إبطال التأويلات

أبو يعلى ابن الفراء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَحْمُودِ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، الْمُتَفَرِّدِ بِالْعِزِّ وَالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، الْعَالِمِ قَبْلَ وُجُودِ الْمَعْلُومَاتِ، وَالْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ الْمَوْجُودَاتِ، الْمُبْتَدِئِ بِالنِّعَمِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا، الْمُتَكَفِّلِ لِلْبَرِيَّةِ بِأَرْزَاقِهَا، أَحْمَدُهُ حَمْدًا يُرْضِيهِ، وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى حَبْسِ خَوَاطِرِ النَّفْسِ عَنْ هَوَاهَا، وَمَنْعِ بَوَادِرِهَا مِنَ السَّطْوَةِ عَلَى مُرَادِهَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ اللَّهُ بِالْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكِونَ، فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَسَلَّمَ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّنِي وَقَفْتُ عَلَى حَاجَتِكُمْ إِلَى شَرْحِ كِتَابٍ نَذْكُرُ فِيهِ مَا اشْتُهِرَ مِنَ الأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الصِّفَاتِ، وَصَحَّ سَنَدُهُ مِنْ غَيْرِ طَعْنٍ فِيهِ ما يوهم ظواهرها التشبيه، وَأَذْكُرُ الإِسْنَادَ فِي بَعْضِهَا وَأَعْتَمِدُ عَلَى الْمَتْنِ فِيمَا اشْتُهِرَ مِنْهَا طَلَبًا لِلاخْتِصَارِ وَسَأَلْتُمْ أَنْ أَتَأَمَّلَ مُصَنَّفَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ فُورَكٍ

الَّذِي سَمَّاهُ كِتَابَ تَأْوِيلِ الأَخْبَارِ جَمَعَ فِيهِ هَذِهِ الأَخْبَارَ وَتَأَوَّلَهَا، فَتَأَمَّلْنَا ذَلِكَ وَبَيَّنَّا مَا ذَهَبَ فِيهِ عَنِ الصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِهِ، وَأَوْهَمَ خِلافَ الْحَقِّ فِي تَخْرِيجِهِ، وَلَوْلا مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمِيثَاقِ عَلَى تَرْكِ كِتْمَانِ الْعِلْمِ، لَقَدْ كَانَ التَّشَاغُلُ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَوْلَى 1 - لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ جَعْفَرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا بِإِسْنَادِهِ فِيمَا وَقَعَ إِلَيَّ فِي جَوَابَاتِ مَسَائِلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ قَوْمًا سَأَلُوا النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الرَّبِّ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَلَعَنَهُمْ 2 - وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُكْفَرَ بِاللَّهِ جَهْرَةً " وَذَلِكَ عِنْدَ كَلامِهِمْ فِي رَبِّهِمْ وَفِي تَرْكِ التَّشَاغُلِ بِذَلِكَ كِتْمَانٌ لِلْعِلْمِ

لا يُنَافِي بَيْنَ نَافِي لِجَمِيعِ الصِّفَاتِ وَهُمُ الْقَدَرِيَّةِ وَبَيْنَ مُثْبِتٍ لِبَعْضِهَا وَنَافٍ لِبَعْضِهَا، وَنَهَى النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الْكَلامِ فِي ذَلِكَ، مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ تَكَلَّمَ بِمَا يُنَافِي مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَجَاءَتْ بِهِ الأَخْبَارُ كَالنَّصَارَى الَّذِينَ وَصَفُوهُ سُبْحَانَهُ بِالْجَوْهَرِ، وَالْمُجَسَّمَةِ الَّذِينَ وَصَفُوهُ بِالْجِسْمِ، وَالْمُشَبَّهَةِ الَّذِينَ شَبَّهُوا صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ 3 - وَقَدْ أَنْكَرَ أَحْمَدُ التَّشْبِيهَ، فَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: الْمُشَبَّهَةُ تَقُولُ: بَصَرٌ كَبَصَرِي، وَيَدٌ كَيَدِي، وَقَدَمٌ كَقَدَمِي، وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ 4 - وَقَالَ فِي رِوَايَةِ يُوسُف بْنِ مُوسَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وَلا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ذَمِّ مُثْبِتِي الصِّفَاتِ لأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَقَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَوَصَفَهُ رَسُولُهُ بِالأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، وَأَثْبَتَ ذَلِكَ سَلَفُ هَذِهِ الأُمَّةِ، عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فَلَمْ يَبْقَ إِلا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بِمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ وَأَعْلَمُ أَنَّهُ لا يَجُوزُ رَدُّ هَذِهِ الأَخْبَارِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلا التَّشَاغُلُ بِتَأْوِيلِهَا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الأَشْعَرِيَّةُ وَالْوَاجِبُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَأَنَّهَا صِفَاتٌ لِلَّهِ تَعَالَى لا تُشْبِهُ سَائِرَ الْمَوْصُوفِينَ بِهَا مِنَ الْخَلْقِ، وَلا نَعْتَقِدُ التَّشْبِيهَ فِيهَا، لَكِنْ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ شَيْخِنَا وَإِمَامِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ

أَئِمَّةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، أَنَّهُمْ قَالُوا فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ، فَحَمَلُوهَا عَلَى ظَاهِرِهَا فِي أَنَّهَا صِفَاتٌ لِلَّهِ تَعَالَى لا تُشْبِهُ سَائِرَ الْمَوْصُوفِينَ 5 - فَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِسَالَةِ عَبْدُوسِ بْنِ مَالِكٍ الْعَطَّارِ: يَجِبُ الإِيمَانُ بِالْقَدَرِ، وَبِالأَحَادِيثِ فِيهِ، وَمِثْلِ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ كُلِّهَا، وَإِنْ ثَبَتَ عَنِ الأَسْمَاعِ وَاسْتَوْحَشَ مِنْهَا الْمُسْتَمِعُ 6 - وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: وَلا نُزِيلُ عَنْهُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ لِشَنَاعَاتٍ شُنِّعَتْ 7 - وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: أَحَادِيثُ الصِّفَاتِ تَمُرُّ كَمَا جَاءَتْ.

8 - وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: " قَلْبُ الْعَبْدِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ "، " وَخَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ "، وَكُلَّمَا جَاءَ الْحَدِيثُ مِثْلَ هَذَا قُلْنَا بِهِ 9 - وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِي الأَحَادِيثِ الَّتِي تُرْوَى: " إِنَّ اللَّهَ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا " وَاللَّهُ يُرَى " وَأَنَّهُ يَضَعُ قَدَمَهُ " وَمَا أَشْبَهُ بِذَلِكَ، نُؤْمِنُ بِهَا وَنُصَدِّقُ بِهَا وَلا كَيْفَ وَلا مَعْنَى وَلا نَرُدُّ شَيْئًا مِنْهَا، وَنَعْلَمُ أَنَّ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَقٌّ إِذَا كَانَتْ بِأَسَانِيدَ صِحَاحٍ 10 - وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: يَضْحَكُ اللَّهُ، وَلا نَعْلَمُ كَيْفَ ذَلِكَ إِلا بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ وَقَالَ: الْمُشَبَّهَةُ تَقُولُ: بَصَرٌ كَبَصَرِي، وَيَدٌ كَيَدِي، وَقَدَمٌ كَقَدَمِي، وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى الْقَوْلِ بِظَاهِرِ الأَخْبَارِ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلا تَأْوِيلٍ 11 - وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الإِسْلامِ، فَقَالَ: أنا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيُّ، بِأَصْبَهَانَ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ النُّهَاوَنْدِيُّ، نا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، نا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ

يَعْقُوبَ الْفَارِسِيُّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ: وَقَدْ رَأَيْتُ لأَهْلِ الأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالْخِلافِ أَسْمَاءً شُنْعَةً قَبِيحَةً يُسَمُّونَ بِهَا أَهْلَ السُّنَّةِ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ عَيْبَهُمْ وَالطَّعْنَ عَلَيْهِمْ، وَالْوَقِيعَةَ فِيهِمْ، وَالإِزْرَاءَ بِهِمْ عِنْدَ السُّفَهَاءِ وَالْجُهَّالِ، أَمَّا الْجَهْمِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَ أَهْلَ السُّنَّةِ الْمُشَبِّهَةَ، وَكَذَبَ الْجَهْمِيَّةُ أَعْدَاءُ اللَّهِ بَلْ هُمْ أَوْلَى بِالتَّشْبِيهِ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ 12 - قَالَ: وأنا سُفْيَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، نا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الآدَمِيُّ، نا الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ، سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، يَقُولُ: امْتَحَنَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْقَوْمَ مَرَّةً مَرَّةً وَامْتَحَنَنِي مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ لِي: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ قُلْتُ: كَلامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَأَقَامَنِي فَأَجْلَسَنِي فِي نَاحِيَةٍ ثُمَّ سَأَلَنِي ثُمَّ رَدَّنِي ثَانِيَةً فَسَأَلَنِي، فَقُلْتُ: الْقُرْآنُ كَلامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَأَخَذَنِي فِي التَّشْبِيهِ، فَقُلْتُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فَقَالَ لِي: وَمَا السَّمِيعُ الْبَصِيرُ؟ فَقُلْتُ: هَكَذَا قَالَ: السَّمِيعُ الْبَصِيرُ 13 - وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي أَخْبَارِ الصِّفَاتِ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ قَالَ: شَهِدْتُ زَكَرِيَّا بْنَ عَدِيٍّ سَأَلَ وَكِيعًا، فَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، هَذِهِ الأَحَادِيثُ يَعْنِي مِثْلَ: " الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَنَحْوُ هَذَا؟ فَقَالَ وَكِيعٌ: أَدْرَكْنَا إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ، وَسُفْيَانَ، وَمِسْعَرًا يُحَدِّثُونَ هَذِهِ الأَحَادِيثَ وَلا يُفَسِّرُونَ شَيْئًا.

14 - وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن اللَّهَ يَضَعُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ "، وَحَدِيثِ " إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ "، وَحَدِيثِ " إِنَّ اللَّهَ يَعْجَبُ وَيَضْحَكُ " فَقَالَ سُفْيَانُ: هِيَ كَمَا جَاءَتْ نقربها وَنُحَدِّثُ بِلا كَيْفَ 15 - وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: سُئِلَ مَكْحُولٌ، وَالزُّهْرِيُّ عَنْ تَفْسِيرِ الأَحَادِيثِ، فَقَالا: أَمِرَّهَا عَلَى مَا جَاءَتْ 16 - وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: سَأَلْتُ الأَوْزَاعِيَّ، وَمَالِكًا، وَسُفْيَانَ، وَلَيْثًا عَنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا الصِّفَةُ، فَقَالُوا: أَمِرُّوهَا بِلا كَيْفَ.

17 - وَذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَلالُ، فِيمَا خَرَّجَهُ مِنْ أَخْبَارِ الصِّفَاتِ، قَالَ: ذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ يَعْنِي: الدَّارَقُطْنِيَّ، وَرَأَيْتُهُ فِي كِتَابِ الصِّفَاتِ، قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ، قَالَ: نا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدٍ الْقَاسِمَ بْنَ سَلامٍ، وَذَكَرَ الْبَابَ الَّذِي يُرْوَى فِي الرُّؤْيَةِ وَالْكُرْسِيِّ، وَمَوْضِعِ الْقَدَمَيْنِ، وَضَحِكِ رَبِّنَا، وَأَيْنَ كَانَ رَبُّنَا، وَيَضَعُ الرَّبُّ قَدَمَهُ فِيهَا، وَأَشْبَاهُ هَذَا، فَقَالَ: هَذِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ، حَمَلَهَا أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَهِيَ عِنْدَنَا حَقٌّ لا شَكَّ فِيهِ، وَلَكِنْ إِذَا قِيلَ كَيْفَ وَضَعَ قَدَمَهُ وَكَيْفَ ضَحِكَ؟ قُلْنَا: لا نُفَسِّرُ هَذَا وَلا سَمِعْنَا أَحَدًا يُفَسِّرُهَا 18 - وَقَالَ زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ لِوَكِيعٍ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، هَذِهِ الأَحَادِيثُ يَعْنِي: مِثْلَ: " الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ "، وَنَحْوُ هَذَا؟ فَقَالَ وَكِيعٌ: أَدْرَكْنَا إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ، وَسُفْيَانَ، وَمِسْعَرًا يُحَدِّثُونَ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ وَلا يُفَسِّرُونَ 19 - وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ الطَّبَرِيِّ فِي كِتَابِ التَّبْصِيرِ فِي مَعَالِمِ

الدِّينِ بَعْدَ أَوْرَاقٍ مِنْ أَوَّلِهِ الْقَوْلَ فِيمَا أُدْرِكَ عَمَلُهُ مِنْ صَفَحَاتِ الصَّانِعِ، خَبَرًا لا اسْتِدْلالا، وَذَكَرَ كَلامًا إِلَى أَنْ قَالَ: وَذَلِكَ نَحْوَ إِخْبَارِ اللَّهِ، تَعَالَى ذِكْرُهُ، أَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِقَوْلِهِ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وَأَنَّ لَهُ يَمِينًا بِقَوْلِهِ: {وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا بِقَوْلِهِ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} وَأَنَّ لَهُ قَدَمًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حَتَّى يَضَعَ الرَّبُّ فِيهَا قَدَمَهُ يَعْنِي: جَهَنَّمَ "، وَأَنَّهُ يَضْحَكُ إِلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِلَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: " إِنَّهُ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ يَضْحَكُ إِلَيْهِ "، وَأَنَّهُ يَهْبِطُ كُلَّ لَيْلَةٍ وَيَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَعْوَرَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ "، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَبْصَارِهِمْ كَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَلِكَ، وَأَنَّ لَهُ إِصْبَعًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ قَلْبٍ إِلا وَهُوَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ " بِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الَّتِي وُصِفَتْ وَنَظَائِرَهَا مِمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهَا رَسُولُهُ مِمَّا لا يُدْرَكُ حَقِيقَةُ عِلْمِهِ بِالْفِكْرِ وَالرُّؤْيَةِ وَلا نُكَفِّرُ بِالْجَهْلِ بِهَا أَحَدًا إِلا بَعْدَ انْتِهَائِهَا إِلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَوْرَاقٍ: فَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَيْفَ كُتِبَ؟ وَكَيْفَ تُلِيَ؟ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ قُرِئَ؟ فِي السَّمَاءِ وُجِدَ أَمْ فِي الأَرْضِ حُفِظَ؟ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كَانَ مَكْتُوبًا أَوْ فِي أَلْوَاحِ صِبْيَانِ الْكَتَاتِيبِ مَرْسُومًا؟ فِي حَجَرٍ نُقِشَ أَوْ فِي وَرَقٍ خُطَّ أَوْ بِاللِّسَانِ لُفِظَ؟ فَمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ أَوِ ادَّعَى أَنَّ قُرْآنًا فِي الأَرْضِ أَوْ فِي السَّمَاءِ سِوَى الْقُرْآنِ الَّذِي نَتْلُوهُ بِأَلْسِنَتِنَا أَوْ نَكْتُبُه فِي مَصَاحِفِنَا، أَوِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ أَوْ أَضْمَرَهُ فِي نَفْسِهِ وَقَالَهُ بِلِسَانِهِ فَهُوَ بِاللَّهِ كَافِرٌ، حَلالُ الدَّمِ وَبَرِئَ مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ مِنْهُ بَرِيءٌ.

ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَمَنْ رَدَّ عَلَيْنَا أَوْ حَكَى عَنَّا أَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا وَادَّعَى أَنَّا قُلْنَا غَيْرَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَهِ وَغَضَبِهِ وَلَعْنَةُ اللاعِنِينَ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَلا قَبَلَ اللَّهُ لَهُ صَرْفًا وَلا عَدْلا، وَهَتَكَ سِتْرَهُ وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الأَشْهَادِ يَوْم لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ فَهَذَا كَلامُ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ مِمَّنْ يُشَارُ إِلَيْهِ وَيُعَوَّلُ عَلَيْهِ 20 - وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجُنَيْدِ الْخُتُّلِيُّ فِي كِتَابِ الْعَظَمَةِ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي عُمَرَ، وَالْبَصْرِيِّ، وَاسْمُهُ سَهْلُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَنْ خَرَّجَ هَذِهِ الأَحَادِيثَ أَحَادِيثَ الرُّؤْيَةِ، وَجَمَعَهَا مِنَ الْبَصْرِيِّينَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ إِخْوَانِهِ: يَا أَبَا سَلَمَةَ، لَقَدْ سَبَقْتَ إِخْوَانَكَ بِجَمْعِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ فِي الْوَصْفِ، قَالَ: سَمِعْتُ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ، يَقُولُ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا دَعَتْنِي نَفْسِي إِلَى إِخْرَاجِ ذَلِكَ إِلا أَنِّي رَأَيْتُ الْعِلْمَ يَخْرُجُ رَأَيْتُ الْعِلْمَ يَخْرُجُ رَأَيْتُ الْعِلْمَ يَخْرُجُ، يَقُولُهَا ثَلاثًا وَهُوَ يَنْفُضُ كَفَّهُ، فَأَحْبَبْتُ إِحْيَاءَهُ وَبَثَّهُ فِي الْعَامَّةِ لِئَلا يَطْمَعَ فِي خُرُوجِهِ أَهْلُ الأَهْوَاءِ 21 - وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَالَ: وَذَكَرَ الأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا الإِثْبَاتُ فِي الصِّفَةِ وَالرُّؤْيَةِ، ثُمَّ قَالَ لَنَا: بِخُرَاسَانَ جَهْمِيَّةٌ، إِذَا أَنْكَرُوا هَذِهِ الأَحَادِيثَ عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: هَكَذَا سَمِعْنَا مَشْيَخَتَنَا يَقُولُونَ 22 - وَأَخْرَجَ إِلَيَّ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ مَقَالَةً فِي أَخْبَارِ الصِّفَاتِ،

فَرَوَى بِإِسْنَادِهِ قَالَ: ذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الأَبَّارُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ، قَالَ لإِسْحَاقَ بْنِ رَاهُوَيْهِ: مَا هَذِهِ الأَحَادِيثُ الَّتِي تُحَدِّثُ بِهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَاللَّهُ يَصْعَدُ وَيَتَحَرَّكُ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ: تَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْزِلَ وَيَصْعَدَ وَلا يَتَحَرَّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَلِمَ تُنْكِرُ؟ 23 - وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ الطَّيَالِسِيُّ، قَالَ: قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: إِذَا قَالَ لَكَ الْجَهْمِيُّ: كَيْف يَنْزِلُ؟ فَقُلْ لَهُ: كَيْفَ صَعِدَ؟.

24 - وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْبَلْخِيِّ، قَالَ: قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: إِذَا قَالَ لَكَ الْجَهِمُّي: أَنَا كَافِرٌ بِرَبٍّ يَنْزِلُ، فَقُلْ لَهُ: أَنَا مُؤْمِنٌ بِرَبٍّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ 25 - وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ، قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا شَرِيكٌ بِوَاسِطَ، فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّ عِنْدَنَا قَوْمًا يُنْكِرُونَ هَذِهِ الأَحَادِيثَ: الصِّفَاتِ، وَأَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَقَالَ شَرِيكٌ: إِنَّمَا جَاءَنَا بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ مَنْ جَاءَنَا بِالسُّنَنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا اللَّهَ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ 26 - وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، يَقُولُ: إِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ مَنْ يَدْفَعُ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوُلاةُ الأَمْرِ بَعْدَهُ سُنَنًا، وَسَنَّ الأَخْذَ بِهَا اتِّبَاعًا لِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِكْمَالا لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقُوَّةً عَلَى دِينِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، لَيْسَ لأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ تَفْسِيرُهَا، وَلا النَّظَرُ فِي شَيْءٍ خَالَفَهَا، مَنِ اهْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدٍ، وَمَنِ اسْتَنْصَرَ بِهَا فَهُوَ مَنْصُورٌ، وَمَنْ تَرَكَهَا اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى، وَأَصْلاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا.

27 - وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ، وَذُكِرَ عِنْدَهُ الْجَهْمِيَّةُ يَنْفُونَ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَيَقُولُونَ: اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ بِشَيْءٍ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: قَدْ هَلَكَ قَوْمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَعْنِي: مِنْ وَجْهِ التَّعْظِيمِ، قَالُوا: اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُنَزِّلَ كِتَابًا أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} ثُمَّ قَالَ: فَهَلْ هَلَكَتِ الْمَجُوسُ إِلا مِنْ جِهَةِ التَّعْظِيمِ، قَالُوا: اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ نَعْبُدَهُ، وَلَكِنْ نَعْبُدُ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْنَا فَعَبَدُوا الشَّمْسَ وَسَجَدُوا لَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} هَذَا الْكَلامُ أَوْ نَحْوُهُ 28 - وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَحْمَدَ الْفَارِسِيِّ، سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ، يَقُولُ: هَذِهِ الأَحَادِيثُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفَ 29 - وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يُنْكِرُ هَذِهِ الأَحَادِيثَ فَاتَّهِمُوهُ عَلَى الدِّينِ 30 - وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، فَقَالَ: تَمُرُّ كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفَ 31 - وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَسْوَدَ بْنِ سَالِمٍ، قَالَ فِي أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ: أَحْلِفُ عَلَيْهَا بِالطَّلاقِ وَالْمَشْيِ أَنَّهَا حَقٌّ.

32 - وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عَدِيٍّ، أَنَّهُ سَأَلَ وَكِيعًا: يَا أَبَا سُفْيَانَ، هَذِهِ الأَحَادِيثُ الَّتِي جَاءَتْ فِي الصِّفَاتِ وَالرُّؤْيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَالَ وَكِيعٌ: أَدْرَكْنَا إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ، وَسُفْيَانَ، وَمِسْعَرًا يُحَدِّثُونَ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ وَلا يُفَسِّرُونَ شَيْئًا مِنْهَا 33 - وَقَالَ وَكِيعٌ: سَلِّمْ هَذِهِ الأَحَادِيثَ الَّتِي فِي الصِّفَاتِ كَمَا جَاءَتْ وَلا تَقُلْ كَيْفَ كَذَا وَلا مِثْلَ كَذَا مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " إِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْجِبَالُ عَلَى إِصْبَعٍ "، " وَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ "، وَنَحْوُ هَذِهِ الأَحَادِيثِ نُمِرُّهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفَ 34 - وَبِإِسْنَادِهِ قِيلَ لابْنِ عُيَيْنَةَ: هَذِهِ الأَحَادِيثُ الَّتِي تُرْوَى فِي الصِّفَاتِ، فَقَالَ: حَقٌّ عَلَى مَا سَمِعْنَاهَا مِمَّنْ نَثِقُ بِهِ وَنَرْضَاهُ نُمِرُّهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفَ 35 - وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ: سَأَلْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ وَأَنَا فِي مَنْزِلِهِ بَعْدَ الْعَتَمَةِ فَجَعَلْتُ أَلُحُّ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ يَأْبَى، فَقُلْتُ: لا بُدَّ أَنْ أَسْأَلَكَ، إِذَا لَمْ أَسْأَلْكَ فَمَنْ أَسْأَلُ؟ فَقَالَ: هَاتِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ: " إِنَّ اللَّهَ يَحْمِلُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ "، وَحَدِيثُ: " إِنَّ قَلْبَ بَنِي آدَمَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ "، وَحَدِيثُ: " إِنَّ اللَّهَ يَعْجَبُ وَيَغْضَبُ وَيَضْحَكُ " وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، فَقَالَ سُفْيَانُ: هِيَ كَمَا جَاءَتْ نُؤْمِنُ بِهَا وَنُحَدِّثُ بِهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفَ وَلا تَوَقُّفٍ 36 - وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ الْهُذَلِيِّ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يَتَكَلَّمُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يَسْمَعُ وَلا يَعْجَبُ وَلا يَضْحَكُ وَلا يَغْضَبُ، وَذَكَرَ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ

فَهُوَ كَافِرٌ بِاللَّهِ، وَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ عَلَى بِئْرٍ وَاقِفٍ فَأَلْقُوهُ فِيهَا 37 - وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ: مَنْ كَذَّبَ بِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ مِنْهُ بَرِيءٌ 38 - وَبَإِسْنَادِهِ قَالَ: قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: مَثَلُ الْجَهْمِيَّةِ مَثَلُ رَجُلٍ قِيلَ لَهُ: فِي دَارِكَ نَخْلَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: فَلَهَا خُوصٌ؟ قَالَ: لا، قِيلَ: فَلَهَا سَعَفٌ؟ قَالَ: لا، قِيلَ: فَلَهَا كَرَبٌ؟ قَالَ: لا، قِيلَ: فَلَهَا جِذْعٌ؟ قَالَ: لا، قِيلَ: فَلَهَا أَصْلٌ؟ قَالَ: لا، قِيلَ: فَلا نَخْلَةَ فِي دَارِكَ هَؤُلاءِ الْجَهْمِيَّةُ قِيلَ لَهُمْ: لَكُمْ رَبٌّ يَتَكَلَّمُ؟ قَالُوا: لا، قِيلَ: فَلَهُ يَدٌ؟ قَالُوا: لا، قِيلَ: فَلَهُ قَدَمٌ؟ قَالُوا: لا، قِيلَ: لَهُ إِصْبَعٌ؟ قَالُوا: لا، قِيلَ: فَيَرْضَى وَيَغْضَبُ؟ قَالُوا: لا، قِيلَ: فَلا رَبَّ لَكُمْ وَإِذَا تُتُبِّعَ كَلامُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا وُجِدَ فِيهِ مَا يَطُولُ شَرْحُهُ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّفْسِيرِ فَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدُوسِ بْنِ مَالِكٍ الْعَطَّارِ: وَمِنَ السُّنَّةِ اللازِمَةِ الَّتِي مَنْ تَرَكَ مِنْهَا خَصْلَةً لَمْ يقلها وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا: الإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالأَحَادِيثِ فِيهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ تَفْسِيرَ الْحَدِيثِ وَيُبَلِّغُهُ عَقْلَهُ فَقَدْ كُفِيَ ذَلِكَ وَأُحْكِمَ لَهُ فَعَلَيْهِ الإِيمَانُ وَالتَّسْلِيمُ 39 - قَالُوا: فَقَوْلُ أَحْمَدَ: وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ تَفْسِيرَ الْحَدِيثَ وَيُبَلِّغُهُ عَقْلَهُ فَقَدْ كُفِيَ ذَلِكَ وَأُحْكِمَ لَهُ مَعْنَاهُ قَدْ كَفَاهُ ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَأَحْكَمُوا لَهُ عِلْمَهُ، فَدَلَّ عَلَى التَّفْسِيرِ 40 - وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَغَيْرِهِمَا فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}

الْمُرَادُ بِهِ الشِّدَّةُ، وَهَذِهِ تَأْوِيلٌ مِنْهُمْ

41 - وَرُوِيَ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: " يَنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا "، فَقَالَ: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ فَقَدْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ، يَظْهَرُ مِنْهُ بِقُدْرَتِهِ قِيلَ: أَمَّا قَوْلُ أَحْمَدَ قَدْ كَفَى ذَلِكَ مَعْنَاهُ: قَدْ كُفِيَ طَلَبُ التَّأْوِيلِ وَالْبَحْثِ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: وَأُحْكِمَ لَهُ مَعْنَاهُ: أُحْكِمَتْ لَهُ الْكِفَايَةُ فِي تَرْكِ الْبَحْثِ وَطَلَبِ التَّأْوِيلِ، وَيُبَيِّنُ صِحَّةَ هَذَا مَا قَالَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَعَلَيْهِ الإِيمَانُ وَالتَّسْلِيمُ، وَالإِيمَانُ وَالتَّسْلِيمُ لا يَكُونُ مَعَ التَّأْوِيلِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِ السَّاقِ فَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَحَمَلَ السَّاقَ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ ابْنِ

عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ حَدَّ السَّاقِ فِي اللُّغَةِ: الشِّدَّةُ، فَحَكَى قَوْلَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ، لا أَنَّهُ قَصَدَ حِدَّةً فِي الشَّرْعِ وَأَمَّا قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ أَنَّ النُّزُولَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ لأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، وَعَلَى أَنَّا قَدْ حَكَيْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ خِلافَ ذَلِكَ

فصل في الدلالة على أنه لا يجوز الاشتغال بتأويلها وتفسيرها

فَصْلٌ فِي الدَّلالَةِ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ الاشْتِغَالُ بِتَأْوِيلِهَا وَتَفْسِيرِهَا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ آيَ الْكِتَابِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا مُحْكَمٌ تَأْوِيلُهُ تَنْزِيلُهُ يُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنْهُ بِظَاهِرِهِ وَقِسْمٌ هُوَ مُتَشَابِهٌ لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَلا يُوقَفُ عَلَى مَعْنَاهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} وَقَوْلِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} فَالْوَاوُ هَهُنَا لِلاسْتِئْنَافِ وَلَيْسَتْ عَاطِفَةً كَذَلِكَ أَخْبَارُ الرَّسُولِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَارِيَةٌ هَذَا الْمَجْرَى وَمُنَزَّلَةٌ عَلَى هَذَا التَّنْزِيلِ مِنْهَا الْبَيِّنُ الْمُسْتَقِلُّ فِي بَيَانِهِ بِنَفْسِهِ، وَمِنْهَا مَا لا يُوقَفُ عَلَى مَعْنَاهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَإِنْ قِيلَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لا مُتَشَابِهَ فِي الْقُرْآنِ إِلا وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَالْوَاوُ هَهُنَا لِلْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: {إِلا اللَّهَ} وَقَدْ ذَكَر هَذَا ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِ الْمُشْكِلِ فَسَقَطَ هَذَا الدَّلِيلُ.

قِيلَ: هَذَا قَوْلٌ يُخَالِفُ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ 42 - قَالَ أَبُو بَكْرٍ الأَنْبَارِيُّ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الإِلْحَادِ: قَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الَّذِي أَنْكَرَهُ يَعْنِي: ابْنَ قُتَيْبَةَ، جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْهُمْ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، فَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: إِنْ تَأْوِيلُهُ إِلا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قَالَ: وَكَانَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدٍ يَقُولانِ: الرَّاسِخُونَ مستأنفون وَاللَّهُ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِعِلْمِ التَّأْوِيلِ قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ، يَقُولُ: الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا

اللَّهُ} ، وَالابْتِدَاءُ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}

43 - وَيُبَيِّنُ صِحَّةَ هَذَا مَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُظَفَّرِ الْحَافِظُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ السُّنَنِ بِإِسْنَادِهِ،

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْرُفٍ: حَلالٌ وَحَرَامٌ لا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِالْجَهَالَةِ بِهِ، وَتَفْسِيرٌ تُفَسِّرُهُ الْعَرَبُ، وَتَفْسِيرٌ تُفَسِّرُهُ الْعُلَمَاءُ، وَمُتَشَابِهٌ لا يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ، مَنِ ادَّعَى عِلْمَهُ سِوَى اللَّهِ فَهُوَ كَاذِبٌ " وَلأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وَمَعْنَاهُ: صَدَّقْنَا بِهِ لأَنَّ الإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَلَمْ يَقُلْ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ عَلِمْنَا بِهِ، فَلَمْ يَقْتَضِ الْعَطْفُ الْمُشَارَكَةَ فِي الْعِلْمِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَا يَعْلَمُ مَا فِي هَذَا الْبَيْتِ إِلا زَيْدٌ وَعُمَرُ، يَقُولُ: آمَنَّا بِهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لَهُ، وَلا يَقْتَضِي مُشَارَكَتَهُ فِي الْعِلْمِ، وَلأَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْوَاوُ عَاطِفَةً فِي الْمُشَارَكَةِ فِي الْعِلْمِ احْتَاجَ الْكَلامُ إِلَى إِضْمَارِ وَاوٍ أُخْرَى، فَتَقْدِيرُهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَيَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ وَالإِضْمَارِ تَرْكُ حَقِيقَةٍ 44 - وَقَدْ ذَكَر أَبُو سُلَيْمَانَ حَمْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْخَطَّابِ الْبُسْتِيُّ هَذَا

السُّؤَالَ فِي كِتَابِ الْغُنْيَةِ عَنِ الْكَلامِ فَقَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مِنَ الْقُرْآنِ قَدِ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ فَلا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ قَالَ: وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْوَقْفَ التَّامَّ فِي هَذِهِ الآيَةِ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} وَمَا بَعْدَهُ اسْتِئْنَافُ كَلامٍ آخَرَ، وَحَكَى فِي ذَلِكَ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ، وَقَالَ: وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَحْدَهُ أَنَّهُ نَسَقَ الرَّاسِخِينَ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَزَعَمَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَهُ وَأَجَابَ بِجَوَابٍ آخَرَ، فَقَالَ: لا يَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، شَيْئًا عَنِ الْخَلْقِ وَيُثْبِتُهُ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ شَرِيكٌ، أَلا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} ، وَقَوْلِهِ: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ} ، وَقَوْلِهِ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} فَكَانَ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ لا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ كَذَلِكَ هَهُنَا قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ الإِيمَانُ بِمَا لا نُحِيطُ عِلْمًا بِحَقِيقَتِهِ، وَنَصِفُهُ بِشَيْءٍ لا دَرَكَ لَهُ فِي عُقُولِنَا؟ قِيلَ: قَدْ أُمِرْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَبِالْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا وَبِالنَّارِ وَأَلِيمِ عَذَابِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّا لا نُحِيطُ عِلْمًا بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَإِنَّمَا كُلِّفْنَا الإِيمَانَ بِهَا جُمْلَةً أَلا تَرَى أَنَّا لا نَعْرِفُ أَسْمَاءَ عِدَّةٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ وَلا نُحِيطُ بِصِفَاتِهِمْ، ثُمَّ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِيمَا أُمْرِنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ: " يَقُولُ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ " إِلَى هَاهُنَا كَلامُ أَبِي سُلَيْمَانَ.

45 - وَقَدْ أَجَابَ قَوْمٌ آخَرُونَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَجْوِبَةٍ أُخَرَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْوَاوُ عَاطِفَةً وَالرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُتَشَابِهٌ وَكَانَ جَمِيعُهُ مُحْكَمًا، وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ فِيهِ مُحْكَمًا وَفِيهِ مُتَشَابِهًا، وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَاجَ إِلَى بَيَانٍ وَلأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْوَاوُ عَطْفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ لَكَانَ تَقْدِيرِ الْكَلامِ: اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، وَلا يَجُوزُ إِضَافَةُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى اللَّهِ وَلأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ عَاطِفَةً عَلَى اسْمِ اللَّهِ لَحَصَلَ قَوْلُهُ: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} مُبْتَدَأً، وَلا يَصِحُّ الابْتِدَاءُ بِهِ لأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ لِتَعَلُّقِهِ بِمَا قَبْلَهُ، وَإِذَا كَانَتِ الْوَاوُ لِلاسْتِئْنَافِ حَصَلَ الْمُبْتَدَأُ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} فَيَكُونُ كَلامًا مُفِيدًا لأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِمَا قَبْلَهُ وَلأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ مَنْ وُكِّلَ عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى عَالِمِهِ بِقَوْلِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} وَلَوْ شَرِكُوهُ فِي عِلْمِهِ لَكَانَ مِنْ عِنْدِهِمْ وَلأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ

بِالْغَيْبِ} وَلَوْ كَانُوا يَشْرَكُونَهُ سُبْحَانَهُ فِي عِلْمِ جَمِيعِ الأَشْيَاءِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْبٌ يُؤْمِنُونَ بِهِ لأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ وَغَيْرُ مُمْتَنِعٌ صِحَّةُ الإِيمَانِ بِمَا لا نَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ كَإِيمَانِهِ بِالْمَلائِكَةِ وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا لَمْ نَعْلَمْ تَأْوِيلَهُ لَمْ يُفِدِ الْخِطَابَ فَائِدَةً، كَمَا إِذَا خَاطَبَ الْعَرَبِيُّ بِالزِّنْجِيَّةِ قِيلَ: فِيهِ فَائِدَةٌ وَهُوَ اخْتِبَارُ الْعِبَادِ لِيُؤْمِنَ بِهِ الْمُؤْمِنُ فَيَسْعَدَ، وَيَكْفُرَ بِهِ الْكَافِرُ فَيَشْقَى لأَنَّ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِ إِذَا قَرَأَ مِنْ هَذَا شَيْئًا أَنْ يُصَدِّقَ رَبَّهُ وَلا يَعْتَرِضَ فِيهِ بِسُؤَالٍ وَإِنْكَارٍ فَيَعْظُمَ ثَوَابُهُ 46 - وَقَدْ جَاءَ هَذَا مُفَسَّرًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: مَا آمَنَ مُؤْمِنٌ أَفْضَلَ مِنْ إِيمَانٍ بِغَيْبٍ، ثُمَّ قَرَأَ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} وَلَئِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا لا يُفِيدُ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَمْرَنَا بِالإِيمَانِ بِمَلائِكَتِه وَرُسُلِهِ وَنَعِيمِ الْجَنَّةِ لا يُفِيدُ لأَنَّا لا نَعْلَمُهُ فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجَدْنَا أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَقَفَ عَلَى تَفْسِيرِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ بَلْ مَضَوْا فِي تَفْسِيرِهِ كُلِّهِ حَتَّى فَسَّرُوا الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مِثْلَ: الم وحم وص وق.

قِيلَ: هَذَا وَهْمٌ عَلَى السَّلَفِ لأَنَّ الأَجِلاءَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْعِلْمِ كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ فَلا يُجِيبُونَ عَنْهَا، وَيَقُولُونَ: مَا نَعْرِفُ تَأْوِيلَهَا مِنْهُمْ : أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ 47 - أما أَبُو بكر ذكر الأب عنده فقيل له: هو الرعي، واختلفوا فيه، فقال: لا تختلفوا أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت فِي كتاب الله بما لا أعلم 48 - وَقَالَ حميد، عن أنس: تلى عمر عَلَى المنبر: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: هَذِهِ الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟ ثم رجع عَلَى نفسه فقال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هَذَا لهو التكلف.

49 - وعن ابن أَبِي مليكة قَالَ: دخلت عَلَى ابن عباس أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان، فقال له عبد الله: يا أَبَا العباس {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} أي يوم هَذَا؟ فقال ابن عباس: من أنت؟ فانتسب له فلما عرفه قَالَ: مرحبا بك، {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} أي يوم هَذَا؟ قَالَ: أنا سألتك يا ابن العباس لتخبرني؟ قَالَ: أيام سماها الله، عَزَّ وَجَلَّ، هو أعلم بها كيف تكون، أكره أن أقول فِي كتاب الله، عَزَّ وَجَلَّ، بما لا أعلم والذي فسره بعض المفسرين مما توقف ابن عباس فإنه لم يذكر مراد الله فيها بل قَالَ: يظهر لي فيها كذا، ويسنح كذا والله هو العالم بالتأويل فإن قيل: فقد قَالَ: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} قيل كما قَالَ: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} ولم تدمر السموات والأرض، وَقَالَ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} ولم تؤت مثل فرج الرجل ولحيته.

فإن قيل: إذا لم يدخل الراسخون مع الله فِي العلم لم يكن لهم فضل عَلَى من لم يرسخ فِي العلم، لأن كل المسلمين يقولون آمنا به قيل: فضل الراسخين عَلَى غيرهم أنهم يعرفون الأحكام المحكمات مالا يعرفه غيرهم، وقد قيل: إن فضيلتهم تحصل بإيمانهم بالغيب عَلَى من لم يؤمن به، وقد قَالَ تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} وهذا يدل عَلَى أن هناك من لم يؤمن به فكانت فضيلتهم بالإيمان به فإن قيل: فنسلم لكم فِي القرآن مالا يعلم تأويله غير الله، لكن فائدته التلاوة التي هي طاعة وهي مندوب إليها يثاب عَلَى فعلها، فأما الأخبار فمتى لم يعرف معناها بلغة العرب عريت عن فائدة، لأنها لا تفيد عملا ولا تثبت علما ولا ثواب فِي فعلها قيل: لا تعرى عن فائدة لما بينا فيما قبل وهو اختبار العباد ليؤمن به المؤمن فيسعد، ويكفر به الكافر فيشقى، لأن سبيل المؤمن أن يصدق بما جاء به الرسول 50 - ودليل آخر ما روى أَبُو هُرَيْرَةَ وعبد الله بن عمرو، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " يحمل هَذَا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " فوجه الدلالة أنه منع التأويل فِي ذَلِكَ.

فإن قيل: إنما منع تأويل الجاهلين ولسنا جهالا بالتأويل قيل: بل الجهالة حاصلة بالتأويل بدليل ما تقدم من قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} دليل آخر عَلَى إبطال التأويل: أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها عَلَى ظاهرها ولم يتعرضوا لتأويلها، ولا صرفها عن ظاهرها، فلو كان التأويل سائغا لكانوا أسبق لما فيه من إزالة التشبيه، ورفع الشبهة، بل قد روي عنهم ما دل عَلَى إبطاله 51 - فروى أَبُو بكر الخلال بإسناده عن أم سلمة أنها قالت فِي قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قالت: كيف غير معقول، والاستواء غير مجهول والإقرار به إيمان، والجحود به كفر فقد صرحت بالقول بالاستواء غير معقول وهذا يمنع تأويله عَلَى العلو وعلى الاستيلاء.

52 - وروى سعيد الجريري، عن سيف السدوسي، عن عبد الله بن سلام قَالَ: إذا كان يوم القيامة جيء بنبيكم، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأقعد بين يدي الله، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى كرسيه، قَالَ: فقلت: يا أَبَا مسعود إذا كان عَلَى كرسيه أليس هو معه؟ قَالَ: ويلكم هَذَا أقر حديث فِي الدنيا لعيني وفي لفظ آخر قَالُوا للجريري: إذا كان عَلَى الكرسي هو معه؟ قَالَ: نعم، ويلكم هو معه، هو معه فقد صرح بالأخذ بالحديث عَلَى ظاهره وأنكر عَلَى من يرد 53 - وكذلك حَمَّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قَالَ: قرأ رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} قَالَ: " وضع إبهامه عَلَى قريب من طرف أنملة خنصره فساخ الجبل "، قَالَ حميد لثابت: تقول هَذَا فدفع ثابت يده فضرب بها صدر حميد، وَقَالَ: يقوله رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقوله أنس وأنا أكتمه وفي لفظ آخر، قَالَ: فضرب صدره ضربة شديدة، وَقَالَ: من أنت يا حميد

وما أنت يا حميد يحدثني به أنس بن مالك، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تقول أنت ما تريد 54 - وروى أن قتادة بن النعمان دخل عَلَى أَبِي سعيد يعوده فوجده مستلقيا رافعا رجله اليمنى عَلَى اليسرى، فقرص النعمان رجل أَبِي سعيد قرصة شديدة، فقال أَبُو سعيد: سبحان الله يا ابن أخي أوجعتني قَالَ: ذاك أردت إن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إن الله لما قضى خلقه استلقى ثم رفع إحدى رجليه عَلَى الأخرى، ثم قَالَ: لا ينبغي لأحد من خلقي أن يفعل هَذَا "، فقال أَبُو سعيد: لا جرم والله لا أفعله فإن قيل: أليس قد أنكر بعضهم عَلَى أَبِي مسعود وعلى الجريري وعلى ثابت فقد حصل خلاف بينهم قيل: لما أمسكوا عن الجريري وعن أَبِي مسعود دل عَلَى أنهم أجابوا إلى ذَلِكَ.

55 - دليل آخر عَلَى إبطال التأويل: أن أَبَا الحسن الأشعري وأصحابه مثل أَبِي بكر بن الباقلاني، وأبي بكر بن فورك وأبي علي بن شاذان قد أثبتوا صفاتا لم يعقلوا معناها ولم يحملوها عَلَى مقتضى اللغة كالوجه واليدين والعين، ولم يحملوا الوجه عَلَى جملة الذات، واليدين عَلَى النعمتين، ولا العين عَلَى المرأى بل أثبتوها صفات ذات، لورود الشرع بها، وقد صرحوا بهذا فِي كتبهم ورأيت بعضهم يأبى ذَلِكَ ويتأول هَذِهِ الصفات، وهذا القائل يتشاغل بالكلام معه فِي هَذِهِ الصفات، فإذا ثبت الكلام فيها بنينا الأخبار عَلَى ذَلِكَ 56 - دليل آخر عَلَى إبطال التأويل، وذلك أن من حمل اللفظ عَلَى ظاهره حمله عَلَى حقيقته، ومن تأوله عدل به عن الحقيقة إلى المجاز، ولا يجوز إضافة المجاز إلى صفاته.

فإن قيل خبر الواحد إنما فيما طريقة العمل وأما فيما طريقة الاعتقاد والقطع فلا قيل: هَذِهِ وإن كانت أخبار آحاد فإن الأمة قد تلقتها بالقبول، منهم من حملها عَلَى ظاهرها وهم أصحاب الحديث ، ومنهم من تأولها وتأويلها قبول لها فإن قيل: فهل تكفرون من ردها أو تأولها؟ 57 - قيل: قد قَالَ أَحْمَد فِي رواية أَبِي طالب: من قَالَ إن الله خلق آدم عَلَى صورة آدم فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه 58 - وَقَالَ فِي رواية المروزي وقد سأله عن عبد الله التيمي فقال: صدوق، ولكن حكي عنه أنه ذكر حديث الضحاك فقال: مثل الزرع وهذا كلام الجهمية 59 - وَقَالَ فِي رواية الأثرم: وقد سأل أَحْمَد حدث محدث وأنا عنده بحديث: " يضع الرحمن قدمه فيها " وعنده غلام فأقبل عَلَى الغلام فقال: إن لهذا تفسيرا، فقال أَبُو عبد الله: أنظر إليه كما تقول الجهمية سواء فقد أطلق القول بأنه جهمي، وقد كفرهم ببعض أقوالهم ولم يكفرهم ببعض.

60 - فقال فِي رواية المروزي: وقد سأله عن القدري فلم يكفره إذا أقر بالعلم 61 - وَقَالَ فِي رواية حنبل: من قَالَ بالقدر وعظم المعاصي فهو أقرب مثل الحسن.

ذكر الأخبار

ذكر الأخبار 62 - مِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْفَضْلِ الْخَيَّاطُ، قَالَ: نا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى الْمَوْصِلِيُّ السَّكُونِيُّ، قَالَ: نا أَبُو مُزَاحِمٍ مُوسَى بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى الْمُقْرِئُ، قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: نا ابْنُ عَجْلانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ، وَلا يَقُلْ: قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَكَ وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وَجْهَكَ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ " 63 - وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ، قَالَ: نا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى الْمَوْصِلِيُّ السَّكُونِيُّ، قَالَ: نا أَبُو مُزَاحِمٍ مُوسَى بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ الْمُقْرِئُ، قَالَ: نا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: نا أَبُو مَعْمَرٍ، قَالَ: نا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا

تُقَبِّحُوا الْوَجْهَ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ " وذكره الدارقطني فِي جملة أخبار الصفات 64 - وحدثنا أَبُو مُحَمَّد الحسن بن مُحَمَّد فيما خرجه من أخبار الصفات، عن ابن شاهين، قَالَ: حَدَّثَنَا زيد بن مُحَمَّد الكوفي قاله، حَدَّثَنَا أَحْمَد بن منصور المدني، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن إسحاق المسيبي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سهل سعد بن سعيد بن أَبِي سعيد المقبري، عن أخيه عبد الله، عن أبيه، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، أن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إذا ضرب أحدكم مملوكه فليتق وجهه فإن الله إنما خلق آدم عَلَى صورة نفسه " 65 - وروى أَبُو حفص بن شاهين فِي سننه بإسناده، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا قاتل أحدكم أخاه فليتجنب الوجه، فإن الله خلق وجه آدم عَلَى صورته

66 - وروى عبد الرحمن بن منده فِي كتاب الإسلام بإسناده، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه فإن الله خلق آدم عَلَى صورته وجهه من الطين " أعلم أن هَذَا حديث صحيح 67 - قَالَ أَحْمَد فِي رواية ابن منصور: " لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم عَلَى صورته " وإذا ثبت صحته فغير ممتنع الأخذ بظاهره من غير تفسير ولا تأويل وقد نص عليه أَحْمَد فِي رواية يعقوب بن بختان: " خلق آدم عَلَى

صورته " لا نفسره كما جاء الحديث فقدم صرح بالقول بالأخذ بظاهره والكلام فيه فِي فصلين أحدهما: جواز إطلاق تسمية الصورة عليه سُبْحَانَهُ وقد ذكره ابن قتيبة فِي مختلف الحديث، فقال: الذي عندي والله أعلم أن الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين، إنما وقع الألف لمجيئها فِي القرآن، ووقعت الوحشة من هَذِهِ لأنها لمن تأت فِي القرآن ونحن نؤمن بالجميع هَذَا كلام ابن قتيبة.

الفصل الثاني: في إطلاق القول بأنه خلق آدم على صورته وأن الهاء راجعة على الرحمن

الفصل الثاني: فِي إطلاق القول بأنه خلق آدم عَلَى صورته وأن الهاء راجعة عَلَى الرحمن 68 - وقد روى أَبُو عبد الله بن منده بإسناده، عن إسحاق بن راهويه، قَالَ: قد صح عن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: " إن آدم خلق عَلَى صورة الرحمن " وإنما علينا أن ننطق به والوجه فيه أنه ليس فِي حمله عَلَى ظاهره ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحقه، لأننا نطلق تسمية الصورة عليه لا كالصور كما أطلقنا تسمية ذات ونفس لا كالذوات والنفوس يبين صحة هَذَا أن الصورة ليست فِي حقيقة اللغة عبارة عن التخاطيط وإنما هي عبارة عن حقيقة الشيء، ولهذا يَقُول عرفني صورة هَذَا الأمر

ويطلق القول فِي صورة آدم عَلَى صورته سُبْحَانَهُ لا عَلَى طريق التشبيه فِي الجسم والنوع والشكل والطول لأن ذَلِكَ مستحيل فِي صفاته وإنما أطلقنا حمل إحدى الصورتين عَلَى الأخرى تسمية لورود الشرع بذلك عَلَى طريق التعظيم لآدم كما قَالَ تَعَالَى فِي أزواج النبي: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} وليس بأمهات فِي الحقيقة لكن عَلَى وجه التعظيم، ولأن فيه معنى ينفرد به من بين سائر ذريته، وهو أنه لما وجد حيا كان كاملا لم ينتقل من حال صغر إلى كبر، ومن حال ضعف إلى قوة، ومن حال جهل إلى علم، كذلك الله تَعَالَى فِي حال وجوده كاملا لم ينتقل من نقص إلى كمالا، ولا يجوز أن يقال أن هَذَا المعنى موجود فِي خلق حواء وفي الملائكة لأنه وإن كان خلقهم عَلَى ذَلِكَ فآدم أكمل منهم لأن الله أسجدهم له، ولأنه قَالَ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ولأن حواء ناقصة بالأنوثية وليس فِي حمل إحدى الصورتين عَلَى الأخرى ما يوجب المساواة كما قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} ومعلوم أن آدم أفضل لأنه لم يخلق من نطفة، ولا اشتمل عليه رحم وعيسى وجد فِي ذَلِكَ، وكما قَالَ تَعَالَى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} ، وَقَالَ: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} ، {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وَقَالَ: {هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ولفظه أحسن وأرحم عَلَى وزن أفعل ولفظة أفعل تقتضي الاشتراك فِي الشيء، وقد شرك بينه وبين خلقه فِي هَذِهِ الصفات كذلك لا يمتنع الاشتراك فِي الصورة 69 - وقد روي عن ابن عباس ما دل أن الهاء راجعة عَلَى الرحمن، ذكره إسحاق بن بشر القرشي فِي كتاب المبتدأ بإسناده، عن ابن عباس، أن ملك

الروم كتب إلى معاوية يسأله عن مسائل منها: أخبرني عن أكرم رجل عَلَى الله، فانفذ بها معاوية إلى ابن عباس فقال: أكرم رجل عَلَى الله آدم خلقه بيده، ونحله صورته، ونفخ فيه من روحه، واسجد له ملائكته، وأسكنه جنته فقد نص عَلَى أنه نحله صورته فإن قيل: فصفوه بالجسم لا كالأجسام قيل: لا نصفه بذلك لأن الشرع لم يرد بذلك، وهذا كما وصفته أنت بأن له نفسا وحياة، ولا نصفه بأنه جسم وكذلك نصفه بأنه ذات وشيء ولا نصفه بأنه جسد فإن قيل: الهاء عائدة عَلَى المضروب لأن الخبر ورد عَلَى سبب 70 - وذلك أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مر برجل يضرب ابنه أو عبده فِي وجهه لطما، ويقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا ضرب أحدكم عبده فليتق الوجه فإن الله خلق آدم عَلَى صورته " يعني المضروب.

قيل: هَذَا غلط لوجهين: أحدهما: أن هَذَا يسقط فائدة التخصيص بآدم لأن آدم وغيره من الأنبياء والبشر مخلوقون عَلَى صورة المضروب بمعنى أن له وجها،

193 -وما أسقط فائدة التخصيص سقط فِي نفسه والثاني: أن فِي اللفظ " خلق آدم عَلَى صورة الرحمن " فإن قيل: إنما خص آدم بالذكر، لأنه هو الذي ابتديت خلقة وجهه عَلَى الحد الذي يحتذى عليها من بعده، كأنه عَلَى وجهه المبالغة فِي الردع له عن ذَلِكَ قيل: لو كان القصد المبالغة لقال: فإن الله خلق مُحَمَّد عَلَى صورته لأنه أفضل من آدم، فلما خص آدم بالذكر دل عَلَى أنه لمعنى فيه وجواب آخر: وهو أنه قد روي فِي لفظ آخر: " عَلَى صورة الرحمن وعلى صورة نفسه " وهذا يمنع حمله عَلَى المضروب فوجب أن يقضى بالمقيد عليه فإن قيل: الهاء ترجع عَلَى آدم ويكون رجوعها عليه لوجوه: أحدها: أن يعرفنا أنه خلق فِي الجنة عَلَى الصورة التي كان عليها فِي الدنيا لم يغير الله خلقته، ويكون فائدة ذَلِكَ تعريفنا الفرق بينه وبين سائر من أخرجه من الجنة معه من الحية والطاووس، فإنه عاقب الحية وشوه خلقها وسلبها قوائمها وجعل أكلها التراب وشوه رجلي الطاووس، ولم يشوه خلقة آدم بلى أبقى له حسن الصورة فعرفنا بذلك أنه كان فِي الجنة عَلَى الصورة التي هو عليها

قيل: هَذَا لا يصح لوجوه أحدها: أنه روي ما دل عَلَى تغير خلقه عن الصفة التي كانت عليها 71 - حَدَّثَنَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: نا أَبُو الْفَتْحِ الْقَوَّاسُ وَلَنَا مِنْهُ إِجَازَةٌ، قَالَ: قُرِئَ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَمَّادٍ، نا أَبُو يَحْيَى النَّاقِدُ، قَالَ: نا أَبُو صَالِحِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّبَذِيُّ، قَالَ: نا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمَّارٍ، نا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ آدَمَ لَمَّا هَبَطَ إِلَى الْهِنْدِ وَرَأْسُهُ يَكَادُ يَنَالُ السَّمَاءَ، وَأَنَّ الأَرْضَ شَكَتْ إِلَى رَبِّهَا ثِقَلَ آدَمَ قَالَ: فَوَضَعَ الْجَبَّارُ، جَلَّ اسْمُهُ، يَدَهُ عَلَيْهِ فَانْحَطَّ سَبْعِينَ بَاعًا، وَهَبَطَ مَعَهُ الْفَحْلُ وَالأُتْرُجُّ وَالْمَوْزُ، قَالَ أَبُو يَحْيَى النَّاقِدُ: يَقُولُونَ: الْفَحْلُ الذَّكَرُ مِنَ النَّخْلِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَغَيُّرِ خِلْقَتِهِ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ وجواب آخر: وهو أن هَذَا يسقط فائدة التخصيص لأن حواء لم يغير خلقها لما أخرجها من الجنة فوجب أن يكون لهذا التخصيص فائدة جواب آخر: وهو أنه قد روي: " خلق آدم عَلَى صورة الرحمن "، وهذا يمنع رجوع الهاء عَلَى آدم فإن قيل: فالهاء عائدة عَلَى آدم، ويكون المراد به أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أفادنا بذلك إبطال قول أهل الدهر إنه لم يكن إنسان إلا من نطفة ولا نطفة إلا من إنسان فيما مضى، ويأتي وليس لذلك أول ولا آخر وإن الناس إنما ينقلون من نشوء إلى نشوء عَلَى ترتيب معتاد ، فعرفنا تكذيبهم، وأن آدم خلق عَلَى صورته التي شوهد عليها من غير أن كان عن نطفة قبله وعن تناسل، أو تنقل من صغر إلى كبر كالمعهود من أحوال أولاده قيل: هَذَا غلط لأنه يسقط فائدة التخصيص بآدم لأن الملائكة خلقوا من غير نطفة ولا تناسل وكذلك عيسى خلق من غير نطفة قبله وغير تناسل، وقد قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}

ولأنا قد استفدنا إبطال قول الدهرية من غير هَذَا الموضوع وهو قوله خلقته من طين وجواب آخر: وهو أنه قد روي: " خلق آدم عَلَى صورة الرحمن " وهذا يمنع رجوع الهاء عَلَى آدم، فإن قيل: الهاء عائدة عَلَى آدم ويكون فائدته إعلامنا أنه لم يكن حادثا عن توليد عنصر أو تأثير طبع أو فلك أو ليل أو نهار إبطالا لقول الطبائعيين، أن بعض ما كان عليه آدم من هيئاته وصورته لم يخلقه الله، عَزَّ وَجَلَّ، بل كان فعل الطبع أو تأثير فلك، فبين بذلك أن الله تَعَالَى هو الخالق لآدم عَلَى ما كان فيه من الصور والتركيب، وإبطالا لقول القدرية أن من صفات آدم ما لم يخلقه الله وإنما خلقها آدم لنفسه قيل: هَذَا غلط لما بينا وهو أنه يسقط فائدة التخصيص بآدم لأن بقية البشر هَذَا المعنى موجود فيهم، وأن الله تَعَالَى هو الخالق وأنه لا صنع للطبيعة فيها والفلك فيه، ولأنه قد روي فِي لفظ آخر: " خلق آدم عَلَى صورة الرحمن " فإن قيل: إنما خص آدم بذلك تنبيها عَلَى أن من شاركه من المخلوقات فِي معناه، قيل: هَذَا غلط لما بينا من أن خلق عيسى فِي معنى خلق آدم بقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} فلا معنى لتخصيصه بذلك، ولأن قوله: " خلق آدم عَلَى صورة الرحمن " يمنع من ذَلِكَ فإن قيل: الهاء عائدة عَلَى آدم ويكون فائدة إشارة إلى ما تقدم أن الله خلق السعيد سعيدا والشقي شقيا، فلما خلق آدم وقد علم أنه يعصي ويخالف، وكتب ذَلِكَ عليه قبل أن يخلقه عرفنا ما سبق من قضائه وأنه هكذا خلقه عَلَى ما علم منه قيل: هَذَا غلط لما بينا أنه يسقط فائدة التخصيص بآدم لأن ولد آدم مخلوق عَلَى ما سبق قضائه من الشقاء والسعادة ولأنه قد روي فِي لفظ آخر: " خلق آدم عَلَى صورة الرحمن " فإن قيل: عود الهاء عَلَى آدم أولى لأنه أقرب المذكور، قيل: الهاء قد تعود تارة إلى الأقرب وتارة إلى الأبعد، قَالَ تَعَالَى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ

وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} فالهاء فِي قوله: وَتُسَبِّحُوهُ سورة الفتح آية عائدة عَلَى اسم الله تَعَالَى، وإن كان أبعد فِي اللفظ وذكر الرسول أقرب، ولأنه لو قَالَ قائل: ولد لفلان، ولد عَلَى صورته، عقل من ذَلِكَ صورة الأب وإن كان هو الأبعد فِي الخطاب، ولم يرجع ذَلِكَ إلى صفة الولد وإن كان هو الأقرب 72 - وقد صرح أَحْمَد بإبطال القول أن الهاء عائدة عَلَى آدم، فقال فِي رواية أَبِي طالب: من قَالَ أن الله خلق آدم عَلَى صورة آدم فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه 73 - وقد ذكر عبد الرحمن بن منده فِي كتاب الإسلام فقال: قَالَ أَبُو إسحاق إبراهيم بن أَحْمَد بن فراس فِي كتابه، عن حمدان بن علي، قَالَ: سمعت أَحْمَد بن حنبل يَقُول وسأله رجل فقال: يا أَبَا عبد الله، الحديث الذي روي عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أن الله خلق آدم عَلَى صورته " عَلَى صورة آدم قَالَ: فقال أَحْمَد بن حنبل: فأين الذي يروى عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أن الله تَعَالَى خلق آدم عَلَى صورة الرحمن، عَزَّ وَجَلَّ، "، ثم قَالَ أَحْمَد: وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلق 74 - قال: وأنا علي بن يحيى بن جعفر الإمام، قَالَ: أنا الطبراني، قَالَ: سمعت عبد الله بن أَحْمَد بن حنبل يَقُول : قَالَ رجل لأبي: إن فلانا يَقُول فِي حديث رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله خلق آدم عَلَى صورته " فقال: عَلَى صورة الرجل، قَالَ أَبِي: كذب هَذَا، هَذَا قول الجهمية، وأي فائدة فِي هَذَا

75 - قال: وروي إسماعيل بن أَحْمَد أَبُو سعد فِي كتاب السنة عن عبد الله بن أَحْمَد بن حنبل، قَالَ: كنا بالبصرة عند شيخ فحدثنا بحديث النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله، عَزَّ وَجَلَّ، خلق آدم عَلَى صورته "، فقال الشيخ: تفسيره: خلقه عَلَى صورة الطين، فحدثت بذلك أَبِي رحمه الله فقال: هَذَا جهمي أو قَالَ: هَذَا كلام الجهمية 76 - وقد ذكر أَبُو مُحَمَّد بن حيان الأصبهاني فِي مجموع له فِي التفسير فِي سورة حم عسق بخط أَبِي مالك المكي، فقال صاحب الكتابة، عن حمدان بن الهيثم المديني، سمعت أَبَا مسعود يَقُول: قَالَ أَحْمَد بن حنبل: معنى

حديث النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله خلق آدم عَلَى صورته "، قَالَ: صور آدم قبل خلقه ثم خلقه عَلَى تِلْكَ الصورة، فإما أن يكون الله خلق آدم عَلَى صورته، وقد قَالَ الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ولا نقول إن الله يشبهه شيء من خلقه، ولا يخفى عَلَى الناس أن الله خلق آدم عَلَى صورة آدم ولا يجوز أن يقال: لله كيف لأن الله لا يوصف بصفة الإنسان وقد قَالَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فذاك ربنا، عَزَّ وَجَلَّ، ليس كمثله أحد من خلقه 77 - قَالَ أَبُو طالب المكي: هَذَا توهم عن أَحْمَد إنما هَذَا قول أَبِي ثور فذكر ذَلِكَ لأحمد فأنكر عليه وَقَالَ: ويله وأي صورة كانت لآدم حتى خلقه عليها يَقُول: إن الله خلق عَلَى مثال، ويله فكيف يصنع بالحديث الآخر: " أن الله خلق آدم عَلَى صورة الرحمن " فهذا هو المحفوظ من قول أَحْمَد، وإنما التبس القولان فنسب ذَلِكَ إلى أَحْمَد لأن أَبَا ثور كان سئل عن قوله: " خلق آدم عَلَى صورته " فقال: الهاء عائدة عَلَى آدم فإن قيل: الزيادة المذكورة فِي حديث ابن عمر: " خلق آدم عَلَى صورة الرحمن " غير صحيحة، وقد قَالَ أَحْمَد في رواية المروذي: الأعمش يَقُول: عن حبيب بن أَبِي ثابت، عن عطاء، عن ابن عمر: " إن الله خلق آدم عَلَى صورة الرحمن "، وأما الثوري فيوقفه يعني حديث ابن عمر، وقد رواه أَبُو الزناد، عن الأعرج، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَلَى صورته " فيقول كما جاء فقد بين أَحْمَد أن

بعضهم وقفه وبعضهم وصله، قيل هَذِهِ الزيادة صحيحة ثابتة، حَدَّثَنَا بها أَبُو القسم عبد العزيز من الطريق الذي ذكرنا، وذكرها أَبُو الحسن الدارقطني فيما خرجه من أخبار الصفات، وذكرها أَبُو بكر أَحْمَد بن سلمان النجاد فِي السنة، وذكرها أَبُو عبد الله بن بطة فِي كتاب الإبانة، ولا يجوز أن يتطابق هَؤُلاءِ الحفاظ عَلَى نقل باطلة أو ضعيفة، والذي حكاه أَحْمَد عن الثوري وأنه وقفها لا يدل عَلَى ضعفها، لأنه لا يجوز أن لا تقع له هَذِهِ الزيادة وتقع لغيره، ومثل هَذَا لا ترد به الأخبار 78 - وعلى أن أَبَا القسم عبد الرحمن بن منده روى عن حمدان بن علي، قَالَ: سمعت أَحْمَد يَقُول وسأله رجل عن الحديث الذي روي عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله خلق آدم

عَلَى صورته " عَلَى صورة آدم، فقال أَحْمَد: فأين الذي يروى عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله خلق آدم عَلَى صورة الرحمن "، وهذا من أَحْمَد دليل عَلَى صحته فإن قيل لا يجوز أن تكون هَذِهِ الزيادة صحيحة لأنه لا يجوز هَذَا فِي اللغة، لأن ما تقدم ذكره بالاسم الظاهر فإنه إذا أعيد ذكره كني عنه بالهاء من غير إعادة اسمه الظاهر كقولك: زيد ضرب عبده ولا يقال زيد ضرب عبد زيد والمراد بزيد الثاني الأول، وإذا لم يكن سائغا من جهة اللغة، لم يكن للإستعمال له وجه قيل: هَذَا غلط لأنه قد يصح ذَلِكَ فِي العربية وقد ورد بذلك القرآن وأشعار العرب قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} ولم يقل إلينا أو إليه، وكان يجب عَلَى ما قالوه أن يَقُول إلينا لئلا يعيد الاسم الأول، لأن النون هي اسم الرحمن، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ولم يقل: وما يعبدون من دوننا، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} ولم يقل أنه يعلم، وَقَالَ تَعَالَى: ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله ولم يقل الحمد له، وَقَالَ الشعر وهو عدي بن زيد: لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقرا فأعاد ذكر الموت بلفظه، ولم يكن عنه بالهاء ولم يقل لا أرى الموت يسبقه شيء، وَقَالَ المتلمس: فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ... مساغا لنابيه الشجاع لصمما فأعاد ذكر الشجاع بلفظه.

فإن قيل: فالهاء ترجع عَلَى الله عَلَى وجهه وهو قوله: " عَلَى صورة الرحمن " بمعنى عَلَى صفاته، فيكون معنى الصورة معنى الصفة كما يقال عرفني صورة هَذَا الأمر أي صفته، وذلك أن الله تَعَالَى حي، عالم، قادر، سميع، بصير متكلم مريد، خلق آدم عَلَى صفته مما هي صفات الله تَعَالَى حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما مختارا مريدا فميزه من الجهاد ومن البهائم، وميزه من الملائكة بأن قدمه عليهم وأسجدهم له ويبين صحة هَذَا قوله تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} فعطف الصورة عَلَى خلق البنية قيل: حمله عَلَى هَذَا يسقط فائدة التخصيص بآدم لأن جميع ولد آدم بهذه الصفات لهم حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام وإرادة وكذلك الملائكة لهم هَذِهِ الصفات فأما قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} فيحتمل أن يكون معناه خلقناكم فصورناكم، كما قَالَ تَعَالَى فِي السورة التي يذكر فيها المؤمن: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى فِي السورة التي يذكر فيها التغابن: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} يبين صحة هَذَا أن هَذِهِ الصفات ليست غير ذاته فإن قيل: قوله " عَلَى صورة الرحمن " معناه: عَلَى مصور الرحمن، كما يقال هَذِهِ الدار صورة فلان البناء معناه: مصوره فسمى الصورة باسم صورته قيل: هَذَا غلط لأنه يسقط فائدة التخصيص بآدم لأن جميع الخلق عَلَى مصور الرحمن

فإن قيل: معنى قوله " عَلَى صورة الرحمن " أن أسجد له ملائكته كما أسجدهم لنفسه، قيل: لا يصح هَذَا من وجوه: أحدها: أن فِي رواية ابن شاهين: " فإن الله خلق وجه آدم عَلَى صورته " الثاني: أن الصورة عبارة عما اختصت الذات، ولهذا قَالَ تَعَالَى: {صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} والسجود له يرجع إلى المرتبة والرفعة فلا يوصف بالصورة، ولهذا يقال: رأيت الأمير فِي مرتبة حسنة، إذا رآه وقد سجد له جنده، ويقول: رأيته فِي صورة حسنة يريد بذلك معنى يرجع إلى ذاته فِي اللون والقد ونحوه الثالث: أن سجود الملائكة له يقتضي اختصاصه بمزية وذلك لا يوجب المشاركة فِي تسمية الصورة كما لم يوجب ذَلِكَ فِي حق عيسى مع اختصاصه بإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص، وهمذا يدل عَلَى أن هَذِهِ تسمية شرعية لا يعقل معناها وقد قَالَ أَحْمَد فِي رواية المروذي: أما الأعمش فيقول عن حبيب بن أَبِي ثابت، عن عطاء، عن ابن عمر، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله خلق آدم عَلَى صورة الرحمن " فنقول كما جاء الحديث 79 - وقد ذكر أَبُو إسحاق بن شاقلا فِي جملة ما جرى له فِي مناظرته لأبي سُلَيْمَان الدمشقي عَلَى قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خلق آدم عَلَى صورته " وأن الهاء غير راجعة عَلَى آدم، فقال أَبُو سُلَيْمَان: قد جاء فِي الحديث عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

: " أن الله خلق آدم عَلَى صورة آدم "، فقال أَبُو إسحاق: هَذَا كذب عَلَى رسول الله، فقال الدمشقي: بلى قد جاء فِي الحديث: " طوله ستون ذراعا " فعلمت أنه آدم، فقال له أَبُو إسحاق: قد روى هَذَا وليس هو الذي ادعيت عَلَى رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنك قلت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله خلق آدم عَلَى صورة آدم " ثم قَالَ أَبُو إسحاق: إن كانت هَذِهِ الزيادة محفوظة كان قوله: " خلق آدم عَلَى صورته " تم الكلام، ثم قَالَ: " طوله ستون ذراعا " إخبارا عن آدم بدلالة ما روي جرير، عن الأعمش، عن حبيب بن أَبِي ثابت، عن عطاء، عن ابن عمر، عن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تقبحوا الوجوه فإن الله خلق آدم عَلَى صورة الرحمن " قَالَ أَبُو إسحاق: هَذَا الحديث يذكر إسحاق بن راهويه أنه صحيح مرفوع وأما أَحْمَد فذكر أن الثوري وقفه عَلَى ابن عمر وكلاهما حجة لأنه إن كان مرفوعا فقد سقط العذر، وإن كان من قول ابن عمر فهو أولى 80 - ورأيت فِي أخبار أَبِي الحسن بن بشار الشيخ الزاهد رواية أَبِي حفص عمر بن أَحْمَد بن إبراهيم البرمكي، عن أبيه، قَالَ: كنت أسمع الشيخ إذا دعا يَقُول فِي دعائه: اللهم صل عَلَى أبينا آدم الذي خلقته بيدك وأنحلته صورتك وأسجدت له ملائكتك، وزوجته حواء أمتك، فسبق عليه قضاؤك وقدرك فأكل من الشجرة وأهبطته إلى أرضك وهذا من أَبِي الحسن استنباط من لفظ الخبر، وناهيك بأبي الحسن من زاهد وعالم حديث آخر فِي الصورة

81 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيُّ الزَّاهِدُ، قَالَ: نا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ، قَالَ: نا أَبُو الْعَبَّاسِ الْبَرَاثِيُّ، قَالَ: نا عُثْمَانُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: نا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تُقَبِّحُوا الْوَجْهَ، فَإِنَّ ابْنَ آدَمَ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ " 82 - وأنا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: نا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: نا أَبُو عَلِيٍّ بِشْرُ بْنُ مُوسَى بْنِ صَالِحٍ الأَسَدِيُّ، قَالَ: نا أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: نا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ، فَإِنَّ وَجْهَ ابْنِ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ "

83 - وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلالُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ، فَإِنَّ صُورَةَ الإِنْسَانِ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ " 84 - ورواه ابن بطة بإسناده، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن صورة الإنسان عَلَى وجه الرحمن " 85 - وذكر إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد الختلي فِي كتاب العظمة بإسناده عن ابن عباس، قَالَ: غضب موسى عَلَى قومه فِي بعض ما كانوا يسئلونه، فلما نزل الحجر، قَالَ: اشربوا يا حمير، فأوحى الله إليه: تعمد إلى عبيد من عبيدي خلقتهم عَلَى مثل صورتي فتقول: اشربوا يا حمير، قَالَ: فما برح حتى أصابته عقوبة أعلم أنه يجب أن يحمل قوله فإن ابن آدم، وإن وجه ابن آدم خلق عَلَى صورة الرحمن المراد به: آدم، فحذف المضاف وهو آدم وأقام المضاف إليه وهو ابن آدم مقامه، وقد جاء القرآن بهذا قَالَ تَعَالَى فِي سورة الكهف: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} وتقديره: خلق أباك آدم من تراب ثم أنشأك من نطفة وكذلك قَالَ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} وتقديره: خلق أباكم آدم من تراب ثم أنشأكم من نطفة، هكذا ذكره

أَبُو بكر من أصحابنا فِي تفسيره وقال تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} وتقديره: أخذ ربك من ظهر آدم الذرية وأضاف ذَلِكَ إلى بنيه، يدل عليه ما رواه أَبُو بكر فِي كتاب التفسير بإسناده عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن هَذِهِ الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} فقال عمر: سمعت رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هَؤُلاءِ إلى الجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هَؤُلاءِ إلى النار وبعمل أهل النار يعملون " وذكر الخبر

فقد فسر النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن الأخذ كان من ظهر آدم، وإن كانت الإضافة إلى بنيه فإن قيل: فلم أضاف الفعل إلى بنيه والفعل كان واقعا فيه قيل: لأن الفعل كان واقعا عليه وعلى بنيه لأنه استخرج كل ذرية تخلق إلى يوم القيامة من ظهره ومن ظهر ذريته، فيجوز أن تكون الإضافة حصلت إليهم لأنهم الأكثر ومثل هَذَا قوله تَعَالَى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا} يعني آدم وحواء {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} يعني: لما ولد لهما ولدا سموه عبد الحارث الذي هو إبليس، فقال سُبْحَانَهُ: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} يعني: إضافتهم الولد إلى عبد الحارث، وحصلت الكناية عنهم بلفظ الجمع لأنها لو رجعت إليهما لكانت بلفظ التثنية فيقول: فتعالى عما يشركان وقال تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} والمراد بذلك آدم

وقد ذكر ابن قتيبة هَذَا فِي مختلف الحديث أن معنى قول {خَلَقْنَاكُمْ} المراد به خلقنا آدم فإن قيل: إذا حملتم الكلام عَلَى آدم كان ذَلِكَ تأويلا للخبر وقد منعتم من التأويل قيل: ليس هَذَا بتأويل وإنما هو بيان أن هناك محذوف مقدر يشهد لظاهر القرآن ونحن لا نمنع من ذَلِكَ، وهذه طريقة صحيحة ويكون لآدم مزية بالذكر عَلَى ذريته

حديث آخر فِي الصورة 86 - رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلالُ بِإِسْنَادِهِ فِي سُنَنِهِ، فَقَالَ: أنا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، قَالَ: نا أَبُو دَاوُدَ الْمُبَارَكِيُّ، قَالَ: نا حَمَّادُ بْنُ دُلَيْلٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، أَوْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَابِطٍ، قَالَ: نا حَمَّادُ بْنُ دُلَيْلٍ، وَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي رَأَيْتُ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَقَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ قَالَ: قُلْتُ: لا أَدْرِي، فَوَضَعَ يَدَهُ حَتَّى وَجَدْتُ فَذَكَرَ كَلِمَةً ذَهَبَتْ عَنِّي ثُمَّ قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى، وَذَكَرَ الْخَبَر

َأعلم أن الكلام فِي هَذَا الخبر فِي فصول: أحدها: فِي إثبات ليلة الإسراء وصحتها الثاني: فِي إثبات رؤيته لله تَعَالَى فِي تِلْكَ الليلة الثالث: فِي وضع الكف بين كتفيه الرابع: فِي إطلاق تسمية الصورة عليه الخامس: قوله: لا أدري لما سأله فيم يختصم الملأ الأعلى أما الأول: فهو أن الإسراء من مكة إلى بيت المقدس ومن بيت المقدس إلى السموات صحيح وأنه كان يقظة، وقد نص أَحْمَد عَلَى هَذَا فِي رواية المروذي ، وحكي له عن موسى بن عقبة أنه قَالَ: إن أحاديث الإسراء منام، فقال: هَذَا كلام الجهمية، وجمع أحاديث الإسراء فأعطاينها وَقَالَ: منام الأنبياء وحي 87 - وَقَالَ يعقوب بن بختان: سألت أَبَا عبد الله عن المعراج فقال: رؤيا الأنبياء وحي، فقد أثبت ليلة الإسراء وأنكر قول من قَالَ إنها منام، وقوله: رؤيا الأنبياء وحي معناه: أنها لو كانت مناما لكانت وحيا لأنهم أعينهم تنام وقلوبهم لا تنام والدلالة عَلَى صحته وإثباتها وجوه أحدها: قوله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}

وهذا يدل عَلَى ثبوت الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ويدل عَلَى ثبوته إلى السماء قوله تَعَالَى: {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} فإن قيل: المراد به جبريل قيل: بل المراد به النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه تقدم ذكر النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر جبريل بقوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} هَذَا كله كناية عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله بعده: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ} المراد به جبريل وقوله: {فَاسْتَوَى} يعني النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، استوى عَلَى الشريعة ، ثم قَالَ بعد ذَلِكَ: {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} فعادت الكناية إلى أقرب المذكور وهو النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ومنها دليل آخر قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} يعني مرة أخرى {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} والمراد به نبينا فأخبر أن رؤيته كانت عند سدرة المنتهى وهي فِي السماء السادسة فإن قيل: المراد به رؤية جبريل لربه، قيل: لا يصح لوجهين: أحدهما: أنه قد تقدم ذكرهما وأقرب المذكور النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه قَالَ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} والمراد به النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن الوحي كان إليه، ثم قَالَ بعده: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} والثاني قوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} والمماراة إنما كانت بين قريش وبين النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم تكن بينها وبين جبريل فإن قيل: يحتمل أن يكون جبريل عند السدرة والنبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الأرض خرقت له الحجب قيل: لو كان كذلك لنقل ذَلِكَ لأنه من أعظم المعجزات 88 - الدليل الثاني: أن فِي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ فيما خرجه أَبُو عبد الله بن بطة، قَالَ: لما رجع النبي ليلة أسري به بلغ ذا طوى فشدد بنو عبد المطلب يلتمسونه، قَالَ: فصرخ به العباس فأجابه، قَالَ: لبيك، قَالَ: أين كنت ابن أخي الليلة؟ قَالَ: أتيت بيت المقدس، فقال رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا جبريل إن قومي لا يصدقوني "، قَالَ: يصدقك أَبُو بكر الصديق وهذا صريح فِي نقل جسمه من موضعه

89 - الثالث: ما روى أَبُو بكر الخلال وغيره، عن عكرمة، عن ابن عباس فِي قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ، قَالَ: هي رؤيا عين أريها ليلة أسري به فقد أثبت ابن عباس الإسراء والرؤية الرابع: أنه جعل ذَلِكَ حسرة عَلَى الكافرين فقال: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} يعني أهل مكة، وذلك أنه كان قد جعل المطعم بن عدي حوضا يسقي عليه بأمر بهدمه، وَقَالَ: والله لا أسقي عليه حسدا لرسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا حدث بما رآه من كرامة الله، وهذا لا يكون بالمنام لأنهم يقولون يجوز أن يكون هَذَا من أحلام المنامات الخامس: أن أول فروض الخمس فرضت فِي تِلْكَ الليلة، وذلك أنه كان يصلي بمكة صلاتين أول النهار ركعتين وآخره ركعتين إلى ليلة الإسراء، ففرض عليه خمسون صلاة وفرض عليه غسل الجنابة سبع مرار، والغسل من البول سبع مرار، فما زال به موسى وربه حتى انتهت إلى خمس، وغسل الجنابة والبول مرة واحدة، فنسخ الثاني الأول ولا يجوز أن ينسخ منام ليقظة.

السادس: لو كان مناما لم ينكره المشركون ولا كان معجزا ولا طلبوا منه دليلا عَلَى قوله بما قد عرفوه من الطريق والمسجد وصفته، لأن الذي يرى فِي المنام لا يطالب بجميع ما يكون فِي ذَلِكَ البلد الذي رأى نفسه فيه، ولا ينكر عليه رؤيته لأن كل أحد يرى أعظم من هَذَا، فلما أنكروا عليه علم أنه إنما قَالَ لهم ذَلِكَ فِي اليقظة، وهذا جواب جيد 90 - وقد روى أَبُو حفص بن شاهين فِي كتاب السنة بإسناده عن ابن عباس، قَالَ: قَالَ رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لما كان ليلة أسري بي أصبحت بمكة فضقت بأمري وعرفت أن الناس تنكرني، قَالَ: فقعد رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، معتزلا حزينا، فمر به أَبُو جهل فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ قَالَ: نعم إني أسري بي الليلة، قَالَ: إلى أين؟ قَالَ: إلى بيت المقدس، قَالَ: ثم أصبحت بين ظهرانينا، قَالَ: نعم، قَالَ: فلم يره أن يحدثه مخافة أن يجحد الحديث إن دعا قومه إليه، فقال: أتحدث قومك ما حدثتني إن دعوتهم إليك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا، قَالَ: فجاءوا حتى جلسوا إليهما، فقال: حدث قومك بما حدثتني، فقال رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنه أسري بي الليلة، قَالُوا: إلى أين؟ قَالَ: إلى بيت المقدس، قَالَ: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فمن بين مصفق ومن بين واضع يده عَلَى رأسه متعجبا، فقالوا: هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ قَالَ: وفي القوم من قد سافر إلى ذَلِكَ البلد، ورأى المسجد، قَالَ رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فذهبت أنعت لهم فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت، قَالَ: فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو عقال، فنعته وأنا أنظر إليه، فقال القوم: أم النعت فوالله قد أصاب

91 - السابع: ما رواه ابن شاهين بإسناده، عن أنس: " أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أتي بالبراق ليلة أسري به مسرجا ملجما ليركبه فاستصعب عليه، فقال جبريل: ما يحملك عَلَى هَذَا فوالله ما ركبك أحد قط أكرم عَلَى الله من مُحَمَّد، قَالَ: فأرفض عرقا " ولو كان هَذَا مناما لقال أنس: رأي النبي فِي المنام كأنه أتي بالبراق ولم يذكر ذَلِكَ مطلقا الثامن: أنه لو كان مناما فهو فِي حكم اليقظة لأن رؤيا الأنبياء وحي، عَلَى ما قَالَ أَحْمَد، والوجه فيه رؤيا إبراهيم، عَلَيْهِ السَّلامُ، أنه يذبح ابنه فكان ذَلِكَ أمرا من الله بقوله افعل ما تؤمر 92 - وروى ابن منده بإسناده، عن عكرمة، عن ابن عباس، قَالَ: كانت رؤيا الأنبياء وحي 93 - وبإسناده عن معاذ بن جبل، أن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما رأى فِي نومه وفي يقظته فهو حق.

الفصل الثاني في إثبات رؤيته لله سبحانه في تلك الليلة

الفصل الثاني فِي إثبات رؤيته لله سُبْحَانَهُ فِي تِلْكَ الليلة 91 - وقد اختلفت الرواية عن أَحْمَد فِي ذَلِكَ فروى أَبُو بكر المروزي قَالَ: قلت لأبي عبد الله: إن قوما يقولون إن عائشة قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية، فبأي شيء تدفع قول عائشة قَالَ بقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رأيت ربي "، وقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أكبر من قولها 92 - وقيل له: إن رجلا يَقُول: أنا أقول أن الله يرى فِي الآخرة ولا أقول إن محمدا رأى ربه فِي الدنيا، فقال: هَذَا أهل أن يخفى ما اعتراضه فِي هَذَا الموضوع يسلم الخبر

كما جاء وظاهر هَذَا من كلامه إثبات الرؤية فِي ليلة المعراج، وهذه الرواية اختيار أَبِي بكر النجاد وأنا أحكي كلامه فِي آخر الفصل 93 - ونقل حنبل قَالَ: قلت لأبي عبد الله: النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رأى ربه؟ قَالَ: رؤيا حلم رآه بقلبه وهذا يقتضي نفي الرؤية فِي تِلْكَ الليلة 94 - ونقل الأثرم، عن أَحْمَد أنه حكى له قول رجل يَقُول: رآه ولا أقول بعينه ولا بقلبه، فقال أَبُو عبد الله: هَذَا حسن وظاهر هَذَا إطلاق الرؤية من غير تفسير بعين أو قلب والرواية الأولى أصح، وأنه رآه فِي تِلْكَ الليلة بعينيه وهذه المسألة وقعت فِي عصر الصحابة، وكان ابن عباس وأنس وغيرهما يثبتون رؤيته فِي ليلة المعراج، وكانت عائشة تنكر رؤيته بعينه فِي تِلْكَ الليلة، والدلالة عَلَى إثبات رؤيته قوله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ} فوجه الدلالة أنه تَعَالَى قسم تكليمه لخلقه عَلَى ثلاثة أوجه: أحدها: بإنفاذ الرسل، وهو كلامه لسائر الأنبياء والمكلفين والثاني: من وراء حجاب هو تكليمه موسى، عَلَيْهِ السَّلامُ، وهذا الكلام بلا واسطة لأنه لو كان بواسطة دخل تحت القسم الذي ذكرنا وهو إنفاذ الرسل الثالث: من غير رسول، ولا حجاب وهو كلامه لنبينا فِي ليلة الإسراء إذ لو كان من وراء حجاب أو كان رسولا دخل تحت القسمين ولم يكن للتقسيم فائدة فتثبت أنه كان كلامه له عن رؤية ويدل عليه قوله تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} أي كلمه

بما كلمه بلا واسطة ولا ترجمان {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} فالظاهر يقتضي أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما رأى الله بعيني رأسه ليلة المعراج عند سدرة المنتهى لم يكذب فؤاده ما رآه بعيني رأسه 95 - وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا حَدَّثَنَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: نا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو الْحَسَنِ التَّمَّارُ، قَالَ: نا أَبُو بَكْرٍ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي مَعْمَرٍ الصَّفَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَرْبِ بْنِ الْحَكَمِ الأَشْعَرِيُّ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: نا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} قَالَ: رَأَيْتُ رَبِّي، جَلَّ اسْمُهُ، مُشَافَهَةً لا شَكَّ فِيهِ، وَفِي قَوْلِهِ: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} ، قَالَ: رَأَيْتُهُ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ نُورُ وَجْهِهِ " 96 - وروى أَبُو بكر الخلال، عن عكرمة، عن ابن عباس {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قَالَ: هي رؤيا عين أريها النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليلة أسري به

97 - وروى أَبُو القسم عبيد الله بن أَحْمَد بن عثمان فيما خرجه من أخبار الصفات بإسناده، عن ابن عباس، قَالَ: كانت الخلة لإبراهيم، عَلَيْهِ السَّلامُ، والكلام لموسى، عَلَيْهِ السَّلامُ، والرؤية لمحمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 98 - وروى أَبُو حفص بن شاهين فِي سننه بإسناده، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس: رأى مُحَمَّد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ربه، عَزَّ وَجَلَّ، بعينيه مرتين 99 - وروى أَبُو حفص بإسناده، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قَالَ: رأى رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ربه بفؤاده مرتين 100 - وروى أيضا بإسناده عن عكرمة، عن ابن عباس، قَالَ: رأى مُحَمَّد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ربه

بقلبه وهذا الاختلاف عنه ليس براجع إلى ليلة المعراج إنما هو راجع إلى رؤيته فِي المنام فِي غير تِلْكَ الليلة رآه بقلبه عَلَى ما نبينه فما بعد، وما رويناه عن ابن عباس أولى مما روي عن عائشة لأن قول ابن عباس يطابق قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أثبت رؤيته فِي تِلْكَ الليلة، ولأنه مثبت والمثبت أولى من النافي، ولا يجوز أن يثبت ابن عباس ذَلِكَ إلا عن توقيف إذ لا مجال للقياس فِي ذَلِكَ فإن قيل: قوله: رأيت ربي إنما هو بكسر الراء، وهو اسم كان لعثمان، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رآه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي النوم عَلَى تِلْكَ الصفات، أو يكون المراد التابع من الجن رآه عَلَى تِلْكَ الصفات قيل: لفظ الخبر يسقط هَذَا السؤال لأنه قَالَ له: " فيم يختصم الملأ الأعلى " وهذا لا يقوله أحد من البشر ، ولأنه قَالَ: " فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي " وليس أحد له هَذَا من المخلوقين 101 - وقد حكى القاضي أَبُو علي، عن أَبِي بكر بن سُلَيْمَان النجاد رحمه الله أنه قَالَ: رأى محمدا ربه إحدى عشرة مرة منها بالسنة تسع مرات فِي ليلة المعراج حين كان يتردد بين موسى وبين الله، عَزَّ وَجَلَّ، يسأل أن يخفف عن أمته الصلاة فنقص خمسة وأربعين صلاة فِي تسع مقامات ومرتين بالكتاب.

الفصل الثالث وضع الكف بين كتفيه

الفصل الثالث وضع الكف بين كتفيه وقد روي بألفاظ ففي: 102 - حديث أَبِي عبيدة بن الجراح: " فوضع يده حتى وجدت " وذكر كلمة نسيها الراوي 103 - وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رواه أَبُو بكر الخلال، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " أتاني ربي فِي أحسن صورة، فقال: يا مُحَمَّد أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا، فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي 104 - وناه أَبُو القسم عبد العزيز بإسناده، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ فوجدت برد أنامله بين ثديي 105 - وفي رواية ابن عباس فِي موضع آخر: " فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي " وأعلم أنه ليس فِي حمل هَذَا الخبر عَلَى ظاهره ما يحيل صفاته، ولا يخرجها عما تستحقه، لأننا نثبت كفا كما أثبتنا يدين وسمعا وبصرا ووجها، لا عَلَى وجه الجوارح والأبعاض، وليس أثبات تِلْكَ الصفات بأولى من إثبات الكف، لأننا نطلق اسم الوضع بين كتفيه كما أطلقنا خلقه لآدم بيديه فما يتطرق عَلَى

هَذَا يتطرق مثله هناك، ورأيت بعضهم يَقُول غير ممتنع أن تلاقي كف الصفة لكتفي النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا عَلَى منع ملاقاة الجسم للجسم، لكن عَلَى معنى ملاقاة الجسم لنور الشمس والقمر، قَالَ: وهذا ظاهر ما جاء فِي الحديث: " فوجدت بردها بين كتفي " ولأنه ليس فِي الملاقاة أكثر من مقاربة المحدث من القديم 106 - وقد جاء الشرع بذلك فروى: " إن الله يدني عبده حتى يضع عليه كتفه "، ولأنه قد قَالَ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} ، قَالَ: يقعده معه عَلَى العرش، ولأن هَذَا غير ممتنع عَلَى أصل من أثبت

أنه عَلَى العرش، لأنه إذا كان بجهة تصح الإشارة إليه فيها ويصح النظر منها وإنما يمتنع عَلَى أصل من نفى كونه بجهة يشار إليه فيها فإن قيل: الكف هاهنا بمعنى القدرة كما قَالَ القائل: هون عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها يعني فِي قدرته تقديرها وتدبيرها، فعلى هَذَا يكون اعتراف النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بالعجز وإقراره بعد وضع الكف إنما هو إقرار بقدرة الله تَعَالَى عَلَى ما فعل به من التعطف واللطف حتى عرف ما لم يعرفه، أو يكون المراد بالكف النعمة والمنة والرحمة، ومنه قوله: لي عند فلان يد بيضاء أي نعمة منه كاملة فيكون إخبارا عن نعمة الله وفضله وإقباله عليه بأن شرح صدره ونور قلبه ما لم يعرفه قيل: هَذَا غلط لأنه إن جاز تأويل الكف عَلَى ما قالوه جاز تأويل قول {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} عَلَى ذَلِكَ، ولأن قدرته ونعمته لا تختص الكفين بل هي عامة فِي جميع مقدوراته، وما قاله الشاعر من أن الأمور بكف الإله مقاديرها، لا يشبه هَذَا لأنه قد فسر ما بكفه وهو تقدير الأمور وذلك لا يختص الكف لأنه صفته، وتدبير الأشياء لا يحصل بالصفات وإنما يحصل بالذات فأما هاهنا فإنما أضاف إلى الكف فعلا، كما أضاف إلى اليد فعلا وهو خلق آدم فإن قيل: قوله: " بين كتفي " معناه أوصل إلى قلبه من لطفه ونوره وفوائده، لأن القلب بين الكتفين وهو محل الأنوار العلوم قيل: هَذَا غلط لأن القلب لا يوصف بوضع الكف فيه وإنما يوصف ذَلِكَ بالكتفين فإن قيل: قوله: " فوجدت بردها " يحتمل برد النعمة بمعنى روحها وأثرها من قولهم: عيش بارد إذا كان رغدا فِي رفاهية وسعة.

قيل: هَذَا غلط لما بينا أن الكف ليس معناه النعمة وإذا لم يكن معناه النعمة لم يصح التأويل عليه فإن قيل: قوله: " فوجدت برد أنامله " يحتمل آثار إحسانه ونعمه ورحمته فِي صدري فتجلى لي ما بين السماء والأرض، قيل: هَذَا غلط لما بينا من أن إحسانه ونعمه لا يختص القلب والكف والأنامل، ولأنه إن جاز تأويل الأنامل عَلَى ذَلِكَ جاز تأويل اليدين عَلَى النعمتين والوجه عَلَى الذات.

الفصل الرابع جواز إطلاق تسمية الصورة عليه

الفصل الرابع جواز إطلاق تسمية الصورة عليه وقد بينا جواز ذَلِكَ فِي الخبر الذي قبله، وقد بينا أنه لا يمتنع إطلاق ذَلِكَ لا عَلَى وجه الأبعاض والجوارح كما جاز إطلاق نفس وذات فإن قيل: ذكر الصورة يرجع إلى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويكون المعنى: رأيت ربي وأنا فِي أحسن صورة كما يقوله القائل: رأيت الأمير فِي أحسن صورة وزي قيل: هَذَا غلط لأنه لم ينقل أن صفة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تغيرت فِي تِلْكَ الليلة، ولو كان لنقل كما نقل غيره من المخاطبة ووضع الكف وغير ذَلِكَ وعلى أنه قد روي فِي الخبر ما يمنع من هَذَا بقوله: " رأيت ربي فِي صورة شاب عَلَى وجهه فراش وفي رجليه نعلان " ولو كانت الصفة راجعة إلى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لقال: عَلَى وجهي وفي رجلي فإن قيل: فيحتمل أن تكون الصورة راجعة إلى الله تَعَالَى بمعنى أنه يحسن خلق من يشاء كما يقبح خلق من يشاء لأن أفعل قد تجيء عَلَى معنى يفعل كما وصف نفسه بأنه حكيم والمراد به محكم لما يفعله، قيل: هَذَا غلط لأنه يسقط فائدة التخصيص بتلك الليلة لأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يزل مشاهدا لأفعاله فِي خلقه من تحسين وتقبيح، فحمله عَلَى هَذَا يسقط فائدة التخصيص بتلك الليلة

فإن قيل: فيحتمل أن تكون الصورة راجعة إلى الله تَعَالَى بمعنى الصفة من توفر الرب عليه فِي الأنعام والإقبال عليه، فيكون حسن الصورة يرجع إلى حسن الأفعال به والإكرام قيل: هَذَا يسقط فائدة التخصيص بتلك الليلة، لعلمنا بأنه نعمه عليه كانت ظاهرة بقيام المعجزات فِي المواضع التي تظهر النعم فيها، ولأنه إن صح هَذَا التأويل هاهنا وجب أن يصح مثله فِي قوله: " إنكم ترون ربكم يوم القيامة " عَلَى معنى صفته توفر أنعامه وأفضاله عَلَى أهل الجنة فإن قيل: فقد ذكر النقاش فِي شفاء الصدور فِي تفسير قوله تَعَالَى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} فقال: قَالَ عمرو بن عثمان: رأيت عبد الله بن أَحْمَد بن حنبل فِي المسجد الحرام فِي الحجر تحت الميزاب فقلت له: يا أَبَا عبد الرحمن: أيش كان مذهب الشيخ فِي قول: " رأيت ربي فِي أحسن صورة "، قَالَ: رأيته فِي أحسن مكان قالوا: وهذا ينفي الصورة قيل: الرواية الصحيحة عنه ما ذكرنا من إثبات الصورة اه.

الفصل الخامس قول النبي، صلى الله عليه وسلم: " لا أدري " لما قيل له: " فيم يختصم الملأ الأعلى "

الفصل الخامس قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا أدري " لما قيل له: " فيم يختصم الملأ الأعلى " قيل: فيه وجهان: أحدهما: أنه يحتمل أنه كان يعلم لكن استعمل حسن الأدب بحضرة من هو أعلم به، حتى لا يدعي ذَلِكَ بحضرة من هو أعلم كما قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} وقيل: إنه يحتمل أنه لم يعلم ثم علم بعد ذَلِكَ ما بين المشرق والمغرب بأن زويت له الأرض كما روي فِي الحديث: " زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها "

فصل: هل أحيا الله لنبيه الأنبياء في ليلة الإسراء أم نشر أرواحهم في مثل صورهم

فصل: هل أحيا الله لنبيه الأنبياء فِي ليلة الإسراء أم نشر أرواحهم فِي مثل صورهم 107 - فذكر أَبُو إسحاق فِي تعاليقه فِي كتاب التفسير فِي قوله تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} الآية قَالَ سعيد بن جبير: أحيا الله له الأنبياء حتى سألهم وعلى هَذَا كلام موسى وغيره 108 - وذكر أَبُو بكر عبد العزيز فِي كتاب التفسير فِي هَذِهِ الآية قولين: أحدهما: سل أهل الكتاب أما كانت الرسل تأتيهم بالتوحيد، أما كانت تأتي بالإخلاص حكاه عن قتادة

والثاني: قول سعيد بن جبير، قَالَ: لقي الرسل ليلة أسري به، ثم، قَالَ: كما قَالَ سعيد بن جبير، وهو أحسن التأويلين إذا كان قد لقيهم، وظاهر كلام أَبِي بكر وأبي إسحاق الأخذ بقول سعيد وقد قيل: إن أرواحهم نشرت فِي مثل صورهم 109 - وقد جاء هَذَا فِي حديث المعراج فِي رواية أَبِي حفص بن شاهين وأبي طالب بن العشاري قَالَ فيه: " ثم أتينا بيت المقدس فنشر لي أرواح الأنبياء فصليت معهم " فبين أن النشر كان عَلَى الأرواح، وقد ذكر أَبُو بكر الخلال فِي كتاب السنة هَذِهِ اللفظة.

فصل ثان يتعلق بليلة الإسراء

فصل ثان 110 - يتعلق بليلة الإسراء في قوله تَعَالَى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} هل الكناية فِي التدلي عن الله سُبْحَانَهُ أم عن جبريل؟ فذكر أَبُو بكر فِي كتاب التفسير فِي هَذِهِ الآية قولين: أحدهما: أنه جبريل عن مجاهد والحسن فِي رواية 111 - والثاني: أنه الله سُبْحَانَهُ حكاه عن ابن عباس وعطاء وعكرمة والحسن، واختار هَذَا القول، والوجه فيه: أن رؤيته لجبريل قد سبقت مرارا لا تحصى فلا فائدة فِي إثباتها فِي تِلْكَ الليلة، إذ كان المقصود بذلك حصول الفضيلة له وعلو المنزلة، ولأنه قَالَ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} والوحي إنما يكون من الله تَعَالَى فقوله: فأوحى كناية عمن تقدم

ذكره وهو المتدلي، فعلم أن المتدلي هو الذي يوحي وهو الله تَعَالَى، وقد شهد الكتاب والسنة لما قاله أَبُو بكر قَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} وقوله {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وبقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ينزل الله، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، إلى سماء الدنيا " حديث آخر فِي هَذَا المعنى 112 - ناه أَبُو مُحَمَّد الحسن بن مُحَمَّد فيما خرجه من أخبار الصفات بإسناده، عن معاذ بن جبل، قَالَ: احتبس علينا رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يوما بصلاة الغداة حتى كادت الشمس أن تطلع فلما خرج صلى بنا الغداة فقال: إني صليت الليلة ما قضي لي ثم وضعت جنبي فِي المسجد فأتاني ربي فِي أحسن صورة، فقال لي: يا مُحَمَّد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري، فضرب يديه بين ثديي حتى بدا لي ما فِي السموات والأرض

113 - وروى أَبُو القسم عبيد الله بن أَحْمَد الصيرفي فيما خرجه من أخبار الصفات بإسناده، عن معاذ، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " رأيت ربي فِي منامي " وذكر الخبر أعلم أن الكلام فِي هَذَا الخبر يتعلق به فصول: أحدها: جواز إطلاق الصورة عليه، وقد تقدم الكلام فِي ذَلِكَ

الثاني: جواز رؤيته فِي منامه، وهذا غير ممتنع فِي حق النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي حق غيره من المؤمنين 114 - وقد نص أَحْمَد عَلَى هَذَا فيما رواه عبد الله، سمعت أَبِي، يَقُول: رأيت رب العزة فِي النوم، فقلت: يا رب ما أفضل ما تقرب به المتقربون إليك؟ قَالَ: فقال: كلامي يا أَحْمَد، قلت: يا رب بفهم أو بغير فهم؟ قَالَ: بفهم وبغير فهم فأخبر عن نفسه بالرؤية فدل عَلَى جوازه 115 - والوجه فِي جوازه ما روى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رؤيا الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " فوجه الدلالة أنه أخبر أن الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، وما كان من النبوة لا يكون إلا حقا، ولا يكون باطلا، فوجب أن تكون رؤية الله حقا

ولأنه إجماع أهل الأعصار وذلك أن عصرا بعد عصر من لدن التابعين ومن

بعدهم يخبر أنه رأى ربه، ولا ينقل عن أحد من أهل العصر الإنكار عليه فدل سكوتهم عَلَى جواز ذَلِكَ 116 - من ذَلِكَ رقبة بن مسقلة، قَالَ: رأيت رب العزة فِي المنام فقال: لأكرمن مثوى سُلَيْمَان يعني التيمي 117 - وعن عطاء السليمي أنه رأى ربه فِي المنام فقال: ما هَذَا الخوف الشديد الذي تخافني ألم تعلم أني أرحم الراحمين 118 - وعن حمزة بن حبيب الزيات أنه رأي فِي المنام كأنه عرض عَلَى الله، فقال له: اقرأ القرآن كما علمتك، وذكر القصة بطولها ولا يصح حمل ذَلِكَ عَلَى أنهم رأوا بشارة ربهم لأن فِي الأخبار ما يسقط ذَلِكَ وهو قوله: لأكرمن مثوى سُلَيْمَان، وقوله: ما هَذَا الخوف، وقوله: اقرأ الثالث: جواز الإتيان عليه، وهذا غير ممتنع إطلاقه إذا لم يوصف بالانتقال، ومثل هَذَا قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يجوز إطلاق هَذِهِ الصفة عليه لا عَلَى وجه الانتقال والحدوث، وإن كان حرث ثم يقتضي ذَلِكَ فِي

اللغة، وكذلك قوله : " ينزل الله إلى السماء الدنيا " يجوز إطلاق ذَلِكَ من غير انتقال وشغل مكان فإن قيل قوله: " فِي أحسن صورة " معناه بأحسن صورة فتكون الفاء بمعنى الباء ويكون معنى الإتيان فعله وإظهاره له، ومنه قوله تَعَالَى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} معناه إظهار فعله، وكذلك قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} معناه بظلل قيل: هَذَا غلط لوجوه أحدها: أن إظهار فعله وتدبير ملكه عام فِي كل الأزمان والأحوال، فلا فائدة بتخصيصه فِي تِلْكَ الليلة التي أسري به اه والثاني: إن جاز تأويله عَلَى إتيان الأفعال والملك جاز عمل قوله: " إنكم

ترون ربكم يوم القيامة " عَلَى رؤية أفعاله وملكه، وقد أجمعنا ومثبتوا الصفات عَلَى خلاف ذَلِكَ الثالث: أنه وصفه بالصورة ووضع الكف بين كتفيه وهذه الصفة لا تتصف بها الأفعال والملك، فأما قوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} فالمراد به أفعاله لأن فِي الآية ما دل عليه، وهو خراب الديار بقوله: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ} وأما قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} المراد به الذات عَلَى أصولنا، لأن حمله عَلَى الأمر يسقط فائدة التخصيص بذلك اليوم، لأن أمره سابق لإيتانه، ولأنه إن جاز حمله عَلَى هَذَا جاز حمل قوله: " إنكم ترون ربكم يوم القيامة " عَلَى رؤية أمره وملكه 119 - فإن قيل: فقد روي عن ابن عباس فِي قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} قَالَ: يأتيهم بوعده ووعيده قيل له: ولم يقل إنه لا يأتي ذاته فيحتمل أن يكون تأتي ذاته بوعده ووعيده وهكذا قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} معناه مجيء ذاته، لأن حمله عَلَى مجيء الأمر والملك يسقط فائدة التخصيص بذلك اليوم لأن أمره سابق، ولأن هَذَا يوجب تأويل " ترون ربكم "، ولأنه ليس فِي حمله عَلَى ظاهره ما يحيل صفاته لأنا لا

نثبت مجيء انتقال، بل نثبت مجيئا غير معقول كما أثبتنا ذاتا ونفسا ووجها ويدا 120 - وقد قَالَ أَحْمَد فِي رواية حنبل فِي قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} ، قَالَ: قدرته، قَالَ أَبُو إسحاق بن شاقلا: هَذَا غلط من حنبل لا شك فيه، وأراد أَبُو إسحاق بذلك أن مذهبه حمل الآية عَلَى ظاهرها فِي مجيء الذات هَذَا ظاهر كلامه والله أعلم 121 - وقد قَالَ أَحْمَد فِي رواية أَبِي طالب: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} فمن قَالَ أن الله لا يرى فقد كفر ، وظاهر هَذَا أن أَحْمَد أثبت مجيء ذاته، لأنه احتج بذلك عَلَى جواز رؤيته، وإنما يحتج بذلك عَلَى جواز رؤيته إذا كان الإتيان والمجيء مضافا إلى الذات

حديث آخر فِي هَذَا المعنى فِي ألفاظه زيادة 122 - رواه أَبُو بكر الخلال، عن الحسن بن ناضح الخلال، قَالَ: نا الأسود بن عامر شاذان، قَالَ: نا حَمَّاد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رأى ربه جل ثناؤه جعدا قططا أمرد فِي حلة حمراء "

123 - وَنا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: نا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ الصَّلْتِ، قَالَ: نا أَبُو عُمَرَ حَمْزَةُ بْنُ الْقَاسِمِ الْهَاشِمِيُّ، نا عُمَرُ بْنُ مُدْرَكٍ أَبُو حَفْصٍ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، قَالَ: نا شَاذَانُ، قَالَ: نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، فِي حُلَّةٍ خَضْرَاءَ فِي صُورَةِ شَابٍّ عَلَيْهِ تَاجٌ يَلْمَعُ مِنْهُ الْبَصَرُ " 124 - ونا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، فِي الإِجَازَةِ، وَقَرَأْتُهُ عَلَى أَبِي، قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " أَتَانِي رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، اللَّيْلَةَ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ ح يَعْنِي: فِي النَّوْمِ، فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ، هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ قَالَ: قُلْتُ: لا، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ " 125 - وأخرج إلي أَبُو القسم عبيد الله بن أَحْمَد فِي جملة أخبار الصفات، قَالَ: نا أَحْمَد بن مُحَمَّد الرازي، قَالَ: نا حمزة بن القسم، قَالَ: نا أَبُو حفص عمر بن مدرك، قَالَ: نا مُحَمَّد بن الوليد مولى بني هاشم بغدادي، قَالَ: نا شاذان، قَالَ: نا حَمَّاد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قَالَ: قَالَ رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رأيت ربي، عَزَّ وَجَلَّ، فِي حلة خضراء فِي صورة شاب عليه تاج يلمع منه البصر " 126 - وَقَالَ أيضا: نا مُحَمَّد بن العباس، قَالَ: نا أَبُو الطيب مُحَمَّد بن القسم الكوفي، قَالَ: نا أَحْمَد بن زهير بن حرب، قَالَ: نا إبراهيم بن مُحَمَّد، عن عروة، قَالَ: نا شاذان، قَالَ: نا حَمَّاد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قَالَ: قَالَ رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رأيت ربي، عَزَّ وَجَلَّ، جعدا أمرد عليه حلة خضراء "

127 - وناه أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فِي جُمْلَةِ أَخْبَارِ الصِّفَاتِ، نا يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ دَاوُدَ الْعَطَّارُ، قَالَ: نا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ الْوَرَّاقُ، قَالَ: نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، قَالَ: نا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ رَبِّي جَعْدًا أَمْرَدَ عَلَيْهِ حُلَّةٌ خَضْرَاءُ " 128 - وأنا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَجَازَ لَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ لُؤْلُؤٍ، قَالَ: نا الْهَيْثَمُ بْنُ خَلَفٍ الدُّورِيُّ، قَالَ: نا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَعْوَرُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ الضَّحَّاكُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: " رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بِعَيْنَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي صُورَةِ شَابٍّ أَمْرَدَ " 129 - وأنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ بِشْرَانَ، قَالَ: أنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ خُشَيْشٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الطُّوسِيُّ، نا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، شَابًّا أَمْرَدَ جَعْدًا قَطَطًا فِي حُلَّةٍ خَضْرَاءَ " 130 - وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلالُ فِي سُنَنِهِ، قَالَ: أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ، قَالَ: نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ، قَالَ: نا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، وَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَهُمْ بِهِ فِي مَنْزِلِ عَمِّهِ، قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلالٍ، أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ عُثْمَانَ حَدَّثَهُ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أُمِّ الطُّفَيْلِ، امْرَأَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَذْكُرُ: " أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ فِي الْمَنَامِ فِي صُورَةِ شَابٍّ مُوفَّرٍ، رِجْلاهُ فِي خُضْرٍ، عَلَيْهِ نَعْلانِ مِنْ ذَهَبٍ، عَلَى وَجْهِهِ فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ "

131 - ونا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: أنا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، فِي الإِجَازَةِ، قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنُ أَخِي وَهْبٍ، قَالَ: نا عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلالٍ، أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ عُثْمَانَ حَدَّثَهُ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أُمِّ الطُّفَيْلِ، امْرَأَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " رَأَيْتُ رَبِّي فِي الْمَنَامِ فِي خُضْرٍ مِنَ الْفِرْدَوْسِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، فِي رِجْلَيْهِ نَعْلانِ مِنْ ذَهَبٍ، عَلَى وَجْهِهِ فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ " 132 - وأنا أَبُو بَكْرِ بْنُ بِشْرَانَ، أنا الدَّارَقُطْنِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْفَارِسِيُّ، نا أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، نا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي هِلالٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أُمِّ الطُّفَيْلِ، امْرَأَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَذْكُرُ: " أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ فِي النَّوْمِ فِي صُورَةِ شَابٍّ ذِي وَفْرَةٍ، قَدَمَاهُ فِي الْخُضْرِ، عَلَيْهِ نَعْلانِ مِنْ ذَهَبٍ، عَلَى وَجْهِهِ فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ " 133 - وروى أَبُو عبد الله بن بطة فِي كتاب الإبانة: قَالَ أَحْمَد بن مُحَمَّد الباغندي: قَالَ: نا أَحْمَد بن عبد الجبار العطاردي، قَالَ: نا يونس بن بكير، عن مُحَمَّد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الحرث، عن عبد الله بن أَبِي سلمة، عن عبد الله بن عمر، أنه بعث

إلى عبد الله بن عباس يسأله: هل رأى مُحَمَّد ربه، تَبَارَكَ وَتَعَالَى،؟ فبعث إليه: أن نعم قد رآه، فرد عليه رسوله، فقال: كيف رآه؟ قَالَ: فقال: رآه عَلَى كرسي من ذهب تحمله أربعة من الملائكة ملك فِي صورة رجل، وملك فِي صورة أسد، وملك فِي صور ثور، وملك فِي صورة نسر، فِي روضة خضراء دونه فراش من ذهب 134 - وَقَالَ: ونا أَبُو ذر، قَالَ: نا العطاردي، قَالَ: نا يونس بن بكير، عن أَبِي إسحاق، قَالَ: حَدَّثَنِي يعقوب بن عتبة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قَالَ: أنشد رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من قول أمية بن أَبِي الصلت: رجل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصد فقال رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صدق "

وقد ذكر أَبُو الحسن الدارقطني هَذِهِ الألفاظ فِي كتاب الرؤية من طرق اعلم أن الكلام فِي هَذِهِ الأخبار فِي فصلين أحدهما: فِي طرقها، والثاني: فِي ألفاظها أما طرقها فإن كلام أَحْمَد فِي ذَلِكَ مختلف 135 - فروى المروذي، قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الصمد بن يحيى الدهقان، قَالَ: سمعت شاذان يَقُول: أرسلت إلى أَبِي عبد الله أستأذنه فِي أن أحدث بحديث قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، رأيت ربي فقال: حدث به فقد حدث به العلماء، فقلت: إنهم يقولون ما رواه غير شاذان، قَالَ: بلى قد كتبته عن عفان، عن رجل، عن حَمَّاد بن سلمة.

وهذا من أَحْمَد تصحيح لحديث ابن عباس وتثبيت له 136 - وذكر أَبُو بكر الأثرم فِي كتاب العلل: سألت أَحْمَد عن حديث عبد الرحمن بن عايش الذي روى عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رأيت ربي فِي أحسن صورة " فقال: يضطرب فِي إسناده لأن معمرا روى عن أيوب، عن أَبِي قلابة، عن ابن عباس، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وروى معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن أَبِي قلابة، عن خالد بن اللجلاج، عن ابن عباس، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورواه حَمَّاد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورواه يُوسُف بن عطية، عن قتادة، عن أنس ، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورواه عبد الرحمن بن زيد، عن جابر، عن خالد بن اللجلاج، عن عبد الرحمن بن عايش، سمعت النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورواه يزيد بن يزيد بن جابر، عن خالد بن اللجلاج، عن عبد الرحمن بن عايش، عن رجل من أصحاب النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورواه يحيى بن أَبِي كثير، فقال: عن ابن عباس، عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصل الحديث واحد، وقد اضطربوا فيه وظاهر هَذَا الكلام من أَحْمَد التوقف فِي طريقه لأجل الاختلاف فيه، ولكن ليس هَذَا الكلام مما يوجب تضعيف الحديث عَلَى طريقة الفقهاء 137 - ورأيت فِي مسائل مهنا بن يحيى الشامي، قَالَ: سألته يعني أَحْمَد عن حديث رواه ابن وهب، عن عمرو بن الحرث، عن سعيد بن أَبِي هلال، أن مروان بن عثمان حدثه، عن أم الطفيل امرأة أَبِي بن كعب، أنها قالت: سمعت النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يذكر أنه رأى ربه فِي المنام فِي صورة شاب موفر رجلاه فِي خضر عليه نعلان من ذهب، عَلَى وجهه فراش من ذهب " فحول وجهه عني وَقَالَ: هَذَا حديث منكر، وَقَالَ: لا نعرف هَذَا رجل مجهول يعني مروان بن عثمان

فظاهر هَذَا التضعيف من أَحْمَد لحديث أم الطفيل 138 - ورأيته بخط أَبِي بكر الكشي، قَالَ عبد العزيز: سمعت الخلال يَقُول: إنما نروي هَذَا الحديث وإن كان فِي إسناده شيء، تصحيحا لغيره ولأن الجهمية تنكره 139 - ورأيت بخط ابن حبيب جوابات مسائل لأبي بكر عبد العزيز، قَالَ: حديث أم الطفيل فيه وهاء ونحن قائلون به، وظاهر رواية إبراهيم بن هانئ تدل عَلَى صحته، لأن أَحْمَد قَالَ لأحمد بن عيسى فِي منزل عمه حدثهم به، ولا يجوز أن يأمره أن يحدثهم بحديث يعتقد ضعفه لا سيما فيما يتعلق بالصفات 140 - وقد صحه أَبُو زرعة الدمشقي فيما سمعناه من أَبِي مُحَمَّد الخلال وأبي طالب بن العشاري وأبي بكر بن بشران، عن علي بن عمر الحافظ، فيما خرجه فِي آخر كتاب الرؤية، قَالَ: نا مُحَمَّد بن إسماعيل الفارسي، قَالَ: نا أَبُو زرعة الدمشقي، قَالَ: نا أَحْمَد بن صالح، قَالَ: نا ابن وهب أخبره، أن مروان بن عثمان أخبره، عن عمارة بن عامر، عن أم الطفيل امرأة أَبِي بن كعب، أنها سمعت رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يذكر أنه رأى ربه، عَزَّ وَجَلَّ، فِي النوم فِي صورة شاب ذي وفرة قدماه فِي أخضر عليه نعلان من ذهب، عَلَى وجهه فراش من ذهب " قال أَبُو زرعة : كل هَؤُلاءِ لهم أنساب قوية بالمدينة، فأما مروان بن عثمان فهو مروان بن عثمان بن أَبِي سعيد بن المعلي الأنصاري، وأما عمارة فهو ابن عامر بن عمرو بن حزم صاحب رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعمرو بن الحرث وسعيد بن أَبِي هلال فلا يشك فيهما، وحسبك بعبد الله بن وهب محدثا فِي دينه وفضله

وظاهر الكلام من أَبِي زرعة إثباتا لرجال حديث أم الطفيل، وتعريفا لهم وبيانا عن عدالتهم، وهو ظاهر ما عليه أصحابنا لأن أَبَا بكر الخلال ذكر حديث أم الطفيل فِي سننه ولم يتعرض للطعن عليه 141 - وأخرج إلي أَبُو إسحاق البرمكي جزءا فيه حكايات عن أَبِي الحسن بن بشار رواية أبيه أَبِي حفص، عن أبيه أَحْمَد بن إبراهيم، قَالَ: سألت الشيخ يعني أَبَا الحسن بن بشار عن حديث

أم الطفيل وحديث ابن عباس فِي الرؤيا، فقال: صحيح، فعارض رجل، فقال هَذِهِ الأحاديث لا تذكر فِي مثل هَذَا الوقت، فقال له الشيخ: فيدرس الإسلام فسكت فقد حكم بصحة الحديث، وقد يجوز أنه لم يقع لأحمد معرفة مروان بن عثمان فِي حال ما سأله مهنا، ثم وقع له معرفة نسبه فيما بعد 142 - وَكَتَبَ إِلَيَّ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ مَنْدَهْ الأَصْبَهَانِيُّ، بِجُزْءٍ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرُّؤْيَةِ مِنْ طُرُقٍ، وَكَلامُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ 143 - فَقَالَ: أنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَلَمَةَ الْهَمَذَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَهْدِيٍّ، وَغَيْرُهُمَا، قَالُوا: ثنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، ونا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: نا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: نا الأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ رَبِّي فِي صُورَةِ شَابٍّ أَمْرَدَ، لَهُ وَفْرَةٌ جَعْدٌ قَطَطٌ، فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ "، 144 - قَالَ: وَأُبْلِغْتُ أَنَّ الطَّبَرَانِيَّ، قَالَ: حَدِيثُ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الرُّؤْيَةِ صَحِيحٌ، وَقَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنِّي رَجَعْتُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ

بَعْدَ مَا حَدَّثْتُ بِهِ فَقَدْ كَذَبَ، وَهَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ تَابِعِي التَّابِعِينَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الثِّقَاتِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَة، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ أَسْمَاءَهُمْ بِطُولِهَا 145 - وأنا مُحَمَّد بن عبيد الله الأنصاري، قَالَ: سمعت أَبَا الحسن عبيد الله بن مُحَمَّد بن معدان، يَقُول: سمعت سُلَيْمَان بن أَحْمَد يَقُول: سمعت ابن صدقة الحافظ، يَقُول: من لم يؤمن بحديث عكرمة فهو زنديق 146 - وأنا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان، قَالَ: سمعت بندار بن أَبِي إسحاق، يَقُول: سمعت علي بن مُحَمَّد بن إبان، يَقُول: سمعت البرذعي، يَقُول: سمعت أَبَا زرعة الرازي، يَقُول: من أنكر حديث قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قَالَ: قَالَ رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رأيت ربي، عَزَّ وَجَلَّ، " فهو معتزلي 147 - وسمعت علي بن أَحْمَد بن مهران المديني، قَالَ: حضرت

أَبَا عبد الله بن مهدي وحضر عند جماعة فتذاكروا حديث عكرمة، وأنكره بعضهم، وكنت قد حفظته فحدثت به بطوله، فقام إلي أَبُو عبد الله وقبل رأسي ودعا لي 148 - ونا مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الحسن، قَالَ: نا أَحْمَد بن مُحَمَّد الملحمي، قَالَ: سمعت مُحَمَّد بن علي بن جعفر البغدادي، قَالَ: سمعت أَحْمَد بن مُحَمَّد بن هانئ الأثرم، يَقُول: سألت أَبَا عبد الله أَحْمَد بن حنبل عن حديث حَمَّاد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رأيت ربي " الحديث، فقال أَحْمَد بن حنبل: هَذَا حديث رواه الكبر عن الكبر عن الصحابة، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن شك فِي ذَلِكَ أو فِي شيء منه فهو جهمي لا تقبل شهادته، ولا يسلم عليه، ولا يعاد فِي مرضه 149 - وأنا أَحْمَد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن إسحاق، قَالَ: نا مُحَمَّد بن يعقوب، قَالَ: نا أَحْمَد بن مُحَمَّد، قَالَ: نا عبد الله بن أَحْمَد بن حنبل، قَالَ: رأيت أَبِي يصحح هَذِهِ الأحاديث ويذهب إليها وجمعها وحدثناها 150 - وروى بإسناده عن عبد الوهاب الوراق، قَالَ: سمعت أسود بن سالم يَقُول فِي هَذِهِ الأحاديث التي جاءت فِي الرؤية، قَالَ: نحلف عليها بالطلاق والعتاق أنها حق فهذا الكلام فِي طريقها

وأما ألفاظ هَذِهِ الأحاديث فأنها تتضمن إثبات الصورة وإثبات الرؤية، وقد تقدم الكلام فِي ذَلِكَ فيما قبل وتتضمن زيادة ألفاظ فِي الرؤية لا يجب أن يستوحش من إطلاقها، لوجهين: أحدهما: أن أَحْمَد قَالَ فِي رواية حنبل: لا نزيل عنه صفة من صفات ذاته بشاعة شنعت الثاني: أننا لا نطلقها عَلَى وجه الجوارح والأبعاض، وتغير الأحوال، وإنما نطلقها كما نطلق غيرها من الصفات من الذات والنفس والوجه واليدين والعين وغير ذَلِكَ، وليس فِي قوله: شاب وأمرد وجعد وقطط وموفر إثبات تشبيه، لأننا نثبت ذَلِكَ تسمية كما جاء الخبر لا نعقل معناها، كما أثبتنا ذاتا ونفسا، ولأنه ليس فِي إثبات الفراش والنعلين والتاج وأخضر أكثر من تقريب المحدث من القديم، وهذا غير ممتنع وصفه بالجلوس عَلَى العرش، وكما روي فِي تفسير قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ: يقعده عَلَى العرش وكما روي: " أن الله يدني عبده حتى يضع عليه كنفه " وكما روي فِي قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} وكما روي: " أنه وضع يده بين كتفيه " وكما روي: " دونه حجاب " وغير ذَلِكَ وأعلم أنها رأيا منام لأن أم الطفيل قد صرحت بذلك فِي خبرها، وحديث ابن عباس أكثر ألفاظه مطلقة، وقد نقل فِي بعضها صريح بذكر المنام فيما حَدَّثَنَا أَبُو القسم فقال: " أتاني ربي الليلة فِي أحسن صورة " يعني فِي النوم فإن قيل: فهذه الأخبار ضعاف لأن مدارها عَلَى عكرمة، وقد قَالَ ابن عمر لنافع: لا تكذب علي كما كذب عكرمة عَلَى ابن عباس

1قيل: هَذَا غلط لأن عكرمة ثقة ثقة، وهو مولى لابن عباس وقد أخرج عنه البخاري ومسلم ومالك وأحمد وغيرهم من أئمة أصحاب الحديث فإن قيل: فهذه الأخبار منام والشيء قد يرى فِي المنام عَلَى خلاف ما هو به، قيل: هَذَا غلط لوجوه: أحدها: أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قصد بذلك بيان كرامته من ربه وقرب منزلته منه، فإذا حمل عَلَى خلاف ما أخبر زال المقصود، ولأن ما يخبر به شرع فهو معصوم فيه وصفات الله، عَزَّ وَجَلَّ، شرع اعتقادها، وإذا كان معصوما استوى فيه المنام واليقظة لأن رؤية الأنبياء تجري مجرى الوحي، من ذَلِكَ رؤيا إبراهيم، عَلَيْهِ السَّلامُ، ذبح ولده، ومن ذَلِكَ رؤيا يُوسُف، عَلَيْهِ السَّلامُ، فِي المنام الكواكب أنها ساجدة له، ولأن أعينهم تنام وقلوبهم لا تنام فإن قيل: يحتمل أن يكون قوله: " رأيت ربي جعدا قططا شابا موفرا " معناه: وأنا جعد قطط أمرد فتكون الصفة راجعة إلى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما يقال: رأيت الأمير راكبا يحتمل أن يكون الأمير هو الراكب، ويحتمل أن يكون الرائي راكبا قيل: هَذَا غلط لوجوه: أحدها: أنه لم يكن هَذِهِ صفات النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو تغيرت صفته فِي تِلْكَ الحال لأخبر بذلك كما أخبر بوضع اليد بين كتفيه، وكما أخبر بقوله: " فيم يختصم الملأ الأعلى " ولأن ألفاظ الخبر تدفع هَذَا، لأن فِي حديث ابن عباس: " عليه تاج يلمع منه البصر " لو كانت الصفة راجعة إلى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لقال علي تاج، وفي حديث أم الطفيل: " رجلاه فِي خضر عليه نعلان من ذهب عَلَى وجهه فراش من ذهب " ولو كانت الصفة عائدة عَلَى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لقال: عَلَى وجهي وعلى فراش وعلى نعلان وعلى أن قائلا لو قَالَ: رأيت الأمير جعدا قططا لم تنصرف هَذِهِ الصفة إلا إلى الأمير دون الرائي كذلك هاهنا

فإن قيل: يحتمل أن تكون هَذِهِ المناظرة التي وصفها فِي الخبر ترجع إلى ما رأي فِي الجنة من هَذِهِ الخلق وما زينت به، وأنه كان رائيا لربه فِي جميع ذَلِكَ لم يقطعه نظره إليها عنه ولم يشغله عنه قيل: هَذَا غلط لأنه لو قَالَ: رأيت الخليفة فِي صورة شاب عَلَى وجه فراش وفي رجليه لم يعقل من ذَلِكَ داره، وإنما يرجع ذَلِكَ إلى ذاته فإن قيل: هَذِهِ الصفات لا تليق بصفات الله سُبْحَانَهُ لأنها من صفات المخلوقين المحدثين قيل: هَذَا غلط، لأن مثل هَذَا موجود فِي إثبات الوجه واليدين والعين فإنها من صفات المخلوقين المحدثين وقد جاز وصفه بها فإن قيل: إنما أثبتنا ذَلِكَ لأنها وردت من طريق مقطوع عليه وهو القرآن، وهذه أخبار آحاد وخبر الواحد إنما يقبل فيما طريقة العمل، فأما فيما طريقة الاعتقاد والقطع فلا، لأنه لا يمكن القطع بمثلها قيل: هَذَا غلط، لأنها وإن كانت أخبار آحاد فقد تلقتها الأمة بالقبول، منهم من حملها عَلَى ظاهرها وهم أصحاب الحديث، ومنهم من تأولها وتأويله لها قبول لها، وإذا تلقيت بالقبول اقتضت العلم من طريق الاستدلال، لأن تلقيهم لها يدل عَلَى صحتها وجواب آخر: وهو أنه لو لم يجب قبولها لم يجب التشاغل بتأويلها كسائر الأخبار الباطلة، ولما تشاغلوا بالتأويل عَلَى مقتضى اللغة علمنا صحتها فإن قيل: إنما تأولناها لئلا يخلو نقلها من فائدة، وأن لا يكون ورودها كلا ورود قيل: لو لم يجب قبولها لم يلزم طلب الفائدة لها ولم بضر إطراحها كسائر الأخبار الباطلة 151 - وقد روي عن ابن عباس كلام يؤكد صحة حديثه ذكره أَبُو بكر بن أَبِي داود فِي كتاب السنة من جملة كتاب السنن بإسناده، عن عكرمة، قَالَ: سئل ابن عباس:

هل رأى مُحَمَّد ربه؟ قَالَ: نعم، قَالَ: كيف رآه؟ قَالَ: فِي صورة شاب دونه ستر من لؤلؤ، كان قدميه فِي خضرة، فقلت أنا لابن عباس: أليس هو من يَقُول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ؟ قَالَ: لا أم لك، ذَلِكَ نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء وهذا يدل من كلامه عَلَى إثبات الحديث وحمله عَلَى ظاهره وتأويل الآية 152 - فأما الفراش فقال أَبُو بكر عبد العزيز: نا أَحْمَد، قَالَ: سألت ثعلب عن قوله: " فراش من ذهب "، قَالَ: الفراش ما تطاير من كل شيء رقيق فهو فراش فهذا حد الفراش فِي الشاهد، فأما الفراش المذكور فِي الخبر فلا نعقل معناه كغيره من الصفات

حديث آخر فِي الصورة 153 - رواه أَحْمَد فِي المسند عن عبد الرزاق، نا معمر، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ الناس: يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل تضارون فِي الشمس ليس دونها سحاب؟ " قَالُوا: لا يا رسول الله، فقال: " هل تضارون فِي القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ " فقالوا: لا يا رسول الله، قَالَ: " فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك، يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئا قيتبعه، فيتبع من كان يعبد القمر القمر، ومن كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هَذِهِ الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله، عَزَّ وَجَلَّ، فِي غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هَذَا مكاننا حتى يأتينا ربنا، عَزَّ وَجَلَّ، فإذا جاءنا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله فِي الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه " أعلم أن هَذَا الخبر يدل عَلَى إثبات الصورة وعلى الإتيان، وقد تقدم ذَلِكَ فِي الأخبار التي قبله، وبينا أنه غير ممتنع جواز إطلاق الصورة لا كالصور، كإطلاق نفس وذات لا كالنفوس والذوات، وإتيان لا عن انتقال وشغل مكان، كما جاز إطلاق الاستواء عَلَى العرش لا عن انتقال من حال إلى حال، وكما جاز رؤيته لا فِي مكان وإن لم يكن ذَلِكَ معلوما فِي الشاهد فإن قيل: معنى الإتيان ها هنا ظهور فعله كقوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} ، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}

قيل: هَذَا غلط لما بينا فساده فِي الخبر الذي قبله، وبينا أن ظهور فعله عام فِي كل الأزمان والأحوال فلا فائدة لتخصيصه فِي ذَلِكَ اليوم والثاني: إن جاز تأويل الإتيان عَلَى الأفعال جاز تأويل قوله: " ترون ربكم " عَلَى رؤية أفعاله وملكه وذلك لا يصح وبينا أن قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ} عَلَى ظاهره، وأن المراد به الذات وأجبنا عن قوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ} عَلَى أن المراد به أفعاله لأن فِي الآية ما دل عليه من خراب الديار فإن قيل: فقوله: " فِي صورته " معناه بصورته، فتكون هاهنا بمعنى الباء، وقد روي عن ابن عباس فِي قوله: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} بظلل، ولقوله الحركة بالمتحرك والحركة فِي المتحرك فتحصل تقديره يأتيهم بالصورة التي يعرفونها فِي الدنيا من التدبير والملك، لأن معرفتهم له فِي الدنيا كانت بالدلالات المنصوبة وآياته قيل: هَذَا غلط لوجوه أحدها: أن قولهم أنت ربنا فيتبعونه، وهذا لا يتصور فِي أفعاله وملكه، لأنه لا يوصف بالربوبية ولا يصح اتباعه الثاني: أنه إن جاز تأويله عَلَى ما يظهر من أفعاله وملكه جاز تأويل قوله: " إنكم ترون ربكم " عَلَى رؤية تعطفه بكم ورحمته لكم، وقد أجمعنا ومثبتوا الصفات عَلَى خلاف ذَلِكَ الثالث: أنهم سألوه هل نرى ربنا، قَالَ: " ثم يجمع الله الناس ثم يأتيهم فيقولون: أنت ربنا " فاقتضى ذَلِكَ إتيانا يرونه فيه لأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أثبت لهم رؤية ووصف لهم كيفية الرؤية

فإن قيل: يحتمل أن يكون قوله: " يأتيهم الله " معناه يأتيهم خلق من خلقه من الملائكة يتصور لهم ويخاطبهم بأمر الله وأضاف ذَلِكَ إليه، كما يقال: ضرب الأمير اللص معناه أمر بضربه، يدل عَلَى ذَلِكَ قولهم: " نعوذ بالله منك " ولو كان هو الإله لقالوا: نعوذ بك قيل: هَذَا غلط لقوله: " فيأتيهم الله " ولأن القوم سألوه هل نرى ربنا؟ قَالَ: " نعم يجمع الله الناس ثم يأتيهم فيقولون: أنت ربنا " فاقتضى ذَلِكَ إتيانا يرونه منه وأما قولهم: " نعوذ بالله منك " فلا يمتنع مثل هَذَا، كما روي أنه كان فِي دعاء النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أعوذ بك منك " ولا يمتنع أن يذكر الاسم الظاهر فِي موضع الكناية كما قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ} وتقديره نحشر المتقين إلينا فإن قيل: فقد حكي عن أَبِي عاصم النبيل أنه كان يَقُول: ذَلِكَ تغير يقع فِي عيون الرائين كنحو ما يتخيل إلى الإنسان الشيء بخلاف ما هو به فيتوهم الشيء عَلَى الحقيقة قيل: هَذَا غلط لأن فِي الخبر أنه قَالَ: " فيأتيهم الله فِي غير الصورة التي يعرفونها فيقولون: نعوذ بالله منك، ثم يأتيهم فِي الصورة التي يعرفونها فيقولون: أنت ربنا ويتبعونه " وهذا الفرق بين الصورتين لا يكون عن تغير يقع فِي العين وإنما يكون عن تميز صحيح فإن قيل: لا بد من حمل الخبر عَلَى نوع مما ذكرنا لاستحالة أن يكون الله سُبْحَانَهُ عَلَى صور كثيرة يجهلونه مرة ويعرفونه أخرى، أو يكون ممن يحل الصور فتنتقل الصور به لاستحالة أن يكون حالا أو محلا للصور أو مصور، فلم يبق إلا

أن يكون تغير الصور راجعا إلى الملك والفعل، أو تكون الصورة بمعنى الصفة كما يَقُول القائل: عرفني صورة هَذَا الأمر أي صفته فيحصل تقدير ما يظهر لهم من بطشه وشدة بأسه يوم القيامة وقد عرفوه حليما غفارا كريما، فيظهر لهم منها قولا: " أنا ربكم " فيقولون عند ذَلِكَ: " نعوذ بالله منك مستعيذين بالله، هَذَا مكاننا حتى يأتينا " بمعنى حتى يظهر رحمته وكرمه، فيأتيهم بعد ذَلِكَ فِي الصورة التي يعرفونها من العفو والمغفرة قيل: هَذَا غلط لأنه لا يجب حمله عَلَى شيء مما ذكروه لأنا نطلق صفة الأتيان لا عن انتقال، ونطلق الصورة لا عَلَى وجه التشبيه، كما أطلقنا تسمية نفس وذات ووجه ويد أما تغير الصورة فليس بتغير، لأنه لا يمتنع أن يكون جميع ذَلِكَ صفات له يحجبهم عن النظر إلى شيء منها فِي حال، ويريهم إياها فِي حال أخرى، كما جاز أن يريهم ذاته فِي حال ويمنعهم ذَلِكَ فِي حالة أخرى، وإذا كان كذلك لم يجز منه ما قالوه من تغير الصور عليه وأما حمله عَلَى الملك والفعل فقد أفسدناه من الوجوه التي تقدمت، وكذلك حمل الصورة عَلَى الصفة لا يصح لما ذكرنا وهو أن فِي الخبر " فيأتيهم فيتبعونه " وهذا لا يصح فِي الملك والثاني: أنه لو جاز تأويله عَلَى هَذَا جاز تأويل قوله: " ترون ربكم " والثالث: أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تكلم بهذا فِي جواب سؤالهم عن رؤية الله فِي الآخرة اه.

إثبات صفة الساق لربنا سبحانه

إثبات صفة الساق لربنا سُبْحَانَهُ حديث آخر فِي هَذَا المعنى ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ، فَقَالَ: أنا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ، قَالَ: نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ خَالِدِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الأَجْدَعِ، قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " يَجْمَعُ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ " وَذَكَرَ الْخَبَرَ إِلَى أَنْ قَالَ: " وَيَنْزِلُ اللَّهُ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى الْكُرْسِيِّ " إِلَى أَنْ قَالَ: " فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الرَّبُّ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَيَأْتِيهِمْ فَيَقُولُ: مَا لَكُمْ لا تَنْطَلِقُونَ كَمَا انْطَلَقَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: لَنَا إِلَهٌ مَا رَأَيْنَاهُ بَعْدُ، فَيَقُولُ: وَهَلْ تَعْرِفُونَهُ إِنْ رَأَيْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَلامَةً، إِذَا رَأَيْنَاهَا عَرَفْنَاهُ، قَالَ: فَيَقُولُ: مَا هِيَ؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: يُكْشَفُ عَنْ سَاقِهِ، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقِهِ، قَالَ: فَيَخِرُّ مَنْ كَانَ بِظَهْرِهِ طَبَقٌ، وَيَبْقَى قَوْمٌ ظُهُورُهُمْ كَأَنَّهَا صَيَاصِي الْبَقَرِ يُرِيدُونَ السُّجُودَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ " وَذَكَرَ الْخَبَرَ بِطُولِهِ

154 - ورواه أَبُو عبد الله بن بطنة فِي كتاب الإبانة بإسناده ، عن أَبِي سعيد الخدري، قَالَ: سمعت رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُول: " يكشف ربنا عن ساقه فلا يبقى من سجد له فِي الدنيا من تلقاء نفسه إلا أذن له فِي السجود " 155 - وأخرج إلى أَبُو القسم عبد العزيز بإسناده، عن أَبِي سعيد الخدري، سمعت رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُول: " يكشف ربنا عن ساقه فلا يبقى من سجد له فِي الدنيا من تلقاء نفسه إلا أذن له بالسجود، ولا يبقى من سجد له اتقاء أو رياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر عَلَى قفاه "

156 - وقد ذكره البخاري فِي صحيحه بإسناده، عن أَبِي سعيد، سمعت النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُول: " يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة " وذكر الخبر بطوله 157 - وقد رواه أَبُو الحسن الدارقطني فِي كتاب الرؤيا، عن ابن مسعود وابن عمر فرواه بإسناده، عن عبد الله، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يوم يكشف عن ساق، قَالَ: " يكشف ربنا عن ساقه ونخر له سجدا " 158 - وبإسناده عن ابن عمر، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يوم يكشف عن ساق، قَالَ: " يكشف عن ساقه ونخر له سجدا " أعلم أن هَذَا حديث صحيح 159 - قَالَ المروذي: ذكرت لأبي عبد الله حديث مُحَمَّد بن سلمة الحراني، عن عبد الرحمن، قَالَ: حَدَّثَنِي زيد بن أَبِي أنيسة، عن المنهال، عن أَبِي عبيدة، عن مسروق، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن مسعود، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ أَبُو عبد الله: هَذَا حديث غريب لم يقع إلينا عن مُحَمَّد بن سلمة واستحسنه والكلام فيه فِي فصول: أحدها قوله: " ينزل الله فِي ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي " وهذا غير ممتنع فِي صفاته ونظيره قوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ينزل الله إلى السماء الدنيا فِي كل ليلة " وذلك جائز لا عَلَى وجه الانتقال من مكان وشغل مكان آخر كما جاز وصفه بالاستواء عَلَى العرش عَلَى وجه الانتقال، وإن كان حرف ثم يقتضي حدوث استواء، ويأتي الكلام فِي ذَلِكَ فِي خبر النزول إلى سماء الدنيا

الفصل الثاني جواز رؤيته سُبْحَانَهُ للمؤمنين وهذا فصل يأتي ذكره فِي حديث آخر

الفصل الثالث قوله: " يكشف عن ساقه " وهذا أيضا غير ممتنع إضافة الساق إليه وإثبات ذَلِكَ صفة لذاته، كما لم يمتنع إضافة اليد والوجه عَلَى وجه الصفة لا عَلَى وجه الأبعاض والأجزاء، كذلك فِي الساق ونظير هَذَا الخبر ما روي " يضع قدمه " وروي: " رجله فِي النار " ويأتي الكلام فِي ذَلِكَ فإن قيل: المراد بذكر الساق هاهنا شدة الأمر، قَالَ الشاعر: وقامت الحرب عَلَى ساق وقال ابن عباس فِي قوله: " يوم يكشف عن ساق " أي عن شدة الأمر 160 - وَقَالَ الحسن فِي قوله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} أي التفت ساق الدنيا بساق الآخرة قيل: هَذَا غلط لوجوه أحدها: أنه قَالَ: " فيتمثل لهم الرب وقد كشف عن ساقه " والشدائد لا تسمى ربا والثاني: أنهم التمسوه ليتبعوه فينجوا من الأهوال والشدائد التي وقع فيها من كان يعبد غيره، وإذا كان كذلك لم يجز أن يلتمسوه عَلَى صفة تلحقهم فيها الشدة والأهوال الثالث: أنه قَالَ: " فيخرون سجدا " والسجود لا يكون للشدائد، وهذا جواب أَبِي بكر رأيته فِي تعاليق أَبِي إسحاق عنه.

الرابع: إن جاز تأويل هَذَا عَلَى الشدة جاز تأويل قوله: " ترون ربكم " عَلَى رؤية أفعاله وكراماته، وقد امتنع مثبتو الصفات من ذَلِكَ، والذي روي عن ابن عباس والحسن، فالكلام عليه من وجهين: أحدهما أنه يحتمل أن يكون هَذَا التفسير منهما عَلَى مقتضى اللغة، وأن الساق فِي اللغة هو الشدة، ولم يقصدا بذلك تفسيره فِي صفات الله تَعَالَى فِي موجب الشرع والثاني: أنه يعارض ما قاله قول عبد الله بن مسعود أخرجه إلى أَبُو القسم عبد العزيز، قَالَ: نا أَبُو القسم إبراهيم بن جعفر الساجي، قَالَ: أنا مُحَمَّد بن بكر بن عبد الرزاق التمار البصري، قَالَ: نا أَبُو داود سُلَيْمَان بن الأشعث، قَالَ: نا سلمة بن شبيب، نا عبد الرزاق، أنا سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن أَبِي صادق، عن ابن مسعود فِي قوله، عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} ، قَالَ: عن ساقيه جل ذكره 161 - وَقَالَ أَبُو داود: نا بندار مُحَمَّد بن بشار، نا مُحَمَّد بن جعفر، نا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، قَالَ: كان ابن مسعود يَقُول: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قَالَ: يكشف الرحمن عن ساقه

162 - وأخرج إلى أَبُو القسم، قَالَ: نا أَبُو الحسين علي بن مُحَمَّد بن عبد الله بن بشران، نا عثمان بن أَحْمَد بن عبد الله بن السماك، قَالَ: نا عبد الله بن ثابت، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي الهذيل بن حبيب الدنداني، قَالَ: قَالَ مقاتل بن سُلَيْمَان: قَالَ عبد الله بن مسعود فِي قوله، عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} يعني عن ساقه اليمين فيضيء من نور ساقه الأرض، فذلك قوله: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} ، يعني نور ساقه اليمين 163 - فهذا قول ابن مسعود وناهيك بعبد الله أول المقدمين من الصحابة بعد العشرة، وَقَالَ النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد "

164 - " وتمسكوا بعهد ابن أم عبد " وهو صاحب السواد يعني سرار.

رسول الله وَقَالَ: " لو كنت مؤمرا أحدا دون شورى المؤمنين لأمرت عليهم ابن أم عبد " وهو أحد القراء ممن جمع القرآن وبعثه عمر بن الخطاب إلى الكوفة مع عمار بن ياسر: إني بعثت إليكم بعمار أميرا وبعبد الله قاضيا ووزيرا، وغير ذَلِكَ من الفضائل.

إثبات صفة الشخص والغيرة لربنا جل شأنه

إثبات صفة الشخص والغيرة لربنا جل شأنه حديث آخر 165 - ناه أَبُو القسم عبد العزيز بإسناده، عن المغيرة بن شعبة، قَالَ: قَالَ سعد بن عبادة: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه، فبلغ ذَلِكَ رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " أتعجبون من غيرة سعد، فوالله لأنا أغير من سعد والله أغير مني، من أجل ذَلِكَ حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله، ولا شخص أحب إليه المعاذير من الله، من أجل ذَلِكَ بعث المرسلين مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه المدحة من الله من أجل ذَلِكَ، وعد الله الجنة " وروي فِي لفظ آخر: " لا أحد أغير من الله " وفي لفظ آخر رواه أَبُو هُرَيْرَةَ، أن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إن الله يغار وإن المؤمن يغار، وغير الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه "

أعلم أن الكلام فِي هَذَا الخبر فِي فصلين أحدهما: إطلاق صفة الغيرة عليه والثاني: فِي إطلاق الشخص أما الغيرة فغير ممتنع إطلاقها عليه سُبْحَانَهُ لأنه ليس فِي ذَلِكَ ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحقه لأن الغيرة هي الكراهية للشيء، وذلك جائز فِي صفاته قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} فإن قيل : لا يجوز إطلاق ذَلِكَ عليه، ويكون معناه الله أزجر عن محارمه من الجميع، لأن الغيور هو الذي يزجر عما يغار عليه ويحذر الدنو منه، وقد نبه عَلَى ذَلِكَ عقيبة بقوله: " ومن غيرته حرم الفواحش " أي زجر عنها وحظرها ومنه أن بعض أزواج النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أهدت إليه شيئا فِي غير يومها فأخبرت عائشة بذلك فبددته، فقال: " غارت أمكم " أي زجرت عن إهداء ما أهدت

قيل: هَذَا يؤكد ما ذهبنا إليه لأنه إذا كان معناها الزجر وذلك مما يجوز عَلَى الله سُبْحَانَهُ لم يمتنع من إطلاق لفظ يتضمن ذَلِكَ، وعلى أن الخبر يقتضي أن تكون الغيرة علة فِي الزجر بقوله: " ولهذا حرم " يعني لأجل هَذِهِ الغيرة حرم، وعلى ما قالوه لا يقتضي أن تكون الغيرة علة فِي الزجر، بل يكون الزجر نفسه علة لنفسه وهذا لا يصح وأما لفظ الشخص فرأيت بعض أصحاب الحديث يذهب إلى جواز إطلاقه، ووجهه أن قوله: " لا شخص " نفي من إثبات، وذلك يقتضي الجنس كقولك: لا رجل أكرم من زيد يقتضي أن زيدا يقع عليه اسم رجل، كذلك قوله: " لا شخص أغير من الله " يقتضي أنه سُبْحَانَهُ يقع عليه هَذَا الاسم 166 - وقد ذكر أَبُو الحسن الدارقطني فِي كتاب الرؤية ما يشهد لهذا القول فروي بإسناده عن لقيط بن عامر أنه خرج وافدا إلى رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر الرب، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فقال: " تنظرون إليه وينظر إليكم " قَالَ: قلت: يا رسول الله كيف ونحن

ملء الأرض وهو شخص واحد فينظر إلينا وننظر إليه؟ قَالَ: " الشمس والقمر آية منه صغيرة، ترونهما ويريانكم " فأقره النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى قوله: " وهو شخص واحد " 167 - وقد ذكر أَحْمَد هَذَا الحديث فِي الجزء الأول من مسند الكوفيين فقال عبد الله: قَالَ عبيد الله القواريري: ليس حديث أشد عَلَى الجهمية من هَذَا الحديث قوله: " شخص أحب إليه مدحه من الله " ويحتمل أن يمنع من إطلاق ذَلِكَ عليه، لأن لفظ الخبر ليس بصريح فيه لأن معناه: لا أحد أغير من الله، لأنه قد روي ذَلِكَ فِي لفظ آخر فاستعمل لفظ الشخص موضع أحد، ويكون هَذَا استثناء من غير جنسه ونوعه كقوله تَعَالَى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} ، وليس الظن من نوع العلم، وقوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} .

إثبات صفة اليد واليمين والقبض لله تعالى

إثبات صفة اليد واليمين والقبض لله تَعَالَى حديث آخر 168 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: نا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ مُوسَى بْنِ بَيَانٍ، قَالَ: نا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: نا مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الْوَشَّاء، نا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ مِنْهُمُ الأَحْمَرُ وَالأَسْوَدُ وَالأَبْيَضُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ " أعلم أنه غير ممتنع إطلاق القبض عليه سُبْحَانَهُ وإضافتها إلى الصفة التي هي اليد التي خلق بها آدم، لأنه مخلوق باليد من هَذِهِ القبضة، فدل عَلَى أنها قبضة باليد، وفي جواز إطلاق ذَلِكَ أنه ليس فِي ذَلِكَ ما يحيل صفاته ولا يخرجها

عما تستحقه، لأنا لا نحمل القبضة عَلَى معنى الجارحة والعضو والبعض ومعالجة وممارسة، بل نطلق هَذِهِ التسمية كما أطلقنا قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، عَلَى ظاهره وكذلك الوجه والعين والاستواء لا فِي مكان 169 - وقد قَالَ أَحْمَد فِي رواية الميموني: من زعم أن يداه نعماه كيف يصنع بقوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} مشددة، قَالَ الميموني: فقلت: " وحين خلق آدم بقبضة " يعني من جميع الأرض، والقلوب بين أصبعين وظاهر هَذَا منه الأخذ بظاهر الحديث فإن قيل: لا يجوز إطلاق ذَلِكَ عليه بل تحمل القبضة عَلَى معنى القدرة كقول القائل: فلان فِي قبضتي عَلَى معنى قادر عليه، وعلى هَذَا قوله تَعَالَى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: تحت قدرته وملكه قيل: هَذَا غلط لأن فيه إسقاط فائدة التخصيص بهذه القبضة لعلمنا بقدرته عَلَى جميع الأشياء، فلا معنى لإضافة القدرة إلى خلق آدم من قبضة قبضها، ولأن للقدرة أسماء أخص به من القبضة، ولأنه إن جاز أن تحمل القبضة عَلَى معنى القدرة وجب أن يحمل قوله: " ترون ربكم يوم القيامة " بمعنى ترون قدرته،

وكذلك قوله: " خلق آدم بيده " بمعنى بقدرته فأما قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فلا يمتنع أن نقول فيه ما قلناه هاهنا فإن قيل: يحمل ذَلِكَ عَلَى معنى إظهار فعل هو الخلق والإختراع والإحداث كما قَالَ تَعَالَى: {لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} وكما قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} وليس ذَلِكَ طمسا وختما عَلَى معالجة قيل: هَذَا يسقط فائدة التخصيص بآدم لأن إظهار الفعل موجود عند خلق غير آدم من سائر البشر، ولأن لذلك اسما أخص به من القبض وهو الخلق والإختراع والأحداث، ولأن هَذَا يوجب أن يكون قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} عَلَى معنى إظهار فعل، وكذلك يوجب تأويل قوله: " ترون ربكم " عَلَى رؤية أفعال يظهرها، وقد أجمعنا ومثبتوا الصفات عَلَى خلاف ذَلِكَ وأما قوله: {لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} {نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} فإنما لم يضف ذَلِكَ إلى الصفة التي هي اليد لأنه لبس فِي الآية ما دل عَلَى ذَلِكَ وفي القبضة ما دل عليه من الوجه الذي ذكرنا وهو أنه مخلوق باليد من القبضة فدل عَلَى أنها قبضة باليد فإن قيل: تحمل القبضة عَلَى أنها لبعض الملائكة بأمر الله، كما يقال: ضرب الأمير اللص، وإنما أمر بضربه قيل: هَذَا غلط، لأن الخبر يقتضي أن آدم مخلوق من القبضة، وقد ثبت أن الخالق لآدم هو الله سُبْحَانَهُ، فوجب أن يكون هو القابض لا غيره، ولأنه إن جاز تأويله عَلَى هَذَا جاز تأويل قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} معناه بيدي بعض الملائكة

وأعلم أنه ليس بمنكر فِي العقول، أن يكون الله خلق طينة آدم من أجزاء أنواع الطين، وأن الأخلاق والخلق اختلفت وتفاوتت كما تفوت أجزاء الطين، لا لأجل أن تفاوتها أوجب ذَلِكَ بل حدوثها عَلَى تِلْكَ الوجوه التي حدثت عليه بقدرة الله واختياره، لكنه جعلها علامات لربوبيته ووحدانيته حديث آخر 170 - حَدَّثَنَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: نا أَبُو سَعِيدٍ الْحَسَنُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَرْبِيُّ، قَالَ: نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْمُسْتَفَاضِ أَبُو بَكْرٍ الْفِرْيَابِيُّ، قَالَ: نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: نا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: نا أَبُو عُثْمَانَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ أَوْ سَلْمَانَ، قَالَ: وَلا أُرَاهُ إِلا سَلْمَانَ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، لَمَّا خَمَّرَ طِينَةَ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، أَرْبَعِينَ لَيْلَةً أَوْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ فِيهِ، فَخَرَجَ كُلُّ طَيِّبٍ فِي يَمِينِهِ وَكُلُّ خَبِيثٍ فِي يَدِهِ الأُخْرَى، ثُمَّ خَلَطَ بَيْنَهُمَا، قَالَ: فَمِنْ ثَمَّ خَرَجَ الْحَيُّ مِنَ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتُ مِنَ الْحَيِّ أَوْ كَمَا قَالَ هَكَذَا حَدَّثَنَاهُ مَوْقُوفًا وَرُبَّمَا وَصَلَهُ بَعْضُهُمْ

أعلم أن الخبر تضمن إثبات اليمين وتخمير الطين وخلط بعضه ببعض، وغير ممتنع إضافة ذَلِكَ إلى اليد التي خلق بها آدم ليس فِي ذَلِكَ ما يحيل صفاته، لأنا لا نحمل إثبات اليمين والتخمير والخلط عَلَى معنى الجارحة والعضو ومعالجة وممارسة، بل نطلق ذَلِكَ كما أطلقنا قوله: خلقت بيدي عَلَى ظاهره فإن قيل: يحمل قوله خمر وخلط عَلَى ما تقدم فِي الخبر الذي قبله، وهو أنه خمرها وخلطها بملكه وقدرته، أو أمر بعض المخلوقين من ملائكته بفعل ذَلِكَ قيل: هَذَا غلط لما تقدم من الجواب فِي الخبر الذي قبله، وهو أن فيه إسقاط فائدة التخصيص لأن قدرته تعم سائر الأشياء ولأن للقدرة اسما أخص به، ولأنه إن جاز ذَلِكَ هاهنا جاز فِي قوله: خلقت بيدي فإن قيل: إنما لم يحمل قوله: خلقت بيدي عَلَى القدرة، لأن فيه إبطال تفضيل آدم عَلَى إبليس، وليس فِي حمله هاهنا عَلَى القدرة إبطال ذَلِكَ قيل: فِي حمله عَلَى القدرة هاهنا إبطال فضيلة آدم أيضا، لأنه من هَذِهِ الطينة خلق، ولا يصح حمله أيضا عَلَى يد بعض المخلوقين ولا القدرة لما ذكرنا فِي الخبر الذي قبله، ولأن فِي الخبر ما يسقط ذَلِكَ، وهو قوله: " فخرج كل طيب فِي يمينه وكل خبيث فِي يده الأخرى "، وهذا صريح فِي إبطال القدرة لأن القدرة لا توصف باليمين والشمال، ولأن يد غير الله سُبْحَانَهُ لا توصف بأنه يخرج منها الخبيث والطيب، لأن هَذَا ابتداء خلق، وهو ما يختص الله به سُبْحَانَهُ فإن قيل: يحمل قوله: " فخرج كل طيب بيمينه " أي: بما أنعم عليه من توفيقه وتسديده، وكل خبيث فِي اليد الأخرى بما حرمه من معونته ونصرته، والعرب تستعمل لفظة اليمين عَلَى معنى الحظ والجد كما قَالَ القائل: إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين أي: بجد وحظ

قيل: لا يصح لأن الكلام يجب أن يرجع إلى ما تقدم ذكره، والذي تقدم ذكره: اليدان بقوله: " ثم ضرب بيديه فخرج كل طيب فِي يمينه " وجب أن يكون ذكر اليمين صفة لما تقدم ذكره من اليدين فأما النعم فلم يجر لها ذكر، ولأن النعم لا توصف باليمين وضدها فإن قيل يحمل قوله: " ثم ضرب بيديه ثم خلط بينهما " عَلَى معنى أنه لما خلق الذرية خلقها نوعين طيبا وخبيثا، وميزهما وجعل محل الطيب جانب اليمين عند يمين السعادة والتوفيق، وجعل محل الخبيث جانب اليسار من آدم أو من الملك الذي أمره بخلط الطينة ثم خلطهما بأن جعل الطيب فِي محل الخبيث والخبيث فِي المحل الطيب قيل: هَذَا غلط لأنه قد ثبت أنه خلقه بيديه فوجب أن يكون الخلط والضرب عائدا إليهما لأن بهما حصل الخلق، ولأنه لا يجوز حمله عَلَى الطائفتين لأن الطائفتين لا يقع عليهما اسم يدين ولا يمين وأعلم أن الخبر أفاد أن آدم، عَلَيْهِ السَّلامُ، كان أصله طينا عَلَى هَذَا الوجه هَذِهِ المدة، ويشبه أن يكون ما روي فِي الخبر: " أن النطفة تكون علقة أربعين يوما، ثم تكون مضغة مثلها، إلى أن ينفخ فيها الروح "، فكانت مدة تغير آدم من هيئة إلى هيئة كنحو مدة تغير النطفة، وإن كان أمر النطفة مفارق لطينة آدم من وجوه أخر اه حديث آخر 171 - ناه أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمخرمِيُّ، قَالَ: نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ، قَالَ: نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، أَنَّ

عَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَخْبَرَهُ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ فَمَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلْخَيْرِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْخَيْرِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ " 172 - ونا أَبُو الْقَاسِمِ، قَالَ: نا أَبُو سَعِيدٍ الْحَسَنُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَرْبِيُّ، قَالَ: نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْفِرْيَابِيُّ، نا قُتَيْبَةُ، نا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، أَنَّهُ قَالَ: " خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَذَكَرَ الْخَبَرَ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَدَيْهِ فَأَخْرَجَ فِيهِمَا مَنْ هُوَ خَالِقٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، ثُمَّ قَبَضَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اخْتَرْ يَا آدَمُ، قَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَكَ، يَا رَبِّ، وَكِلْتَا يَدَيْكِ يَمِينٌ، فَبَسَطَهَا فَإِذَا فِيهَا ذُرِّيَّتُهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ "

173 - وأنا أَبُو مُحَمَّد الحسن بن مُحَمَّد بإسناده، عن أَبِي نضرة، أن رجلا من أصحاب النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقال له أَبُو عبد الله دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي، فقال: إني سمعت رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُول: " إن الله قبض قبضة بيمينه وأخرى بيساره فقال: هَذِهِ لهذه، وهذه لهذه ولا أبالي " فلا أدري فِي أي القبضتين أنا "

174 - وروى أَبُو عبد الله بن بطة فِي الإبانة، حَدَّثَنِي أَبُو صالح مُحَمَّد بن ثابت ثال، نا أَبُو علي الحسن بن عليل العنزي، ونا أَبُو حفص عمر بن مُحَمَّد بن رجا، قَالَ: نا أَبُو جعفر مُحَمَّد بن داود البصروي قالا: نا العباس بن عبد العظيم العنبري، قَالَ: نا الهيثم بن خارجة، قَالَ: نا سُلَيْمَان بن عتبة أَبُو الربيع السلمي، قَالَ: سمعت يونس بن ميسرة بن حلبس، عن أَبِي إدريس الخولاني، عن أَبِي الدرداء، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمين، فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى، فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للتي فِي يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وَقَالَ للتي فِي يساره: إلى النار ولا أبالي " وروي أيضا عن أَبِي ابن جعفر، قَالَ: نا مُحَمَّد بن إسماعيل، قَالَ: نا وكيع، قَالَ: نا سفيان، عن حبيب بن أَبِي ثابت، عن ابن عباس، قَالَ: مسح الله ظهر آدم فأخرج فِي يمينه كل طيب، وأخرج فِي الأخرى كل خبيث وأعلم أن هَذَا الخبر يفيد جواز إطلاق القبضة عليه واليمين واليسار والمسح، وذلك غير ممتنع لما بينا فيما قبل من أنه لا يحيل صفاته، فهو بمثابة إثبات اليدين والوجه وغيرهما

فإن قيل: هَذَا الحديث تفرد بروايته مُحَمَّد بن إسماعيل وكان ضعيفا والمقبري وهو مدلس قيل: قد رويناه من غير هَذَا الطريق عَلَى أن مُحَمَّد بن إسماعيل وهو ابن فديك من أهل المدينة، وتفرده به لا يوجب ضعفه، وكذلك كون المقبري مدلسا لا يوجب رد خبره فإن قيل: إضافة القبضة إليه عَلَى معنى الملك والفعل قيل: هَذَا غلط لما بينا فيما قبل، وهو أن هَذَا يسقط فائدة التخصيص، لأن ملكه لا يختص للقبضة، ولأن لذلك أسماء أخص به، ولأن هَذَا يوجب تأويل اليدين أيضا فإن قيل: قوله: " اخترت يمين ربي " معناه اخترت من اختاره الله من أهل السعادة، وهم أولياؤه، وأضافه إلى اليمين لأنها محل للطيب قيل: هَذَا غلط لأن لذلك أسماء أخص به، ولأن هَذَا يوجب تأويل اليدين أيضا، ولأن الكلام يجب أن يحمل عَلَى ما تقدم ذكره، والذي تقدم ذكره ذكر اليدين، وحصول الخلق والمسح بهما، لا يوجب أن يكون اليمين والشمال صفة لهما.

فإن قيل: قوله: " اخترت يمين ربي " معناه رددت أمري إلى ربي واخترت ما اختاره قيل: هَذَا غلط، لأنه لو كان قد رد الأمر إليه لم يوجد منه اختيار، وفي الخبر اخترت فأما قوله: " وكلتا يديه يمين " قيل فيه: أنه لم يوصف باليدين ويد الجارحة تكون أحدهما يمينا والأخرى يسارا، واليسرى تنقص أبدا فِي الغالب عن اليمين فِي القوة والبطش عرفنا كمال صفة الله تَعَالَى، وأنه لا نقص فيها، وأن ما وصف به من اليدين ليس كما يوصف به الجوارح التي تنقص مياسره عن ميامنه

وقيل: معنى قوله: " كلتا يديه يمين " وصفه بغاية الجود والكرم والإحسان والتفضل، وذلك أن العرب تقول لمن هو كذلك: كلتا يديه يمين، وإذا نقص حظ الرجل وبخس نصيبه، قيل: جعل سهمه فِي الشمال، وإذا لم يكن عنه اجتلاب منفعة ولا دفع مضرة قيل: ليس فلان باليمين ولا بالشمال، ولذلك قَالَ

الفرزدق: كلتا يديه يمين غير مختلفة اه وهذا لا بأس لأنه لا ينفي الصفة بل يثبتها عَلَى الكمال حديث آخر 175 - حَدَّثَنَاهُ أَبُو القسم عبد العزيز بإسناده، عن أَبِي هُرَيْرَةَ يبلغ به النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ الله جل اسمه: يابن آدم أنفق أنفق عليك، يمين الله جل اسمه سحاء - وفي لفظ آخر: إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار " معنى سحاء: كثيرة العطايا لا ينقصها شيء، وهذا لا بأس به لأنه لا ينفي الصفة بل يثبتها عَلَى الكمال

حديث آخر 176 - حدثناه أَبُو القاسم بإسناده، عن عبد الله بن عمرو يبلغ به النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " المقسطون عند الله يوم القيامة عَلَى منابر من نور عن يمين الرحمن، عَزَّ وَجَلَّ، وكلتا يديه يمين " أعلم أن هَذَا الخبر يتضمن اليدين وإثبات اليمين، وقد تقدم ذكر ذَلِكَ، وبينا أنه ليس فِي إطلاق ذَلِكَ ما يحيل صفاته، لأن إطلاق اليمين كإطلاق اليد فإن قيل: قوله: " عن يمين الرحمن " معناه عن يمين عرش الرحمن عَلَى طريقة العرب فِي الحذف والإضمار، كما قَالَ تَعَالَى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} معناه حب العجل، وكما قَالَ الشاعر: واستب بعدك يا كليب المجلس يعني أهل المجلس قيل: هَذَا غلط لوجوه أحدها: قوله: " وكلتا يديه يمين " وهذا يدل عَلَى أن ذَلِكَ صفة ترجع إلى ذاته لأن العرش لا يوصف باليدين الثاني: أن اليمين إذا إضيفت إلى الذات اقتضت إضافة صفة، ولهذا إذا قيل: وقف الوزير عَلَى يمين الخليفة إنما يعقل منه يمينه التي هي من صفته الثالث: أن حمله عَلَى ذَلِكَ يقتضي إضمارا فِي الخبر، وهو ذكر العرش والإضمار ترك حقيقة فإن قيل: قوله: " عن يمين الرحمن " المراد به المنزلة الرفيعة والمحل العظيم، لأنهم يقولون: كان فلان عندنا باليمين، أي كان عندنا بالمحل العظيم والمنزلة الرفيعة، قَالَ الشاعر: أقول لناقتي إذ بلغتني ... لقد أصبحت عندي باليمين

أي بالمحل الجليل قيل: هَذَا غلط لأنه لو أراد ذَلِكَ لقال: المقسطون فِي يمين الرحمن، معناه فِي المنزلة الرفيعة لأنه يقال: فلان عندنا فِي المنزلة الرفيعة، ولأنه قَالَ: " وكلتا يديه يمين " فلو كان المراد به المنزلة لم يكن لذكر اليد معنى فإن قيل: حمله عَلَى ظاهره يستحيل عَلَى الله سُبْحَانَهُ لأنه يؤدي إلى وصفه بالحد والجهة قيل: لا يفضي إلى ذَلِكَ، كما أن قوله: " ترون ربكم كما ترون القمر " حملناه عَلَى ظاهره، وإن كنا نعلم أن رؤية القمر فِي جهة ومحدودة، والله تَعَالَى لا فِي جهة ولا محدود، وكذلك قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} تطلق هَذِهِ الصفة وإن كان العرش فِي جهة، ولم يوجب ذَلِكَ وصفه تَعَالَى بالجهة، كذلك هاهنا حديث آخر 177 - حَدَّثَنَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ، قَالَ: نا الْقَاضِي عُمَرُ بْنُ سنبكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ نَصْرِ بْنِ زِيَادٍ، نا أَبُو سَالِمٍ الْعَلاءُ بْنُ مَسْلَمَةَ الرَّوَّاسِيُّ، نا أَبُو حَفْصٍ الْعَبْدِيُّ، عَنْ أَبَانٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْحَجَرُ فِي الأَرْضِ يَمِينُ اللَّهِ، جَلَّ اسْمُهُ، فَمَنْ مَسَحَ

يَدَهُ عَلَى الْحَجَرِ، فَقَدْ بَايَعَ اللَهَ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ لا يَعْصِيَهُ " 178 - وروى ابن جريج، عن مُحَمَّد بن عباد بن جعفر المخزومي، قَالَ: سمعت عبد الله بن عباس يَقُول: إن هَذَا الركن الأسود يمين الله فِي الأرض يصافح به عباده مصافحة الرجل أخاه اعلم أن هَذَا الخبر ليس عَلَى ظاهره، لأن إضافة الحجر إلى أنه صفة ذات هي يمين، يحيل صفاته ويخرجها عما تستحقه، لأن الحجر جسم مخلوق حال فِي مخلوق وفي الأرض، والقديم سُبْحَانَهُ تستحيل عليه هَذِهِ الصفات، ويفارق

هَذَا ما تقدمه من إثبات اليمين فِي الخبر الذي قبله، وأن ذَلِكَ صفة ذات، لأنه لا يستحيل إضافتها إليه لأنها غير مستحيلة عليه، لأن إضافة اليمين إليه كإضافة اليد إليه، وذلك جائز، ومثل هَذَا غير موجود هاهنا يبين صحة هَذَا من كلام أَحْمَد أن فسر قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} قَالَ معناه: هو إله من فِي السموات وإله من فِي الأرض، وهو عَلَى العرش، فلم يحمل قوله: " وفي الأرض " عَلَى ظاهره بل تأوله وبين أنه عَلَى العرش، فوجب أيضا أن يمتنع من إطلاق صفة ذات فِي الأرض تلمس فِي جهة من الجهات وقد قيل فِي تأويله أوجه أحدها: أن هَذَا عَلَى طريق المثل وأصله أن الملك كان إذا صافح رجلا قبل الرجل يده، فكأن الحجر لله سُبْحَانَهُ بمنزلة اليمين للملك يستلم ويلثم وقد روي فِي الخبر " أن الله، عَزَّ وَجَلَّ، حين أخذ الميثاق من بني آدم وأشهدهم عَلَى أنفسهم ألست بربكم، قَالُوا: بلى جعل ذَلِكَ فِي الحجر الأسود ولذلك يقال إيمانا بك ووفاء بعهدك

وقد قيل فيه وجه آخر وهو أنه يحتمل أن يكون معنى قوله: " الحجر يمين الله فِي أرضه " إنما أضافة إليه عَلَى طريق التعظيم للحجر وهو فعل من أفعال الله تَعَالَى سماه يمينا فنسبه إلى نفسه، وأمر الناس باستلامه ومصافحته ليظهر طاعتهم بالايتمار وتقربهم إلى الله سُبْحَانَهُ، فيحصل لهم بذلك البركة والسعادة وقيل: فيه وجه آخر أن معنى قوله: " يمين الله " أمان الله، لأن الحجر من جملة البيت وقد قَالَ سُبْحَانَهُ {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} ولا بأس بهذه الوجوه للمعنى الذي ذكرنا من امتناع إضافة ذَلِكَ إلى الله سُبْحَانَهُ ويبين صحة هَذَا ما روي عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الحجر الأسود من ياقوت الجنة وإنما سودته خطايا بني آدم وأيضا قول عمر: لإني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع وهذا لا يقال فِي صفات القديم

حديث آخر 179 - نا أَبُو الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، إِجَازَةً، عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْخَلالِ، عَنْ أَحْمَدَ، عَنِ الْحُسَيْنِ الرَّقِّيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ وَاسْتَلْقَى وَوَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى، وَقَالَ: إِنَّهَا لا تَصْلُحُ لِبَشَرٍ "

180 - وفي لفظ آخر عن عمرو بن عتبة بن فرقد وكعب بن عجرة أنهما كانا جالسين عند الأشعث بن قيس، قَالَ: فوضع إحدى رجليه عَلَى الأخرى فقال: ضعهما إنها لا تصلح لبشر 181 - وفي لفظ آخر عن مُحَمَّد بن قيس، قَالَ: جاء رجل إلى كعب فقال: يا كعب أين ربنا؟ فقال له الناس: دق الله فاك أتسأل عن هَذَا؟ قَالَ لكعب: دعوة فإن يك عالما أزداد، وإن يك جاهلا تعلم، سألت أين ربنا وهو عَلَى العرش العظيم متكئ واضع إحدى رجليه عَلَى الأخرى 182 - ونا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: نا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ التَّمَّارُ، مِنْ أَصْلِ كِتَابِهِ، قَالَ: نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَكَمِ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الأَبَّارُ أَبُو الْعَبَّاسِ، قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّاغَانِيُّ، قَالَ: نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ،

قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ جَاءَ قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ فَجَلَسَ يَتَحَدَّثُ وَثَابَ إِلَيْهِ نَاسٌ، فَقَالَ: انْطَلِقْ بِنَا يَابْنَ حُنَيْنٍ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَأُخْبِرْتُ أَنَّهُ اشْتَكَى، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَبِي سَعِيدٍ فَوَجَدْنَاهُ مُسْتَلْقِيًا رَافِعًا رِجْلَهُ الُيْمَنى عَلَى الْيُسْرَى، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ وَجَلَسْنَا، فَرَفَعَ قَتَادَةُ يَدَهُ إِلَى رِجْلِ أَبِي سَعِيدٍ فَقَرَصَهَا قَرْصَةً شَدِيدَةً، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سُبْحَان اللَّهِ يَابْنَ أَخِي أَوْجَعْتَنِي، قَالَ: ذَاكَ أَرَدْتُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى خَلْقَهُ اسْتَلْقَى ثُمَّ رَفَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ خَلْقِي أَنْ يَفْعَلَ هَذَا " فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لا جَرَمَ وَاللَّهِ لا أَفْعَلُهُ أَبَدًا قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلالُ: هَذَا حَدِيثٌ إِسْنَادُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَهُمْ مَعَ ثِقَتِهِمْ شَرْطُ الصَّحِيحَيْنِ مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ 183 - وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَلالُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي سُنَنِهِ، فَقَالَ: نا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الرَّقِّيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي

الْمَسْجِدِ إِذْ جَاءَنِي قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ وَجَلَسَ إِلَيَّ وَتَحَدَّثَ، وَثَابَ إِلَيْنَا النَّاسُ، فَقَالَ قَتَادَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ وَاسْتَلْقَى، وَوَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى، وَقَالَ: إِنَّهَا لا تَصْلُحُ لِبَشَرٍ " أعلم أن هَذَا الخبر يفيد أشياء منها: جواز إطلاق الاستلقاء عليه، لا عَلَى وجه الاستراحة، بل عَلَى صفة لا تعقل معناها، وأن له رجلين كما له يدان، وأنه يضع إحداهما عَلَى الأخرى عَلَى صفة لا نعقلها، إذ ليس فِي حمله عَلَى ظاهره ما يحيل صفاته، لأنا لا نصف ذَلِكَ بصفات المخلوقين بل نطلق ذَلِكَ كما أطلقنا صفة الوجه واليدين وخلق آدم بها، والاستواء عَلَى العرش، وكذلك جاز النظر إليه، لا فِي مكان، وكذلك إثبات الوجه لا عَلَى الصفة التي هي معهودة فِي الشاهد، وكذلك العين فإن قيل: لا يجوز حمل هَذَا الخبر عَلَى ظاهره بل يحمل قوله: " لما فرغ من خلقه استلقى " بمعنى ترك أن يخلق مثله ويديم ذَلِكَ كما يقال: فلان بنى داره وعمرها فاستلقى عَلَى ظهره بمعنى أنه ترك البناء، ولا يراد أنه اضطجع قيل: قولكم أنه لا يجوز حمله عَلَى ذَلِكَ غلط، لأنا قد بينا أنا لا نحمله عَلَى صفة تستحيل فِي صفاته، بل يجري فِي ذَلِكَ مجرى غيره من الصفات، وأما حمله عَلَى ترك أن يخلق مثله وترك الاستدامة لذلك فغلط أيضا، لأن لذلك اسما هو أخص به من الاستلقاء وهو ترك الخلق وقطع استدامته وجواب آخر: وهو أنه لا يصح حمله عَلَى قطع الاستدامة لأنه مستديم لخلقه ومستديم أيضا إيقاع خلق فِي السموات والأرض بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} فأخبر أنه فاعل لإمساكها بعد الفراغ منها

فإن قيل: قوله: " استلقى " بمعنى ألقى مخلوقاته عن الرجل يستلقي ويضع إحدى رجليه عَلَى الأخرى، قَالَ: ليس به بأس قد روي وقال حنبل: رأيت أَبَا عبد الله مستلقيا عَلَى قفاه واضعا إحدى رجليه عَلَى الأخرى قيل: هَذَا غلط، لأن قول كعب تضمن شيئين: أحدهما: إثبات الرجلين صفة والثاني: منع هَذِهِ الجلسة وكراهتها، قام الدليل عَلَى جواز هَذِهِ الجلسة لخلاف السلف وأجازتهم له، وبقي إثبات الرجلين عَلَى ظاهره لأنه لم ينقل عنهم خلافه ولا رده، فوجب الرجوع إليه لأنه لا يجوز فِي حقه إثبات صفة برأيه واجتهاده حديث آخر فِي هَذَا المعنى ناه أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، قَالَ: نا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْفَامِيُّ أَبُو الطَّيِّبِ، قَالَ: نا أَبُو الْقَاسِمِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: نا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ أَبُو عَلِيٍّ الْبَزَّازُ، قَالَ: نا أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، نا سَلَمَةُ بْنُ كُلْثُومٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ حَسَّانِ بْنِ عَطِيَّةَ، أَنَّ رَجُلا مِنَ الْمُشْرِكِينَ سَبَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُ، فَقُتِلَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا تَعْجَبُونَ مِنْ رَجُلٍ نَصَرَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَقِيَ اللَّهَ غَدًا مُتَّكِيًا فَقَعَدَ لَهُ " وَالْكَلامُ فِيهِ كَالْكَلامِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ فِي الاسْتِلْقَاءِ سَوَاءٌ.

إثبات الرجل والقدم لربنا جل شأنه

إثبات الرجل والقدم لربنا جل شأنه حديث آخر 184 - ناه أَبُو القسم عبد العزيز من طرق مختلفة بألفاظ مختلفة أحدها: عن أنس، قَالَ: قَالَ رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد؟ قَالَ: فيدلي رب العزة جل اسمه فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط بعزتك " وفي لفظ آخر: " يضع رب العزة قدمه " وفي لفظ آخر: " فيدلي رب العالمين جل اسمه قدمه، قَالَ: فينزوي بعضها إلى بعض "

185 - وفي لفظ آخر رواه أَبُو هُرَيْرَةَ أَخْبَرَنَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ، قَالَ: أنا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، إِجَازَةً، وَقَرَأْتُهُ عَلَى أَبِي عَنْهُ، قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، نا مَعْمَرٌ، نا هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فَمَا لِي لا يَدْخُلُنِي إِلا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَلَفُهُمْ، فَقَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، لِلْجَنَّةِ: إِنَّمَا أَنْتِ رَحْمَةٌ أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ فَلا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ اللَّهُ رِجْلَهُ فِيهَا تَقُولُ: قَطْ قَطْ أَيْ: حَسْبُ، هُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيَزْوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلا يَظْلِمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا " 186 - وفي لفظ آخر: " لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد حتى يضع الجبار جل اسمه قدمه فيها فتقول: قط قط يعني: حسبي حسبي " وفي لفظ آخر: " فيضع الله تَعَالَى قدمه فيها فتقول: قط قط لكرمك وعظمتك "

187 - وفي لفظ آخر: " فلا تمتلئ حتى يضع الله قدمه فتقول: قط قط قط، فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله تَعَالَى أحدا من خلقه " 188 - وفي حديث آخر رواه أَبُو سعيد الخدري: " فيضع الله قدمه عليها فتزوي وتقول: قدني قدني " وقد ذكر أَبُو الحسن الدارقطني هَذَا الحديث من طرق وألفاظ مختلفة نحو ما ذكرنا

وقد ذكر البخاري ومسلم القدم فِي الصحيحين جميعا أعلم أنه غير ممتنع حمل هَذَا الخبر عَلَى ظاهره، وأن المراد به قدم هو صفة لله تَعَالَى وكذلك الرجل 189 - وقد نص أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ فِي رواية المروذي، وقد سأله عن الأحاديث " يضع

قدمه " وغيرها، قَالَ: نمرها كما جاءت 190 - وَقَالَ ابن منصور: قلت لأبي عبد الله: " اشتكت النار إلى ربها حتى يضع قدمه فيها " فقال أَحْمَد: صحيح 191 - وَقَالَ أَبُو بكر الأثرم: قلت لأبي عبد الله: حدث محدث وأنا عنده بحديث: " يضع الرب، عَزَّ وَجَلَّ، قدمه "، وعنده غلام فأقبل عَلَى الغلام، فقال: نعم إن لهذا تفسيرا، فقال أَبُو عبد الله: أنظر إليه كما تقول الجهمية سواء 192 - وَقَالَ فِي رواية حنبل: قَالَ النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يضع قدمه " نؤمن به ولا نرد عَلَى رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد نص عَلَى الأخذ بظاهر ذَلِكَ لأنه ليس فِي حمله عَلَى ظاهره ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحقه لأنا لا نثبت قدما جارحة ولا أبعاضا، بل نثبت ذَلِكَ قدما صفة كما أثبتنا يدين ووجها وسمعا وبصرا وذاتا، وجميع ذَلِكَ صفات، وكذلك القدم والرجل، ولأنا لا نصفه بالإنتقال والمماسة لجهنم، بل نطلق ذَلِكَ كما أطلقنا الاستواء عَلَى العرش والنظر إليه فِي الآخرة وقد احتج أَبُو بكر بن خزيمة فِي كتاب التوحيد عَلَى إثبات الرجل بقوله تَعَالَى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} وبقول أمية: رجل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصد وإن رسول الله صدقه فقال: صدق أمية بن الصلت وقد اعترض عليه بعضهم فِي هَذَا الدليل، وَقَالَ: لو كان التمسك بظاهر الآية صحيحا، لوجب القول بإثبات الأرجل والأيدي والأعين والآذان عَلَى وجه الجمع، لأن أرجل اسم جمع، وقد أجمع المسلمون عَلَى إنكار ذَلِكَ، وكذلك الأذان، قَالَ هَذَا القائل: فعلم أن الله تَعَالَى أراد به رد الكافرين عن عبادة الأصنام، وعرفهم أنكم تأنفون من عبادة من له رجل يمشي بها ويد يبطش بها وعين يبصر بها وأذن يسمع بها، فكيف تعبدون من ليس له شيء من ذَلِكَ

يقرعهم عَلَى عبادة الأصنام التي هي جماد وموتان ليس لها فعل ولا قدرة ولا سمع ولا بصر وهذا الذي ذكره هَذَا القائل لا يمنع الاحتجاج بالآية، لأن الدليل قد دل عَلَى نفي إثبات هَذِهِ الصفات التي هي الأذن وجمع الأرجل فنفيناه، وبقي ما عدا ذَلِكَ عَلَى ظاهره، وهذه طريقة ظاهرة عَلَى أصول الفقهاء، وإن الدليل إذا تناول شيئين فقام الدليل عَلَى إسقاط أحدهما، لم يوجب ذَلِكَ إسقاط باقيه، كذلك هاهنا فإن قيل: يحمل قول أمية عَلَى أنه إذا أراد يمين العرش ويساره قيل: هَذَا غلط لوجهين: أحدهما: أن صفة اليمين واليسار فِي حقيقة اللغة إنما يضاف إلى الذات دون الجمادات والثاني: أنه هاهنا كناية ومكني، فيجب أن ترجع إلى المقصود بالذكر هو الله سُبْحَانَهُ، كما لو قَالَ: فلان عن يمين الخليفة، لا ينصرف ذَلِكَ إلى غيره فإن قيل: معنى القدم هاهنا المتقدم من المشركين يضعه فِي النار، لأن العرب تقول للشيء المتقدم: قدم، وعلى هَذَا تأويل قوله تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي سابقة صدق، قَالَ وضاح اليمن: صل لربك واتخذ قدما ... ينجيك يوم العثار والزلل أراد بذلك ما تقدم من الشرف، وما يفتخر به

قيل: هَذَا غلط لوجهين: أحدهما: أن قوله: " يضع قدمه " هاء كناية، وهاء الكناية ترجع إلى المذكور، والمذكور فِي الخبر لله سُبْحَانَهُ، وفي لفظ آخر " الجبار " وفي لفظ آخر " رب العزة "، فوجب أن يرجع إليه، فأما المتقدم من الكفار فلم يتقدم ذكرهم، فلا يجب رجوع الهاء إليهم والثاني: أن هَذَا يسقط فائدة التخصيص بالنار، لأن المتقدم بفعل الخير يضعه فِي الجنة، فلو كان المراد بالقدم المتقدم لم يكن لتخصيصه بالنار فائدة، فوجب حمله عَلَى ظاهره ليفيد فائدة وأما قوله سُبْحَانَهُ: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} فقد روي عن زيد بن أسلم المراد به مُحَمَّد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقيل: المراد به الثواب روي بذلك عن ابن زيد وغيره

وإنما حمل القدم هناك عَلَى السابق من الرسول والثواب، لأن فِي ظاهر اللفظ ما دل عليه، وهو قول سُبْحَانَهُ: {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} وإنما قَالُوا ذَلِكَ فِي الرسول، وكذلك قوله تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} إنما يبشرون بما سبق لهم من الأعمال، فهناك ما دل عَلَى أن المراد بالقدم السابقة وليس فِي الخبر ما يدل عَلَى ذَلِكَ، بل فيه ما يدل عَلَى خلاف ذَلِكَ من الوجه الذي ذكرنا فإن قيل: فقد روي بكسر القاف: قدمه، وإذا كان كذلك كان معناه ما ذكرنا من التقدم من المشركين قيل: هَذَا غلط لأنه لا يحفظ عن أحد من أصحاب الحديث أنه رواه بالكسر، فلا يجوز دعوى ذَلِكَ، والذي يدل عَلَى بطلانه ما ذكرنا فإن قيل : المراد بالقدم هاهنا: خلق من خلق الله تَعَالَى يخلقه الله تَعَالَى يوم القيامة، فيسميه: قدما، ويضعه الله من طريق الفعل والملك يضعه فِي النار فتمتلئ منه وقيل المراد: قدم بعض خلقه فأضاف ذَلِكَ إليه كما يقال: ضرب الأمير اللص، فيضاف إليه عَلَى معنى أنه يأمره قيل: هَذَا غلط لما تقدم من الوجهين أحدهما: أن هاء الكناية ترجع إلى المذكور المتقدم، والذي تقدم ذكره هو الله سُبْحَانَهُ والثاني: أنه يسقط فائدة التخصيص بالنار، لأنه قد ينشئ خلقا يوم القيامة فيدخلهم الجنة فتخصيص النار بذلك لا معنى له فإن قيل: قوله: " فيضع الجبار " جنس الجبابرة وهم الكفرة المعاندون وقيل: المراد به إبليس وشيعته لأنه أول من استكبر، فقال تَعَالَى: {إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}

قيل: هَذَا غلط، لأنا قد روينا فِي الحديث: " يضع الله قدمه " وفي لفظ آخر: " فيضع رب العزة قدمه " وهذا صريح فِي أن المراد بالجبار هو الله رب العزة وجواب آخر وهو أن فِي الخبر تقول: " قط بعزتك وعظمتك "، وهذه صفة تختص الله سُبْحَانَهُ، لأن هَذَا قسم منها بالله سُبْحَانَهُ، خرج منها مخرج الخضوع والتذلل، ولا يكون هَذَا منها بوضع الجبابرة ومن يستحق العذاب لأنها سحق لهم، ولأنه قَالَ لا تمتلئ حتى يضع الله رجله فيها، والرجل لا يعبر بها عن الجبابرة، والمتقدم من المشركين ولأن قوله: " لا تمتلئ " تعظيما لحالها وشدة غيظها، قَالَ تَعَالَى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} وما هَذَا صفته لا يكفه وضع بعض الجبابرة من الكفار، وإنما يكفيه قدم الصفة، ولأنه قَالَ: " ينزوي بعضها إلى بعض " يعني مجتمع، وهذا لا يوجد ببعض خلقه، لأن النار تسحقه، كما قَالَ: {فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} وإنما تجتمع من قدم الصفة فإن قيل: الحديث الذي روي فيه: " يضع رجله " لم يروه إلا بعضهم عَلَى الشك، فرواه الدارقطني بإسناده، عن أنس، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: " يلقى فِي النار وتقول: هل من مزيد حتى يضع رجله فيها أو قَالَ: قدمه فتقول: قط قط " فذكره عَلَى لفظ الشك فاحتمل أن يكون لما التبس عليه اللفظ، وتوهم أن القدم لا يكون إلا رجلا ذكر بدل القدم الرجل قيل: هَذَا غلط، لأنا قد روينا هَذَا اللفظ بإسناده عن أَبِي هُرَيْرَةَ من غير شك فِي اللفظ فإن قيل: فنتأول الرجل عَلَى نحو تأويلنا القدم، إما أن يريد رجل بعض خلقه فأضافه إليه ملكا وفعلا، أو يراد به رجل المتجبرين من خلقه، ولأنه قد قيل

الرجل للجماعة الكثيرة، ولأن العرب تقول: مر بنا رجل من جراد أي قطعة منها قيل: هَذَا غلط لما تقدم، وهو أن هاء الكناية يرجع إلى المذكور المتقدم ولأنه صرح باسمه الأعظم فإن قيل: حمل الخبر عَلَى ظاهره يوجب رد القرآن، لأن الله سُبْحَانَهُ يَقُول: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} فأخبر أن الإلهية: لا تردها، وفي جواز وضع القدم فيها إيراد لها، وَقَالَ تَعَالَى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وظاهر الخبر يقتضي أنها تمتلئ بالقدم، وهذا خلاف ظاهر القرآن، فوجب تأويله قيل: هَذَا غلط، لأن حمله عَلَى ظاهره لا يوجب رد القرآن، وذلك أن قوله تَعَالَى: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} معناه: ما وردوها عَلَى وجه الخوف والفزع والعقوبة، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} وأراد عَلَى وجه الخوف، ثم قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} وهذا المعنى معدوم فِي حقه سُبْحَانَهُ وأما قوله تَعَالَى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} فنحن نقول بظاهره، وأنها تمتلئ به وبمن تبعه، لكن بعد وضع القدم وانزواء بعضها إلى بعض، ولا نقول أنها تمتلئ بالقدم فإن قيل: فقدم الصفة لا يجوز وصفها بالوضع فِي المكان، وإنما قدم الجارحة، وذلك لا يليق بصفاته قيل: لا يمتنع إطلاق ذَلِكَ لا عَلَى وجه الحد والجهة والحلول، كما جاز وصف الذات بالعلو عَلَى العرش لا عَلَى وجه الحد والجهة، وإن كنا نعلم أن

العلو غير السفل، ولهذا نصفه بالعلو ولا نصفه بالسفل، ثم لم يوجب ذَلِكَ وصفه بالجهة وكذلك رؤيته فأما قوله: قط قط: أي حسبي، وقد ورد هَذَا مفسرا فِي بعض الألفاظ، وهذا كما تقول العرب: امتلأ الحوض وَقَالَ قطني ... مهلا قليلا قد ملأت بطني وقد قيل: إن ذَلِكَ حكاية صوت جهنم حديث آخر فِي هَذَا المعنى 193 - ثنا أَبُو مُحَمَّد الحسن بن مُحَمَّد، قَالَ: نا أَبُو حفص بن شاهين، قَالَ: نا الحسين بن جعفر الكوكبي، قَالَ: نا العباس بن عبد الله، قَالَ: نا أَبُو المغيرة، قَالَ: نا صفوان، قَالَ: نا سريج بن عبيد، عن أَبِي بشر الأذرمي، عن كعب، قَالَ: إن الله تَعَالَى نظر إلى الأرض، فقال: إني واط عَلَى بعضك، فانتسفت إليه الجبال فتصعصعت الصخرة فشكر لها ذَلِكَ، فوضع عليه قدمه

حديث آخر 194 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ، قَالَ: نا أَبُو يَعْلَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَحْيَى، قَالَ: نا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: نا أَبُو النَّضْرِ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ضِرْسُ الْكَافِرِ مِثْلُ أُحُدٍ، وَفَخِذُهُ مِثْلُ الْبَيْضَاءِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ كَمَا بَيْنَ قُدَيْدٍ وَمَكَّةَ، وَكَثَافَةُ جِلْدِهِ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ الْجَبَّارِ، جَلَّ اسْمُهُ "

وَحُدَّثَنَاهُ أَيْضًا عَنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِهَذَا اللَّفْظِ اعلم أنه ليس فِي حمله عَلَى ظاهره ما يحيل صفاته، ولا يخرجها عما تستحقه لأنا لا نثبت ذراعا جارحة، ولا أبعاضا بل نثبت ذَلِكَ صفة، كما أثبتنا الوجه واليدين وغيرهما من الصفات فإن قيل: المداد بالجبار المتجبر من خلقه، لأن حمله عَلَى الله سُبْحَانَهُ يوهم الجارحة والعضو فِي صفته ويوهم الطول عليه قيل: هَذَا غلط، لأن فِي الخبر أنه قَالَ: " اثنان وأربعون زراعا بذراع الجبار جل اسمه "، وهذه الصفة لا يستحقها أحد من الجبابرة غير الله، عَزَّ وَجَلَّ، بل غيره يستحق الذم والمقت، ولأنه ذكر الجبار بالألف واللام والألف واللام يدخلان

للعهد أو للجنس، وليس يمكن حمله عَلَى الجنس لأنه يقتضي كل جبار وليس هاهنا معهود من الخلق يشار إليه، فلم يبق إلا أن يحمل عليه سُبْحَانَهُ، لأنه أعرف المعارف وأما قولهم: إنه يفضي إلى أن نصفه بالطول، فليس كذلك لأنا نثبت قوله: " خلق آدم بيده " ولم يوجب ذَلِكَ إثبات صفة فِي اليد تفضي إلى الحد عَلَى ما نعقله فِي الشاهد كذلك هاهنا، ونثبت استواء عَلَى العرش ولم يوجب ذَلِكَ تحديده لأجل أن العرش محدود فإن قيل: قوله جل اسمه يحتمل أن يكون من كلام بعض الرواة أدرجه فِي كلام النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل: هَذِهِ مدحه لا يستحقها غيره، ولا يجوز أن نضيف إلى الراوي الخطأ لأنه قد أخذ علينا حسن الظن فيهم فإن قيل: هَذَا يفضي إلى تحديد الذراع لأن جلد الكافر محدود قيل: لا يفضي إلى هَذَا كما لم يفض إلى تحديده بالإستواء عَلَى العرش، لأن العرش محدود وكذلك قوله: الكرسي موضع القدمين، وكذلك قوله: {وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ولم يوجب ذَلِكَ تحديد اليمين لأن السموات محدودة

حديث آخر 195 - ناه أَبُو القسم بإسناده، عن مجاهد، قَالَ: إذا كان يوم القيامة يذكر داود ذنبه فيقول الله، عَزَّ وَجَلَّ، له: كن أمامي، فيقول: رب ذنبي، فيقول الله: كن خلفي فيقول: رب ذنبي ذنبي، فيقول الله له: خذ بقدمي وفي لفظ آخر أخرجه أَبُو مُحَمَّد الحسن بن مُحَمَّد الخلال وسمعته منه، عن ابن سيرين، يَقُول فِي قوله، عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} ، قَالَ: إن الله، عَزَّ وَجَلَّ، ليقرب داود حتى يضع يده عَلَى فخذه يَقُول: أدن منا أزلفت لدينا أعلم أنه غير ممتنع حمل هَذَا الخبر عَلَى ظاهره إذ ليس فيه ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحقه لأنا لا نثبت قدما وفخذا جارحة ولا أبعاضا، بل نثبت ذَلِكَ صفة كما أثبتنا الذات والوجه واليدين، ولا نثبت أخذا بقدمه عَلَى وجه المماسة، كما أثبتنا خلقه لآدم بيده لا عَلَى وجه المماسة والملاقاة، بل لا نعقل معناه، ولا

نثبت أيضا أماما وخلفا عَلَى وجه الحد والجهة بل نثبت ذَلِكَ صفة غير محدودة، كما قَالُوا فِي الاستواء عَلَى العرش معناه العلة عليه، ومعلوم أن العلو غير السفل ولم يوجب ذَلِكَ وصفه بالجهة وإن كان العلو جهة فِي الشاهد، وإن لم يكن هَذَا معقولا فِي الشاهد ونظير هَذَا الحديث قوله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الرحم يأخذ بحقو الرحمن قد أخذ أَحْمَد بظاهره من غير قول بمماسة ولا جهة

فإن قيل: مجاهد وابن سيرين ليسا بحجة ولا ممن يثبت بقولهما صفات لله تَعَالَى قيل: إثبات الصفات لا تؤخذ إلا توقيفا لأنه لا مجال للعقل والقياس فيه، فإذا روي عن بعض السلف فيه قولا، علم أنه قاله توقيفا فإن قيل: قوله: " كن أمامي وخلفي " معناه حاسب نفسك قبل أن أسائلك فيقول داود: أخاف أن تدحضني خطيئتي إن حاسبت نفسي، فيقول له: خذ بقدمي أي بما قدمت لك من العفو والغفران، ودع ما أسأت إلي ولا تأخذ به، ومنه قوله تَعَالَى: {تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي لا تسبقوا قبل حكم الله عليكم فِي الشيء ولم يرد به التقدم فِي الأمكنة، وكذلك قوله: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} الأمام يطلق عَلَى محاسبته فلا يصح لأن الله سُبْحَانَهُ قد أَخْبَرَنَا بالقرآن بقوله: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} والمحاسبة لا تكوون مع الغفران، وإذا امتنع حمله عَلَى المحاسبة امتنع حمل القدم عَلَى المغفرة، وأما قوله: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ} وقوله: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} فقد نقل عن السلف ما وجب الرجوع إليه، أما قوله: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فإنها نزلت عَلَى سبب، وذلك أنهم قتلوا رجلين بغير أمر النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنزلت الآية، فكان معناها لا تقدموا حدا ضربه الله عَلَى فريضة ولا تتقدموا عَلَى حد ضربه رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي سنته وأما قوله: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} أي: لا تكذبه الكتب التي قبله من التوراة والإنجيل والزبور، ولا ينزل كتاب من بعده يكذبه، فوجب الرجوع

إلى تفسير السلف فِي ذَلِكَ، ولم يرد عنهم مثل ذَلِكَ فِي خبر داود مع ذكرهم له فِي التفاسير بل حملوه عَلَى ظاهره فإن قيل: يحمله قوله " يضع يده عَلَى فخذه " معناه فخذ بعض خلق أمر بالدنو منه قيل: قوله: " حتى يضع يده عَلَى فخذه " هاء كناية، وهاء الكناية تعود إلى المذكور، والذي تقدم ذكره اسم الله تَعَالَى فإن قيل: يحتمل أن يكون أرد بالدنو منه ليقربه منه عفوه ورحمته وصفحه حتى يصير كهيئة المماس فِي المثل عَلَى الوجه الذي لا يكون بينه وبين ما يماسه حائل قيل: لا يصح حمله عَلَى العفو والرحمة، لأن عفوه ورحمته سبقت له فِي الدنيا قبل أن يدنيه منه بقوله تَعَالَى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} فوجب حمله عَلَى ما يفيد حديث آخر فِي هَذَا المعنى فيه زيادة 196 - أناه أَبُو مُحَمَّد الحسن بن مُحَمَّد، نا يُوسُف بن عمر القواس، قَالَ: نا مُحَمَّد بن عثمان بن البسري التمار، قَالَ: نا مخول المستملي، قَالَ : نا مُحَمَّد بن منصور الطوسي، قَالَ: نا يونس بن مُحَمَّد المؤدب، قَالَ: نا سعيد بن زربي، عن الحسن، قَالَ: أوحى الله إلى داود إرفع رأسك فقد غفرت لك، فقال: يا رب كيف تغفر لي وقد صنعت ما صنعت؟ قَالَ: ارفع رأسك فقد غفرت لك ومحوت خطيئتك بابهام يميني وهذه الزيادة تقتضي إثبات الإبهام وذلك غير ممتنع كما لم يمتنع إثبات الأصابع.

إثبات صفة الضحك لربنا، تبارك وتعالى،

إثبات صفة الضحك لربنا، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، حديث آخر 197 - ناه أَبُو القسم عبد العزيز من طرق أحدها، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، أن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " يضحك الله تَعَالَى إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة، يقاتل هَذَا فِي سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله عَلَى القاتل فيقاتل فِي سبيل الله ثم يستشهد " 198 - وروى علي بن ربيعة قَالَ: كنت ردف علي بن أَبِي طالب فلما ركب كبر ثلاثا وحمد ثلاثا ثم قَالَ: سبحان الذي سخر لنا هَذَا وما كنا له مقرونين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم قَالَ: سبحانك لا إله إلا الله إني ظلمت نفسي فأغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم استضحك، فقلت: مما استضحكت؟ فقال: إن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ يوما مثل ما قلت ثم استضحك فقلت: مما استضحكت يا رسول الله؟ قَالَ: ضحكت لضحك ربي، عَزَّ وَجَلَّ، لعجبه بعبده إنه لا يغفر الذنوب أحد غيره "

199 - وروى أَبُو سعيد الخدري، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " ثلاثة يضحك الله إليهم يوم القيامة: الرجل إذا قام من الليل، والقوم إذا صفوا للصلاة، والقوم إذا صفوا لقتال العدو "

200 - وروت عائشة قالت: قَالَ رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله، عَزَّ وَجَلَّ، ليضحك من إياس الناس وقنوطهم وقرب الرحمة منهم " قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أو يضحك ربنا؟ قَالَ: " أي والذي نفس مُحَمَّد بيده إنه ليضحك "، قَالَ: فقالت: لن يعدمنا خيرا إذا ضحك 201 - وروى جابر بن عبد الله قَالَ: قَالَ رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله، عَزَّ وَجَلَّ، يضحك إلى العبد إذا مد يده إلى الصدقة، ومن ضحك الله إليه غفر له " 202 - نا أَبُو الْقَاسِمِ، قَالَ: أنا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْفَقِيهُ، إِجَازَةً، قَالَ: نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَلالُ، قَالَ: نا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، قَالَ: نا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي، قَالَ: نا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَأَلَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْوُرُودِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " تَجِيءُ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى كَوْمٍ فَوْقَ النَّاسِ فَتَأْتِي الأُمَمُ بِأَوْثَانِهَا وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، ثُمَّ يَأْتِينَا رَبُّنَا بَعْدَ ذَلِكَ يَمْشِي فَيَقُولُ: مَا تَنْظُرُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَنْتَظِرُ رَبَّنَا، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ، فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ حَتَّى تَبْدُوَ لَهَوَاتُهُ، ثُمَّ يَنْطَلِقُونَ يَتْبَعُونَهُ " وَذَكَرَ الْخَبَرَ.

203 - ونا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ، إِجَازَةً، نا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، نا عَمْرُو بْنُ إِسْحَاقَ الْقُومِسِيُّ، نا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، قَالَ: وأنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، إِجَازَةً، قَالَ: نا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، نا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَضْحَكُ اللَّهُ رَبُّكُمْ حَتَّى بَدَتْ لَهَاتُهُ وَأَضْرَاسُهُ "، قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَهَوَاتُهُ وَأَضْرَاسُهُ 204 - وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الصِّفَاتِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ، قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: نا رَوْحٌ، قَالَ: نا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا سُئِلَ عَنِ الْوُرُودِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: " فَيَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ " قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " حَتَّى تَبْدُوَ لَهَاتُهُ وَأَضْرَاسُهُ " 205 - نا أَبُو القسم بإسناده عن امرأة من الأنصار يقال لها أسماء ابنة يزيد بن السكن، أن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لأم سعد: " ألا يرقأ دمعك، ويذهب حزنك بأن ابنك أول من ضحك الله، عَزَّ وَجَلَّ، له واهتز له العرش "

206 - وروى نعيم بن همار، قَالَ: جاء رجل إلى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: أي الشهداء أفضل؟ قَالَ: الذين يقاتلون فِي الصف ولا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا أولئك يتلبطون فِي العلى فِي الجنة، يضحك إليهم ربك، وإذا ضحك إلى عبد فِي موطن فلا حساب عليه " 207 - وروى أَبُو بكر أَحْمَد بن إسحاق الصبغي فِي كتابه المسمى بالأسماء والصفات، فيما ذكره ابن فورك، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إني لأعلم آخر أهل النار خروجا من النار، وآخر أهل الجنة دخولا، يقال له: أدخل الجنة، فيأتيها فيرى أنها قد ملئت فيرجع فيقول: يا رب قد امتلأت، فيقال: ارجع ثلاث مرات، ثم يقال له: لك الدنيا ولك عشرة أمثالها، فيقول: أتضحك بي

وأنت الملك " 208 - وعن طلحة بن البراء، أن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما أخبر بموت طلحة رفع رأسه إلى السماء، ثم قَالَ: " اللهم القه وهو يضحك وأنت تضحك إليه "

209 - وعن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " يضرب الصراط بين ظهراني جهنم " وذكر الحديث، وَقَالَ فيه: " فيقول: ويلك يا ابن آدم ما أغدرك ألم تعطني عهودك ومواثيقك أن لا تسألني غير ما أعطيتك؟ فيقول: أي رب لا أكون أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتى يضحك الرب منه، فإذا ضحك الله منه قَالَ له: أدخل الجنة 210 - " وأخرج أَبُو علي الحسن بن علي بن المذهب من مسند أَحْمَد بإسناده، عن ابن عباس، أن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أردفه عَلَى دابته، فلما استوى عليها كبر رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثلاثا وحمد الله ثلاثا وسبح الله ثلاثا، فقال: " ما من امرئ يركب دابته فيصنع كما صنعت إلا أقبل الله، عَزَّ وَجَلَّ، يضحك إليه كما ضحكت إليك " أعلم أنه غير ممتنع حمل هَذِهِ الأحاديث عَلَى ظاهرها من غير تأويل، وقد نص أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ فِي رواية الجماعة 211 - قَالَ فِي رواية حنبل: يضحك الله، ولا نعلم كيف ذَلِكَ إلا بتصديقها الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن 212 - وَقَالَ المروذي: سألت أَبَا عبد الله عن عبد الله التيمي فقال: صدوق، وقد كتبت عنه من الرقايق، ولكن حكي عنه أنه ذكر حديث الضحك فقال: مثل

الزرع الضحك، وهذا كلام الجهمية، قلت: ما تقول فِي حديث ابن جريج، عن أَبِي الزبير، عن جابر " فضحك حتى بدت "، قَالَ: هَذَا يشنع به، قلت: فقد حدثت به، قَالَ: ما أعلم أني حدثت به إلا مُحَمَّد بن داود يعني المصيصي وذلك أنه طلب إلي فيه، قلت: أفليس العلماء تلقته بالقبول؟ قَالَ: بلى 213 - قال أَبُو بكر الخلال: رأيت فِي كتاب لهرون المستملي أنه قَالَ لأبي عبد الله: حديث جابر بن عبد الله " ضحك ربنا حتى بدت لهواته أو قَالَ أضراسه " ممن سمعته؟ قَالَ: نا روح، قَالَ رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يضحك حتى بدت لهواته أو قَالَ أضراسه " فقد نص عَلَى صحة هَذِهِ الأحاديث والأخذ بظاهرها والإنكار عَلَى من فسرها، وذلك أنه ليس فِي حمله عَلَى ظاهره ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما نستحقه، لأنا لا نثبت ضحكا هو فتح الفم وتكشير شفتين وأسنان، ولا نثبت أضراسا ولهوات هي جارحة ولا أبعاضا، بل نثبت ذَلِكَ صفة كما أثبتنا الوجه واليدين والسمع والبصر، وإن لم نعقل معناه، ولا يجب أن نستوحش من إطلاق هَذَا اللفظ إذا ورد به سمع، كما لا نستوحش من إطلاق ذَلِكَ فِي غيره من الصفات فإن قيل: هَذَا محمول عَلَى إظهار فضله ونعمه بالإثابة: للرجلين المقتولين فِي سبيل الله، كأنه بين ثوابهما وأظهر من كرامته لهما، وكذلك قوله: " ضحكت لضحك ربي " أي لإظهار فضله وكرامته، لأن الضحك فِي اللغة هو الإظهار من قولهم: ضحكت الأرض بالنبات، إذا ظهر فيها النبات وانفتق عن زهره، وكذلك قالت العرب لطلع النخل إذا تفتق عنه فيقولون: ضحكت الطلعة، إذا

ظهر منها ما كان مستترا، وكذلك قول القائل: يضاحك الشمس منها كوكب شرق، وأنشد ابن الأعرابي: أما ترى الأرض قد أعطت زهرتها ... مخضرة فاكتسي بالنور عاريها وللسماء بكاء فِي جوانبها ... وللربيع ابتسام فِي نواحيها يريد بالابتسام ظهور النبات وطلوع النور عليها، وكذلك قولهم: ضحك المزن بها ثم بكى، يريد بالمزن السحاب وبضحك النور الذي يظهر ببكائه المطر قيل: هَذَا غلط، لأنه مظهر بفضله ونعمه مع عدم الأشياء المذكورة فِي الخبر من القتل وعدم الدعاء والصلاة، كما هو بعد ذَلِكَ فلم يصح حمله عَلَى ذَلِكَ، ولأنه إن جاز تأويله عَلَى هَذَا جاز تأويل قوله: " إنكم ترون ربكم " عَلَى معنى ترون بعطفه بكم وثوابه ورحمته وقد أجمعنا ومثبتوا الصفات عَلَى فساد هَذَا التأويل كذلك هاهنا، ولأن الضحك إذا أضيف إلى الذات لم يعقل منه ما قالوه من إظهار الفضل والنعمة، ولهذا إذا قيل: ضحك الأمير، لا يعقل منه ما قالوه، كذلك فِي صفاته سُبْحَانَهُ، ولأن فِي الخبر ما يسقط هَذَا وهو قوله: " يتجلى ضاحكا حتى تبدو أضراسه ولهواته "، وهذه الصفة تختص الذات دون ما ذكروه من النعم والفضل.

فإن قيل: لا يخلوا إما أن تقولون يضحك فِي وقت دون وقت، أو يستديم الضحك، فإن قلتم يضحك فِي حال دون حال، جعلتم ذاته محلا للحوادث، وإن قلتم يستديم ذَلِكَ أضفتم صفة منكرة، لأنه يقال لمن كثر ضحكه: فلان ضحكة هزأة قيل: نقول فيه ما تقولون فِي الغضب والرضا والكراهة، مع جواز هَذَا التقسيم، وعلى أنه لا يمتنع أن يكون صفة ذات يظهرها فِي وقت، كما يظهر ذاته فِي وقت دون وقت، ولا يفضي ذَلِكَ إلى ما قالوه لأن من كثر ضحكه سمي ضحكة إذا كان ضحكه من الأشر والبطر، وهذا مستحيل فِي صفاته سُبْحَانَهُ فأما قوله: " لن نعدم من رب يضحك خيرا " فذلك لأن الضحك يدل عَلَى الرضا، والرضا يدل عَلَى العفو والمغفرة، وقد ذكر ابن قتيبة هَذَا التأويل فِي كتاب اللفظ وأجاب عنه بأنه إن كان فِي الضحك الذي فروا منه تشبيه بالإنسان، فإن فِي هَذَا تشبيها بهذه المعاني

حديث آخر 214 - ناه أَبُو الْقَاسِمِ، قَالَ: نا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى، نا مُوسَى بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى الْمُقْرِئُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: نا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْمَلائِكَةَ مِنْ نُورِ الذِّرَاعَيْنِ وَالصَّدْرِ " وناه مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ بِهَذَا اللَّفْظِ أعلم أن الكلام فِي هَذَا الخبر فِي فصلين: أحدهما: فِي إثبات الذراعين والصدر، والثاني: فِي خلق الملائكة من نوره أما الفصل الأول: فإنه غير ممتنع حمل الخبر عَلَى ظاهره فِي إثبات الذراعين

والصدر إذ ليس فِي ذَلِكَ ما يحيل صفاته، ولا يخرجها عما تستحقه، لأنا لا نثبت ذراعين وصدرا هي جوارح وأبعاض، بل نثبت ذَلِكَ صفة كما أثبتنا اليدين والوجه والعين والسمع والبصر ، وإن لم نعقل معناه فإن قيل: عبد الله بن عمرو لم يرفعه إلى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما هو موقوف عليه فلا يلزم الأخذ به قيل: إثبات الصفات لا يؤخذ إلا توقيفا لأن لا مجال للعقل والقياس فيها، فإذا روي عن بعض الصحابة فيه قول علم أنهم قالوه توقيفا فإن قيل: فقد قيل إن عبد الله بن عمرو وسقين يوم اليرموك، وكان فيها من كتب الأوائل مثل دانيال وغيره، فكانوا يقولون له إذا حدثهم: حَدَّثَنَا ما سمعت من رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا تحدثنا من وسقيك يوم اليرموك، فيحتمل أن يكون هَذَا القول من جملة تِلْكَ الكتب فلا يجب قبوله، وكذلك كان وهب بن منبه يَقُول: إنما ضل من ضل بالتأويل، ويرون فِي كتب دانيال أنه لما علا إلى السماء السابعة فانتهوا إلى العرش رأى شخصا ذا وفرة فتأول أهل التشبيه عَلَى أن ذَلِكَ ربهم وإنما ذَلِكَ إبراهيم قيل: هَذَا غلط لوجوه: أحدهما أنه لا يجوز أن يظن به ذَلِكَ لأن فيه إلباس فِي شرعنا، وهو أنه يروي لهم ما يظنوه شرعا لنا، ويكون شرعا لغيرنا، ويجب أن ننزه الصحابة عن ذَلِكَ والثاني: إن شرعنا وشرع غيرنا سواء فِي الصفات، لأن صفاته لا تختلف باختلاف الشرائع فإن قيل: يحتمل أن يكون ذَلِكَ صدرا وذراعين لبعض خلقه لأنه ذكر الذراعين والصدر مطلقا، وقد وجد فِي النجوم ما يسمى ذراعين وصدرا، وتكون الفائدة فِي ذَلِكَ التنبيه عَلَى ما فِي قدرته من المخلوقين وإنشاء المخترعات

قيل: هَذَا غلط لأنه ذكر الذراعين والصدر بالألف واللام، والألف واللام يدخلان للعهد أو للجنس وليس يمكن حمله عَلَى الجنس لأنه يقتضي كل ذراع وكل صدر، وليس هاهنا معهود من الخلق يشار إليه فلم يبق إلا أن يحمل عليه سُبْحَانَهُ، لأنه أعرف المعارف، يبين صحة هَذَا أنه لما أراد تخصيص بعض الملائكة بفضيلة أو حكم عرفه باسمه نحو قوله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} وقوله تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} ونحو ذَلِكَ، ولأن حمله عَلَى بعض خلقه يسقط فائدة التخصيص بالملائكة فلما خص الملائكة بالذكر، علم أنه قصد تشريفهم وإذا حمل عَلَى بعض خلقه لم يكن لهم مزية وأما الفصل الثاني: وهو خلق الملائكة من نوره فليس عَلَى ظاهره، ومعناه خلقها بنوره تشريفا لهم كما خلق آدم بيده تشريفا له عَلَى غيره من خلقه، وإنما لم يجز حمله عَلَى ظاهره، لأن ذَلِكَ يحيل صفاته ويخرجها عما تستحقه، لأن نور ذاته قديم والقديم لا يتبعض فيكون بعضه مخلوقا كسائر صفاته، وهذا ظاهر كلام أَحْمَد، وذلك أنه قَالَ فِي قوله تَعَالَى: وَرُوحٌ مِنْهُ سورة النساء آية يَقُول: من أمره، وتفسيره " روح الله " أنها روح الله خلقها كما يقال: سماء الله وأرض الله، فلم يحمل الكلام عَلَى ظاهره فِي الروح بل تأوله لأن فِي حمله عَلَى ظاهره ما يحيل صفاته كذلك هاهنا

حديث آخر 215 - ناه أَبُو القسم بإسناده، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: " إن الله، عَزَّ وَجَلَّ، يَقُول: ابن آدم مرضت فلم تعدني، قَالَ: يا رب كيف وأنت رب العالمين قَالَ: مرض عبدي فلو عدته لوجدتني عنده " وفي لفظ آخر: " يَقُول الله، عَزَّ وَجَلَّ: استطعمتك فلم تطعمني، قَالَ: فيقول: يا رب كيف استطعمتني فلم أطعمك وأنت رب العالمين؟ قَالَ: فيقوله: أما علمت أن عبدي فلانا أستطعمك فلم تطعمه، أما علمت لو كنت أطعمته لوجدت ذَلِكَ عندي، يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قَالَ: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أنك لو كنت أسقيته لوجدت ذَلِكَ عندي " 216 - وفي لفظ آخر: " استقرضت عبدي فلم يقرضني، وشتمني ولم ينبغي أن يشتمني، قَالَ يَقُول: وادهراه وأنا الدهر " أعلم أن هَذَا الخبر قد اقترن به تفسير من النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي بعضه، فوجب الرجوع إلى تفسيره، وذلك أن فسر قوله: مرضت واستطعمت واستسقيت، عَلَى أنه إشارة إلى مرض وليه واستسقائه واستطعامه، وأضاف ذَلِكَ إلى نفسه إكراما لوليه ورفعة لقدره، وهذه طريقة معتادة فِي الخطاب يخبر السيد عن نفسه ويريد عبده إكراما له وتعظيما، وعلى هَذَا يحمل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، معناه: أولياء الله ورسله، وكذلك قوله تَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أي آسفوا أولياءنا والناصرين لديننا، لاستحالة أن يؤذي الله ويحارب

وأما قوله: " لو عدته لوجدتني عنده " معناه وجدت رحمتي وفضلي وثوابي وكرامتي فِي عيادتك له 217 - يبين صحة هَذَا ما حَدَّثَنَاهُ أَبُو القسم بإسناده، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا عند ظن عبدي، وأنا معه، إن تقرب إلي ذراعا تقرب الله إليه باعا، ومن جاء يمشي أقبل الله إليه بالخير يهرول " فبين فِي هَذَا الحديث أن قربه من عبده بالثواب، كذلك هاهنا، وعلى هَذَا يتأول قوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} معناه وجد عقابه وحسابه 218 - وقد فسر أَحْمَد قوله لموسى، عَلَيْهِ السَّلامُ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} يَقُول:

فِي الدفع عنكما، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فِي الدفع، وقوله: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ سورة البقرة آية فِي النصر لهم عَلَى عدوهم، وقوله تَعَالَى: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ سورة الشعراء آية يَقُول: فِي العون عَلَى فرعون

حديث آخر 219 - ناه أَبُو القسم بإسناده، عن عبد الله بن عمر، أن أتاه رجل فقال: كيف سمعت رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُول فِي النجوى؟ قَالَ: سمعت رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُول: " يؤتى بالمؤمن يوم القيامة فيدنيه الله تَعَالَى منه فيضع كنفه عليه حتى يستره من الناس فيقول: عبدي أتعرف ذنب كذا وكذا أتعرف كذا وكذا مرتين، فيقول: نعم حتى إذا قرره بذنوبه كلها، ورأى نفسه أنه قد هلك، قَالَ: فإني قد سترتها عليك فِي الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم " وقد ذكره البخاري ومسلم فِي الصحيحين أعلم أن الكلام فِي هَذَا الخبر فِي فصلين: أحدهما فِي الدنو، والثاني فِي وضع كنفه عليه فأما قوله: " يدني عبده " فغير ممتنع حمله عَلَى ظاهره، وأنه دنو من ذاته 220 - وقد أخذ أَحْمَد بظاهره فِي رواية أَبِي الحرث، وقد سأله ما معنى قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله يدني العبد يوم القيامة فيضع عليه كنفه " كما قَالَ ونقول به فقد نص أَحْمَد عَلَى الأخذ بظاهره من غير تأويل، وإنما قَالَ ذَلِكَ لأنه ليس فِي حمله عَلَى ذَلِكَ ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحقه، لأنا لا نصفه بالإنتقال من مكان إلى مكان، وعلى هَذَا يحمل قوله تَعَالَى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} وأن المراد بالدنو دنوه من الذات فإن قيل: فِي حمله عَلَى ذَلِكَ ما يفضي إلى إحالة صفاته وإخراجها عما تستحقه، لأنه تستحيل المساحة والمسافة وبعد المكان والنهاية عليه سُبْحَانَهُ

قيل: هَذَا غلط لما بينا، وهو أنا لا نصفه بالإنتقال من مكان إلى مكان، حتى يجيء منه ما ذكرت، وإنما تِلْكَ صفة راجعة إلى العبد، ولأن هَذَا لا يقتضي كونه فِي مكان، كما أن إثباته مستويا عَلَى العرش لم يوجب كونه فِي مكان، وكذلك رؤيته سُبْحَانَهُ لا توجب كونه فِي مكان، كذلك الدنو منه لا يوجب كونه عَلَى مسافة فإن قيل: فيجب حمله عَلَى أنه يقربه من رحمته وأمانه وتعطفه ولطفه، وهذا شائع فِي اللغة، لأنه يقال: فلان قريب من فلان، والمراد به المنزلة وعلو الدرجة قيل: هَذَا غلط لوجهين: أحدهما: أنه راحم له ومتعطف عليه وآمن له، مع عدم الدنو كما هو بعد الدنو، فلا يصح حمله عَلَى ما لا يفيد والثاني: إن جاز هَذَا، جاز لقائل أن يَقُول فِي قوله: " ترون ربكم " معناه تعطفه ورحمته وثوابه الفصل الثاني: قوله: " يضع عليه كنفه حتى يستره من الناس " فلا نعلم معنى الكنف ما هو فنمر الخبر عَلَى ظاهره فإن قيل: يحمل ذَلِكَ عَلَى القرب من المنزلة والدرجة، لأنه يقال: أنا فِي كنف فلان، وفلان فِي كنفي يريد به تعطفه وتوفره

قيل: هَذَا غلط لما تقدم، وهو أنه متعطف متوفر عليه قبل ذَلِكَ، ولأن هَذَا يوجب تأويل حديث الرؤية عَلَى ذَلِكَ فأما قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فالمراد به علمه، لأنه قد تقدم ذكر العلم فِي أول الآية بقوله تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} فوجب حمل ذَلِكَ عَلَى العلم

221 - وقد قَالَ أَحْمَد فِي قوله تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} هي علمه لأنه افتتح الآية بالعلم فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} وختمه بالعلم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وأما قوله تَعَالَى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} فظاهره يقتضي دنوا من الذات لأن القصد بذلك كرامته 222 - وقد روى ابن بطة بإسناده، عن ابن عباس فِي قوله: {قَابَ قَوْسَيْنِ} ، قَالَ: مقدار قوسين 223 - وحكى أَبُو بكر الخلال، عن عبد الله، حَدَّثَنِي هناد بن السري ، قَالَ: نا أَبُو الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن ميسرة فِي قوله تَعَالَى لموسى، عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} ، قَالَ: أدني حتى سمع صريف القلم فِي الألواح

224 - قَالَ أَبُو بكر عبد العزيز فِي تعاليق أَبِي إسحاق عنه قوله: حتى سمع صرير القلم عَلَى النون والراء وما أشبهه، قَالَ: ومن روى صريف القلم يَقُول عَلَى الكاف وما أشبه ذَلِكَ، لأن صريفه فِي رجوعه إلى وراء وصريره فِي مجيئه إلى بين يديه وأما قوله: " من قرب شبرا قربت منه ذراعا " فالمراد به التقريب من رحمته وكرامته، لأنه روى ذَلِكَ مفسرا فِي بعض ألفاظ الحديث، رواه أَبُو هُرَيْرَةَ عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " من جاء يمشي أقبل الله إليه بالخير يهرول " فقد ورد التفسير من النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي ذَلِكَ، فلهذا قضينا بالمطلق منه عَلَى القيد، والكلام عَلَى هَذَا الخبر يأتي مستوفى.

صفة العلو لربنا، تبارك وتعالى،

صفة العلو لربنا، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، حديث آخر 225 - ناه أَبُو القسم عبد العزيز بإسناده، عن معاوية بن الحكم، قَالَ: كانت لي جارية ترعى غنما فِي قبل أحد والجوانية، فاطلعتها ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها، وإني رجل من بني آدم آسف كما يأسفون لكني غضبت فصككتها صكة، فأتيت النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكرت ذَلِكَ له، فعظم ذَلِكَ علي، فقلت: يا رسول الله: ألا أعتقها، قَالَ: " ائتني بها "، فأتيته بها، فقال لها: " أين الله؟ " قالت: فِي السماء، قَالَ: " فمن أنا؟ " قالت: أنت رسول الله، قَالَ: " أعتقها فإنها مؤمنة " أعلم أن الكلام فِي هَذَا الخبر فِي فصلين: أحدهما: فِي جواز السؤال عنه سُبْحَانَهُ بأين هو، وجواز الإخبار عنه بأنه فِي السماء والثاني قوله: " اعتقها فإنها مؤمنة " أما الفصل الأول فظاهر الخبر يقتضي جواز السؤال عنه، وجواز الإخبار عنه بأنه فِي السماء، لأن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لها: " أين الله " فلولا أن السؤال عنه جائز لم يسأل وأجابته بأنه فِي السماء وأقرها عَلَى ذَلِكَ، فلولا أنه يجوز الإخبار عنه سُبْحَانَهُ بذلك لم يقرها عليه 226 - ونظير هَذَا الحديث ما رواه أَبُو رزين، قَالَ: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قَالَ: " فِي عماء "

فأجاز السؤال وأجاب عنه 227 - وقد أطلق أَحْمَد القول بذلك فيما خرجه فِي الرد عَلَى الجهمية فقال: قد أَخْبَرَنَا أنه فِي السماء فقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} وَقَالَ، عَزَّ وَجَلَّ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَقَالَ: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} وَقَالَ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وَقَالَ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} وَقَالَ: {ذِي الْمَعَارِجِ} وَقَالَ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} فقد أخبر الله سُبْحَانَهُ أنه فِي السماء، وهو الله عَلَى العرش فقد أطلق أَحْمَد القول بذلك، واحتج بهذه الآيات عَلَى جواز القول به وسنعيد الكلام فِي موضع آخر إن شاء الله، ولأنه ليس فِي ذَلِكَ ما يحيل صفاته، ولا يخرجه عما تستحقه، وذلك أنا لا نقول هو فِي السماء عَلَى وجه الإحاطة، بل نطلق ذَلِكَ كما أطلقنا جواز رؤيته، لا عَلَى وجه الإحاطة وإن لم يكن ذَلِكَ معقولا فِي الشاهد، وكما قَالُوا فِي قوله: {عَلَى الْعَرْشِ} معناه: عال عليه ، ولم يوجب ذَلِكَ كونه فِي جهة، وإن كنا نعلم أن العلو غير السفل فإن قيل: لا يجوز السؤال عنه بأين هو لأنه ليس فِي جهة، وإنما يصح السؤال عمن هو فِي جهة، ولا يصح الجواب عنه بأنه فِي السماء، لأن فِي حقيقته للظرف والوعاء ولا يجوز وصفه بذلك قيل: هَذَا غلط لأنه لا يمتنع جواز السؤال عنه، ولا يفضي إلى الجهة، وجواز الجواب عنه بأنه فِي السماء لا يفضي إلى الوعاء، كما جاز إطلاق القول بأنه عال عَلَى العرش ولم يفض إلى الجهة، وإن كنا نعلم أن العلو غير السفل، وكذلك جاز القول برؤيته لا فِي جهة وإن لم يكن مرئيا فِي الشاهد إلا فِي جهة،

كذلك هاهنا، وكذلك الحركة فِي الجسم، وإن لم تكن حالة فيه فإن قيل: هَذِهِ اللفظة قد تستعمل فِي السؤال عن المكان فيقال: هو فِي البيت أم فِي المسجد؟ وتستعمل فِي الإستعلام عن المنزلة فيقال: أين فلان منك ومن الأمير؟ وقد تستعمل فِي الإستعلام للفرق بين الرتبتين فيقولون: أين فلان من فلان، يعني بذلك، فِي الرتبة والمنزلة فيحتمل أن يكون قوله: أين الله استعلاما لمنزلته وقدره عندها، وفي قبلها، وأشارت أنه فِي السماء، أي رفيع الشأن عظيم المقدار، عَلَى معنى قوله القائل إذا أراد أن يخبر عن منزلة رجل: منزلة فلان فِي السماء، أي هو رفيع الشأن قيل: هَذَا غلط، لأن الحقيقة فِي هَذِهِ اللفظة أنها استفهام عن المكان دون المنزلة والرتبة، وإنما تستعمل فِي ذَلِكَ عَلَى طريق المجاز فكان حملها عَلَى الحقيقة أولى وجواب آخر: وهو أنه لو كان استفهاما عن المنزلة لأنكر عليها جوابها بما يرجع إلى غير ما سألها، فلما لم ينكر ذَلِكَ امتنع صحة هَذَا التأويل وجواب آخر: وهو أن الأمة كانت من الطغام، ولا يضاف إليها المعرفة بحمل المكان عَلَى الرفعة وعلو المنزلة فإن قيل: فإذا لم يكن سؤالا عن المنزلة لم يبق إلا سؤال عن المكان، وأنتم لا تثبتون ذَلِكَ قيل: بل هو سؤال عن كونه فِي السماء لا عَلَى وجه الحلول فإن قيل: يحتمل أن يكون قولها فِي السماء معناه: فوقها، كما قَالَ تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} معناه عليها، وكذلك قوله تَعَالَى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} معناه عليها، يبين صحة هَذَا قوله تَعَالَى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} فوصف نفسه بذلك وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ

عِبَادِهِ} فدل عَلَى أنه فوق السماء وفوق ما خلق قيل: هَذَا غلط لوجوه أحدها: أن هَذَا يسقط فائدة التخصيص بالسماء، لأنه فوق الأشياء كلها فلا معنى لتخصيصه بالسماء، إذا كان المراد به الفوق الثاني: أنه إن جاز أن يطلق القول بأنه فوق السماء فوق العرش، ولا يفضي إلى الجهة وإن كنا نعلم أن الفوق ضد السفل جاز إطلاق القول بأنه فِي السماء ولا يفضي إلى الجهة الثالث: إنما يجب الامتناع من ذَلِكَ لو كنا نقول ذَلِكَ عَلَى وجه الحد والظرف، فإما ونحن نمتنع من ذَلِكَ لم يمتنع إطلاق ذَلِكَ عليه فإن قيل: إن جاز أن تطلقوا هَذَا القول، وأنه فِي السماء لا عَلَى وجه الإحاطة والجهة، فأطلقوا القول فِي الأرض وفي كل مكان، لا عَلَى وجه الإحاطة والجهة، كما أطلقه النجار وجماعة من المعتزلة، بمعنى أنه مدبر فيها وعالم بها، كقولهم: فلان فِي نبا داره، معناه: مدبر لها

قيل: هَذَا غلط لأننا لا نطلق من ذَلِكَ إلا ورد به السمع، والسمع ورد بإطلاق ذَلِكَ فِي السماء وعلى العرش، ولم يرد فِي غير ذَلِكَ فإن قيل: قد ورد القرآن بذلك قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} قيل: فِي هَذِهِ الآيات ما دل عَلَى أنه ليس المراد به الذات، لأنه قَالَ: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سورة الأنعام آية فأخبر أنه يعلم سرنا وجهرنا الواقعين فِي السموات والأرض، إذ هي محال السر والجهر، ولهذا لا يجوز الوقف عَلَى قوله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ سورة الأنعام آية وإنما الوقف عَلَى قوله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ سورة الأنعام آية وكذلك قوله: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ سورة المجادلة آية معناه علمه بسرنا وجهرنا فإن قيل: فيجب أن تحمل قوله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ سورة الأنعام آية عَلَى العلم، كما حملت قوله: وَفِي الأَرْضِ سورة الأنعام آية عَلَى العلم قيل: الآية هكذا تقتضي أن المراد بها علمه ما فِي السموات وفي الأرض، ونحن لسنا نمنع أن يكون علمه ما فِي السموات وفي الأرض، لأن فِي الآية قرينة

دلت عَلَى العلم، وغيرها من الآيات والأخبار مطلقة ليس فيها ما دل عَلَى العلم، فحملناها عَلَى ظاهرها، عَلَى وجه لا يفضي إلى الحد والجهة 228 - وقد روى أَبُو طالب مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن غيلان فِي جملة حديثه عن الشافعي بإسناده، عن عبد الله بن الحسين المصيصي، قَالَ: دخلت طرسوس، فقيل لي: هاهنا امرأة قد رأت الجن الذين وفدوا إلى النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتيتها فإذا هي امرأة مستلقية عَلَى قفاها، فقلت: رأيت أحدا من الجن الذين وفدوا إلى رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: نعم: حَدَّثَنِي عبد الله سمحج، قَالَ: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قَالَ: " عَلَى حوت من نور يتلجلج فِي النور " وذكر بقية الخبر وهو وإن كان غريبا، فإنه يعضده ما تقدم من الأخبار ورأيت فِي كتاب أَبِي موسى النحوي المعروف بالحامض، عن ثعلب

أنه قَالَ قولهم: فِي السماء بيته، كقولك مقصده ورجاء ثوابه وإجابته، وهذا يسقط فائدة التخصيص بالسماء، لأن رجاء ثوابه وإجابته يرجى فِي كل حال حديث آخر 229 - ناه أَبُو القسم بإسناده، عن أَبِي رزين، قَالَ: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قَالَ: " كان فِي عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق العرش عَلَى الماء " 230 - وروى أَبُو بكر النجاد بإسناده، عن أَبِي رزين، قَالَ: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل يخلق خلقه؟ قَالَ: " كان فِي عماء ما تحته هواء ثم خلق عرشه عَلَى الماء " ورواه أَبُو عبد الله بن بطة بإسناده، عن أَبِي رزين، قَالَ: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قَالَ: " عَلَى عماء، تحته هواء ثم خلق عرشه عَلَى الماء " قال أَبُو عبيد : قوله: " فِي عماء " العماء فِي كلام العرب السحاب قَالَ الأصمعي وغيره: وهو ممدود، قَالَ: وإنما تأولنا هَذَا الحديث عَلَى كلام العرب المعقول عنهم، ولا ندري كيف كان ذَلِكَ العماء وما مبلغه،

قَالَ: وأما العمى فِي البصر فإنه مقصور، وليس هو من معنى الحديث فِي شيء أعلم أن هَذَا الحديث يدل عَلَى جواز إطلاق السؤال عنه سُبْحَانَهُ بأين هو، ويدل عَلَى جواز الإخبار عنه كان فِي عماء، لا عَلَى وجه الإحاطة والجهة كما أجزنا رؤيته لا عَلَى وجه الجهة فإن قيل: قوله: " فِي عماء " يحتمل أن يكون فوق عماء قيل: هَذَا غلط، لما بينا من فساد هَذَا السؤال فِي الخبر الذي قبله ورأيت فِي كتاب أَبِي موسى النحوي المعروف بالحامض، رواية السوسنجردي، قلت لأبي العباس فِي مسألة النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أين كان ربنا، أليس فِي المكان، قَالَ: فيما يستفهم الجاهل وبأي شيء يسأل إذا أراد علم شيء جهله لا بد من هَذَا، ويكون الجواب عَلَى حسب ذَلِكَ، ألا ترى قوله: " كان فِي عماء " وفي عما، فالممدود وهو الغيم الرقيق، والمقصود أي كان فِي عماء علينا لا ندري وهذا من ثعلب دلالة عَلَى جواز السؤال عنه بالأينية وإن كانت للمكان

حديث آخر 231 - ذكره ابن فورك ولم يقع لي طريقه، عن أنس بن مالك، قَالَ: كان جبريل عند النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتاه ملك، فقال: أين تركت ربنا؟ قَالَ: فِي سبع أرضين، فجاءه آخر فقال: أين تركت ربنا؟ قَالَ: فِي سبع سموات، فجاءه آخر فسأله مثل ذَلِكَ، فقال: فِي المشرق، وآخر فسأله: أين تركت ربنا؟ قَالَ: فِي المغرب فإن صح هَذَا الخبر حمل عَلَى أن علمه بسرنا وجهرنا الواقعين فِي السموات والأرض والمشرق والمغرب، وإنما وجب حمل هَذَا الخبر عَلَى هَذَا لما تقدم من نص القرآن والأخبار الصحاح أنه فِي السماء مستوي عَلَى عرشه بائن من خلقه

إثبات صفة الفرح لربنا جل شأنه

إثبات صفة الفرح لربنا جل شأنه حديث آخر 232 - ناه أَبُو القسم بإسناده، عن أنس بن مالك، أن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لله، عَزَّ وَجَلَّ، أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم يسقط عَلَى بعيره وقد أضله بأرض فلاة 233 - " أَخْبَرَنَاهُ أيضا بإسناده، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " الله جل اسمه أشد استبشارا بتوبة أحدكم، من أحدكم بضالته بفلاة من الأرض، عليها سقاؤه ومتاعه وما يصلحه " 234 - وناه بإسناده، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لا يوطن رجل مسلم المساجد للصلاة وللذكر، إلا تبشبش الله به حين يخرج من بيته، كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم " أعلم أن الكلام فِي الفرح والاستبشار قريب من

الكلام فِي الحديث الذي تقدم فِي الضحك، والقول فيه كالقول فِي ذَلِكَ وقد حكينا كلام أَحْمَد فِي ذَلِكَ، والأخذ بظاهر الحديث من غير تفسير كذلك هاهنا، إذ ليس فِي حمله عَلَى ظاهره ما يحيل صفاته، ولا يخرجها عما تستحقه، لأنا لا نثبت فرحا هو السرور لأنه يقتضي جواز الشهوة والحاجة عليه، ومن قوله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا} أي سروا بها، ولا نثبت أيضا فرحا هو البطر والأشر لأنهما لا يليقان بالله، عَزَّ وَجَلَّ، ومنه قوله تَعَالَى: {وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} وقوله: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} يعني بذلك فرح البطر والأشر، بل نثبت ذَلِكَ صفة، كما أثبتنا صفة الوجه واليدين والسمع والبصر، وإن لم نعقل معناه، ولا يوجب أن يستوحش من إطلاق مثل هَذَا اللفظ إذا ورد به سمع، كما لم يستوحش من إطلاق ذَلِكَ فِي غيره من الصفات فإن قيل: معنى الفرح هاهنا معنى الرضا، ومن قوله تَعَالَى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي: راضون لأن من سر بالشيء فقد رضيه، ويقول: هو فرح به بمعنى هو راض به، فيكون معناه: أن من وفقه الله للتوبة من معاصيه، فقد رضي أن يكون مثابا عَلَى الخير مقبولا منه الطاعة والعبادة

قيل: هَذَا غلط لأن هَذَا القائل عنده أن الرضا بمعنى الإرادة، وإرادة الله سُبْحَانَهُ لا تختص ما ذكر فِي الخبر من التوبة، لأن ضد التوبة مما كان عليه قبل ذَلِكَ، كان الله مريدا له، عَلَى أنه لا يمتنع أن يكون معنى ذَلِكَ ما قالوه وكذلك القول فِي البشبشة، لأن معناه يقارب معنى الفرح، والعرب تقول: رأيت لفلان بشاشة، وهشاشة وفرحا، ويقولون: فلان هش بش فرح، إذا كان منطلقا، فيجوز إطلاق ذَلِكَ كما جاز إطلاق الفرح وقد ذكر ابن قتيبة هَذَا الحديث فِي كتاب الغريب، وَقَالَ قوله: يبشبش من البشاشة وهو يتفعل فحمل الخبر عَلَى ظاهره ولم يتأوله.

إثبات صفة العجب لربنا، تبارك وتعالى،

إثبات صفة العجب لربنا، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، حديث آخر 235 - رواه أَبُو عبد الله بن بطة بإسناده، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " عجب الله، عَزَّ وَجَلَّ، من قوم جيء بهم فِي السلاسل حتى يدخلهم الجنة " 236 - ورواه بإسناده، عن ابن مسعود، قَالَ: قَالَ رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته، طلب ما عندي، ورجل غزا فِي سبيل الله فانهزم أصحابه، فعلم ما عليه فِي الانهزام، وماله فِي الرجوع، فرجع حتى هريق دمه، فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي، وشفقة من عذابي، حتى هريق دمه "

237 - ومن ذَلِكَ قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عجب ربك من شاب ليست له صبوة " أعلم أن الكلام فِي هَذَا الحديث، كالكلام فِي الذي قبله، وأنه لا يمتنع إطلاق ذَلِكَ عليه، وحمله عَلَى ظاهره إذ ليس فِي ذَلِكَ ما يحيل صفاته، ولا يخرجها عما تستحقه، لأنا لا نثبت عجبا هو تعظيم لأمر دهمة استعظمه لم يكن عالما به، لأنه مما لا يليق بصفاته، بل نثبت ذَلِكَ صفة كما أثبتنا غيرها من صفاته

فإن قيل: المراد به تعظيم ذَلِكَ وتكثيره عند أهله حثا عَلَى فعلها، وترغيبا فِي المبادرة إليها، ويحتمل أن يكون المراد به الرضا له والقبول، لأن من أعجبه الشيء فقد رضيه، ولا يصح أن يعجب مما يسخطه ويكرهه 238 - وقد أومئ أَبُو عبد الله بن بطة إلى هَذَا فِي كتاب الإبانة، فقال: التعجب عَلَى ضربين: أحدهما المحبة بتعظيم قدر الطاعة، والسخط بتعظيم قدر الذنب، ومن ذَلِكَ قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عجب ربك من شاب ليست له صبوة " أي: أن الله محب له راض عنه، والتعجب عَلَى معنى الاستنكار للشيء ويتعالى عن ذَلِكَ، لأن الإستنكار هو الجاهل الذي لا يعرف فلما عرفه استنكره وعجب منه قيل: الطريق الصحيح ما ذكرناه من حمله عَلَى ظاهره، وهو الأشبه بأصول أَحْمَد فِي نظائره من الأخبار لما بينا، وهو أنه ليس فِي ذَلِكَ ما يحيل صفاته، وما ذكروه من التأويل لا يصح، لأن الله تَعَالَى راض بذلك قبل وجود هَذِهِ الأفعال منهم، ومعظم لها قبل وجودها، فرضاه وتعظيمه لا يختص ما ذكر فِي الأخبار، فلم يصح حملها عليه، لأنه حمل عَلَى ما لا يفيد فأما قوله: " يقادون إلى الجنة بالسلاسل " فقيل فيه: أنه يكرهون الطاعة التي يصلون بها إلى الجنة، من حيث تخالف أهوائهم وشهواتهم، وتكرهها نفوسهم من حيث تشقق عليهم، وتصدهم عن الراحات واللذات فِي الحال، لكنها سائقة لهم إلى الجنة، وهي دار الراحات 239 - وقد قَالَ أَحْمَد فِي رواية الفضل بن زياد: وقد سأله عن قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عجب ربكم من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل "، قَالَ: هو هَذَا السبي الذين

يسبون فيدخلون فِي الإسلام، ونحو ذَلِكَ نقل أَبُو الحرث 240 - فأما قوله: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} فقد روي عن ابن مسعود كان يقرأ بضم التاء، وروي عن شريح إنكار هَذِهِ القراءة، فإن

كانت صحيحة لم يمتنع حملها عَلَى ظاهرها، وأن ذَلِكَ صفة لله تَعَالَى، عَلَى ما ذكرنا فِي ظاهر الخبر فإن قيل: هَذَا خرج عَلَى طريق المجازاة عَلَى عجبهم، لما أخبر عنهم أنهم عجبوا من الحق لما جاءهم وقالوا: هَذَا شيء عجاب، وهذا شيء عجيب كما قاله القائل: فنجهل فوق جهل الجاهلينا وكما قَالَ تَعَالَى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَقَالَ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} فسمى الثاني باسمها قيل: إنما يكون هَذَا عَلَى طريق المجازاة إذا تقدم العجب منهم ولم يجر له ذكره فِي هَذِهِ السورة، وإنما جرى ذكره فِي سورة ص، فلا يخرج هَذَا مخرج المجازاة، ألا ترى أن المواضع التي استشهدوا بها تقدم ذكر ذَلِكَ، من جهتهم فخرج الإنكار من الله تَعَالَى عَلَى طريق المجازاة فإن قيل: المراد به النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبر عن نفسه، والمراد به النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قَالَ: " مرضت فلم تعدني "، وكما قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} معناه: أولياءه قيل: هناك قد دل الدليل عَلَى أن هناك مضمر محذوف، وليس هاهنا ما دل عَلَى ذَلِكَ، فوجب التمسك بحقيقة اللفظ وهو الإضافة إلى نفسه، وعلى أن فِي الآية ما يدل عَلَى أن ذَلِكَ راجع إليه سُبْحَانَهُ لأنه عطفه عَلَى نفسه بقوله تَعَالَى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ}

وهذا كله راجع إليه سُبْحَانَهُ، ثم عطفه، فقال: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} فكان ذَلِكَ راجعا إليه حديث آخر 241 - ناه أَبُو القسم بإسناده، عن أَبِي بن كعب، قَالَ: " لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن جل اسمه " وفي لفظ آخر: " فإنها من نفس الله جل اسمه، فإذا رأيتموها فقولوا: اللهم إنا نسألك من خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، ونعوذ بالله من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به " 242 - وروى ابن بطة فِي بعض مكاتباته إلى بعض أصدقائه جواب مسائل سأله عنها بإسناده ، عن جابر، قَالَ: قَالَ رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا رأيتم الريح فلا تسبوها، فإنها من نفس الرحمن، تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فسلوا الله من خيرها

واستعيذوا بالله من شرها " أعلم أن شيخنا أَبَا عبد الله ذكر هَذَا الحديث فِي كتابه، وامتنع أن يكون عَلَى ظاهره فِي أن الريح صفة ترجع إلى الذات، والأمر عَلَى ما قاله، ويكون معناه أن الرحي مما يفرج الله، عَزَّ وَجَلَّ، بها عن المكروب والمغموم، فيكون معنى النفس معنى التنفيس، وذلك معروف فِي قولهم: نفست عن فلان، أي فرجت عنه، وكلمت زيدا فِي التنفيس عن غريمة، ويقال: نفس الله عن فلان كربة أي: فرج عنه، وروي فِي الخبر: " من نفس عن مكروب كربة نفس الله عنه كربة يوم القيامة " وروى فِي الخبر أن الله فرج عن نبيه بالريح يوم الأحزاب فقال سُبْحَانَهُ: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} وإنما وجب حمل هَذَا الخبر عَلَى هَذَا، ولم يوجب تأويل غيره من الأخبار لأنه قد روي فِي الخبر ما يدل عَلَى ذَلِكَ، وذلك أنه قَالَ: " فإذا رأيتموها فقولوا: اللهم إنا نسألك من خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به " وهذا يقتضي أن فيها شر وأنها مرسلة، وهذه صفات المحدثات 243 - ونا أَبُو القسم بإسناده، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الريح من روح الله يبعثها بالرحمة ويبعثها بالعذاب فلا تسبوها، وسلوا الله خيرها، وعوذوا بالله من شرها "

وقوله: " فإنها من روح الله " يدل عَلَى صحة التأويل، وأنه يروح بها عن المكروب وقوله: " يبعثها بالرحمة وبالعذاب " صريح فِي أنها مخلوقة مأمورة بالرحمة تارة وبالعذاب أخرى، وهذا دليل عَلَى صحة التأويل

حديث آخر فِي هَذَا المعنى 244 - من حديث أَبِي الحسين وأبي القسم بن بشران، عن دعلج، عن ابن خزيمة بإسناده، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ وهو مول ظهره إلى اليمن: " إني أجد نفس الرحمن فِي هاهنا " 245 - وروى ابن بطة فِي مكاتبته إلى بعض أصدقائه بإسناده، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: " الإيمان يمان والحكمة يمانية، وأجد نفس ربكم من قبل اليمن " ومعناه ما تقدم فِي الحديث الذي قبله، وهو أني أجد تفريج الله عني

وتنفيسه عن كربي بنصرته إياي من قبل أهل اليمن، وذلك لما نصره المهاجرون والأنصار نفس الله عن نبيه ما كان فيه من أذى المشركين، وقتلهم الله عَلَى أيدي المهاجرين من أهل اليمن والأنصار، وكان، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كثيرا ما كان يمدح أهل اليمن، فروي عنه أنه قَالَ: " الإيمان يمان والحكمة يمانية " وإنما وجب حمله عَلَى ذَلِكَ لما تقدم فِي الحديث الذي قبله، وأن فيه ما دل عَلَى أن النفس مخلوقة، لأنه أضافه إلى الريح، والريح مخلوقة من جهة أنها مأمورة بالرحمة والعذاب، فوجب حمل هَذَا المطلق عَلَى ذَلِكَ 246 - ورأيت فِي بعض مكاتبات ابن بطة إلى بعض أصدقائه، وقد ذكر هذين الخبرين حديث جابر: " إذا رأيتم الريح فلا تسبوها "، وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ: " أجد نفس ربكم " وحكى كلام ابن قتيبة فِي ذَلِكَ فقال: أنت فِي نفس من أمرك أي فِي سعة، وقوله: " من نفس الرحمن " معناه أنها يفرج بها الكرب ويذهب بها الجدب، يقال: اللهم نفس عني أي: فرج عني، وذكر كلاما طويلا

ثم قَالَ ابن بطة بعده: ومما يشهد لصحة هَذَا التأويل، وأن الريح من نفس ربكم إنما أراد بالنفس: الفرج والروح، ما سمعت أَبَا بكر بن الأنباري يَقُول: إنما سميت الريح ريحا لأن الغالب عليها فِي هبوبها المجيء بالروح والراحة، وانقطاع هبوبها يكسب الكرب والغم والأذى، فهي مأخوذة من الروح وأصلها روح فصارت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ثم قَالَ: فهذا ما قاله أهل العلم بتأويل الكتاب والسنة وكلام العرب فِي تأويل الريح، ومعنى النفس بها، وفي كتاب الله تَعَالَى ما دل علي أنها بمعنى الفرج من الغم، والنفس من الكرب، أن الغم والضيق يكونان بركودها، قوله جل وعز: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا} وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} 247 - وفي معنى ذَلِكَ حديث آخر رواه ابن فورك، ولم يقع لي طريقه أنه قَالَ: " هَذَا نفس ربي أجده بين كتفي أتتكم الساعة " معناه: هَذَا فرج الله عني صرف به غمومي وهمومي وكشف عن قلبي وسري عن فؤادي ما كان يجده، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي مستقبل أوقاته، من زوائد روح اليقين والألطاف، فسمى ذَلِكَ نفس الرب، لأنه هو الذي نفس به عنه، والإضافة عَلَى طريق الملك، والموجب لحمله عَلَى ذَلِكَ ما تقدم فِي الخبر الأول، وقد بينا أن فيه ما دل عليه.

إثبات صفة النزول لربنا، تبارك وتعالى،

إثبات صفة النزول لربنا، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، حديث آخر 248 - رواه الثقات من طرق مختلفة، وألفاظ مختلفة، حَدَّثَنَاهُ أَبُو القسم بإسناده، عن أَبِي بكر الصديق، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " ينزل الله، عَزَّ وَجَلَّ، ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لكل نفس إلا إنسان فِي قلبه شحناء أو مشرك بالله جل اسمه " 249 - وروى معاذ بن جبل، قَالَ: قَالَ رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يطلع الله إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لهم إلا المشرك أو مشاحن " 250 - وروت عائشة قالت: قَالَ رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله جل اسمه يطلع ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب "

251 - وروى أَبُو سعيد وأبو هُرَيْرَةَ، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إن الله يمهل حتى إذا ذهب ثلث الليل هبط، عَزَّ وَجَلَّ، فقال: هل من داع يستجاب له؟ هل من سائل يعطى سؤله؟ هل من مستغفر من ذنب؟ " 252 - وروى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: سمعت رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا ذهب شطر الليل الأول ينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى ينشق الفجر " 253 - وحدثنا أَبُو القسم بإسناده، عن أَبِي هُرَيْرَةَ وأبي سعيد قالا: قَالَ رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله يمهل حتى إذا شطر الليل نزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر يغفر له؟ هل من داع يستجاب له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى

ينشق الفجر ثم يرتفع " 254 - وَقُرِئَ عَلَى أَبِي الْفَرَجِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْمُسْلِمَةِ الْمُعَدَّلُ، فِي دَارِهِ وَأَنَا حَاضِرٌ أَسْمَعُ، قَالَ: أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْجَوَالِيقِيُّ، قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُوَيْدٍ الزَّارِعُ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: نا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيُّ، قَالَ: نا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَنْزِلُ اللَّهُ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَيُعْطَى سُؤْلَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَيُغْفَرُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ عَانٍ فَيُفَكُّ عَانِيهِ؟ قَالَ: فَيَكُونُ

كَذَلِكَ، حَتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ ثُمَّ يَعْلُو رَبُّنَا، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، عَلَى كُرْسِيِّهِ " 255 - وروى أَبُو بكر أَحْمَد بن إسحاق الصبغي، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " ما من أيام أفضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض "

256 - وروي عن ابن عباس أنه قرأ هَذِهِ الآية: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلا} قَالَ: ينزل أهل السماء الدنيا وهم أكثر من أهل الأرض من الجن والإنس فيقول أهل الأرض: أفيكم ربنا؟ فيقولون لا - وذكر الحديث - ثم يأتي الرب فِي الكروبيين وهم أكثر أهل السموات السبع والأرضين " أعلم أن هَذَا حديث صحيح يجب الأخذ بظاهره من غير تأويل، ولا يجب أن يستوحش من إطلاق مثل ذَلِكَ

257 - وقد نص أَحْمَد عليه فِي رواية ابن منصور وقد سأله: " ينزل ربنا، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا " أليس تقول بهذا الحديث؟ قَالَ أَحْمَد: صحيح 258 - وَقَالَ أَحْمَد بن الحسين بن حسان: قيل لأبي عبد الله: " إن الله، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة "، قَالَ: نعم، قيل له: وفي شعبان كما جاء الأثر؟ قَالَ: نعم 259 - وَقَالَ يُوسُف بن موسى: قيل لأبي عبد الله: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء من غير وصف؟ قَالَ: نعم 260 - وَقَالَ حنبل: قلت لأبي عبد الله: ينزل الله، عَزَّ وَجَلَّ، إلى السماء الدنيا؟ قَالَ: نعم، قلت: نزوله بعلمه أم بماذا؟ فقال: اسكت عن هَذَا وغضب، وَقَالَ: مالك ولهذا امض الحديث عَلَى ما روي والوجه فِي ذَلِكَ أنه ليس فِي الأخذ بظاهره ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحقه، لأنا لا نحمله عَلَى نزول انتقال كما قَالَ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} ولا عَلَى أن يخلوا منه مكان ويشغل مكان، لأن هَذَا من صفات الأجسام، بل نطلق القول فيه كما أطلقناه فِي قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا} وليس يمتنع إطلاق ذَلِكَ، وإن لم يكن معقولا فِي الشاهد، كما

وصفناه بالحياة وأنه حي بحياة، ولم نصفه بالحركة والانتقال والتحول، وإن كنا نعلم فِي الشاهد أن الحي لا ينفك عن الحركة والانتقال والتحول، وكذلك قد وصف أمره بالمجيء فقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} ولم يوجب ذَلِكَ انتقال فِي الموضعين، وكذلك جاء الليل وجاء النهار وجاءت الحمى، وإن لم يوجب ذَلِكَ انتقال، وكما أطلقنا القول بالاستواء وحمله بعضهم عَلَى العلو، ولم يوجب ذَلِكَ حدوثه فِي جهة العلو بعد أن لم يكن، وإن كان حقيقة، ثم فِي اللغة للتراخي، ولا أوجب له الجهة، وإن كان العلو غير السفل كذلك هاهنا 261 - وقد قَالَ أَحْمَد فِي رسالته إلى مسدد: إن الله، عَزَّ وَجَلَّ، ينزل فِي كل ليلة إلى السماء الدنيا ولا يخلوا من العرش فقد صرح أَحْمَد بالقول إن العرش لا يخلوا منه، وهكذا القول عندنا فِي قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} والمراد به مجيء ذاته لا عَلَى وجه الانتقال وكذلك قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} المراد به مجيء ذاته لا عَلَى وجه الانتقال وقد حكينا كلام أَحْمَد فِي ذَلِكَ فِي رواية أَبِي طالب وحنبل وكلام أَبِي إسحاق فِي الكلام عَلَى قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أتاني ربي فِي أحسن صورة "، وليس يمتنع أن نثبت له نزول ذات لا عَلَى وجه الانتقال لا يعقل معناه، وإن لم يعقل هَذَا فِي الشاهد، كما أثبتنا ذاتا ويدين ووجها وعينا لا يعقل معناه وقد عضد هَذَا الخبر القرآن، فذكر مقاتل فِي تفسيره فِي قوله تَعَالَى:

{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ} بمعنى انفرجت، وهو البياض الذي فِي وسط السماء لنزول من فيها، يعني الرب والملائكة فإن قيل: المراد بقوله: " ينزل الله، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، " معناه ينزل من أفعاله التي هي ترغيب لأهل الخير وإقبال عَلَى أهل الأرض والاستعطاف، بالتذكير والتنبيه الذي يلقى فِي قلوب أهل الخير حتى يستغفروه قيل: هَذَا غلط لوجوه أحدها: أنه لم يكن غير مقبل فأقبل عليهم، بل

كان مقبلا قبل ذَلِكَ، يبين صحة هَذَا قول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يزال الله مقبلا عَلَى عبده فِي الصلاة " الثاني: أنه إن جاز تأويله عَلَى هَذَا، جاز تأويل قوله: " ترون ربكم " عَلَى الرؤية إلى رحمته الثالث: أن فِي الخبر ما يسقط هَذَا وهو قوله: " هل من سائل فيعطى سؤله؟

هل من مستغفر فيغفر له؟ " وهذه صفة تختص الذات، لا يصح وجودها من الرحمة والأفعال التي هي صفات قائمة بالذات فإن قيل: قوله " ينزل " معناه تنزل ملائكته بهذا النداء وبهذا الدعاء فيضاف ذَلِكَ إليه كما يقال: ضرب الأمير اللص، ونادى فِي البلد، ومعناه: أمر بذلك، وكذلك قوله: " ينزل عشية عرفة " يحمل عَلَى ملائكته وعلى نزول رحمته قيل: هَذَا غلط لوجوه أحدها: أن فِي الخبر: " ينزل ربنا، عَزَّ وَجَلَّ، " وهذا لا يصح حمله عَلَى ملائكته، كما إذا قيل: نزل الملك ببلد كذا لا يعقل منه نزول أصحابه الثاني: قد روي فِي بعض الألفاظ ما يسقط هَذَا 262 - وهو ما حَدَّثَنَاهُ أَبُو القسم بإسناده، عن أَبِي الدرداء، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: " إن الله، عَزَّ وَجَلَّ، ينزل فِي ثلاث ساعات يبقين من الليل فيفتح الذكر فِي الساعة الأولى، الذي لم تره عين فيمحوا الله ما يشاء ويثبت، ثم ينزل فِي الساعة الثانية إلى جنة عدن، وهي داره وهي مسكنه التي لم ترها عين ولم يخطر عَلَى قلب بشر، وهي مسكنه لا يسكنها معه من بني آدم إلا ثلاث: النبيون والصديقون والشهداء، ثم ينزل فِي الساعة الثالثة إلى السماء الدنيا وملائكته، فتنتفض فيقول: قومي بعزتي، ثم يطلع إلى عباده فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ ألا من يسألني فأعطيه؟ ألا من داع فأجيبه؟ حتى تكون صلاة الفجر، ولذلك يَقُول الله: {وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}

وهذا يسقط التأويل، لأنه قَالَ: " ينزل فِي الساعة الثالثة إلى سماء الدنيا وملائكته "، فأثبت نزول ذاته ونزول ملائكته فإن قيل: يحتمل قوله: " ينزل وملائكته " معناه ينزل بملائكته قيل: هَذَا غلط لأن حقيقة الواو للعطف والجمع، ولأنه قَالَ فِي الخبر: " ألا من يسألني فأعطيه؟ ألا من داع فأجيبه؟ " وهذا القول لا يكون لملك الثالث: أنه إن جاز تأويل هَذَا عَلَى نزول ملائكته، جاز تأويل قوله: " ترون ربكم عَلَى رؤية ملائكته " 263 -وجواب آخر جيد وهو ما رواه إبراهيم بن الجنيد الختلي فِي كتاب العظمة بإسناده، عن أنس، أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إن الله جل اسمه إذا أراد أن ينزل نزل بذاته " فإن قيل: فقد روي بضم الياء " ينزل الله " وإذا كان كذلك، صح التأويل بأنه ينزل من أفعاله التي هي ترغيب لأهل الخير واستعطاف لأهل العطف قيل: هَذَا غلط لأنه لا يحفظ هَذَا عن أحد من أصحاب الحديث أنه روى ذَلِكَ بالضم فلا يجوز دعوى ذَلِكَ، والذي يبين بطلان ذَلِكَ قوله: " ألا من يسألني فأعطيه؟ ألا من داع فأجيبه؟ " وهذه صفة تختص بها الذات دون الأفعال، وما هَذِهِ الزيادة ألا تحريف المبطلين لأخبار الصفات فإن قيل: يحمل قوله: " ثم يعلوا " المراد به ملائكته قيل: هَذَا غلط لأنه قَالَ فِي الخبر: " ثم يعلوا عَلَى كرسيه " وليس هَذِهِ صفة للملائكة لأن الكرسي مضاف إليه، وكذلك قوله: " ثم يرتفع " لا يصح حمله عَلَى الملائكة لأن هاء الكناية ترجع إلى المذكور فإن قيل: أليس قد قَالَ تَعَالَى: {لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} وكان طمس الأعين من الملائكة بأمر الله، فلا يمتنع أن يكون تنزل الملائكة بأمر الله،

وكذلك قوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} وَقَالَ: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} وقوله تَعَالَى: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} كل ذَلِكَ المراد به فعل يظهر منه كذلك هاهنا قيل: هَذَا غلط لأن تِلْكَ الآيات لم يقترن بها ما دل عَلَى أن المراد به نفس الذات فالأمر فيها محتمل، فحمل عَلَى أفعاله، وأما هاهنا ففي سياق الخبر ما دل عَلَى أن المراد به الذات من الوجه الذي ذكرناه فأما قوله فِي حديث أَبِي سعيد وأبي هُرَيْرَةَ: " إذا ذهب ثلث الليل هبط " فالقول فيه كالقول فِي الرواية المشهورة " ينزل " وأن ذَلِكَ إخبار عن هبوط الذات ونزولها، وأما قوله فِي حديث أَبِي الدرداء: " ينزل فِي الساعة الثانية جنة عدن وهي داره ومسكنه لا يسكنها معه إلا النبيون والصديقون والشهداء " فإنه غير ممتنع حمله عَلَى ظاهره، وأنه يجوز إطلاق القول بأن جنة عدن داره ومسكنه، لا عَلَى وجه الحد والجهة، كما أطلقنا القول بالاستواء عَلَى العرش، لا عَلَى وجه الجهة، وقد دل عَلَى صحته هَذَا الإطلاق قوله تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} فأخبر أنه فِي السماء، ولا يمتنع أيضا جواز إطلاق القول بأن الأنبياء والشهداء والصديقين سكان معه 264 - ويشهد لذلك قوله تَعَالَى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا سورة الإسراء آية حَدَّثَنَا أَبُو القسم بإسناده، عن ابن عمر، عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قول: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا سورة الإسراء آية، قَالَ: يجلسه معه عَلَى السرير وأما قوله فِي حديث أَبِي الدرداء: " يمحو الله ما يشاء ويثبت " فليس ذَلِكَ عَلَى معنى تغيير حكم قد استقر، لكن عَلَى معنى تجديد كراماته ونعمه، ويأتي الكلام عَلَى هَذَا مستوفى فِي قوله تَعَالَى: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ سورة الرعد آية وهو مذكور فِي حديث النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سره أن يمد الله فِي عمره، ويوسع عليه فِي

رزقه، فليتق الله وليصل رحمه " وأما قوله فِي حديث أَبِي الدرداء: " وينزل فِي الساعة الثالث وملائكته " فغير ممتنع حمله عَلَى ظاهره، ويشهد له قوله تَعَالَى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا سورة الفجر آية وقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ سورة البقرة آية وقد امتنع قوم من إطلاق ذَلِكَ وقالوا قوله: " جنة عدن داره ومسكنه " معناه: دار كرامته ومثوبته، وهذا غلط لوجهين أحدهما: أن جنة عدن لا تختص بكرامته ومثوبته لأن سائر الجنان كذلك والثاني: أنه إن جاز تأويله عَلَى هَذَا جاز تأويل الاستواء عَلَى العرش، عَلَى كرامته ومثوبته وتأولوا قوله: " لا يسكنها معه إلا الأنبياء والشهداء " عَلَى أنه معهم بالنصرة والكرامة، وهذا غلط، لأن ذَلِكَ يسقط فائدة التخصيص بجنة عدن، لأنه ناصرهم فِي غيرها، ولأن لفظة السكنى لا تستعمل فِي النصرة 265 - وقد ذكر أَبُو بكر النقاش فِي كتاب الرسالة فِي قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} لو كان الجائي غيره لكان الجائي غير الملك، وحكي عن إسحاق بن راهويه أنه قَالَ: سألني رجل من الجهمية أنه قَالَ: إذا نزل إلى السماء الدنيا يخلوا منه العرش؟ قَالَ: فقلت: يقدر أن ينزل ولا يخلوا منه العرش؟ قَالَ: فسكت، قَالَ: فقلت: إن قلت يقدر خصمت، وإن قلت لا يقدر كفرت، ولأن تكون مخصوما خير من أن يكون كافرا قال إسحاق: وسألني رجل عن نزول الرب وما توهم الرجل عند ذَلِكَ، فقلت: ما توهم عند قوله: {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} فيكون توهمك عند النزول مثل توهمك {وَجَاءَ رَبُّكَ} 266 - وقد ذكر أَبُو بكر عبد العزيز من أصحابنا فِي كتاب التفسير فِي قوله تَعَالَى:

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} فقال: اختلف فِي صفة إتيان الرب فِي قوله إلا أن يأتيهم الله فقال بعضهم: لا صفة لذلك غير الذي وصف به نفسه من المجيء والإتيان والنزول، وغير جائز تكلف القول فِي ذَلِكَ لأحد، إلا بخبر من الله أو من رسوله، فأما القول فِي صفات الله وأسمائه، فغير جائز لأحد من جهة الاستخراج إلا بما ذكرنا وقال آخرون: إتيان جل ذكره نظير ما يعرف من مجيء الجائي من موضع إلى موضع، انتقاله من مكان إلى مكان وقال آخرون: معنى قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} معناه: أمر الله، كما يقال: قد خشينا أن يأتينا بنو أمية، يراد به حكمهم وقال آخرون: معنى ذَلِكَ هل ينظرون إلا أن يأتيهم ثوابه وحسابه وعقابه كما قَالَ: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} وكما يقال: قطع الوالي اللص أو ضربه، وإنما قطعه أعوانه، وغلب أَبُو بكر الوجه الأول، وروى فِي ذَلِكَ بإسناده عن ابن عباس، أن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفا " وذلك قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ سورة البقرة آية 267 - وروي بإسناده حديثا طويلا ذكرت بعضه عن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ

رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " توقفون موقفا واحدا يوم القيامة مقدار سبعين عاما لا ينظر إليكم، ولا يقضي بينكم قد حصر عليكم فتبكون حتى ينقطع الدمع، ثم تدمعون دما وتبكون حتى بلغ ذَلِكَ منكم الأذقان، ويلجمكم فتضجون، ثم تقولون: من يشفع لنا إلى ربنا حتى يأتوني فإذا جاءوني خرجت حتى آتي الفحص "، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يا رسول الله ما الفحص؟ قَالَ: " قدام العرش فأخر ساجدا " وذكر الخبر إلى أن قَالَ: " فيقول: قد شفعتك، فأنصرف حتى أقف مع الناس، فبينا نحن وقوف سمعنا حسا من السماء شديدا فهالنا، فنزل أهل السماء الدنيا بمثلي من فِي الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض لنورهم، فقلنا: أفيكم ربنا؟ فقالوا: لا وهو آت " وذكر الخبر إلى أن قَالَ: " ثم ينزل أهل السموات عَلَى قدر ذَلِكَ من التضعيف حتى نزل الجبار تَعَالَى ذكره فِي ظلل من الغمام والملائكة ولهم زجل من تسبيحهم، فينزل ربنا، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يحمل عرشه يومئذ ثمانية، وهم اليوم أربعة، أقدامهم عَلَى تخوم الأرض السفلى والسموات إلى حجزهم، والعرش عَلَى مناكبهم، فوضع الله، عَزَّ وَجَلَّ، عرشه حيث شاء من الأرض ثم ينادي نداءا يسمع الخلاق " وذكر الخبر قال أَبُو بكر: وبمثل ذَلِكَ روي الخبر عن جماعة من الصحابة والتابعين، ويؤكد صحة هَذَا وأن المراد بالإتيان والمجيء الذات قوله تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} فلما قصد إتيان الآيات صرح بذكرها.

بيان أن الله تعالى حجابه النور أو النار

بَيَانٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِجَابُهُ النُّورُ أَوِ النَّارُ حَدِيثٌ آخَرُ 268 - حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَعَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ، حِجَابُهُ النَّارُ، لَوْ كَشَفَهَا أَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ " وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهَا لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ " وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ أَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ "

269 - وَحَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دُونَ اللَّهِ سَبْعُونَ أَلْفِ حِجَابٍ مِنْ نُورٍ وَظُلْمَةٍ، وَمَا تَسْمَعُ نَفْسٌ شَيْئًا مِنْ حِسِّ تِلْكَ الْحُجُبِ إِلا زَهَقَتْ نَفْسُهَا 270 - " وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصِّبْغِيُّ أَخْبَارًا أُخَرَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي

كِتَابِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَرَوَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ عَجَبًا، رَأَيْتُ مِنْ أُمَّتِي رَجُلا جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّبِّ حِجَابٌ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ " 271 -وَذَكَرَ حَدِيثَ صُهَيْبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ: " فَيُكْشَفُ لَهُمْ عَنِ الْحِجَابِ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ " 272 -وَذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ مُوسَى قَالَ: يَا رَبِّ أَرِنِي أَبَانَا آدَمَ " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ فِيهِ: " فَقَالَ آدَمُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مُوسَى، فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي كَلَّمَكَ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ رَسُولا مِنْ خَلْقِهِ "

273 - وَذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ وَصِيَّتَهُ نُوحٌ ابْنُهُ فَقَالَ: " أَنْهَاكَ عَنِ الْكِبْرِ وَالشِّرْكِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَحْتَجِبُ عَنْهُمَا "

274 - وَذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ للَّهِ دِيكًا يُجَاوِزُ رَأْسُهُ كَذَا، وَالْحِجَابَ السَّبْعِينَ، وَرِجْلاهُ قَدْ جَاوَزَتَا السَّبْعَ الأَرْضِينَ "

اعْلَمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ إِطْلاقُ حِجَابٍ هُوَ نُورٌ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لا عَلَى وَجْهِ الإِحَاطَةِ وَالْحَدِّ وَالْمُحَاذَاةِ، كَمَا أَجَزْنَا رُؤْيَتَهُ سُبْحَانَهُ لا عَلَى وَجْهِ الإِحَاطَةِ بِهِ وَالْجِهَةِ وَالْمُقَابَلَةِ، وَإِنْ كُنَّا لا نَجِدُ فِي الشَّاهِدِ مَرْئِيًّا إِلا فِي جِهَةِ الْمُقَابَلَةِ، وَكَمَا جَازَ إِطْلاقُ وَصْفِهِ بِالاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ لا عَلَى وَجْهِ الْجِهَةِ وَالْحَدِّ وَالانْتِقَالِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} فَأَثْبَتَ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ لا فِي جِهَةٍ وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْحِجَابِ كَذَلِكَ هَهُنَا فَأَمَّا قَوْلُهُ: " كُلُّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " مَعْنَاهُ: أَنَّ نُورَ وَجْهِهِ يَحْرِقُ مَا يُدْرِكُهُ مِنْ خَلْقِهِ 275 - وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بُطَّةَ فِي كِتَابِ الإِبَانَةِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: سَأَلْتُ ثَعْلَبًا عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لأَحَرْقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ " فَقَالَ: السُّبُحَاتُ - يَعْنِي مِنَ ابْنِ آدَمَ - الْمَوْضِعَ الَّذِي يَسْجُدُ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ: الْحِجَابُ رَاجِعٌ إِلَى الْخَلْقِ لأَنَّهُمْ هُمُ الْمَحْجُوبُونَ عَنْهُ بِحِجَابٍ يَخْلُقُهُ

فِيهِمْ، وَهُوَ عَدَمُ الإِدْرَاكِ فِي أَبْصَارِهِمْ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحْتَجِبًا وَلا مَحْجُوبًا بِحِجَابٍ لأَنَّ مَا سُتِرَ بِالْحِجَابِ، فَالْحِجَابُ أَكْبَرُ مِنْهُ وَيَكُونُ مُتَنَاهِيًا مُحَاذِيًا جَائِزًا عَلَيْهِ الْمَمَاسَّةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فَجَعَلَ الْكُفَّارَ مَحْجُوبِينَ عَنْ رُؤْيَتِهِ لِمَا خُلِقَ فِيهِ مِنَ الْحِجَابِ، وَيُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُضِفِ الْحِجَابَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ أَطْلَقَ ذِكْرَ الْحِجَابِ وَيُبَيِّنُ صِحَّةُ هَذَا مَا رَوَى عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ مَرَّ بِقَصَّابٍ وَهُوَ يَقُولُ: لا وَالَّذِي احْتَجَبَ بِسَبْعَةِ أَطْبَاقٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَيْحَكَ يَا قَصَّابُ إِنَّ اللَّهَ لا يَحْتَجِبُ عَنْ خَلْقِهِ " وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " إِنَّ اللَّهَ لا يَحْتَجِبُ عَنْ خَلْقِهِ بِشَيْءٍ وَلَكِنْ حَجَبَ خَلْقَهُ عَنْهُ " قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّنَا نُثْبِتُ حِجَابًا لا يُفْضِي إِلَى التَّنَاهِي وَالْمُحَاذَاةِ وَالْمَمَاسَّةِ، كَمَا أَثْبَتْنَا رُؤْيَتَهُ لا عَلَى وَجْهِ التَّنَاهِي وَالْمُحَاذَاةِ وَقَوْلُهُ: " لَمْ يُضِفِ الْحِجَابَ إِلَيْهِ " غَلَطٌ لأَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: " حِجَابُهُ النُّورُ " وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الإِضَافَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فَلَسْنَا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ فِي حِجَابٍ عَنْ رَبِّهِمْ، وَلا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ دُونَهُ حِجَابٌ مِنْ نُورٍ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِذَلِكَ، فَلَيْسَ فِي الآيَةِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى الْقَصَّابِ حِجَابًا مَعْقُولا، لأَنَّ الْقَصَّابَ قَالَ: احْتَجَبَ بِالسَّمَوَاتِ، فَرَجَعَ الإِنْكَارُ إِلَى ذَلِكَ، وَنَحْنُ لا نَصِفُ الْحِجَابَ بِذَلِكَ وَعَلَى أَنَّهُ يُعَارِضُ قَوْلَ عَلِيٍّ مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّجَّادُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ دُونَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُونَ

أَلْفَ حِجَابٍ إِنَّ مِنْهَا حِجَابًا مِنْ ظُلْمَةٍ مَا يَنْفُذُهَا شَيْءٌ، وَإِنَّ مِنْهَا لَحِجَابًا مِنْ نُورٍ مَا يَسْتَطِيعُهُ شَيْءٌ، وَإِنَّ مِنْهَا حِجَابًا لا يَسْمَعُهَا أَحَدٌ لا يَرْبِطُ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ إِلا انْخَلَعَ فُؤَادُهُ " فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ سَمُرَةَ: " بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّبِّ حِجَابٌ " الْمُرَادُ بِهِ حِجَابُ الْعَبْدِ مِنْ رَحْمَةِ الرَّبِّ، يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقَوْلُهُ: " أَدْخَلَهُ عَلَى رَبِّي " مَعْنَاهُ: فِي رَحْمَةِ رَبِّي قِيلَ: مَنْ سَبَقَ فِي عَمِلِه أَنَّهُ يَرْحَمُهُ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَحْمَتِهِ حِجَابٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ سَبَقَ فِي عَمَلِهِ عَذَابُهُ لا يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَذَابِ حِجَابٌ وَأَمَّا تَأْوِيلُهُمُ الدُّخُولِ، عَلَى الدُّخُولِ فِي الرَّحْمَةِ فَلا يَصِحُّ كَمَا لَمْ يَصِحَّ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: " تَرَوْنَ رَبَّكُمْ " عَلَى رُؤْيَةِ رَحْمَتِهِ فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: " لَوْ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ " مَعْنَاهُ: لَوْ كَشَفَ رَحْمَتَهُ عَنِ النَّارِ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ أَيْ أَحْرَقَتْ مَحَاسِنُ وَجْهِ الْمَحْجُوبِ عَنْهُ بِالنَّارِ، فَالْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى الْمَحْجُوبِ لا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قِيلَ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السُّبُحَاتِ صِفَةٌ لِوَجْهِهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّ الإِحْرَاقَ يَكُونُ لِجَمِيعِ مَا يُدْرِكُهُ نُورُهُ

فَإِنْ قِيلَ: لا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُحْدِثُ وَلا الْقَدِيمُ مَحْجُوبًا بِشَيْءٍ مِنْ سَوَاتِرِ الأَجْسَامِ الْمُغَطِّيَةِ الْمُكْتَنِفَةِ الْمُحِيطَةِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِهَذِهِ الأَجْسَامِ السَّاتِرَةِ أَنَّهَا حِجَابٌ عَنْ رُؤْيَةِ الْمُحْدِثِ لِمَا رَآهُ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الرُّؤْيَةِ يَحْدُثُ عِنْدَهُ فَيُسَمَّى بِاسْمِ مَا يَحْدُثُ عِنْدَهُ، وَعَلَى هَذَا مَا نَقُولُهُ إِنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ لا نَرَاهُ فِي الدُّنْيَا لأَنَّهُ فِي حِجَابٍ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ، وَإِنَّمَا الْمَانِعُ مِنْ رُؤْيَتِهِ مَا يُحْدِثُهُ مِنَ الْمَنْعِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ وَرُؤْيَتِهِ وَمُعَايَنَتِهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُودِ مَعْرِفَتِهِ وَمُعَايَنَتِهِ، وَمَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الَّذِي يُضَادُّ وُجُودُهُ، وَذَلِكَ لا يَصِحُّ إِلا فِي الْعَرْضَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ الْمُتَعَاقِبَيْنِ، وَلا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْجِسْمُ مِنْهَا وَلا مَانِعًا مِنْ عَرَضٍ أَصْلا لأَنَّهُ لا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْعَرْضَيْنِ وَالْجِسْمِ تَنَافٍ وَتَضَادٌّ قِيلَ: هَذَا لا يَمْنَعُ مِنْ إِطْلاقِ اسْمِ الْحِجَابِ عَلَى الْقَدِيمِ سُبْحَانَهُ كَمَا لا يَمْنَعُ مِنْ إِطْلاقِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ مَوْجُودًا فِيهِ 276 - وَقَدْ رَوَى فِي مَعْنَى هَذَا الْحِديثِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بُشْرَانَ بِإِسْنَادِهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ وَلاهُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا فَاحْتَجَبَ عَنْ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَاقَتِهِمْ احْتَجَبَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَاقَتِهِ "

إثبات رؤية المؤمنين لربهم جل وعز في الآخرة

إِثْبَاتُ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ جَلَّ وَعَزَّ فِي الآخِرَةِ حَدِيثٌ آخَرُ 277 - رَوَى مِنْ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، أَبُو الْقَاسِمِ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ، فَقَالَ: " تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْقَمَرِ لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ " 278 - وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى رَبَّنَا؟ قَالَ: فَقَالَ: " هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ نِصْفَ النَّهَارِ؟ " قَالُوا: لا، قَالَ: " فَتُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ " قَالُوا: لا، قَالَ " فَإِنَّكُمْ لا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ إِلا كَمَا تُضَارُّونَ فِي ذَلِكَ "

279 - وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا؟ قَالَ " هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابَةٌ؟ " قَالَ: قُلْنَا: لا، قَالَ: " فَهَلْ تُضَارُّونَ بِرُؤْيَةِ الشَّمْسِ لَيْسَتْ فِي سَحَابَةٍ؟ " قَالَ: قُلْنَا: لا، قَالَ: " كَذَلِكَ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ " 280 - وَرَوَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بُطَّةَ فِي كِتَابِهِ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ سورة يونس آية قَالَ: " الزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ " 281 - وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَرَجُلٌ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ أَلْفَيْ سَنَةٍ يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ، يَنْظُرُ فِي أَزْوَاجِهِ وَسُرُرِهِ وَخَدَمِهِ، وَإِنَّ أَفْضَلَهُمْ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ فِي وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ "

282 - وَرَوَى أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " بَيْنَا هُوَ يُعَلِّمُهُمْ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ إِذْ شَخَصَتْ أَبْصَارُهُمْ عِنْدَهُ، فَقَالَ: " مَا أَشْخَصَ

أَبْصَارَكُمْ عَنِّي؟ " قَالُوا: نَظَرْنَا إِلَى الْقَمَرِ، قَالَ: " فَكَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَهْرَةً " 283 - وَرَوَى أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ تَعَالَى فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي رِمَالِ الْكَافُورِ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا أَسْرَعُهُمْ إِلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَبْكَرُهُمْ غُدُوًّا " اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ أَخْبَارٌ صِحَاحٌ يَجِبُ الأَخْذُ بِهَا، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، فَقَالَ: أَحَادِيثُ الرُّؤْيَةِ صِحَاحٌ جِيَادٌ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ لَمَّا سُئِلَ عَنْ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ: صِحَاحٌ جِيَادٌ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: تَقُولُ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ الَّتِي تُرْوَى

عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّؤْيَةِ وَتَذْهَبُ إِلَيْهَا؟ وَجَمَعَهَا فِي كِتَابٍ وَحَدَّثَنَا بِهَا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ وَحَنْبَلٍ وَأَبِي دَاوُدَ: مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لا يُرَى فِي الآخِرَةِ فَقَدْ كَفَرَ فَقَدْ نَصَّ عَلَى صِحَّتِهَا وَالأَخْذِ بِهَا وَتَكْفِيرِ مَنْ رَدَّهَا وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَأَمَّا قَوْلُهُ: " كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ " فَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ إِلا تَحْقِيقَ رُؤْيَةِ الْعَيَانِ، لا تَشْبِيهَ الْمَرْئِيِّ بِالْقَمَرِ فِي أَنَّهُ مَحْدُودٌ فِي جِهَةٍ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ رُؤْيَتُكُمْ للَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَرُؤْيَتِكُمُ الْقَمَرِ لَيْلَةِ الْبَدْرِ، أَيْ كَمَا لا تَشُكُّونَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ أَنَّهُ الْبَدْرُ، وَلا يَتَخَالَجُكُمْ فِيهِ رَيْبٌ وَظَنٌّ، كَذَلِكَ تَرَوْنَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُعَايَنَةً يَحْصُلُ مَعَهَا الْيَقِينُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: " لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ " بِالتَّشْدِيدِ فَقِيلَ مَعْنَاهُ: لا يَنْضَمُّ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ كَمَا تَنْضَمُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْهِلالِ رَأْسَ الشَّهْرِ، بَلْ تَرَوْنَهُ جَهْرَةً مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ لِطَلَبِ رُؤْيَتِهِ كَمَا تَرَوْنَ الْبَدْرَ - وَهُوَ الْقَمَرُ لَيْلَةَ الرَّابِعَ عَشَرَ إِذَا عَايَنَهُ الْمُعَايِنُ جَهْرَةً لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَكَلُّفٍ فِي طَلَبِ رُؤْيَتِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: " لا تُضَامُونَ " مُخَفَّفٌ فَالْمُرَادُ بِهِ الضَّيْمُ أَيْ: لا يَلْحَقُكُمْ فِيهِ ضَيْمٌ، وَالضَّيْمُ وَالضَّرَرُ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى وَأَمَّا قَوْلُهُ: " لا تُضَارُّونَ " أَيْ: لا يَلْحَقُكُمْ ضَرَرٌ فِي رُؤْيَتِهِ بِتَكَلُّفِ طَلَبِهَا كَمَا يَلْحَقُ الْمَشَقَّةُ وَالتَّعَبُ فِي طَلَبِ مَا يَخْفَى وَيَدِقُّ وَيَغْمُضُ

وَكُلُّ ذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِرُؤْيَةِ الْمُعَايَنَةِ، وَأَنَّهَا صِفَةٌ تَزِيدُ عَلَى الْعِلْمِ فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَاهُ رُؤْيَةُ الْعِلْمِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَعْرِفُونَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَرُورَةً قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى: الْعِلْمِ، تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: رَأَيْتُ زَيْدًا فَقِيهًا، أَيْ عَلِمْتُهُ كَذَلِكَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: رَأَيْتُ زَيْدًا مُطْلَقًا، فَلا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلا رُؤْيَةُ الْبَصَرِ، وَقَدْ حَقَّقَ ذَلِكَ بِمَا أَكَّدَهُ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِرُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَذَلِكَ رُؤْيَةُ الْبَصَرِ لا رُؤْيَةَ عِلْمٍ وَجَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى يَخْتَصُّونَ بِهِ، فَأَمَّا الْعِلْمُ بِاللَّهِ فَمُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الْقِيَامَةِ، فَيَبْطُلُ مَعْنَى بِشَارَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالرُّؤْيَةِ وَجَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى: " تَرَوْنَ اللَّهَ جَهْرَةً " وَهَذَا يَرْفَعُ الإِشْكالَ، لأَنَّ الرُّؤْيَةَ وَإِنْ كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى الْعِلْمِ، فَإِنَّهَا إِذَا قُرِنَتْ بِلَفْظِ الْجَهْرِ لَمْ تَحْتَمِلِ الْعِلْمَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} يَعْنِي عَيَانًا، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " وَإِنَّ أَفْضَلَهُمْ مَنْ يَنْظُرُ فِي وَجْهِ رَبِّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ " وَهَذَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمَ

فَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ تَعَالَى فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي رِمَالِ الْكَافُورِ، فَأَقْرَبُهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا أَسْرَعُهُمْ إِلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَبْكَرُهُمْ غُدُوًّا " فَإِنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ بُطَّةَ رَوَاهُ، عَن أَبِي عُمَر عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مسح الْعَطَّارِ، وَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالُوا: نا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: نا عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ الأَشْعَثِ قَالَ: نا ابْنُ حَسَنٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي حَسَنٌ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 285 - ونا أَبُو الْقَاسِمِ بِلَفْظٍ آخَرَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: نا أَبُو الْقَاسِمِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الُمْقِري، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَغَوِيُّ، نا وَكِيعٌ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ يَبْدُو لأَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ فَيَكُونُونَ مِنْهُ فِي الْقُرْبِ عَلَى قَدْرِ تَسَرُّعِهِمْ إِلَى الْجُمَعِ "

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَفَرَّدَ بِهِ الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو وَهُوَ ضَعِيفٌ قِيلَ: هَذَا لا يَصِحُّ لأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ بُطَّةَ قَدْ رَوَى أَصْلَ الْحَدِيثِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَلَى أَنَّ الْمِنْهَالَ بْنَ عُمَرَ الأَسَدِيَّ كُوفِيٌّ ثِقَةٌ، وَلَهُ تَفْسِيرٌ أَكْثَرَ فِيهِ الرِّوَايَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَحْمَدُ أَحَادِيثَ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَخْرَجَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَيْنِ مُسْنَدَيْنِ وَقَدْ قِيلَ: فِي قَوْلِهِ: " فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ " مَعْنَاهُ يَرَوْنَهُ عَلَى مَقَادِيرِ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا وَأَيَّامِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} وَذَلِكَ عَلَى التَّقْدِيرِ بِأَيَّامِ الدُّنْيَا وَأَوْقَاتِهَا، لأَنَّ لَيْسَ هُنَاكَ غَدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ وَجُمُعَةٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: " فِي رِمَالِ الْكَافُورِ " فَلا يَمْتَنِعُ إِطْلاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، لا عَلَى وَجْهِ

الانْتِقَالِ وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} وَقَوْلُهُ: هل يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلامُ فِي ذَلِكَ وَأَمَّا قَوْلُهُ: " أَقْرَبُهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا " فَلا يَمْتَنِعُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْقُرْبِ مِنَ الذَّاتِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُدْنِيهِ اللَّهُ فَيَضَعُ كَنَفَهُ عَلَيْهِ " وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الدُّنُوِّ مِنَ الذَّاتِ، وَهَذَا الْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: يَحْمِلُ الْقُرْبُ عَلَى الْقُرْبِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ وَالرَّحْمَةِ قِيلَ: هَذَا لا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَحْمَتَهُ وَكَرَامَتَهُ وَثَوَابَهُ سَابِقٌ لِرُؤْيَتِهِمْ لَهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ جَازَ تَأْوِيلُهُ عَلَى هَذَا جَازَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: " تَرَوْنَ رَبَّكُمْ " عَلَى التَّعَطُّفِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَرَامَةِ، وَقَدِ اتَّفَقْنَا وَمُثْبِتُو الصِّفَاتِ عَلَى فَسَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ، كَذَلِكَ هَهُنَا فَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فَالُمْرَادُ بِهِ عِلْمُهُ لأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْعِلْمِ فِي أَوَّلِ الآيَةِ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} فَوَجَب حَمْلُهُ عَلَى الْعِلْمِ 286 - وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} عَلِمَهُ لأَنَّهُ افْتَتَحَ الآيَةَ بِالْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ} وَخَتَمَ بِالْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَأَمَّا قَوْلُهُ : " مَنْ قَرَّب شِبْرًا قَرُبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا " فَإِنْ تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيْهِ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَأَمَّا تَقَرُّبُهُ إِلَى عَبْدِهِ فَبِالثَّوَابِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَرَامَةِ، لأَنَّهُ رُوِيَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي

بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْكَلامِ عَلَى قَوْلِهِ: " يُدْنِي عَبْدَهُ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ "، وَذَكَرْنَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " وَمَنْ جَاءَ يَمْشِي أَقْبَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ بِالْخَيْرِ يُهَرْوِلُ " فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ إِقْبَالَهُ عَلَيْهِ بِالْخَيْرِ فَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ وَفِي هَذَا الْفَصْلِ حِكَايَتَيْنِ ذَكَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَلالُ فِي سُنَنِهِ: 287 - أَحَدُهُمَا: قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْفَقِيهَ الْمِصِّيصِيَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ أَبُو صَفْوَانَ: رَأَيْتُ الْمُتَوَكِّلَ فِي النَّوْمِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ مُؤَجَّجَةٌ عَظِيمَةٌ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِمَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: لابْنِي الْمُنْتَصِرِ لأَنَّهُ قَتَلَنِي، وَتَدْرِي لِمَ قَتَلَنِي؟ لأَنِّي حَدَّثْتُهُ أَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الآخِرَةِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: هَذِهِ رُؤْيَا حَقٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ كَتَبَ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ فِي الرُّؤْيَةِ بِيَدِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الأَعْلَى وَقَالَ: لا أَكْتُبُهُ إِلا بِيَدِي 288 - وَالْحِكَايَةُ الأُخْرَى: قَالَ: أنا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الْقَوَارِيرِيَّ يَقُولُ: رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي النَّوْمِ، فَقَالَ: الْمُؤْمِنُونَ يَنْتَظِرُونَ أَنْ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ، فَأَمَّا الْكُفَّارُ فَلا يَجُوزُ أَنْ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى 289 - وَحَكَى ابْنُ فُورَكٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ خُزَيْمَةَ، أَنْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ: أَنَّ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ يَرَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رُؤْيَةَ امْتِحَانٍ قَبْلَ أَنْ يُوضَعَ الْجِسْرُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ

وَأَنْكَرَ ابْنُ فُورَكٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَقَالَ: هِيَ مُحْدَثَةٌ لأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ مَنَعَ الرُّؤْيَةَ، وَقَالَ: لا يَرَاهُ مُؤْمِنٌ وَلا كَافِرٌ، وَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ الْكَافِريَن، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ - وَهُوَ ابْنُ سَالِمٍ -: يَرَاهُ جَمِيعُ الْكُفَّارِ وَكَانَ مَذْهَبًا مَرْغُوبًا عَنْهُ مُبْدَعًا فِيهِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَقَدِ احْتَجَّ ابْنُ خُزَيْمَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَ رَبُّنَا، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتْبَعُونَهُ " وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى الرُّؤْيَةِ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ يُخَاطِبُهُمْ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُخَاطِبَ الْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَوْهُ

حَدِيثٌ آخَرُ 290 - رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بُطَّةَ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيَخْلُو اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ أَوْ تَرْجُمَانٌ " اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ فِي مَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ مِنَ الْقُرْبِ مِنْهُ، لأَنَّ الْخُلُوَّ عِبَارَةٌ عَنِ

الْقُرْبِ، وَلِهَذَا إِذَا قِيلَ: خَلا الْوَزِيرُ بِالْخَلِيفَة، الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْبُ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ إِطْلاقِ الدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ مِنَ الذَّاتِ، كَذَلِكَ لا يَمْتَنِعُ جَوَازُ الْخَلْوَةِ لأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ 291 - وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى الأَخْذِ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فَقَالَ: لا نُزِيلُ عَنْهُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ بِشَنَاعَةٍ شُنِّعَتْ، وَوَصْفٍ وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، مِنْ كَلامٍ وَنُزُولٍ وَخَلْوَةٍ بِعَبْدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَوَضْعِهِ كَنَفِهِ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ: يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُفْرِدُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِكَلامٍ لا يَسْمَعُهُ غَيْرُهُ بَلْ يَخْتَصُّ بِسَمَاعِهِ الْمُكَلَّمُ، لأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ فِي كَلامِ الْعَرَبِ الانْفِرَادُ، وَمِنْ قَوْلِهِمْ: خَلا فُلانٌ بِعَمَلِهِ وَخَلا فُلانٌ بِنَفْسِهِ، مَعْنَاهُ: الانْفِرَادُ، وَكَذَلِكَ هَهُنَا قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ، لأَنَّهُ إِذَا جَازَ حَمْلُهُ عَلَى الانْفِرَادِ بِالْكَلامِ جَازَ حَمْلُهُ عَلَى الانْفِرَادِ بِالْقُرْبِ، إِذْ مَعْنَاهُمَا يَرْجِعُ إِلَى الْكَرَامَةِ وَالْمَنْزِلَةِ

حَدِيثٌ آخَرُ 292 - حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ للَّهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ يَا آدَمُ، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ الْمَلائِكَةِ إِلَى مَلأٍ مِنْهُمْ جُلُوسًا فَقُلِ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ قَالَ لَهُ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ: يَا آدَمُ اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ قَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ " أَمَّا قَوْلُهُ: " نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ " فَقَدْ أَطْلَقَ ذِكْرَ الرُّوحِ هَهُنَا وَقَدْ أَضَافَهَا إِلَى نَفْسِهِ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَمَعْنَى إِضَافَتِهِ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَلْكِ وَالْفِعْلِ، وَأَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ لِتَشْرِيفِ شَأْنِهِ وَالرِّفْعَةِ مِنْ حَالِهِ، كَمَا خَصَّ بَعْضَ الْبُيُوتِ بِالإِضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ 293 - وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى مَعْنَى هَذَا فِيمَا خَرَّجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ فَقَال: وَأَمَّا قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَرُوحٌ مِنْهُ سورة النساء آية يَقُولُ: مِنْ أَمْرِهِ، كَمَا

قَالَ: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ سورة الجاثية آية أَيْ: مِنْ أَمْرِهِ، وَتَفْسِيرُ رُوحِ اللَّهِ إِنَّمَا مَعْنَاهَا إِنَّهَا رُوحٌ خَلَقَهَا اللَّهُ، كَمَا يُقَالُ عَبْدُ اللَّهِ وَسَمَاءُ اللَّهِ وَأَرْضُ اللَّهِ

وَأَمَّا قَوْلُهُ: " رَحِمَكَ رَبُّكَ " حِينَ عَطَسَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ مُخَاطَبَتَهُ لَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَلا تَرْجُمَانٍ، تَشْرِيفًا لَهُ وَتَعْظِيمًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُكَلَّمِينَ وَأَمَّا قَوْلُهُ: " ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: هَذِهِ تَحِيَّتُكَ " ظَاهِرَةٌ يَقْتِضي رُجُوعًا إِلَى الْمَكَانِ، وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْخِطَابِ وَالْمُسَائَلَةِ، وَلَيْسَ فِي حَمْلِهِ عَلَى الْمَكَانِ مَا يُحَيِّرُ الصِّفَاتِ وأما قوله: " اخترت يمين ربي " فقد تقدم الكلام فِيهِ، وقلنا: لا يمتنع إطلاق صفة اليمين عَلَيْهِ كَمَا جاز إطلاق اليدين

حديث آخر 294 - ذكره ابن فورك ولم يقع لي طريقه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إن اللَّه يطوي المظالم يوم القيامة فيجعلها تحت قدميه إِلا مَا كان من أجر الأجير، وعقر البهيمة، وفض الخاتم " اعلم أنا قد بينا جواز إطلاق اسم القدم فِي صفته، لا عَلَى وجه الجارحة والبعض والعضو، كَمَا جاز إطلاق اليدين والوجه، وبينا ذلك فيما تقدم، وتكلمنا عَلَى تأويل من تأول القدم عَلَى وجوه، والمراد بهذا الخبر تعريفنا مراتب الأعمال، وأن منها إِلَى العفو عَنْهُ أقرب من غيره، وَهَذَا المتعارف فِي استعمال اللغة فِي الشيء الَّذِي لا تنافس وَلا يطالب به قد جعلته تحت قدمي، إِذَا أراد الإعراض عَنْهُ 295 - ومثل هَذَا مَا روي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما فتح مكة قام عَلَى باب الكعبة فَقَالَ: " كل دم كان فِي الجاهلية قد جعلته تحت قدمي " عَلَى مَعْنَى: قد أعرضت عَن

المنافسة فِيهِ، والمطالبة به فإن قِيلَ: هَذَا تمثيل بالأمر الَّذِي يوطأ بالقدم إِذَا أراد ستره والإعراض عَنْهُ،

قيل: اجعله تحت قدمك تمثيلا قيل: لا يجب حمله عَلَى ذلك إذ ليس فِي حمله عَلَى ظاهره مَا يحيل صفاته من الوجه الَّذِي بينا

إثبات صفة الكف للرحمن جل شأنه

إثبات صفة الكف للرحمن جل شأنه حديث آخر 296 - أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن أَبِي هريرة قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن اللَّه يقبل الصدقات، وَلا يقبل منها إِلا الطيب فيأخذها بيمينه فيربيها كَمَا يربي أحدكم فلوه أو فصيله "

وَفِي لَفْظٍ آخَرَ قَالَ: " من تصدق بتمرة من كسب طيب، ثُمَّ وضعها فِي موضعها أخذها اللَّه بيمينه، فلم يزل يربيها كَمَا يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل أو أفضل

" وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " إن اللَّه يقبل الصدقة بيمينه، وَلا يقبل منها إِلا مَا كان طيبا، وإن اللَّه ليربي لأحدكم صدقته كَمَا يربي أحدكم مهرة أو فصيله حتى يوافى بها يوم القيامة وهي أعظم من أحد " 297 - وَفِي حديث آخر رَوَاهُ ابن عباس قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تصدقوا فإن أحدكم يعطي اللقمة أو الشيء فيقع فِي يد اللَّه تَعَالَى قبل أن تقع فِي يدي السائل، ثُمَّ تلى هَذِهِ الآية: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} فيربيها كَمَا يربي أحدكم مهره أو فصيله فيوفيها إياه يوم القيامة "

اعلم أَنَّهُ غير ممتنع حمل الخبر عَلَى ظاهره، إذ ليس فِيهِ مَا يحيل صفاته، وَلا يخرجها عما تستحق، لأنا لا نثبت كفا هُوَ جارحة وَلا بعض، بل نطلق كفا هُوَ صفة كَمَا أطلقنا يدين ووجها وعينا وسمعا وبصرا وذاتا، كذلك لا يمتنع إطلاق ذلك فِي الكف، ويكون فائدة الخبر الترغيب والحث فِي الصدقة، وأنها مما يجب أن يقصد بها الطيب من المال لحصولها فِي كف الرَّحْمَنِ، وأنه لا يقبل منا إِلا الطيب فإن قِيلَ: مَعْنَى الكف ها هنا: الملك والسلطان، فيكون تقديره يقع فِي ملكه وسلطانه، قَالَ الأخطل: أعاذل إن النفس فِي كف مالك ... إِذَا مَا دعا يوما أجابت به الرسلا وكان عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ينشد كثيرا هذين البيتين:

هون عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها فليس بآتيك منهيها ... وَلا قاصر عنك مأمورها وهذا مستعمل فِي كلامهم: فلان فِي كفي، يريدون بذلك يجري عَلَيْهِ أمري، وربما قِيلَ المراد بالكف: الأثر والنعمة، ومعناه تقع منكم بنعمة من اللَّه وتوفيقه إياكم لفعلها، وَمِنْهُ قول ذي الإصبع: زمان به لله كف كريمة ... علينا ونعما لهن بشير أراد بذلك نعمة ظاهرة لله عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ

قيل: هَذَا غلط، لأَنَّهُ ليس شيء من الأشياء خارج عَن ملكه وسلطانه ومن نفى ذلك كفر، وكذلك جميع الطاعات تقع بنعمة من اللَّه وتوفيقه، وإذا كان كذلك، فلا فائدة فِي تخصيص الصدقة بالنعمة وغيرها من الطاعات من جملة نعمه، وكذلك لا فائدة فِي تخصيص الصدقة بالملك والسلطان وغيرها فِي ملكه وسلطانه، فوجب حمل الخبر عَلَى ظاهره، وما قاله الشاعر فهو عَلَى طريق المجاز، لأَنَّ الحقيقة فِي هَذِهِ التسمية خلاف ذلك، وَلا يجوز إضافة المجاز إِلَى صفات اللَّه، لأَنَّ المجاز لا حقيقة لَهُ فإن قِيلَ: كيف يصح حمله عَلَى ظاهره، والصدقة من جملة المحدثات، والمحدثات لا تلاقي القديم قيل: كَمَا صح حمل قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} عَلَى ظاهره وإن كان آدم من جملة المحدثات، كذلك ها هنا لا يمتنع حمل ذلك عَلَى ظاهره عَلَى وجه لا يقتضي الملاقاة كَمَا قلنا فِي خلق آدم 298 - وَفِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مَا ناه أَبُو الْقَاسِمِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْبَزَّازُ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّكَّرِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ خُلْدٍ التَّغْلِبِيُّ،

نا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ دَمْعَةٍ تَقَعُ مِنْ عَيْنِ يَتِيمٍ إِلا وَقَعَتْ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ، وَذَلِكَ أَنْ لا يَظْلِمَهُ وَلا يُؤْذِيَهُ فِي غَيْرِ حَقٍّ "

إثبات صفة الأصابع للرحمن سبحانه

إثبات صفة الأصابع للرحمن سُبْحَانَهُ حديث آخر 299 - حَدَّثَنَا أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن أنس بْن مالك، قَالَ: كان رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر أن يقول: " يَا مقلب القلوب ثبت قلبي عَلَى دينك " قالوا: يَا رَسُول اللَّهِ آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قَالَ: " إن القلوب بين أصبعين من أصابع اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يقلبها " وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " إن القلوب بيد اللَّه يقلبها "

300 - وناه بِإِسْنَادِهِ، عَن عائشة قالت: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا من قلب ابن آدم إِلا بين أصبعين من أصابع الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، فإذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه " 301 - وَناهُ لَفْظًا بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوِب ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ " قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَتَخَافُ عَلَى قَلْبِكَ وَقَدْ عَصَمَهُ اللَّهُ بِالْوَحْيِ؟ قَالَ: " إِنَّ قَلْبَ ابْنِ آدَمَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ - السَّبَّابَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا - فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُزِيغَ قَلْبَ عَبْدٍ أَزَاغَهُ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُثَبِّتَهُ ثَبَّتَهُ " حَدَّثَنَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي الإِجَازَةِ، نا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، نا أَبُو

الزِّنْبَاعِ رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ، نا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، نا ضَمْرَةُ، عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - 302 - وناه بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْن عمرو بْن العاص، أَنَّهُ سمع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "

إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ كقلب واحد، يصرفه كيف يشاء "، وَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم مصرف القلوب اصرف قلوبنا إِلَى طاعتك " 303 - وَناهُ أَبُو الْقَاسِمِ قَالَ: أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، نا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الرَّازِيُّ، نا مِقْدَامُ بْنُ دَاوُدَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، نا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ "، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَتَخَافُ عَلَيْنَا وَقَدْ آمَنَّا بِكَ، وَبِمَا جِئْتَ بِهِ؟ فَقَالَ: " إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا هَكَذَا وَهَكَذَا، يُقَلِّبُ أُصْبُعَيْهِ "

304 - ونا أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن النواس بْن سمعان الكلابي، أَنَّهُ سمع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " مَا من قلب إِلا وَهُوَ بين أصبعين من أصابع رب العالمين جل اسمه، إِذَا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه "، قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يَا مقلب القلوب ثبت قلوبنا عَلَى دينك "، قَالَ: " والميزان بيد الرَّحْمَنِ جل اسمه، يرفع أقواما، ويضع آخرين إِلَى يوم القيامة "

اعلم أَنَّهُ غير ممتنع حمل الخبر عَلَى ظاهره فِي إثبات الأصابع والسبابة والتي تليها عَلَى مَا روي فِي حديث جابر، إذ ليس فِي حمله عَلَى ظاهره مَا يحيل صفاته ، وَلا يخرجها عما تستحقه، لما بينا فِي الخبر الَّذِي قبله، لأنا لا نثبت أصابعا هِيَ جارحة وَلا أبعاضا، وإنما نطلق ذلك كَمَا أطلقنا تسمية اليدين والوجه والعين وغير ذلك، ويكون المقصود بالخبر الفزع من اللَّه سُبْحَانَهُ والمسارعة إِلَى الطاعات والخوف من سوء المنقلب

فإن قِيلَ: يحتمل أَنْ يَكُونَ المراد بالأصابع الملك والقدرة، ويكون فائدته أن قلوبهم فِي قبضته جارية عَلَى قدرته، وَذَكَرَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا عَلَى طريق المثل، كَمَا يقال: مَا فلان إِلا فِي يدي وخنصري ويريد بذلك أَنَّهُ عَلَيْهِ مسلط، وأنه لا يتعذر عَلَيْهِ مَا يريده مِنْهُ، ويحتمل أن الأصبعين ها هنا بمعنى النعمتين، وقد تقول العرب: لفلان عَلَى فلان أصبع حسن، إِذَا أنعم عَلَيْهِ نعمة حسنة وَمِنْهُ قول الشاعر: ضعيف العصا بادي العروق ترى لَهُ ... عَلَيْهِ إِذَا مَا أجدب الناس إصبعا أي: إِذَا مَا وقع الناس فِي الجدب والقحط لَهُ عَلَيْهِ أثر حسن، ويحتمل أَنْ يَكُونَ معناه بين أثرين من آثار اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وفعلين من أفعاله قيل: هَذَا غلط لوجوه: أحدها: أن حمله عَلَى الملك والقدرة والنعم والآثار، يسقط فائدة التخصيص بالقلب، لأَنَّ جميع الأشياء هَذَا حكمها، وأنها فِي ملكه وبنعمه وبآثاره الثاني: أن فِي الخبر مَا يسقط هَذَا، وَهُوَ قوله: " بين السبابة والتي تليها وأشار بيده هكذا وهكذا " وَهَذَا يمنع من صحة التأويل الثالث: أَنَّهُ لو كان المراد به النعمتين، لكان القلب محفوظا بها ولم يحتج إِلَى الدعاء، ولما دعا بالتثبيت، لَمْ يصح حمله عَلَى النعمتين، وَهَذَا الثالث جواب ابن

قتيبة لأَنَّهُ إِذَا كان بين نعمتين كان محفوظا بتلك النعمتين وأما قول الشاعر فهو عَلَى طريق المجاز، فلا يجوز استعماله فِي صفات اللَّه تَعَالَى لأَنَّهُ لا حقيقة للمجاز وأما قوله: " والميزان بيد الرَّحْمَنِ يرفع أقواما ويضع آخرين " فلا يمتنع إضافة ذلك إِلَيْهِ، كَمَا لَمْ يمتنع إضافة الخلق لآدم بيده، ونظير هَذَا قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كتب التوراة بيده، وخلق جنة عدن بيده " وليس لقائل أن يقول: إنا أثبتنا خلق آدم بيده من طريق مقطوع عَلَيْهِ وَهُوَ القرآن، لأَنَّ خبر الواحد إِذَا تلقته الأمة بالقبول صار فِي حكم المقطوع عَلَيْهِ، وليس لهم أن يقولوا إن ذلك قصد به فضيلة آدم، وَهَذَا المعنى معدوم ها هنا، لأَنَّ فِي ذلك تفضيلا لبعض خلقه عَلَى بعض، تشريفا لهم وتكريما، وقد قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} حديث آخر فِي الإصبع 305 - ناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّه قَالَ: أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل من اليهود

فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِم أبلغك أن اللَّه يحمل السموات عَلَى إصبع، والأرضين عَلَى إصبع، والشجر عَلَى إصبع، والخلائق عَلَى إصبع، ثُمَّ يقول: أنا الملك، قَالَ: فرأيت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضحك حتى بدت نواجذه، فأنزل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وَفِي لَفْظٍ آخَرَ قَالَ: " إن اللَّه يمسك السموات عَلَى إصبع، والأرضين عَلَى إصبع، والجبال والشجر عَلَى إصبع، والخلائق عَلَى إصبع، ثُمَّ يقول: أنا الملك، فضحك رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه، ثُمَّ قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إِلَى آخر الآية

وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " قَالَ يَا محمد إِذَا كان يوم القيامة وضع ربك جل اسمه السماء عَلَى هَذِهِ، والأرض عَلَى هَذِهِ، والجبال عَلَى هَذِهِ، والماء والثرى عَلَى هَذِهِ، وسائر الخلق عَلَى هَذِهِ، ثُمَّ هزهن فَقَالَ: أين الملوك؟ لي الملك اليوم، قَالَ: فضحك رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "

وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: رَوَاهُ أَبُو بكر الخلال بِإِسْنَادِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مر يهودي برسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جالس قَالَ: كيف تقول يَا أَبَا الْقَاسِم يوم يجعل اللَّه السماء عَلَى ذو وأشار بالسباحة، والأرض عَلَى ذه، والجبال عَلَى ذه، وسائر الخلق عَلَى ذه، وجعل يشير بأصابعه قَالَ: فأنزل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ} الآية

اعلم إنه غير ممتنع حمل الخبر عَلَى ظاهره، وأن الإصبع صفة ترجع إِلَى الذات، وأنه تجوز الإشارة فيها بيده 306 - نص عَلَيْهِ أحمد فِي رواية أَبِي طالب: سئل أَبُو عبد اللَّه عَن حديث الحبر: " يضع السموات عَلَى إصبع، والأرضين عَلَى إصبع، والجبال عَلَى إصبع " يقول: إِلا شار بيده هكذا، أي يشير، فَقَالَ أَبُو عبد اللَّه: رأيت يَحْيَى يحدث بهذا الحديث ويضع إصبعا إصبعا، ووضع أَبُو عبد اللَّه الإبهام عَلَى إصبعه الرابعة من أسفل إِلَى فوق عَلَى رأس كل إصبع " فقد نص عَلَى ذلك 307 - وَذَكَرَ هبة بْن منصور الطبري فِي كتاب السنة، فَقَالَ: سمعت أَبَا محمد

الحسن بْن عثمان بْن جابر، قَالَ: سمعت أَبَا نصر أحمد بْن يعقوب بْن زاذان قَالَ: بلغني أن أحمد بْن حنبل قرأ عَلَيْهِ رجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ثُمَّ أومى بيده، فَقَالَ أحمد: قطعها اللَّه وحرد وقام وهذا محمول عَلَى أَنَّهُ قصد التشبيه، والموضع الَّذِي أجازه إِذَا لَمْ يقصد ذلك، والوجه فِيهِ: أَنَّهُ ليس فِي حمله عَلَى ذلك مَا يغير صفاته وَلا يخرجها عما تستحقه، لما بينا فِي الحديث الَّذِي قبله وَهُوَ أن إثبات الأصابع كإثبات اليدين والوجه فإن قِيلَ: المراد به إصبع بعض خلق يخلقه، قالوا: لأَنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يقل فِي الخبر عَلَى إصبعه، بل أطلق ذلك فيحل عَلَيْهِ قيل: هَذَا غلط لوجهين: أحدهما: أن فِي الخبر يسقط ذلك وَهُوَ قوله: " وسائر الخلق عَلَى هَذِهِ " فاقتضى ذلك أَنَّهُ لَمْ يبق مخلوق إِلا وَهُوَ عَلَى الإصبع، فلو كان المراد به إصبع بعض خلقه لخرج بعض الخلق عَن أَنْ يَكُونَ عَلَى الإصبع، وَهَذَا خلاف الخبر الثاني: أن المفسرين قالوا: إنما يكون ذلك عند فناء خلقه وإماتتهم، فلا يكون لَهُ مجيب غير نفسه {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} فدل بهذا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يبق

هناك خلق يضع السموات عَلَى إصبعه فإن قِيلَ: ففي الخبر مَا يدل عَلَى القدرة، وَهُوَ قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} قيل: معناه مَا عرفوا اللَّه حق معرفته، وإذا كان هَذَا معناه، لَمْ يكن المراد به القدرة، وَهَذَا الحديث ذكره البخاري ومسلم فِي الصحيحين

إثبات صفة القبض والبسط لربنا تعالى

إثبات صفة القبض والبسط لربنا تَعَالَى حديث آخر 308 - ناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن نافع، عَن ابن عمر قَالَ: صعد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنبر فتلى هَذِهِ الآية: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يأخذ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ السموات والأرضين بيده ثُمَّ يقول: أنا الملك، فما زال يقولها حتى رجف به المنبر حتى ظننا ليخر به المنبر من رجفانه "

وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِذَا كان يوم القيامة جمع السموات والأرضين السبع فِي قبضته، ثُمَّ بسطها، ثُمَّ يقول: أنا اللَّه أنا الرَّحْمَنِ أنا الملك أنا القدوس أنا السلام أنا المؤمن أنا المهيمن أنا العزيز أنا الجبار أنا المتكبر، أين الجبابرة " وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: قَالَ: " يطوي اللَّه تَعَالَى السموات يوم القيامة فيأخذها بيده اليمنى، ثُمَّ يقول: أنا الملك أين الجبارون وأين المتكبرون ثُمَّ يطوي الأرضين ثُمَّ يأخذهن بشماله فيقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون؟ " وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " يأخذ الجبار تَعَالَى سمواته وأرضه " وجعل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبض يديه ويبسطها ويقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ولفظ الشمال

قد ذكره مسلم فِي صحيحه

309 - ونا أَبُو محمد الحسن بْن محمد بِإِسْنَادِهِ، عَن ربيعة الجرشي: " والسموات مطويات بيمينه " قَالَ: والأخرى خلو ليس فيها شيء " اعلم أَنَّهُ غير مستحيل إضافة " القبض والبسط " إِلَى ذاته سُبْحَانَهُ، كَمَا لَمْ يستحل إضافة خلق آدم بيده إِلَى ذاته، والإستواء عَلَى عرشه، وقد عضد ذلك قوله تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} فوصف نفسه بذلك فإن قِيلَ: القبض والبسط راجع إِلَى القدرة والسلطان قيل: هَذَا غلط لما بينا فيما قبل وأن جميع الأشياء فِي قدرته وسلطانه، فلا مَعْنَى لتخصيص السماء والأرض بذلك، ولأنه قَالَ: " يأخذه بيده اليمنى " وَفِي لفظ آخر: " بشماله " وهذه صفة ذات لا تختص القدرة والسلطان

فإن قِيلَ: يحتمل أَنْ يَكُونَ قوله قبضها بمعنى أفناها، كقول القائل: قبض اللَّه روح فلان إِلَيْهِ، أفناها ثُمَّ بسطها أي ثُمَّ يعيدها عَلَى الوجه الَّذِي يريد قيل هَذَا غلظ لوجهين: أحدهما: أَنَّهُ قَالَ يقبضها بيده، ولو كان المراد به الفناء لَمْ يعلقه باليد، لأَنَّ فناء الأشياء لا يختص باليد 310 - الثاني: أن أَبَا محمد الحسن بْن محمد الخلال رَوَى فيما خرجه من أخبار الصفات بِإِسْنَادِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " يطوي اللَّه السموات السبع بما فيها من الخليقة، والأرضين السبع بما فيها من الخليقة بيمينه، فلا يرى من عند الإبهام شيئا، وَلا من الخنصر شيئا، ويكون ذلك فِي كفه بمنزلة الخردلة " وهذا يمنع تأويلهم بالفناء لأَنَّهُ أخبر أنها باقية فِي كفه فإن قِيلَ: قوله: " بيمينه " أي بقسمه كأنه أقسم بها

قيل: هَذَا غلط لأنا لا نعلم أَنَّهُ أقسم بها ولو كان لنقل، ولأنه ليس ها هنا حرف القسم فإن قِيلَ: فالذي يدل عَلَى أن المراد بالقبض الفناء قوله: " أنا الملك وأين الملوك " فيقول هُوَ: " اللَّه الواحد القهار " قَالَ المفسرون: إنما يكون ذلك عند فناء خلقه وإماتتهم، فلا يكون لَهُ مجيب غير نفسه " لله الواحد القهار " قيل: ليس فِي ذلك مَا يمنع قبضها بيده لأَنَّهُ يحتمل أن يقبضها بيمينه، ثُمَّ يفنيها 311 - وقد حمل أَبُو بكر عبد العزيز قوله تَعَالَى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} عَلَى ظاهره وأن ذلك راجع إِلَى ذاته، ذكر ذلك فِي كتاب التفسير فِي الكلام عَلَى قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فَقَالَ: قد قَالَ بعض أهل العربية فِي قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} يقول: فِي قدرته واستشهد عَلَى ذلك بقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وليس المراد بالملك اليمين دون سائر الجسد، ولأنك تقول: هَذَا الشيء فِي قبضتك، أي فِي قدرتك، ثُمَّ أجاب عَن ذلك بأن قَالَ: مَا روي عَن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الصحابة والتابعين يشهد عَلَى بطلان هَذَا القول، وَهُوَ يؤل إِلَى قول جهم وذلك قوله تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فوضع يده بين كتفي " وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فأقوم عَن يمين ربي مقاما لا يقومه غيري "

فقد احتج عَلَيْهِ بهذه الأشياء لإثبات اليمين والقبض بها 312 - ثُمَّ ذكر حديثا بِإِسْنَادِهِ، عَن أَبِي أيوب الأنصاري قَالَ: أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبر من اليهود فَقَالَ: أرأيت إذ يقول اللَّه فِي كتابه: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} فأين الخلق عند ذلك؟ فَقَالَ: " هم فيها كرقم الكتاب "

حديث آخر 313 - ناه أَبُو الْقَاسِمِ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَاذَانَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، نا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} قَالَ: " وَضَعَ إِبْهَامَهُ عَلَى قَرِيبٍ مِنْ طَرَفِ أُنْمُلَةِ خِنْصِرِهِ فَسَاخَ الْجَبَلُ " قَالَ حُمَيْدٌ لِثَابِتٍ: تَقُولُ هَذَا فَرَفَعَ ثَابِتٌ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا صَدْرَ حُمَيْدٍ، وَقَالَ: يَقُولُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُهُ أَنَسٌ وَأَنَا أَكْتُمُهُ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: قَالَ: فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ الإِبْهَامَ عَلَى الْمَفْصِلِ مِنَ الْخِنْصِرِ فَسَاخَ الْجَبَلُ 314 - ونا أَبُو الْقَاسِمِ، عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ السَّكُونِيُّ، نا مُوسَى بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى الْمُقْرِئُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} قَالَ: " هَكَذَا " يَعْنِي أَنَّهُ أَخْرَجَ طَرَفَ الْخِنْصِرِ، قَالَ أَبِي: أَرَانَاهُ مُعَاذٌ، فَقَالَ حُمَيْدٌ: مَا تُرِيدُ فِي هَذَا يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: فَضَرَبَ صَدْرَهُ ضَرْبَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: مَنْ أَنْتَ يَا حُمَيْدُ وَمَا أَنْتَ يَا حُمَيْدُ، يُحَدِّثُنِي بِهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ،

عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ أَنْتَ مَا تُرِيدُ 315 - وَأنا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْمَعْمَرِيُّ مِنْ أَصْلِ كِتَابِهِ، قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ رميس، قَالَ: نا عَلِيُّ بْنُ إِشْكَابٍ، قَالَ: نا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} قَالَ: " أَخْرَجَ أَوَّلَ مَفْصِلٍ مِنْ إِصْبُعِهِ الْخِنْصِرِ " قَالَ عَلِيُّ بْنُ إِشْكَابٍ: وَرَأَيْتُ مُعَاذَ بْنَ مُعَاذٍ أَخْرَجَ أَوَّلَ مَفْصِلٍ مِنْ إِصْبُعِهِ الْخِنْصِرِ 316 - وذكره أَبُو الحسين بْن السوسنجردي فِي حديثه بِإِسْنَادِهِ، عَن أنس قَالَ: قرأ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} قَالَ: " وضع إبهامه عَلَى قريب أنملة خنصره " وفعل حماد هكذا وأرانا طرف الخنصر، ووضع موضع المفصل فساخ الجبل اعلم أن الكلام فِي هَذَا الخبر فِي فصلين: أحدهما إثبات التجلي، والثاني فِي

الخنصر فأما التجلي فهو راجع إِلَى الذات وذلك غير ممتنع، كَمَا لَمْ يمتنع أن يتجلى للمؤمنين يوم القيامة جهرة وعيانا، وكذلك لا يمتنع أن يتجلى للجبل جهرة وعيانا، وَهُوَ أن خلق فِي الجبل رؤية حتى رأى ربه بأن أحياه وجعله عالما رائيا، ثُمَّ دكه بعد الرؤية، وجعله قطعا علامة لموسى فِي أَنَّهُ لا يراه فِي الدنيا 317 - وقد نا أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لما تجلى اللَّه جل اسمه للجبل طارت لعظمته ستة أجبل، فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة، فوقع بالمدينة أحد وورقان ورضوى، ووقع بمكة ثبير وحراء وثور " فإن قِيلَ: يحمل التجلي عَلَى إظهار الفعل والتدبير قيل: إن جاز تأويل الخبر عَلَى هَذَا جاز تأويل قوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} عَلَى مجيء بعض ملائكته وكلامه لموسى دون اللَّه، وكذلك قوله: " ترون ربكم " عَلَى رؤية أفعاله، وَهَذَا لا يصح، كذلك ها هنا، وكذلك قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} كَمَا حملته المعتزله عَلَى ظاهره فِي الذات دون الأفعال ويحتمل أَنْ يَكُونَ ظهور سبحاته أوجب دكه من غير أن يخلق فِيهِ إدراكا، كَمَا أن النار إِذَا لاقت الجبل أوجب تقطيعه وإن لَمْ يحصل فِيهِ إدراك، كَمَا قَالَ: " حجابه النور لو كشفها عَن وجهه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره "

الفصل الثاني: فِي الخنصر: وَهُوَ عَلَى ظاهره، إذ ليس فِي حمله عَلَى ذلك مَا يحيل صفاته، وأن الخنصر كالإصبع، والإصبع كاليد، وقد جاز إطلاق اليدين، كذلك ها هنا يجب أن يجوز لا عَلَى وجه التبعيض والعضو فإن قِيلَ: هَذَا الحديث ضعيف، ذكره حماد، عَن ثابت، ولم يروه غيره عَنْهُ من أصحابه، وَقَالَ بعضهم: إن حمادا كانت لَهُ خرجة إِلَى عبادان، وإن ابن أَبِي العوجاء الزنديق أدخل عَلَى أصوله ألفاظا وأحاديثا احتملها فِي آخر عمره، فرواها بغفلة ظهرت فِيهِ قيل: هَذَا حديث صحيح رَوَاهُ الأثبات منهم: أحمد وَهُوَ المعول عَلَيْهِ فِي الجرح والتعديل، وحماد بْن سلمة ممن أثنى عَلَيْهِ أحمد، وأخرج عَنْهُ البخاري حديثا مسندا فِي الصحيح، ويجب أن لا يلتفت إِلَى مثل هَذَا الكلام لأَنَّ القائل لَهُ يقصد بذلك رد أحاديث الصفات، وقد قَالَ الأئمة من العلماء: إن أثبت الناس فِي ثابت البناني حماد بْن سلمة

فإن قِيلَ: المراد بالخنصر الشيء اليسير من آياته فذكر الخنصر وضرب المثل به، لا أَنَّهُ جعل لَهُ خنصر قيل: هَذَا غلط، لأَنَّهُ لو كان المراد ذلك لَمْ ينكره حميد، وَلا أنكره عَلَيْهِ ثابت، وَلا أحتج عَلَيْهِ بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاله، لأَنَّ آيات اللَّه لا تنكر، فثبت أن المراد بذلك صفة ذات وجواب آخر: وَهُوَ أَنَّهُ إن جاز حمل الخنصر عَلَى الشيء اليسير من آياته، جاز حمل التجلي للجبل عَلَى إظهار بعض آياته للجبل حتى جعله دكا، وكذلك جاز حمل قوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} عَلَى أَنَّهُ أمر بعض ملائكته بكلامه لا أَنَّهُ كلمه بنفسه، وقد أجمعنا ومثبتوا الصفات عَلَى أَنَّهُ تجلى بذاته للجبل، وكلم مُوسَى بنفسه، كذلك ها هنا يجب أن يحمل الخنصر عَلَى أنها صفة لذاته، كَمَا وجب حمل اليد الَّتِي خلق بها آدم

إثبات السمع والبصر لله تعالى

إثبات السمع والبصر لله تَعَالَى حديث آخر 318 - رَوَاهُ أَبُو محمد الحسن بْن محمد الخلال فيما خرجه من أخبار الصفات بِإِسْنَادِهِ، عَن أَبِي هريرة: " أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} فوضع إصبعه الدعاء وإبهامه عَلَى عينه وإذنه " وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " فوضع إبهامه عَلَى أذنه والأخرى عَلَى عينه " قَالَ أَبُو محمد: هَذَا حديث إسناده شرط مسلم يلزمه إخراجه فِي الصحيح، وَهُوَ حديث ليس فِيهِ علة

اعلم أَنَّهُ ليس المراد بالإشارة إِلَى العضو والجارحة الَّتِي لا مدح فِي إثباتها، لأَنَّ القديم سُبْحَانَهُ يستحيل عَلَيْهِ ذلك، وإنما المراد بذلك تحقيق السمع والبصر الَّذِي فِي إثبات المقصود أن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يرى المرئيات برؤيته، ويسمع المسموعات بسمعه، فأشار إِلَى الأذن والعين تحقيقا للسمع والبصر لأجل أنهما محل للسمع والبصر، وقد يسمى محل الشيء باسمه لما بينهما من المجاورة والقرب ولأن هَذَا الخبر أفاد أن وصفه عَزَّ وَجَلَّ بأنه سميع بصير لا عَلَى مَعْنَى وصفه بأنه " عليم " كَمَا ذهب إِلَيْهِ بعض أهل النظر ولم يثبتوا لله عَزَّ وَجَلَّ فِي وصفنا لَهُ بأنه " سميع " مَعْنَى خاصا، وفائدة زائدة عَلَى وصفنا لَهُ بأنه عليم، فأفاد بذلك تحقيق مَعْنَى السمع والبصر، وأنه مَعْنَى زائد عَلَى العلم، إذ لو كان مَعْنَى ذلك العلم لكان يشير إِلَى القلب الَّذِي هُوَ محل العلم، لينبه بذلك عَلَى معناه، فلما أشار إِلَى العين والأذن - وهما محلان للسمع والبصر - حقق الفرق بين السمع والبصر وبين العلم 319 - وَفِي مَعْنَى هَذَا مَا رَوَى أَبُو عبد اللَّه بْن بطة بِإِسْنَادِهِ، عَن أنس بْن مالك، أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إن الدجال أعور، وإن ربكم ليس بأعور "

ومعناه تحقيق وصف اللَّه تَعَالَى بأنه بصير، وأنه لا يصح عَلَيْهِ النقص والعمى، ولم يرد بذلك إثبات الجارحة إذ لا مدح فِي إثباتها، لأَنَّ إثباتها يؤدي إِلَى القول بحديثه 320 - وَفِي مَعْنَى ذلك مَا رَوَى أَبُو مُوسَى قَالَ: كنا مع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا أيها الناس إنكم لا تدعون أصما وَلا غائبا إنكم تدعون سميعا بصيرا " فنفى النقص عَنْهُ، وأثبت السمع والبصر 321 - وكذلك قول عائشة: " تبارك الَّذِي وسع سمعه كل شيء " وهذا الخبر دلالة عَلَى جواز الإشارة إِلَى صفات نفسه عند ذكر صفات اللَّه تَعَالَى، لا عَلَى طريق التشبيه ونظيره حديث الحبر وقوله: " يَا أَبَا الْقَاسِم يوم يجعل السماء عَلَى ذه، وأشار بالسباحة، والأرضين عَلَى ذه "

حديث آخر 322 - أخرجه أَبُو القسم عبد العزيز قَالَ: علي بْن إبراهيم الموصلي، نا أَبُو مزاحم مُوسَى بْن عبيد المقري، نا عبد اللَّه بْن أحمد بْن حنبل قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: أَبُو المغيره الخولاني، قَالَ: نا الأوزاعي نا قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْن أَبِي كثير، عَن عكرمة، قَالَ: " إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أراد أن يخوف عباده أبدى عَن بعضه إِلَى الأرض، فعند ذلك تزلزل، وإذا أراد أن يدمر عَلَى قوم تجلى لَهَا "

ورواه ابن فورك، عَن يَحْيَى بْن أَبِي كثير، عَن عكرمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " إن اللَّه تبارك وتعالى إِذَا أراد أن يخوف أهل الأرض أبدى عَن بعضه، وإذا أراد أن يدمر عليهم تجلى لَهَا "أما قوله: " أبدى عَن بعضه " فهو عَلَى ظاهره، وأنه راجع إِلَى الذات إذ ليس فِي حمله عَلَى ظاهره مَا يحيل صفاته، وَلا يخرجها عما تستحق فإن قِيلَ: بل فِي حمله عَلَى ظاهره مَا يحيل صفاته، لأَنَّهُ يستحيل وصفه بالكل والبعض والجزء، فوجب حمله عَلَى إباء بعض آياته وعلاماته تحذيرا ونذيرا قيل: لا يمتنع إطلاق هَذِهِ الصفة عَلَى وجه لا يفضي إِلَى التجزئة والتبعيض، كَمَا أطلقنا تسمية يد ووجه، لا عَلَى وجه التجزئة والبعض، وإن كنا نعلم أن اليد فِي الشاهد بعض من الجملة وجواب آخر: وَهُوَ أَنَّهُ لو جاز أن يحمل قوله: " أبدى عَن بعضه " عَلَى بعض آياته لوجب أن يحمل قوله: " وإذا أراد يدمر تجلى لَهَا " عَلَى جميع آياته، ومعلوم أَنَّهُ لَمْ يدمر قرية بجميع آياته، لأَنَّهُ قد أهلك بلادا، كل بلد بغير مَا أهلك به الآخر وأما قوله: " تجلى لَهَا " فهو راجع إِلَى تجلي الذات، كَمَا حملنا التجلي للجبل أَنَّهُ تجلى ذات حين تقطع الجبل، كذلك ها هنا فإن قِيلَ: يحمل قوله " تجلى لَهَا " معناه آياته وأفعاله، لأَنَّ مَعْنَى التجلي هُوَ: الظهور، ولهذا يقال: جلوت السيف وجلوت العروس، إِذَا أظهرتها وأبرزتها، وَمِنْهُ قول القائل: تجلى لنا بالمشرفية والقنا

يعني: بالسيوف والرماح قيل: هَذَا غلط، لأَنَّهُ إن جاز تأويل الخبر عَلَى إظهار آياته، جاز تأويل تجليه للجبل عَلَى ظهور آياته، ولما حملوا ذلك عَلَى ظاهره، لَمْ يمتنع أَيْضًا حمل هَذَا التجلي عَلَى ظاهره، إذ ليس فِي إضافة التجلي إِلَيْهِ مَا يحيل صفاته وَلا يخرجها عما تستحقه، لأنا نطلق ذلك من غير انتقال، وَلا فراغ مكان وشغل مكان آخر، وكذلك قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} محمول عَلَى ظاهره فِي رؤية الذات لا الأفعال

حديث آخر 323 - ناه أَبُو الْقَاسِم بِإِسْنَادِهِ، عَن أَبِي الأحوص الجشمي، أَنَّهُ قَالَ: " رآني رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلي أطمار فَقَالَ: " هل لك من مال؟ " قَالَ: قلت: نعم، قَالَ: " من أي المال؟ " قَالَ: قلت: قد آتاني اللَّه من الشاء والإبل، قَالَ: " فلتر نعمة اللَّه وكرامته عليك " قَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل تنتج إبلك وافية أذانها؟ " قَالَ: وهل تنتج إِلا كذلك ولم يكن أسلم يومئذ، قَالَ: " فلعلك تأخذ موساك فتقطع أذن بعضها، وتقول: هَذِهِ بحر، وتشق أذن الأخرى فتقول: هَذِهِ صرم " قَالَ: نعم، قَالَ: " فلا تفعل فإن كل مَا آتاك اللَّه حل، وإن مُوسَى اللَّه أحد، وساعد اللَّه أشد "

وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " مُوسَى اللَّه أحد من موساك، وساعد اللَّه أشد من ساعدك " اعلم أَنَّهُ غير ممتنع حمل الخبر عَلَى ظاهره فِي إثبات " الساعد " صفة لذاته، كَمَا حملنا قوله تَعَالَى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} عَلَى ظاهره، وأنها صفة ذات إذ ليس فِي ذلك مَا يحيل صفاته، لأنا لا نحمله عَلَى ساعد هُوَ جارحة، بل صفة ذات لا نعقلها، كَمَا أثبتنا ذاتا لا كالذوات فإن قِيلَ: المراد بالساعد ها هنا: القوة، فعبر عنها بالساعد لأَنَّهُ محل للقوة، وقد يعبر عَن الشيء بمحله كَمَا سمت العرب البصر: عينا، والسمع: أذنا، كذلك تسمى القدرة ساعدا، وَمِنْهُ يقال: جمعت هَذَا المال بقوة ساعدي، ويراد به بالتدبير والقوة دون المباشرة بالساعد

قيل: هَذَا غلط، لأَنَّهُ يوجب حمل قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} معناه بالقدرة فإن قِيلَ: إنما لَمْ نحمل اليد عَلَى القدرة لأَنَّ فِي ذلك إبطال فضيلة آدم عَلَى إبليس، لأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} على طريق التفضيل، وليس فِي حمل هَذَا الخبر عَلَى القدرة إبطال فائدة قيل: مَا كان يمتنع أن تحملون اليد عَلَى القدرة، وإن أفضى إِلَى إبطال فضيلة آدم كَمَا حملتم قوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} معناه: لذاتي، وتأولتم النفس ها هنا عَلَى الذات، وإن أفضى ذلك إِلَى إبطال فائدة تخصيص مُوسَى بذلك، لأَنَّ جميع الأنبياء اصطنعهم لذاته، ولما لَمْ يجز تأويل اليد عَلَى القدرة كذلك ها هنا وجواب آخر: هُوَ أَنَّهُ لو استحال إضافة اليد إِلَيْهِ، لَمْ يجز إضافتها إِلَيْهِ، وإن أفضى إِلَى إبطال فضيلة آدم، أَلا ترى إِلَى قوله تَعَالَى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} لما لَمْ يجز حمل ذلك عَلَى الذات، حمل عَلَى الأمر وإن أفضى إِلَى إسقاط تخصيص عِيسَى، لأَنَّ غير عِيسَى مخلوق بالأمر، فعلم أن إضافة اليد إِلَيْهِ لا للمعنى الَّذِي ذكروه وإنما ذلك لورود الشرع به، وَهَذَا المعنى موجود فِي غيره وأما قوله: " وموساه أحد من موساك " فقد قِيلَ فِيهِ: إن هَذَا خرج عَلَى طريق التمثيل، لأَنَّ الموسى لما كان آلة للقطع، وكان المراد بالخبر أن قطعه أسرع من قطعك، عبر عَن القطع بالموسى اعتبارا بعادة العرب، وأنها تسمي الشيء باسم مَا يجاوره ويقاربه ولا بأس بذلك لأَنَّ اللَّه تَعَالَى يجوز فِي صفته ضرب المثل، قَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ

اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا} وَقَالَ: {يَأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} وإنما لَمْ يجب حمل الموسى عَلَى أَنَّهُ صفة للذات كالساعد لأَنَّ الموسى آلة، والآلات لا تكون صفاتا للذات، وليس كذلك الساعد، لأَنَّهُ قد يكون من صفات الذات بدليل كونه صفة للذات فِي الشاهد، فإذا ورد الشرع بإضافته، لَمْ يمتنع حمله عَلَى ظاهره، كَمَا لَمْ يمتنع حمل اليد والوجه عَلَى ظاهره

إثبات صفة العينين لربنا جل شأنه

إثبات صفة العينين لربنا جل شأنه حديث آخر 324 - ناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن أَبِي هريرة قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن العبد إِذَا قام فِي الصلاة فإنه بين عيني الرَّحْمَنِ جل اسمه، فإذا التفت قَالَ لَهُ الرب جل اسمه: يَا ابن آدم إِلَى من تلتفت؟ إِلَى خير لك مني أقبل إلي أنا خير لك ممن تلتفت إِلَيْهِ " اعلم أَنَّهُ غير ممتنع حمل الخبر عَلَى ظاهره فِي إثبات عينين هما صفتان زائدتان عَلَى البصر والرؤية، ليستا بجارحتين، والوجه فِي ذلك أن اللَّه تَعَالَى وصف نفسه بذلك بقوله تَعَالَى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وَقَالَ: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الدجال أعور وإن ربكم ليس بأعور "

326 - وروي: " أن ملكا كان فِي بني إسرائيل ففرشت لَهُ النساء فجعل يمشي عَلَى صدورهن، فبينما هُوَ عَلَى صدر امرأة منهن إذ رفعت رأسها إِلَى السماء فقالت: اللهم إن هَذَا بعينك، فَقَالَ اللَّه تَعَالَى: علي تمرد يَا أرض خذيه، قَالَ: فخسفت به الأرض والناس ينظرون " 327 - وَرَوَى عبد اللَّه فِي كتاب السنة بِإِسْنَادِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} قَالَ: بعين اللَّه عَزَّ وَجَلَّ

فإن قِيلَ: قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أي: بمرأى مني وبمشهد مني، وقيل فِيهِ: بحفظي وكلائتي، وكذلك قوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} أي: بحفظنا وكلائتنا وقيل: بمرآى ومشاهدة منا، وكذلك قوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وكذلك قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وقيل: المراد به أعين الماء الَّتِي أخرجها من الأرض، وكذلك قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المصلي: " بين عيني الرَّحْمَنِ " أي: بحفظه وكلائته، ومعناه: أن اللَّه حافظ للمصلي، أَلا ترى أَنَّهُ قَالَ: أنا خير لك ممن تلتفت إِلَيْهِ قيل: هَذَا غلط، لأَنَّ اللَّه تَعَالَى كان رائيا لَهُ ومشاهدا لَهُ قبل جريان الفلك، وقبل طرحه فِي اليم، وكذلك كان حافظا وكالئا قبل وجود الجريان وطرحه فِي اليم بقوله تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} فتبين أن كلائته لنا بالليل والنهار

حديث آخر 328 - ناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن ابن عمر، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى نخامة فِي قبلة المسجد وَهُوَ يصلي، فلما أنصرف أخذ عودا فأتاها فحكها، ثُمَّ قَالَ: " يَا أيها الناس إن أحدكم إِذَا كان فِي صلاته فإنه يواجه ربه جل اسمه، فلا يتنخمن أحد فِي قبلته وَلا عَن يمينه " 329 - وَفِي لفظ آخر: رَوَاهُ أنس، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إن العبد إِذَا قام يصلي فإنما يناجي ربه جل اسمه فيما بينه وبين القبلة " 330 - وَفِي لفظ آخر: رَوَاهُ ابن عمر، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أحدكم إِذَا صلى فإن اللَّه قبل وجهه " وفي لفظ أخر: " إن اللَّه قبل وجه أحدكم إِذَا كان فِي الصلاة "

331 - وَفِي حديث آخر: رَوَاهُ أَبُو ذر قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يزال اللَّه جل اسمه مقبلا عَلَى العبد مَا لَمْ يلتفت، فإذا التفت انصرف عَنْهُ " وَفِي لَفْظٍ آخَرَ قَالَ: " إِذَا لينصرف وجهه عَنْهُ " وَفِي لَفْظٍ آخَرَ قَالَ: " إِذَا التفت أعرض عَنْهُ " اعلم أن الكلام فِي فصلين: أحدهما: قوله: " إن اللَّه قبل وجهه ومواجهه " والثاني: فِي الإعراض أما الأول فغير ممتنع حمله عَلَى ظاهره، إذ ليس فِي ذلك مَا يحيل صفاته، لأَنَّ ذلك لا يوجب الجهة فِي حقه، كَمَا لَمْ يوجب الجهة فِي القول بجواز رؤيته فِي الآخرة،

وإن كنا نعلم فِي الشاهد أن المرئي لا يكون إِلا فِي جهة كذلك ها هنا، وَفِي هَذَا إسقاط لقولهم أن وصفه بذلك يفضي إِلَى الجهة والمحاذاة والمقابلة، لأَنَّهُ لا يفضي إِلَى ذلك، كَمَا لَمْ يفض هَذَا القول إِلَى القول بجواز رؤيته، وَفِي القول بالإستواء عَلَى العرش فإن قِيلَ: معناه ثواب اللَّه ينزل عَلَى هَذَا المصلي قبل وجهه وكرامته، ومثله قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يجيء القرآن بين يدي صاحبه يوم القيامة "

أي: يجيء ثوابه، ويحتمل أَنْ يَكُونَ ذلك عَلَى مَعْنَى الترغيب فِي إدمان الخشوع وإحضار القلب حين يشغله ذلك عَن غيره قيل: هَذَا غلط لأَنَّ ثواب اللَّه تَعَالَى وكرامته لا تختص بالمصلي، وَلا يختص تلقاء وجهه، لأنها عامة قبل الصلاة وبعدها، وأمامه ووراه، وقد قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}

الفصل الثاني قوله: " لا يزال اللَّه مقبلا عَلَى عبده مَا لَمْ يلتفت، فإذا التفت أعرض عَنْهُ " فلا يمتنع حمله عَلَى ظاهره، وأن ذاته مقبلة عَلَيْهِ، إذ ليس فِي حمله عَلَى ذلك مَا يحيل صفاته، لأنا لا نثبت إقبال انتقال، وَلا إعراضا بمعنى الانصراف عَن ذلك، كَمَا حملنا تجليه للجبل عَلَى ظاهره، ولم يوجب ذلك حمله عَلَى انتقال فإن قِيلَ: هَذَا محمول عَلَى أَنَّهُ لا يزال خيره مقبلا عَلَيْهِ، كَمَا يقول القائل: إن الأمير أقبل عَلَى فلان وقربه، أي انصرف خيره وثوابه، كَمَا يقال: صرف الأمير وجهه عَن فلان، إِذَا قطع خيره عَنْهُ، ولم يحسن إِلَيْهِ ويحتمل أَنْ يَكُونَ معناه: لا يزال توفيق اللَّه للعبد مَا لَمْ يعرض، فإذا أعرض أعرض عَنْهُ، يَعْنِي قطع التوفيق واللطف، وَهُوَ مَعْنَى قوله: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} معناه: لما صرف اللَّه قلوبهم عَن الخير بقطع التوفيق واللطف، انصرفت قلوبهم عَن الخير قيل: هَذَا غلط، لما بينا وَهُوَ أن ثوابه لا يختص بالمصلي، وكذلك قطع الثواب لا يختص بمن التفت فِي صلاته، لأَنَّ غير الملتفت - من الغائب - فِي صلاته يقطع ثوابه، فيجب أن لا يكون لهذا التخصيص فائدة إِلا مَا ذكرنا

حديث آخر 332 - ناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن أَبِي هريرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " ثلاثة لا ينظر اللَّه إليهم يوم القيامة: الإمام الكذاب، والشيخ الزاني، والعائل المزهي " 333 - وَفِي حديث آخر: عَن أسامة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " ثلاثة لا ينظر اللَّه إليهم يوم القيامة: عاقا لوالديه، ومدمنا خمرا، ومنانا بما أعطى "

334 - وَفِي حديث آخر: عَن ابن عمر، قَالَ: سمعت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من جر ثوبه من الخيلاء فإن اللَّه لا ينظر إِلَيْهِ يوم القيامة "

335 - وَفِي حديث آخر: عَنْ عَبْدِ اللَّه بْن عمرو قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ينظر اللَّه تَعَالَى إِلَى امرأة لا تعرف حق زوجها، وَلا تستغني عَنْهُ " 336 - وَفِي حديث آخر: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا ينظر

اللَّه إِلَى رجل أتى رجلا أو امرأة فِي دبرها "

337 - وَفِي حديث آخر: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " لا ينظر اللَّه إِلَى مسدل " 338 - وَفِي حديث آخر: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن اللَّه تَعَالَى لا ينظر إِلَى مسبل إزاره " 339 - وَفِي حديث آخر: عَن أَبِي أمامة قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاثة لا ينظر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إليهم يوم القيامة وَلا يزكيهم ولهم عذاب أليم: عاق والديه، ومدمنا خمرا، ومكذبا بقدر اللَّه تَعَالَى "

اعلم أن الكلام فِي هَذَا الخبر مبني عَلَى أصل وَهُوَ أَنَّهُ يجوز أن يوصف اللَّه تَعَالَى بالنظر الَّذِي هُوَ رؤية، كَمَا يجوز وصفه بأنه رأي بصيرة وذكر ابن فورك فِي كتاب تأويل الأخبار أَنَّهُ لا يجوز وصفه بأنه ناظر نظرا هُوَ رؤية، قَالَ: " لأَنَّهُ لا يجوز أن يثبت لَهُ صفة إِلا مَا وصف بها نفسه، أو وصفه رسوله " ولو تأمل لعلم أن هَذِهِ صفة قد وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله، قَالَ اللَّه تَعَالَى: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ سورة الأعراف آية فوصف نفسه بالنظر 340 - وَرَوَى أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن أَبِي هريرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لا ينظر إِلَى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إِلَى أعمالكم وقلوبكم " وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم

فأخبر أَنَّهُ ناظر إِلَى الأعمال والقلوب 341 - وَرَوَى أَبُو بكر النجاد بِإِسْنَادِهِ، عَن جابر بْن عبد اللَّه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر اللَّه إليهم، ومن نظر إِلَيْهِ لَمْ يعذبه "

342 - وَرَوَى أَبُو بكر فِي كتابه الشافي بِإِسْنَادِهِ، عَن واثلة بْن الأسقع قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن لله عَزَّ وَجَلَّ فِي كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ليس لصاحب الشاه فيها نصيب " فقد نطق الكتاب والسنة بإثبات هَذِهِ الصفة، وغير ممتنع حمل مَا رَوَاهُ واثلة عَلَى ظاهره، لا عَلَى وجه التكرار، كَمَا جاز وصفه تَعَالَى بأن لَهُ تسعة وتسعين اسما لا عَلَى وجه التحديد، وَكَمَا جاز وصفه بالعلو لا فِي جهة، وكذلك جواز النظر إِلَيْهِ لا فِي جهة، وإن كنا نعلم أن العلو ضد السفل، والنظر لا يصح فِي الشاهد إِلا فِي وجهة، كذلك ها هنا وكما جاز وصفه بالذات، وإن كان حقيقة الذات فِي الشاهد هُوَ الجسم المؤلف، وكذلك جاز وصفه بالسمع والبصر والوجه وغير ذلك، وَلا نقول إنها جميعه وَلا بعضه، وإن كانت فِي الشاهد أنها بعض الذات، كذلك لا يمتنع وصفه بالعدد وإن لَمْ يتعدد، وَلا يصح تأويله عَلَى مَا يحدثه فِي كل حال من تغيير الأحوال لوجهين: أحدهما: أن مَا يحدثه لا يختص بتسعة وتسعين رحمة والثاني: أن هَذِهِ الأشياء تصدر عَن القدرة لا عَن النظر فعلم أن المراد بالخبر إثبات صفة ترجع إِلَى النظر الَّذِي هُوَ الرؤية، لا عَلَى وجه

التكرار لاستحالة التكرار فِي صفات ذاته، لأَنَّ تكرارها يفضي إِلَى حدثها

343 - وَرَوَى أَبُو بكر أحمد بْن إسحاق الصبغي فِي كتابه المسمى ب الأسماء والصفات فيما حكاه ابن فورك عَنْهُ، عَن عاصم بْن لقيط، أن لقيط بْن عامر خرج وافدا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه صاحبه، قَالَ: فأتينا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين انصرف من صلاة الصبح، وَذَكَرَ الحديث، وَقَالَ فِيهِ: " فتخرجون من مصارعكم تنظرون إِلَيْهِ، وينظر إليكم " 344 - وَرَوَى ابن المنذر، عَن جابر قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بينما أهل الجنة فِي نعيمهم، إذ سطع لهم نور من فوق رؤوسهم، فإذا الرب عَزَّ وَجَلَّ قد أشرف عليهم من فوقهم فَقَالَ: السلام يَا أهل الجنة ، فذلك قوله تَعَالَى: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} قَالَ: فينظر إليهم وينظرون إِلَيْهِ، وَلا يلتفتون إِلَى شيء من النعيم مَا داموا ينظرون إِلَيْهِ "

345 - وروي عَن كعب أَنَّهُ قَالَ: " مَا نظر اللَّه إِلَى الجنة قط إِلا قَالَ لَهَا: طيبي لأهلك، قَالَ: فازدادت طيبا إِلَى مَا كانت " فإن قِيلَ: تحمل هَذِهِ الأخبار عَلَى التعطف والرحمة، وأن اللَّه يتعطف عليهم فيريهم نفسه ويرحمهم قيل: هَذَا غلط لأَنَّهُ إن جاز أن يتأول نظره إِلَى الأشياء عَلَى مَعْنَى التعطف جاز أن تتأول رؤيته وبصره إِلَى الأشياء عَلَى مَعْنَى التعطف والرحمة وقد أثبت ابن فورك البصر والرؤية صفة، كذلك النظر ولأنه إِذَا جاز وصفه بالرؤية والبصر إِلَى الأشياء جاز وصفه بالنظر، إذ ليس فِي ذلك مَا يحيل صفاته وَلا يخرجها عما تستحقه فأما قوله فِي حديث جابر: " بينا أهل الجنة فِي نعيمهم إذ سطع لهم نور من فوق رؤوسهم " فلا يمتنع حمله عَلَى ظاهره، وأنه نور ذاته، لأَنَّهُ إِذَا جاز أن يظهر لهم ذاته فيرونها جاز أن يظهر لهم نوره فيرونه، لأَنَّ النور من صفات ذاته، وَمِنْهُ قوله تَعَالَى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} وأما قوله: " فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوق رؤوسهم " فلا يمتنع أَيْضًا

حمله عَلَى ظاهره، وأنه إشراف ذاته ، لا عَلَى وجه الجهة، كَمَا جاز أن يتجلى للجبل حتى جعله دكا فإن قِيلَ: يحمل قوله: " إذ سطع لهم نور " عَلَى مَا يتجدد لهم من كراماته، وإشعارهم بما يزيدهم من معارفه، فعند ذلك يرفعون رؤوسهم، عَلَى مَعْنَى مَا يقال: فلان رفع رأسه، إِذَا ارتفعت حاله عَن انخفاض بما يتجدد لَهُ، وقوله عند ذلك: " أشرف عليهم من فوق رؤوسهم " يَعْنِي: من فوق رجائهم قيل: هَذَا غلط، لأنه إن جاز أن يحمل ظهور النور عَلَى كرامته جاز أن يحمل قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} إِلَى كراماته، ولأنه إِذَا جاز أن يوصف أَنَّهُ أشرف عليهم من فوقهم رجائهم جاز أن يوصف من فوق رؤوسهم، لا عَلَى وجه الجهة إذ لا فرق بينهما فأما قوله تَعَالَى: {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} معناه لا يتعطف عليهم وَلا يرحمهم، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " وَلا يَنْظُرُ اللَّه إِلَيْهِمْ " عَلَى هَذَا المعنى، ولهذا يقول القائل: انظر إلي بمعنى تعطف علي وارحمني، وليس المراد به نفي النظر الَّذِي هُوَ الرؤية، لأَنَّهُ تَعَالَى ناظرا رائيا إِلَى جميع الأشياء غير مستترة عَنْهُ 346 - وَفِي معناه مَا روي: " إن اللَّه لَمْ ينظر إِلَى الدنيا منذ خلقها " معناه: لَمْ يجل قدرها وَلا قدر من ركن إِلَيْهَا، لأَنَّهُ خلقها للفناء والزوال وحث عَلَى الزهد فيها وترك الاشتغال بها، وَمِنْهُ قولهم: مَا نظر فلان إِلَى فلان إِذَا أراد أَنَّهُ يعتد به وأما قوله: " إن اللَّه لا ينظر إِلَى صوركم ولكن ينظر إِلَى قلوبكم " معناه الاحتساب والاعتداد، أي لا يعتد بما يظهر منكم إِذَا لَمْ يوافق الباطن، لأَنَّ الأعمال الظاهرة

منوطة بصحة السرائر والإخلاص، ولهذا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما بالنيات، وإنما لا مرئ مَا نوى " يريد أن النيات هِيَ المصححة للأعمال وليس إِذَا نفينا النظر فِي حال دل عَلَى نفي ذلك فِي الجملة، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} ولم يدل ذلك عَلَى نفي الكلام فِي الجملة

حديث آخر 347 - ناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن عائشة قالت: كانت عندي امرأة فلما قامت قَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من هَذِهِ يَا عائشة "؟ قلت: يَا رَسُول اللَّهِ أما تعرفها هَذِهِ فلانة مَا تنام الليل، وهي من أعبد أهل المدينة، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مه عليكم من العمل مَا تطيقون، فإن اللَّه تَعَالَى لا يمل حتى تملوا " قالت: وكان أحب العمل إِلَيْهِ أدومه وإن قل 348 - وَفِي حديث آخر: عَن أَبِي هريرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن اللَّه لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل "

اعلم أَنَّهُ غير ممتنع إطلاق وصفه تَعَالَى بالملل لا عَلَى مَعْنَى السآمة والاستثقال ونفور النفس عَنْهُ، كَمَا جاز وصفه بالغضب لا عَلَى وجه النفور، وكذلك الكراهة والسخط والعداوة، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} وقال: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} وَقَالَ: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} وَقَالَ: {سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وَقَالَ: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} وَقَالَ: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} فإن قِيلَ: مَعْنَى الملل ها هنا الغضب، فيكون معناه لا يغضب عليهم وَلا يقطع عنهم ثوابه حتى يتركوا العمل قيل: هَذَا غلط، لأَنَّ الملل قد يحصل من العبد، فيما لا يقتضي الغضب عَلَيْهِ، وَهُوَ ترك النوافل، والخبر عَلَى هَذَا الوجه خرج، ولأنه إن جاز تأويل الملل عَلَى الغضب، جاز تأويل الغضب عَلَى الملل إذ ليس أحدهما بالتأويل أولى من الآخر، وكلاهما مما قد ورد الشرع بإطلاقه عَلَيْه

ِ ولأن الملل والغضب فِي اللغة عبارة عَن معنيين مختلفين، فلا يجوز حمل أحدهما عَلَى الآخر، ولأنه إن جاز امتناع إطلاق الملل لأَنَّ لَهُ حكم فِي الشاهد جاز امتناع إطلاق الغضب والرضا والإرادة لأَنَّ لَهَا حدا فِي الشاهد فإن قِيلَ: معناه: إن اللَّه لا يمل إِذَا مللتم، ومثل هَذَا قولهم: إن هَذَا الفرس لا يفتر حتى تفتر الخيل، وليس المراد بذلك أَنَّهُ يفتر إِذَا فترت الخيل، إذ لو كان المراد به هَذَا مَا كان لَهُ فضل عليها، لأَنَّهُ يفتر معها، وإنما المراد به لا يفتر وإن فترت الخيل، وكذلك قولهم فِي الرجل البليغ: لا ينقطع حتى ينقطع خصومه، يريد بذلك أَنَّهُ لا ينقطع إِذَا انقطعوا، إذ لو كان المراد به ينقطع إِذَا انقطعوا لَمْ يكن لَهُ فضل عليهم فعلى هَذَا يكون مَعْنَى الخبر أن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لا يترك الإحسان إِلَى عبيده، وإن تركوا هم طاعته قيل: هَذَا غلط، لأَنَّ الخبر قصد به بيان التحريض عَلَى العمل والحث عَلَيْهِ وإن قل، فإذا حمل الخبر عَلَى استدامة الثواب مع انقطاع العمل من العامل لَمْ يوجد المقصود بالخبر، لأَنَّهُ يعول عَلَى التفضل ويطرح العمل وجواب آخر: وَهُوَ أن حتى لَهَا ثلاثة أقسام: أحدها: أنها تكون غاية، وتكون بمعنى كي، وتكون بمعنى إِلا أن وليست بمعنى

إِذَا حديث آخر 349 - ناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن أَبِي هريرة، عَن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لا تسبوا الدهر فإن اللَّه هُوَ الدهر " وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " لا يقولن أحدكم: يَا خيبة الدهر فإن اللَّه هُوَ الدهر " وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار "

وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " لا تسبوا الدهر فإن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يقول: أنا الدهر، لي الليل والنهار أجدده وأبليه، وأذهب بملوك وآتي بملوك " وَفِي لَفْظٍ آخَرَ قَالَ: " كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، هُوَ الَّذِي يهلكنا ويميتنا ويحيينا، فَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي كتابه: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} فَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار " وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " يقول اللَّه: استقرضتك عبدي فلم تقرضني، ويشتمني عبدي وَهُوَ لا يدري، يقول: وادهراه وادهراه، وأنا الدهر "

350 - اعلم أن أَبَا بكر الخلال قَالَ: حَدَّثَنِي بشر بْن مُوسَى الأسدي قَالَ: سألت أَبَا عبد اللَّه أحمد بْن حنبل عَن الدهر، فلم يجبني فِيهِ بشيء وظاهر هَذَا أن أحمد توقف عَن الأخذ بظاهر الحديث، وامتنع من إطلاق تسمية الدهر عَلَى اللَّه سُبْحَانَهُ 351 - وَقَالَ حنبل: سمعت هارون الحمال يقول لأبي عبد اللَّه: كنا عند سفيان بْن عيينة بمكة، فحدثنا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لا تسبوا الدهر "، فقام فتح بْن سهل فَقَالَ: يَا أَبَا محمد تقول يَا دهر ارزقنا؟ فسمعت سفيان يقول: خذوه فهو جهمي، وهرب، فَقَالَ أَبُو عبد اللَّه: القوم يردون الآثار عَن رَسُول اللَّهِ ونحن نؤمن بها، وَلا نرد عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله وظاهر هَذَا أَنَّهُ أخذ بظاهر الحديث ويحتمل أَنْ يَكُونَ قوله: " نحن نؤمن بها " راجع إِلَى أخبار الصفات فِي الجملة، ولم يرجع إِلَى هَذَا الحديث خاصة

352 - وَقَدْ ذَكَرَ شيخنا أَبُو عبد اللَّه رحمه اللَّه هَذَا الحديث فِي كتابه وَقَالَ: لا يجوز أن يسمى اللَّه دهرا والأمر عَلَى مَا قاله لأَنَّهُ قد روي فِي بعض ألفاظ هَذَا الحديث مَا منع من حمله عَلَى ظاهره، ولم يرد فِي غيره من أخبار الصفات مَا دل عَلَى صرفه عَن ظاهره فلهذا وجب حملها عَلَى ظاهرها، وذلك أَنَّهُ رَوَى فِيهِ: " يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار " وَفِي لفظ آخر: " لي الليل والنهار أجدده وأبليه، وأذهب بملوك وآتي بملوك " فبين أن الدهر الَّذِي هُوَ الليل والنهار خلق لَهُ وبيده، وأنه يجدده ويبليه فامتنع أَنْ يَكُونَ اسما لَهُ وأصل هَذَا الخبر أَنَّهُ ورد عَلَى سبب، وَهُوَ أن الجاهلية كان تقول: أصابني الدهر فِي مالي بكذا، ونالتني قوارع الدهر ومصائبه، فيضيفون كل حادث يحدث مما هُوَ جار بقضاء اللَّه وقدره وخلقه وتقديره من مرض أو صحة أو غنى أو فقر أو حياة أو موت إِلَى الدهر، ويقولون: لعن اللَّه هَذَا الدهر والزمان، ولذلك قَالَ قائلهم: أمن المنون وريبها يتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع وقال سُبْحَانَهُ: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} أي: ريب الدهر وحوادثه وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} فأخبر عنهم بما كانوا عَلَيْهِ من نسبة أقدار اللَّه وأفعاله إِلَى الدهر فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تسبوا الدهر " أي: إِذَا أصابتكم المصائب لا تنسبوها إِلَيْهِ، فإن اللَّه تَعَالَى هُوَ الَّذِي أصابكم بها، لا الدهر، وإنكم إِذَا سببتم الدهر وفاعل ذلك ليس هُوَ الدهر 353 - وَقَالَ أَبُو بكر الخلال: سألت إبراهيم الحربي عَن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يقولن أحدكم يَا خيبة الدهر فإن اللَّه هُوَ الدهر " وقوله: " لا تسبوا الدهر، فإن اللَّه

هُوَ الدهر " قَالَ: كانت الجاهلية تقول: الدهر هُوَ الليل والنهار، يقولون الليل والنهار يفعل بنا كذا، فَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: أنا أفعل ليس الدهر فقد بين إبراهيم الحربي أن الخبر ليس عَلَى ظاهره، وأنه ورد عَلَى سبب 354 - وَذَكَرَ أَبُو عبيد نحو مَا ذكرنا، فَقَالَ: لا ينبغي لأحد من أهل الإسلام أن يجهل وجهه، وذلك أن أهل التعطيل يحتجون به عَلَى المسلمين، واحتج به بعضهم فَقَالَ: أَلا تراه يقول: فإن اللَّه هُوَ الدهر " قَالَ: وتأويله أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر وتسبه عند المصائب الَّتِي تنزل بهم من موت أو هرم أو تلف، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر وأتى عليهم الدهر، فيجعلونه الَّذِي يفعل ذلك فيذمونه عَلَيْهِ، فَقَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تسبوا الَّذِي يفعل بكم هَذِهِ الأشياء وتصيبكم هَذِهِ المصائب، فإنكم إِذَا سببتم فاعلها فإنما يقع السب عَلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إذ هُوَ الفاعل لَهَا لا الدهر "

حديث آخر 355 - ناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن خولة بنت حكيم، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج وَهُوَ محتضن أحد ابني بنته ويقول: " إنكم لتجبنون وتبخلون وتجهلون، وإنكم لمن ريحان اللَّه، وإن آخر وطأة الرَّحْمَنِ بوج " 356 - وناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن يعلى العامري: أَنَّهُ جاء حسن وحسين يستبقان إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضمهما إِلَيْهِ وَقَالَ: " إن الولد مجبنة مبخلة، وإن آخر وطئة وطئها رب العالمين بوج " وَفِي رواية أَبِي الحسن، وأبي الْقَاسِم ابني بشران بِإِسْنَادِهِ، عَن يعلى بْن مرة: " وإن آخر وطئة وطئها رب العالمين بوج "

357 - وَذَكَرَ الحميدي فِي مسنده بِإِسْنَادِهِ، عَن كعب أَنَّهُ قَالَ: وج مقدس، مِنْهُ عرج الرب إِلَى السماء يوم قضى خلق الأرض قال الحميدي: موضع بالطائف يقال لَهُ وج اعلم أَنَّهُ غير ممتنع عَلَى أصولنا حمل هَذَا الخبر عَلَى ظاهره، وأن ذلك معى يتعلق بالذات دون الفعل، لأنا حملنا الخبر عَلَى ظاهره فِي قوله: " ينزل اللَّه إِلَى سماء الدنيا "

وقوله: " يضع قدمه فِي النار " وقوله: " يتجلى لهم فِي رمال الكافور " وقوله تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} كذلك ها هنا، إذ لسنا نحمل الوطئة عَلَى مماسته جارحة لبعض الأجسام، بل نطلق هَذِهِ الصفة كَمَا أطلقنا استواءه عَلَى العرش لا عَلَى وجه المماسة والانتقال من حال إِلَى حال، وَكَمَا أطلقنا قوله تَعَالَى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} لا عَلَى وجه المماسة، كذلك ها هنا فإن قِيلَ: مَعْنَى ذلك يرجع إِلَى الفعل، وَهُوَ أن آخر مَا أوقع اللَّه سُبْحَانَهُ بالمشركين من الشدة بوج وَهُوَ اسم موضع بالطائف، لأَنَّهُ كان آخر غزوة غزاها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحنين أدنى الطائف، وَهَذَا مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم اشدد وطأتك عَلَى مضر، وابعث عليهم سنين كسني يوسف " فتتابع القحط عليهم سبع سنين حتى أكلوا القد والعظام، والعرب تقول فِي كلامها: اشتدت وطأة السلطان عَلَى رعيته، وليس يريدون بذلك وطء القدم، كذلك ها هنا

قيل: هَذَا غلط، لأَنَّهُ لَمْ يكن ذلك آخر مَا أوقع اللَّه بالمشركين، لأَنَّ الفتوح حصلت بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والنكاية فِي المشركين ظاهر عَلَى يدي خليفة بعد خليفة، ثُمَّ النكاية فِي الفرس والروم، وغير ذلك من أهل الكفر وجواب آخر: وَهُوَ أن فِي الخبر مَا يسقط هَذَا، وَهُوَ قوله: آخر وطئة " وذلك لا يستعمل فِي الشدة، وإنما يستعمل فِي الشدة مَا كان بالهمزة والألف، نحو قوله: " اشدد وطأتك عَلَى مضر " فإن هناك قرينة دلت عَلَى أن المراد به العذاب، وَهُوَ أَنَّهُ دعا عَلَى الكفار، ولأنه ذكر الوطأة هناك بالهمزة والألف 358 - وقد حكى ابن قتيبة هَذَا التأويل فِي مختلف الحديث، وَقَالَ فِي جوابه: لا أقضي به عَلَى مراد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنني قرأت فِي الإنجيل: أن المسيح صلوات اللَّه عَلَيْهِ قَالَ للحواريين: ألم تسمعوا أَنَّهُ قِيلَ للأولين: لا تكذبوا إِذَا حلفتم بالله، ولكن أصدقوا، وأنا أقول لكم لا تحلفوا بالسماء فإنها كرسي اللَّه، وَلا بالأرض فإنها موطئ قدميه، وَلا بأورشليم فإنها مدينة الملك الأكبر، وَلا تحلف برأسك فإنك لا تستطيع أن تزيد فِي شعرة سوداء وَلا بيضاء، ولكن ليكن قولكم : نعم نعم، وَلا لا، وما كان سوى ذلك فإنه من الشيطان هذا مع حديث حدثنيه يزيد بْن عمرو قَالَ: نا عبد اللَّه بْن الزبير، قَالَ: نا عبد اللَّه بْن الحرث، عَن أَبِي بكر بْن عبد الرَّحْمَنِ، عَن كعب قَالَ: " إن وج مقدس، مِنْهُ عرج الرب إِلَى السماء يوم قضى خلق الأرض " وهذا الكلام من ابن قتيبة إقرار مِنْهُ بفساد هَذَا التأويل، وحمل الخبر عَلَى ظاهره كَمَا ذهبنا إِلَيْهِ

حديث آخر 359 - ناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن جابر، وابن عمر، وأنس، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " اهتز عرش الرَّحْمَنِ جل اسمه لموت سعد بْن معاذ " 360 - وَفِي حديث آخر: رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَن أَبِي سلمة بْن عبد الرَّحْمَنِ، عَن معيقيب قَالَ: نظر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سعد بْن معاذ عَلَى السرير فَقَالَ: " لقد اهتز العرش

لموته، عرش الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ " 361 - وَفِي حديث آخر: رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَن ابن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لهذا العبد الصالح الَّذِي تحرك لَهُ العرش، وفتحت لَهُ أبواب السموات، وشهده سبعون ألف من الملائكة لَمْ يهبطوا إِلَى الأرض قبل ذلك، ولقد ضم فِي قبره ثُمَّ أفرج لَهُ " يَعْنِي سعدا رحمه اللَّه اعلم أن هَذَا الخبر ليس مما يرجع إِلَى شيء من الصفات لأَنَّ العرش محدث مخلوق، وغير ممتنع أن يهتز العرش عَلَى الحقيقة، ويتحرك لموت سعد، لأَنَّ العرش تجوز عَلَيْهِ الحركة، ويكون لذكره فائدة وَهُوَ: فضيلة سعد، أن العرش مع عظم قدره اهتز لَهُ

وقد تأول قوم عَلَى أن العرش ها هنا السرير الَّذِي كان عَلَيْهِ سعد وَهَذَا غلط لوجهين أحدهما: أن فِي الخبر " اهتز عرش الرَّحْمَنِ جل اسمه " وإضافة العرش إِلَى اللَّه سُبْحَانَهُ إنما ينصرف إِلَى العرش الَّذِي هُوَ فِي السماء والثاني: أَنَّهُ قصد بهذا الخبر فضيلة سعد، وَلا فضيلة فِي تحرك سريره واهتزازه، لأَنَّ سرير غيره قد يتحرك ويهتز من تحته وتأوله آخرون: عَلَى أن الاهتزاز ها هنا راجع إِلَى حملة العرش، الذين يحملونه ويطوفون حوله، وأقام العرش مقام من يحمله ويطوف به من الملائكة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} وإنما يريد أهل السماء وأهل الأرض، وَكَمَا قَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أحد: " هَذَا جبل يحبنا ونحبه " يريد: يحبنا أهله يَعْنِي الأنصار

ويكون مَعْنَى اهتزاز حملته الاستبشار والسرور به، يقال: فلان يستبشر للمعروف ويهتز لَهُ، وَمِنْهُ قِيلَ فِي المثل: إن فلانا إِذَا دعي اهتز، وإذا سئل ارتز، والكلام لأبي الأسود الدئلي، والمعنى فِيهِ: إِذَا دعي إِلَى طعام يأكله ارتاح لَهُ واستبشر، وإذا دعي لحاجة ارتز، أي تقبض ولم ينطلق، قَالَ الشاعر: وتأخذه عند المكارم هزة ... كَمَا اهتز عند البارح الغصن الرطب وهذا غلط لما بينا أَنَّهُ غير ممتنع من إضافة الاهتزاز إِلَى العرش لكونه محدثا، وقد قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} وهذه إضافة صحيحة إِلَى السماء والأرض، وكذلك إضافة ذلك إِلَى العرش، وحمل ذلك عَلَى حملة العرش عدول عَن الحقيقة إِلَى المجاز من غير حاجة إِلَى ذلك، ولئن جاز هَذَا، جاز العدول فِي قوله: {تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} معناه أهل السماء وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا معناه أهل الجبال، ولأن مَا يمنع من حمل الخبر عَلَى العرش يمنع من حمله عَلَى حملته، وما يجوز فِي أحدهما نجوزه فِي الآخر، ولأنه لا يجب أن يمتنع المخالف من هَذَا، لأَنَّهُ لا يثبت كونه عَلَى العرش، وإذا لَمْ يثبت ذلك لَمْ يمتنع إضافة ذلك إِلَى العرش وأما قوله: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ سورة الدخان آية فمعناه: فما

بكت عليهم السماء بأهلها، وكذلك قوله: " هَذَا جبل يحبنا " معناه يحبنا بأهله

حديث أخر 362 - رَوَاهُ أَبُو بكر أحمد بْن سلمان النجاد فِي السنة، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْن أحمد قَالَ: نا معمر، قَالَ: نا وكيع، عَن مُوسَى بْن عبيد، عَن محمد بْن كعب، قَالَ: كأن الناس إِذَا سمعوا القرآن من فِي الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ يوم القيامة، فكأنهم لَمْ يسمعوه قبل ذلك 363 - وناه أَبُو محمد الحسن بْن محمد، قَالَ: نا عمر بْن أحمد بْن عثمان، قَالَ: نا محمد بْن هارون بْن حميد، قَالَ: نا عثمان بْن أَبِي شيبة، قَالَ: نا وكيع، قَالَ: نا مُوسَى بْن عبيدة، قَالَ: سمعت محمد بْن كعب القرظي يقول: إِذَا سمع القرآن من فِي الرَّحْمَنِ فِي القيامة فكأنهم لَمْ يسمعوه قبل ذلك 364 - ونا أَبُو القسم عبد العزيز بِإِسْنَادِهِ، عَن أَبِي هريرة، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كأن الخلق لَمْ يسمعوا القرآن حين سمعوه من فِيهِ يوم القيامة " اعلم أَنَّهُ غير ممتنع إطلاق الفي عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، كَمَا لَمْ يمتنع إطلاق اليد والوجه والعين 365 - وقد نص أحمد عَلَى ذلك فِي رسالة أَبِي العباس أحمد بْن جعفر الفارسي

فَقَالَ: كلم اللَّه مُوسَى تكليما من فِيهِ فإن قِيلَ: هَذَا الحديث ضعيف يرويه مُوسَى بْن عبيدة، وَقَالَ يَحْيَى بْن سعيد القطان: مُوسَى بْن عبيدة ضعيف قيل: هَذَا غلط، لأَنَّ مُوسَى بْن عبيدة رجل من أهل الربذة لا بأس به، وقد روي عَنْهُ وكيع وَهُوَ من أئمة أصحاب الحديث وأما محمد بْن كعب: فهو من علماء التابعين بالتفسير والفتيا، وأبوه كعب بْن

سليمان من الصحابة فإن قِيلَ: فنتأول قوله: " من فِي الرَّحْمَنِ " معناه من الرَّحْمَنِ قيل: هَذَا غلط، لأَنَّهُ يتضمن حذف صفة قد ورد الخبر بها، وعلى أَنَّهُ إن جاز هَذَا التأويل وجب مثله فِي قوله {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} معناه بذاتي ويكون ذكر اليد زائد، وكذلك قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} المراد به: ذاته، وليس المراد به الوجه الَّذِي هُوَ صفة، ولما لَمْ يجز هَذَا هناك كذلك ها هنا، ولأن هَذَا يؤدي إِلَى جواز القول بأن لله فِي، وأنه يجوز أن يدعى فيقال: يَا فِي اغفر لنا، وَهَذَا لا يجوز، فامتنع أَنْ يَكُونَ المراد بالفي الذات، لأَنَّهُ لا يجوز وصفه ودعاءه بذلك

حديث آخر 366 - ناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن عقبة بْن عامر الجهني، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لو كان القرآن فِي إهاب مَا مسته النار " 367 - وَفِي حديث آخر عَن عبيد اللَّه بْن موهب، عَن عصمة بْن مالك الخطمي، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو جمع القرآن فِي إهاب مَا أحرقته النار "

اعلم أَنَّهُ قد قِيلَ فِي ذلك وجوه: أحدها: أن من حفظ القرآن وقاه اللَّه عذاب النار، واحتج فِي ذلك بحديث أَبِي أمامة: " إن اللَّه سُبْحَانَهُ لا يعذب قلبا وعى للقرآن " وإلى هَذَا أومئ أحمد فِي رواية إسحاق بْن إبراهيم، وقد سأله مَا مَعْنَى: " لو كان القرآن فِي إهاب مَا مسته النار " قَالَ أَبُو عبد اللَّه: هَذَا يرجى لمن القرآن فِي قلبه أن لا تمسه النار فِي إهاب، يَعْنِي فِي قلب رجل وفي هَذَا ضعف، لأَنَّهُ قد روي فِي الخبر عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يكون فيكم قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية " 368 - وروي " النار إِلَى فسقة القرآن أقرب منها إِلَى عبدة الأوثان " وعلم أن مَعْنَى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن اللَّه لا يعذب قلبا وعى القرآن " إِذَا حفظ حدوده وعمل بموجبه وقال قوم: معناه أَنَّهُ لو كتب القرآن فِي جلد ثُمَّ طرح فِي النار مَا أحرقته النار،

وذلك فِي عهد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علامة لنبوته وقال قوم: تأويله أن القرآن لو كتب فِي جلد ثُمَّ طرح الجلد فِي النار مَا احترق، أي: مَا احترق القرآن، وما بطل وَلا اندرس، وإنما يندرس ويبطل المداد والحبر والجلد 369 - وَهَذَا مثل قوله حاكيا عَن اللَّه سُبْحَانَهُ: " إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء " ومعناه لا يبطله وَلا يفنيه الماء، كذلك قوله: " مَا احترق " وَهَذَا وجه صحيح، لأنا وإن قلنا إن القرآن مكتوب فِي الحقيقة، وأن الكتابة هِيَ المكتوب، فلسنا نقول إنه حال فِي الجلد، وَلا فِي الورق وَلا فِي اللوح، فاحتراق المحل لا يوجب احتراقه، لأَنَّهُ ليس بحال فِي محل كتابته

حديث آخر 370 - ناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن أَبِي أمامة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا أذن اللَّه لعبد فِي شيء أفضل من ركعتين يصليهما، وإن اللَّه ليذر البر فوق رأس العبد مَا دام فِي صلاته، وما تقرب العبد إِلَى اللَّه بمثل مَا خرج مِنْهُ " يَعْنِي القرآن

371 - ورواه أَبُو عبد اللَّه بْن بطة فِي كتاب الإبانة بِإِسْنَادِهِ، عَن أَبِي أمامة قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا تقرب العباد إِلَى اللَّه بشيء أفضل من شيء خرج مِنْهُ " وَهُوَ

القرآن اعلم أن المراد بالخروج ها هنا ظهور المنافع، كَمَا يقال: خرج لنا من كلامك خير كثير، وأتنا مِنْهُ نفع بين، وليس المراد به الخروج الَّذِي هُوَ بمعنى الانتقال والمفارقة، لأَنَّهُ ليس بجسم وَلا جوهر، وإنما يجوز الانتقال عَلَى الجواهر والأجسام

372 - وقد قَالَ أحمد فِي رواية عبدوس بْن مالك العطار: كلام اللَّه ليس ببائن مِنْهُ 373 - وَقَالَ فيما خرجه فِي الرد عَلَى الجهمية فِي الأحاديث الَّتِي رويت: " يجيء القرآن فِي صورة الشاب " فَقَالَ: كلام اللَّه لا يجيء وَلا يتغير من حال إِلَى حال 374 - وَقَالَ فِي رواية حنبل: احتجوا علي يومئذ " تجئ البقرة يوم القيامة "، "

وتجيء تبارك "

فقلت لهم: هَذَا الثواب فقد نص أحمد عَلَى المعنى الَّذِي ذكرنا وقد قَالَ قوم: إن الهاء فِي قوله: " خرج مِنْهُ " يعود عَلَى العبد، وخروجه مِنْهُ وجودة متلوا عَلَى لسانه، محفوظا فِي صدره، مكتوبا بيده وهذا غلط لوجهين: أحدهما: أَنَّهُ وصف الخارج بأنه كلام اللَّه، وهذه الصفة لا يصح خروجها من غير اللَّه تَعَالَى، والذي يظهر من التالي هُوَ التلاوات، والتلاوات عَلَى قولهم ليست بقرآن، وإنما هِيَ تلاوة للقرآن، والتلاوة عندهم غير القرآن، فلا يصح هَذَا التأويل والثاني: أن قائلا لو قَالَ: مَا تقرب إلي زيد بشيء أفضل من شيء خرج مِنْهُ، وَهُوَ عمله، فإن ذلك يرجع إِلَى أَنْ يَكُونَ العلم الخارج من زيد، كذلك ها هنا

حديث آخر 375 - رَوَاهُ أَبُو عبد اللَّه بْن بطة بِإِسْنَادِهِ، عَن عثمان بْن عفان، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن فضل القرآن عَلَى سائر الكلام، كفضل اللَّه عَلَى خلقه، وذلك أن القرآن مِنْهُ خرج وإليه يعود "

وأما قوله: " مِنْهُ خرج " فمعناه مِنْهُ خرج تنزيله وظهوره والابتداء، وإليه يعود حكمه لأَنَّ مَا تضمنه القرآن من الأحكام الَّتِي هِيَ العبادات واجتناب المحرمات إنما يفعل لله عَزَّ وَجَلَّ فيكون الحكم عائد إِلَيْهِ بمعنى مفعول لَهُ ولأجله 376 - وقد قَالَ أَبُو بكر الخلال: سمعت عبد اللَّه بْن أحمد قَالَ: ذكر أَبُو بكر الأعين قَالَ: سئل أَبُو عبد اللَّه أحمد بْن حنبل عَن تفسير قوله: " القرآن كلام اللَّه مِنْهُ خرج وإليه يعود "، فَقَالَ أحمد: مِنْهُ خرج هُوَ المتكلم به، وإليه يعود فقد فسر قوله: " مِنْهُ خرج " عَلَى أَنَّهُ صفة من صفات ذاته، مبتدي به، ولم يفسر قوله: " وإليه يعود " وتفسيره مَا ذكرنا من أن أحكامه عائدة إِلَيْهِ

377 - وهكذا فسره أَبُو بكر بْن إبرة من أصحابنا فيما وجدته معلقا بخطه فِي حاشية كتاب السنة لأبي بكر الخلال وقد قِيلَ: مَعْنَى قوله: " مِنْهُ خرج " أي مِنْهُ يسمع وبتعليمه يعلم وبتفهيمه يفهم وهذا لا يخرج عَلَى أصولنا، لأَنَّ عَلَى قولنا يسمع مِنْهُ فِي حق من تولى خطابه، ويسمع من غيره فِي حق من لَمْ يتول خطابه وقيل: مَعْنَى قوله: " مِنْهُ خرج " أَنَّهُ لَهُ، والعرب تقول: إن هَذَا منك، تعني أَنَّهُ لك كَمَا قَالَ القائل: ومنك العطاء ومنك الثناء أي لك العطاء ولي الثناء عليك ولا يجوز أن يحمل قوله " مِنْهُ " عَلَى مَعْنَى الجزء مِنْهُ، لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ ليس بذي أبعاض وأجزاء ولا يجوز أَيْضًا حمله عَلَى أن مِنْهُ بمعنى فعله كقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} يَعْنِي: خلقا وملكا، لأَنَّهُ قد ثبت بالدليل أن كلامه صفة قديمة لذاته غير محدثة وَلا مخلوقة

حديث آخر 378 - ناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن أَبِي هريرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إن اللَّه تبارك وتعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألف عام، فلما سمعت الملائكة القرآن، طوبى لأمة ينزل هَذَا عليها، وطوبى لأجواف تحمل هَذَا، وطوبى لألسن تكلم بهذا " وقد ذكر أَبُو عبد اللَّه بْن بطة فِي كتابة بِإِسْنَادِهِ اعلم أَنَّهُ غير ممتنع إطلاق صفة القراءة عَلَى اللَّه سُبْحَانَهُ، كَمَا أَنَّهُ غير ممتنع إطلاق صفة الكلام عَلَيْهِ، فنقول: قرأ ويقرأ، كَمَا نقول: تكلم ويتكلم، وقد قَالَ اللَّه سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ} فوصف نفسه بذلك،

ولأنه ليس فِي ذلك مَا يوجب خلق القرآن وَلا حدوثه، كَمَا لَمْ يكن فِي قولنا تكلم مَا يوجب حدوثه فإن قِيلَ: بل فِيهِ مَا يوجب حدوثه وخلقه، وذلك أن القراءة عبارة عَن جمع الشيء، وَمِنْهُ قولهم: مَا قرأت هَذِهِ الناقة سلا قط، أي: مَا جمعت فِي رحمها ولدا، وكذلك قولهم: قرأت الماء فِي الحوض وقرأت اللقمة فِي في، ومتى وصفنا القرآن بالجمع، وصفناه بصفة توجب حدوثه قيل: يحتمل أَنْ يَكُونَ الجمع راجعا إِلَى أحد وجهين: أحدهما: إِلَى أحكامه وشرائعه، لا إِلَى نفس الكلام الَّذِي هُوَ الصفة لقيام الدليل عَلَى قدمه والقديم لا يصح جمعه، وأحكامه مجموعة فِي الجملة ومفصلة فِي الآيات والسور، ويكون ذكر السور والآيات علامات لتفصيل الأحكام

الوجه الثاني: أَنْ يَكُونَ الجمع راجعا إِلَى جمع فهمه وعلمه ومعرفته، وذلك لا يفضي إِلَى الحدث فِي القرآن، لأَنَّ الجمع يحصل فِي صفات القارئ لا فِي القرآن، ولأن المقرؤ عبارة عَن المجموع، ثُمَّ لَمْ يوجب ذلك منع وصفه بذلك، كذلك فِي القراءة 379 - وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بكر بْن الأنباري فِي كتاب الزاهر فَقَالَ: إنما سمي القرآن قرآنا فِيهِ قولان: أحدهما: قاله أَبُو عبيدة: لأَنَّهُ يجمع السور ويضمها وقال قطرب: إنما سمي القرآن قرآنا لأَنَّ القارئ يظهره ويلقيه من فِيهِ، أخذ من قول العرب: مَا قرأت الناقة سلا قط، أي: مَا رمت بولد

إثبات صفة الحياء لربنا جل شأنه

إثبات صفة الحياء لربنا جل شأنه حديث آخر 380 - ناه أَبُو الْقَاسِم بِإِسْنَادِهِ، عَن سلمان الفارسي قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن ربكم كريم يستحي من عبده إِذَا رفع إِلَيْهِ يده يدعوه أن يردهما إِلَيْهِ صفرا " يَعْنِي ليس فيها شيء

وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ حيي كريم، يستحي إِذَا رفع العبد يديه يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا " 381 - وَفِي حديث آخر: رَوَاهُ أنس بْن مالك قَالَ: سمعت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن اللَّه ليستحي إِذَا رفع العبد إِلَيْهِ يديه أن يردهما صفرا، ليس فيهما شيء "

382 - وَفِي حديث آخر: رَوَاهُ علي بْن أَبِي طالب قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن ربكم عَزَّ وَجَلَّ كريم يستحي إِذَا رفع العبد يديه أن يردهما صفرا لا خير فيهما، فلعيط اللَّه العبد من نفسه الجهد، وإذا حزبه أمر فليقل: حسبي اللَّه ونعم الوكيل " وفي حديث آخر: رَوَاهُ أنس، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأثره عَن ربه عَزَّ وَجَلَّ: " إني لأستحي من عبدي أن يشيب فِي الإسلام أن أعذبه "

384 - وَفِي حديث آخر: رَوَاهُ عطاء، عَن يعلى، أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللَّه رأى رجلا يغتسل بالبراز فصعد المنبر فحمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ، فَقَالَ: " إن اللَّه حيي حليم ستير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر " 385 - وَرَوَى أَبُو بكر أحمد بْن إسحاق الصبغي، عَن أَبِي واقد الليثي، أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينما هُوَ جالس فِي المسجد والناس معه أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذهب واحد، قَالَ: فوقفا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأما أحدهما فرأى فرجة فِي الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبا، فلما فرغ

رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَلا أخبرك عَن ثلاثة نفر، أما أحدهم فأوى إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآواه اللَّه، وأما الآخر فاستحيا اللَّه فاستحيا اللَّه مِنْهُ، وأما الآخر فأعرض فأعرض اللَّه عَنْهُ " اعلم أَنَّهُ غير ممتنع وصف اللَّه تَعَالَى بالحياء، لا عَلَى مَعْنَى مَا يوصف به المخلوقين من الحياء الَّذِي هُوَ انقباض وتغير وتجمع وخجل، لاستحالة كونه جسما متغيرا تحله الحوادث لكن نطلق هَذِهِ الصفة كَمَا أطلقنا وصفه سُبْحَانَهُ بالإرادة وإن خالفت إرادة المخلوقين لأَنَّ إرادته تقتضي وجوب المراد، وإرادتنا لا تقتضي وجوبه، وكذلك علمه يقتضي العلم بالمعدوم والموجود خلاف علمنا، وكذلك رؤيته لا تقتضي وجوده فِي جهة، خلاف رؤية بعضنا، لأَنَّهُ لو لَمْ يوصف بالحياء جاز أن يوصف بضده وَهُوَ القحة، ولما لَمْ يوصف بضده جاز أن يوصف به، أَلا ترى أنا وصفناه بالعلم والقدرة والكلام، لأَنَّ فِي نفيها إثبات أضدادها، وذلك مستحيل عَلَيْهِ

فإن قِيلَ: يحمل قوله: " يستحي " عَلَى الترك فيكون قوله: " يستحي " بمعنى لا يترك يدي العبد خالية من خير إِذَا رفعها إِلَيْهِ فِي الدعاء، قالوا: وعلى هَذَا يتأول قوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا} أي لا يترك، لأَنَّ المستحي يترك للحياء أشياء، كَمَا يترك للإيمان وينقطع بالحياء عَن المعاصي، كَمَا ينقطع بالإيمان عنها، ولهذا قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الحياء شعبة من الإيمان " وكذلك قوله: " وأما الآخر فاستحيا فاستحيا اللَّه مِنْهُ " فيحتمل أَنْ يَكُونَ معناه: أَنَّهُ يترك أذى القوم بمزاحمتهم فِي مجلسه، فترك اللَّه عقوبته وعفا عَنْهُ، وكذلك قوله: " إن ربكم حيي كريم " أَنَّهُ يترك عقوبة العبد عَلَى خطيئته " قيل: هَذَا غلط لأَنَّهُ يسقط فائدة التخصيص بهذه الصفة، لأَنَّهُ قد يعطى مع وجود هَذِهِ الصفة الَّتِي هِيَ رفع اليدين ومع عدمهما، فوجب حمله عَلَى فائدة، وَلا فائدة إِلا إثبات هَذِهِ الصفة وجواب آخر: وَهُوَ أَنَّهُ لو كان الحياء عبارة عَن الترك لحصل تقدير الخبر: إن اللَّه يترك يده صفرا، وقد قالوا إن معناه أَنَّهُ لا يترك يده صفرا من العطاء، فعلى هَذَا تحصيل عبارة عَن ضد الترك، فلا تستقيم العبارة والتأويل

فأما قوله: " ستير " أي ساتر يستر عَلَى عباده كثيرا من عيوبهم، وَلا يظهرها عليهم، وستير بمعنى ساتر كَمَا جاء قدير بمعنى قادر، وعليم بمعنى عالم

حديث آخر 386 - ناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن بهز بْن حكيم، عَن أبيه، عَن جده قَالَ: حَدَّثَنَا نبي اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أن رجلا آتاه اللَّه مالا وولدا، وكان لا يدين دينا فمكث حتى إِذَا ذهب عمر وبقي عمر تفكر فعلم أَنَّهُ لَمْ يبتئر عند اللَّه خيرا دعا بينه، فَقَالَ: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب يَا أبانا، قَالَ: فواللَّه لا يبقى عند رجل منكم مال هُوَ مني إِلا وأنا آخذه، أو تفعلوا مَا آمركم به؟ قَالَ: فأخذ منهم ميثاقا، قَالَ: فإذا أنا مت فاحرقوني، ثُمَّ دقوني ثُمَّ ذروني فِي يوم ريح عاصف لعلي أضل اللَّه، قَالَ: ففعلوا ذلك ورب محمد حين مات، فجيء به أحسن مَا كان فعرض عَلَى اللَّه تَعَالَى، قَالَ: مَا حملك عَلَى النار؟ قَالَ: خشيتك يَا رباه، قَالَ اللَّه: أجدك راهبا، فتاب اللَّه عَلَيْهِ، أو قَالَ: غفر لَهُ "

387 - وَفِي حديث آخر: رَوَاهُ أَبُو هريرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أسرف رجل عَلَى نفسه حتى إِذَا حضرته الوفاة قَالَ لأهله: إِذَا أنا مت فاحرقوني، ثُمَّ اسحقوني، ثُمَّ ذروني فِي الرياح، فواللَّه لئن قدر اللَّه علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا، قَالَ: ففعل ذلك به، فَقَالَ اللَّه جل اسمه لكل شيء أخذ مِنْهُ شيئا: رد مَا أخذت مِنْهُ، فإذا هُوَ قائم بين يدي اللَّه تَعَالَى، فَقَالَ لَهُ: مَا حملك عَلَى مَا صنعت؟ قَالَ: خشيتك، فغفر اللَّه لَهُ " وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " أن رجلا ممن كان قبلكم لَمْ يعمل خيرا قط إِلا التوحيد " وَذَكَرَ الخبر

وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: قَالَ: " إِذَا أنا مت فحرقوني، ثُمَّ اطحنوني، ثُمَّ ذروني فِي البحر " وَذَكَرَ الخبر اعلم أن هَذَا الخبر وإن لَمْ يرجع شيء من لفظه إِلَى مَا هُوَ صفة من صفات اللَّه فإن لفظه مشكل، وكان القائل لَهُ رجلا موحدا مغفورا لَهُ، فوجب أن يوقف عَلَى معناه ليزول الإشكال أما قوله: " أضل اللَّه " أي أنساه، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} وقول: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} أي: تنساه، وقيل فِي بعض الوجوه فِي تأويل قوله سُبْحَانَهُ: {وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى} أي ناسيا فذكرك، والعرب تقول: ضللت كذا وأضللته، أي نسيته وإذا كان ذلك مَعْنَى الضلال ها هنا فمراده أن اللَّه سُبْحَانَهُ يميتني وَلا يبعثني فاستريح من عذابه، والعرب تقول: ضل الماء فِي البئر، إِذَا غاب فِيهِ ولم يبن، ويكون تحقيق مَعْنَى قوله: " أضل اللَّه " أي: لعل اللَّه لا ينشرني وَلا يبعثني فاستريح من عذابه، وَهَذَا إظهار الجزع والخوف والخشية بأبلغ مَا يكون فِي بابه، لا أَنَّهُ كان يعتقد قائله أَنَّهُ يجوز أن ينسى اللَّه أحدا، أو يمكن أن يفوته شيء 388 - ومثل ذلك مَا روي عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كان يقول فِي دعائه: اللهم

وإن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني سعيدا فذكر أهل العلم أن ذلك إظهار غاية الخوف والخشية حتى يسأل مَا لا يكون، أن لو كان مما يكون، حتى لا يفوته التضرع بكل وجه فِي طلب مَا يكون وأما قوله: " لئن قدر علي ربي ليعذبني " فلا يمكن حمله عَلَى مَعْنَى القدرة، لأَنَّ من توهم ذلك لَمْ يكن مؤمنا بالله عَزَّ وَجَلَّ وَلا عارفا به، وإنما ذلك عَلَى مَعْنَى قوله تَعَالَى فِي قصة يونس: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} وذلك يرجع إِلَى مَعْنَى التقدير لا إِلَى مَعْنَى القدرة لأَنَّهُ لا يصح أن يخفى عَلَى نبي معصوم ذلك 389 - وَقَالَ الفراء فِي تأويل قوله: {أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي أن لَنْ يقدر عَلَيْهِ مَا قدرنا فعلى هَذَا يحمل قوله: " لئن قدر علي ربي ليعذبني " أي إن كان قدر: أي حكم علي بالعقوبة فإنه يعاقبني دائما، وَهَذَا كلام خائف جزع، فوجب حمل كلامه عَلَى وجه صحيح لا ينافي المغفرة وَلا يؤدي إِلَى الكفر

حديث آخر 390 - ناه أَبُو الْقَاسِمِ قَالَ: أنا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ إِجَازَةً، قَالَ: نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَلالُ، نا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْهَيْثَمِ قَالا: نا آدَمُ، نا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ بَشِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ تَعَلَّقُ بِحَقْوَيِ الرَّحْمَنِ جَلَّ اسْمُهُ تَقُولُ: اللَّهُمَّ صِلْ مَنْ وَصَلَنِي وَاقْطَعْ مَنْ قَطَعَنِي " 391 - وَناهُ أَبُو الْقَاسِمِ قَالَ: أنا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ إِجَازَةً، قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: نا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، نا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي سَعِيدٌ أَبُو الْحُبَابِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ قَامَتِ الرَّحِمُ فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ، قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: أَمَا تَرْضِينَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ

أَقْفَالُهَا} 392 - وَناهُ أَبُو الْقَاسِمِ قَالَ: نا الْقَاضِي ابن عُمَرُ بْنُ سُنْبُكٍ قَالَ: أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، نا زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ، نا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي زِيَادٌ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْءَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الرَّحِمُ شُجْنَةٌ آخِذَةٌ بِحُجْزَةِ الرَّحْمَنِ " اعلم أَنَّهُ غير ممتنع حمل هَذَا الخبر عَلَى ظاهره، وأن الحقو والحجزة صفة ذات لا عَلَى وجه الجارحة والبعض، وأن الرحم آخذة بها عَلَى وجه الاتصال

والمماسة بل نطلق ذلك تسمية كَمَا أطلقها الشرع ونظير هَذَا مَا حملناه عَلَى ظاهره فِي وضع القدم فِي النار، وَفِي أخذ داود بقدمه لا عَلَى وجه الجارحة وَلا عَلَى وجه المماسة، كَمَا أثبتنا خلق آدم بيديه، فاليدان صفة ذات، والخلق بها لا عَلَى وجه المماسة والملاقاة، كذلك ها هنا، وَكَمَا أثبتنا الاستواء لا عَلَى وجه الجهة والمماسة 393 - وَذَكَرَ شيخنا أَبُو عبد اللَّه رحمه اللَّه فِي كتابه هَذَا الحديث وأخذ بظاهره وهو ظاهر كلام أحمد 394 - قَالَ المروذي: جاءني كتاب من دمشق فعرضته عَلَى أَبِي عبد اللَّه فنظر فِيهِ، وكان فِيهِ: أن رجلا ذكر حديث أَبِي هريرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ خلق الخلق حتى إِذَا فرغ منها قامت الرحم فأخذت بحقو الرَّحْمَنِ " وكان الرجل تلقيه يَعْنِي حديث أَبِي هريرة فرفع المحدث رأسه وَقَالَ: أخاف أن تكون كفرت، فَقَالَ أَبُو عبد اللَّه: هَذَا جهمي 395 - وَقَالَ أَبُو طالب: سمعت أَبَا عبد اللَّه سئل عَن حديث هشام بْن عمار أَنَّهُ قرئ عَلَيْهِ حديث: " تجئ الرحم يوم القيامة، فتتعلق بالرحمن " فَقَالَ: أخاف أن تكون قد كفرت، قَالَ: هَذَا شامي ماله ولهذا قلت مَا تقول؟ قَالَ: يمضا الحديث عَلَى مَا جاء

فإن قِيلَ: الرحم لا يصح عليها التعلق لأَنَّ ذلك حق القرابة من طريق النسب، فعلم أن ذلك مثل المراد به تأكيد أمر الرحم، والحث عَلَى وصله، والزجر عَن قطعه، فأخبر عَن ذلك بأبلغ مَا يكون من التأكيد، ويكون معناه: أنها مستجيرة معتصمة بالله قالوا: وبين هَذَا أَنَّهُ قد روي فِي حديث أَبِي هريرة: " الرحم معلقة بالعرش لَهَا لسان طلق ذلق تقول: من وصلني وصله اللَّه، ومن قطعني قطعه اللَّه "

قيل: هَذَا غلط، لأَنَّ قوله: " إن الرحم حق القرابة " وَلا يصح التعلق عَلَيْهِ فليس كذلك، لأَنَّ معناه: ذي الرحم يأخذ بحقو الرَّحْمَنِ، فحذف المضاف وأقام المضاف إِلَيْهِ مقامه كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} ومعناه: صاحب قول الحق، وإذا ثبت أن المراد بها ذي الرحم فذلك مما يصح عَلَيْهِ التعلق، والذي يدل عَلَى أن المراد به ذي الرحم أن الوصل والقطع نفع وضر، وذلك إنما يختص بذي الرحم، فأما نفس الرحم فلا يتوجه إِلَيْهِ 396 - ويبين ذلك قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " شرك بالله تبرئ من نسب " ومعناه: تبرئ من ذي النسب

397 - وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بلوا أرحامكم ولو بالسلام " ومعناه: بلوا ذي الأرحام بالسلام

وقولهم: إن ذلك مثل، فلا يصح، لأَنَّهُ إِذَا أمكن حمل الكلام عَلَى مَا يفيد كان أولى من حمله عَلَى مَا لا يفيد وقولهم : إن معناه أنها مستجيرة معتصمة بالله، فلا يمنع من هَذَا، لكن صفة الاستجارة والاعتصام عَلَى مَا ورد به الخبر من الأخذ بحقو الرَّحْمَنِ جل اسمه وقولهم: إن المراد بذلك تأكيد أمر الرحم والحث عَلَى صلته، فلا يمنع من هَذَا، وليس فِي ذلك مَا ينافي الصفة المذكورة فِي الخبر، بل يجوز أَنْ يَكُونَ قصد الحث عَلَى صلته لأجل مَا يوجب منهم من الاعتصام عَلَى الصفة المذكورة وقولهم: إن فِي حديث أَبِي هريرة: " إن الرحم معلقة بالعرش " فلا يمنع أن تعلق

بالعرش فِي حال، وتعلق بحقو الرَّحْمَنِ فِي حال، فيجمع بين الخبرين جميعا 398 - فأما مَعْنَى " الشجنة " فَقَالَ أَبُو عبيد: فِيهِ لغتان شجنة وشجنة، وإنما سمي الرجل شجنة بهذا وقال أَبُو عبيدة: يَعْنِي قرابة مشتبكة كاشتباك العروق قال أَبُو عبيد: وكأن قولهم: الحديث ذو شجون مِنْهُ إنما يمسك بعضه ببعض وقال غيره من أهل العلم: يقال هَذَا شجر متشجن، إِذَا التف بعضه ببعض وَهُوَ من هَذَا 399 - قَالَ: وأخبرني يزيد بْن هارون، عَن الحجاج بْن أرطأة قَالَ: الشجنة كالغصن تكون من الشجر أو كلمه نحوها وأما قوله تَعَالَى: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} فحكى شيخنا أَبُو عبد اللَّه رحمه فِي كتابه عَن جماعة من أصحابنا الأخذ بظاهر الآية فِي إثبات الجنب صفة لَهُ سُبْحَانَهُ 400 - ونقلت من خط أَبِي حفص البرمكي: قَالَ ابن بطة قوله: " بذات اللَّه " أمر اللَّه كَمَا تقول: فِي جنب اللَّه، يَعْنِي فِي أمر اللَّه وهذا مِنْهُ يمنع أَنْ يَكُونَ الجنب صفة ذات، وَهُوَ الصحيح عندي، وأن المراد بذلك التقصير فِي طاعة اللَّه، والتفريط فِي عبادته، لأَنَّ التفريط لا يقع فِي جنب الصفة وإنما يقع فِي الطاعة والعبادة، وَهَذَا مستعمل فِي كلامهم: فلان فِي جنب فلان، يريدون بذلك فِي طاعته وخدمته والتقرب مِنْهُ

ويبين صحة هَذَا التأويل مَا فِي سياق الآية من قوله: {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} {لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} وَهَذَا كله راجع إِلَى الطاعات 401 - وقد اعتبر أحمد القرائن فِي مثل هَذَا، فَقَالَ فِي قوله تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} قَالَ: المراد به علمه، لأَنَّ اللَّه افتتح الخبر بالعلم وختمه بالعلم

حديث آخر 402 - ناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن علي، أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " من سره أن يمد اللَّه فِي عمره، ويوسع عَلَيْهِ فِي رزقه، ويدفع عَنْهُ ميتة السوء فليتق اللَّه وليصل رحمه "

إن سأل سائل عَن هَذَا الخبر فَقَالَ: كيف تجمع بينه وبين قوله تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} وَقَالَ فِي موضع آخر: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} فأخبر أن الأجل لا يتقدم وَلا يتأخر، فكيف يجوز مع هَذَا أن يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صلة الرحم تمد فِي العمر " وروي: " تزيد فِي العمر " 403 - قالوا: ويؤيد مَا فِي الكتاب مَا رَوَى من أن أم حبيبة قالت: اللهم متعني بأبي سفيان وبأخي معوية، فَقَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد سألت اللَّه فِي آجال مضروبة، وأرزاق مقسومة لا يؤخر منها شيئا " 404 - وَقَالَ ابن مسعود فِي حديثه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصادق المصدوق: " إن اللَّه يبعث ملك الأرحام، فيكتب أجل المولود فِي بطن أمه ورزقه وشقاوته وسعادته "

فيقال لَهُ: قد قَالَ بعض أهل العلم: إن مَعْنَى الزيادة فِي العمر نفي الآفات عنهم، والزيادة فِي أفهامهم وعقولهم وبصائرهم، وليس ذلك فِي زيادة فِي أرزاقهم وَلا فِي آجالهم، لأَنَّهُ قد أخبر سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يزيد من يشاء من فضله، ولم يخبر أَنَّهُ يزيد من يشاء فِي رزقه وَفِي أجله، بل أخبر بضد ذلك فَقَالَ: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَقَالَ: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} وقال بعضهم: إن اللَّه سُبْحَانَهُ يكتب أجل عبده مائة سنة عنده، ويجعل تركيبه وهيئاته وبنيته ثمانين، فإذا وصل رحمه زاد اللَّه فِي ذلك التركيب، وَفِي تلك البنية، ووصل ذلك النقص فعاش عشرين أخرى حتى يبلغ المائة، وَهُوَ الأجل الَّذِي لا يستأخر عنده وَلا يستقدم فِيهِ وقال بعضهم: مَعْنَى ذلك أَنْ يَكُونَ السابق فِي المعلوم أَنَّهُ إِذَا وصل رحمه كان عمره أكثر مِنْهُ إِذَا لَمْ يصل، فيكون كله مما سبق فِي العلم، عَلَى الحد الَّذِي يحدث ويوجد فِي المستأنف 405 - وقد رَوَى أَبُو الحفص العكبري بِإِسْنَادِهِ، عَن أَبِي الدرداء، قَالَ: تذاكرنا

عند رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزيادة فِي العمر، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أحد لا يزاد فِي عمره الَّذِي أجله اللَّه لَهُ، ولكن الزيادة فِي العمر: الرجل يموت ويدع ذرية صالحة فيدعون لَهُ من بعده، ويتبعونه بالعمل الصالح " فإن قِيلَ: فما مَعْنَى قوله تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ} قيل: مَعْنَى ذلك: أي من قل عمره أو كثر فهو يمضي إِلَى أجله الَّذِي كتب لَهُ، وقوله: {وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} كل يوم حتى ينتهي إِلَى أجله {إِلا فِي كِتَابٍ} ، يَعْنِي فِي اللوح المحفوظ مكتوب قبل أن يخلقه، قد بين قدره، لا أَنَّهُ يكون زائدا ثُمَّ ينقص، أو ناقصا ثُمَّ يزيد، لأَنَّ ذلك يؤدي إِلَى أن لا يكون اللَّه تَعَالَى عالما بالأشياء قبل كونها عَلَى حسب مَا يكون، وَلا يجوز ذلك فِي وصفه، فعلم أن المراد به تعريفنا أن التفاوت الواقع بين الأعمال فِي اختلاف مددها فِي الطول والقصر والزيادة والنقصان، كل ذلك فِي كتاب مبين عَلَى حكم واحد، صدر عَن علم سابق محيط

والمخالف فِي هَذَا الأصل " القدرية " لأنهم يقولون بقطع الأجل، ومعنى ذلك أَنْ يَكُونَ اللَّه تَعَالَى قد جعل لبعض الأحياء مدة حياته خمسين سنة، ثُمَّ يقتله القاتل فيجعل ذلك سنة، ويقطع عَلَيْهِ بلوغه المدة الَّتِي قدر اللَّه لَهُ ذلك وهذا قول يخالف مَا تقدم من الكتاب والسنة، ويؤدي إِلَى وصف اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بالقهر والغلبة، لأَنَّهُ إِذَا أراد أَنْ يَكُونَ أجل زيد خمسين سنة، وأراد غيره أَنْ يَكُونَ سنة، فلم يمكن من بلوغه الأجل الَّذِي أجله اللَّه لَهُ، وأراد أن يبلغه (1) عَلَيْهِ أجله، فقد قهره فِي مراده وغلبه فِي حكمه وذلك لا يليق بوصفه

_ (1) كذا في الأصل، ولعل العبارة: فمن يقتله يقطع عليه أجله. . . أو نحوها [من هامش المطبوع]

ولأن من قَالَ منهم بقطع الأجل يلزمه أن يقول بزيادة الأجل إِذَا وصل رحمه وتجنب الآفات، وَهَذَا لازم لمن فرق بين الأمرين ومن جمع بين الزيادة والنقصان فقد خالف ظاهر الكتاب والسنة فإن قِيلَ: فما مَعْنَى قوله تَعَالَى: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ سورة الرعد آية قيل: قد قِيلَ فِي وجوه: أحدهما: أن معناه أن اللَّه ينسخ من الأحكام مَا يشاء وذلك محوه، ويثبت فيها مَا يشاء وَهُوَ إثباته وتقديره، وقد يوصف تَعَالَى بالنسخ والإثبات، وَلا يدعوا ذلك إِلَى البداء وَلا إِلَى الزيادة فِي العمر وقيل فِيهِ: معناه يمحو مَا سبق من الذنوب بالتوبة المتعقبة لَهَا، ويثبت التوبة وحكمها وقيل فِيهِ: أَنَّهُ يمحو بياض النهار ويثبت سواد الليل، ويثبت بياض النهار ويمحو سواد الليل وقيل: معناه تعريفنا أن الإيجاد والإعدام والإثبات والنفي متعلق بمشيئته عَلَى حسب مَا سبق به علمه، وجرى به قلمه، لا يكون ذلك إِلَى غيره أو من غيره

فإن قِيلَ: فما مَعْنَى قوله تَعَالَى مخبرا عَن نوح عَلَيْهِ السلام أَنَّهُ قَالَ لقومه: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى سورة نوح آية - وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي آية أخرى: ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ سورة الأنعام آية قيل: أما قول نوح إنه يؤخرهم إِلَى أجل مسمى إن آمنوا وبلغوه يكون أجلا لهم، ولم يثبت اللَّه تَعَالَى لهم أجلا لَمْ يبلغوه، وَلا قَالَ إِلَى أجل مسمى، بل لَمْ يضف إليهم الأجل ونكره فبان أن المراد أجلا من الآجال، لو آمنوا وبلغوه كان لهم أجلا، يبين صحة هَذَا قوله فِي سياقها: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يريد بذلك مَا هُوَ لهم أجل فدل عَلَى مَا قلناه وأما قوله تَعَالَى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} فهو أجل الدنيا والآخرة، ولذلك قَالَ: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} أي: تشكون فِي البعث، وَهُوَ الأجل المسمى للثواب والعقاب، وأجل الدنيا هُوَ المسمى للفناء والتكليف فِيهِ

406 - ومما يجري هَذَا المجرى والسؤال عَنْهُ كالسؤال فيما ذكرنا مَا روي أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ السلام: " الدعاء يرد البلاء، والصدقة تدفع البلاء " 407 - وما رَوَى أَنَّهُ قَالَ: " إن الدعاء والقضاء يتعالجان "

408 - وما روي أَنَّهُ قَالَ: " الصدقة تدفع القضاء المبرم " ومعنى هَذِهِ الأخبار كلها عَلَى نحو مَا ذكرنا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ السابق فِي العلم مَا يحدث فِي المستأنف أَنَّهُ إِذَا دعا صرف عَنْهُ البلاء، وكذلك إِذَا تصدق لا أَنَّهُ يكون المعلوم فِي الأزل وصول البلاء القديم إِذَا حصل الدعاء تغير المعلوم، لأَنَّ ذلك يؤدي إِلَى أن لا يكون ذلك فِي الأزل معلوما وذلك محال وقيل فِيهِ أَيْضًا: أن المراد به أتى بهما - أعني الدعاء والصدقة دفع بذلك عَن الفاعل لهما وزر الترك، وعقوبة العصيان فِيهِ، ويكون مَعْنَى التخصيص لذلك بالذكر التحريض عَلَى فعله والحث عَلَيْه

ِ حديث آخر 409 - ناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن أَبِي هريرة قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كان ملك الموت عَلَيْهِ السلام يأتي الناس عيانا، فأتى مُوسَى فلطمه فذهب بعينه، فعرج إِلَى ربه فَقَالَ: بعثتني إِلَى مُوسَى فلطمني فذهب بعيني، ولولا كرامته عليك لشققت عَلَيْهِ، قَالَ: ارجع إِلَى عبدي فقل لَهُ فليضع يده عَلَى ثور فله بكل شعرة وارت كفه سنه يعيشها، قَالَ: فأتاه فبلغ مَا أمره به، فَقَالَ: مَا بعده ذلك؟ قَالَ: الموت، قَالَ: الآن فشمة شمة قبض روحه فيها، ورد اللَّه عَلَى ملك الموت بصره، فكان بعد لا يأتي الناس إِلا خفية " وَفِي لَفْظٍ آخَرَ قَالَ: " فسأل ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر " قَالَ: فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فلو كنت ثُمَّ لأريتكم قبره إِلَى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر "

اعلم أن هَذَا حديث صحيح، يحمل عَلَى ظاهره، وأن ذلك الفعل كان من مُوسَى عَلَى الحقيقة، وأنه إدخال نقص عَلَى جارحة الملك ليكون محنة للملطوم إباحة للاطم، بأَنْ يَكُونَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أباحه ذلك، لأَنَّ اللَّه تَعَالَى أن يأمر بما يشاء من ذلك، ويأذن فيما شاء مِنْهُ 410 - وقد قَالَ أحمد فِي رواية ابن منصور ومنها: الحديث صحيح 411 - وَقَالَ فِي رواية ابن القسم: نحن نقربه ونصدقه عَلَى مَا جاء فِي الأحاديث، وإنما يتكلم فِي هَذَا ويدفعه أهل الزيغ فقد نص أحمد عَلَى صحته والأخذ بظاهره، والوجه فِيهِ مَا ذكرناه وقد أنكر قوم من أهل الإلحاد هَذَا، وقالوا: إن جاز عَلَى ملك الموت العور جاز عَلَيْهِ العمى، وقالوا: لعل عِيسَى قد لطم عينه الأخرى فأعماه، لأَنَّهُ كان أشد كراهية للموت من مُوسَى، وذلك أَنَّهُ قَالَ: اللهم إن كنت صارفا هَذِهِ الكأس عَن أحد فاصرفها عني قيل: هَذَا غلط، لأَنَّهُ مَا كان يمتنع مثل ذلك فِي حق عِيسَى لو وجد وقد أثبته قوم من المسلمين وتأولوه عَلَى وجهين: أحدهما: أن اللَّه جعل للملائكة أن تتصور بما شاءت من الصور المختلفة، أَلا ترى أن جبريل عَلَيْهِ السلام أتى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صورة دحية الكلبي، ومرة فِي صورة أعرابي، ومرة أخرى وقد سد بجناحيه مَا بين الأفق، وَمِنْهُ قوله تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} قِيلَ: إن جبريل تصور بصورة رجل، وهذه الصورة الَّتِي يتنقل إِلَيْهَا تخيلات ليست حقيقة، فاللطمة أذهبت بالعين الَّتِي هِيَ تخيل وليست حقيقة

والثاني: أن مَعْنَى اللطمة: إلزام مُوسَى لملك الموت الحجة حين راده فِي قبض روحه، عَلَى حسب مَا رَوَى فِي الخبر، وَهَذَا مستعمل فِي كلام العرب 412 - وَمِنْهُ مَا يحكى عَن علي كرم اللَّه وجهه، أَنَّهُ قَالَ: أنا فقأت عين الفتنة يريد بذلك إلزام الحجة ومنه قولهم: عورت عين الأمر بضرب من التوسع قيل: هَذَا غلط، أما الأول: فلأن فِي الخبر: " أَنَّهُ عرج إِلَى ربه فرد عَلَيْهِ عينه " وَلا يكون هَذَا إِلا فِي عين هِيَ حقيقة، لأَنَّ التخيل لا يحتاج إِلَى رده وأما الثاني: فإن مَعْنَى اللطمة إلزام الحجة فلا يصح لوجهين: أحدهما: أَنَّهُ لو كان المراد به الحجة لَمْ يخص العين، لأَنَّ الحجة لا تختص العين وإنما تلزم الجملة والثاني: أَنَّهُ لو كان قد ألزمه الحجة، لَمْ يعد إِلَى قبض روحه، لأَنَّ الحجة قد لزمته فِي ترك قبض روحه، فلما عاد لقبض روحه، امتنع أن تكون اللطمة بمعنى إلزام الحجة

حديث آخر 413 - ناه أَبُو الْقَاسِم بِإِسْنَادِهِ، عَن أَبِي هريرة، وأبي سعيد قالا: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يقول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته فِي جهنم " وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " الكبرياء ردائي، والعزة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته فِي النار " اعلم أن قوله: " الكبرياء ردائي والعظمة أزاري " المراد به أن ذلك صفة من صفاتي، فأنا المختص به دون غيري، فمن نازعني فِي ذلك بأن تكبر وتعظم عَلَى الناس أدخلته النار، وَهَذَا كَمَا تقول: إن فلانا شعاره ودثاره الزهد والورع، أي صفته ونعته

إثبات صفة النفس لربنا جل شأنه

إثبات صفة النفس لربنا جل شأنه حديث آخر 414 - ناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن أنس بْن مالك، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابن آدم إن ذكرتني فِي نفسك ذكرتك فِي نفسي، وإن ذكرتني فِي ملإ ذكرتك فِي ملإ من الملائكة، أو قَالَ: فِي ملإهم خير منهم، وإن دنوت مني شبرا دنوت منك ذراعا، وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة " 415 - وناه أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ، عَن أَبِي هريرة قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يقول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: أنا عند ظن عبدي وأنا معه حيث يذكرني، فإن ذكرني فِي نفسه ذكرته فِي نفسي، وإن ذكرني فِي ملإ ذكرته فِي ملإ خير منهم، وإن اقترب إلي شبرا اقتربت إِلَيْهِ ذراعا، وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إِلَيْهِ باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة "

416 - وَناهُ أَبُو الْقَاسِمِ قَالَ: نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ الْمُعَدَّلُ قَالَ: نا أَحْمَدُ بْنُ سَلْمَانَ بْنِ الْحَسَنِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْثَمِ، نا إِسْحَاقُ الْحُنَيْنِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، وَاللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ ذِرَاعًا تَقَرَّبَ اللَّهُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَمَنْ جَاءَ يَمْشِي أَقْبَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ بِالْخَيْرِ يُهَرْوِلُ "

اعلم أن الكلام فِي هَذَا الخبر فِي فصول: أحدها: أن اللَّه تَعَالَى يوصف بأن لَهُ نفسا 417 - وقد أومأ إِلَيْهِ أحمد فيما خرجه فِي الرد عَلَى الجهمية، فَقَالَ: إِذَا أردت أن تعرف أن الجهمي كاذب عَلَى اللَّه حين زعم أَنَّهُ فِي كل مكان وَلا يكون فِي مكان دون مكان، فقل لَهُ: أليس كان اللَّه وَلا شيء فحين خلق الشيء خلقه فِي نفسه أو خارجا من نفسه؟ فإن قَالَ: خلقه فِي نفسه كفرا؟ وإن قَالَ: خلقه خارجا من نفسه ثُمَّ دخل فيهم كان أَيْضًا كفر، حين دخل فِي مكان وحيز بل وحش، وإن قَالَ: خلقهم خارجا من نفسه ولم يدخل فيهم رجع عَن قوله وَهُوَ قول أهل السنة وهذا من كلام أحمد يدل عَلَى إثبات النفس، لأَنَّهُ جعل ذلك حجة عليهم، ولو لَمْ يعتقد ذلك لَمْ يحتج به، وقد أخبر بذلك فِي آي من كتابه منها قوله تَعَالَى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقوله تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} وقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وقوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} ولأنه ليس فِي إثبات النفس مَا يحيل صفاته وَلا يخرجها عما تستحقه، لأنا لا نثبت نفسا منفوسة مجسمة مركبة ذات روح، وَلا نثبت نفسا بمعنى الدم عَلَى مَا تقوله العرب: لَهُ نفس سائلة وليست لَهُ نفس ويريدون بذلك الدم، لأَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ يتعالى عَن ذلك، بل نثبت نفسا هِيَ صفة زائدة عَلَى الذات، كَمَا أثبت لَهُ حياة ونفسا فقلنا حي بحياة، وباقي ببقاء،

وإن لَمْ يكن حياته وبقاءه عرضين كحياتنا وبقائنا، كذلك فِي النفس فإن قِيلَ: فأثبتوا لَهُ روحا لأَنَّهُ قد وصف نفسه بذلك، فَقَالَ تَعَالَى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} قيل: لا نثبت ذلك، لأَنَّ السمع لَمْ يرد بذلك عَلَى وجه الصفة للذات، وقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} المراد به أمره، لقيام الدليل عَلَى أن صفات ذاته لا تحل المحدثات، ويفارق هَذَا إثبات النفس، لأَنَّهُ ليس فِي إثباتها مَا يحيل صفاته وَلا يخرجها عما تستحقه لما ذكرنا فإن قِيلَ: ليس المراد بالنفس ها هنا إثبات صفة، وإنما المراد بذلك الذات، كَمَا تقول العرب: هَذَا نفس الأمر، ويريدون به إثبات الأمر لا أن لَهُ نفسا، وقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} معناه: عقوبته، وقيل: إياه، وقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} أي فِي غيبي {وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أي غيبك، وقيل فِي قوله: {وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} يرجع إِلَى نفس عِيسَى، وأضاف نفسه إِلَى اللَّه من طريق الملك والخلق، فيكون معناه: لا أعلم مَا فِي ملكك مما خلقته إِلا مَا أعلمتني، وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ} معناه: كتب عَلَيْهِ، وقوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} معناه: اصطنعتك لذاتي أو لرسالتي، وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذكرته فِي نفسي " معناه: أخفيت ثوابه كَمَا أخفى ذكري فِي نفسه، وَمِنْهُ قوله تَعَالَى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إخبارا عَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " أعددت لعبادي الصالحين مالا عين

رأت، وَلا أذن سمعت وَلا خطر عَلَى قلب بشر " قيل: هَذَا غلط، لأَنَّهُ إن جاز حمل النفس عَلَى الذات جاز حمل الحياة والبقاء عَلَى الذات فيقال: ذات حية ذات باقية، وقد أجمعنا ومثبتوا الصفات عَلَى أَنَّهُ حي بحياة وباقي ببقاء، كذلك جاز أَنْ يَكُونَ ذاتا بنفس، ولأن هَذَا يؤدي إِلَى جواز القول بأن اللَّه نفس، وأنه يجوز أن يدعا فيقال: يَا نفس اغفر لنا، وقد أجمعت الأمة عَلَى منع ذلك وأما تأويل قوله تَعَالَى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} معناه: لذاتي ورسالتي، فلا يصح لأَنَّهُ يسقط فائدة التخصيص بموسى، لأَنَّ غيره من الأنبياء اصطنعه لذاته ورسالته، فوجب أَنْ يَكُونَ لتخصيص النفس ها هنا فائدة وجواب آخر: وَهُوَ أن قوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} المراد به اللَّه الَّذِي لَهُ النفس، وكذلك قوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} المراد به اللَّه الَّذِي لَهُ النفس، وكذلك قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} المراد به اللَّه الَّذِي لَهُ النفس وجواب آخر: وَهُوَ أَنَّهُ لا يصح حمل قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} عَلَى عقوبته لأَنَّهُ قد قَالَ فِي سياقها: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} ولو كان عَلَى مَا

قالوه لكان تقديره: وإلى عقوبة اللَّه المصير، وَلا يصح أَيْضًا حمل قوله: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ سورة الأنعام آية بمعنى عَلَيْهِ، لأَنَّ ذلك لا ينفي إثبات النفس صفة لَهُ، فيحصل تقديره، كتب ربكم عَلَيْهِ ذي النفس لأَنَّ النفس صفة لَهُ، ومثل هَذَا قوله تَعَالَى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ سورة النساء آية والمراد به بعلمه وذاته، لأَنَّ علمه لا يختص بذلك، وَلا يصح أَيْضًا حمل قوله: وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ سورة المائدة آية عَلَى غيبك لأَنَّ ذلك يسقط فائدة التخصيص، لأَنَّهُ غير عالم بغيب غير اللَّه تَعَالَى، فعلم أن المراد به النفس الَّتِي هِيَ صفة، وكذلك لا يصح حمله لا أعلم مَا فِي ملكك، لأَنَّهُ غير عالم بما فِي ملك غير اللَّه من المخلوقين، فلا فائدة من تخصيصه بالله تَعَالَى، فعلم أن المراد به مَا ذكرنا وأما حملهم النفس عَلَى إخفاء الثواب فلا يصح، لأَنَّهُ لا فائدة فِي إخفاء الثواب، بل الفائدة فِي إظهاره لأَنَّهُ يحصل به الترغيب فِي الطاعات، والحث عليها، ولهذا عدد الجنة وأنهارها وثمارها، كل ذلك حثا عَلَى الترغيب فِي الطاعات، وقوله تَعَالَى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ سورة السجدة آية فإنه لَمْ يخف ذكر الثواب، أَلا ترى أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ سورة السجدة آية فأثبت أن هناك مَا تقر به العين، وإنما أخفى تفصيل الثواب، وهكذا الجواب عَن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا لا عين رأت وَلا أذن سمعت " معناه: لَمْ تر وتسمع بتفصيله، فأما جملته فقد أعلمنا به، وَلا يجوز إثبات روح 418 - وقد قَالَ أحمد فيما خرجه فِي الرد عَلَى الزنادقة فِي قوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} فَقَالَ: تفسير " روح اللَّه " إنما معناها أنها روح بكلمة اللَّه خلقها كَمَا يقال: عبد اللَّه،

وسماء اللَّه، وأرض اللَّه الفصل الثاني: ذكر العبد لله تَعَالَى فِي نفسه، معناه بحيث لا يعلمه أحد غيره، وَلا يطلع عَلَيْهِ سواه، قَالَ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أي: تعلم مَا أجنه وما أسره وأضمره، وَلا أعلم لي بما فِي نفسك مما أخفيته عني الفصل الثالث: قوله: " وإن ذكرني فِي ملإ ذكرته فِي ملإ خير مِنْهُ " فالمراد بالملإ: الملائكة، وقد صرح بذلك فِي لفظ آخر، وأنه تَعَالَى يشهدهم عَلَى مَا يفعل بهم من الكرامات، ويمدحهم ويثني عليهم عندهم وقد جعل قوم هَذَا حجة فِي تفضيل الملائكة عَلَى المؤمنين من بني آدم، ومن ذهب إِلَى تفصيل الأنبياء والأولياء من الآدميين عَلَى الملائكة يجيب عَن ذلك بأن مَعْنَى قوله " خير مِنْهُ " يرجع إِلَى الذكر، أي أَنَّهُ قَالَ بذكر خير من ذكره وأطيب مِنْهُ، لأَنَّ ذكر العبد لله دعاء وتضرع، وَذَكَرَ اللَّه إظهار رحمته وكرامته، وذلك خير للعبد وأنفع

419 - وأخرج إلي أَبُو محمد الحسن بْن محمد الخلال، عَن أَبِي هريرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " المؤمن أفضل من الملائكة الذين عند اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " الفصل الرابع قوله: " دنوت مِنْهُ ذراعا وباعا وأتيته هرولة " فليس المراد به دنو الذات وقربها فِي المسافة وإتيانها، وإنما المراد بذلك قرب المنزلة والحظ لديه، وكذلك قوله: " أتيته هرولة بالثواب " وأراد بذلك إسراع الثواب، ويحتمل أَنْ يَكُونَ المراد بالهرولة والسرعة والتضعيف فِي الثواب والزيادة فِيهِ، عَلَى مَعْنَى قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} 420 - وقد روي هَذَا فِي حديث أَبِي ذر، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يقول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: من عمل حسنة فله عشر أمثالها، ومن عمل سيئة فجزاؤه مثلها، ومن اقترب إلي شبرا اقتربت إِلَيْهِ ذراعا "

فدل هَذَا عَلَى أن المراد بذلك التضعيف، وَلا يكون المراد به السير، وإنما سماه ذلك توسعا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} والسعي هُوَ العدو والإسراع فِي المشي، وليس ذلك بمراد أنهم مشوا، بل المراد بذلك استعجالهم المعاصي، ومبادرتهم إِلَى فعلها، كذلك ها هنا، والذي يدل عَلَى صحة هَذَا التأويل مَا تقدم فِي حديث أَبِي هريرة: " ومن جاء يمشي أقبل اللَّه إِلَيْهِ بالخير يهرول " وقد ذكرنا إسناده وهذه لفظة زائدة قضينا بها عَلَى غيرها من الألفاظ المطلقة ويعضد ذلك تفسير السلف: 421 - وَهُوَ مَا نا أَبُو عبد اللَّه بْن البغدادي، عَن ابن مالك، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْن أحمد، عَن أحمد بِإِسْنَادِهِ، عَن أنس، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ ذكر الحديث قَالَ قتادة: " والله أسرع بالمغفرة " ويفارق هَذَا مَا تقدم من أخبار النزول إِلَى السماء الدنيا، ومجيئه فِي ظلل من الغمام، وأنها محمولة عَلَى ظاهرها فِي نزول الذات ومجيء الذات لا عَلَى وجه الانتقال، ولم يجز تأويله عَلَى نزول ثوابه وكراماته، لأَنَّهُ لَمْ يرد فِي ألفاظه مَا دل عَلَيْهِ، وها هنا قد جاء التفسير من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلهذا حملناه عَلَيْهِ

حديث آخر 422 - ناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يد اللَّه عَلَى الجماعة "

423 - ورواه أَبُو بكر النجاد فِي سننه، وأبو عبد اللَّه بْن بطة بِإِسْنَادِهِ، عَن أسامة بْن شريك، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ ووضع يده عَلَى فِيهِ: " يد اللَّه عَلَى الجماعة، فإذا شذ الشاذ تخطفه الشيطان كَمَا يتخطف الذئب الشاذ من الغنم "

اعلم أن الكلام فِي هَذَا فِي فصلين: أحدهما: فِي " اليد " والثاني فِي قوله: " عَلَى الجماعة " أما الأول: فإنه غير ممتنع حمل اليد ها هنا عَلَى أنها يد صفة للذات كقوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وكذلك قوله: " قلب العبد بين أصبعين من أصابع الرَّحْمَنِ " عَلَى أنها صفة للذات كذلك ها هنا فإن قِيلَ: إنما لَمْ تحمل اليد فِي خلق آدم عَلَى الذات، لأَنَّ فِي ذلك إبطال فضيلة آدم وتشريفه عَلَى إبليس، لأَنَّ إبليس أَيْضًا مخلوق بالذات قيل: قد أجبنا عَن هَذَا السؤال فِي حديث الساعد بما فِيهِ كفاية، وعلى أن الخبر قصد به تشريف الجماعة ومدحها، والحث عَلَى متابعتها وذم مفارقتها، فإذا حمل الخبر عَلَى الذات أبطلنا فضيلة الجماعة، لأَنَّ غير الجماعة هُوَ معها فإن قِيلَ: تحمل اليد ها هنا عَلَى الذات كقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} معناه: مما عملنا، وكقوله: {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ}

معناه: مما ملكتم أنتم، كقوله تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} معناه: المالك لعقدة النكاح، لأنا رأينا من يملكه مقطوع اليد قيل: هَذَا غلط، لأَنَّهُ إن جاز تأويل اليد ها هنا عَلَى الذات جاز تأويل قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} عَلَى الذات، ولأن هَذَا يؤدي إِلَى جواز القول بأن اللَّه يد لأَنَّهُ قد عبر عَن الذات باليد وأنه يجوز أن يدعا فيقال: يَا يد اغفر لنا، وقد أجمعت الأمة عَلَى خلافه وجواب آخر وهو أن يسقط فائدة التخصيص بالجماعة، لأَنَّ ذاته مع الواحد أَيْضًا، فعلم أن تخصيص الجماعة لَهُ فائدة وأما قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} فإنما انتقلنا عَن ظاهره لدليل وَهُوَ حصول الإجماع عَلَى أَنَّهُ لَمْ تخلق الأنعام بيده، وَمِنْهُ قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنها جزء من جزء "، وكذلك قوله: {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قد دل الدليل عَلَى أن المراد به ملكنا من العبيد، وكذلك قوله: {بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} قام الدليل عَلَى أن المراد به الملك، وليس ها هنا مَا دل عَلَى ذلك فحملناه عَلَى ظاهره الفصل الثاني: في قوله " عَلَى الجماعة " معناه هُوَ معهم بالنصرة لهم 424 - وقد قَالَ أحمد فِي قوله تَعَالَى لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} أدفع عنكما، وقوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} إِلَى قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فِي الدفع عنا، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} يقول فِي النصر لهم عَلَى عدوهم، وقوله: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا} إِلَى قوله: وَاللَّهُ مَعَكُمْ

سورة محمد آية في النصر لكم عَلَى عدوكم، والوجه مِنْهُ أن الخبر قصد به الترغيب فِي لزوم الجماعة 425 - وقد رَوَى أَبُو عبد اللَّه بْن بطة بِإِسْنَادِهِ، عَن أَبِي هريرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ترك الطاعة، وفارق الجماعة، ثُمَّ مات فقد مات ميته جاهلية " 426 - وَرَوَى النعمان بْن بشير، قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الجماعة رحمة والفرقة عذاب " 427 - وَرَوَى معاذ بْن جبل، أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إن الشيطان ذئب الإنسان

كذئب الغنم، يأخذ الشاذة والقاصية والناحية، وإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة " 428 - وَرَوَى سعد بْن أَبِي وقاص قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة " 429 - وقد رَوَى ابن فورك، عَن مكحول، عَن أَبِي هريرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " عليكم بالجماعة فإن يد اللَّه مع الفسطاط " وَقَالَ: مَعْنَى الفسطاط: المدينة، ولذلك قِيلَ لمصر فسطاط، فيكون معناه: إن اللَّه مع السواد العظم ومع أهل الأمصار، وأن من شذ منهم وفارقهم فِي الرأي، فليس عَلَى الحق

430 - ورأيت هَذَا الحديث فِي غريب الحديث لابن قتيبة فَقَالَ: يرويه سويد بْن عبد العزيز، عَن النعمان بْن المنذر، عَن مكحول، عَن أَبِي هريرة ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " عليكم بالجماعة فإن يد اللَّه عَلَى الفسطاط " وتكلم عَلَيْهِ نحو مَا تكلم به ابن فورك، وزاد عَلَيْهِ بما هُوَ فِي معناه

حديث آخر فِي هَذَا المعنى 431 - ناه أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ: قُرِئَ عَلَى أَبِي الْحُسَيْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ بَيَانٍ الزَّبِيبِيِّ، قُلْتُ: حَدَّثَكُمُ الْحَسَنُ بْنُ عَلُّوَيْهِ هُوَ الْعَطَّارُ قَالَ: نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو الأَعْرَجِ، قَالَ: نا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: نا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَدُ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَأْسِ الْمُؤَذِّنِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ أَذَانِهِ، وَإِنَّهُ لَيُغْفُر لَهُ مَدَّ صَوْتِهِ " 432 - وَفِي مَعْنَاهُ مَا حَدَّثَنَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ قَالَ: نا الْقَاضِي ابن عُمَرُ بْنُ سُنْبُكٍ قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ، نا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ الْحَدَثَانِيُّ، نا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا الْتَقَى صَفَّانِ قَطُّ إِلا كَانَ كَفُّ الرَّحْمَنِ جَلَّ اسْمُهُ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَهْزِمَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَمَالَ كَفَّهُ نَحْوَهُ وَانْكَفَأَ "

433 - وَفِي مَعْنَاهُ مَا نا أَبُو الْقَاسِمِ قَالَ: نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْمُقْرِئُ قَالَ: نا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنِ جُمْهُورٍ، نا عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، نا يَحْيَى بْنُ سَعيِدٍ الْقَطَّانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْءَمَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا لِلْخِلافَةِ مَسَحَ نَاصِيَتَهُ بِيَمِينِهِ " اعلم أن قوله: " يد اللَّه عَلَى رأس المؤذن " القول فِيهِ كالقول فِي " يد اللَّه عَلَى الجماعة " لأَنَّهُ فِي معناه، لأَنَّهُ قصد به المدح والثناء، وأما قوله: " مسح عَلَى ناصيته بيمينه " القول فِيهِ كالقول: " لما خلق آدم مسح ظهره فاستخرج الذرية بعضها بيمينه وبعضها بشماله " وأن ذلك عَلَى ظاهره

وأما قوله: " كف الرَّحْمَنِ بينهما " فيحتمل أَنْ يَكُونَ المراد به نصره معهما، لأَنَّ دلالة الحال تدل عَلَيْهِ، وَهُوَ القتال، كَمَا قَالَ أحمد فِي قوله تَعَالَى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} حمله عَلَى النصرة لدلالة الحال

حديث آخر 434 - رَوَاهُ ابن فورك، ثُمَّ رأيته بعد ذلك فِي غريب الحديث لابن قتيبة فَقَالَ: حدثنيه أَبُو الخطاب زياد بْن يَحْيَى بْن حسان قَالَ: نا أَبُو عتاب، عَن عِيسَى بْن عبد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ: حَدَّثَنِي عدي بْن ثابت، عَن البراء بْن عازب، أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إن فلانا هجاني وَهُوَ يعلم أني لست بشاعر، فاهجه اللهم والعنه عدد مَا هجاني " وتكلم عَلَى تأويله فَقَالَ: " قوله: " اللهم اهجه " أي جازه عَلَى الهجاء كَمَا قَالَ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ} وليس الثاني اعتداء وَلا سيئة فِي الحقيقة، وإنما سمي باسمه لما كان جزاء لَهُ وكذلك قوله: {يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} وقوله: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} ومنه قول الشاعر: أَلا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا

فسمى الجزاء عَلَى الجهل جهلا، كذلك قوله: " فاهجه اللهم " أي جازه عَلَى هجائه بعقوبة تحلها به واعلم أَنَّهُ غير ممتنع عَلَى أصلنا إطلاق الهجو عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، لأَنَّهُ الهجو هُوَ: الذم وقد ذم اللَّه تَعَالَى أَبَا لهب بقوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} وسمت العرب هَذِهِ السورة هجو أَبِي لهب، وكذلك الاستهزاء والسخرية لا يمتنع وصف اللَّه تَعَالَى بهما، لأَنَّ الاستهزاء والسخرية هُوَ الانتقاص والاستهانة، وقد ينتقص اللَّه أقواما ويهون بهم، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الميزان بيد الرَّحْمَنِ يرفع أقواما ويضع آخرين "

حديث آخر 435 - ناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن أَبِي سعيد الخدري قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن اللَّه جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى نعمه عَلَى عبده، ويبغض البؤس والتباؤس "

436 - وناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن عامر بْن سعد، عَن أبيه، أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إن اللَّه جميل يحب الجمال، وجواد يحب الجود، وكريم يحب الكرماء، طيب يحب الطيب، ونظيف يحب النظافة، فنظفوا بيوتكم، ونظفوا بيوتكم، ونظفوا ساحاتكم وَلا تشبهوا باليهود تجمع الأكناس فِي دورها "

اعلم أَنَّهُ غير ممتنع وصفه تَعَالَى بالجمال وأن - ذلك صفة راجعة إِلَى الذات، لأَنَّ الجمال فِي مَعْنَى الحسن، وقد تقدم فِي أول الكتاب قوله: " رأيت ربي فِي أحسن صورة "، وبينا أن ذلك صفة راجعة إِلَى الذات كذلك ها هنا، ولأنه ليس فِي حمله ظاهره مَا يحيل صفاته وَلا يخرجها عما تستحقه، لأَنَّ طريقه الكمال والمدح، ولأنه لو لَمْ يوصف بالجمال جاز أن يوصف بضده وَهُوَ القبح، ولما لَمْ يجز أن يوصف بضده جاز أن يوصف به، أَلا ترى أنا وصفناه بالعلم والقدرة والكلام لأَنَّ فِي نفيها إثبات أضدادها وذلك مستحيل عَلَيْهِ، كذلك ها هنا فإن قِيلَ: قوله: " جميل " بمعنى: مجمل من شاء من خلقه، لأَنَّ فعيل قد يجيء عَلَى مَعْنَى: مفعل، وَمِنْهُ قولنا: حكيم والمراد محكم لما فعله قِيلَ: هَذَا غلط، لأَنَّ الخبر ورد عَلَى سبب، وَهُوَ الحث لهم عَلَى التجمل فِي صفاتهم لا عَلَى مَعْنَى التجميل فِي غيرهم فكان مقتضى الخبر: إن اللَّه جميل فِي ذاته يجب أن تتجملوا فِي صفاتكم، فإذا حمل الخبر عَلَى فعل التجميل فِي الغير، عدل بالخبر عما قصد به

فإن قِيلَ: مَعْنَى الجمال ها هنا الإحسان والإفضال، فيكون معناه: هُوَ المظهر النعمة والفضل عَلَى من شاء من خلقه برحمته قيل: هَذَا غلط، لأَنَّهُ قد ذكر الجمال والإحسان والإفضال فَقَالَ: " جميل يحب الجمال، وجواد يحب الجود، وكريم يحب الكرماء " فإذا حملنا الجمال عَلَى ذلك حمل اللفظ عَلَى التكرار وعلى مَا لا يفيد وجواب آخر: وَهُوَ أن نعم اللَّه ظاهرة، فحمل الخبر عَلَى هَذَا يسقط فائدة التخصيص بالجمال

حديث آخر 437 - ناه أَبُو القسم بِإِسْنَادِهِ، عَن علي بْن أَبِي طالب، وأبي هريرة، وأنس قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن اللَّه رفيق يحب الرفق، ويعطي عَلَيْهِ مَا لا يعطي عَلَى العنف " اعلم أَنَّهُ غير ممتنع وصفه بالرفق لأَنَّهُ ليس فِي ذلك مَا يحيل عَلَى صفاته، وذلك أن الرفق هُوَ الإحسان والإنعام وَهُوَ موصوف بذلك لما فيها من المدح، ولأن ذلك إجماع الأمة، لأنهم يقولون: يَا رفيق ارفق بنا فِي أحكامك، ولأنه إن امتنع وصفه بالرفق جاز وصفه بضده

حديث آخر 438 - ناه أَبُو الْقَاسِم قَالَ: نا أحمد بْن عبد العزيز بْن جعفر إجازة قَالَ: نا أَبُو الطيب عبد اللَّه بْن محمد بْن فراح قَالَ: نا بشر بْن مُوسَى، ومحمد بْن مسلمة قالا: نا حرملة قَالَ: حدث سليمان بْن حميد، أَنَّهُ سمع محمد بْن كعب القرظي يحدث، عَن عمر بْن عبد العزيز قَالَ: إِذَا فرغ اللَّه من أهل الجنة وأهل النار، أقبل يمشي فِي ظلل من الغمام والملائكة، فيقف عَلَى أول أهل درجة فيسلم عليهم، فيردون عَلَيْهِ السلام وَهَذَا فِي القرآن: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فيقول: " سلوني، فيقولون: ماذا نسألك، فوعزتك وجلالك وارتفاعك فِي مكانك، لو أنك قسمت علينا رزق الثقلين الجن والإنس لأطعماهم وأسقيناهم، وَلا ينقص، ذلك مما عندنا، قَالَ: بلى سلوني: قالوا: نسألك رضاك، قَالَ: رضائي أحلكم دار كرامتي، فيفعل هَذَا بأهل كل درجة حتى ينتهي إِلَى مجلسه، ولو أن امرأة من الحور اطلعت بسوارها من العرش لأطفأ نور سوارها الشمس والقمر "

اعلم أن هَذَا الحديث وإن كان موقوفا فإن ظاهر القرآن يشهد لَهُ، وَهُوَ قوله تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وَرَوَى بعض هَذِهِ الألفاظ مرفوعا إِلَى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 439 - حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي الْفَتْحِ قَالَ: قُرِئَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ ابْنِ بِنْتِ مَنِيعٍ وَأَنَا أَسْمَعُ، حَدَّثَكُمْ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُخْتَارِ قَالَ: نا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَنَّ زَمْعَةَ بْنَ صَالِحٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ وَهْرَامٍ أَخْبَرُه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ مِنَ الْغَمَامِ طَاقَاتٍ يَأْتِي اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مَحْفُوفًا بِالْمَلائِكَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} " وإذا كان ظاهر القرآن والسنة يشهد لَهُ وجب إمراره عَلَى ظاهره، كَمَا وجب إمرار غيره من الصفات، إذ ليس فِي ذلك مَا يحيل صفاته، وذلك أنا لا نصف مشيه ووقوفه عَلَى أهل الدرجات وانتهاءه إِلَى مجلسه عَن انتقال وزوال، بل نطلق ذلك كَمَا أطلقنا استواءه عَلَى العرش لا عَن انتقال مع قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} و " ثُمَّ " فِي كلام العرب للمهلة والتراخي، وَكَمَا أثبتنا تجليه للجبل ولموسى لا عَن انتقال، كذلك ها هنا ويشهد لهذا الخبر عَلَى أصولنا نزوله إِلَى سماء الدنيا ووضعه القدم، ووطيه بوج،

وقد تقدم الكلام فِي ذلك فإن قِيلَ: محمد وقع إِلَيْهِ كتب من يهود قريظة فكان ينظر فيها فيروي عنها، وقيل: إن الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ زمعة وسلمة بْن وهرام وعكرمة وكلهم ضعفاء قيل: هَذَا غلط، لأَنَّ الحدي الَّذِي رويناه غير موقوف عَلَى محمد بْن كعب، وإنما رَوَاهُ عَن عمر بْن عبد العزيز وَهُوَ من أعيان التابعين وعلمائهم ولو كان موقوفا عَلَى محمد بْن كعب لَمْ يضر أَيْضًا لأَنَّ محمد بْن كعب من العلماء الثقات، رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وعن جابر وغيرهما من الصحابة، وَلا يجوز أن يظن به أَنَّهُ يروى فِي شرعنا مَا هُوَ باطل منسوخ، ويجب أن يحسن الظن فِيهِ ولأنا قد بينا فيما تقدم أن سائر الشرائع لا تختلف فيما يتعلق بصفات اللَّه تَعَالَى وأما قولهم: رَوَاهُ زمعة، وسلمة، وعكرمة وهم ضعفى، فلا يصح لأَنَّ الإسناد الَّذِي رويناه من طريق محمد بْن كعب ليس فِيهِ واحد من هؤلاء، وإنما ذلك فِي حديث ابن عباس، وقد ذكرنا طريق إسناد محمد بْن كعب مع أن هؤلاء ثقات عدول لا نعلم أحدا أطعن عليهم وَلا قدح فِي عدالتهم وَلا امتنع من الرواية عنهم فإن قِيلَ: نحمل قوله: " يمشي " يرجع إِلَى أفعاله، مثل قولنا: يعدل ويحسن ويخلق ويحرك ويشكر، وقوله: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ سورة البقرة آية معناه:

مقدرها ومدبرها، أو عَلَى فوق الغمام لا عَلَى أَنَّهُ فيها كقوله: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ سورة التوبة آية أي: فوقها، وقوله: وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ سورة طه آية أي: عَلَى جذوعها، ويحتمل أن يحمل وقوفه عَلَى أهل الدرجات يَعْنِي يكرم أهل الدرجات درجة بعد درجة، وقوله: " حتى ينتهي إِلَى مجلسه " معناه العود إِلَى أفعاله قبل أن يحدث لهم مَا أحدث، كَمَا يقال: جاء الخير يعدوا عدوا، والمراد به سرعة الإقبال عليك قيل: هَذَا غلط، أما حمل المشي عَلَى أفعاله فلا يصح لأَنَّ فِيهِ إسقاط فائدة التخصيص بذلك اليوم، لأَنَّ أفعاله وأوامره جائزة قبل ذلك اليوم، ولأنه أضاف ذلك إِلَى الغمام، وذلك غير مختص به، ولأنه إن جاز حمله عَلَى ذلك وجب أن يحمل قوله: " ترون ربكم " عَلَى رؤية أفعاله وكذلك تجليه للجبل عَلَى ظهور أفعاله، ولما لَمْ يجز ذلك هناك كذلك ها هنا وأما تأويل قوله: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ سورة البقرة آية عَلَى تدبيرها فلا يصح، لأَنَّهُ لَمْ يزل مدبرا لَهَا فِي دار الدنيا، فيجب أَنْ يَكُونَ لهذا التخصيص بذلك اليوم فائدة، وقولهم لذا نحمل " فِي " بمعنى " عَلَى "، فإنما يجب الامتناع من إطلاق ذلك إِذَا كان فِيهِ إثبات الظرف والمكان، ونحن لا نصفه بالظرفية والمكان، بل نصفه بذلك عَلَى نحو مَا وصفناه جميعا بالعلو عَلَى العرش، لا عَلَى مَعْنَى الجهة، وإن كنا نعلم أن العلو ضد السفل، وَكَمَا نجيز رؤيته فِي الآخرة فِي جهة، وَكَمَا نحن فِي علم اللَّه لا عَلَى مَعْنَى الظرف وأما تأويلهم " الانتهاء إِلَى مجلسه " عَلَى العود إِلَى أفعاله فلا يصح، لأَنَّ الأفعال لا تسمى مجلسا فِي لغة العرب، وعلى أَنَّهُ إنما يجب الامتناع من إطلاق المجلس إِذَا أريد به المكان والجهة، فأما إِذَا لَمْ يرد به ذلك لَمْ يمتنع إطلاقه، كالاستواء عَلَى العرش

حديث آخر ذكره ابن فورك ولم يقع لي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " دخلت عَلَى ربي فِي جنة عدن شابا جعدا فِي ثوبين أخضرين "

اعلم أَنَّهُ غير ممتنع حمل الخبر عَلَى ظاهره فِي جواز دخوله عَلَيْهِ الجنة، عَلَى وجه لا يوجب الجهة والحد، كَمَا جاز وصفه بالاستواء عَلَى العرش لا عَلَى مَعْنَى الجهة، وجواز رؤيته فِي الآخرة لا فِي جهة، ولأنه قد قَالَ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} فإذا جاز إطلاق الوقوف عَلَيْهِ كان إطلاق الدخول عَلَيْهِ أولى وأما الصفة الَّتِي ذكرها فقد تقدم فِي أول الكتاب ذكرها فِي حديث ابن عباس وأم الطفيل، وبينا أَنَّهُ غير ممتنع إطلاق ذلك عَلَيْهِ، لا عَلَى وجه التشبيه والأبعاض والأجزاء بل نطلق ذلك صفة، كَمَا أطلقنا صفة الوجه واليدين والعين ونحو ذلك، لا عَلَى وجه الأبعاض والأجزاء فإن قِيلَ: قوله: " دخلت عَلَى ربي " معناه: دخلت دار ربي وجنة ربي بتقريبه لي وإكرامه إياي، كَمَا يقال فِي الموسم: أتيناك ربنا شعثا غبرا من كل فج عميق لتغفر لنا، ويقال: أقبل اللَّه عَلَى فلان بالكرامة، وأقبل فلان عَلَى اللَّه بطاعته، وَكَمَا يقال:

دخل فلان عَلَى رأي فلان، ويقال: دخل علي فلان فِي منزلي، لا أَنَّهُ دخل عَلَى بدنه، وإنما المعنى دخل داره قيل: هَذَا غلط، لأَنَّهُ قصد بذلك الافتخار وقرب المنزلة، فإذا حملناه عَلَى دخول الجنة بطل ذلك المعنى، لأَنَّهُ يشركه فِيهِ غيره من الأنبياء والأولياء، وقول الناس أتيناك فقد فهم المقصود مِنْهُ، وَهُوَ أنهم أتوه راغبين فِي ثوابه فإن قِيلَ: قوله " شابا " يحتمل أَنْ يَكُونَ رأى فيها شابا من أوليائه عَلَى هَذِهِ الصفة، دون أَنْ يَكُونَ المذكور هُوَ اللَّه تَعَالَى، ويحتمل أن تكون الصفة راجعة إِلَى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكأنه قَالَ: وأنا شاب جعد قيل: هَذَا غلط، أما حمله عَلَى أَنَّهُ رأى فيها شابا فلا يصح، لأَنَّ هَذَا صفة وحال، والصفة والحال يرجع إِلَى مَا تقدم ذكره وَهُوَ اللَّه تَعَالَى، فأما بعض أوليائه فلم يتقدم ذكره، فلا يجوز حمله عَلَيْهِ وقولهم: إن الصفة راجعة إِلَى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يصح أَيْضًا، لأَنَّهُ لَمْ تكن هَذِهِ صفته فِي تلك الليلة، ولو تغيرت صفته فيها لنقل كَمَا نقل وضع اليد بين كتفيه، وقوله: " فيم يختصم الملأ الأعلى " وقد تكلمنا عَلَى هَذَا السؤال فِي أول الكتاب فِي قوله: " رأيت ربي " فإن قِيلَ: هَذَا الخبر كان رؤيا منام، والشيء يرى فِي المنام عَلَى خلاف مَا يكون قيل: هَذَا غلط، لأَنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما قصد بذلك بيان كرامته من ربه وقرب منزلته، فإذا حمل عَلَى خلاف مَا أخبر زال المقصود، ولأن مَا يخبر به شرع، وصفات اللَّه تَعَالَى اعتقادها شرع، فهو معصوم فِيهِ، وإذا كان معصوما استوى فِيهِ المنام وغيره، ولأنا قد بينا أن رؤيا الأنبياء وحي لأَنَّ أعينهم تنام وقلوبهم لا تنام

في المقام المحمود لنبينا صلى الله عليه وسلم

فِي المقام المحمود لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديث آخر 440 - ناه أَبُو الْقَاسِمِ قَالَ: نا أَبُو الْفَتْحِ بْنُ أَبِي الْقَوَارِيرِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَبُو الطَّيِّبِ الْكَاتِبُ، نا يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَادَا قَالَ: نا أَبُو عُثْمَانَ سَعيِدٌ أَخُو إِبْرَاهِيمَ الْقَارِئِ قَالَ: نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ: يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ 441 - وَناهُ أَبُو الْقَاسِمِ قَالَ: عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ التَّمَّارُ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي مَعْمَرٍ، نا يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَرْبِ بْنِ الْحَكَمِ الأَشْعَرِيُّ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ فَقَالَ: " وَعَدَنِي رَبِّيَ الْقُعُودَ عَلَى الْعَرْشِ " 442 - ونا أَبُو الْقَاسِمِ، عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ، نا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ، نا يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَرْبٍ،

نا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو سَلَمَةَ الْمِنْقَرِيُّ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ فَقَالَ لِي: " الْقُعُودُ عَلَى الْعَرْشِ " 443 - ونا أَبُو الْقَاسِمِ، نا عَلِيٌّ، نا عُمَرُ، نا يُوسُفُ، نا أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ السَّمَّانُ، قَالَ: ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا أَوْعَدَهُ رَبُّهُ جَلَّ اسْمُهُ فَقَالَ: " أَوْعَدَنِي الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ وَهُوَ الْقُعُودُ عَلَى الْعَرْشِ " 444 - ونا أَبُو الْقَاسِمِ قَالَ: نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَبُو دَاوُدَ، نا ابْنُ أَبِي صَفْوَانَ الثَّقَفِيُّ، وَحَجَّاجُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ قَالا: نا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، نا سَلْمُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ، نا سَيْفٌ السَّدُوسِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ قَالَ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جِيءَ بِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُقْعِدَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُرْسِيِّهِ " قَالَ: فَقُلْتُ: يَا أَبَا مَسْعُودٍ إِذَا كَانَ عَلَى كُرْسِيِّهِ أَلَيْسَ هُوَ مَعَهُ؟ قَالَ: وَيْلَكُمْ هَذَا أَقَرُّ حَدِيثٍ فِي الدُّنْيَا لِعَيْنِي " قَالَ حَجَّاجٌ فِي حَدِيثِهِ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَزَلَ الْجَبَّارُ جَلَّ اسْمُهُ عَلَى عَرْشِهِ، وَقَدَمَاهُ عَلَى الْكُرْسِيِّ، وَيُؤْتِي بِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقْعُدُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الْكُرْسِيِّ " فَقَالُوا لِلْحَسَنِ: إِذَا كَانَ عَلَى الْكُرْسِيِّ هُوَ مَعَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَيْلَكُمْ هُوَ مَعَهُ هُوَ مَعَهُ

اعْلَمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ حَمْلُ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّهُ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى عَرْشِهِ وَسَرِيرِهِ بِمَعْنَى يُدْنِيهِ مِنْ ذَاتِهِ وَيُقَرِّبُهُ مِنْهَا 445 - وقد قَالَ أَبُو بكر الخلال: ذكر عبد اللَّه بْن أحمد، أَنَّهُ سمع حديث فضيل، عَن ليث، عَن مجاهد: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} فذاكرت أَبِي فَقَالَ: مَا وقع إلي بعلو، وجعل كأنه يتلهف يَعْنِي إذ لَمْ يقع إِلَيْهِ بعلو 446 - وَذَكَرَ أَبُو بكر المروذي فِي مختصر كتاب الرد عَلَى من رد حديث مجاهد، سألت أَبَا عبد اللَّه عَن الأحاديث الَّتِي تردها الجهمية فِي الصفات والرؤية والإسراء وقصة العرش، فصححها أَبُو عبد اللَّه وَقَالَ: قد تلقتها الأمة بالقبول تمر الأخبار كَمَا جاءت

447 - ونظر أَبُو عبد اللَّه فِي كتاب الترمذي، وقد طعن عَلَى حديث مجاهد فِي قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} فَقَالَ: لَمْ هَذَا عَن مجاهد وحده هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وقد خرجت أحاديثا فِي هَذَا، وكتبها بخطه وقرأها 448 - وَقَالَ ابن عمير: سمعت أحمد بْن حنبل سئل عَن حديث مجاهد يقعد محمدا عَلَى العرش فَقَالَ: قد تلقته العلماء بالقبول، نسلم الخبر كَمَا جاء وظاهر هَذَا أَنَّهُ أخذ بظاهر الحديث، إذ ليس فِي حمله عَلَى ظاهره مَا يحيل صفاته لأنا لا نقول أَنَّهُ فِي جهة محدودة، بل نطلق هَذِهِ الصفة كَمَا جاز وصفه بأنه عَلَى العرش، لا فِي جهة محدودة، كذلك جاز أن يقرب من ذاته لا فِي جهة محدودة، ويشهد لَهُ قوله تَعَالَى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} 449 - رَوَى أَبُو عبد اللَّه بْن بطة بِإِسْنَادِهِ، عَن عكرمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله: {قَابَ قَوْسَيْنِ} قَالَ: كان بينه وبينه مقدار قوسين ويشهد لذلك أَيْضًا مَا تقدم من حديث الإسراء : " أَنَّهُ وضع يده بين كتفيه " 450 - وَرَوَى أَبُو بكر النجاد فِي السنة بِإِسْنَادِهِ، عَن أنس قَالَ: لما أسرى برسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرج بي جبريل حتى إِذَا جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى فكان مِنْهُ قاب قوسين أو أدنى

451 - ونا أَبُو الْقَاسِمِ قَالَ: نا أَحْمَدُ قَالَ: نا حَمْزَةُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: نا أَبُو يَعْلَى مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ التَّوَّزِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي حَبَّةَ الْبَدْرِيِّ قَالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ فَلَمَّا ظَهَرَ لِيَ الْمُسْتَوَى أَقَامَنِي فِي مَوْضِعٍ أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلامِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ جَلَّ اسْمُهُ "

وكل ذلك يدل عَلَى القرب من الذات 452 - ونظرت فِي جزء عتيق من كتب أَبِي الفضل التميمي ترجمته مختصر الرد عَلَى من رد حديث مجاهد وغيره فِي المقام المحمود جمع أَبِي بكر المروذي فروى بِإِسْنَادِهِ عَن ابن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو كنت متخذا خليلا، لاتخذت ابن أَبِي قحافة خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل " ثُمَّ قرأ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ: يجلسه عَلَى العرش

453 - وبإسناده عَن مجاهد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله عَزَّ وَجَلَّ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ: يقعده عَلَى العرش 454 - وبإسناده عَن مجاهد فِي قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ: يجلسه عَلَى العرش، وهذه فضيلة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو كافر من ردها

455 - ولقد قَالَ سعيد بْن عبد الرَّحْمَنِ بْن أبزى: قلت لأبي: لو رأيت رجلا سب أَبَا بكر مَا كنت صانعا به؟ قَالَ: أقتله، قلت: فعمر؟ قَالَ: أقتله فهذا لأبي بكر وعمر فكيف بمن رد فضيلة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 456 - وبإسناده عَن غالب بْن عبيد اللَّه العقيلي قَالَ: حَدَّثَنِي المكيون: أن اللَّه تبارك وتعالى يغضب يوم القيامة غضبا لَمْ يغضب مثله، قَالَ: فيقوم نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيثني عَلَى اللَّه بما هُوَ أهله قَالَ: فيقول اللَّه لَهُ: إدنه، قَالَ: ثُمَّ يغضب تبارك وتعالى غضبا لَمْ يغضب مثله فيقوم نبينا فيثني عَلَى اللَّه بما هُوَ أهله، فيقول اللَّه لَهُ: إدنه، فلا يزال يقول لَهُ إدنه حتى يجلسه معه عَلَى العرش قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فأنظر إِلَى جبريل قائما فأقول: يَا رب إن هَذَا - يَعْنِي جبريل - جاءني منك برسالات فيقول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: صدق "

457 - وَذَكَرَ أَبُو عبد اللَّه بْن بطة فِي كتاب الإبانة، قَالَ أَبُو بكر أحمد بْن سلمان النجاد: لو أن حالفا حلف بالطلاق ثلاثا أن اللَّه تَعَالَى: يقعد محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معه عَلَى العرش واستفتاني فِي يمينه لقلت لَهُ: صدقت فِي قولك وبررت فِي يمينك، وامرأتك عَلَى حالها، فهذا مذهبنا وديننا واعتقادنا، وعليه نشأنا، ونحن عَلَيْهِ إِلَى أن نموت إن شاء اللَّه فلزمنا الإنكار عَلَى من رد هَذِهِ الفضيلة الَّتِي قالتها العلماء وتلقوها بالقبول، فمن ردها فهو من الفرق الهالكة 458 - وَذَكَرَ أَبُو بكر الخلال فِي كتاب السنة قَالَ: أخبرني الحسن بْن صالح العطار، عَن محمد بْن علي السراج قَالَ: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر عَن يمينه، وعمر عَن يساره، فتقدمت إِلَى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقمت عَن يسار عمر، فقلت: يَا رَسُول اللَّهِ إني أريد أن أقول شيئا فأقبل علي فَقَالَ: قل، فقلت إن الترمذي يقول: إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لا يقعدك معه عَلَى العرش، ونحن نقول يقعدك معه عَلَى العرش، فكيف تقول يَا رَسُول اللَّهِ؟ فأقبل علي شبه المغضب وَهُوَ يشير بيده اليمنى عاقدا بها أربعين وَهُوَ يقول: بلى والله بلى والله بلى والله، يقعدني معه، ثُمَّ انتبهت

459 - قَالَ: وسمعت أَبَا بكر بْن صدقة يقول: حَدَّثَنِي أَبُو القسم بْن الجبلي، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْن إسماعيل صاحب النرسي قَالَ: ثُمَّ لقيت عبد اللَّه بْن إسماعيل فحدثني قَالَ: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النوم فَقَالَ لي: هَذَا الترمذي ينكر فضليتي 460 - فإن قِيلَ: فقد رَوَى أَنَّهُ لما نزل قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قالوا: يَا رَسُول اللَّهِ وما المقام المحمود؟ قَالَ: " هُوَ الشفاعة "

قيل: الرواية المشهور فِي تفسير هَذَا أَنَّهُ الجلوس عَلَى العرش، رَوَاهُ ابن عمر وابن عباس وابن مسعود وعائشة، وقد تقدم أسانيد هَذِهِ الأحاديث، والمشهور فِي الرواية أولى مما شذ منها، وعلى أَنَّهُ لا يمتنع أَنْ يَكُونَ المقام المحمود: الشفاعة والقعود عَلَى العرش، لأَنَّ القصد من ذلك علو المنزلة

فإن قِيلَ: فتفسيره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى من قول مجاهد قيل: لَمْ نعول فِي هَذَا عَلَى قول مجاهد وحده، وقد روينا ذلك مفسرا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حديث ابن عمر وعائشة وابن مسعود وابن عباس وقول مجاهد فِي ذلك رجحان فإن قِيلَ: قد قَالَ اللَّه: {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا} فأخبر أن العرش لا يصل إِلَيْهِ أحد بالبدن، وإنما يصل إِلَيْهِ بالأعمال قيل: ذكر ابن سلام عَن قتادة معناه: إِذَا يعرفوا لَهُ فضله عليهم ولابتغوا إِلَيْهِ مَا يقربهم إِلَيْهِ وَقَالَ غيره معناه: لطلبوا إِلَيْهِ الوسيلة والقربة، وَهَذَا يدل عَلَى أن المقصود بالآية غير مَا أرادوه من أَنَّهُ لا يصل إِلَيْهِ أحد، وإنما المراد به المعنى آخر وَهُوَ التقرب إِلَيْهِ بالطاعات فإن قِيلَ: فقوله: " يقعده عَلَى العرش " من أين لكم أَنَّهُ عرش الرَّحْمَنِ؟ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى عرش بلقيس

قيل: هَذَا لا يصح، لأَنَّ فِي خبر ابن عمر: " يجلسه معه عَلَى السرير " وَفِي حديث ابن مسعود: " يقعده عَلَى كرسيه " فقيل لَهُ: إِذَا كان عَلَى كرسيه أليس هُوَ معه؟ فقال: " ويلكم هَذَا أقر حديث لعيني " وعلى أَنَّهُ ذكر العرش بالألف واللام، وهناك عرش معهود، وَهُوَ عرش الرَّحْمَنِ بقوله تَعَالَى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} والألف واللام ينصرفان إِلَى المعهود فلم يصح هَذَا التأويل فإن قِيلَ: قوله: " يقعده " معناه يرفعه أرفع المقاعد عنده، وَهُوَ معه بالنصرة والمعونة والمقاعد المقربة من اللَّه تَعَالَى كَمَا قَالَ: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وَكَمَا قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} عَلَى مَعْنَى: النصرة والمعونة قيل: هَذَا غلط لوجوه: أحدها: أن الخبر أفاد رفعه عَلَى صفة وَهُوَ القعود عَلَى العرش والكرسي والثاني : أَنَّهُ قَالَ: " يقعده معه " ولفظة " مع " فِي اللغة للمقاربة الثالث: أَنَّهُ لَمْ يزل ناصرا لَهُ ومعينا ورافعا، فوجب حمل هَذِهِ الفضيلة عَلَى فائدة مجددة تختص بذلك اليوم الرابع: أن هَذَا يسقط فائدة التخصيص بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنَّهُ قد نصر مُوسَى ورفعه وغيره من الأنبياء، فأما قوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} فإن المراد بذلك النصرة، لأَنَّ هناك دلالة حال، وَهُوَ طلب المشركين وخوفهم منهم فبين أنني ناصر لكم عليهم وَهَذَا معدوم ها هنا فإن قِيلَ: أليس قد حكى أَبُو محمد بْن بشار، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْن أحمد، عَن أبيه أَنَّهُ كان يعرض عَلَيْهِ الحديث فيقول فِيهِ: هَذَا رَوَاهُ كذا وكذا رجل يسميهم، فإذا عرض عَلَيْهِ حديث ضعيف قَالَ لَهُ: اضرب عَلَيْهِ، فعرض عَلَيْهِ حديث مجاهد

فضعفه فَقَالَ: يَا أبه أضرب عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لا، هَذَا حديث فِيهِ فضيلة فأجره عَلَى مَا جرى وَلا تضرب عَلَيْهِ، وظاهر هَذَا أَنَّهُ ضعفه قيل: هَذِهِ حكاية لا يرد بها مَا نص عَلَيْهِ فِي مواضع 461 - فإن قِيلَ: فقد ذكر أَبُو بكر النجاد فيما كتب به إلي أَبُو الحسن بْن جداء العكبري فِي جزء خرج فِيهِ أحاديث: ومن الفرق الهالكة من أنكر أن اللَّه وعد - يَعْنِي نبيه - أن يقعده المقعد المقرب عنده عَلَى العرش، وَهُوَ المقام المحمود، وَذَكَرَ حديث ابن عباس: " يقعده عَلَى العرش " وحديث عبد اللَّه بْن سلام وحديث مجاهد، ثُمَّ قَالَ أَبُو بكر: سألت أَبَا محمد بْن صاعد، عَن عبيد اللَّه بْن عبد اللَّه بْن عمر، عَن نافع، عَن ابن عمر، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ: " يقعدني عَلَى العرش " قَالَ: هَذَا حديث موضوع لا أصل لَهُ، وأما حديث يزيد بْن هارون عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ: " يقعدني معه عَلَى العرش " فحديث موضوع لا أصل لَهُ، وأما حديث عاصم، عَن زر، عَن ابن مسعود قَالَ: " إن اللَّه تَعَالَى اتخذ إبراهيم خليلا، وإن صاحبكم خليل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وإن محمد سيد ولد آدم يوم القيامة، ثُمَّ قرأ {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} فمن زاد غير هَذَا فقد أبطل 462 - وَقَالَ أَبُو بكر النجاد: سألت أَبَا بكر الباغندي فَقَالَ: كل هَذِهِ الأحاديث باطلة ليست بمحفوظة، غير حديث مجاهد، وسألت أَبَا إسحاق بْن جابر، وأبا العباس بْن سريج، وأبا علي بْن خيران، وأبا جعفر بْن الوكيل، وأبا الطيب بْن سلمة وكل كتب بيده: إن هَذِهِ الأحاديث لا أصل لَهَا إِلا مَا رَوَاهُ ابن فضيل، عَن ليث عَن مجاهد 463 - قَالَ أَبُو بكر النجاد: وسمعت ابن صاعد يقول: كتب السلطان يسألني عَن من رَوَى هَذِهِ الأحاديث حتى يضربهم بالسياط 464 - قَالَ أَبُو بكر النجاد: وكتب إلي أَبِي محمد بْن عبدان، وإلى أَبِي يعلى، وإلى

أَبِي زكريا بْن يَحْيَى الساجي، وإلى أحمد بْن محمد بْن مكرم، وإلى سهل بْن نوح البصري، وإلى أَبِي أحمد بْن محمد المروزي، وإلى أَبِي العباس بْن السراج، وإلى محمد بْن إسحاق بْن خزيمة، وكتبهم عَلَى ألفاظ وجميعها واحد، أن من حدث بهذه الأحاديث يستغفر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، فهي باطلة لا أصل لَهَا، إِلا مَا حدث محمد بْن فضيل، عَن ليث، عَن مجاهد، إِلا أن محمد بْن إسحاق بْن خزيمة قَالَ: من رَوَى عَن ابن مسعود، وعن عبد اللَّه بْن عمر فقد رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكذب والأباطيل، ومن تعمد رواية الكذب عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان داخلا فِي وعيد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كذب علينا متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " وَلا يسع الإمام العادل أن يدع من يروي مثل هَذَا الكذب عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صراحا أن يقيم ببلد الإسلام 465 - قَالَ أَبُو بكر النجاد: وكل من كتب إلي من المحدثين عَلَى هَذَا الشرح قَالَ: والذي أقول فيمن رَوَى هَذِهِ الأحاديث: إن كان لا يعلم مصدرها، كان عَلَيْهِ أن يسأل أهل العلم فإذا عرفوه ووقفوه عَلَى مَا ينبغي أن يقول فيها لزمه إنكارها، فمن حدث بها بعد إنكار العلماء دخل فِي قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " قيل: من طعن عَلَى هَذِهِ الأحاديث وأنكرها لا يلزم قبول قوله حتى يبين وجه الطعن، وقد روينا طرقها وأسانيدها، وقد قَالَ أحمد: لَمْ يرو هَذَا عَن مجاهد وحده عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وخرج فِي ذلك أحاديث وقرأها عَلَى أصحابه وَهُوَ أعرف بصحة الحديث ممن تقدم ذكره ممن أنكرها، ولأنا قد بينا أن معناها القرب من اللَّه تَعَالَى، والقرآن والسنة يشهدان لذلك بقوله تَعَالَى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} وحديث الإسراء وأنه " وضع يده بين كفيه " وقوله: " عرج بي فلما ظهر لي المستوى أقامني فِي موضع أسمع فِيهِ صريف الأقلام بي يدي الرَّحْمَنِ " فليس فِي روايتها مَا يخالف الأصول

وقد أنشد أَبُو الحسن الدارقطني شعرا يدل عَلَى صحة هَذِهِ الأحاديث عنده وَهُوَ حافظ وقته، فَقَالَ: حديث الشفاعة فِي أحمد ... إِلَى أحمد المصطفى نسنده أما حديث بإقعاده ... عَلَى العرش أَيْضًا فلا نجحده أمروا الحديث عَلَى وجهه ... وَلا تدخلوا فِيهِ مَا يفسده وَلا تنكروا أَنَّهُ قاعد ... وَلا تجحدوا أَنَّهُ يقعده وقد أنشد أَبُو طالب بْن العشاري هَذِهِ الأبيات عَن الدارقطني 466 - وكتب إلي أَبُو الحسن علي بْن عبد الواحد رحمه اللَّه قَالَ: شيخنا أَبُو علي ابن أَبِي شهاب قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حفص عمر بْن إبراهيم قَالَ: أنشدنا أَبُو القسم حبيب القزاز قَالَ: أنشدنا ابن العلاف الضرير لنفسه فِي وقت رد الترمذي الجلوس وقعود النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معه عَلَى العرش:

حديث الشفاعة فِي أحمد ... إِلَى أحمد المصطفى نسنده فأما حديث بإقعاده ... عَلَى العرش يروى فلا نجحده يقربه اللَّه إن شاء مِنْهُ ... فتبا وبعدا لمن يبعده وقد قصد الناس فِي ذا الحديث ... إِلَى كل مَا نحن لا نقصده فقوم عَلَى العرش قد أقسموا ... بأن النبي غدا يصعده وقوم يقولون لو كان ذا ... لكان شريك الَّذِي نعبده ولكن نشير بما عندنا ... وقد يسعد اللَّه من يرشده أمروا الحديث عَلَى مَا أتى ... وَلا تدخلوا فِيهِ مَا يفسده فلا تحلفوا أَنَّهُ قاعد ... وَلا تنكروا أَنَّهُ يقعده 467 - ورأيت فِي كتاب عتيق ترجمته كتاب السنة تأليف أَبِي إسحاق إبراهيم بْن إسحاق الشيرجي، مما رَوَاهُ عَن المروذي أخرجه إلي الدسكري، وَذَكَرَ فِيهِ باب

فضيلة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَبُو بكر أحمد بْن محمد بْن الحجاج قَالَ: سألت أَبَا عبد اللَّه عَن حديث ابن الفضيل، عَن أبيه، عَن مجاهد، قَالَ: كتبته عَن رجل عَن الفضيل 468 - قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْخَضِرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ قَالَ: نا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ قَالَ: نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: قَالَ: أنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ: " نَعَمْ، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ حَبِيبُ اللَّهِ؟ فَأَتَخَطَّى صُفُوفَ الْمَلائِكَةِ حَتَّى أَصِيرَ إِلَى جَانِبِ الْعَرْشِ، ثُمَّ يَمُدُّ يَدَهُ فَيَأْخُذُ بِيَدِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى الْعَرْشِ " 469 - قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ الشَّيْبَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ الطَّائِيُّ قَالا: نا عَبَّادُ بْنُ أَبِي رَوْقٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ: " يُقْعِدُهُ عَلَى الْعَرْشِ "

انتهى الفصل الثاني بتجزئة المحقق ويليه الجزء الثالث إن شاء اللَّه تَعَالَى

§1/1