقدس أنبت اللَّه تعالى شجرتين عن باب الرحمة "إحداهما" تنبت الذهب والأخرى "تنبت" الفضة. فكان كل يوم ينزع من كل واحدة مائتي رطل ذهبا وفضة. قال: وفرش المسجد بلاطة من ذهب وبلاطة من فضة وروى

النسائي بسننه صحيح عن عبد اللَّه بن عمر -رضى اللَّه "عنهما"- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-:"أن سليمان -عليه السلام بن داود -عليه السلام- لما بنى "مسجد" بيت المقدس سأل اللَّه تعالى خلال "ذلك" ثلاثًا سأل اللَّه حكما يصادف حكمه فأوتيه وسأل اللَّه تعالى مُلكًا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه وسأل اللَّه حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد إلا للصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه" وزاد ابن ماجه على هذه الرواية فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أما الاثنتين فقد أعطيهما وأرجو أن يكون أعطي الثالثة" وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال على شرط الشيخين البخاري ومسلم ويوافق الحديث في دعائه بالملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده القرآن العظيم في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]، والحديث الآخر الصحيح

وهو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث العفريت الذي تغلب عليه في الصلاة وقال: "فأمكنني اللَّه تعالى منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي". ولما رفع سليمان عليه السلام يده من البناء بعد الفراغ منه وإحكامه، جمع الناس وأخبرهم أنه مسجد للَّه -تعالى- وهو أمره ببنائه وإن كل شيء فيه للَّه تعالى من انتقصه أو شيئًا منه فقد خان اللَّه تعالى وإن داود عهد إليه ببنائه وأوصاه بذلك من بعده ثم اتخذ طعاما وجمع الناس جمعا لم ير مثله قط ولا طعام أكثر منه ثم أمر بالقرابين فقربت إلى اللَّه تعالى وجعل القربان في "رحبة" المسجد وميز ثورين وأوقفهما قريبا من الصخرة "ثم قام على الصخرة" فدعا بدعائه المقدم ثم قام على الصخرة ذكره أو زاد عليه زيادة هي (اللهم أنت وهبت لى هذا الملك منًّا منك وطولا علي وعلى والدي من قبلي وأنت ابتدأتني وإياه بالنعمة والكرامة وجعلته حكما بين عبادك وخليفة في أرضك وجعلتني وارثه من بعده وخليفة في قومه وأنت الذي خصصتني بولاية مسجدك "هذا" وكرمتني به قبل أن تخلقني ذلك فلك الحمد على ذلك، ولك المن ولك "الفضل" ولك الطول "اللهم وأسألك" لمن دخل هذا المسجد خمس خصال أن لا يدخل إليه مذنب لا يعمده إلا لطلب التوبة أن تتقبل منه توبته وتغفر له ولا يدخله خائف لا يعمده إلا

لطلب الأمن أن تؤمنه من خوف وتغفر له ولا يدخله مقحط لا يعمده إلا لطلب الاستسقاء أن تسقي بلاده وأن لا تصرف بصرك عمن دخله حتى يخرج منه اللهم إن أجبت دعوتي وأعطيتني مسألتي فاجعل علامة ذلك أن تقبل قرباني فتقبل القربان (وروي أن أبا العوام سئل ما كان "يقال" في الصلاة في بيت المقدس قال ذكر لنا أن نبي اللَّه سليمان -عليه السلام- لمَّا فرغ من بنائه ذبح ثلاثة آلاف بقرة وسبعة آلاف شاة ثم أتى المكان الذي في مؤخر المسجد مما يلي باب الأسباط وهو الموضع الذي يقال له كرسي سليمان وقال: "اللهم من آتاه من ذي ذنب فاغفر له" وذي ضرٍ فاكشف ضره "قال فلا يأتيه أحد إلا أصاب من دعوة سليمان -عليه السلام- وهذا الذي هو معروف بكرسي سليمان من الأماكن المعروفة بإجابة الدعاء. "وروي" عن ابن المسيب أنه قال: إن سليمان -عليه السلام- لما بنى مسجد بيت المقدس وفرغ منه تغلقت أبوابه فعالجها سليمان عليه السلام ليفتحها فلم تنفتح حتى قال في دعائه بصلوات أبي داود إلا انفتحت فانفتحت الأبواب، قال: وفرغ له سليمان عليه السلام عشرة آلاف "نفر" من قراء بني إسرائيل حفسة آلاف بالليل وخمسة آلاف بالنهار حتى لا يأتي ساعة من ليل ولا نهار إلا واللَّه تعالى يعبد فيه. وروي عن زيد بن أسلم أنه قال:

إن مفتاح بيت "المقدس" كان يكون عند سليمان -عليه السلام- لا يأمن عليه أحد فقام ذات ليلة ليفتحه فعسر عليه فاستعان عليه بالإنس فعسر عليهم فجلس "حزينا" يظن أن ربه قد منعه "منه فهو كذلك إذا أقبل شيخ يتكئ على عصى له وقد طعن في السن وكان من جلساء داود عليه السلام فقال: يا نبي اللَّه أراك حزينا فقال قمت إلى هذا الباب لأفتحه فعسر علي فاستعنت عليه بالإنس والجن فلم يفتح فقال الشيخ: ألا أعلمك بكلمات كان أبوك يقولهن عند كربه فيكشف اللَّه عنه. قال: بلى قال: قل "اللهم بنورك اهتديت وبفضلك استغنيت "وبفضلك" أصبحت وأمسيت. ذنوبي بين يديك، أستغفرك وأتوب إليك يا حنان يا منان. فلما قالها فتح له الباب. قال المشرف: فيستحب أن يدعو الزائر وغيره بهذا الدعاء إذا دخل من باب الصخرة وكذلك من باب المسجد قال: وكان فراغ "بناء" بيت المقدس لمضي إحدى عشرة سنة من ملك سليمان عليه السلام لمضي خمسمائة سنة وست وأربعين "سنة" من وفاة موسى عليه السلام ومن هبوط آدم إلى ابتداء سليمان في بيت المقدس أربعة آلاف وأربعمائة وست وسبعون سنة ولم يزل المسجد الأقصى على تلك الهيئة التي كانت من العجائب إلى أن "خربه" بخت نصر في ستمائة ألف فدخل بيت المقدس

بجنوده ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرب بيت المقدس واحتمل منه ثمانين عجلة ذهبا وفضة فطرحه برومية وأمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ويقذفه بيت المقدس وكان خروجه بعد قتل شيعا. وفي زمن أرميا وبعد موت بخت نصر رجع عزير "إلى الشام ووضع لبني إسرائيل التوراة من حفظه ثم قبض. قالوا وكان من بناء داود عليه السلام المسجد "بيت" الأقصى إلى وقت تخريب بخت نصر إياه وانقطاع دولة بني إسرائيل أربعمائة سنة وأربع وخمسون سنة. قال أبو عبد اللَّه البكري: ولم يزل بيت المقدس خرابا إلى أن بناه ملك من ملوك الفرس يقال له كوشك.

وقال البغوي بناه كوشك بن كوشك بن أخورش بعد تخريب بخت نصر بسبعين سنة ثم تغلبت ملوك غسان على الشام بتمليك ملوك الروم لهم ودخولهم في نصرانيتهم إلى أن جاء اللَّه تعالى بالإسلام وملك الشام منهم جبلة بن الأيهم ففتح اللَّه تعالى الشام على المسلمين في زمن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- ثم كان فتح المقدس صلحا على يد عمر -رضي اللَّه عنه- واستمر في أيدي المسلمين بيت المقدس من حين الفتح العمري إلى أن تغلب عليه الفرنج واقتلعوه من أيدي المسلمين واستولوا عليه في دولة الفاطميين إلى أن فتحه اللَّه على يد سلطان الإسلام والمسلمين صلاح الدنيا والدين أبي المظفر يوسف بن أيوب -رحمه اللَّه تعالى- على ما سنذكره إن شاء اللَّه من الفتحين العزيزين في بابه من هذا الكتاب.

الباب الثالث في فضل الصخرة الشريفة والأوصاف التي كانت بها في زمن سليمان -عليه السلام- وارتفاع القبة المبنية عليها يوم ذلك وذكر أنها من الجنة وأنها تحول يوم القيامة مرجانة بيضاء

الباب الثالث في فضل الصخرة الشريفة والأوصاف التي كانت بها في زمن سليمان -عليه السلام- وارتفاع القبة المبنية عليها يوم ذلك وذكر أنها من الجنة وأنها تحول يوم القيامة مرجانة بيضاء وما في معنى ذلك قال محمد بن منصور بن ثابت: كانت صخرة بيت المقدس أيام سليمان عليه السلام ارتفاعها اثنى عشر ذراعًا وكان الذراع ذراع الأمان ذراع وشبر وقبضة وكان عليها من اليلنجوج ارتفاعها ثمانية عشر ميلا وفوق

القبة غزال من ذهب بين عينيه درة أو ياقوتة حمراء تغزل نساء أهل البلقاء على نورها بالليل وهي على ثلاثة أيام منها وكان أهل عمواس يستظلون بظل القبة إذا طلعت الشمس وإذا غربت استظل أهل بيت الرامة وغيرهم من الغور بظلها. وروى المشرف عن كعب مثله فقال: كانت صخرة بيت المقدس طولها في السماء اثنى عشر ميلا فكان أهل أريحا وأهل "عمواس" يستظلون بظلها وكان عليها ياقوتة تضئ بالليل كضوء الشمس وإذا كان النهار طمس ضوءها، ولم تزل كذلك حتى خربها بخت نصر وأخذ ما أخذ منها وحمله إلى رومية وروي أيضا عن عطاء بن رباح أنه قال: كانت صخرة بيت المقدس طولها في السماء اثنا عشر ميلا "ويقال: إنه ليس بينها وبين السماء إلا ثمانية عشر ميلا" وكان أهل أريحا يستظلون بظلها وكان عليها ياقوتة تغزل نساء البلقاء على ضوئها بالليل. قال: ولم تزل كذلك حتى غلب عليها الروم بعد أن خربها بختنصر، فلما صارت في أيديهم قالوا: تعالوا لنبني عليها أفضل من البناء الذي كان عليها على قدر طولها

في السماء، وزخرفوه بالذهب والفضة "ودخلوا إليها" وأشركوا فيها فانقلبت عليهم فما خرج منها أحد فلما رأى ملك الروم ذلك جمع البطارقة والشمامسة ورؤساء الروم، وقال لهم: ما ترون؟ قالوا: نرى أنا لم نرض إلهنا فلذلك لم يقبل منا. فأمر الثانية فبنوا فيها وأضعفوا النفقة فلما فرغوا من البناء الثاني دخلها سبعون ألف مثل ما دخلوا أول مرة وفعلوا كفعلهم أولا فلما أشركوا انقلبت عليهم ولم يكن الملك معهم فلما رأى ذلك جمعهم ثالثة وقال لهم: ما ترون؟ قالوا: إنا لم نرض ربنا كما ينبغي لذلك هدم ما فعلناه ونحن نحب أن نبني ثالثة حتى إذا أرادوا أن قد أتقنوها وفرغوا منها جمع النصارى وقال لهم: هل ترون من العيب شيئًا؟ قالوا: لا نكللها بصلبان الذهب والفضة. ودخلها قوم اغتسلوا وتطيبوا فلما دخلوا أشركوا كما أشرك أصحابهم من قبل فخربت عليهم ثالثة فجمعهم رابعة ملكهم واستشارهم فيما يفعل، وكثر خوضهم في ذلك فبينما على ذلك إذا أقبل عليهم شيخ كبير عليه برانس سود وعمامة سوداء قد انحنى ظهره وهو متوكئ على عصاه فقال لهم: يا معشر النصارى إليّ فإني أكبركم سنًّا، وقد خرجت من معبدي لأخبركم أن هذا المكان قد لعن أصحابه وأن القدس نزع منه وتحول إلى هذا الموضع وأشار إلى الموضع الذي بنوا فيه كنيسة قمامة فيه قال: وأنا أريكم الموضع "الذي ذكرت" ولستم تروني بعد هذا اليوم أبدًا فاقبلوا مني ما أقول لكم وأغواهم وزادهم طغيانا وأمرهم أن يقطعوا الصخرة ويبنوا بحجارتها الموضع الذي أمرهم به فبينما هو يكلمهم ويقول ذلك إذ خفي فلم يروه فازدادوا كفرا وقالوا فيه قولا عظيما ثم إنهم خربوا المسجد واحتملوا العُمُد والحجارة وغيرها وبنوا بهما كنيستهم القمامة والكنيسة التي في وادي جهنم وكان الشيخ الملعون قد قال لهم:

وإذا فرغتم من بناء هذا الموضع فاتخذوا ذلك الموضع الذي لعن أصحابه ونزع القدس منه مزبلة لقذراتكم وبذلك ترضون ربكم ففعلوا ذلك حتى كانت المرأة ترسل بخرق حيضها وأوساخها من القسطنطينية وتطرحها عليها ومكثوا على ذلك مدة حتى بعث اللَّه نبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وأسري به إليها وذلك من أجل خصائصها وعظيم فضلها. وعن ميمون بن مهران عن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- أنه قال: "صخرة بيت المقدس من صخور الجنة". وعن عبادة بن الصامت -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "الصخرة صخرة بيت المقدس على نخلة والنخلة على نهر من أنهار الجنة وتحت النخلة آسيا امرأة فرعون ومريم بنت عمران ينظمان سموط أهل الجنة إلى يوم القيامة". وعن أبي إدريس الخولاني أنه قال: يحول اللَّه يوم القيامة صخرة بيت المقدس مرجانة بيضاء كعرض السماء والأرض ثم يصيرون منها إلى الجنة والنار فكذلك قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]، تبدل أرضًا بيضاء عفراء من فضة لم يعمل عليها خطيئة قط قالت عائشة رضي اللَّه عنها يا رسول اللَّه: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات أين الناس يومئذ؟ قال: "على الصراط". وعن ثور

بن يزيد وعن ابن عبد اللَّه بن بشر عن كعب قال في التوارة يقول اللَّه لصخرة بيت المقدس: (أنت عرشي الأدنى ومنك ارتفعت إلى السماء ومن تحتك بسطت الأرض وكلما يسيل من ذروة الجبال من تحتك من مات فيك فكأنما مات فيك في سماء الدنيا ومن مات حولك فكأنما مات فيك لا تنقضي الأيام والليالي حتى أرسل عليك نارًا من السماء فتأكل آثار أكف بني آدم وأقدامهم منك، وأرسل عليك ماء من تحت العرش فأغسلك حتى أتركك كالأمهات وأضرب عليك سورا من غمام غلظه اثنا عشر ميلًا وسياجًا من نار وأجعل عليك قبة وحبلها بيدي وأنزل فيك روحي وملائكتي يسبحون فيك لا يدخل أحد من بني آدم يوم القيامة فمن يرى ضوء تلك القبة من بعيد يقول: طوبى لوجه يخر فيك ساجدا وأضرب عليك حائطا من نار وسياجا من الغمام بخمس حيطان من ياقوت ودر وزبرجد أنت البدء وإليك المحشر ومنك المنشر" وقال اللَّه تعالى صخرة بيت المقدس من أحبك أحببته ومن أحبك أحببني ومن مذ بشناك شنأته عيني عليك من السنة إلى السنة لا أنساك حتى أنسى يميني ومن صلى فيك ركعتين أخرجته من الخطايا كما أخرجته من بطن أمه إلا أن يعود إلى خطايا مستأنفة نكتب عليه لا تذهب الأيام والليالي حتى يحشر إليك كل مسجد يذكر فيه اسم اللَّه يحفون بك حفيف الركب بالعروس إذا أهديت إلى أهلها أنزل عليك نارًا من السماء

تأكل ما داست أقدام الناس وما مسته أيديهم). وهذا حديث طويل ذكره الحافظ أبو محمد القاسم وفيه (ضمنت لمن سكنك أن لا تعوزه أيام حياته خبز البر والزيت) وفيه (لا تنقضي الأيام والليالي حتى أنزلك في ذروة كرامتي منك المحشر وإليك المنشر). وعن علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- قال سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "سيد البقاع بيت المقدس وسيد الصخور، صخرة بيت المقدس" وقال ابن عباس -رضي اللَّه عنه-: (صخرة بيت المقدس من صخور الجنة). وعن كعب قال: (الكعبة بإزاء البيت المعمور في السماء السابعة الذي تحجه ملائكة اللَّه ولو وقعت منه أحجار لوقعت على أحجار البيت والجنة في السماء السابعة بإزاء بيت المقدس، والصخرة لو وقع منها حجر لوقع على الصخرة ولذلك "أوسلم" ودعيت الجنة دار السلام وعن الزهري عن وهب قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قال: قال اللَّه تعالى لصخرة بيت المقدس فيك جنتي وناري جزائي وعقابي فطوبى لمن زارك أو رآك" وعن الوليد بن مسلم عن ابن جابر قال سمعت عمير بن هانئ العبسي يقول: "يحول اللَّه تعالى صخرة بيت المقدس يوم القيامة مرجانة بيضاء فيكون هو عليها ومن أحب من خلقه" وفي رواية "يحول اللَّه تعالى صخرة بيت المقدس مرجانة كعرض السماء والأرض ثم يضع عليها عرشه ويضع ميزانه ويقضي بين عباده ويصيرون منها إلى الجنة وإلى النار". وعن إبراهيم بن أبي عبلة

قال: سئل عبادة بن الصامت -رضي اللَّه عنه- ورافع بن خديج وكانا عقبيين بدريين فقيل لهما: أرأيتما ما يقول الناس في هذه الصخرة أحقًّا هو فنأخذ به أو هو شيء أصله من أهل الكتاب فندعه. فقالا، سبحان اللَّه ومن يشك في أمرهما إن اللَّه -عز وجل- لما استوى إلى الماء قال: لصخرة بيت المقدس: (هذا مقامي وموضع عرشي يوم القيامة ومحشر عبادي وهذا موضع جنتي عن يمينها وموضع ناري عن يسارها وفيه أنصب ميزاني أمامها وإن اللَّه ديّان يوم الدين ثم استوى إلى علّيين). وعن عبد الرحمن بن منصور قال: سمعت أبي قال: قدم مقاتل بن سليمان إلى بيت المقدس وصلى عند باب الصخرة القبلي فاجتمع إليه خلق كثير من الناس فكتب عنه وسمع منه فأقبل على أبي بدوي يطأ بنعلين على البلاط وطأً شديدا فسمعه فغمه ذلك وقال لمن حوله: انفرجوا على انفراج الناس عنه، وأهوى بيده يشير إليه، ويزجره أيها الواطئ ارفع بوطئك فوالذي نفس مقاتل بيده ما تطأ إلا على أساطين الجنة وأما هذا الذي عليه الحائط مديرا. أو قال: السور ما فيه موضع شبر إلا وصلى عليه نبي مرسل وملك مقرب. وعن أم عبد اللَّه ابنة خالد بن معدان عن أمها (لا تقوم الساعة حتى تزف الكعبة إلى الصخرة فيتعلق بها جميع من حجّها واعتمرها فإذا زارتها الصخرة قالت مرحبا بالزائرة

والمزور إليها). وحكى صاحب مثير الغرام أنه رأى في "شرح الموطأ" للإمام أبي بكر بن العربي قال في تفسير قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} [المؤمنون: 18] فذكر أربعة أقوال رابعها قيل: إن مياه الأرض كلها تخرج من تحت صخرة بيت المقدس وهي من عجائب اللَّه تعالى في أرضه؛ فإنها صخرة في وسط المسجد انقطعت من كل جهة لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه في أعلاها من جهة الغرب قدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين ركب البراق وقد مالت من تلك الجهة لهيئته وفي الجهة الأخرى أثر أصابع الملائكة التي أمسكتها إذ مالت به ومن تحتها الغار الذي انفصلت عنه من كل جهة عليه باب يفتح للناس للصلاة والاعتكاف تهيبتها مدة أن أدخل تحتها خوفا من سقوطها عليّ بالذنوب التى اجترحتها ثم رأيت الظلمة والمجاهرين بالمعاصي ثم قلت لعلهم أمهلوا وأعاجل أنا فتوقفت مدة ثم عزم علي فدخلتها فرأيت العجب العجاب يمشي في حواشيها من كل جهة فرأيتها "متعلقة" منفصلة عن الأرض لا يتصل بها شيء من الأرض بعض الجهات أشد انفصالا من بعض وموضع القدم الشريف اليوم في حجر منفصل عن الصخرة محاذٍ لها آخر جهة الغرب من جهة القبلة وهو على أعمدة والصخرة اليوم على جدران المغارة متصلة بها خلا الموضع الذي عند باب المغارة من جهة القبلة؛ فإنها منفصلة هناك عن الجدار القبلي وبينهما فضاء تحت باب المغارة سلَّم حجر ينزل منه إلى المغارة وعند وسطها

صفة صغرى متصلة به من جهة شرقه وطرفه الأخر الأعلى مستند إلى طرف الصخرة كأنه مانع لها من الميل إلى جهة القبلة أو لغير ذلك وبقية الصخرة تحتها بناء وموضع أصابع الملائكة من الصخرة من جهة الغرب منفصل عن موضع القدم الشريف المذكور قريبا من محاذاة باب الصخرة الغربي انتهى.

الباب الرابع في فضل الصلاة في بيت المقدس ومضاعفتها وهل المضاعفة فى فضل الصلاة تعم الفرض والنفل أم لا؟ وهل المضاعفة تشتمل الحسنات والسيئات؟ وفضل الصدقة والصوم والأذان فيه والإهلال بالحج والعمرة منه وفضل إسراجه وأنه يقوم مقام زيارته عند الفجر، عن قصده.

الباب الرابع في فضل الصلاة في بيت المقدس ومضاعفتها وهل المضاعفة فى فضل الصلاة تعم الفرض والنفل أم لا؟ وهل المضاعفة تشتمل الحسنات والسيئات؟ وفضل الصدقة والصوم والأذان فيه والإهلال بالحج والعمرة منه وفضل إسراجه وأنه يقوم مقام زيارته عند الفجر، عن قصده. عن كعب الأحبار قال "شكا بيت المقدس" إلى ربه الخراب فأوحى اللَّه تعالى إليه لأملأنك خدودا سجدا يدفون إليك دفيف النسور إلى أوكارها يحنون إليك حنين الحمام إلى بيضها فقال رجل لكعب: اتق اللَّه يا كعب! وإن له لسانا؟ قال: نعم وقلبا كقلب أحدكم، قال: شكى بيت المقدس إلى ربه فقال له رجل من أهل الشام: وهل له لسان يا كعب؟! فقال: نعم، وأذنان فقال له اللَّه "سأملؤك": خدودا سجدا يدفون إليك دفيف النسور إلى أوكارها ويحنون إليك حنين الحمام إلى بيضها. وعن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال: قال

-صلى اللَّه عليه وسلم-: "من زار بيت المقدس محتسبًا أعطاه اللَّه أجر ألف شهيد" وعنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من زار عالما فكأنما زار بيت المقدس ومن زار بيت المقدس محتسبا حرم اللَّه لحمه وجسده على النار". عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من صلى في بيت المقدس غفرت له ذنوبه كلها" وقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210]. وعن مكحول عن كعب "من أتى بيت المقدس فصلى عن يمين الصخرة وعن شمالها ودعا عند موضع السلسلة وتصدق بما قلَّ أو كثر استجيب دعاؤه وكشف اللَّه تعالى حزنه وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وإن سأل اللَّه الشهادة أعطاه اللَّه إياها" وقال مكحول: "من صلّى في بيت المقدس ظهرًا وعصرًا ومغربا وعشاء ثم صلّى الغداة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وقال "من خرج إلى بيت المقدس بغير حاجة إلا الصلاة فيه فصلى فيه خمس صلوات صبحا وظهرا وعصرا ومغربا وعشاء خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه. وعن عبد اللَّه بن يزيد عن مكحول "قال من زار بيت المقدس شوقا إليه دخل الجنة مدللا وزاره جميع الأنبياء في الجنة وغبطوه بمنزلته من اللَّه -عز وجل- وأيما رفقة خرجوا يريدون بيت المقدس إلا شيعتهم عشرة آلاف من الملائكة يستغفرون اللَّه لهم ويصلون عليهم ولهم مثل أعمالهم إذا انتهوا إلى بيت المقدس فلهم بكل يوم يقيمون فيه صلاة سبعين ملكا. ومن دخل بيت المقدس

طاهرا من الكبائر تلقاه اللَّه -تعالى- بمائة رحمة "ما منها رحمة" إلا لو قسمت على جميع الخلائق لوسعتهم ومن صلى في بيت المقدس ركعتين يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وكان له بكل شعرة من جسده حسنة، ومن صلى ببيت المقدس أربع ركعات مر على الصراط كالبرق الخاطف وأعطي أمان من الفزع الأكبر يوم القيامة، ومن صلى ببيت المقدس ست ركعات أعطي مائة دعوة مستجابة أدناها براءة من النار ووجبت له الجنة ومن صلى في بيت المقدس ثماني ركعات كان رفيق إبراهيم الخليل -صلى اللَّه عليه وسلم- ومن صلى في بيت المقدس عشر ركعات كان رفيق داود وسليمان عليهما السلام في الجنة ومن استغفر للمؤمنين والمؤمنات في بيت المقدس كان له مثل حسناتهم ودخل على كل مؤمن ومؤمنة من دعائه سبعون مغفرة وغفرت له ذنوبه كلها. وعن عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثلاثة أملاك ملك موكل بالكعبة وملك موكل بمسجدي وملك موكل بالمسجد الأقصى. فأما الملك الموكل بالكعبة: فينادي كل يوم: من ترك فرائض اللَّه خرج من أمان اللَّه، وأما الملك الموكل بمسجدي: فهو ينادي في كل يوم من ترك سنة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- يرد الحوض لم تدركه شفاعة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- أما الملك الموكل بالمسجد الأقصى: فينادي كل يوم من كان مطعمه حراما كان عمله مضروبا

به في وجهه" وعن قتادة عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من صلى في بيت المقدس خمس صلوات نافلة كل صلاة أربع ركعات تقرأ في الخمس الصلوات عشرة الآف {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فقد اشترى نفسه من اللَّه تعالى وليس للنار عليه سلطان" وعن أبي الزاهرة جدير بن كريب قال: أتيت بيت المقدس أريد الصلاة فدخلت المسجد وغفلت عيني عن السدنة حين طفيت "المصابيح" وانقطعت الرجل وغلقت الأبواب فبينما أنا كذلك إذ سمعت حفيفا له جناحان قد أقبل وهو يقول: سبحان الدائم القائم، سبحان اللَّه القائم الدائم، سبحان اللَّه الحي القيوم، سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح سبحان اللَّه العظيم وبحمده سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى ثم أقبل حفيف يتلوه وهو يقول مثل قوله ثم أقبل حفيف بعد حفيف يتجاوبون بها حتى امتلأ المسجد فإذا بعضهم قرب مني فقال: آدمي أنت؟ قلت: نعم قال: لا خوف عليك هذه الملائكة "فقال" سألتك باللَّه الذي قواكم على ما أرى من الأول؟

فقال: جبريل قلت: والذي يليه قال: ميكائيل فقلت: ومن يتلوها بعد ذلك؟ فقال: الملائكة فقلت: سألتك باللَّه الذي قواكم على ما أرى ما لقائلها من الثواب؟ قال: من قالها سنة في كل يوم مرة لم يمت حتى يرى مقعده في الجنة أو "يرى له" قال أبو الزاهرة فقلت: سنة كثير لعلّي لا أعيش فقلتها في يوم عدد أيام السنة يعنى ثلاثمائة وستين مرة فرأيت مقعدي في الجنة. وأما مضاعفة الصلاة فمنها ما رواه قتادة عن عبادة بن الصامت -رضي اللَّه عنه- عن أبي ذر قال: قلت يا رسول اللَّه! الصلاة في مسجدك هذا أفضل من الصلاة في بيت المقدس؟ فقال: صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات في بيت المقدس ولنعم المصلى هو أرض المحشر والمنشر وليأتين على الناس "زمان" ولبسطة قوس الرجل من حيث يرى منه بيت المقدس خيرًا له وأحب إليه من الدنيا جميعا. وعن أبي أمامة الباهلي -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من حجَّ البيت واعتمر وصلى ببيت المقدس وجاهد ورابط فقد استكمل جميع سنني" قال أحمد بن أنس عن حبيب المؤذن عن أبي زياد الشيباني وأبي أمية الصنعاني قال: كنا بمكّة فإذا رجل في ظل الكعبة

وإذا هو سفيان الثوري فسأله الرجل فقال: يا أبا عبد اللَّه ما تقول في الصلاة في هذه البلدة؟ فقال: بمائة ألف صلاة ففي مسجد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال خمسين ألف صلاة. قال ففي بيت المقدس أربعين ألف صلاة" وعن أنس قال قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صلاة الرجل في بيته بصلاة وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة وصلاته في مسجد الكعبة بمائة ألف صلاة وصلاته في مسجدي هذا بخمسين ألف صلاة" أخرجه الطبراني وابن ماجه. وأما مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات فمن ذلك ما رواه عاصم بن رجاء يريد

الصلاة في مسجد إيليات ببيت المقدس إذا انتهى إلى الميل من إيليا أمسك عن الكلام إلا تلاوة كتاب اللَّه -عز وجل- والذكر ثم "يدخل من باب الأسباط ويستقبل القدس ثم يجمع في المسجد خمس صلوات فإذا انصرف إلى الميل تكلم وكلم أصحابه فقالوا له: يا أبا إسحاق ما حملك على ذلك "إني أجد في بعض الكتب أن الحسنات تضاعف في هذا المسجد وأن السيئات يفعل بها كذلك أو قال مثل ذلك، فأنا أحب أن لا يكون مني إلا حسنات حتى أنصرف وقال أبو القاسم إسماعيل بن عياش: سمعت جرير بن عثمان وصفوان بن عمر يقولان: "الحسنة في بيت المقدس بألف والسيئة بألف". وعن حمزة عن الليث بن سعد بن نافع قال: قال لي ابن عمر ونحن ببيت المقدس: يا نافع اخرج بنا من هذا البيت قال السيئات تضاعف فيه كما تضاعف الحسنات" فأحرم وخرج من بيت المقدس. وعن صفوان بن عمر عن شريح بن عبيد أن كعبًا كان يقول: صلاة في بيت المقدس

كألف صلاة وخطيئة فيه كألف خطيئة في غيره وعن المغيرة قال حدثتنا عبدة عن أبيها قال: من أتى بيت المقدس يستقر فيه بيعا، فإن الخطيئة فيه مثل ألف خطيئة والحسنة مثل ذلك أو قال الحسنة مثل ألف حسنة فمن صلى فيه خمس صلوات ولم يشر فيه بيعًا حتى يخرج منه خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه. وعن أزهر بن سعد بن كعب قال: اليوم فيه كألف يوم، والشهر كألف شهر والحسنة فيه كألف حسنة. والسيئة فيه كألف سيئة ومن مات فيه فكأنما مات في السماء ومن مات حوله فكأنما مات فيه. وأما فضل الصدقة والصوم والأذان فيه فمنه ما روي عن الحسن البصري أنه قال: من تصدق في بيت المقدس بدرهم كان له براءة من النار، ومن تصدق فيه برغيف كان كمن تصدق "بمثاقيل ذهبا وفي رواية عنه من تصدق في بيت المقدس بدرهم كان فداؤه من النار ومن تصدق برغيف كان كمن تصدق" بجبال الأرض ذهبا. وعن إبراهيم بن أبي يعلى قال: كان الوليد بن عبد الملك يبعث معي بقصاع الفضة إلى أهل بيت المقدس أقسمها عليهم. رواه الطبراني وقال غير الطبراني: أقسمها على قراء بيت المقدس.

وعنه أيضا رحم الوليد وأين مثل الوليد فتح الهند والأندلس وهدم كنيسة مريم "وبنى مسجد دمشق وكان يعطيني قصاع الفضة فأقسمها على قراء بيت المقدس. وقال كعب: من صام يوما ببيت

المقدس أعطاه اللَّه براءة من النار، ومن استغفر للمؤمنين والمؤمنات في بيت المقدس ثلاث مرات كتب اللَّه له مثل جميع حسنات المؤمنين والمؤمنات ودخل على كل مؤمن ومؤمنة من دعائه في كل يوم وليلة سبعون مغفرة وقال من أنفق في عمران ببيت المقدس وقاه اللَّه الموتلف أو قال المتالف "وأنسئ" في أجله وأحياه اللَّه حياة طيبة وقلبه متقلبا كريما ومن أنفق في بيت المقدس أجاب اللَّه دعاءه وكشف حزنه وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وقال: ما أكرم اللَّه عبدا قط إلا زاد البلاء عليه شدة، ولا أزكى عبدا قط فنقص من ماله، ولا حبسها عبدًا فزاد في ماله. ما سرق عبد قط إلا احتسب من رزقه، وحجة أفضل عمرة وعمرة مثل ركبه إلى بيت المقدس لأن المقام والميزان عنه بيت. وقال مقاتل بن سليمان: من صام ببيت المقدس كان له براءة من النار وعنه عن السري إن إلياس والخضر كانا يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ويوافيان الموسم كل عام وفي "أعلام الساجد" قال: ويستحب الصوم في بيت المقدس فقد روي صوم يوم في بيت المقدس براءة من النار قال هشام بن عمار: حدثنا ابن أبي سائب قال: سمعت أبي يذكر أن رجلا انتقل إلى بيت المقدس فقيل: ما نقلك إليها؟ قال: بلغني أنه لا يزال ببيت المقدس رجل يعمل بعمل أبي داود. وعن جابر أن رجلا

قال يا رسول اللَّه أي الخلق "أولى" دخولا إلى الجنة؟ قال: الأنبياء قال ثم قال: الشهداء قال: ثم قال: مؤذنوا بيت المقدس، قال: ثم قال مؤذنوا المسجد الحرام، ثم قال مؤذنوا مسجدي، قال: ثم قال: سائر المؤمنين. وفي رواية "على قدر أعمالهم" قال العلاء بن بردن قال: بلغني أن الشهداء يسمعون أذان مؤذن بيت المقدس لصلاة الغداة يوم الجمعة. وعن كعب قال: لم يستشهد عبد قط في بر ولا بحر إلا وهو يسمع أذان "مؤذن" بيت المقدس "وأنه ليسمع أذان بيت المقدس من السماء. وعن أبي العوام مؤذن بيت المقدس إن كان يوذن لصلاة الصبح ثم ينصرف ويقول واللَّه الذي لا إله إلا هو ما على وجه الأرض شهيد إلا وقد "يسمع" أذاني وفي لفظ له ما على الأرض شهيد إلا يسمع أذاني لصلاة الغداة وإن كان بسمرقند أو غيرها تنبيه في معنى المضاعفة قال صاحب "مثير الغرام" في الباب الأول من كتابه المذكور ومضاعفة الصلاة يعني المسجد الأقصى ومضاعفة كل "بر" "حاصلة" إذ لا فرق بين الصلاة وبينه، ثم قال بعد ذلك: ومذهب الشافعي وبعض أصحاب مالك أن المضاعفة في المساجد الثلاثة تختص بصلاة الفرض بل تعم صلاة النفل والمرجو من كرم اللَّه تعالى أن كل "حمل" بركة لك انتهى كلامه. وفي "المناسك الكبرى" للنووي رحمه اللَّه تعالى أن الصلاة،

"تتضاعف" الأجر فيها بمكة وكذا سائر أنواع الطاعات فالحق سائر الطاعات هناك بالصلاة فليكن هما ذلك إن شاء اللَّه تعالى. وحكى المحب الطبري عن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- أن حسنات المحرم كلها بمائة ألف ثم قال: وأقول بموجبه وأقره قاضي القضاة عز الدين بن جماعة في مناسكه الكبرى ثم حكى في فضل الصوم كلام ابن عباس وأقره لكن خالف في الباب العاشر من مناسكه فقال تقدم في الفضائل قول ابن عباس والحق أنَّ الحسنة فيها ألف والأكثرون على امتناع القياس في هذا الباب، إذ لا مجال للعقل فيه مطلقا بمائة ألف إنما ثبت ذلك في الصلاة بالمسجد الحرام خاصة انتهى. فبمقتضى هذا لا مضاعفة هنا في غير الصلاة وقول صاحب "مثير الغرام" مذهب الإمام الشافعي -رضي اللَّه عنه-: "إن المضاعفة في المساجد الثلاثة لا تختص بصلاة الفرض بل تعم صلاة النفل" كذا قاله النووي في "شرح مسلم" إنه المذهب. وحديث "إن فضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" متفق عليه وغيره مما تقدم من أحاديث المضاعفة يقضي أن النافلة

تضاعف في المساجد الثلاثة وفي القوت الأوزاعي عقب قول صاحب المنهاج (وأفضله في بيته أي "التنفل" ما نصه "وسوى" فى ذلك مسجد مكة والمدينة وغيرهما) ثم حكى عن تعليق القاضي أبي الطيب (أنه استثنى ما إذا خفي صلاته في المسجد فإن نفل النافلة فيه أفضل وإطلاق الحديث والجمهور ينازعه لكن ما ذكره ظاهر من حيث المعنى إذ وثق بعدم ظهور ذلك) انتهى كلامه. واعلم أن المراد بالنافلة التى تفضل في البيوت ما رواء ركعتي الطواف فإن فعلهما في المسجد الحرام أفضل، والتنفل يوم الجمعة قبل الزوال في المسجد قبل الجمعة "في المسجد" أفضل وحكاه الجرجاني في "الشافي" عن أصحابنا، لفضيلة البكور في الشعائر الظاهرة كالعيدين والكسوفين والاستسقاء وكالتراويح على ما يقتضي كلام النووي ترجيحه ونازع بعض المتأخرين في التراويح فقال الذي يظهر من حيث الدليل أنها بالبيت أفضل وينبغي أن يكون هو الأصح لحديث أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- اتخذ حجرة في رمضان

فصلى فيها ليالي فصلى بصلاته ناس من أصحابه فلما علم بهم جعل يقعد فخرج عليهم فقال قد عرفت الذي رأيته من صنيعكم فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة. متفق عليه ويستثنى ركعتي الإحرام ففي زيارة الروضة هناك قال أصحابنا: إذا كان في الميقات مسجد استحب أن يصليهما فيه. وأما تضاعف الحسنات والسيئات. والمراد بتضعيف السيئات فدليله حديث ابن عمر السابق في قوله لنافع يا نافع اخرج بنا من هذا البيت وكان بيت المقدس، فإن السيئات تضاعف فيه كما تضاعف الحسنات وحديث كعب السابق وهو إنه إذا خرج من حمص يريد الصلاة في مسجد إيليا إلى آخره. وهو قوله: أنا أحب أن لا يكون مني إلا حسنات حتى أنصرف واعلم أن الحافظ أبا محمد القاسم حكى عن المشرف له قال عقب كلام كعب وغيره: الخطيئة فيه كألف خطيئة ونحو ذلك معناه أن من اقترف ذنبا في بيت المقدس أو في الحرم أو في مسجد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أعظم عقوبة ممن اقترف ذلك في غيرهم بشرفهم وفضلهم فالذنب الواحد في أحدهم أعظم من ذنوب كثيرة في غيرهم من المواضع فيكون "المكتب" لذنب واحد في إحدى هذه المواضع كالمكتب "لذنوب كثير في غيرها فلذلك قال: تضاعف فيه السيئات ومعناه تغلظ عقوبتها، إلا أن الإنسان يعمل ذنبا فيكتب عليه عشرة واللَّه تعالى يقول: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها". وقد غلظ الفقهاء الدية على من قتل في الحرم ومن قتل ذا رحم لحرمتهم وعظم محلهم وقد قال اللَّه تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، لا يرى إلا من رأى المعاصي

في المسجد أعظم خطر من الذي يعملها في غير المسجد، والمقت إلى فاعلها في المسجد أسرع وإن كانا جميعا قد اشتركا في المعصية، لكن هذا في المعنى اكتسب ذنبين أحدهما هتك حرمة المسجد وقد حماه اللَّه تعالى عن ذلك بقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]، (إلا منه) والذنب الآخر المعصية، فهذا معنى التضعيف. وفي أعلام المساجد عقب أثر كعب السالف نصّه أن يزداد قبحا وفحشا لأن المعاصي في زمن أو مكان شريف أشد جرأة أو أقل خوفا من اللَّه تعالى انتهى. وأما فضائل الإهلال بالحج والعمرة من بيت المقدس فمنه ما رواه محمد بن إسحاق عن سليمان بن سحيم عن يحيى بن أبي سفيان عن أم حكيم بنت أمية عن أم سلمة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من أهلَّ بعمرة من بيت المقدس غفر اللَّه له" وأخرجه أحمد عن يعقوب عن أبيه عن محمد بن إسحاق وزاد في آخره "فركبت أم حكيم إلى بيت المقدس حتى أهلت منه بعمرة. وعن أم سلمة -رضي اللَّه عنها- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من أهل ببيت المقدس غفر اللَّه ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأدخل الجنة". وروى أبو داود بسنده على أم سلمة -رضي اللَّه عنها- أنها سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: يقول: "من أهل من بيت المقدس بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى" "غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووجبت له الجنة". وفىِ حديث آخر (من أحرم من بيت المقدس غفر "اللَّه" له) (وقد أحرم "منه") عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- بعمرة ثم قال: لوددت أني جئت بيت المقدس. وعن نافع أن ابن عمر

-رضي اللَّه عنه-: أحرم عام الحكمة من بيت المقدس في موطأ مالك عن الثقة عنده: أن عبد اللأه بن عمر أهلَّ من إيلياء. وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أنه أحرم بالعمرة من بيت المقدس وروى معمر أنَّ الزهري حدثه قال: أخبرني محمود بن ربيع أنه رغم أنه عقل حجة حجها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من دلو، كانت في دراهم قال: سمعت عتبان بن مالك فذكر حديثا وذكر في آخره قال محمود: فأهللت من إيليا بحج أو عمرة قال أبو داود: وأحرم وكيع من بيت المقدس وفيه جواز الإحرام من المكان البعيد وفعله وفضله عن غير واحد من الصحابة -رضى اللَّه عنهم- وكرهه جماعة وقد أنكر عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- على عمران بن الحصين إحرامه من البصرة وكرهه الحسن وعطاء بن رباح ومالك. وقال أحمد: وجه العمل المواقين وقال بعضهم: وجه الكراهة أنه ربما عرض للمحرم ما يفسد. روي عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أنه قال: "من أحرم معتمرًا في شهر رمضان من بيت المقدس عدلت عشر غزوات مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وعن يوسف بن مالك عن أبي عمارة قال أهللت من بيت المقدس مع معاذ بن جبل: ورجال فيهم كعب الأحبار -رضي اللَّه عنه- فأهلوا بالعمرة. وأما فضل إسراجه عند الفجر "عن" الوصول إليه

وأنه يقوم مقام الصلاة فيه فمنه ما رواه زياد بن أبي سودة عن أخيه عثمان بن أبي سودة عن ميمونة بنت سعد مولاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنها قالت: يا رسول اللَّه أفتنا في بيت المقدس فقال: "أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه فإن الصلاة فيه كألف صلاة قلنا: يا رسول اللَّه فمن لم يستطع أن يتحمل إليه؟ قال: فمن لم يستطع أن يأتيه فليهد إليه زيتا يسرج في قناديله فإن من أهدى إليه زيتا كان كمن أتاه" وفي لفظ آخر قالت: قلت أرأيت إن لم يطق أن يتحمل إليه أو يأتيه؟ قال فاهدوا إليه زيتا وعنها أنها قالت قلت: يا رسول اللَّه أفتنا في بيت المقدس قال ائتوه فصلوا فيه فقلت: يا رسول اللَّه صلى اللَّه عليك فكيف والروم إذ ذاك فيه قال: فإن لم تستطعوا فلتبعثوا بزيت يسرج في قناديله وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "من أسرج في بيت المقدس سراجا لم تزل الملائكة تسغفر له مادام ضوؤه في المسجد" انتهى. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.

الباب الخامس في ذكر الماء الذي يخرج من أصل الصخرة وأنها على نهر من أنهار الجنة وأنها انقطعت في وسط المسجد من كل جهة لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وفي أدب دخولها وما يستحب أن يدعى به عندها، ومن أين يدخلها إذا أراد الداخل

الباب الخامس في ذكر الماء الذي يخرج من أصل الصخرة وأنها على نهر من أنهار الجنة وأنها انقطعت في وسط المسجد من كل جهة لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وفي أدب دخولها وما يستحب أن يدعى به عندها، ومن أين يدخلها إذا أراد الداخل الدخول إليها، وما يكره من الصلاة على ظهرها وذكر السلسلة التي كانت عندها ولسبب دفعها وذكر البلاطة السوداء التي على باب الجنة واستحباب الصلاة عليها والدعاء بالدعاء المعين. عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "المياه العذبة والرياح اللواقح من تحت صخرة بيت المقدس". عن أبي بن كعب

في قوله {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] قال: الشام وما من ماء عذب إلا ويخرج من تحت الصخرة التي ببيت المقدس. وعن أبي العوام مؤذن بيت المقدس قال: قال كعب: ما شرب من ماء عذب إلا ويخرج من تحت الصخرة هذه. وعن أبي العالية قال من بركتها -يعني صخرة بيت المقدس- أن كل ماء يخرج من أصلها. وعن الصلت بن دينار عن أبي صالح عن نوف البكالى قال: الصخرة يخرج من تحتها أربعة أنهار من الجنة سيحان جيحان والفرات والنيل. قال صاحب الأنس عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الأنهار أربعة سيحان وجيحان والنيل والفرات فأما سيحان فنهر بلخ فأما جيحان فدجلة وأما النيل فنيل مصر وأما الفرات ففرات الكوفة وكلما يشرب ابن آدم فهو في هذه الأربعة ويخرج من تحت الصخرة) وعن كعب أنه قال ما من نقطة من عين عذبة إلا ومخرجها من تحت صخرة بيت المقدس قال كعب: عساك تعنى عين سماهيج فواللَّه

إن مخرجها من تحت صخرة بيت المقدس قال محمد بن عثمان أحد رواة هذا الأثر وأخبرت أن عين سماهيج نحو البحرين في وسط البحر. وعن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال "أنزل اللَّه تعالى من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار سيحون وهو بحر الهند وجيحون وهو بحر بلخ ودجلة والفرات وهو بحر العراق والنيل وهو نيل مصر أنزلها اللَّه -تعالى- من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجتها على جناحي جبريل -عليه السلام- واستودعها الجبال وأخرجها في الأرض وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم" وذلك قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} [المؤمنون: 18]، فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل اللَّه سبحانه وتعالى جبريل عليه السلام فرفع من الأرض القرآن والعلم والحجر من ركن البيت ومقام إبراهيم عليه السلام وتابوت موسى عليه السلام بما فيه وهذه الأنهار الخمسة يرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18]، فإذا ارتفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلما الدين والدنيا". عن قتادة عن أنس قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "رفعت إلى السدرة فإذا أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان فأما الظاهران فالنيل والفرات فأما الباطنان فنهران في الجنة وذكر تمام الحديث". وعن خالد بن معدان عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الصخرة صخرة بيت المقدس على نخلة والنخلة على نهر من أنهار الجنة وتحت النخلة آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران ينظمان سموط أهل الجنة إلى يوم القيامة" وقد تقدم هذا الحديث وتقدم أيضًا أن الصخرة صخرة بيت المقدس في وسط المسجد انقطعت

من كل جهة لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه. وعلى ذكر السلسلة التي كانت على ظهر الصخرة ببيت المقدس أقول: روى ابن عباس -رضي اللَّه عنه- قال إنما الصخرة التي ببيت المقدس إنما كانت لبني إسرائيل طشت فيه سلسلة وكان في الصخرة ثقب وكانوا يعلقون به السلسلة وهي في وسط الطشت ثم يقبربون قربانهم فما تقبل منه أخذ ومالم يتقبل منه ألصق إلى الأرض ولبسوا المسوح إلى مثلها. وقال على بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- ما كان الناس قط أحوج إلى السلسلة منهم اليوم قيل له: وما السلسلة؟ قال: سلسلة أعطاها اللَّه داود عليه السلام وفيها فصل الخطاب لا يأتيها رجلان إلا نالها المحق منهما وإن كان قصيرا فاستودع رجل رجلا لؤلؤا أو قال ذهبا فأخذ عصا فثقبها وجعل اللؤلؤ فيها أو قال فسبك الذهب وجعله فيها وجحد صاحبها وجاء إلى داود عليه السلام فقال اذهبوا بهما إلى السلسلة فقال الرجل اللهم إن كنت تعلم أني دفعت إليه لؤلؤًا أو قال ذهبا فجحدنيه فأسألك أن أنالها فنالها فقال الآخر للأول: امسك عصاي حتى أحلف ودفع إليه العصا الوديعة وهو لا يعلم ثم قال اللهم إن كنت تعلم أني قد دفعت إليه وديعته فأسألك أن أنالها فنالها فقال داود عليه السلام: يا رب ما هذا نالها الظالم والمظلوم فأوحى اللَّه تعالى أن ماله كان في العصا التي دفعها إليه. قال: ورفعت السلسلة من حينئذٍ. وقيل كانت السلسلة آية من آيات النبي داود عليه السلام وكان إذا حكم بين اثنين من بني إسرائيل بحكم اللَّه سأل اللَّه تعالى أن يريه برهانا يعرف الصادق من الكاذب فأنزل اللَّه عليه سلسلة من نور من السماء معلقة في الموضع الذي عند صخرة بيت المقدس بين السماء والأرض فإذا حكم بحكم بعث ناسا إلى الموضع الذي فيه السلسلة فمن كان كاذبا لم ينلها حتى وقع المكر بين الناس وخبثت البواطن فارتفعت السلسلة من ذلك الوقت. وهذه السلسلة كانت من العجائب وكانت معلقة بين السماء إلى الأرض

شرقي الصخرة مكان قبة السلسة الموجودة الآن وهي التي بناها عبد الملك بن مروان وفيها يقول الشاعر: لقد مضى الوحي ومات العلى ... وارتفع الجود مع السلسلة وملخص حكايتها مع اختلاف فيه على ما حكاه صاحب مثير الغرام أن رجلا يهوديا كان قد استودعه رجل مائة دينار فلما طلب الرجل وديعته جحده ذلك اليهودي وارتفعا الى ذلك المكان عند السلسلة وكان اليهودي بمكره وخبثه ودهائه قد سبك الدنانير فحفر لها في عصا وجعلها فيها فلما أتى ذلك المقام دفع العصا إلى صاحب الدنانير وقبض على السلسلة وحلف باللَّه لقد أعطاه دنانيره ثم دفع إليه صاحب الدنانير العصا وأقبل حتى أخذ السلسلة وحلف أنه لم يأخذها منه ومس كل منهما السلسلة فعجب الناس من ذلك فارتفعت السلسلة من ذلك اليوم. وكان الناس قبل ذلك من كان محقا مس السلسلة، ومن كان مبطلا ارتفعت فلم ينلها. وأما ما يستحب أن يدعى به عند دخول الصخرة وآداب دخولها ومن أين يدخلها الداخل إذا أراد الدخول إليها فمن ذلك ما رواه أبو المعالي المشرف بن المرجا عند قوله وما يستحب من الدعاء لمن دخل الصخرة المقدسة قال: ويستحب لمن دخل الصخرة أن يجعلها عن يمينه حتى تكون بخلاف الطواف حول البيت الحرام، ويجيء إلى موضع يدعو الناس فيضع يده عليها ولا يقبلها ثم يدعو بما شاء

ويستحب أن يدعو بدعاء سليمان عليه الصلاة والسلام الذي دعا به لما فرغ من بنائه وقرب القربان وهو قوله عليه الصلاة والسلام "اللهم من أتاه من ذي ذنب فاغفر ذنبه أو ذي ضر فاكشف ضره" الحديث المتقدم ثم يدعو بما شاء من حصول خيري الدنيا والآخرة، وإن أحب أن ينزل تحت الصخرة فليدخل وليقدم النية ويعقد التوبة بالإخلاص مع اللَّه تعالى ويجتهد في الدعاء فإذا نزل بأدب وخضوع وصلى ما بدا له قال: وأحب له أن يجتهد في الدعاء تحت الصخرة فإن الدعاء في ذلك الموضع مقطوع له بالإجابة إن شاء اللَّه تعالى. وحكى صاحب كتاب الأنس وصاحب كتاب باعث النفوس أن الأدعية التي يدعو بها فيها خصوصية بهذا الموضع فإن الإنسان مأمور بالدعاء موعود عليه بالاستجابة لقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، والمراد من الأدعية ما ورد في السنة الشريفة النبوية منها ما رواه أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "أنه قال لأبي عياش زيد بن الصامت الزرقي الذي رآه يصلي يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت يا حنان يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لقد دعا اللَّه باسمه الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى". وعن عبد اللَّه بن يزيد عن أبيه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سمع رجلا يقول اللهم إني أسألك بأنك أنت اللَّه الأحد الصمد لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفوًا أحد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقد دعا اللَّه باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب" رواه أيو داود والترمذي والنسائى وقال حسن غريب. وعن علي

بن عروة عن جدته أن عمار بن ياسر صلى بقوم فاستخفوا صلاته فقال واللَّه ما انصرفت حتى دعوت اللَّه بدعاء كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يدعو به ويقول إنه لن يدعوه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا عبد صالح إلا كان من دعائه "اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضى، والقصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وبرد العيش بعد الموت، وأسألك النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم! زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين". وعن الحسن بن الحسن قال أظنه ذكر عبد اللَّه بن مسعود قال كان إدريس النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يدعو بدعوة كان يأمر أن لا يعلموها للسفهاء فيدعو بها وكان يقول: "يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الطول لا إله إلا أنت ظهر اللاجئين وجار المستجيرين ومأمن الخائفين اللهم إن كنت عندك في أم الكتاب شقيا أو محروما أو مقترا علي في رزق فامح شقائي وحرماني وإقتار رزقي واكتبني سعيدًا مرشدا موفقا إلى الخيرات مستورا مكفيا مؤنة من يؤذيني أنك قلت وقولك الحق في كتابك المنزل على نبيك المرسل: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] أقول وقد رأيت بعض السلف الصالحين بمكة المشرفة يكثر من هذا الدعاء خصوصا في ليلة النصف من شعبان وأخبرني بعضهم أنه تلقى ذلك عن جماعة من أشياخه وإنه حصل له بدعائه النفع. وأقول والذي ينبغي أن الزائر إذا دعا عند موضع السلسلة وتحت الصخرة بين الصلاة والدعاة فقد حصل على

كثير وأخذ بحظ وافر من الأجر والثواب، فقد روي عن أبي ذر -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من صلى عند موضع السلسلة ركعتين كانت له بألف صلاة قال كعب: من صلى في موضع السلسلة ودعا وتصدق ما أمكن، أجاب اللَّه تعالى دعاه وكشف حزنه وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وإن سأل اللَّه الشهادة أعطاه إياها" والذي ذهب إليه كثير من أهل الخير والصلاح والمواظبة عند دخول الصخرة الشريفة على الكلمات التى عملها الشيخ الذي كان جليا لداود عليه السلام لولده سليمان عليه السلام حين عسر عليه الباب، وهي: اللهم بنورك اهتديت إلى آخرها. وقد تقدم ذكرها ويستحب أن يدعو بهذا الدعاء إذا دخل من باب الصخرة فإذا دخلها فليضع يده عليها ولا يقبلها كما قدمناه ولقد رأيت من يستلم أطراف الصخرة ويقبلها وخصوصًا لسانها الذي عند باب المغارة ولم أر نصا في ذلك. وأما كراهة الصلاة على ظهر الصخرة فقد قال صاحب باعث النفوس والإقليد ما يتعلق به وساق بسنده إلى أبي البحتري القاضي فقال تكره الصلاة في سبعة مواطن: على سطح الكعبة، وعلى ظهر الصخرة صخرة بيت المقدس، وطور زيتا وطور سيناء والصفا والمروة وجبل عرفة. لكن قال في الإقليد جزم أصحابنا بصحة الصلاة على سطح الكعبة إذا استقبل من بناها قدر ثلثي ذراع واستدلوا بحديث بلال أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى داخل الكعبة وفيه نظر ففي الحديث "وأن لا يصلى على ظهر بيت اللَّه تعالى" وهو ظاهر في النهى معتمد في الاستقبال الاتباع ولم ينقل ولأن الترقي على ظهر بيت اللَّه تعالى ينافي تعظيمه انتهى. قال ابن عباس -رضي اللَّه عنه- إنه كان في السلسلة التى وسط القبلة على الصخرة درة يتيمة وقرنا كبش إسماعيل وتاج كسرى معلقا فيها فلما صارت الخلافة إلى بني هاشم حولوها إلى الكعبة. وأما البلاطة

السوداء والصلاة عليها والدعاء عندها فمنه ما رواه إبراهيم بن مهران، قال: حدثنا نخيلة وكانت ملازمة لصخرة بيت المقدس قالت: دخل يوما من الباب الشامي رجل عليه هيئة السفر فقلت الخضر عليه السلام، فصلى ركعتين أو أربعا ثم خرج فتعلقت بطرف ثوبه وقلت له يا هذا رأيتك فعلت شيئًا لم أدر لأي شيء فعلته فقال: أنا رجل من أهل اليمن وإني خرجت أريد أهل هذا البيت فمررت بوهب بن منبه -رضي اللَّه عنه- فقال لي: "أين تريد؟ فقلت: بيت المقدس قال: إذا دخلت المسجد فادخل الصخرة من الباب الشامى ثم تقدم إلى القبلة فإن على يمينك عمودًا وإسطوانة وعن يسارك عمومًا وإسطوانة فانظر بين العمودين والإسطوانتين رخامة سوداء فإنها على باب من أبواب الجنة فصل عليها وادع اللَّه عز وجل فإن الدعاء عليها مستجاب" أقول هذه البلاطة المذكورة خضراء. وأطلق عليها سوداء: لأن الخضرة تظهر من بعد سوداء كما قالوا سواد العراق أطلقوا عليه سوادا لخضرته بالأشجار والزرع على أحد الأقوال ذكره في كتاب الأنس قال: ويستحب أن يصلي على البلاطة السوداء ركعتين أو أربعا أو ما أحب، ثم بالدعاء الذي كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا صلى بأصحابه أقبل على القوم فقال: "اللهم إني أعوذ بك من عمل يخزينى اللهم إني أعوذ بك من غنى يطغيني، اللهم إلى أعوذ بك من صاحب يرديني، اللهم إني أعوذ بك من أمر يلهيني، اللهم إني أعوذ بك من فقر ينسيني" انتهى واللَّه أعلم.

الباب السادس في الإسراء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت المقدس ومعراجه إلى السماء وذكر فرض الصلوات الخمس وذكر قصة قبة المعراج والدعاء عندها وفي مقام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفضل قبته وصلاته -صلى الله عليه وسلم- بالأنبياء والملائكة ليلة

الباب السادس في الإسراء بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى بيت المقدس ومعراجه إلى السماء وذكر فرض الصلوات الخمس وذكر قصة قبة المعراج والدعاء عندها وفي مقام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفضل قبته وصلاته -صلى اللَّه عليه وسلم- بالأنبياء والملائكة ليلة أُسري به عندها واستحباب قصد القبلتين الشريفتين المذكورتين، والصلاة فيهمها، والاجتهاد في الدعاء المعين عندهما واستحباب الوقوف في موضع العروج به وفي مقامه -صلى اللَّه عليه وسلم- والدعاء بالدعاء المعين والكلام على صلواته إلى القبلتين، وما جاء في ذلك من الأخبار والآثار" رويناه في كتاب دلائل النبوة للبيهقي من حديث حبيشى بن شريف قال. حدثنا شداد بن أوس قال: "قلنا يا رسول اللَّه! كيف أُسري بك قال: "صليت بأصحابي صلاة العتمة بمكة مغتما فأتاني جبريل بدابة بيضاء فوق الحمار ودون البغل فقال: اركب فاستصعب علي فسارها في أذنها ثم حملني عليها فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك

طرفها حتى بلغنا أرضًا ذات نخل فأنزلني. فقال لي صلِّ فصليت، ثم قال: أتدري أين صليت؟ قلت: اللَّه أعلم قال: صليت بمدين ثم صليت بطيبة، ثم ركبت عند صخرة موسى، ثم انطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها ثم بلغنا أرضا بدت لنا قصورًا فقال: انزل فنزلت فقال: صلِّ فصليتا، ثم ركبنا فقال: أتدري أين صليت؟ قلت اللَّه أعلم قال "ببيت لحم حيث ولد عيسى ابن مريم، ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني وأتى قبلة المسجد فربط فيها الدابة، ودخلنا المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر فصليت في المسجد ما شاء اللَّه فأخذني العطش أشد ما أخذني فأتيت بإناءين في أحداهما لبن والآخر عسل أرسل بهما جميعا فعدلت بينهما ثم هداني اللَّه عز وجل فأخذت اللبن فشربتا منه حتى قرعت به جبيني وبين يدي شيخ متكئ على متكإٍ له فقال أخذ صاحبك الفطرة إنه ليهدي ثم انطلق بي حتى أتينا الوادي الذي في المدينة، وإذا جهنم تتكشف عن مثل الروابي" قلت: يا رسول اللَّه! كيف وجدتها، قال: "مثل الحمة السخنة ثم انصرف بي فمررنا بعير من قريش بمكان كذا وكذا وقد أضلوا بعيرا لهم قد جمعه فلان فسلمت عليهم فقال بعضهم هذا صوت محمد ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة فأتاني أبو بكر، فقال: يا رسول اللَّه! أين كنت الليلة فقد التمستك في مكانك فلم أجدك فقال: أعلمت أني أتيت بيت المقدس الليلة"، فقال: يا رسول اللَّه! إنه مسيرة شهر فصفه لي قال: "ففتح لي صراطا كأني أنظر إليه لا يسألني أحد عن شيء إلا أنبأتهم عنه" فقال أبو بكر: أشهد أنك رسول اللَّه فقال المشركون: انظروا إلى ابن أبي كبشة يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة قال: فقال: "إن من آية ذلك أني مررت ببعيركم بمكان كذا

وكذا وقد أضلوا بعيرا لهم وإنهم ينزلون اليوم بكذا وكذا، ويأتونكم يوم كذا آدم عليه مسح أسود عليه غرارتان سودوان" فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون، فما مر عليهم قريبا من نصف النهار حتى أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذي وصفه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: وأخرجه أبو الحسين على بن بشران في الثاني من فوائده من رواية جبير وفي لفظ آخر في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "وقد رأيت في جماعة من الأنبياء" وفيه "فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمد! هذا مالك صاحب النار فسلم عليه، فالتفت إليه فبدأني بالسلام" وروينا في سنن النسائي عن طريق يزيد بن مالك قال: حدثنا أنس بن مالك رضي اللَّه تعالى عنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أتيت بدابة دون البغل، وفوق الحمار خطوتها عند منتهى طرفها فركبتها ومعي جبريل عليه السلام فسرت فقال: انزل فصلِّ ففعلت فقال: تدري أين صليت بطيبة وإليها المهاجرة، ثم قال: انزل فصلِّ ففعلت. فقال: تدري أين صليت؟ بطور سيناء حيث كلم اللَّه موسى عليه السلام ثم قال: انزل فصلِّ فنزلت فصليت فقال: تدري أين صليت؟ ببيت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام، ثم دخلت بيت المقدس، فجمع لي الأنبياء، فقدمني جبريل حتى أممتهم، ثم صعد بي إلى السماء الدنيا" الحديث وإسناده صحيح وعن عبد اللَّه بن المبارك عن سعيد بن أبي عروة، عن قتادة عن زرارة بن أبي أوفى عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لما أسري بي إلى بيت المقدس مر بي جبريل على قبر إبراهيم فقال: انزل فصلِّ ههنا ركعتين فإن ههنا ولد أخوك عيسى عليه السلام، ثم أتى

إلى الصخرة فصليت بالنبيين ثم عرج بي إلى السماء" وروينا من طريق آخر: "أن جبريل عليه السلام قام أمامه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى كان من شامى الصخرة فأذن جبريل عليه السلام ونزلت الملائكة من السماء وحشر اللَّه المرسلين وأقام جبريل الصلاة وصلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالملائكة والمرسلين ثم تقدم به إلى الكعبة التى عن يمين الصخرة فوضعت له مرقاة من ذهب، ومرقاة من فضة، وهو المعراج ثم عرج جبريل عليه السلام والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى السماء فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل من أنت؟ قال: جبريل قيل ومن معك؟ قال محمد فقيل: وقد بعث إليه؟ ففتح لنا، فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثانية واستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل ومن معك؟ فال محمد قيل: وقد بعث إليه قال نعم قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا صلوات اللَّه عليهما فرحبا بي ودعيا لي بخير ثم عرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه قال قد بعث إليه؟ ففتح فإذا أنا بيوسف -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا هو قد أعطي شطر الحسن قال فرحب ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل فقيل من "هو"؟ فقال جبريل وقيل من معك؟ قال محمد قيل: وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير قال تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]. ثم عرج إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال

محمد قيل وقد بعث إليه قال بعث إليه ففتح لنا فإذا بهارون -صلى اللَّه عليه وسلم- فرحب بي ودعا لى بخير ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل قيل ومن معك قال: محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى -صلى اللَّه عليه وسلم- فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل قيل ومن هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم -صلى اللَّه عليه وسلم- مسند ظهره إلى البيت المعمور فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلا في يوم القيامة ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا لفرها كالقلال وقد غشيها من أمر اللَّه ما غشى فما أحد من خلق اللَّه يستطع أن ينعتها من حسنها فأوحى اللَّه إلي ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة فنزلت إلى موسى فقال ما فرض ربك على أمتك قلت خمسين صلاة قال ارجع إلى ربك فسله التخفيف فإن أمتك لا تطق ذلك فإني بلوت بني إسرائيل وخبرتهم قال فرجعت إلى ربي فقلت: يا رب خفف على أمتي فحط عني خمسا فرجعت إلى موسى فقلت: حط عني خمسا قال: إن أمتك لا يطقون ذلك فارجع إلى ربك فسله التخفيف وإني لم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى حتى قال يا محمد انهض خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة ومن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا فإن عملها كتبت سيئة واحدة، قال: فنزلت حتى أتيت إلى موسى فأخبرته فقال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال: رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه. قال: كعب لصفية

زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يا أم المؤمنين صلي ههنا فإنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى بالنبيين حين أسري به إلى السماء. وأشار على القبة القصوى دبر الصخرة ويُروى من أتى القبة قاصدا وله حاجة من حوائج الدنيا والأخرة فصلى ركعتين أو أربعًا تبينت له سرعة الإجابة وعرف بركة الموضع لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى بها وتسمى قبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أعني القبة التي شرقي الصخرة، وتسمى الآن قبة السلسلة وهى التي بناها عبد الملك بن مروان وتقدم ذكرها وهي التي لقي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها حور العين ليلة أسري به، كما رواه عبد اللَّه بن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد عن جابر عن أبي زكريا قال: "حدثنا بعض إخواننا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن رأى الحور العين عيانا حتى كان ليلة أسري به، فبينما هو يمشي في صحن المسجد إذ لقيه جبريل عليه السلام فقال أتحب أن ترى الحور العين قال نعم فادخل الصخرة ثم اخرج إلى الصفة فخرج عليهن فإذا نسوة جلوس فسلم عليهن فقلن وعليك السلام ورحمة اللَّه وبركاته قال: من أنتن رحمكن اللَّه؟ قلن خيرات حسان أزواج قوم أبرار قاموا فلم يضعفوا فلم يكبروا "وأبقوا" فلم يذهبوا". عن سليمان بن عامر قال: لما أسري برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له جبريل عليه السلام: "أتريد يا محمد أن تنظر إلى الحور العين؟ قال نعم. قال فادخل هذا الباب وعليه ستر فانظر عن يمينك فإنك ستراهن قال فدخلت فنظرت عن يمينى فإذا بنسوة قعود فقلت؟ السلام عليكن ورحمة اللَّه وبركاته فأجبننى وقلن وعليك السلام ورحمة اللَّه" فقلت من أنتن رحمكن اللَّه؟ فقلن نحن خيرات

حسان أزواج أخيار أبرار ينظرون إلى قرة أعيان" أقول: وهذه منقبة عظيمة لهذا المسجد المشرف باجتماع هذا الجمع الكبير والجمع الغفير من الأنبياء والمرسلين والملائكة وصلاتهم به مأمومين يؤمهم المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم-، آدم فمن دونه وهذا لم يتفق في سائر الأرضين. واختلف العلماء رضي اللَّه تعالى عنهم في صلاته -صلى اللَّه عليه وسلم- بالأنبياء تلك الليلة فقال بعضهم إنها صلاة لغوية وهى دعاء وذكر وقيل هي الصلاة المعروفة وهذا أصح القولين لأن اللفظ يحمل على حقيقته الشرعية وقد جاء في رواية في الأحاديث الطوال "أنه ذهب به جبريل إلى بيت المقدس عقب صعوده إلى السماء وأنه أم النبيين فصلى بهم الظهر والعصر والعشاء". وقد صح أن جبريل أذن وأقام ثم صلى بهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهذا صريح في أن المراد بالصلاة حقيقتها الشرعية لأن الدعاء لا أذان له "قال المشرف: ويستحب أن يقصد فيه المعراج ويصلى فيها ويجتهد في الدعاء فإن موضعه مجمع على إجابة الدعاء فيه قال: ويستحب أن يدعو بدعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي كان يدعو به فى جوف الليل وهو ما رواه بسنده إلى ابن عباس -رضي اللَّه عنه- قال: بعثني العباس إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأتيته وهو في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث قال فقام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي من الليل فلما صلى الركعتين قبل الفجر قال: "اللهم إني أسألك رحمة من

عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها شملي وتلم بها شعثي وترد بها ألفتي، وتصلح بها ديني، وتحفظ بها غايتي، وترفع بها شاهدي وتزكي بها عملي وتبيض بها وجهي، وتلهمني بها رشدي، وتعصمني بها من كل سوء، اللهم أعطنى إيمانا صادقا، ويقينا ليس بعده كفر ورحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة اللهم أسألك الفوز عند القضاء، ومنازل الشهداء، وعيش السعداء ومرافقة الأنبياء، والنصر على الأعداء، اللهم أنزل بك حاجتي وإن قصر رأيي وضعف عملي وافتقرت إلى رحمتك، فأسألك يا قاضي الأمور ويا شافي الصدور كما تجير بين البحور أن تجيرني من عذاب السعير ومن دعوة الثبور ومن فتنة القبور اللهم ما قصر عنه رأيي وضعف عنه عملى ولم تبلغه أمنيتى". أو قال: "منيتي -شك عاصم أحد رواته-" من خير وعدته أحدا من عبادك أو خيرا أنت معطيه أحدا من خلقك فإني أرغب إليك فيه وأسألك هو يا رب العالمين اللهم اجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين حربًا لأعدائك، سلما لأوليائك، نحب بحبك الناس، ونعادي بعداوتك من يخالفك من خلقك، اللهم! هذا الدعاء دعائى وعليك الإجابة ولك الحمد وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا باللَّه اللهم يا ذا الحبل الشديد والأمر الرشيد أسألك الأمن يوم الوعيد والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود الركع السجود الموفون بالعهود، إنك رحيم ودود وأنت تفعل ما تريد، سبحان الذي تعطَّف بالعزة وقال به، سبحان الذي لبس المجد وتكرم به، سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له، سبحان ذي الفضل والنعم، سبحان ذي القوة والكرم، سبحان الذي أحصى

كل شيء بعلمه، اللهم! اجعل لى نورا في قلبي ونورا في سمعي، ونورا في بصري، ونورا في شعري، ونورا في بشري، ونورا في لحمي، ونورا في دمي، ونورا في عظامي، ونورا من بين يدي، ونورا من خلفي، ونورا عن يميني، ونورا عن شمالي، ونورا من فوقي، ونورا من تحتي، اللهم! أعطني نورا، وزدني نورا، واجعل لي نورا" قال ويستحب أن يقصد قبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وراء قبة المعراج ويصلي فيها ويجتهد في الدعاء وإن أحب دعا بالدعاء الذي علمه اللَّه لنبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- حين قال له "فيمَ يختصم الملأ الأعلى" ثم يدعو بما شاء من الدعوات المأثورة. والذي أقول: إنه ليس في المسجد الأقصى وراء قبة المعراج اليوم إلا قبتان إحداهما على طرف الأقصى والصخرة من جهة الغرب عن يمين السلم الشمالي الواصل إلى طرف سطح الصخرة الغربي وأظنها اليوم بيد خدام المسجد ينتفع بها ولم يذكر أحد ببيت المقدس أنها قبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والقبة الأخرى في آخر باب المسجد من جهة الشمال بالقرب من باب الدوادارية تسمى قبة سليمان وليس هو سليمان النبي ولعله سليمان بن عبد الملك بن مروان، وأما قبة المعراج فهي ظاهرة في سطح الصخرة معروفة مقصودة بالزيارة، ولعل المراد من قول المشرف وصاحب المستقصى وصاحب كتاب الأنس وصاحب كتاب باعث النفوس بقبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قبة السلسلة التي بناها عبد الملك بن مروان الموجودة الآن، والمقام الذي صلى فيه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالأنبياء والملائكة فإنه يقال إنه كان إلى جانب قبة المعراج في سطح الصخرة قبة لطيفة فلما بلط صحن الصخرة أزيلت تلك

القبة وجعل مكانها محراب لطيف في الأرض محوط بالرخام الأحمر في دائرة على سمت بلاط صحن الصخرة، ويقال إن موضع ذلك المحراب موضع صلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالأنبياء والملائكة ثم تقدم قدام ذلك الموضع فوضعت له مرقاة من ذهب ومرقاة من فضة وهو المعراج كما قدمناه، ويوافقه قول كعب من أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- تقدم حتى كان من شامي الصخرة فصلى بالمرسلين والملائكة ثم تقدم قدام ذلك الموضع فوضعت له مرقاة من ذهب وهو المعراج قال وهى القبة التي عن يمين الصخرة ثم قال مر إلى القبة يعني قبة المعراج، ويوافقه قوله لصفية زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يا أم المؤمنين صلِّ ههنا فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى بالنبيين ههنا حين أسري به إلى السماء، فعلى هذا تكون قبة المعراج هي قبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو ينافي ما تقدم، وعن المشرف عن صاحب المستقصى قال المشرف رحمه اللَّه تعالى لم يختلف اثنان أنه عرج به -صلى اللَّه عليه وسلم- من عند القبة التي يقال لها قبة المعراج وحكاه في مثير الغرام وأقره والذي يستحب من الدعاء فيه ما قاله النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ما رواه نافع عن ابن عمر أنه كان إذا جلس مجلسا لم يقم حتى يدعو لجلسائه بهذه الكلمات وزعم أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يدعو بهذه لجلسائه وهي: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا والآخرة، اللهم! أمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوينا أبدًا ما حيينا

واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على ما عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. وفي لفظ النسائي عن ابن عمر -رضي اللَّه عنه- قال: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يكاد أن يقوم من مجلس إلا دعا بهذه الدعوات وعن المشرف -رضي اللَّه عنه- ويستحب أن يقف على مقام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ويدعو بهذا الدعاء الذي كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يكاد يقوم من مجلس إلا دعا به اقتداء به -صلى اللَّه عليه وسلم- (انتهى واللَّه أعلم).

ومن فوائده المتعلقة بالكلام على القبلتين وما جاء في ذلك من الأخبار والآثار ما حكاه الإمام العلامة قاضي القضاة خطب الخطاء جمال الدين بن جماعة الشافعي رحمه اللَّه تعالى حيث قال: وقد تنازع عندنا رجلان زعم أحدهما أن بيت المقدس لم يستقبله أحد من الأنبياء إلا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وزعم الآخر أن جميع الأنبياء استقبلوه ولم يستقبل الكعبة أحد منهم إلا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وقيل في الصواب وبيان ذلك وإيضاح القول فيه فقال رحمه اللَّه تعالى: ولا شك أن الكعبة قبلة الأنبياء كلهم وسمع الثاني قول الزهري لم يبعث اللَّه منذ أهبط آدم إلى الدنيا نبيا إلا جعل قبلته صخرة بيت المقدس ومعلوم أن القولين متعارضين وشأن العلماء فيما يبدأ سبيله سلوك سبيل التأويل إلا أن يحصل به الجمع فإن تعذر أجروها مجرى البيتين المتعارضين في التساقط وأقبلوا على كلام غيرهما من علماء المحققين وها أنا إن شاء اللَّه تعالى أوقفك على كلامهم على ما هو حق اليقين وأسوقه لك سياق التاريخ المرتب على السنين فأقول وباللَّه التوفيق. أول من خصه اللَّه تعالى بشرف النبوة ومنحه رتبه

الاصطفاء أبونا آدم عليه السلام ولا يعلم أنه كان لبيت المقدس في حياته وجود أصلا إلا في علم اللَّه ويدل لذلك ما أسنده الحافظ أبو محمد القاسم بن عساكر في كتابه: "المستقصى في فضائل المسجد الأقصى" عن كعب الأحبار أنه قال: الأساس القديم الذي كان لبيت المقدس إنما وضعه سام بن نوح ثم بناه داود وسليمان على ذلك الأساس، وقد ثبت في الصحيح أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون هذا أقدم ما بلغنا في تأسيس بيت المقدس منقولا، أما ما ذكره القرطبي من أنه يجوز لبعض أولاد آدم وضعه ويجوز أن يكون الملائكة أيضا بنته بعد بنائها البيت الحرام فمراده أنه لم يرد ما يخالفه أما الوقوع فإنه لم يأت فيه شيء وأما البيت الحرام فإنه كان موجودًا ظاهرا لمن يقصده بالحج والزيارة آدم عليه السلام ممن حجه وطاف به ففي كتاب الأم لإمامنا الشافعى -رضي اللَّه عنه- عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: "أن آدم لما حج والبيت تلقته الملائكة وقالوا بر حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألف عام" وفي تاريخ ابن جرير بإسناده عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما:

"أن آدم حج البيت على قدميه من الهند أربعين حجة" وفي تاريخ الأزرقى أنه أقام بمكة حتى مات وأنه كان يطوف بالبيت سبعة أسابيع بالليل وفي النهار جميعه وهذه الآثار لا يدفعها إلا من يرى أن الكعبة لم تكن قبل إبراهيم، وأنه الذي أنشأها بعد أن لم تكن وهذا اختيار بعض المتأخرين لكن الأكثرين على خلافه فإن قلت هل كانت الصلاة مشروعة في زمن آدم عليه السلام؟ قلنا: نعم وما خلا شرع قط من صلاة. وقد روى عبد اللَّه بن الإمام أحمد في زيادات المسند عن أبي بن كعب: "أن آدم لما احتضر اشتهى قطعا من عنب الجنة" فذكر الحديث إلى أن قال في آخره: "فغسلوه وحنطوه وكفنوه وصلى عليه جبريل عليه السلام ودفنوه". وفي تاريخ مكة للفاكهي عن عروة بن الزبير أن الملائكة حملته حتى وضعته بباب الكعبة وصلى عليه جبريل وفي تاريخ ابن عساكر عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "كبرت الملائكة على آدم أربع". في تاريخ ابن جرير عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أيضا أن شيثا عليه الصلاة والسلام قال لجبريل صل على آدم فقال تقدم أنت فصل على أبيك فكبر عليه ثلاثين تكبيرة فأما خمس فهي للصلاة وحفس وعشرون تفضيلا لآدم وهذه آثار متعاضدة على أن صلاة الجنائز كانت مشروعة ويبعد أن يكون قد شرع سواها قال ثم رأيت في شرح مسند الشافعي للإمام الرافعي أن صلاة الصبح صلاة آدم والظهر لداود والعصر لسليمان والمغرب ليعقوب والعشاء ليونس وورد فيه خبر بعيد من الصحة لكن إلى الآن لم أقف في كلام أحد من الأئمة على تعيين ما كانوا يستقبلونه والذي يقع في ظني أنهم كانوا يستقبلون الكعبة لأن اللَّه

تعالى يقول: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] قال مجاهد وغيره لكل أهل ملة أو لكل قوم ولا شك أن آدم أول داخل في هذا العموم إذا كانت له قبلة مخصوصة فالظاهر أنها الكعبة فإنه لم يكن إذ ذاك موضع معظم مقصود بالزيارة، منسوب إلى اللَّه تعالى نسبة ظاهرة سواها وقد قدمنا أنه كان يحج إليها ويطوف بها ولا يبعد أنه كان يصلي إليها وقال: وأما الأنبياء الذين كانوا من بعده إلى زمان إبراهيم الخليل عليه السلام فإنه لم يبلغنا عنهم في الاستقبال إلا ما قدمنا عن أبي العالية، ومعلوم أنهم كانوا يعظمون البيت ويحجونه ويطوفون به ويصلون عنده ويدعون، وقد جاءت الروايات بذلك صريحة عن نوح وهود وصالح وشعيب وقصة عاد وفي إرسالهم من يستسقي لهم بالحرم مشهورة وقد روي ما من نبي هلك قومه إلا وذهب بعدهم إلى مكة فأقام بها يعبد اللَّه حتى دموت وقبورهم حول البيت فبمقتضى هذا لا يبعد أنهم كانوا يصلون إليه وقد ذكر أبو العالية أنه رأى مسجد صالح وهو منحوت وقبلته إلى البيت الحرام وكذا قبلة دانيال، وإن قلت أنى يكون هذا وقد خرب الطوفان ما في البيت وأزال رسومه قلت: قد قال مجاهد: خفي موضع الكعبة ودرس من الغرق وبقي مكانه أكمة حمراء لا تعلوها السيول غير أن الناس كانوا يعلمون أن موضع البيت فيما هناك فكان يأتيه المظلوم والمعبود من أقطار الأرض ويدعو عنده المكروب فيستجاب له،

وهذا أصح مما رواه الفاكهي عن حذيفة أنه رفع ولم يحجه أحد بين نوح وبين إبراهيم عليهما السلام، قال: وأما أبونا إبراهيم عليه السلام فإنه لما بعثه اللَّه تعالى إلى نمرود وهو بأرض بابل وكان من أمره ما قصه اللَّه تعالى في كتابه العزيز حين نجاه منه وخلصه من كيده ومكره هاجر عند ذلك إلى الشام واستقر بالأرض المقدسة متخليا لعبادة اللَّه متوجها إليها وأهل الكتاب يزعمون أنه خرب قبته شرقي بيت المقدس وفي هذه المدة حملت منه هاجر وولدت إسماعيل وكان من أمرها مع سارة ما هو مشهور فنقلها إبراهيم بابنها إلى وادي مكة شرفها اللَّه تعالى وكان يزورهم على السراق المرة بعد المرة ثم يرجع إلى الأرض المقدسة وفي هذه المدة لم يبلغنا أين كان يستقبل فلما أمره اللَّه تعالى ببناء البيت الحرام بناه واستقبله بنوه بعده إلى زمن موسى عليه السلام لا أعلم في ذلك خلافا بين الممسلمين وإنما خالف اليهود، ففي تفسير الواحد عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما في قوله تعالى: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]، أن ضمير قبلتهم وكانوا يعودون إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط لأنهم كانوا يزعمون أن قبلة إبراهيم كانت بيت المقدس وليس ذلك بأول فريتهم ومكابرتهم قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] قالوا الكعبة لأنها كانت قبلة إبراهيم فإني قلت لو كان إبراهيم وبنوه يستقبلون الكعبة لدفنوا

إليها وها أنت ترى نصائب قبورهم الشريفة دالة على أنهم موضوعون إلى الصخرة قلت الظاهر أنهم موضوعون على صفة الاستلقاء كما يوضع المحتضر في أحد الوجهين وقد قيل إن شخصا نزل المغارة ووصل إليهم فوجد سيدنا الخليل عليه السلام مستلقيا على سريره قال: وأما موسى عليه السلام فالروايات عنه مضطربة وحاصل ما وقفت عليه من كلام الناس فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان يصلي للصخرة ويدل لذلك ما روى في فتح بيت المقدس أن عمر -رضي اللَّه عنه- استشار كعبا أن يضع المسجد فقال اجعله خلف الصخرة فتجتمع القبلتان قبلة موسى وقبلة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: ضاهيت اليهودية. الثاني: أنه كان يستقبل الكعبة وهذا قول أبي العالية في مناظرته لبعض اليهود قال اليهود: كانوا يستقبلون الصخرة وقال أبو العالية: بل كان يصلي إلى المسجد الحرام وبهذا جزم بعض أئمة النقل ممن عاصرنا عنه الكلام على قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، والقولان عندي محتملان لأنه عليه السلام كان يعظم المكانين قطعا أما تعطمه الكعبة فيما ثبت من حجه إليها وأما تعظمه لبيت المقدس فلسؤاله عليه السلام عند الموت إلا دنا منه ولو رمية بحجر. والثالث: أنه كان يستقبل قبة الزمان وتسمى قبة العهد وهي التي أمر اللَّه تعالى بعملها من خشب السمار مزينة بالحرير والذهب والفضة، فلما توفي وقام بالأمر بعده فتاه يوشع بن نون واستقرت يده على بيت المقدس نصب القبة المذكورة على الصخرة هو وجميع بني إسرائيل يصلون اليها وجرى عكس ذلك من بعدهم جيل بعد جيل فلما بادت لطول الزمان صلوا إلى مكانها الذي كانت فيه وهو الصخرة، والظاهر أن ذلك كان بوحي من اللَّه تعالى وإلا لم يوافقهم سيدنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فمن ثمَّ كان قبلة الأنبياء الذين سكنوا الأرض

المقدسة وكانوا مع ذلك يعظمون البيت الحرام ويحجونه، كما قال ابن إسحاق ما بعث اللَّه نبيا بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا وقد حج البيت وقد جاء في كثير من الروايات التنصيص على موسى وعيسى ويونس عليهم السلام تلبيتهم صلوات اللَّه وسلامه عليهم، وأما محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فقد جمع اللَّه تعالى له بين القبلتين قطعا. وإنما كان وقع الخلاف في كيفية ذلك والذي صححه الإمام أبو عمر بن عبد البر أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان بدء مقامه بمكة يستقبل الكعبة فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ثم تحول إلى الكعبة، فيكون النسخ قد وقع مرتين وفي تفسير الطبري عن ابن جريج أنه أول ما صلى بمكة إلى الكعبة ثم صرف عنها إلى بيت المقدس فصلت فيه الأنصار بالمدينة ثلاث حجج وفي رواية أخرى له عن قتادة حولين. فلما هاجر صلوا معه تلك المدة ثم تحولوا إلى الكعبة والصحيح الذي أطبق عليه الأكثرون أنه لم يصل بمكة إلا إلى بيت المقدس. ولكنه كان يصلي بين الركن اليماني والحجر الأسود فتكون الكعبة أمامه فيظن من يراه أنه يصلي إليها ولعله إنما كان يفعل ذلك حبًا لاستقبالها لكونها قبلة أبيه إبراهيم أو تألفا لقريش. فلما قدم المدينة والجمع بين القبلتين فيها متعذر صلى إلى بيت المقدس تألفا لليهود، فلما رآهم على غيهم لا ينزعون تحول إلى الكعبة، ثم القائلون بهذا اختلفوا فأكثرهم على أن استقبالهم بيت المقدس وهو بالمدينة كان حتما من اللَّه تعالى ويدل له قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143]، وقالت طائفة إنه لما قدم المدينة خيره اللَّه تعالى بين القبلتين وقيل بين الجهات كلها يتوجه حيث شاء فاختار بيت المقدس ثم وجه إلى الكعبة واستشهد ابن زيد على هذا بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ

اللَّهِ} [البقرة: 115]، وقد انعقد الإجماع على أن استقبال الكعبة إلا في شدة الخوف وثقل السفر حسبما هو مقرر بأدلته في كتب الفقه وأجمعوا على أن آية التحويل إليها قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] الآية واختلفوا في أيام نزولها فقيل في رجب أو شعبان من السنة الثانية وبسبب ذلك وقع الشك في مدة استقبال بيت المقدس هل كان ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرا، وقد رواه البخاري في صحيحه عن البراء هكذا بصيغة الشك وأسنده الدارقطني عنه فقال ستة عشر عن غير شك وكذلك جزم به الشافعي -رضي اللَّه عنه- في أحكام القرآن، وزعم ابن أبي حاتم أنها سبعة عشر شهرًا وثلاثة أيام فقال لأن التحويل كان يوم النصف من شعبان. قال الواقدي وكان يوم الثلاثاء قال وأما وقت نزولها فقيل نزلت بين

الصلاتين وأول صلاة إلى الكعبة العصر وهذا هو الثابت في صحيح البخاري عن البراء، وقيل إنها نزلت قبل الظهر في أول صلاة صليت كذلك أخرجه النسائي عن أبي سعيد بن المعلى والثابت أنها نزلت وقد صلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الظهر ركعتين وذلك بمسجد بني سلمة فاستداروا ووفى بهم الصلاة، فلذلك سمي مسجد القبلتين، قال: وقد خطر لي عند وصولي إلى هذا الموضع أن جميع الأنبياء صلوات اللَّه عليهم أجمعين صلوا إلى بيت المقدس لكن لا بالمعنى الذي أراده الزهري بل لأنهم كلهم جمعوا له -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلة الإسراء فأمهم وكان ذلك قبل الهجرة فهو قبل التحويل. انتهى كلام ابن جماعة رحمه اللَّه تعالى. وعلى ذكر تعارض الأدلة وتحقيق المناط في تحويل القبلة أقول حدث عطاء بن زيد عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب، قال: لقد صلينا بعد قدوم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة نحو البيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا وكان اللَّه يعلم أنه يحب أن يوجه نحو الكعبة فلما وجه إليها صلى رجل معه ثم أتى قوما من الأنصار وهم ركوع: نحو بيت المقدس فقال لهم وهم ركوع أشهد أن رسول اللَّه قد وجه نحو الكعبة فاستداروا وهم ركوع فاستقبلوها رواه البخاري من حديث أبى إسحاق عن البراء، وروى عن طريق ابن سعد عن البراء وفيه أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أول صلاة صلاها العصر وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلى قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك وفيه أنه مات على القبلة قبل أن دخول قبل البيت رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل اللَّه تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ

إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] الآية، وقد اتفق العلماء على أن صلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمدينة كانت إلى بيت المقدس وإن تحويل القبلة إلى الكعبة كان بها. وعن الواقدي من طريق ابن سعد عن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- قال ابن سعد: وأخبرنا عبيد اللَّه بن جعفر الزهري عن عثمان بن محمد الأخنسي وعن غيرهما أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما هاجر إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا وكان يحب أن يصرف إلى الكعبة فقال: يا جبريل! وددت أن اللَّه صرف وجهي عن قبلة اليهود، فقال جبريل: إنما أنا عبد، فادع ربك وأسأله، وجعل إذا صلى إلى بيت المقدس يرفع رأسه إلى السماء فنزل قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]، الآية فوجه إلى الكعبة إلى الميزاب رأسه ويقال: صلى -صلى اللَّه عليه وسلم- ركعتين من الظهر في مسجد المسلمين ثم أمر أن يوجه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه ودار معه المسلمون ويقال: زار رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أم بشر بن البراء بن معروف في بني سلمة فصنعت له طعامًا وحانت الظهر فصلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بأصحابه ركعتين ثم أمر أن يوجه إلى الكعبة فاستقبل الميزابي فسمي المسجد وروى إبراهيم بن الحكم بن ظهير عن أبيه عن السنري في كتاب الناسخ والمنسوخ له قال: قوله

تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] قال ابن عباس: أول ما نسخ اللَّه تعالى من القرآن حديث القبلة، ذلك أن اللَّه تعالى فرض على رسوله الصلاة ليلة أسري به إلى بيت المقدس صلى الظهر والعصر ركعتين وركعتين للعشاء والغداة والمغرب ثلاثا فكان يصلي إلى الكعبة ووجهه إلى بيت المقدس قال ثم زيد في الصلاة بالمدينة حين صرفه اللَّه تعالى إلى الكعبة ركعتين إلا المغرب فنزلت كما هي قال وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه يصلون إلى بيت المقدس وفيه قال فصلاها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة سنة، حتى هاجر إلى المدينة وكان يعجبه أن يصلي قِبَل الكعبة: لأنها قبلة آبائه إبراهيم وإسماعيل وكانت صلاته إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا وكان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء ينتظر لعل أن يصرفه إلى الكعبة وقال لجبريل: وددت أنك سألت اللَّه تعالى أن يصرفني إلى الكعبة فقال جبريل لست أستطيع أن أبتدئ اللَّه جل وعلا بالمسألة، ولكن إن سألني أخبرته قال فجعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقلب وجهه إلى السماء ينتظر جبريل ينزل عليه وقد صلى الظهر ركعتين الى بيت المقدس وهم ركوع فصرف اللَّه تعالى القبلة إلى الكعبة الحديث وفيه فلما صرف اللَّه القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة اختلف الناس في ذلك فقال المنافقون: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها. وقال بعض المؤمنين: فكيف بصلاتنا التي صليناها نحو بيت المقدس وكيف من مات من إخواننا وهم يصلون إلى بيت المقدس، هل قبل اللَّه عز وجل منا ومنهم أم لا؟ وقال ناس من المؤمنين كان ذلك طاعة، قالت اليهود: اشتاق إلى بلد أبيه ويريد أن يرضي

قومه ولو ثبت على قبلتنا لرجونا أن يكون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي كان ينتظر أن يأتي، وقال المشركون من قريش: تحير على محمد دينه فاستقبل قبلتكم وعلم أنكم أهدى منه ويوشك أن يدخل في دينكم فأنزل اللَّه في جميع الفرق كلها بيان ما اختلفوا فيه فأنزل اللَّه في المنافقين وقولهم: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]، إلى دين الإسلام. وأنزل اللَّه في المؤمنين {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]، إلا لنبتلي بها وإنما كانت قبلتك التي بعثت بها الى الكعبة ثم تلي {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143]، قال المؤمنون: كانت القبلة لأنكم الأولى طاعة وهذه طاعة فقال اللَّه تعالى، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، أي صلاتكم لأنكم كنتم مطعين في ذلك كله ثم قال لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] أي تنتظر جبريل حتى ينزل عليك {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] أي تحبها {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] أي نحو الكعبة وأنزل اللَّه في اليهود: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145] يقول: لئن جئتهم بكل آية أنزل اللَّه في التوراة في بيان القبلة أنها إلى الكعبة لما تبعوا قبلتك. وأنزل اللَّه في أهل الكتاب: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ

الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 146، 147] أي من الشاكين. ثم أنزل في قريش وما قالوا: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] يعني قريش حيث قالوا قد عرف محمد أنكم أهدى منه فاستقبل قبلتكم ثم قال فلا تخشوهم حيث قالوا يوشك أن يرجع إلى دينكم أي لا تخشوا أن أردكم في دينكم {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] أي أظهر دينكم على الأديان كلها قال السهيلى وكرر الباري سبحانه وتعالى الأمر بالتوجه على البيت الحرام في ثلاث آيات وذلك لأن المنكرين لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ثلاثة أصناف: من اليهود لأنهم لا يقبلون بالنسخ في أصل مذهبهم وأهل الريب والنفاق فاشتد إنكارهم لذلك لأنه أول نسخ نزل وكفار قريش قالوا: قدم محمد على فراق ديننا فكانوا يجتمعون عليه فيقولون يزعم محمد أنه يدعونا إلى ملة إبراهيم وإسماعيل وقد فارق قبلة إبراهيم وإسماعيل وآثر عليها قبلة اليهود فقال اللَّه تعالى له حين أمره بالصلاة إلى الكعبة {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] على الاستثناء المنقطع إلى لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون ولا يهتدون في ذكر الآيات إلى قوله {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] أي يكتمون ما علموا من أن الكعبة هي قبلة الأنبياء. وروي من طريق أبي داود وفي كتاب الناسخ والمنسوخ عن يونس عن ابن شهاب قال كان

سليمان بن عبد الملك يعظم إيليا كما يعظمها أهل بيته فسره معه وهو ولي عهد ومعه خالد بن يزيد بن معاوية فقال سليمان وهو جالس فيها واللَّه إن في هذه القبلة التي صلى إليها المسلمون وأهل الكتاب لعجبا قال خالد بن يزيد أما واللَّه لأقرأ الكتاب الذي أنزل اللَّه على محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وفيه من أمر القبلة ما علمت وأما اليهود فإنهم لم يجد ما هم عليه من ذلك في كتابهم ولكن تابوت السكينة كان على الصخرة فلما غضب اللَّه تعالى على بني إسرائيل رفعه وكان صلاتهم إلى الصخرة على مشاورة منهم. روى أبو داود أن يهوديا خاصم أبا العالية في القبلة فقال أبو العالية: إن موسى -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يصلي عند الصخرة متجها إلى البيت الحرام فكانت والكعبة قبلته وكانت الصخرة بين يديه، وقال اليهودي: بينى وبينك مسجد صالح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال أبو العالية إني صليت في مسجد صالح وقبلته إلى الكعبة وصليت في مسجد ذي القرنين وقبلته الى الكعبة" انتهى واللَّه أعلم.

الباب السابع في ذكر السور المحيط بالمسجد الأقصى وما كان في داخله من المعابد والمحاريب المقصودة بالزيارة والصلاة فيها كمحراب داود عليه السلام ومحراب زكريا ومحراب مريم عليهما السلام ومحراب سيدنا عمر بن الخطاب ومحراب معاوية رضي الله عنهما، وما يشرع

الباب السابع في ذكر السور المحيط بالمسجد الأقصى وما كان في داخله من المعابد والمحاريب المقصودة بالزيارة والصلاة فيها كمحراب داود عليه السلام ومحراب زكريا ومحراب مريم عليهما السلام ومحراب سيدنا عمر بن الخطاب ومحراب معاوية رضي اللَّه عنهما، وما يشرع فيه من الأبواب وعدتها وأسمائها، وذكر الصخرات اللاتي فى أخريات المسجد وذكر ذرعه طولا وعرضا وحديث الورقات، وذكر وادي جهنم الذي هو خارج السور من جهة المشرق وما جاء فيه ومسكن الخضر عليه السلام وإلياس عليه السلام من ذلك المحل. اعلم أن الأصل في وضع سور المسجد الأقصى وتحيزه بحائط من كل جانب، وجهه ما قد بيناه آنفا لي باب ذكر مبدأ وضعه وبناء داود عليه السلام له حين قال اللَّه تعالى له يا داود ابن لي بيتا في الأرض

المقدسة فقال: يا رب وأين أبنيه قال: حيث ترى هذا الملك شاهرًا سيفه فرآه داود عليه السلام في ذلك المكان فبناه وأدار عليه سورا فلما تم السور سقط ثلاثا فشكى داود عليه السلام في ذلك إلى اللَّه تعالى إليه أنك لا تصلح أن تبني لي بيتا قال: أي ربي ولم قال: لما جرى على يديك من الدماء قال: يا رب! أولم يكن ذلك في هواك ومحبتك قال: بلى ولكنهم عبادي وأنا أرحم بهم منك فشق ذلك على داود فأوحى اللَّه إليه لا تحزن فإني سأقضى بناءه على يد ابنك سليمان وعلى القول الآخر أن أصل وضع السور أن اللَّه تعالى لما أمر داود عليه السلام ببناء بيت المقدس أسس قواعده وأدار سوره ورفع حائطه فلما ارتفع انهدم فقال داود عليه السلام: يا رب أمرتني أن أبني لك بيتا فلما ارتفع هدمته. فقال: يا داود إنما جعلتك خليفتي لتحكم بينهم بالحق فلم أخذته من صاحبه بغير ثمن وكان المكان لجماعة من بني إسرائيل. وقد تقدم الكلام على ما وقع له مع الرجل الذي قد ساومه عليه وقوله له إنما نشتريه للَّه تعالى فقال له لا تسأل شيئًا إلا أعطيك قال ابن لي عليه حائطًا قدر قامتي من كل جهة ثم املأه لى ذهبا، فقال داود عليه السلام نعم وهو في اللَّه قليل، وقول الرجل قد جعلته للَّه تعالى فأقبلوا على العمل ثم لما صار الأمر إلى سليمان عليه السلام وأراد أن يبنى مسجد بيت المقدس ساوم صاحب الأرض. فقال له: بقنطار من ذهب فقال له سليمان عليه السلام: قد استوجبتها بذلك فقال صاحب الأرض: هي خير أم ذلك قال: بل هي خير قال فإنه بدا لى قال: أو ليس قد أوجبتها قال بلى ولكن المتبايعين بالخيار ما لم يتفرقا قال ابن المبارك وهذا أصل خيار

المجلس قال ولم يزل يزايده ويقول له مثل قوله الأول حتى استوجبها منه بسبعة قناطير ذهب وقيل بتسعة قناطير من ذهب فبناه سليمان وأدار سوره وعمل فيه الأعمال التي تقدم وصفها، قال صاحب مثير الغرام في مبايعة سليمان عليه السلام لصاحب الأرض إشكال: لأنه تقدم على القول الثاني أنه جعلها للَّه تعالى فكيف يباع هذا الوقف ثانيا؟ فالجواب أنه يحتمل أن يكون داود عليه السلام لما قيل له إنه سيبنيه رجل من صلبك اسمه سليمان ردها على صاحبها قبل قوله جعلتها للَّه تعالى ويحتمل أن يكون قد استولى على الأرض غير الرجل الأول ويحتمل أن يكون في شرعهم وأن هذا اللفظ ليس بتحبيس وأن التحبيس يجوز فيه الرجوع وهذا السور هو المراد بقول اللَّه عز وجل {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] رواه أبو العوام مؤذن بيت المقدس عن عبد اللَّه بن عمر قال السور الذي ذكره اللَّه تعالى في القرآن بقوله {بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] وادي جهنم رواه الحاكم وقال صحيح وذكره في مثير الغرام وأقره في سنده إلى ابن العوام عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: إن السور الذي ذكره اللَّه تعالى في القرآن {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد: 13] فذكر مثله، وعن زياد بن أبي سودة قال روى عبادة بن الصامت -رضي اللَّه عنه- وهو على سور بيت المقدس يبكى فقيل له ما يبكيك يا أبا الوليد قال هنا أخبرنا رسول

اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه رأى جهنم. وعنه أنه سمع أخاه أبا عثمان بن أبي سودة قال رأيت عبادة بن الصامت واضعًا صدره على جدار المسجد مشرف، وفي رواية أبي الجديل يشرف على وادي جهنم يبكي فقال: يا أبا الوليد ما يبكيك قال هذا المكان الذي أخبرنا رسول اللَّه أنه رأى فيه جهنم. وعن أبي العوام قال: رأيت عبادة بن الصامت فذكره بلفظ ما يبكيك فقال: كيف لا أبكي وقد سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول هذا وادي جهنم وعن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة روى عبادة بن الصامت على شرقي بيت المقدس يبكي فقيل له ما يبكيك؟ فقال: ههنا حدثني حبيبي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه رأى مالكًا يقلب حجرًا كالعصف، وعن سعيد بن عبد العزيز عن أبي العوام قال: رأيت عبد اللَّه بن عمر قائما على سور بيت المقدس يبكي فقيل له ما يبكيك قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: في قوله عز وجل {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} [الحديد: 13] الآية باطنه المسجد وما يليه وظاهره الوادي وما يليه فقال عبد اللَّه: هو سور بيت المقدس الشرقي وفي لفظ آخر وهو السور الشرقي باطنه المسجد وظاهره

وادي جهنم. وعن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- أنه وقف على سور بيت المقدس الشرقي فقال من ههنا ينصب الصراط. وعن مجاهد عن ابن عمر قال: "قال: رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- جهنم محيطة بالدنيا والجنة من ورائها فلذلك صار الصراط على جهنم طريق إلى الجنة". وأما ما في داخل المسجد من المحاريب المقصودة بالزيارة والصلاة فيها فمحراب داود عليه السلام على اختلاف فيقال إنه المحراب الكبير الذي في سور المسجد الشرقي ويقال إنه المحراب الكبير الذي بجوار المنبر وقال صاحب الفتح القدسي إنه محراب داود عليه السلام في حصن بيت المقدس في موضع إقامته في سكنه كان في الحصن ومعبده فيه وكذلك محرابه الذي ذكره اللَّه تعالى في القرآن بقوله: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] يحتمل أن يكون محرابه الذي كان يصلي فيه في الحصن في مكان متعبده فيه، وكان المحراب الكبير الذي في داخل المسجد وكان موضع صلاته إذا دخل المسجد ولما جاء عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- اقتقى أثره وصلى مكان متعبده فسمي محراب عمر، لكونه أول من صلى فيه يوم الفتح وهو في الأصل محراب داود عليه السلام ويعضده ما كان من اجتهاد عمر -رضي اللَّه عنه- حين قال لكعب بن ماتع أن تجعل مصلانا في هذا المسجد فقال في مؤخره مما يلي الصخرة فتجتمع القبلتان قال يا أبا إسحاق ضاهيت اليهودية نحن قوم لنا مقدم المساجد ثم خط المحراب في ذلك المتعبد الذي كان له داود عليه السلام إذا دخل المسجد فوافق رأيه واجتهاده اختيار داود عليه السلام لذلك المكان قديما واتخاذه مصلى ومحراب

زكريا عليه السلام، والأكثر على أنه داخل المسجد في الرواق المجاور لبابه الشرقي ومحراب مريم عليها السلام وهو موضع متعبدها ويعرف الأن بمهد عيسى عليه السلام والمشهور أن الدعاء فيه مستجاب فينبغي للمصلي أن يصلى فيه ويقرأ سورة مريم لما فيها من ذكرها ويسجد فيها كما فعل سيدنا عمر -رضي اللَّه عنه- في محراب داود عليه السلام فإنه قرأ في صلاته سورة الإخلاص لما فيها من ذكره وسجد فيها، والدعاء فيه مستجاب خبر به غير واحد من الناس فوجدوه كذلك وأفضل الدعاء فيه دعاء عيسى عليه السلام الذي دعا به حين رفعه اللَّه تعالى إليه من طور زيتا ومحراب عمر -رضي اللَّه عنه- المجاور الآن للمنبر الشريف المقابل للباب الكبير الذي يدخل منه إلى المسجد الأقصى، وقائل يقول إنه المحراب الذي في الرواق الشرقي المتصل بجوار المسجد الأقصى باعتبار أن ذلك الرواق بما اشتمل عليه يسمى جامع وأن ذلك المكان هو الذي عزله هو ومن كان معه من الصحابة رضي اللَّه عنهم من الزبالة وكنسوه وصلوا فيه فسمي بذلك جامع عمر. والأكثرون على أن محراب عمر هو المحراب الكبير المجاور للمنبر وسيأتي ذكر ذلك بمعناه في باب فتح بيت المقدس ودخول عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- يوم الفتح من هذا الكتاب المبارك إن شاء اللَّه

تعالى. ومحراب معاوية -رضي اللَّه عنه- ويقال: إنه المحراب اللطيف الذي هو الآن داخل مقصورة الخطابة وبينه وبين المحراب الكبير المنبر الشريف وفي داخل المسجد الأقصى وخارجه مما هو داخل السور محاريب كثيرة وضعها الناس على اختلاف طبقاتهم لمقتضيات اقتضت وضعها فمنها ما وضع برؤيا نبي من الأنبياء يصلي هناك أو ولى من الأولياء وكلها مقاصد خير وفيه الموضع الذي خرقه جبريل عليه السلام وربط فيه البراق خارج باب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو من المواضع الواجبة التعظيم وما شاكله من الآيات المقدسة والمشاهد التي هي على التقوى والرضوان مؤسسة، ومنها الصخور التي في مؤخر المسجد مما يلي باب الأسباط وعندها الموضع الذي يقال له كرسي سليمان الذي دعا عنده لما فرغ من بناء المسجد كما قدمنا فاستجاب اللَّه له فيه، والذي ينبغى لقاصد هذه المحاريب والمواضع المعروفة بإجابة الدعوات وجرت العادات أن يصلي فيها ما شاء اللَّه أن يصلي ويجتهد في الدعاء فيها بما قدمناه من الأدعية المأثورة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وما أحب أن يدعو به أمر دين ودنيا هذا مع تصحيح النية والتوبة إلى اللَّه تعالى والإقلاع عن الذنوب والندم على فعلها والعزم على أن لا يعود إليها والاشتغال بتعطم حرمات اللَّه وحرمات بيته المقدس الذي هو أكبر مساجد الإسلام وشكره على ما منحه من زيارته وتأهيله لذلك يجتهد في الطاعات والدعاء والصدقة في كل مكان منها ما أمكنه فإن ذلك فضل كبير وخير كثير فإذا فعل ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه إن شاء اللَّه تعالى وأما ما يشرع من الأبواب فأولها باب الرحمة وهو في المسجد من جهة السور الذي قال اللَّه تعالى {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ

فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13] فإن الوادي الذي وراءه وادي جهنم وهو من داخل الحائط مما يلي المسجد والباب المذكور في القرآن مما يلى وادي جهنم مغلوق لا يفتح إلى أن يأذن اللَّه عز وجل بفتحه، والباب الذي من داخل الحائط مما يلي المسجد مقصود بالزيارة والدعاء والذي ينبغي لمن قصده أن يصلي في المكان الذي من داخله ويدعو ويجتهد في الدعاء، ويسأل اللَّه عز وجل في ذلك الموضع الجنة ويستعيذ به من النار وأن يكثر من ذلك قال المشرف رحمه اللَّه تعالى وينبغي أن يجتهد في الدعاء من باب الرحمة ويكون أكثر دعائه أن يسأل اللَّه الجنة ويستعيذ به من النار وعن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: "قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من سأل اللَّه تعالى الجنة ثلاث مرات قالت الجنة اللهم أدخله الجنة فمن استعاذ من النار ثلاث مرات قالت: النار اللهم أجره من النار" قال: والأحسن موقعا من سؤال اللَّه عز وجل الجنة والاستعاذة به من النار في باب الرحمة فإنه مظنة حصول إحدى الجهتين ونرجو من كرم اللَّه تعالى وإحسانه وجوده وامتنانه أن نكون من أهل الجنة الفائزين بها الداخلين إليها بسلام آمنين إن شاء اللَّه. وباب الأسباط وهو في مؤخر الجامع مما يلي الصخور التي هناك والمحراب الذي يقال له محراب داود عليه السلام المقدم ذكره على الاختلاف فيه، وباب التوبة بين باب الرحمة وباب الأسباط مسكن الخضر وإلياس عليهما السلام كذا في كتاب الأنس وفي فضائل بيت المقدس للحافظ أبي بكر الواسطي الخطب بأن مسكن الخضر عليه السلام، ولم يبوب له صاحب مثير الغرام في كتابه بابا بل ذكر مسكنه في ترجمته عند ذكر من دخل بيت المقدس

من الأنبياء عليهم السلام. وروى صاحب كتاب الأنس بسنده إلى شهر بن حوشب عن عبد اللَّه قال مسكن الخضر ببيت المقدس فيما بين باب الرحمة إلى باب الأسباط قال وهو يصلي كل جمعة في بيت المقدس في خمسة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، ومسجد قباء، ويصلي في ليلة كل جمعة في مسجد الطور ويأكل كل جمعة أكلتين من كماة وكرفس ويشرب مرة من زمزم ومرة من جب سليمان الذي ببيت المقدس المعروف بجب الورقة ويغتسل من عين سلوان وقال أيضا في كتاب الأنس حدثنا الوليد بن حماد وساق السند إلى ابن أبي داود وقال إلياس والخضر يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ويوافيان الموسم كل عام وروى بسنده إلى عمه الحافظ أبي القاسم إلى علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- بينما أنا أطوف بالكعبة إذا رجل معلق بأستار الكعبة وهو يقول يا من لا يشغله سمع عن سمع، يا من لا يغلطه المسائل، يا من لا يبرمه إلحاح الملِّحين ارزقني برد عفوك وحلاوة رحمتك. قال علي -رضي اللَّه عنه-: أعد علي هذه الكلمات يا عبد اللَّه فقال: أسمعتهن؟ قال: نعم والذي نفس الخضر بيده وكان هو مع الخضر عليه السلام ما من عبد يقولوهن دبر كل مكتوبة إلا غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل رمل عاج أو مثل زبد البحر أو ورق الشجر وروى أيضا بسنده الى همام بن منبه قال هذا ما حدثنا

أبو هريرة قال: رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما سمي الخضر خضرًا لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من تحته خضرا رواه البخاري -رضي اللَّه عنه- من حديث إلى عروة اليماني وبسنده إلى المشرف بن الرجاء الفقيه إلى أبي حفص الحمصي قال دخلت بيت المقدس قبيل أو قبل نصف النهار لأصلي فيه فإذا أنا بصوت يخافت أحيانًا ويجهر أحيانًا وهو يقول ربي إني فقير وأنا خائف مستجير يا رب لا تبدل اسمي ولا تغير جسمي ولا تجهد بلائي قال: فخرجت مذعورًا فمررت على ناس بباب المسجد فقالوا مالك يا عبد فأخبرتهم الخبر فقالوا لا تخف هذا الخضر عليه السلام وهذه ساعة صلاته. قال وذكره المشرف في باب ما جاء في الصخرة التي تسمى نج نج وهي التي تحت المقام الغربي بما يلي باب قبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وإنها موضع الخضر عليه السلام، ثم قال: وهذا الدعاء يستحب أن يدعا به في ذلك الموضع في سائر المسجد فإنه دعاء مستجاب إن شاء اللَّه تعالى. انتهى كلامه وقال في مثير الغرام وذهب جماعة من العلماء رضي اللَّه عنهم إلى أنه نبي واختاره الإمام القرطبي وهو المختار عند محققي شيوخنا، وذهب آخرون إلى أنه ولي، ومذهب الأكثرين أنه حيّ وروى الإمام أبو سعيد عبد الكريم بن السمعاني عن الشيخ يحيى بن عطاء الموصلي عن الشيخ الصالح الإمام أبي نصر البندينجي قال

سألت الخضر أين تصلي الصبح قال عند الركن اليماني، قال: وأقضي بعد ذلك شيئا كلفني اللَّه تعالى قضاءه ثم أصلي الظهر بالمدينة ثم أقضي شيئًا كلفني اللَّه تعالى قضاءه وأصلي العصر ببيت المقدس، حكاه صاحب مثير الغرام. وسبب حياته على ما حكاه البغوي في معالم التنزيل أنه شرب من عين الحياة لا يصيب ذلك الماء شيء إلا حي وقال آخرون إنه ميت، انتهى كلام البغوي. وفي الروضة الفردوسية بخط مؤلفها الشيخ الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن أمين الأقشهري وكان رحل إلى الغرب وطالت مدته هناك وأخذ عن جماعة من أعيان علماء الأندلس وغيرهم وتوفي بالمدينة الشريفة النبوية على الحال بها أفضل الصلاة والسلام سنة تسع وثلاثين وسبعمائة قال: أنبأنا جماعة وذكر بأسانيده إلى الفقيه الصالح أبي المظفر عبد اللَّه بن محمد الخيام الحربي، السمرقندي باموردة قال دخلت يوما مغارة فضللت الطريق فإذا أنا بالخضر عليه السلام فقال بحد أي أمشي فمشيت معه ثم قلت ما اسمك قال أبو العباس ورأيت معه صاحبا له فقلت: ما اسمه؟ قال إلياس بن سام فقلت: رحمكما اللَّه تعالى هل رأيتما محمدا -صلى اللَّه عليه وسلم- قالا: نعم فقلت بعزة اللَّه تعالى وقدرته أخبراني بشيء أرويه عنكما، فقالا: سمعنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: ما من مؤمن يقول صلى اللَّه على محمد إلا بصَّر اللَّه قلبه ونوره وذكر أحاديث قال: وسمعتهما يقولان كان في بني إسرائيل نبيّ يقال له إشمويل رزقه اللَّه النصر على أعدائه، وأنه خرج في جيشه فقالوا هذا ساحر يسحر أعيننا ويفسد عساكرنا فنجعله في ناحية البحر فقال:

احملوا وقولوا صلى اللَّه على محمد فحملوا وقالوها جملة فصارت أعداؤهم فى ناحية البحر فغرقوا أجمعين، قال الخضر وإلياس كان ذلك بحضرتنا، قال وسمعتهما يقولان: "سمعنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: من قال -صلى اللَّه عليه وسلم- طهر قلبه من النفاق كما طهر الشيء بالماء" وقال "سمعنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: على المنبر من قال صلى اللَّه على محمد فقد فتح اللَّه نفسه سبعين بابا من الرحمة" قال وسمعتهما يقولان قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما من مؤمن يقول: صلى اللَّه على محمد سبع مرات إلا أحبه اللَّه وإن كانوا بغضوه، واللَّه لا يحبونه حتى يحبه اللَّه سبحانه" يقولان جاء رجل من الشام إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه إن أبي شيخ كبير وهو يحب أن يراك فقال: ائتني به قال إنه ضرير البصر، قال قل له يقول في سبع أسابيع صلى اللَّه على محمد وسلم فإنه يراني في المنام، حتى يروي عني الحديث ففعل فرآه في المنام وكان يروي الحديث، قال وسمعتهما يقولان سمعنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: إذا جلستم مجلسًا فقولوا بسم اللَّه الرحمن الرحيم صلى اللَّه على محمد يوكل اللَّه بكم ملكا يمنعكم عن الغيبة حتى لا تغتابوا وإذا أقمتم فقولوا بسم اللَّه الرحمن الرحيم وصلى اللَّه على محمد فإن الناس لا يغتابوكم ويمنعهم الملك عن ذلك، قاله الرواي عن أبي المظفر. وسمعنا عليه بعد الفراغ من إنشاده لنفسه حد والحديث فيما يروي بنيان عن نبي واستغنموها وعظموها فهي من المخزون الخفي انتهى ما ذكره الأقشهري حطه وهو

الذي ورد فيه من رواية ابن منبه عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قيل لموسى عليه السلام قل لبني إسرائيل: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58] فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على أسقاههم وقالوا حبة في شعره" وعن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- فى قوله تعالى {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} [البقرة: 58] "يريد بيت المقدس" {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} [البقرة: 58] يريد لا حساب عليكم. {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [البقرة: 58] يريد باب بيت المقدس مسجد اللَّه تعالى {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] يريد لا إله إلا اللَّه لأنها كلمة تحط الذنوب {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59] قالوا بالعبرانية حبة سمراء يريد الحنطة {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 59] أي عذابا {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59] وكان يقال من صلى عند باب حطة ركعتين كان له من الثواب بعدد من قيل له من بني إسرائيل ادخل فلم يدخل. وعن علي بن سلام بن عبد السلام عن أبيه قال سمعت أبا محمد بن عبد السلام يقول: الباب النحاس الذي في المسجد باب الحمل الأوسط هو من متاع كسرى والباب النحاس الذي على باب المسجد باب داود الذي تخرج منه إلى سوق سليمان بن صهيون. والباب الذي يعرف بباب حطة هو الباب الذي كان بأريحا لما خربت نقل الباب إلى المسجد قال إنما سمى باب حطة لأن اللَّه تعالى أمر بني إسرائيل أن يدخلوا منه ويقولوا حطة. وحطة فعلة من الحط وهو وضع الشيء من أعلى إلى أسفل يقال حط الحمل عن الدابة والسيل حط الحجر من الجبل قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] أي مغفرة فقالوا حنطة وقال مقاتل إنهم أصابوا خطة بإبائهم على موسى دخول الأرض المقدسة التي فيها الجبارين فأراد

اللَّه أن يغفر لهم فقيل لهم قولوا حطة وقال الزجاج معناه سألتنا حطة أي حط عنا ذنوبنا وقوله تعالى {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [البقرة: 58] قال ابن عباس ركعا وهو من شدة الانحناء والمعنى منحنيين متواضعين، قال مجاهد هو باب حطة من بيت المقدس طوطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فلم يخفضوا، وعن عبد الرحمن محمد بن منصور بن ثابت عن أبيه عن جده قال كان في زمن بني إسرائيل إذا أذنب أحدهم الذنب كتب على بابه أو جهته خطيئته أو على عتبة داره، ألا إن فلانا قد أذنب ليلة كذا وكذا فيبعدونه ويدحرونه. فيأتي باب التوبة، وهو الذي عند محراب مريم عليها السلام الذي كان يأتيها رزقها منه، فيبكي ويتضرع ويقيم حينًا فإن تاب اللَّه عليه محي ذلك عن جبينه فيقربه بنو إسرائيل وإن لم يتب عليه أبعدوه ودحروه، وباب شرف الأنبياء وهو يعرف الآن بباب الدويدار وهو من جهة المسجد من الشمال، وباب الغوانمة وهو الذي عند النيابة في أول جهة والمسجد الغربية ويعرف هذا الباب قديمًا بباب الخليل كما قيل واللَّه أعلم. وباب الناظر ويقال إنه باب غير متجدد ويعرف قديما بباب ميكائيل ويقال إنه الذي ربط به جبريل عليه السلام البراق ليلة الإسراء، وباب الحديد وهو مستجد ويعرف قديما بأرغون الكاملى صاحب المدرسة الأرغونية التي على يسار الخارج منه. "باب القطانين ويقال إنه مستجد" فتحه السلطان الملك الناصر

محمد بن قلاوون رحمه اللَّه تعالى وكان قد تلاشى حاله ولما عمر المرحوم تنكز الحسامي نائب الشام كان رحمه اللَّه تعالى رواق المسجد الذي في الجهة الغربية وسوق القطانين عمر الباب بعمارته المتقنة التي هي عليه الآن، وباب الساقية يقال إنه قديم وكان قد استهدم ولما عمَّر المرحوم علاء الدين البصير الميضاة المعدة للرجال عمَّر هذا الباب وَلَمَّ شعثه، وباب السكينة وهو مجاور لباب المدرسة المعروفة بالبلدية وهو الآن مجاور للمنارة القبلية والمدرسة الشريفة السلطانية الأشرفية من جهة الشمال واللَّه أعلم. وباب السلسلة وباب السكينة متحدان وباب السلسلة هذا يعرف قديما بباب داود عليه السلام وباب المغاربة وسمي بذلك لمجاورته مقام المغاربة التي تقام فيه الصلاة الأولى ومحل هذا الباب آخر الجهة الغربية من المسجد إلى القبلة ويسمى هذا الباب باب النبي عليه السلام، وأما أذارعه وما اشتمل عليه من الطول والعرض فقد جعل صاحب مثير الغرام فصلا ذكر فيه ما أثره عبد الملك بن مروان وغيره في المسجد الأقصى وهو الفصل السابع.

وقال الحافظ ابن عساكر -رضي اللَّه عنه- وطول المسجد الأقصى سبعمائة ذراع وخمسة وستون ذراعًا بذراع الملك، وقال صاحب مثير الغرام: قلت وكذا قاله أبو المعالي المشرف في كتابه، قال: ولكن رأيت قديما بالحائط الشمالي فوق الباب الذي يلي الدويدارية داخل السور بلاطة فيها أن طوله سبعمائة ذراع وأربعة وثمانون ذراعًا وعرضه أربعمائة وخمسة وخمسون ذراعًا وذلك مخالف لما ذكره قال: ووصف فيها الذراع لكني لم أتحقق ذلك هل هو الذراع وثلاثة وثلاثون ذراعًا خارج عن عرض أسوارها انتهى كلامه. وأما الورقات وما كان من أمرها على اختلاف في اللفظ وتوارد في المعنى على محل واحد فمن ذلك ما رواه أبو بكر بن أبي مريم عن عطية بن قيس أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ليدخلن الجنة رجل من أمتى يمشي على رجليه وهو حي" فقدمت رفقة إلى بيت المقدس يصلون فيه في خلافة عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- فانطلق رجل من بني تميم يقال له شريك بن حباشة الثقفي يستقي فوقع دلوه في الجب فنزل ليأخذه فوجد بابا في الجب يفتح إلى جنان فدخل من الباب إلى الجنان يمشي فيها وأخذ من شجرها ورقة فجعلها خلف أذنه ثم خرج إلى الجب فارتقى، فأتى صاحب بيت المقدس فأخبره كما رأى من الجنان ودخوله فيها، فأرسل معه إلى الجب فنزل الجب ومعه أناس فلم يجدوا بابا ولم يصلوا إلى الجنان فكتب

بذلك إلى عمر فكتب عمر بصدق حديثه في دخول رجل من هذه الأمة الجنة يمشي على قدميه وهو حي، وكتب عمر أن انظروا إلى الورقة فإن هي يبست وتغيرت فليست هي من ورق الجنة فإن الجنة لا يتغير شيء منها وذكر في حديثه أن الورقة لم تتغير، وفي لفظ آخر من حديث ابن أبي تميم قال: أخبرني عطية بن قيس أن شريك بن حباشة النميري جاء إلى بيت المقدس يستسقي لأصحابه إذ خر منه الدلو فنزل إذ تبدى له شخص فقال له انطلق معي فأخذه بيده في الجب ثم أدخله الجنة فأخذ شريك ورقات ثم رده إلى موضعه فخرج فأتى أصحابه فأخبرهم، فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- فقال كعب إن رجلا من هذه الأمة سيدخل الجنة وهو حي بينكم، قال انظروا إلى هذه الورقات فإن تغيرت فليست من ورق الجنة وإن لم تتغير فهي من ورق الجنة. قال عطية فلم تكن الورقات يتغيرن. ومن طريق آخر قال الوليد أحد رواته، قال: حدثني أبو النجم إمام أهل سلمية ومؤذنهم في سنة أربعين ومائة ومات في سنة خمسين ومائة قال حدثني غير واحد من أهل سلمية من قبائل العرب أنهم أدركوا شريك بن حباشة يسكن سلمية قالوا فكنا نأتيه فنسأله فيخبرنا بدخوله الجنة وما رأى

فيها وعن أخذه الورقات منها وإنه لم يبق معه إلا ورقة واحدة ادخرها لنفسه، قال: فكنا نسأله يرينا إياها فيدعو بمصحفه فيخرجها من بين ورق المصحف خضراء فيأخذها ويقبلها وندفعها إليه فيضعها على عينيه ثم يردها ويضعها بين ورق المصحف، فلما احتضر أوصى أن يجعلها بين كفنه وصدره فكان آخر عهدنا بها أن وضعها على صدره ثم وضعوا أكفانه عليها، قال الوليد بن مسلم لأبي النجم هل وصفوها لك؟ قال: نعم شبهوها بورق الدراقن بمنزلة الكف محددة الرأس. وفي لفظ آخر من رواية إبراهيم بن أبي عبلة عن شريك بن حباشة النميري أنه ذهب يستقي من جب سليمان الذي في بيت المقدس فانقطع دلوه فنزل الجب ليخرجه فبينما هو يطلبه بذلك الجب إذ هو بشجرة فتناول ورقة من الشجرة وإذا هي ليست من شجر الدنيا فأتى بها عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- فقال -رضي اللَّه عنه- أشهد أن هذا هو الحق سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "يدخل الجنة رجل من أهل هذه الأمة الجنة قبل موته وأخذ الورقة وجعلها بين دفتى المصحف". وذكر أبو حذيفة إسحاق بن بشر في فتوح بيت المقدس قال وكان في المسلمين رجل من بني تميم يقال له أبو المحشن وكان شجاعًا وكان الناس يذكرون منه إصلاحًا ففقدوه يوما وكانوا يسألون عنه ولا يخبرون عنه بشيء حتى أيسوا منه وظنوا أنه قد اغتيل فذهب به، فبينما الناس جلوس إذ طلع عليهم ومعه ورقتان لم ينظر الناس إلى مثل تلك الورقتين قط أخضر خضرة ولا أعرض ولا أطيب ريحا ولا أطول طولا ولا أحسن منظرا فقال به أصحابه أين كنت؟ فقال: وقعت

في جب فمكثت أمشى حتى انتهيت إلى جنة معروشة فيها من كل شيء فلم ترعني مثل ما فيها من نعيم في مكان قط ولا أظن اللَّه تعالى خلق مثل ما رأيت فلبثت هذه الأيام كلها فيها في نعيم ليس مثله نعيم وفي منظر ليس مثله منظر أو في ريح لم يجد أحد من الناس ريحا قط أطيب منه فبينما أنا كذلك إذ أتاني آت حتى أخذ بيدي فأخرجنى منها إليكم وقد أخذت هاتين الورقتين من سدرها أو من سدرة كنت تحتها جالسا فبقيتا الورقتان في يدي فأقبل الناس يأخذونها فيجدون لها ريحا لم يجدوا مثله قط لشيء. قال إسحاق فحدثني المصارب بن عبد اللَّه الشامى أن تلك الورقتين كانتا عند الخلفاء في الخزانة قال وأن أبا عبيد فأرسل أبا المخشن والورقتين إلى عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- فلما قص عليه القصة دعا عمر الناس ودعا كعب وقال له يا كعب هل بلغك في شئ من الكتب أن رجلا من هذه الأمة يدخل الجنة ثم يخرج منها قال نعم واللَّه إني لأعرفه بحليته وإنه يخرج بورقتين منها وذلك بعد فتح اللَّه الروم على هذه الأمة قال فانظر في هذا المجلس هل ترى ذلك الرجل قال فنظر وتصفح وجوههم ثم أخذ بيدي أبي المخشن وقال هو هذا. قال فحمد عمر اللَّه كثيرا. ويقال إن جب الورقة داخل المسجد الأقصى عن يسار الداخل من الباب المقابل للمحراب، وأما وادي جهنم فقد تقدم ذكره في أوائل هذا الباب عند ذكر السور وباب الرحمة. انتهى واللَّه أعلم.

الباب الثامن في ذكر عين سلوان والعين التي كانت عندها والبئر المنسوبة إلى سيدنا أيوب عليه السلام وذكر البرك والعجائب التي كانت في بيت المقدس وما كان به عند قتل الإمام علي -رضي الله عنه- وولده الحسين -رضي الله عنه- ومن قال إنه كالأجمة ورغب عن أهله،

الباب الثامن في ذكر عين سلوان والعين التي كانت عندها والبئر المنسوبة إلى سيدنا أيوب عليه السلام وذكر البرك والعجائب التي كانت في بيت المقدس وما كان به عند قتل الإمام عليّ -رضي اللَّه عنه- وولده الحسين -رضي اللَّه عنه- ومن قال إنه كالأجمة ورغب عن أهله، وذكر طلسم الحياة، وذكر طور زيتا والساهرة، وذكر جبل قاسيون بخصوصه وما جاء في ذلك على نحوه روينا بإسناد صحيح عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "إن اللَّه عز وجل اختار من المدائن أربعة مكة وهي البلدة والمدينة وهي النخلة وبيت المقدس وهي الزيتونة ودمشق وهي التينة" واختار من الثغور أربعة إسكندرية مصر وقزوين خراسان وعبادان العراق وعسقلان الشام واختار من العيون أربعة يقول في محكم كتابه العزيز {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن: 50] أما اللتان تجريان فعين بيسان وعين سلوان وأما النضاختان فعين زمزم وعين عكا واختار من الأنهار أربعة سيحان وجيحان والنيل والفرات،

وعن أم عبيدة بنت خالد بن معدان عن أبيها أنه قال: زمزم وعين سلوان التي ببيت المقدس من عيون الجنة وفي رواية عنها عنه قال من عيون الجنة في الدنيا زمزم وعين سلوان وعنها أيضا عن أبيها أنه قال من أتى بيت المقدس فليأت محراب داود المشرف وليصل فيه ويسبح في عين سلوان فإنها من الجنة، ولا يدخل الكنائس ولا يشتر فيها بيعا فإن الخطة فيها ألف خطة في غيرها والحسنة فيها مثل ألف حسنة، وقال سعيد بن عبد العزيز كان في زمن بني إسرائيل في بيت المقدس عين عند عين سلوان وكانت المرأة إذا قذفت أتوا بها إليها فشربت منها فإن كانت بريئة لم يضرها وإن كانت غير بريئة طعمت فماتت فلما حملت مريم عليها السلام أتوا بها وحملوها على بغلة فعثرت بها فدعت اللَّه تعالى أن يعقم رحمها فعقمت من يومئذ فلما أتتها شربت منها فلم تر إلا خيرا فدعت اللَّه تعالى أن لا يفضح بها امرأة مؤمنة ففارت تلك العين من يومئذ. وحكى كتاب الأنس في معنى ذكر البئر المنسوبة إلى سيدنا أيوب عليه السلام قال قرأت بخط ابن عمي إلى محمد القاسم وأجازه لي قال قرأت في بعض التواريخ أنه ضاق الماء في بيت المقدس بالناس فاحتاجوا إلى بئر هناك نزلوها ثمانون ذراعًا وسعة رأسها بضعة عشر ذراعا في عرض أربعة أذرع وهي مطوية بحجارة عظيمة كل حجر منها خمسة أذرع وأقل وأكثر في سك ذراعين أو ذراع فعجبت كيف نزلت هذه الحجارة إلى ذلك المكان وماء البئر بارد خفيف ويستسقى منها الماء طول السنة من ثمانين ذراعا وإذا كان زمان الشتاء فاض ماؤها حتى يسيح على وجه الأرض في بطن الوادي ويدور عليه

أرحية تطحن الدقيق فلما احتج إليها وإلى عين سلوان نزلت إلى قرار البئر ومعي جماعة من الصناع لأنقبها فرأيت الماء يخرج من حجر يكون قدر ذراعين في مثلهما وبها مغارة فتح بابها ثلاثة أذرع في ذراع ونصف يخرج منها ريح بارد شديد البرودة وإنه حط فيه الضوء فرأيت المغارة مطوية السقف بحجر ودخل إلى قريب منها فلم يلبث له الضوء فيها من شدة الريح الذي يخرج منها وهذه البئر في باطن وادي المغارة في بطنها وعليها وحواليها من الجبال العظيمة الشاهقة ما لا يمكن الإنسان أن يرتقي عليها إلا بمشقة وهي التي قال اللَّه تعالى لنبيه أيوب -صلى اللَّه عليه وسلم- وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة وأتم السلام {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] انتهى كلامه. وأما النهي عن دخول الكنائس فقد روي عن سعيد بن عبد العزيز أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- صلى في الكنيسة التي في وادي جهنم ركعتين ثم قال بعد ذلك كنت غنيا أن أركع ركعتين على وادي جهنم، وعنه أن عمر -رضي اللَّه عنه- لما فتح بيت المقدس مر بكنيسة مريم التي في الوادي فصلى فيها ركعتين ثم ندم لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هذا واد من أودية جهنم" ثم قال "ما كان أغنى عمر أن يصلي في وادي جهنم" وعن كعب قال لا تأتوا كنيسة مريم التي ببيت المقدس أي كنيسة الجسمانية والعمودين اللذين في كنيسة الطور فإنما من "الطواغيت" ومن أتاهم حبط عمله. وعن ثور بن يزيد

قال بلغني أن كعبا مر به ابن أخيه ورحل معه فسألهما أين تريدان قالا: إيليا قال كعب لا تقولا إيليا لكن قولا بيت المقدس، وقال بيت اللَّه المقدس لا تأتيا كنيسة مريم ولا العمودين فإنهما طاغوت من أتاها حبطت صلاته إلى أن يعود من ذي قبل قاتل اللَّه النصارى ما أعجزهم ما بنوا كنيستهم إلا في وادي جهنم وعن أبي عبد اللَّه محمد بن أحمد بن أبي بكر المقدسي في كتاب البديع في تفضيل الإسلام أن قبر مريم عليها السلام في الكنيسة المعروفة بالجسمانية، وكذا يقال الآن ولم تزل تسمع أن موضع قبرها تحت القبة التي في الكنيسة وحكي ذلك في مثير الغرام عند ذكر مريم عليها السلام وذكر من دخل بيت المقدس من الأنبياء عليهم السلام وزاد وقال بالكنيسة المعروفة بالجسمانية بالسين بعد الجيم لا يجوز للمسلم دخول الكنيسة إلا بإذنهم لأنهم يكرهون دخوله إليها قال: ابن الملقن في عمدته وينبغي إذا كان فيها صورا أن يحرم على ما تقرر في باب الوليمة والذي قاله هناك وإذا منعنا الدخول فهل هو منع تحريم أو تنزيه قال الرافعي في

نظم الوجيز يقتضي ترجيح الحرمة ونقله في الذخائر عن الأكثرين قال ذخائر البيان عن عامة الأصحاب كذلك وهو النص لكن في الشرح الصغير مال الأكثرون إلى الكراهة وكلام صاحب الشرح الكبير يقتضي مرافقته. قال أبو منصور بن الصباغ في كتاب الأشعار باختلاف العلماء واختلفوا في الصلاة في البيع والكنائس والنواويس فحكى ابن المنذر عن ابن عباس ومالك رضي اللَّه عنهما أنهما كرها ذلك لأجل الصور وعن أبي موسى الأشعري أنه صلى في كنيسة وعن الحسن والشعبي وغيرهما الترخيص في الصلاة في البيع والكنائس قال الزركشي فما كتاب إعلام الساجد بأحكام المساجد وذاكرت شيخنا يعني أبا نصر في ذلك فأجاب إنه ينبغي أن يكره الصور التي فيها ولدخولها بغير إذن فقال الشيخ شهاب الدين أحمد بن العماد الأفقهشي في كتابه تسهيل المقاصد لزوار المساجد ويجوز الصلاة في كنائسهم بشروط أربعة: أحدها: أن يأذنوا له في الدخول إن كانت الكنيسة مما لا يقرون عليها ككنائس مصر جاز دخولها بغير إذن لأنها واجبة الإزالة فلا يد لهم عليها. ثانيها: أن لا يكون فيها تصاوير فإن كان فيها تصاوير على جدرانها كما هو الغالب حرم دخولها فإنه لا يحل دخول دار فيها تصاوير "وإن كان فيها تصاوير" لا يقدر على إزالتها نعم يجوز ذلك على قول الأصطخري وابن الصباغ أن النهي عن التصاوير منسوخ. ثالثها: أن يحصل من ذلك مفسدة كتكثير سوادهم وإظهار شعائرهم وإيهام صحة عبادتهم وتعظيم متعبداتهم. رابعها: أن لا يكون فيها نجاسة فإن كانت فلا تصح إلا بحائل انتهى. أقول: وهذا الشرط الأخير يحتاج إليه هنا

فإن الطهارة شرط في كل مكان. قال عمر بن عبد العزيز -رضي اللَّه عنه-، لا تدخلوا على هؤلاء كنائسهم فإن السخط ينزل عليهم وهذا إذا لم يكن فيها تصاوير فإن كانت حرم دخولها والصلاة فيها انتهى. وقضية تحريم دخول كنيسة بيت لحم فهو لما فيها من الصور وأما ما كان في بيت المقدس من البرك وما كان فيه عند قتل علي والحسين رضي اللَّه عنهما ومن قال إنه كالأجمة ورغب عن أهله إلى غير ذلك فمنه ما رواه ضمرة عن ابن أبي سودة قال عمل ملك من ملوك بني إسرائيل يسمى حزقيل في بيت المقدس ست برك: منها ثلاث في المدينة بركة بني إسرائيل وبركة سليمان وبركة عياض، وثلاث خارج المدينة بركة ماملا وبركتا المرجيع جعل ذلك خزائن لأهل بيت المقدس، وحكى السري بن يحيى عن ابن شهاب الزهري أن عبد الملك بن مروان سأله ما كان بيت المقدس عند مقتل علي بن أبي طالب قال لم يرفع حجر إلا وجد تحته دم وقيل إن ذلك كان في قتل الحسين وروي أيضا عن الزهري أن أسماء الأنصارية قالت ما رفع حجر بإيليا ليلة قتل الحسين بن علي إلا وجد تحته دم عبيط، ورواه أبو بكر الهذلي عن الزهري قال لما قتل الحسين لم يرفع حصاه "بيت المقدس" إلا وجد تحتها دم عبيط وقال أول ما عرف الزهري تكلم في مجلس الوليد أيكم يجمل ما فعلت أحجار بيت المقدس يوم مثل الحسين بن علي فقال الزهري إنه لن يقلب حجر إلا وجد تحته دم عبيط، وعن زيد بن عمر الكندي قال حدثتني أم حيان قالت يوم قتل الحسين أظلمت علينا ثلاث ولم يمس أحد من زعفرانهم شيئا فجعله على وجهه إلا احترق ولم يقلب حجر بيت المقدس إلا أصبح تحته دم عبيط، وعن عياش عن صفوان إذ قال مثل بيت المقدس مثل الأجمة فيها الأسد من داخلها وإما أن يأكله وإما أن يسلم ويقال بيت المقدس

كأجمة الأسد إما إن يسلم وإما أن يدركه العطب. أقول قال في القاموس أجم الأسد دخل أجمة ثم قال والأجمة محركة الشجر الملتف وعن سليمان بن كيسان قال: لقيت أبا عيسى الخراساني بمصر فقلت له أرغبت عن القدس فقال: لم أرغب عن القدس ولكنني رغبت عن أهل القدس، وعن صفوان بن عمرو قال: مكتوب في التوارة ببيت المقدس كأس من ذهب مملوءة عقارب قال الفقيه أبو المعالى المشرف ويعني بالعقارب بنى إسرائيل الذين كانوا يعملون فيه بمعاصي اللَّه تعالى حتى عمهم من البلاء ما عمهم وليس لهذه الأمة في ذلك شيء لأنه قال مملوء عقارب وظاهر الخطاب يدل على الماضي لا على المستقبل. وكان في بيت المقدس من العجائب ما لا يوجد في غيره منها ما صنعه الضحاك بن قيس الأزدي قال أهل العلم لما توجه ذو القرنين إلى بيت المقدس وقد دانت له أهل الأرض وخضعت له الملوك رأى تلك العجائب التي صنعها الضحاك بن قيس في الزمان الأول، ومنها أنه صنع نارًا عظيمة اللهب فمن لم يطع اللَّه تلك الليلة أحرقته تلك النار، ومنها أن من رمى بيت المقدس بنشابة رجعت إليه، ومنها أنه وضع كلبا من خشب على باب بيت المقدس فمن كان عنده شئ من السحر إذا مر بذلك الكلب نبح عليه فإذا نبح عليه نسى ما كان عنده من السحر، ومنها أنه وضع بابا فمن

دخل منه إذا كان ظالما من اليهود والنصارى ضغطه ذلك الباب حتى يعترف بظلمه. ومنها أنه وضع عصا في محراب بيت المقدس فلا يقدر أحد أن يمس تلك العصا إلا من كان من أولاد الأنبياء عليهم ومن كان غير ذلك احترقت يده ومنها أنهم كانوا يحبسون أولاد الملوك عندهم في محراب بيت المقدس فمن كان من أهل المملكة إذا أصابوا يده مطلية بالذهب. ومما يلحق بهذه العجائب ما صنعه سليمان عليه السلام وذلك أنه عليه السلام جعل تحت الأرض بركة وجعل فيها ماء وكان على وجه ذلك الماء بساط ومجلس رجل عظيم أو قاض جليل فمن كان على باطل إذا وقع في ذلك الماء غرق ومن كان على حق لم يغرق فلما صار الإسكندر إلى بيت المقدس ورأى ما صنعه الضحاك من العجائب أوحى اللَّه تعالى إليه أنك ميت وإن أجلك قد حضر. وكان آخر من كان من الملوك في ذلك الزمان قد أوسع أهل الأرض عدلا وآخر من كان من الملوك من أهل الخير قد كبر سنه ودق عظمه ونحل جسمه وانقضى عمره بعد أن سار من المشرق إلى المغرب إلى البلاد التي لم يأتها أحد قبله وذلك بتمكين اللَّه عز وجل له في الأرض كما بين في كتابه العزيز ومات ببيت المقدس، فزعم بعض أهل العلم أنه مات بدومة الجندل وأنه رجع إليها من بيت المقدس فأدركه أجله فمات بها، وكان ببيت المقدس حيات عظيمة قاتلة إلا أن اللَّه تعالى تفضل على عباده بمسجد كان على ظهر الطريق أخذه عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- من كنيسة هناك تعرف بقمامة وفيه اسطوانتان من حجارة على رأسهما صورة حيات يقال إنها طلسم فمتى لسعت حية إنسانا لم تضره شيئًا فإن خرج من بيت المقدس شبرا من الأرض مات فى الحال ودواؤه في ذلك أن يقيم ببيت

المقدس ثلاثمائة وستين يوما بعدد أيام السنة فإن خرج منه وقد بقي من العدد يوم واحد هلك، وحكى صاحب مثير الغرام عن الحافظ أبي محمد القاسم وذكر السهروردي تحو هذا فى كتاب الزيارات وأخبر الفقيه محمد بن علي بن عقبة عدل فاضل ثقة إنه اتفق ذلك لشخص سماه هو ونسيت اسمه كان يلعب بالحيات فلدغته حية فخرج من القدس فمات. وعن مكحول عن معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه- أنه قال: "قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: عمران بيت المقدس خراب يثرب وخراب يثرب خروج الملحمة وخروج الملحمة فتح القسطنطينية ثم خروج الدجال ثم ضرب على فخذه أو قال منكبه ثم قال إن هذا الحق كما أنك قاعد". وعن مكحول يحدث جبير بن نفير عن مالك بن يخامر عن معاذ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وسلم نقله بلفظه ثم ضرب بيده على فخذه الذي حدثه أو منكبه ثم قال إن هذا لحق كما أنك ههنا أو كما أنك قاعد يعني معاذا، وفي لفظ ثم ضرب على فخذ الرجل الذي حدث معاذا، ورواه في مثير الغرام عن مالك بن يخامر عن معاذ بلفظه ورواه الوليد عن جابر عن مكحول عن عبد اللَّه بن مجيرين عن معاذ بن جبل أنه حدث عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- عن الملاحم فقال عمر إن بيت المقدس خراب يثرب الحديث انتهى كلامه. وعن عوف بن مالك الأشجعي قال أتيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو في بناء له فسلمت

عليه فقال عوف بن مالك فقلت نعم فقال ادخل فقلت: بكلي أو ببعضي فقال: بكلك فقال لي: يا عوف اعدد سنينا بين يدي الساعة أولهن موتي، فاستبكيت حتى جعل يسكتني ثم قال قل إحدى فقلت إحدى والثانية فتح بيت المقدس ثم قال قل ثنتان والثالثة موتان يكون في أمتي يأخذهم، مثل قعاص الغنم قل ثلاث فقلت ثلاث والرابعة تكون فتنة في أمتي وعظمها قل أربع فقلت أربع والخامسة يفيض فيكم المال حتى إن الرجل ليعطى المائة دينار فيسخطها قل خمس والسادسة هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيسيرون إليكم على ثمانين من غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفا وفسطاط المسلمين يومئذ في أرض يقال لها دمشق صحيح أخرجه البخاري في بعض ألفاظه اختلاف وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بين الملحمة الكبرى وفتح المدينة ست سنين ويخرج المسيح الدجال في السابعة"، وعن معاذ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر" وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تقبل رايات سود من قبل خراسان فلا يردها شيء حتى تنصب بإيليا" وأما اتصال حوضه -صلى اللَّه عليه وسلم- ببيت المقدس فمنه ما روى أبو سعيد

الخدري -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لي حوض طوله ما بين الكعبة إلى بيت المقدس أشد بياضا من اللبن آنيته بعدد نجوم السماء وكل نبي يدعو أمته ولكل نبي حوض فمنهم من يأتيه "الغام" ومنهم من يأتيه "القضة" ومنهم من يأتيه النفر ومنهم من يأتيه الرجلان والرجل ومنهم من لا يأتيه أحد فيقال قد بلغت وإني أكثر الأنبياء وعن عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما بقي لأمتي من الدنيا -أو قال: في الدنيا- إلا كمقدار الشمس إذا صليت العصر وإن حوضي ما بين إيليا إلى المدينة -أو قال: ما بين المدينة-" إلى بيت المقدس فيه عدد نجوم السماء أقداح الذهب للفتنة. وأما طور زيتا والساهرة وكونهما في بيت المقدس فمنه ما رواه خالد بن معدان عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: أقسم ربك بالتين والزيتون وطور زيتا وفي رواية عنه أقسم ربنا عز وجل بأربعة أجبل فقال: والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين فالتين مسجد دمشق والزيتون طور زيتا مسجد بيت المقدس وطور سنين حيث كلم اللَّه تعالى موسى عليه السلام والبلد الأمين مكة، وعن سعيد بن عبد العزيز أن صفية زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أتت بيت المقدس فصعدت إلى طور زيتا فصلت فيه، وروى خليد بن دعلج نحوه وزاد فقامت على طرف الجبل وقالت من ههنا يتفرق الناس يوم القيامة إلى الجنة والنار وعن إبراهيم بن أبي شيبان قال: قال لي زيادة بن أبي سودة كان صاحبكم يعني ابن أبي زكريا إذا قدم ههنا يعني بيت المقدس صعد الجبل يعني طور زيتا وعن حذيفة وابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي اللَّه عنهم قالوا كنا ذات يوم جلوسا عند

رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "يحشر الناس فوجا لفيفا إلى قوله، فينتهون إلى الأرض التي يقال لها الساهرة وهي ناحية بيت المقدس تسع الناس وتحملهم بإذن اللَّه تعالى" وعن إبراهيم بن أبي عبلة في قوله تعالى {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 14]، قال البقيع الذي إلى جانب طور زيتا قريب من مصلى عمر معروف بالساهرة وفي حديث ابن عمر أن أرض المحشر تسمى الساهرة وفيه فصل الساهرة الغلاة ووجه الأرض وقيل الأرض العريضة البسيطة والساهرة، عند العرب الأرض التي تبعث ساكنها على السهر للسري فيها لينجو منها ومعنى الساهرة أرض لا ينامون عليها ويسهرون وعن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- الساهرة الأرض وعن سهيل بن أمين سعد الساعدي أنها أرض بيضاء عفراء كخبرة من نقى وعن الزهري الأرض كلها تسمى ساهرة وعن مجاهد الساهرة أعلى الأرض كانوا في أسفلها فجعلوا في أعلاها. وقال النخعي الساهرة فوق الأرض سميت ساهرة لأن فيها سهر الحيوان ونومهم وقال وهب بن منبه الساهرة جبل عند بيت المقدس يبسط للحشر لقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48]، وقوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41]، قال قتادة ما نقص من الأرضين زاد في فلسطين وما نقص في فلسطين زاد في بيت المقدس وبها أرض المحشر والمنشر وبها يجمع اللَّه الناس وبها تهلك الضلالة ويرفع الهدى، أقول: وطور زيتا مما يلى الساهرة مزارات يزورها الناس منها قبر رابعة بنت إسماعيل أم الخير العدوية البصرية الزاهدة مولاة أبي عتيك قيل كانت تقول في مناجاتها إلهي تحرق قطيا بحبك بالنار فهتف بها هاتف ما كنا نفعل هذا

فلا تظني بنا ظن السوء وكانت تقول ما ظهر من أعمالي لا أعده شيئًا، قدمت بيت المقدس وماتت به وقبرها بظاهر القدس الشريف على رأس طور زيتا ظاهر يزار توفيت رحمها اللَّه تعالى سنة خمس وثلاثين ومائة ذكرها صاحب مثير الغرام في من دخل بيت المقدس من التابعين ومنها من بعد عيسى عليه السلام قال أبو زرعة الشيباني رفع عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام من طور زيتا وحكاه أبو الفرج بن الجوزي في كتابه فضائل بيت المقدس، وذكرها صاحب مثير الغرام في أوائل الفصل الأول من القسم الثاني ثم قال الأستاذ أبو الحكم عبد السلام بن عبد الرحمن بن مرجان في تفسيره {وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] جبل بيت المقدس وموضع ظهور عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلم {وَالتِّينِ} [التين: 1] الجبل الذي بدمشق موضع نزوله وقد تقدم عن وهب أنه عليه الصلاة والسلام رفعه اللَّه تعالى من طور زيتا، وروى صاحب الأنس عن سعيد بن المسيب أنه قال رفع اللَّه تعالى عيسى عليه السلام وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وأما الجبال المقدسة التي أقسم اللَّه تعالى في كتابه العزيز كما قدمنا من رواية خالد بن معدان عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: أقسم ربنا عز وجل بأربعة أجبل الحديث، ويقال إن التين جبل عليه دمشق، والزيتون: جبل عليه بيت المقدس وطور السنين حيث كلم اللَّه موسى عليه السلام والبلد الأمين

مكة وقال قتادة والتين الجبل الذي عليه دمشق والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس لأنهما بيتان التين والزيتون وقيل التين مسجد دمشق كان بستانا لهود عليه السلام فيه تين والزيتون مسجد بيت المقدس. وعن كعب قال: أربعة أجبل جبل الخليل ولبنان والطور والجوزي. يكون لمحل منهم يوم القيامة كلؤلؤة بيضاء تضيء السماء والأرض يرجعن إلى بيت المقدس حتى يجعلن في زواياه ويوضع عليه كرسيه حتى يقضي بيت أهل الجنة والنار {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75]. وعن معمر عن أيوب قال: بنيت الكعبة من خمسة أجبل لبنان وطور زيتا يعنى مسجد بيت المقدس وطور سيناء والجودي وكان ربضه من حراء وعن هشام الدستوائي عن أبي عمران قال: أوحى اللَّه إلى الجبال إني نازل على جبل منكم فتطاولت الجبال، وتواضع طور زيتا وقال إن قدر شيء فسيصيبني فأوحى اللَّه تعالى إليه إني نازل عليك لتواضعك لي ورضاك بقدري. وعن علي بن يزيد عن القاسم أبي عبد الرحمن قال: أوحى اللَّه تعالى إلى جبل قاسيون أن هب ظلك وبركتك لجبل بيت المقدس ففعل فأوحى اللَّه تعالى إليه أما إذا فعلت فإني سأبنى في حصتك بيتا قال عبد الرحمن قال الوليد: في حصتك أي وسطك وهو هذا المسجد يعنى مسجد دمشق أعيد فيه بعد خراب الدنيا أربعين عاما ولا تذهب الأيام، والليالي حتى أرد عليك ظلك وبركتك. قال فهو عند اللَّه عز وجل بمنزلة المؤمن الضعيف المتفرغ انتهى.

الباب التاسع في ذكر فتح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بيت المقدس، وما فعله من كشف التراب "والزبل" عن الصخرة الشريفة

الباب التاسع في ذكر فتح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- بيت المقدس، وما فعله من كشف التراب "والزبل" عن الصخرة الشريفة وذكر بناء عبد الملك بن مروان وما صنعه فيه وذكر الدرة اليتيمة التي كانت في وسط قبة الصخرة وقرنا كبش إبراهيم وتاج كسرى وتحويلهم منها إلى الكعبة الشريفة حين صارت الخلافة لبني هاشم وذكر تغلب الفرنج على بيت المقدس وأخذه من المسلمين بعد فتح "سيدنا عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-" وذكر مدة مقامه في أيديهم وذكر فتح السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب له واستنقاذه من أيدي الفرنج وإزالة آثارهم منه، وإعادة المسجد الأقصى والصخرة الشريفة إلى ما كان عليه واستمراره على ذلك حتى الآن وإلى يوم القيامة إن شاء اللَّه تعالى. اعلم أن فتح عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- بيت المقدس قد ورد في كتب الفضائل المعتمد عليها من طرق عديدة ورواياتها مختلفة وقد أحببت أن أجمع بين طرقها وإيراد كل طريق منها بلفظه تيمنا وتبركا بهذا الفتح المبين الواقع على يد هذا الخليفة أمير المؤمنين ثاني الخلفاء الراشدين الذين أعز اللَّه تعالى به الدين وعادت بركة خلافته وعدله على كافة الإسلام والمسلمين، فمنها ما رواه صاحب مثير الغرام بسنده إلى الوليد قال: أخبرني

شيخ من آل شداد بن أوس الأنصاري أنه سمع أباه حدث عن جده شداد -رضي اللَّه عنه- أنهم لما فرغوا من قتال اليرموك سار جماعة من المسلمين إلى ناحية فلسطين والأردن وأنه كان فيمن سار، قال: فحاصرنا مدينة المقدس فتعذر علينا فتحها حتى قدم علينا ابن الخطاب -رضي اللَّه عنه- في أربعة آلاف راكب فنزل على جبل بيت المقدس الشرقي -يعني جبل طور زيتا- ونحن على حصارها محيطون بها فانحدر علينا من أصحاب عمر -رضي اللَّه عنه- قوم يقاتلون بنشاطٍ وأحدث لنا مجيئهم وقدوم عمر -رضي اللَّه عنه- جدا ونشاطًا رجونا بذلك الفتح فقاتلناهم مليًا إذ أقبل وأشرف علينا منهم مشرف يسأل الأمان حتى يكلمنا ففعلنا فقال: ما هذا العسكر الذي نزل؟ فقلنا هذا عسكر أمير المؤمنين "قال وأرسل إلينا عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-" يأمرنا بالكف عن القتال وقال إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أخبرني أني أفتحها بغير قتال وأشرف علينا رسول بطريقها يسأل الأمان لرسوله ليبلغ رسالته إلى عمر ففعلنا فأتاه بالترحيب وقال: إنا سنعطي بحضوركم ما لم نكن نعطيه لأحد دونك وسأله أن يقبل منه الصلح والجزية، ويعطه الأمان على دمائهم وأموالهم وكنائسهم فأنعم له عمر بذلك فسأله الرسول الأمان لصاحبه ليتولى مصالحته ومكاتبته فأنعم عليه وخرج إليه بطريقها في جماعة فصالحهم. وأشهدنا على ذلك فقال الوليد: فحدثني شيخ من الجند عن عطاء الخراساني أن المسلمين لما نزلوا على بيت المقدس قال لهم رؤساؤهم إنا قد أجمعنا على مصالحتكم وقد عرفتم منزلة بيت المقدس وإنه المسجد الأقصى الذي أسري بنبيكم إليه ونحن نحب أن يفتحها ملككم، وكان الخليفة إذ ذاك عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- فبعث المسلمون إليه وفدا وبعث الروم وفدا مع المسلمين حتى أتوا المدينة فجعلوا يسألون عن أمير المؤمنين فقال:

الروم لترجمانهم عمن يسألون؟ فقال: عن أمير المؤمنين فاشتد عجبهم وقال هذا الذي غلب الروم وفارس وأخذ كنوز كسرى وقيصر وليس له مكان يعرف. بهذا غلب الأمم فوجدوه قد ألقى نفسه حين أصابه الحر نائما فازدادوا تعجبا فلما قرأ كتاب أبي عبيدة منا حتى أتى بيت المقدس وفيها اثنا عشر ألفا من الروم وخمسون ألفا من أهل الأرض فصالحهم على أن يسير الروم منها وأجلهم ثلاثة أيام عليه بعد ثلاث فقد برئت منه الذمة وأمن من بها من أهل الأرض وفرض عليهم الجزية على القوي خمسة دنانير، وعلى الذي يليه أربعة دنانير وعلى الذي يليه ثلاثة وليس على "فان كبير" شئ ولا على طفل. ثم أتى محراب داود عليه السلام فقرأ فيه "ص" وروينا عن طريق آخر أيضا أن أبا عبيدة بن الجراح -رضي اللَّه عنه- أتى إلى لأرض فعسكر بها وبث الرسل إلى أهل إيليا وسكانها وكتب إليهم: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم من أبي عبيدة بن الجراح إلى بطارقة أهل إيليا وسكانها سلام على من اتبع الهدى وآمن باللَّه تعالى ورسوله أما بعد: فإني أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن اللَّه يبعث من في القبور فإذا شهدتم بذلك حرمت علينا دماؤكم وأموالكم وذراريكم وكنتم لنا إخوانا وإن أبيتم فأقروا لنا بأداء الجزية عن يد وأنتم صاغرون وإن أنتم أبيتم سرت إليكم بقوم هم أشد حبا للموت منكم لشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، ثم لا أرجع عنكم إن شاء اللَّه أبدا حتى أقتل مقاتليكم،

وأسبي ذراريكم". قال: ثم إن أبا عبيدة بن الجراح انتظر أهل إيليا فأبوا أن يأتوه وأن يصالحوه فأقبل سائرًا حتى نزل بهم فحاصرهم محاصرة شديدة وضيق عليهم فخرجوا إليه ذات يوم ليقاتلوا المسلمين، ثم إن المسلمين سدوا عليهم من كل جانب فقاتلوهم حتى دخلوا حصنهم وكان الذي ولي قتالهم يومئذ خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه- ويزيد بن أبي سفيان كل رجل منهم في جانب قالوا فبلغ ذلك سعيد بن يزيد وهو على أهل دمشق فكتب: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم إلى أبي عبيدة بن الجراح من سعيد بن يزيد سلام عليك فإني أحمد اللَّه تعالى الذي لا إله إلا هو أما بعد فإني لعمري ما كنت لأوثرك وأصحابك بالجهاد على نفسي ولا على ما يدنينى من مرضات اللَّه تعالى فإذا أتاك كتابي هذا فابعث إليَّ عاملك بمن هو أرغب فيه وأعلمه ما به بذلك فإني قادم عليك وشيكا إن شاء اللَّه تعالى والسلام عليك ورحمة اللَّه وبركاته". قالوا: فقال أبو عبيدة حين جاء الكتاب: لنتركها خلوفا ثم دعا بيزيد بن أبي سفيان فقال له اكفني دمشق، فقال له يزيد: أكفيكها إن شاء اللَّه تعالى وسار إليها فولاها له، قالوا: ولما حضر أبو عبيدة أهل إيليا ووجدوا أنه غير مقلع عنهم لم يجدوا لهم طاقة بحربه فقالوا: نحن نصالحك، قال: فإني قابل منكم، قالوا فأرسل إلى خليفتكم عمر فيكون هو الذي يعطينا هذا العهد ويكتب لنا الأمان فقبل أبو عبيدة ذلك وهمَّ أن يكتب وكان أبو عبيدة -رضي اللَّه عنه- قد بعث معاذا "على" الأردن، ولم يكن سار بعد فقال معاذ لأبي عبيدة: أتكتب لأمير المؤمنين تأمره بالقدوم عليك فلعله يقدم ثم يأبى هو إلا الصلح فيكون مجيئه فضلًا وعناءً فلا تكتب إليه حتى يوثقوا إليك واستحلفهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة إن أنت بعثت إلى أمير المؤمنين فقدم عليهم وأعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وكتب لهم بذلك كتابا ليقبلن الجزية وليدخلن فيما دخل فيه أهل الشام فبعث أبو عبيدة

إليهم بذلك فأجابوا إليه فلما فعلوا ذلك كتب أبو عبيدة إلى عمر -رضي اللَّه عنه-: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم لعبد اللَّه عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- من أبي عبيدة بن الجراح سلام فإني أحمد اللَّه تعالى إليك الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنا أقمنا على أهل إيليا وظنوا أن لهم في مطاولتهم فرجا فلم يزدهم اللَّه إلا ضيقا ونقصا وهزلا وذلا فلما رأوا ذلك سألوا أن يقدم أمير المؤمنين فيكون هو الموثق لهم والمكاتب فخشينا أن يقدم أمير المؤمنين فيعذر القوم ويرجعوا فيكون سيرك أصلحك اللَّه عناءً وفضلًا فأخذنا عليهم المواثيق المغلظة بأيمانهم ليقبلن وليؤدون الجزية وليدخلن فيما دخل فيه أهل الذمة ففعلوا فإن رأيت أن تقدم فافعل فإن في سيرك أجرًا وصلاحًا أتاك اللَّه تعالى ورشدك ويسر أمرك والسلام عليك ورحمة اللَّه وبركاته". فلما قدم الكتاب على عمر -رضي اللَّه عنه- دعا رؤساء المسلمين إليه وقرأ عليهم كتاب أبي عبيدة -رضي اللَّه عنه- واستشارهم في الذي كتب إليه فقال له عثمان -رضي اللَّه عنه-: إن اللَّه تعالى قد أذلهم وحصرهم وضيق عليهم وهم في كل يوم يزدادون نقصًا وهزلًا وضيقًا ورعبًا فإن أنت أقمت ولم تسر إليهم رأوا أنك بأمرهم مستخفًا ولشأنهم حاقرًا غير معظم فلا يلبثون إلا قليلًا حتى ينزلوا عن الحكم ويعطوا الجزية فقال عمر -رضي اللَّه عنه- ماذا ترون عند أحدكم رأي غير هذا الرأي؟ فقال علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- نعم عندي غير هذا الرأي قال: ما هو؟ قال: إنهم قد سألوا المنزلة التي فيها الذل لهم والصغار وهو على المسلمين فتح ولهم فيه عز يعطونكها الآن في العاجل في عافية وليس بينك وبين ذلك إلا أن تقدم عليهم ذلك في القدوم عليهم الأجر في كل ظماء ومخمصة وفي كل واد وفي كل نفقة حتى تقدم عليهم، فإذا أنت قدمت عليهم كان الأمن والعافية والصلاح والفتح ولست آمن إن يئسوا من قبولك الصلح منهم أن يتمسكوا بحصنهم فيأتيهم عدو لنا أو يأتيهم منهم مدد فيدخل

على المسلمين "بلاء ويطول" بهم حصار فتصيب المسلمين من الجهد والجزع ما يصيبهم ولعل المسلمين يدنون من حصنهم فيرشقونهم بالنشاب ويقذفونهم بالمناجيق فإن أصيب بعض المسلمين تمنيتم أنكم افتديتم قتل رجل واحد من المسلمين بمسيرك إلى منقطع التراب وكان لذلك من إخوانه أهلًا فقال عمر -رضي اللَّه عنه- قد أحسن عثمان النظر في مكيدة العدو وأحسن علي النظر لأهل الإسلام سيروا على اسم اللَّه تعالى فإني سائر فخرج فعسكر خارج المدينة ونادى في الناس بالعسكر والمسير فعسكر العباس بن عبد المطلب بأصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووحدة قريش والأنصار رضي اللَّه عنهم والعرب حتى إذا تكامل عنده الناس استخلف على المدينة علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- وساروا فأقبل على المسلمين بوجهه، وقال: "الحمد للَّه الذي أعزنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان ورحمنا بنبيه محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فهدانا من الضلالة وجمعنا به من بعد الشتات وألف بين قلوبنا ونصرنا على الأعداء ومكَّن لنا في البلاد وجعلنا إخوانًا متحابين فاحمدوا اللَّه عباد اللَّه على هذه النعمة وسلوه المزيد من المن راغبين" ويتم نعمته على الشاكرين". قالوا: وكان لا يدع هذا القول في كل غداة في سفره كله فلما دنى من الشام عسكر وأقام يعسكر حتى قام إليه من تخلف من العسكر فما هو إلا أن طلعت الشمس فإذا الرايات والرماح والجنود قد أقبلوا على الخيول يستقبلون عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- فكان أول من

"تضنن تيفنا" من الناس فنادى "أهل لكم يا أمير المؤمنين من علم" فسكتوا ومضوا فأقبل آخرون فسلموا ثم سألوا عن أمير المؤمنين هل لنا به علم؟ فقال لنا: لا تخبروا القوم عن صاحبكم فقلنا هذا أمير المؤمنين فذهبوا يقتحمون عن خيولهم فناداهم عمر لا تفعلوا ورجع الآخرون الذين مضوا فساروا مضيًا وأقبل المسلمون يصفون الخيل ويشرعون الرماح في طريق عمر حتى "طالع" أبو عبيدة في عظم الناس فإذا هو على "قلوص" "يكشفها" "بعباده" خطامهما من شعر لابس سلاحه متنكب قوسه فلما نظر إلى عمر أناخ قلوصه وأناخ عمر بعيره فنزل أبو عبيدة وأقبل إلى عمر وأقبل عمر على أبي عبيدة فلما دنى "إلى" أبي عبيدة مد أبو عبيدة يده إلى عمر ليصافحه فمد عمر يده فأخذها أبو عبيدة وأهوى ليقبلها يريد أن يعظمه في العامة فأهوى عمر إلى رجل أبي عبيدة ليقبلها فقال أبو عبيدة "مه" يا أمير المؤمنين تنحى فقال عمر مه يا أبا عبيدة فتعانق الشيخان ثم ركبا يتسايران وسار الناس أمامهما وزعم بعض أهل الشام أنهم تلقوا عمر "ببرذون"

وثياب بعض وكلموه أن يركب البرذون ليراه العدو فهو أهيب له عندهم وأن يلبس الثياب ويطرح الفروة فأبى ثم ألحوا عليه فركب البرذون بفروته وثيابه "فهملج" البرذون به "وخطام" ناقته في يده فنزل وركب راحلته وقال لقد غيرني هذا حتى خفت أن أتكبر وأن أنكر نفسي فعليكم يا معشر المسلمين بالقصد وبما أعزكم اللَّه عز وجل به. وروى طارق بن شهاب قال: لما قدم عمر -رضي اللَّه عنه- الشام عرضت له مخاضة فنزل عن بعيره ونزع "جرموقية" فأمسكها بيده وخاض الماء ومعه بعيره فقال لأبي عبيدة لقد صنعت اليوم صنيعًا عظيمًا عند أهل الأرض فضحك عمر في صدره وقال: لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس فأعزكم اللَّه بالإسلام ومهما تطلبوا العز بغيره يذلك اللَّه تعالى وعن يوسف عن أبي حازم عن عثمان عن خالد وعبادة قال: صالح عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- عن أهل إيليا بالجابية وكتب لهم فيه الصلح لكل كورة كتابا واحدا ما خلا أهل إيليا "بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد اللَّه أمير المؤمنين عمر أهل إيليا من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم مقيمها وبريها وسائر ملتها إنها لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من جزها ولا من "صليبهم" ولا يضار أحد منهم ولا يسكن بإيليا أحد من اليهود، وعلى أهل إيليا أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن

وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص فمن خرج منهم آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم ومن أقام منهم فهو آمن مثل ما على أهل إيليا من الجزية، ومن أحب من أهل إيليا أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعتهم وصليبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعتهم وعلى صليبهم حتى يبلغوا مأمنهم ومن كان فيها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد وعليهم مثل ما على أهل إيليا من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أرضه، وإنه لا يؤخذ منهم شئ حتى يحصد حصادهم وعلى ما في هذا عهد اللَّه تعالى وذمته وذمة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وذمة الخلفاء "الراشدين"، وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية شهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن سفيان، ورواه أيضا بسنده من طريق آخر عن خالد بن أبي مالك عن أبيه قال: لما نزل المسلمون مقامهم بعثوا إليهم أن افتحوها لنا على أن نؤمنكم على دمائكم وأموالكم فبعثوا إليهم إنا لا نثق بأمانكم إلا أن يأتينا خليفتكم عمر بن الخطاب فإنه يذكر لنا عنه فضل وخير صلاح فإن جاء وآمننا ووثقنا بأمانه فتحناها لكم، قال: فكتبوا إلى عمر يخبرونه بذلك فركب عمر من المدينة حتى قدم عليهم وظهر على أماكن لم يكونوا ظهروا عليها قبل ذلك وظهروا يومئذ على كرم كان في أيديهم لرجل منهم له ذمة مع المسلمين فيه عنب فجعلوا يأكلونه فأتى الذمي إلى عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، وقال: يا أمير المؤمنين كان في أيديهم ولم يعرضوا له وأنا رجل لي ذمة مع المسلمين، فلما ظهروا عليه المسلمون وقعوا، قال: فدعى عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- ببرذون له فركب عريانًا من العجلة ثم خرج يركض في عراض المسلمين،

وكان أول من لقيه أبو هريرة يحمل فوق رأسه عنبا، فقال: وأنت أيضا يا أبا هريرة: فقال: يا أمير المؤمنين أصابتنا مخمصة شديدة وكان أحق من أكلنا من ماله من قاتلنا من ماله من قاتلنا من ورائه، قال: فتركه عمر ومضى حتى أتى الكرم فنظر فإذا الناس قد أسرعوا فيه فدعى عمر الذمي وقال له كم كنت ترجو من غلة كرمك هذا؟ فقال كذا وكذا وسمى له شيئا، قال: فخل سبيله ثم أخرج عمر الثمن الذي سماه الذمي وأعطاه إياه ثم أباحه للمسلمين، وعن عبد الرحمن بن غنم قال كتب لعمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- حين صالح نصارى أهل الشام "بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد اللَّه عمر بن الخطاب أمير المؤمنين من نصارى مدينةكذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألنا كم الأمان لأنفسنا وأموالنا وذرارينا وأهل ملتنا وشرطنا لكم علينا وعلى أنفسنا أن لا نحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نحي ما كان في خطط المسلمين ولا نمنع كنائسهم "أن ينزل" بها أحد من المسلمين في ليل أو نهار وأن نوسع أبوابها للمار وابن السبيل" وأن ينزل من يريد من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم ولا نأوي في منازلنا ولا كنائسنا جاسوسًا ولا نكتم غشا للمسلمين ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شركًا ولا ندعو إليه أحدًا من ذوي قربانا الدخول في الإسلام إن أراده وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم في مجالسنا إذا أرادوا الجلوس ولا نتشبه في شيء من لباسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فراق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نتكنى بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئًا من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش على خواتمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقاوم رؤوسنا وأن نلتزم زيًّا حيث ما كنا وأن

نشد "زنانيرنا" "على" أوساطنا ولا نظهر الصليب على كنائسنا ولا نظهر صلباننا ولا كتبنا في شئ من طرق المسلمين ولا في أسواقهم ولا نضرب في كنائسنا إلا ضربًا "خفيًا" ولا نرفع أصواتنا مع أمواتنا ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين "ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين" ولا نطلع عليهم في منازلهم، قال: فلما أتيت عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- بالكتاب زاد فيه ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا لكم ذلك في أنفسنا وأهل ملتنا وقد "بينا" عليه الأمان فإن نحن خالفنا شيئًا مما شرطناه على أنفسنا فلا ذمة لنا، وقد حل لكم ما حل من أهل المعاندة والشقاق رواه الإمام البيهقي وغيره، له طرق جيدة إلى عبد الرحمن بن غنم استقصاها القاضى أبو محمد بن رزين في جزء جمعه وقد اعتمد أئمة الإسلام هذه الشروط وعمل بها الخلفاء الراشدون ورواه ابن عمر -رضي اللَّه عنه- عن نافع عن مسلم أن عمر أمر في أهل الذامة أن يجزوا نواصيهم وأن يركبوا على الأكف عرضًا، ولا يركبوا" كما يركب المسلمون وأن يوثقوا المناطق أي الزنانير. روي عن شداد بن أوس أنه حضر عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- حين دخل مسجد بيت المقدس يوم فتحها اللَّه تعالى بالصلح فدخل من باب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- حبوًا هو ومن دخل معه حتى ظهر إلى صحنه ثم نظر يمينًا وشمالًا ثم كبر ثم قال هذا واللَّه أو هذا والذي نفسي بيده مسجد داود عليه السلام الذي

أخبرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال أسري به إليه وتقدم إلى مقدمه مما يلي الضرب فقال: تتخذ ههنا مسجدًا رواه الوليد بن مسلم عن شيخ من ولد شداد بن أوس عن أبيه عن جده أن عمر لما فرغ من كتاب الصلح بينه وبين أهل بيت المقدس قال لبطريقها: دلني على مسجد داود قال نعم وخرج عمر متقلدًا سيفه في أربعة آلاف من أصحابه الذين قدموا معه متقلدين سيوفهم "وطائفة منا ممن كان عليها ليس علينا من السلاح إلا السيوف والبطريق بين يدي عمر في أصحابه ونحن نخلف عمر حتى دخلنا مدينة بيت المقدس فأدخلنا الكنيسة التي يقال لها كنيسة القيامة. وقال: هذا مسجد داود، قال ونظر عمر وتأمل وقال له: كذبت، ولقد وصف لى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مسجد داود بصفة ما هي هذه قال: فمضى بهم إلى كنيسة يقال لها صهيون، وقال: هذا مسجد داود فقال له: كذبت قال فانطلق به إلى مسجد بيت المقدس حتى انتهى به إلى بابه الذي يقال له باب محمد، وقد انحدر ما في المسجد من الزبالة على درج الباب حتى خرج إلى الزقاق الذي فيه الباب وكثر على الدرج حتى كاد يلصق بسقف الزقاق فقال له لا تقدر أن تدخل إلا حبوا فقال عمر ولو حبوا فحبى بين يدي عمر وحبوا خلفه حتى أفضينا إلى صحن مسجد بيت المقدس واستوينا فيه قياما فنظر عمر وتأمل مليًا ثم قال: هذا والذي نفسي بيده الذي وصفه لنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ورواه أيضا بسنده من طريق آخر عن هشام بن عمار الهيثم بن عمران العبسي قال: سمعت جدي عبد اللَّه يقول لما ولي عمر بن الخطاب زار أهل الشام فنزل الجابية وأرسل رجلا من جديلة إلى بيت المقدس فافتتحها صلحا ثم جاء عمر -رضي اللَّه عنه- ومعه كعب فقال له يا أبا إسحاق أتعرف موضع الصخرة؟ فقال: أذرع من الحائط الذي يلي وادي جهنم كذا وكذا ذراعًا ثم احفر فإنك تجدها قال وهي يومئذ مزبلة فحضروا فظهرت لهم فقال عمر لكعب أين ترى

أن نجعل المسجد أو قال القبلة فقال اجعله خلف الصخرة فتجتمع القبلتان قبلة موسى وقبلة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال له عمر ضاهيت اليهودية يا أبا إسحاق خير المساجد مقدمها، وبنى في مقدم المسجد وروي أيضا بسنده من طريق آخر بزيادة على ما تقدم من رواية إبراهيم بن أبي عبلة المقدسي عن أبيه قال قدم عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- بيت المقدس وعسكر في طور زيتا ثم انحدر فدخل المسجد من باب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فلما استوى فيه قائمًا نظر يمينًا وشمالًا ثم قال: هذا والذي لا إله إلا هو مسجد سليمان بن داود الذي أخبرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه أسري به إليه ثم أتى غربي المسجد فقال لي: نجعل لمسجد المسلمين ههنا مصلى يصلون فيه. وعن سعيد بن عبد العزيز قال: لما فتح عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- بيت المقدس وجد على الصخرة زبلا كثيرا مما طرحته الروم غيظا لنبي بني إسرائيل فبسط عمر -رضي اللَّه عنه- رداءه وجعل يكنس ذلك الزبل وجعل المسلمون يكنسون معه. وقال الوليد: قال سعيد بن عبد العزيز جاء كتاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى قيصر وهو ببيت المقدس وعلى صخرة بيت المقدس مزبلة عظيمة قد حاذت محراب داود عليه السلام مما ألقته النصارى عليها مضارة لليهود حتى إن كانت المرأة لتبعث بخرق دمها من رومية فتلقى عليها فقال: قيصر حين قرأ "الكتاب أي" كتاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إنكم يا معشر الروم لخلقا أن تقتلوا على هذه المزبلة في انتهاككم من حرمة هذا المسجد كما قتلت بنو إسرائيل على دمي يحيي بن زكريا وأمر بكشفها فأخذوا في ذلك فقدم المسلمون الشام ولم يكشفوا منها إلا ثلثها

فلما قدم عمر -رضي اللَّه عنه- بيت المقدس وفتحها ورأى ما كان عليها من المزبلة أعظم ذلك وأمر بكشفها وسخر لها أنباط فلسطين. وروى جبير بن نفير قال لما جلى عمر المزبلة عن الصخرة قال لا تصلون فيها حتى يصيبها ثلاث مطرات قال الوليد: وحدثنى شداد عن أبيه أن عمر مضى إلى مقدمه مما يلي الغرب، "فحثى" في ثوبه الزبل وحثونا معه في ثيابنا ومضى ومضينا معه حتى ألقيناه في الوادي الذي يقال له وادي جهنم ثم عاد وعدنا بمثلها حتى صلينا فيه موضع مسجد يصلى فيه جماعة صلى عمر بنا فيه. وعن أبي مريم مولى سلامة وهو من بيت المقدس قال شهدت فتح إيليا مع عمر ثم مضى حتى دخل المسجد ثم مضى نحو محراب داود ونحن معه فصلى فيه ثم قرأ سورة (ص) وسجد وسجدنا معه وقال صاحب كتاب الأنس في ذكر قصة المحراب عن الوليد بن مسلم قال: حدثني بعض شيوخنا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما ظهر على بيت المقدس ليلة أسري به فإذا عن يمين المسجد وعن يساره نوران ساطعان، قال: فقلت يا جبريل ما هذا النوران فقال: أما الذي عن يمينك فإنه محراب أخيك داود، والذي عن يسارك فهو "قبر" أختك مريم عليها السلام. وروى صاحب كتاب الأنس ذكر الفتح بسنده "إلى" طريق آخر إلى عبيد بن آدم وإلى شعيب أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- كان بالجابية فقدم خالد بن الوليد

إلى بيت المقدس، قال: ما اسم صاحبك؟ قال: عمر بن الخطاب قالوا ابعثه لنا فبعثه إليهم، وقيل فقالوا له: أما أنت فلست تفتحها ولكن عمر هو الذي يفتحها وإنا نجد قيسارية تفتح قبل بيت المقدس فافتحوها ثم تعالوا بصاحبكم قال فكتب خالد بن الوليد إلى عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- بذلك فشاور عمر الناس وقال إنهم أصحاب كتاب، عندهم علم فما ترون ثم ذهبوا إلى قيسارية ففتحوها وجاءوا إلى بيت المقدس فصالحهم عمر ودخل عليهم وعليه قميصان سنبلانيان فصلى عند كنيسة مريم ثم بصق في إحدى قميصيه، فقيل له ابصق فيها فإنه موضع يشرك باللَّه فيه فقال إن كان يشرك فيها ففيها يذكر اسم اللَّه تعالى لقد كان عمر غنيا أن يصلي عند وادي جهنم، قال صاحب مثير

الغرام وكان الفتح في سنة ست عشرة من الهجرة في ربيع الأول. وروى الحافظ أبو محمد القاسم بسنده إلى عثمان وأبي حارثة قالا: افتتحت فلسطين وأرضها على يد عمر في ربيع الأول سنة ست عشرة وروي عن إسحاق بن بشر قال خرج عمر إلى الشام تلك السنة وهي سنة ست عشرة فنزل الجابية وفتحت عليه إيليا وهي مدينة بيت المقدس، قال: وحدث عبد الأعلى بن سهرانة قرأه في كتاب أبي عبيدة قال: فتحت بيت المقدس سنة سبع عشرة وفيها هلك معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه- وقال الزركشي في إعلام الساجد وفي صحيح البخاري إنه فتحه بين يدي الساعة ووقع ذلك ففتحه، عمر -رضي اللَّه عنه- لخمس خلون من ذي القعدة سنة ست عشرة من الهجرة بعد وفاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بخمس سنين وأشهر. وفي فضائل بيت المقدس لابن الجوزي فتح عمر بيت المقدس سنة خمس عشرة من الهجرة وعن رجاء بن حيوة عن مَنْ شهد الفتح قال: لما شخص عمر من الجابية إلى إيليا قصد محراب داود عليه السلام "ليلًا" فصلى فيه ولم يلبث أن طلع الفجر فأمر المؤذن بالإقامة وتقدم وصلى بالناس وقرأ بهم (ص) وسجد فيها ثم قال فقرأ بهم الثانية و {طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الصف: 14] ثم ركع ثم انصرف فقال عليَّ بكعب فأتي به فقال: أين ترى نجعل المصلى فقال: إلى الصخرة فقال: ضاهيت واللَّه اليهودية يا كعب بل نجعل قبلته صدره كما جعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قبلة مساجدنا صدورها اذهب أو قال اليك فإنا لم نؤمر بالصخرة ولكن أمرنا بالكعبة. وفي رواية أبي شيبان قال: حدثنى عبيد بن آدم قال: سمعت عمر يقول لكعب أين ترى أن أصلى؟ قال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة فكأن القدس كلها بين يديك يعني المسجد الحرام فقال: ضاهيت اليهودية ولكن أصلي حيث صلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلة أسري به فتقدم

إلى قبلة المسجد فصلى ثم جاء فبسط رداءه فكنس الكناسة برادئه وكنس الناس معه، قال: في مثير الغرام وهذه الآثار المذكورة في الفتوح والشروط على اختلاف طرقها وتغاير ألفاظها وإن كان فيها مقال فهي متلقاة بالقبول، لأن فتوح الشام والقدس الشريف في زمن الصحابة رضي اللَّه عنهم مستفيض ولم يزل القدس الشريف من لدن الفتح العمري في أيدي المسلمين أيام الخلفاء الراشدين فمن بعدهم إلى سنة سبعين من الهجرة النبوية. وكان بناء عبد الملك بن مروان -رحمه اللَّه تعالى- قبة الصخرة ومسجد بيت المقدس يقال: إنه حمل إلى بنيانه خراج مصر سبع سنين وسبط بن الجوزي في كتاب "مرآة الزمان" إن عبد الملك بن مروان ابتدأ بنيانه في سنة تسع وستين وفرغ منه سنة اثنين وسبعين من الهجرة ويقال: إن الذي بنى قبة بيت المقدس وجددها سعيد بن عبد الملك بن مروان وروي عن جابر بن رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام مولى عبد الملك بن مروان إن عبد الملك حين هم ببناء صخرة المقدس والمسجد الأقصى قدم من دمشق إلى بيت المقدس وبث الكتب في جميع عمله وإلى سائر الأمصار أن عبد الملك قد أراد أن يبني قبة بيت المقدس، تكن المسلمين من الحر والبرد وكره أن يفعل ذلك دون رأي رعيته فكتبت الرعية إليه برأيهم وما هم له عليه فوردت الكتب عليه من عمال الأعمال برأي أمير المؤمنين رأيه موفقًا رشيدًا، ونسأل اللَّه تعالى أن يتم له ما نوى من بنايته وصخرته ومسجده ويجري ذلك على يديه ويجعله مكرمة له ولمن مضى من سلفه قال فجمع الصناع من عمله كلهم وأمرهم أن يصنعوا له صفة القبة وسمتها من قبل أن يبنيها فكرست له في صحن المسجد، وأمر أن

يبنى بيت المال شرقي الصخرة وهو الذي على حرف الصخرة فبنى وأشحن بالأموال، ووكل على ذلك رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام وأمرهما بالنفقة عليها والقيام بأمرها وأن يفرغوا المال عليها إفراغا دون أن ينفقوه إنفاقا وأخذوا في البناء والعمارة حتى أحكم العمل وفرغ البناء ولم يبق لمتكلم فيه كلام وكتب إليه بدمشق "قد أتم اللَّه تعالى ما أمر به أمير المؤمنين من بناء قبة الصخرة ييت المقدس والمسجد الأقصى ولم يبق لمتكلم فيه كلام وقد بقي مما أمر به أمير المؤمنين من النفقة عليه بعد فرغ البناء مائة ألف دينار فيصرفها أمير المؤمنين في أحب الأشياء إليه. فكتب إليهما قد أمر أمير المؤمنين لكما جائزة لما قمتما به من عمارة ذلك البيت الشريف المبارك فكتبا إليه نحن أولى أن نزيد "من حلي" نسائنا فضلًا عن أموالنا، فاصرفها في أحب الأشياء إليك فكتب إليهما بأن "تسبك" وتفرغ على القبة فسبكت وأفرغت فما كان أحد يقدر أن يتأملها مما عليها من الذهب، وهيأ لها "جلالين" من لبود "وأدم" من فوقها فإذا كان الشتاء ألبستهما لتكنها من الأمطار والرياح والثلوج وكان رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام قد حفا الحجر "بدرابزين من ساسم" ومن خلف الدرابزين ستور ديباج مرخاة يين العمد، وكان كل يوم اثنين وخميس يأمرون بالزعفران

فيدق ويطحن ثم يعمل من الليل ويخمر بالمسك والعنبر "والماورد الجوري" ثم يأمر الخدم بالغداة فيدخلون حمام سليمان يغتسلون ويتطهرون ثم يأتون على الخزانة التي فيها "الخلوق" فيلقون أثوابهم عنهم ثم يخرجون من الخزانة أثوابا جددًا موريا وهرويا "وشيا" يقال له "العصب" ومناطق مجلاه يشدون بها أوساطهم ثم يأخذون سفول الخلوق ويأتون به حجر الصخرة فيلطخون ما قدروا أن تناله أيديهم حتى يغمروه كله وما لم تنله أياديهم غسلوا أقدامهم ثم يصعدون على الصخرة حتى يلطخوا ما بقي منها وتفرغ آنية الخلوق ثم يأتون بمجامر الذهب والفضة والعود القماري والند مطرى بالمسك والعنبر فترخى الستور حول الأعمدة كلها ثم يأخذون البخور ويدورون حولها حتى يحول بينهم وبين القبة من كثرته ثم تشمر الستور فيخرج البخور وتفوح رائحته حتى تبلغ رأس السوق فيشم ريحه من يمر وينقطح البخور عندهم ثم ينادي مناد في صف الدرابزين: ألا إن الصخرة قد فتحت للناس فمن أراد الصلاة فيها فليأت، فيقبل الناس مبادرين إلى الصخرة فأكثر الناس من يدرك أن يصلى ركعتين وأقلهم أربعًا ثم يخرج الناس فمن شم رائحة من الناس قالوا هذا ممن دخل الصخرة وتغسل آثار أقدامهم بالماء وتمسح "بالآس الأخضر" وتنشف بالمناديل وتغلق الأبواب وعلى كل باب عشرة من الحجبة، ولا يدخل إلا يوم الاثنين والخميس ولا يدخلها في غيرها إلا الخادم، وعن أبي بكر بن الحارث قال كنت أسرج الصخرة في خلافة عبد الملك

بن مروان كلها بالبان المديني والزنبق الرصاصي، قال: وكانت الحجبة يقولون له: يا أبا بكر من لنا بقنديل ندهن منه ونطب به فكان يجيبهم إلى ذلك هذا ما كان يفعل به في خلافة عبد الملك بن مروان. قال الوليد: وحدثنا عبد الرحمن بن محمد بن منصور بن ثابت قال حدثني أبي عن أبيه عن جده قال كان في السلسلة التي في وسط القبة درة يتيمة وقرنا كبش إبراهيم عليه السلام وتاج كسرى معلقان فيها أيام عبد الملك فلما صارت الخلافة إلى بني هاشم حولوها إلى الكعبة حرسها اللَّه. وروى الحافظ ابن عساكر -رحمه اللَّه تعالى- بسنده إلى أبي المعالي المقدس فذكر حديث بناء عبد الملك بن مروان قبة الصخرة والمسجد الأقصى ذكره صاحب مثير الغرام في الفصل السابع وروى ما أثبته الحافظ ابن عساكر قال: عقبة وكان في ذلك الوقت ليس من الخشب السقف سوى أعمدة خشب ستة آلاف خشبة، وفيه من الأبواب خمسون بابا ومن العمد ستمائة عمود رخاما وفيه من المحاريب سبعة ومن السلاسل للقناديل أربعمائة سلسلة إلا خمس عشرة منها مائتان سلسلة وثلاثون سلسلة في المسجد والباقي في قبة الصخرة، وذرع السلاسل أربعة آلاف ذراع، ووزنها ثلاثة وأربعون ألف رطل بالشامي، ومن القناديل خمسة آلاف قنديل، وكان يسرج فيه مع القناديل ألفا شمعة في ليال الجمع، وفي ليلة نصف رجب وشعبان ورمضان وفي ليلتي العيدين. وفيه من القباب خمس عشرة قبة سوى قبة الصخرة وعلى سطح المسجد من سقف الرصاص سبعة آلاف شقفة "وسبعمائة شقفة وزن الشقفة سبعون رطلًا غير الذي على قبة الصخرة. وكل ذلك عمل في أيام عبد الملك بن مروان ورتب له من الخدم القوام ثلاثمائة خادم اشتريت له من خُمس بيت المال، كلما مات منهم ميت

قام مكانه ولد وولد ولده أو من يكن من أهليهم يجري ذلك أبدا ما تناسلوا، وفيه من الصهاريج أربعة وعشرون صهريجا كبارا وفيه من المنابر أربعة منها ثلاثة صف واحد غربي المسجد وواحد على باب الأسباط وكان لهم من الخدم اليهود الذين لا يؤخذ منهم جزية عشرة رجال وتوالدوا فصاروا عشرين لكنس أوساخ الناس في المواسم والشتاء والصيف ولكنس المطاهر التي حول الجوامع وله من الخدم النصارى عشرة أهل بيت يتوارثون خدمته لعمل الحصر وكنس حصر المسجد وكنس القنى التي تجري إلى صهاريج الماء وكنس الصهاريج أيضا وغير ذلك، وله من الخدم اليهود جماعة يعملون الزجاج للقناديل والأقداح "والبزقات" وغير ذلك مما تدعو إليه الحاجة لا يؤخذ منهم جزية ولا من الذين يحملون القش لفتايل القناديل جاريا عليهم ولا على أولادهم أبدا ما تناسلوا من عهد عبد الملك بن مروان وهلم جرا. وروى عبد الرحمن بن محمد بن منصور بن ثابت عن أبيه عن جده أن الأبواب كلها كانت ملبسة بصفائح الذهب والفضة في زمن خلافة عبد الملك بن مروان، فلما قدم أبو جعفر المنصور العباسي وكان شرقي المسجد وغربيه قد وقع فقيل له يا أمير المؤمنين قد وقع شرقي المسجد وغربيه زمن الرجفة في سنة ثلاثين ومائة ولو أمرتنا ببناء هذا المسجد وعمارته فقال ما عندي شيء من المال ثم أمر بقلع الصفائح الذهب والفضة "التي كانت على الأبواب فقلعت وضربت دنانير ودراهم وأنفقت عليه حتى فرغ منه، ثم كانت الرجفة الثانية

فوقع البناء الذي كان قد أمر أمير المؤمنين أبو جعفر به ثم قدم المهدي من بعده وهو خراب فرفع ذلك وأمر ببنائه، وقال دق هذا المسجد وطال وخلى من الرجال، أنقصوا من طوله وزيدوا في عرضه فتم البناء في خلافته وفي سنة اثنين وخمسين وأربعمائة سقط تنور قبة بيت المقدس وفيه خمسمائة قنديل فتطير المقيمون به من المسلمين وقالوا: ليكونن في الإسلام حادث عظيم عن عطاء عن أبيه قال: كانت اليهود تسرج بيت المقدس فلما ولى عمر بن عبد العزيز -رحمه اللَّه- أخرجهم وجعل فيه من الخمس فأتاه رجل من أهل الخمس وقال له: أعتقني فقال: كيف أعتقك ولو ذهب انظر ما كان لي شعرة من شعر كلبك قال: ثم إن بيت المقدس لم يزل بأيدي المسلمين من لدن فتح عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- إلى سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وفي سنة اثنتين وثمانين أقام عليه الفرنج نيفا وأربعين يوما فملكوه ضحى نهار الجمعة من سنة اثنتين وثمانين "في تاريخ الحنبلي سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة ويدل له ما يأتي في كلام المصنف وفي مثير الغرام مثل ما في هذا الكتاب وقد اتفقوا على إقامته في ايدي الفرنج نيفًا وتسعين سنة وعلى كلام مثير الغرام وهذا الكتاب فيكون إقامته في أيديهم أكثر من مائة لأن الملك

صلاح تسلمه في سنة خمسمائة وثلاث وثمانين" وقتل فيه من المسلمين خلق كثير في مدة أسبوع وقتل في المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفًا وأخذوا من عند الصخرة من أواني الذهب والفضة مالا يضبطه الحصر، وانزعج بسببه المسلمون في سائر "البلاد" غاية الانزعاج وكان الأفضل ابن أمير الجيوش قد تسلمه من سقمان بن أرتق في يوم الجمعة لخمس بقين من رمضان سنة إحدى وتسعين وقيل في شعبان سنة تسع وثمانين، وولى من قبله فيه فلم يكن لمن ولاه عنه طاقة للفرنج فتسلموه منه ثم استولى الفرنج على كثير من بلاد الساحل في أيامه فملكوا يافا في شوال سنة ثلاث وتسعين وقيسارية في أربع وتسعين واستولوا على بلاد الساحل وما فيها من القلاع والحصون وعاشوا فيها وفيما والاها من النواحى والأعمال والضياع حيث "رحل وذكوان" في سرح المدينة {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43] {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22] فظلوا في طغيانهم يعمهون ولم يزل بيت المقدس وما ولاه من بلاد السواحل وغيرها في أيدي الفرنج المخذولين نيفًا وتسعين من السنين إلى أن جاءت الساعة التي جلاها اللَّه تعالى لوقتها وأظهر الآية التي لا أخت لها فنقول هي أكبر من أختها وأفضت الليلة الظلماء المعتمة إلى فجرها ووصلت الدنيا الحامل بجنين هذه الجنايات إلى تمام شهرها وجاءت بواحدها الذي تضاف إليه الأعداد ومالكها الذي له السماء خيمة "والحبك" أطناب والأرض بساط والجبال أوتاد والشمس دينار والقمر دراهم والأفلاك خدم والنجوم أولاد وهو السلطان المعظم مالك زمام الفضل الكامل العامل فيما تولاه من أمور الأمة بما لا يضيع معه أجر عامل المعتصم بالرأي الرشيد

المتوكل على اللَّه فيما هو عليه مأمون من مصالح العبيد الواثق باللَّه في دفع كل شيطان مريد "المستعين" بالعد العديد الحاكم بأمر اللَّه في القريب والبعيد الأمين في حقوق المرابطة وجهاد الطغاة والمتمردين مرغم معاطس الكفرة والمشركين عن زمانه البصيرة ولمعته البارقة المنيرة السلطان الملك الناصر صلاح الدنيا والدين أبو المظفر يوسف بن أيوب سقى اللَّه عهده بجهاد الرحمة والرضوان وأسكنه فسيح الجنان ويسر اللَّه تعالى على يديه من الفتوح وأنزل به الملائكة والروح في أيام مولانا وسيدنا الإمام الناصر لدين اللَّه أمير المؤمنين أبي العباس أحمد بن الإمام المستضيء باللَّه أبي محمد الحسن المستنجد باللَّه أبي المظفر يوسف ابن الإمام المقتفى لأمر اللَّه أبي عبيد اللَّه محمد بن الإمام المستظفر باللَّه أبي العباس أحمد بن الإمام المقتدي باللَّه عبد اللَّه بن الدخيره محمد عبد اللَّه ابن الإمام القائم بأمر اللَّه بن الإمام القادر باللَّه أبي العباس أحمد بن الموفق باللَّه أبي أحمد طلحة ابن الإمام المتوكل على اللَّه أبي الفضل جعفر ابن الإمام المعتصم باللَّه أبي إسحاق محمد ابن الإمام الرشيد باللَّه أبي جعفر هارون ابن الإمام المهدي باللَّه أبي عبد اللَّه محمد ابن الإمام المنصور باللَّه أبي جعفر عبد اللَّه بن محمد بن على بن عبد اللَّه بن العباس بن عبد المطلب صلوات اللَّه عليه وعلى آبائه الطاهرين والخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين وهي الأيام التي زواهر أيامها زواه وقضاء، مضاربها للفضاء فما أجلها فضلًا وما أفضلها إجلالا وأقبلها جدا وأحدها إقبالا وما أعلى بناء مجدها وأحلى حبار قدرها وأسمح سماحتها أمطارا أو أصبح جناح نجاحها مطارا أو كان السلطان الملك الناصر صلاح الدين ناصر دعوته وداعى نصرته، ووليه الطائع وسيفه القاطع جار في مصالح العباد على رسمه حاكم بأمره مؤثر بحكمه

فندبه لهذا الفتح المبين. فكان هجرة للإسلام إلى القدس ثانية وبيعة رضوان شهدها مزيد عزمه لأيدي أهل التثليث والكفر ثابتة أحسن اللَّه له عن الإسلام وأهله أحسن الجزاء ومنحه من فضل اللَّه وكرمه في الدار الآخرة أو في الأقسام "ووانو" الأجزاء كانت هذه الهجرة أبقى الهجرتين وهذه الكرة بقوة اللَّه أقوى الكرتين وذلك أنه أقوى الآمال بما بذله من الأموال وحقق في إنجاز وعد اللَّه وإنجاح المقاصد رجاء الرجال وجمع العدد وفرق العدد ووهب الجياد وأجاد المواهب ورغب في الخطايا وأعطى الرغائب "ونثر الخزائن وبيت الكنائن" وأنفق الذخائر وأنفذ كرائمها للأخاير ونهض لاستنقاذ بيت المقدس من أيدي الكفار نهوض الأسد واشتعال النار. وخرج من دمشق حين دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة في مستهل المحرم وقد أيقن بالظفر وظفر باليقين وبايع اللَّه ورسوله على نصرة الإسلام واقتضى في الدين وكتب إلى الأقطار والبلاد يستدعي من جميع الجهات جموع الجهاد وأهل الاستدعاء أهل الاستعداد وسار والعزم يستنهضه والعز يحسر منه والدين يستنبله والنصر يستعطيه وقدم بجحافله الحافلة وجيوشه الصائلة وعساكره المتواصلة وسلك في جهاد المشركين أعداء الدين أعدل السبل وأقوم المناهج وقدم على قصد بيت المقدس طويل الشرح فحصل من تلك المقدمات على نتائج ألحق بها من أهل الشرك الموجود بالمعدوم وأرعد في متملكي القلاع والحصون وبلاد الساحل بصاعقة بأسه إرعادًا ساقهم به إلى الأجل المحتوم ونثر الثرى ونشره وحسن الردى ونشره وقد ظهرت راياته "وبهرت آياته" وجالت خيوله وسالت سيوله والتوفيق يسايره

والتأييد يؤازره والتمكين يظافره والسعد يظاهره والعز يسامره والظفر يجاوره والإسلام شاكره واللَّه عز وجل ناصره حتى انتهى الفتح به إلى عسقلان واستولى على جميع ما كان في أيدي الكفار من القلاع والضياع والأموال والأعمال والحصون والنواحي والبلدان وانمحى منها بالسعود رسم النحوس وأقام جاه الأذان أنكر ناموس الناقوس وخمدت ثوران القسوس. قال صاحب الفتح القدسي عند ذكر فتح بيت المقدس: ثم رحل السلطان من عسقلان للقدس الشريف طالبًا وللنصر العزيز مصاحبًا ولذيل العز ساحبا وسنا عسكر قد فاض بالفضاء فضاء وملأ الملاء بما فاض الآلاء وقد يسط عنبره فيلقه ملاته على الفلق وكأنما أعاد العجاج على ردى الضحى جنح الغسق وسار مسارا بالأحوال الحوالى مروية وأحاديث فتوحاتة الغوالي من الطرق العوالي مطوية مدارج مناحيه، وعلى ما تنشره الآمال من الأماني، وقد جلت وعلت من مغارس النصر ومطالعة المجاني والمجابي. والإسلام يخطب من القدس عروسًا ويبذل لها من المهر نفوسًا ويحمل إليها نعمى ليصرف عنها بؤسي ويهدي بشري ليذهب عبوسًا وصرخه الصخرة المستدعية المستعذبة لأعدايها على أعدائها وإجابة دعائها وتلبية ندائها واطلاع زهر المصابيح في سمائها وإعادة الإيمان الغريب إلى وطنه ورده إلى سكونه وسكنه وإقصاء الذين أقصاهم اللَّه بلعنه من الأقصى وجذب قياد فتحه الذي استعصى وإسكات الناقوس بإنطاق الأذان وكف الكفر عنه بأمان الإيمان وتطهيره من أنجاس تلك الأرجاس وإدناس أدنى الناس وجاء الخبر إلى القدس الشريف بوصول السلطان فطارت قلوب من به رعبًا

وطاشت وخففت أفئدتهم خوفًا من جيش الإسلام وجاشت وتلفت الفرنج باليان بن بارزان والبطرك الأعظم ومن كلا الطائفتين الإسبتار والداوية مقدم واشتغل بالباليان واشتعل بالنيران وخمدت كنار بطرك البطرك ضاقت بالقوم منازلهم فكان كل دار فيها شرك لمن أشرك وقاموا بالتدبير في مقام الإدبار وانقسمت أفكار الكفار. ويأس الفرنج من الفرج وأجمعوا على إتلاف النفوس النفيسة وبذل المهج وقالوا ههنا نطرح الرؤوس ونسفك النفوس وتسفك الدماء ويهلك الدهماء ونصبر على اقتراح القروح واجراح الجروح سحا محل الروح فهذه قمامتنا ومنها تقوم قيامتنا وتصح مدامتنا وبإكرامها كرامتنا وسلامتها سلامتنا وباستقامتها استقامتنا وفي استدامتها استدامتنا وإن تخلينا عنها ملامتنا ووجبت ندامتنا ففيها المطلب والمصلب والمذبح والمضرب والمجمع والمعبد والمهبط والمصعد والمرقب والمرقد والمشرب والملعب والمموه والمذهب والمطلع والمقطح والمرعى والمرتع والمرحم والمحزم والمحلل والمحرم والصور والأشكال والأنظار والأمثال والأرشاد والأشبال والأشباح والأعمدة والألواح والأجساد والأرواح. ومنها: صور الحواريين في حوارهم والأحبار في أحبارهم والرهابين في صوامعهم والأقساس في مجامعهم والسحرة وحبالها والكهنة وجبالها ومثال السيدة والسيد هيكل والمولد والمائدة والحوت والمنعوت والنحوت والتلميذ والمعلم والمهد والصبي المتكلم وصورة الكبش والحمار

والدم والنار والنواقيس والنواميس قالوا وفيها صلب المسيح وقرب الذبيح وتجسد اللاهوت وتأله الناسوت واستقام التركيب وقام الصليب ونزل النور وزال الديجور وازدوجت الطبيعة بالأقنوم وامتزج الموجود بالمعدوم وعمدت معمودية المعبود ومخضت البتول بالمولود وأضافوا إلى متعبدهم من هذه الضلالات فأضلوا فيه عن نهج الدلالات. وقالوا دون مقبرة ربنا نموت وعلى جرف فوهتها نفوت وعنها ندافع وإلى ما فيه بقاؤنا نسارع وما لنا لا نقاتل وكيف لا ننازع ولا ننازل ولأي معنى نتركهم حتى يأخذوا وندعهم حتى يستخلصوا ما استخلصناه منهم ويستنقذوا. وتأهبوا وتناهوا وما انتهوا وصبوا المنجنيقات واستشاطت شياطينهم وسرحت سراحينهم وطغت طواغيتهم ودعت دواعيهم وهاج هائجهم وماج مائجهم وعدت عوائدهم وسعت أفاعيهم وحضهم قساوسهم وحرضتهم رؤوسهم وحركتهم نفوسهم نجوى السوء جواسيسهم، وأحزنهم ما عاينوه من إقبال العساكر الناصرية منصورة الجنود منشورة البنود مشهورة القواضب مشهورة الكتائب معقودة الضوامر بنار الهدى مسلولة. الظبا مطلوبة الربا مطلقة أعنة جيادها محققة مظنة طرادها أعنقها لها محققة مظنة طردها موئلة من اللَّه الظفر بلوغ مرادها قد سالت الوهاد بأكمامها وجالت الأعلام في أعلامها وسدت الفجاج أفواجها ومدت العجاج أمواجها وحجبت الغزالة عتباها وألهت الزبالة صرخاتها وجرت بالحمال

رياحها وحكمت كالجبال رياحها واشتملت على الضراغم غيلها وأقبل بالعظائم قيلها ووافى كل واف بعهد ربه. وكان لكف خطبه شاف لهم لقلبه خاف في لبوسه وأضل بيض الهند سواعده وفاضل خطاب الخطوب بوارقه ورواعده قال وأقبل السلطان بإقبال سلطانه وأبطال شجعانه وإقبال أولاده وإخوانه وأشبال مماليكه وغلمانه وكرام أترابه وعظام أوليائه وغيلانه في تعاقب بالمناقب مغتبة وكتائب المواكب مكتبة وألوية صفر للاذا ببني الأصفر وبيض وسمر تزرق زرق العدى بالموت الأحمر وفوارس فوارس وكل من يبذل الشح بدينه النفوس والنفائس، وأصبح يسأل عن الأقصى وطريقه الأدنى وفريقه الأسنى ويذكر ما فتح اللَّه عليه بحسن فتحه من الحسنى، وقال: إن أسعدنا اللَّه تعالى وأعاننا على إخراج أعدائه من بيت المقدس فما أسعدنا، وأي يدله عندنا إذ أيدنا فإنه مكث في يد الكفر إحدى وتسعين سنة لم يقبل اللَّه تعالى فيه من عامل حسنة، وكان هم الملوك دونه متوسنة وخلت القرون وخلت الأعوام وهي عنه متخلية وغلف الفرنج عليه متولية فما ادخر اللَّه فضيلة فتحه إلا لآل أيوب، ليجمع لهم بالقبول القلوب وخص به عصر الإمام الناصر الدين ليفضله به على الأعصار ولتفخر به مصر وعسكرها على سائر الأمصار، وكيف لا يهتم وبافتتاح البيت المقدس والمسجد الأقصى الذي هو على التقوى والرضوان مؤسس، وهو مقام الأنبياء وموقف الأولياء ومعبد الأتقياء ومراد أبدال الأرض وملائكة السماء وفيه المحشر والمنشر يتوافد أولياء اللَّه تعالى المعشر بعد المعشر وفيه الصخرة التي صيغت ابتهاجها من الأبهاج،

ومنها كان منهاج المعراج ولها القبة وفيه البارق ومعنى البراق وأضاءت ليلة الإسراء بحلول السراج المنير فيه الآفاق ومن أبوابه باب الرحمة الذي يستوجب داخله إلى الجنة بالدخول الخلود وفيه كرسي سليمان ومحراب داود عليه السلام وبه عين سلوان التي يمثل واردها بالكوثر الحوض المورود. وهو أول القبلتين وثاني البيتين وثالث الحرمين وأحد المساجد الثلاثة الذي جاء في الخبر النبوي أنها تشد الرحال ويعقد الرجاء بها الرجال، ولعل اللَّه يعيده بنا إلى أحسن صورة كما شرفه بذكره مع أشرف خلقه في أول سورة، وقال عزَّ من قائل {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1]، إلى غير ذلك مما له من الفضائل والمناقب التي لا تحصى، وإليه ومنه الإسراء ولأرضه فتحت السماء ومنه تؤثر أنباء الأنبياء الأولياء ومشاهد الهدى وكرامات الكرماء وعلامات العلماء وفيه بارك المنار ومسارح المسار وفيه الصخرة الطولى وكانت القبلة الأولى، منها تعالت القدم النبوية وتوالت البركة العلوية وعندها صلى نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- بالنبيين وصحب الروح الأمين فصعد منها إلى أعلى عليين فما أجله وأعظمه وما أشرفه و "أفحمه" وما أعلاه وما أغلاه وما أسماه وما أسناه وأيمن بركاته وأبرك ميامنه وأحسن حلاوته وأحلى محاسنه. وقد ظهر اللَّه فيه منه وطوله بقوله جل وعلا: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]. وكم فيه من الآيات التي أراها اللَّه نبيه وجعل مسموعاتنا من فضائله مرئية ووصف السلطان من خصائصه ومزايا بما وثق على استعادته مواثيقه

وأقسم لا يبرح حتى بر قسمه ويرفع بأعلى علمه ويخطو إلى زيارة موضع القدم النبوية قدمه وصار واثقًا بكمال النصر وزوال العسرة مصغيًا إلى صرخة الصخرة وأقسم أن يسقى الفرنج من الحسرة كأسا مرة. قال: ونزل السلطان غربي المسجد يوم الأحد خامس عشر رجب وقلب الكفر قد وجب وحرب الكفر قد شارف السبحى والشجب، والقدر قد أظهر العجب وكان في القدس حينئذ من جموع الفرنج ستون ألف مقاتل بين رامح ونابل قد وقفوا دون البلد يبارزون ويذبون ويحاجزون ويفاجرون ويناجزون ويدورون ويذبون ويحرضون ويصرخون ويلهثون وينفرثون ويحرنون ويقدمون ويحججون ويتململون ويقابلون ويتعاونون ويتضاعفون ويحزنون البلايا ويقتحمون المنايا، وقاتلوا أشد قتال ونازلوا أحدّ نزل وطافوا بصحاف الصفاح الظباء الظمأ من ماء الأرواح وجالوا بالأوجال وأجالوا أقداح الآجال وصالوا لقطح الأوصال والتهوا واستوقفوا وناشبوا ونشبوا واستهدفوا للسهام واستوقفوا للحمام. وقالوا كل واحد منا بعشرين وكل عشر بمائتين ودون القمامة تقوم القيامة وبحب سلامتها نعلو السلامة ودامت الحرب واستمر الطعن والضرب قال: وانتقل السلطان يوم الجمعة العشرين من رجب إلى الجانب الشمالي وخيم هناك وضيق على الفرنج المسالك ووسع عليهم مهامه المهالك ونصب المجانيق وفر من آفاتها الأفاريق، وأصرح الصخرة بالصخور وحشر السوء منهم وراء السور فما عادوا يخرجون من السور الرؤوس إلا ويلقون البؤس والبوم اليؤس ويلقون على الردى النفوس والوجوه لقبل النضال مكشوفة، والقلوب للوجد بالقتال

ملهوفة والأيدي على قوائم السيوف المفتوحة مضمومة والنفوس لاستبطاء الهمم في الاهتمام مهمومة وقواعد السور ونواجد شراريفه بالأحجار الخارجة من الكفار مهدومة مهنوم، فكان المجانيق مجانين يركبون ومنتجد ولا يرامون وجبال يجذبها حبال ورجال ينجدها جال وأمان الدواهي والمنايا وحوامل فرد البلايا ولا يخطر سهام القسى إلا بالخطر ولا يفطر مروها إلا مرارات ذي لفظ، فكم نجم من سمائها ينقض وصخر من أرضها يرفض وحجر من شرارها ينفض إلى أن عاد العدو يعد نظمه البتور البتور فصولا وخرق الخندق وحضر الرجف وظهر من أفق الفتح نورا وسهل الصعب واتبع النقب وبذل المجهود وحصل المقصود وأسلم البلد وقطع زناد خندقه وبرز ابن بارزان ليأمن من السلطان بموثقه وطلب الأمان لقوم فتمنع السلطان وتسامى في شومة وقال لا أمن لكم ولا أمان إلا أن نديم لكم الهوان ونزلكم من الخزي والذل والصغار على حكم القرآن وغدا نملككم قسرا ونوسعكم قتلى وأسرى ونسفك من الرجال الدماء ونسلط على الذرية والنشابا لمسى المصيبة العظمى وأبامنيهم فتعرضوا للتضرع وتخوفوا وخوفوا عاقبة التضرع لما عن الأمان حرفوا وقالوا إنا أيسنا من أمانكم وخفنا من سلطانكم وخبنا من إحسانكم وأيقنا أنه لا نجاة ولا نجاح ولا صلح ولا صلاح ولا سلم ولا سلامة ولا نعمة ولا كرامة فالسبيل أن نقاتل قتال الدم، ونقابل الوجود بالعدم ونلقي أنفسنا على نهار ولا نلقي بأيدينا إلى التهلكة والعار ولا يخرج واحد منا حتى يخرج عشرة ولا تضمنا يد القتل حتى نرى أيدينا بالقتل منتشرة، وإما نحرق الدور ونخرب القبة وننزل عليكم في سبيلنا السبة ونقلع الصخرة

ونوجلكم عليه الحسرة ونقتل كل من عندنا من أسارى المسلمين وهم ألوف، وقد عرف أن كلامنا للذل والهوان عيون وللفر ألوف، وأم الأموال نعطها ولا نعطها وأم الذراري فإنا نسارع إلى إعدامها ولا نستبقيها، فأي فائدة لكم بالشح علينا بالأمان وكل حشرة لكم في الإباء وعدم الامتنان ورب خيبة جاءت من قبل الشح ولا يصلح السوء سوء الصلح وربَّ كلام الليل قبل أسفار الصبح. قال فعقد السلطان مجلسًا للمشورة وأحضر كبراء عساكره المنصورة وشاورهم في الأمر واستطلع خفايا ضمائرهم واستكشف خبايا سرائرهم واستورى زندهم وتعرف ما عندهم وزاد منهم على المصلحة المتزحمة وفاوضهم في أمر المصلحة المربحة، وقال إن الفرصة قد أمكنت فنحرص على انتهازها وأن الحصة قد حصلت ونستخير اللَّه تعالى في إحرازها، وإن هي فاتت لا تستدرك وإن أفلتت لا تستمسك فقالوا قد خصك اللَّه تعالى بالسعادة وأخلصك بهذه العبادة ورأيك أرشد وعزمك لضالة النصر ناشد وأمرك مصاع الأمة نافذ. كلنا لك في اغتنام فتح هذ الموضع الشريف مناشد واستقر الحال بعد مراودات ومعاودات وخداعات من القوم وشفاعات على قطعة تكمل بها الغبطة ويستردوا بها أنفسهم وأموالهم ويخلصون بها نساءهم ورجالهم وأطفالهم، على إنه من عجز بعد أربعين يومًا عما لزمه وامتنع منه وما سلمه ضرب عليه الرق وثبت في تملكه لنا الحق ومكابدة الأمر المشق، وهو على كل رجل عشرة دنانير وعلى كل امرأة خمسة، وكل صغير وصغيرة ديناران، ودخل ابن بارزان والبطرك ومقدما الداوية والاسبتارية في الضمان وبذل ابن بارزان ثلاثين ألف دينار عن الفقراء وقام بالأداء، ولم ينكل عن الوفاء فمن سلم خرج من بيته آمنًا ولم يعد إليه ساكنًا وأسلمو البلد يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب على

هذه القطعة ورده بالرغم منهم رد الغصب لا رد الوديعة، وكان فيه أكثر من مائة ألف إنسان من رجال ونساء وصبيان فأغلقت دونهم الأبواب، ورتب عرضهم واستخراج ما يلزمهم النواب ووكل بكل باب أمير ومقدم كبير يحصر الخارجين، فمن استخرج منه خرج ومن لم يقم بما عليه قعد في الحبس وعدم الفرج، ولو حفظ هذ المال حق حفظه لما وسعه بيت. لكن لما تم التفريط وعم التخليط فكل من وشي بشيء وتنكب الأمناء، نهج الرشد بالرشا، فمنهم من أدلى من السور بالحبال، ومنهم من حمل بخفيا في الرجال، ومنهم من غيرت فخزج بزي الجند، ومنهم من وقعت فيه شفاعة مطاعة ثم يقابل بالرد. وكان في القدس ملكة رومية مترهبة في عبادة الصليب متصلبة وعلى مصابها متلهبة وفي التمسك عليها متعصبة أنفاسها متصاعدة للحزن وعبراتها تنحدر نحو العطرات من المزن، ولها حال ومال وأشياع وأتباع فمن عليه السلطان وعلى كل من معها بالإفراج، وأذن في إخراج كل ما في الأكياس والأخراج فراحت فرحى وإن كانت جفونها من الشجى والنحيب قرحى، وكانت زوجة الملك المأسور ابنة الملك أماري مقيمة في جوار القدس مع مالها من الخدم والخور والخوار فخلصت هي بمن معها، ومن ادعى أنه ممن صحبها وشيعها، وكذلك الإبرنسيسة

ابنة فليب أم هنفر عفيت من الوزن وتوفر مالها عليها في الخزن واستطلق صاحب البيرة زهاء خمسمائة أرمني ذكر أنهم من بلده، وأن الواصل منهم إلى القدس إنما وصل لأجل متعبده. وطلب مظفر الدين على بن كوجك زهاء ألف أرمني ادعى أنهم من الرها فأجراه السلطان في إطلاقهم على ما اشتهى ومع ذلك حصل لبيت المال ما يقارب مائة ألف دينار وهي من بقي تحت رق وأسر ينتظر به انقضاء المدة المقروبة والعجز عن الوفاء بالقطعة المطلوبه. اسمه: قال العماد -رحمة اللَّه تعالى- واتفق فتح بيت المقدس في اليوم الذي كانت في مثل ليلته المعراج، وتم بما وضح من منهاج الصبر والابتهاج، وزاد في الألسنة بالدعاء الابتهال والابتهاج وجلس السلطان على هيئة المتواضع وهيئة الوقار للهناء ولقاء الأكابر والأمراء والفقهاء والعلماء والمتصوفة وغيرهم من الأخيار الأبرار ووجهه بنور البشر سافر، وأمله بغد النصر ظاهر وبابه مفتوح ورفده ممنوح وحجابه مرفوع وخطابه مسموع ونشاطه مقبل

وسماطه مقبل ومحياه يلوح ورياه يفوح، ويده ظاهرها قبله القبل وباطنها لعبة الأمل والقراء جلوس يقرءون، والشعراء وقوف ينشدون والأعلام تنشر والأقلام تسرر لتبثر والعيون من فرط المسرة تدمع والقلوب للفرحة بالنصر تخشع والألسنة بالابتهال إلى اللَّه تعالى تتضرع والكاتب ينشي ويوشي ويوسع والبليغ يسهب وهو جزء يضيق ويوسع. قال العماد -رحمه اللَّه تعالى- وكتبت من البشائر بهذ الفتوح بما يفوح أرج نشره، ويحيى بحياة هذ السلطان آثار بره، وبشرت المسجد الحرام بخلاص المسجد الأقصى: وتلوت على الملة المحمدية شرع لكم من الدين ما وصى وهنأت الحجر الأسود بالصخرة البيضاء ومنزل الوحى بمحل الإسراء ومقر سيد المرسلين وخاتم النبيين بمقر الرسل والأنبياء ومقام إبراهيم الذي وفَّى بموضع قدم محمد المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: وتسامع الناس بهذ النصر الكريم والفتح العظيم فوفدوا للزيارة من كل فج عميق وسلكوا إليه في كل طريق وأحرموا من البيت المقدس إلى البيت العتيق وتزهوا من أزهار كراماته الروض الأنيق. قال العماد وشرع الفرنج في بيع ما عندهم من الأمتعة واستخراج ذخائرهم المودعة وباعوها بأبخس الأثمان في سوق الهوان وباعوا بأقل من دينار ما يساوي عشرة وجدوا في ضم ما وجدوا من أمور لهم متيسرة وكنسوا كنائسهم وأخذوا منها نفائسهم ونقلوا منه الذهبيات والفضيات من الأواني والقناديل والحريريات والمذهبات من الستور والمناديل ونفضوا من الكنائس الكناين واستخرجوا من الخزائن الدفائن وجمع البطرك الكبير كل ما كان على القبر من صفائح التبر العسجد اللجين وجميع

ما كان في قمامة من الجنسين والنسجين. قال: فقلت للسلطان هذه أموال وافرة وأحوال ظاهرة تبلغ مائتى ألف دينار. والأمان إنما كان على أرواحهم وأموالهم النفائس، لا على أموال الكنائس فلا تتركها في أيدي هؤلاء الفجار. أو كما أشار فقال: إذا أنار لنا عليهم نسبونا إلى الغدر وهم جاهلون بسر هذا الأمر، فنحن نجريهم على ظاهر الأمان ولا نتركهم يرمون أهل الإيمان بنكث الأيمان بل يتحدثون بما أفضاه من الإحسان فتركوا ما ثقل ويحملوا ما عز وخف ونفضوا من ترابهم وقمامة قمامتهم الكف، انتقل معظمهم إلى صور وبقى منهم زهاء خمسة عشر ألف امتنعوا عن مشروع الحق فاختصموا بمشروط الرق. ولما تقدس القدس من رجس الفرنج أهل الفسق وخلع لباس الذل ولبس خلع العز أبى النصارى بعد أدء القطيعة أن يخرجوا، وتضرعوا في أن يسكنوا ولا يزعجوا وبدلوا حملًا من المال وقابلوا كل ما ألزموا به بالتزام وقبول وامتثال وأعطو الجزية عن يد وهم صاغرون وإنا فوقهم قاهرون ودخلوا في الذمة وخرجوا إلى العصمة وشغلوا بالخدمة واستعملوا في المهنة وعدوا المحنة في تلك المحنة. قال صاحب الفتح القدسي: وكبر ما أظهر السلطان من الحسنات ومحاه من السيئات، وإنه لما تسلمه أمر بإظهار المحراب وحتم به أمر الإيجاب وكان الداوية قد بنوا في وجهه جدارا وتركوه للغلة هراء وقيل: كانوا اتخذوه مستراحا عدوانا وبغيا وبنوا في غربي القبلة دارا وسيعة وكنيسة رفيعة فأمر برفع ذلك الحجاب وكشف النقاب عن عروس المحراب وهذا ما قدامه من الأبنية، وأمر بتنطف ما حوله من الأفنية بحيث يجتمع الناس في الجمعة في العرصة

المتسعة ونصب المنبر وأظهر المحراب المطهر، ونقض ما أحدثوه بين السواري وبسطوا تلك البسيطة بالبسط الرفيعة عوض الحصر والبواري وعلقت القناديل وتلى التنزيل وحق الحق وبطلت الأباطيل، وتولى الفرقان وعزل الانجيل، وصفت السجادات وصفت العبادات وأقيمت الصلوات وادعيت الدعوات وتجلت البركات وانجلت الكربات وانجابت الغايات وتليت الآيات وأعليت الرايات، ونطق الأذان وخرس الناقوس وحضر المؤذنون وغاب القسوس وأقبلت السعود، وأدبرت النحوس وعاد الإيمان الغريب منه إلى وطنه وطلب الفضل من معدنه وقويت الأوراد واجتمع الزهاد والعباد والأبدال والأوتاد، وعبد الواحد ووحد العابد وتوافد الراكع والساجد والخاشع والواحد والحاكم والشاهد والجاهد والمجاهد والقائم والقاعد المتهجد الساهد والزائر والواجد، وصدع البشر وصدح المفكر وانبعث المنشر وذكر البعث والمحشر، وتذاكر العلماء وتناظر الفقهاء وتحدث الرواة وروى المحدثون وأخلص الداعون ودعا المخلصون وأخذ بالعزيمة المترحضون ولخص المفسرون وانتدب الخطاء وكثر المترشحون للخطابة المعرفون بالفصاحة والعرابة فما منهم إلا من خطب الرتبة ورتب الخطة وأنشأ معنى سابقًا ووشى لفظًا رائقًا، وسوى كلامًا بالوضع لائقًا وروى مبتكرًا من البلاغة فائقًا وكلهم طال الالتهاء بها عنقه وسال من الالتهاب عليها عرقه، وما منهم إلا من يتأهب ويترقب ويتوسل ويتقرب ومنهم من يتعرض ويتضرع ويتشوق ويتشفع وكلهم قد لبس وقاره ووقر لباسه وضرب في أخماسه أسداسه ورفع لهذه الرياسة رأسه، والسلطان لا يعين ولا يلين ولا يخص ولا ينص. فلما دخل يوم الجمعة رابع شعبان أصبح الناس يسألون في تعين

الخطيب السلطاني وامتلأ الجامع واختلفت المجامع وتوجست الأبصار والمسامع وفاضت لرقة القلوب المدامع وتوسمت العيون وتقسمت الظنون وتكلموا فيمن يخطب ولمن يكون المنصب وتفاوضوا في ذلك وأطالوا التفويض وتحدثوا بالصريح والتعريض وإعلان تعلي المنبر يكسي ويجلي، والأصوات ترتفع والجماعات والأفواج تزدحم والأمواج تلتطم وللعارفين من الصحيح ما في عرفات الحجيج حتى حان الزوال وزال الاعتدال وصعد الداعي وأعجل الساعى نصب السلطان الخطب بنصبه وأبان عن اختياره بعد فحصه وأشار إلى القاضي محيي الدين أبي المعالي محمد أبي الحسن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن الوليد بن محمد بن عبد الرحمن بن عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- ويعرف بابن الزكي عثمان القرشي، ورسم له السلطان أن يرقى ذلك المرقى بتقديمه عرقى فرقى ذلك العود، ولقي السعود واهتزت أعطاف المنبر واعتزت أطراف المعشر فخطب وأنصتوا ونطق وسكتوا وأفصح وأعرب وأبدع وأغرب وأبان عن فضل بيت المقدس وتقديسه وتطهيره بعد تنجيسه وإخراس ناقوسه وإخراج قسسه، وكان أول ما بدأ في خطبته بعد أن استوى قائمًا من جلسته أن استفتح بقراءة سورة الفتح إلى آخرها ثم قال {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45]. ثم قرأ أول سورة الأنعام إلى قوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]. ثم قرأ من سورة سبحان الذي: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء: 1] إلى قوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 1] ثم قرأ أول سورة الكهف {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] الآيات الثلاث ثم قرأ من النمل: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] الآية ثم قرأ

أول سورة سبأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 1] الآية وكان في قصده أن يذكر جميع تحميدات القرآن فخشي من الإطالة. وقال: الحمد للَّه معز الإسلام بنصره ومذل الشرك بقهره ومصرف الأمور بأمره ومديم النعم بشكره ومستدرج الكفار بمكره الذي قدر الأيام دولا بعدله وجعل العاقبة للمتقين بفضله وأفاء على عباده من فضله وأظهر دينه على الدين كله القاهر فوق عباده فلا يمانع والظاهر على خليقته فلا ينازع والآمر لما يشاء فلا يراجع والحاكم بما يريد فلا يدافع أحمده على إظفاره وإظهاره وإعزازه لأوليائه ونصره لأنصاره وتطهيره لبيته المقدس من أدناس الشرك وآثاره حمد من استشعر الحمد باطن شره وطاهر أطهاره وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد شهادة من أظهر بالتوحيد قلبه وأرضى به ربه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله رافع الشك وداحض الشرك وقامع الإفك الذي أسري به ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعرج به إلى السموات العلى إلى سدرة المنتهى {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 15: 17] صلى اللَّه وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت المقدس شعار الصلبات وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مبيد الكفر ومزلزل الشرك ومكسر الأوثان وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، أيها الناس: أبشروا برضوان اللَّه الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا واشكروه على ما يسر على أيديكم من استرداد هذه الضالة وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي

المشركين قريبًا من مائة عام وتطهير البيت الذي أذن اللَّه أن يرفع ويذكر فيه اسمه وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه واستمر فيها رسمه ورفع قواعده بالتحميد، "والتوحيد فإنه يبني عليه وشيد بنياونه بالتحميد" والتمجيد فإنه أساس بنيانه على التقوي من خلفه ومن بين يديه فهو موطن أبيكم إبراهيم ومعراج نبيكم محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام، وهو مقر الأنبياء "ومقعد الأولياء" ومدفن الرسل ومهبط الوحي ومنزل به الأمر والنهي، وهو في أرض المحشر، وصعيد المنشر وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها اللَّه تعالى في كتابه المبين وهو المسجد الأقصى الذي صلى فيه نبي رب العالمين بالنبيين والمرسلين والملائكة المقربين، وهو البلد الذي بعث اللَّه إليه عبده ورسوله كلمته التي ألقاها إلى مريم وروحه عيسى الذي كرمه اللَّه برسالته وشرفه بنبوته ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته" فقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] كذب العادلون باللَّه وضلوا ضلالًا بعيد {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 91، 92] {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17] إلى آخر الآيات من المائدة. وهو أول القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تقعد الحناصر بعد الموطنين إلا عليه، فلولا أنكم من اختاره اللَّه من عباده واصطفاك من سكان بلاده لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار، ولا يباريكم في شرفها مبارى فطوبى

لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية والوقعات البدرية والضربات الصديقية والفتوحات العمرية والجيوش العثمانية والفتكات العلوية جددتم الإسلام أيام القادسية والملاحم اليرموكية والمنازلات الخيبرية والحملات الخالدية فجزاكم اللَّه عن نبيكم محمد أفضل الجزاء،

وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبل منكم ما تقربتم به إليه من إهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعد فقدِّروا رحمكم اللَّه هذه النعمة حق قدرها وقوموا للَّه بواجب شكرها فله تعالى المنة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة، وترشيحكم لهذه الخدمة، فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء وبلجت بأنواره وجوه الظلماء وابتهج به الملائكة المقربون وقرب أعين الأنبياء والمرسلين فماذا من النعمة بأن جعلكم الجيش الذي يفتح على يديه البيت المقدس في آخر الزمان والجند الذي تقوم بسيوفهم بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان، فيوشك أن يفتح اللَّه على أيديكم أمثاله وأن تكون التهاني لأهل الخضراء أكثر من التهاني لأهل الغبراء البيت الذي ذكره اللَّه تعالى في كتابه ونص عليه في محكم خطابه ومنحكم به منته وطوله. فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]، وهو الذي عظمته الملل وأثنت عليه الرسل وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من اللَّه تعالى، لأجله الشمس ردت على يوشع بن نون بن يعرب وباعد بين جوانبها ليتبين فتحه ويقرب، أليس هو البيت الذي أمر اللَّه -عز وجل- أن يأمر قومه باستيطانه فلم يجبه إلا رجلان وغضب عليهم لأجله فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان. فأحمد اللَّه الذي

أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل، وقد فضلت على العالمين ووفقكم، لما خذل فيه أمما كانت قبلكم الأمم الماضيين وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى وأغناكم بما أمقبه كان وقد عي وحتى وليهنكم أن اللَّه تعالى قد ذكركم به فيمن عنده وجملكم بعد أن كنتم جنودًا لا تستهويه جنده وشكرتكم الملائكة المنزلون على ما أهديتم لهذا البيت من طيب التوحيد ونشر التقديس والتحميد، وما أمطتم عن طريقه من أذى الشرك والتثليث والاعتقاد الفاجر الخبيث، والآن تستغفر لكم أملاك السموات وتصلى عليكم الصلوات المباركات. فاحفظوا رحمكم اللَّه هذه الموهبة فيكم واحرسوا هذه النعمة عندكم بتقوى اللَّه الذي من تمسك بها سلم، ومن اعتصم بغزوتها نجا واعتصم، واحذروا اتباع الهوى وموافقة الردى ورجوع القهقرى والتوالي العدى، وجدُّوا في انتهاز الفرصة وإزالة ما بقي من القصة، وجاهدوا في اللَّه حق جهاده وبيعوا عباد اللَّه أنفسكم في رضاه إذ جعلكم من خير عباده. وإياكم أن يشتريكم الشيطان وأن يدخلكم الشيطان فيخيل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد وخيولكم الجياد ونجلائكم في مواطن الجلاد، لا واللَّه العظيم ما النصر إلا من عند اللَّه العزيز الحكيم. واحذروا عباد اللَّه بعد أن شرفكم بهذا الفتح الجليل والمنح الجزيل وخصكم بنصره المبين أن تقترفوا كثيرًا من نواهيه وأن تأتوا عظيمًا من معاصيه فتكونوا {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92] أو {الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175] والجهاد هو أفضل عباداتكم وأشرف عاداتكم، انصروا اللَّه ينصركم اذكروا اللَّه يذكركم اشكروا للَّه يشكركم جدوا في حسم الداء وقلع شأفة الأعداء وطهروا بقية الأرض من هذه الأنجاس التي أغضبت

اللَّه ورسوله، واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله فقد نادت الأيام بالتارات الإسلامية والملة المحمدية، اللَّه أكبر فتح اللَّه ونصر وغلب اللَّه وقهر وأخذل من كفر، واعلموا رحمكم اللَّه تعالى أن هذه فرصة فانتهزوها وفريسة فأخرجوا لها هممكم وأبرزوها وسيروا إليها سرايا عزماتكم وجهزوها فالسعادة "بأمايرها" والمكاسب بذخائرها وقد ظفركم اللَّه -تعالى- بهؤلاء الأعداء المخذولين، وهم مثلكم أو يزيدون فكيف وقد أضحى قبالة الواحد منكم عشرون وقد قال اللَّه تعالى {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 65، 66]، أعاننا اللَّه وإياكم على اتباع أوامره والانزجار بزواجره وأيدنا معاشر المسلمين بنصر من عنده {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160]. إنه أشرف مقال يقال لي مقام وأنفذ سهام تمزق عن قسي الكلام وأمضى قول تحلى به الأفهام الواحد الفرد العزيز العلام ثم استعاذ وبسمل وقرأ أول سورة الحشر ثم دعا للخليفة أمير المؤمنين الناصر لدين اللَّه تعالى وللسلطان فقال: اللهم أدم سلطان عبدك الخاضع لهيبتك الشاكر لنعمتك المعترف بموهبتك سيفك القاطع وسهمك اللامع المحامى عن ذنبك الدافع الذاب عن حرمك الممانع السيد الملك الأجل جامع كلمة الإيمان وقامع عبده الصلبان صلاح الدين والدنيا سلطان الإسلام مطهر بيت المقدس من أيدي المشركين بن أيوب محيي دولة أمير المؤمنين. اللهم عم بدولته البسيطة واجعل ملائكتك براياته محيطة وأحسن عن الدين الحنيفي واشكر عن الملة المحمدية حزبه وقضاه. اللهم زين للإسلام مهجته ووف للأنام حوزته وانشر في المشارق والمغارب دعوته. اللهم فكما

فتحت على يديه بيت المقدس بعد أن ظنت الظنون فافتح على يديه داني الأرض وقاصيها وملك صلبان الكفرة ونواقيسها فلا تلقى منهم كنيسة إلا مزقتها ولا جامكة إلا فرثتها ولا طائفة بعد طائفة إلا ألحقتها بمن سبقها، اللهم اشكر عنه سيدنا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- سعيه ذا القدر والقد في المشارق والمغارب، اللهم وأصلح به أوساط البلاد وأطرافها. اللهم. . . الفجار وانشر دوابر ملكه على الأمصار اللهم ثبت فيه وفي عقبته. . . اليأس وشد عضده. . . بقوله {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]، وصلى في المحراب وافتتح بسم اللَّه الرحمن الرحيم وقرأ أم الكتاب وأم بذلك الأمة وتم نزول الرحمة وكمل حصول النعمة، ولما أتت الصلاة انتشر الناس وانتهى الإيناس وانعقد الاجتماع واطرد القياس وجرت حالات وتوالت مسرات، وصلى السلطان في قبة الصخرة والصفوف بها على سعة الصحن متصلة والأمة على اللَّه تعالى بدوام نصر السلطان الملك الناصر مبتهلة والأيدي مرفوعة والدعوات لديه مسموعة، ثم رتب السلطان في المسجد الأقصى خطبًا، استمرت خطبته واستقرت رتبته. قال العماد رحمه اللَّه تعالى: وأما الصخرة فكان الفرنج قد بنوا عليها كنيسة ومذبحًا ولم يبغوا ولم يتركوا للأيدي المتبركة

للعيون المدركة ملمسًا ولا مسطحًا، وقد زينوها بالصور والتماثيل وعينوا بها مواضع الرهبان ومحط الإنجيل، وكملوا بها أسباب التعظيم والتبجيل، وأفردوا بها لموضع القدم قبة صغيرة مذهبة على أعمدة الرخام منتصبة وقالوا محل قدم المسيح وكان فيها صور لأنعام مثبتة والصخرة المقصودة المزورة بما عليها من الأبنية مستورة وتلك الكنيسة المعموة، فأمر السلطان بكشف نقابها ورفع حجابها وحسر لثامها وقسر رخامها وفض بنائها وقض عطابها وإبرازها للزائرين وإظهارها للناظرين ونزع لبوسها وزفاف عروسها وإخراج درها من الصدف واطلاع بدرها من السدف وهدم سجنها وفك رهنها وإبداء وجهها الصبيح وجلاء شرفها الصريح وردها إلى الحالة الحالية والقيمة الغالية والرتبة العالية فعادت كما كانت في الزمن القديم، واستجلى الناظرون وجه حسنها الوسيم وما كان يظهر منها قبل الفتح إلا قطعة من تحتها قداسا أهل الكفر في تحتها فظهرت الآن أحسن ظهور وسفرت أيمن سفور وأشرقت القناديل من فوقها فكانت نورًا على نور وعمل عليها حظيرة من شبابيك حديد والاعتناء من ذلك الوقت، وإلى الآن بحمد اللَّه تعالى في كل يوم يزيد. ورتب السلطان في قبة الصخرة إماما من أحسن القراء تلاوة وأنداهم صوتا وأسماهم في الديانة صيتا وأعرفهم بالقراءات السبع بل العشر وأطيبهم

في الراوية والنشر، وأغناه وأقناه وأولاه ما أولاه ووقف عليه دارًا وأرضًا وبستانًا وأسدى إليه معروفا زائدًا وإحسانًا وحمل إليها وإلى محراب المسجد الأقصى مصاحف وختمات وربعات معظمات لا تزال بين يدي الزائرين على كراسيها مرفوعة وعلى أسرتها موضوعة، ورتب لهذه القبة خاصة وللمسجد عامة قومه هممهم على شمل مصالحها ملتئمة وأمورهم في الحزمة منتظمة في أبهج ليلها. وقد حضرت الجموع وازدهرت الشموع، وبان الخشوع ودان الخضوع وذرفت من عيون المتقين الدموع، واستقرت من العارفين الضلوع فلا ترى في تلك الحضرة المقدسة إلا كل ولي يعبد ربه ويؤمل بره وكل أشعث أغبر لو أقسم على اللَّه لأبره، وكل من يحيي الليل ويقوم ويسمو بالحق ويسود وكل من ختم القرآن ويرتله ويطرد الشيطان ويدحض كيده ويبطله، ومن عرفته لمعرفته الأسحار ومن ألفته لتهجده الأمداد والأفكار وما أسعد نهارها حين استقبل الملائكة زوارها وتجمل القلوب إليها أسوارها وتضع الجناة عندها أوزارها وتستهوي صبيحة كل يوم منها أسفارها وما أطهر من تولى إطهارها وأظهر من باشر إظهارها. وكان الفرنج قد قطعوا من الصخرة قطعًا وحملوا منها إلى القسططنية ونقلوا منها إلى صقلية وقيل باعوها بوزنها ذهبًا، واتخذوا ذلك مكسبًا، ولما ظهرت مواضعها وقطعت القلوب لما بانت معا فهي الآن مبرزة للعيون باقية على الأيام مصونة للإسلام في حذرها وحرزها المصون. ثم أمر السلطان بالشروع في العمران وترخيم محراب الأقصى وأمر أن يبالغ فيه ويستقي، وتنافس فيه ملوك بنى أيوب فيما يورث

من الآثار الحسنة وفيما يجمع لهم ود القلوب وشكر الألسنة فما منهم إلا من أجمل وأحسن وفعل ما أمكن من كل فعل جميل ورفد جميل، وفاوض السلطان جلساءه من العلماء والأبرار والأتقياء الأخيار في بناء مدرسة للفقهاء الشافعية فأشاروا عليه بذلك وكذا رباط للصلحاء الصوفية، وله في ذلك حسن النية فعين للمدرسة الكنيسة المعروفة "بصيد حنا" عند باب الأسباط وعين دار البطرك وهي قرب كنيسة قمامة للرباط، ووقف عليهما وقوفًا كثيرة وأسدى بذلك إلى الطائفتين معروفًا، هممه العالية بها جديرة وارتاد أيضا مدارس الطوائف ليصفها إلى ما أولاه لأهل العلم والخير والدين والصلاح من العوارف، وأمر بإغلاق أبواب كنيسة قمامة وحرم على النصارى زيارتها حتى والإطاحة. وتفاوض الناس عنده فيها، فمنهم من أشار بهدم مبانيها وتصفية آثارها وتعمية منهج مزارها وإزالة تماثيلها وإزاحة أباطيلها وإطفاء قناديلها وإذهاب تقاويلها وإكذاب أقاويلها، وقالوا: إذا هدمت مبانيها وألحقت بأسافلها أعاليها ونبشت المقبرة وعفيت وأخمدت نيرانها وأطفيت ومحيت رسومها ونسيت وحرثت أرضها ودمر طولها وعرضها وانقطعت عنها إمداد الرواد وانحسمت عن قصدها مواد وأطماع أهل النار، ومهما استمرت العمارة واستمرت الزيارة. وقال أكثر الناس: لا فائدة في هدمها ولا هدها ولا داعية لصد الكفرة عن أبواب الزيارة بسدها؛ فإن متعبدهم موضع الصليب والنفير لا ما يشاهد من البناء ولا ينقطع عنها قصد أجناس النصرانية ولو نسفت أرضها في السماء ولما فتح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- القدس في صدر الإسلام أقرهم على هذا المكان، ولم يأمر بهدم البنيان وكان ذلك سببًا في إبقائها وعدم التعرض إلى هدمها، حيث وافق ذلك رأي السلطان، ومن ثم كتبت البشائر بهذا الفتح المبين لأبواب الناصر لدين اللَّه الخليفة أمير المؤمنين، قال العماد رحمه اللَّه: وقال بعض

العلماء: رأيت في بعض المجاميع أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه اللَّه تعالى لما كثرت في البلاد الساحلية فتوحاته وأوجعت في أهل الكفر سهامه وسطواته، كان لا يجاسر على فتح بيت المقدس لكثرة ما فيه من الأبطال والعدد والرجال ونبال وكونه كرسي دين النصرانية وأيدي غلبة الفرنج عليه إذ ذاك مختومة قوية، وكان ببيت المقدس يومئذ شاب مأسور من أهل دمشق فكتب أبياتًا على لسان القدس الشريف وأرسلها إلى السلطان صلاح الدين. يأيها الملك الذي ... لمعالم الصلبان نكس جاءت إليك ظلامة ... تسعى من البيت المقدس كل المساجد طهرت ... وأنا على شرفي منجس فأخذته غيرة الإسلام وكانت الأبيات هي الداعية له على فتح بيت المقدس، ويقال: إن السلطان وجد في الشاب صاحب الأبيات أهلية فولاه الخطابة واستمر به فيها، وتوفي السلطان صلاح الدين في صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة وقد سطرت مثوبة هذا الفتح المبين في صحائف حسناته. وأرجو أن يسكنه اللَّه تعالى في أعلى غرفات جناته، وهذا البيت المقدس من لدن فتحه العزيز في أيدي المسلمين مقصود بالزيارة والتعظيم على مر السنين، وبقاؤه في أيدي أهل الإسلام من الكرامة المستمرة إن شاء اللَّه تعالى إلى يوم القيامة انتهى. وهنا تزيل الفتح أحب المؤلف أمتع اللَّه تعالى بفوائده وأجراه في الطاقة الخفيفة على أجمل عوائده إثباته في هذا الكتاب تبصرة وذكرى

لأولي الالباب المعلقين من أهداب الآذان بأوثق الأسباب وجعله خاتمة لهذا الباب وهو من الإتحاف الذي يحصل به المقصود وتحلو به الفائدة ومن الكلام الذي يحسن السكوت عليه وتتم به الفائدة فقال: "ولما أنقذ اللَّه تعالى بيت المقدس من أيدي النصارى وطهره من أرجاسهم وأدناسهم وتم الفتح وانضم الأمر وانتهى الحال على ما تقدم شرحه، أخذ السلطان صلاح الدين رحمه اللَّه في أسباب إتمام ما أقامه اللَّه تعالى من إعلاء كلمة الدين وابتهاج خواطر الموحدين واستئصال شأفة المعاندين وشرع في بقية سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة في بذل الأموال عودا على بدء وكتب إلى أهل الأقطار وسكان الأمصار يستدعي الأجناد إلى الجهاد ويندبهم إلى إتمام ما هو بصدده من قطح دابر أهل الغي والزيغ والعناد فأجابوه وتواردوا عليه من كل جهة. وفي سنة أربع وثمانين وخمسمائة رحل السلطان صلاح الدين عن القدس وترك المدينة وما ولاها من البلاد الساحلية التي كان قد افتتحها في طريقه حين خرج من الشام عامرة أهلها "بأهلها"، وقصد حصن الأكراد ونزل عليه وبعث العساكر في تخريب ضياع الفرنج وقطح أشجارهم ونهبهم وأعمال النكاية فيهم، ثم سار إلى طرسوس ففتحها عنوة، ثم سار إلى جبلة فأخذها عنوة ثم سار إلى اللاذقية فحاصرها أيامًا ثم افتتحها وأخذ منها غنائم كثيرة، ثم سار إلى أنطاكية فرغب صاحبها وهو البرنس في الهدنة ثم سار إلى صهيون وهي حصينة إلى الغاية فحاصرهم ثم أخذها بالأمان بعد ثلاثة أيام ثم بث عسكره وأولاده وسراياه فأخذوا حصون تلك الناحية مثل بلاطنس وقلعة الجماهير وبكاس والشعر ونزمانة ودربساك وبغراس، ثم سار إلى الشوبك وأخذها بالأمان ثم سار إلى صفد ونازلها، فوصل إليه أخوه الملك العادل أبو بكر بمن معه من عساكر مصر ودام الحصار على صفد إلى ثامن من شوال

أخذت بالأمان، ثم سار إلى حصن كوكبة ونازله وحاصره ثم أخذه بالأمان في نصف ذي القعدة من سنة أربع وثمانين وخمسمائة، فيالها من سنة ما كان أبركها على المسلمين وفي سنة خمس وثمانين حشد الفرنج وجيشوا واستحاشوا وخرجوا من مدينة صور قاصدين عكا "واجتمعت الرهبان" والقسوس وجماعة من المشهورين" ولبسوا السواد وأظهروا الأسف والحزن على بيت المقدس وأخذهم بطرك القدس الذي أخذ السلطان بيته المشرف على كنيسة قمامة وجعله خانقاه للصوفية "يقرأ فيها القرآن العظيم ويجهر فيها الأذان والذكر الحكيم"، ورحل بهم إلى بلاد الإفرنج وجعلوا يطوفون البلاد ويستغيثون ويستنصرون بالملوك والأكابر من أهل الملة المسيحية وصوروا صورة المسيح وقد جرحه وأسال دمه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على وجهه، فعظم ذلك على الفرنج وأخذتهم الحمية حمية الجاهلية وحشدوا حتى انتهى إليهم من الرجال والأموال ما لا يحصى. وذكر بعض من كان معهم أنهم انتهى بهم الطواف إلى رومية "المدائن" الكبرى فخرجنا

منها وقد ملأنا "الشواني" نفره ابن الأثير وخرجوا على الصعب والذلول برا وبحرا وجاءوا من كل فج عميق، وفي زعمهم أنهم يملكون بيت المقدس وينزعونه من أيدي المسلمين ويعيدونه إلى الحالة الأولى التي كان عليها حين كان في أيديهم {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]. ثم إن الفرنج نازلوا عكا في منتصف رجب من السنة المذكورة وأحاطوا بها حتى لم يبق للمسلمين إليها طريق، وجاء السلطان صلاح الدين ومن معه من عسكره الموحدين ووقعت بينهم حروب كثيرة. وفي بعضها حمل تقي الدين

ابن أخي السلطان صلاح الدين على منجعة الفرنج حملة منكرة أزاحهم ومن معهم بها عن مواقفهم. وملك تقي الدين مواقعهم والتصق بعكا "ودخل المسلمون البلد" وأدخل إليهم السلطان صلاح الدين ما أرادوا من الرجال والعدد فلما كان العشرون من شعبان اجتمع الفرنج للمشهورة قالوا: الرأي أن نلقى المسلمين غدًا على حين غفلة لعلنا نظفر بهم قبل أن يأتيهم الإمداد، فإن أكثر عسكر المسلمين كان إذ ذاك غائبًا بعضهم مقابل أنطاكية وبعضهم مقابل صور وعسكر مصر بالإسكندرية ودمياط، وأصبح الفرنج متعينين للقتال وأصبح السلطان على غير أهبة وخرج الفرنج كأنهم الجراد المنتشر قد ملأوا الأرض بالطول والعرض وحملوا حملة رجل واحد فانهزم المسلمون وثبت بعضم واستأسروا جماعة. ثم تراجع بعض المسلمين وحمل بهم السلطان حملة صادقة فقتلوا من الفرنج مقتلة عظيمة وأسروا جملة وكانت عدة القتلى يومئذ عشرة آلاف فأمر بهم السلطان فألقوا في النهر الذي يشرب منه الفرنج، قال العماد الكاتب -رحمه اللَّه تعالى- إن الذين ثبتوا من المسلمين ردوا مائة ألف من الكفار، وكان الواحد يقول قتلت ثلاثين قتلت أربعين وجافت الأرض من نتن القتلى وانحرفت الأمزجة ومرض السلطان صلاح الدين فأشاروا عليه بالانتقال من ذلك الظرف وترك مضايقة الفرنج فرحل إلى "الخروبة" وأخذ الفرنج في محاصرة عكا وكان الذين بها من المسلمين يخرجون إليهم كل يوم ويقاتلونهم إلى نصف شوال، ووصل العادل أبو بكر بالمصريين ومعه من آلات الحصار شيء كثير، فلما دخل صفر من سنة ست وثمانين وخمسمائة وذهب الشتاء وجاءت إلى الإمداد من كل جهة ورحل من الخروبة إلى نحو عكا ودام القتال بين

المسلمين وبين الفرنج ثمانية أيام متتابعة وخرج ملك الألمان وهو نوع من أكثر الفرنج عددًا وأشدهم بأسًا وعددًا. وكان قد أزعجه أخذ بيت المقدس غاية الإزعاج فأظهر الأسف والحزن فجمع العساكر وصار قاصدًا بلاد المسلمين طامعًا في نصر أهل ملته وأخد بيت المقدس ممن هو في يده من المسلمين، وكانوا نحو من مائتى ألف وستين ألفًا فنزل ملكهم يومًا يغتسل في نهر قريب من أنطاكية فغرق في مكان لا يبلغ الماء فيه وسط الرجل وتولى بعده ولده، وأبادتهم يد القدرة الإلهية والعناية الربانية في الطريق فلم يبق منهم إلا نحو ألف رجل وصلوا إلى عكا وغادروا إلى بلادهم فغرقت بهم المراكب ولم ينج منهم أحد، وللَّه الحمد والمنة سبحانه وتعالى لا راد لأمره ولا معقب لحكمه وهو الحكم العدل. واشتد القتال بين الفرنج الذين كانوا في عكا وأتتهم أمداد المشركين في البحر من الجزائر البعيدة حتى ملأوا البر والبحر، وجاءت السلطان أيضًا الأمداد وحرَّم بطركهم عليهم كل مباح وغلق الكنائس ولبس وألبس الحداد. وحكم عليهم أن لا يقربوا النساء، ولا يزالوا كذلك إلى أن يفتح عليهم ويصلوا إلى مقصودهم فلما كان في بعض الأيام خرجوا على حين غفلة فرجع عليهم السلطان وطحنهم طحنًا، ثم خرجوا مرة أخرى وعملوا فيها برجين عظيمين من أخشاب عاتية يشمل كل برج منها على سبع طبقات وعملوا كبشا هائلًا عملوه من خشب وجعلوا في رأسه قناطير من حديد على صفة قرون محدودة لينطحوا بها السور فينهزم فخرج عليهم المسلمون ورموا الأبراج بالأحجار وقدور النفط فاحترقوا. وأما الكبش فإنه ساخ في الرمل لثقله، وعجزوا عن تخليصه وجرت بينهم أمور طويلة مذكورة في كتب التواريخ وتم الحصار على عكا نحو السنتين، وقتل من الفرنج ما يزيد على مائة ألف، وفي سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وقع الصلح بين السلطان صلاح الدين وبين الفرنج مع كراهيته. وفي أواخر السنة

المذكورة مرض السلطان واشتد به المرض فحمل إلى دمشق ثم توفي في صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة ونقل اللَّه روحه الزكية إلى مستقرها من جنات النعيم {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، ودفن -رحمه اللَّه تعالى- في الجانب الشمالي من الجامع الأموي في الرواق الغربي من "الكلاسة"، وقبره الآن ظاهر هناك مقصود بالزيارة، ولما تسامع أهل الآفاق بوفاته كثر فيها وفيما والاها من النواحي النواح والعويل والضجيج وعظم الأسف واشتد القلق وهو واللَّه بذلك حقيق. وخلف من الأولاد سبعة عشر ذكرًا منهم العزيز صاحب مصر والأفضل صاحب دمشق والظاهر صاحب حلب وغيرهم وبنتا واحدة، فأما ولده العزيز فإنه قدم دمشق ومعه "عمه الملك العادل أبو بكر فنازل دمشق وحاصر أخاه الأفضل فحاصر العسكر على الأفضل وفتحوا دمشق"، ودخلها العزيز هو وعمه العادل ثم رجع العزيز إلى مصر وأقام العادل بدمشق واستولى عليها وأخرج منها أولاد أخيه صلاح الدين وأعطى الأفضل صرخد ثم هدم العادل يافا بعد أن أخذها بالسيف

في شوال سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة فنزلت الفرنج بيرون ثم ملكوها بغير كلفة وفي سنة أربع وتسعين جاء الخبر بوفاة طغتكين وهو أخو السلطان صلاح الدين وكان صاحب اليمن وملك بعده ولده إسماعيل فظلم وغشم وأساء السيرة ورام الخلافة ولقب نفسه بالهادي ولم يتم له أمر، وفي سنة خمس وتسعين وخمسمائة مات العزيز فبادر أخوه الأفضل وتوجه على مصر وملك ولد أخيه العزيز وكان الولد صبيًا وكان الأفضل أتابكة ثم أخذ الأفضل جيوش مصر. وأقبل إلى دمشق وحاصرها وبالغ وأحرق الحواضر وفعل كل قبيح ثم دخل البلد ووصل إلى باب البريد فحمل عليه وعلى من معه من أصحاب الملك العادل وكسرهم كسرة شنيعة فرجعوا من حيث جاءوا، وضعف الأفضل وطال الحصار ودخلت سنة ست وتسعين وخمسمائة والأفضل وأخوه الظاهر بعساكرهم ظاهر دمشق قد حفروا عليهم خندقًا من عندهم إلى "بلداو" خوفًا من كبسة عمهم العادل وعظم الغلاء بدمشق ونفدت خزائن العادل "بمصر" على جنده وبدَّل المسلمون

بحرب الفرنج حرب بعضهم بعضًا ثم رحلا وقوي الشتاء وأنجد الكامل والده العادل بأربعمائة ألف دينار فتقوى بها ورجع الأفضل إلى مصر "فأسرع العادل وتبعه فلحقه عند الغرابي. ودخل العادل مصر وقد ملكها الظاهر" فرجع الأفضل إلى صرخد ثم سلطن العادل ولده الكامل بمصر وخطوا له بها ثم رجع الأفضل والظاهر إلى محاصرة دمشق سنة سبع وتسعين وخمسمائة وبها المعظم عيسى بن العادل وزحفوا عليها وبقي الحصار شهرًا ثم وقع الخلاف بين الأخوين المذكورين ورحلا عن دمشق ثم مات الظاهر في سنة ثلاث عشرة وستمائة بالأشهاد ثم مات العادل في سنة خمس عشرة وستمائة في جمادى الآخرة خارج دمشق، "وحمل في محفة" إلى دمشق ودفن بها ثم نقل من القلعة بعد أربع سنين إلى تربته بالعادلية الصغرى ودفن بها. وخلف العادل من الأولاد اثني عشر ذكرا منهم الكامل محمد صاحب مصر والمعظم عيسى صاحب دمشق والأشرف موسى والناصر داود

وغيرهم. ولما ملك المعظم دمشق اقتضى رأيه تخريب قلعة الطور وقلعة بنين وبانياس في أول سنة ست عشرة خوفا من استيلاء الفرنج عليه وصدا لهم عن قصده لتعذر التحصين عليهم فيه أخذا في ذلك بالحزم، وكانت مدينة القدس حين هدم المعظم أسوارها من أحصن المدائن فنزح منها أكثر أهلها وعاد المعظم إلى دمشق. وأما الكامل محمد بعد أن ملك مصر أخذت الفرنج دمياط في شعبان سنة ست عشرة وستمائة وكانوا أهلها قد هلكوا من القحط والوباء فسلموها للفرنج بالأمان، ثم غدرت الفرنج بهم وقتلوا وأسروا وعملوا جامع البلد كنيسة، وكان الكامل إذ ذاك مشغولًا بقتال التتار وكسرهم في وقعة "البركس" فانهزموا ومن انضم إليهم إلى دمياط، وكانت بينه وبينهم وقعات هائلة أنزل اللَّه فيها النصر على المسلمين ومازال الكامل مشغولًا بقتال الفرنج الذين أخذوا دمياط، وبنى مدينة إذ ذاك سماها "المنصورة" عند مفرق البحر الحلو وسكنها بجيشه وتواردت عليه الجيوش والعساكر من كل جهة وعظم الخطب واشتد البلاء، ثم استرد الكامل دمياط من الفرنج سنة ثماني

عشرة وستمائة وذلك أن الفرنج خرجوا يوما في أهبة كاملة ليغيروا على الغربية في زيادة النيل ففتح الكامل عليهم سدا فأحاط بهم الماء من الجهات الأربع بحيث أنهم لا يقدرون على الوصول إلى دمياط. قال ابن الأثير: ولو طول الكامل روحه يومين لأسرهم عن آخرهم بعد أن الكامل بعث إليهم ولده المكمل الصالح نجم الدين أيوب وصالحهم فجاءت ملوكهم إلى خدمته فأنعم عليهم، وكن قد وصل إليه أخواه السلطانان وهما المعظم عيسى والأشرف موسى بجيوشهما وعساكرهما فمد السلطان الكامل حينئذ سماطا عظيمًا حضره ملوك الفرنج، ووقف أخوه عيسى وموسى المشار إليهما في خدمته وكان يومًا مشهودًا حضره الخاص والعام وكان وقع فيه من غرائب الاتفاق غريبة وهي أن الكامل اسمه محمد والمعظم اسمه عيسى والأشرف اسمه موسى فقام راجح الحلي الشاعر وأنشد بين الكامل في تلك الحضرة العظيمة قصيدة عظيمة منها: وبدا لسان الحال في الأرض رافعا ... عفيرته في الخافقين ومنشدا أعباد عيسى إنَّ عيسى وحزبه ... وموسى جميعًا ينصران محمدا وجرت فيما بين سنة تسع عشرة وستمائة وبين سنة خمس وعشرين منها بين الكامل وإخوته وأولادهم ومن تابعهم من أولاد عمه وبين الفرنج والتتار وغيرهم من الخوارج وقائع كثيرة وحروب متعددة ومنزلات ومحاصرات وتنقلات يطول شرحها. ومات المعظم وجاء التقليد بالسلطنة بالشام من الكامل لابن أخيه الناصر داود بن المعظم في صفر من السنة المذكورة ثم قدم الكامل فى آخر العام إلى دمشق وجاءه أسد الدين صاحب حمص، فأغلق الناصر داود دمشق واستنجد بعمه الأشرف موسى فقدم من

"خلاط" فتأخر الكامل وأمسك يده ولم يجد شيئًا وقال: أنا ما أقاتل أخى يعني الأشرف وبلغ الأشرف ذلك فقال للناصر داود: إن أخي قد "حرووا" والمصلحة تقتضي استعطافه ثم سار إليه واجتمع به فصار نجده على الناصر لا له. ثم اتفق الأخوان وهما الكامل والأشرف على ترحيل الناصر من دمشق واستنجد الكامل حينئذ بالفرنج وبالأنبروز ملك الفرنج في جيش كثيف فأعطاه الكامل القدس وهي مخربة الأسوار فشق ذلك على المسلمين، وبقي أهل بيت المقدس مع الفرنج في الدار، ونطق الناقوس وصمت الأذان وعد الناس ذلك وصمة في الدين وتوجهت به الأئمة من الخلافة قاطبة على الكامل، وخرج الناصر داود لتلقي عمه فبلغ اتفاقه هو والكامل عليه فبادر وحض البلد وجاء الأخوان فأحاط به وحاصره شهرًا، وقطعوا بانياس والقنوات ونهبوا البساتين وأحرقوا غالبها وتمت بينهم وقعات وقتل جماعة من الفريقين وأحرقت الحواضر واشتد البلاء. وعظم الخطب شهرا وفي آخر الأيام أبرم الصلح في أول شعبان على أن يعوض الناصر بالكرك فتحول إليها وبقي سلطانها بيده، ودخل الملك قلعة دمشق ثم وجه عسكره لمحاصرة حماة ثم أعطى أخاه الأشرف دمشق بعد شهر وأعطى الأشرف عوضها حران والرها

ورأس العين والرقة ثم سار الكامل إلى هذه البلاد ليتسلمها فخرج صاحب حماة إلى خدمته ثم حاصر الأشرف بعلبك وبها الأمجد في الآخر، وجاء الأمجد إلى دمشق وأقام بداره التي كانت له بها وأعطى الأشرف أخاه الصالح إسماعيل بعلبك في سنة سبع وعشرين وستمائة فتسلمها وأدخل إليها وأما الملك الكامل فإنه حاصر آمد ونصب عليها المجانيق ونازلها في سنة ثلاثين وستمائة ثم أخذها من صاحبها الملك المسعود مودود الأتابكى واستناب الكامل في آمد ولده الصالح نجم الدين أيوب. وفي أول سنة خمس وثلاثين وستمائة مات الملك الأشرف موسى صاحب دمشق وملك أخوه الكامل البلد بعده ثم مات الكامل بالقلعة بعد ستة أشهر من موت أخيه الأشرف، وتسلطن بدمشق بعد الكامل الملك الجواد بن داود بن العادل فأنفق الأموال وبدد وأسرف، وسارع الناصر فأخذه على غرة، وأما مصر فسلطوا بها العادل بن الكامل ثم قايض الجواد بدمشق سنجار وعانه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل فكانت صفقة الجواد فيما قايض فيه صفقة خاسرة ثم تجهز الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل إلى مصر ثم أرسل لطلب عمه الملك الصالح إسماعيل بن بعلبك ثم مضى إلى نابلس وكاتب عمه الأمراء واستمالهم إليه. ثم هجم الصالح عماد الدين إسماعيل على دمشق، وتملكها وتفرقت الأمراء على الصالح نجم الدين أيوب ونزل إليه من الكرك أصحاب ملكها الناصر داود فقبضوا عليه ومضوا به الى الكرك فاعتقله

الناصر صاحب الكرك يسأله في إطلاق أخيه نجم الدين أيوب وبذل له فيه مائة ألف دينار وبعث عمه الصالح إسماعيل صاحب دمشق إلى الناصر أيضًا يطلب نجم الدين أيوب، وبلغ فيه مبلغًا كبيرًا فأبى الناصر أن يرسله إلى الصالح إسماعيل صاحب دمشق ولم يقبل شيئًا مما بذل له فيه، واتفق مع نجم الدين أيوب وقصد به مصر ليملكه إياها ويشاركه في المملكة فحاصرت الأمراء الكاملية على العادل بن الكامل صاحب مصر وكاتبوا أخاه نجم الدين الصالح أيوب وحثوه على سرعة الحضور فوصل وقبض على أخيه العادل. واستولى على الديار المصرية بغير كلفة ولا مشقة ولا تعب وذلك في ذي القعدة وأعرض عن الناصر داود ولم يعبأ به ولم يلتفت إليه فرجع خائبًا إلى الكرك، ولما وصل الناصر داود إلى الكرك همته نفسه إلى استنقاذ بيت المقدس من أيدي الفرنج وتطهيره من أرجاسهم وأدناسهم، وأظهر ما كان كامنًا في نفسه من ناحية الكامل بسبب استغاثته عليه واستنجاده في أمره بالفرنج وإعطائهم بيت المقدس هذا ما كان من أمر الناصر داود صاحب الكرك. وأما ما كان من أمر الفرنج فإنه لما أعطاهم الكامل بيت المقدس وسمح لهم تراجعوا إليه ودخلوه وقاموا به وفيه المسلمون وكل طائفة منهما فيما هم فيه هؤلاء في عبادتهم وصلواتهم وأذكارهم وهؤلاء في كفرهم وشركهم والدار جامعة لهم واحدة، فالمسلمون من أجل ذلك في غاية الحصرة والضر والضنك والتشوش واتفق أن ملك الفرنج حين أعطاه الكامل بيت المقدس وتوجه إليه ليدخله "عارضه في الطريق شخص قيل إنه من نابلس وكان قاضيا بها وبالشام وتقرب إلى ملك الفرنج وتوصل إليه بما أوجب إقباله عليه ولم يزل في صحبته إلى أن دخل معه القدس، فأخذ ذلك القاضي

يدور بالملك وعيَّن معه من خواصه ويزورهم الأماكن الفاضلة والمعاهد المعظمة والمشاهد المحترمة، وجعل يوجه الخطاب إلى الملك بما يرغبه في الإقامة بالقدس "الشريف" واستيطانه وعدم الخروج عنه، ودخل المسجد الأقصى وصعد المنبر ومنع القاضى المذكور المؤذنين من الجهر بالأذان والتسبيح في أوقات السحر في تلك الليلة. ولما أصبح الملك وحضر إليه القاضى فسأله عن المؤذنين وذكر أنه لم يسمع في هذه الليلة في منارات هذا المعبد أذان ولا تسبيح فقال له القاضي: أنا منعهتم من ذلك إجلالًا للملك فكان من جوابه: لا جزاك اللَّه خيرًا ولما صرف الملك الناصر داود صاحب الكرك نفسه عن الشواغل العارضة من جهة المماليك وتضييع الزمان في الاشتغال لما هناك اقتضى رأيه السعيد المبادرة إلى استنقاذ بيت المقدس من أيدي النصارى الطائفة الفاجرة رجاء ثواب الدنيا والآخرة، جمع جمعًا عظيمًا وأعده للهجمة على الفرنج في عقر الدار على حين غفلة منهم وقسم جمعه الذي جمعه وجعله فرقة. وعقد لكل فرقة راية، وأعد لكل طائفة جانبًا في جوانب البلد يتداعون منه عند اللهجة برفع الأصوات بالتكبير، وانتصر الناصر على الكفرة والمشركين أعداء الدين يوم "عيدهم الأكبر" الذي يجتمعون فيه على الكفر وشرب الخمر ورفع الصليب على عاداتهم في أيام أعيادهم. ووصل الناصر من معه ليلة العيد ورتب كل فرقة في مكانها الذي أعده لها. هذا والنصارى في غيهم ولهوهم ولعبهم وكفرهم وشركهم وسكرهم ثم إن المسلمين أشعلوا النيران ورفعوا الأعلام والرايات فكبروا وهجموا قبيل الصبح على النصارى في مواطن كفرهم وشركهم فدهشوا وحاروا حين سمعوا التكبير من كل جانب من جوانب البلد،

ووضع المسلمون فيهم السيف واستمروا يقتلون ويأسرون وينهبون، وجاء ملك الفرنج إلى الناصر وماشاه وجعل يخاطبه في معنى ما وقع من الناصر فجرد سيفه وضرب عنق ملك الفرنج، وضج المسلمون بالتكبير والتهليل وكانت وقعة هائلة وما طلع النهار إلا وقد قويت شوكة المسلمين وانصرفت هممهم إلى تتبع آثار النصارى في كل فج عميق. يالها واللَّه من هجمة أتم اللَّه بها النعمة على الأمة وناداهم منها الإحسان لا يكن أمركم عليكم غمة واعتنى الناصر حينئذ بإقامة الشعائر التي كان عمه السلطان صلاح الدين -رحمه اللَّه- أقام بها، وأمر بكتابة البشائر للممالك بهذا الفتح المبين والنصر العزيز فكتب وعادت الأجوبة عنها، وفي جملتها قصيدة لابن نباتة المصري يمدح فيها الناصر وهي قصيدة طويلة مشتملة على أبيات كثيرة منها: المسجد الأقصى له عادة ... سارت فصارت مثلًا سائرا إذا عاد بالكفر مستوطنًا ... أن يبعث اللَّه له ناصرا فناصر طهره أولا ... وناصر طهره آخرا ثم رجع الناصر بعد لقام هذا الفتح المبين إلى الكرك وقد سطرت هذه المثوبة في صحائف حسناته وتواردت الألسن بالدعاء له وشكر مساعيه المثوبة المحمودة الأثر المقترنة بالنصر والتأييد والظفر على واحد وهذا بيت المقدس مقصود بالزيارة والتعظيم على مر السنين.

الباب العاشر في ذكر من دخل بيت المقدس من الأنبياء الكرام وأعيان الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم أجمعين-، ومن غيرهم ومن توفي منهم ودفن فيه وإجماع الطوائف كلها على تعظيمه ما خلا السامرة

الباب العاشر في ذكر من دخل بيت المقدس من الأنبياء الكرام وأعيان الصحابة والتابعين -رضي اللَّه عنهم أجمعين-، ومن غيرهم ومن توفي منهم ودفن فيه وإجماع الطوائف كلها على تعظيمه ما خلا السامرة قال في مثير الغرام: وعددهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألف بدليل ما رواه أبو ذر -رضي اللَّه عنه- قال: قلت يا رسول اللَّه كم الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا". قلت: كم أرسل من ذلك؟ قال: "ثلاثمائة وثلاثة عشر جَمٌ غفير". قلت: كثير طيب، فمن كان أولهم؟ قال: آدم، قلت نبي مرسل، قال: أربعة سريانيون آدم وشيث وأخنوخ وهو إدريس، وهو أول من خط بالقلم ونوح وأربعة من العرب، هود وشعيب وصالح ونبيك يا أبا ذر. أول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى، وأول الرسل آدم وآخرهم محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وعليهم أجمعين، قلت: يا رسول اللَّه! كم كتاب أنزل اللَّه؟ قال: مائة وأربعة كتب أنزلت على شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ ثلاثين صحيفة.

آدم عليه السلام

وعلى إبراهيم عشر صحائف وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان". ورواه البيهقي عن أبي ذر عن طريق آخر وسنده لا بأس به، وروى صاحب كتاب الأنس بسند إلى هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قال: وأول نبي بعث إدريس ثم نوح ثم إبراهيم ثم لوط ثم هود ثم صالح ثم شعيب ثم موسى وهارون، وعند ذكر إبراهيم الخليل عليه السلام روى بسنده عن عمه الحافظ إلى أبي أيوب بن عتبة قاضي اليمامة قال: بين آدم ونوح عشر آباء فذلك ألف سنة، وبين إبراهيم وموسى سبعة آباء، ولم يسم السنين، وبين موسى وعيسى ألف وخمسمائة سنة، وبين عيسى ومحمد صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين ستمائة سنة، وهي الفترة. قال: وقرأت بخط ابن عمي الحافظ ابن محمد قبيل ذكر الإسراء قال: وبلغنى أن من زمن آدم إلى سبي بابل أربع آلاف سنة وتسعمائة وثماني عشرة سنة، وجميع ما ملك بخت نصر خمس وأربعون سنة، منها تسع عشرة سنة قبل خراب بيت المقدس وسبي بابل، وست وعشرين سنة بعد الخراب. آدم عليه السلام: وروي أنه مات وعمره ألف سنة وقيل: إلا سبعين سنة، وقيل: ثمانمائة سنة ودفن في أبي قبيس فأخرجه نوح عليه السلام زمن الطوفان وحمل تابوته في السفينة، ثم أعاده إلى مكانه وقيل: إلى "بيت المقدس" في مسجد إبراهيم عليه السلام ورجلاه عند الصخرة ورأسه

يعقوب عليه السلام وهو إسرائيل

عند مسجد إبراهيم عليه السلام، وبينهما عشرون ميلًا، وقيل: إن قبر آدم من بيت المقدس إلى مسجد إبراهيم مطوي، ورواه ابن عمر بزيادة فيه. فإذا كان يوم القيامة أقامه اللَّه عز وجل على رجليه، ثم يحشر ذريته إليه، ويقول اللَّه: يا آدم، إليك أحشر ذريتك ولا أحشرك فيمن أحشر لكرامتك علي. نوح عليه السلام: قيل: إن السفينة طافت بالبيت الحرام أسبوعًا، ثم طافت ببيت المقدس أسبوعًا، ثم استقرت على الجودي. إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام: وروى أبو داود في سننه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض أكرمهم مهاجرًا إبراهيم فهو مهاجره". قال أهل التاريخ: لما قدم إبراهيم عليه السلام فلسطين ولم يمت إبراهيم، حتى بعث إسحاق إلى أرض الشام، وبعث يعقوب إلى أرض كنعان، وإسماعيل إلى جرهم، ولوط إلى سدوم، فكانوا أنبياء على عهد إبراهيم عليه السلام. وذهب كعب، وعبيد اللَّه بن عمر، إلى أن قصة الذبيح كانت بالشام على صخرة بيت المقدس كما نقل في التوراة. يعقوب عليه السلام وهو إسرائيل: قال وثيمة: قيل سُمى إسرائيل لأنه أسري به فى سبع سماوات وصح عن اين عباس أنه قال: كان الأنبياء كلهم من بني إسرائيل إلا عشرة: هود، ونوح، وصالح، ولوط، وشعيب، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ومحمد صلى اللَّه عليهم أجمعين، وقيل إنه لما سافر إلى خاله وكان أبوه إسحاق وصى إليه أن لا ينكح امرأة من الكنعانيين وأن ينكح بنات خاله وكان مسكنه القدس فتوجه إليه يعقوب فأدركه الليل في بعض الطريق فبات متوسدًا حجرًا فرأى فيما يرى النائم أن سلما منصوبا إلى باب من أبواب السماء عند رأسه والملائكة تنزل إليه وتعرج، فأوحى اللَّه إليه: "إني إلهك وإله آبائك، إبراهيم، وإسحاق، وقد ورثتك هذه الأرض المقدسة لك ولذريتك من بعدك، وباركت فيك وفيهم، وجعلت لك الكتاب والحكم والنبوة، ثم أنا معك أحفظك حتى أردك إلى هذا

يوسف الصديق عليه السلام

المكان فاجعله بيتًا تعبدني فيه أنت وذريتك". وأقول: وهذا منشأ الخلاف المنقول في باعث النفوس عن صاحب المستقصي في باب بناء بيت المقدس على أساس قديم وأن الأساس القديم الذي كان لبيت المقدس أسسه سام بن نوح ثم بناه داود عليه السلام، وسليمان على ذلك الأساس، وقيل: أول من بناه وأري موضعه يعقوب لما رويناه في هذا الأثر، وليس لبسط القول فيما في ذلك من الخلاف محل هنا فإن الأكثرين على أن أول من أسسه وبناه داود، ثم من بعده ولده سليمان عليهم السلام كما قدمناه في باب مبدأ وضعه واللَّه أعلم. وقال وهب بن منبه لما حضرت يعقوب الوفاة جمع ولده وولد ولده وأوصاهم وعهد إليهم وأوصى يوسف عليه السلام أن يحمل جسده حتى يقبر مع أبويه إبراهيم وإسحاق في الأرض المقدسة فحمله يوسف عليه السلام على عجلة من أرض مصر حتى أورده الأرض المقدسة ووضعه في موضعه الذي أمره به، ثم رجع إلى أرض مصر، وقال: واللَّه إنه مات هو وأخوه عيصو في يوم واحد، وكان عمر يعقوب وعيصو مائة سنة وسبع وأربعين سنة. يوسف الصديق عليه السلام: روى أبو عبيد اللَّه الهروي بسنده إلى معمر قتادة في قوله تعالى: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} [يوسف: 10] بئر بيت المقدس في بعض نواحيها. قال أبو عبد اللَّه القضاعي: كانت النبوة والملك متصلين بالشام ونواحيها لولد إسرائيل بن إسحاق إلى أن زال عنهم بالقرس والروم بعد يحيى بن زكريا وعيسى عليهما السلام. موسى بن عمران عليه السلام: قال جماعة من العلماء: هو موسى بن عمران بن يصهر بن فاهت بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن عليهم الصلاة والسلام وقد ذكره اللَّه تعالى في القرآن في مواضع كثيرة متعددة ولم يذكر نبي باسمه في القرآن كما ذكر هو -صلى اللَّه عليه وسلم- قال اللَّه تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ

رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 51 - 53] وقال تعالى: {قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48] وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] وروى أبو هريرة -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن موسى عليه السلام كان رجلًا حسيبًا مستترًا لا يرى من جلده شيئًا من شدة استحيائه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده إما برص وإما إدرة وإما آفة، وأن اللَّه أراد أن يبرئه مما قالوا فخلا يومًا وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وأن الحجر غدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ بني إسرائيل فرأوه عريانًا أحسن ما خلق اللَّه وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر وأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فواللَّه إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا فذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} [الأحزاب: 69] وبعثه اللَّه إلى فرعون ولم يكن من الفراعنة أعتى منه ولا أقسى قلبا ولا أطول منه عمرا في الملك ولا أسوأ ملكا لبني إسرائيل فكان يعذبهم ويستعبدهم وجعلهم له خدمًا وخولا وعاش فيهم أربعمائة سنة فبعث اللَّه تعالى إليه موسى عليه السلام وكان من أمره معه ما قصه اللَّه تعالى في كتابه العزيز في غير موضع مبسوطًا،

وقد تقدم أن الصخرة كانت قبلته كذا ذكره في مثير الغرام ولعله يريد قول كعب لعمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-: اجعل القبلة خلف الصخرة فتجتمع قبلة موسى وقبلة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-. وما رواه الزهري أنه لم يبعث اللَّه نبيًا منذ هبط آدم عليه السلام إلى الأرض إلا جعل قبلته صخرة بيت المقدس، ومر به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر، وفي لفظ في الصحيحين أن موسى عليه السلام سأل اللَّه عز وجل أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر أي مقدار فهو منصور عليه ظرف مكان، وإنما سأل موسى -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك متبركًا بالكون في تلك البقعة المقدسة وليدفن مع من فيها من الأنبياء والأولياء، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فلو كنت لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر" المراد بهذه الطريقة التي سلكها -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلة أسري به من مكة المشرفة إلى بيت المقدس، كما أشار إليه -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "مررت على موسى ليلة أسري بي وهو قائم يصلى في قبره عند الكثيب الأحمر" وقد اشتهر أن قبره قريبًا من أريحا وهي من الأرض المقدسة وهو ظاهر يزار، ويقال: إنه قبر موسى وعنده كثيب أحمر وطريق وعلى هذا القبر الشريف الآن قبة مبنية بناها الملك الظاهر بيبرس رحمه اللَّه تعالى بعد سنة ستين وستمائة وقد رأى الشيخ عبد اللَّه الأموي القبة على هذه الصفة قبل بنائها بأكثر من عشرين سنة، وحديث الشيخ عبد اللَّه أنه زار هذا القبر، وأنه نام فرأى في منامه قبة في هذا الموضع ورأى فيها شخصًا أسمر فسلم عليه وقال: أنت موسى كليم اللَّه أو قال: نبي اللَّه قال: نعم، فقلت: قل لي شيئًا فأومأ إلي بأربع أصابع، ووصف طولهن، فانتبهت ولم أدر ما قال: فجئت إلى الشيخ ديال فأخبرته بذلك فقال يولد لك أربعة أولاد وكنت قد تزوجت فولد لي أربعة أولاد فكانت وفاة هذا الرائى سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وذكر الثعلبي وغيره أن عمر موسى -صلى اللَّه عليه وسلم- كان لما قبضه اللَّه تعالى إليه، مائة وعشرين سنة. ولذلك قال وهب بن منبه، لما قبض هارون عليه السلام كان لموسى -صلى اللَّه عليه وسلم- مائة وعشرين سنة وسبع عشرة سنة وعاش موسى عليه السلام بعد

يوشع بن نون عليه السلام

هارون عليه السلام ثلاث سنين رواه الحاكم في المستدرك عن وهب بن منبه وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه من هذا الكتاب إن شاء اللَّه تعالى. يوشع بن نون عليه السلام: وروى أحمد بن حنبل -رحمه اللَّه تعالى- في مسنده عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لم تحبس الشمس على بشر إلا ليوشع ليال سار إلى بيت المقدس" وصحح الحاكم في المستدرك أن يوشع بن نون هو الذي دعا لحبس الشمس عليه فحبسها اللَّه عز وجل، قال القضاعي: بعث اللَّه يوشع بن نون بعد موسى، وأمره بالمسير إلى أريحا لحرب من فيها من الجبارين فسار إليهم مع بنى إسرائيل، فقاتلهم يوم الجمعة حتى أمسوا، ودخل السبت فدعا اللَّه تعالى ليرد عليه الشمس، وزيد في النهار يومئذ نصف ساعة، فهزم الجبارين واقتحم عليهم الباب وقتلهم وكان من أمرهم كما ذكره علماء السير والأخبار فيما نقوله عن شيوخهم. داود عليه السلام: كان بيت المقدس دار ملكه وقد تقدم أنه شرع في بنائه فمات، ولم يتمه، وكان له فيه من الأعمال الصالحة، والمواعظ النافعة عند قراءة الزبور، ما هو مشهور في الكتب المطولات، وروى "ابن أبي الدنيا" بسنده إلى يزيد الرقاشي قال: بلغنى أنه كان في بني إسرائيل زمن داود عليه السلام أربعمائة جارية عذراء، وكن يجئن إلى داود عليه السلام يوم نوحه فيقمن حتى يسمعن الصوت، ولا يرين الشخص، فإن أحسن الأصوات ما سمع من وراء حجاب، قال: ويرفع صوته بقراءة الزبور والنياحة على نفسه فما برحن حتى متن عن آخرهن ويقال: إن قبره بكنيسة صهيون لأنها كانت داره، وفي كنيسة صهيون موضع يعظمه النصارى ويذكرون أن قبر داود فيه. قال المشرف: "سمعت جماعة يقولون ذلك لا يختلفون فيه" وذكر "أبو عبد اللَّه محمد بن أحمد بن البنا" في "كتاب البديع" أن "قبر داود عليه السلام في كنيسة صهيون " وكذا "ذكر صاحب كتاب الأنس" بسنده

سليمان بن داود عليهما السلام

إلى أبي الدرداء -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دعا داود عليه السلام: رب أسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يبلغني حبك، رب اجعل حبك أحب إليَّ من نفسي، ومن أهلي ومن مالي، ومن الماء البارد" قال: فكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إذا ذكر داود عليه السلام وحدث عنه قال: وكان أعبد البشر، وعن أبي المنهال عن عبد اللَّه بن الحارث قال: أوحى اللَّه تعالى إلى داود عليه السلام أن اذكرني وأحبنى وأحب أحبائي وحببني إلى عبادي قال: يا رب كيف أحببك إلى عبادك، قال: اذكرني عندهم فإنهم لا يذكرون منى إلا الحسن" وعن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- قال: "أوحى اللَّه تعالى إلى داود عليه السلام أن قل للظلمة لا يذكروني فإنه حق عليّ أن أذكر من يذكرني وإن ذكري إياهم أن ألعنهم فأقول ألا لعنة اللَّه على الظالمين". سليمان بن داود عليهما السلام: تقدم أنه لما فرغ من بناء المسجد سأل اللَّه تعالى خلالًا ثلاثًا وهو صحيح خرج في السنن، قيل: إنه دعا على الصخور التي في مؤخر المسجد مما يلى باب الأسباط قاله المشرف في كتابه، وعن ابن رجاء بن حيوة عن أبيه قال: قدم كعب إيليا من الموات فرشًا حبرًا من أحبار اليهود ببضعة عشر دينارًا ليدله على الصخرة التي قام عليها سليمان يوم فرغ من بناء المسجد وهو مما يلي باب الأسباط، وروى شهاب بن حرسى وهو ثقة مشهور، عن بكر بن حبيش قال: كان سليمان عليه السلام إذا دخل بيت

شعيبا عليه السلام

المقدس وهو ملك الأرض يقلب بصره إلى أن يجلس، وكان يرى المساكين والحرس والمجزومين فيدع الناس، وينطلق يجلس معهم تواضعًا ولا يرفع طرفه إلى السماء ثم يقول مسكين مع المساكين، وقال النووي رحمه اللَّه تعالى: قال أهل التواريخ: كان عمر سليمان عليه السلام ثلاثًا وخمسين سنة وهو ابن ثلاث عشرة سنة وابتدأ ببناء بيت المقدس بعد ابتداء ملكه بأربع سنين، واللَّه أعلم. شعيبا عليه السلام: وهو الذي بشر بعيسى عليه السلام، ومحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ولما قتله بنو إسرائيل سلط اللَّه عليهم عدوهم فشردهم وأفناهم، وأقام الشام خرابًا ليس فيه غير السامرة سبعين سنة، والملك لأهل بابل. أرميا عليه السلام: لما أحدث بنو إسرائيل البدع ورغبوا عن دينهم ورغب بعضهم عن بيت المقدس وصارعوه "لمسجد صراط فنزل بهم المسجد" غزاهم بخت نصر "فتابوا إلى اللَّه فرده عنهم ثم أحدثوا بعد ذلك أحداثًا كثيرة فبعث اللَّه تعالى إلى أرمي عليه السلام ليخبرهم بغضب اللَّه تعالى عليهم فضربوه وقيدوه فبعث اللَّه بخت نصر، فقتل منهم وحرق وسبى الذراري وخرب بيت المقدس وخرج أرميا إلى مصر، فأقام بها ثم أمره اللَّه تعالى بالعود إلى إيليا، فلما أشرف على خراب بيت المقدس قال أنى يحيي هذه اللَّه بعد موتها فأماته اللَّه مائة عام ثم أحياه بعد أن عمر بيت المقدس يقال: أنه قام خرابًا سبعين سنة، وقيل: أن الذي مر على قرية

زكريا عليه السلام

هو عزير قاله قتادة ولم يكن نبيًا، وكان ممن سباهم بخت نصر، فلما عاد عزير إلى بيت المقدس أقام لبني إسرائيل التوراة من حفظه بعد أن حرقت وكان من علمائهم، وقالوا في آخر أيام عزير: زال ملك الفرس عن الشام وصار لليونانين من ولد يونان. زكريا عليه السلام: قال تزوج زكريا عليه السلام بامرأة، وتزوج عمران بأختها وهي أم مريم عليها السلام، فلما ولدت مريم عليه السلام وكان قد مات أبوها، كفلها زكريا، فلما كبر زكريا رزقه اللَّه تعالى من زوجته ولده يحيى عليه السلام وكانت عاقرًا ولم يرزق ولدًا غيره وولدت مريم عيسى عليه السلام بعد ولادة يحيى بثلاث سنين، وقيل ستة أشهر فاتهم بنو إسرائيل زكريا بمريم فهرب منهم ودخل في جوف شجرة فقطعوها بالمنشار. وقال ابن إسحاق: ذكر لي بعض أهل العلم أن زكريا مات موتًا، وروى صاحب كتاب الأنس بسنده إلى وهب، أن زكريا هرب ودخل جوف شجرة فوضع على الشجرة المنشار فقطع نصفين فلما وقع المنشار على ظهره أنَّ فأوحى اللَّه إليه إما أن تكف عن أنينك وإما أن أقلب الأرض ومن عليها فسكت حتى قطع نصفين يحيى بن زكريا عليهما السلام. وقيل: هو ابن خالة مريم بنت عمران، وقيل ابن أختها ويعضده الحديث في عيسى ويحيى وهم ابنا الخالة قال اللَّه تعالى في حقه: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39] قال قتادة: لا يأتي النساء مع القدرة وهو قول ابن عباس وابن مسعود. قال سعيد بن المسيب والضحاك: إنه العنين وقال في كتاب الأنس: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 39] يعنى بعيسى، ويحيى أول مصدق بعيسى وهو ابن ثلاث سنين وبينهما ثلاث سنين وهما ابنا خالة، وفي مستدرك الحاكم من حديث عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنه- قال: سمعت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "كل ابن آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا يحيى بن زكريا ثم أخذ الرسول من الأرض عودًا صغيرًا فقال وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود ولذلك سماه سيدًا وحصورًا". وقال على شرط مسلم ويقال أنه صنيع

عيسى بنهر الأردن. ويقال أن عيسى بعث يحيى في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس. ويقال أن ملكًا من ملوك بني إسرائيل شاور يحيى في تزويج امرأة فقال إنها بغي فاحتالت المرأة عليه حتى قتله الملك، وبقي دمه يغلي وكان ذلك قبل رفع عيسى ولما رفع غزاهم ملك من ملوك بابل وظهر عليهم بذلك ورأى دم يحيى يغلي فقتل عليه خلقًا من الناس وخرب بيت المقدس، وقيل أنه أفتى في امرأة أب لا تحل لابن زوجها فضربت رقبته لذلك وكان رأسه بعد أن انقطع يقول لا تحل لها ولا تحل لك، وزعم قوم أن بخت نصر هو الذي غزاهم وقتلهم على دم يحيى بن زكريا، وليس بصحيح لأن بخت نصر خرب بيت المقدس قبل ولادة يحيى بنحو أربعمائة سنة وروى صاحب كتاب الأنس بسنده إلى عبد اللَّه بن مسلم، عن مرة قال: "ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي عليهما السلام وحمرتها بكاؤها، وسنده إلى ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال أوحى اللَّه -عز وجل- إلى محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- أني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفًا، وإنِّي قاتل بابن بنتك سبعين ألفًا وبسنده إلى عبد اللَّه بن عمر، قال: دخل يحيى بن زكريا بيت المقدس وهو ابن ثماني حجج، ونظر إلى أهل بيت المقدس قد لبسوا مدارع الشعر، وبرنس الصوف، ونظر إلى مجتهديهم، فذكر الراوي من حالهم ثم قال فأتى أبويه فسألهما أن تدرعاه الشعر ففعلا ثم رجع إلى بيت المقدس فكان يخدم فيها نهارًا ويسبح ويصلي ليلًا حتى أتت عليه خمس وعشرون سنة فذكر سياحته وجلوسه على بحيرة الأردن وقد نقع قدميه في الماء من العطش وقد كاد أن يذبحه، وفيه أنه قال للَّه تعالى: "وعزتك لا أذوق (*) بارد الشراب حتى أعلم أين مصيري إلى الجنة أم إلى النار فبكى أبواه وسألاه أن يأكل قرصًا من شعير كان معهما ويشرب من ذلك الماء"

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: بالمطبوع (أذق)

عيسى -عليه السلام-

[فرق لهما وفعل، فكفر عن يمينه، قال اللَّه تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم: 14]] (*) فرده أبواه إلى بيت المقدس فكان إذا كان في صلاته بكى فيبكي زكريا لبكائه حتى يغمى عليه وتبكي أهل المنازل، ومن كان من العباد حولهما لبكائهما فلم يزل كذلك حتى خرقت دموعه خديه فاتخذت أمه قطعتين من لبد وألصقتهما إلى خديه تستنقع دموعه إذا بكى في القطعتين فتقوم أمه فتعصرهما فكان يحيى إذا نظر إلى دموعه تجري على ذراعي أمه قال: "اللهم هذه دموعي وهذه أمي وأنا عبدك وأنت أرحم الراحمين" أورده المشرف بسنده فيه إلى ابن لهيعة والرازي عن الغافقي. عيسى -عليه السلام-: جاء في حديث المعراج أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى تلك الليلة حيث ولد عيسى، وهو حديث قوي، وكان عبد اللَّه بن عمرو بن العاص يبعث بزيت يسرج في بيت لحم حيث ولد عيسى -عليه السلام-، وعن هلال بن دنيا قال: دخل عيسى ابن مريم بيت المقدس وبنو إسرائيل يتبايعون فيه فجعل ثوبه مخرقًا وجعل يضربهم به ويفرقهم ويقول: يا بني أولاد الحيوة والأفاعي اتخذتم مساجد اللَّه أسواقًا. وقيل: لما تم لعيسى ثمانية أيام من يوم ولد ختن على سنة موسى -عليه السلام- وسموه اليشوع، وهربت به أمه إلى مصر، فأقام بها اثنتي عشرة سنة، ثم رجعت به إلى الشام فلما بلغ ثلاثين سنة جاءه الوحي. قال القضاعي ويقال: إنه رفع ليلة القدر من جبل بيت المقدس قال وهب: وتوفى اللَّه عيسى -عليه السلام- ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه اللَّه تعالى إليه قال: وكانت بيت المقدس حين رفع عيسى للروم، فلما بلغ ملك الروم ما فعل به، وجه فأنزل المصلوب وأخذ جثته أو قال خشبته فأكرمهما، وقتل من بنى إسرائيل قتلًا كثيرًا وأجلاهم من فلسطين ومن هناك كان أصل النصرانية في الروم، واسم هذا الملك قسطنطين وهو الذي بنى قسطنطنية. وروى صاحب كتاب الأنس بسنده إلى معروف الكرخي، قال: اجتمع اليهود على قتل عيسى ابن مريم عليهما السلام فأهبط اللَّه عليه جبريل -عليه السلام- في باطن جناحه مكتوب: (اللهم إني أعوذ بك الأحد الأعز وأدعوك اللهم باسمك الأحد

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين زيادة ليست بالمطبوع

الصمد، وأدعوك اللهم باسمك العظيم الوتر وأدعوك اللهم باسمك الكبير المتعال الذي ملك الأكوان كلها أن تكشف عني ضرر ما أمسيت وأصبحت فيه فأوحى اللَّه جبريل أن ارفع عبدي إلي) وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لأصحابه: عليكم بهذا الدعاء ولا تستبطئوا الإجابة فإن ما عند اللَّه خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، ومن مواعظه -عليه السلام- حديث معاوية أن أبا فروة حدثه أن عيسى -عليه السلام- كان يقول لا تمنع العلم من أهله فتأثم ولا تنشره عند غير أهله فتجهل، وكن طبيبًا رفيقًا يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع. وعن دريد عن أبي محمد قال: قال عيسى ابن مريم: من سره أن يكون مؤمنًا حقًا فلا يجمعن لغده فإنه من جمع شيئًا بالأمل حال دونه الأجل ويحاسب بالفضل ويأكل كده غيره هنيئًا. وعن محمد ابن الحنفية قال: قال عيسى -عليه السلام-: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللَّه تعالى فتقسوا قلوبكم، وإن كانت لينة فإن القلب القاسي بعيد من اللَّه تعالى ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كهيئة الأرباب، وانظروا في ذنوب أنفسكم كهيئة العبيد فإنما الناس مبتلى ومعافى فاحمدوه على العافية وارحموا المبتلى) وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال عيسى -عليه السلام- لأصحابه: (اتخذوا المساجد مساكن والبيوت منازل وكلوا من بقل البرية وانجوا من الدنيا بسلام) قال شريك: فذكرت

الخضر -عليه السلام-

ذلك للأعمش فقال: واشربوا الماء الصراح، وعن ميمون بن سنا قال: كان عيسى ابن مريم -عليه السلام- يقول: (يا بنى إسرائيل اتخذوا مساجد اللَّه بيوتًا، واتخذوا بيوتكم منازل للضيفان مالكم في العالم من منازل إن أنتم إلا عابري سبيل) وعن عمارة بن غرية قال: كان عيسى -عليه السلام- يقول لأصحابه (الحق أقول لكم حب الدنيا رأس كل خطيئة وبالنظر تزرع الشهوة في القلب وكفى بها خطيئة) وعن مجاهد قال: قالت مريم عليها السلام: (إذا خلوت حدثني عيسى -عليه السلام- وحدثته، وإذا كان عندي إنسان سمعت تسبيحه في بطني). الخضر -عليه السلام-: ذهب جماعة من العلماء رضي اللَّه عنهم إلى أنه نبي وهو اختيار الإمام القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-، وذهب آخرون إلى أنه ولي ومذهب الأكثرين أنه حي وهو المختار عند محققي شيوخنا وللعلماء -رحمهم اللَّه تعالى- مصنفات فيما يتعلق بأحواله وقد تقدم ذكره وإن مسكنه بيت المقدس فيما بين باب الرحمة، وباب الأسباط. مريم الصديقة عليها السلام: تقدم أن قبرها في الكنيسة المعروفة بالجمسانية وموضع متعبدها بمسجد بيت المقدس وهو الموضع الذي يعرف بمهد عيسى وزكريا، قال المشرف في معنى تلك الموضوع وهو قوله، ثم يمضي الزائر إلى محراب مريم وموضع متعبدها وهو يعرف بمهد عيسى ويجتهد في الدعاء فإن الدعاء فيه مستجاب ويصلي فيه ويقرأ سورة مريم لما فيها من ذكرها ويسجد فيها كما فعل عمر -رضي اللَّه عنه- في محراب داود -عليه السلام-. المهدي الذي يكون في آخر الزمان: قال في مثير الغرام روينا عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-: (قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه

وسلم-: ينزل بأمتى في آخر الزمان، بلاء شديد من سلطانهم لم يسمع الناس ببلاء أشد منه حتى تضيق عليهم الأرض الرحبة وحتى يملأ الأرض جورًا وظلمًا، ثم إن اللَّه يبعث رجلًا يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا يرضي ساكن السماء وساكن الأرض لا تدخر الأرض من بذرها شيئًا إلا أخرجته ولا السماء من قطرها شيئًا إلا صبه اللَّه عليهم مدرارًا يعيش فيهم سبع سنين أو ثماني سنين أو تسعًا يتمنى الأحياء الأموات بما صنع اللَّه بأهل الأرض من الخير). روى الطبراني بسنده إلى أبي سعيد قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: (يخرج رجل من أمتى يقول بسنتي ينزل اللَّه له القطر من السماء فتخرج له الأرض من نباتها أو قال من بركتها تملأ الأرض منه قسطًا وعدلًا كما ملئت جورًا وظلمًا، يعمل على هذه الأمة سبع سنين وينزل ببيت المقدس)، وروى نعيم بن حماد، قال: حدثنا عبد اللَّه بن مروان عن الهيثم بن عبد الرحمن عمن حدثه عن علي -رضي اللَّه عنه- قال: المهدي يولد بالمدينة من أهل بيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- اسمه اسم نبي ومهاجره بيت المقدس، قال: حدثنا الوليد بن مسلم عن أبي عبد اللَّه بن أبي أمية عن محمد ابن الحنفية تخرج راية سوادء لبني العباس وتخرج من خراسان أخرى سوداء وثيابهم بيض على مقدمتهم رجل يقال له شعيب بن صالح مولى بنى تميم يهزمون أصحاب السفياني حتى ينزل بيت المقدس يوطئ للمهدي سلطانه ويفد إليه من الشام ويكون بين خروجه وبين أن يسلم إليه الأمر ثلاثة وسبعون شهرًا. وقيل يخرج شعيب بن صالح مولى بني تميم مختفيًا إلى بيت المقدس يوطئ للمهدي منزله إذا بلغه خروجه إلى الشام، قال: فإذا سمع العامل الذي بمكة الخسف خرج مع اثنى عشر ألفًا فيهم الأبدال

عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-

حتى ينزلوا إيليا بيت المقدس" عن سليمان بن عيسى قال: بلغني أن على يدي المهدي يظهر تابوت السكينة من بحيرة طبرية فيحمل فيوضع بين يديه في بيت المقدس فإذا نظرت اليهود وأسلمت إلا قليلًا منهم ثم يموت المهدي. وعن أبان بن صاع عن الحسن عن أنس -رضي اللَّه عنه- عن النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا يزداد الأمر إلا شدة ولا الناس إلا شحًا ولا الدنيا إلا إدبارًا ولا تقوم الساعة إلا على أشرار الخلق ولا مهدي إلا عيسى ابن مريم" أخرجه ابن ماجه في سننه عن يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي -رضي اللَّه عنه- وحديثه رواه جدا لا يعارض بما تقدم فإنه ثابت قوي ولا يزال في بيت المقدس يعمل بعمل آل داود، وعن أبي السائب قال: سمعت أبي يذكر أن رجلًا انتقل إلى بيت المقدس فقيل ما نقلك إليها قال: بلغني أنه لا يزال في بيت المقدس رجل يعمل بعمل داود. ومن دخل بيت المقدس من أعيان الصحابة رضي اللَّه عنهم أجمعين. عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- فإنه قدم الشام أربع مرات، قال الحافظ أبو محمد القاسم: مرتين سنة ست عشرة ومرتين في سنة سبع عشرة ولم يدخلها في الأولى من الأخيرتين ودخل حال الصلح كما تقدم. وأبو عبيدة ابن الجراح -رضي اللَّه عنه- انطلق يريد الصلاة ببيت المقدس فأدركه أجله بفحل فتوفي بها وقال ادفنوني غربي نهر الأردن إلى الأرض المقدسة وقيل: قال ادفنوني حيث قبضت فإني أتخوف أن تكون سنة مات سنة ثماني عشرة في طاعون عمواس وهي من الرملة على أربعة أميال مما يلي بيت المقدس أقول مقام أبي عبيدة بن الجراح

وسعد بن أبي الزهري من بني زهرة -رضي الله عنه-

-رضي اللَّه عنه- وموضع قبره ظاهرة مقصودة بالزيارة في قرية يقال لها عمثا تحت جبل عجلون بين فقارس، والعادلية بزاوية دير علا من الغور الغربي وقد زرته مرارًا وتقدم أنه دخل بيت المقدس أميرًا على الجيش الذي جهزه عمر أنه كتب إلى عمر واستدعاه للصلح فحضر وفتح بيت المقدس صلحًا ومات أبو عبيدة -رضي اللَّه عنه- وهو ابن ثمان وخمسين سنة في خلافة عمر -رضي اللَّه عنه- ذكره الحافظ أبو محمد القاسم. وسعد بن أبي الزهري من بني زهرة -رضي اللَّه عنه- أحد العشرة عند قدومه بيت المقدس وأحرم عنها بعمرة. وروى الحافظ أبو القاسم بسنده إلى سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- أنه قال: ما بكيت من الدهر إلا على ثلاثة أيام: يوم قبض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويوم قتل عثمان بن عفان، واليوم أبكي على الحق فعلى الحق السلام، ومات رحمه اللَّه تعالى بمكة المشرفة. أبو الدرداء عويمر -رضي اللَّه عنه-، وسعيد بن أبي زيد بن عمر بن نفيل قدم بيت المقدس زمن الفتوح وتوفي بالعقيق، ابن بضع وسبعين سنة وحمل على رقاب الرجال إلى المدينة وشهده سعد بن أبي وقاص، وابن عمر وأصحاب رسول اللَّه

وعبد الله بن عمر

-صلى اللَّه عليه وسلم- وذكر أهل الكوفة أنه مات عندهم بالكوفة في خلافة معاوية وصلى عليه المغيرة، وهو يومئذٍ والي الكوفة لمعاوية. وعبد اللَّه بن عمر قدم بيت المقدس وأهل منه بعمرة قال: وكان قدومه بعد صلاة الصبح فجلس في المسجد حتى إذا طلعت الشمس قام فصلى ركعات هو ومن معه، ثم قعدوا على رواحلهم ولم يأتوا الصخرة ولم ينتظروا صلاة الجماعة وأحرم ابن عمر عام الحكمين من بيت المقدس، وفي موطأ مالك عن الثقة عنده أن عبد اللَّه بن عمر أهل من إيليا. وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص السهيمي وأبوه وأخوه عبيد اللَّه شهدوا أجنادين وقدموا على معاوية فبايعه عمرو على طلب دم عثمان بن عفان وكتبا بينهما كتابا فيه بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما تعاهد عليه معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ببيت المقدس بعد قتل عثمان وحمل كل منهما صاحبه الأمانة أن بيننا عهد اللَّه على التناحر والتخالص والتناصح في أمر الإسلام ولا يخدر أحدنا صاحبه بشيء ولا يتخذ من دونه وليجة ولا يجول بيننا ولد ولا والد ما حيينا فيما استطعنا. قال ابن أبي جميلة عن طرف رأيت عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قدم إلى بيت لحم فصلى وأمر بزيت لإينارها. ومعاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه- روى إبراهيم بن أبي عبلة، عن رجاء بن حيوة عن عبد الرحمن بن تميم الأشعري أن معاذًا أتى بيت المقدس فأقام بها ثلاثة أيام بلياليها يصوم ويصلي فلما خرج منها وكان على الشرف التفت إليها، ثم أقبل على أصحابه فقال: أما ما مضى من

وأبو ذر الغفاري -رضي الله عنه-

ذنوبكم قد غفر لكم فانظروا ما أنتم صانعون فيما بقى من أعماركم رواه الحافظ أبو محمد القاسم بسنده إلى إبراهيم بن أبي عبلة فقد تقدم ذكره، ثم روى الحافظ أيضًا بسنده إلى عثمان بن عطاء عن أبيه، أنه قال: قبر معاذ بن جبل بقصر خالد من عمل دمشق، أقول قبر معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه- ظاهر مقصود بالزيارة بالقصيرة الذي من الغور وقد زرته مرارًا وأنزلت به أمورًا مهمة وتوسلت إلى اللَّه به فيها، فرأيت أثر الإجابة ببركته وبركة صاحبه -رضي اللَّه عنه- قال صاحب كتاب الأنس بسنده إلى سعيد بن المسيب قال: مات معاذ بن جبل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وأبو ذر الغفاري -رضي اللَّه عنه-: وابن جندب بن جنادة، روى الإمام أحمد في مسنده عن الأحنف بن قيس قال: دخلت بيت المقدس فرأيت فيه رجلًا يكثر الركوع والسجود فوجدت فى نفسي من ذلك شيئًا فلما انصرف قلت أتدري على شفع أنصرف أم على وتر؟ فقال: أما أنا لا أدري فقلت: ومن يدري؟ فقال: أخبرني حبيبي أبو القاسم -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم بكى "ما من عبد سجد للَّه سجدة إلا رفعه اللَّه بها درجة وحط عنه بها خطيئة وكتب له بها حسنة" قال: قلت: أخبرني من أنت رحمك اللَّه؟ فقال: أنا أبو ذر صاحب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتقاصرت إلى نفسي، وروى غيلان عن مطرف قال: دخلت مسجد بيت المقدس فذكر بنحوه قال: وسكن أبو ذر بيت المقدس، ثم ارتحل إلى المدينة، وتوفي بالربذة آخر خلافة عثمان رضي اللَّه عنهما. وسلمان الفارسي -رضي اللَّه عنه- دخل بيت المقدس يبتغي العلم من الراهب الذي كان به وقصته مشهورة مذكورة في مثير الغرام وفيها: أنه خرج في طلب شخص قال فلقيني ركب من كلب فأناخ رجل منهم بعيره وحملنى خلفه ثم أتوا

بي بلادهم فباعوني إلى امرأة من الأنصار فجعلتني في حائط لها وقدم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأخذت شيئًا من تمر حائطي وأتيته فوجدت عنده ناسًا وأقربهم إليه أبو بكر فوضعت التمر بين يديه فقال: ما هذا؟ قلت: صدقة فقال لأصحابه: كلوا ولم يأكل ولبثت ما شاء اللَّه ثم أخذت مثل ذلك وأتيته به فوجدت عنده ناسا فقال: ما هذا؟ قلت: هدية فقال: باسم اللَّه وأكل القوم، قال: رددت من خلفه ففطن بي فأرخى ثوبه فإذا خاتم النبوة في ناحية كتفه الأيسر فتبينته فرجعت، فجلست بين يديه، وقلت: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك رسول اللَّه فقال: من أنت؟ قلت: مملوك، وحدثته حديثي، فقال: لي لمن أنت؟ قلت: لامرأة من الأنصار جعلتني في حائط لها، فقال: يا أبا بكر: قال: لبيك قال: اشتره، فاشتراني أبو بكر وأعتقنى، فلبثت ما شاء اللَّه ثم أتيته فسلمت عليه وقعدت بين يديه وقلت: يا رسول اللَّه! ما تقول في دين النصارى؟ قال: لا خير فيهم، ولا في دينهم، قال: فداخلنى من ذلك أمر عظيم، قلت في نفسي: الذي أقام المقعد لا خير فيه ولا في دينه، ثم انصرفت وفي نفسى شيء وأنزل اللَّه على نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82]. فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: علي بسلمان فأتاني الرسول وأنا خائف فجئت فقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} [المائدة: 82] الآية، ثم قال: يا سلمان: إن الذين كنت معهم وصاحبك لم يكونوا نصارى وإنما كانوا مسلمين فقلت: والذي بعثك بالحق إن صاحبي لهو الذي أمرني باتباعك. فقلت له: وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه، قال: نعم. فأنزله فإنه على الحق قال الحافظ الذهبي هذا حديث جيد الإسناد حكم الحاكم بصحته.

خالد بن الوليد -رضي الله عنه-

قال الواقدي: ومات سلمان في خلافة عثمان رضي اللَّه عنهما بالمدائن وقيل: توفي سنة ست وثلاثين، وقال أبو العباس بن الوليد النجراني: عاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة وليس ما قاله البغوي، قال الذهبي: وقد فتشت فيما ظفرت في سنة فلم أظفر بشئ سوى هذا القول وهو منقطع لا إسناد له وجميع أمره وأحواله وغزوه وهمته وسيفه الجريد وغيره يقضي أنه ليس بمعمر ولا هرم لقد فارق وطنه، وهو حدث ولعله قدم الحجاز وله أربعون سنة أو أقل وقد سمع بمبعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم هاجر ولعله عاش بضعا وستين سنة وما أداه مبلغ المائة وقد نقل طول عمره ابن الجوزي، وما علمت في ذلك شيئًا يركن إليه. خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه-: سيف اللَّه المسلول، دخل بيت المقدس، وشهد فتح دمشق، وتوفي بحمص وقبره ظاهر بها يزار ويقصد ولما حلق رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ابتدره الناس وانتدب خالد بن الوليد إلى ناصيته

وعمرو بن العاص السهمي

فأخذها وجعلها في قنصوته وهو ابن أخت ميمونة زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال عبد الرحمن بن إبراهيم: توفي خالد بن الوليد بالمدينة والأظهر والأشهر أنه مات بحمص وقيل دفن على ميل من حمص سنة إحدى أو اثنين وعشرين في خلافة عمر -رضي اللَّه عنه-. وعمرو بن العاص السهمي: وقد تقدم ذكره عند ذكر ابنه عبد اللَّه بن عمرو، وما كان بينه وبين معاوية بن أبي سفيان من كتاب العهد. وروى الحافظ صاحب المستقصى بسنده إلى قبيصة بن جابر قال: صحبت عمر بن الخطاب فما رأيت رجلًا أقرأ لكتاب اللَّه، ولا أنعم لدين اللَّه ولا أحسن مدارة منه، وصحبت طلحة بن عبد اللَّه فما رأيت رجلًا أعطى الجزيل عن غير مسألة منه، وصحبت معاوية بن أبي سفيان فما رأيت رجلًا أوسع حلمًا منه، وصحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلًا أغض طرفًا ولا أكرم جليسًا، ولا أشبه سريرة بعلانية منه، وصحبت المغيرة بن شعبة فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج منها إلا بالمكر لخرج من أبوابها كلها رضي اللَّه عنهم. وعياض بن تميم -رضي اللَّه عنه- دخل بيت المقدس وبنى بها حمامًا وهو ابن عم أبي عبيدة استعمله عمر على حمص وله رواية عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مات سنة عشرين. وعبد اللَّه بن سلام أبو الحارث الإمام الحبر الإسرائيلي

يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب

المشهود له بالجنة من خواص الصحابة. قال الواقدي: بلغنا أنه شهد فتح بيت المقدس، قال ابن سعد: وكان اسمه الحصين فغيره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعبد اللَّه توفي سنة ثلاث وأربعين. يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب: بعثه أبو بكر -رضي اللَّه عنه- إلى الشام، وكان على جند من الأجناد المنفذة، قال في المستقصى: وتوفي يزيد بن أبي سفيان وأمر عمر مكانه أخاه معاوية بن أبي سفيان ومعاوية بن أبي سفيان تعاهد ثلاثة من الكوفة على قتله وقتل عمرو بن العاص وحبيب بن أبي سلمة فأقبلوا بعدما بويع معاوية بالخلافة حتى قدموا إيليا وصلوا من السحر ما قدر لهم والقصة في ذلك مشهورة قال الحافظ ابن محمد القاسم: ولاه عمر بن الخطاب دمشق عمل أخيه يزيد بن أبي سفيان بعد موته ثم قتل عمر فولاه عثمان ذلك العمل وجمع له الشام كله فكانت ولايته على الشام أميرًا عشرين سنة ثم بويع له بالخلافة واجتمع الناس عليه بعد قتل علي، فلم يزل خليفة عشرين سنة حتى مات ليلة الخميس نصف رجب سنة ستين وهو ابن ثمان وسبعين سنة. وأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر قدم بيت المقدس ومات بمدينة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وليس هو المدفون بينبي التي بين الرملة وغزة وإنما بها بعض ولده مات سنة سبع وخمسين، وقال في كتاب الأقشهري إنه توفي بالعقيق، وقيل: بالمدينة سنة سبع وخمسين، وقيل سنة ثمان، وقيل: سنة تسع، وقال الحافظ ابن النجار: وقيل عنه أكثر من ثمانمائة رجل صحابي وتابعي، وأبو أمامة صدي بن عجلان سكن بيت المقدس ودمشق فكان قد شهد حجة الوداع وهو ابن ثلاثين سنة وله رواية كثيرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان آخر من بقى بالشام من الصحابة سنة ست وثمانين كذا في المستقصى.

وأبو مسعود الأنصاري

وقال أبو الحسن بن عمير: سمعت ابن سميع يقول شهد أبو أمامة حجة الوداع وهو ابن ثلاثين سنة مات في سنة إحدى وثمانين وبمنزله دفنوه. وأبو مسعود الأنصاري: عتبة بن عمرو البدري سكن بدرًا ولم يشهدها على الأرجح وتوفي سنة تسع وثلاثين، وقيل سنة أربعين، وحكى صاحب المستقصى أنه دخل بيت المقدس فتبعه ناس، فقال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ما من عبد يلقى اللَّه لا يشرك به شيئًا ولا يتغذى بدم حرام إلا دخل من أي باب من أبواب الجنة شاء" ورواه ابن مبارك محمد بن عبيد عن إسماعيل بن أبي خالد عن عقبة بن عامر المقتول يوم اليمامة شهيدًا وقد مر مرفوعًا أفرده صاحب المستقصى بالذكر فقال ومنهم عقبة بن عامر الجهني وأورد هذا الحديث بسنده إليه، ثم قال أبو سعيد: وتوفي بمصر في خلافة معاوية واللَّه أعلم. وأبو جمعة الأنصاري: واسمه حبيب بن سباع، وقيل غير ذلك، قدم بيت المقدس يعد من الشاميين، وعلى هامش المستقصى بخط الأصل، قال ابن سميع: مات بالشام أول المحرم سنة سبع وسبعين، وكتب لخته ملحق بعد سنة. ومرة بن كعب قال: ابن عبد البر نزل مرة البصرة ثم نزل الشام، وتوفي سنة سبع وخمسين بالأردن. وعبادة بن الصامت: سكن بيت المقدس وهو ممن شهد العقبة الأولى والمشاهد كلها، ووجهه عمر إلى الشام قاضيًا ومعلمًا فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين. قال ابن عبد البر: ومات بفلسطين ودفن ببيت المقدس وقبره معروف

وشداد بن أوس

الى اليوم، وقيل: توفي بالرملة، والأول أكثر وأشهر وكانت وفاته سنة أربع وثلاثين والآن قبره لا يعرف ببيت المقدس ولا بالرملة واندرس لاستيلاء الفرنج على تلك الناحية كذا في مثير الغرام، وترجم في المستقصى بقوله: ذكر بعض من سكن بيت المقدس من الصحابة منهم عبادة بن الصامت ثم ذكر بسنده إلى عبادة بن الوليد بن عبادة، عن أبيه، أنه مات بالرملة من الشام سنة أربع وثلاثين في خلافة عثمان وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وله عقبة قال محمد بن سعد: سمعت من يقول: إنه بقى حتى مات في خلافة معاوية بالشام وهذا كلام المستقصى. وشداد بن أوس ابن أخي حسان بن ثابت نزل الشام ناحية فلسطين، قال عبادة بن الصامت: كان شداد بن أوس ممن أوتي العلم والحلم، وقال أبو الدرداء: إن اللَّه تعالى يؤتي الرجل العلم فلا يؤتيه الحلم ويؤتيه الحلم ولا يؤتيه العلم، وشداد بن أوس آتاه اللَّه العلم والحلم، وروي أنه لما دنت وفاة النبي، قام ثم جلس، ثم قال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما سبب قلقك يا شداد؟ " فقال: يا رسول اللَّه ضاقت بي. فقال: "إن الشام ستفتح إن شاء اللَّه تعالى وتكون أنت وولدك من بعدك أئمة بها إن شاء اللَّه تعالى" ذا عبادة واجتهاد وله عقب ببيت المقدس، مات سنة ثمان وخمسين، وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقيل مات سنة ست وأربعين، وقبره ظاهر يزار ببيت المقدس بالقرب من باب الرحمة حذى سور المسجد الأقصى، وفي المستقصى أنه نزل الشام بفلسطين، ومات بها. وأبو ريحانة واسمه شمعون بشين معجمة وقيل بمهملة، القرطبي من بني قريظة.

ويقال: إنه من بني، النضير، ويقال: مولى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مات قبل وفاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وسكن أبو ريحانة بيت المقدس، وكان يقضى في المسجد الأقصى، يقال له: أزدي، ويقال: دوسي، ودوس من الأزد، كذا ذكره الداري، ويقال: القرشي بنى بدمشق دارا، وتميم بن أوس وفد هو وأخوه نعيم على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة تسع وأسلما وصحب تميم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وغزا معه وروى عنه ولم يزل بالمدينة حتى تحول إلى الشام بعد مقتل عثمان وكان أميرًا على بيت المقدس، قال روح بن زنباع: دخلت عليه وهو أمير المؤمنين ببيت المقدس وهو ينقي لفرسه شعيرًا، ثم قام به حتى يعلقه عليه، فقلت له: ما عندك من يكفيك هذا؟ فقال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من نقى لفرسه في سبيل اللَّه شعيرًا ثم قام به حتى يعلفه عليه كتب له بكل شعيرة حسنة" رواه الطبراني في معجمه الصغير، وأقطعهما رسول اللَّه -صلى

والشريد بن سريد

اللَّه عليه وسلم- ببلادهما حبري وبيت عينون وليس لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قطيعة على غيرهما وكان تميم يحذر من زلة العالم فإن الناس يقتدون به وإن تاب بعد ذلك، وروينا في سنن ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "أول من أسرج في المساجد تميم الداري" وتوفي في سنة أربعين ويقال: إن قبره بالقرب من قرية من قرى الشام يقال لها: السهوة. والشريد بن سريد قدم بيت المقدس لأنه نذر أن يصلي فيه إن فتح اللَّه مكة على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- واستأذن في ذلك فأذن له. وابن الجدعاء وهو عبد اللَّه بن أبي الجدعا التميمي، ويقال الكناني، ويقال العبدي، عن عبد اللَّه بن شقيق، قال: كنت مع رهط بإيليا فقال رجل منهم سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "يدخل الجنة بشفاعتي رجل من أمتي أكثر من بني تميم" قيل: يا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سواك قال: سواي. فلما قام قلت: من هذا؟ قال: ابن أبي جدعاء" حديثه صحيح حسن غريب رواه الترمذي، وفيروز الديلمي أبو عبد اللَّه، ويقال عيد الرحمن، ويقال أبو الضحاك، ويقال الحميري لنزوله بحمير وهو من أبناء فارس من قرى صنعاء وفيروز من الذين بعثهم كسرى إلى اليمن فنفوا الحبشة منها وغلبوا عليها سكن بيت المقدس ويقال إن قبره به مات في خلافة عثمان.

وذو الأصابع التميمي

وذو الأصابع التميمي ويقال الخزاعي ويقال الجهني سكن بيت المقدس قال ابن سعد ذو الأصابع من أهل اليمن من المدد الذين نزلوا الشام ببيت المقدس. وأبو محمد النجاري بالجيم الأنصاري البدري أظنه مسعود بن أوس بن زيد بن أصرم بن زيد بن غنم بن مالك بن النجار، كذا نسبه الواقدي وغيره وهو الذي زعم أن الوتر واجب، فقال عبادة بن الصامت: كذب أبو محمد قيل توفي في خلافة عمر بن الخطاب، وقيل شهد صفين مع على -رضي اللَّه عنه-. وأبو ابن حرام، ويقال أبي ويقال: عبد اللَّه بن أبي، وقيل عبد اللَّه بن كعب، وقيل عبد اللَّه بن عمرو بن قيس، وأمه أم خزام بنت ملحان أخت أم سليم أسلم قديمًا، ويعد في الشاميين، وروى عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حديث: "عليكم الكسائب والسنون، فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام" سكن بيت المقدس وكان ببيت عبادة بن الصامت، وقال أبو بكر الخطب فيما رواه بإسناد أبي موسى بن سهل النيسابوري قال أسامى أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: الذين كانوا بأرض فلسطين ممن سكنها منهم من أعقب ومنهم من لم يعقب والذين كانوا ببيت المقدس، فذكر عبادة بن الصامت، وأبي حازم، وآخرين، مروا. وقال أبو محمد الدمياطي في أربعينيته الكبرى: هو آخر من مات من الصحابة ببيت المقدس، كذا في مثير الغرام، وذكره في المستقصى، فقال: ومنهم أبو أبي عبد اللَّه

بن عمرو الأنصاري وذكر الحديث السالف وزاد فقال: قالوا يا رسول اللَّه وما السام؟ قال: الموت. قال أبو الدرداء: قلت لعمر بن بكير ما السنوت. قال في غريب كلام العرب، رب عكة السمن يعصر فيخرج خطوطًا سوداء مع السمن، وروى بسنده إلى ابن أبي الحسن بن سميع، قال في الطبقة الأولى: أمر أبي ابن حرام امرأة عبادة بن الصامت. وقال الحافظ أبو بكر الواسطي الخطيب فيمن ذكر: إنه كان في بيت المقدس من حفاظ الصحابة والتابعين، ومات بها عبادة من الصامت، وشداد بن أوس، وأبو أبي بن أم حرام، وأبو ريحانة، وسلامة بن قيصر وفيروز الديلمي، وذو الأصابع، وأبو محمد النجاري. هؤلاء من أهل بيت المقدس وقبورهم بها، ولم يعقب أبو ريحانة، ولا ذو الأصابع، ولا أبو محمد النجاري، وفي فضائل بيت المقدس لابن الجوزي في الباب التاسع عشر مات ببيت المقدس عبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وأبو أبي بن أم حرام، وأبو ريحانة واسمه شمعون، وذو الأصابع، وأبو محمد النجاري، هؤلاء من بيت

ومحمود بن ربيع أبو نعيم

المقدس وقبورهم بها، ولم يعقب أبو ريحانة، ولا ذو الأصابع، ولا أبو محمد النجاري. وفي فضائل بيت المقدس لابن الجوزي ف يالباب التاسع عشر: مات ببيت المقدس عبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وأبو أبي بن أم خزام، وأبو ريحانة واسنه شمعون، وذو الأصابع، وأبو محمد [النجاري] (*)، هؤلاء من بيت المقدس ماتوا به، والذي أعقب منهم عبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وسلامة بن قيصر، وفيروز الديلمى، والذي لم يعقب أبو ريحانة، وذو الأصابع، وأبو محمد النجاري ووائل بن الأسقع أسلم ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- متجهزًا إلى تبوك، ويقال إنه خدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو من أهل الصفة ويقال: سكن البصرة وله بها دارًا ثم سكن الشام، وكان منزله على ثلاثة فراسخ من دمشق بقرية يقال لها: البلاط، وشهد المغازي بدمشق وحمص، ثم تحول إلى بيت المقدس ومات به وهو ابن مائة سنة وقيل مات بدمشق آخر خلافة عبد الملك بن مروان سنة خمس أو ست وثمانين وهو ابن ثمان وسبعين سنة. ومحمود بن ربيع أبو نعيم: وقيل أبو محمد في الصحيح من حديث الزهري عن محمود بن الربيع، كان يزعم أنه أدرك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو ابن خمس وستين وزعم أنه عقل رمحه تجاه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في وجهه نزل ببيت المقدس وأهل بيته بحج وعمرة وهو ختن عبادة بن الصامت مات سنة تسع وتسعين وهو ابن ثلاث وتسعين سنة. وسلام بن قيصر: وقيل سلامة له صحبة وكان واليًا لمعاوية على بيت المقدس وله عقب بها، وأنكر الحافظ أبو زرعة أن تكون له صحبة قال ابن عبد البر حديثه مضطرب لا يثبت في الصحابة روى عن

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: بالمطبوع (البخاري)

وصفية بنت حيي

النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أحاديث وحديثه منقطع الإسناد مرسل لا يثبت حديثه ولا تصح صحبته. وصفية بنت حيي أم المؤمنين تقدم أنها قدمت بيت المقدس وصلت فيه وصعدت طور زيتا وصلت به. وعصيف بن الحارث: وهو الصواب في اسمه قدم بيت المقدس هو وأهله فصلى وجماعة من الصحابة، روينا في سنن النسائي عن شداد بن أوس قال: شهدت مع معاوية بيت المقدس فحضرت الجمعة فإذا أجل من في المسجد أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فرأيتهم منحنين ولا إمام لهم. وأما من دخله من التابعين رضي اللَّه عنهم أجمعين ومن غيرهم أويس القرني من بنى قرن صح أنه صلى اللَّه عليه وسلم أمر عمر -رضي اللَّه عنه- أن يسأله أن يستغفر له، وروي عن عثمان بن عفان عن أبيه أن أويسا أتى بيت المقدس عام حج ولقي عمر -رضي اللَّه عنه- وقيل: إنه لقيه في الموسم فقال: قد حججت واعتمرت وصليت فى مسجد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ووددت أن صليت في المسجد الأقصى فجهزه عمر فأحسن جهازه فأتى المسجد الأقصى، فصلى فيه ثم الكوفة وخرج غازيًا راجلاً إلى ثغر أرمينية فأصابه البطن فالتجأ إلى أهل خيمته فمات عندهم ومعه جراب وقعت، فقالوا لرجلين منهم: اذهبا فأحضرا له قبرًا قالوا: فنظرنا في جرابه ثوبين ليسا من ثياب الدنيا وجاء الرجلان فقالا: أصبنا قبرًا محفورًا في صخرة كأنما رفعت عنها الأيدي الساعة فكفنوه ثم دفنوه ثم التفتوا فلم يروا شيئًا، ويقال: فقد بصفين سنة سبع وثلاثين، ويقال: مات بدمشق ودفن بها. كعب الأحبار بن ماتع الحميري كان يهوديًا فأسلم في خلافة أبي بكر وقيل عمر، فقال له العباس: ما منعك عن الإسلام إلى عهد عمر؟ فقال: إن أبي كتب لي كتابًا من التوراة ودفعه إلى وقال: اعمد بهذا وختم على سائر كتبه وأخذ علي حق الوالدين ألا أفض الخاتم، فلما رأيت الإسلام يظهر قالت لي نفسي: لعل أباك غيب عنك علما كتمك إياه فلو

وأبو نعيم المؤذن

قرأته ففضضت الكتاب، فوجدت فيه صفة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمته فأسلمت الآن. سكن كعب الشام قال أبو الدرداء وإن عنده لعلما كثيرًا وروى عنه جماعة وروى عن جماعة من أصحابه كأبي هريرة وغيره وكان يقص فوقف عليه عوف بن مالك بالشام وهو يقص فقال كعب: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لا يقص إلا أميرًا أو مأمورًا أو مختارًا فاستأذن معاوية فأذن له وتقدمت" قصته مع عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- في موضع قبلة المسجد مات بحمص سنة اثنين وثلاثين في خلافة عثمان. وعبيد عامل عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- في بيت المقدس، وعمير بن سعيد واستعمله عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- على حمص، وكان هو مرة على الشام ومعاوية مرة ثم عزله عثمان واستمر معاوية، ويعلى بن شداد بن أوس كنيته أبو ثابت ذكره مسلم في الطبقة الثانية من التابعين، روى عن أبيه شداد وعن عبادة بن الصامت وهو ثقة حضر فتح بيت المقدس، وروى عنه جماعة كهلال بن ميمون، وسلمان بن بشر، وأخرج له أبو داود، وابن ماجه، وجبر بن نفير الحضرمي، أتى بيت المقدس للصلاة وهو في الطبقة الأولى من التابعين أدرك زمن النبوة وأسلم زمن أبي بكر روى عن خالد بن الوليد وأبي الدرداء وعبادة، والنواس بن سمعان قال جبير: خمس خصال قبيحة: الحدة في السلطان، والحرص في العلماء، والقسوة في الشيوخ، والشح في الأغنياء، وقلة الحياء في ذوي الإحسان، ومات جبير المذكور وهو ابن نفير الحضرمي صاحب هذه الترجمة سنة خمس وسبعين. وأبو نعيم المؤذن أول من أذن ببيت المقدس وكان أبو عبادة بن الصامت واليًا على إيليا فأبطأ يومًا بالخروج لصلاة الصبح فأقام أبو نعيم الصلاة وتقدم وصلى بالناس

وأبو الزبير المؤذن الدارقطني

فحضر عبادة بن الصامت وهو يصلي بالناس فصلى بصلاته. وأبو الزبير المؤذن الدارقطني روى قال: جاءنا عمر -رضي اللَّه عنه- فقال: إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فأدرج، وفي رواية فاجدر. وأبو سلام الحبشي واسمه ممطور، روى عن عثمان، وحذيفة، والنعمان بن بشر، وقال أبو مسهر: وسمع عن عبادة بن الصامت، وقيل روايته عذبة مرسلة وروى محمد بن مجريز عن أبي سلام المذكور قال: كنت إذا قدمت بيت المقدس نزلت على عبادة بن الصامت فأتيت المسجد فوجدته وكعبًا جالسين، فقال كعب: إذا كانت سنة ستين فمن كان له مال فليجمعه، ومن كان له امرأة فليطلقها، ومن كان عزبًا فلا يتزوج، فإنه لا خير في مولود يولد يومئذٍ، وانتقل أبو سلام من حمص إلى دمشق، وقال: البركة تضاعفت فيها مرتين، وروى عن عبادة أيضًا أثرًا. وأبو جعفر الحرسي: روى عن أبي جميلة عنه قال: دخلت مع عبادة بن الصامت مسجد بيت المقدس فرأى رجلًا يصلي واضعًا نعله عن يمينه أو عن شماله، فقال: لولا أنك تناجى ربك لقطعت بهذه العصا رأسك تفعل كفعل أهل الكتاب. وخالد بن معوان الكلاعي العبد الصالح كان يسبح في النهار أربعين ألف تسبيحة فقيه كبير روى عن معاوية وابنه عمرو وعبد اللَّه بن عمر، وثوبان، وخرج له الأئمة في كتبهم، روى عنه ثور بن يزيد

وعبد الرحمن بن تميم الأشعري

وصفوان بن عمر ويحيى بن سعيد، فأكثر، أتى بيت المقدس ونزل منه على ستة أميال ولم يصل فيه خمس صلوات. وعبد الرحمن بن تميم الأشعري كان مسلمًا في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولكن لم يفد إليه، لكنه لازم معاذ بن جبل وسمع عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، وأظنه قدم بيت المقدس وأنه هو الذي فقه عامة التابعين بالشام واجتمع بأبي هريرة وأبي الدرداء بحمص. وروى عنه ممطور ومكحول، ويقال: مات سنة سبع وسبعين، وأم الدرداء بعجيمة ويقال: جهمة خطبها معاوية بن أبي سفيان فأبت وقالت: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "المرأة لآخر أزواجها" فإن أردت أن تكوني في الجنة فلا تتخذي بعدي زوجًا وقالت طلبت العبادة في كل شيء في الجنة فما رأيت أشفى من مجالسة العلماء ومذاكرتهم وكان معها نساء يتعبدون فإذا ضعفن عن قيام الصلاة تعلقن بالحبال وكانت تأتي من دمشق إلى بيت المقدس فإذا مرت على الجبال قالت لقائدها أسمع الجبال ما وعدها ربها فتقرأ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)

وأبو العوام مؤذن بيت المقدس

لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 105 - 107] وتقرأ {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47]، وكانت تجالس المساكين ببيت المقدس فجاء إنسان يومًا فأعطاهن فلوسًا وأعطاها فلسًا واحدًا فأمرت الجارية أن تشتري به نعلا وقالت: إنه جاء من غير مسألة، وكانت تقيم ببيت المقدس نصف سنة. وأبو العوام مؤذن بيت المقدس قد تقدم ذكره وروايته عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، أن السور المذكور في القرآن هو سور المسجد الأقصى الشريف الشرقي، وتصحيح الحاكم إياه في المستدرك، قبيصة بن ذؤيب وعبد اللَّه بن محيريز وهانئ بن كلثوم هؤلاء كلهم عباد زهاد، وقبيصة كان عالمًا ربانيًا مات سنة ست وثمانين، وابن محيريز قرشي جمحي مكي نزل بيت المقدس وقال رجاء بن حيوة: إن فخر علينا أهل المدينة بعابدهم ابن عمر، فإنا نفتخر بعابدنا ابن محيريز إنما كنت أعد بقاءه أمانا لأهل الأرض، مات قبل المائة، وأما هانئ فقد عرضت عليه إمرة فلسطين فامتنع وكان الثلاثة يقصدون الصلاة من الرملة إلى بيت المقدس. وعبد الملك بن مروان باني قبة صخرة بيت المقدس وروى عن أبي هريرة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من لم يغز ولم يجهز غازيًا ولم يخلفه بخير أصابه اللَّه بقارعة". قال ابن عمر: ولد الناس أبناء وولد مروان أبا يعني عبد الملك بن مروان، وقال عمرو بن العاص: كان عبد الملك بن مروان حسن البشر عند اللقاء حسن الحديث إذا حدث، حسن الاستماع إذا حدث، هين المؤنة إذا خولف، لا يماذج من لا يليق بعقله ودينه، ولا يخالق لئيمًا، ولا يتكلم ما يعتذر منه، وكان مرة جالسًا في الصخرة وعنده أم الدرداء فنودي بالمغرب فقامت تتوكأ عليه حتى أدخلها المسجد إلى النساء ومضى فصلى بالناس وقال العلاء بن زياد، ما غبطته بشيء من ولايته إلا بقتل الحارث الكذاب لأبي حديث، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون رجلًا كذابون كلهم يزعم أنه نبي" ولما ظهر كذب الحارث هرب واختفى ببيت

وعمر بن عبد العزيز

المقدس فتبعه عبد الملك بن مروان في طلبه حتى أتى به فقتله، توفي عبد الملك بن مروان سنة ست وثمانين. وعمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين الإمام العادل -رضي اللَّه عنه-، كان خالد ببيت المقدس فجاء عمر بن عبد العزيز فأخذ بيده فقال: يا خالد ما علينا؟ فقال: عليكم من اللَّه أذن سميعة وعين بصيرة فارتعد عمر خوفًا من اللَّه ونزع يده فقال خالد: يوشك أن يكون هذا إمامًا عادلًا ولزم خالد بيته في آخر مرة، وقال: ما بقى من الناس إلا حاسدًا أو شامتًا توفي خالد سنة تسعين، وتوفي عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة، وقال ابن سيرين: رحم اللَّه سليمان بن عبد الملك افتتح خلافته بخير فصلى الصلوات لمواقيتها وختمها بخير فاستخلف عمر بن عبد العزيز، وروى عمر عن عبد اللَّه بن جعفر، وأنس بن مالك، وابن المسيب، وعدة من الصحابة وروى عنه ابناه، وإبراهيم بن أبي عبلة، وأيوب، وغيرهم وقال سفيان الثوري: الخلفاء الراشدون خمسة أبو بكر وعمر وعثمان وعلى

ومحارب بن دثار السدوسي

وعمر بن عبد العزيز رضي اللَّه عنهم أجمعين. وروى هذا الأثر أيضا عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي -رضي اللَّه عنه-. ومحارب بن دثار السدوسي، قال محارب: صحبنا القاسم بن عبد الرحمن إلى بيت المقدس فغلبنا على ثلاث على قيام الليل والبسط في النفقة والكف عن الناس، وفي رواية القاسم بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود ففضلنا بكثرة الصلاة وطول الصمت وسخاء النفس، وحديث محارب، مخرج في كتب الإسلام، وكان قاضيا روى عن عمر وجابر وغيرهما، وروى عنه شعبة بن الحجاج، والسفيانين، وكان من العلماء الزهاد رحمه اللَّه. وإبراهيم بن أبي عبلة: هو عقيلى مقدسي، روى عن أبي أمامة، وأنس، وطائفة، وروى عنه الإمامان: مالك وابن المبارك، وقال: كنت أنا وابن الديلمي في مسجد بيت المقدس فدخل واثلة بن الأسقع، وعبد اللَّه بن أم حرام، فقمت إلى عبد اللَّه وقام ابن الديلمي إلى واثلة، فأخبرني عبد اللَّه أنه صلى مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- للقبلتين وأخبرني ابن الديلمي أن واثلة

وعبد الله بن فيروز

قال: أتينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في صاحب لنا قد أوجب النار، فقال: "أعتقوا عنه رقبة يفك اللَّه منه بكل عضو منها عضوًا منه من النار" توفي ابن أبي عبلة سنة اثنين وخمسين رحمه اللَّه تعالى. وعبد اللَّه بن فيروز المقدس ثقة خرج له أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، روى عن أبيه، وابن مسعود، وغيرهما، وعنه ربيعة بن يزيد العقيد، ويحيى الشيباني وله أخ يقال له: "الضحاك بن فيروز ثقة أيضًا وروى عن أبيه، وعن أبي وهب الخشابي وغيره، ورجاء بن حيوة فقيه من العلماء الأعلام روى عن معاوية بن أبي سفيان، وأبي أمامة، وعن ابن عوف، وثور بن يزيد، وتقدم أنه كان القائم ببناء قبة الصخرة أيام عبد الملك بن مروان ووزيرا لعمر بن عبد العزيز توفي سنة اثنين ومائة. ومحمد بن واسع ثقة زاهد من أهل البصرة من الأزد. روى عن أنس بن مالك، ومطرف بن الشخير وعنه الحارث، وهمام، أخرج له مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي جمعته الطريق، ومالك بن دينار، وعبد الواحد بن يزيد وساروا إلى بيت المقدس، وقصتهم مشهورة ومما يؤثر عنه أنه كان من دعائه في كل يوم (اللهم إنك سلطت علينا عدوًا بصيرًا بعيوبنا مطلعًا على عوراتنا يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم اللهم فآيسه منا كما آيسته من رحمتك، وقنطه منا كما قنطته من عفوك، وأبعد بيننا وبينه، كما أبعدت بينه وبين جنتك) قيل: فظهر له إبليس لعنه اللَّه تعالى يومًا في صورة شيخ هرم فقال له: يابن واسع ما هذا الدعاء الذي تدعو به في كل

ومالك بن دينار

يوم أعده عليَّ فذكره له فلما فرغ، قال له: يا ابن واسع إني أعهد إليك أن لا تعلم أحدًا هذا الدعاء الذي تدعوه أبدًا. فقال له محمد بن واسع: لك علي عهد اللَّه أن لا أكتمه عن أحد من خلق اللَّه تعالى ما عشت وما حييت، توفي رحمه اللَّه تعالى سنة سبع وعشرين ومائة على خلاف فيه. ومالك بن دينار من الأئمة الأعلام، روى عن أنس، وعنه أبان، وهمام، وثقه النسائي، وأخرج له أصحاب السنن: أبو داود والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة. والوليد بن عبد الملك بن مروان بنى مسجد دمشق، ومسجد مصر، وعمر في بيت المقدس. وقال ضمرة: سمعت إبراهيم بن أبي عبلة، يقول: رحم اللَّه الوليد وأين مثل الوليد، كان يعطيني قصاع الفضة فأقسمها على قراء بيت المقدس، توفي في سنة ست وتسعين بدمشق رحمه اللَّه تعالى. وسليمان بن عبد الملك بن الخيلفة "كان" أتى بيت المقدس وأتته الوفود بالبيعة وكان يجلس بـ "قبة الصخرة" في صحن مسجد بيت المقدس مما يلي الصخرة وتبسط البسط بين يدي قبته عليها "النمارق" والكراسي فيجلس ويأذن للناس فيجلسون على الكراسي، والوسائد وكان يكون إلى جانبه الأموال وكتاب الدواوين، وكان قد نعم بالإقامة ببيت المقدس، واتخذها منزلًا وجمع الأموال والناس بها واجتمع سليمان بن عبد الملك بأبي حازم، وسأله ووعظه واجتمع بالزهري، وروينا في مستدرك الحافظ أبي محمد عبد اللَّه بن عبد الرحمن الداري عن الضحاك بن موسى، قال: مر سليمان بن عبد الملك بالمدينة: يريد مكة فقال: هل بالمدينة أحد أدرك من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فقيل له: أبو حازم، فأرسل إليه فدخل عليه، فقال له: يا أبا حزم ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم خربتم الآخرة وعمرتم الدنيا فكرهتم أن تنتقلوا

من العمران إلى الخراب. فقال له: وكيف القدوم غدا على اللَّه تعالى؟ فقال: أما المحسن، فكغائب يقدم على أهله، أما المسيء فكالعبد الآبق يقدم على مولاه. فبكى سليمان، وقال: ليت شعري ما لنا عند اللَّه تعالى، قال: اعرض عملك على كتاب اللَّه تعالى، فقال: في أي مكان أجده؟ قال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14] قال سليمان: فأين رحمة اللَّه؟ قال: قريب من المحسنين؟ قال: فأي عباد اللَّه أكرم؟ فقال: أولوا المروءة والنهى، قال: فأي الدعاء أسمع؟ قال: دعاء المحسن إليه للمحسن، قال: فأي الصدقة أفضل قال: للسائل البائس وجهد المقل ليس فيها مَنٌّ ولا أذى؟ قال: فاي القول أعدل؟ قال: قول الحق عند من يخافه ويرجوه، قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: رجل عمل بطاعة اللَّه ودل الناس عليها، قال: فأي الناس أحمق؟ قال: رجل انحط في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره، قال: فما تقول فيما نحن فيه؟ قال: أو يعفيني أمير المؤمنين؟ قال: لا، وإنها لنصيحة تلقيها إلىّ. قال: إن آباؤك قهروا الناس بالسيف وأخذوا هذا الملك عنوة على غير مشورة من المسلمين ولا رضاهم حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقد ارتحلوا عنها فلو شعرت ما قالوا وما قيل لهم، فقال له: رجل من جلسائه: بئس ما قلت يا أبا حازم، فقال له أبو حازم: كذبت، إن اللَّه تعالى أخذ ميثاق العلماء الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه. فقال له سليمان: فكيف لنا أن نصلح؟ قال: تدعون الصف وتمسكون بالمروءة وتقتسمون بالسوية. قال له سليمان: فكيف لنا أن نصلح المأخذ من هذا المال؟ قال: تأخذه من حله وتضعه في أهله. قال: هل لك يا أبا حازم أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك؟ قال: أعوذ باللَّه. قال: ولم؟ قال: أخشى أن أركن إليكم شيئًا قليلًا فيذيقني ضعف الحياة وضعف الممات قال: ارفع إلينا حوائجك، قال: تنجينى من النار وتدخلنى الجنة. قال: ليس ذلك إليّ قال: ما لي حاجة غيرها، قال: فادع لي. قال: اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخير الدنيا والآخرة وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى من القول والعمل فقال: يا أبا حازم عظنى؟ قال:

وزياد بن أبي سودة مقدسي

قد أوجزت وأكثرت إن كنت من أهله، وإن لم تكن من أهله فما ينفعني أن أرمي عن قوس ليس لها وتر قال: أوصني قال: إن شاء اللَّه سأوصيك وأوجز، عظم ربك ونزهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك من حيث أمرك فلما خرج من عنده بعث له بمائة دينار، وكتب إليه: أن أنفقها ولك عندي مثلها كثير فردها عليه وكتب إليه: يا أمير المؤمنين أعندك ما للَّه؟ إن سؤالك إياي هزلا أو ردي عليك بدلًا، وما أرضاها لك فكيف أرضاها لنفسى؟ وهذه منقبة عظيمة لسليمان الخليفة في إعظام العلماء؟ وكانت خلافته سنة ست وتسعين وتوفي سنة تسع وتسعين وله خمس وأربعون سنة. وزياد بن أبي سودة مقدسي روى عن عبادة بن الصامت، وأبي هريرة، وعن معاوية بن صالح، وسعيد بن عبد العزيز، ذكره ابن حبان في الثقات، وسليمان بن طرخان أبو المعتمر التيمي نزل بالبصرة وسمع أنسا، وكان سليمان يقول: إذا دخلت بيت المقدس كأن نفسي لا تدخل معي حتى أخرج منه. مات سنة ثلاث وأربعين ومائة. ورابعة بنت إسماعيل العدوية تقدم ذكرها في الكلام على طور زيتا، وذكر مناجاتها، وما كانت عليه من العبادة، وأبو الحسن النهراني الأندلسي كان مقيمًا ببيت المقدس، سمعه أبو عبد اللَّه محمد بن علي الصوري. مقاتل بن سليمان المفسر قدم بيت المقدس، قال الإمام الشافعى -رضي اللَّه عنه-: كلهم عيال على ثلاثة مقاتل بن سليمان في التفسير وذكر الآخرين ومات مقاتل سنة خمسين ومائة. وإبراهيم بن محمد بن يوسف الغرياني نزل بيت المقدس، وروى عنه ضمرة بن ربيعة، والوليد بن مسلم وآخرون وعنه تقي الدين بن مخلد وأبو زرعة وابن قتيبة العسقلاني وصدقة، وأبو حاتم، وحديثه

وسفيان الثوري

في كتاب ابن ماجه، وأبو عقبة الخواص عباد بن عباد الأرسوفي قدم بيت المقدس، وروى عن ابن عون، ويونس وعنه آدم وابن شهر، وتفوق قال أبو عقبة: رأيت ببيت المقدس شيخًا كأنه محترق بنار عليه مدرعة سوداء عمامته سوداء طويل الصمت كريه المنظر كثير الشعر شديد الحزن، فقلت له: يرحمك اللَّه لو غيرت لباسك هذا فقد علمت ما جاء في البياض فبكى، وقال: هذا أشبه لباس المصاب، وإنما نحن في الدنيا في حداد، وكأنا قد دعينا ثم غشي عليه. وسفيان الثوري هو ابن سعيد بن مسروق الإمام العالم المجتمع على جلاله وزهده وورعه، أتى المسجد الأقصى فصلى فيه بموضع الجماعة ولم يأت فيه الصخرة، وروي أنه أتاها فقرأ فيها ختمة وقد ذكر الوليد بن مسلم عن بيدقة بن زيد قال: لقيت سفيان الثوري في مسجد الجماعة ببيت المقدس فقلت له: أتيت القبة؟ ولولا أن يكون في نفسي من ذلك شيء عظيم ما سألته، فقال: نعم، وختمت فيه القرآن، وروي أنه اشترى موزا بدرهم فأكل في ظلها ثم قال: إن الحمار إذا وفي عليقه أو قال: علفه زيد في عمله، ثم قام يصلي حتى رحمه من ورائه وروى عن زياد بن علاقة وحبيب بن ثابت والأسود بن قيس وعنه الأعمش وهو من شيوخه، وشعبة، والأوزاعي، وهما من أقرانه أنه مات بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة، وثور بن يزيد قال محمد بن الفيض: سمعت أبي يقول سمعت منبه بن عثمان يقول: كان الثوري بن يزيد قد سكن بيت المقدس وكان رجلا متعبدًا في قرى بيت المقدس يجلس إلى ثور بن يزيد وكان يفد من قريته مع الفجر، فيصلي الصلوات كلها ببيت المقدس، وينصرف بعد عشاء الآخرة إلى قريته وكان قد سمع ثورًا يحدث أن خالد بن معدان حدثه بحديث رفعه إلى

وإبراهيم بن أدهم أبو إسحاق

رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من رأى شيئًا يهوله أو يفزعه فليقل: إن اللَّه هو الذي ليس كمثله شئ وهو الواحد القهار، فما قالها أحد إلا فرج عنه ولو كان بين يديه سور من حديد" وانصرف ذلك الرجل ليلة من الليالي إلى الطريق فإذا بأسد بين يديه قد منعه من المسير فذكر حديث خالد فقاله، ففرج اللَّه عنه ومضى فلقيه حمار وحشي فاتحًا فاه فجرى منه لبيت يريد ليأكل يده فذكر حديث ثور فقاله: فوَّلى الحمار وهو يقول: لا رحم اللَّه ثورًا كما علمك. وإبراهيم بن أدهم أبو إسحاق، قال النسائى في التمييز: ثقة مأمون أحد الزهاد وذكره ابن حبان في ثقات أتباع التابعين روى عن الشعبي، وعن الثوري. وبقية بن الوليد أصله من بلخ، ثم انتقل بعد أن تاب وترك الإمارة إلى الشام طلبًا للحلال، وأقام بها مرابطًا غازيًا على الجهد الجهيد، والفقر الشديد، والخدمة للأصحاب، والسخاء الوافر، والورع الدائم، تقدم أنه قدم بيت المقدس ونام بالصخرة ومات في بلاد الروم سنة إحدى وستين ومائة. والليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم عالم أهل مصر، كان نظير مالك في العلم، وروى عن عطاء، وابن أبي مليكة، وخلق كثير، وعن ابن قتيبة ومحمد بن رمح وخلائق عدة قيل كان دخله

وأبو جعفر المنصور

في السنة ثمانين ألف فى دينار فما وجبت عليه زكاة قط وفي رواية لا ينقضى عام إلا وعليه دين من كثرة جوده وبره قدم بيت المقدس ومات بمصر سنة خمس وسبعين ومائة وقبره ظاهر مقصود بالزيارة والاجتماع لقراءة ختمة شريفة كاملة من بعد صلاة الجمعة وإلى صبح السبت دائمًا أبدًا لا ينقطع القراء في مقامه حتى الآن. وأبو جعفر المنصور الخليفة عبد اللَّه بن محمد بن علي بن عبد اللَّه بن العباس بن عبد المطلب، تقدم أنه دخل بيت المقدس بعد الرجفة الأولى، وكان قد وقع شرقي المسجد، وغربيه ورفعوا الأمر إليه، فقال: ما عندي شيء من المال، ثم أمر بقلع الصفائح الذهب والفضة التي كانت على الأبواب فقلعت وضربت دراهم ودنانير، وصرفت في العمارة وتوفي سنة ثمان وخمسين ومائة. والمهدي بن المنصور الخليفة العباسى روى صاحب المستقصى بسنده إلى أبي حارثة أحمد بن إبراهيم بن هشام يريد بيت المقدس دخل مسجد دمشق ومعه كاتبه أبو عبد اللَّه الأشعري فقال: يا أبا عبد اللَّه سبقتنا بنو أمية بثلاث بهذا البيت، يعني مسجد دمشق ولا أعلم على ظهر الأرض مثله، ونيل الموالي فإن لهم موالي ليس لنا مثلهم وبعمر بن عبد العزيز ولا يكون فينا واللَّه مثله أبدًا ثم أتى بيت المقدس ودخل الصخرة فقال: يا أبا عبد اللَّه وهذه رابعة ومات

ووكيع بن الجراح

سنة تسع وستين ومائة. ووكيع بن الجراح أبو سفيان الرواسي من الأعلام روى عن الأعمش، وهشام بن عروة، وعنه أحمد وإسحاق قال أحمد: ما رأيت أوعى للعلم منه، ولا أحفظ من ابن مهدي، وقال حماد بن زيد لو سئلت لقلت أنه أرجح من سفيان قال أبو داود يرحم اللَّه وكيعًا أحرم من بيت المقدس يعني إلى مكة مات يوم عاشوراء سنة سبع وتسعين ومائة. والإمام محمد بن إدريس -رضي اللَّه عنه- قدم بيت المقدس فصلى عليه وقال: سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب اللَّه وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- فقيل له: ما تقول: في محرم قتل زنبورًا فقال: قال اللَّه تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] , وحدثنا ابن عيينة عن عبد الملك بن عمر بن حذيفة قال: قال رسول اللَّه -صلى

والمؤمل بن إسماعيل البصري

اللَّه عليه وسلم-: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر وعثمان" وحدثنا ابن عيينه عن مسعد عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن عمر أمر المحرم بقتل الزنبور. مات الإمام الشافعي -رضي اللَّه عنه- بمصر سنة أربع ومائتين وقبره ظاهر بالقرافة معقود عليه قبة عظيمة البناء بأعلاها بموضع الهلال سفينة صغيرة من حديد وفي مقامه يجتمع الناس في كل ليلة أربعاء من أول كل شهر يقرؤون في مقامه تلك الليلة ختمة شريفة، ويقال: إن بعض شعراء ذلك العصر دخل القبة لزيارة قبر الإمام الشافعي -رضي اللَّه عنه- فأعجبه ما رأى من عظمها وارتفاعها وكون السفينة فوقها فكتب في جدار المقام بها: قبة مولاي قد علاها ... لعظم مقداره السكينة ولو لم يكن تحتها بحار ... ما كان من فوقها سفينة والمؤمل بن إسماعيل البصري صدوق قدم بيت المقدس فأعطى قومًا شيئًا وداروا به تلك الأماكن، وكان شديدًا في المشبه، مات سنة ست ومائتين والشرفي بن المفلس السفطي قدم بيت المقدس وروي عنه أنه قال: خرجت من الرملة إلى بيت المقدس فمررت بشرفة وغدير ماء وعشب نابت فجلست آكل من العشب وأشرب من الماء وقلت في نفسي: إن كنت أكلت أو شربت في الدنيا حلالًا فهو هذا فسمعت هاتفًا يقول: يا بشرى فالنفقة التي بلغتك إلى هنا من ابن نعمة مات سنة إحدى وخمسين ومائتين. وذو النون المصري أبو الفيض

وصالح بن يوسف أبو شعيب

قدم بيت المقدس قال: وحدث على صخرة بيت المقدس كل عاص مستوحش وكل مطع مستأنس، وكل خائف هارب، وكل راج طالب، وكل قانع غني، وكل محب ذليل، قال: فرأيت هذه الكلمات أصول ما استعبد اللَّه به الخلق، مات سنة خمس وأربعين ومائة. وصالح بن يوسف أبو شعيب المقنع الواسطي الأصل مات بالشام في بلدة الرملة سنة اثنتين وثمانين ومائتين استسقى بقبره الغمام ويستجاب الدعاء عنده، يقال: إنه حج تسعين حجة راجلًا بكل حجة منها يخرج من صخرة بيت المقدس وكان يدخل بادية تبوك على التجريد والتوكل. وبشر بن الحارث الحافي قيل له لم يفرح الصالحون ببيت المقدس قال لأنها تذهب الهم ولا تستعلى النفس بها، قال: ما بقي عندي من لذات الدنيا إلا أن أستلقي على جنبي تحت السماء بجامع بيت المقدس، ولد سنة ست وعشرين ومائتين. وعبد اللَّه بن عامر العامري قال: سألت راهبًا ببيت المقدس، فقلت، ما أول الدخول في العبادة؟ قال: الجوع، قلت: لم؟ قال: لأن الجسد خلق من تراب والروح من ملكوت السماء فإذا شبع الجسد ركن إلى الأرض، وإذا لم يشبع اشتاق إلى الملكوت، قلت: فما سبب الجوع؟ قال: ملازمة الذكر والخضوع. وأبو عبد اللَّه محمد بن محمد حفيف، قال: خرجت من شيراز وحدي فتهت في البادية واشتد بي الجوع والعطش حتى سقط من أسناني ثمانية، وانتثر شعري كله، فوقعت إلى قرية فأقمت بها حتى تماثلت وخرجت إلى مكة ثم أتيت بيت المقدس ثم دخلت الشام فبت بمسجد إلى جانبه حانوت صباغ، وبات معي رجل به إسهال فبقي يخرج ويدخل إلى الصباح فلما أصبحنا صاح الناس نقب حانوت الصباغ وأخذ ما فيه فدخلوا المسجد ورأونا فسألونا فقال الرجل المبطون لا أدري، إلا أن هذا الرجل كان طول الليل يخرج ويدخل فأخذوني وما زالوا لجدوني ويضربوني ويقولون لي تكلم فاعتقدت التسليم فاغتاظوا من سكوتي وازدادوا علي حنقًا وحملوني دكان الصباغ وأثر رجل اللص قي الرماد، وقالوا: ضع رجلك فيه فوضعتها

رقثم الزاهد

فيه فوافقته فزادوا عقبا وخنقا وجاءوا بصاحب الشرطة وأمر بزيت ونصب قدرًا فأغلي الزيت فيه وجاءوا بمن يقطع يدي ونفسي ساكنة وجعل الأمير يهذي ويصول على فرأيته وعرفته وكان مملوكًا لأبي فكلمني بالعربية وكلمته بالفارسية فنظر إليّ فضحكت، فعرفني من ضحكي وجعل يلطم رأسه ووجهه وإذا بصيحة عظيمة وقعت بأخذ اللصوص والقبض عليهم فأعذر الأمير إلي وجهد بي كل الجهد أن أقبل شيئًا أو أقيم عنده فأبيت وهربت ليومي وحدثت بعض المشايخ بذلك فقال: هذه عقوبة انفرادك فما دخلت بعدها بلدًا فيها قصرًا إلا قصدتهم وكنت معهم. رقثم الزاهد قال: رأيت راهبًا على باب بيت المقدس كالواله لا يرقأ له دمع فهالني أمره وقلت أيها الراهب أوصني بوصية أحفظها عنك، قال: كن كرجل احتوشته السباع والهوام فهو خائف مذعور يخاف أن يسهو فتفترسه أو يلو فتنهشه فليله ليل مخافة إذا أمن فيه المفترون، ونهاره نهار حزن إذا فرح فيه البطالون ثم ولى وتركنى فقلت لو زدتني شيئًا عسى اللَّه أن ينفع به فقال يا هذا! الظمآن يكفيه من الماء أيسره. وأبو الحسن على بن محمد الجلال البغداي قال أخبرني: أحمد بن يحيى البزار البغدادي أنه قدم من مكة إلى بيت المقدس فندم على مجيئه، قال: تركت الصلاة بمكة بمائة ألف، وهنا بخمس وعشرين ألف صلاة، وبمكة ينزل عشرون ومائة رحمة للطائفين والمصلين والناظرين وأراد الخروج إلى مكة فرأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وذكر له ما خطر له من الفضل، فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نعم هناك الرحمة تنزل نزولًا وهنا تصب الرحمة صبًا ولو لم يكن لهذا الموضع محل عظيم -وأشار بيده إلى موضع الإسراء عند قبة المعراج- لما أسرى إليه بي". فأقام الرجل بالقدس إلى أن مات قال المشرف: وكانت هذه الرؤيا في رجب سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة. والإمام الحافظ أبو الفضل على بن أحمد بن محمد بن طاهر المقدسي الجوال في الآفاق الجامع بين الذكاء

والإمام محمد الطرطوشي الأندلسي

والحفظ وحسن التصنيف وجودة الخط رأيت نسخة بسنن أبي داود بخطه وهي عمده ولد الحافظ أبو الفضل ببيت المقدس سنة ثمان وأربعين وأربعمائة وأول ما سمع منه سنة ستين، ورحل إلى بغداد سنة سبع وستين، واجتمع في رحلته بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي، ثم رجع إلى بيا المقدس وأحرم منه إلى مكة المشرفة وأول من سمعه الفقيه نصر المقدسي ومات ابن طاهر سنة سبع وخمسمائة ببغداد. والإمام محمد الطرطوشي الأندلسي الفهري المالكي بن الوليد بن محمد بن خلف قرأ الأدب على ابن حزم ورحل إلى بلاد الشرق سنة ست وتسعين وأربعمائة وقدم بيت المقدس وحج وتفقه على أبي بكر الشاشى المستطهري وسكن الشام ودرس بها وكان إمامًا عابدًا زاهدًا عالمًا ولد سنة إحدى وخمسين وأربعمائة. والإمام أبو حامد محمد الغزالي حجة الإسلام الطوسي أقام بدمشق مدة ثم انتقل إلى بيت المقدس ورحل إلى الإسكندرية وأقام بها مدة ثم عاد إلى طوس مات سنة خمس وخمسمائة. وأبو الغنائم محمد بن على بن ميمون الترس الكوفي الحافظ ديِّن خيِّر ثقة رحل إلى الشام وسمع الحديث بيت المقدس وعنده فوائد تتعلق بالحديث مات سنة عشر وخمسمائة بالحلة وحمل إلى الكوفة وأقام أبو بكر محمد بن عبد اللَّه المقري الأشبيلي الحافظ المشهور بالتحقيق والتدقيق في العلوم تقدم ذكره. وأبو عبد اللَّه محمد الديباجي بن أحمد بن يحيي المقدسي العثماني من أولاد الديباج بن عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان رضي اللَّه عنه وعن أمه فاطمة بنت الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللَّه

ومحمد بن حاتم بن محمد بن عبد الرحمن الطائي

عنهم سمي الديباج لحسنه لأن ديباجة وجهه كانت تشبه ديباجة وجه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أصله من مكة، وأقام بيت المقدس وهو فقيه فاضل متقدم حسن السيرة، قوال بالحق، كان يقال: سمي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وشبيهه مات، يوم الأحد سابع عشر من صفر سنة تسع وعشرين وخمسمائة، ودفن بالوردية. ومحمد بن حاتم بن محمد بن عبد الرحمن الطائي أبو الحسن الطوسي تفقه على إمام الحرمين، وسافر إلى العراق، والحجاز، والشام، ودخل بيت المقدس وسمع به الحديث، وأبو رباح ياسين بن سهل الخشاب، مات بنيسابور سنة اثنتي عشرة وخمسمائة. وأبو محمد عبد اللَّه بن الوليد بن سعد بن بكر الأنصاري الفقيه المالكي سكن مصر وروى بها عن أبي محمد عبد اللَّه عن أبي زيد القيرواني وأبي الحسن علي بن محمد بن خلف القابسي وغيرهما قال ابن الوليد أنبأنا أبو محمد بن أبي زيد قال إجماع آداب الخير وأزمنه في أربعة أحاديث قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" وقوله: "المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه" توفي ابن الوليد ببيت المقدس. وأبو بكر محمد بن أبي بكر الجرجاني من أهل جرجان من عمل نيسابور توجه هو وأبو محمد سعد بن السمعاني إلى زيارة بيت المقدس ثم رجعا ولم يفترقا إلى العراق قال ابن السمعاني في حقه (كان نعم الصاحب وهو الشيخ الصالح دائم البكاء جاور بمكة سنين وخدم المشايخ الكبار ولد سنة خمس وستين وأربعمائة ومات سنة أربع وأربعين وخمسمائة. وأبو الحسن علي بن محمد المعافري بن علي بن حميد بن سعد الدين المالقي محدث مجيد سمع المستقصى بقراءته على مؤلفه بالمسجد الأقصى في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة ست

وأبو سعد بن عبد الكريم بن محمد بن منصور بن السمعاني

وتسعين وخمسمائة. وأبو سعد بن عبد الكريم بن محمد بن منصور بن السمعاني تاج الإسلام له الدلائل على تاريخ مدينة الإسلام في عدة مجلدات قدم بيت المقدس زائرا، ومات سنة إحدى وستين وخمسمائة. الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب منقذ بيت المقدس من أيدي المشركين تقدم ذكره فيما كان له من الفتوح الذي أنزل اللَّه به الملائكة والروح كانت وفاته في صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة تغمده اللَّه برحمته ورضوانه، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه عن الإسلام وأهله أفضل ما أجزى راعيًا عن رعيته. والشيخ الزاهد أبو عبد اللَّه القدسي محمد بن أحمد بن إبراهيم له كرامات ظاهرة، ومناقب جليلة باهرة، وأهل مصر يذكرون عنه أشياء خارقة قدم بيت المقدس وأقام به إلى أن مات سنة تسع وتسعين وخمسمائة عن خمس وخمسين سنة وقبره ظاهر يزار بتربته باملا. وعلى ذكر إجماع الطوائف كلها على تعظيم بيت المقدس وقصد زيارته ما خلا طائفة السامرة أقول: قال صاحب "مثير الغرام" في آخر فصل ختم به كتابه المذكور: اعلم أن القدس الشريف بلد عظيم أجمعت الطوائف كلها على تعظيمه ما خلا طائفة السامرة؛ فإنهم يقولون إن القدس جبل نابلس وخالفوا جميع الأمم في ذلك، وقد كانت بنو إسرائيل إذا نزل جهم خوف من عدو وأجدبوا صوروا القدس وجعلوه هيكلًا وصوروا أبوابه ومحاريبه واستقبلوا به العدو فهزمهم اللَّه تعالى وكذلك في الجدب إذا صوروه واستسقوا به فلا تزال السماء تمطرهم حتى يرفعوا الهيكل وكانوا يفعلون ذلك في كل أمر مهم يدهمهم انتهى واللَّه أعلم.

الباب الحادي عشر في فضل سيدنا الخليل عليه الصلاة والسلام وفضل زيارته وذكر مولده وقصته عند إلقائه في النار وذكر ضيافته وكرمه وذكر معنى الخلة واختصاصه بها، وذكر ختانه وتسروله وشيبه ورأفته جهذه الأمة وأخلاقه الكريمة وسنته المرضية التي لم تكن لأحد من

الباب الحادي عشر في فضل سيدنا الخليل عليه الصلاة والسلام وفضل زيارته وذكر مولده وقصته عند إلقائه في النار وذكر ضيافته وكرمه وذكر معنى الخلة واختصاصه بها، وذكر ختانه وتسروله وشيبه ورأفته جهذه الأمة وأخلاقه الكريمة وسنته المرضية التي لم تكن لأحد من قبله وأنها صارت شرائع وآدابا لمن بعده، وذكر عمره، وقصته عند موته، وكسوته يوم القيامة. اعلم أن اللَّه تعالى بفضله ومنَّه قد كرم بنى آدم على سائر الخلق فقال جل ثناؤه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] ثم قسمهم أقسامًا ورفع بعضهم فوق بعض درجات.

وفضل الأنبياء على جميع خلقه، ثم زاد بعض الأنبياء تشريفًا بالرسالة فتميزوا بها على الأنبياء ثم خص بالأفضلية من المرسلين أولي العزم وجعلهم أهل الشرائع والكتب وجعلهم بهذه المزية أخص الخواص ورقاهم بسابق عنايته الربانية إلى مراتب عليت المراتب الأولى، التكريم العام، والمرتبة الثانية النبوة، وناهيك بها شرفًا، والمرتبة الثالثة، الرسالة: والمرتبة الرابعة أن جعلهم من أولى العزم وأصحاب هذه المرتبة من المرسلين نالوا الكمال من ربهم بسابق علمه فيهم ولقبول عملهم لذلك فحمله أهل الشرائع أولو العزم الخمسة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى للَّه عليهم أجمعين ثم أودع سبحانه في كل واحد من هؤلاء خصائص أكرمه بها فمنهم من أكرمه بالخلة ومنهم من أكرمه بالكلام إلى غير ذلك من الكرامات الباهرة والخصائص الظاهرة، وجمع في حبيبه محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- حقائق الجميع وسرائر أهل التبليغ والتشريع، فهو الفرد الجامع البديع الرفيع ثم شرف بعده السيد الجليل أبا الأنبياء إبراهيم وجعله السيد الكامل والأب الفاضل ونبه سبحانه وتعالى في كتابه المبين على فضله وشرفه في آيات متعددة ناطقة بتعطم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتوقيره بكل ما جاء به من نوع الإجلال والتعظيم "فهو نابع في حق الأنبياء" فهو من مزايا وخصوصية سيدنا الخليل إبراهيم على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة وأزكى التسليم وهو من أجلهم رتبة وأعظمهم منزلة وقربة، وعلى ذكر فضلهم صلى اللَّه عليهم وسلم قولٌ نصه اللَّه سبحانه وتعالى في كتابه العزيز في حق رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- واجتبائهم واصطفائهم وعظيم قدرهم وشرف محلهم ما يجل عن الوصف فربما جمع فضلهم وشرفهم وربما ذكر كل واحد منهم بخصوصية كما شرف السيد الخليل عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، إلى غير ذلك مما أنزل في حقه من الآيات المخصوصة به مما يزيد على ثلاثين آية فعلى هذا التقدير يجب تعظيم الجميع وتوقيرهم سيما والدهم وإمامهم -صلى اللَّه عليه وسلم- فيتأكد تعظيمه لأن تعظيمه

يزيد الإيمان به، ومزيد الإيمان به مفتاح لمزيد الإيمان باللَّه تعالى ويترتب على من اعتقد أن تعظيمه يزيد الإيمان به ثلاثة أمور منها: ما هو فرض، ومنها ما هو ندب ومنها: ما هو مستحب، فالفرض هو الإيمان به واعتقاد فضله وشرفه وتعظيمه وتوقيره وإنزال قدره الشريف من القلب في أعظم المنازل وأسناها، أما الندب فهو التأدب معه غيبة وحضورًا والخضوع عند سماع اسمه ونقل. حديثه والتذلل عند زيارته ورؤية قبره وخفض الصوت بقربه والإمساك عن كل ما لا يجوزه الشرع لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- شاهد له في حركاته وذلك لوجود حياته في قبره فإن الأنبياء أحياء في قبورهم ولا ينكر حياة الأنبياء إلا جاهل يخاف عليه سوء العاقبة والعياذ باللَّه تعالى. أما الاستحباب فيستحب لمن هو شاهد حضرته الشريفة أن يقصد كل يوم مرة زيارته والتمثل بحضرته والتشفع به معتقدًا بفضائل هذا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الكريم والأب الرحيم ما جعله اللَّه تعالى خاصًا به علمًا لغيره وهو النبوة والرسالة والملة والهداية والقبلة والدعوة والإمامة والإنابة والأبوة والخلة والفتوة والصلاة والرأفة والحلم والعلم والرشد والوفاء والصفاء والحياء والسخاء والاجتباء والاصطفاء وسلامة القلب وكرم الخلق واستقامة الدين والرضى والتسليم والتتميم للكلمات والحسبة وإسناده للبيت المعمور وارتقائه إلى السموات السبع والذرية الكرام البررة وإيثاره البيت الحرام والصحف والكبش من الجنة وأنشأ الفطر في الأولين ولسان صدق في الآخرين والسماط والسرداب والقنديل والشبيبة المغيرة إلى غير ذلك من فضائله التي أكرمه اللَّه تعالى بها وجعلها إكرامًا له ورشادًا لغيره وشرائع وآدابًا لمن بعده فكان أول من أظهرها وبينها ونفع اللَّه العباد بها ببركة إرشاده فله في ذلك فضيلتان: فضيلة التلبس بهن والعمل وثواب إرشاد الخلق إلى سلوك منهاجها القويم. واعلم أن اللَّه سبحانه أكرم خليله -صلى اللَّه عليه وسلم- بكرامات ومعجزات دالات على جلالة قدره وعظيم فضله وعلو رتبته. ومنها

أنه زعزع نمرود وزعزع قصره وهو في صلب أبيه، ومنها أنه نكس الأصنام وهو في بطن أمه، ومنها طلوع نجم سعده قبل مولده، ومنها خفة مولده، ومنها سهولة وضعه، ومنها شربه عسلًا ولبنا من أصابعه، ومنها خضوع الوحوش والسباع عند رؤيته، ومنها إقرار البقرة الحراث برسالته، ومنها إقرار الوحش بنبوته، ومنها إشارة الحجل ببعثه ومنها شهادة المرضع بصحة حجته، ومنها قلت الأعيان من الرمل بالبر الخالص بمهمته، ومنها إسماع صوت ندائه بحج البيت الحرام لمن شاء اللَّه من خليفته وهو في عالم الأرواح تحت علم اللَّه ومشيئته ومنها وفود الحج كل عام من أقصى المشرق ومنتهى المغرب إلى البيت العتيق لنفوذ استجابة دعوته ومنها ندب الصلاة عليه وعلى آله على كل مصلٍ من تحيته فلا تتم صلاة عبد إلا بعد ذكر شريف اسمه واستجلاء شرف طلعته فهذا أعظم خصوصيته وأجل بركته -صلى اللَّه عليه وسلم- وعلى آله وصحبه وذريته صلاة تتشرف بها لي الدنيا والآخرة بزيارته ونحشر بها في الآخرة إن شاء اللَّه في زمرته. وروى صاحب كتاب الأنس بسنده إلى أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال قال رجل لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا خير الناس قال: "ذاك إبراهيم -صلى اللَّه عليه وسلم-" وفي لفظ لمسلم أن رجلًا قال له يا خير البرية قال: "ذاك أبي إبراهيم -عليه السلام-". وعلى ذكر زيارته -صلى اللَّه عليه وسلم- أقول هي التوجه الخاص الخالص والوقوف تجاه الحضرة الشريفة والسلام على الوجه المشروع والدعاء والتشفع إلى غير ذلك من الآداب. وكيفية الزيارة أن يبدأ الزائر بما يستحب له من تطهير القلب بالإقلاع عن الذنوب والإنابة إلى اللَّه سبحانه وتعالى ثم التطهر الكامل من الغسل والوضوء ثم ينوي بقلبه زيارته -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم يتوجه بعزم ورغبة ويكثر في طريقه من الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-

وعلى سائر النبيين والمرسلين، فإذا أتى باب الحرم وقف هنية لطيفة كالمستأذن ثم يقدم رجله اليمنى ويدعو بما يستحب أن يدعو به إذا دخل المسجد فإذا دخل المسجد صلى ركعتين تحية المسجد حيث شاء من المسجد ثم يتوجه إلى قبر سيدنا الخليل نبي اللَّه إسحاق -صلى اللَّه عليه وسلم- ويقف من بعد ثم يستغفر اللَّه ثم يسلم عليه فإذا سلم سكت هنيهة طامعًا في جواب سلامه لأنه لا شك يرد عليه. وكيفية السلام عليه أن يقول: السلام عليك أيها النبي الكريم ورحمة اللَّه وبركاته ثم يقصد السيد الخليل -صلى اللَّه عليه وسلم- فإذا وصل إلى الباب وقف هنية لطيفة كالمستأذن ثم إن شاء دخل، وإن شاء وقف مكانه، فإنه يرى الحجرة المقدسة وكلما تأدب كان أقرب للقبول، فإذا وضع نظره على الضريح المقدس يطرق (بروحه) هنية، ثم يستغفر اللَّه وأكمل الاستغفار سبعون مرة وأقله ثلاث مرات ثم يرفع رأسه ويقول: يا سيدي يا خليل اللَّه أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأنك عبد اللَّه ورسوله وخليله جزاك اللَّه عنا خيرًا بما هو أهله ثم يقول: صلوات اللَّه البر الرحيم والملائكة المقربين والأنبياء المرسلين والصديقين والشهداء والصالحين من أهل السموات وأهل الأرضين عليك يا أبا الأنبياء يا خليل اللَّه وعلى ولدك السيد الكامل الفاتح الخاتم سيد الأولين والآخرين محمد حبيب اللَّه وعلى آلكما وصحبكما كلما ذكركما الذاكرون وغفل عن ذكركما الغافلون، وأكمل العدد من هذا أيضًا سبعون مرة فإن له تأثيرًا عظيمًا مجردًا وأقله ثلاث مرات ثم يدعو بما شاء من خيري الدنيا والآخرة له ولوالديه ولسائر أحبابه والمسلمين ثم يلتفت نحو السيدة سارة ويقول: السلام عليكم أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ورحمة اللَّه وبركاته إنما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم "تطهيرًا" وأكمل الزيارة والإتيان بها على الوجه المشروع أن يبدأ الزائر بزيارة الخليل عليه الصلاة والسلام ثم بزوجته السيدة

سارة ثم السيد نبي اللَّه إسحاق -عليه السلام- فإذا وقف عنده يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته يا نبي اللَّه إسحاق صلى اللَّه عليك وعلى والدك السيد الكريم الخليل وعلى ذريتك الطيبين الطاهرين ورحمة اللَّه وبركاته، يا نبي اللَّه إني متوجه بك إلى ربي في حوائجى لتقضي لي، ثم يدعو ما شاء ثم يلتفت عن شماله ويسلم على السيدة الجليلة زوجة سيدي إسحاق ويقول: السلام عليكم أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ورحمة اللَّه وبركاته ثم يمضي بأدب وسكون ويقصد السيد الجليل نبي اللَّه يعقوب عليه السلام ويفعل عنده كما فعل عند أبيه إسحاق عليه السلام وكذا عند زوجته، ثم يقصد نبي اللَّه يوسف عليه السلام ويفعل كما سبق، ثم يقصد شباك خليل اللَّه إبراهيم -صلى اللَّه عليه وسلم- ويقف بالقرب منه ثم يسلم ويدعو اللَّه تعالى بما شاء، فإن الدعاء هناك مستجاب ثم يسأل اللَّه بجميع أنبيائه خصوصًا بسيد الأولين والآخرين سيدنا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وعلى أصحابه وآله أجمعين، ثم يمسح وجهه ويمضي مسرورًا مقبولًا إن شاء اللَّه. ووجه كمال الزيارة على هذا الترتيب الذي ذكرناه بما فيه من البداية بالآباء والتثنية بالأبناء والاختتام بالأب الكريم خليل اللَّه إبراهيم -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكلما ذكره أهل العلم السابقون والمتأخرون في مناسكهم من آداب الزيارة في حق سيدنا ونبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فهو سائغ في حق هذا النبي الكريم خليل اللَّه إبراهيم من غير تردد ولا تقصير، ولا إخلال بشيء فمن أهمل شيئًا من ذلك فلجهله وحرمانه ومن تحلى بما أدبه اللَّه من الدخول في سلك أوليائه وأهل طاعته بقصد المعالي من الأمور الموجبة للارتقاء إلى المنازل العلية كان من الفائزين المقربين إن شاء اللَّه تعالى. وعلى ذكر قصد زيارة إبراهيم الخليل عليه السلام وأبنائه الأكرمين صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين أقول روى الحافظ أبو محمد القاسم ابن الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة اللَّه بسنده إلى أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: لما أسري بي إلى بيت المقدس مر بي جبريل -عليه السلام- إلى قبر إبراهيم الخليل فقال انزل فصل

ههنا ركعتين فإن ههنا قبر أبيك إبراهيم -عليه السلام- وقد تقدم الحديث بطوله. وروى أبو الحسين عبد اللَّه بن الحسن بن عمر اللخمي المقدسي بسنده إلى عبد اللَّه بن سلام رفعه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: (من لم يمكنه زيارتي فليزر قبر أبي إبراهيم الخليل عليه السلام) وروى الشيخ أبو منصور بسنده إلى وهب بن منبه قال: (يأتي على الناس زمان تنقطع فيه السبل ويمنح اللَّه تعالى جل ثناؤه من الحج فمن لم يصل إلى ذلك فليزر قبر أبي إبراهيم الخليل عليه السلام فإن من زاره فكأنما زارني) وعنه أيضًا: (إن الزيارة إلى قبر أبي إبراهيم الخليل -عليه السلام- عنده حج الفقراء ودرجات الأغنياء) ورواه أيضًا المشرف بن المرجا، وعن وهب بن منبه عن كعب قال: من زار بيت المقدس وقصد قبر إبراهيم -عليه السلام- للصلاة فيه خمس صلوات ثم سأل اللَّه عز وجل شيئًا أعطاه اللَّه إياه وغفر ذنوبه كلها ولا يخرج من الدنيا حتى يرى إبراهيم -عليه السلام- فيبشره أن اللَّه تعالى قد غفر له. وروى أبو بكر بن جماعة بن الطيب المقدسي بسنده إلى كعب الأحبار الخبري قال: أكثروا الزيارة إلى قبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأظهروا الصلاة عليه وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر رضوان اللَّه عليهما قبل أن تمنعوا ذلك أو يحال بينكم وبين ذلك بالفتن وفساد السبل فمن فقد ذلك أو حيل بينه وبين الزيارة إلى قبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فليجعل رحلته وإتيانه إلى قبر إبراهيم -عليه السلام- وليظهر الصلاة عليه وليكثر الدعاء فإن الدعاء عنده مستجاب ولن يتوسل به أحد إلى اللَّه جل ثناؤه في شيء إلا لم يبرح حتى يرى الإجابة في ذلك عاجلًا أو آجلًا. وبسنده أيضًا إلى وهب بن منبه اليماني أنه قال: إذا كان آخر الزمان حيل بين الناس وبين الحج فمن لم يحج ولحق ذلك فعليه بقبر إبراهيم الخليل -عليه السلام- فإن زيارته تعدل حجة وعن كعب الأحبار قال: لو يعلم الذي يعلم ماله من الثواب في إتيانه

إلى قبر إبراهيم -عليه السلام- لكان لا يبرح من تلك البقعة، ولا يتوسل أحد بإبراهيم -عليه السلام-، إلا أعطاه اللَّه تعالى ما سأل وأضعف له وذلك فوق مسألته لكرامة إبراهيم -عليه السلام- وحدث أبو الحسن موسى بن الحسين التاجر قال: حدثني رجل من أهل بعلبك قال: زرنا قبر إبراهيم الخليل -عليه السلام- وكان معنا رجل مغفل من أهل الجبل فسمعنا وقد زار القبر وهو يبكي وهو يقول: حبيبي إبراهيم سل ربك يكفيني فلانًا وفلانًا فإنهم يؤذياني ونحن نضحك منه ونتعجب من قوله، ثم رجعنا بعد مدة إلى يافا فوصل قارب من بيروت وفيه رجل من أهل بعلبك فحدثنا أن الثلاثة الذين سماهم ماتوا. وروى أبو علي الحسن بن جماعة بسنده إلى وهب بن منبه أنه قال: طوبى لمن زار قبر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام طوبى له يمحو اللَّه ذنوبه كلها ولو كانت مثل جبل أحد وعنه أنه قال: من زار قبر إبراهيم -عليه السلام- في عمره مرة لا يقينه إلا ذلك حشر يوم القيامة آمنًا من الفزع الأكبر ووقي فتنة القبر، وكان حقًا على اللَّه أن يجمع بينه وبين إبراهيم في دار السلام. وعلى ذكر مولده -صلى اللَّه عليه وسلم- وقصته عند إلقائه في النار، أقول قال ابن اسحاق رحمه اللَّه تعالى: لما أراد اللَّه عز وجل أن يبعث إبراهيم عليه السلام في حجة على قومه ورسولًا إلى عباده رأى نمرود في منامه كأن كوكبًا طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع لذلك فزعًا شديدًا وجمع السحرة والكهنة وسألهم عن ذلك، فقالوا له: هو مولود يولد في ناحيتك هذه السنة ويكون هلاكك وذهاب ملكك على يديه قال: فأمر نمرود بذبح كل غلام يولد في تلك السنة في تلك الناحية، وأمر بعزل الرجال عن النساء، وجعل على كل حامل أمينا، فكانت الحامل إذا وضعت حملها وكان ذكرًا ذبحه وقيل: بل

حبس جميع الحوامل إلا ما كان من أم إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ فإنه لم يعلم بحملها وعميت عنها الأبصار قال: وخرج نمرود بجميع الرجال إلى العسكر ونحاهم عن النساء كل ذلك تخوفًا من ذلك المولود الذي أخبر به وقيل: إن نمرود لما خرج بعسكره بدت له حاجة في المدينة لم يأمن عليها أحد من قومه إلا آزر، وذلك قبل حمل أم إبراهيم به فبعث إلى آزر وأسر إليه بحاجته وقال له: إني لم أبعثك إلا لثقتى بك، وأقسمت عليك أن لا تدنو من أهلك فقال آزر: أنا أشح على ديني من ذلك قال: ودخل آزر المدينة وقضى حاجته، ثم بدا له الدخول على أهله لرؤية حالهم وإصلاح شأنهم فلما دخل الدار واجتمع بأهله حكم عليه نفوذ الأقدار ونسي ما التزم به للنمرود فواقع أهله فحملت بإبراهيم -عليه السلام- قال: فلما استقر في بطنها تنكست الأصنام وظهر نجم إبراهيم -عليه السلام- له طرفان أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب فلما رآه نمرود تحير وازداد تخوفه، ولما تم حمل إبراهيم وجاء لأمه الطلق أرسل اللَّه إليها ملكًا على أجمل صورة من بني آدم فآنسها وسكن خوفها وبشرها بولد له شأن عظيم فلما ثقل عليها الحال قال لها: انهضي معي فقامت معه واتبعته فتوجه بها حتى أدخلها غارا هناك معما فلما دخلت الغار وجدت فيه جميع ما تحتاج إليه وخفف اللَّه تعالى عليها الطلق فوضعت السيد إبراهيم -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلة الجمعة ليلة عاشوراء فلما نزل إلى الأرض نزل جبريل عليه السلام وقطع سرته وأذن في أذنه وكساه ثوبًا أبيض، ثم عاد بها الملك إلى منزلها وتركت ولدها في الغار، قال: ولما طالت غيبة نمرود عن أرضه عاد في تدبير ما أهمه فبينما هو جالس يومًا على سريره وإذا هو قد انتفض من تحته انتفاضًا شديدًا وسمع هاتفًا يقول: تعس من كفر بإله إبراهيم فقال لآزر: أسمعت ما سمعته، قال: نعم؟ قال: فمن إبراهيم، قال آزر: لا أعرفه فأرسل إلى السحرة والكهنة وسألهم عن

إبراهيم فلم يخبروه بشيء من علمهم به وكان ذلك في يوم ولادته ثم توالت على نمرود الهواتف ونطقت الوحوش والطيور بمثل ذلك فكان نمرود لا يمر بمكان إلا ويسمع قائلًا يقول تعس من كفر بإله إبراهيم، قال: ثم إن نمرود رأى رؤية أخرى هالته وذلك أنه رأى القمر طلع في ظهر آزر وبقي نوره كالعمود الممدود بين السماء والأرض وسمع قائلًا يقول: جاء الحق وزهق الباطل ونظر إلى الأصنام وهي منكسة على كراسيها فاستيقظ فزعا مرعوبًا وقص رؤياه على آزر فخاف آزر على نفسه منه، وقال إنما: ذلك لكثرة عبادتي لهن، قال: وكان النمرود بليدًا جبانًا فرضي بقول آزر وسكت ثم بدا له الدخول إلى البلدة فلما حل بها دخل آزر على الأصنام وكان هو القيم لها فلما وقع نظره عليها تساقطت عن كراسيها فسجد آزر حين رأى ذلك فأنطقها اللَّه تعالى وقالت: يا آزر جاء الحق وزهق الباطل ووافى نمرود ما كان يحذره، فدخل آزر بيته وكان قد توهم في زوجته أنها حامل؛ فلما رآها وهي نشيطة سألها عن حالها فقالت: إن الذي كان ببطنى لم يكن ولدًا وإنما كان ريحًا وقد انصرف عنى فصدقها على ذلك، قال: وألقى اللَّه تعالى النسيان على نمرود لأمر إبراهيم فكانت أمه تتوجه إلى الغار قال: فتوجهت إليه مرة فرأت الوحوش والطيور على باب المغارة فخافت واضطربت وظنت أن ولدها قد هلك فلما دخلت عليه وجدته بنعمة وعافية على فراش من السندس وهو مدهون ومكحول فلما رأت ذلك منه ازدادت تعظيمًا له وعلمت أن له شأنًا عظيمًا وأن له ربًا يتولاه ووجدته من أصابعه الإبهام والسبابة فيشرب من واحد لبنًا ومن الآخر عسلًا قالت: وكان يشب شبًا لا يشبه الظمآن، يومه كالشهر وشهره كالسنة ولم يمكث في الغار إلا خمسة عشر شهرًا وتكلم، وقيل أكثر فقال لأمه يومًا: من ربي؟ قالت: أنا، قال: فمن ربك؟ قالت: أبوك، قال: فمن رب أبي؟ قالت: نمرود. قال: فمن رب نمرود؟ قالت له: اسكت

فسكت. ثم إنها رجعت إلى زوجها وقالت: أرأيت الغلام الذي يتحدث به إنه بغير دين أهل الأرض، قال: لا، قالت: إنه ابنك ثم أخبرته بأمره ومكانه فأتاه أبوه ونظر وفرح به، وقال له ما قاله لأمه: فقال له أبوه عند ذكر إله نمرود: اسكت. فسكت: قال: ثم إن إبراهيم قال لأمه يوما أخرجيني من الغار فأخرجته عشاء فلما خرج تفكر في خلق السموات والأرض ثم قال: إن الذي خلقنى ورزقني ويطعمنى ويسقيني لربي مالي إله غيره، ثم نظر إلى السماء فرأى كوكبًا فقال: هذا ربي ثم أتبعه ببصره وينظر إليه حتى غاب فسئمه قال: "لا أحب الآفلين" وهذا يدل على كمال عقله وعلمه إذ الآفل لا يجوز أن يكون إلهًا قال: ثم رأى القمر بازغًا قال: هذا ربي وأتبعه بصره حتى غاب فسئمه ورجع بفكره متوجهًا إلى ربه، وقال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ومضى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لئن لم يهدني ربي لأن الهداية والتوفيق بيده سبحانه قال: ثم طلعت الشمس فقال: هذا ربي هذا أكبر مني فلما أفلت سئمها وتوجه إلى ربه بقلب سليم ووجهه للحق بالصدق واليقين ونادى على قومه بالشرك المبين، وقال: {يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 78، 79] فنقله اللَّه تعالى من علم اليقين إلى عين اليقين. قال: ثم إن أباه ضمه إليه فشب شبابًا حسنًا ولا زال -صلى اللَّه عليه وسلم- في جميع أحواله مجملًا مكملًا حتى أكرمه اللَّه بما أكرمه من الأيات البينات والكرامات الباهرات ثم ألبسه خلعة الخلة وجعله من أولي العزم من الرسل وجعله أبا الأنبياء وتاج الأصفياء، ونور أهل الأرض وشرف أهل السماء وكان مولده بكوثا من إقليم بابل من أرض العراق على أرجح الأقوال قال ولم يبتل أحد من الخلق بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم عليه السلام، وهذا قول ابن عباس -رضي اللَّه عنه- لا جرم أن اللَّه عز وجل مدحه في كتابه العزيز بقوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]، والكلمات التي ابتلاها اللَّه من أجل شرائع الإسلام

ومن أعز ما امتحن به أهل الإيمان ولذلك مدحه اللَّه تعالى {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] ومعنى التوفية هو الإتمام لما طولب به في دينه ونفسه وماله وولده فأتم الجميع على الوجه المطلوب ولما صنع له نمرود المنجنيق وألقاه في النار ظهر تحقيق الابتلاء وصدق الولاء وذلك أنه لما نزل من عدوه ما نزل ووضع في المنجنيق استغاثت الملائكة قائلةً: يا ربنا هذا خليلك قد نزل به من عدوك ما أنت أعلم به، فقال اللَّه سبحانه لجبريل اذهب إليه فإن استغاث بك فأغثه وإلا فاتركني وخليلي، فتعرض له جبريل وهو يقذف به في لجة الهواء إلى النار فقال له: هل لك من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا وأما إلى اللَّه فبلى وقيل: جاءه جبريل -عليه السلام- فسأله فقال: أما إليك فلا حسبي من سؤالي علمه بحالى فلم يستنصر بغير اللَّه ولا جنحت له همته لما سوى اللَّه بل استسلم لحكم اللَّه مكتفيًا بتدبير اللَّه تعالى عن تدبير نفسه فأثنى اللَّه تعالى عليه بقوله تعالى {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] ونجاه من النار وقال لها: {يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] فقال بعض أهل العلم لو لم يقل اللَّه تعالى وسلامًا لأهلكه بردها فخمدت تلك النار وقيل: إنه لم يبق في ذلك الوقت نار في مشارق الأرض ومغاربها إلا خمدت ظانة أنها المعنية بالخطاب قال: وكان حين وضع في المنجنيق ورمي به جرد من ثيابه ولم يترك عليه إلا سراويله فقصد بعض السفهاء نزع السراويل عنه فشلت يده، وكان مقيدا بقيود وتلقاه جبريل عليه السلام فلم يضره ألم الهوي فلما استقر على الأرض وهي إذ ذاك جمرا أحمر يلتهب ويتوقد ولم يؤثر فيه شيء من حرارة النار وظهر للناظرين إليه والرائين له أن الأرض التي سقطت عليها مخضرة موفقة وجليسه جليس صالح حسن الوجه والهيئة كأحسن ما رأى راء، ثم ألبسه قميصًا من ثياب الجنة وفك قيده وآنسه وقال له: ربك يقرئك السلام ويقول لك أما علمت أن النار لا تضر

أحبائي. فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: حسبي اللَّه ونعم الوكيل، وكان -صلى اللَّه عليه وسلم- أول من جرد من ثيابه في سبيل اللَّه فلذلك كساه اللَّه في ذلك المحل قميصًا من الجنة وادخر له كسوة يكسى بها أول الخلق في القيامة كل ذلك وهو بمشهد من الخلق ينظرون إليه، فلما رآه وقد أكرمه اللَّه بما أكرم به آمن باللَّه جمع كثير في سر من نمرود، قال: وخرج إبراهيم من مكانه يمشي وفارقه جبريل عليه السلام فأقبل نحو منزله فأرسل إليه نمرود وسأله عن كسوته ورفيقه فقال له: إنه ملك أرسله إلي ربي وقص عليه القصة، فقال نمرود: إن إلهك الذي تعبده لإله عظيم وإني مقرب قربانًا إليه لما رأيت من عزته وقدرته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته قال: فقرب أربعة آلاف بقرة ثم احترم إبراهيم بعد ذلك وكف عنه، ثم قال له يومًا: أسألك أن تخرج من أرضى هذه إلى حيث شئت فأجابه إلى ذلك وخرج هو وأهله فنزل الرها، ثم انتقل إلى حلب، ثم إلى الشام، ثم إلى بيت المقدس إلى محله الآن، فهو أول من هاجر من وطنه في ذات اللَّه حفظًا لإيمانه فلما أن فعل ذلك جازاه اللَّه تعالى أن جميع الملل تفد إليه سعيًا من سائر أقطار الدنيا. وعلى ذكر صباه وكرمه، وذكر الخلة واختصاصه بها أقول: روى صاحب كتاب الأنس بسنده إلى عكرمة قال: كان إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام يدعى أبا الضيفان، وقال الغزالي في باب الضيافة من كتاب الإحياء أن

إبراهيم -عليه السلام- كان إذا أراد أن يأكل خرج ميلًا أو ميلين يلتمس من يأكل معه وكان يكنى أبا الضيفان وبصدق نيته في الضيافة دامت ضيافته في مشهده إلى يومنا هذا فلا ينقضي يوم وليلة إلا ويأكل عنده ضيف، وقال قوام الموضع: لم يخل المكان إلى الآن ليلة عن ضيف قال: وحدثنى محمد بن عبد السلام بن حسين عن بعض الشيوخ قال: كان رجل شريف القدر محتشم من أهل دمشق ذو جاه يزور سيدنا الخليل -عليه السلام- كل حين وكان يؤتى بالضيافة التي جرت العادة بها لزواره فيردها ولا يأكل منها شيئًا فجاء مرة وهو ملهوف وجعل يطلبها ويجد في طلبها حتى قيل: إنه كان يتتبع ما بقى في القصاع ويلتقط ما يجد من لباب الخبز وفتاته فيأكله فقيل له في ذلك: فقال: رأيت الخليل عليه السلام فقال: ما أكلت ضيافتنا فما قبلنا زيارتك فإن أكلت ضيافتنا قبلنا زيارتك. وروى الحافظ ابن عساكر بسنده إلى ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: إن اللَّه تعالى وسع على إبراهيم -عليه السلام- في المال والخدم فاتخذ بيت ضيافة له بابان يدخل الغريب من أحدهما ويخرج من الآخر، ووضع في ذلك البيت كسوة الشتاء وكسوة الصيف ومائدة منصوبة عليها طعام فيأكل الضيف ويلبس إن كان عريانا ويحدد إبراهيم -عليه السلام- كل حين مثل ذلك. روى صاحب كتاب "الأنس" بسنده إلى وهب بن الورد قال: بلغنا أن إبراهيم عليه السلام لما قرب العجل إلى الضيوف، ورأى أيديهم لا تصل إليه، قال: لِمَ لا تأكلون قالوا: لا نأكل طعامًا إلا بثمنه قال: أو ليس معكم ثمنه؟ قالوا: وأنى لنا بثمنه؟ قال: تسمون اللَّه تبارك وتعالى إذا أكلتم وتحمدونه إذا فرغتم قالوا: سبحان اللَّه لو كان ينبغي للَّه أن يتخذ خليلا من خلقه لا تخذك يا إبراهيم خليلا قال: فاتخذ اللَّه إبراهيم خليلا، وقيل: إن الملائكة لما رأت ازدياد إبراهيم -عليه السلام- في الخير وإقبال الدنيا عليه ولم يشغله ذلك عن اللَّه طرفة عين عجبت من ذلك وقالت: إن ظاهره الحسن وأنه لا يؤثر على ربه شيئًا فهل هو في قلبه هكذا فعلم

اللَّه سبحانه وتعالى منهم ما تكلموا به فأمر ملكين من أجلاء الملائكة قيل: إنهما جبريل وميكائيل عليهما السلام أن ينزلا عليه ويستضيفانه ويذكرانه بربه ويرفعان صوتهما عنده بالتسبيح والتقديس للَّه تعالى، فنزلا عليه على صورة بنى آدم سألاه الإذن لهما في المبيت عنده فأذن لهما وأكرم نزلهما ورفع محلهما، فلما كان بعض الليل وهو يسامرهما إذ رفع أحدهما صوته وقال: سبحان الملك القدوس ذي الملك والملكوت ثم رفع الأخر رأسه وقال: سبحان الملك القدوس بصوت لم يسمع مثله قال: فأغمي على إبراهيم عليه السلام ولم يملك نفسه من الوجد والطرب ثم أفاق بعد ساعة وقال لهما: أعيدوا علي ذكركما فقالا: لن نفعل حتى تجعل لنا شيئا معلومًا فقال لهما: خذا ما تختارا من مالي فقالا له: أعطنا ما شئت فقال: لكما جميع مالي من الغنم وكان شيئًا كثيرًا فرضيا بذلك ثم رفعا صوتهما وقالا كالأول فأغمي عليه، فلما أفاق وعلم أنهما لا يقولان شيئًا إلا بمعلوم قال لهما: لكما جميع مالي من البقر وأعاد ولم يزالا يكررا عليه الذكر ويتجلى به ويستغرق في لذته حتى أعطاهما جميع موجوده من ماله وأهله، ولم يبق إلا نفسه فباعهما ورضي لهما أن يكون في رفقتهما، وجعل في عنقه شدادًا وسلمهما نفسه وقال لهما: تجودا علي بالذكر مرة أخرى فلما رأيا منه ذلك قالا: حقًا لك أن يتخذك اللَّه خليلًا، ثم حكيا له ما كان من الملائكة فتبسم، وقال حسبي اللَّه ونعم الوكيل، ثم قالا له: أمسك عليك مالك بارك اللَّه لك وعليك وعلى ذريتك. قال: فمَنَّ اللَّه عليه تعالى بإبقاء ذريته وسماطه وزاده بركة وخيرًا وجعل سماطه ممدودًا من يومه ذلك إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة إن شاء اللَّه تعالى. وروى بعض الشيوخ المنسوبين إلى العلم والفضل، أن فرقة عطمة من أشراف الناس نزلت على إبراهيم عليه السلام فأضافهم أحسن الضيافة وأكرمهم أحسن الكرامة، وبالغ في إكرامهم مدة مقامهم عنده فلما عزموا على الانصراف قال بعضهم

لبعض: إن هذا الرجل قد أكرمنا وزاد في إكرامنا حتى احتشمنا منه فتعالوا حتى نقول له: إن كان له حاجة فقضيناها له أو معونة على أمر أعناه عليه مكافأة لما صنع معنا من الجميل فقالوا له: إنك قد أكرمتنا وزدت في إكرامنا فإن كان لك حاجة قضيناها للث أو معونة على أمر أعناك عليه، فقال: لي إليكم حاجة مهمة أريد أن تقضوها لي، فقالوا: ما هي؟ قال: تسجدوا لإلهي سجدة واحدة فقالوا: لا سبيل إلى ذلك وصعب عليهم هذا الأمر وأنكروه أشد الإنكار وكانوا مشركين باللَّه تعالى، وإلي إليكم حاجة إلا هذه فإن قضيتموها وإلا فما لي حاجة غيرها فقال بعضهم لبعض: ما علينا من ذلك، تعالوا حتى نقضي حاجته ونسجد لإلهه سجدة واحدة، ونحن باقون على ديننا لا نتغير عنه وأجمعوا على ذلك، وقال لإبراهيم نحن نقضي حاجتك، قال: فافعلوا فاستقبلوا قبلة إبراهيم وسجدوا كلهم وسجد إبراهيم معهم، وذكر اللَّه تعالى في سجوده، وقال: اللهم إني قد فعلت ما قدرت عليه من إصلاح ظواهرهم ولا أقدر على إصلاح بواطنهم فأصلحها فهداهم اللَّه كلهم إلى الإيمان والتوحيد، فرفعوا رؤوسهم من سجودهم وهم مؤمنون وموحدون فسر إبراهيم عليه السلام بذلك وصاروا كلهم على دينه دين الحق فظهر عليهم أثر بركته واستجاب دعوته. وروى صاحب كتاب الأنس بسنده إلى وهب قال: لما اتخذ اللَّه إبراهيم خليلًا كان يسمع خفقان قلبه من بعد خوفًا من اللَّه تعالى. وروى أبو نعيم الحافظ عن ابن عمر قال: "قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لجبريل: يا جبريل لِم اتخذ اللَّه إبراهيم خليلا؟. قال: لإطعامه الطعام" وبسنده أيضًا إلى وهب بن منبه قال: قرأت في الكتب المنزلة إن اللَّه تعالى قال لإبراهيم: أتدري لما اتخذتك خليلا؟ قال: لا يا رب، قال له: لإبقائك بين يدي، وروى الحافظ ابن عساكر، بسنده إلى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال "بعث اللَّه جبريل إلى إبراهيم فقال: لم اتخذتك خليلا على أنك عبد من عبادي؟ ولكن اطلعت على قلوب الآدميين فلم أجد قلبًا أسخى من قلبك فلذلك اتخذتك خليلًا". وفي الصحيحين عن ابن عمرو بن مسعود أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: بعث اللَّه جبريل إلى النبي إبراهيم فقال له اتخذتك

خليلًا على أنك عبد من عبادي وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا أيها الناس إن اللَّه تعالى اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلا"، قال القاضي عياض رحمه اللَّه: اختلف في تفسير الخلة واشتقاقها فقيل: الخليل المنقطع إلى اللَّه تعالى الذي ليس له في انقطاعه إليه ومحبته له اختلال وأصل الخلة الاستقصاء، وسمي إبراهيم خليل اللَّه لأنه يوالي في اللَّه تعالى ويعادي في اللَّه تعالى، وخلة اللَّه تعالى نصره وجعله إمامًا لمن بعده والخليل أصله الفقير المحتاج المنقطع مأخوذ من الخلة وهي الحاجة فسمي بها لأنه قصر حاجته على ربه وانقطع إليه بهمته ولم يجعل له وليا غيره حيث قال له جبريل -عليه السلام- وهو في المنجنيق ليرمى به في النار: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. قال الأستاذ أبو بكر بن فورك: الخلة صفاء المودة التي توجب الاختصاص بتخلل الأسرار، وقيل: أصل الخلة المحبة ومعناها الإشفاق، والإلطاف، والترفيع، والتشفيع، والخلة هنا أقوى من النبوة لأنها قد تكون مع عداوة قال اللَّه تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن: 14] , فالعداوة مع الخلة ووصف إبراهيم ومحمد صلى اللَّه عليهما وسلم بالخلة إما لانقطاعهما إلى اللَّه تعالى دون غيره وقصر حوائجهما على اللَّه تعالى والاضطراب على الوسائط والأسباب أو لزيادة الاختصاص من اللَّه تعالى لهما وخفي الطاقة عندهما وما خالط بواطنهما من الأسرار الإلهية ومكنون غيوبه ومعرفته ولاصطفائه لهما واستصفاء قلوبهما وتفريغهما عمن سواه حتى لا يخايل حب لغيره ولهذا قيل: الخليل من لا يسع قلبه غير خليله وهو عندهم معنى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنت متخذا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن

أخوة الإسلام". واختلف العلماء أرباب القلوب هل الخلة والمحبة شيئان أو أحدهما أرفع من الآخر، فقيل سيان، فالحبيب خليل، والخليل حبيب، ولكن خص إبراهيم بالخلة، ومحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمحبة وقيل: الخلة أرفع للحديث المذكور لو كنت متخذا خليلًا غير ربي؛ فلم يتخذ أبا بكر خليلا -وأطلق على نفسه الشريفة أن المحبة أرفع لأن درجة نبينا الحبيب -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأصل المحبة الميل الى ما يوافق المحبوب وهذا فيمن يأتي منه الميل وهي درجة المخلوقين، أما الخالق جل جلاله فمنزه عن ذلك فمحبته لعبده تمكينه من سعادته وعصمته وتوفيقه وتهيئة أسباب القرب وإفاضة رحمته عليه وقصواها كشف الحجب عن قلبه حتى يراه بعين قلبه وينظر إليه ببصيرته كما في الحديث: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به". ولا ينبغي أن يفهم من ذلك سوى التجرد للَّه تعالى والانقطاع إليه والإعراض عمن سواه وصفاء القلب للَّه وإخلاص الحركات له سبحانه وتعالى وعلى ذكر حنانه وتسروله وشفقته ورأفته بهذه الأمة وأخلاقه الكريمة وسنته المرضية التي لم تكن لأحد قبله وأنها صارت شرائع وآدابًا لمن بعده. أقول: وروى الحافظ ابن عساكر بسنده إلى أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "اختتن إبراهيم -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو ابن عشرين ومائة سنة عاش بعد ذلك ثمانين سنة" وفي الصحيحين عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "اختتن إبراهيم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم" وهو بالتخفيف والتشديد قال النووي رحمه اللَّه تعالى، وروى الحافظ ابن عساكر في تاريخه بسنده، أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ربط إبراهيم عليه السلام عزلته وجمعها إليه ومد قدومه وضرب قدومه بعود كان معه فندرت بين يديه بلا ألم ولا دم وختن إسماعيل عليه السلام وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وختن إسحاق وهو ابن سبعة أيام"، وعن عكرمة قال: اختتن إبراهيم -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو ابن

ثمانين سنة فأوحى اللَّه إليه أنك قد أكملت إيمانك إلا بضعة من جسدك فألقها فختن نفسه بالفأس. وقال ابن عباس كان إبراهيم الخليل أول من لبس السراويل وذلك أنه كان -عليه السلام- كثير الحياء وكان من حيائه يستحي أن ترى الأرض هواكيره فاشتكى إلى اللَّه عز وجل ذلك فأوحى اللَّه تعالى إلى جبريل عليه السلام فهبط عليه بخرقة من الجنة ففصلها جبريل سراويل وقال له: ادفعها إلى سارة، وكان اسمها سارة فلتخطه فلما خاطته سارة لبسه إبراهيم -عليه السلام- قال ما أحسن هذا وأستره يا جبريل فإنَّه نعم السترة للمؤمن فكان إبراهيم -عليه السلام- أول من لبس السراويل، وأول من فصل وخاط سارة بعد إدريس عليه السلام، وفي رواية عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه جل ثناؤه أوحى إلى إبراهيم -عليه السلام- أنك خليلي وأحب أهل الأرض إليّ وأنك إذا سجدت وقعت عورتك على الأرض فاتخذ ثوبًا يواريها فقال لجبريل: يا جبريل ما هذا الثوب الذي يواريها قال السراويل قال: ادع بثوب حتى أقطعه لك قال وكان إبراهيم -عليه السلام- بزازا فدعى بثوب ودفعه إلى جبريل فقطعه جبريل سراويل وخاطته سارة فلما لبسه إبراهيم -عليه السلام- قال: ما لبست ثوبًا أحب إلي منه فإذا مت فغسلوني من تحته وكفنوني من فوقه" وكان إبراهيم عليه السلام أول من لبس السراويل والنعلين، وأول من قاتل بالسيف، وأول من قسم الفيء، وأول من اختتن بموضع يسمى القدوم، وسبب ختانه أنه أمر بقتال العمالقة فقاتلهم فقتل خلق كثير من الفريقين، فلم يعرف إبراهيم -عليه السلام- وختن نفسه بالقدوم، وروى الفقيه أبو علي الحسن بن جماعة المقدسي بسنده إلى

ابن عباس رضي اللَّه عنه أنه قال: أول من سمانا مسلمين إبراهيم -عليه السلام-، وهو أول من ضرب بالسيف من الأنبياء، وكسر الأصنام، واختتن، ولبس السراويل والنعلين، ورفع يديه في الصلاة في كل خفض، ورفع وصلى أول النهار أربع ركعات جعلهن نفسه فسماه اللَّه وفيا فقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] قال ابن عباس: هي الأربع في أول النهار، وهو أول من أضاف الضيف، وثرد وفرق الشعر، واستنجى بالماء، وقلم الظفر، وقص الشارب، ونتف الإبط، وأول من استاك، وتمضمض وتنشق بالماء، وحلق العانة، وأول من صافح وعانق وقبل بين العينين موضع السجود، وأول من شاب، فقال ما هذا؟ فقال اللَّه تعالى: وقارا. فقال: ربي زدني وقارًا، فقال: ربي زدني وقارا فما برح حتى ابيضت لحيته، وأول من جر الذيل هاجر أمته فصارت سنة في النساء، فغارت منها سارة وحلفت أنها لقلأ يدها من دمها قال إبراهيم عليه السلام خذيها فاختنيها كي تكون سُنّة من بعدكن وتخلصين من يمينك ففعلت، فكانت هاجر أول من اختتن من النساء، وإبراهيم أول من اختتن من الرجال. وعن أبي أمامة، قال بينما إبراهيم -عليه السلام- من الملك العلام، ذات يوم إذ نظر إلى كف خارجة من السماء وبين أصبعين من أصابعها شعرة بيضاء فلم تزل تدنو حتى التصقت بالشعر في رأس إبراهيم عليه السلام ثم قال اشتعل وقارًا، فاشتعل رأسه منها شيبًا ثم أوحى اللَّه إليه أن تطهر فاختتن وكان أول من اختتن سارة وشاب إبراهيم عليه السلام. وروى الحافظ ابن عساكر بسنده إلى ابن أبي الأصبح بن ثباتة قال سمعت علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه يقول: كان الرجل يبلغ الهرم، ولم يشب وكان الرجل يأتي القوم وفيهم الوالد

والولد فيقول: أيكم الأب؟ لا يعرفون الأب من الابن فقال إبراهيم: ربي اجعل لي شيئًا أعرف به فأصبح رأسه ولحيته أبيضان. ومن رأفته بهذه الأمة وشفقته عليهم ما رواه الترمذي عن ابن مسعود رفعه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد أقرئ أمتك السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر". وفي رواية عن وهب بن منبه عن أيوب الأنصاري وفيه "فرأيت إبراهيم فرحب وسهل ثم قال: مر أمتك فليكثروا من غرس الجنة، فإن ترابها طيبة، وأرضها واسعة، فقال: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه". وفي لفظ للبيهقي عن ابن مسعود، وفيه "فقال لي إبراهيم: مرحبًا بالنبي الأمى الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته يا نبي إنك لآيه ربك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك أوجلها في أمتك فافعل". وأما أخلاقه الكريمة وسننه المرضية التي لم تكن لأحد قبله، وصارت شرائع لمن بعده فهو صلى اللَّه عليه وسلم خليل الرحمن، وأبو الضيفان، والمحبول له لسان صدق في الآخرين، فليس أحد من الأمم إلا وألسنتهم تجري بتصديقه وفضله وتبجيله وتعظيمه وتوقيره وذلك بفضل دعائه حيث قال: واجعل لي لسان صدق في الآخرين وهو المبتلى بأنواع البلاء بقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124]، والمشهور بالوفاء بقوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] والأمة والقانت بقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل: 120] أي معلما للخير واجتمع فيه من أنواع الخير وخلال الفضل ما لم يعلمه إلا اللَّه تعالى وأدّى رشده قبل بلوغه فدعى الخلق إلى الحق بلسان الحجة من صغره إلى كبره بقوله عز وجل: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: 83] وهو أول من

سماه اللَّه حنيفًا وبرأه من دعاوي اليهود والنصارى وشهد له بالإخلاص بقوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67] وهو الكفيل لأطفال المسلمين وقائد أهل الجنة، وهو الذي بنى الكعبة البيت الحرام، وأول من كسَّر الأصنام، وأقام مناسك الحج، وضحى، وألقي في النار في ذات اللَّه تعالى، فجعلها اللَّه عليه بردًا وسلامًا "وأحيا" الموتى بسؤاله وأول من يكسى حلة بيضاء يوم القيامة، ويوضع له منبر عن يسار العرش، وأول من خطب على المنابر، كما ورد في الحديث من رواية معاذ أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "إن اتخذ المنبر فقد اتخذه إبراهيم، وإن أتخذ العصا فقد اتخذها إبراهيم عليه السلام". وقد تقدم أنه أول من سمانا المسلمين، وأول من صافح وعانق وقبل بين العينين وأول من لبس النعلين وأضاف الضيف، وضرب بالسيف وثرد الثريد، وقسم الفيء وختن نفسه، وشاب وأول من قصَّر شاربه، وفرق شعره، وقلم أظافره، ونتف إبطه واستنجى وتمضمض، واستنشق بالماء، واغتسل للجمعة، وهاجر في دين اللَّه تعالى ورفع يديه في الصلاة في كل رفع وخفض وصلى في أول النهار أربع ركعات، وجعل من على نفسه فسماه اللَّه وفيًا، وهو الذي جعل مقامه قبلة للناس، وأمر محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو خير الأنبياء وأمته أفضل الأمم، أن يتبعوا ملته، وأن يتخذوا من مقامه مصلى وسماه اللَّه تعالى حليمًا، والحليم الرشيد الذي يملك نفسه عند الغضب، والأواه الذي يكثر التأوه من الذنوب، والمنيب الذي يقبل على ربه عز وجل في شأنه كله. وعلى ذكر عمره -صلى اللَّه عليه وسلم- وقصته عند موته وكسوته يوم القيامة أقول: روى صاحب كتاب الأنس بسنده إلى أبي حذيفة قال:

أخبرني ابن سمعان يرفعه إبراهيم عاش مائة سنة وخمس وتسعين سنة، وقيل مائتا سنة، فكان بينه وبين نوح عليهما السلام ألف سنة ومائة واثنتان وأربعون سنة وبين مولده وبين الهجرة النبوية ألفان وثمانمائة سنة واثنان وثلاثون سنة. قال هشام بن محمد عن أبية، قال: خرج إبراهيم عليه السلام إلى مكة ثلاث مرات، دعى الناس إلى الحج في آخرهن فأجابه كل شيء سمعه فأول من أجابه جرهم قبل العماليق ثم أسلموا، ورجع إبراهيم إلى الشام، فمات بها وهو ابن مائتي سنة وفي جامع الأصول عاش عليه السلام مائتي سنة وسنة ذكره الترمذي رحمه اللَّه. وروى صاحب كتاب الأنس بسنده إلى ابن عمر، قال: لما دخل ملك الموت على إبراهيم لقبض روحه وسلم عليه فرد عليه السلام، وقال: من أنت قال ملك الموت، وقد أمرت بك "فبكى" إبراهيم حتى سمع بكاءه إسحاق فدخل عليه، وقال يا خليل اللَّه ما يبكيك؟ قال: هو ملك الموت يريد أن يقبض روحى فبكى إسحاق حتى علا بكاءه بكاء أبيه فانصرف ملك الموت إلى اللَّه عز وجل فقال يا رب: إن عبدك إبراهيم قد جزع من الموت جزعًا شديدًا، فقال اللَّه تعالى لجبريل -عليه السلام-: يا جبريل خذ ريحانة من الجنة وانطلق بها إليه وحيه بها وقل له الخليل إذا طال به العهد من خليله اشتاق إليه وأنت خليل ما اشتقت إلى خليلك فأتاه جبريل -عليه السلام- فبلغه رسالة ربه ودفع إليه الريحانة فقال: نعم اشتقت إلى لقائك وشم الريحانة فقبض فيها، وقال أهل السير لما أراد اللَّه تعالى قبض خليله إبراهيم عليه السلام، أرسل إليه ملك الموت في صورة شيخ هرم، قال الثعالبي بإسناده: كان إبراهيم -عليه السلام- كثير

الإطعام يطعم الناس، ويضيفهم فبينما هو يطعم الناس، إذ هو بشيخ كبير يمشي في الحرم فبعث إليه بحماره وأركبه حتى إذا أتاه أطعمه، فجعل الشيخ يأخذ اللقمة ليدخلها فاه، فيدخلها في عينه وأذنه ثم يدخلها فاه، فإذا دخلت جوفه خرجت من دبره وكان إبراهيم -صلى اللَّه عليه وسلم- قد سأل اللَّه أن لا يقبض روحه حتى يكون هو الذي يسأل الموت، فقال للشيخ: حين رأى حاله، يا شيخ ما بالك تصنع هذا؟ فقال يا إبراهيم الكبر، قال ابن كم أنت؟ فذكر له من العمر ما زاد على عمر إبراهيم بسنتين، فقال إبراهيم -عليه السلام- بينى وبينك سنتان، فإذا بلغت ذلك صرت مثلك؟ قال نعم. فقال إبراهيم: اللهم اقبضنى إليك قبل ذلك فقام الشيخ وقبض روحه، فكان ملك الموت صلوات اللَّه عليه وسلامه. وقال الحافظ ابن عساكر: حدثنا عبد اللَّه بن رباح، عن كعب، قال: كان إبراهيم عليه السلام يقري الضيف، ويرحم المساكين، وابن السبيل، قال: فأبطأت عليه الأضياف حتى استراب فخرج إلى الطريق يطلب ضيفًا فمر به ملك الموت في صورة رجل فسلم على إبراهيم، فرد إبراهيم عليه السلام، ثم سأله، من أنت؟ قال ابن السبيل. قال: إنما قعدت هنا لمثلك انطلق فانطلق به لمنزله فرآه إسحاق فعرفه، وبكى إسحاق، فلما رأت سارة إسحاق يبكى بكت لبكائه، قال: ثم صعد ملك الموت فلما أفاقوا غضب إبراهيم عليه السلام، وقال: بكيتم في وجه ضيفي حتى ذهب، فقال: إسحاق: لا تلومني يا أبت فإني رأيت ملك الموت معك ولا أرى أجلك يا أبت إلا وقد حضر فارث في أهلك قال فأمره بالوصية وكان لإبراهيم عليه السلام بيت يتعبد فيه لا يدخله غيره فإذا خرج أغلقه فجاء إبراهيم يفتح بيته الذي يتعبد فإذا هو برجل جالس فقال له: من أنت؟ ومن أدخلك؟ قال: بإذن رب البيت، فدخل فقال إبراهيم: رب البيت أحق به ثم تنحى إبراهيم إلى ناحية البيت يصلي كما كان يصنع، وصعد ملك الموت فقيل له: ما رأيت؟ قال: يا رب جئت من عبد لك ليس في الأرض خير منه ما ترك خلقًا من خلقك، إلا وقد دعا له في دينه، أو معيشته، ثم مكث إبراهيم بعد ذلك ما شاء اللَّه تعالى، ثم فتح باب بيته الذي يتعبد

فيه، فإذا هو برجل جالس، فقال له إبراهيم: من أنت؟ قال ملك الموت فقال إبراهيم: إن كنت صادقًا فأرني منك آية أعرف بها أنك ملك الموت؟ فقال له ملك الموت، أعرض بوجهك يا إبراهيم فأعرض إبراهيم عليه السلام بوجهه فأراه الصورة التي يقبض فيها أرواح المومنين فرأى من النور والبهاء شيئًا لا يعلمه إلا اللَّه تعالى، ثم قال له: أعرض بوجهك يا إبراهيم فأعرض ثم قال له أقبل فانظر فأقبل فآراه الصورة التي يقبض عليها الكفار، فرعب إبراهيم عليه السلام رعبًا شديدًا حتى ارتعدت فرائصه وألصق بطنه بالأرض، وكادت نفسه تخرج فقال إبراهيم عليه السلام: أعرف أعرف، فانظر الذي أمرت به، فامض له، قال: فصعد ملك الموت فقيل له تلطف يعني في قبض روح إبراهيم عليه السلام، فأتاه ملك الموت في عنب له في صورة شيخ كبير لم يبق منه شيء فنظر إبراهيم عليه السلام فرآه فرحمه وأخذ "مكتلا" فقطف فيه عنبا، ثم جاء به فوضعه بين يديه وقال له: كل فجعل ملك الموت يريه أنه يأكل وجعل يمضغ ويمجه على لحيته وصدره، قال فعجب إبراهيم عليه السلام منه: وقال: ما أبقت السنون منك شيئًا فكم أتى عليك؟ قال فحسب، وقال أتى لي كذا، وكذا سنة، مثل أيام إبراهيم، فقال إبراهيم عليه السلام، قد بلغت أنا هذا فإنما أنتظر أن أكون مثل هذا اللهم اقبضني إليك فطابت نفس إبراهيم -صلى اللَّه عليه وسلم- عن نفسه فقبض ملك الموت روحه على تلك الحالة. وفي رواية عن الحافظ أبي القاسم المكي المقدسي أن ملك الموت قال يا إبراهيم: أمرت بقبض روحك، قال: فأمهلني يا ملك الموت حتى

يجيء إسحاق فأمهله، فلما دخل قام إليه واعتنق كل واحد منهما صاحبه فرق لهما ملك الموت ورجع إلى ربه عز وجل، وقال يا رب أتيت خليلك جزع من الموت قال يا ملك الموت فأت خليلي في منامه فاقبضه، قال: فأتاه في منامه فقبضه، وروى النووي، عن كعب الأحبار، وآخرين معه، أن سبب وفاة إبراهيم عليه السلام أنه أتاه ملك في صورة شيخ كبير، فضيفه فكان يأكل ويسيل الطعام واللعاب على صدره، ولحيته فقال له إبراهيم عليه السلام، يا عبد اللَّه ما هذا: قال: بلغت الكبر الذي يكون صاحبه هكذا، قال وكم أتى عليك؟ قال: مائتا سنة وإبراهيم عليه السلام مثلها فكره الحياة "كي لا" يصل إلى هذه الحالة فمات بغير مرض وروي عن أبي السكن الفهجري قال: توفي إبراهيم عليه السلام، وداود، وسليمان عليهم الصلاة والسلام، فجأة وكذلك الصالحون وهو تخفيف على المؤمنين وتشديد على الكافرين، قال النووي، قلت: هو تخفيف ورحمة في حق المؤمنين المراقبين وباللَّه التوفيق. وعن عبد اللَّه بن أبي مليكة قال لما قدم إبراهيم -صلى اللَّه عليه وسلم- على ربه قال له: يا إبراهيم كيف وجدت الموت قال يا ربي وجدت نفسي كأنها تنزع بالبلاء، قال كيف وقد هوَّنا عليك الموت يا إبراهيم. وروى صاحب كتاب الأنس بسنده إلى ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام بحلته، ثم أنا بصفوتي ثم علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- يزف بيني وبين إبراهيم زفا إلى الجنة" وروى البيهقي بسنده إلى ابن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- قال: "أول من

يكسى يوم القيامة إبراهيم -عليه السلام- قبطية والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حبرة عن يمين العرش" وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: (أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام). وروى الإِمام أحمد في حديث طويل أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: لأني أقوم المقام المحمود يوم القيامة فقال رجل من الأنصار: وما المقام المحمود يا رسول اللَّه؟. فقال: (إذا جيء بكم حفاة عراة غرلا فأول من يكسى إبراهيم، يقول اللَّه عز وجل: اكسوا خليلي؟ فيؤتى بمربطين بيضاوتين فيلبسهما، ثم يقعد مستقبل العرش، ثم أوتى بكسوة فأكسى، فأقوم عن يمينه مقامًا لا يقومه أحد، فيغبطني به الأولون والآخرون) وروى أبو نعيم بسنده، إلى مجاهد عن عبيد بن عمر قال: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة فيكسى ثوبا أبيض، فهو أول من يكسى، وروى الحافظ ابن عساكر بسنده إلى عبيد بن يونس، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (أول من يكسى من حلل الجنة أنا وإبراهيم والنبيون) وبسنده -إلى أبي طلق بن حبيب أن جده حدثه أنه سمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "يحشر الناس يوم القيامة. . . " الحديث وفيه "فأول من يكسى إبراهيم فيقول اللَّه تعالى: اكسوا إبراهيم الخليل؟ فيعلم الناس فضيلتة عليهم؟ فيكسى حلة، ثم يكسى الناس على منازلهم" انتهى واللَّه أعلم.

الباب الثاني عشر في ذكر ابتلائه -صلى الله عليه وسلم- بذبح ولده ومن هو الذبيح، وعمر إسحاق عليه السلام، وكم كان عمر أبيه، وأمه حين ولد، وكرامة سارة، والخلاف المذكور في نبوتها ونبوة غيرها من النساء، وقصة يعقوب عليه السلام، وعمره وشيء من قصة ولده

الباب الثاني عشر في ذكر ابتلائه -صلى اللَّه عليه وسلم- بذبح ولده ومن هو الذبيح، وعُمْر إسحاق عليه السلام، وكم كان عمر أبيه، وأمه حين ولد، وكرامة سارة، والخلاف المذكور في نبوتها ونبوة غيرها من النساء، وقصة يعقوب عليه السلام، وعمره وشيء من قصة ولده يوسف عليه السلام، وصفته ومدة سنه عند فراقه لأبيه يعقوب ومدة غيبته عنه ومدفنه وكم كان بينه وبين موسى عليهما السلام, واعلم أن اللَّه سبحانه وتعالى لما أكرم خليله -صلى اللَّه عليه وسلم- بتمام نعمه امتحنه فيما يسابق مشيئته في خليقته فأراه الكواكب فكان في ذلك محنة الدين واستخرج منه خالص التوحيد بقوله تعالى حكاية عنه: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79]، ثم أثبت له الإيمان الحقيقي وأمر العباد باتباعه وسلوك سبيله ثم اصطفاه، واتخذه خليلا، ثم أثبت له حسن الخلق، ومنحه الاعتدال، وأكمل له ذلك فلم يكن في عصره أكمل ولا أجمل منه وامتحنه في ذلك بالإحراق، وكان فيه من المسلمين الراضين فجعل النار عليه بردًا وسلامًا وألبسه ثوبًا من الجنة وزاده تشريفًا وتكريمًا، ثم تفضل عليه ومن باتساع النعمة في المال الصالح الموصل لنيل الدرجات في الدارين، واكتساب القربات به في العالمين، فانتهى أمره إلى أن لم يكن في زمانه أغنى، ولا أكثر، ولا أفضل منه ثم امتحنه بإرسال الملكين اللذين كانا نزلا عليه فسألاه

الإذن لهما في المبيت عنده فأذن لهما فلما كان بعض الليل رفع أحدهما صوته وقال: سبحان ذي الملك والملكوت ثم رفع الآخر صوته وقال سبحان الملك القدوس، وما كان منه ومنهما حتى خرج لهما عن جميع ماله وأهله ولم يبق إلا نفسه فباعها لهما ورضى أن يكون في رقيقهما حتى قالا له حقًا لك أن يتخذك اللَّه خليلًا، وقد تقدم ذكر القصة بطولها عنه، وذكر مكارم أخلاقه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأعطاه سبحانه وتعالى، الولد الصالح، وأنعم به عليه، فلما بلغ معه السعي، وَاشْرَأَبَّ قلبه بمحبته، امتحنه بذبحه، فامتثل بالأمر وبادر إلى ما أمر به من غير توقف ولا تردد، وقال {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، فكان قول إبراهيم عليه السلام لولده: ماذا ترى يعني: ماذا تشير به؟ استخرج من هذه اللفظة منه التفويض والتسليم والانقياد لأمر اللَّه عز وجل لا لما أمرته إياه أو لا أمر له مع أمر اللَّه تعالى: {قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] والتسليم هو الصبر والانقياد هو ملاك الصبر فجمع الذبيح جميع ما ابتغاه في هذه اللفظة اليسيرة: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 103 - 107]. وبارك عليه وعلى ولده في العالمين، ثم بشر بإسحاق نبيًا من الصالحين، وألحقهما بالأنبياء المكرمين وجعل نسلهما أنبياء مرسلين واللَّه أعلم. واختلف علماء المسلمين في هذا الغلام الذي أمر بذبحه إبراهيم عليه السلام فأهل الكتابين على أنه إسحاق وهو قول علي، وابن مسعود، وكعب، ومقاتل، وعكرمة، وقتادة والسندي، روى الواقدي بسنده إلى الأحنف بن قيس، قال: سمعت العباس بن عبد المطلب -رضي اللَّه عنه- يقول:

هو إسماعيل وهو قول: سعيد بن المسيب، والشعبي، والحسن، ومجاهد، وابن عباس وفي رواية عطاء، قال الواقدي: وسياق الآية يدل على أنه إسحاق حيث قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] , ولا خلاف أنه إسحاق فلما بلغ معه السعي فعطف قصة الذبح على ذكر إسحاق قال: وكلا القولين يروى عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فمن قال إن الذبيح إسحاق بقوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 101 - 102]، أمره بذبح من بشر به وليس في القرآن أنه بشر بغير إسحاق بعد الفراغ من قصة المذبوح فقال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] , يدل على أن المذبوح غيره وأيضًا قال اللَّه تعالى في سورة هود: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] , فكيف يأمره بذبح إسحاق وقد وعده بنافلة منه قال القرطبي: سأل عمر بن عبد العزيز رجلا كان من علماء اليهود أسلم وحسن إسلامه، أي بني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال إسماعيل ثم قال يا أمير المؤمنين: إن اليهود لتعلم ذلك لكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم هو الذي بني البيت مع أبيه. قال الثعلبي عن الصنهاجي قال: كنا عند معاوية فذكروا إسماعيل الذبيح أو إسحاق فقال: على الخبير سقطم كنت عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - فجاءه رجل فقال له: يا ابن الذبيحين فضحك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال له: يا أمير المؤمنين وما الذبيحان؟ فقال إن عبد المطلب لما حفرت زمزم نذر لئن سهل اللَّه أمرها ليذبح أحد أولاده فخرج السهم على عبد اللَّه فمنعه أخواله وقالوا له افد ابنك بمائة من الإبل ففداه والثاني إسماعيل عليه السلام، وحكى صاحب بعث النفوس فيما رواه عن عبد اللَّه بن مسلم، قال: عاش إسحاق مائة وثمانين سنة وقال الطبري: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ستة عشر. وولدت سارة إسحاق وهي بنت تسعين سنة وأمر بذبحه، وهو ابن سبع سنين

وقال البغوي: قال ابن عباس: ولد إسحاق لإبراهيم عليه السلام وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة قال سعيد بن جبير: بشر إبراهيم بإسحاق وهو ابن مائة وسبع عشرة سنة قال الترمذي: وكانت سارة بنت عم إبراهيم ابنة تسعين سنة في قول ابن إسحاق، وقال مجاهد: تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة سنة وعشرين سنة، قال: وكان إسحاق ضريرًا ونكح ليقا بنت تنويل فولدت عيصا ويعقوب بعد مضي ستين سنة من عمره وتوفيت سارة، وهي بنت مائة سنة وسبع عشرة سنة، وقيل مائة وسبعًا وعشرين سنة، قال الثعلبي: ذهب بعض العلماء رضي اللَّه عنهم إلى نبوة ثلاث نسوة: سارة وأم موسى، ومريم ابنة عمران، عليه السلام فإن الملائكة بشرت بإسحاق، وقال في حق أم موسى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} [القصص: 7]، وبشر الملك مريم بعيسى عليه السلام. والمشهور: على أنهن صديقات. وروى الحافظ ابن عساكر بسنده إلى عبد اللَّه بن عبيد بن عمر عن أبيه قال: قال موسى يا رب ذكرت إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب بها أعطيتهم ذلك قال إبراهيم لم يعدل بي أحدًا إلا اختارني عليه السلام، وإسحاق جاد بنفسه وهو بما سواها أجود، ويعقوب لم أبتله ببلاء إلا زاد في حسن الظن بي. وروى الثعلبي عن أنس، قال يا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: يشفع إسحاق بعدي، فيقول يا رب صدقت نبيك، وجدت بنفسي للذبح فلا تدخل النار من لم يشرك بك شيئًا فيقول اللَّه تعالى: وعزتي وجلالي لا أدخل النار من لم يشرك بي شيئًا، وعلى ذكر قصة يعقوب عليه السلام وعمره وشيء من قصة ولده يوسف عليه السلام وصفته ومدة سنه عند فراقه لأبيه يعقوب، ومدة غيبته عنه، ومدفنه وذكر كم كان بينه وبين موسى عليهما السلام، أقول: يعقوب -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو المسمى بإسرائيل، وقيل معناه صفوة للَّه، وهو أبو الأسباط الذين هم: أولاد يعقوب: وهم اثنا عشر سبطا سموا بذلك لأنه ولد لكل منهم جماعة، وهو أخو العيص، قالوا وسمي يعقوب لأنه كان هو والعيص توأم فخرج من بطن أمه أخذ

لقب أخيه العيص قيل: وفيه نظر لأنه اشتقاق عربي، ويعقوب اسمه أعجمى. روي صاحب كتاب الإنس بسنده إلى ابن أبي الدنيا، عن شيخ من قريش أن جبريل هبط على يعقوب عليه السلام فقال يا يعقوب: قل يا كثير الخير يا دائم المعروف؟ فقالها فأوحى اللَّه لقد دعوتنى بدعاء لو كان ابناك ميتين لنشرتهما لك، وبسنده إلى يحيى بن مسلم أن بلغه أن ملك الموت عليه السلام استأذن ربه تبارك وتعالى أن يسلم على يعقوب -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأذن له، فأتاه، فسلم عليه، فقال له ملك الموت: يا يعقوب: ألا أعلمك كلمات لا تسأل اللَّه شيئًا إلا أعطاك؟ قال: بلى، قال: قل يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدًا ولا يحصيه أحد غيره قال فما طلع الفجر حتى أتى بقميص يوسف. وبسنده إلى كعب الأحبار، قال: خرج بنو يعقوب إلى الصحراء، فأمسكوا ذئبا وشدوا وثاقه، وأتوا به أباهم فقالوا يا أبانا: هذا الذي أكل أخانا، قال حلوا عنه وحلوا أكتافه ففعلوا؟ فقال يعقوب عليه السلام للذئب: أكلت حبيبي يوسف، قال معاذ اللَّه يا نبي اللَّه ألست تعلم أنه محرم علينا لحوم الأنبياء، قال صدقت فمن أين جئت قال من مصر، قال: وإلى أين تريد؟ قال خراسان: قال فيما؟ قال: في زيارة أخ لي، قال: فماذا أبلغك فيه قال: حدثني أبي عن جدي عن الأنبياء السالفين عليهم السلام أنه من زار أخا له في اللَّه عز وجل، كتب اللَّه له ألف حسنة، ومحى عنه ألف ألف سيئة، فقال: يعقوب لبنيه: اكتبوا هذا الحديث عن الذئب، فقال معاذ اللَّه أن أملي عليهم لأنهم كذبوا علي، وقالوا عني ما لم أفعل، وبسنده إلى هشام عن الحسن وما جفت عينه وما أحد يومئذٍ أكرم على اللَّه منه حين ذهب بصره قوله تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} [يوسف: 94] خرجت قال المفسرون لما خرجت العير من مصر إلى كنعان قال أبوهم: لمن حضره من أهله وقرابته: وأما أولاده فكانوا غائبين عنه إني لأجد ريح يوسف

قال ابن عباس: هاجت ريح قميصه إلى يعقوب عليهما السلام وبينهما مسيرة ثماني ليال، وفي رواية عنه مسيرة ثمانية أيام، وقال مجاهد هبت ريح فضربت القميص ففاحت روائح الجنة في الدنيا فاتصلت بيعقوب عليه السلام فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا ريح الجنة إلا ما كان في ذلك القميص فمن؟ ثم قال: إلي لأجد ريح يوسف، قال الكلبي وكان أهله نحوًا من سبعين إنسانًا: لولا أن تفيدوني وتستفهموني، وبسنده إلى أبي الحسن علي بن أحمد الواقدي قال: ثم إن يعقوب عليه السلام أقام بمصر بعد موافاته بأهله، وولد أربعًا وعشرين سنة بأغبط حال، راضي العيش إلى أن حضرته الوفاة فأوحى إلى يوسف عليه السلام أن، تحمل جسده إلى الأرض المقدسة حتى تدفنه عند أبيه، وجده ففعل يوسف عليه السلام، ذلك، وقال البعقوبي: لما حضرت يعقوب الوفاة جمع ولده، وولده، وقال لهم: قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي فذلك قول اللَّه تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133]، قيل نزلت في اليهود حين قالوا للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ألست تعلم أن يعقوب لما مات أوصى بنيه باليهودية فعلى هذا يكون الخطاب لليهود. وقال الكلبي لما دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيران فجمع ولده وخاف عليهم ذلك فقال لهم ما تعبدون من بعدي، وقال عطاء: إن اللَّه تعالى لم يقبض نبيًا حتى يخير بين الموت والحياة، فلما خير يعقوب عليه السلام، قال: أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم؟ ففعل ذلك، وجمع ولده، وولد ولده، وقال لهم: قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي فقالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل

وإسحاق، وكان إسماعيل عَمًّا لهم، والعرب تسمي العم أبا، كما تسمي الخالة أُمًّا، وكان عمر يعقوب عليه السلام مائة وسبع وأربعون سنة. وروى صاحب كتاب الإنس بسنده إلى أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: "سئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أكرم الناس؟ قال: أتقاهم للَّه تعالى، قالوا يا رسول اللَّه ليس عن هذا نسألك؟ قال: فإن أكرم الناس يوسف نبي اللَّه بن يعقوب نبي اللَّه بن إسحاق نبي اللَّه بن إبراهيم خليل اللَّه قالوا: يا رسول اللَّه: ليس عن هذا نسألك، فقال: فعن معادن العرب تسألون؟ قالوا: نعم. وطن الناس معادن اثنتى عشرة سنة خيارهم في الإِسلام إذا فقهوا". وبسنده إلى أبي محمد قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الكريم ابن الكريم، ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم جاءني الداعي لجئت". وبسنده إلى أبي الحسن علي بن أحمد الواقدي في قوله: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]، قال المفسرون: رأى يوسف عليه الصلاة والسلام ذلك وهو ابن اثنتى عشرة سنة فكانت الكواكب في التأويل إخوته والشمس أمه والقمر أبوه، وقال الحسن: ألقي في الجب وهو ابن اثنتى عشرة سنة ولقي أباه وهو ابن ثمانين سنة، ولبث في الجب ثلاثة أيام. وبسنده إلى أيوب بن سويد، عن مسافع قال لما أُلقى يوسف في الجب قال: حسبي اللَّه ونعم الوكيل فكان الماء آسنا فصفي وكان ملحًا فعذب. وبسنده إلى محمد بن مسلم الطايفي قال: لما ألقي يوسف في الجب قال: يا شاهدا غير غائب، ويا قريبًا غير بعيد، ويا غالبا غير مغلوب، اجعل لي فرجًا لما أنا فيه؟ قال فما بات.

قال الحسن غيابة الجب قصره، قال قتادة: أسفله والغيابة كل ما غيب شيئًا وسرَّ والغيابة حضرة القبر لأنها تغيب المقبور والجب هو الركبة التي لم تطو والمعنى تطرحوه في موضع مظلم من البئر لا يلحقه نظر الناطرين. قال الواقدي: واختلفوا في هذا الجب، فقال قتادة: في بيت المقدس، وقال وهب: بأرض الأردن، وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. وبسنده إلى أحمد بن سعيد عن أبيه قال لما دخل يوسف عليه السلام السجن كتب علي باب السجن قبور الأحياء، وشماتة الأعداء، ومعرفة الأصدقاء، وبسنده إلى عبد اللَّه بن علقمة الطائي قال: رأى يوسف عليه السلام في السجن رجلًا حسن الهيئة فقال: يا عبد اللَّه إني أراك حسن الهيئة ما لي أراك محبوسًا؟ من أنت؟ قال أنا جبريل أتيتك أعلمك كلمات لعل اللَّه أن ينفعك بها، قل: اللهم اجعل من كل هم يهمنى فرجًا ومخرجًا وارزقني من حيث لا أحتسب. وبسنده إلى ابن عباس -رضي اللَّه عنه- قال: "قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رحم اللَّه أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لولاه من ساعته ولكنه أخر ذلك سنة" قال أصحاب الأخبار: فلما تمت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الملك وتوجه ورداه بسيفه وأمر له بسرير من ذهب وضرب عليه كله من إستبرق مكلله بالدر والياقوت ثم أمره أن يخرج متوجًا القصة بطولها. وبسنده إلى وهب بن منبه قال: قيل ليوسف عليه السلام، ما بالك تجوع وأنت على خزائن الأرض؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع. قال الواقدي: فلما جمع اللَّه ليوسف عليه السلام شمله وأقر عينه وأتم تأويل رؤياه، دعى ربه، وشكره وحمده، فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 101] تفسير الأحلام فاطر السموات والأرض" ومن هذا قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22]، أي خلقني، أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين. قال ابن عباس: يريد "لا تسألني"

الإسلام حتى تتوفاني عليه، قال قتادة: سأل ربه اللحوق به، قال: ولم يتمنى نبي قبله الموت، ألحقنى بالصالحين يعني من آبائه والمعنى ألحقني بهم في ثوابهم ودرجاتهم هذا كلام صاحب الأنس. قال النووي رحمه اللَّه تعالى: كان يوسف عليه السلام أبيض اللون، حسن الوجه، جعد الشعر، ضخم العين، مستوي الخلق غليظ الساعدين، والعضدين، والساقين، حفيص البطين، أقنى الأنف، صغير السترة، بخده الأيمن خال أسود، وبين عينيه شامة تزيده حسنا، كأنه القمر ليلة البدر، أهداب عينيه تشبه قوادم النسر، وكان -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا تبسم رأيت النور من ضواحكه وإذا تكلم رأيت شعاع النور من ثنيتاه قال: وكان جده إسحاق عليه السلام حسنا وبين عينيه شامة، وسارة أمه حسناء ورثت الحسن عن أمها جوى. وروى الثعلبي عن ابن مسعود عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "هبط علي جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن اللَّه عز وجل يقول: كسوت وجه يوسف من نور الكرسى وكسوت وجهك من نور عرشى"، وعنه قال: "كان يوسف عليه السلام إذا سأل في أزقة مصر تلألأ نور في وجهه على الجدران"، قال كعب: إن اللَّه تعالى مثل لآدم ذريته بمنزلة الدر، فأراه الأنبياء نبيا نبيا، فأراه في الطبقة السادسة يوسف عليه السلام متوجًا بتاج من الوقار، مؤتزرا بحلة الشرف، مرتديا برداء الكرامة، وعليه قميص النبهاء، وفي يديه قضيب الملك، وعن يمينه سبعون ألف ملك، وعن يساره سبعون ألف ملك، ومن خلقه أمم الأنبياء، لهم زجل بالتسبيح والتقديس بين شجرة السعادة تزول معه حيث ما زال وتحول معه حيث ما حال فلما رآه آدم عليه السلام قال: إلهي من هذا الكريم الذي أبحته بحبوحة الكرامة ورفعت له الدرجة العالية قال: يا آدم هذا ابنك المحمود على ما آتيته يا آدم قد أعطيته ثلثي حسن ذريتك ثم ضم آدم يوسف إلى صدره وقبله بين عينيه، وقال يا بني: لا تلف وأنت يوسف والآن سماه يوسف آدم عليه السلام

وكان شبيه آدم يوم خلقه اللَّه بيده، ونفخ فيه من روحه وصوره قبل أن يصيب المعصية فنزع كان يوم خلقه عز وجل "فلما عصينى" فنزع اللَّه تعالى ذلك منه، ثم ذهب لآدم الثلث من الجمال حيث تاب عليه، وأعطاني الحسن والجمال والنور والبهاء الذي كان نزعه من آدم حين ارتكاب الذنب ليوسف عليه السلام وذلك أن اللَّه تعالى أحب أن يري العباد أن اللَّه قادر على أخذ ما يشاء من عطائه واللَّه أعلم بتأويل الرؤيا فكان خير بالأمر الذي ترى قبل وقوعه. وقيل لبعض العلماء: يوسف أحسن أم محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فقال: كان يوسف من أحسن الناس للناس، وكان محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- أحسن الناس. وروى الثعلبي عن مجاهد قال: خرج يوسف من عند يعقوب وهو ابن ست سنين تغيب وجمع اللَّه بينهما، وهو ابن أربعين سنة، وقيل ثمانين سنة وعاش بعد يعقوب ثلاثًا وعشرين سنة توفي يوسف وهو ابن مائة سنة وعشرين سنة، وبينه وبين موسى أربعمائة سنة، ومات يوسف بعد أن أوحى إلى أخيه يهودا، ودفن في نيل مصر في صندوق من رخام، وذلك أنه لما مات، تشاحن الناس عليه كل يحب أن يدفن في محلته لما يرجو من بركته وكادوا أن يقتتلوا، ثم أرادوا أن يدفنوه في وسط النيل فيمر الماء عليه ويصل إلى جميع مصر فيكونون كلهم شركاء فيه فكان قبره في النيل، فلما خرج موسى عليه السلام من مصر حمله معه ودفنه بأرض كنعان، وكان السبب في حمله وخروج موسى عليه السلام من مصر ما رواه البغوي في معالم التنزيل في الكلام على قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 50] وذلك أنه لما دنا هلاك فرعون أمر اللَّه تعالى موسى عليه السلام أن يسري ليلًا

فأراد موسى عليه السلام السير فضرب عليهم التيه فلم يدروا أين يذهبون فدعا موسى عليه السلام مشيخة بني إسرائيل، وسألهم عن ذلك، فقالوا: إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ على إخوته عهدا لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم فلذلك انسدت علينا الطريق، فسألهم عن موضع قبره فلم يعلموه فنادى موسى عليه السلام أثاب اللَّه كل من عنده علم بقبر يوسف ألا أخبرني به فأجابه عجوز أنه في جوف الماء في النيل، قالت: فادع اللَّه أن يحسر عنه الماء فدعا اللَّه تعالى فحسر الماء عنه فحضر موسى عليه السلام في الموضع الذي دلته عليه واستخرجه في صندوق من مرمر ففتح اللَّه الطريق لهم. وروى الحافظ ابن عساكر في تاريخه بسنده إلى ابن عباس رضي اللَّه عنهما فأوحى اللَّه تعالى إلى موسى عليه السلام أن احمل يوسف إلى بيت المقدس إلى عند آبائه فلم يدر أين هو، فسأل بني إسرائيل فلم يعرف أحد منهم أين هو، فقال له شيخ في ثلاثمائة سنة، يا نبي اللَّه، ما تعرف قبر يوسف إلا والدتي؟ فقال: قم معي إلى والدتك؟ فقام الرجل ودخل منزله، وأتاه بقفة فيها والدته، فقال لها، موسى إنك أعلم بقبر يوسف عليه السلام؟ فقالت: نعم أدلك على أن تدعو اللَّه لي أن يرد عليَّ شبابي إلى سبع عشرة سنة ويزيد في عمري مثل ما مضى وقيل إن موسى عليه السلام لما سأل بني إسرائيل قالوا: لا نعلم أحدًا يدري أين هو إلا عجوز بني فلان فلعلها تعلمه فأرسل إليها فأتته فقال لها: هل تعلمين قبر يوسف؟ قالت: نعم، قال فدلينا عليه، فقالت حتى تعطني ما أسألك، قال: لك ذلك، قالت: فإني أسألك أن أكون معك في الدرجة التي تكون فيها في الجنة. قال: سلينى الجنة قالت: لا واللَّه إلا أن أكون معك في درجتك فجعل يراودها وهي تأبى فأوحى اللَّه إليه أن أعطها ذلك فإنه لا ينقصك شيئًا فأعطاها فدلته على القبر

وكان في وسط نيل مصر فأخرجه موسى وحمله على عجل من حديد إلى بيت المقدس وقبره الذي هناك خلف الحيز بالقرب من آبائه الأكرمين صلوات اللَّه تعالى عليهم أجمعين.

الباب الثالث عشر في ذكر المغارة التي دفن فيها الخليل هو وأبناؤه الأكرمون وذكر شرائها من مالك ذلك الموضع، وهو عفرون، وأول من دفن في تلك المغارة وذكر علامات القبور التي بها،

الباب الثالث عشر في ذكر المغارة التي دفن فيها الخليل هو وأبناؤه الأكرمون وذكر شرائها من مالك ذلك الموضع، وهو عفرون، وأول من دفن في تلك المغارة وذكر علامات القبور التي بها، وما استند به على صحتها وكم دفع لبناء الحيز الذي بناه سليمان عليه السلام، وذكر آداب زيارة القبور المشار إليها، وبيان موضع قبر يوسف عليه السلام وتسميته حرمًا وإقطاع لقيم الداري -رضي اللَّه عنه- الذي أقطعه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- له وحلف وقد معه عليه من الداريين ونسخة ما كتب لهم في ذلك. وروى أبو المعالي شرف بن المرجا المحدث المقدسي، بسنده إلى كعب الأحبار، أن إبراهيم الخليل -صلى اللَّه عليه وسلم- خرج من كوثا هاربا حتى نزل الشام من ناحية فلسطين في الموضع الذي يعرف اليوم بوادي السبع، وهو شاب ولا مال له، فأقام حتى كثر ماله، ومواشيه، فقالوا له: ارحل عنا فقد آذيتنا بمالك أيها الشيخ الصالح وكانوا يسمونه بذلك فقال لهم: -صلى اللَّه عليه وسلم- نعم فلما هم بالرحيل قال بعضهم لبعض جاءنا وهو فقير وقد جمع عندنا هذا المال كله فلو قلنا له أعطنا شطر مالك وخذ الشطر فقالوا له ذلك فقال لهم:

نعم صدقتم جئتكم وكنت شابا فردوا علي شبابي وخذوا ما شئتم من مالي فخصمهم ورحل، فلما كان وقت ورود الغنم الماء جاءوا يستقون، فإذا الآبار قد جفت، فقال بعضهم لبعض ألحقوا الشيخ الصالح، واسألوه الرجوع إلى موضعه فإنه إن لم يرجع هلكنا، وهلكت مواشينا، فلحقوه فوجدوه بالموضع الذي يعرف بالمغار، فقالوا: غار الماء فلذلك سمي المغار وسألوه أن يرجع فقال إني لست براجع ودفع إليهم سبع شياه من غنمه، وقال: أوقوفوا كل شاه على بئر؟ فإنه يرجع الماء وإنما سمي ذلك الوادي وادي السبع لأنه دفع إليهم فيه سبع شياه من غنمه وقال: اذهبوا بها معكم فإنكم إذا أوردتموها البئر ظهر الماء حتى يكون عينا معينًا كم كان؟ واشربوا، ولا تقربها امرأة حائض، فرجعوا بالأعنز فلما وقفت على البئر ظهر الماء وكانوا يشربون منها وهي على تلك الحالة، حتى أتت امرأة حائض واغترفت منها فغارت ماؤها، ورحل إبراهيم عليه السلام ونزل اللجون، وأقام بها ما شاء اللَّه تعالى، ثم أوحى اللَّه إليه أن أنزل ممري فرحل ونزل جبريل وميكائيل عليهما السلام بممري وهما يريدان قوم لوط عليه السلام فخرج إبراهيم عليه السلام ليذبح العجل فانفلت منه، ولم يزل حتى دخل مغارة حبرون فنودي يا إبراهيم سلم على عظام أبيك آدم عليه السلام فوقع ذلك في نفسه ثم ذبح العجل وقربه إليهم وكان من شأنه ما نص عليه اللَّه عز وجل في كتابه العزيز، فمضى معهم إلى قرب ديار قوم لوط فقالوا له: اقعد ههنا فقعد وسمع صوت الديكة في السماء فقال هذا هو الحق اليقين فأيقن بهلاك القوم، فسمي ذلك الموضع: مسجد اليقين وهو على نحو فرسخ من بلد الخليل عليه السلام ثم رجع إبراهيم وطلب من عضرون المغارة واشتراها منه بأربعمائة درهم كل درهم وزن خمسة دراهم، وكل مائة ضرب ملك، فصارت مقبرة له، ولمن مات من أهله. وروى الحافظ ابن عساكر بسنده إلى كعب الأحبار أنه قال: أول من مات ودفن [بجوار] (*)

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في المطبوع (بحرى) وعلق في الهامش بقوله (غير مقروءة)

سارة وذلك أنه لما ماتت خرج الخليل عليه السلام يطلب موضعا يقبرها فيه ورجا أن يجد بقرب مري موضعا فمضى إلى عضرون، وكان مالك الموضع وكان مسكنه بحري، فقال له إبراهيم عليه السلام بعني موضعا أقبر فيه من مات من أهلي فقال له عضرون الملك قد أبحت لك ذلك حيث شئت من أرضي، قال: إني لا أحب إلا بالثمن، فقال له: أيها الشيخ الصالح ادفن حيث شئت فأبى عليه وطلب منه المغارة فقال له: أبيعكها بأربعمائة درهم كل درهم وزن خمسة دراهم وكل مائة ضرب ملك وأراد بذلك التشديد عليه كيلا يجد فرجع إلى قومه وخرج من عنده فإذا جبريل عليه السلام فقال له: إن اللَّه تعالى قد سمع مقالة الجبار لك وهذه الدراهم ادفعها إليه فأخذها إبراهيم عليه السلام ودفعها إلى الجبار فقال له: من أين لك هذه الدراهم؟ فقال من عند إلهي وخالقى ورازقى فأخذها منه، وحمل إبراهيم سارة ودفنها في المغارة فكانت أول من دفن فيها، ثم توفي الخليل -صلى اللَّه عليه وسلم- فدفن بحذائها ثم توفيت ريقة زوجة إسحاق فدفنت فيها، ثم توفي إسحاق عليه السلام فدفن بحذاء زوجته، ثم توفي يعقوب عليه السلام فدفن عند باب المغارة، ثم توفيت زوجته ليفا فدفنت بحذائه، فاجتمع أولاد يعقوب، والعيص وأخوته، وقالوا: ندع باب المغارة مفتوحًا وكل من مات منا دفناه فتشاجروا، فرفع أحد إخوته العيص وقيل أحد أولاد يعقوب، يده ولطم العيص لطمة فسقط رأسه في المغارة فحملوا جثته ودفن بغير رأس، وبقي الرأس في المغارة، وحوطوا عليها حائط وعملوا عليها علامة القبور في كل موضع وكنبوا عليها هذا قبر إبراهيم، هذا قبر سارة، هذا قبر إسحاق، هذا قبر ريقا، هذا قبر يعقوب، هذا قبر زوجته، وخرجوا عنه وأطبقوا بابه فكل من جاء إليه يطوف به ولا يصل إليه أحد حتى جاء الروم بعد ذلك ففتحوا له بابًا ودخلوا إليه، وبنوا فيه كنيسة ثم إن اللَّه تعالى أظهر الإِسلام بعد ذلك وملك المسلمون الديار وهدموا الكنيسة وفي رواية عن عبد المنعم عن أبيه، عن وهب بن منبه، قال: أصبت على قبر إبراهيم عليه السلام مكتوبًا خلفه.

في حجر غير جهولا أمله ... بموت من جاء أجله لم تغن عنه حيله زاد بعض أهل العلم ... والمرء لا يصحبه في القبر إلا عمله قال: وحدث محمد بن الخطب خطب مسجد إبراهيم عليه السلام، قال: سمعت محمد بن إسحاق النحوي يقول: خرجت مع القاضي أبي عمر، وعثمان بن جعفر بن شادان، إلى قبر إبراهيم عليه السلام: فأقمنا ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع، جاء إلى النقش المقابل لقبر ريقة زوجة إسحاق عليه السلام، فأمر بغسله حتى ظهرت كتابته وتقدم وأمر أبي بأن أنقل ما هو مكتوب في الحجر إلى درج كان معنا على التمثيل فنقلته ورجعنا إلى الرملة فأحضر أهل كل لسان ليقرؤوه عليه، فلم يكن فيهم أحد يقرؤه لكنهم أجمعوا أن هذا بلسان اليوناني القديم، وأنهم لا يعلمون أن أحدًا بقي يقرؤه غير شيخ بحلب فعمل على إحضاره إليه، فلما حضر عنده أحضرني فإذا هو شيخ كبير فأملى على الشيخ المحضر من حلب فأنقل في الدرج في التمثيل باسم إلهى وإله العرش القاهر الهادي الشديد البطش، العلم الذي بحذا هذا قبر ريقة زوجة إسحاق، والذي بإزائه قبر إسحاق، والعلم الأعظم الذي يوازيه قبر إبراهيم الخليل -صلى اللَّه عليه وسلم-، والعلم الذي بحذائه من الشرق قبر زوجته سارة، والعلم الأقصى الموازي لقبر إبراهيم قبر يعقوب، والعلم الذي يليه من الشرق قبر ليقا زوجة يعقوب، صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين، وكتب العيص بخطه، قال: واسم زوجة يعقوب إليا، وفي بعض الكتب ليا، والمشهور ليقا واللَّه أعلم. قال الحافظ ابن عساكر، قرأت في بعض الكتب لأصحاب الحديث ونقلت منها، قال محمد بن أبي بكر إن ابن محمد الخطب خطيب مسجد إبراهيم عليه السلام، وكان قاضيا بالرملة في أيام الراضي باللَّه تعالى في سنة نيف وعشرين وثلاثمائة وما بعدها وله رواية في الحديث وسمع من جماعة، وحدث عنه جماعة من أهل العلم، قال: سمعت محمد بن أحمد بن علي بن جعفر الأنباري، يقول:

سمعت أبا بكر الإسكافي يقول: صح عندي أن قبر إبراهيم -صلى اللَّه عليه وسلم- في الموضع الذي هو الآن فيه، لما رأيت وعانيت وذلك أني وقفت على السدنة وعلى الموضع وقوفًا كثيرة بنحو أربعة آلاف دينار، رجاء ثواب اللَّه تعالى، وطلبت أن أعلم صحة ذلك، حتى ملكت قلوبهم بما كنت أعمل معهم من الجميل والكرامة والملاطفة والإحسان إليهم، وأطلب بذلك أن أصل إلى ما صح وجال في صدري، فقلت لهم يومًا من الأيام وقد جمعتهم عندي بأجمعهم: أسألكم أن توصلوني إلى باب المغارة كي أنزل إلى الأنبياء صلوات اللَّه عليهم وأشاهدهم فقالوا إن أجبناك إلى ذلك لأن لك علينا حقًا واجبًا ولكن ما يمكن في هذا الوقت لأن الطارق لنا كثير فاصبر حتى يدخل الشتاء فلما دخل كانون الثاني خرجت إليهم فقالوا: أقم عندنا حتى يقع الثلج؟ فأقمت عندهم حتى وقع الثلج وانقطع الطارق عنهم فجاءوا إلى موضع ما بين قبر إبراهيم الخليل، وقبر إسحاق عليهم السلام، فعلقوا البلاطة التي هناك، ونزل رجل منهم يقال له صعلوك، وكان رجلًا صالحًا فيه خير ودين ونزلت معه، ومشى وأنا من ورائه فنزلنا في اثنتين وسبعين درجة فإذا عن يميني دكان عظيم من حجر أسود، وإذا عليه شيخ خفيف العارضين طويل اللحية ملقى على ظهره وعليه ثوب أخصر، فقال لي صعلوك، هذا إسحاق عليه السلام، ثم سرنا غير بعيد فإذا دكان أكبر من الأول وعليه شيخ ملقى على ظهره، له شيبة قد أخذت ما بين منكبيه أبيض الرأس واللحية والحاجبين وأشفار العينين، وتحت شيبته ثوب أخصر، قد جلل بدنه والرياح تلعب بشيبته يمينًا وشمالًا، فقال صعلوك: هذا إبراهيم الخليل عليه السلام فسقطت على وجهي ودعوت اللَّه تعالى بما حضرني من الدعاء، ثم سرنا فإذا دكان لطيفة عليها شيخ آدم شديد الأدمة، كث اللحية، وتحت منكبيه ثوب أخضر قد جلله فقال لي صعلوك، هذا يعقوب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم إننا عدلنا يسارًا لننظر إلى الحرم، فخلف

أبو بكر الإسكافي أن تممت الحديث، قال: فقمت من عنده في الوقت الذي حدثني فيه وخرجت من وقتي إلى مسجد إبراهيم عليه السلام، فلما وصلت إلى المسجد سألت عن صعلوك فقيل لي الساعة يحضر فنظر إلى بعين منكر للحديث الذي سمع مني، فأومأت إليه بلطف لخلصت به من الإثم والحرج، ثم قلت له: إن أبا بكر الإسكافي عمي فالتفت إليَّ عند ذلك فقلت يا صعلوك، باللَّه ما عدلتم إلى نحو الحرم ماذا كان؟ وما الذي رأيتما؟ فقال لي: ما حدثك أبو بكر فقلت أريد أسمعه منك أيضًا، فقال: سمعنا من نحو الحرم صائحًا يصيح تجنبوا الحريم رحمكم اللَّه، فوقعنا مغشيًا علينا: ثم إنا بعد وقت أفقنا وقمنا، يئسنا من الحياة، وأيست الجماعة منا قال: فقال لي الشيخ: ما عاش أبو بكر الإسكافي؟ ما حدثني أيامًا يسيرة؟ توفي وكذلك صعلوك رحمهما اللَّه، وروى الحسن بن عبد الواحد بن رزق الرازي قال: قدم أبو زرعة قاضي فلسطين إلى مسجد إبراهيم عليه السلام فحيث أسلم عليها، وقد عقد عند قبر سارة عليها السلام في وقت الصلاة فدخل شيخ فدعاه وقال: يا شيخ أين هو قبر إبراهيم عليه السلام من هؤلاء فأومأ إليه الشيخ إلى قبر إبراهيم عليه السلام ومضى فجاء شاب فدعاه وقال له: مثل ذلك فأشار إليه ومضى، فجاء صبي فدعاه فقال مثل ذلك، فأومأ إليه. قال أبو زرعة: أشهد أن هذا قبر إبراهيم لا شك فيه نقل الخلف عن السلف، كما قال مالك بن أنس -رضي اللَّه عنه-: إن نقل الخلف عن السلف أصح من الحديث لأن الحديث ربما يقع فيه الخطأ والنقل لا يقع فيه الخطأ ولا يطعن في ذلك إلا صاحب بدعة مخالف ثم قام ودخل إلى داخل [المسجد] (*) فصلى

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ليست بالمطبوع

الظهر ثم رحل من الغد، وقال أبو عبد اللَّه بن محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء المقدسي في كتاب البديع في تفضيل مملكة الإسلام، وحبرى هي قرية إبراهيم عليه السلام فيها حصن عظيم يزعمون أنه من بناء الجن من حجارة عظيمة منقوشة ووسطه قبة من الحجارة الإسلامية على قبر إبراهيم عليه السلام، وقبر إسحاق قدام في المغطى، وقبر يعقوب في المؤخر حدى كل نبي امرأته، وقد جعل الحيز مسجدًا وبنى حوله دور المجاورين فيه واتصلت العمارة به من كل جانب ولهم قناة ماء ضغينة وهذه القرية إلى نصف مرحلة من كل جانب قرى وكروم وأعناب وتفاح وعامتها تحمل إلى مصر. وفي هذه القرية ضيافه دائمة وطباخ وخباز وخدام مرتبون يقدمون العدس بالزيت لكل من يحضر من الفقراء ويدفع إلى الأغنياء إذا أخذوا. وعلى ذكر سليمان بن داود عليه السلام الحيز على المغارة بوحي من اللَّه تعالى أقول: روى الحافظ ابن عساكر بسنده إلى كعب الأحبار قال: إن سليمان بن داود عليه السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس، أوحى اللَّه تعالى إليه أن ابن علي قبر خليلي بناء ليعرف به، فخرج سليمان عليه السلام فبنى في موضع يسمى الرامة، فأوحي إليه ليس هو هذا ولكن انظر إلى النور المتوفى من السماء إلى الأرض فنظر فإذا النور على بقعة من بقاع حبرى، فعلم أن ذلك المقصود، فبنى ذلك الحيز على البقعة، وروى الحافظ المكي المقدسي عن مكحول عن كعب أنه قال: أول من مات ودفن في حبرى سارة زوجة إبراهيم عليه السلام ولما ماتت خرج إبراهيم يطلب موضعًا يقبرها فيه فقدم على عفرون وكان على دينه، وكان مسكنه وناحيته حبرى، فاشترى منه الموضع كما تقدم، ودفن فيه سارة، ثم توفي إبراهيم ودفن لزيقها، ثم توفيت ريقة زوجة إسحاق ثم توفي إسحاق ودفن لزيقها ثم توفي يعقوب فدفن في ذلك الموضع ثم توفيت زوجته فدفنت معهم صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين فأقام ذلك الموضع على ذلك إلى زمن

سليمان عليه السلام فلما بعثه اللَّه تعالى أوحى إليه يا ابن داود ابن علي قبر خليلي حيزًا حتى يكون لمن يأتي بعدك علما لكي يعرف، فخرج سليمان وبنو إسرائيل، من بيت المقدس، حتى قدم أرض كنعان، وطاف فلم يصبه فرجع إلى بيت المقدس، فأوحى اللَّه إليه يا سليمان خالفت أمري قال: يا رب غاب عني الموضع فأوحى اللَّه تعالى أن امض فإنك ترى نورًا من السماء إلى الأرض فهو موضع قبر خليلي إبراهيم فخرج سليمان ثانية فنظر وأمر الجن فبنوا على الموضع الذي يقال له الرامة فأوحى اللَّه تعالى إليه ليس هو الموضع، ولكن إذا رأيت النور التصق بعنان السماء إلى الأرض فابْنِ عليه الحيز. وعن ذكر آداب زيارة القبور المشار إليها، وما يستحب من الزائر من الآداب عند قصد الزيارة في الباب الحادي عشر، أما بيان موضع قبر يوسف عليه السلام فقد قال الترمذي أن قبره في البقيع الذي خلف الحيز وهو حدى قبر يعقوب عليه السلام. وروى الحافظ ابن عساكر بسنده إلى إبراهيم بن أحمد الخلنجي أن جارية المقتدر باللَّه وكانت تعرف بالعجوز سألته وكانت مقيمة ببيت المقدس، الخروج إلى الموضع الذي روي أن قبر يوسف عليه السلام فيه وإظهاره والبناء عليه، قال: فخرجت مع العمال لكشف الموضع في البقيع الذي روي خارج الحيز قال فاشترى البقيع من صاحبه، وأخذ في كشفه فخرج في الموضع الذي روي فيه حجر عظيم، وأمر بكسره فكسر منه قطعة وقلعوها فإذا يوسف على صفته من الحسن والجمال وصار رائحة الموضع مسكًا عبيقًا ثم جاء ريح عظيم فأطبق العمال الحجر كما كانت ثم بنيت عليه القبة التي هي عليه الآن على صحة من رؤيته وكان الذي رأى الرؤيا رجلًا صالحًا من ولد تميم

الداري وكان إمام مسجد إبراهيم عليه السلام، قال: وكنت أضع رأسي على الدرجة السفلى من المنبر وأنام فيأتيني هاتف يقول: أظهر قبر يوسف عليه السلام وأراني البقيع، والمكان ثلاث مرات عند طلوع الفجر قال فعند ذلك دخلت إلى بيت المقدس، وعرفت العجوز جارية المقتدر باللَّه فكتبت إلى مواليها فجاء الأمر بالكشف عن الموضع والبناء عليه، وبيان ذلك دليل الصحة فيه ما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنه أنه قال: أوحى اللَّه تعالى إلى موسى عليه السلام أن احمل يوسف إلى بيت المقدس إلى عند آبائه فلم يدر أين هو فدلته عجوز بني إسرائيل فاستخرجه من النيل وحمله إلى عند آبائه كما قدمناه، قال: أبو عبد اللَّه بن أحمد وأبو بكر البناء المقدسي، في كتاب البديع: سمعت عمي أبا الحسن وأبا بكر البناء يقولان: كان قبر يوسف عليه السلام دكة يقال إنها قبر بعض الأسباط حتى جاء رجل من خراسان وذكر أنه رأى في المنام قائلًا يقول له: اذهب إلى بيت المقدس وأعلمهم أن ذاك يوسف الصديق فجاء وأخبر رؤياه قال: فأمر السلطان والدي بالخروج فخرج فخرجت معه فلم تزل الفعلة يحضرون حتى انتهوا إلى خشب العجلة وإذا بها قد نخرت، ولم أزل أرى عجائزها من تلك التجارة يستشفون بها في الرمد وأما تسميته داخل المحوط مسجدا، وجواز الدخول، وإلى ثبوت أحكام المسجد له، وتسميته حيزا فقد تقدم إلى صاحب باعث النفوس نقل عن الفقيه أبي المعالي المشرف أنه سماه مسجدًا وأكده بقوله يستحب أن يصلى ركعتين تحية المسجد، وتقدم عند ذكر آدم عليه السلام عن ابن عمر أنه قال: رجلاه يعني آدم عليه السلام عند مسجد الخليل عليه السلام فسماه مسجدًا، وفي رواية أن قبره في مغارة بين بيت المقدس، ومسجد إبراهيم -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإذا كان مسجد جاز الدخول إليه وسماه السبكي وكتب بخطه في آخر جزء حديثين يسمى تحفة أهل الحديث فيه سماع على الشيخ برهان الدين الجعبري، وذكر جماعة سمعوا معه بالحرم ثم قال: صح وثبت في يوم السبت الثامن والعشرين من صفر سنة ثمان وسبعمائة بحرم الخليل -صلى اللَّه

عليه وسلم- فأطلق على المشهد المذكور حرما وكلامه صريح في أنه دخله هو والشيخ برهان الدين الجعبري، والسامعون معه فدل على جواز دخوله وعمل الناس اليوم على دخوله وزيارة القبور الشريفة، والوقوف عند الإشارات التي عليها وصلاة الجمعة والجماعات هناك بعد وضع منبر كبير عال هناك عن يمين المحراب، وإذا علمت ما يقول من جواز دخوله وأنه يطلق عليه مسجد علمت أنه ثبت له أحكام المساجد كنية الاعتكاف فيه وتحريم المكث على الجنب فيه والتحية إذ لا تعويل على أنه مقبرة وأما إقطاع تميم الداري -رضي اللَّه عنه- الذي قطعه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولمن وفد معه عليه من الداريين ونسخة ما كتب به له في ذلك قال صاحب باعث النفوس، روي عن أبي هند الداري قال (قدمنا على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ونحن ستة نفر تميم بن أوس وأخوه نعيم ويزيد بن قيس وأبو عبد اللَّه بن عبد اللَّه -وهو صاحب الحديث وأخوه الطيب بن عبد اللَّه فسماه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عبد الرحمن- وقال ابن النعمان: فأسلمنا وسألنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - أن يقطعنا أرضا من أرض الشام فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حيث شئتم قال أبو هند الداري -رضي اللَّه عنه- فنهضنا من عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى موضع نتشاور فيه أين نسأل؟ فقال تميم أرى أن نسأل بيت المقدس وكوتها فقال أبو هند رأيت ملك المعجم اليوم أليس هو بيت المقدس قال تميم: نعم فقال أبو هند: فكذلك يكون ملك العرب وأخاف أن لا يتم لنا هذا فقال تميم فنسأله بيت جبريل فقال أبو هند: هذا أكبر وأكثر فقال تميم فأين ترى أن تسأله؟ قال: أرى أن نسأله القرى التي تصنع فيها حصرنا مع ما فيها من آثار إبراهيم عليه السلام فقال: تميم أصبت ووفقت. قال: فنهضنا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا تميم أتحب أن تخبرني بما كنتم فيه أو أخبرك؟ فقال تميم بل تخبرنا يا رسول اللَّه فنزداد إيمانًا فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أردت يا تميم أمرًا وأراد هذا غيره

ونعم الرأي رأي أبو هند، قال: فدعا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بقطعة من أدم وكتب لنا فيها بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا كتاب ذكر فيه ما وهب محمد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الداريين إذا أعطاه اللَّه الأرض وهب لهم بيت عينون، وحبرون، والمرطوم، وبيت إبراهيم، ومن فيهم إلى أبد الآبدين، شهد عباس بن عبد المطلب وجهم بن قيس بن حسنة وكتب قال ثم دخل بالكتاب إلى منزله فعاج في زاوية الرقعة بشيء لا يعرف وعقده من خارج الرقعة عقدتين وخرج إلينا به مطويًا وهو يقول: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] , ثم قال: انصرفوا حتى تسمعوا أني قد هاجرت قال أبو هند: فانصرفنا فلما هاجر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة قدمنا عليه وسألناه أن يجدد لنا كتابا آخر فكتب لنا كتابًا نسخته بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى محمد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لتميم الداري وأصحابه إني أعطيتكم بيت عينون وحبرون والمرطوم وبيت إبراهيم يد منهم وجميع ما فيهم عطية بت ونفدت وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد الآبدين فمن آذاهم فيه آذاهم اللَّه تعالى شهد أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب، فلما قبض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- واستخلف أبو بكر وجند جنود إلى الشام كتب لنا كتابًا نسخته: بسم اللَّه الرحمن الرحيم من أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- إلى أبي عبيدة بن الجراح سلام عليك فإني أحمد إليك اللَّه تعالى الذي لا إله إلا هو أما بعد فامنع من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر من الفساد في قرى الداريين وإن كان أهلها قد جلوا عنها وأراد الداريون أن يزرعوها فليزرعوها وإذا رجع إليها أهلها فهي لهم وأحق بهم والسلام عليك انتهى واللَّه أعلم.

الباب الرابع عشر في ذكر مولد إسماعيل عليه السلام ونقله إلى مكة المشرفة وركوب سيدنا الخليل -صلى الله عليه وسلم- البراق لزيارته وزيارة أمه هاجر وموتها ومدفنها وعمر إسماعيل عليه السلام ومدفنه

الباب الرابع عشر في ذكر مولد إسماعيل عليه السلام ونقله إلى مكة المشرفة وركوب سيدنا الخليل -صلى اللَّه عليه وسلم- البراق لزيارته وزيارة أمه هاجر وموتها ومدفنها وعمر إسماعيل عليه السلام ومدفنه وكم بين وماته ومولد نبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال صاحب جامع الأصول إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام هو أكبر أولاده وأبو العرب ورسول رب العالمين، ونبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- من أولاده، وأمه هاجر خادمة إبراهيم عليه السلام، وهي التي أخدمها ذلك الجبار لسارة ووهبتها سارة لإبراهيم عليه السلام، وقالت له خذها لعل اللَّه تعالى أن يرزقك منها ولدا، وكانت سارة قد منعت الولد ويأست منه، وكان إبراهيم قد دعا اللَّه تعالى أن يهب له من الصالحين، فأخرت الدعوى حتى كبر إبراهيم عليه السلام وعقمت سارة. قال ثم إن إبراهيم عليه السلام وقع على هاجر فولدت له إسماعيل فحزنت سارة على ما فاتها من الولد حزنًّا شديدًا. وقال الثعلبي: حملت سارة بإسحاق وكانت هاجر حملت بإسماعيل فوضعا معًا وشب الغلامان فبينما هما ذات يوم يتناضلان وقد كان إبراهيم أجلس إسماعيل في حجره وأجلس إسحاق إلى جانبه وسارة تنظر إليه فغضبت وقالت: عمدت إلى ابن الأمة فأجلسته في حجرك، وعمدت إلى ابني فأجلسته إلى جانبك وقد حلفت أن لا تغابرني، وأخذها ما يأخذ النساء من المغيرة فحلفت لتقطعن بضعة منها ولتغيرن

خلقها ولتملأن يدها من دمها. فقال إبراهيم عليه السلام: خذيها فاختنيها فيكون سنة من بعدك وتتخلصين من يمينك ففعلت ذلك، فصارت سنة في النساء. ثم إن إسماعيل وإسحاق اقتتلا ذات يوم كما يفعل الصبيان فغضبت سارة على هذا، وقالت لا تساكنيني في بلد أبدًا وأمرت إبراهيم أن يعزلها عنها فأوحى اللَّه تعالى إليه أن تأتي بهاجر وابنها إسماعيل مكة فذهب بهما وهي إذاك عضاه سلم وسمر حولها ناس يقال لهم العماليق فعمد إلى موضع الحجر فأنزلها فيه وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا ففعلت ثم دعا إبراهيم عليه السلام فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37]. وروى البخاري عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن إبراهيم عليه السلام ذهب بإسماعيل وأمه هاجر وهي ترضعه من الشام إلى مكة، وقيل نقله إلى مكة وهو فطيم، وقيل: رضيع، وقيل: كان له سنتان، وقيل غير ذلك فوضعها تحت دوحة وهي الشجرة الكبيرة وليس معهما وعاء فيها ماء وليس بمكة يومئذٍ أحد ولا بها ماء ووضع عندها جرابا فيه تمر ثم رجع فنادته أم إسماعيل يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس؟ قالت له ذلك مرارًا وهو لا يلتفت إليها فقالت له: آللَّه أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذًا لا يضيعنا اللَّه تعالى ثم رجعت فانطلق إبراهيم عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية بحيث لا يرونه استقبل البيت بوجهه ثم دعا بهذه الدعوات رافعًا يديه. قال: وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفذ عطشت وعطش إسماعيل فجعلت تنظر إليه يتلوى من العطش فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض إليها فقامت عليه وجعلت تتسمع هل تسمع صوتًا أو ترى شيئًا؟ فلم تسمع صوتًا ولم تر أحدًا، ثم إنها سمعت أصوات السباع حول إسماعيل فأقبلت حتى قامت عليها فلم

تر شيئًا، وفي رواية ففعلت ذلك سبعًا قال الطبري، بل قامت على الصفا تدعو اللَّه وتستحيثه لإسماعيل، ثم عمدت إلى المروة ففعلت ذلك، ثم إنها سمعت أصوات السباع في الوادي نحو إسماعيل حيث تركنه فأقبلت إلى تشهده فوجدته يفحص الماء بيده من عين قد انفجرت من تحت يديه فشرب منها وجاءت أم إسماعيل فجعلتها حبيسًا ثم أخذت منها في قربتها تدخره لإسماعيل ولولا الذي فعلت ما زالت زمزم عينا معينا ماؤها ظاهر أبدا. قال مجاهد: ولم نزل نسمع أن زمزم همزه جبريل بعقبه لإسماعيل حين ظمأ، وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم -: "رحم اللَّه أم إسماعيل لولا أبا عجلت لكانت زمزم عينًا معينًا". وروى البخاري من طريق آخر عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: لما كان بين إبراهيم الخليل عليه السلام وبين أهله ما كان خرج بإسماعيل وأمه هاجر ومعهم شنة فيها ماء فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة ثم رجع إلى أهله فاتبعته أم إسماعيل حتى لحقته ونادته من ورائه يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ قال: إلى اللَّه تعالى قالت: رضيت باللَّه ورجعت وجعلت تشرب من الشنة، ويدر لبنها على صبيها إلى أن فني الماء قال: ثم ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدًا قال: أهبت فصعدت الصفا فنظرت هل تحس أحدًا فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة فعلت ذلك أشواطًا ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل فإذا هي بصوت فقالت أغث إن كان عندك غواث، فإذا جبريل عليه السلام قد قال بعقبه هكذا: أدغم بعقبه الأرض فانبسق الماء فدهشت أم إسماعيل وجعلت تحفر فقال أبو القاسم -صلى اللَّه عليه وسلم- "لو تركته لكان الماء ظاهرًا". قال: وجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها على صبيها فمر أناس من جرهم ببطن الوادي فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذلك، وقالوا: ما يكون الطير إلا على ماء فبعثوا رسولهم

فنظر فإذا هم بالماء فآتاهم وأخبرهم فأتوا إليها وقالوا: يا أم إسماعيل أتأذنين لنا أن نكون معك "أو قالوا نسكن معك". قال: فأذنت لهم وبلغ ابنها ونكح منهم امرأة. وفي رواية فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك لا تخافي الضيعة، فإن ههنا بيت اللَّه تعالى يبنيه هذا الغلام وأبوه وأن اللَّه عز وجل لا يضيع أهله وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم فنزلوا أسفل مكة فرأوا طائرا عاين الغانف المتردد حول الماء فقالوا إن هذا الطير ليدور على الماء عهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جربا أو جربين فأذاهم الماء فرجعوا وأخبروهم بذلك وأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم ولا حق لكم في الماء قالوا: نعم قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأبرد ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهلهم فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم حين شب فلما أدرك زوجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل. فجاء إبراهيم عليه السلام بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا الصيد ثم سألها عن معيشتهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر حال، نحن في ضيق وشدة وشكت إليه فقال لها: إذا جاء إسماعيل -أو قال زوجك- أقرئي عليه السلام، وقولي له: يغير عتبة بابه فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئًا فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم جاءنا شيخ صفته كذا وكذا فسألنى عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا. فأخبرته أنا في جهد وشدة قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول لك غير عتبة بابك قال ذلك أبي أمرني أن أفارقك إلحقي بأهلك فطلقها وتزوج منهم امرأة أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء اللَّه ثم أتاهم

بعد ذلك فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا صيدًا قال: كيف أنتم؟ وسألها عن معيشتهم وهيئتهم فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على اللَّه تعالى، فقال لها: ما طعامكم؟ قالت اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء قال: "اللهم بارك لهم في اللحم والماء". قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: ولم يكن لهم يومئذٍ حب ولو كان لهم لدعا لهم فيه قال: فإذا جاء زوجك فأقرئي عليه السلام وأمريه أن يثبت عتبة بابه فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألنى عنك فأخبرته وسألني عن معيشتنا فأخبرته أنا بخير وسعة قال: هل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك قال: ذلك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك ثم لبث إبراهيم عليه السلام عنهم ما شاء اللَّه ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا تحت دوحة قريبة من زمزم، فلما رآه قام إليه وصنع ما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال يا إسماعيل: إن اللَّه عز وجل أمرني بأمر قال: فاصنع ما أمرك ربك عز وجل قال: وتعيننى، قال: وأعينك، قال: فإن اللَّه تبارك أمرني أن أبنى ههنا بيتًا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعنا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر والمقام فوضعه له فقام عليه إبراهيم وهو يبنى وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]. قال: وأم إسماعيل قبطية ماتت قبل سارة بمكة ودفنت في الحجر وهي التي أوصى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - بأهل مصر بسببها فقال: "إذا فتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما" قال ابن إسحاق: فسألت الزهري عن الرحم التي ذكرها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال

لهاجر أم إسماعيل، وقال غيره لمارية القبطية أم ولده إبراهيم لأنها منهم، وعاش إسماعيل مائة وسبعًا وثلاثين سنة، وقيل مائة وثلاثون سنة، ومات ودفن بالحجر عند قبر أمه هاجر، وكان إبراهيم عليه السلام إذا أراد زيارة هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدوا من الشام ويقبل بمكة ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام، ذكره محمد بن إسحاق قال: وكان لإسماعيل لما مات أبوه إبراهيم عليهما السلام تسع وثمانون سنة. قال ابن عباس: ولد إبراهيم إسماعيل عليهما السلام وهو ابن تسع وتسعين سنة، وكان بين وفاة إسماعيل ومولد نبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- نحوا من ألفين وستمائة سنة واليهود ينقصون من ذلك نحوًا من أربعمائة سنة، انتهى واللَّه أعلم.

الباب الخامس عشر في قصة لوط عليه السلام وموضع قبره، وذكر مسجد اليقين والمغارة التي في شرقيه،

الباب الخامس عشر في قصة لوط عليه السلام وموضع قبره، وذكر مسجد اليقين والمغارة التي في شرقيه، وعلى ما تضمنه هذا الباب أقول: هو لوط نبي اللَّه ورسوله بن هاران بن نارخ وهو أزو، ولوط ابن أخ إبراهيم الخليل -صلى اللَّه عليه وسلم- قال الثعلبي: وإنما سمي لوط لأن حبه ليط بقلب إبراهيم عليه السلام أي تعلق ولصق، وكان إبراهيم عليه السلام يحبه حبًا شديدًا. وقال الثعلبي أيضًا: قال وهب بن منبه خرج لوط من أرض بابل من العراق مع عمه إبراهيم تابعًا له على دينه مهاجرًا معه إلى الشام ومعهما سارة امرأة إبراهيم فخرج معها آزر أبو إبراهيم مخالفًا لإبراهيم في دينه مقيمًا على كفره حتى وصلوا إلى حران فمات آزر ومضى إبراهيم ولوط وسارة إلى الشام ثم مضوا إلى مصر، ثم عادوا إلى الشام فنزل إبراهيم عليه السلام فلسطين، ونزل لوط الأردن وأرسله اللَّه إلى أهل سدوم وما يليها وكانوا كفارا يأتون الفواحش كما أخبر اللَّه تعالى عنهم قال: وكان عمر وابن دينار يقولان ما نرى ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط وقوله عز وجل: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29]، فكان قطعهم السبيل فيما ذكر أهل التأويل، إتيانهم الفاحشة على من ورد بلدهم، وأما إتيانهم المنكر في

ناديهم. قال المفسرون: هو أنهم كانوا يجلسون في مجالسهم بالطريق فيحذفون من مر بهم بالحجر والمدر، ويتضارطون في مجالسهم، وينكح بعضهم بعضا في مجالسهم، وروى أبو صاع عن أم هانئ قالت: سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن هذه الآية فقال: كانوا يجلسون في الطريق فيحذفون من مر بهم ويسخرون منهم فهو المنكر الذي كانوا يأتون به، وكان لوط ينهاهم عن ذلك ويدعوهم إلى عبادة اللَّه تعالى ويتوعدهم على إصرارهم على ما كانوا عليه وتركهم التوبة من العذاب الأليم، فلا يزيدهم زجره ووعظه إلا تماديًا وعتوًا واستكبروا استكبارًا واستعجالًا لعذاب اللَّه وإنكارًا وتكذيبًا ويقولون إتنا بعذاب اللَّه إن كنت من الصادقين حتى سأل لوط ربه تعالى أن ينصره عليهم فقال: رب انصرني على القوم المفسدين، فأجاب اللَّه سبحانه وتعالى دعاءه وبعث جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام لإهلاكهم وبشارة إبراهيم عليه السلام فأقبلوا مشاة في صورة رجل أمرد حسان حتى نزلوا على إبراهيم وبشروه بإسحاق ويعقوب ولما فرغوا من ذلك أخبروا إبراهيم أن اللَّه أرسلهم لإهلاك قوم لوط، فناظرهم إبراهيم، وجادلهم في ذلك، كما أخبر اللَّه عز وجل بقوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] وكان جداله إياهم على ما ذكر ابن عباس: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31] فقال لهم إبراهيم: أتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟، قالوا: لا قال: أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنا؟ قالوا: لا قال: أفتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمنا؟ قالوا: لا. قال: فكان إبراهيم بعدهم أربعة عشر مؤمنًا بامرأه لوط مسكت عنهم واطمأنت نفسه وروى سعيد بن جبير عن عبد اللَّه بن عباس -رضي اللَّه عنهما- أنه قال:

لما علم إبراهيم عليه السلام حال قوم لوط قال للرسل: إن فيها لوطا إشفاقا منه عليه السلام فقالوا له: الرسل نحن أعلم بمن فيها لننجيه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]، قال البغوي: قال ابن جريج: وكان في قرى لوط أربعة آلاف فقالت الرسل عند ذلك لإبراهيم أعرض عن هذا المقال ودع عنك الجدال {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} [هود: 76] أي عذاب ربك {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ} [هود: 76] أي نازل بهم عذاب غير مردود، وغير مصروف عنهم، ولما جاءت رسلنا يعني هؤلاء الملائكة لوطا على صورة غلمان مرد حسان الوجوه سيء بهم أي حزن لوط لمجيئهم وضاق بهم ذرعا وذلك أن لوطا لما نظر إلى حسن وجوههم وطيب رائحتهم أشفق عليهم من قومه أن يقصدوهم بالفاحشة وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عنهم، فقال: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77] أي شديد وكأنه عصيب به الشر والبلاء، قال: وقال قتادة: والسدي خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو القرى التي للوط فأتوها نصف النهار وهو في أرض لم يعمل فيها، وقيل: إنه كان يحتطب وقد قال اللَّه تعالى لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات فاستطاقوا لوطا فانطلق بهم، فلما مشى ساعة قال: ما بلغكم أمر هذه القرية قالوا: وما أمرهم قال أشهد باللَّه أنها لشر قرية في الأرض عمل ذلك أربع مرات وجبريل عليه السلام يقول للملائكة أشهدوا حتى أتى قومه وقد شهد عليهم أربع شهادات وروى أنّ الملائكة جاءوا إلى بيت لوط فوجدوه في دار ولم يعلم بذلك

إلا أهل بيت لوط فخرجت امرأته وأخبرت قومها وقالت لهم في بيت لوط رجال ما رأيت مثلهم قط، وجاءه قومه يهرعون إليه، قال ابن عباس، وقتادة يسرعون، وقال مجاهد: يهرولون، وقال لهم لوط حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم يعني بالتزويج وفدا أضيافه ببناته وكان في ذلك الوقت تزويج المسلمة من الكافر جائز كما زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بنتيه من عقبة بن أبي لهب وبالعاص بن الربيع قبل الوحي وكانا كافرين، وقال الحسين بن الفضل عرض بناته عليهم بشرط الإِسلام، وقال مجاهد وسعيد بن جبير قوله: هؤلاء أراد نساءهم وأضافهم إلى نفسه لأن كل نبي أبو أمته فاتقوا اللَّه ولا تخزوني في ضيفي لا تسوؤني ولا تفضحوني في أضيافي {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78] أي انضم إلى عشيرة مانعة لقاتلناكم وحُلنا بينكم وبينهم وروى البغوي، عن الأعرج عن أبي هريرة رضي اللَّه عنهم أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يغفر اللَّه للوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد" قال: قال ابن عباس: وأهل التفسير بأن الملائكة معه في الدار وهو يناصرهم ويناشدهم من وراء الباب وهم يعالجون تسور الجدار فلما رأت الملائكة ما يلقى لوط بسببهم قالوا: يا لوط إن ركنك لشديد وإنا رسل ربك لن يصلوا إليك وافتح الباب

ودعنا وإياهم ففتح الباب فدخلوا عليه فاستأذن جبريل، للَّه عز وجل في عقوبتهم فأذن له فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه وعليه وشاح من در منظوم وهو برَّاق الثنايا أجلا الجبين ورأسه حبك مثل الجمان كأنه الثلج بياضا وقدماه إلى الحضرة فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم فانصرفوا وهم يقولون النجاة النجاة فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض سحرونا وجعلوا يقولون يا لوط، كما أنت حتى تصبح وسترى: "ما تلقى" منا غدا يتوعدونه فقال لهم لوط: متى موعد هلاككم قالوا: الصبح قال: أريد أسرع من ذلك فلو أهلكتموهم الآن؟ فقالوا: أليس الصبح بقريب؟ ثم قالوا يا لوط: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود: 78] فإنها تلتفت فتهلك، وكان لوط قد أخرجها معه ونهى من تبعه ممن أسرى بهم أن يلتفت سوى زوجته فإنها لما سمعت "هذا" العذاب التفتت وقالت: يا قوماه فأدركها حجر فقتلها {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود: 82] أي عذابنا {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود: 82] ذلك أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط المؤتفكات وهي خمس مدائن، وفيها أربعمائة ألف وقيل أربعة آلاف ألف فرفع المدائن كلها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونبيح الكلاب فلم يكفأ لهم إناء ولم ينتبه لهم نائم حتى قلبها فجعل عاليها سافلها {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [هود: 82] قيل كان مكتوبًا على كل حجر اسم من رمي به، وقيل إن الحجر أتبع مسافريهم أين كانوا في البلاد، وروى الثعلبي، عن مقاتل بن سليمان قال: قلت لمجاهد: يا أبا الحجاج هل بقى من قوم لوط أحد؟ قال: لا إلا رجل تاجر بقي أربعين يومًا بمكة فجاءه حجر ليصيبه في الحرم فقام إليه ملائكة الحرم وقالوا للحجر ارجع من حيث جئت فإن الرجل في حرم اللَّه تعالى قال: فخرج الحجر ووقف خارج الحرم أربعين يومًا بين السماء والأرض حتى قضى الرجل تجارته فلما خرج أصابه الحجر خارج الحرم، عن أبي سعيد: قال: الذي عمل ذلك

من قوم لوط إنما كانوا ثلاثين رجلًا ونيفا لا يبلغون الأربعين فأهلكهم اللَّه جميعًا. وأما قبره -صلى اللَّه عليه وسلم- فقد قال الفقيه الزاهد أبو عقبة عبد اللَّه بن محمد المروزي الحنفي رحمه اللَّه تعالى قرأت في بعض سير الأنبياء عليهم السلام فرأيت أن لوطً مقبورًا في قرية تسمى كفر "تبعد" عن مسجد الخليل عليه السلام نحوًا من فرسخ، وأن في المغارة القريبة تحت المسجد العتيق ستون نبيًا منهم عشرون مرسلا، وقد كان قبر لوط يُزار ويُقصد من قديم الزمان بنقل الخلف عن السلف قال صاحب كتاب البديع في تفضيل مملكة الإِسلام: وعلى فرسخ من (حبرى) جبل صغير مشرف على بحيرة زغرد موضع قريات لوط منهم مسجد بناه أبو بكر الصباحى فيه مرقد إبراهيم عليه السلام، قد غاص في القف نحوا من ذراع يقال إن إبراهيم لما رأى قريات لوط في الهواء وقف هناك أو رقد ثم قال: أشهد أن هذا لهو الحق اليقين فسمي ذلك المسجد مسجد اليقين. قال الترمذي: ولم أر أحدًا تعرض لوفاة لوط ولا لعمره ولا لموضع قبره من أصحاب التواريخ فيما وقفت عليه انتهى واللَّه أعلم.

الباب السادس عشر في ذكر موسى بن عمران عليه السلام وصفته التي وصفه بها النبي -صلى الله عليه وسلم- ورأفته بهذه الأمة وشفقته عليهم وذكر شيء من معجزاته وذكر السبب في تسميته موسى،

الباب السادس عشر في ذكر موسى بن عمران عليه السلام وصفته التي وصفه بها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ورأفته بهذه الأمة وشفقته عليهم وذكر شيء من معجزاته وذكر السبب في تسميته موسى، وذكر عمره، وصلاته في قبره وفائدة بوابه وأن يعرص الأرض المقدسة ريين حجر. روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليلة أسري بي رأيت موسى فإذا هو رجل ضرب كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى فإذا هو رجل ربعه أحمر كأنما خرج من ديماس وأنا أشبه ولد إبراهيم به -صلى اللَّه عليه وسلم-" كذا رواه البخاري في صحيحه. وروي من حديث جابر بن عبد اللَّه وابن عباس، وغيرهما أيضًا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "عرض عليَّ الأنبياء، فإذا موسى رجل ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى ابن مريم فإذا أقرب من رأيت به شبيها صاحبك يعني نفسه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورأيت جبريل فإذا أقرب من رأيت به شبهًا وحيه" أخرجه مسلم في صحيحه. قال قتادة عن أبي العالية قال: حدثنا ابن عم نبيكم عبد اللَّه بن عباس رضي

اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلًا أدم طوال كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجل مربوع إلى العمرة والبياض سبط الرأس، ورأيت مالكًا خازن النار، ورأيت الدجال في آيات أرانيهن اللَّه تعالى" أخرجه مسلم أيضًا من طريق قتادة والأدم الأسمر الشديد السمرة مأخوذ من أدمة الأرض وهو لونها ومنه سُمي آدم عليه السلام، والضرب من الرجال هو الذي له جسم ليس بالضخم ولا الضئيل قال ابن الأثير في النهاية الضرب الخفيف اللحم الممشوق المستبدق وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كأنه من رجال شنوءة" فهي قبيلة من العرب اليمانيين سموا بذلك لأنهم كانوا يتباعدون عن الأنجاس يقال رجل فيه شنوءه بفتح الشين المعجمة وضم النون وهمزة مفتوحة بعد الواو إذا كان فيه نفور وتباعد عن الأنجاس حكاه الجوهري، وقيل سمو بذلك لأنهم تشانوا أي تباغضوا وتباعدوا والنسبة إلى أردشنوه شناي بالهمزة ومنهم من لم يهمز شنوه فيقول في النسبة شنوي، وجاء عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رؤيته لموسى بن عمران عليه السلام من طريق ابن عباس رضي اللَّه عنهما أيضا قال: سرنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بواد فقال: أي واد هذا؟ قالوا: وادي الأزرق قال: كأني انظر إلى موسى عليه السلام فذكر من لونه وشعره شيئًا لم يحفظه داود أحد رواة الحديث واضعًا أصبعيه بأذنيه له حوار إلى اللَّه تعالى بالتلبية بهذا الوادي ثم أتى على ثنية هرشا فقال: أي ثنية هذه؟ قالوا: ثنية هرشا فقال: كأني انظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء جعد عليه جبة من صوف حطام ناقته حنبه يعني ليفا والجوأر بضم الجيم وبالهمزة رفع الصوت وقد اختلف العلماء رضي اللَّه عنهم في هذه الرؤية التي رآها نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- للأنبياء عليهم السلام فقيل إن ذلك كان في المنام بدليل ما جاء في بعض الروايات في الصحيح.

عن ابن عمر -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: بينما أنا نائم رأيتنى أطوف بالكعبة وذكر في الحديث قصة رؤيته عيسى ابن مريم عليه السلام. وقال كثير من المحققين: إن ذلك رؤيا عين لا منام على الصحيح، وهذا هو القول الراجح، وعلى هذا فاختلفوا في معنى الحديث الآخر الذي ذكر فيه كيفية حج موسى عليه السلام، فذكر فيه وجوها: أحدها: أن هذا على ظاهره كان الأنبياء عليهم السلام أحياء بعد موتهم كالشهداء بل أفضل، وإذا كانوا أحياء فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا ويتقربوا إلى اللَّه تعالى بما استطاعوا؛ لأنهم وإن كانوا قد توفوا فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل، حتى إذا فنيت مدتها وتعقبها الدار الآخرة التي هي دار الجزاء انقطع العمل، وقد يقال أيضًا: إن هذه الأعمال تحبب إليهم فيتعبدون بما يجدون من دواعي أنفسهم لا بما يلزمون كما يحمده ويسبحه أهل الجنة كما جاء في الحديث أنهم يلهمون التسبيح، كما يلهمون النفس، وهو معنى قوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10]، وإن كانت ليست بدار تكليف، ولكن يكون ذلك على الوجه الإلهامي الذي ذكرناه فكذلك حج الأنبياء عليهم السلام وصلاتهم، وثانيها: أنه صلى اللَّه عليه وسلم رأى حالهم التي كانت في حياتهم ومثلوا له في حال حياتهم كيف كانوا، وكيف حجتهم، وتلبيتهم وثالثها: أن يكون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أخبر عن ما جاء به وحي إليه من أمرهم، وما كان منه إن لم يرهم، لكن جاء به وحي من اللَّه تعالى إليه في هذا النسق لقوة اليقين بصدق ذلك، إذا كان عن وحي، والذي تقضيه الأحاديث الصحيحة من أنهم صلوات اللَّه عليهم أجمعين أحياء في قبورهم، كما رواه أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال: "قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: رأيت موسى يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر" أخرجه مسلم عن هدبة بن خالد، وشيبان بن فروح

كلاهما عن حماد بن سلمة به ولفظه مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره، وهذه الرواية ظاهرة في حياة موسى عليه السلام في قبره، ويدل عليه أيضا حديث المعراج المتقدم وترديده النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في أمر الصلوات، وقد تقدم أن الإسراء كان بجسده -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: استب رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدا -صلى اللَّه عليه وسلم- على العالمين في قسم يقسم به، فقال اليهودي والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم عند ذلك يده ولطم اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأخبره الذي كان من أمره وأمر المسلم، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تخيروني فإن الناس يصعقون فأكون أول من يصعق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي؟ أم كان ممن استثنى اللَّه عز وجل" وفي لفظ أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الناس يصعقون يوم القلب من فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي؟ أم جزي بصعقته"، وفي رواية بصعقة الطور، فإذا الحديث دليل ظاهر قوي في حياة موسى عليه السلام، وحياة نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحياة غيرهما من الأنبياء صلوات اللَّه عليهم، ووجه ذلك أن وفاة موسى عليه السلام من المعلوم قطعا، وإذا كان كذلك فالصعق عند النفخ في الصور إنما يكون لمن هو حي في الدنيا، فأما من مات قبل ذلك فلا يصعق لأن تحصيل الحاصل محال وإنما يصح ذلك في حق موسى عليه السلام إذا كان حيا فيتحصل من ذلك أنه حي كالشهداء بل أفضل وأولى بهذه الكرامة، وينضم إلى ذلك رؤية نبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- له قائمًا يصلي في قبره واجتماعه به ليلة الإسراء في السموات العلا وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه حرم على الأرض أن تأكل

أجساد الأنبياء" لما قيل له: كيف تعرض صلاتنا عليك؟ وقد أرمت أي بليت إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي يفيد مجموعها العلم بأن موت الأنبياء صلوات اللَّه عليهم أجمعين ليس عدمًا محضًا كموت غيرهم بل هو انتقال من حالة إلى أخرى وغيبوا غيبا بحيث لا تدركهم وإن كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة فإنهم أحياء موجودون ولا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه اللَّه بكرامته من أوليائه وأصفيائه فإن قيل قد صح أن اللَّه تعالى توفاهم من الدنيا وذاقوا الموت كما قال أبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- لنبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-: أما الموتة التي كتب اللَّه عليك ذقتها فإذا كانوا أحياء، فقد أقامهم اللَّه تعالى بعد موتهم ذلك فيلزم من ذلك أنهم يموتون موتة ثانية عند النفخ في الصور، فيذوقون الموت أكثر من غيرهم فالجواب عن ذلك أنه إذا نفخ في الصور فصعق من في السموات، ومن في الأرض فلا شك أن صعق غير الأنبياء بالموت وأما صعق الأنبياء فالظاهر أنه غشية وزوال استشعار لا موت كغيرهم كيلا يلزم أنهم يموتون مرتين - وهذا ما اختاره الإِمام البيهقي، والقرطبي، وغيرهما أن صعقتهم يومئذٍ ليس موتًا بل غشي أو نحوه، ويدل لصحته قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث "فلا أدري، أكان فيمن صعق فأفاق قبلي"، ولم يقل حي قبلي فإن هذا يقتضي أنه إذا نفخ النفخة الثالثة، وهي نفخة البعث يفيق من كان مغشيًا عليه، ويحيا من كان ميتا، والحاصل أن نبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- تحقق أنه أول من يفيق، وأول من يخرج من قبره قبل الناس كلهم الأنبياء وغيرهم إلا موسى عليه السلام فإنه حصل له تردد هل بعث قبله أو بقي على حاله التي كان عليها قبل النفخة والصعق، وهذا الوجه أول ما يحمل عليه هذا الحديث، وهو الذي لا يتجه غيره واللَّه أعلم. أما قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- "لا تفضلولني على موسى"، فقد ذكر العلماء رضي اللَّه عنهم فيه وجوها كثيرة منها أن هذا كان قبل أن يعلمه اللَّه تعالى بأفضليته فلما أعلمه اللَّه تعالى بذلك صرح به وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنا سيد ولد آدم، منها أن المنهي عنه هو التفاضل بينهم في النبوة فإنها درجة واحدة لا تفاضل

فيها، ومنها أن هذا كان منه صلى اللَّه عليه وسلم من باب الأدب والتواضع وفي هذه الوجوه نظر، وأقوى منها وجهان: أحدهما: أنه صلى اللَّه عليه وسلم لا يعطه حقه إلا من يفرق بين الفاضل والأفضل، والكامل والأكمل، وكثير من الناس يعتقد في المفضول نقصًا بالنسبة إلى الفاضل، وفضل بعض الأنبياء على بعض إلى هو من باب الفاضل ولا يقض بالحق أحدا منهم فحمى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من ذلك لئلا يودي إلى نقص من مرتبتهم وفي التنقص بين مرتبتهم من المحذور ما لا يخفى، والثاني: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يمنع من اعتقاد ذلك، وإنما منع من قوله والخوض فيه يودي إلى خصومة وفتنة، كما وقع في الحديث المتقدم من قصة المسلم واليهودي واللَّه أعلم. وعن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكلام اللَّه تعالى لموسى مقطوع به قال: للَّه تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]. وسماع موسى لكلام اللَّه تعالى جائز، وإن كان كلامه منزهًا عن الحروف والأصوات كما أن المؤمنين يرون اللَّه تعالى يوم القيامة وهو منزه عن الجهة وعن التحيز فإذا ثبت ذلك تحيز الصادق المصدوق وجب اعتقاده والتصديق به واللَّه أعلم. وأما رأفته -صلى اللَّه عليه وسلم- على هذه الأمة وشفقته عليهم فمنها قوله لنبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلة الإسراء ما فرض ربك على أمتك؟ قال خمسين صلاة في كل يوم وليلة، وقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا يطيقون ذلك، وإني قد بلوت بني إسرائيل واختبرتهم إلى أن قال فلم أزل أرجع بين يدي ربي وبين موسى حتى قال: يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشرة فتلك خمسون الحديث بطوله في الصحيحين وقد تقدم.

وأما معجزاته -صلى اللَّه عليه وسلم- فمنها أنه لما جاء حزب بني فرعون الموكلون بذبح ذكور بني إسرائيل إلى أمه، قالت أخته: يا أماه الحرس بالباب فلفته أمه في خرقة، ووضعته في التنور وهو مسجور، ولم تعقل ما تصنع فجاء الحرس فوجدوا التنور مسجورا، فلم يتغير لون أمه ولا ظهر لها لبن، فخرجوا من عندها، فرجع لها عقلها، وقالت لأخته: أين الصبي؟ قالت: لا أدري فسمعت بكاءه من التنور فانطلقت إليه وقد جعل اللَّه النار المحرقة عليه بردًا وسلامًا إلى غير ذلك من الكرامات الباهرة والمعجزات الظاهرة والمعدودة في معجزاته الباهرة المعدودة، في معجزات الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم، وسمي موسى لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- وجد بعد ما ألقته أمه في اليم في ماء وشجر في دار فرعون فقيل لآسية امرأة فرعون: سميه، فقالت: سميته موسى لأن مويا بالقبطة اسم للماء وسى اسم للبحر. روى صاحب كتاب الإنس بسنده إلى قتادة عن حسن قال: مات موسى فلم يدر أحد من بني إسرائيل أين قبره ولا أين توجه فماج الناس في أمره ولبثوا لذلك ثلاثة أيام لا ينامون الليل فلما كان ثالثة غشيتهم سحابة على قدر محلة بني إسرائيل، وسمعوا منها مناديًا يقول بأعلى صوته مات موسى، وأي نفس لا تموت مكررًا القول حتى فهمه الناس كلهم، وعلموا أنه قد مات، ولم يعرف أحد من الخلائق أين قبره. وبسنده إلى محمد بن إسحاق يرفعه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: ما طلع أحد على قبر موسى إلا الرحمة فنزع اللَّه عقلا كي لا تدل عليه أحدا، قال القرطبي في كلامه على قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} [الأحزاب: 69] , أي بقولهم قتل موسى أخاه هارون فتكلمت الملائكة بموته، ولم نعرف قبره إلا الرحمة ولذلك جعله اللَّه أبكم أصم، وكذلك رواه الحاكم في مستدركه في كتاب تاريخ الأنبياء، روى بسنده إلى قتادة قال الحسن: مات موسى وهو

ابن عشرين ومائة سنة، ومات هارون قبل موسى بثلاث سنين، وهو ابن ثمانية عشرة سنة ومائة، وهو أكبر من موسى بسنة، وكذا ذكر أبو جعفر الطبري في تاريخه أن عمر موسى مائة سنة وعشرون سنة، قال غيره: مات موسى وهو ابن مائة وسبع عشرة سنة، ومات في سابع آذار ودفن في الوادي من الأرض التي مات فيها قال وهارون ولد قبل موسى بسنة في عام الذبح وذلك أنه وقع في مشيخة بني إسرائيل موت، فقال رؤوس القبط لفرعون: قد وقع الموت في هؤلاء القوم ويوشك أن تفنى الكبار وأنت تذبح الصغار، وأمر أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة فولد هارون في سنة الترك وموسى بعدها في سنة الذبح ومات هارون قبل موسى بثلاث سنين، فموسى أكبر من هارون، وقول صاحب كتاب الإنس: حكايه عن الأنس حكاية الحسن هو أكبر من موسى بسنة مراده أسبق منه في الوجود سنة لأنه أسن منه. قال وهب: لما قبض هارون كان عمر موسى مائة وسبع عشرة سنة وعاش بعده ثلاثين سنة، أما فائدة الدنو من الأرض المقدسة رمية بحجر وذكر موضع قبره في الصحيحين أن موسى عليه السلام: قال يا رب أدنني من الأرض المقدسه رمية بحجر. قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم -: "لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر"، فإن قيل: لم لم يسأل موسى عليه السلام نفس الأرض المقدسه ولا مكانا مخصوصًا معروفًا عند الناس وإنما سأل الدنو من الأرض المقدسة رمية بحجر فالجواب نحو ذلك بها رواه القرطبي في تفسيره أنه إنما سأل الدنو منها لشرفها؟ ولم يسأل مكانًا معروفًا خوفًا من أن يعبد وتكثر الأحداث عنده ولا يتنافى سؤاله الدنو منها القول بأن قبره ببيت المقدس فإنه عليه السلام سأله شيئًا عطاه اللَّه فوقه، وهذا شأن الكريم يعطي فوق المسئول وعمل الناس اليوم من أهل بيت المقدس، وغيرهم على القول الثالث المتقدم وهو أنه دفن شرقي

بيت المقدس وقبره مقصود بالزيارة في القبة التي تقدم ذكرها والناس يتحملون مشقة الذهاب إليه فيبيتون عنده مشقة الإياب ويبذلون الأموال في عمل المأكل والمشرب، وتأجير الدواب يفعل ذلك الرجال والنساء من أهل بيت المقدس، وغيرهم الواردين عليه بقصد الزيارة لا يخلون بذلك حتى الآن، قال الحافظ ضياء الدين المقدسي: يقال إن ذلك القبر الذي اشتهر أنه قبره في الأرض المقدسة بالقرب من أريحا كان عنده كثيب أحمر إلى جانبه طريق مسلوك. انتهى واللَّه أعلم.

الباب السابع عشر في فضل الشام وما ورد في ذلك من الآيات والآثار والأخبار وسبب تسميتها بالشام وذكر حدودها، وما ورد من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- على مكانها وما تكفل الله تعالى لها،

الباب السابع عشر في فضل الشام وما ورد في ذلك من الآيات والآثار والأخبار وسبب تسميتها بالشام وذكر حدودها، وما ورد من حديث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على مكانها وما تكفل اللَّه تعالى لها، وأنها غصن دار المؤمنين، وعمود الإِسلام بها، وأن الشام صفوة اللَّه من بلاده يسكنها خيرته من عباده. ودعا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لها بالبركة، وذكر بناء مسجد دمشق وعمارته، ومبدأ أمره وما بها من المساجد والمشاهد المقصودة بالزيارة المعروفة بإجابة الدعوات والتنبيه عليها، وما في معناها أما الفضل فقد تقدم في الباب الأول من الآيات الورادة في فضل الأرض المقدسة ما يغنى عن الإعادة ههنا فليراجع منه، وفي ترغيب أهل الإِسلام عقب الكلام على قوله تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50]، قال عبد اللَّه بن سلام هي دمشق، وقال ابن عباس -رضي اللَّه عنه- هي بيت المقدس وروى أبو أمامة الباهلي رضي اللَّه تعالى عنه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "أتدرون أين هي يعني إلى الربوة قال اللَّه ورسوله أعلم. قال: هي بالشام بأرض يقال لها الغوطة مدينة يقال لها دمشق هي آخر مدائن الشام" وكذا قال ابن عباس، وعبد اللَّه بن سلام، وسعيد بن المسيب والحسن البصري.

وقوله عن معمر عن قتادة في تفسير قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137] قال: هي مشارق الشام ومغاربه، وفيه عن قتادة أيضًا في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: 93]، الصدق يعبر به عن الحسن استعارة، ويجوز في قوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 54] أي في مقعد حسن وقد يكون المبوأ حسنا لما فيه من البركات الدينية والخيرات، وذلك موجود وافر بالشام، وبيت المقدس أو يكون حسن لبركاته العاجلة بسعة الرزق والثمار والأشجار، قال صاحب مثير الغرام إن معنى قوله تعالى: مشارق الأرض ومغاربها تأويله جهات شرقها أرض الشام وجهات غربها أرض مصر واختلف المفسرون في الأرض المقدسة، فقال مجاهد الطور وما حوله، وقال الضحاك إليا وبيت المقدس، وقال ابن عباس، وعكرمة، والسدي أريحا، وقال الكلبي: دمشق، وفلسطين، وبعض الأردن، وقال قتادة: الشام كلها، ومجموع هذه الأقوال لا يخرج الأرض المقدسة عن الشام. أما تسميتها بالشام قال: اللغويون: اسم بلاد تذكر وتؤنث يقال شام وشأم وسميت شأما لأنها عن شمال الكعبة، كما سمي كل ما عن يمين الكعبة من بلاد الغور يمنًا، وقيل سميت بذلك لأن أصحاب نوح عليه السلام لما خرجوا من السفينة فمنهم من أخذ نحو يمين الكعبة ومنهم من أخذ نحو يسارها فسمي الموضع باسم الجهة المأخوذ منها، فقيل يمن وشأم، وقيل: سمي بذلك لجبال هناك بيض وسود كأنها شامات، وقيل سميت باسم سام بن نوح: لأنه أول من نزل بها فتطيرت العرب من سكناها وكرهت أن تقول سام لأنه اسم الموت، فقالت شام، وقيل: لكثرة قراها وتداني بعضها من بعض فسميت بالشامات، وقيل لأن قومًا من بني كنعان بن حام خرجوا عند تفرقهم فتشاموا إليها، أي أخذوا ذات الشمال فسميت بذلك شامًا، وأما حدودها من الغرب البحر المالح

وعلى ساحله عدة مدائن ومن الجنوب، رمل مصر، والعريش ثم تيه بني إسرائيل وطور سيناء، ثم تبوك ثم دومة الجندل ومن الشرق برية السماوة وهي كبيرة ممتدة إلى العراق ينزلها عرب الشام، ومن الشمال ما يلي الشرق أيضًا الفرات إلى بلاد الجزيرة ومسافة طوله من العريش إلى الفرات عشرون يومًا أو أكثر، وقال في كتاب المسالك والممالك: خمسة وعشرون يومًا وعدة كل مسافة ما بين كل بلدين، وأما عرضه فيزيد على ذلك وينقص أكثره ثماينة أيام، وأقله ثلاثة أيام وهذا التحديد ذكره مؤرخ الشام الحافظ شمس الدين الذهبي في كتاب البلدان له، وحكاه صاحب كتاب مثير الغرام، وروى صاحب كتاب الإنس بسنده إلى حاتم بن حيان البسني أنه قال: أول الشام نابلس وآخره عريش مصر ذكره في آخر باب فضل الشام وأهله، وقال في مثير الغرام قسم الأوائل: الشام خمسة أقسام: الأول: فلسطين سمي بذلك لأن أول من نزلها فلسطنى بكسر الفاء وفتح اللام ابن كوسجين بن مغطى بن يونان بن يافث بن نوح، وأول حدودها من طريق مصر رفح وهي العريش، ثم يليها غزة ثم الرملة فلسطين، ومن

مدن فلسطين إيليا وهي بيت المقدس بينها وبين الرملة ثمانية عشر ميلا، وكانت بيت المقدس دار ملك داود وسليمان عليهما السلام وعسقلان ومدينة الخليل عليه السلام رملة ونابلس، وقال في كتاب المسالك والممالك، ومسافة فلسطين للراكب طولا يومان من رفح، إلى حد اللجون، وعرضا من يافا إلى أريحا كذلك. الثاني: حوران مدينتها العظمى طبرية ولبحيرتها ذكر في حديث يأجوج ومأجوج وقع في الشفاء للقاضي عياض رحمه اللَّه أن قال: في وقت ولادته -صلى اللَّه عليه وسلم- غاضت بحيرة طبرية وإنما هي بحيرة ساوه، ومن مدنها الغور واليرموك وبيسان فيما بين فلسطين والأردن وبيسان هذه التي سأل الرجال عن نخلها، والأردن بضم الهمزة وسكون الراء وضم الدال وتشديد النون هو النهر المعروف بالشريعة المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة: 249]. الثالث: الغوطة ولها ذكر في آثار عديدة ومدينتها دمشق بكسر الدال وفتح الميم، وفي لغة ضعيفة كسر الميم قيل هي ذات العماد، وقيل كانت دار نوح عليه السلام، ومن سواحلها طرابلس وفي كتاب الأربعين البلدانية للحافظ أبي القاسم علي بن هبة اللَّه بن عساكر: أن دمشق أم الشام وأكبر بلدانها وهي من الأرض المقدسة.

الرابع: حمص قيل لا يدخلها حية ولا عقرب وقال قتادة: نزلها خمسمائة صحابي ومن أعمالها مدينة سلمية. الخامس: قنسرين ومدينتها العظمى حلب ومن أعمالها مدينة سرمين وأنطاكية ويقال إن بها قبر حبيب النجار. وذكروا لكل قسم من هذه الأقسام الخمسة بلاد ومعاملات، وفي بعض الأجزاء اتفق العلماء على أن الشام أفضل البقاع بعد مكة والمدينة، وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه اللَّه في تأليفه ترغيب أهل الإسلام في سكن الشام، وبعد فأحمد اللَّه تعالى على أن حبب إلينا الإيمان وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وجعلنا من أهل الشام الذي بارك فيه للعالمين وأسكنه الأنبياء والمرسلين والأولياء المخلصين، وخصه بملائكته المقربين وجعله في كفالة رب العالمين وجعل أهله على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم

إلى يوم الدين، وجعله معقل المؤمنين، وملجأ اللاجئين سيما دمشق الموصوفة في القرآن المبين بأنها ذات قرار ومعين، كذا روى عن سيد المرسلين وجماعة من المفسرين وبها ينزل عيسى ابن مريم لإعزاز الدين ونصر الموحدين، وقتل الكافرين وبغوطها تمتد الملاحم فسطاط المسلمين، ثم قال: وقد وفر اللَّه سبحانه خط دمشق بما أجراه فيها من الأنهار وسلسلة من مياهها خلال المنازل والديار وأنبته بظاهرها من الحبوب والثمار والأزهار، وجعلها موطنًا لعبادة الأخيار وساق إليها صفوته من الأبرار وما ذكره علماء السلف في تفسير آي كتابه العزيز المختار وما ورد في حب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على سكناها وما تكفل به لها ولأهلها إلى غير ذلك من الأخبار والآثار, فمنه ما رواه الحافظ ابن عساكر بسنده إلى إدريس الخولاني، عن عبد اللَّه بن جوالة الأزدي، عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: (ستجدون أجنادًا، أو قال: جندًا بالشام، وجندا بالعراق وجندا باليمن، فقال الخولاني خبرني يا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: عليكم بالشام فمن أبي فليلحق بيمنه وليبق من عذره فإن اللَّه قد تكفل لي بالشام وأهله) فكان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث، التفت إلى ابن عامر، وقال: من تكفل اللَّه به فلا ضيعة عليه، وروى صاحب كتاب الأنس بسنده، إلى عبد اللَّه بن جوالة الصحابي قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رأيت ليلة أسري بي عمودًا أبيض كأنه لؤلؤة تحمله الملائكة فقلت ما تحملون قالوا: عمود الإِسلام أمرنا ربنا أن نضعه بالشام وبينما أنا نائم رأيت عمودًا للكتاب اختلس من تحت وسادتي فظننت أن اللَّه تعالى قد تخلى من الأرض فأتبعته بصري، فإذا نور ساطع بين يدي حتى وضع بالشام فقال ابن جوالة: يا رسول اللَّه خبرني فقال: عليك بالشام" وبسنده إلى الحسن بن شجاع الربعي، إلى كعب أن رجلًا قال له: أريد الخروج أبتغي فضل اللَّه عز وجل فقال: عليك بالشام، فإن ما نقص من بركة الأرضين يزاد بالشام، وبسنده إلى كعب أيضًا قال: تخرب الدنيا، أو قال الأرض.

قبل الشام بأربعين عامًا، وبسنده إلى ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مكة آية الشرف، والمدينة معدن الدين، والكوفة فسطاط الإِسلام والبصرة فخر العابدين، والشام موطن الأبرار، ومصر عن إبليس وكهفه ومستقره، والزنا في الزنج، والصدق في النوبة، والبحرين وأهل اليمن أفئدتهم رقيقة ولا يعدوهم الرزق والأئمة من قريش، وسادة الناس بنو هاشم" وبسنده إلى ابن جوالة أيضًا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "ستكون أجناد مجندة شام ويمن وعراق -واللَّه أعلم- بأيها بدأ ألا وعلكيم بالشام ألا وعليكم بالشام فمن كره فعليه بيمنه وليبق من عذره فإن اللَّه قد تكفل لي بالشام وأهله" وبسنده إلى واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول لحذيفة بن اليمان، ومعاذ بن جبل، وهما يستشيرانه في المنزل فأومأ إلى الشام ثم سألاه، فأومأ إلى الشام ثم قال: "عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد اللَّه يسكنها خيرته من عباده فمن أبي فليلحق بيمينه وليبق من عذره فإن اللَّه تعالى قد تكفل لي بالشام وأهله"، أو قال: "قد تكفل بالشام وأهله"، وبسنده إلى جبير بن نفير عن عبد اللَّه بن جوالة قال: كنا عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فشكوا إليه الفقر والعُري وقلة الشيء فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بشروا فواللَّه لا نأمن كثرة الشئ أخوف عليكم من قلته" الحديث. وفيه قال ابن جوالة قلت فاختر لي يا رسول اللَّه إن أدركني ذلك قال: "أختار لك الشام فإنها صفوة اللَّه من بلاده، وإليه تجيء صفوته من عباده يا أهل الإسلام، عليكم بالشام فإن صفوة اللَّه من الأرض الشام فمن أبي فليلحق بيمينه وليبق من عذره فإن اللَّه قد تكفل لي بالشام وأهله"، ورواه صاحب ترغيب أهل الإِسلام بلفظ آخر عن ابن جوالة قال يا رسول اللَّه اختر لي بلدا أكون فيها فلو أعلم أنك تبقى لي لم أختر على قربك شيئًا قال: "عليك بالشام" فلما رأى كراهتى

للشام قال: "أتدري ما يقول اللَّه تعالى في الشام؟ إن اللَّه يقول: يا شام أنت صفوتي من أرضى وبلادي أدخل فيك خيرتي من عبادي بأن اللَّه قد تكفل لي بالشام وأهله" وهذه شهادة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- باختيار الشام وتفضيلها، وباصطفائه ساكنيها واختياره لقاطنيها وقد رأينا ذلك بالمشاهدة وأن من رأى صالحي أهل الشام وبنسبتهم إلى غيرهم رأى بينهم من التفاوت ما يدل على اصطفائهم واجتبائهم، وقال عطاء الخراساني إني لما هممت بالنقلة شاورت من بمكة والمدينة والكوفة والبصرة وخراسان من أهل الكتاب فقلت أين ترون لي أن أنزل بعيالي فكلهم يقولون عليك بالشام؟ وروى صاحب كتاب الإنس بسنده إلى ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: قال رجل لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إني أريد الغزو، فقال له -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عليك بالشام وأهله، ثم الزم من الشام عسقلان فإنه إذا دارت الرحى في أمتي كان أهل عسقلان في راحة وعافية". وبسنده إلى أبي أمامة قال: لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشام ويتحول أشرار أهل العراق إلى العراق، وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عليكم بالشام" قالها ثلاثًا، وبسنده إلى عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صلاة الفجر"، ثم انتقل فأقبل على القوم فقال لهم: "بارك

لنا في مدينتا وبارك لنا في مدنا وصاعنا، اللهم بارك لنا في حرمنا وبارك لنا في شامنا ويمننا"، فقال رجل، والعراق يا رسول اللَّه، فقال: "من ثم يطلع قرن الشيطان وتهيج الفتن"، وذكره في مثير الغرام بأخصر منه، ثم قال: أخرجه البخاري في صحيحه, ورواه صاحب كتاب الإنس بزيادة لفظ بعد قوله شامنا اللهم اجعل مع البركة بركة، وبسنده إلى أبي مسلم في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} [المائدة: 21]، قال: كان ستة رجال يحملون عنقودًا من عنب وأربعة رجال يحملون رمانة ورجلان تينة، وبسنده إلى أبي الحسن ابن شجاع الربعى عن كعب قال: إن اللَّه تعالى بارك في الشام من العريش إلى الفرات، وروى صاحب كتاب الأنس بسنده إلى حكيم بن حزام عن معاوية عن أبيه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تحشرون ههنا وأومأ بيده نحو الشام مشاة وركبانا وعلى وجوهكم، وتعرضون على اللَّه وعلى أفواهكم القدام فأول من يعرب عن أحدكم فخُذه، وتلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} [فصلت: 22] " وبسنده إلى الحسن قال: الشام أرض المحشر والمنشر، وعن الوليد بن صالح الأزدي قال في الكتاب الأول: إن اللَّه تعالى يقول للشام، أنت إلا ندنوا ومنك المنشر وإليك المحشر، عن يحيى بن أيوب عن زيد بن ثابت قال: بينما نحن عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نؤلف

القرآن من الرقاع إذ قال: "طوبي للشام" قيل: ولم يا رسول اللَّه؟ قال: "إن ملائكة الرحمن باسطة عليها"، وروى صاحب كتاب الأنس بسنده إلى واثلة بن الأسقع قال: إن الملائكة تغشى مدينتكم هذه يعني دمشق ليلة الجمحة، فإذا كانت بكرة النهار افترقوا على أبوابها براياتهم وبنودهم، ثم ارتفعوا وهم يدعون اللَّه عز وجل اللهم اشف مريضهم ورد غائبهم، وعن عبد اللَّه بن عمير قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الخير عشرة أعشار تسعة بالشام وواحد في سائر البلدان وإذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم" وروى الطبراني في معجمه الكبير عن عبد اللَّه بن مسعود موقوفًا عليه قال: قسم اللَّه تعالى الخير عشرة أعشار، فجعل تسعة أعشار بالشام، وبقيته في سائر البلدان، وقسم الشر عشرة أعشار، فجعل جزءًا منه بالشام، وبقيته في سائر الأرض، وروى صاحب كتاب الإنس بسنده إلى عبد اللَّه بن عمر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "دخل إبليس العراق فقضى حاجته منها، ثم دخل الشام فطردوه حتى بلغ نساف، ثم دخل مصر فباض فيها وفرخ وبسط عبقريته" قال ابن وهب أحد رواته: كان ذلك في فتنة عثمان -رضي اللَّه عنه- لأن الناس افتتنوا فيه وسلم أهل الشام، وروى صاحب كتاب الإنس بسنده إلى أبي الدرداء -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أهل الشام وأزواجهم وذراريهم وعبيدهم وإماؤهم إلى منتهى الجزيرة يرابطون في سبيل اللَّه تعالى فمن اختار فيها مدينة من المدائن فهو في رباط ومن اختار فيها ثغرًا من الثغور فهو في جهاد" وبسنده إلى معاوية بن قرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم ولا تزال طائفة من أمتي منصورين على الناس لا يضرهم من خذلهم إلى يوم القيامة" وبسنده إلى خزيم بن فائك الأسدي الضحاك أنه سمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "أهل الشام سوط اللَّه في أرضه ينتقم بهم ممن يشاء من عباده"

وفي لفظ من رواية كعب أنه قال: أهل الشام سيف من سيوف اللَّه ينتقم بهم ممن عصاه في أرضه وعن عوف بن عبد اللَّه بن عتبة قال: قرأت فيما أنزل اللَّه تعالى على بعض الأنبياء الشام كفالتي، فإذا غضبت على قوم رميتهم منها بسهم، وروى صاحب كتاب الأنس بسنده إلى شهر بن حوشب قال: لما فتح معاوية بن أبي سفيان مصر جعل أهل مصر يسبون أهل الشام، فقال عوف: وأخرج وجهه من برنسة يا أهل مصر أنا عوف بن مالك لا تسبوا أهل الشام فإني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: فيهم الأبدال وبهم ترزقون وبهم تنصرون. وبسنده إلى الزهري عن عبد اللَّه بن صفوان قال: قال رجل رسوم صفين: اللهم العن أهل الشام، قال: فقال له علي: لا تسب أهل الشام جما غفيرا فإن بها الأبدال. وبسنده إلى عياش بن عباس القيتاني، أن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: الأبدال في الشام، والنجباء من أهل مصر، والأخيار من أهل العراق. وفي مثير الغرام عن شريح بن عبيد قال: ذكر أهل الشام عند علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- فقالوا: العنهم يا أمير المؤمنين، فقال: لا إني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "الأبدال بالشام وهم أربعون كما مات رجل أبدل اللَّه مكانه رجلًا يستسقي بهم الغيث وينتصر بهم على الأعداء ويصرف عن الشام بهم العذاب" رواه أحمد في مسنده وروى أبو الأسعد هبة الرحمن بن هوازن بسنده إلى أنس عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "بدلاء أمتي اثنان وعشرون بالشام وثمانية عشر بالعراق كما مات واحد أبدل اللَّه مكانه آخر إذا جاء الأمر قبضوا وأما مواطنهم فإنهم لا يبرحون في الغالب عنه".

وقال الفضل بن فضالة: الأبدال بالشام خمسة عشرون رجلًا بحمص، وثلاثة عشر بدمشق، ورجلان ببيسان، وقال الحسن بن يحيى سبعة عشر بدمشق وأربعة ببيسان، والشام مواطن أكثر الأنبياء ومواضع العباد والزهاد وبها الأبدال وسكناهم بجبل اللسكان ويقال اللكام وبجبل لبنان. وأما كونها عقر دار المؤمنين فقد روى جبير بن نفير عن النواس بن سمعان قال: فتح اللَّه تعالى على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتحًا فقالوا يا رسول اللَّه: سبيت الخيل ووضع السلاح فقد وضعت الحرب أوزارها وقالوا: لا قتال، فقال: كذبوا الآن جاء القتال لا يزال أمر اللَّه عز وجل يزيغ قلوب قوم منهم حتى يأتي أمر اللَّه تعالى على ذلك وعقر دار المؤمنين بالشام يعني أصلها بفتح العين وضمها. وقال ثابت: عظمها، وقال أبو زيد: عقر دار القوم وطنهم، وقال يعقوب العقر: البناء المرتفع، وعن سلمة بن نفيل قال: كنت جالسًا عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "يوحى إلى أني مقبوض غير ملبث وأنكم ستبغون إفسادا يضرب بعضكم رقاب بعض، ولا يزال من أمتي أناس يقاتلون على الحق ويزيغ اللَّه قلوب أقوام ويرزقهم اللَّه منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد اللَّه والخيل معقودة في نواصيها الخير، وعقر دار الإسلام بالشام" أخرجه النسائي في سننه والإمام أحمد في مسنده. وروى عبد الرحمن بن جبير بن نفير أن يزيد بن أبي سفيان ومن معه

كتبوا إلى أبي بكر بن خالد بن الوليد وهو بالعراق ويقال: بناحية عين التمر وقد فتح اللَّه القادسية وجلولا وأمير الجيش يومئذٍ سعد بن أبي وقاص، وكتب إليه أن اصرف بثلاثة آلاف فارس فأنقذ إخوانك بالشام والعجل بالعجل إلى إخوانكم بالشام فواللَّه لقرية من قرى الشام يفتحها اللَّه تعالى على المسلمين أحب إلى اللَّه من رساتيق العراق ففعل خالد، وشق الأرض هو ومن معه حتى خرج إلى ضمير فوجد المسلمين معسكرين بالجابية فنزل خالد على شرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، فاجتمع هؤلاء الأربعة يبرمون أمر الحرب، وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ألا إن عقر دار المسلمين بالشام ألا إن اللَّه عز وجل تكفل لي بالشام وأهله ألا إن صفوة اللَّه من بلاده يسير إليها صفوته من عباده لا ينزع إليها إلا مرحوم، ولا يرغب عنها إلا مفتون. روي أن أبا بكر بن سليمان بن الأشعث، قال: بالشام عشرة آلاف عين رأت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكذا رواه صاحب كتاب الأنس عن الوليد بن مسلم، وقال في ترغيب أهل الإسلام لابن عبد السلام: لما علمت الصحابة رضي اللَّه عنهم أجمعين تفضيل الشام على غيره رحل منهم إليه عشرة آلاف عين رأت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وروي عن كعب الأحبار أنه قال عن التوراة في السفر الأول المحمد رسول اللَّه عبدي المختار لا فظ ولا غليط ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي

السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر مولده مكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام ومعظم أجناده من أهل البسالة والشجاعة بالشام" وقال كعب الأحبار: إن اللَّه سبحانه وتعالى بارك في الشام من الفرات إلى العريش، وقد أشار كعب إلى أن البركة بالشام، وإن قوله تعالى {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] لا يختص بمكان منه دون مكان وإنما هو عام مستوعب لجميع حدود الشام، وقال ابن عبد السلام، فإذا كان الشام وأهله عند اللَّه بهذه المثابة، وهذه المنزلة، وكانوا في حراسته، وكفالته، ودلت الأدلة على أن دمشق خير بلاد الشام، فكذلك خبر السلف، وشاهد الخلف، أن ملك دمشق خير ملوك الإسلام، فمن بسط منهم على أهله الفضل ونشر فيهم العدل، فإن النصر ينزل عليه من السماء مع ما يحصل من الود في قلوب الأبرار والأولياء الأخيار والعلماء مع ما يلقيه اللَّه عز وجل من الرعب في قلوب الأضداد والأغيار والأشرار والفجار، ومن عاملهم من ملوك الإسلام بخلاف ذلك أحل اللَّه بهم الضر، وأنزل عليهم من البأساء، وأخذهم بالجبروت والكبرياء فإن اللَّه تعالى لا يهمله ولا يمهله، بل يعالجه باستلاب ملكه في حياته وبإلقائه في أنواع البلايا، وفتح أبواب الشقاء حتى يأخذه على غرة، وذلك لأنهم في كفالة رب الأرض والسماء، كما أخبر به خاتم الأنبياء وكيف لا يكون ذلك وقد اتصلت أذنيه بالأبدال وهم أكابر الأولياء، لقول علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-: لا تسبوا أهل الشام وسبوا ظلمتهم وقال أبو هريرة -رضي اللَّه عنه-: لا تسبوا أهل الشام فإنهم جند اللَّه المقدم، وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم- حكاية عن ربه عز وجل: "من آذى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة ومن بارز اللَّه بالمحاربة كان جدير أن يأخذه اللَّه أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد" وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهم من ولي من أمر المسلمين شيئًا فرفق بهم فارفق اللهم به ومن ولي من أمرهم شيئًا فشق عليهم فاشقق اللَّه عليه، والمقسطون عند اللَّه على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في أنفسهم وأهليهم وما ولوا" وصح أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "سبعة يظلهم اللَّه في ظله، يوم لا ظل إلا ظله:

إمام عادل. . . " الحديث بطوله بدأ به لأنه تجري على يديه مصالح عامة شاملة لجميع عباد اللَّه والخلق عيال اللَّه تعالى وأحبهم إليه أنفعهم لعياله. وقال موسى -صلى اللَّه عليه وسلم- لبنى إسرائيل: " {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] فيجب على ولاة الأمور أن يستحيوا من نظر اللَّه عز وجل فصح أن دمشق أفضل بقاع الشام ما عدا بيت المقدس مما يدل على بركتها وأفضلية أهلها كثرة ما فيها من الأوقاف على أنواع القربات ومصارف الخيرات وأن مسجدها الأعظم لا يخلو في معظم الليل والنهار من قارئ لكتاب اللَّه أو مصلٍ أو ذاكر أو عالم أو متعلم. ومما حكي عن ضيافة أهلها ودينهم ما رواه عبد الرحمن بن زيد بن جابر قال: باعت امرأة طستا في سوق الصفر بدمشق فوجده المشتري ذهبا فقال لها: لم أشتره؟ إلا على أنه صفر فإذا هو ذهب فهو لك فقالت ما ورثناه إلا على أنه صفر فإنه كان ذهبا فهو لك فاختصما إلى الوليد بن عبد الملك وأحضر رجاء بن حيوة، وقال له: انظر فيما بينهما فعرضه على الرجل فأبى أن يقبله فقال يا أمير المؤمنين إعطها ثمنه واطرحه في بيت المال. وقال زيد بن جابر، رأيت سوارًا من ذهب وزنه ثلاثون مثقالًا معلقًا في قنديل من قناديل مسجد دمشق أكثر من شهر لا يأتيه أحد فيأخذ كذا ذكره ابن عبد السلام في كتابه ترغيب أهل الإسلام. واعلم أنه في دمشق وضواحيها أماكن فاضلة منها مسجدها الأعظم وقد تقدم في معناه عن قول اللَّه عز وجل لجبل قاسيون سابني في صحنك أي وسطك بيتا أعبد فيه إلى آخره وتقدم أيضًا في الجبال المقدسة الكلام عليها عن قتادة أنه قال {وَالتِّينِ} [التين: 1] جامع دمشق، نقل ذلك عن الدرفس الغساني الدمشقي وفي تفسيره قوله تعالى: {وَالتِّينِ}، قال القرطبي: {وَالتِّينِ}، مسجد دمشق كان بستانا لهود عليه السلام فيه تين، وعن عثمان بن أبي عاتكة قال قبلة مسجد دمشق قبر هود

عليه السلام وعلى ذكر مسجد دمشق الموعود بذكره وابتداء وصفه وذكر بانيه، وابتداء عمارته أقول: قال ابن شاكر الكتبي في تاريخه عيون التواريخ في السنة السادسة والتسعين من الهجرة تكامل بناء الجامع الأموي بدمشق على يد بانيه الوليد بن عبد الملك بن مروان جزاه اللَّه تعالى خيرا عن المسلمين وكان ابتداء عمارته عشر سنين، وكان أصل موضع الجامع قديما معبد بنته اليونان وكانوا يعبدون فيه الكواكب السبعة، وهي القمر في سماء الدنيا، وعطارد في الثانية، والزهرة في الثالثة، والشمس في الرابعة، والمريخ في الخامسة، والمشتري في السادسة، وزحل في السابعة، وكانوا قد جعلوا أبواب دمشق سبعة على عدد الكواكب، وصوروا زحل على باب كيسان، والشمس على باب الصفر، والمريخ على باب الحبابية، وعطارد على باب الفراديس، والقمر على باب الثاني ويسمى اليوم باب السلامة، وأما باب النصر وباب الفرح، فإنهما مسجدان، وكان لهم على كل باب عيد في السنة، واليونان هم الذين وضعوا الأرصاد وتكلموا على حركات الكواكب واتصالاتها ومقارناتها، وبنوا دمشق في طالع سعيد واختاروا لها هذه البقعة إلى جانب الماء الوارد من بين الجبلين هذين، وصرفوه أنهارًا تجري إلى الأماكن المرتفعة والمنخفضة، وبنوا هذا المعبد، وكانوا يصلون إلى القطب الشمالي، فكانت محاربته تجاه الشمال، وبابه يفتح إلى جهة القبلة، حيث المحراب اليوم، كما شوهد عيانا لما نقضوا بعض الحائط القبلي وهو حسن مبني بالحجارة المنحوتة عن يمينه ويساره بابان صغيران بالنسبة إليه وكان بغربي معبد قصر منيف جدًا لخمل هذه الأعمدة التي بباب البريد وشرقيه قصر جيرون هو جيرون بن سعد بن عاد بن عوض، يقال: إنه هو الذي بني دمشق وهي إرم ذات العماد، وقيل إن جيرون وبريد، كانا أخوين، وهما: ولدا سعد بن عاد، وهما اللذان يعرف باب جيرون، وباب البريد بدمشق، بهما، وقال أهب بن منبه: دمشق بناها العازر غلام إبراهيم عليه السلام وكان حبشيا وهبه له نمرود بن كنعان وكان اسم الغلام دمشق فبناها على اسمه، قال أبو الحسين الرازي: وحكى

الدمشقيون أنه كان في زمان معاوية بن أبي سفيان رجل صالح بدمشق وكان يقصده الخضر عليه السلام في أوقات الزيارة فبلغ ذلك معاوية بن أبي سفيان فجاء إلى ذلك الرجل الصالح راجلًا وقال: له: بلغني أن الخضر يأتيك فأحب أن تجمع بيني وبينه، فقال له: نعم وجاء الخضر فسأله الرجل في ذلك فأبى عليه، وقال: ليس إلى ذلك سبيل فعرف الرجل معاوية بذلك، فقال له معاوية قل له قد قعدنا مع من هو خير منك وحدثناه وخاطبناه وهو محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ولكن سله عن ابتداء دمشق كيف كان فسأله فقال صرت إليها فوجدت موضعها بحرا مستجمعا فيه المياه، ثم غبت عنها خمسمائة عام، ثم صرت إليها فرأيت قد ابتدأ فيها بالبناء، ونفر يسير فيها، وقيل إن باب جيرون من بناء سليمان بن داود عليه السلام بنته الشياطين وإن اسم الشيطان الذي بناه جيرون فسمى به وقيل إن دمشق بناها دمشقش غلام كان مع الإسكندر، وذلك أنه لما رجع الإسكندر من المشرق وعمل السد بين أهل خراسان وبين يأجوج ومأجوج وسار يريد الغرب فلما بلغ الشام، وصعد على عقبه دمر أبصر هذا الموضع الذي فيه اليوم دمشق وكان هذا الوادي الذي يجري فيه شهر دمشق غيضه أرز فلما رآها ذو القرنين، وكان هذا الماء الذي في هذه الأنهار اليوم متفرقًا يجتمع في واد واحد، فأخذ الإسكندر يتفكر كيف يبنى فيه مدينة وكان أكثر فكره وتعجبه أن نظر إلى جبل يدور بذلك الموضع وبالغيضة كلها وكان له غلام يقال له دمشقش: وكان أمينه على جميع ملكه قال: فنزل الإسكندر في موضع القرية المعروفة ببلد من دمشق على ثلاثة أميال وأمر أن يحفر في ذلك حفرة فلما فعلوا ذلك أن يرد التراب الذي أخرج منها إليها فلما رد التراب إليها لم تمتلئ الحفرة فقال لغلامه دمشقش: ارحل فإني كنت نويت أن أسس في هذا الموضع مدينة فلما

أن كان لي مثل هذا مما يصلح أن يكون ههنا مدينة فقال له غلامه: ولم يا مولاي؟ فقال ذو القرنين: أن أبني هنا مدينة فلا يكفي أهلها زرعها، ثم رحل من هناك وسار حتى صار إلى الثنية وحوران، وأشرف على تلك السعة ونظر إلى تلك التوبة الحمراء فأمر ألا يتناول من ذلك التراب، فلما صار في يده أعجبه؛ لأنه نظر إلى تربة حمراء كأنها الزعفران فأمر أن ينزل هناك ثم أمر أن يحفر في ذلك الموضع حفرة، فلما حفروا أمر برد التراب إلى الحفرة فردوه ففضل منه تراب كثير فقال ذو القرنين لغلامه دمشقش: ارجع إلى الموضع الذي فيه الأرز إلى ذلك الوادي فاقطع ذلك الشجر وابنى على حافة الوادي مدينة واسمها على اسمك فهناك يصلح أن يكون مدينة وهذا الموضع بحرها ومنه مسيرتها يعني البنية قال: فرسم دمشقش المدينة الداخلة وعمل لها ثلاثة أبواب باب جيرون، وباب البريد، والباب الحديد، الذي هو داخل باب الفراديس وهو الذي عند قراسنقر، وبناها دمشقش، ومات فيها، وكان قد بنى هذا الموضع الذي هو الجامع اليوم كنيسة يعبد اللَّه فيها، وقيل إن الذي بناها اليونان، وقال يحيى بن حمزة: قدم عبد اللَّه بن علي بن عبد اللَّه بن عباس دمشق وحاصر أهلها فلما دخلها هدم سورها فوقع منه حجر عليه مكتوب باليونانية فأرسلوا خلف راهب ليقرأه، فقال: آتوني به فطع على الحجر فإذا عليه مكتوب ربك أم الجبابرة من أرادك بسوء قصمه اللَّه تعالى ويلك من الخمسة أعين ينقض سورك على يديه بعد أربعة آلاف سنة قال: فوجدنا تاريخه ذلك وتعني الخمسة أعين عبد اللَّه بن علي بن عبد اللَّه بن عباس بن عبد المطلب، قال الحافظ ابن عساكر: لما فتح اللَّه تعالى على المسلمين الشام بكماله ومن ذلك مدينة دمشق بأعمالها وأنزل اللَّه رحمته فيها وساق بره إليها وكتب أمير الحرب إذ ذاك وهو أبو عبيدة بن الجراح، وقيل خالد بن الوليد رضي اللَّه عنهما كتاب أمان وأقره بأيدي النصارى أربع

عشرة كنيسة (¬1) وهي كنيسة مري حنا بحكم أن البلد فتحه خالد بن الوليد رضي اللَّه عنهما من الباب الشرقي بالسيف، وأخذت النصارى الأمان من أبي عبيدة وهو على باب الجابية بالصلح واختلفوا، ثم اتفقوا على أن جعلوا نصف البلد صلحا ونصفه عنوة فأخذوا نصف هذه الكنيسة الشرقي فجعله أبو عبيدة مسجدًا وكان قد صارت إليه إمرة الشام فكان أول من صلى فيه أبو عبيدة ثم الصحابة بعده في البقعة التي يقال لها: محراب الصحابة ولكن لم يكن الجدار مفتوقًا بمحراب محني وإنما كان الصحابة يصلون عند هذه البقعة المباركة، وكان المسلمون والنصارى يدخلون من باب واحد وهو باب المعبد الأصلي الذي كان من جهة القبلة مكان المحراب الكبير اليوم، فينصرفت النصارى إلى جهة الغرب إلى كنيستهم، ويأخذ المسلمون يمنه إلى المسجد، ولا يستطيع النصارى أن يجهروا بقراءة كتابهم، ولا يضربوا بناقوسهم إجلالا للصحابة، ومهابة وخوفا، وبنى معاوية في أيامه على الشام دار الإمارة قبلي المسجد الذي كان للصحابة، وبنى فيها قبة خضراء، فعرفت الدار بكمالها، سكنها معاوية أربعين ثم لم يزل الأمر كما ذكرنا من سنة أربع عشرة إلى سنة ست وثمانين في ذي القعدة منها، وقد صارت الخلافة إلى الوليد بن عبد الملك في شوال منها فعزم على أخذ بقية هذه الكنيسة، وإضافتها إلى ما بأيدي المسلمين منها، ويجعل الجميع مسجدًا واحدًا وذلك لتأذي بعض المسلمين بقراءة النصارى فى الإنجيل، ورفع أصواتهم في صلاتهم، فأحب أن يبعدهم عن المسلمين، وأن يضيف ذلك المكان إلى هذا، فيكبر به المسجد الذي هو الجامع، فطلب النصارى وسألهم أن ¬

_ (¬1) "وأخذوا منهم نصف هذه الكنيسة" في (جـ)، تأني بعد "كنيسة"

يخرجوا له عن المكان الذي بأيديهم، ويعوضهم عنه إقطاعات كثيرة عرضها عليهم وأن يبقوا لهم أربع كنائس لم تدخل في العهد وهي كنيسة مريم وكنيسة المصلبة داخل باب شرقي، وكنيسة تل الجيف، وكنيسة أم حميد التي بدرب الصقيل، فأبوا ذلك أشد الإباء فقال: آتونا بعهدكم الذي بأيديكم من زمن الصحابة فأتوا به فقرأه بحضرة الوليد، فإذا كنيسة توما التي كانت خارج باب توما عند النهر لم تدخل في العهد، وكانت فيما يقال أكبر من كنيسة مري حنا فقال أن اهدمها واجعلها مسجدا فقالوا: بل يتركها أمير المؤمنين ما ذكر من الكنائس ونحن نرضى بأخذه بقية هذه الكنيسة فأقرهم على تلك الكنائس وأخذ منهم بقية هذه الكنيسة، ثم أمر بإحضار آلات الهدم، واجتمع إليه الأمراء والكبراء رؤوس الناس، وجاءت أساقفة النصارى وقساوستهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين إنا نجد في كتبنا أن من يهدم هذه الكنيسة يجن، فقال: أنا أحب أن أجن في اللَّه واللَّه لا يهدم فيها أحد قبلي، ثم صعد المنارة الغربية ذات الأضالع المعروفة اليوم بالساعات وكانت صومعة، فإذا فيها راهب فأمره بالنزول منها فأكبر الراهب ذلك وتلكأ فأخذ الوليد بقفاه، ولم يزل يدفعه حتى أصدره منها، ثم صعد الوليد على أعلى مكان في الكنيسة فوق المذبح الأكبر الذي يسمونه الشاهد وأخذ أذيال قباه، وكان لونه أصفر سفرجليا فغرز بها في المنطقة، ثم أخذ بيده فأسا وضرب به في أعلى حجر هناك فألقاه فتبادر إليه الأمراء إلى الهدم وكبَّر المسلمون ثلاث تكبيرات وصرخت النصارى بالعويل والويل على درج جبرون وقد اجتمعوا هناك فأمر الوليد أمير الشرطة وهو أبو نائل رباح الغساني أن يضربهم حتى

يذهبوا من هناك ففعل، وهدم المسلمون جميع ما جدده النصارى في تربيع هذا المكان من المذابح والأبنية والحنايا حتى بقي ساحة مربعة ثم شرع في بنائه بفكرة جيدة على صفة حسنة لم يسبق اليها، واستعمل الوليد في بناء هذا المسجد على الصورة التي اخترعها خلق من الصناع والمهندسين والفعلة، وكان المستحث على عمارته أخوه وولي عهده من بعده سليمان بن عبد الملك. ويقال: إن الوليد بعث الى ملك الروم يطلب منه صنَّاعًا في الرخام وغير ذلك ليعمروا هذا المسجد على ما يريد وأرسل يتوعده إن لم يفعل ليغرُوَنَّ بلاده الجيوش، وليخربن كل كنيسة في بلاده حتى كنيسة القدس، وكنيسة الرها، وسائر آثار الروم، فبعث ملك الروم صناعا كثيرة، وكتب إليه يقول له: إن كان أبوك فهم هذا الذي تصنعه وتركه فإنه لوصمة عليك، وإن لم يكن فهمه وفهمته أنت فإنه لوصمة عليه، فلما وصل الكتاب إلى الوليد أراد أن يجيبه عن ذلك واجتمع الناس عنده لذلك فكان فيهم الفرزدق الشاعر فقال: أنا أجيبه يا أمير المؤمنين من كتاب اللَّه تعالى، فقال: وما جوابه من كتاب اللَّه، قال قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79] فأعجب ذلك الوليد وأرسل به جوابًا لملك الروم، وقال الفرزدق في ذلك شعرا: فرقت بين النصارى في كنيستهم ... وبين أهل الهدى الصافين له في الظلم نصبت في الحال بالتميز أسعدهم ... على شقيهم المجرور للنقم راك ربك تحويلا لبيعتهم ... عن مسجد يتلى فيه طيب الكلم وهم جميعا إذا صلوا وأوجههم ... شتى إذا سجدوا للَّه والصنم وكيف يجتمع الناقوس يضربه ... أهل الصليب إذا القراء لم تنم فهمت تحويلها عنه كما فهما ... إذا يحكمان له في الحرث والغنم

قال: ولما أراد الوليد أن يبنى القبة التي في وسط الرواقات ويقال لها: قبة النسر، وهو اسم حادث لها وكأنهم شبهوها بالنسر في شكله، لأن الرواقات عن يمينها وشمالها كالأجنحة لها حفروا في أركانها حتى وصلوا إلى الماء وشربوا منه ماء عذبا زلالا، ثم إنهم وضعوا فيه جدار الكرم، وبنوا من فوقه بالحجارة، فلما ارتفعت الأركان بنوا عليها القبة فسقطت فقال الوليد لبعض المهندسين: وكان يعرف بالنسر، أريد أن تبني لى أنت هذه القبة، فقال على أن تعطنى عهد اللَّه وميثاقه أن لا يبنيها أحد غيري، ففعل له ذلك فبنى الأركان، ثم علقها بالبواري، وغاب سنة كاملة لا يدري الوليد أين ذهب، فلما كان بعد السنة حضر فَهَمَّ الوليد بقتله فقال يا أمير المؤمنين: لا تعجل، ثم أخذه ومعه رؤوس الناس وجاء إلى الأركان، وكشف البواري، فإذا هي هبطت بعد ارتفاعها حتى ساوت الأرض فقال له: من هذا هربت وأتيت، ثم بناها فانعقدت على أحسن هيئة. وقال بعضهم: أن يجعل بيضة القبة من ذهب خالص ليعظم بذلك شأن المسجد، فقال له المعمار: إنك لا تقدر على ذلك فضربه خمسين سوطا، وقال له: ويلك أنا أعجز عن هذا فقال: له نعم تعجز، قال: يبين لي ذلك بطريق أعرفه فقال أحضر الذهب الذي عندك كله فأحضره فسبكت منه لبنة فإذا هي قد دخل فيها ألوف من الذهب، فقال: يا أمير المؤمنين إنا نريد من هذا اللبن كذا وكذا ألف لبنة، فإن كان عندك ما يكفي ذلك عملناه، فلما تحقق الوليد صحة قوله أطلق له خمسين دينارًا، أو لما سقف الوليد الجامع جعلوا سقفه جملونات وباطنها سطح مقرنص بالذهب، فقال له

بعض أهله: أتعبت الناس بعدك في تبطين أسطح هذا المسجد كل عام؟ فأمر الوليد بأن يجمع ما في بلاده من الرصاص ليجعل عوض الطين ويكون أخف على السقف وأصون له، فجمع من كل ناحية من الشام وغيره من الأقاليم فعازوا، فإذا عند امرأة منه قناطير مقنطرة فساوموها فيه فأبت أن تبيعه إلا بوزنه فضة فكتبوا إلى أمير المؤمنين بذلك فقال: اشتروه منها، ولو بوزنه فضة فلما بذلوا لها ذلك قالت أما إذا قبلتم ذلك ورضيتم ببذل ثمنه ووزنه فضة فهو صدقة للَّه يكون في سقف هذا المسجد، فكتبوا على ألواحها بطابع للَّه ويقال: إنها كانت إسرائيلية، وأنه كتب على الألواح التي أعطتهم الإسرائيلية بطابع صدقة للَّه تعالى. ويقال: إنهم طلبوا الرصاص من النواويس العادية فانتهوا الى قبر حجارة في داخله قبر من رصاص، فأخرجوا الميت الذي فيه ووضعوه على الأرض فوقع رأسه هوية إلى الأرض فانقطع عنقه فسال من فيه دم، فهالهم ذلك فسألوا عنه، فقال عبادة بن بشير الكندي: هذا قبر طالوت الملك قال محمد بن عابد سمعت المشايخ يقولون ما تم مسجد دمشق إلا بأداء الأمانة لقد كان يفضل عند الرجل، من الفعلة، والصناع الفلس، ورأس المسمار، فجيء به حتى يضعه في الخزانة. قال بعض المشايخ الدماشقة: ليس في الجامع من الرخام شيء إلا الرخامتان اللتان في المقام من عرش بلقيس، والباقى كله مرمر، وقال بعضهم: اشترى الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين، العامودين الأخضرين اللذين تحت النسر من حرب خالد بن يزيد بن معاوية بألف وخمسمائة دينار، وقال رحيم كان في مسجد دمشق اثنى عشر ألف مرخم، وقال عمر بن مهاجر الأنصاري: حسبوا ما أنفقوا على الكهرمانة التي في قبلة المسجد فإذا هو سبعون ألف دينار. وقال أبو قبيس: أنفق في مسجد دمشق أربعمائة صندوق في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار وذلك خمسة آلاف دينار وستمائة ألف دينار قال:

وأتي الخرس إلى الوليد أموال بيت المال في غير حقها فأمر أن ينادي في الناس الصلاة جامعة فاجتمعوا وصعد الوليد المنبر، وقال: إنه بلغني عنكم كذا وكذا ثم قال يا عمر بن مهاجر قم فأحضر أموال بيت المال؟ فحملت على البغال وبسطت الأنطاع تحت القبة وأفرغ المال عليها ذهبا وفضة حتى كان الرجل لا يرى الآخر من الجانب الآخر وجيء بالقبانين ووزنت، فإذا هي تكفي الناس ثلاث سنين مستقبلة لو لم يدخل للناس شيء بالكلية ففرح الناس وكبروا وحمدوا اللَّه على ذلك، ثم قال الخليفة: يا أهل دمشق إنكم تفخرون على الناس، بأربع: بهوائكم، ومائكم، وفاكهتكم وحماماتكم، فأحببت أن أزيدكم خامسة وهي هذا الجامع فحمدوا اللَّه وأثنوا عليه وانصرفوا شاكرين داعين. وقال بعضهم: كان في قبلة المسجد ثلاث صحائف مذهبة باللازورد في كل منها بسم اللَّه الرحمن الرحيم لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم لا إله إلا هو، وحده لا شريك له، ولا تعبدوا إلا إياه ربنا اللَّه وحده، وديننا الإسلام، ونبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر ببناء هذا المسجد وهدم الكنيسة، التي كانت فيه عبد اللَّه أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بن مروان، في ذي القعدة في سنة ست وثمانين للهجرة النبوية، وفي صحيفة أخرى من تلك الصحائف فاتحة الكتاب بكمالها، ثم والنازعات، ثم عبس، ثم إذا الشمس كورت، قالوا: ثم محيت بعد مجيء المأمون إلى دمشق، وذكر أن أرضه كانت مفضضة كلها وأن الرخام كان في جدرانه إلى قامات، وفوق ذلك كرمة عظيمة من ذهب، وفوقها فصوص مذهبة حمر وخضر وزرق وبيض قد صور بها سائر البلدان المشهورة، الكعبة فوق المحراب وسائر البلدان

يمنة ويسرة وما في البلدان من الأشجار الحسنة المثمرة والمزهرة وسقفه مقرنص بالذهب والسلاسل المعلقة فيه من الذهب والفضة وأنواع الشموع في أماكن متفرقة، وكان في محراب الصحابة حجر من بلود يقال: من جوهر وهي الدرة وكانت تسمى القليلة، كان إذا أطفئت القناديل تضئ لمن هناك بنورها فلما كان زمن الأمين بن الرشيد، وكان يجب البعث إلى سليم وإلى شرطة دمشق أن يبعث إليه فسرقها وسيرها إليه، فلما ولى المأمون أرسلها إلى دمشق ليشنع بذلك على أخيه الأمين، قال الحافظ ابن عساكر: ثم ذهبت بعد ذلك فجعل مكانها برنية من زجاج وكانت الأبواب الشارعة من الصحن إلى داخل المسجد ليس عليها أغلاق، وإنما عليها الستور مرخاة، وكذلك الستور على سائر جدرانه إلى حد الكرمة التي فوقها الفصوص المذهبة ورؤوس الأعمدة مطلية بالذهب الصبيب، وعملوا شرافات تحيط بها من الجهات الأربع وبنى الوليد المنارة الشمالية: وهي التي يقال لها مأذنة العروس، وأما الشرقية والغربية فكانتا قبل ذلك بزهور متطاولة، وكان في كل زاوية من هذا المعبد صومعة شاهقة جدا بنتها اليونان للرصد فسقطت الشماليتان، وبقيت القبليتان، وقد أحرق بعض الشرقية سنة أربعين وسبعمائة ونقضت وجدد بناؤها من أموال النصارى حيث اتهموا بحريقها فقامت على أحسن الأشكال وهي "اللَّه أعلم" المنارة الشرقية التي ينزل عليها عيسى بن مريم -عليه السلام- قال في مثير الغرام روى عبد الرحمن بن عابد قال حدثني جبير بن نفير أن النواس بن سمعان قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: رأيت عيسى ابن مريم يخرج من عند المنارة البيضاء شرقي المسجد واضعا يديه على أجنحة ملكين عليه ربطتين مشقوقتين عليه السكينة والربطة الملأة إذا كانت قطعة واحدة ولم تكن

لغتين والمشقوقة والمصبوغة بالمشق وهو المغر. وعنه أيضًا قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: ينزل اللَّه عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي المسجد في دمشق في مهرودتين بهروزتين. وعن سعيد بن عبد العزيز عن شيخ من أشياخه أنه سمع عباس الخضري يقول يخرج عيس ابن مريم عند المنارة البيضاء عند باب شرقي ثم يأتي مسجد دمشق وسيأتي الكلام على خروج عيسى -عليه السلام- وقتله للدجال عند ذكر مدينة لدان إن شاء اللَّه تعالى. قال: ولما اكتمل بناء الجامع الأموي لم يكن على وجه الأرض بناء أحسن ولا أبهى ولا أجمل منه, بحيث إذا نظر الناظر في أي جهة منه وإلى أي بقعة أو مكان منه تحير فيما نظر إليه من حسنه، وكانت فيه طلسمات من أيام اليونان فلا يدخل هذه البقعة شئ من الحشرات الكلية لا الحيات ولا العقارب ولا الخنافس ولا العناكب ويقالا ولا العصافير أيضًا تعشش فيه لا الحمام، ولا شيء مما يتأذى به الناس وأكثر هذه الطلسمات أو كلها احترقت لما وقع فيه الحريق وكان ذلك في ليلة نصف شعبان سنة إحدى وستين وأربعمائة، وكان الوليد كثيرًا ما يصلي في هذا المسجد. وفي كتاب أبي الحسن أبي شجاع الربعي بسنده إلى المغيرة المقري أن الوليد بن عبد الملك، قال: ليلة من الليالي للقوام أريد أن أصلي الليلة في المسجد فلا تتركوا فيه أحدا حتى أصلي فيه فأتى باب الساعات! ستفتح الباب ففتح له فدخل من باب الساعات، فإذا رجل بين باب الساعات وباب الخضر الذي يلي المقصورة قائم يصلي، وهو أقرب من باب الساعات فقال للقوام: ألم آمركم أن لا تتركوا أحدًا يصلي الليلة في المسجد؟ فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين هذا الخضر يصلي كل ليلة في المسجد، وروى صاحب كتاب

الأنس عن سفيان الثوري أن الصلاة في مسجد دمشق بثلاثين ألف صلاة. وبسنده إلى نافع مولى أم عمر بنت مروان عن رجل سماه أن واثلة بن الأسقع خرج من باب المسجد الذي يلى جيرون فلقي كعب الأحبار فقال له: أين تريد؟ فقال أريد بيت المقدس لأصلى فيه فقال له تعالى أريك موضعه أو قال موضعا في هذا المسجد من صلى فيه فكأنما صلى في بيت المقدس قال: نذهب فأراه ما بين الباب الأصفر الذي يخرج منه إلى الحنية يعنى القنطرة الغربية وقال: من صلى فيما بين هاتين فكأنما صلى في بيت المقدس، قال واثلة: واللَّه إن لمجلسي ومجلس قومى، ومن الأماكن المقصودة فيه بالزيارة الموضع الذي فيه رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام من الجامع، وفيه روى أبو الحسن بن شجاع الربعي بسنده إلى القاسم بن عثمان قال: سمعت الوليد بن مسلم وسأله رجل يا أبا العباس أين بلغك رأس يحيى بن زكريا من هذا المسجد؟ قال: بلغني أنه ثم وأشار بيده إلى العمود المسقط الرابع من الركن الشرقي. وعن زيد بن وافد قال: رأيت رأس يحيى بن زكريا حين أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبة وكانت الشعرة على رأسه لم تتغير، وعنه أيضًا قال: وكلنى

الوليد بن عبد الملك على العمارة في بناء جامع دمشق، فوجدنا فيه مغارة فَعَرَّفْنَا الوليد بذلك، ولما كان الليل جاء والشمع بين يديه، فنزل فإذا هي كنيسة لطيفة ثلاثة في ثلاثة وإن فيها صندوق ففتحه فإذا سفط، وفي السفط رأس يحيى بن زكريا، مكتوب عليه رأس يحيى بن زكريا عليه الصلاة والسلام فأمر الوليد به فرد إلى مكانه وقالوا اجعلوا العمود الذي فوقه مغيرًا من الأعمدة كي يعرف وجعل عليه عمود مسقط الرأس. وبسنده إلى أبي مسهر، ثم إلى سعيد بن المسيب قال: لما دخل بخت نصر دمشق سعد على الدرج حتى دخل الكنيسة التي هي اليوم المسجد الجامع، فرأى دم يحيى بن زكريا يفور ويغلي فصلى عليه خمس وسبعون ألفًا حتى سكن الدم، فقال أبو مسهر: وإن رأس يحيى بن زكريا لتحت العمود المسقط شرقى المسجد وهو يعرف بعمود مسكاسك. وبسنده إلى أبي مسهر أيضًا أن ملك دمشق بنى الحصن الذي حول المسجد داخل المدينة على ساحة مسجد بيت المقدس، وحمل أبواب بيت المقدس فوضعها على أبوابه، فهذه الأبواب التي على الحصن، هي أبواب بيت المقدس. قال: ولما ولي عمر بن عبد العزيز رضي اللَّه عنه الخلافة، ورأى مسجد دمشق قال: إني أرى أموالًا أنفقت في هذا المسجد في غير حقها وأنا أستدرك منها فرده إلى بيت المال انزع هذه السلاسل، وأجعل مكانها حبالا، واقلع هذه الفسيفساء، واجعل مكانه الطين، واقلع هذا الرخام واجعل مكانه جصا قال: فبلغ ذلك أهل دمشق

فخرجوا إليه وهو بدير سمعان بأرض حمص فدخلوا عليه وقالوا: يا أمير المؤمنين بلغنا أنك تريد أن تصنع كذا وكذا قال: نعم، فقال له خالد بن عبد الملك القسري: ليس ذلك لك يا أمير المؤمنين قال: ولم لا يا ابن الكافرة وكانت أمه نصرانية رومية، فقال يا أمير: إن كانت نصرانية فقد ولدت رجلا مؤمنا قال صدقت واستحى عمر منه، وقال: لم تقل ذلك لي؟ قال: لأننا كنا معاشر أهل الشام نغزو بلاد الروم فنجعل على أحدنا حدا من فسس فيجيء به وذراع في ذراع من رخام أو أقل من ذلك أو أكثر مع قدر صاحبه فيكتري عليه أهل حمص إلى حمص وأهل دمشق إلى دمشق، وأهل فلسطين إلى فلسطين، وأهل الأردن إلى الأردن، وليس هو لبيت المال فأطرق عمر -رضي اللَّه عنه-، واتفق قدوم جماعة من الروم رسلا من عند ملكهم فلما دخلوا من باب البريد وانتهوا إلى الباب الكبير الذي قبله قبة النسر ورأوا ذلك البناء العظيم الباهر، والزخرفة التي لم يسمع بمثلها على وجه الأرض ضعف كثيرًا وخر مغشيا عليه، فحملوه إلى منزله فبقى أيامًا مدنفا، فلما تماثل سألوه عما عرض له، ما كنت أظن أن يبني المسلمون مثل هذا البناء، وكنت أعتقد أن مدنهم تكون, أقصر من هذه، فلما بلغ ذلك عمر بن عبد العزيز

قال: أو أن هذا ليغيظ الكفار، دعوه على حاله. وسألت النصارى في أيام عمر بن عبد العزيز أن يعقد لهم مجلسًا فيما كان أخذه منهم الوليد بن عبد الملك فأدخله في المسجد، فحقق عمر القضية فرأى أن يرد عليهم ما أخذه الوليد منهم، فنظر فإذا الكنائس التي هي خارج البلد لم تدخل في الصلح الذي كتبه لهم الصحابة، مثل كنيسة دير مران وكنيسة الراهب التي بالعقبة، وكنيسة توما، وسائر الكنائس التي بقرى الحواضر فخيرهم في رد ما سألوه وأن يخرب هذه الكنائس كلها، أو يبقي تلك الكنائس، ويطيبوا نفسًا عن ذلك للمسلمين بهذه البقعة، فاتفقت آراؤهم بعد ثلاثة أيام على إبقاء تلك الكنائس ويكتب لهم كتاب أمان بها، ويطبوا نفسا بتلك البقعة، فكتب لهم عمر -رضي اللَّه عنه- كتاب أمان بذلك. وقال الحافظ ابن عساكر: لم يكن للجامع الأموي نظير في حسنه وبهجته. وقال الفرزدق لأهل الشام: في بلدهم قصر من قصور الجنة يعني به الجامع الأموي، قال أحمد بن أبي الحواري: ما ينبغي أن يكون أحد أشد تشوقًا إلى الجنة من أهل دمشق؟ لم يرو في حسن مسجدها. قال: ولما دخل المهدي أمير المؤمنين العباسي دمشق يريد زيارة بيت المقدس، ونظر إلى جامع بدمشق قال: لكاتبه أبي عبيد اللَّه الأشعري سبقتنا بنو أمية بثلاث بهذا المسجد لا أعلم على

ظهر الأرض مثله وبنيل الموالي وبعمر بن عبد العزيز لا يكون فينا واللَّه مثله أبدا، ثم لما أتى بيت المقدس، ونظر إلى قبة الصخرة، وكان عبد الملك قد بناها فقال لكاتبه: وهذه رابعة أيضًا، قد تقدم ذلك. ولما دخل المأمون دمشق ونظر إلى جامعها، وكان معه أخوه المعتصم والقاضي يحيى بن أكثم قال: ما أعجب من بنيانه على غير مثال متقدم، وقال المأمون لقاسم التمار: أخبرني باسم حسن أُسمي به جاريتى هذه فقال: سمها مسجد دمشق فإنه أحسن شيء في الدنيا. وقال عبد الرحمن بن عبد الحكم عن الشافعي -رضي اللَّه عنه- أنه قال: عجائب

الدنيا خمسة أحدها منارتكم هذه -يعنى منارة ذي القرنين التي بالإسكندرية-، والثانية: أصحاب الرقيم -وهم بالروم- والثالثة: مرآة بباب الأندلس على باب مدينتها يجلس الرجل عندها فينظر فيها صاحبه من مسيرة خمسمائة فرسخ، الرابعة: مسجد دمشق المتفق على حسنه وبهائه وبهجته، والخامسة: الرخام معجون والدليل على ذلك، أنه يذوب على النار. وعلى ذكر جبل قاسيون، وما فيه من المشاهد المباركة والمعاهد التي لها معها في الفضل نوع مشاركة، وما حولها من الآثار المعروفة بإجابة الدعوات وخرق العادات، أقول قد تقدم في ذكر جبل قاسيون بخصوصه عند ذكر الجبال المقدسة وما شرحناه آنفا، وفيه ما روى أبو الحسن بن شجاج الربعي، بسنده إلى علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- قال سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: -وقد سأله رجل عن الآثار المباركة بدمشق- فقال: "بها جبل قاسيون فيه قتل ابن آدم أخاه، وفي أسفله من الغرب ولد إبراهيم، وفيه آوى عيسى ابن مريم وأمه، ومنعهما من اليهود من أي معقل روح اللَّه عيسى واغتسل وصلى ودعا

لم يرده اللَّه خائبا" فقال رجل: يا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صفه لنا. فقال: هو بالغوطة بمدينة يقال لها دمشق، قال: "وأزيدكم أنه جيل كلمه اللَّه تعالى، وفيه ولد إبراهيم الخليل عليه السلام، فمن أتى ذلك الموضع فلا يعجز عن الدعاء" فقال له رجل: يا رسول اللَّه أكان ليحيى بن زكريا معقلا؟ قال: "نعم اختبأ فيه" -هذار- رجل من عاد في المغار التي تحت دم المقتول، وفيه اختيأ إلياس النبي من ملك قومه، وفيه صلى إبراهيم ولوط وموسى وعيسى وأيوب، فلا تعجزوا في الدعاء فيه، ومنها الموضع الذي يبرزه. قال صاحب مثير الغرام: فيما رواه عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، قال: أغار ملك هذا الجبل على لوط -عليه السلام- فسباه وأهله، فأقبل عليه إبراهيم عليه السلام في طلبه في عدة أهل برزة، فالتقوا في صخرة العقود فعبأ إبراهيم ميمنة وميسرة قلبا، كان أول من عبأ الحرب هكذا واقتتلوا، فهزمه إبراهيم فاستنقذ لوطًا وأهله، وأتى الموضع الذي برزه فصلى فيه واتخذه مسجدًا. وعن مكحول عن ابن مسعود وابن عباس قالا، ولد إبراهيم بغوطة دمشق، قرية يقال لها برزة بقاسيون، قال في مثير الغرام: فيه انقطاع، والصحيح أن مولد إبراهيم -عليه السلام- بكوتا من أرض بابل، وذكر هذا الأَثر أبو الحسن بن شجاع الربعي، بلفظه في عدة أهل بدر ثلاثمائة وعشرون، وزاد فقال: وعن الزهري أنه قال: مسجد إبراهيم -صلى اللَّه عليه وسلم- في قرية يقال لها: برزه، ومن صلى فيه أربع ركعات خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ويسأل اللَّه ما يشاء فإنه لا يرد خائبًا ومنها المغارة التي في جبل قاسيون. قال في مثير الغرام: قال الوليد: سمعت سعيد بن عبد العزيز

يقول صعدنا في خلافة هشام بن عبد الملك إلى موضع دم ابن آدم فسأل اللَّه تعالى شيئا فأتانا فأقمنا في الغار ستة أيام، وقال مكحول: صعدت مع عمر بن عبد العزيز إلى موضع دم ابن آدم فسأل اللَّه شيئا، فسمعت من يذكر أن معاوية خرج بالمسلمين إلى موضع آدم يسألون اللَّه تعالى أن يسقيهم، فلم يتوقف حتى جرت الأودية. وفي كتاب أبي الحسن بن شجاع الربعى، فسأل اللَّه سقيا، فسقانا، قال: مكحول: سمعت كعب الأحبار يذكر أنه موضع الحاجات والمواهب، ولا يرد اللَّه فيه سائلا، قال الوليد: سمعت ابن عباس يقول: كان أهل دمشق إذا قحطوا أو جاء عليهم سلطان، أو كان لأحدهم حاجة، صعدوا إلى موضع دم ابن آدم المقتول يسألون اللَّه تعالى فيعطهم ما سألوا، قال هشام: لقد صعدت مع أبي وجماعة نسأل اللَّه تعالى سقيا فأرسل علينا مطرا غزيرًا حتى أقمنا في الغار الذي تحت الدم ثلاثة أيام، ثم دعونا اللَّه تعالى أن يرفعه عنا، قد رفعت الأرض. فرفعه بسنده إلى مكحول قال: قال كعب الأحبار: اتبعني فاتبعته، حتى إذا وصلنا إلى غار في جبل قاسيون فصلى وصليت معه فسمعته يجتهد في الدعاء، ثم خرج وسار حتى وصل إلى موضع قتل ابن آدم فيه أخاه، فصلى وصليت معه، وسمعته يجتهد في الدعاء، فقلت: سمعتك تدعو مجتهدا ففيما ذلك؟ قال، سألت اللَّه أن يصلح بين معاوية وعلي وأن يرزقني كنافا وولدا ذكرًا ثم لقيته بعد ذلك فسألته فقال قد استجاب اللَّه تعالى ورزقني اللَّه ولدا ذكرًا وبعث لي معاوية بألف درهم وكسوة، وكتب معاوية إلى علي يسأله الصلح وتكاتبا على ذلك، وبسنده. إلى جبير السفياني، قال: كنت مع كعب الأحبار على جبل دير مران فرأى لمعة سائرة في الجبل فقال ههنا قتل ابن آدم أخاه، وهذا أثر دمه قد جعله اللَّه تعالى آية للعالمين ومصلى للمتقين، وبسنده إلى عبد الرحمن بن يحيى بن إسماعيل بن عبيد اللَّه بن أبي المهاجر قال: كان خارج باب الساعات صخرة يوضع عليها القربان، فما تقبل منها جاءت نار فأحرقته، وما لم يتقبل بقي على حاله، وكان هابيل

ذا غنم ومنزلة في قرى، وقابيل في قبيبه، وكان ذا زرع، وآدم في بيت أبيات، وحواء في بيت لهيا، فجاء هابيل بكبش سمين من غنمه فجعله على الصخرة فأخذته النار، وجاء قابيل بقمع غلت فوضعه على الصخرة فبقي على حاله فحسد أخوه وتبعه في هذا الجبل وأراد قتله فيه فصاحت حواء: فقال آدم: "عليك وعلى بناتك لا عليّ ولا على بني" وبسنده إلى أحمد بن كثير قال: صعدت إلى موضع الدم لي جبل قاسيون فسألت اللَّه عز وجل الحج فحججت، وسألت الجهاد فجاهدت وسألته الرباط فرابطت، وسألته الصلاة في بيت المقدس فصليت فيه، وسألته يغنيني عن البيع والشراء فرزقت ذلك كله، ورأيت في المنام كأني في ذلك الموضع قائمًا أصلي، فإذا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبو بكر وعمر وهابيل، فقلت: أسألك بحق الواحد الصمد وبحق أبيك آدم وبحق هذا النبي هذا دمك؟ قال: أي والواحد الصمد هذا دمي جعله اللَّه آية للناس، وإني دعوت اللَّه رب أبي آدم وأمي حواء، ومحمد النبي المصطفى صلوات اللَّه عليهم أن يجعل دمي مستغاث كل نبي وصدّيق، ومن دعى فيجيبه، ومن سأله فيعطه سؤاله، فاستجاب اللَّه تعالى، وجعله ظاهرًا، وجعل هذا الجبل آمنا ومغيثًا، ثم وكل اللَّه عز وجل به ملكان وجعل معه من الملائكة بعدد النجوم يحفظونه من أي موضعه لا يريد إلا الصلاة فيه أن يتقبل منه، فقال لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قد فعل اللَّه ذلك إكرامًا وإحسانًا وإني آتيه كل خميس، وصاحباي وهابيل فيصلي فيه"، وبسنده إلى الزهري، أنه قال: "لو يعلم الناس ما في مغارة الدم من الفضل لما هنأ لهم طعام ولا شراب إلا فيها". وبسنده إلى هشام بن عمار قال: سمعت من يذكر عن كعب قال: اختفى إلياس عليه السلام من ملك قومه (¬1) وعرض ¬

_ (¬1) " في الغار الذي تحت الدم عشر سنين، حتى أهلك اللَّه الملك، وولي غيره، فأتاه إلياس"، في (جـ) وتأتي بعد "ملك قومه"

عليه الإسلام فأسلم، وأسلم من قومه خلق كثير، وبسنده إلى ابن عباس -رضي اللَّه عنه- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "اجتمع الكفار يتشاورون في أمري، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم- ليتني بالغوطة -بمدينة يقال لها دمشق-، حتى آتي إلى مستغاث الأنبياء حيث قتل ابن آدم أخاه، فأسأل اللَّه تعالى يهلك قومي". وبسنده إلى مكحول عن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- قال: موضع الدم في جبل قاسيون موضع شريف، كان مخبأ ابن زكريا وأمه فيه أربعين عامًا، وصلى فيه عيسى ابن مريم والحواريون، فمن أتى ذلك الموضع فلا يقصد عن الصلاة والدعاء فيه فإنه موضع الإجابة ومن أراد أن يأتي إلى ربوة ذات قرار ومعين فيأتي النيرب الأعلى بين النهرين، وليصعد إلى الغار في جبل قاسيون فليصلي فيه، فإنه بيت عيسى وأمه، وكان معقلهم وحصنهم من اليهود، ومن أراد أن ينظر إلى إرم ذات العماد فليأت نهرًا في خضرة دمشق يسمى بردا ومنها الموضع الذي بسفح جبل قاسيون المعروف بالكهف. أخبرنا الشيخ محمد الحايك البعلبكي من جماعة الشيخ محمد عبد الرحمن داود الدمشقي الساكن بصالحية دمشق، والمخبر المذكور ثقة من أهل الخير والصلاح، أن توجه إلى الكهف المذكور، فرأى خادمه وعنده جماعة فأخبره أن بعض الحاضرين ذكر أن الكهف المذكور مطلبا وأنهم عرفوا على حفرة قال: فطاوعتهم على ذلك فدخلوا إلى المغارة التي عند الباب، وحفروا هناك فظهرت لهم بلاطة كبيرة فقلعوها، ونزلوا فوجدوا مغارة سعتها نحو خمسة أذرع أو أكثر، وفي شمالها إيوان عليه سبعة أنفس طوال مسجين بأكفانهم على هيئة العرب فتهيبوا أن يدنوا منهم ورجعوا وأعادوا البلاطة إلى موضعها. وعلى الجملة فمدينة دمشق أكثر المدن أبدالًا وأكثرها أهلًا ومالًا ورجالًا وزهادًا وعبادًا ومساجدًا وهي لأهلها معقل، وعلى ذكر من توفي فيها وقبرها أقول: روى أبي الحسن بن شجاع الربعي بسنده إلى الإمام الشافعي -رضي اللَّه

خاتمة في فضل مواضع مخصوصة بالشام

عنه- وأرضاه أنه قال توفي عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بدمشق، ودفن بها وروي أن بلالًا مؤذن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- مات بدمشق، ودفن بها أبا الدرداء واثلة بن الأسقع، وفضالة بن عبيد، وأسامة بن زيد، وحفصة بنت عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أم حبيبة ابنة أبي سفيان زوجتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ماتوا بدمشق ودفنوا بها. قال الحافظ الأقشهري: وردت هذه الرواية بوفاة أم حبيبة ماتوا بالشام سنة اثنين وأربعين، وقال قبيل هذا: قالت عائشة رضي اللَّه عنها: ودعتني أم حبيبة عند موتها وقالت: كان بيننا ما بين الضرائر، فاستغفري اللَّه لي، فقلت غفر اللَّه لك، وأرسلت إلى أم سلمة فقالت لها: مثل ذلك وتوفيت سنة أربع وأربعين في خلافة معاوية وهذا يدل على أنها توفيت بالمدينة، ودفنت حفصة بدار المغيرة، هذا كلام الحافظ الأقشهري يؤيد أنهما ليستا بالشام إطلاقا، وابن النجار أن أمهات المؤمنين بالبقيع كذا قال الطبري، والأقشهري، والمراغي، لكن قالوا: خلا خديجة وميمونة رضوان اللَّه عليهم أجمعين انتهى واللَّه أعلم. خاتمة في فضل مواضع مخصوصة بالشام منها فلسطين، روى صاحب كتاب الأنس بسنده إلى ابن جابر قال: حدثني عقبة بن رباح حديثًا بسنده قال: ما ينقص من الأرض يزاد في الشام، وما ينقص من الشام يزاد في فلسطين، وبسنده إلى عرومين رويم: أن رجلًا لقي كعب الأحبار فسأله كعب: ممن هو؟ قال: من أهل الشام قال: لعلك من الجند الذين يدخل الجنة معهم سبعون ألفًا بغير حساب قال: ومن هم؟ قال: أهل حمص. قال: لست منهم. قال: فلعلك من الجند الذين يعرفون في الجنة بالثياب الخضر؟. قال: من هم؟ قال: أهل دمشق. قال: لست منهم. قال: ولعلك من الجند الذين هم تحت ظل عرش الرحمن؟ قال: من هم؟ قال: أهل الأردن؟ قال: لست منهم. قال: فلعلك من الجند الذين ينظر اللَّه إليهم كل يوم مرتين؟ قال: ومن هم؟ قال: أهل فلسطين قال: نعم. ويقال: إن ذلك الرجل الذي لقي كعب الأحبار، وسأله هو مالك بن

عبد اللَّه الخثعمي. وبسنده عن مكحول عن كعب قال بطرسوس: من قبور الأنبياء عشرة وبالمصيصة خمسة، وبالثغور من سواحل الشام من قبور الأنبياء ألف قبر، وبأنطاكية قبر حبيب النجار، وبحمص ثلاثون، وبدمشق خمسمائة قبر، وببلاد الأردن مثل ذلك، وبفلسطين مثل ذلك، وببيت المقدس ألف قبر وبالعريش عشرة، وقبر موسى بدمشق، هذا كلام صاحب كتاب الأنس ومثله في كتاب أبي الحسن بن شجاع الربعي، عن سعيد عن مكحول عن عبد اللَّه بن سلام قال بالشام: من قبر الأنبياء ألف قبر وسبعمائة قبر، وقبر موسى عليه السلام بدمشق، قلت: والذي عليه الأكثرون أن قبر موسى -عليه السلام- بالقرب من أريحا من الغور، وقد تقدم الكلام على ذلك في موضعه فليراجع منه. وبسنده إلى سليمان بن عبد الرحمن إلى عبد الملك الجزري أنه قال: إذا كانت الدنيا في بلاء وقحط كانت فلسطين في رخاء وعافية، وقال: الشام مباركة، وفلسطين مقدسة، وقدس فلسطين بيت المقدس، بسنده إلى الوليد بن مسلم إلى ثور بن يزيد قال: قدس الأرض الشام، وقدس الشام فلسطين، وقدس فلسطين بيت المقدس، وقدس بيت المقدس الجبل وقدس الجبل المسجد، وقدس المسجد القبة، ومنها دمشق. وقد تقدم من ذكر فضلها على سائر بقاع الشام ما عدا بيت المقدس ما فيه كفاية، ومنها له قال في مثير الغرام: ورد في صحيح مسلم أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: وقد ذكر عنده الدجال يقتله ابن مريم بباب له، وصححه أيضًا الترمذي وفيه فضيلة لأهل الأرض المقدسة فإنهم يقاتلون مع نبي اللَّه عيسى ابن مريم -صلى اللَّه عليه وسلم- الأعور الدجال وأن مكثه في تلك الأرض قليل. وروى رجاء: أن بيت المقدس معقل من الدجال كما تقدم، وروى بشير ابن الزبير عن عبادة بن قيس: أن عيسى -عليه السلام- يأخذ من حجارة بيت المقدس ثلاثة أحجار: الأول منها يقول: باسم اللَّه إله إبراهيم، والثاني: باسم إله إسحاق والثالث: باسم إله يعقوب، ثم يخرج بمن معه من المسلمين إلى الدجال،

فإذا رآه انهزم عنه فيدركه عند باب له فيرميه بأول حجر فيضعه بين عينيه، ثم الثاني، ثم الثالث، فيقع على الأرض فيقتله عيسى ابن مريم -عليه السلام- ويقتل اليهود حتى إن الحجر والشجر ليقولان يا مؤمن هنا تحتي يهودي فأته فاقلته، ثم قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم إمامًا فقسطا عادلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير"، ومنها الرملة والأردن. عن صفوان بن عيسى عن بشر بن رافع عن أبي عبد اللَّه بن عم أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الزموا الرملة يعني فلسطين فإنها الربوة التي قال اللَّه تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50]، وبشر بن رافع هو: أبو الأسباط ضعفه أحمد وغيره، وعن أبي إدريس الخولاني، عن نهك، عن إبراهيم أو خزيم عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون حتى يقاتل بينكم الدجال بالأردن أنتم على شرقيه، وهم على غربيه واللَّه ما أدري ذلك اليوم أين الأردن من بلاد اللَّه" فيه محمد بن أبان كوني ضعيف. وروى أبو الحسن محمد بن عوف بسنده، إلى أبي الهيثم قال: سمعت جدي يقول: أنزل اللَّه تعالى على موسى أنه قال: إبراهيم أسكنت ولدك أرضا تفيض عسلا ولبنا إن أعجز المسلمون منها المال فلن يعجزهم خبر شيع منه، قال هشام: أراد الأردن، ومنها غزة، عن مصعب بن ثابت، عن ابن الزبير يرفعه طوبى لمن سكن إحدى العروستين، عسقلان، وغزة، إسناده منقطع، وفيه ضعف ضعفه أحمد، وغيره منها عسقلان. روى صاحب مثير الغرام عن أبي عقال قال: سمعت أنسا يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عسقلان إحدى العروستين، يبعث اللَّه تعالى يوم القيامة منها سبعين ألف وفودًا شهداء إلى اللَّه تعالى بها ضفوف الشهداء، انقطعت رؤوسهم بأيديهم، وتنفخ أوداجهم دمًا يقولون: ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك فيقول: صدق

عبيدي اغسلوهم بنهر البيضاء، أو قال: البيضا فيخرجون منها بيضا يمرحون من الجنة حيث شاءوا" ليس بصحيح وأبو عقال اسمه هلال. قال ابن حبان: روى أشياء موضوعة عن ابن عمر -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى بمقبرة فقيل له: يا رسول اللَّه أي مقبرة هذه؟ قال: "مقبرة بأرض عسقلان يفتحها ناس من أمتي يبعث اللَّه منها سبعين ألف شهيد يشفع الرجل في مثل ربيعة، ومضر، وعروس الجنة، وعسقلان" هذا مكذوب ولعله من وضع شيخ حفص. وقد ألف الحافظ ابن عساكر جزءًا في فضل عسقلان نبه فيه على الصحيح والسقيم والموضوع والمنقطع. وروى عبد الرازق بإسناده عن محمد بن كعب قال: كان يذكر أن الأكل، والشرب والطعام، والنكاح، بها أفضل يعني عسقلان قال بعض أهل العلم: وسبب ذلك أنها كانت مرابطا وثغرا مخوفًا نزله العدو مرارا واستشهد فيه جمع من المسلمين، وأما الآن فالرباط بغيرها أفضل منها، لاستبعاد نزول العدو بها هذه الأيام، وقد روى في فضلها وفي فضل مقبرتها أحاديث ضعيفة لا تصح، وأمثل ما جاء ذكرها فيه من الأحاديث ما روي عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن إسماعيل بن راجح قال: بلغنا

أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "رحم اللَّه تعالى أهل المقبرة"، قالت عائشة رضي اللَّه عنها: أهل البقيع؟ حتى قالتها ثلاثا فقال: "مقبرة عسقلان" وكذلك روى سعيد بن منصور في سننه: عن إسماعيل بن عياش عن عطاء الخراساني قال: بلغني أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يرحم اللَّه مقبرة تكون بعسقلان" فكان عطاء يرابط بها أربعين حتى مات، وفي هذين الإسنادين ما فيهما من الضعف والانقطاع ولكن يستأنس بهما مخرجين من هذين الكتابين. وقال صاحب المغنى: روى الدارقطني في كتابه المخرج على الصحيحين بإسناده عن ابن عمر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى على مقبرة فسئل يا رسول اللَّه أي مقبرة هي؟ قال: "مقبرة بأرض العدو يقال لها عسقلان": الحديث بطوله إلى قوله: وعروس الجنة عسقلان. ومنها بيت لحم في مثير الغرام، عن بريد بن أبي مالك الأنسي قال: أنت قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث ليلة الإسراء قال: "فقال لي جبريل: انزل فصلي؟ فنزلت فصليت، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى ابن مريم" حديث صحيح، أو حسن رواه النسائي والبيهقي في دلائل النبوة، ومنها حمص، في مثير الغرام، عن صفوان بن عمر وعن شريح بن عبيد، أنه كان يقول: في حمص: يربط اللَّه ثورة قيل ما هو يا أبا إسحاق؟ قال: الطاعون لا يكاد يفارقها. قال الحافظ الذهبي: لعل هذا كان في زمن الصحابة، أما في عصرنا، وما قبله فما اعتورها طاعون لكن أكثر من يموت بها

النساء من الولادة، ومنها قنسرين في مثير الغرام، عن جرير بن عبد اللَّه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنه قال: "أوحى اللَّه تعالى إلي أي هذه الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك المدينة أو البحرين أو قنسرين"، قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الفضل بن موسى تفرد به أبو عمار. وقال الحاكم في مستدركه: صحيح، ورواه البخاري في تاريخه، ومنها أنطاكية في مثير الغرام عن بشر الحافي قال: قال يوسف بن أسباط لامرأته: لما احتضر إذا مت فالحقي بأنطاكية، وليكن قبرك بها: وعن أبي صالح في قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس: 13]، قال أنطاكية. قال الذهبي: وفيه نظر انتهى واللَّه أعلم. قال مؤلفه عامله اللَّه تعالى بلطفه الحفي رحمة وجعل الجنة مثواه هذا آخر ما تيسر جمعه في هذا التأليف المبارك، جعله اللَّه تعالى خالصًا لوجهه الكريم موصلا إلى ما لديه من الزلفى والنعيم المقيم، ونسأله بفضل رحمته أن يشركنا فيما قسم لأوليائه المؤمنين وعباده الصالحين من صالح العمل، وأن يغفر لنا ولهم جميع الخطأ والخطل والحوب، والزلل، اللهم عد برأفتك ورحمتك، فقديما سترت، وعظيما غفرت، وكثيرًا أمهلت، وأنت أحق من تمم وأولى من جاد وتكرم، وأكرم من تفضل، وأنعم. اللهم نسألك الزيادة والسلامة في الدين والصحة في البدن، والبركة في الرزق، وحسن اليقين، والتوبة قبل الموت، والمغفرة بعد الموت، والعافية في الدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين، يا نور السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام يا صريخ المستصرخين يا غياث المستغيثين، يا منتهى رغبة الراغبين، يا مفرج عن المكروبين، يا مجيب دعوة المضطرين أسألك مسألة الضعيف الملهوف المسكين وأبتهل إليك ابتهال الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الوجل دعاء من خضعت لك رقبته وفاضت من خشيتك عبرته، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه لا تجعلني

اللهم بدعائك ربي شقيا، وكن بي رءوفًا رحيما يا خير المسؤولين، تولى أمري بيديك، لا تكلني إلى نفسي ولا إلى أحد سواك طرفة عين واجعلني حسنة من حسناتك ورحمة بين عبادك تهدي بها من تشاء إلى صراط مستقيم صراط اللَّه الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى اللَّه تصير الأمور. قال رحمه اللَّه وعفى عنه وكان الفراغ من تأليفه وتغليفه في يوم الاثنين المبارك الثالث والعشرين من صفر الأغر الميمون من شهور سنة خمس وسبعين وثمائمائة ببيت المقدس الشريف والحمد للَّه رب العالمين أولًا وآخرا وباطنا وظاهرا وصلى اللَّه على سيدنا محمد نبي الرحمة وشفيع الأمة وكاشف الغمة وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل ونعم المولى ونعم النصير ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم أستغفر اللَّه العظيم وأتوب إليه توبة عبد تكثر منه الذنوب وأسأله التوبة الحسنة والحمد للَّه وحده.

§1/1