أوضح التفاسير

محمد عبد اللطيف الخطيب

مقدمة

(ك) مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله واهب ما يشاء لمن يشاء، بيده وحده المنع وبيده العطاء؛ وبيده مفاتيح الخير ومغاليق الشر: يفتح الخير لمن يطلبه ويسعى إليه، ويغلق الشر عمن ينبذه ويبتعد عنه {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم}. والصلاة والسلام على رسوله الكريم، ونبيه العظيم: المؤيد بالآيات البينات، والمعجزات الظاهرات؛ جاءنا بأفضل كتاب على الإطلاق، وهدانا إلى مكارم الأخلاق؛ وحثنا على اتباع المعروف والأمر به، واجتناب المنكر والنهي عنه {كنتم خير أمة أخرجت للناس: تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله}. صلى الله تعالى وسلم عليه: صلاة وسلاماً دائمين بدوام ملك الله! نكون بهما أهلاً لمحبته ورضاه؛ وموطناً لشفاعته يوم نلقاه! وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن أحبهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين! أما بعد: فهذا كتابي [أوضح التفاسير] في طبعته السادسة؛ وقد تناولته الأمة -منذ طبعته الأولى- بالرضا والقبول؛ فضلاً من الله ونعمة! وهذا وقد نفدت طبعاته السابقة فور صدورها؛ وعاقني عن موالاة إصداره عوائق، وحالت دون إبرازه حوائل. فلما آذن فجره الطلوع، وأذن المولى الكريم بصدوره: جعل الصعب سهلاً، والعسر يسراً؛ وأبدل سبحانه من ضعفى قوة، ومن شيخوختي فتوة؛ فإذا بي أستحف المتاعب؛ وكنت أنوء بحملها. وأستهين بالعقبات؛ وكنت أئن من ثقلها!

(ل) ولكنه الله: {الغفور الودود. ذو العرش المجيد. فعال لما يريد}! فاستعنت الله تعالى، وشمرت عن ساعد الجد، وأخذت في تبييض أصوله؛ متوخياً الإفاضة فيما أوجزته، والإطناب فيما لخصته؛ وقد زدت فيه زيادات كثيرة مما فتح به الكريم الوهاب، ورفعت النقاب عن درر الكتاب؛ ليكون مسرح ذوي الألباب، ومطمح مبتغي الثواب؛ وليكون علمه واسعاً نافعاً، وفيضه عظيماً عميماً! وقد عملت جاهداً على أن أبسط للقارئ ما تحتاجه الكلمات والعبارات من معان كثيرة غزيرة: لأغنيه عن الموسوعات التي يضرب الباحث في صحرائها، ويتيه في بيدائها، ويحتمل حرها اللافح، وشمسها المحرقة؛ فإذا ما لاحت له واحة المعاني وارفة الظلال: لم يبق له الجهد ما يتنفس به من هوائها العليل، وما يستسيغه من مائها السلسبيل. وليس هذا قدحاً فيها، أو ذماً لها؛ فهي ملجأ الباحثين، وملاذ المتقين؛ غير بعض الهنات، وسبحان من تنزه عن السيئات! جزى الله واضعها ومؤلفيها أحسن الجزاء؛ فهو جل شأنه {أهل التقوى وأهل المغفرة}. وطالما خالفت الكثير من أقوال المفسرين؛ معتمداً -في هذه المخالفة- على لب القرآن، وحكمة نزوله، وقدر منزله! وكثيراً ما طعنت طعناً مريراً فيما استندوا إليه من منقول: لا يبلغ حد إلغاء العقول! ومن مقول لا يبلغ حد المعقول! وقلت في نفسي: أليس من حقي -وأنا من عداد المؤمنين المكلفين- أن أقرع الحجة الواهنة، بالحجة البينة، وأن أدفع الرأي الفاسد، بالرأي السديد؛ أم أسلم مع المسلمين، وأقول مع القائلين: لم يترك الأول شيئاً للآخرين، ومن قلد عالماً لقي الله سالماً؛ وقد كان إبليس اللعين أول العالمين! لقد قالوا ما قالوا، وأوردوا ما أوردوا -بحسن نية، وصدق طوية- وهم من خيرة الخلصاء المؤمنين!

(م) ولكن الإثم كل الإثم: أن نرى المنكر ولا نغيره، ونتلو الباطل ولا نمحوه؛ ويهبنا المولى الجليل ميزان الأمور؛ بقسطاس العقل المنير -الذي به شرفنا وفضلنا على كثير ممن خلق من العالمين- فنلغى ما وهبنا، ونربط عقلنا بعقال غيرنا. وقد يكون هذا الغير آثماً أو مخطئاً -وقد كتب الخطأ على سائر بني آدم- «كل ابن آدم خطاء»، فكيف نحمل أنفسنا إثم الآثمين، وخطأ المخطئين؛ ونمتطي تكلم الآثام، ونترسم خطى هاتيك الأخطاء؟! ولكني -بحمد الله تعالى وحسن توفيقه- استعنت بقلبي وربي، وحكمت عقلي ولبي؛ في كل ما قرأت وسمعت؛ فهداني الهادي إلى ما كتبت؛ وروح القدس معي، والرحمن يحدوني بإلهامه وإكرامه، ويمدني بفيض فضله وإنعامه! وقد أسوق الدليل: فلا يروقك -بادئ ذي بدء- لغرابته وجدَّته، ولما سيطر على ذهنك من أقوال سابقة كالهواء، وحجج متلاحقة كالهباء! ولكنك بعد قليل من التذوق والتروي: تجده أروى من الرواء (1)، وأصفى من الصفاء! وها هو ذا -كما قلت في مقدمة طبعته الأولى-، «يعني عن جل التفاسير، حيث لا تغني كلها عنه!» ولا بدع فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم! هذا ولم أدع مزيداً من العلم والرواية؛ بل زعمت صحة التمحيص والدراية (2)، والغوص وراء حقيقة المعاني: المحتجبة إلا عن الواصلين، المغطاة إلا عن المتقين! وحاربت -حربا ً لا هوادة فيها- كل ميل عن السبيل، وزيغ عن الطريق، وحيدة عن الصراط؛ ليكون التكلم في كتاب الله: خالصاً لوجه الله! ومما يدعو لشديد الأسف، ومزيد الألم: أن بعض الأمة الإسلامية -وقد اصطفاها الله تعالى من بين الأمم، واختصها بخير رسول، وميزها بأفضل كتاب - قد استكانوا ــــــ (1) ماء رواء: كثير مرو. (2) من معاني الزعم: القول الحق، وفي الحديث «زعم جبريل».

(ن) للضعف؛ وقد نهاهم الله عنه، وركنوا للنفاق؛ وقد توعدهم الله عليه! وصار دينهم الجري وراء المادة؛ وهي مطغية، والسعي وراء الشهوات، وهي مردية! فكل قول يقولونه، وكل عمل يعملونه: لا يريدون به وجه الله؛ بل يريدون به المنفعة الشخصية؛ فكأنما باعوا أخراهم بدنياهم، واشتروا رضا الناس بسخط مولاهم؛ ففازوا في الحالتين بالعقوبتين: خزي الدنيا وعذاب الآخرة! وقديماً الشاعر: وابغ رضا الله؛ فأغبى الورى ... من أغضب المولى، و أرضى العبيد! ولكني -علم الله- لم أبغ فيما كتبت سوى رضا الله! لأنه تعالى هو وحده المعطي المانع، الخافض الرافع، المعز المذل، الغفور الرحيم! وها هو ذا -أيها المؤمن- بين يديك؛ فإن راقك كله؛ فلله الحمد والمنة، والفضل والنعمة! وإن أعجبك بعضه ولم يعجبك بعضه؛ فلعلي أكون ممن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم! وإن لم يعجبك كله - ولا إخاله كذلك - فيشفع لي حسن ظني ويقيني، وما يكنه قلبي لربي؛ من حب وإيمان، وإخلاص وإيقان؛ وشهادتي بربوبيتي ووحدانيتي! ناصيتي بيده، ومرجعي إليه! أعوذ بوجهه الكريم من غضبه، وبعفوه من عقوبته، وبرضاه من سخطه! جعلني الله تعالى وإياك ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أولئك الذين هداهم الله وألئك هم أولوا الألباب! محمد محمد عبد اللطيف ابن الخطيب

مقدمة الطبعة الأولى

(ف) مقدمة الطبعة الأولى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه الذي من تمسك بشريعته فاز ونجا، وعلى آله وصحبه الذين أناروا حالك الدجى. أما بعد: فقد كنت منذ حداثة سني ولوعاً بالكتاب الكريم، شغوفاً بمطالعة ما كتبه أئمة المفسرين، وما دونه علماء الملة والدين؛ وكنت دائماً أناقش من حضرني من أفاضل الأدباء وجلة العلماء، فيما كان يبدو لي مشوهاً متناقضاً؛ وكثيراً ما وضح ترجيح رأيي، وتفضيل مذهبي. فجرأني هذا، وألجأني إلحاف من يحسنون الظن بي؛ إلى الشروع في كتابة تفسير صغير للقرآن المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فترددت بادئ ذي بدء، وخفت من الزلل، وخشيت من الخطل، ولكني راجعت نفسي قائلاً: إن الأمر بيد الله تعالى. وهو وحده القادر على أن يمدني بنور من عنده، ويكشف عن بصري وبصيرتي، وينقي سري وسريرتي، فاستعنته تعالى، وابتدأت التأليف؛ بعد أن تصفحت أغلب كتب التفسير وأمهاتها، ولا أكتم القول أن جلها - إن لم يكن كلها - قد يجمع على ضلالة. وأنها لا تخلو من حشو اليهود وإفك الأفاكين؛ إلى غير ذلك من الأحاديث الكاذبة، والأقاويل الباطلة. ورب قائل يقول: ومن أنت حتى تنقد أقوال المفسرين وتسفه آراءهم؟ وهل أنت أجل من ابن جرير الطبري، وأنبغ من ابن كثير والإمام الرازي والزمخشري؟! وجوابي على هذا: إنني من بحرهم استقيت، ومن معينهم ارتويت؛ إلا بعض الهنات، وسبحان من تنزه عن السيئات. وقد أخذت خلاصة آرائهم، وزبدة أقوالهم، وطرحت ما لا يتفق والدين، وما كان مخلاً بعصمة الملائكة والنبيين، وتحريت التنبيه على الأحكام الشرعية، وما يعادلها من القوانين الوضعية. وتوخيت في بعض المواطن

(ص) الإقلال حيث لا خلل، وفي بعضها الإكثار حيث لا ملل. وقد حاولت جهد الطاقة الابتعاد عن دس الدساسين، ووضع الزنادقة والملحدين! أما التشدق بتصريف الألفاظ وتأويلها، وتحميلها ما لا تحتمله -كشأن أكثر التفاسير- فلم أعره أي التفات، بل كان جل همي إيضاح المعاني وحل المشكلات. وقد التزمت الإطالة في المواضع التي طرقتها طائفة المبشرين، ولمزتها أعداء الملة والدين، ووفيت أبحاثها، ودعمت حججها وبراهينها. وقد أغفلت بضع مواطن لم أوفق لحلها، ولم أهتد لتأويلها، ولم أجد فيما قاله فيها المتقدمون والمتأخرون ما يرتاح إليه الضمير، وينشرح له الصدر: فتركته راغماً لا راضياً؛ وهذا نهاية عزمي، وقصارى جهدي. ولم أقل إنني أحطت بكل دقائق التأويل، وسائر حقائق التنزيل؛ فهذا ما لا يستطيعه بشر، ولا يقوى عليه إنسان {وما يعلم تأويله إلا الله}. وحقاً إننا لو أردنا استيفاء معنى آية واحدة؛ لما استطعنا حصر ما فيها من جليل الحكم وغزير الفوائد، وإن الأوائل -رغم شدة توسعهم، وعظم تبحرهم- لم يستطيعوا فهم سائر معانيه وإدراك كل مراميه؛ وإنني في كثير من الأحيان أشعر بفهم آية من الآيات حيث لا أملك الإبانة عما فهمته، أو الإفاضة بما علمته؛ وحقاً إن هذا الضرب، لمن ضروب الإعجاز الذي امتاز به القرآن الكريم، ولعل من تقدمني من أفاضل المفسرين عرض له مثل الذي عرض لي، وهكذا يقتضي العجز البشري تجاه عظمة لا نهائية كعظمة القرآن. مع العلم أن القرآن الكريم فوق سائر العقول والأفهام؛ وجميع التفاسير مهما علت وجلت: لا يصح أن تكون حجة عليه، بل هي ترجمة له. وقد جرت عادة المؤلفين أن يصدروا مؤلفاتاهم بمقدمات يذكرون فيها أنهم جابوا الصحارى والقفار، وجاسوا الممالك والأقطار؛ حتى وصلوا إلى ما عجز عنه الأوائل، ولم يهتد إليه الأواخر.

(ق) ولكني أصارح القول إنني حينما شرعت فيما صنعت، أخذت مصحفاً وبدأت في تلاوته؛ وكلما وجدت لفظة لغوية رجعت في حلها إلى كتب اللغة المعتمدة وأثبته على هامشه، وكلما وجدت معنى غامضاً عرضت على ذهني آراء كبار المفسرين، وأثبت ما عن لي من ثنايا تلك الآراء، وإن لم يرق لي أحدها أملت علي الذاكرة شيئاً لم أسبق إليه، وقد ثبتت لي صحته لما ظهر لي من تحبيذ كبار الفضلاء، وأفاضل العلماء له حينما أسمعتهم إياه، وأقسم إنني كنت أكتب ما أكتب وأنا منشرح الصدر، منبسط النفس؛ حتى لو خيرت بين الاستمرار في تفسير آي الذكر الحكيم، وبين السعادة لاخترت الأولى، وذلك لما كنت أجده من تذوق حلاوة القرآن، وفتح مغلق معانيه. كيف لا وهي السعادة كل السعادة: سعادة الدنيا والآخرة، سعادة القرب من حضرة الرب! فإن كنت أخطأت فيما قدمت؛ فمن عجزي وقصوري -وهكذا الإنسان، على مر الزمان- وإن كنت قد أصبت -وهذا ما آمله وأرجوه- فالشكر وحده للمنان، حيث تفضل بالإحسان. وقد جاء -رغم صغر حجمه- كبير النفع، جزيل الفائدة؛ يغني عن جل التفاسير، حيث لا تغني كلها عنه. ولا بدع فالمثقال من الماس، يفضل القناطير من النحاس. والله أسأل أن ينفعني به، ويجعله يوم المآب، وسيلة لنيل الثواب، ويجعله من صالح عملي، الذي لا ينقطع بانقضاء أجلي، وأن يكون حجة لي لا على، وأن يهب لي الفوز برضاه وشفاعة مصطفاه! ابن الخطيب

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة

1

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} آية من الكتاب الكريم؛ تدل على ذات الله العلية، وصفاته السنية وقد ورد أنها المعنية بقول الحكيم العليم: «وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً» قيل: إن من قرأها - متعبداً بها - أنجاه الله تعالى من ملائكة الجحيم التسعة عشر «عليها تسعة عشر» فعدد حروفها بعددهم. وقال بعضهم: إنها تيجان لسور القرآن؛ وليست بآية منه. وعلى ذلك قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها. وقيل: إنها آية من كل سورة؛ وعلى ذلك قراء مكة والكوفة وفقهاؤهما. وقد رجحوا أنها آية من الفاتحة فحسب؛ لأحاديث وردت بذلك. والرأي أنها آية من كل سورة عدا براءة؛ لثبوتها في المصحف الإمام؛ الذي لا زيادة فيه ولا نقصان بإجماع الأمة الإسلامية. قال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم: فهو أبتر» أي ناقص وقليل البركة وجب علينا أن نبدأ بها في كل أمورنا: لتحل بركتها، ويعم نفعها هذا وقد جرت عادة بعض كتاب هذا العصر على إغفالها في مؤلفاتهم؛ وهو خطأ فاحش شنيع إذ كيف نبدأ في أمورنا باسم بعض المخلوقات الفانية العاجزة، ونغفل اسم الإله الباقي العظيم الخبير، اللطيف القدير؟

2

{رَبِّ} مالك وسيد. يقال: «رب» الدار أي مالكها، و «رب» الغلام؛ أي مالكه قال تعالى: «ارجع إلى ربك» أي إلى سيدك ولا يقال لمخلوق: هذا الرب: معرفاً بالألف واللام. فإن هذا لا يجوز إلالله تعالى وحده. وإنما يقال: «رب» المنزل، و «رب» القرية. فيعرف بالإضافة أنه من الأرباب المخلوقين؛ فتعالى رب الأرباب رب العالمين {الْعَالَمِينَ} جمع العالم. والعالم: الخلق كله. والمراد: رب سائر المخلوقات؛ من ملك وإنس وجن، ووحش وطير وغيره وبالجملة فهو ما سوى الله تعالى من أحياء وجماد ويتناول أيضاً سائر العوالم الكائنة بشتى الكواكب المتناثرة في ملكوت الله تعالى. فتعالى الله رب العالمين

4

{مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} مالك يوم الجزاء - وهو يوم القيامة - فلا شفيع إلا بإذنه، ولا عقاب إلا بأمره، ولا ثواب إلا بفضله

7

{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} أي طريق الذين أنعمت عليهم بالهداية والاصطفاء كالنبيين، -[3]- والصديقين، وخواص المؤمنين {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم} وهم العصاة؛ الذين جعلوا إلههم هواهم، واشتروا دنياهم بأخراهم، ولم يبالوا بغضب مولاهم؛ فارتكبوا الذنوب وهم بها عالمون، ولعاقبتها مقدرون. وقيل: هم اليهود {وَلاَ الضَّآلِّينَ} وهم الذين يرتكبون الذنوب حال كونهم غير عالمين بجرمها، ولا بمبلغ إثمها. وقيل: هم النصارى. ولا يخفى أن اليهود: مغضوب عليهم وضالون، وأن النصارى: ضالون ومغضوب عليهم. «آمين» ليست من القرآن بالإجماع؛ ويسن قولها بعد الفراغ من قراءة الفاتحة؛ وبعد سكتة قصيرة؛ للفرق بينها وبين كلامه تعالى. ومعناها: اللهم استجب، أو كذلك فليكن. وقيل: هي اسم من أسمائه تعالى.

سورة البقرة

سورة البقرة

1

{الم} قيل: إن المعنى: ألف، لام، ميم

2

{ذَلِكَ الْكِتَابُ} أي إن هذا الكلام البليغ المعجز: مكون من جنس الأحرف التي يتكون منها كلامكم؛ وهي الألف، واللام، والميم؛ وهكذا. وقيل: إن «آلم»: اسم للسورة، وهكذا سائر أوائل السور المكونة من الأحرف. وقيل: غير ذلك. وجميع ما ذكر في هذا الصدد لا يرتاح إليه الضمير،؛ والله تعالى أعلم بما يريد. وقد جاءت {الم} في بدء ست سور من القرآن الكريم: البقرة، وآل عمران، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة. وزيدت عليها الصاد في الأعراف: {المص} وزيدت عليها الراء في الرعد: {المر} (انظر آية 1 من سورة غافر) {لاَ رَيْبَ} لا شك

3

{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} بما غاب عنهم؛ من أمر البعث والحساب، وغير ذلك؛ مما غاب عن البصر، ولم يغب عن البصيرة {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ} من الثمار والأموال والخيرات {يُنْفِقُونَ} يتصدقون على الفقراء والمعوزين (انظر آيتي 44 من سورة الروم، و107 من سورة الصافات)

4

{والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} من القرآن {وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ} على من تقدمك من الرسل: كالتوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود؛ عليهم السلام. والمراد أنهم يؤمنون بالرسول عليه الصَّلاة والسَّلام وما أنزل إليه، وبالرسل المتقدمة - الذين جاء ذكرهم في القرآن - وصدق دعواهم: «قولوا آمنا ب الله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى -[4]- وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون» {وَبِالآخِرَةِ} وما فيها من نعيم مقيم، وعذاب أليم {هُمْ يُوقِنُونَ} يؤمنون بالقيامة وما فيها تمام الإيمان؛ من غير شك ولا شبهة

5

{أُولَئِكَ} المذكورون {عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} هداية أضفاها عليهم، وعناية أحاطهم بها: لإيمانهم بالغيب، وإقامتهم الصلاة، وإنفاقهم مما رزقهم الله {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون بالجنة، الناجون من النار

6

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} أي وعظتهم أم لم تعظهم، وخوفتهم أم لم تخوفهم {لاَ يُؤْمِنُونَ} عناداً واستبداداً

7

{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} أي غطى عليها وطبع {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} غطاء. من غشاة: إذا غطاه. والمعنى: أنه تعالى طبع وغطى على قلوبهم؛ فلا تفهم العظة، وعلى أسماعهم؛ فلا تسمع النصح، وعلى أبصارهم؛ فلا ترى الحقيقة

8

{وَمِنَ النَّاسِ} وهم المنافقون {مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} وغاية الإيمان: أن يؤمن الإنسان بقلبه ب الله فيتقيه، وباليوم الآخر وما فيه. أما إذا كان الإيمان لا يجاوز اللسان: فهو خداع ونفاق؛ وذلك لأنك إذا تيقنت أن هناك إلهاً قادراً عظيماً؛ يراك حين تعصاه، ويسمعك حين تبغى على مخلوقاته: وجب عليك أن تتجنب هذا العصيان وذلك البغي، وإذا آمنت أن هناك يوماً تحاسب فيه على الكبير والصغير، والنقير والقطمير: وجب عليك ألا تفعل إلا طيباً، ولا تقول إلا حسناً

9

{يُخَادِعُونَ اللَّهَ} يبدون من الإيمان، خلاف ما يخفون من الكفران

10

{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق. لأن الشك: تردد بين الأمرين، والمريض: متردد بين الحياة والموت

11

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} هكذا شأن المفسدين في كل زمان ومكان: يظنون في أنفسهم الإصلاح وهم عنه بعداء، ويتوهمون ما يفعلونه الخير وهم منه براء يعنون بالسفهاء: أئمة المسلمين، وهداة الدين؛ الذين آمنوا بالرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه «وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه» والسفهاء: الجهال. قال تعالى رداً عليهم: لمزيد جهلهم، وفرط سفههم

14

{وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} أي إذا انفردوا بمن هم كالشياطين في العتو والتمرد والكفر؛ وهم رؤس الكفر والضلال من قسسهم ورهبانهم. -[5]- {قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ} في الدين؛ فلا تظنوا أنا قد آمنا مع هؤلاء واتبعنا دينهم {إِنَّمَا نَحْنُ} بتظاهرنا بالإيمان {مُسْتَهْزِئُونَ} بمحمد وأصحابه. قال تعالى رداً على استهزائهم بالمؤمنين

15

{اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} أي يسخر منهم، ويجازيهم على استهزائهم. وسمي الجزاء باسم العمل؛ كقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} وقوله جل شأنه: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ} {وَيَمُدُّهُمْ} يمهلهم {فِي طُغْيَانِهِمْ} وذلك لأنهم ابتدأوا بالكفران؛ فزاد لهم ربهم في الطغيان. والطغيان: تجاوز الحد في العصيان يتحيرون ويترددون

16

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى} أي الكفر بالإيمان (انظر آية 175 من هذه السورة)

17

{مَثَلُهُمْ} في طغيانهم ونفاقهم، وزعمهم الإيمان، وإنكارهم له {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} أوقدها، أو طلب إيقادها للإضاءة {فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} واستبدل ظلمته نوراً؛ بالتلفظ بالإيمان؛ وهو قولهم عند ملاقاة المؤمنين: «آمنا» {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} عندما خلوا إلى شياطينهم، و «قالوا» لهم «إنا معكم إنما نحن مستهزئون» {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} وهي ظلمات الكفر، والنفاق، والجهل. والدنيا كلها ظلمات؛ إلا موضع العلم، والعلم كله هباء؛ إلا موضع العمل، والعمل كله هباء؛ إلا موضع الإخلاص. فالإخلاص أس العبادة، وجماع الإيمان والفضائل

18

{صُمٌّ} عن سماع الحق {بِكُمُ} عن النطق به. {عُمْيٌ} عن رؤيته. والصمم: انسداد الأذن، وثقل السمع. والبكم: الخرس {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} عن الظلمات التي يعمهون فيها؛ وذلك لصممهم وعماهم وخرسهم

19

{أَوْ كَصَيِّبٍ} أي «مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً» أو مثلهم «كصيب» والصيب: المطر الشديد. وأريد بالصيب: القرآن الكريم {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ} وهو تمثيل لما فيه من الوعيد الشديد؛ بنيران الجحيم، والعذاب الأليم {بَرِقَ} أي فيه ظلمات الوعيد، ورعد العذاب «وبرق» المعرفة لأنه أريد بالبرق: نور الحجج البينة المنيرة اللامعة {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ} وقاية وحذراً منها. والصاعقة: نار تنزل من السماء؛ عند قصف الرعد. وهل تمنع الأصابع في الآذان، عذاب الملك الديان؟ وكيف تمنع {واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} عالم بهم، قادر عليهم؛ لا يفوته شيء من أعمالهم؛ ولا تعجزه أفعالهم؛ فلا يستطيع أحد الفرار من بطشه، أو النجاة من بأسه، أو الخروج عن أمره

20

{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} لسرعة وميضه، وشدة لمعانه -[6]- {كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ} أي كلما لمع البرق مشوا مسرعين في ضوئه {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} أي إذا سكت البرق، وخبت ناره، وانطفأ نوره: وقفوا في أماكنهم متحيرين مترصدين خفقة أخرى؛ عسى يتسنى لهم الوصول إلى مقاصدهم

22

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً} تقعدون عليها وتمشون وتنامون {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} ماء المطر: ينزل من السماء رأى العين؛ ومنشؤه البحار، وتحمله السحب. قال الشاعر: كالبحر يمطره الغمام وما له فضل عليه لأنه من مائه {أَندَاداً} شركاء ونظراء وأمثالاً

23

{وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} شك {مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} محمد من آيات الكتاب المجيد {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} تحداهم أولاً بقوله: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} وبعد ذلك تدرج تعالى معهم - نكاية بهم، وزيادة في توبيخهم - بقوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} وبعد كل هذا الاحتقار والازدراء؛ أراد أن يستثير كامن همتهم، وماضي عزيمتهم بقوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} أيّ سورة، بل أيّ آية؛ وأنى لهم أن يأتوا بأقصر سورة من مثل هذا القرآن الذي أعجز البلغاء، وأخرس الفصحاء؛ وانظر - يارعاك الله - في أي عصر من العصور حصل هذا التحدي؟ إنه في عصر الفصاحة التي لا تمارى، والبلاغة التي لا تجارى، والمنطق الذي لا يلحق له بغبار. وقد وقف الجميع مكتوفي الأيدي، ناكسي الرؤوس؛ لا يستطيعون أن يحيروا جواباً أو أن ينبسوا ببنت شفة {وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم} آلهتكم التي تعبدونها

25

{قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} أي رزقنا في الدنيا مثله: في المنظر، لا في المخبر {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} من الحيض والأقذار، والأدناس الحسية والمعنوية

26

{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحى} من الحياء؛ جاءت رداً على الكفرة حيث قالوا: أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت. فجاءت على سبيل المقابلة {فَمَا فَوْقَهَا} في الحقارة والصغر {يُضِلُّ بِهِ} أي بهذا المثل {كَثِيراً} من المنافقين؛ لكفرهم وعنادهم {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} من المؤمنين؛ لتسليمهم وانقيادهم. -[7]- {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} الكافرين؛ لأن الله تعالى لا يضل مؤمناً {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} وإنما إضلال الله تعالى يقع عقوبة لمن يصر على الكفران، ويأبى داعي الإيمان

27

{الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} والمراد بناقضي العهد: المنافقين، أو الكفار جميعاً، أو هم أحبار اليهود؛ بدليل قوله تعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} كصلة الأقرباء، والعطف على الفقراء، ومعاونة الضعفاء، وإشاعة المحبة بين الناس، والإلفة والمرحمة

28

{وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} نطفاً في أصلاب آبائكم. والموت يطلق على السكون وعدم الحركة {فَأَحْيَاكُمْ} في الأرحام، أو بالخروج إلى الدنيا {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} يبعثكم {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يوم القيامة؛ فيؤاخذكم بما فعلتم و

29

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} لخدمتكم ومصلحتكم: لقد سخر تعالى لكم الحيوان والطير، والنبات والجماد، والماء والهواء؛ بغير حول لكم ولا قوة فانظر أيها المؤمن إلى تذليل الله تعالى للحيوان، وخضوعه واستكانته لبني الإنسان: فترى البعير الكبير، وقد انقاد للطفل الصغير وكيف أن الفيل - رغم قوته وضخامته - ينقاد لبني الإنسان، ويكون له مطية في كثير من الأحيان، ومعواناً له في الرحال، وحمل الأثقال. وانظر إلى الطير، وكيف يرحل من مواطنه، ويسير آلاف الأميال؛ حتى يرتمي بين فكيك، وينسحق تحت ماضغيك، وانظر إلى الثمار والنبات: كيف ترمي البذرة فتنتج لك الجنات، وتلقي بالحبة فتنبت لك الأقوات. وانظر أيضاً إلى الجماد: فقد علمك المعلم على الاستفادة به في شتى الحالات. وكذلك الماء: فقد ساقه الله تعالى لك سلسلاً؛ تستقى منه وتسقي ما تشاء من العجماوات. والهواء: وقد أجراه الله تعالى لك؛ ليحييك ويكفيك صنوف البلاء ولو شاء ربك لقلب هذه النعم نقماً، وجعل الداء مكان الدواء؛ لأنه تعالى وحده خالق الخلق الفاعل لما يشاء {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} وجه قدرته وإرادته لخلقها بعد خلق الأرض {فَسَوَّاهُنَّ} خلقهن مستويات؛ لا عوج فيها، ولا خلل، ولا خطأ «لا ترى في خلق الرحمن من تفاوت»

30

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} يخلفني في تنفيذ أحكامي، والقيام بأوامري؛ وهو آدم أبو البشر عليه السلام. {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ} وهذا يدل على وجود الأرض قبل آدم، وسكناها بأمم قبل بني آدم؛ كان دأبها الإفساد في الأرض وسفك الدماء. أو كان قول الملائكة استفهاماً عن الحكمة الداعية لذلك الخلق؛ وقد كانوا عليهم السلام ملء الأرض والسموات، وقد رأوا في اللوح المحفوظ فساد بني الإنسان، -[8]- وشهوته إلى سفك الدماء وها هو الجنس الآدمي قد حقق ظن الملائكة فيه؛ فملأ الأرض فساداً وإفساداً، وأراق الدماء بحاراً وأنهاراً، وعصى خالقه ورازقه جهاراً، وكفر بموجده ومربيه نهاراً؛ فلا حول ولا قوة إلا ب الله العلي العظيم هذا ولم يكن سؤال الملائكة عليهم السلام اعتراضاً على فعله تعالى، أو مخالفة لأمره؛ فحاشا أن يعترض على الله تعالى أعلمهم به، وأخوفهم منه، وأتقاهم له {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} ننزهك عن كل نقص، ونحمدك على نعمائك {وَنُقَدِّسُ لَكَ} أي نعظمك، أو نطهر أنفسنا لعبادتك. ومعنى تقدس: تطهر

31

{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا} أي ألهمه معرفة كل شيء يحتاج إليه. وسمى «آدم» لخلقته من أديم الأرض؛ وهو ما على وجهها من تراب. وزعم بعضهم: أن آدم وإبليس ليسا على حقيقتهما؛ وإنما هما رمزان لا أصل لهما؛ يمثلان الشر والمعصية. وهو قول بادي البطلان؛ يدفعه صريح القرآن {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ} أي عرض المسميات لا الأسماء؛ بدليل قوله تعالى: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَؤُلاءِ} المسميات؛ ليريهم أنه تعالى قد وهب لآدم من المعرفة ما لم يهبه لهم، وليريهم آيته في حكمة خلق الإنسان وخلافته في الأرض. هذا وقد أضفى تعالى على نبينا صلوات الله تعالى وسلامه عليه علوم الأولين والآخرين؛ ليجعله رحمة للعالمين؛ ولله در البوصيري حيث يقول في همزيته: لك ذات العلوم من عالم الغيـ ـب ومنها لآدم الأسماء

32

{قَالُواْ سُبْحَانَكَ} تنزهت وتعاليت (انظر آية 1 من سورة الإسراء).

34

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ} أمرهم الله تعالى بالسجود ابتلاء لهم واختباراً؛ وهو سجود لقدرة الله تعالى وإبداعه، ولا وجه لمن قال: إن سجودهم كان بالانحناء فحسب؛ على سبيل التحية؛ بل كان سجوداً حقيقياً كسجود الصلاة؛ يدل عليه قول الحكيم العليم: {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} {فَسَجَدُواْ} أي سجد الملائكة جميعاً، وسائر العقلاء من المخلوقات {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى} رفض السجود المأمور به. و: «إبليس»: أبو الجن؛ وليس من الملائكة كما زعموا. وسمى بإبليس: ليأسه من رحمة الله تعالى وتحيره؛ لأن معنى أبلس: يئس وتحير {رَغَداً} الرغد: طيب العيش وسعته {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} هي شجرة أيّ شجرة نهيا عن الأكل منها امتحاناً لهما، واختباراً لعزمهما. وقيل: إنها الحنطة، أو العنب، أو التفاح {فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} يؤخذ من ذلك أن هناك خلقاً قبل آدم عليه السلام، وأن ظالماً وظلماً قد كان في الأرض قبله

36

{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} أوقعهما في الزلة. وقرىء «فأزالهما» أي عن النعيم الذي كانا فيه {اهْبِطُواْ} انزلوا. -[9]- والمعنى: تحولوا من الجنة العالية، إلى الأرض السافلة، ومن النعيم، إلى البؤس والشقاء {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} بني الإنسان، وبني الشيطان، أو بعض بني الإنسان عدو لبعض {وَمَتَاعٌ} تمتع {إِلَى حِينٍ} وهو انقضاء الأجل

37

{فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ} ألهم، أو أوحى إليه {كَلِمَاتٍ} هي قوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} {فَتَابَ عَلَيْهِ} ربه: قبل توبته، وغفر له

38

{قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً} المراد آدم وحواء؛ تؤيده قراءة من قرأ {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً} وقوله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً} وقد خوطبا بلفظ الجمع: لأنهما أصل لبني الإنسان، أو على مذهب من يقول: إن أقل الجمع اثنان وقد يكون المقصود بالخطاب: آدم وحواء وإبليس {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} كتاب أو رسول

40

{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} خطاب لليهود. و «إسرائيل» هو يعقوب عليه السلام. وخص بني إسرائيل بالذكر؛ لأنهم أوفر الأمم نعمة، وأشدهم كفراً، وأكثرهم فساداً وعناداً {اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أنجاهم من الذل، وفضلهم على الكل؛ فازدادوا طغياناً وكفراً، وبغياً وعتواً {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي} الذي عهدته إليكم في التوراة؛ بالإيمان بمحمد عند بعثته. أو أوفوا بما عاهدتكم عليه؛ من تبليغ ما أنزل إليكم، وتبيينه للناس: {وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} الذي قطعته على نفسي؛ وهو إثابتكم على ذلك بالثواب والأجر {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} فخافوني وأطيعوا أمري

41

{وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ} من القرآن {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} من التوراة؛ وفيها ذكر الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام، وأنباء بعثته {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي بالقرآن، أو بالرسول {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} أي لا تبيعوا دينكم بدنياكم وأخراكم بأولاكم

42

{وَلاَ تَلْبِسُواْ} لا تخلطوا {الْحَقِّ} الإيمان {بِالْبَاطِلِ} بالكفر الذي تفترونه

44

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} البر: الاتساع في الخير {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} فلا تأتمرون بما به تأمرون. قيل: نزلت في أحبار اليهود، كانوا ينصحون سراً باتباع الرسول عليه الصَّلاة والسلام، ولا يتبعونه؛ طمعاً فيما يصل إلى أيديهم من الصلات والهبات والهدايا {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} التوراة؛ وفيها ذكر الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه، وأبناء رسالته

45

{وَاسْتَعِينُواْ} على الأمور الشاقة، والشهوات الموبقة {بِالصَّبْرِ} على الطاعات، وعن الملذات {والصَّلاَةِ} التي هي مناجاة لرب العالمين «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} ثقيلة شاقة -[10]- {إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} الذين يستغرقون في مناجاة ربهم

46

{الَّذِينَ يَظُنُّونَ} يوقنون {أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} فيجازيهم على طاعتهم وإخلاصهم

48

{وَاتَّقُواْ يَوْماً} خافوا يوم القيامة {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} بدل أو فدية

49

{يَسُومُونَكُمْ} يظلمونكم أشد الظلم؛ من سامه خسفاً: إذا أولاه ظلماً {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} يتركونهن أحياء، أو يفعلون بهن ما يخل بالحياء {بَلاءٌ} بلية ومحنة

50

{وَإِذْ فَرَقْنَا} فصلنا وفلقنا

51

{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} وذلك لما دخل بنو إسرائيل مصر - بعد هلاك فرعون - ولم يكن لهم كتاب يرجعون إليه: وعد الله تعالى موسى أن ينزل عليه كتاباً «التوراة» وضرب له ميقاتاً: {وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} عبدتموه؛ وهو العجل الذي صنعه لهم السامري من حليهم؛ وكان الشيطان يدخل في جوفه ويخور كما يخور العجل قال تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} وقيل: صنعه بحيث إذا تعرض للهواء: أصدر صوتاً يشبه خوار العجل

53

{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة {وَالْفُرْقَانِ} الذي يفرق بين الحق والباطل {بَارِئِكُمْ} خالقكم

54

{فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} أي ليقتل البريء منكم المذنب؛ ولا يتستر عليه لقرابته، أو لمحبته. وقيل: كانت التوبة عندهم أن يقتل التائب نفسه إثباتاً لصدق توبته. أو المراد بقتل النفس: كبح جماحها، وقتل شهواتها، والحيلولة دون سطوتها وتسلطها، وتمردها على الحق؛ ويكفي في التوبة: الإقلاع عن المعصية، ورد المظالم، واجتناب المحارم {الصَّاعِقَةُ} نار تنزل من السماء؛ ذات أصوات

56

{ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} أي من بعد أخذ الصاعقة لكم، ومعاينة أسباب الموت وموجباته. ولعل المراد بالبعث هنا: من خلفهم من ذراريهم وأبنائهم

57

{الْغَمَامِ} السحاب {الْمَنَّ} طل ينزل من السماء وينعقد عسلاً. أو هو كل ما يمنّ الله تعالى به على الإنسان -[11]- {وَالسَّلْوَى} قيل إنه السمائي؛ الطائر المعروف. أو هو كل ما يتسلى به؛ من فاكهة ونقل، ونحوهما {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} من الرزق الحلال المبارك (انظر آيتي 172 من هذه السورة و58 من الأعراف) {وَمَا ظَلَمُونَا} بكفرهم ومعاصيهم {وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بتعريضها للعذاب الأليم المقيم

58

{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ} وهي بيت المقدس، أو أريحاً؛ وهي بلد بالشام {رَغَداً} الرغد: سعة العيش {وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} أي حينما تدخلون باب هذه القرية: اسجدو الله تعالى؛ شاكرين فضله وأنعمه {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} مسألتنا حطة؛ أي نطلب حط الذنوب عنا. وهو كناية عن التوبة وطلب المغفرة

59

{رِجْزاً} عذاباً {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} الفسق: الترك لأمر الله تعالى، والعصيان، والخروج عن طريق الحق، وجادة الصواب

60

{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} طلب لهم السقيا من الله تعالى {فَقُلْنَا} له {اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ} فضربه {فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} وذلك أنه لما اشتد العطش ببهي إسرائيل: طلبوا من موسى عليه السلام أن يدعو ربه ليرسل لهم الماء؛ فدعا الله تعالى؛ فقيل له: {اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ} فضربه {فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} تفيض بالماء؛ وذلك بعدد رؤساء الجند {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} أي قد علم كل فرقة من الجند عينهم التي يشربون منها {وَلاَ تَعْثَوْاْ} العثو: أشد الفساد

61

{لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} وهو {الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} {بَقْلِهَا} البقل: ما تنبته الأرض من الخضر؛ كالفول والفاصوليا واللوبيا، والحمص وأمثالها؛ وهو ما ينبت في بزره لا في أصل ثابت {وَفُومِهَا} الفوم: الثوم. وقيل: الحنطة {الَّذِي هُوَ أَدْنَى} أقل وأحقر {اهْبِطُواْ مِصْراً} المصر: العاصمة. أي اهبطوا مصراً من الأمصار، أو هي مصر نفسها {فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} من البقل، والقثاء، والفوم، والعدس والبصل. -[12]- {وَضُرِبَتْ} جعلت {عَلَيْهِمْ} وصارت لزاماً لهم {الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} أعطاهم الله تعالى جميع ما سألوا، ووهبهم فوق الذي طلبوا؛ فما زادهم ذلك إلا طغياناً وكفراناً؛ فسلبهم العزة، وألبسهم الذلة. وليس المراد بالمسكنة: الفقر نفسه؛ بل المراد لازمه؛ وهو الحقارة، وقلة الشأن، والصَّغار. ومصداق هذه الآية: اضطهاد العالم أجمع لليهود، وتشتيتهم في سائر الممالك؛ حيث لا وحدة تجمعهم، ولا رابطة تضمهم؛ اللهم سوى ما اغتصبه بعض الأفاقين من أرض فلسطين؛ وهو عائد إلى أربابه بإذن رب العالمين {وَبَآءُوا} رجعوا

62

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} ب الله تعالى، وبرسوله محمد {وَالَّذِينَ هَادُواْ} اليهود. من هاد: إذا تاب ورجع إلى الحق، وهم قوم موسى عليه السلام {وَالنَّصَارَى} وهم قوم عيسى عليه السلام. قيل: سموا نصارى؛ لتناصرهم وتآلفهم على دينهم - وقت تسميتهم - وقيل: نصراني؛ نسبة إلى نصورية: بفتح النون، وضم الصاد، وكسر الراء وفتح الياء قرية بالشام {وَالصَّابِئِينَ} الخارجين من دين إلى آخر؛ من صبا: إذا مال. وقيل: هم قوم عبدوا الملائكة. وقيل: إنهم كانوا يعبدون الأنجم والكواكب. وقيل: هم قوم على ملة نوح عليه السلام؛ استمروا على إيمانهم به، فلم يقبلوا اتباع من أرسل بعده من الرسل {مَنْ آمَنَ} إيماناً حقيقياً كاملاً؛ من هؤلاء الذين آمنوا بمحمد، أو آمنوا بموسى، أو آمنوا بعيسى، أو آمنوا بنوح؛ من آمن منهم {بِاللَّهِ} وعظمته وقدرته ووحدانيته {وَالْيَوْمِ الآخِرِ} القيامة؛ وما فيها من عقوبة للعاصين، ومثوبة للطائعين {وَعَمِلَ صَالِحاً} في دنياه؛ تقرباً إلى مولاه وذلك لأن الإيمان لا ينفع ولا يجدي؛ ما لم يكن مقروناً بالعمل الصالح {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} أي فلهؤلاء المذكورين جزاءهم على إيمانهم

63

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} العهد عليكم بالعمل بما في التوراة {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} الجبل. قيل: لما جاء موسى عليه السلام لبني إسرائيل بالصحف المنزلة عليه من ربه: أمرهم بالعمل بما فيها؛ فقالوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} فرفع الله تعالى الجبل فوقهم؛ حتى صار كالظلة عليهم. فقال لهم موسى: إن لم تؤمنوا وقع عليكم وكنتم من الهالكين فآمنوا جميعاً ذعراً وخوفاً من الهلكة {خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} بجد واجتهاد {وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ} ائتمروا بأوامره، وانتهوا بنواهيه

64

{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن الإيمان

65

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} بصيد السمك فيه؛ وقد نهيناهم عنه. والمقصود بالسبت: يوم السبت؛ ومعناه لغة: الراحة؛ لأنه يوم راحتهم؛ وكانوا قد أمروا بالتفرغ فيه للعبادة؛ فخالفوا ذلك، وخرجوا للاصطياد {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً} أي كالقردة؛ في الخفة والحمق والفساد. أو مسخوا قردة على -[13]- الحقيقة {خَاسِئِينَ} مطرودين

66

{فَجَعَلْنَاهَا} أي جعلنا هذه العقوبة، أو هذه المسخة، أو هذه الآية {نَكَالاً} عبرة وعظة. يقال: نكل به تنكيلاً: إذا صنع به صنيعاً يحذر به غيره {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} أي لمعاصريهم ومن بعدهم، أو للسابقين واللاحقين

67

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} حين وجدوا قتيلاً من بينهم؛ ولم يعلموا قاتله فسألوه أن يدلهم عليه. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} وحكاية ذلك: أن رجلاً موسراً قتله بنو عمه ليرثوه، وطرحوه عند باب المدينة، ثم جاءوا يطالبون بديته؛ فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة، ويضربوا القتيل ببعضها؛ فيحيا ويخبرهم بقاتله. فضربوه بذنبها، فحي وقال: قتلني فلان وفلان - يريد ابني عمه - فاقتص منهما، وحرما ميراثه.

68

{فَارِضٌ} طاعنة في السن {عَوَانٌ} وسط في السن {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ}

69

{فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} شديد الصفرة

71

{لاَّ ذَلُولٌ} أي لم تذلل للعمل {مُسَلَّمَةٌ} سالمة من العيوب {لاَّ شِيَةَ فِيهَا} لا علامة

72

{فَادَّارَأْتُمْ} أصلها: فتدارأتم؛ أي تدافعتم في الخصومة، وتستر بعضكم وراء بعض {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ} مظهر {مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} من الجريمة

73

{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} أي اضربوا القتيل ببعض البقرة فيحيا، أو اضربوا القاتل ببعض جثة القتيل؛ وهذا يكون مدعاة لاعتراف القاتل {كَذَلِكَ} أي مثل إحياء القتيل أمامكم {يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} يوم القيامة؛ فتقوم، وتجادل، وتحاسب، وتثاب، وتعاقب؛ وعلى القول الثاني وهو ضرب القاتل ببعض جثة المقتول {يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} بظهور القاتل، والاقتصاص منه.

74

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} أيها اليهود {مِّن بَعْدِ ذلِكَ} أي من بعد أن أظهر الله تعالى ما كتمتموه في أنفسكم من القتل، وبعد أن أراكم كيف يحيي الموتى؛ ومن حق القلوب التي ترى ذلك أن تخضع وتلين؛ ولكن قلوبكم ازدادت قسوة {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} في الصلابة والجمود، وعدم الخشوع والفهم {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} من الحجارة. -[14]- {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} إشارة إلى أن من الحجارة ما هو أرق من القلوب القاسية، وأرقى من القلوب الكافرة {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي وإن من الحجارة لما يخشع ويخضع خوفاً منالله؛ قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً}

75

{أَفَتَطْمَعُونَ} أيها المؤمنون {أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} أي تؤمن لكم اليهود عن طريق النظر والاستدلال؟ وكيف يكون ذلك {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} أي من أسلافهم، ومن هم على شاكلتهم؛ وهم قوم موسى {يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ} في التوراة؛ ويعلمون تمام العلم أنه حق - بما ظهر لهم من الآيات المتتالية، والمعجزات المتوالية - {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} يغيرونه، ويبدلونه؛ متعمدين معاندين {مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} فهموه بعقولهم

76

{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوا آمَنَّا} بأنكم على الحق، وأن رسولكم هو المبشر به في التوراة {وَإِذَا خَلاَ} انفرد ورجع {بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُواْ} أي قال الذين لم ينافقوا ولم يؤمنوا للذين نافقوا بقولهم «آمنا» قالوا لهم: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} عرفكم في التوراة من نعت محمد {لِيُحَآجُّوكُم} ليقيموا عليكم الحجة

78

{وَمِنْهُمْ} أي من اليهود {أُمِّيُّونَ} لا يقرأون، ولا يكتبون {إِلاَّ أَمَانِيَّ} إلا أكاذيب. وقيل: «أماني»: قراءة. والمعنى: إنهم يقرأون بغير فهم، ولا علم، ولا تدبر

79

{فَوَيْلٌ} الويل: حلول الشر، وشدة العذاب {لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} التوراة {بِأَيْدِيهِمْ} مغيرين فيها ومبدلين؛ طبقاً لأهوائهم.

81

{بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} ارتكب جرماً، أو المراد بالسيئة: الشرك {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} أي لم يخرج من معصيته بالتوبة، ومن كفره بالإيمان {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} لقد أمر الديان، للوالدين بالإحسان، في كل وقت وزمان، وفي كل كتاب أنزله، وعلى لسان كل رسول أرسله؛ فتدبر هذا أيها المؤمن، وتقرب إلى ربك بطاعتهما وبرهما (انظر آية 23 من سورة الإسراء) {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} أي قولاً حسناً؛ وهو حث بليغ على طيب الأخلاق وحسن المعاملة. والقول الحسن: يجمع سائر الفضائل، وبه تنبعث المحبة من القلوب، وله تطمئن النفوس، وبه تختفي الإحن، وتذهب حزازات الصدور {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن الإيمان، والعمل بهذه الوصايا النافعة في الدنيا والآخرة

84

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} أي أخذنا العهد عليكم؛ بأن أمرناكم وعقلتم ما أمرناكم به، أو أمرناكم بما يجب أن يطاع، وبما فيه مصلحتكم؛ فكان ذلك بمثابة العقد والعهد والميثاق {لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ} أي لا ترتكبون من الجرائم ما يوجب سفكها قصاصاً {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} أي أقر عقلكم بذلك واستصوبه

85

{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي يقتل بعضكم بعضاً {تَظَاهَرُونَ} تتعاونون {بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} بالمعصية والظلم {وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى} أي تقبلوا إطلاقهم نظير أموال تدفع إليكم؛ وقد حرم عليكم أصلاً محاربتهم وإخراجهم من ديارهم {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} وبالتالي يحرم عليكم أخذ الفدية منهم؛ لأنهم إخوانكم {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ -[16]- الْكِتَابِ} التوراة {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} لأن فيها حل المفاداة، وحرمة القتل والإخراج {إِلاَّ خِزْيٌ} فضيحة وهوان

86

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} أي اشتروا اللذة الفانية، والشهوة الزائلة؛ بالثواب الباقي، والنعيم السرمدي

87

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة {وَقَفَّيْنَا} أتبعنا {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} الآيات الواضحات، والمعجزات الظاهرات {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} جبريل عليه السلام

88

{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} مغشاة بأغطية

89

{وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} القرآن الكريم {مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} موافق لكتابهم {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} يستنصرون {عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} المشركين - إذا قاتلوهم - ويقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، الذي نجد وصفه ونعته في كتابنا «التوراة» {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ} أي ما عرفوه في كتبهم؛ من بعثتهصلى الله عليه وسلّم {كَفَرُواْ بِهِ} فلم يؤمنوا؛ وقد كان الأجدر بهم أن يؤمنوا بما عرفوا. (انظر آية 14 من سورة الشورى)

90

{بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أي ساء ما اشتروا به أنفسهم، أو بئس الشيء الذي اشتروا به أنفسهم {أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللَّهُ} على رسوله {بَغْياً -[17]- أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي حسداً منهم: أن أنزل الله تعالى الكتاب على غيرهم {فَبَآءُو} رجعوا {بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} غضب استوجبوه بسبب كفرهم بمحمد عند بعثته، وغضب استحقوه بسبب جحودهم نبوته، وزعمهم بأنه ليس هو المنعوت في كتابهم، وحسدهم لمن بعث فيهم

91

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} على محمد؛ وهو القرآن الكريم {قَالُواْ} لا {نُؤْمِنُ} إلا {بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا} من التوراة والإنجيل {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ} بما بعده، وبما عداه؛ وهو القرآن {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} أي حال كون هذا القرآن - الذي يكفرون به - هو الحق، وهو مصدق لما معهم من التوراة والإنجيل {قُلْ} فإن كنتم صادقين فيما تقولون، وأنكم بغير الذي أنزل عليكم لا تؤمنون {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ} كزكريا ويحيى عليهما السلام

92

{وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} المعجزات الظاهرات {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} عبدتموه {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} لأنفسكم بكفركم

93

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} أخذنا العهد عليكم بأن تبينون الكتاب للناس ولا تكتمونه عنهم {وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} الجبل {خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم} من الأوامر والنواهي {بِقُوَّةٍ} بجد واجتهاد وعزيمة: {قَالُواْ سَمِعْنَا} قولك: {وَعَصَيْنَا} أمرك. أي قالوا بألسنتهم: «سمعنا» وعملوا بعكس ما يعمل السامع؛ كمن قال «عصينا» قال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} عبر بذلك كناية عن تغلغل حب العجل في قلوبهم وعبادته كتغلغل الشراب

94

{قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيما تقولون؛ من أن لكم الثواب في الآخرة، ولمن عداكم العقاب. وذلك لأن من تيقن أن النعيم أمامه: أسرع إليه، ومن تيقن أنه صائر إلى الجنة: اشتاق إلى ورودها؛ ليخلص من دار الآثام والآلام. ولكن قولهم ينافي فعلهم؛ إذ هم متمسكون بدنياهم، مفرطون في شؤون أخراهم

96

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ -[18]- عَلَى حَيَاةٍ} لما تراه من خوفهم وجبنهم؛ شأن المنزعج على مصيره، الخائف من عاقبته {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ} في الدنيا؛ ما دام الموت له بالمرصاد، والجحيم معدة له يوم المعاد

97

{قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} أي فإن جبريل الذي يعادونه: نزل القرآن على قلبك. وناهيك بمن نزل بالقرآن من الرحمن وقد نشأت عداوة اليهود لجبريل عليه السلام؛ حين علموا أنه ينزل بالعذاب والهلاك والدمار {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ما تقدمه من الكتب المنزلة

100

{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً} وهو موثقهم في التوراة بتبيين أحكامها للناس، وعدم إخفاء شيء منها

101

{فَرِيقٌ} طرحه وألقاه {فَرِيقٌ مِّنْهُم} وهم المنكرون لمحمد عليه الصلاة والسلام وبعثته، والقرآن ونزوله

102

{وَاتَّبَعُواْ} أي اليهود {مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ} من كتب السحر والشعوذة {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي في زمنه وعهده، أو حول ملكه وسلطانه؛ وكانوا يذيعون أن ملكه كان قائماً على السحر {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} كما ادعت اليهود؛ حيث قالوا: إن محمداً يخلط الحق بالباطل، ويذكر أن سليمان نبي؛ مع أنه كان ساحراً يركب الريح، وتأتمر الجن بأوامره {وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ} بتعليمهم الناس السحر {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} بالوسوسة؛ ويحتمل أن يعني بالشياطين: شياطين الإنس والجن معاً {وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى -[19]- الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} يحتمل أن يكون هناك ملكان حقيقة؛ أنزلهما الله تعالى لتعليم الناس السحر؛ لإظهار الفرق بين السحر والمعجزة؛ وليروا أن ملك سليمان، وما فيه من خوارق وعظمة وسلطان؛ لم يكن قائماً على سحر وتخيلات، بل على كرامات ومعجزات؛ وأنه عليه السلام لم يكن ساحراً ماكراً؛ بل كان رسولاً عظيماً، ونبياً كريماً؛ أمده الله تعالى بالملك الواسع، والغنى الجامع؛ تحقيقاً لرغبته، واستجابة لدعوته وإلا فأين السحر من تكليم الحيوان والحشرات والطير؟ وأين السحر من تسخير الهواء والماء، والجن والإنس؟ وقد ذهب بعضهم إلى أن «ما» نافية؛ في قوله تعالى: {وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} وقوله جل شأنه: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} أي لم ينزل على الملكين شيء من السحر، ولم يعلماه أحداً؛ كما ادعت اليهود أن هناك ملكين أنزل عليهما السحر، وأنهما يعلمانه للناس، وكما ادعوا على سليمان؛ فكذبهم الله تعالى في ذلك. و «بابل» قرية بالعراق {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} اسمان للملكين المزعومين؛ كما اسمتهما اليهود. وقيل: إنهما رجلان تعلماه من الشياطين، وجعلا يعلمانه للناس. وقيل: إنهما قبيلتان من قبائل الجن. وعلى قراءة من قرأ «ملكين» يكون المراد بهما: داود وسليمان {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} أي إنما نحن ابتلاء من الله تعالى واختبار؛ فلا تكفر بتعلم السحر والعمل به {فَيَتَعَلَّمُونَ} أي الناس {مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} وهي الأشياء التي يعملها بعض الفجار؛ مما يؤدي إلى التفرقة بين الزوجين بواسطة بعض التخييلات. ويلاحظ أن الرأي القائل بأن «ما» نافية لا يستقيم مع باقي الآية. وقيل: إن أهل بابل كانوا يعبدون الكواكب - بصرف السحرة لهم عن الحق - فأنزل الله تعالى هذين الملكين ليفضحا حيل السحرة، وليظهرا أمر السحر للناس على حقيقته، ويعلموهم أن ما يسيطرون به عليهم ليس إلا نوعاً من التمويه والتخييل، وكان الملكان يعلمان الناس حيل السحرة، ويحذرانهم أن يفعلوا مثله، لأنه كفر وضلال، ويقولان لهم: إنما نحن امتحان لكم، فلا تكفروا بما نعلمكموه؛ فإنما نعلمكم للتحذير من الوقوع في مثله، ولتستطيعوا أن تفرقوا بين السحر والمعجزة، وبين الحق والباطل. أما ما ذهب إليه أكثر المفسرين: من أن هاروت وماروت: ملكان؛ عصيا الله تعالى وزنيا، وقتلا النفس، وشربا الخمر؛ فعذبهما الله تعالى بأن علقهما من شعورهما في بئر ببابل؛ فجعلا يعلمان الناس السحر. إلى آخر ما أوردوه من أقاصيص من وضع الدساسين والزنادقة واليهود؛ وهو كلام لا يجوز نسبته بحال إلى الملائكة الكرام عليهم الصلاة والسلام؛ الذين قال الله تعالى فيهم: {وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ -[20]- عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} وقال جل شأنه واصفاً طاعتهم: {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} {خَلاَقٍ} نصيب

103

{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ} أي لكان ذلك ثواباً لهم

104

{رَاعِنَا} راقبنا؛ وهي بلغة اليهود: كلمة سب؛ من الرعونة {انْظُرْنَا} انتظرنا

106

{مَا نَنسَخْ} نبدل {أَوْ نُنسِهَا} من النسيان. وقرىء «أو ننسأها» أي نؤخرها {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} أي نأت بآية جديدة حاوية لحكم جديد، خير من الحكم المنسوخ. وقد ذهب كثير من العلماء والمفسرين إلى تقسيم المنسوخ إلى أقسام: منها ما نسخ حكمه ونسخت تلاوته، ومنها ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته، ومنها ما نسخت تلاوته وبقي حكمه. فإذا ما استساغ العقل منسوخ الحكم والتلاوة، ومنسوخ الحكم باقي التلاوة؛ فإن القسم الأخير لا يستساغ عقلاً؛ إذ كيف تنسخ التلاوة مع بقاء الحكم؟ ومن ذلك زعمهم أن القنوت في الصلاة من القرآن المنسوخ؛ في حين أن القنوت ورد بألفاظ شتى، وعبارات متباينة، وقد أخذ كل واحد من الأئمة بصيغة تخالف ما أخذه غيره. كما زعموا أيضاً أن «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم» من القرآن المنسوخ تلاوة الباقي حكماً. هذا مع أن الرجم لم ينزل به قرآن البتة؛ بل هو عن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه، وتشريع الرسول واجب حتماً كتشريع القرآن؛ لقوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} وقوله جل شأنه: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} وقوله عز وجل: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}. وأفحش هذه المزاعم: روايتهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان فيما يقرأ من القرآن «عشر رضعات معلومات يحرمن» وأن ذلك قد نسخ بقوله تعالى «خمس رضعات معلومات يحرمن» وأن النبي توفي وهي فيما يقرأ من القرآن. وأن الدواجن أكلتها بعد موت الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه وهذا الزعم يشهد بفساده وبطلانه: وعد القدير العظيم، بحفظ كتابه العزيز الكريم {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقد حفظه تعالى من شياطين الإنس والجن؛ فكيف بالدواجن، وضعاف الطير؟ {وَلِيُّ} محب يلي أموركم

108

{أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} أي كما سأل قوم موسى موسى بقولهم: {اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} وقوله: {أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً} {سَوَآءَ السَّبِيلِ} الطريق السوي

109

{حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} المراد بالحسد هنا: الأسف على الخير عند الغير (انظر آية 5 من سورة الفلق) -[21]- {فَاعْفُواْ} عنهم {وَاصْفَحُواْ} عن ذنوبهم {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} بالقتال، أو بنمو الإسلام بزيادة بنيه وقدرتهم على دفع عدوهم {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ} أي تجدوا ثوابه وجزاءه {هُوداً} أي من اليهود

111

{تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} آمالهم، أو تلك أقوالهم التي يدعونها

112

{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ} أخلص نفسهلله، وصدق في عبادته {وَهُوَ مُحْسِنٌ} لنياته وأعماله {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الدنيا {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} في الآخرة

113

{وَهُمْ} أي اليهود والنصارى {يَتْلُونَ الْكِتَابَ} التوراة لليهود، والإنجيل للنصارى؛ وفي التوراة: تصديق عيسى. وفي الإنجيل: تصديق موسى. وفي الكتابين: تصديق محمد. وفي القرآن: تصديق ما تقدمه من الكتب والرسل (انظر آية 157 من سورة الأعراف).

114

{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَآ} أي تعطيلها. ويدخل في ذلك: منع المصلين، وحبس المياه أو النور عن المساجد، أو تركها بغير إصلاح وتعمير؛ مع حاجتها إلى ذلك، والقدرة عليه. أو هو نهي عن ترك الصلاة وهجر المساجد {خِزْيٌ} فضيحة وهوان {فَثَمَّ} هناك

115

{وَاسِعٌ} أي واسع الرحمة؛ يسع فضله كل شيء

116

{وَقَالُواْ} أي النصارى {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} يعنون به المسيح عيسى ابن مريم {سُبْحَانَهُ} تنزيهاً له عن الولد والوالد {بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} خاضعون مطيعون. وهو إنكار لاتخاذ الله تعالى للولد بالدليل العقلي: لأن الإنسان لا يسعى للولد إلا رغبة في المساعدة والمعاونة؛ وكيف يحتاج تعالى لذلك و {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ومن فيهما: طائعين خاضعين

117

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} مبدعهما {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} هو تقريب لأفهامنا؛ والواقع أنه تعالى إذا أراد شيئاً كان؛ بغير افتقار للفظ «كن»

118

{لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} أي هلا يكلمنا الله {أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ} معجزة مما نقترحه. قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً}.

119

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} بالقرآن {بَشِيراً} مبشراً من أطاع بالثواب والجنة {وَنَذِيراً} منذراً من عصى بالعقاب والنار {وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} أي ولا نسألك عنهم: ما لهم لم يؤمنوا بعد أن أبلغتهم رسالة ربهم؟ {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} {وَلِيُّ} محب يلي أمرك، ويهمه شأنك

121

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} من اليهود والنصارى؛ وآمنوا به إيماناً حقيقياً {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} يفهمونه حق فهمه {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي بمحمد، أو بالقرآن، أو بكتابهم الذي هداهم إلى معرفة محمد وكتابه

123

{عَدْلٌ} بدل أو فدية

124

{ابْتَلَى} اختبر وامتحن {بِكَلِمَاتٍ} أوامر ونواه {فَأَتَمَّهُنَّ} فأداهن أحسن تأدية، وقام بهن خير قيام {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} أي رئيساً لهم؛ يأتمون بك في الدين، ويقتدون بك في الأعمال {قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي} أي واجعل من ذريتي أيضاً أئمة يقتدى بهم {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} المراد بالظلم هنا: الكفر أي لا تصيب الإمامة الكافرين من ذريتك. ويصح أن يراد بالظلم: الظلم نفسه لا الكفر؛ إذ أن ولاية الظلمة والفسقة لا تجوز؛ وكيف تجوز ولاية الظالم، لكف المظالم؟

125

{مَثَابَةً} مرجعاً؛ من ثاب: إذا رجع أو المعنى: موضع ثواب؛ يحجون إليه، فيثابون عليه {وَأَمْناً} يأمن من فيه على نفسه - في الجاهلية والإسلام - فقد كان الرجل يلقى فيه قاتل أبيه؛ فلا يستطيع أن يصعد النظر نحوه {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ -[23]- إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} موضع صلاة. وهو أمر بركعتي الطواف. روى جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين؛ وقرأ: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ومقام إبراهيم: هو الحرم كله، أو الحجر الذي قام عليه عند البناء؛ وفيه أثر قدمه، أو الموضع الذي كان فيه الحجر - حين قام عليه وأذن بالحج - وعن عمر رضي الله تعالى عنه: وافقت ربي في ثلاث. قلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر؛ فلو أمرتهن أن يحتجبن؛ فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله نساؤه - في الغيرة - فقلت لهن: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} فنزلت كذلك: {وَعَهِدْنَآ} أوصينا وأمرنا {وَالْعَاكِفِينَ} المقيمين

126

{وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} وقد أجاب الله دعوة إبراهيم عليه السلام؛ فحملت الثمار من سائر الأقطار إلى الحرم؛ قبل أن يتذوقها زارعوها وحاملوها؛ وقد تجد بين أيديهم فاكهة الصيف في الشتاء؛ وفاكهة الشتاء في الصيف؛ وقد رأيت بعيني رأسي أرقى ثمار العالم تحمل إليه بالطائرات عبر البحار والمحيطات، فعجبت - حيث لا عجب - لماذا يحمل كل ذلك لهذه البلدة الخاوية إلا من الدين، الخالية إلا من المؤمنين؟ فتذكرت دعوة إبراهيم، فتبارك السميع العليم {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فقد كان دعاؤه عليه السلام قاصراً على من آمن منهم فحسب؛ ولذا قال تعالى: {وَمَن كَفَرَ} أي وسأرزق أيضاً من كفر {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} في الدنيا {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} ألجئه

127

{الْقَوَاعِدَ} الأسس والجدر {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} أي قالا: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} ما نفعل في سبيلك؛ من بناء بيتك، وإعلاء دينك لقولنا ودعائنا {الْعَلِيمُ} بإخلاصنا وصدق نياتنا

128

{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ} مخلصين {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} عرفنا عباداتنا {وَتُبْ عَلَيْنَآ} أي اقبل توبتنا، ورجوعنا إليك، وإنابتنا لك وإذا كان هذا حال إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام؛ وهما من كبار الأنبياء، وخيرة الأصفياء؛ فكيف بنا معشر العصاة الطغاة - وقد ارتكبنا ما ارتكبنا، وأتينا ما أتينا - فلم نتدبر المآب، ولم نفكر في المتاب؛ كأنما أخذنا عند الله عهداً بعدم العذاب، أو كأن ما فعلناه لا يستوجب العقاب

129

{وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} أي من ذرية إبراهيم عليه السلام؛ وهو خاتم الأنبياء محمد عليه الصَّلاة والسَّلام. قال: «أنا دعوة أبي إبراهيم» {وَيُزَكِّيهِمْ} يطهرهم من الشرك، ومن دنس المعصية

130

{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} رغب عن الشيء: -[24]- لم يرده؛ ضد رغب فيه إذا أراده {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} حملها على السفه، أو أهلكها {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ} اخترناه.

131

{أَسْلِمْ} استسلم

132

{وَوَصَّى بِهَآ} أي بالملة؛ وهي الإسلام {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} أي اختاره ورضيه {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} المعنى حافظوا على دينكم، وتقربوا إلى ربكم؛ حتى لا تموتن إلا وأنتم ثابتون على الإسلام

133

{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ} مشاهدين وحاضرين {مُّسْلِمُونَ} مطيعون ومنقادون

134

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} قد مضت وهو خطاب لأهل الكتاب من اليهود والنصارى. أي إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وذراريهم من المؤمنين {أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} والأمة: الجماعة {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} أي عليها إثم ما اقترفت من الذنوب، وثواب ما عملت من الصالحات، وعليكم إثم ما جنيتم من الآثام، وأجر ما عملتم من الحسنات

135

{وَقَالُواْ} أي اليهود والنصارى للمؤمنين {كُونُواْ هُوداً} يهود {قُلْ} لهم: لن أتحول عن ديني الذي هداني إليه ربي؛ ولن أكون يهودياً أو نصرانياً {بَلْ مِلَّةَ} أبي {إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} مستقيماً {وَمَا كَانَ} إبراهيم {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بل كان عابداًلله قانتاً

136

{وَالأَسْبَاطَ} حفدة يعقوب: ذراري أبنائه

137

{وَّإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} في خلاف ومعاداة

138

{صِبْغَةَ اللَّهِ} دينه

139

{قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا} أتجادلوننا {وَلَنَآ أَعْمَالُنَا} أي جزاء أعمالنا وثوابها {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} إثمها وعذابها {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} في الحب، والعبادة والإخلاص: لب كل خير، وأساس كل نفع؛ فبغيره لا يصل الإنسان إلى ربه، ولا يهنأ بقربه؛ فالدنيا كلها ظلمات إلا موضع العلم، والعلم كله هباء إلا موضع العمل، والعمل كله هباء، إلا موضع الإخلاص. والإخلاص لا يكون باللسان؛ بل بالجنان، ولا يكتسب بالركوع والسجود؛ بل بالاتجاه إلى الرب المعبود فاحرص - هديت وكفيت - على الإخلاص؛ فهو باب النجاة والخلاص

140

{وَالأَسْبَاطَ} حفدة يعقوب عليه السلام: ذراري أبنائه {وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً} أخفاها ولم يبدها

141

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} قد مضت {لَهَا مَا كَسَبَتْ} جزاء ما عملت {وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} جزاء ما عملتم {وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ولا تؤاخذون بكفرهم وطغيانهم {كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ}

142

{سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ} الجهال منهم {مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا} أي ما صرفهم عن قبلتهم التي كانوا يصلون نحوها؛ وقد كان المؤمنون - في بدء الإسلام - يصلون نحو بيت المقدس؛ حتى نزل قول العزيز الكريم:

144

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} {قُل للَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} أي له الكون أجمع بسائر جهاته {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}

143

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أي متوسطين بين الغلو والتفريط. ووسط كل شيء: أعدله. والطريقة الوسطى: المثلى. قال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أي أعدلهم حكماً، وأصوبهم رأياً -[26]- {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ} وهي بيت المقدس {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} فيما يذكره عن ربه؛ من تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة {مِمَّن يَنقَلِبُ} يرجع {عَلَى عَقِبَيْهِ} أي يعود إلى الكفر الذي كان فيه {وَإِن كَانَتْ} التولية عن القبلة {لَكَبِيرَةٌ} شاقة صعبة؛ لأن كل تغيير في أمر من الأمور - خاصة إذا كان هذا الأمر جديداً في أوله: كالإسلام، وكان هاماً: كقبلة الصلاة - فإنه يكون صعباً وشاقاً على النفوس {إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} وفقهم للإيمان، وهداهم للتصديق {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي صلاتكم إلى القبلة الأولى. ولا يخفى ما في التعبير عن الصلاة بالإيمان: من تعظيم لشأنها، وإعلاء لقدرها؛ وأن من تمسك بأدائها، وحافظ على أوقاتها؛ فقد تمسك بالإيمان كله كيف لا وهي الناهية عن الفحشاء والمنكر: {اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} وهي فوق ذلك مذهبة الهموم، ومفرجة الكروب «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} جهته {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} اليهود والنصارى {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} أي ليعلمون أن تحويل القبلة هو الحق؛ لأنه معلوم عندهم، مدون في كتبهم

145

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} من اليهود والنصارى {بِكُلِّ آيَةٍ} بكل معجزة يقترحونها، وبرهان يطلبونه {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} لإصرارهم على الكفر والعناد {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} علم الله تعالى أن رسوله صلوات الله تعالى وسلامه عليه ليس بتابع قبلتهم، ولا بمتبع أهواءهم؛ ولكنه خطاب موجه لسواد الأمة الإسلامية، ونهي لكل من يؤمن ب الله واليوم الآخر؛ عن اتباع الأشرار والفجار، واتخاذهم أولياء. وهو كنهي الملك لقائده، وتهديده أمام جنده؛ بقصد حثهم على الاستقامة؛ وتحفيزهم على الطاعة. وكل ما جاء في الكتاب الكريم من الآيات بهذا المعنى؛ فهو لهذا المرمى

146

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} اليهود والنصارى {يَعْرِفُونَهُ} أي يعرفون النبي. قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} (انظر آية 157 من سورة الأعراف). -[27]- {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} أي ينكرون معرفة الرسول عليه الصلاة والسَّلام؛ الذي هو حق معروف ثابت في كتبهم {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الشاكين

148

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} أي ولكلَ قبلة يتجه إليها. أو لكل فريق طريقه هو متبعها {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} أي حيث إن الله تعالى قادر على الإتيان بكم جميعاً، ومحاسبتكم عما ضيعتموه، ومعاقبتكم على ما اقترفتموه؛ فسابقوا إلى الخيرات والحسنات؛ ليحل الثواب مكان العقاب، والرحمة مكان النقمة، والنعيم مكان الجحيم

150

{شَطْرَهُ} جهته {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ} اليهود والنصارى والمشركين {حُجَّةٌ} يجادلونكم بها؛ وذلك لأن اليهود تعلم أن النبي المنعوت في التوراة تكون قبلته الكعبة لا بيت المقدس {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} من أهل الكتاب؛ الذين قالوا: ما تحول إلى الكعبة إلا رغبة في دين قومه؛ ويوشك أن يرجع إلى ملتهم

151

{وَيُزَكِّيكُمْ} يطهركم من الكفر والمعاصي {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} أي يعلمكم ما لا سبيل إلى علمه ومعرفته؛ إلا بالوحي الإلهي الدال على نبوته عليه الصلاة والسلام بالطاعة

152

{أَذْكُرْكُمْ} بثوابها، وبالتوفيق إلى أمثالها {وَاشْكُرُواْ لِي} ما أنعمت به عليكم. والشكر قسمان: قسم بالأقوال، وقسم بالأفعال. والقول إن لم يصحبه فعل يدل على صدقه؛ فلا فائدة منه، ولا طائل وراءه. ورب شاكر باللسان ورب العزة عليه غضبان أما إذا صاحب القول الفعل؛ فقد ازداد الشاكر سعة ونعمة، ومن الله حباً وقرباً وشكر المال: إنفاقه في سبيل الله تعالى وابتغاء مرضاته، وإخراج زكاته. وشكر البصر: غضه عن المحارم. وشكر السمع: ألا يسمع به غيبة أو لغواً. وشكر القوة: نصرة المظلوم، والكف عن الأذى، وبذلها في الجهاد والدفاع عن الدين والوطن

153

{يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ} على قضاء حوائجكم الدنيوية والأخروية {بِالصَّبْرِ} على الطاعة، وعن المعصية، وعلى الأمور الشاقة {والصَّلاَةِ} وكيف لا يستعان بها؛ وهي مرضاة رب العالمين، ومناجاة أكرم الأكرمين؛ ومفرجة كرب المكروبين «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة»

155

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} لنختبرنكم {بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ} من العدو {وَالْجُوعِ} القحط {وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ} بالفقر وتقدير الرزق {وَالأَنفُسِ} بالموت والأمراض {وَالثَّمَرَاتِ} بالحوائج والآفات الزراعية بذلك لننظر أتصبرون أم تكفرون

156

{الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ} ملكاً وخلقاً وعبيداً {وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ} فيجزينا أجر ما أصابنا عن النبي: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إن الله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها؛ إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها» وقد ورد عن أم المؤمنين أم سلمةرضي الله تعالى عنها؛ أنه لما توفي زوجها أبو سلمة رضي الله تعالى عنه: قالت - في نفسها ـ: ومن خير من أبي سلمة؟ رجل شهد المشاهد مع رسولالله، وفاز بصحبته، وحظي بمحبته؛ ولكنها استرجعت، ودعت الله كما جاء في الحديث: فخطبها رسولالله؛ فكان نعم الخلف وعنه أيضاً «ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا همّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفر الله بها من خطاياه»

157

{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} الصلاة من الله تعالى: المغفرة

158

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} هما جبلان بمكة شرفها الله تعالى {مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ} أعلام مناسكه {اعْتَمَرَ} زار {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ} لا حرج، ولا إثم عليه {أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أي بالصفا والمروة؛ بأن يسعى بينهما سبعاً {وَمَن تَطَوَّعَ} زاد على ذلك {خَيْراً} أي بخير؛ بأن أراد زيادة التقرب إلى الله تعالى بالنوافل {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ} له ما زاد، مجاز عليه {عَلِيمٌ} بظواهره وسرائره

160

{أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أغفر لهم {يُنْظَرُونَ} يمهلون ويؤجلون

164

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} وما فيها من كواكب وأنجم، وأفلاك وأملاك في خلق {الأرْضِ} وما فيها من مخلوقات ونباتات، وأشجار وأنهار في {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي} بالذهاب والمجيء، والزيادة والنقصان في {الْفُلْكِ} السفن {الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} بأمر الله تعالى ونعمته {بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} من التجارات، والانتقال بواسطتها من بلد إلى آخر {وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} بعد جدبها {وَبَثَّ} فرق ونشر {فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} وهي كل ما يدب على وجه الأرض؛ من إنسان وحيوان ونحوهما في {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} تقليبها جنوباً وشمالاً، باردة وحارة؛ بما ينفع الناس والمخلوقات، والزرع والضرع في {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ} بأمر الله تعالى وقدرته {بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ} إن في جميع ذلك {لآيَاتٍ} دلالات واضحات على وحدانية القادر الحكيم {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يتدبرون هذه الآيات، ويفهمون هذه الدلالات

165

{وَمِنَ النَّاسِ} أي ممن لا يعقلون، ولا يفهمون، ولا يتدبرون {مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {أَندَاداً} شركاء وأمثالاً {وَلَوْ يَرَى} ولو يعلم {الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أنفسهم بالكفر واتخاذ الأنداد {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} يوم القيامة؛ وقد كانوا يكذبون به في الدنيا {أَنَّ الْقُوَّةَ} والقدرة والبطش {للَّهِ جَمِيعاً} له وحده؛ لا للأنداد التي كانوا يعبدونها

166

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ -[30]- اتُّبِعُواْ} أي تبرأ الأنداد التي كانوا يعبدونها، والكهان والرهبان الذين كانوا يطيعونهم، والسادة والرؤساء الذين كانوا يتبعونهم، وكل من دعا إلى عبادة غير الله تعالى؛ يتبرأ هؤلاء جميعاً {مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ} أي الذين اتبعوهم على الكفر؛ وهم فقراء الكفار والمشركين وأراذلهم. يقول السادة والرؤساء يومئذٍ: لا نعرفهم، ولم نقل لهم: اعبدونا أو اتبعونا {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} أي أسباب المودة؛ من قرابة وصداقة ولم يبق لهم نصراء

167

{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي لو أن لنا رجعة إلى الدنيا {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} أي من رؤساء الأديان؛ الذين دعونا للكفر في الدنيا، وتبرأوا منا في الآخرة

168

{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي لا تطيعوا وسوسته لكم بترك الحسنات، وفعل السيئات. ويدخل في ذلك شياطين الإنس أيضاً؛ فمنهم من هو أشد فتكاً، وأبلغ نكاية من شياطين الجن (انظر آية 112 من سورة الأنعام)

170

{مَآ أَلْفَيْنَا} ما وجدنا {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} أي أولو كان آباؤهم جهالاً؛ لا يفقهون، ومجانين لا يعون؛ فهم لهم متبعون؟ فمثلهم

171

{كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} يصيح {بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً} أي صوتاً يسمعه ولا يفهم معناه؛ كالبهائم تسمع صوت راعيها ولا تفهمه {صُمٌّ} عن سماع الحق {بِكُمُ} عن النطق به {عُمْيٌ} عن رؤيته

172

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي من الرزق الحلال؛ ومتى كان الأكل حلالاً: كان العمل صالحاً ومتقبلاً وإذا شاب الحرام الرزق أو أحاطت به شبهات الكسب: فترت الهمة، ووهنت العزيمة؛ ولم يتقبل الله تعالى من عبده العبادات والطاعات، وردت عليه دعوته؛ واكتنفه الذل مع عزته، والفقر مع غناه، وخسر دنياه وأخراه؛ فليحذر المؤمن الشبهات في سائر الحالات؛ خاصة في طعامه وشرابه (انظر آية 58 من سورة الأعراف) {وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فالشكر من لوازم العبادة؛ وغير الشاكر: لا يكون عابداً، ولو ظل طول دهره ساجداً. (انظر آية 152 من هذه السورة)

173

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} المسفوح {وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} نهانا تعالى عن لحم الخنزير؛ لما فيه من شر وضر؛ فقد ثبت أنه يحمل ميكروبات شتى تسبب أمراضاً يعسر شفاؤها ويعز دواؤها وهذه الآية من أهم ما حرص عليه الطب الوقائي: ففي الميتة ملايين الميكروبات التعفنية والرمية، كما أن الدم هو حامل الميكروب إلى سائر الجسم؛ وقد لجأ الطب أخيراً - حينما اكتشف ذلك - إلى تحليل جزء منه فيتضح له كل ما في الجسم من أمراض؛ وهو في هذه الحال من أسرع وسائل العدوى، ولحم الخنزير: مباءة لكثير من الميكروبات، وهو العائل الأصلي للدودة الشريطية -[31]- {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} أي ما ذبح للأصنام، أو ذكر عليه اسم غير اسمه تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ} أي ألجأته الضرورة إلى أكل شيء من ذلك المحرم؛ بسبب مجاعة مهلكة أشرف فيها على التلف؛ فله أن يأكل على ألا يتناول منه سوى القدر الذي يحفظ عليه حياته {غَيْرَ بَاغٍ} على أحد؛ كأن يختطف ما يسد رمقه من إنسان آخر؛ ليس له ما يسد رمقه سوى ما اختطفه منه. أو «غير باغ» على جماعة المسلمين وخارج عليهم {وَلاَ عَادٍ} معتد عليهم بقطع الطريق؛ فألجأه ذلك إلى الجوع المهلك المتلف؛ فليس له أن يستمتع بهذه الرخصة

174

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} وهم اليهود والنصارى؛ كتموا نعت محمد عليه الصَّلاة والسلام؛ وهو موصوف عندهم في التوراة والإنجيل {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} أي بذلك الكتمان {ثَمَناً قَلِيلاً} هو ما يأخذه أحبارهم ورهبانهم {وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} لا يطهرهم. والمعنى: لا يغفر لهم

175

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ} الكفر والمعصية {بِالْهُدَى} بالإيمان والطاعة {وَالْعَذَابَ} الذي ينالهم؛ عقوبة على ضلالهم وكفرهم {بِالْمَغْفِرَةِ} التي تنال المؤمنين المهتدين؛ جزاء إيمانهم وطاعتهم ومن عجب أن ينصرف كثير من الناس عن إرضاء مولاهم؛ إلى الحرص على دنياهم وينصرف آخرون إلى إرضاء المخلوقين، وإغضاب رب العالمين؛ قال الشاعر: عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى وللمشتري دنياه بالدين: أعجب وأعجب من هذين: من باع دينه بدنيا سواه: فهو من ذين أخيب {شِقَاقٍ} خصام وجدال وخلاف {بَعِيدٍ} كبير

177

{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} في الصلاة {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} ب الله إيماناً حقيقياً {وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي وآمن بالقيامة وما فيها من بعث وحساب، ونعيم وعذاب {وَالْكِتَابِ} أي وآمن بالكتاب؛ وهو اسم جنس. أي آمن بسائر الكتب المنزلة {وَآتَى الْمَالَ} أعطاه وبذله {عَلَى حُبِّهِ} أي رغم حبه للمال، وحاجته إليه، وافتقاره له؛ لأن مقتضى الحب: الحاجة إلى المحبوب، والتشوق إليه. وقيل: في سبيل حبه تعالى، ورغبة في إرضائه جل شأنه والمراد: أن يعطي المال وهو طيب النفس بإعطائه (انظر آية 32 من سورة الزخرف) {وَابْنَ السَّبِيلِ} المسافر المنقطع {وَفِي الرِّقَابِ} أي إعتاق العبيد، وفك الأسرى. والرق معروف - من أقدم العصور - قبل الإسلام؛ فقد عرف في مصر الفرعونية، وفي دولة آشور، ودول فارس، والدولة الرومانية والبيزنطية؛ ولم يكن الإسلام مؤسساً للرق وموجداً له - كما يزعم الكثيرون - بل كان داعياً إلى التخلص منه والقضاء عليه؛ لما يكتنفه من المباهاة والمفاخرة وإذلال الغير. وحين بزغ قمر السلام، ولاح فجر الإسلام، وسطعت -[32]- أنوار الحرية: سعى الدين إلى رفع الذل والعبودية عن الأرقاء؛ فجعل من العتق قربة إلى الله تعالى ومنجاة من العذاب، وكفارة من الإثم فدعا بذلك إلى حرية الجنس الإنساني، وقدسية الآدمية (انظر آية 92 من سورة النساء). {الْبَأْسَآءِ} الفقر {والضَّرَّاءِ} المرض {وَحِينَ الْبَأْسِ} وقت اشتداد القتال

178

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ} فرض {عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} وهو الأخذ بالمثل في العقوبة: كقتل القاتل {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} فلا يقتل حر بعبد {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ويقتل بالحر أيضاً {وَالأُنثَى بِالأُنْثَى} وتقتل بالذكر، كما يقتل الذكر بها. و «القصاص»: يقتضي المماثلة في الدين؛ فلا يقتل مسلم - ولو عبداً - بكافر - ولو كان حراً - {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} أي ولي المقتول؛ بأن ترك المطالبة بالقصاص واكتفى بالدية {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} أي حيث إن ولي المقتول عفى عن قتل القاتل، وقبل الدية منه فليتبع ذلك بالمعروف، وليؤد إليه الدية بإحسان من غير مطل ولا ضرار {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ} بأن جاوز هذا الشرط؛ كأن لم يدفع القاتل الدية كاملة لولي المقتول، أو أن يقتل ولي المقتول القاتل بعد قبوله الدية

179

{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يأُولِي الأَلْبَابِ} إقرأ هذه الآية - أيها المنصف الحكيم - وكرر قراءتها، وتبين معانيها ومراميها، وتفهمها جلياً، وتأملها ملياً؛ وانظر إلى بلاغة القرآن وإيجاز القرآن وإعجازه: يقول الله تعالى: إن لكم في الموت حياة. لأن القصاص: هو القتل ولنا في هذا القتل حياة ولو لم يكن القصاص: لما بقي على ظهرها إنسان: إن النفوس التي جبلت على الشر، وروضت عليه لو علمت أنه لا يوجد حاكم يحكمها، ولا رادع يردعها، ولا ولي يأخذ لضعيفها من قويها، ولفقيرها من غنيها؛ لقتل الأشرار الأخيار، وأكل الناس بعضهم بعضاً وقد صدقالله: فإن لنا في القصاص لحياة وأي حياة

180

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ} فرض عليكم {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي حضرت أسبابه، وأحس المريض بدنو أجله ولم يبق له سوى صالح عمله {إِن تَرَكَ خَيْراً} أي مالاً كثيراً {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} الذين لا يرثونه {بِالْمَعْرُوفِ} الذي أذن فيه الله تعالى وأجازه في الوصية؛ مما لم يجاوز الثلث، ولم يتعمد فيه ظلم ورثته. وقيل: إن هذه الآية نسخت بآية المواريث في سورة النساء

181

{فَمَن بَدَّلَهُ} أي غير الإيصاء - من الورثة، أو الشهود - عن وجهه الذي أراده الموصي {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ} إثم هذا التبديل {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} لا على الموصي؛ الذي أبرأ ذمته، وأرضى ربه

182

{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً} جوراً وميلاً عن الحق {أَوْ إِثْماً} بألا يوصي لوالديه؛ بغضاً لهما، أو لا يوصي للأقربين؛ مع فقرهم وحاجتهم، أو يوصي بأكثر مما أجازه الله تعالى -[33]- في الوصية؛ متعمداً لحوق الضرر بالورثة {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} بين الموصي وورثته، أو بينه وبين من تجب عليه الوصية لهم

183

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ} فرض {عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} فقد كان الصوم مفروضاً على من تقدمنا من الأمم {لَعَلَّكُمْ} بسبب هذا الصيام {تَتَّقُونَ} الله تعالى، وتخشون غضبه، وتعملون بأوامره؛ ومن هذا يعلم أن الصيام يبعث على الإيمان الصادق، ويرقق القلب، ويصفي النفس، ويعين على خشية الله تعالى؛ ولذا استعان به الأنبياء في تحقيق مآربهم، والأولياء في تهذيب نفوسهم، والخاصة في شفاء قلوبهم، والعامة في شفاء جسومهم

184

{أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} أي قلائل {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} يتحملونه بجهد ومشقة؛ وهو رخصة لمن يتعبه الصوم ويجهده (انظر آية 226 من هذه السورة) {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً} زاد في الإطعام، أو زاد في الصيام؛ تطوعاً منه فوق ما فرض عليه من الإطعام والصيام {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} وفي هذا ما فيه من الحث على الإطعام، والترغيب في الصيام. ومنه يعلم ما في الصيام من فوائد جمة لا تدركها العقول؛ فإنه فضلاً عن كونه مرضات للرب، ومطهرة للنفس؛ فقد ثبت أنه علاج ناجع لكثير من الأمراض المستعصية؛ وقد يكون العلاج الوحيد لضغط الدم، وقد أجمع الأطباء على فائدته الكبيرة لمرضى السكر؛ يدل على ما تقدم قوله تعالى {وَأَن تَصُومُواْ} حال المرض والسفر {خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ما فيه مصالحكم

185

{وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى} آيات الكتاب الكريم {وَالْفُرْقَانِ} الذي يفرق بين الحق والباطل {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ} أي حضره؛ ولم يكن مسافراً، ولا مريضاً {فَلْيَصُمْهُ} وليس معنى الشهود: الرؤية والمشاهدة {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ} أي عدة الشهر؛ ليتساوى صائم الشهر كاملاً، مع من قضى ما فاته لعذر

186

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} أين ربنا؟ وهل يسمع لدعائنا، ويستجيب لندائنا؟ {فَإِنِّي قَرِيبٌ} منهم؛ أسمع نجواهم وشكواهم، و {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ورب قائل يقول: إنني أسأله في كل يوم فلا يعطيني، وأناديه في كل ساعة فلا يجيبني. والجواب على هذا القائل: إنك أيها السائل لم تسأل ربك بل امتحنته، ولم تناده بل سخرت منه؛ ولو أنك ناديته بحق لأجابك، وسألته بصدق لاستجاب لك إن من شرائط السؤال - أيها الممتحن لربه، الساخر بقدرته - أن تتيقن بإجابته تيقنك بوجودك، وأن تثق بما عنده وثوقك بنفسك: تسأل صديقك - الذليل الحقير الضعيف الفقير - أن يعطيك شيئاً؛ وأنت على تمام الوثوق، ومزيد اليقين بإجابة سؤالك، وتدعو ربك - المعطي المانع، الضار النافع - أن يهبك أحقر الأشياء؛ وأنت من الإجابة آيس، ومن عطائه قانط فما ترجوه بعد هذا الكفران؟ تؤمن -[34]- بصديقك أكثر ما تؤمن بربك، وترجو إجابة سؤالك ودعائك؛ هيهات هيهات أن يجاب لك؛ قبل أن تحسن ظنك به، وتثق بما عنده، وتعبده كأنك تراه، وتخشاه كأنه يراك (انظر آية 60 من سورة غافر) {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} إذا دعوتهم لما يصلحهم وينجيهم؛ لأجيبهم فيما يطلبونه مني ومن هذا يعلم أن الإيمان والعمل الصالح: شرط في قبول الدعاء {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} يصيبون الرشد والسداد، ويوفقون لما يجعلهم مجابي الدعاء، عظيمي الرجاء

187

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} أي كل ليلة صيام؛ لا الليلة الأولى من رمضان؛ كما يتوهمه بعض العامة {الرَّفَثُ} الجماع {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} أي كلاكما ستر للآخر عن الحرام، أو شبههما تعالى باللباس: لاعتناقهما، واشتمال كل واحد منهما على صاحبه، أو هو بيان لسبب الإحلال: فإن الذي بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة: قل صبركم عنهن، وصعب عليكم اجتنابهن؛ فلذا رخص لكم في مباشرتهن {تَخْتانُونَ} أن تخونون {أَنْفُسُكُمْ} وتظلمونها بالجماع، أو تنقصونها حظها من الثواب {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} غفر ما سلف منكم {وَعَفَا عَنْكُمْ} بإحلال ما كان محظوراً عليكم {أَلَّن} بعد الإحلال {بَاشِرُوهُنَّ} جامعوهن {الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} الفجر {مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} الليل {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ} لا تجامعوهن {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} مقيمون ومعتكفون {فِي الْمَسَاجِدِ} للتعبد والصلاة

188

{وَتُدْلُواْ} تلقوا {بِهَآ} بالأموال {إِلَى الْحُكَّامِ} على سبيل الرشوة. وهذا مشاهد؛ يفعله بعض ضعافي النفوس عديمو الضمائر: فيرشون أمثالهم - ممن لا خلاق لهم - ليقتطعوا بذلك مال إخوانهم {بِالإِثْمِ} بالباطل والظلم فليحذر هذا وليتجنبه من يؤمن ب الله ويخشاه، وليخف يوماً إذا طولب فيه بالوفاء: عجز عن الأداء

189

{وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} هو كناية عن وجوب مباشرة الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها. وقيل: كانوا يأتون بيوتهم - في الإحرام - من نقب ينقبونه في ظهرها؛ زاعمين أن ذلك من البر

190

{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} أي قاتلوا الذين يبدأونكم بالقتال، أو قاتلوا الرجال الذين يقاتلونكم فحسب؛ ولا تقاتلوا الشيوخ والنساء والصبيان {وَلاَ تَعْتَدُواْ} بالابتداء بالقتال، أو بقتال الذين لم يقاتلوكم

191

{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم} حيث وجدتموهم {وَأَخْرِجُوهُمْ} والمراد بذلك المشركين {مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي من مكة؛ لأنهم أخرجوا المسلمين منها {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} «الفتنة»: عذاب القيامة، أو الإخراج من مكة، أو الشرك

192

{فَإِنِ انتَهَوْاْ} عن الشرك {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لهم ما تقدم من كفرهم {رَّحِيمٌ} بهم؛ فلا يعذبهم بما فعلوه حال كفرهم. والإيمان يجبُّ ما قبله

193

{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} لا يكون شرك، ولا يكون إيذاء {فَإِنِ انتَهَوْاْ} عن الشرك والقتال {فَلاَ عُدْوَانَ} أي لا يصح القتال والاعتداء {إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} الكافرين؛ وقد انتهوا عن القتال وأسلموا

194

{الشَّهْرُ الْحَرَامُ} في الحرمة والتقديس والأمن وعدم القتال {بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} أي مقابلاً له. والأشهر الحرام: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب. فإذا قاتلكم المشركون في شهر منها؛ فلا تضعوا أيديكم على صدوركم، وتتحرجوا من قتالهم في مثلها وتقولوا: لا نقاتل في الأشهر الحرم؛ فقد حرم الله تعالى فيها القتال والاعتداء. بل قاتلوهم فيها كما قاتلوكم {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} فكما انتهكوا حرمة الأشهر الحرم؛ جاز لكم أن تقتصوا بمثلها. يؤكده قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} في الأشهر الحرم {فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فيها. وليس معنى ذلك: أن من يقتل ولدي أقتل ولده، ومن يسمم بهيمتي أسمم بهيمته؛ إذ ما ذنب الولد حتى يعاقب بما جناه أبوه وما ذنب البهيمة حتى تعاقب بما جناه صاحبها؟ بل يجب أن تقع المماثلة في العقاب على نفس المجرم جزاء ما جنت يداه

195

{وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} بعدم الإنفاق في سبيل الله تعالى، والاستعداد للجهاد؛ فيقوى عدوكم، وتضمحل قوتكم وفي هذا ما فيه من الذل المؤبد، والهلاك المحقق. وقيل: «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» بأن تعرضوها للموت المحتم، أو بإنفاق سائر مالكم فتعرضون أنفسكم وعيالكم للفقر والتلف والضياع {وَأَحْسِنُواْ} الظن ب الله تعالى في النصر والإخلاف أو أحسنوا أعمالكم ونياتكم

196

{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أي حوصرتم من الأعداء، ومنعتم من الحج {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ما تيسر منه. و «الهدي» الإبل المهداة للحرم -[36]- {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً} مرضاً يضطره إلى ترك شيء من المناسك {أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} كبثور، أو قمل، أو نحوهما؛ مما يلجئه إلى حلق رأسه وهو محرم {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ} يصوم ثلاثة أيام {أَوْ صَدَقَةٍ} يتصدق بها؛ وهي ثلاثة آصع. والصاع: أربع أمداد. والمد: ملء كف الرجل المعتدل {أَوْ نُسُكٍ} ذبح شاة. عن هادي الأمة صلوات الله تعالى وسلامه عليه، أنه قال لكعببن عجرة: «لعلك آذاك هوامك؟» قال: نعم يا رسولالله. قال: «احلق وصم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق على ستة مساكين، أو أنسك شاة» والفرق: ثلاثة آصع {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} الإحصار وكنتم في حال سعة وأمن {فَمَن تَمَتَّعَ} حل من إحرامه، واستباح ما كان محظوراً عليه {بِالْعُمْرَةِ} وفاته الحج بسبب إحصاره. والعمرة: زيارة البيت الحرام؛ مع الطواف والسعي بالإحرام {إِلَى} وقت {الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي فعليه دم بسبب تمتعه بمحظورات الإحرام {إِذَا رَجَعْتُمْ} أي من الحج {ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي لم يكن من مستوطني مكة

197

{فَلاَ رَفَثَ} الرفث: الجماع، أو الفحش في القول {وَلاَ فُسُوقَ} الفسوق: الفجور، والترك لأمر الله تعالى {وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} أي لا مجادلة، ولا مخاصمة أثناء الحج. وذلك لأن الحج عبادة روحية تستدعي الصفاء وتفرغ النفس لعبادة ربها وحده، والبعد عن مواطن الخطأ والزلل {وَتَزَوَّدُواْ} لآخرتكم؛ بالعبادة والعمل الصالح والإخلاص

198

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} أي لا حرج عليكم إن ابتغيتم - مع الحج - التجارة والتكسب {فَإِذَآ أَفَضْتُم} رجعتم {مِّنْ عَرَفَاتٍ} جبل معروف بمكة {الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} جبل يقف عليه الإمام، واسمه «القزح»

199

{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} أي ارجعوا من حيث رجعوا؛ وهو أمر لقريش خاصة، وقد كانوا يقفون بالمزدلفة ترفعاً عن الوقوف مع باقي المؤمنين بعرفة

200

{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ} أديتم عباداتكم المتعلقة بالحج {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ} بالتكبير والثناء عليه {كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} وقد كان من دأبهم المفاخرة بالآباء {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا} أي يجعل كل همه نيل ما يتمنى من دنياه {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} أي ليس له فيها من نصيب؛ لانصرافه عن تحصيلها، وانشغاله بالفانية عن الباقية؛ فكان جزاؤه الحرمان من طيبات الدنيا، وحسن ثواب الآخرة

201

{وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أي رزقاً واسعاً، وعيشاً رغداً {وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} ثواباً ومغفرة، وجنة عرضها كعرض السموات والأرض؛ فكان حقاً على الله أن ينيله ما يتمناه فضلاً من لدنه ونعمة وقيل: إن حسنة الدنيا: المرأة الصالحة

202

{أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ} أي ثواب ما عملوا.

203

{وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} هي أيام التشريق؛ وذكر الله فيها: التكبير عقب الصلوات {إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تجمعون يوم القيامة؛ فيجازيكم على ما عملتم

204

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} المزخرف، ونفاقه المستتر {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} لك؛ من ود وحب {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} شديد العداوة والخصومة أو {يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} في الدين واليقين {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} من إيمان وإحسان {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} للدين ولله ولرسوله

205

{وَإِذَا تَوَلَّى} انصرف من عندك: ظهر على حقيقته، وبان على طبيعته، و {سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا} بكفره ونفاقه وإذاعته الإلحاد بين الناس {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} هو مبالغة في الإفساد؛ كقولهم أهلك الزرع والضرع

206

{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ} ولا تفعل ما يغضبه حملته الأنفة والحمية؛ على العمل {بِالإِثْمِ} الذي أمر باتقائه والبعد عنه -[38]- {فَحَسْبُهُ} كافيه {جَهَنَّمُ} التي سيصلاها عقوبة له {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} الفراش

207

{مَن يَشْرِي نَفْسَهُ} أي يبيعها {فِي السِّلْمِ} الإسلام؛ أو هو الاستسلام؛ وهو الصلح. أي اجتنبوا البغضاء والشحناء

208

{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} لأنه يدعوكم إلى التفرقة والشقاق

209

{فَإِن زَلَلْتُمْ} وقعتم في الزلة {الْبَيِّنَاتُ} المعجزات الظاهرات، والآيات الواضحات

210

{هَلْ يَنظُرُونَ} ما ينتظرون {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} أي بعذابه؛ كقوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي بالعذاب {فِي ظُلَلٍ} جمع ظلة؛ وهو ما أظلك {مِّنَ الْغَمَامِ} السحاب المتكاثف {وَقُضِيَ الأَمْرُ} قامت القيامة، أو وجب العذاب

211

{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} معجزة ظاهرة واضحة {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} أي آياته؛ التي أنعم بها على عباده لهدايتهم، وإنجائهم من الضلال؛ لأنها من أجل النعم وتبديلها: أنها سيقت لتكون سبباً للهداية، فيجعلونها سبباً للغواية

212

{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي حببت إليهم، وزينها الشيطان لهم، وعجلنا لهم طيباتهم فيها. قال تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} {وَيَسْخَرُونَ} في الدنيا {مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ} لأنهم لا يعبأون بالدنيا ولا بأهلها؛ وكل همهم الحرص على رضا ربهم جل شأنه {وَالَّذِينَ اتَّقَواْ} ربهم وخافوه، وعملوا بأوامره، واجتنبوا نواهيه، وصدقوا برسوله، وآمنوا بالنور الذي أنزل معه؛ فهؤلاء {فَوْقَهُمْ} أي فوق الكافرين؛ الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار فالمتقين في الجنة، والكافرين في النار {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} من المؤمنين والكافرين {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بغير سبب، فقد يرزق البليد، ويمنع النشيط، ويعطي العاصي، ويمنع الطائع؛ ما أراده كان، وما لم يرده لم يكن

213

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} على دين واحد؛ هو دين الفطرة؛ أو كانوا كفاراً لا يعلمون حالهم ولا مآلهم (انظر آية 19 من سورة يونس) {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} إليهم {مُبَشِّرِينَ} من أطاع بالجنة {وَمُنذِرِينَ} من عصى بالنار -[39]- {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} الذين يؤيدهم {بِالْحَقِّ} الذي يأمرون به، ويسيرون عليه. و «الكتاب» اسم جنس: يقع على سائر الكتب المنزلة؛ كالتوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} أي في الكتاب المنزل مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ} أي إلا الذين أنزل عليهم الكتاب؛ أنزله الله تعالى مزيلاً للاختلاف، فجعلوه سبباً للخلاف {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي حسداً وظلماً: كيف ينزل الكتاب على رجل غيرهم؟ وكل واحد منهم يرى أنه أحق بنزوله عليه، وأجدر ممن نزل عليه {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} طريق

214

{خَلَوْاْ} مضوا {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ} الفقر والحاجة {والضَّرَّاءِ} المرض {وَزُلْزِلُواْ} أزعجوا إزعاجاً شديداً

215

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} ما الذي يتصدقون به؟ {قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ} مال؛ أو هو كل ما ينفق: من مال، أو غذاء، أو كساء، أو دواء. وسمى تعالى ما ينفق: خيراً؛ لأنه سبب في كل خير في الدنيا والآخرة؛ وناهيك يقول العظيم الكريم {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} يجزي عليه أحسن الجزاء

216

{كَتَبَ} فرض {عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} الجهاد في سبيل الله {وَهُوَ كُرْهٌ} مكروه {لَكُمْ} لما فيه من مشقة، وبعد عن الأهل والولد؛ ولأنه في ظاهره تعرض للتلف والفناء، مع أنه أساس الحياة وسر البقاء {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً} كالقتال {وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} في الدنيا؛ بتخليص البلاد، ونجاة العباد، ورفع كلمة الله تعالى وفي الآخرة بنعيم الجنان، ورضا الرحمن {وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً} كالقعود مع الأهل والولد {وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} في الدنيا؛ بالذل والاستعباد، وفقدان الكرامة وفي الآخرة بالجحيم والعذاب الأليم {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} ما فيه الخير لكم {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فاتبعوا أوامره، وابتغوا ما فرضه عليكم؛ ففيه نجاتكم وسعادتكم

217

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} الأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب {قِتَالٍ فِيهِ} أي هل يجوز القتال فيه؟ {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} من المشركين لكم {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} منع عن دينه صد أيضاً عن {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} المؤمنين {مِنْهُ} وجميع ذلك {أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ} إثماً وأعظم جرماً؛ من القتال في الأشهر الحرم. فكيف تسألون عن جواز القتال في الأشهر الحرم؟ قال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} {وَالْفِتْنَةُ} أي الكفر، أو الإخراج من مكة، أو العذاب يوم القيامة {أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} وأنكى وأشد {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي بطلت أعمالهم الحسنة التي عملوها؛ لأن الكفر محبط لسائر الأعمال

219

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ} ما حكمها؟ (انظر آية 90 من سورة المائدة) {وَالْمَيْسِرِ} القمار {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} وأي إثم لقد أكرمك الله تعالى أيها الإنسان بالعقل المنير؛ فكيف تطفئه بالخمر؟ ووهبك الخير الكثير؛ فكيف تتلفه بالقمار؟ وهب أنك كاسب فيه غير خاسر؛ فبم تستحل لنفسك ما ليس لك بحق، وما هو محرم عليك، وشؤم على عيالك؟ ويدخل في عموم الميسر: ما يسمونه باليانصيب، وكذلك سائر المراهنات، وسباق الخيل؛ وكل كسب أو خسارة بغير سبب معقول، ووجه مشروع: فهي إثم في الخمر والميسر؛ مع ما فيهما من أسقام وآثام {وَمَنَافِعُ} في الظاهر {لِلنَّاسِ} ألا يربحون في تجارة الخمر، ويكسبون في لعب الميسر؟ وهو ربح ممقوت؛ الخسارة منه أكسب وكسب حرام؛ الإفلاس منه أربح وهي منافع حقيرة زائلة؛ بجانب ما يترتب عليها من الآلام والآثام فقد أثبت الطب - قديمه وحديثه - أن الإدمان على الخمر: يسبب تلفاً بالكبد، ويحول خلاياه الحية إلى ألياف ميتة؛ كما تؤدي إلى تصلب الشرايين، وإلى نزيف المخ، وإلى إفساد الجهاز العصبي، وضعف المدارك الحسية {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} أي أيّ شيء ينفقونه؟ {قُلِ الْعَفْوَ} أي الزائد عن نفقتكم وحاجاتكم. أو خير ما تنفقونه: «العفو» عند القدرة {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}

220

{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} في المعيشة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ} منكم في هذه المخالطة {مِنَ الْمُصْلِحِ} الذي أراد بها تدبير أموال اليتامى، وإصلاح أمورهم {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} لأحرجكم وضيق عليكم

221

{وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ} أي لا تتزوجوهن. والمشركة: التي تدعو مع الله إلهاً آخر؛ وهي غير الكتابية: اليهودية أو النصرانية. {وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ} أي لا تزوجوهم بناتكم {حَتَّى يُؤْمِنُواْ} وقد ذهب جماعة - منهم حبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - إلى أن لفظ المشركات والمشركين؛ يعم اليهود والنصارى لقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} فهم مشركون أيضاً؛ لأن إلههم الذي يعبدونه يلد؛ وإلهنا تعالى {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} ويعارض هذا الرأي: قوله تعالى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} وقد قصد بهم اليهود والنصارى الذين قالوا: عزير ابنالله، والمسيح ابنالله. وعلى ذلك يكون المراد بالمشركين: عبدة الأصنام والنار والكواكب، ومن شاكلهم؛ ممن لا يؤمنون بوجود إله أصلاً {أُولَئِكَ} المشركون والمشركات {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي إلى الكفر المؤدي إلى النار؛ فلا تجوز مناكحتهم {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ} بما يدعو إليه من أعمال صالحات؛ موصلة إليهما، موجبة لهما {بِإِذْنِهِ} بأمره وإرادته

222

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} أي عن شأن الزوجة في مدة الحيض، وما ينبغي على الزوج حيالها وقت نزول دم الحيض؟ {قُلْ هُوَ أَذًى} مستقذر مبغوض {فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} أي لا تجامعوهن؛ لأن الأصل في الجماع: إنتاج الولد؛ وهن في هذه الحال غير مؤهلات للحمل. وقد جعل الله التلذذ عند التقاء الرجل بالمرأة: حرصاً على بقاء الجنس، واستيفاء لحاجة الكون من بني آدم وغيره من الأحياء؛ والمرأة الحائض تستقذر عادة؛ فإذا حاول الرجل إتيانها - وهي على هذه الحال - ربما أبغضها استقذاراً لها؛ فنهانا الحكيم العليم بعدم قربانهن في المحيض {حَتَّى يَطْهُرْنَ} أي حتى ينقطع الدم، ويمتنع الأذى؛ ويغتسلن؛ فيصرن نظيفات طاهرات مؤهلات لما أعدهن الله تعالى له. وقد أثبت الطب تحقق الضرر من التقاء الرجل بالمرأة وقت حيضها {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} جامعوهن {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} في الفرج؛ لا في مكان آخر يكرهونه ويغضب الله تعالى

223

{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} شبههن الله تعالى بالحرث: لما يلقى في أرحامهن وينتجن من الولد {أَنَّى شِئْتُمْ} أي بأي طريقة أردتم؛ في المكان المعلوم: موضع الحرث، لا موضع الفرث. وزعم بعض الفساق: أن الله تعالى أباح إتيان المرأة في دبرها؛ مستدلاً بقوله تعالى: «أنى شئتم» أي في أي موضع أردتم. والمعلوم أن معنى «أنى» لغة: -[42]- كيف. فلا تعطى المعنى الفاسد الذي ذهبوا إليه ومن المعلوم أيضاً أن الله تعالى أنزل هذا القرآن على مخلوقات تسمع وتعقل وتعي؛ فإذا ما كان هناك أمر تعاف إتيانه أحط الحيوانات؛ فكيف يتوهم حصوله من أفضل المخلوقات ولم نسمع أن حماراً أتى أتاناً في دبرها؛ فكيف نصدق أن إنساناً يستسيغ أن يكره امرأته على إتيانها في غير ما أمر الله تعالى به؟ فليتق الله من يؤمن بالله، ولا يدع شيطانه ينزل به إلى درك لم تنزل إليه البهائم التي لا تعقل وإن الإنسان ليرى العذرة في الطريق فيستقذر أن يمشي بقربها؛ فكيف يذهب بإرادته ويندس في مكانها ووعائها أفَ لمن يفعل ذلك، أو يحاوله؛ وله الويل يوم يسأل عنه ويعاقب عليه.

224

{وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} أي لا تجعلوه تعالى معرضاً لأيمانكم؛ فتحلفون به في كل وقت وحين، وفي كل مناسبة، وتعرضوا اسمه الكريم للابتذال بكثرة الحلف به. وقد ذم الله تعالى كثير الحلف بقوله {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} أو المعنى: ولا تجعلوا الله مانعاً وحاجزاً دون الخير؛ كمن يحلف على قطيعة رحم، أو عدم الإصلاح بين متخاصمين، أو عدم التصدق؛ أو ما شاكل ذلك. قال الصادق المصدوق صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها؛ فليكفِّر عن يمينه» {أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ} وهي الأمور المحلوف عليها: أداء أو تركاً. ويجوز أن يكون المعنى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} إلا إن كان ذلك بسبب البر والتقوى والإصلاح بين الناس؛ فحينئذٍ يجوز لكم أن تحلفوا بقصد إقناع البعض وإرضائه عن الآخر؛ كمن يحلف للزوجة المغاضبة: أن زوجها يقول عنها: إنها خير امرأة. وكمن يحلف للأخ المخاصم: أن أخاه يدعو له بالهداية والخير ويتطلب رضاه. وقد يكون الواقع عكس المحلوف به

225

{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ} لا يعاقبكم {بِالَّلغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} وهو ما لا يعقد عليه القلب؛ كقول الإنسان: لا والله، وبلى والله

226

{يُؤْلُونَ} يقسمون. وبها قرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما {تَرَبُّصُ} التربص: الانتظار {فَآءُوا} رجعوا

228

{ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} ثلاثة حيضات {وَبُعُولَتُهُنَّ} أزواجهن {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} لقد كانت النساء قبل الإسلام مستعبدات، مملوكات، مهانات؛ وكان الرجل يرى أن وجود المرأة معرة؛ ويعاملها معاملة العبيد - بل أسوأ من معاملة العبيد - وكانت المرأة توهب وتورث كسائر الجمادات والحيوانات؛ ويزوجها وليها لمن لا تريد ولا ترغب رغم أنفها؛ شأن جهلة هذا العصر: الذين يضحون ببناتهم على مذابح الأطماع الدنيئة؛ ابتغاء العرض الزائل. وكان الرجل -[43]- في الجاهلية إذا مات عن زوجة: جاء ابنه - من غيرها - أو جاء أحد ورثته؛ فألقى ثوبه عليها وقال: ورثت امرأته كما ورثت ماله. وتصير في حوزته، ويصير أحق بها من كل الناس - حتى من أهلها وأبويها - فإن شاء تزوجها من غير صداق، وإن شاء زوجها وأخذ صداقها لنفسه. فلما أشرقت شمس الإسلام وبزغ قمر السلام: خلصهن من هذا الاستعباد وأنقذهن من الذل والاسترقاق، وأوجب لهن على الرجال - مثل ما يجب للرجال عليهن - من حسن العشرة، وترك المضارة، والحب، والإخلاص، والمودة، والرحمة وغير ذلك من الحقوق التي تعرف بالبديهة، ويحس بها كل ذي عقل وقلب وأمر ألا تزوج إلا بإذنها، وبمن ترتضيه لنفسها. ولا حجة لمن قال بعكس ذلك من الفقهاء؛ لقوله: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن؛ وإذنها صماتها» وقد رد الرسول الكريم؛ صلوات الله تعالى وتسليماته عليه: تزويج الأب ابنته بغير إذنها وقد حثنا الدين الحنيف على التلطف بهن والعناية بأمرهن وقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي. وأتى عمربن الخطاب رضي الله تعالى عنه بامرأة تصر على فراق زوجها؛ فنظر إلى الزوج فوجده أشعث غير نظيف الثياب؛ فقال: أدخلوه الحمام وألبسوه الأبيض. فلما جيء به نظيف الجسم، نظيف الثياب؛ قال لها: أتقيمين معه؟ قالت: نعم. فأصلح بينهما؛ وقال لمن حضره: تصنعوا لهن كما يتصنعن لكم.

229

{الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} دفعتان مفترقتان. فلو طلقها ثلاثاً بلفظ واحد: لم يقع إلا واحدة (انظر مبحث الطلاق بآخر الكتاب. وانظره أيضاً مفصلاً في «زاد المعاد» لابن قيم الجوزية) {تَسْرِيحٌ} تطليق {بِإِحْسَانٍ} من غير إجحاف ولا مضارة {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ} أي حرام عليكم {أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ} من المهر وغيره {إِلاَّ أَن يَخَافَآ} الزوجان {أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} بأن يخشى الزوج أن يسيء معاملتها - لكراهته لها - أو أن تسيء عشرته - لبغضها له - {فَإِنْ خِفْتُمْ} أيها الحكام. قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ} لا إثم ولا حرج {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} نفسها؛ من -[44]- رد ما أخذته - إن كانت كارهة له - ولا يجوز للزوج أن يأخذ أكثر مما أعطى؛ إذ هو ظلم بين، ودليل على خسة الطبع، ودناءة النفس وحكمة رد المهر: أنها له كارهة، ولصحبته مبغضة؛ وهو في حاجة للتزوج بغيرها؛ فوجب أخذ ما دفعه ليمهر به سواها. أما إذا كان هو الكاره لها، المائل عنها لغيرها؛ فلا يحل له أصلاً أن يأخذ شيئاً مما آتاها {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} هذا وقد جاءت جميلة بنت سلول - وكانت زوجاً لثابتبن قيس - إلى النبي، وقالت له: يا رسول الله إني لا أعتب على ثابت في دين ولا خلق؛ ولكني أخشى الكفر بعد الإسلام؛ لشدة بغضي له فقال لها سيد ولد آدم: «أتردين عليه حديقته التي أصدقك؟» قالت: نعم وزيادة. فقال: «أما الزيادة فلا؛ ولكن حديقته». فأخذها ثابت وخلى سبيلها. وهذا أول خلع في الإسلام. وقال بعض الفقهاء بجواز أخذ شيء من مالها. ولا حجة لهم فيه: لقوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} واستثنى من ذلك بقوله جل شأنه {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أي في هذه الحال فقط يحل أخذ بعض المهر أو كله، في حدود قوله تعالى: {مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ} من المهور والهدايا ونحوهما (انظر آية 20 من سورة النساء)

230

{فَإِنْ طَلَّقَهَا} للمرة الثالثة {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ} مراجعتها {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} حتى تتزوج رجلاً آخر، ويبني بها ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته {فَإِنْ طَلَّقَهَا} الزوج الآخر {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ} هي والمطلق الأول {أَن يَتَرَاجَعَآ} بعد انقضاء عدتها من زوجها الآخر بعقد جديد، وذلك {إِن ظَنَّآ} تأكدا {أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} أوامره وشرائعه؛ التي سنها لعباده: من ترك المضارة، وحسن المعاملة، وطيب المعاشرة، وتوافر المودة والرحمة

231

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي قاربن آخر عدتهن {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} أي مريدين الإضرار بهن {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} بارتكاب ما نهى الله تعالى عنه، وتعريضها للعقاب

232

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ} الإسلام، ونبوة محمد {يَعِظُكُمْ بِهِ} أي بالقرآن {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} انقضت عدتهن {تَعْضُلُوهُنَّ} تمنعوهن {أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} الذين كانوا قبلكم. أو الذين يتقدمون إليهن، أو هو خطاب للأولياء. {ذَلِكَ} الأمر والنهي المتقدم {يُوعَظُ بِهِ} يتعظ ويعمل به {مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الذي يعاقب فيه العاصي على عصيانه، ويثاب فيه الطائع على طاعته أفضل للمآب وأنمى -[45]- للثواب {وَأَطْهَرُ} لقلوبكم ونفوسكم {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} ما يصلحكم في دنياكم وأخراكم {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} لجهلكم وقصور أفهامكم، وطمعكم في الحطام الزائل الفاني، ونسيانكم النعيم الدائم الباقي

233

{حَوْلَيْنِ} عامين {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} أي الوالد؛ ولم يقل: وعلى الوالد؛ إشعاراً بأن الوالدات إنما ولدن لهم {بِالْمَعْرُوفِ} من غير إسراف ولا تقتير {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} أي لا يكلف الوالد بما لا يطيق؛ بل ينفق النفقة التي يستطيعها {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} و: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} أي بسبب ولدها؛ بألا ينفق عليها، أو يهددها بأخذه منها {وَلاَ} يضار {مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} بأن تطالبه بما لا يستطيع، أو تترك له ولده - بعد أن ألفها واعتاد صحبتها - وما أشبه ذلك. وإضافة الولد إليهما في الموضعين: استعطافاً لهما، وهزاً لمشاعرهما {وَعَلَى الْوَارِثِ} أي وارث الصبي، أو وارث الأب {فَإِنْ أَرَادَا} أي الأب والأم {فِصَالاً} فطام الصغير {وَإِنْ أَرَدتُّمْ} أيها الأزواج الآباء {أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ} أي تسترضعوا لأولادكم مراضع غير الوالدات {إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم} أي ما أردتم إيتاءه لهن من الأجرة. وقرىء {مَآ أُوتِيتُمْ} أي ما آتاكم الله تعالى، وأقدركم عليه

234

{وَيَذَرُونَ} يتركون {يَتَرَبَّصْنَ} ينتظرن وهي عدة المتوفى عنها زوجها؛ ما لم تكن حاملاً؛ فعدتها أبعد الأجلين: الوضع، أو الأربعة الأشهر والعشر {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} قضين عدتهن {فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} من التزين والتعرض للخطاب {بِالْمَعْرُوفِ} بالوجه الذي لا ينكره الشرع؛ فلا يبالغن في التزين، ولا يفرطن في التبرج

235

{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} لا حرج، ولا إثم {فِيمَا عَرَّضْتُمْ} لوحتم وأشرتم {بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ} كأن تقول لها: إنك لجميلة، أو صالحة، أو من غرضي أن أتزوج. وشبه ذلك مما لا ينكره الذوق، ولا يمقته الدين {أَوْ أَكْنَنتُمْ} أضمرتم {وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ} على اللقاء {سِرّاً} خفية عن أعين الرقباء؛ ففي هذا ما فيه من تمكين للشيطان الذي يجري مجرى الدم من الإنسان وقيل: المراد بالسر: الزنا، أو هو التعريض بالجماع. والمراد: لا يكون تعريضكم سفهاً وفجوراً؛ فذكر أمثال ذلك - أمام غير الزوجة - فحش؛ لا يرتكبه إنسان {وَلاَ تَعْزِمُواْ} تقصدوا قصداً جازماً {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} بانقضاء عدتها {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} من سوء وشر {فَاحْذَرُوهُ} خافوا عقابه، ووطنوا أنفسكم على فعل الخير ما استطعتم؛ وروضوا قلوبكم على عمل الطاعات، وتجنب المخالفات

236

{لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} لا حرج {إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} تجامعوهن {أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} أي لم تقدروا لهن مهراً {وَمَتِّعُوهُنَّ} أي أعطوهن -[46]- ما يتمتعن به، واكسوهن بعد الطلاق {عَلَى الْمُوسِعِ} الغني {قَدَرُهُ} طاقته ووسعه {وَعَلَى الْمُقْتِرِ} الفقير {حَقّاً} أي ذلك التمتيع {حَقّاً} واجباً {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} الذين أحسنوا أعمالهم، ورغبوا في إرضاء ربهم

237

{وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} قدرتم لهن مهراً {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أي فلهن أخذ نصف المهر {إَلاَّ أَن يَعْفُونَ} أي تعفو الزوجة ووليها؛ فيردون المهر كله {أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وهو الزوج؛ فلا يأخذ من المهر شيئاً؛ تلطفاً منه وكرماً {وَأَن تَعْفُواْ} أيها الأزواج؛ فتتركوا جميع المهر {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وأرضىلله ومن المعلوم أن العبد إذا اتقى ربه وأرضاه؛ فإنه تعالى يجازيه على ذلك؛ بأن يخلف عليه أكثر مما فاته من مال، وأن يعوضه خيراً ممن تركها {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} أي تذكروا أن الأكمل لدينكم، والأجمل لفعالكم؛ ألا تتشددوا وتقلبوا ما أقدمتم عليه من خير وتوثيق لروابط المحبة، إلى عداء كبير، وشر مستطير ومن عجب أن الناس اليوم لا يفعلون ما به الله أمر؛ بل يتنكرون لأوامره، ويتشددون عند حدوث ذلك، ويتخذونه مغنماً وهو غرام، ويفرحون بما يأخذون وهو حرام وتكون عاقبة الذين أساءوا السوأى؛ في الدنيا بعدم التوفيق، وسوء الرفيق، وفي الآخرة بالحرمان من رضا الرحمن

238

{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ} أي أدوها في أوقاتها {والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} صلاة العصر؛ لتوسطها صلاة اليوم، واشتغال الناس - في وقتها - بأعمالهم ومتاجرهم. وقيل: صلاة الظهر؛ لتوسطها النهار. وقيل: المغرب أو العشاء. وقيل: الفجر؛ لتوسطها بين صلاة الليل والنهار، ولما فيها من المشقة والثقل على المنافقين. قال «أثقل الصلاة على المنافقين: الصبح والعشاء» وقد أخفاها تعالى: ليحافظ المؤمنون على صلواتهم أجمع {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} طائعين خاشعين

239

{فَإِنْ خِفْتُمْ} عند حلول وقت الصلاة من عدو يهاجمكم {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} أي فصلوا قائمين أو راكبين ولو إلى غير قبلة {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} أي إذا زالت أسباب الخوف} اشكروه، واعبدوه، وصلوا له {كَمَا عَلَّمَكُم} من أحكام دينكم، ومنافع دنياكم {مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} أي ما كنتم تجهلونه، ولا تستطيعون علمه بعقولكم القاصرة

240

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ} يتركون {أَزْوَاجاً} فليوصوا {وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ} أي يجب عليهم أن يوصوا قبل موتهم لأزواجهم {مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} أي أن ينفق عليهن من ماله لمدة عام. قيل: إنه منسوخ بقوله تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} ولعله حق من حقوق الزوجة؛ لها أن تتمتع به ما دامت لم تتزوج غير زوجها المتوفى {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} أي لا يخرجهن أحد من مساكنهن -[47]- {فإن خرجن} منها باختيارهن - قبل العام، وبعد انتهاء العدة - {فَلاَ جُنَاحَ} لا حرج ولا إثم {عَلَيْكُمْ} يا أولياء الميت، أو يا أيها الحكام {فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} بترك الحداد، والتزين، والتعرض للخطّاب {مِن مَّعْرُوفٍ} أي بشرط أن يكون ذلك في حدود المعروف؛ الذي لا ينكره الشرع، ولا العادة، ولا البيئة

241

{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} نفقة العدة؛ يعطى لها {بِالْمَعْرُوفِ} من غير جلبة ولا مشقة {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} فمن كان يتقي الله تعالى؛ فليعط مطلقته - وقد كانت ضجيعته وموضع سره ومحبته - نفقتها «بالمعروف» من غير أذى، ولا معاندة، ولا مضارة

243

{حَذَرَ الْمَوْتِ} خرجوا هرباً من الجهاد. وقيل: هرباً من الطاعون {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ} أي أماتهم، أو عرضهم للموت عند الجهاد واحتدام القتال {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} نصرهم على عدوهم - بعد يأسهم - والنصر: هو الحياة؛ إذ لا حياة مع ذلة، ولا بقاء بلا حرية وقيل: أماتهم موتاً حقيقياً؛ ليعلمهم بعد إحيائهم - أن الجبن لا يقي من الموت {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} وليعرفهم أن القتال والاستبسال قد يكونان سبباً في الحياة الدنيوية والسعادة الأخروية {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} بعد موتهم؛ بدعوة نبيهم

244

{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لأقوالكم {عَلِيمٌ} بأفعالكم وسرائركم

245

{مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} عبر تعالى عمن ينفق في سبيله، ويتصدق على عبيده؛ بالمقرض له وذلك لتأكد الوفاء والجزاء. ومن أوفى من الله في مضاعفة الحسنات؟ ولكن هل من مؤمن؟ وهل من مصدق؟ وكيف لا تصدقون {وَاللَّهُ يَقْبِضُ} الأرزاق عمن يشاء ابتلاء {وَيَبْسُطُ} يوسع لمن يشاء امتحاناً؛ وبيده وحده المنع والعطاء (انظر آية 261 من هذه السورة)

246

{الْمَلإِ} الجماعة {مِن بَعْدِ مُوسَى} أي بعد موته {هَلْ عَسَيْتُمْ} أي هل طمعتم ورجوتم {إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} فرض عليكم الجهاد {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا} وقد كان جالوت وقومه قد احتلوا ديارهم، وسبوا نساؤهم، وقتلوا أبناءهم {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ} أي فلما فرض عليهم الجهاد، وألزموا بتخليص أوطانهم من العدو: أعرضوا {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} وهبوا نعمة الإقدام {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ} الكافرين؛ الذين لم يستمعوا لأوامره، وضعفوا واستكانوا

247

{أَنَّى} كيف {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ} ظنوا أن الله تعالى لا يؤتي ملكه إلا للأغنياء؛ وفاتهم أن العزة بالتقى، لا بالغنى {اصْطَفَاهُ} اختاره {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} البسطة في العلم: التوسع فيه، وشدة الفهم له. وفي الجسم: الطول، والضخامة، والقوة {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} أي واسع الفضل والخير والرزق -[48]- {عَلِيمٌ} بمن هو أحق بالملك، وأجدر بالرفعة

248

{آيَةَ مُلْكِهِ} علامته {التَّابُوتُ} وهو صندوق كانت به التوراة؛ وكان قد رفع من قبل عقوبة لهم {فِيهِ سَكِينَةٌ} طمأنينة لقلوبكم؛ وهو كتاب الله تعالى «التوراة» وقد جرت عادته جل شأنه أن يبعث طمأنينته وسكينته في كتبه الكريمة، المنزلة على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام؛ وأي طمأنينة وسكينة أعلى وأرقى من حسن الجزاء ومزيد العطاء، وكرم الرحيم، ورحمة الكريم {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} بعض الألواح التي أنزلت على موسى عليه السلام، وبها الكثير من الأحكام

249

{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ} خرج {مُبْتَلِيكُمْ} مختبركم {فَلَمَّا جَاوَزَهُ} أي جاوز طالوت النهر {قَالُواْ} أي قال الذين خانوا أمر طالوت، وشربوا من النهر {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ} يتأكدون {أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ اللَّهِ} وهم الذين أطاعوا أمره، وسمعوا قوله؛ ولم يشربوا من النهر {كَم مِّن فِئَةٍ} جماعة

250

{وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} أي استعدوا لمحاربتهم، واصطفوا لقتالهم {قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ} أصبب

251

{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} يؤخذ من هذه الآية: أن الحرب من لوازم الحياة الدنيا، وأنه بدونها لا يتم العمران: فبها يحفظ التوازن الكوني، ولا يبقى على ظهر الأرض سوى من يصلح للبقاء، وللخلافة فيها؛ اللهم إلا إذا أراد الله تعالى لأرضه الفناء؛ فيشيع الفجور، وتعم الفوضى، ويملك الأرض العتاة المتجبرون؛ فيعيثون فيها فساداً، وفي أهلها إفساداً؛ ليتم الله تعالى أمره، ويرث الأرض ومن عليها؛ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى}. وحاجة الكون إلى الحرب؛ كحاجته إلى الأوبئة والطواعين؛ إذ لو ترك العالم بغير حرب، وبغير وباء؛ لتكدس الناس فوق هذه الأرض تكدس الذباب، ولتكاثروا تكاثر الجراد؛ ولأكل بعضهم بعضاً شأن أحقر الحيوانات وأدنئها ولكن شتان بين الحروب التي يحتاجها الكون، والحرب التي يدبرها الآن بعض المخلوقين للبعض الآخر؛ فإن الأولى يجب أن تكون لدفع ظلم، أو رد عدوان - وكثيراً ما يقع الظلم، ويحيق العدوان - أما الثانية فهي حروب تدبرها رؤوس خوت من العقل، وقلوب خلت من الرحمة ولا سبب لها سوى حب السيطرة، والسيادة، والتوسع. هذا وقد تطورت الحروب منذ بدء الخليقة حتى الآن: فقد كانت بادىء ذي بدء بالعصى والحجارة، ثم صارت بالمدى والسيوف، والقسي والرماح؛ ثم تطورت إلى البنادق والمدافع؛ وأخيراً - وليس آخراً - دبر الإنسان لهلاك نفسه، ومحو حضارته: القنابل الذرية والهيدروجينية، -[49]- والكوبالت، والصواريخ الموجهة؛ وما شاكل ذلك من وسائل التخريب والهلاك؛ ليهدم ما بنته الإنسانية في مئات الملايين من السنين، ويجتاح ما شيدته الفطر السليمة من مدنية وحضارة بتوجيه من موجد الكون ومنشئه تعالى ولو استمر دعاة السوء والحرب ما هم عليه الآن؛ لحق لنا أن نقول بحق: إن الجنس الإنساني قد أصبح بغير شك أغبى من الذباب - وقد هداه الله تعالى النجدين - وأحط من الصرصور - وقد خلقه تعالى في أحسن تقويم - وهذا نهاية الطيش والحمق والجنون وهو إن دل على شيء؛ فلا يدل إلا على عقول عفنة، أتلفها الجشع والطمع وقلوب متحجرة، أفسدتها الأنانية وحب الذات وحقاً إن أعدى أعداء الإنسان؛ لهو الإنسان نفسه ولو خير العقلاء بين هذه الحروب وتلكم الأوباء؛ لاختاروا الثانية وفضلوها على الأولى وذلك لأن الأولى من صنع حثالة الخلائق، ووحوش البشرية؛ والثانية من صنع الحكيم العليم، العزيز الرحيم، الذي لا يصدر أعماله إلا بحكمة، ولا ينفذ قضاءه إلا برحمة؛ وكل شيء عنده بمقدار وترى دعاة الحروب - رغم استعدادهم بتلك القوى الهائلة، وهذه الأدوات المهلكة - يتميزون بالجبن والخور: يخشون المحن، وعاديات الزمن؛ تحيط بهم الأطباء من كل جانب؛ ليحافظوا على نبضهم وضغطهم وحرارتهم فهم دائماً في مرض ونصب، وهم وتعب (انظر آية 50 من سورة طه) {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} فيسخر هؤلاء للحرب: تبعاً لحاجة الكون إلى الحرب؛ لا تبعاً لحاجاتهم وأطماعهم؛ فتعالى القادر القاهر، المسير المسخر الذي هو بكل شيء عليم

253

{تِلْكَ الرُّسُلُ} الذين نقصّ عليك قصصهم معجزة لنبوتك، وآية لأمتك {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} لما ميزناهم به عن الآخرين {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ} كموسى عليه الصَّلاة والسَّلام؛ وهي مرتبة جليلة: اصطفاه الله تعالى لها، واختصه بها. (انظر آية 164 من سورة النساء) {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} وناهيك برفعة قدر نبينا عليه أفضل الصلاة وأتم السلام فاق النبيين في خلق وفي خلق ولم يدانوه في علم ولا كرم لم يساووك في علاك وقد حا ل سناً منك دونهم وسناء {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} المعجزات الواضحات، كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} جبريل عليه السلام، وقيل الإنجيل {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ} زكوا وتصدقوا {مِمَّا رَزَقْنَاكُم} به، وأمرناكم بالإنفاق منه {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ} هو يوم القيامة

254

{لاَّ بَيْعٌ فِيهِ} أي لا معاملة فيه بين الناس كشأنهم في الدنيا. أو هو إشارة إلى أن حرصهم في الدنيا على الربح والكسب، والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، واهتمامهم بشؤون دنياهم؛ كل هذا لا يفيد في الآخرة؛ التي لا يفيد فيها سوى العمل الصالح؛ وأين العمل الصالح؛ وقد قضوا أعمارهم في الحرص على الربح - من أي وجه كان - من رباً، أو سرقة، أو كذب، أو خداع {وَلاَ} تنفع في هذا اليوم صداقة أو محبة؛ وقد كانوا في الدنيا يتحابون في الشيطان، ويتصادقون على المعاصي فلا صداقة اليوم تنجي من عذاب الله {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي والتاركون للزكاة {هُمُ الظَّالِمُونَ} بدليل أول الآية {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم} وبدليل قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} وكفر تارك الزكاة لا يحتاج إلى دليل؛ فقد قاتل الصديق رضي الله تعالى عنه مانعيها؛ والمؤمن لا تجوز مقاتلته إطلاقاً؛ فيؤخذ من ذلك أن أبا بكر حكم بخروجهم من الإسلام لمنعهم الزكاة؛ وقد قال: «والله لو منعوني عقال بعير لقاتلتهم عليه» ومن أولى بالاقتداء والاتباع من أبي بكر؟ وقد سماهم الله تعالى في هذه الآية بالكافرين وفي آية أخرى بالمشركين، وهذه التسمية بهم أولى وأليق (انظر الآيات 6 و7 من سورة فصلت، وآية 14صلى الله عليه وسلّم من سورة الأنعام).

255

{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ} الذي لا يموت أبداً {الْقَيُّومُ} القائم بتدبير الخلق وحفظه؛ والقائم بذاته: الذي لا يقوم غيره إلا به وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} هو الاسم الأعظم؛ الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} نعاس وهو ما يتقدم النوم من الفتور {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أي لا يشفع أحد عنده تعالى إلا إذا أذن له بالشفاعة ورضي قوله {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} قال شفيعنا عليه أفضل الصلاة وأتم السلام «يجمع الله تعالى الناس يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا عند ربنا فيريحنا مما نحن فيه؟ فيأتون آدم فيقولون: أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك؛ فاشفع لنا عند ربنا. فيقول: لست هناكم ليست لي هذه المرتبة؛ ويذكر خطيئته - أكله من الشجرة - ويقول: ائتوا نوحاً؛ أول رسول بعثه الله تعالى. فيأتونه فيقول: لست هناكم؛ ويذكر خطيئته - دعوته على قومه - ويقول: ائتوا إبراهيم؛ الذي اتخذه الله خليلاً. فيأتونه فيقول: لست هناكم؛ ويذكر خطيئته - كذباته الثلاث التي عرض بها - ويقول: ائتوا موسى؛ الذي كلمه الله تعالى. فيأتونه فيقول: لست هناكم؛ ويذكر خطيئته -[51]- - قتله القبطي - ويقول: ائتوا عيسى فيأتونه فيقول: لست هناكم؛ ائتوا محمداً؛ فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فيأتوني فأستأذن على ربي، فإذا رأيته وقعت ساجداً؛ فيدعني ما شاء، ثم يقال: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه؛ ثم أشفع فيحد لي حداً، ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة؛ ثم أعود فأقع ساجداً مثله - في الثالثة أو الرابعة - حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن أي أوجب عليه الخلود» (انظر آية 93 من سورة النساء) {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي ما سيعملونه، وما عملوه {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} أن يعلمهم إياه {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} أي وسع علمه {السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وما فيهما {وَلاَ نَوْمٌ} لا يشق عليه تعالى ولا يتعبه {حِفْظُهُمَا} بهذا النظام العجيب، والتدبير البديع {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ}

256

{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} يؤخذ من هذه الآية الكريمة: حرية الاعتقاد؛ ليكون التدين قرين البحث الفكري، والاقتناع العقلي؛ وذلك لأنه {قَد تَّبَيَّنَ} مما سقناه من المعجزات، وأوردناه من الآيات {الرُّشْدُ} الصواب؛ وهو الإيمان {مِنَ الْغَيِّ} الضلال؛ وهو الكفر {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} الطاغوت: الشيطان، أو الأصنام، أو هو كل رأس في الضلال. وهو مشتق من الطغيان {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} الحبل المحكم الوثيق {لاَ انفِصَامَ لَهَا} أي لا انقطاع لهذه العروة التي وثقها الله تعالى بالحق، وقواها بالإيمان

257

{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ} ناصرهم ومعينهم، ومتولي أمورهم وكافيهم ولا تكون ولاية الله تعالى إلا للمؤمنين الصادقين {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ} والإيمان سابق على ولاية الله تعالى؛ فلو لم يؤمن الإنسان: لكان وليه الشيطان {يُخْرِجُهُمْ} مولاهم {مِّنَ الظُّلُمَاتِ} الكفر والجهل {إِلَى النُّورِ} الإيمان والعلم. (انظر آية 17 من هذه السورة) {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ} نصراؤهم وأصدقاؤهم} الإيمان والعلم {إِلَى الظُّلُمَاتِ} الكفر والجهل. جعلنا الله تعالى من المؤمنين الجديرين بولايته وحمايته، وأخرجنا من ظلمات الكفر والجهل، إلى نور الإيمان والعلم

258

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ} جادل {إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ} أي في حقيقة وجوده وربوبيته {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} أي غره ما هو فيه من ملك وسلطان؛ فجادل إبراهيم في ربه؛ وقد فاته أن السلطان الذي هو فيه، والملك الذي أوتيه؛ من لدن -[52]- ذي الجلال والإكرام؛ الذي يؤتي فضله من يشاء - منحة أو محنة - ليقيم بذلك الدليل على وجوده، والبرهان على وحدانيته {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} لعدو الله نمروذ {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي يخلق الحياة والموت {قَالَ} نمروذ {أَنَا} أيضاً {أُحْيِي وَأُمِيتُ} مثلما يحيي ربك ويميت {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} إن استطعت. وهنا أسقط في يد الكافر الخاسر؛ وقامت عليه الحجة القاطعة الدامغة {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} دهش وتحير، ولم يحر جواباً وذلك لأن إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام ألهمه مولاه أن يسلك مع عدو الله أسلوباً قاطعاً لكل جدل، دامغاً لكل حجة: لقد قال الكافر لإبراهيم - جواباً على تقريره بأن الله تعالى يحيي ويميت - «أنا أحيي وأميت» فلو قال إبراهيم: كيف تحيي وكيف تميت؛ وقد انفرد الله تعالى بهما دون سائر الخلائق؟ لأحضر عدو الله إنساناً مقضياً بموته فأطلقه، وإنساناً بريئاً فأماته؛ وكان لإبراهيم على ذلك رد آخر: وهو أن الله تعالى يحيي ابتداء ويميت بغير أداة؛ ولاتسعت بينهما رقعة الجدال؛ ولكن الله تعالى ألهمه العدول عن مجاراته في هذه المهاترات، والتضييق عليه بالحجة التي لا تقبل التأويل، ولا تحتمل الجدل، ولا تتسع للمحاورة والمداورة؛ فقال له: «إن الله يأتي بالشمس من المشرق» فإن كنت إلهاً كما تزعم {فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} وأنى لعدو الله أن يتعرض لملك الله بتغيير، أو لنظامه بتبديل؟

259

{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} وهو عزير: أحد أنبياء بني إسرائيل (انظر آية 30 من سورة التوبة) {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أي ساقطة على سقوفها؛ وهي بيت المقدس؛ وقد خربها بختنصر، وقتل أهلها ومن فيها {قَالَ} عزير في نفسه {أَنَّى يُحْيِي} كيف يحيي؟ {هَذِهِ} القرية؛ أي أهلها {اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} خرابها وهلاك أهليها {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ} أنامه؛ كما أنام أصحاب الكهف نيف وثلاثمائة عام {ثُمَّ بَعَثَهُ} أيقظه كما أيقظهم. وقد يكون المراد بالإماتة: الموت الحقيقي؛ الذي هو سلب الروح من الجسد - سلباً كلياً - ليكون إحياؤه دليلاً على إحياء أمثاله ممن مات من أهل هذه القرية {لَمْ يَتَسَنَّهْ} لم يتغير {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} كيف صار رميماً؛ وهذا يدل على طول المكث، وأنه لبث مائة عام؛ لا {يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} كما توهم. وقد أراه الله تعالى - في نفسه - كيف يقوم الإنسان بعد الإحياء عند بعثه، وأراه - في حماره - كيف يجمع العظم المتفتت، وكيف يركب بعضه فوق بعض {وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} نركب بعضها على بعض (انظر آية 20 من سورة الكهف)

260

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} قد يظن ظان -[53]- من هذه القالة - أن إبراهيم عليه السلام كان شاكاً في البعث، أو كان مرتاباً في قدرة ربه تعالى - وهو صفيه وخليله ومصطفاه - ولا يجوز بحال نسبة الشك، أو الارتياب إلى الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام؛ خصوصاً في أهم المعتقدات التي يتوقف عليها صحة الإيمان: كالبعث والإحياء. وأمامنا الكهرباء واللاسلكي وأمثالهما؛ فما من أحد إلا ويؤمن بهما إيماناً يقينياً وهو لا يعرف كيفيتهما أو كنههما؛ ويود لو توصل إلى عرفانهما. ولا يقال: إنه بطلبه هذه المعرفة شاك فيهما، غير مؤمن بوجودهما {فَصُرْهُنَّ} اضممهن {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً} قيل: إنه أخذ أربعة أصناف من الطيور؛ فذبحها وخلط بين لحمها وعظمها ودمها وريشها، وجعل على كل جبل جزءاً منها؛ ثم نادى: تعالين بإذنالله؛ فصار كل جزء منهن يتضامُّ إلى الآخر ويتماسك، وجئن إليه طائرات كما كن

261

{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ابتغاء مرضاته وثوابه {كَمَثَلِ حَبَّةٍ} من قمح؛ زرعت في الأرض فـ {أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} وهذا العدد أضعاف ما تنتجه أخصب الأراضي وأحسنها} ينمي ويزيد في الحسنات {لِمَن يَشَآءُ} أكثر من السبعمائة ضعف المذكورة: {سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} فقد يجعل الكريم الحليم، الودود الرحيم؛ من كل حبة من هذه السبعمائة: سبعمائة أخرى؛ فتكون أربعمائة وتسعين ألفاً - كما يفعل الزارع الثري الغني - ويضاعفها تعالى أيضاً إن شاء؛ وذلك معنى قوله تعالى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} ولا حرج على فضله تعالى (انظر آية 117 من سورة آل عمران)

262

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ابتغاء ثوابه ومرضاته {ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً} المن: أن يعتد الإنسان ويفخر على من أحسن إليه بإحسانه {وَلاَ أَذًى} ينالون به المنفق عليه؛ بأن يسخروه في المشاق، ويؤذوه بالشتم والسب؛ أولئك المنفقين الذين لا يمنون ولا يؤذون {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} وناهيك بأجر الكريم العظيم وفي هذا ما فيه من عظم الأجر، ومزيد الثواب {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ}

263

{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى} أي إنك إن تلين لأخيك القول، وتغفر له زلاته، وتعفو عن سيئاته؛ خير - عند الله - من أن تتصدق عليه صدقة تتبعها بالمن والأذى

264

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى} أي لا تذهبوا ثواب صدقاتكم بأن تمتنوا بها على الفقراء، وتقابلوهم بالسخرية والاستهزاء، وتؤذوهم بالقول أو بالفعل؛ بسبب حاجتهم إليكم، ولا تجعلوا إنفاقكم {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ} أي مراءاة لهم وتفاخراً؛ ليقال: هو كريم -[54]- جواد. وما أكثر هؤلاء في عصرنا هذا {فَمَثَلُهُ} أي مثل المنفق رياء {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} حجر أملس {عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} مطر غزير {فَتَرَكَهُ صَلْداً} أملس لم يعلق به شيء؛ فكذلك من يرائي بعبادته وإنفاقه؛ فإن رياءه يذهب ثواب عمله، ولا يبقي له أجراً؛ كما يذهب المطر ما على الحجر الصلد الأملس من التراب {لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ} أي لا يجدون ثواب شيء مما أنفقوا؛ لأنهم أنفقوه رياء؛ وابتغاء الفخر؛ لا ابتغاء وجه الله تعالى ومرضاته. هذا مثلهم

265

{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} أي طلباً لرضائه {وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} أي متثبتين مستيقنين بحسن جزائه، ومزيد ثوابه {كَمَثَلِ جَنَّةٍ} بستان {بِرَبْوَةٍ} مكان مرتفع {أَصَابَهَا وَابِلٌ} مطر شديد {فَآتَتْ أُكُلَهَا} أنتجت ثمرها {ضِعْفَيْنِ} أي مثلي ما يثمر غيرها {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} مطر قليل؛ وهو الرذاذ، أو الندى. أي أن المنفقين ابتغاء وجه الله تعالى: يتضاعف لهم ثواب أعمالهم، ويجزون عنها الجزاء الأوفى؛ وذلك بعكس المرائي الذي يمحي ثواب عمله

266

{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} استفهام للإنكار {أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} بستان {مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} ذكر الله تعالى النخيل والأعناب في غير موضع من كتابه الجليل؛ وذلك لفتاً لأنظار ذوي الاعتبار إلى ما يحتويه الصنفان من فوائد تجل عن الحصر: فمن فوائد التمر أنه يقوي الكبد والرئتان والحلق، ويزيد في الباه مع الصنوبر، وأكله على الريق: قاتل لديدان المعدة، وهو من أكثر الثمار تغذية للبدن؛ ويعتبر التمر غذاء ودواء، وفاكهة. أما العنب فهو من أجل الفواكه وأكثرها نفعاً؛ وهو يسهل ويسمن، ويقوي القلب والرئتان، ويقطع البلغم {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} ضعف عن السعي والكسب، واحتاج إلى الدعة والراحة {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ} أبناء صغار ضعاف؛ لا يقدرون على السعي والكسب {فَأَصَابَهَآ} أي أصاب جنته؛ الذي أصبح هو وذريته في مسيس الحاجة إلى ثمارها {إِعْصَارٌ} ريح شديد مهلكة {فِيهِ نَارٌ} أي في هذا الإعصار نار {فَاحْتَرَقَتْ} جنته بما فيها من نبات وثمار وهذا تمثيل لذهاب ثواب المرائي يوم القيامة؛ وهو أشد ما يكون احتياجاً إلى قليل الثواب

267

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} أي من أحسن ما عندكم وأنفسه {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} من سائر صنوف النبات والفاكهة {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} أي لا تقصدوا أردأ ما عندكم فتجودوا به؛ يؤيده قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} أي لو قدم لكم -[55]- ما تقدمونه من الخبيث؛ لتأخذوه في حق من حقوقكم؛ ما قبلتموه لفساده ورداءته {إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} أي إلا أن تغضوا أبصاركم عن خبثه ورداءته؛ فكيف تقدمونلله ما لا ترضونه لأنفسكم أتجعلونلله ما تكرهون؟ والإغماض: غض البصر. وهو كناية عن المسامحة {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} عنكم وعن إنفاقكم؛ ولكنه تعالى يمتحن بهذه الأوامر قلوبكم {حَمِيدٌ} محمود، وأهل لكل حمد. أو «حميد» يحمد أفعالكم الحسنة؛ فيجازيكم عليها

268

{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} أي يخيل إليكم بوسوسته أن الإنفاق يذهب بمالكم، ويفضي إلى سوء حالكم؛ ولكن الله تعالى {يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ} لذنوبكم {وَفَضْلاً} يختصكم به في الدنيا {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} موسع عليكم جزاء إنفاقكم؛ ألا ترون إلى قوله جل شأنه: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} وقوله عز وعلا: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وقد وعد تعالى مغفرة ذنوبكم: جزاء حسناتكم {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} {عَلِيمٌ} بالمنفقين فيكافئهم، وبالممسكين فيعاقبهم

269

{يُؤّتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ} والحكمة: العلم النافع، الموصل لخيري الدنيا والآخرة {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} ومن الحكمة: أن يعلم الإنسان أن الله تعالى صادق الوعد، وأن ما يبذله في سبيله سيؤتيه مكانه أضعافاً مضاعفة في الدنيا، وثواباً عظيماً ومغفرة ورضواناً في الآخرة {وَمَا يَذَّكَّرُ} يتذكر {إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} ذووا العقول

270

{وَمَا لِلظَّالِمِينَ} الأغنياء؛ الذين ظلموا الفقراء بحبس حقوقهم عنهم، ومنع إيصال الصدقات إليهم؛ فهؤلاء ما لهم {مِنْ أَنْصَارٍ} ينصرونهم من الله تعالى، ويمنعون عنهم عذابه يوم القيامة. أو المراد: أنهم ليس لهم أنصار في الدنيا؛ لكراهة الناس لهم، وبغضهم إياهم (انظر الآيات 141 من سورة الأنعام، و6 و7 من سورة فصلت)

271

{إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ} وتوزعوها أمام الناس عياناً {فَنِعِمَّا هِيَ} فنعم شيئاً هي؛ لأن إبداءها يحفز الهمم على التقليد لكم، والاقتداء بكم {وَإِن تُخْفُوهَا} عن الناس، وتتستروا عند إعطائها {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأن فيه جبر خواطر الفقراء، وعدم إذلالهم والأفضل أن يبدي الزكاة المفروضة للاقتداء، ويخفي الصدقة حتى لا تعلم شماله ما فعلت يمينه {وَيُكَفِّرُ} يمحو

272

{لَّيْسَ عَلَيْكَ} يا محمد {هُدَاهُمْ} أي لا تذهب نفسك عليهم حسرات؛ فلست ملزماً بهدايتهم؛ إنما عليك الإنذار والبلاغ المبين {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ} أي فثوابه وأجره عائد عليكم {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} جزاؤه في الدنيا بالستر، وفي الآخرة بالأجر

273

{لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ} منعوا بسبب الجهاد عن التكسب، وعن السير في مناكبها {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ} أي لا يستطيعون سفراً للتجارة والكسب {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ} بحالهم {أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} وذلك لإبائهم السؤال، ومجانبتهم التملق والتزلف {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} بما يلوح عليهم من انكساف البال، ورثاثة الحال {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} إلحاحاً أي يأخذونه ويستحلونه. والربا: الزيادة. هذا وقد فشا الربا في مجتمعنا هذا فشواً شنيعاً ذريعاً؛ ينذر بضياع الثروة، ومحو البركة، وسقوط المحبة، وانعدام التعاطف والتراحم بين الناس. وآكلوا الربا

275

{لاَ يَقُومُونَ} يوم القيامة. أو «لا يقومون» في الدنيا {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ} وهو المصروع {مِنَ الْمَسِّ} الجنون. وهذا مشاهد فيهم في الدنيا؛ إذ هم - رغم وفرة أموالهم، ومزيد ثرائهم - لا يزالون في هم دائم، وفكر مقيم وقد حرمهم الله تعالى اللذائذ - رغم توافر أسبابها - ومن النعم - رغم وجود مقوماتها - فتجدهم يأكلون أطايب الطعام؛ وكأنما يتناولون السم الزعاف، ويتداولون النقود، وكأنما يتداولون الصخور والأحجار، وينامون على الحرير، وكأنما يتقلبون على الجمر فحياتهم دائماً ظاهرها النعيم، وباطنها العذاب الأليم ويظن كثير من الناس أن إثم الربا يقع على آكله دون موكله؛ وأن موكله لا نص يوجب تأثيمه؛ وهو ظن فاسد، ووهم باطل؛ فالدليل قائم على اشتراك الموكل مع الآكل في الجرم والإثم؛ لقوله: «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه» {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} ذلك قولهم عند نزول هذه الآيات البينات، القاطعات الدلالة؛ وقد خلف من بعدهم خلف قالوا قالتهم، وساروا على نهجهم واتبعوا طريقتهم؛ وها نحن أولاء وقد فشا بيننا الربا فشواً يؤذن بالتدمير، وينذر بسوء المصير وها هو تاريخ الكفر يعيد نفسه؛ فإذا بالمعاملات جميعها وقد صار الربا جزءاً منها متمماً لها؛ ويا ليت المتعاملين به يقولون بتحريمه؛ كمن يتعاطى الخمر ويرتكب الزنا؛ عالماً بتحريمهما، كارهاً لهما؛ ولكنهم يتعاطون الربا، ويقولون كما قال آباء لهم من قبل: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} لأنه عن تراضٍ. كما أن الزيادة في ثمن المبيع بسبب تأخير دفع الثمن؛ لا غبار عليها، وهي مما أحل الله {وَحَرَّمَ الرِّبَا} لأنه ظلم وغصب - ولو أنه يتخذ دائماً مظهر الرضا في كثير من الأحيان - ومن عجب أن قام أناس من العلماء، يحلون ذلك الوباء؛ فإن الله وإنا إليه راجعون {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ} تهديه إلى سواء السبيل، وتحول بينه وبين هذا الداء الوبيل {فَانْتَهَى} فامتنع عن أكل الربا، ورجع إلى الله تعالى {فَلَهُ مَا سَلَفَ} -[57]- ما مضى من أمره قبل مجيء الموعظة، ولا يعاقبه الله تعالى عليه؛ بشرط أن يرد ما أخذه لأربابه؛ لأنه ظلم. والظلم قرين الكفر قال تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ} {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه {وَمَنْ عَادَ} إلى أكل الربا؛ بعد استماع الموعظة {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وأولئك الذين أعلن الله تعالى ورسوله الحرب عليهم: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}

276

{يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا} يبطله ويذهب ببركته {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} يزيد وينمي المال الذي أخرجت منه الزكاة فاعجب لمال يزيد: فينقصه الله ويمحقه، ولمال ينقص فيزيده الله تعالى ويباركه هذا فضلاً عن زيادة ثواب الزكاة والصدقة {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ} شديد الكفر {أَثِيمٍ} كثير الإثم

278

{وَذَرُواْ} اتركوا {مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} لكم عند مدينيكم

279

{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} ذلك، وطالبتم بما استحق لكم من الربا؛ بعد ما علمتم حرمته وشؤمه {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الويل كل الويل لمن سمع هذا الإنذار ولم يرتجع ولم يتب؛ بل انتحل الأعذار التي لا يستسيغها بعض المخلوقات، فضلاً عن مبدع الكائنات والإيذان: الإعلام

280

{وَإِن كَانَ} المدين {ذُو عُسْرَةٍ} لا يستطيع دفع ما عليه في موعده {فَنَظِرَةٌ} مهلة وانتظار {إِلَى مَيْسَرَةٍ} أي إلى أن يتيسر للمدين دفع دينه. قال: «من أنظر معسراً أو وضع عنه: أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» {وَأَن تَصَدَّقُواْ} تتصدقوا على المعسر بالترك، أو الإبراء، أو حط جزء من الدين {خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ما أعده الله تعالى من الأجر للمتصدق

281

{ثُمَّ تُوَفَّى} تجازى {كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} جزاء ما عملت من خير أو شر

282

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي أجل معلوم؛ وهذا غير ما يعطى على سبيل المعونة {فَاكْتُبُوهُ} ليتذكر الدائن ما له، والمدين ما عليه. انظر أيها المؤمن كيف يعلمنا الله تعالى النظام والكتابة؛ ليحل الوئام مكان الخصام، والوفاق مكان الشقاق؛ فله تعالى الحمد والمنة، والشكر والنعمة {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} لأنه هو المدين، وهو الذي يعلم مبلغ يساره ووقته {وَلْيَتَّقِ} المدين المملي {اللَّهَ رَبَّهُ} أو «وليتق» الكاتب {وَلاَ يَبْخَسْ} لا ينقص {مِنْهُ شَيْئاً} أي من الدين {فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} المدين {سَفِيهاً} لا يحسن التصرف {أَوْ ضَعِيفاً} عن الإملاء؛ لمرض، أو كبر {أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ} لخرس، أو عي ونحوهما {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} متولي -[58]- أمره؛ كوالد، أو ولد، أو وصي، أو قيم {أَن تَضِلَّ} أي خشية أن تنسى {إْحْدَاهُمَا} إحدى المرأتين {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} بما نسيته {وَلاَ يَأْبَ} لا يمتنع {الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ} للشهادة {وَلاَ تَسْأَمُواْ} لا تملوا {أَن تَكْتُبُوهُ} أي الدين {صَغِيراً} كان {أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ} مدته، وموعد أدائه {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ} أعدل {وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ} أقرب ألا تشكوا في مقدار الدين وأجله {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} بالتسليم وتسلم الثمن {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} إذ لا فائدة من الكتابة؛ فقد تم تسلم البضاعة، وتم دفع ثمنها {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ} بسبب كتابته {وَلاَ شَهِيدٌ} بسبب شهادته؛ ما داما قد قاما بما أمر الله به من العدل والاستقامة {وَإِن تَفْعَلُواْ} ما نهيتم عنه، وألحقتم الضرر بمن كتب، أو شهد {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} خروج عن الطاعة {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} خافوه، واخشوا عقابه {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} ما لم تكونوا تعلمون؛ بسبب خشيتكم وتقواكم

283

{وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ} أي أدوها على وجهها الأكمل؛ لترد الحقوق إلى أربابها، والمظالم إلى أصحابها {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} إسناد الإثم إلى القلب - مع أنه سيد الأعضاء والمضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله - دلالة على أن كتم الشهادة من أكبر الآثام؛ إذ أن إثم القلب ليس كإثم سائر الجوارح

284

{وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} فيعلمه الناس عنكم {أَوْ تُخْفُوهُ} عن الناس؛ فإن الله تعالى يعلمه

285

{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ} من القرآن {وَالْمُؤْمِنُونَ} آمنوا أيضاً به {كُلٌّ} من الرسول والمؤمنين {آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ} أي وآمن بوجود ملائكة الله تعالى المكرمين {وَكُتُبِهِ} أي وكل آمن بسائر الكتب المنزلة على رسل الله وأنبيائه السابقين {وَرُسُلِهِ} أي وآمن برسله عليهم السلام؛ الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم {لاَ نُفَرِّقُ} أي يقول الرسول والمؤمنون: {لاَ نُفَرِّقُ} {بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} فنؤمن ببعض، ونكفر ببعض {وَقَالُواْ سَمِعْنَا} قولك {وَأَطَعْنَا} أمرك {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} لذنوبنا {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فاعف عنا واغفر لنا

286

{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} طاقتها {} من الثواب {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} من العقاب {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا} بذنوبنا {إِن نَّسِينَآ} إن فعلناها ناسين {أَوْ أَخْطَأْنَا} أو فعلناها مخطئين، غير عامدين. قال: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً} أي لا تكلفنا أمراً يثقل علينا حمله وأداؤه. والإصر: العبء الثقيل {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} كبني إسرائيل؛ حين شددوا فشدد الله تعالى عليهم، وحرم عليهم طيبات أحلت لغيرهم (ربنا لا تحملنا -[59]- ما لا طاقة لنا به) أي لا تحملنا ما يصعب علينا القيام به. وليس معناه: لا تحملنا ما لا قدرة لنا على احتماله لأن ما لا قدرة عليه؛ لا يدخل في باب التكليف {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} {أَنتَ مَوْلاَنَا} سيدنا ومتولي أمورنا

سورة آل عمران

سورة آل عمران بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{الم} (انظر آية 1 من سورة البقرة)

2

{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} القائم بتدبير الخلق وحفظه. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه الاسم الأعظم

3

{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} القرآن {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ما قبله من الكتب: كالتوراة والإنجيل {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ} على موسى {وَالإِنْجِيلَ} على عيسى

4

{مِن قَبْلُ} أي من قبل مجيء إمام الرسل عليه الصلاة والسلام {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} القرآن الكريم؛ ويطلق «الفرقان» على سائر الكتب المنزلة؛ لأنها تفرق بين الحق والباطل

6

{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ} ذكراناً وإناثاً بيضاً وسوداً، حساناً وقباحاً

7

{مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} قطعية الدلالة؛ لا تحتمل اشتباهاً، ولا تأويلاً {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي أصله، تحمل المتشابهات عليها، وترد إليها {وَأَخَّرَ} أي وآيات أخر {مُتَشَابِهَاتٌ} محتملات التأويل، لها معان متشابهة. وقد ذهب قوم - عفا الله تعالى عنهم - إلى أن القرآن كله محكم، لقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} وذهب آخرون إلى أنه كله متشابه؛ لقوله جل شأنه: {كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} وليس هذا من معنى الآية في شيء؛ إذ أن معنى قوله تعالى: {الر كِتَابٌ} أي في حسن النظم، وقوة التعبير، وأنه حق من عندالله. ومعنى {مُّتَشَابِهاً}: أي يشبه بعضه بعضاً، ويصدق بعضه بعضاً، {أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} ذووا العقول

8

{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ} لا تمل {قُلُوبَنَا} عن الحق {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} إلى الإيمان {لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ} لا شك {فِيهِ} وهو يوم القيامة

10

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ} من عذابه لهم، وانتقامه منهم

11

{كَدَأْبِ} كشأن وعادة {آلَ فِرْعَوْنَ} أي فرعون وقومه {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم الكافرة المعاندة؛ كعاد وثمود {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} التي أنزلناها على رسلنا {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} جازاهم بها، وعاقبهم عليها. يقال: أخذته بكذا: أي جازيته عليه

12

{قُلْ} يا محمد {لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ} يوم بدر {وَتُحْشَرُونَ} تجمعون يوم القيامة {إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} الفراش

13

{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} برهان وعبرة -[60]- {فِي فِئَتَيْنِ} فرقتين وجماعتين {الْتَقَتَا} للقتال يوم بدر {فِئَةٌ} مؤمنة {تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي في سبيل نصرة دينه، وإعلاء كلمته {وَأُخْرَى} أي وفئة أخرى {كَافِرَةٌ} تحاول إطفاء جذوة الإيمان {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ} أي يرى الكفار المؤمنين ضعفي عددهم، فتنخلع قلوبهم، أو يرى المؤمنون الكفار ضعفي عددهم - مع أنهم يزيدون عن الضعف زيادة كبيرة - فتقوى بذلك قلوبهم؛ وقد وعدهم الله تعالى بالنصر والغلبة: {فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} (انظر الآيات 41 وما بعدها من سورة الأنفال» {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الخداع الذي بدا على أعين القوم؛ والذي تسبب في نصرة المؤمنين، وخذلان الكافرين {لَعِبْرَةً} لعظة {لأُوْلِي الأَبْصَارِ} لذوي البصائر

14

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ} حبب إليهم، وزين الشيطان لهم {حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} والاستكثار من كل ذلك: يحبون النساء للشهوة؛ لا لابتغاء الولد الصالح، ويحبون البنين للطغيان والكثرة؛ لا للعبادة والقربى، ويحبون الذهب والفضة للجمع والكنز؛ لا للبذل والتصدق {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} الحسان المعلمة؛ يحبونها للفخر والزينة؛ لا للجهاد في سبيل الله {وَالأَنْعَامُ} وهي الماشية التي ترعى؛ وأكثر ما تطلق على الإبل {وَالْحَرْثِ} الزرع {ذلِكَ} كله {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يؤاخذ الإنسان على تصرفه فيها، والقيام بحقوقها {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} حسن المرجع؛ فمن شاء عمل لذلك؛ ولم تغره مفاتن الدنيا ومتاعها الزائل

15

{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلِكُمْ} المتاع المذكور: الشهوات من النساء، والبنين، والقناطير من الذهب والفضة، والخيل الفارهة، والزرع والضرع؛ فخير من ذلك كله: ما أعده الله تعالى للمتقين {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ} فأين الشهوات الزائلات، والأموال الفانيات؛ من الجنات العاليات، التي عرضها كعرض السموات والأرض {خَالِدِينَ فِيهَآ} أبداً لهم فيها {أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} من الأدناس، ومن كل ما يستقذر عادة؛ كالحيض والنفاس {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ} وهو خير من الجنات، وما فيها من الطيبات

17

{وَالْقَانِتِينَ} الطائعين الداعين {وَالْمُنَافِقِينَ} مما آتاهمالله؛ الذين وقاهم شح أنفسهم، وزادهم هدى وآتاهم تقواهم {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} أواخر الليل، قبيل الصبح

18

{شَهِدَ اللَّهُ} قرر، وبين لخلقه بالدلائل والآيات {أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ} يقررون ذلك أيضاً {قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} مقيماً للعدل بين خلقه

19

{إِنَّ الدِّينَ -[61]- عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} أي إن الدين الحق، المرضي المقبول، هو الإسلام. وقد قال فيلسوف الإنجليز برناردشو في إحدى كتاباته عن الإسلام: هو دين المستقبل.

20

{فَإنْ حَآجُّوكَ} جادلوك {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ} أخلصت نفسي {لِلَّهِ} أنا {وَمَنِ اتَّبَعَنِ} من المؤمنين {وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} اليهود والنصارى {وَالأُمِّيِّينَ} الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب {أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ} وانقادوا {فَقَدِ اهْتَدَواْ} إلى الصراط المستقيم {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإيمان {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}

21

{بِالْقِسْطِ} بالعدل

22

{حَبِطَتْ} بطلت

23

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ} هم أحبار اليهود {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} التوراة {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: دخل رسول الله على جماعة من يهود فدعاهم إلىالله؛ فقال له نعيمبن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: «على ملة إبراهيم ودينه». فقالا: فإن إبراهيم كان يهودياً. فقال لهما رسولالله: «فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم». فأبوا عليه؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

25

{فَكَيْفَ} يكون حالهم {إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} لا شك فيه؛ وهو يوم القيامة {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ} في ذلك اليوم {مَّا كَسَبَتْ} جزاء ما عملت من خير أو شر {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} بزيادة عذاب، أو نقصان ثواب

27

{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ} أي تدخله فيه؛ بزيادة النهار ونقصان الليل {وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ} بزيادة الليل ونقصان النهار كما هو مشاهد في نهار الصيف والشتاء وليلهما {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} الدجاجة وهي حية، من البيضة وهي ميتة، والإنسان وهو حي، من المني وهو ميت في الظاهر {وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} البيضة وهي ميتة، من الدجاجة وهي حية، والمني وهو ميت ظاهراً من الإنسان وهو حي. أو تخرج النخلة والأشجار وهما أحياء بالفاكهة والثمار، من النواة والبذرة وهما لا نفع منهما، ولا حياة فيهما. وروي عن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن» ولا بدع فالحياة الحقيقية: حياة القلوب لا الجسوم؛ ولا حياة بغيرها والحياة الأبدية: هي الإيمان {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ} رزقه {بِغَيْرِ حِسَابٍ} بل بغير سبب؛ فقد يرزق تعالى الجاهل، ويمنع العاقل

28

{لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} نهى سبحانه وتعالى عن موالاة الكفار دون المؤمنين؛ لما يترتب على ذلك من مضار دينية ودنيوية؛ إذ أن الكافر إن أظهر الود فخداع ونفاق، وإن أبان الإخلاص فخصام وشقاق وما أخر الأمم الإسلامية وأذلها بالاستعباد والاسترقاق: سوى موالاة الكفار، ومجانبة الأبرار (انظر آية 51 من سورة المائدة) {وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ} بأن يوالي الكافرين من دون المؤمنين {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي فقد برىء من الله تعالى، وبرىء الله منه {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} أي إلا إذا واليتموهم بقدر، وصاحبتموهم بحذر؛ لتتقوا بذلك أذاهم، وتسلموا من كيدهم {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي يخوفكم بطشه وعقابه إذا لم تسمعوا قوله وتنزلوا على حكمه {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} فيؤاخذكم على ما فعلتم، ويعاقبكم على ما جنيتم

30

{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} في الدنيا -[63]- {مِّنْ خَيْرٍ} أي أجره وثوابه {مُّحْضَراً} لم ينقص منه شيء {أَمَداً} مسافة وغاية

32

{قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الطاعة {فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} وسيعاملهم يوم القيامة معاملة الكاره لهم؛ والويل لمن أبغضه الله

33

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى} اختار واجتبى {وَنُوحاً وَآلَ} لاتباع دينه ونشره {وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} للإسلام. وآل الرجل: قومه وأتباعه، ومن هم على دينه. قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}

34

{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} في موالاةالله، وفي الدين

35

{إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ} أم مريم عليها السلام {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} من الولد {مُحَرَّراً} خالصاً من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدس.

36

{وِإِنِّي أُعِيذُهَا} أجيرها وأحصنها {بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *

37

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا} تقبل مريم التي نذرتها أمها {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} وهو مجاز عن التربية الحسنة. قال ابن عطاء: ما كانت ثمرته مثل عيسى؛ فذاك أحسن النبات -[64]- {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أي جعله الله تعالى يتكفل بتربيتها {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} الغرفة التي تجلس فيها، أو هو مكان العبادة {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} طعاماً. قيل: كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء {قَالَ يمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ} من أين لك {هَذَا} الذي أراه {هُنَالِكَ} عندما رأى زكريا مشاهد الرضا والقبول {دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} ففي مواطن التجلي يستجاب الدعاء

39

{فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي} فيه إشارة إلى أن الصلاة مفتاح للخيرات، وبها تجاب الدعوات؛ وقد كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} أي مصدقاً بعيسى عليه السلام؛ لأنه أتى إلى الحياة بكلمة {كُنَّ} فكان {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} الحصور: الذي يحصر نفسه ويمنعها عن ملاذها وشهواتها، أو هو المعصوم من الذنوب؛ كأنه حصر نفسه عنها. وقيل: الحصور: الذي لا يأتي النساء {قَالَ} زكريا {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} كيف يكون لي ولد {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} لا تلد لكبرها

40

{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِّي آيَةً} علامة على ذلك، أو مرني بأمر إذا وفقت إليه: أعلم منه إجابة دعوتي

41

{قَالَ آيَتُكَ} علامتك {أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً} أي بالإشارة، لا بالنطق. وقد كان صيامهم عن الطعام والكلام {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} {وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً} اعبده {وَسَبِّحْ} بحمده {بِالْعَشِيِّ} وهو من الزوال إلى الغروب {وَالإِبْكَارِ} من طلوع الفجر إلى الضحى. والمراد: طول مدة التسبيح

42

{يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} اختارك {وَطَهَّرَكِ} من كل سوء. وقيل: من مس الرجال {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ} قيل: على سائر النساء؛ من بدء الخليقة حتى قيام الساعة. وقيل: عالمي زمانها فحسب؛ وأنها عليها السلام لا تفضل فاطمةبنت محمد عليه الصلاة والسلام، ولا خديجة بنت خويلد؛ واستدلوا بقوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} ولم يقل أحد: إن بني إسرائيل أفضل من أمة خير الأنام؛ بل أن تفضيلهم كان على عالمي زمانهم، أو من تقدمهم من الأمم {يمَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} أديمي الطاعة له، والخشوع والابتهال إليه.

44

{ذلِكَ} المذكور من أمر مريم وأمها، وزكريا وابنه {مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ} الذي غاب عن علمك وعلم قومك {نُوحِيهِ إِلَيكَ} آية لنبوتك، وبرهاناً على صدقك {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} في هذه العصور؛ حتى ترى ما فعلوا، وما فعل بهم؛ فتحكيه لقومك. ولكنا أطلعناك عليه من غيبنا الذي لا نطلع عليه إلا من ارتضينا {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} أطلعناك عليه ليؤمن بك من أنار الله بصيرته، ويهتدي بهديك من أراد الله هدايته {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} قبل ذلك عند ولادة مريم {إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ} ليرون {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} قيل: اختصم أهل مريم عليها السلام فيمن يكفلها؛ فاتفقوا على الاقتراع؛ وطريقته وقتذاك: أن يلقوا أقلامهم في النهر؛ ويحتمل أن تكون القرعة لصاحب القلم الذي يظل طافياً على الماء، أو الذي يكون رأسه إلى أعلى، أو أمثال ذلك

45

{يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} بعيسى عليه السلام؛ لأنه خلق بقول {كُنَّ} {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي ذا منزلة عالية في الدنيا، وعزة وكرامة في الآخرة

46

{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} وهو ما يفرش للطفل؛ وكلامه في المهد معجزة له، وتبرئة لأمه مما افتراه عليها المفترون {وَكَهْلاً} أي ويكلمهم كهلاً. والكهل: الذي جاوز الثلاثين، وخطه الشيب. والمراد بذلك نفي ما ادعاه الكافرون من ربوبيته؛ فذكر تعالى أنه عليه السلام يدركه ما يدرك البشر من التغير والانتقال من الصغر إلى الكبر، ومن حال إلى حال

47

{قَالَتْ} مريم {رَبِّ إِنِّي} كيف {يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} كسائر من يلدن

48

{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ} الكتابة التي يخطها بيده {وَالْحِكْمَةِ} العلم النافع؛ والمراد بها الشرائع والأحكام {وَالتَّوْرَاةَ} الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام؛ وقد كان معمولاً به حتى بعثة عيسى عليه السلام {

49

أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} معجزة دالة على صدقي {وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ} الذي ولد أعمى {وَالأَبْرَصَ} وهو بياض يصيب بعض الجلد؛ فيجعله مشوهاً. وخصا بالذكر: لأن المبتلى بهما لا يبرأ منهما {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} بإرادته وقدرته؛ لا بإرادتي وقدرتي. قيل: إنه أحيا سامبن نوح؛ فكلمهم وهم ينظرون. وذهب بعض المفسرين المحدثين إلى أن المراد به إحياء موتى القلوب والنفوس؛ وهو تأويل فاسد، منكر لإحدى معجزات عيسى عليه السلام التي اختصه الله تعالى بها؛ وإلا فإن أكثر الصالحين يحيون موتى القلوب والنفوس {وَأُنَبِّئُكُمْ} أخبركم. -[66]- {بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} قيل: إنه عليه السلام كان يقول لأحدهم: يا فلان لقد أكلت كذا في يومك، وادخرت كذا في بيتك؛ وذلك بغير تفكير، أو استنطاق لرمل أو أرقام؛ كما يفعل الدجاجلة. ولعل المراد أنه كان يعلمهم عناصر الأغذية وخواصها، وكيف يحفظونها ويدخرونها. وهو باب يدخل ضمن أبواب الأدوية والعلاجات: وقد تخصص فيها معجزة له عليه الصَّلاة والسَّلام

50

{وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ} ما تقدمني {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} وقد كان تعالى حرم عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم قال تعالى {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وقال جل شأنه: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} {جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} معجزة دالة على صدقي، وحجة وعبرة؛ وهو كل ما قدمه من إبراء، وإحياء، وإخبار بغيب

51

{هَذَا صِرَاطٌ} طريق {مُّسْتَقِيمٍ} ومن عجب أن يبرىء عيسى - لبني إسرائيل: الأكمه والأبرص، ويحيي لهم الموتى، ويخبرهم بالغيب الذي لا يعلمه سواهم، وما هو كائن في حلوقهم وبطونهم؛ فيأبون الانقياد لخير العباد، ويرفضون الإيمان للديان

52

{فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} بالله، وإنكار بعثته، ونبوته: أراد أن يختار خلصاءه من بين من آمن منهم - وقليل ما هم - {قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي من أنصاري لنصل معاً إلىالله، أو من أنصاري مع الله {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} حواري الرجل: صفوته وخاصته

53

{فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} الذين يشهدون بوحدانيتك، ويؤمنون بصدق رسولك

54

{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ} أي جازاهم الله على مكرهم بمكر أشد منه وأقسى. وهذا على سبيل المقابلة. والمكر: الخداع. قال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}

55

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أي مستوفي أجلك. وقد اختلف في موته عليه الصَّلاة والسَّلام؛ وهل رفع حياً، أم رفعت روحه فحسب؟ واستدل كل فريق بما يراه مؤيداً لرأيه: فاستدل من قال بموته بقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} وعيسى عليه السلام من جملة النفوس التي كتب عليها الموت. ورد الفريق الآخر بأنه عليه السلام سيذوق الموت قبيل القيامة، وبعد نزوله إلى الأرض وحكمه بشريعة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام ونحن إذا قلنا برفع روحه فحسب؛ فإن سائر الأرواح ترفع إلى بارئها سبحانه وتعالى؛ ولا يكون ثمة فضل لعيسى عليه السلام اختصه الله تعالى به وزعم قوم بأنه مات ودفن بجهة سموها؛ ولعلها ببلاد الهند؛ والله تعالى أعلم بقوله وفعله أي إلى السماء -[67]- {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بتخليصك منهم {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} وآمنوا بك {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بك. وهم الهيود - قاتلهم الله - كفروا بموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام.

58

{ذلِكَ} القصص {نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} يا محمد

59

{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ} في الخلق {كَمَثَلِ آدَمَ} خلقه من غير أب ولا أم، وخلق عيسى من غير أب؛ قال لهما: كونا فكانا

60

{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ} الشاكين

61

{فَمَنْ حَآجَّكَ} جادلك من النصارى أو المشركين {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ} الذي جاءك {مِّن الْعِلْمِ} في هذا الكتاب الحق {فَقُلْ} لهؤلاء المجادلين {نَدْعُ} نتضرع إلى الله تعالى. والمباهلة: أن يجتمع الفريقان ويخرجان بأبنائهم ونسائهم، ثم يدعون الله تعالى باللعنة على الكاذب منهما {فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} الذين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها

63

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا {فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} الكافرين

64

{قُلْ يأَهْلَ الْكِتَابِ} اليهود والنصارى {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ} مستوية؛ والسواء: العدل.

65

{يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} زعم كل من اليهود والنصارى: أن إبراهيم عليه السلام كان منهم؛ وجادلوا رسولالله فيه، فقيل لهم: إن اليهودية إنما كانت بعد نزول التوراة، والنصرانية بعد نزول الإنجيل؛ وبين إبراهيم وموسى ألف عام، وبينه وبين عيسى ألفان فكيف يكون على دين لم يأت بعد، ولم يحدث إلا بعد عهده بأزمنة؟

66

{هأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} من أمر موسى وعيسى {فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} من أمر إبراهيم

67

{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً} كما تزعمون {وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً} مائلاً إلى الدين الحق القيم؛ وهو الإسلام

68

{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} أي آمنوا به؛ وليس من بينهم اليهود أو النصارى {وَهَذَا النَّبِيُّ} محمد؛ لأنه نادى بدين إبراهيم وملته {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} {وَالَّذِينَ آمَنُواْ} بمحمد عليه الصلاة والسلام؛ فهؤلاء هم أولى الناس بإبراهيم؛ لا من كذبوه

69

{وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} جماعة من اليهود

70

{يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} القرآن {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} تعلمون أنه حق منزل من عند الله تعالى؛ لورود ذكر مجيء الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام في كتابكم

71

{يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ} تخلطون

72

{وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} لطائفة أخرى منهم. -[69]- {آمِنُواْ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ} أوله {وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ} وذلك أنهم تواصوا فيما بينهم أن يؤمن فريق منهم أول النهار، ثم يكفروا آخره؛ لأجل أن تتزلزل عقائد المسلمين؛ فيقولون في أنفسهم: ما دعا هؤلاء إلى الارتداد؛ إلا ظهور بطلان ديننا {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي لعل المؤمنين يرجعون عن إيمانهم

73

{وَلاَ تُؤْمِنُواْ} لا تصدقوا ولا تطمئنوا في هذا السر الذي اتفقنا عليه {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} لئلا يطلع المسلمون عليه {أَن يُؤْتَى} بأن يؤتى {أَحَدٌ} من المؤمنين {مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ} من المعجزات والتوراة، وفلق البحر، والمن والسلوى، وأشباه ذلك {أَوْ يُحَآجُّوكُمْ} يجادلكم المؤمنون يوم القيامة {عِنْدَ رَبِّكُمْ} لأنكم أصح ديناً. قال تعالى رداً عليهم: مخاطباً خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ} كله {بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} وقد آتاك النبوة، وأنزل عليك الكتاب بالحق

75

{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} اليهود {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} من الذهب؛ والمراد به المال الكثير {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} لأمانته {ق} واحد {لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} لخيانته {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} أي ملحاً بالمطالبة والمقاضاة. وهو تحذير من معاملتهم وعدم الاغترار بأمانة بعضهم {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ} أي العرب {سَبِيلٍ} طريق للإثم؛ وذلك لأن اليهود لعنهم الله تعالى يستحلون أكل مال من عداهم من الأمم - مسلمين، أو نصارى، أو غيرهما - ويزعمون أن الله بذلك أمرهم. قال تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بنسبة ذلك الإفك إليه؛ وقد أمر تعالى بالوفاء بالعقود والعهود والوعود - للمسلمين والكافرين على السواء - وقد حض على ذلك بقوله جل شأنه

76

{بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} أدى أمانته {وَاتَّقَى} الله ربه في سائر معاملاته {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} فيعزهم في الدنيا، ويكرمهم وينعمهم في الآخرة

77

{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} يستبدلون {بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} أي يستبدلون الصدق والوفاء والأمانة بالكذب والإخلاف والخيانة؛ نظير ثمن قليل هو حطام الدنيا الزائل الفاني وذلك كمن يتفق مع آخر على بيع سلعة من السلع؛ فيزيد له إنسان في ثمنها فيبيعها له، وينقض اتفاقه مع الأول. أو من يخطب ابنة إنسان؛ فيعاهده أبوها على تزويجها له نظير مهر مقدر بينهما؛ فيأتي آخر فيزوجها له نظير زيادة في المهر. أو كمن يحلف ببراءته من دين هو عليه. قال: «من حلف على يمين يقتطع بها مال امرىء مسلم: لقي الله تعالى وهو عليه غضبان» وكيف يرجو الخير من يلقى الله تعالى يوم القيامة وهو عليه غضبان؟ أعاذنا الله تعالى من غضبه، وأنجانا من سخطه ومن علينا برضاه يوم نلقاه {أُوْلَئِكَ} الذين اشتروا بعهد الله وأيمانهم ثمناً -[70]- قليلاً {لاَ خَلاَقَ} لا نصيب {لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} من النعيم، والثواب المقيم {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ} نظر عطف ورحمة، ولا يرعاهم {وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} لا يطهرهم من ذنوبهم

78

{وَإِنَّ مِنْهُمْ} أي من اليهود؛ وقد كانوا يقطنون حوالي مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام {لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ} يميلونها في النطق؛ يريدون بذلك أن يفهموا السامع أن ما ينطقون به هو من التوراة {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ} التوراة {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} ما هو من التوراة؛ بل هو من عند أنفسهم

79

{مَا كَانَ لِبَشَرٍ} ما جاز له وما صح {أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} الإنجيل {وَالْحُكْمَ} العلم والفقه {وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ} وهو تكذيب لمن يقول بألوهية المسيح عيسى ابن مريم {وَلَكِنِ} كان يقول للناس {كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ} نسبة إلى الرب تعالى؛ أي طائعين له، ومنفذين لأحكامه. أو كونوا علماء حكماء أتقياء

80

{وَلاَ يَأْمُرَكُمْ} أي ما كان لبشر أن يقول للناس: كونوا عباداً لي. ولا أن يأمركم {أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} على يديه، وبأمر من مرسله تعالى

81

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ} أخذ العهد عليهم بأن يصدق بعضهم بعضاً، ويؤمن بعضهم بما جاء به الآخر {لَمَآ آتَيْتُكُم} للذي آتيتكم {مِن كِتَابِ} أنزلته عليكم {وَحِكْمَةٍ} علم نافع أضفيته على أفهامكم {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} محمد سيد البشر عليه الصَّلاة والسَّلام {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} من الكتب المنزلة {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ} بذلك {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذلِكُمْ} الميثاق {إِصْرِي} أي عهدي. والإصر: العهد والذنب، والثقل.

82

{فَمَنْ تَوَلَّى} أعرض عن الإيمان بمحمد؛ وقد آمن به الأنبياء قبل إيجاده

83

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} يطلبون {وَلَهُ أَسْلَمَ} انقاد {مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} من أملاك، وإنس وجن، ومخلوقات لا يعلمها سوى خالقها {طَوْعاً} بعد تدبر الأدلة والآيات، والحجج البينات {وَكَرْهاً} بالسيف، أو بعد معاينة العذاب؛ كنتق الجبل على بني إسرائيل، وإغراق فرعون وقومه، وأمثال ذلك

84

{وَالأَسْبَاطَ} حفدة يعقوب عليه السلام؛ ذراري أبنائه.

86

{وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} الدلائل الواضحات.

88

{يُنْظَرُونَ} يمهلون.

89

{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ} أي بعد ارتدادهم أعمالهم {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لذنوبهم. {رَّحِيمٌ} بهم.

92

{لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ} أي لن تنالوا بر الله تعالى وثوابه ومغفرته {حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} وهذا يكاد أن يكون منعدماً في هذا الزمان؛ لأنك ترى الرجل يتصدق بثوبه الممزق، ولقمته العفنة، وكل ما يكرهه ويستقذره؛ ثم يتيه عجباً، ويختال طرباً، ويميس فخراً، بما جاد به، ويعتقد أن الجنة لم تخلق إلا لأجله؛ فهيهات هيهات أن يدخل مثل هذا جنةالله، أو أن يتمتع برضوانه ولن ينال برالله، سوى من أنفق مما يحب في دنياه {وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} فيؤاخذكم عليه إن كان مما تكرهون، ويثيبكم عليه إن كان مما تحبون فانظروا - هداكم الله - ماذا أنتم فاعلون

93

{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها - وقد كانا أحب الأشياء عنده - لمرضه بعرق النسا. و «إسرائيل» هو يعقوب عليه السلام

96

{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} مكة؛ وهما لغتان فيها {مُبَارَكاً} كثير الخير والبركات؛ لما فيه من الثواب وتكفير السيئات

97

{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} حجج ظاهرات. -[73]- {مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ} وهو الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت فأثرت فيه قدماه، ومنها أن الطير لا يعلوه أبداً؛ مع كثرته وشدته {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ} أي طلب منهم، وفرض عليهم {حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} بالمال، والصحة، والأمن {وَمَن كَفَرَ} أي جحد فرضية الحج. أو هو من كفران النعم؛ أي من لم يشكر ما أنعمت عليه من صحة الجسم، وسعة الرزق؛ ولم يحج {فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ} وهم الفقراء إليه، المتزلفون له، الطالبون مرضاته، المؤملون فضله

99

{قُلْ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ} تمنعون {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} عن دين الحق؛ وهو الإسلام {تَبْغُونَهَا عِوَجاً} تطلبونها وتريدونها معوجة

101

{وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ} يحتمي به، ويلجأ إلى أوامره، ويهرع إلى مرضاته {فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ} طريق {مُّسْتَقِيمٍ} قويم واضح، موصل لكل خير

102

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} أي خافوا الله واحذروه، وائتمروا بأوامره، واجتنبوا نواهيه، وداوموا على ذلك حتى تموتوا وأنتم مسلمون

103

{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ} بكتابه؛ لقوله: «القرآن حبل الله المتين». -[74]- {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ} الشفا: الحافة {فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا} بأن هداكم للإسلام؛ وذلك لأن الكافر والمذنب - مثلهما في الدنيا - كمثل الواقف على حافة النار؛ فإذا مات: وقع فيها؛ فأنقذنا الله تعالى - بمنه وكرمه - من الوقوع في النار؛ بهدايتنا إلى الإيمان

104

{وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ} أي جماعة من مثقفيكم وعلمائكم {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} يرشدون إلى الإيمان، ويحضون على الإحسان، ويوجهون إلى البر، ويحثون على الشكر {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} بالفعل الحسن الذي يقره العرف والشرع {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} الذي يستقبحه الشرع، وينكره العقل {وَأُوْلئِكَ} الداعون إلى الخير، الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} هذا وقد أوجب الله تعالى على سائر الأمة الإسلامية: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لما يترتب على تركهما من فشو المعاصي، وانتهاك حرمات الله تعالى. قال: «ما أقر قوم المنكر بين أظهرهم؛ إلا عمهم الله بعذاب محتضر» وها نحن أولاء - وقد دعونا إلى الشر، وأمرنا بالنكر، ونهينا عن الخير - نعاني قلة البركات، وفساد النفوس والثمرات، وقلة الأرباح، وكساد التجارات، وعقوق الأبناء، وتجبر الآباء ولا دواء لما نعانيه، وشفاء لما نلاقيه؛ سوى اللجوء إلى الله تعالى، والتمسك بأوامره، واجتناب نواهيه وزواجره

105

{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ} هم اليهود والنصارى؛ حيث تعادوا وكفر بعضهم بعضاً «وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء» {مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} الآيات الواضحات

106

{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} وجوه المؤمنين؛ ولو كانت سوداء {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} وجوه الكافرين؛ ولو كانت بيضاء {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} فيقال لهم {أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أي بعد أن كان الإيمان في متناول قلوبكم وعقولكم يقال لهم ذلك على سبيل إذلالهم والنكاية بهم

107

{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} وجنته ورضوانه {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أبد الآبدين، ودهر الداهرين

109

{وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} ملكاً وخلقاً وعبيداً {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ} في الدنيا والآخرة؛ فيقضي فيها حسبما تقتضيه المصلحة، وتستوجبه العدالة المطلقة

110

{كُنتُمْ} يا أمة محمد {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} بسبب أنكم {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: صيرا الأمة الإسلامية خير الأمم وأفضلها كذلك تركهما يصير الإنسان أحط من العجماوات؛ فادأب - هديت وكفيت - على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لترضي نفسك، وترضي ربك؛ وتكفى ذل الحياة وبؤسها وليكن أمرك -[75]- بالمعروف ونهيك عن المنكر؛ ابتغاء وجه الله تعالى، ورغبة في مرضاته وحذار أن تفعل ذلك ابتغاء شهرة أو تظاهر فتهلك؛ وينقلب سعيك إلى خسران، وحقك إلى بطلان {مِنْهُمْ} أي من أهل الكتاب {الْمُؤْمِنُونَ} كعبد اللهبن سلام وأصحابه {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} الكافرون، الكائدون لكم

111

{لَن يَضُرُّوكُمْ} بكفرهم وكيدهم {إِلاَّ أَذًى} يسيراً {وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ} لجبنهم، وضعف باطلهم أمام حقكم

112

{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ} أي أينما وجدوا. نزلت في اليهود؛ وهي من الآيات البينات، والمعجزات الظاهرات، والمغيبات الواضحات؛ وليس أدل على ذلك من اضطهاد العالم أجمع لهم، وتشتيتهم في سائر الممالك، وتفريق شملهم؛ ولا يغرنك ما هم عليه الآن من ملك اغتصبوه، وحق استلبوه؛ سيرد إلى أهله بقوة السنان والإيمان؛ بعون الله تعالى وستضرب عليهم الذلة - التي كتبها الله تعالى عليهم - والمسكنة - التي أرادها الله لهم - وستحل عليهم اللعنة أينما ثقفوا (انظر آية 61 من سورة البقرة) {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} الحبل: السبب والعهد. أي أنهم لا يأمنون على أنفسهم إلا إذا كانوا يدفعون جزية، أو يتملقون مسلماً؛ وهذا نوع من الذلة كتبه الله تعالى عليهم {وَبَآءُوا} رجعوا {بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ} كتبت {الْمَسْكَنَةُ} الذلة والضعف؛ وها هم أولاء تعاونهم شتى الدول بالميرة والذخيرة، والعدة والعدد؛ فلم يزدهم ذلك إلا ذلاً وضعفاً وهواناً {وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَآءَ} كيحيى وزكريا عليهما السلام

113

{لَيْسُواْ سَوَآءً} أي ليس أهل الكتاب مستوين في الخير والشر {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} أي {لَيْسُواْ سَوَآءً} لأن منهم أمة قائمة بأمرالله؛ يتلون آياته {آنَآءَ اللَّيْلِ} ساعاته

115

{وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ} أي لن يعدموا ثوابه

117

{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ} أي مثل ما ينفق الذين كفروا {فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} من بر، وصدقة، وصلة رحم {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} الصر: برد يضر الحرث والنبات {أَصَابَتْ} تلك الريح {حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} بارتكاب المعاصي، وتعريض أنفسهم للعقاب {فَأَهْلَكَتْهُ} أي أهلكت الريح ذلك الحرث. وقد وصف تعالى المؤمنين في إنفاقهم - وما يجلبه هذا الإنفاق عليهم من أجر عظيم، وخير عميم - بقوله جل شأنه {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} فضاعف تعالى أجر المؤمن المنفق إلى سبعمائة؛ ووعد أيضاً بأن يضاعف له هذه السبعمائة أضعافاً مضاعفة {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} هذا مثل المؤمن المنفق؛ أما مثل إنفاق الكافر فقد مثله الله تعالى بالريح التي تعصف بالنبات والأقوات، وتهلك الزرع والضرع {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} بذلك الجزاء {وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر

118

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً} بطانة الرجل: خاصته وأصدقاؤه. ومنه بطانة الثوب؛ لملاصقتها له {مِّن دُونِكُمْ} أي من غير دينكم وجنسكم؛ لأن الأجنبي لا يعمل لخيرك، بل يدس ويكيد لك؛ فوجب الابتعاد عنه، والاحتراس منه؛ قال تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} أي أنهم لا يقصرون في إفسادكم، وإيصال الضرر بكم {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} أي ودوا ضرركم أشد الضرر وأبلغه؛ وهو من العنت: أي المشقة {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} بما يقذفونكم به من سباب، وما ينطقون به من كفر وهجر {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} مما بدا من أفواههم

119

{هَآأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ} وتتخذون منهم بطانة هم {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} لأنهم مفطورون على كراهة من عداهم {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} بالكتب المنزلة كلها؛ بما في ذلك كتابهم؛ في حين أنهم لا يؤمنون بكتابكم، ولا بكتابهم أيضاً لأنهم لا يعملون بما في كتابهم {وَإِذَا لَقُوكُمْ} نافقوا و {قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ} بأنفسهم {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} وعض الأنامل: عادة يفعلها المغيظ المحنق، إذا لم ينل من عدوه منالاً {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما في القلوب

120

{إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} نصر أو غنيمة {تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} بإخفاق مقصد أو بهزيمة من عدو {يَفْرَحُواْ بِهَا} أرأيتم أيها المؤمنون حال من ننهاكم عن اتخاذهم بطانة لكم، أو أولياء توالونهم من دون المؤمنين؟

121

{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} أي خرجت غدوة من أهلك. والغدوة: ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس {تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ} تنزلهم {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} مواقف؛ أي ترتب جيوش المؤمنين: ميمنة وميسرة وقلباً وجناحين. وكان ذلك في وقعة أحد

122

{إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ} هم بنو سلمة، وبنو حارثة {أَن تَفْشَلاَ} تضعفا عن القتال {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} كافيهما وناصرهما {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} لا على أحد غيره قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}

123

{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} قليلون؛ نصركم - رغم قلتكم وضعفكم - على المشركين رغم كثرتهم وقوتهم

125

{وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ} من وقتهم {مُسَوِّمِينَ} معلمين

126

{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} أي هذا الإمداد {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} فلا تجزع لكثرة العدو {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} يهبه لمن يشاء بلا قدرة ولا قوة، ويمنعه عمن يشاء مع مزيد القدرة ووفور القوة؛ وقد وهبكم النصر على الكافرين مع قلتكم وكثرتهم، وضعفكم وقوتهم

127

{لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي ليهلك طائفة منهم {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} يغيظهم ويذلهم ويخزيهم {فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} فيرجعوا منهزمين.

130

{يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا} كلٌ نهي جاء مصحوباً بنداء المؤمنين: {يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} فهو من المحرمات؛ التي يأثم فاعلها، ويثاب تاركها: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} {لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ} {لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} {لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} وأمثال ذلك. وأكل الربا من أفحش الموبقات المنهي عنها؛ خاصة إن كانت {أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} وهو ما يسميه الربويون بالفوائد المركبة؛ وهو أن يضم المرابي فوائد الدين إلى أصله، ويحتسب الدين وفوائده وفوائد الفوائد؛ وهكذا حتى يتضاعف الدين {أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} وليس معنى الآية: إباحة الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة؛ بل هو حرام قل أو كثر، ضوعف أو لم يضاعف؛ ويأثم فاعله؛ ويكفر مستحله لقوله تعالى:

131

{وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} الذين لا يطيعون الله فيما أمر، ولا يعبأون بتهديده ووعيده

133

{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أي بادروا لفعل ما يوصل إليها؛ من فعل الطيبات، واجتناب المحرمات سارعوا إلى {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} هذا عرضها فكيف بطولها؟ والمراد بذلك وصفها بالسعة والبسط؛ فشبهها تعالى بأوسع ما علمه الناس وألفوه. أما وصفها الحقيقي: فهو ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب شر {أُعِدَّتْ} هذه الجنة، التي هذا وصفها، وهذه سعتها {لِّلْمُتَّقِينَ} الذين يرجون رحمة ربهم، ويخافون عذابه ووصف الله تعالى المتقين بقوله:

134

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} مما آتيناهم {فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ} في اليسر والعسر، في السعة والضيق، في السرور والحزن؛ لا يمنعهم مانع عن الإنفاق والإعطاء؛ أليس هذا أمر ربهم، وتوجيهه لهم؟ {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} يقال: كظم غيظه: إذا حبسه ومنعه {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} إذا صدر منهم ما يستوجب المؤاخذة

135

{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} الفاحشة: الفعلة القبيحة، الخارجة عما أمر الله تعالى به. وقيل: الفاحشة: الزنا {أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} بارتكاب المعاصي، وتعريضها للعقاب {ذَكَرُواْ اللَّهَ} تذكروا أمره ونهيه، وثوابه وعقابه {فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} طلبوا منه تعالى غفرانها، وعاهدوه على تركها وعدم العودة إليها {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} أي لا أحد يغفرها ويمحوها سواه تعالى؛ بشرط الاستغفار، وعدم الإصرار {وَلَمْ يُصِرُّواْ} أي لم يقيموا {عَلَى مَا فَعَلُواْ} من الذنوب التي استوجبت الاستغفار وإلا فالعائد إلى ذنبه، كالمستهزىء بربه {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن ما يفعلونه من الآثام.

137

{قَدْ خَلَتْ} مضت {مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} وقائع أو أمم

138

{هَذَا} القرآن {بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} يبين لهم ما خفي عليهم {وَهَدَى} هداية لهم يهديهم إلى الطريق القويم، والصراط المستقيم {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} يتعظون بما فيه من الآيات، ويعتبرون بما فيه من الحادثات

139

{وَلاَ تَهِنُواْ} من الوهن أي لا تضعفوا {وَلاَ تَحْزَنُواْ} ف الله تعالى معكم {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} بالغلبة والنصر على الكافرين

140

{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} القرح: واحد القروح؛ وهو كناية عن الغلب والهزيمة يوم أحد {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} أي مستهم هزيمة منكرة يوم بدر {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} أي نصرفها بينهم: فننصر هؤلاء يوماً، وننصر أولئك يوماً آخر. ونفقر هؤلاء، ونغني هؤلاء؛ ثم نغني من أفقرنا، ونفقر من أغنينا كل شيء عندنا بمقدار وتقدير، ونظام وتدبير {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} علم ظهور {الَّذِينَ آمَنُواْ} بصبرهم على بلواهم، وشكرهم على نعمائهم

141

{وَلِيُمَحِّصَ} يبتلي ويختبر {وَيَمْحَقَ} يهلك

142

{أَمْ حَسِبْتُمْ} أيها المؤمنون {أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا} لم {يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} على ما أصابهم في سبيله

143

{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ} تتمنون {الْمَوْتُ} في الجهاد؛ عند ما فاتتكم وقعة بدر التي انتصر فيها المسلمون {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي رأيتم أسبابه؛ في الجهاد يوم أُحد؛ فلم جبنتم وانهزمتم؟ أليس هو الموت الذي تتمنونه والشهادة التي تنشدونها؟ (انظر آية 42 من سورة الزمر)

144

{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} يعرض له ما عرض لسائر الرسل، ويجوز عليه ما جاز عليهم وهو كسائر البشر: يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق. ويمرض، ويموت (انظر آية 4 من سورة القلم) {قَدْ خَلَتْ} مضت {مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} وماتوا حين حان أجلهم {أَفإِنْ مَّاتَ} كباقي مخلوقات الله تعالى {أَوْ قُتِلَ} كسائر المستشهدين في سبيله {انْقَلَبْتُمْ} رجعتم {عَلَى أَعْقَابِكُمْ} والمراد: ارتددتم إلى الكفر بعد إيمانكم {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ} فيكفر بعد إيمان، ويشك بعد إيقان {فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} بل يضر نفسه، ويوردها مورد الهلكة

145

{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ} بإرادتها؛ بل تموت {بِإِذُنِ اللَّهِ} حين ينتهي أجلها المحدد لها فإذا جاء أجلها لا تستأخر ساعة ولا تستقدم {كِتَاباً} مكتوباً عند الله {مُّؤَجَّلاً} أي مؤقتاً بأجل معلوم؛ فلا ينفع الجبن، ولا تنجى الهزيمة {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} {وَمَن يُرِدِ} بعمله {ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ} ما كتب له {مِنْهَآ} وليس له حظ في ثواب الآخرة {وَمَن يُرِدِ} بعمله {ثَوَابَ الآخِرَةِ} وما أعده الله للمتقين {نُؤْتِهِ مِنْهَا} ما يستحقه من النعيم المقيم

146

{وَكَأَيِّن} وكم {مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} أي ربانيون؛ وهم العلماء العاملون، والمؤمنون الموحدون: حواريو الأنبياء وخاصتهم {فَمَا وَهَنُواْ} أي فما فتروا، وما انكسرت همتهم، أو ضعفت نفوسهم {وَمَا اسْتَكَانُواْ} وما خضعوا {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} في الحرب، وعلى البأساء والضراء، وعلى الطاعة، وعن المعصية

147

{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} أي لم يكن قولهم هذراً ولا لغواً ولا شكاية، ولا تأففاً وتضجراً؛ وإنما طاعة وصبراً؛ ولم يكن قولهم {إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} تجاوزنا الحد فيما أمرتنا به، ونهيتنا عنه {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} في الحرب؛ فلا تزول من مكانها إلا إلى النصر والظفر من هنا نعلم أن واجب الإنسان حين يدعو ربه لدفع ملمة، أو رفع كربة: أن يتجرد من دنياه، ويستغفر من خطاياه، ويتجه إلى مولاه؛ فيستجيب دعاه ألا ترى - هداك الله تعالى إلى مرضاته - إلى قول العزيز الجليل:

148

{فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} بالنصر والغنيمة والذكر الحسن {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} بالجنة والنعيم المخلد، ورضي عنهم وأرضاهم

150

{بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ} ناصركم ومتولي أموركم

151

{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} منكم؛ فلا يستطيعون مقاتلتكم {بِمَآ أَشْرَكُواْ} أي بسبب إشراكهم {بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} حجة أو برهاناً {وَمَأْوَاهُمُ} مرجعهم. -[81]- {مَثْوَى} مقام

152

{إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} تقتلونهم. والحس: القتل والاستئصال {بِإِذْنِهِ} بأمره وإرادته وقدرته {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} جبنتم وضعفتم {مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} من النصر والظفر والغنيمة، وانهزام العدو في مواقع عدة {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} الغنيمة؛ فترك مراكز القتال؛ ليفوز بها {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} وثوابها؛ فثبت في مراكزه حتى قتل؛ وفاز بالأجر والشهادة؛ وأنعم بهما من سعادة {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} ردكم عن الكفار بالهزيمة {لِيَبْتَلِيَكُمْ} ليختبركم بالمصائب، وليظهر ثباتكم على الإيمان

153

{إِذْ تُصْعِدُونَ} الإصعاد: الذهاب في صعيد الأرض، أو الإبعاد فيه. والصعيد: ما على وجه الأرض من تراب وحجر ونحوهما. والمعنى: تستبقون إلى الهرب في مستوى الأرض، وفي بطون الأودية والشعاب. وقيل: هو من الصعود؛ وأنهم صعدوا هاربين في أُحد {وَلاَ تَلْوُونَ} لا تلتفتون {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} يناديكم وأنتم منهزمين: إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله {فَأَثَابَكُمْ} جزاكم {غُمّاً} هزيمة {بِغَمٍّ} أي مقابل غمكم للرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه، ومخالفتكم أمره. أو المعنى: غمكم بالهزيمة في أحد، مقابل غم الكافرين وهزيمتهم ببدر وهو كقوله تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}

154

{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ} والهزيمة {أَمَنَةً نُّعَاساً} أي أنزل تعالى على المؤمنين الأمن، وأزال عنهم الخوف حتى نعسوا {يَغْشَى} هذا النعاس {طَآئِفَةٌ} جماعة {مَّنكُمْ} وهم الذين كانوا مع الرسول في القتال، وعملوا بأمره، ولم تلههم الغنائم عن طاعته: فنعسوا من كثرة ما أمنوا. والنعاس في القتال: أمن من الله ورحمة، وفي الصلاة: من الشيطان {وَطَآئِفَةٌ} أخرى؛ وهم الذين خالفوا أمر الرسول، وانصرفوا إلى الغنائم؛ فتقدم المشركون وأثخنوا المؤمنين. وهذه الطائفة {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} والمحافظة على حياتهم؛ فهم من حذر الموت، وخشية القتل في شغل {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ} الظن {الْحَقِّ} ويتوهمون أنه تعالى لا ينصر محمداً {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} الأولى، الذين كانوا يشركون بالله، ولا يعرفون رباً يعتمدون عليه، ويكلون أمورهم إليه {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم} من النفاق {مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ} وذلك لأنهم كانوا يبدون للرسول الإسلام - وهم برآء منه - والحرص على الجهاد - وهم بعداء عنه ـ. -[82]- {لَبَرَزَ} خرج {الَّذِينَ كُتِبَ} قضى {عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} مصارعهم {وَلِيَبْتَلِيَ} يختبر {مَا فِي صُدُورِكُمْ} من إيمان وإخلاص، أو كفر ونفاق {وَلِيُمَحِّصَ} يميز حقيقة {مَا فِي قُلُوبِكُمْ} من حب له، وتفان في سبيله، أو حب للذات، وتفان في الملذات {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما في القلوب

155

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ} انهزموا {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} الجيشان: جمع المسلمين، وجمع الكافرين؛ بأحد {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} أوقعهم في الزلة {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} عملوا من الذنوب.

156

{وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ} سافروا فيها، وتعرضوا للمتاعب والأخطار {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} جمع غاز {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا} في ديارهم {مَا مَاتُواْ} في أسفارهم {وَمَا قُتِلُواْ} في غزواتهم. ونسوا أنهم لو كانوا في بيوتهم وكتب عليهم الموت؛ لسعى إليهم، أو سعوا إليه، وأن قضاء الله تعالى لا يدفع، وأمره لا يرد {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ} القول الذي يقولونه، والتفكير الذي يفكرونه {حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} تحز في نفوسهم {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} فلا يمنع من الموت قعود، ولا يكون القعود سبباً في الخلود

157

{لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ} لذنوبكم {وَرَحْمَةً} منه لكم {خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} من المال الفاني

158

{وَلَئِنْ مُّتُّمْ} في فراشكم، أو أسفاركم {أَوْ قُتِلْتُمْ} في حربكم وجهادكم {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} فيجزيكم خير ما عملتم

159

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} أي فبرحمة عظيمة كائنة من الله تعالى لهم؛ عاملتهم بهذا الرفق والتلطف {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً} جافياً {غَلِيظَ الْقَلْبِ} قاسيه {لاَنْفَضُّواْ} تفرقوا {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ما تقدم من ذنوبهم {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} تكريماً لهم، وتطييباً لنفوسهم: يا لله؛ عفو ومغفرة، ورفعة تبلغ حد المشاورة يأمر المولى عز وجل رسوله عليه الصلاة والسلام بمشاورتهم في الأمر - وهو خير الأنام، وهاديهم ومرشدهم - وكل الناس مهما ارتقوا وعلوا فمن مدده يغترفون، ومن فيضه يستقون ولكن الله تعالى أراد بهذه الآية أن يعلمنا التدبر في الأمور، والتشاور فيها؛ وما المبادىء الديمقراطية، والنظم الدستورية، والمجالس النيابية؛ إلا نتيجة تعاليم هذا الكتاب الكريم؛ فله تعالى الحمد على ما منَّ به وأنعم -[83]- {فَإِذَا عَزَمْتَ} أي إذا استقر رأيك على إمضاء أمر من الأمور، وطابت نفسك له، وشاورت إخوانك وأحباءك، واستخرت إلهك {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} اعتمد على معونته ونصرته؛ فإنه لا شك معينك وناصرك

160

{وَعَلَى اللَّهِ} وحده {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} الصادقون في الإيمان (انظر آية 81 من سورة النساء)

161

{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أن يخون. يقال: غل من المغنم: إذا أخذ منه خفية {وَمَن يَغْلُلْ} منكم {يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} المعنى: أنه يأت حاملاً ذنب الغلول وإثمه {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} تعطى جزاء ما عملت وافياً؛ غير زائد ولا منقوص. قيل: نزلت حينما افتقدوا قطيفة من مغانم بدر؛ فقال بعضهم: لعل محمداً أخذها لنفسه. وقيل: {أَنْ يَغُلَّ} أي يكتم شيئاً مما أنزله الله تعالى عليه؛ رهبة من الناس أو رغبة

162

{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} أطاعه واتبع أمره، ولم يغل من مغنم، ولم يكتم علماً {كَمَنْ} غل في المغنم، وعصى مولاه، و {بَآءَ} رجع {بِسَخْطٍ} غضب {مِنَ اللَّهِ} لا يستويان

163

{هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ} فالمتبع لرضوانه في جنات النعيم، والذي باء بسخطه في العذاب الأليم

164

{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ} تفضل عليهم وأكرمهم وأعزهم {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً} محمداً: خاتم الرسل وإمامهم؛ عليه أفضل الصلاة وأتم السلام {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} أي من جنسهم، ولسانهم {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} من القرآن الكريم {وَيُزَكِّيهِمْ} يطهرهم من دنس الكفر والمعاصي {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} القرآن {وَالْحِكْمَةِ} العلم النافع

165

{أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ} أي أو حين أصابتكم {مُّصِيبَةٍ} يريد ما أصابهم يوم أُحد؛ من قتل وجراح {قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} يوم بدر؛ فقد قتل من المسلمين بأحد سبعون رجلاً، وكان المسلمون قد قتلوا منهم ببدر سبعين وأسروا مثلهم {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} كيف يكون هذا؟ ومن أين أصابنا هذا ونحن مؤمنون وهم كافرون {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} لأنكم خذلتم الرسول، ولم تطيعوا أمره، وهرعتم إلى الغنائم، وتركتم مراكز القتال التي أمركم بالوقوف فيها؛ فكرَّ عليكم المشركون، ونالوا منكم ما نالوا؛ فلا تلوموا إلا أنفسكم

167

{هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن من دعي للجهاد فلم يلب؛ كان للكفر أقرب منه للإيمان وجدير بمن سمع نداء الدين والوطن والواجب؛ فلم يلب هذا النداء؛ أن يموت إن شاء يهودياً أو نصرانياً {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} وهو قولهم: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ}

168

{الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ} عن الجهاد؛ كفراً وجبناً {لَوْ أَطَاعُونَا} أي لو أطاعنا الذين خرجوا للقتال {مَا قُتِلُوا} ولكانوا سالمين مثلنا. قال الله تعالى لهم رداً عليهم {قُلْ فَادْرَءُوا} ادفعوا {عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} بقعودكم عن الجهاد {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيما تقولون

169

{وَلاَ تَحْسَبَنَّ} لا تظنن {الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في الجهاد؛ لإعلاء دينه، ونصرة نبيه. لا تحسبنهم {أَمْوَاتاً} كسائر الأموات؛ الذين لا يحيون، ولا يبعثون إلا يوم القيامة {بَلِ} هم {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} يأكلون ويشربون، ويتلذذون ويتنعمون، ويضحكون ويمرحون

170

{فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} من نعيم مقيم، ورزق كريم {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} أي يستبشرون بإخوانهم المجاهدين الذين لم يموتوا في الجهاد بعد، وبما سيؤول إليه حالهم بعد موتهم؛ من إكرام كإكرامهم، ونعيم كنعيمهم

172

{مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} الهزيمة بأحد.

173

{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} أي قال لهم المنافقون {لِلَّهِ} الكفار {قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} الجموع للقائكم ومحاربتكم {فَاخْشَوْهُمْ} خافوهم {فَزَادَهُمُ} هذا التخويف، وذلك القول. أو زادهم تجمع الأعداء عليهم {إِيمَاناً} بالله، ووثوقاً بنصره الذي وعد به {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ} كافينا وناصرنا

174

{فَانْقَلَبُواْ} رجعوا {بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} نصر وغنيمة {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} لم يصبهم قتل أو هزيمة {وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ} ما يوجب رضاءه تعالى

175

{إِنَّمَا ذلِكُمُ} الذي يلقي الرعب في قلوب المؤمنين، ويصرف النفوس عن الجهاد في سبيل الله، ويخوفهم من الكافرين {إِنَّمَا ذلِكُمُ} هو {الشَّيْطَانِ} اللعين: عدو المؤمنين، وولي الكافرين {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي يخوفكم أتباعه من الكافرين

178

{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} أي نمهلهم بدون جزاء وعذاب {خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ} أي ليس ذلك الإمهال خير لهم؛ بل هو شر كبير {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} نؤخرهم {لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} على إثمهم

179

{مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ} ليترك {الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ} من الفوضى والاضطراب؛ فبعضكم يؤمن ب الله تعالى إيماناً حقيقياً، وبعضكم ينافق، وبعضكم يعبد الله على حرف؛ فما كان الله ليترككم على هذه الصورة {حَتَّى يَمِيزَ} يفصل ويبين {الْخَبِيثَ} الكافر والمنافق {مِنَ الطَّيِّبِ} المؤمن الصادق الإيمان {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} أي ما كان ليطلعكم على ضمائر الناس؛ فتعرفوا ما فيها من كفر ونفاق؛ ولكنه تعالى يختبرهم بالتكاليف الشاقة؛ كالجهاد والهجرة وأشباههما؛ فيميز المؤمن والطائع، من الكافر والمنافق. -[86]- {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي} يختار {مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ} فيصطفيه فيطلعه على ما في ضمائر بعض الناس

180

{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} من الأموال والأرزاق، لا يحسبون أن بخلهم به {هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ} في الحقيقة {شَرٌّ لَّهُمْ} في الدنيا بالأمراض، وبغض الناس لهم. وفي الآخرة {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ} هو كناية عن إحاطة إثم البخل بهم؛ كإحاطة الطوق بالعنق {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ملكهما، وما فيهما، ومن فيهما {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من خير أو شر {خَبِيرٌ} فيثيبكم عليه

181

{لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} قاله اليهود لعنهم الله تعالى؛ حين نزل قوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} في صحائف أعمالهم؛ ليجازوا عليه يوم القيامة {وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَآءَ} ونكتب أيضاً قتلهم الأنبياء: كزكريا ويحيى عليهما السلام {وَنَقُولُ} لهم يوم القيامة {ذُوقُواْ} أيها الأغنياء الأغبياء {عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذلِكَ} العذاب

182

{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} من كفر ونكر ألم تقتلوا الأنبياء؟ ألم تقولوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ}؟ وهم اليهود أيضاً

183

{إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} أوصانا وأمرنا {أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} أي حتى يقدم هذا الرسول قرباناً؛ فتنزل نار من السماء فتأكله. وهذا افتراء منهم على الله حيث لم يعهد إليهم بذلك {قُلْ} لهم يا محمد {قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ} بالآيات الواضحات والمعجزات الظاهرات {وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} أي بالقرابين التي تأكلها النار {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} وقد جاءوا بما عهد إليكم به الله في زعمكم

184

{فَإِن كَذَّبُوكَ} بعد أن أفحمتهم {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا} أقوامهم -[87]- {بِالْبَيِّنَاتِ} بالحجج والمعجزات {وَالزُّبُرِ} الصحف. جمع زبور؛ من الزبر: وهو الكتابة {وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} الذي ينير العقول من ظلمات الجهل، والقلوب من ظلمات الكفر

185

{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} حتماً ولا يبقى غير وجه الله تعالى. وهذه الدنيا - كما أنها ليست بدار خلود - فإنها ليست بدار جزاء؛ فقد يغني الله تعالى فيها الشقي، ويفقر التقي {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} كاملة {يَوْمُ الْقِيَامَةِ} فيدخل الجنة من ابتغاها وعمل لها، ويصلى النار من كفر بالله، ولم يعبأ بوعده ووعيده {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ} بأمر الله {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ} بفضله ورضاه {فَقَدْ فَازَ} فوزاً عظيماً {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} يتمتع بها من يغتر بزخرفها؛ وقد قلت فيها: تعلموا أنما دنياكم عرض ما لامرىء عاقل في جمعها غرض دنيا تهم إذا ما أقبلت وإذا ما أدبرت فهي في قلب الفتى مرض فكم لفرقتها أشفى على تلف صب بها مولع في حبها حرض وهي الغرور فمن يبغ الركون لها فإنه بين أهل الحق معترض صلوا وصوموا وهشوا للزكاة إذا ما كان مال، وقولوا: الحج مفترض وارضوا بما قسم الرحمن بينكموا فحسبكم أن تكونوا في الذين رضوا ولا تظنوا دوام الحال، واعتبروا بمن ترون عياناً، أو من انقرضوا

186

{لَتُبْلَوُنَّ} لتختبرن وتمتحنن {فِي أَمْوَالِكُمْ} بذهابها ونقصانها {وأَنْفُسَكُمْ} بالأمراض والأوبئة وفقد الأحبة {وَأَن تَصْبِرُواْ} على ذلك البلاء {وَتَتَّقُواْ} الله {فَإِنَّ ذلِكَ} الصبر والتقوى أي من الأمور الواجبة الاتباع؛ التي يحرص عليها، ويعزم على أدائها

187

{فَنَبَذُوهُ} طرحوا هذا الميثاق، وذلك الكتاب {وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} فلم يبينوه للناس، وكتموا ما فيه عنهم

188

{لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ} من الأعمال، ويظنون أنهم من خيار الصلحاء الأتقياء {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} أي يحبون أن يشتهر عنهم التقى وليسوا بالأتقياء، والصلاح؛ وليسوا بالصلحاء وهذا هو الرياء كل الرياء {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ} بمنجاة {مِّنَ الْعَذَابِ} وذلك لأن أعمالهم مردودة عليهم، وعباداتهم غير مقبولة منهم؛ لأن الرياء يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} جزاء مراءاتهم للناس، وتركهم الإخلاص

189

{وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} وما فيها من كواكب وأجرام {والأَرْضِ} وما عليها من دواب وحيوان وإنسان.

190

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وما فيها من عجب عجاب {وَاخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ} بالزيادة والنقصان، والنور والظلمة {لآيَاتٍ} لعبر {لأُوْلِي الأَلْبَابِ} ذوي العقول

191

{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ} يتذكرونه {قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} والمراد بذكر الله في هذه الحالات: هو خشيته ومراقبته في كل حالة؛ وليس كما يدعيه أرباب الطرق: من أن تأويله ما يفعلونه في مراقصهم مما يتنافى مع الدين وآدابه وقيل: المراد بالذكر: الصلاة؛ وليس بشيء. قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وكيف خلقهما الله تعالى، وكيف حفظهما، وكيف رزق من فيهما؟ قائلين في حال ذكرهم وتفكرهم {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا} الكون عبثاً و {بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} تنزهت وتعاليت عما يقوله الكافرون (أنظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء)

193

{رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً} هو الرسول أو القرآن الكريم {وَكَفِّرْ عَنَّا} استر وامح الاْبْرَارِ} جمع بر، أو بار؛ وهم المستمسكون بالشريعة، المحافظون على حدود الله تعالى

194

{وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا} من الفضل والرحمة والمغفرة {عَلَى رُسُلِكَ} أي على ألسنة رسلك

195

{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} أجاب دعاءهم، قائلاً لهم {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} وسأجزي كلاً بما فعل {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} يستوي في الأعمال الذكور والإناث {لأُكَفِّرَنَّ} لأمحون -[89]- {ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ} وجزاء لأعمالهم

196

{لاَ يَغُرَّنَّكَ} يا محمد، أو «لا يغرنك» أيها المؤمن {تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ} بالأموال والتجارة؛ فهذا

197

{مَتَاعٌ قَلِيلٌ} في الدنيا {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ} مرجعهم {جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} الفراش

198

{نُزُلاً} موضع إكرام. والنزل: ما يعد لنزول الضيف وإكرامه. {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} المتقين {وَأَنْ} اليهود والنصارى

199

{لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} ورسوله {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ} من القرآن {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} من التوراة والإنجيل.

200

{وَصَابِرُواْ} أي غالبوا الأعداء في الصبر على أهوال القتال، وشدائد الحروب {وَرَابِطُواْ} أي لازموا حدود بلادكم وثغوركم؛ مستعدين للدفاع والكفاح والغزو.

سورة النساء

سورة النساء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{يأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ} خافوه واخشوا عقابه {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} آدم عليه السلام {وَخَلَقَ مِنْهَا} أي من جنسها حواء {وَبَثَّ} فرق ونشر {مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} كثيرة؛ هم سائر الخلق من بني الإنسان {وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} أي يسأل بعضكم بعضاً ب الله استعطافاً كقولكم: أسألك ب الله أن تفعل كذا. ويسأل بعضكم بعضاً بالأرحام؛ يقول: بحق ما بيننا من الرحم افعل كذا «والأرحام» جمع رحم؛ وهو القرابة. أي واتقوا الأرحام فلا تقطعوها؛ بل صلوا أقرباءكم وبروهم {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} أي مراقباً لأعمالكم، فمجازيكم عليها؛ إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر

2

{وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} أعطوهم أموالهم، ولا تأكلوها لعجزهم عن مطالبتكم بها {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ} الحرام؛ أي لا تستبدلوا الأمر الخبيث؛ وهو أكل مال اليتامى {بِالطَّيِّبِ} الحلال؛ وهو المحافظة عليه، ورده لأصحابه {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ} بأن تضموها {إِلَى أَمْوَالِكُمْ} وتزعمونها لكم} إثماً

3

{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ} ألا تعدلوا شأن {الْيَتَامَى فَانكِحُواْ} تزوجوا {مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} انظر مبحث «تعدد الزوجات» بآخر الكتاب {ذلِكَ أَدْنَى} أقرب {أَلاَّ تَعُولُواْ} ألا تجوروا. من عال الحاكم في حكمه: إذا جار. أو {أَلاَّ تَعُولُواْ} بمعنى ألا تميلوا. من عال الميزان عولاً إذا مال. وقيل: المعنى: ذلك أدنى ألا يكثر عيالكم. يؤيده قراءة من قرأ «ألا تعيلوا»

4

{وَآتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ} مهورهن. -[91]- {نِحْلَةً} النحلة: العطاء الذي لا يقابله عوض. أو «نحلة» أي عن طيب نفس. أو «نحلة» بمعنى: حقاً لهن، لا مراء فيه؛ لأن النحلة أحد معانيها الدعوى {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ} أي من المهر بأن تنازلن لكم عن بعضه {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} حلالاً لا شبهة فيه؛ لأن كل حق تنازل عنه صاحبه - عن طيب نفس - فهو حلال طيب للمتنازل إليه

5

{وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ} المبذرون وعديمو الأهلية، أو هم النساء والصبيان أي لا تؤتي ابنك السفيه، ولا امرأتك السفيهة مالك؛ وكان أبو موسى الأشعري يقول: ثلاثة يدعون الله تعالى فلا يستجيب لهم: رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيهاً، ورجل كان له دين على آخر فلم يشهد عليه. والآية في السفهاء عامة بدون تخصيص والسفيه: هو المستحق الحجر؛ لفساده وإفساده وسوء تدبيره؛ فلا تؤتوهم {أَمْوَالَكُمُ} فيتلفونها ويضيعونها؛ وهي {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ} أي جعلها {قِيَاماً} قواماً لأبدانكم، وسبباً لمعاشكم ويدل على أن المراد بذلك الأبناء والزوجات قوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} لأن الإنسان غير مكلف برزق وكسوة سائر السفهاء؛ وإن كان مكلفاً بأن يقول للجميع {قَوْلاً مَّعْرُوفاً} والقول المعروف: أن يقول لهم: إن صلحتم ورشدتم أعطيناكم كذا، وسلمنا إليكم كذا وجعلناكم رؤساء آمرين، لا مرءوسين مأمورين؛ وأمثال ذلك. وقد يكون المراد بقوله تعالى: {أَمْوَالَكُمُ}: أموالهم؛ فيكون المراد سائر السفهاء كما قدمنا. وسمى مال السفهاء: أموال المخاطبين: لأن المال مشاع الانتفاع بين الناس، وتجب المحافظة عليه على كل واحد منهم

6

{وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى} أي اختبروا صلاحهم ودينهم وعقلهم {حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} أي سن الزواج؛ وهو بلوغ الحلم. هذا وقد قيدت القوانين الوضعية سن الزواج لمصالح ارتآها المقنن؛ وطاعة الحاكم واجبة ما لم تمس حرمات الله تعالى {فَإِنْ آنَسْتُمْ} وجدتم وعرفتم {مِّنْهُمْ رُشْداً} عقلاً وصلاحاً في التصرفات {فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ليتصرفوا فيها طبقاً لرغباتهم - في حدود ما أمر الله تعالى - وإلا فالحجر واجب على كل سفيه {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} أي مسرفين ومبادرين أكل أموالهم قبل أن يكبروا ويتسلموها منكم {وَمَن كَانَ} منكم {غَنِيّاً} أيها الأوصياء فَلْيَسْتَعْفِفْ} أي فلا يأخذ أجراً على وصايته {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} لا يزيد عن أجر إدارة أموال اليتيم فحسب

7

{لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ} حظ مقدر {مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ} من ذلك أيضاً {نَصِيباً مَّفْرُوضاً} فرضه الله تعالى

8

{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} قسمة الميراث {أُوْلُواْ الْقُرْبَى} ذوو القربة؛ ممن لا يرث -[92]- حضر {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ} من الميراث بقدر ما تطيب به نفوسكم {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} ترضية لنفوسهم، وتطييباً لقلوبهم. وهي وصية لأولي القربى: الذين يحزنون ولا يرثون. قال تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} وقد ذهب بعضهم إلى نسخ ذلك الحكم؛ وهو محكم وليس بمنسوخ؛ وقد أجمع على ذلك الصدر الأول من الإسلام: فقد روي عن يحيىبن يعمر رضي الله تعالى عنه: ثلاث آيات محكمات مدنيات؛ تركهن الناس: هذه الآية، وآية الاستئذان {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وآية التعارف {يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ} وقيل: على الوارث الإعطاء، وعلى المعطى له قول المعروف

9

{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ} بعد موتهم {ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ} نزلت هذه الآية في الأوصياء والمعنى: تذكر أيها الوصي ذريتك الضعاف من بعدك؛ وكيف يكون حالهم بعد موتك؛ وعامل اليتامى الذين وكل إليك أمرهم وتربوا في حجرك؛ بمثل ما تريد أن يعامل أبناؤك بعد فقدك

10

{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} أي ظالمين لهم {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} وهذا مشاهد في الدنيا: ترى آكل مال اليتيم؛ وقد انتابته الأمراض الفتاكة المهلكة؛ فهذه قرحة في المصارين تقضّ مضجعه، وهذا سرطان يسري في دمه ويأكل لحمه وهؤلاء أبناؤه وقد فسدوا خلقاً وخلقاً، وعاثوا فساداً وإفساداً، وأهلكوا ماله وأفسدوا حاله؛ جزاءً وفاقاً لما جنته يداه، وعصيانه لمولاه وقد ذهب المفسرون إلى أن المراد بالنار التي يأكلونها في بطونهم: نار الآخرة؛ لأن مآلهم إليها. والقول الذي ذهبنا إليه أولى لما نشاهده، ولقوله تعالى: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} في الآخرة

11

{يُوصِيكُمُ اللَّهُ} أي يعهد إليكم، ويأمركم {فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} أي مثل نصيب الأنثيين. ولا توجد حالة يسوي فيها المشرع بين الذكر والأنثى في الميراث؛ سوى عند وجود الأبوين مع ابن أو بنتين فصاعداً؛ فإن نصيب الأم يكون مساوياً لنصيب الأب؛ فيأخذ كل منهما السدس. وعند وجود إخوة، وإخوة لأم؛ فإنهم جميعاً يستحقون ثلث التركة: يقسم بينهم بالتساوي، لا فرق بين ذكورهم وإناثهم. ولا عبرة بما يدعو إليه غلاة الزنادقة، وأئمة الإلحاد؛ من مساواة المرأة بالرجل في الميراث؛ إذ أن ما يدعون إليه من أكبر الكبائر كيف لا وهو مخالف لما جاء به الكتاب الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والميراث من الحقوق التي قررها الله تعالى، وجعلها فريضة محكمة، وتوعد مخالفها والخارج عليها بنار الجحيم؛ والعذاب -[93]- الأليم:

14

{وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} فليس لإنسان - بالغ ما بلغ - أن يطمعه الشيطان؛ بأن هداه أهدى من هدى الله وليس لإنسان أن يحاول الخروج عما رسمه الله تعالى وأراده لعباده؛ وليس لهوى الإنسان، مكان مع صريح القرآن {وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً *

12

وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ} {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقد يقول قائل: إن الله قد جعل الإنسان حراً فيما آتاه وهو وهم يلقيه الشيطان لأوليائه من بني الإنسان؛ فهي حرية مقيدة بما فرضه وقرره واهب المال وقد جعله تعالى فتنة للناس {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} {فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} باتباع أحكامه، والتزام أوامره، ومن شاء اتخذ إلهه هواه، وخرج من دنياه بسخط المخلوقين، وغضب رب العالمين وليس معنى ذلك أننا نحرم الوصية المشروعة؛ التي يجب وضعها حيث أمرالله؛ وما شرعها تعالى إلا لزيادة ثواب فاعلها وتنمية أعماله؛ وهي - في حدود الثلث - لذوي القربى من المعوزين، ولذوي الحاجات من الفقراء والعاجزين وقد جاء في الحديث الشريف: أن أحد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم منح أحد أولاده بعض ماله، وجاء ليشهد الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه على ما منح؛ فسأله: «أله إخوة؟» قال: نعم يا رسولالله. قال: «أكلهم أعطيت مثلما أعطيته؟» قال: لا. قال عليه الصلاة والسلام: «لا أشهد على جور؛ اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» وقد وضح من ذلك الحديث: أن محاباة بعض الأبناء ظلم وجور؛ وعن ذلك نهى الله تعالى ورسوله {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} في الدنيا والآخرة؛ ولكن الله يدري ذلك؛ فقسم حيث توجد المصلحة، وتتوفر المنفعة. وهذا يتنافى مع ما يعمله بعض الجهال؛ من إيثار بعض أبنائه بماله، وحرمان البعض الآخر؛ مما يوجب البغضاء والشحناء، ويؤدي إلى ارتكاب الجرائم، ووخيم العواقب {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ} إلى بعض الأقرباء الفقراء؛ كما بينا في الآية السابقة {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً} الكلالة: الذي لا ولد له ولا والد {غَيْرَ مُضَآرٍّ} أي بشرط أن تكون تلك الوصية للمصلحة؛ لا بقصد الإضرار بالورثة {تِلْكَ} الفرائض التي بيّنها الله تعالى وشرعها {حُدُودُ اللَّهِ} فلا ينبغي تجاوزها {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}

15

{وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ} هي المساحقة. وقال الأكثرون: هي الزنا، وإنها -[94]- نسخت بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} وسندهم في ذلك قوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ} واشتراط الأربعة الشهداء؛ لم يرد إلا في الزنا {فَإِن شَهِدُواْ} بإتيانهن الفاحشة {فَأَمْسِكُوهُنَّ} احبسوهن {فِي الْبُيُوتِ} فلا يختلطن بأحد - رجالاً أو نساء - عقوبة لهن وحفظاً {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} طريقاً للخلاص؛ مما هن فيه من الحبس، ومما كن عليه من الإثم وذلك السبيل بالزواج. ويرد على قول من قال: إن هذه الآية نزلت في الزنا وإنها منسوخة؛ يرد على ذلك بقوله تعالى:

16

{وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} فخص في الأولى الإناث وحدهن، وفي الثانية الرجال وحدهم؛ فبان لنا من ذلك أنه تعالى إنما عنى في الأولى المساحقة، وفي الثانية اللواط {فَآذُوهُمَا} أي اللائط والملوط به: والإيذاء يكون بالضرب، والتوبيخ، والتشنيع، والتعبير، والهجران، وغير ذلك. وهو دليل أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه؛ في حد اللائط بالتعزير. والتعزير قد يصل إلى حد القتل؛ وقد قضوا في اللائط؛ بأن يلقى من حالق واللواط من الفواحش الذميمة التي يستحق مرتكبها أن يقطع إرباً، ويلقى للكلاب؛ جزاء فعلته التي قبحها الله وتوعد فاعلها عافانا الله تعالى من كل ما يغضبه بمنه وكرمه، وأنجانا من ذل المعصية، ووهبنا عز الطاعة؛ إنه سميع مجيب {فَإِن تَابَا} عن اللواط {وَأَصْلَحَا} أعمالهما {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ} توقفوا عن إذايتهما؛ ما داما قد تابا إلىالله، وأصلحا {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً} قابلاً لتوبة من تاب {رَّحِيماً} بعباده؛ إذا حسنت توبتهم: بدل سيئاتهم حسنات

17

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} يقبلها ويثيب فاعلها {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} بجهل منهم عاقبة أمرهم {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} أي يتوبون سريعاً، ويرجعون إلى مولاهم ومن علامة التوبة النصوح: عدم العود إلى الذنب؛ وإلا فالعائد لذنبه، كالمستهزىء بربه وهذه هي التوبة المتقبلة؛ التي تجعل صاحبها في عداد الطيبين الصالحين

18

{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} ولا يعبأون بفاطر الأرض والسموات وهم أهل الإصرار على المعاصي {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} أي حضرت أسبابه ومقدماته، وأخذ في النزع {قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} فهذا الغر لا تقبل توبته، ولا ترد غربته، ولا تحمد أوبته فما أشبهه بفرعون - حين أدركه الغرق، وأخذ الموت بتلابيبه - قال: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِيلَ} فقيل له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (انظر آية 91 من سورة يونس) {وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا} أعددنا وهيأنا {لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} في جهنم وبئس المصير

19

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ -[95]- كَرْهاً} أي لا يحل لكم أن تأخذوا نساء مورثكم فتتزوجوهن كأنهن من الميراث المتروك لكم؛ وكان ذلك شأنهم في الجاهلية. وقد يكون المعنى: لا يحل لكم أن ترثوهن أحياء؛ فتأخذوا أموالهن كرهاً {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} العضل: الحبس والتضييق {لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ} من المهر ونحوه {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} هي الزنا. وقيل: ما تستحيل معه المعيشة: كالنشوز، وإيذاء الزوج وأهله؛ فهنا فقط يجوز للزوج أن يسترد ما آتاها {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} بالمودة والرحمة اللتان فرضهما الله تعالى بين الأزواج {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} وهو حث كريم على العطف وعدم التطليق إلا للضرورة القصوى التي تستحيل معها جنة الحياة الزوجية، إلى جحيم الشحناء والبغضاء

20

{وَإِنْ أَرَدْتُّمُ} أيها الأزواج {اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} بتطليق وتزوج {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ} أي آتيتم الزوجة المرغوب عنها، المرغوب في تطليقها {قِنْطَاراً} كناية عن كثرة المعطى لها؛ من مهر وهدية ونحوهما {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} وصف الله تعالى أخذ المطلق شيئاً مما آتاه لمطلقته بالبهتان - وهو الظلم - وبالإثم المبين - وهو الذنب البين الفادح. وهذا النهي في حالة واحدة: هي رغبة الرجل وحده في التطليق؛ ابتغاء «استبدال زوج مكان زوج» أما في حالة رغبتها هي في الانفصال؛ فيجوز له أخذ كل ما آتاها أو بعضه؛ لقوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} نفسها؛ لتخلص من هذا الزوج الذي لا ترغب في البقاء تحت إمرته (انظر آية 229 من سورة البقرة)

21

{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ} هو كناية عن الخلوة الصحيحة {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} الميثاق الغليظ: هو ما أمر الله تعالى به من إمساكهن بالمعروف، أو تسريحهن بإحسان، أو هو عقد الزواج، أو هو كناية عن الالتقاء والمجامعة. أو المراد بالإفضاء والميثاق: هو ما بينهما من المودة والمحبة، وما يجب عليهما من ستر المعايب، والمحافظة على السر

22

{وَمَقْتاً} وبغضاً عند الله تعالى:

23

{وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} أي بنات أزواجكم اللاتي ربيتموهن؛ وسميت ربيبة: لتربيته لها. والتحريم يتناول من تربت في الحجر ومن لم تترب فيه؛ لأن الزوجة المدخول بها: يحرم على الزوج أصولها وفروعها. وقد ذهب أهل الظاهر إلى أن الربيبة لا تحرم إلا بشرطين: الدخول بالأم، والتربية في الحجر؛ فإذا انعدم أحد الشرطين؛ لم يوجد التحريم {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} لا حرج في تزوج الربيبة في حالة طلاق الزوجة، أو موتها قبل الدخول بها؛ والدخول: كناية عن الجماع {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ} -[96]- جمع حليلة؛ وهي الزوجة {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ} لما في الجمع بينهما من مضارة لهما؛ وإبدال ما بينهما من ود بالغ، إلى حقد شنيع ويحرم أيضاً الجمع بين المرأة وعمتها، أو خالتها، أو ابنة أخيها، أو ابنة أختها؛ لقوله: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها وعلى ابنة أخيها ولا على ابنة أختها»

24

{وَالْمُحْصَنَاتُ} المتزوجات {مِّنَ النِّسَآءِ} أي وحرمت عليكم النساء المتزوجات؛ ويتناول التحريم: أن يتعرض لها بوعد، أو أن يعرض نفسه عليها {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} فهن غير محرمات. وهن اللائي سبين في الحرب، ولهن أزواج من الكفار المحاربين؛ فقد أصبحت - بالكفر والسبي - من ملك اليمين؛ حلالاً لمن أخذها؛ بشرط أن يستبرئها؛ وإذا باعها فقد طلقت منه بالبيع. وقيل: «المحصنات» العفائف {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} بالعقد. وقيل: هن نساء أهل الكتاب: لا تحل إلا إذا ملكت بالسبي وقت الحرب {كِتَابَ اللَّهِ} أي كتب الله تعالى تحريم ما حرم، وتحليل ما حلل من ذلك {عَلَيْكُمْ} فلا تحلوا ما حرم، أو تحرموا ما أحل {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ} الحلال {بِأَمْوَالِكُمْ} للمهر أو للثمن {مُّحْصِنِينَ} متزوجين. والإحصان: العفة، وتحصين النفس من الوقوع في الحرام {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} غير زانين. والمسافحة: الزنا {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} بالزواج {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مهورهن {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} لا إثم، ولا حرج {فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} أي في إنقاص جزء من المهر المفروض؛ بشرط التراضي الكامل؛ الذي لا عسف فيه ولا إكراه غناء وسعة

25

{أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} الحرائر العفيفات إمائكم {الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} أي ليتزوج أحدكم أمة أخيه أو صديقه - ما دامت قد أظهرت إيمانها - والله أعلم بسرائركم {بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ} أي إنكم جميعاً بنو آدم؛ قد خلقتم من نفس واحدة؛ فلا داعي أن تستنكفوا من زواج الإماء المؤمنات؛ حيث إنكم في ضيق لا يمكنكم من زواج الحرائر؛ أليس الزواج بالأمة خير من الوقوع في الزنا؟ {فَانكِحُوهُنَّ} تزوجوا الإماء {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} مواليهن {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مهورهن {بِالْمَعْرُوفِ} على ما تراضيتم به؛ من غير مطل {مُحْصَنَاتٍ} عفيفات {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} زانيات {وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} جمع خدن: وهو الخليل {فَإِذَآ أُحْصِنَّ} زوجن {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} أي زنين {فَعَلَيْهِنَّ} أي على الإماء من الحد {نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} الحرائر {ذلِكَ} الذي أبحته لكم من زواج الإماء {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} الزنا. وأصل العنت: الضيق والضرر والمشقة -[97]- {وَأَن تَصْبِرُواْ} عن المعاصي، وعلى الطاعات {خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ} لما فرط منكم؛ إن أصلحتم أمور أنفسكم فيما بينكم وبينه {رَّحِيمٌ} بكم؛ لا ينهاكم إلا عما فيه الضرر المحيق بكم، ولا يأمركم إلا بما فيه المصلحة الدنيوية والأخروية لكم

26

{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} الشرائع السليمة {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} طرق من سبقكم من رسل الله تعالى وأنبيائه، وعباده المؤمنين الصالحين

27

{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يغفر ذنوبكم، ويعفو عما سلف من آثامكم {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} من شياطين الإنس؛ الذين نسوا مولاهم، وجعلوا إلههم هواهم {أَن تَمِيلُواْ} عن الإيمان والحق

28

{يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} بما يسره وأباحه لكم؛ من زواج الأمة - عند تعذر زواج الحرة - وبما رخصه لكم {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} لا يستطيع الصبر عن النساء

29

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} بما لم يبحه الشرع؛ كالغصب، والقمار، والربا، والسرقة، وما شاكل ذلك {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} تديرونها بينكم {عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} على أن يكون التراضي غير مشوب بإكراه؛ كمن يرى تاجراً في ضيق فينتهز فرصة ضيقه وإفلاسه، ويساومه في بضاعته، بدون ثمنها المعلوم، أو بأقل مما يشتري به مثلها؛ فيقبل البائع مضطراً؛ لحاجته. ويقول المشتري في نفسه: أليس البيع عن تراض؟ أليس من حقي أن أشتري بالثمن الذي أرتضيه؟ ويستحل بذلك ما حرم الله تعالى فليس هذا بالتراضي المطلوب الذي أراده الله تعالى؛ بل هو بالغصب أشبه. وإنما التراضي: أن تكون نفس البائع راضية؛ ونفسه لن تكون راضية وهو خاسر في بيع سلعته؛ أكرهته الظروف على هذا البيع، واضطرته مطامع المشتري إليه فليتق الله من يرغب في جنته، وليتجنب الشبهات في ماله وعرضه ودينه {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ} أي لا يقتل بعضكم بعضاً، أو لا تفعلوا ما يوجب قتلها. أو هو على ظاهره بمعنى الانتحار

30

{وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ} بأن يأكل أموال الناس بالباطل، أو يشتري بغير تراض، أو يقتل النفس التي حرم الله تعالى قتلها {عُدْوَاناً} منه على الغير {وَظُلْماً} لهم {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ} ندخله {نَاراً} جهنم وبئس المصير

31

{إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الكبائر: لا تعد، ولا تحد؛ وأكبرها: الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، والزنا، وشرب الخمر، وقول الزور، والفرار يوم الزحف. وقد قالوا: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار أي إن الصغائر إذا لازمها المذنب وأصر على إتيانها: فهي كبائر، والكبائر إذا ندم على ارتكابها، واستغفر ربه منها؛ قبله الله تعالى وغفرها له {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} -[98]- المراد بالسيئات: الصغائر

32

{وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي ألزموا الطاعة، وتمسكوا بأهداب القناعة؛ ولا تطمحوا بأعينكم إلى ما خص الله تعالى به غيركم؛ فهو جل شأنه مالك الملك؛ يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء؛ بيده الخير كله وهو حث على عدم الحقد والحسد. وقيل: نزلت حين تمنت النساء مثل أجر الرجال {وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} فإن آلاءه لا تعد، وفواضله لا تنفد؛ وهو وحده القادر على تحقيق أمانيكم، وبلوغ آمالكم

33

{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} وهم الأقرباء الذين ليست لهم فرائض مسماة؛ فيأخذون ما بقي - من الميراث - من أصحاب الفرائض

34

{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ} أي قائمون عليهن بالأمر والنهي والتوجيه، والزجر والتأديب، والإنفاق والرعاية؛ كما يقوم الولاة على الرعية. وذلك لأن القوامة أحوج إلى الحزم والتدبير؛ منها إلى الحنان والوجدان فصفات الرياسة والقوامة متوافرة في الرجل توافراً كاملاً؛ لأنه خلق ليكون قائداً ورائداً؛ كما أن صفات الرقة والحنان، والرحمة والوجدان؛ متوافرة في المرأة؛ لأنها خلقت لتكون زوجاً وأماً {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي هذه القوامة بسبب تفضيل الله تعالى للرجال على النساء؛ لوفور علمهم، ومزيد قوتهم، واضطلاعهم بالأعباء الجسام {وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} لأن النفقة واجبة عليهم. وهذا هو سبب قوامة الرجل على المرأة، فإذا انعدمت هذه الأسباب؛ وكان الرجل خاملاً، ضعيفاً، جاهلاً، معدماً؛ فأي قوامة له على المرأة النابهة، القوية، العالمة، الغنية؟ {فَالصَّالِحَاتُ} من النساء {قَانِتَاتٌ} مطيعاتلله تعالى ولأزواجهن {حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} أي حافظات لعرضه وماله - حال غيبته - بما أمر الله به أن يحفظ. أو حافظات لما يجري بينهن وبين أزواجهن مما يجب كتمه، ويجمل ستره. قال: «إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه؛ ثم ينشر أحدهما سر صاحبه» ولا يخفى ما يأتيه الآن سفهاء القوم؛ حين يصبح أحدهم فيقول: صنعت في ليلة أمس كيت وكيت، وتصبح زوجته أيضاً فتقول لجارتها: لقد صنع بي أمس كيت وكيت. فيتضاحكن لتلك السفاهة الشنيعة، والبذاءة الممقوتة {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} عصيانهن {فَعِظُوهُنَّ} أي مروهن بالطاعة {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} بأن لا تناموا معهن في فراش واحد. أو كناية عن عدم إتيانهن {وَاضْرِبُوهُنَّ} ضرباً يسيراً غير مبرح؛ ولكنه يبلغ حد الإيلام، وإلا انتفت به حكمة التأديب. انظر كيف يعلمنا الله سبحانه وتعالى كيف نؤدب نساءنا؟ وكيف نتدرج بهذا التأديب؛ فمن نصح يبلغ -[99]- حد اللطف، إلى هجر لا يبلغ حد العنف، إلى ضرب بعيد عن القسوة؛ فإذا نفع الوعظ: حرم الهجر. وإذا تم التأديب بالهجر: حرم الضرب {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} أي إن أطعنكم بالوعظ؛ فلا تبغوا عليهن بالهجر، وإن أطعنكم بالهجر؛ فلا تبغوا عليهن بالضرب

35

{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} أي إن استحكم هذا الشقاق، وخشيتم عواقبه؛ ولم تتأدب بما أدبها الله تعالى به، أو تجاوز الزوج حدود الله في تأديبها {فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} ليبحثا ما بين الزوجين من خلاف {إِن يُرِيدَآ} الحكمان {إِصْلاَحاً} بين الزوجين {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ} أي بين الحكمين؛ فيزيلا ما بين الزوجين. أو «يوفق الله بينهما» أي بين الزوجين {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً} بما فعله الحكمان {خَبِيراً} بمكنون صدورهما {} حق عبادته

36

{وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} قرن تعالى عبادته بالإحسان بالوالدين في غير موضع من كتابه الكريم؛ لما لهما على الابن من فضل يعجزه وفاؤه {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} القريب منك {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} البعيد عنك. أو المراد بها قرابة النسب؛ وعلى كلا المعنيين فقد أوصى الله تعالى بذي القربى - جاراً كان أو غير جار - وقد أوصى جبريل الأمين الرسول الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليهما بالجار حتى ظن النبي أنه سيورثه؛ ومن وصيته عليه الصلاة والسلام بالجار: «إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن مرض عدته، وإن احتاج أعطيته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإن مات تبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فاهد له، وإن لم تفعل فأدخلها سراً، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده» {وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ} وهو الذي رافقك في سفر، أو تعلم علم، أو جاورك في الصلاة. وقيل: هي امرأة الرجل تكون إلى جنبه {وَابْنِ السَّبِيلِ} المسافر المنقطع {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} من العبيد والإماء {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً} متكبراً {فَخُوراً} على الناس بجاهه وماله

37

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} من مال كثير، ورزق وفير؛ فلا يعطون منه الفقير؛ فحسبهم جهنم وبئس المصير {وَأَعْتَدْنَا} هيأنا وأعددنا {لِلْكَافِرِينَ} الذين يبخلون بما آتاهم الله {عَذَاباً مُّهِيناً} هذا شأن الذين يبخلون؛ أما الذين يتظاهرون بالكرم والجود - رياء ونفاقاً - فهم أسوأ حالاً ومآلاً ممن يبخلون وقد وصفهم الله تعالى بقوله:

38

{وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ} أي مراءاة لهم {وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} لأنهم لو آمنوا بربهم؛ لعملوا له لا لمخلوقاته -[100]- فهم في العطاء أسوأ من البخلاء؛ لأنهم قرناء الشيطان {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً} أي مصاحباً؛ يأمر فيطاع: يأمره بكل شر، وينهاه عن كل خير

40

{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ} وزن. من الثقل {ذَرَّةٍ} وهي أصغر من النمل أو هو ما يذره الهواء من صغار المخلوقات؛ التي خلقها بارىء الأرض والسموات {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} ينمها ويزدها

41

{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا} يوم القيامة {مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} هو رسولها يشهد بما لها أو عليها {وَجِئْنَا بِكَ} يا محمد {عَلَى هَؤُلاءِ} أي على قومك {شَهِيداً} بما عملوا من عناد وفساد

42

{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ} أي لو يدفنون وتسوى بهم الأرض كما يفعل بالموتى {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} أي ولا يستطيعون أن يكتموا الله تعالى ما فعلوا؛ وكيف يكتمونه وأعضاءهم وجوارحهم تشهد عليهم

43

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} قيل: نزلت هذه الآية في بدء تحريم الخمر؛ حين قرأ أحدهم في صلاته «قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون» فنهوا عن الصلاة وهم سكارى {وَلاَ جُنُباً} أي لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} أي إلا مسافرين؛ فقد أبيحت لكم الصلاة بغير وضوء - عن فقدان الماء - ويجزىء حينذاك التيمم {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ} جامعتموهن {فَتَيَمَّمُواْ} اقصدوا {صَعِيداً} هو وجه الأرض؛ تراباً كان أو حجراً أو غيرهما {طَيِّباً} طاهراً {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً} كثير العفو {غَفُوراً} للمذنبين: سبحان من نهفو ويعفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا يعطي الذي يخطى؛ ولا يمنعه جلاله من العطا لذي الخطا

44

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ} هم أحبار اليهود {يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ} يختارونها {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ} أي يريدون أن تكونوا مثلهم في الضلال، وتخطئوا طريق الحق

46

{مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ} من اليهود قوم {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} أي يبدلون الكلام عن معناه. قال بعضهم: أريد بالكلم التوراة. وقد أخفوا فيها ذكر محمد عليه الصَّلاة والسَّلام، وأخفوا منها آية الرجم {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} المعنى: إنهم سمعوا قوله؛ فتلقوه بالعصيان. وقد عبر تعالى عن ذلك بالقول - مع أنهم لم يقولوه - كما جاء في قوله تعالى: {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} هو دعاء بمعنى: اسمع لا سمعت {وَرَاعِنَا} هي كلمة سب بالعبرية أو السريانية {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} أي يلوون ألسنتهم بقوله {غَيْرَ مُسْمَعٍ} وقوله {رَاعِنَا} التي هي في الحقيقة سب ودعاء، ويقولونها في قالب -[101]- آخر، كقولهم: السام عليكم مكان «السلام عليكم» والسام: الموت

47

{يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} من اليهود والنصارى {آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا} من القرآن، على رسولنا محمد {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} من التوراة والإنجيل {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} نغيرها بالمسخ {أَوْ نَلْعَنَهُمْ} نطردهم من رحمتنا أو نمسخهم قردة {كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ} اليهود الذين خالفوا بالصيد يوم السبت؛ وقد نهوا عنه {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}

49

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} يمدحونها ويصفونها بالطاعة والتقوى؛ وهو إثم. وأريد بهم اليهود؛ حيث قالوا {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} وليست تزكية النفس بالقول {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ} يأجره ويجزيه {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} هو كناية عن القلة. والفتيل: الذي يفتل بين الأصابع؛ لتفاهته وقلته

51

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ} اليهود {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ} الصنم، أو الكاهن، أو الساحر {وَالطَّاغُوتِ} كل رأس في الضلال. وقيل: الجبت والطاغوت: صنمان كانوا يعبدونهما في الجاهلية {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ} أي هؤلاء الناس الذين وصفهم كتاب محمد بالكفر {أَهْدَى} سبيلاً {مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ} بمحمد

52

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} طردهم من رحمته

53

{أَمْ لَهُمْ} أي أم لهؤلاء اليهود {نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ} من ملك الله؛ يعطون من أرادوا ويمنعون من شاءوا {فَإِذَآ} إذا كان لهم نصيب من الملك {لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} النقير: النقرة في ظهر النواة؛ وهو مثل في القلة: ضربه الله تعالى لهم؛ إشارة لشدة بخلهم. وهذا كقوله تعالى: {قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ}

54

{أَمْ} بل {يَحْسُدُونَ النَّاسَ} المسلمين {عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} وهو بعث الرسول محمد صلوات الله تعالى وسلامه عليه فيهم، وإنزال القرآن الكريم إليهم {فَقَدْ آتَيْنَآ} من قبل محمد {آلَ إِبْرَاهِيمَ} إبراهيم وأبناءه عليهم السلام {الْكِتَابَ} الكتب التي أنزلت إليهم: كصحف إبراهيم، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وزبور داود {وَالْحِكْمَةَ} النبوة والعلم النافع {وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} كملك سليمان - وهو من آل إبراهيم: وقيل: المراد بالملك: النبوة، والجاه، وكثرة الأتباع، والانتصار على الكفار. وذهب أكثر المفسرين - سامحهم الله - إلى أن المقصود بـ {النَّاسُ} في الآية: محمد، وبالفضل الذي آتاهالله: ما أباحه له من النسوة؛ ينكح منهن ما شاء بغير عد ولا حد. وقد وثقوا هذا التأويل الفاسد بعنعنة دونوها، وأسماء طنانة أوردوها، وألفاظ نمقوها، وهو قول فاسد يأثم قائله وراويه وناقله، ومعتقده فلا حول ولا قوة إلا ب الله

55

{فَمِنْهُمْ} أي من الذين أوتوا الكتاب من يهود -[102]- بني إسرائيل {مَّنْ آمَنَ بِهِ} أي بمحمد عليه الصَّلاة والسَّلام. أو {مَّنْ آمَنَ بِهِ} أي بالكتاب - أي كتاب منزل - وليس فيه. ما يؤمنون به من الجبت والطاغوت بل فيه نعت محمد عليه الصَّلاة والسَّلام، وأنباء بعثته {وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} أي أعرض ومنع الناس عن الإيمان به

56

{سَوْفَ نُصْلِيهِمْ} ندخلهم {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} أي أحرقت {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} وذلك لأن أشد العذاب والإيلام يكون عن طريق سطح الجلد؛ فإذا ما احترق الجلد: فتر الألم، وقل العذاب. أما وقد قضى ربك بتعذيبهم، والتشديد عليهم، وعدم النظر إليهم، وطردهم من رحمته وحرمانهم من عطفه لذا فإنه تعالى قدر أن تبدل جلودهم كلما نضجت {لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} الذي كفروا به، وكذبوا بحدوثه

57

{وَالَّذِينَ آمَنُواْ} ب الله تعالى، وملائكته وكتبه ورسله، وبعثه وجنته وناره {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} التي أمرهم الله تعالى بها وحضهم عليها؛ وماتوا على ذلك {لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} مما يستقذر عادة؛ كالحيض والنفاس والأنجاس {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} أي دائماً لا تنسخه شمس

58

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} هي في ولاة الأمور؛ وتأدية الأمانة إلى أهلها: أن تضع ثقتك في محلها؛ فلا يحكمك إلا من هو أهل للحكم، ولا يليك إلا من هو أهل للولاية؛ فلا تلعب بك الأهواء، فتجعل ثقتك في غير موضعها؛ وتخون الأمانة التي وضعها الله تعالى في عنقك. والأمانات: كل ما ائتمنت عليه من مال، أو عهد، أو عقد، أو سر، أو شبه ذلك {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} أي نعم الشيء الذي يعظكم به؛ وهو تأدية الأمانات إلى أهلها، والحكم بين الناس بالعدل

59

{أَطِيعُواْ اللَّهَ} أي أوامره ونواهيه الواردة في القرآن {وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} أي ما جاء عنه من القول السديد، والفعل الحميد {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} في هذه الآية دليل على أن أولي الأمر الواجبة طاعتهم على الأمة: يجب أن يكونوا منها - حساً ومعنى، ولحماً ودماً - {وَأُوْلِي الأَمْرِ} هم الولاة والسلاطين؛ ما داموا قائمين بأمر الله تعالى؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} أي إذا اختلفتم فيما بينكم وبين أنفسكم في أمر من الأمور أو إذا تنازعتم أنتم وأولوا الأمر {فَرُدُّوهُ} ارجعوا في حكم هذا النزاع {إِلَى اللَّهِ} إلى ما جاء في كتابه المستبين {وَالرَّسُولِ} وإلى الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه حال حياته، وإلى سنته وهديه من بعده {ذلِكَ} الرجوع إلى الله ورسوله فيما شجر بينكم من خلاف {خَيْرٍ} من رد النزاع إلى النهور والتعصب الأعمى {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} مآلاً وعاقبة

60

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} من القرآن؛ وهم بعض من آمن من اليهود {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} من التوراة -[103]- والإنجيل. أو المراد بـ: {الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ}: بعض المؤمنين أو المنافقين {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} بعض اليهود {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ} وهو كل رأس في الضلال؛ من ساحر وكاهن ونحوهما {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} أي أمروا بالتحاكم إلى الله ورسوله. قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}

61

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ} نحتكم {إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} في كتابه {وَإِلَى الرَّسُولِ} ليحكم في تنازعنا {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} يمنعون الناس من الاتصال بك، والإيمان بما أنزل عليك، والاحتكام إليك

62

{فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ} نزلت بهم نازلة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بسبب ما قدموه من كفران وعصيان {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ} ما أردنا في الاحتكام إلى غيرك {إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} بين الناس

63

{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من النفاق {وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ} ازجرهم في السر {قَوْلاً بَلِيغاً} زجراً عنيفاً؛ ليتعظوا ويؤمنوا، ويرجعوا عن نفاقهم. أو {وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ} أي فيما ارتكبته أنفسهم من آثام

64

{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} بارتكاب الآثام، وتعريضها للعقاب {جَآءُوكَ} تائبين {فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ} مما فرط منهم {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} هو على طريقة الالتفات؛ أي واستغفرت لهم مستشفعاً {لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً} أي قابلاً لتوبتهم واستغفارهم؛ كيف لا. وقد تابوا وأنابوا، واستشفع لهم شفيع الأمة ومنقذها صلوات الله تعالى وسلامه عليه

65

{فَلاَ وَرَبِّكَ} أقسم تعالى بخاتم رسله وأنبيائه {لاَ يُؤْمِنُونَ} إيماناً حقيقياً {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} فيما اختلط عليهم، واختلفوا فيه {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ} أي المتحاكمون {فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} ضيقاً {مِّمَّا قَضَيْتَ} به بينهم {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} بظواهرهم وبواطنهم، بألسنتهم وقلوبهم

66

{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} فرضنا وقضينا {أَنِ اقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ} أي عرضوها للقتل بالجهاد {أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ} مهاجرين إلى الله {مَّا فَعَلُوهُ} لأن قلوبهم لم تطمئن بعد للجزاء الذي وعدتهم به {إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} ممن أنار الله بصيرته، وأنقى سريرته {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ} من الإقدام والاستبسال {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} لأنهم سيفوزون بالنصر والغنيمة، أو بالأجر والشهادة {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} لقلوبهم، وتحقيقاً لإيمانهم

68

{وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} طريقاً واضحاً قويماً

69

{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} الصديق: المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة، وباطنه بالمراقبة ويطلق على خواص صحابة الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام

71

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ} من الأعداء {فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ} أي فاخرجوا إلى العدو جماعات متفرقة: سرية بعد سرية؛ و «الثبات»: الجماعات؛ واحدها ثبة {أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً} مجتمعين؛ حسبما تقتضيه ظروف ملاقاة العدو، وأسباب الحرب وفنونه؛ من كر وفر، وإقدام وإحجام، وتظاهر بالكثرة الغالبة، أو بالقلة الضاربة

72

{وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} ليتثاقلن ويتخلفن عن الجهاد؛ ويثبطن همم المجاهدين {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ} انتابتكم هزيمة {قَالَ} المنافق، الجبان، المتثاقل، المتخلف، المثبط {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} بالسلامة والنجاة {إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً} مشاهداً للقتال، وحاضراً فيه

73

{وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله} نصر وغنيمة {لَيَقُولَنَّ} متندماً على ما فاته من نصر وكسب {يلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ} بما فازوا به

74

{فَلْيُقَاتِلْ} أمر صريح بالجهاد {فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ} يبيعون {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} أي يستبدلونها بها

75

{وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} أي وما لكم لا تقاتلون في سبيلالله، وفي سبيل خلاص المستضعفين؛ الذين أسرهم الكفار، أو المراد بالمستضعفين: النساء. أي في سبيل حماية نسائكم من الاعتداء، وأعراضكم من الضياع. -[105]- {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} هي مكة؛ إذ أنها كانت موطن الكفر، ولذا هاجر منها الرسول

76

{الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في سبيل إعلاء كلمته، ونصرة دينه {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} الطغيان، أو هو كل رأس في الضلال. {فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} أنصاره {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} لأن كيده معلوم لأرباب القلوب، ويمكن لكل ذي لب أن يتحاشاه

77

{أَلَمْ تَرَ} يا محمد {إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} عن القتال؛ قبل فرض الجهاد فرض {عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ} أي يخشون لقاء الأعداء في الحرب؛ لجبنهم {كَخَشْيَةِ اللَّهِ} وعذابه {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} منالله؛ وأمثال هؤلاء لا نقول بنفاقهم أو ضعف إيمانهم؛ بل هو الكفر بعينه (انظر آية 18 من سورة التوبة) {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى} متاع الدنيا قليل زائل، ومتاع الآخرة كثير دائم؛ والكثير إذا كان مشرفاً على الزوال: فهو قليل؛ فكيف بالقليل الزائل؟ {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} هو مثل للقلة؛ وهو ما يفتله الإنسان بأصبعيه؛ ولقلته وحقارته

78

{وَإِن تُصِبْهُمْ} أي اليهود، أو المنافقين {حَسَنَةٍ} خصب وسعة، وسلامة وأمن {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} جدب وفقر، ومرض وخوف {يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ} أي بشؤمك علينا {قُلْ كُلٌّ} من الخصب والرخاء، والجدب والبلاء -[106]- {مِنْ عِندِ اللَّهِ} يمتحن بها من يشاء؛ ليعلم علم ظهور: أيشكرون على السراء أم يفجرون؟ ويصبرون على الضراء أم يكفرون؟

79

{مَّآ أَصَابَكَ} أيها الإنسان {مِنْ حَسَنَةٍ} نعمة وإحسان {فَمَنَّ اللَّهُ} بفضله ومنته {وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ} بلية ومصيبة {فَمِن نَّفْسِكَ} بذنب ارتكبته، وتقصير أتيته. وقد ذهب بعض الجهال إلى أن المراد بالحسنة: الطاعة. وبالسيئة: المعصية؛ وبنوا على ذلك قصوراً من الآمال، على كثبان من الرمال ونسقوا على ذلك البطلان قول الحكم العدل اللطيف الخبير {قُلْ كُلٌّ} من الطاعة والمعصية {مِنْ عِندِ اللَّهِ} وهو قول هراء ينسب ظلم العالمين، لأحكم الحاكمين؛ وهو القائل في كتابه المبين {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ} {فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} {وَمَن تَوَلَّى} أعرض عن الإيمان

81

{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} أي أمرنا طاعة لك {فَإِذَا بَرَزُواْ} خرجوا {مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} بيت الأمر: دبره ليلاً؛ وهي في الغالب تستعمل في الشر للمبيت له {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} لا تعبأ بهم، فإن الله حافظك منهم {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} والتوكل على الله تعالى: هو الوثوق به عند الملمات، والاعتماد عليه في سائر الحالات وهي مرتبة سامية قلَّ أن يرتفع إليها إنسان؛ إلا من هدىالله، وقليل ما هم فقد اعتاد الغالبية العظمى أن يعتمدوا على المال - وهو عرض زائل - أو على بعض المخلوقين - وهو جسم فان - فالذي تعود الاتكال على ماله، أو على صديقه: يأتيه زمن تضيق به دنياه بل تضيق به نفسه؛ فلا يجد من ماله نفعاً، ولا من أصدقائه متنفساً، ولا يجد من دون الله ولياً يلي أمره، ولا نصيراً ينصره في نكبته، أو يعينه في محنته أما إذا كان العبد متوكلاً على الله حق توكله؛ فهو تعالى كافيه من كل شر، وحافظه من كل سوء وأين المال والصديق عند زلزلة العقائد، وعند الأزمات الحالكة، والأوقات العصيبة؟ أين المال والصديق ساعة الموت، وعند طلوع الروح، وفي ظلمة القبر ووحشته؟ بل أين المال والصديق عند الحساب؟ وعندما تتفتح أبواب النيران؛ ويقال لها {هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ}؟ عند ذاك لا ينفع مال ولا بنون؛ إلا من أتى الله بقلب سليم وعرفه حق معرفته، وتوكل عليه حق توكله قال: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدوا خماصاً، وتروح بطاناً» ولا شك أن فتنة المحيا والممات، ونسيان القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ لا شك أن كل هذه البلايا -[107]- العظام، وهاتيك المصائب الجسام؛ لا سبب لها سوى ترك التوكل، والاعتماد على غير الله تعالى؛ فعود نفسك أيها المؤمن الركون إلى ربك لترشد، والتوكل عليه لتسعد؛ ولتلقى في دنياك غبطة وسروراً، وفي آخرتك جنة وحريراً هذا وليس معنى التوكل على الله تعالى: غلق الأبواب، وترك الأسباب؛ فقد حث تعالى على السعي والعمل، وابتغاء الرزق. ألا ترى إلى قوله تعالى لمريم: {وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} ولو شاء لأسقط عليها الرطب من غير هز الجذع؛ ولكنه تعالى أراد أن يجعل لكل شيء سبباً: فجعل سبب الرزق: السعي والدأب. وليس معنى ذلك إنكار الكرامات والمعجزات؛ فقد يسخر الله تعالى السموات والأرضين، في خدمة بعض المخلوقين ولكن ليس هذا من طبيعة الأشياء، فهو تعالى يختص من شاء بما شاء

82

{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} أي أفلا يتأملون في معانيه ومراميه ومبانيه؛ فيعلمون أنه الحق من ربهم

83

{وَإِذَا جَآءَهُمْ} أي جاء المسلمين، أو المنافقين {أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ} خبر يؤدي إلى النصر {أَوْ} أمر من {الْخَوْفِ} خبر يؤدي إلى الهزيمة {أَذَاعُواْ بِهِ} أفشوه؛ وفي هذا ما فيه من إذاعة الأسرار المتعلقة بالحروب، والتي قد تؤدي إلى أوخم العواقب {وَلَوْ رَدُّوهُ} أي ردوا هذا الأمر {إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ} من الرؤساء والولاة والقادة؛ لأنهم وحدهم الذين يعلمون أين توجد المصلحة. ويعلمون ما يجب إذاعته وما يجب كتمانه {لَعَلِمَهُ} أي لعلم ذلك الأمر الخطير - الذي يعتبر سراً حربياً - {الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} يستخرجون من الأمر ما يذاع وما لا يذاع {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بإرسال الرسل، وإبداء النصح والإرشاد، والتوفيق إلى السداد لولا {رَحْمَتِهِ} بإنزال القرآن {لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} الذي يوردكم موارد الخسران؛ مثل هؤلاء المنافقين الذين يقولون لرسولالله - إذا أمرهم بأمر ـ: «طاعة. فإذا برزوا من عنده بيت طائفة منهم غير الذي تقول» والخطاب للذين قال لهم جل شأنه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً} والاستثناء بقوله تعالى {إِلاَّ قَلِيلاً} ينصب على المستنبطين من أولي الأمر؛ الذي عناهم العليم الحكيم بقوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}

84

{وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} حثهم على القتال {عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ} يمنع بهذا التحريض، وهذا الاستعداد {بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} قوتهم -[108]- وسطوتهم؛ فأنتم تدعون إلى الحق، وهم يدعون إلى الباطل؛ وأنتم تدعون إلى الجنة، وهم يدعون إلى النار، وأنتم يدفعكم الرحمن، وهم يدفعهم الشيطان و {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} أشد تعذيباً. ونكل به: جعله عبرة لغيره

85

{مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} هي الشفاعة في دفع الشر، أو جلب الخير {وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً} هي السعي في جلب الشر، أو منع الخير، أو هو كناية عن النميمة {يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ} نصيب {مِنْهَآ} أي من شرها في الدنيا، ومن إثمها في الآخرة {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} مقتدراً

86

{وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ} التحية: أي تكريم يكون بالقول، أو بالعمل. فالقول الحسن: تحية. والدعاء: تحية. والهدية: تحية. والحب: من أجلّ التحايا {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} قولاً أو فعلاً فالسلام: يرد بأحسن منه. والتكريم: بأكرم منه. والدعاء: بأبلغ منه. والهدية: بخير منها. والحب؛ وناهيك بالحب: فهو خير الهدايا والتحايا، والأقوال والأفعال {أَوْ رُدُّوهَآ} أي أجيبوا في القول بمثله، وفي الفعل بمثله. أو المراد {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} أهل الإسلام {أَوْ رُدُّوهَآ} فلا تزيدوا عليها؛ لأهل الكتاب، والتحية في الأصل: تطوع، وردها بأحسن منها أو مثلها: فريضة. هذا ولا يرد السلام في الخطبة، وقراءة القرآن، ورواية الحديث، ومذاكرة العلم، والأذان، والإقامة. ولا يسلم على لاعب الملاهي، ولا على المغني، ولا على القاعد لحاجته

87

{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ} من قبوركم {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} للحساب {لاَ رَيْبَ فِيهِ} لا شك في ذلك الجمع، أو لا شك في ذلك اليوم

88

{فَمَا لَكُمْ} أي ما شأنكم أيها المؤمنون {فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} فرقتين مختلفتين؛ فرقة تقول: نقتلهم. وفرقة تقول: لا نقتلهم. و «المنافقين» هم الذين تخلفوا عن القتال يوم أحد، وقالوا للرسول عليه الصَّلاة والسَّلام ولأصحابه: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ} {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} ردهم مخذولين مقهورين. والركس: رد الشيء مقلوباً {بِمَا كَسَبُواْ} بما عملوا {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} طريقاً إلى النجاة

89

{وَدُّواْ} أي ود هؤلاء المنافقون الجبناء {لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ} وتجبنون كما جبنوا {فَتَكُونُونَ سَوَآءً} مستوين في الجبن والكفر {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ} أصدقاء، أو خلصاء {حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فيثبت بذلك إيمانهم وإقدامهم، ووثوقهم بما عند الله {فَإِنْ تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإيمان والجهاد في سبيل الله {فَخُذُوهُمْ} الأخذ: العقوبة، والإيقاع بالشخص {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} -[109]- بلا شفقة ولا رحمة {وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً} صديقاً؛ وكيف تصادقونهم بعد ظهور كفرهم وعداوتهم للمؤمنين؟ {وَلاَ} تتخذوا منهم {نَصِيراً} تنصرونه، أو تستنصرون به

90

{إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ} يحتمون ويلجأون {إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} عهد {أَوْ جَآءُوكُمْ} مسالمين {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} ضاقت. والحصر: الضيق والانقباض {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ} الذين أسلموا وانضموا إلى زمرتكم {وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} الانقياد والاستسلام {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} طريقاً للقتال؛ لأنهم لم يقاتلوكم وجاءوكم مسالمين

91

{كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنِةِ} أي كلما دعوا إلى الشرك {أُرْكِسُواْ فِيِهَا} قلبوا فيها {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ} صادفتموهم {وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} تسلطاً قوياً، وحجة ظاهرة في قتلهم. وبعد أن أباح الله تعالى قتل الكافرين المحاربين المخادعين: نهى عن قتل المؤمنين. قال تعالى:

92

{وَمَا كَانَ} ما صح وما جاز {لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} أي بغير تعمد {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} أي فعليه إعتاق رقبة مؤمنة؛ لأنه لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء؛ لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار؛ إذ أن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها. وللرق حدود وواجبات مفصلة في كتب الحديث والفقه. وللعبد الرقيق في الإسلام من الحقوق ما ليس للأحرار في الأمم الأخرى؛ وليس أدل على ذلك من قوله تعالى: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} وقول الرسول الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليه في مرضه الذي مات فيه «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم؛ لا تكلفوهم ما لا يطيقون» ومن يطلع على معاملة الزنوج بأمريكا يتضح له جلياً صحة ما نقول. وها هي الأمم الغربية تحرم استرقاق العبيد؛ في حين أنها تسترق الأحرار. وتحرم استرقاق الأفراد، وتسترق الجماعات والأمم والشعوب؛ باسم الاستعمار، والانتداب، والاحتلال، ومناطق النفوذ (انظر آيتي 177 من سورة البقرة، و7صلى الله عليه وسلّم من سورة النحل) {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} أي إلا أن يتصدق أهل القتيل بالدية للقاتل؛ فلا يطالبونه بها {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أي لم يملك رقبة، ولا ما يتوصل به إليها من مال ونحوه {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} مكان الإعتاق {تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ} تجاوزاً منه للتخفيف عليكم

93

{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} قاصداً قتله {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} لا جزاء له غيرها {خَالِداً فِيهَا} خلوداً مؤبداً؛ يدل عليه ما بعده من غضب الله تعالى عليه ولعنه، وإعداد أشق العذاب وأعظمه له وقول الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرىء مسلم» وقال الأكثرون: المراد بالخلود -[110]- في سائر الآيات: طول المكث. وهو معنى لا يستقيم مع صريح لفظ الكتاب الكريم؛ فقد أخبرنا الله تعالى - بما يبلغ حد اليقين - بأن خلود الكافرين على وجه التأبيد؛ قال تعالى: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} (انظر آية 255 من سورة البقرة)

94

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي سرتم في طريق الغزو {فَتَبَيَّنُواْ} تثبتوا ممن تريدون قتله، ولاتأخذوا بالشك بل باليقين. فلا تقتلوا سوى من تيقنتم عداوته وإيذاءه {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ} الاستسلام أو كلمة الشهادة، وقيل: التسليم {لَسْتَ مُؤْمِناً} أي تقولون له: أنت لست مؤمناً؛ بل تظاهرت بالإيمان لتنجو من القتل {تَبْتَغُونَ} بذلك {عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} متاعها الزائل الفاني؛ وهو لباسه وسلاحه وماله {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} تغنمونها في الدنيا برزقه، وفي الآخرة بفضله {كَذلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ} مثل هؤلاء الكفار الذين تقتلونهم الآن أو «كذلك كنتم» تخفون دينكم تحرزاً منهم، كما أخفوا دينهم تحرزاً منكم {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بالإيمان والنصر والظفر {فَتَبَيَّنُواْ} كما أمرتكم

95

{لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} عن الجهاد في سبيل الله تعالى {} المرض، والعاهة: من عمى، أو عرج، ونحوهما {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ} من أُولي الضرر؛ فضلهم عليهم {دَرَجَةً وَكُلاًّ} من المجاهدين والقاعدين بسبب ضرر لحقهم {وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} الجزاء الحسن في الآخرة {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ} عن الجهاد بغير ضرر يمنعهم، أو سبب يعوقهم

97

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} التوفي: قبض الروح. و «الملائكة» ملك الموت عزرائيل عليه السلام وأعوانه. والمعنى: إن الذين تتوفاهم الملائكة؛ وهم ظالمون لأنفسهم بالجبن والخور، وفقدان الأمل؛ وضعف العزيمة، وعدم الهجرة {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} أي قال الملائكة للمتوفين: في أي شيء كنتم؟ وهو سؤال تقريع وتوبيخ؛ حيث إنه كان في مقدورهم أن يقووا عزائمهم، ويهاجروا من أوطانهم، ويتخلصوا من ذلهم وجبنهم، ولا يحيوا حياة السوائم والدين الإسلامي القويم: لم يرض لمعتنقيه الضعف والذل؛ بل أراد لهم وبهم العزة والرفعة والكرامة؛ وألا يحل مسلم في أرض إلا إذا كان عزيزاً مكرماً مرهوب الجانب؛ وإلا فأرض الله واسعة وأبواب رزقه ورحمته مفتوحة وربما أريد بظالمي أنفسهم: المنافقين؛ الذين بخلوا وتركوا الهجرة بدينهم مع الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه {قَالُواْ} جواباً على سؤال ملائكة الموت {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ} أي عاجزين عن القيام بأعباء العبادة بين كفار مكة وصناديد قريش {فِي الأَرْضِ} أرض مكة {قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ -[111]- أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} أي قال لهم الملائكة: أليست أرض الله - على سعتها ورحبها - تسعكم إذا هاجرتم فيها، وفررتم بدينكم؛ كما فعل من هاجر إلى المدينة، وإلى الحبشة؟

98

{إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ} لكبر، أو مرض، أو فقر ونحو ذلك {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} للقتال، أو للهجرة

100

{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً} مذهباً ومكاناً للهرب {وَاسِعَةً} في الرزق

101

{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} سافرتم {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ} قصر الصلاة: هو تصيير الرباعية ثنائية في السفر وقد قال بعض الفقهاء: إن صلاة السفر ركعتان، وصلاة الخوف ركعة واحدة. وقال آخرون: إن القصر في السفر حال الخوف فحسب، وأما في الأمن فلا قصر في السفر. ورووا عن النبي صلوات الله تعالى وسلامه عليه القصر حال الخوف والأمن في السفر؛ وعلى ذلك الأكثرون {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ} يعذبكم {الَّذِينَ كَفَرُواْ} بأن يؤذوكم وقت الصلاة ويقتلوكم

102

{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} وقت القتال، وحان وقت الصلاة {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ} صلاة الخوف؛ فلينقسموا فرقتين {فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ} فليصلوا {مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ} أي لتأخذ الطائفة الأخرى التي لم تقم للصلاة {أَسْلِحَتَهُمْ} استعداداً لملاقاة العدو؛ إذا غدر بكم، منتهزاً فرصة انشغالكم بالصلاة. وقيل: الأمر بأخذ السلاح للمصلين؛ فيأخذون سيوفهم ورماحهم وخناجرهم؛ استعداداً للدفاع إذا دهمهم العدو وقت الصلاة {فَإِذَا سَجَدُواْ} وأتموا سجودهم؛ فلينتقلوا من مكانهم في الصلاة {فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ} للمحافظة على من يصلي بعدهم؛ وهي الطائفة الأخرى - التي لم تصل، وكانت قائمة بالحراسة - {وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ} بعد؛ لأنهم كانوا قائمين بحراسة المصلين {فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} كما صلى أفراد الطائفة الأخرى {وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} أي لتأخذ الطائفة التي صلت حذرها وأسلحتها؛ لتقوم بحراسة الطائفة التي قامت للصلاة. وقيل: إن الطائفة التي تأخذ حذرها وأسلحتها: هي الطائفة المصلية {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ} يأخذونكم خدعة على غرة؛ وهذا هو سبب الأمر بالحيطة والحذر واتخاذ الأهبة {وَلاَ جُنَاحَ} لا حرج ولا إثم {عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَى} لا تستطيعون الاستمرار في حمل السلاح؛ فلا حرج عليكم في {أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ} أمامكم، ولا تحملوها {وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ} إجعلوا الأسلحة قريبة منكم وفي متناول أيديكم {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ} في الآخرة {عَذَاباً مُّهِيناً} عظيماً مؤلماً

103

{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ} فلا تقطعوا صلتكم بربكم، ولا تظنوا أنكم قد أديتم ما عليكم {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ} تذكروه -[112]- وراقبوه {قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} أي في سائر حالاتكم؛ ليعينكم على عدوكم {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ} وزال خوفكم من أعدائكم {فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} كاملة {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} فرضاً واجباً؛ محدوداً بأوقات معلومة

104

{وَلاَ تَهِنُواْ} لا تضعفوا ولا تتوانوا {فِي ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ} في طلبهم {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} أي إن كنتم تتألمون من القتال، وتخافون من الهلاك؛ فإنهم يتألمون أيضاً منه كما تتألمون، ولكنكم ترجون من الله الشهادة والمنزلة الرفيعة، حيث لا يرجونهما هم

105

{إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} القرآن {بِالْحَقِّ} بالصدق {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ} في القرآن؛ من الأحكام والأوامر والنواهي {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} أي لا تكن مدافعاً عنهم، ومخاصماً من أجلهم

107

{وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} أي يخونونها؛ بارتكاب المعاصي. وعبر بلفظ الخيانة: لأنهم كانوا

108

{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} أي لا يحاولون الاستخفاء منه بترك معاصيه؛ وكيف يستخفون منه {وَهُوَ مَعَهُمْ} يعلم سرهم ونجواهم {إِذْ يُبَيِّتُونَ} يضمرون في أنفسهم {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} عالماً به؛ لا يخفى عليه منه شيء؛ فيجازي على الخير والشر

110

{وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً} يرتكب ذنباً يسيء إلى غيره {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} يرتكب ذنباً يسيء إلى نفسه، ويعرضها للعقاب يوم القيامة {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} ويتب عن ذنوبه وآثامه {يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً} لذنوبه {رَّحِيماً} به؛ فلا يؤاخذه ولا يعاقبه

111

{وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} أي ومن يقترف إثماً متعمداً؛ فإنما يعود وبال ذلك على نفسه. وعبر تعالى بلفظ الكسب للدلالة على العمد

112

{وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً} الخطيئة: الذنب الذي يحتمل الخطأ أو العمد. والإثم: المعصية التي لا تتأتى إلا عن عمد {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} بالخطيئة أو الإثم {بَرِيئاً} كمن يقتل، أو يسرق، أو يزني؛ ثم يلصق التهمة بغيره.

113

{وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} القرآن {وَالْحِكْمَةَ} النبوة، والعلم النافع

114

{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} مسارَّتهم {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ} في نجواه {بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} فهذا الآمر بالخير والمعروف؛ تباح له النجوى والمسارة {وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ} التناجي بالحث على الصدقات، والأمر بالمعروف، والإصلاح بين الناس {ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} يقصد بها رضاءه تعالى، ولا يقصد رياء، ولا ثناء بين الناس

115

{وَمَن يُشَاقِقِ} يخالف ويعادي {الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} وصار في متناول عقل العاقل، وسمع السامع، وبصر المبصر {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} بألا يؤمن ب الله تعالى، ولا يصدق برسوله عليه الصلاة والسلام {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} نتركه وشأنه؛ فلا نوليه عنايتنا وحفظنا، بل نجعل وليه وحافظه وهاديه: من تولاه واتخذه إلهاً؛ من صنم، أو نجم، أو نار، أو مال {وَنُصْلِهِ} ندخله

116

{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} استدل بهذه الآية القائلون بأن الله تعالى يغفر سائر الكبائر {لِمَن يَشَآءُ} وهو جل شأنه لم يشأ غفران الكبائر للمصر عليها، المجاهر بها، الذي لم يتب عنها

117

{إِن يَدْعُونَ} ما يعبدون {إِلاَّ إِنَاثاً} كان كل حي من العرب له صنم يسمونه: أنثى بني فلان؛ وكانوا يقولون عنهن: هن بنات الله {وَإِن يَدْعُونَ} وما يعبدون {إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} متمرداً، خارجاً عن الطاعة

118

{وَقَالَ} الشيطان لربه {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ} أي الذين خلقتهم لعبادتك {نَصِيباً مَّفْرُوضاً} مقطوعاً به

119

{وَلأُضِلَّنَّهُمْ} عن طريق الحق {وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} بطول الأمل، وامتداد الأجل؛ وألا بعث ولا حساب، ولا ثواب ولا عقاب. -[114]- {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ} البتك: القطع {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} كخصاء العبيد والحيوان. أو هو تغيير دينه. الذي خلقه وارتضاه، وتحريم ما أحله، وتحليل ما حرمه؛ وما أشبه ذلك {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً} يتولاه ويطيعه

120

{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} خداعاً وباطلاً. والغرور: أن يرى الشيء على خلاف حقيقته

121

{وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} محيداً ومهرباً {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} أي قولاً

123

{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} أي ليس الأمر كما تشتهون وتتمنون، ولا كما يشتهي أهل الكتاب ويتمنون؛ بل الذي يعمل سوءاً يجزى به، وينال عقابه {وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {وَلِيّاً} يلي أمره {وَلاَ نَصِيراً} يمنعه من عذاب الله تعالى

124

{وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} مبالغة في القلة؛ وهو النقرة في ظهر النواة

125

{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً} أي لا أحد أحسن ديناً {مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} انقاد لأوامره، وتجنب نواهيه {واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} وهي ملة الإسلام {حَنِيفاً} مائلاً عن كل دين يخالف الإسلام {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} لأنه صافي القلب، خالص الحب

126

{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً} بعلمه وقدرته وبأسه وسطوته

127

{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَآءِ} أي يسألونك عن شأن النساء، وما الذي يجب لهن وعليهن: في الزواج والمهر والطلاق والمعاملة، وغير ذلك {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} وهو ما تقدم من آيات الفرائض في أول هذه السورة {فِي يَتَامَى النِّسَآءِ الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} ما فرض لهن من الميراث {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} تتزوجوهن {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} الصغار الضعفاء {مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} بالعدل {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} في شأن اليتامى، أو في أي شأن من الشؤون {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} فيجازيكم عليه أحسن الجزاء

128

{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً} أي جفاء وأذى {أَوْ إِعْرَاضاً} بأن يقل من مؤانستها؛ بسبب دمامة، أو كبر سن، أو تطلع إلى أخرى لا إثم ولا حرج {أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} بأن يتصالحا على أن تنزل له عن نصيبها في القسم، أو النفقة، أو بعضهما {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} لهما {وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ} أي وأحضرت أنفس النساء الشح بأنصبائهن في القسم والنفقة. و «الشح»: الإفراط في الحرص

129

{وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} العدل المقصود في هذه الآية: هو العدل في المحبة القلبية فحسب؛ وإلا لو قلنا بأنه العدل المطلق؛ لكان ذلك تناقضاً مع قوله جل شأنه {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} وقد كان يقسم بين نسائه فيعدل؛ ويقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك» يعني بذلك المحبة القلبية؛ ويؤيده ما بعده من قوله تعالى: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أي لا تميلوا عن المرغوب عنها فتجعلوها كالمعلقة التي ليست بأيم، ولا ذات بعل. ولا عبرة بما يدعو إليه من يتسمون بالمجددين: من وجوب التزوج بواحدة فقط؛ مستدلين بهذه الآية. وهو قول باطل ترده الشريعة السمحة، والسنة الغراء فليحذر غضب الله من {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} انظر مبحث تعدد الزوجات بآخر الكتاب

130

{وَإِن يَتَفَرَّقَا} هذان الزوجان المتباغضان {يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ} منهما {مِّن سَعَتِهِ} وفضله فيرزقه خيراً منها خلقاً وخلقاً، ويرزقها خيراً منه رقة ولطفاً، وحناناً وعطفاً {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً} أي واسع الفضل والرحمة والرزق {حَكِيماً} في صنعه. -[116]- {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} أي متاعها الزائل وحطامها الفاني؛ كالمجاهد الذي يريد بجهاده الغنيمة والفخر؛ لا الثواب والأجر والذي يريد بصلاته وحجه: الرياء والسمعة، ولا يبتغي بعباداته وجه الله تعالى؛ فقد أخطأوا جميعاً وجه الصواب؛ وآبوا شر مآب {فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} يعطي من كليهما من شاء فقد يعطي أحد الناس الدنيا فحسب ويحرمه من الآخرة والعياذ ب الله وقد يعطي أحدهم الآخر فحسب؛ ويحرمه من الدنيا؛ وهو عنه راض وقد يعطي أحدهم الدنيا والآخرة {وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً} لأقوالكم {بَصِيراً} بأفعالكم

135

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} قائمين بالعدل في كل شيء {شُهَدَآءِ للَّهِ} أي تقيمون الشهادة لا تبتغون بها سوى وجه الله بدون تحيز أو محاباة {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} أي ولو كانت تلك الشهادة على أنفسكم، أو على آبائكم، أو أقاربكم؛ فلا تعوقكم القرابة، ولا المنفعة عن أداء الشهادة على وجهها الأكمل ولا يحل كتمانها؛ لأن فيه من ضياع الدماء والأموال والحقوق ما فيه (انظر آية 283 من سورة البقرة) {إِن يَكُنْ} المشهود ضده فلا يمتنع عن أداء الشهادة عليه لغناه، طلبا لرضاه؛ فرضا الله تعالى أحق أن يطلب {أَوْ فَقَيراً} فلا يمتنع عنها عطفاً عليه، ورحمة به {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أي حكمه تعالى وقضاؤه أولى بأن ينزل عليهما {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ} أي فلا تتبعوا هواكم بأن تعدلوا عن الحق؛ فتضيعوا حقوق الخلق {وَإِن تَلْوُواْ} أيها الشهداء في شهاداتكم فتحرفوها {أَوْ تُعْرِضُواْ} عن أدائها {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} فيجازيكم عليه. وقيل نزلت الآية في الحكام؛ لا في الشهداء {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} بالرسل السابقين؛ وهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى: فاليهود آمنت بالتوراة وبمن جاء بها؛ وكذبت بالإنجيل والقرآن وبمن جاء بهما. والنصارى آمنت بالإنجيل وألهت من جاء به، وكذبت بالفرقان ومن جاء به صلوات الله تعالى وسلامه عليه، وعلى سائر أنبيائه وملائكته فنزل الخطاب لهؤلاء:

136

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} {آمَنُواْ بِاللَّهِ} تعالى {وَرَسُولِهِ} محمد عليه الصلاة والسلام {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} وهو القرآن الكريم. -[117]- {الَّذِي} اسم جنس؛ أي وآمنوا بالكتب {الَّذِي أَنَزلَ مِن قَبْلُ} كالتوراة والإنجيل {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أو يؤمن ب الله وحده ويكفر بأحد هؤلاء {فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} أي جار عن محجة الطريق القويم، إلى مهاوي المهالك، وبُعد عن الهدى والاستقامة

138

{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} عبر تعالى بلفظ «بشر» تهكماً بهم. والتبشير: يجيء أيضاً بمعنى الإخبار

139

{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ} أصدقاء ونصراء {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ} أي أيطلبون العزة والرفعة في الدنيا بصحبة الكافرين وصداقتهم، واتخاذهم أولياء من دون المؤمنين الذين هم إخوانهم {فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً} لا يملكها أحد سواه؛ يهبها لمن يشاء من أوليائه وأحبائه

140

{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} القرآن {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ} أي لا تقعدوا مع الكافرين المستهزئين بآيات الله {حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} فإن قعدتم معهم مع كفرهم بآيات الله تعالى، وخوضهم في الحق الذي أنزله {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} في الكفر. يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن السامع شريك للقائل؛ ما لم يرده قسراً، أو يمنعه جبراً؛ فإن لم يستطع فليفارق مجلسه من فوره {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ} الذين يظهرون غير ما يبطنون {وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} للعذاب

141

{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ} ينتظرون {بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ} نصر وغنيمة {مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ} أي قال المنافقون للمؤمنين {أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ} بالمساعدة والرأي {وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} من النصر عليكم {قَالُواْ} أي قال المنافقون للكافرين -[118]- {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} ألم نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين؛ بعد أن ثبطناهم حتى هابوكم وخافوكم وقويناكم عليهم {وَنَمْنَعْكُمْ} نحمكم وندفع عنكم {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} حجة، أو طريقاً للنيل منهم

142

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ} وحالهم كما وصفنا {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} يظهرون خلاف ما يبطنون {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} لأنه تعالى يبطن لهم في الآخرة خلاف ما ظهر لهم في الدنيا فقد أعطاهم فيها ما يؤملونه من صحة ومال؛ وبيت لهم في الآخرة من العذاب ما تشيب لهوله الوالدان، ويجعلهم سكارى وما هم بسكارى {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى} متثاقلين يذهب الإنسان للقاء صديقه؛ فينشط لمقابلته، ويسرع لرؤيته؛ ويقوم الإنسان لمناجاة ربه، والوقوف بين يدي حبه: الخافض الرافع، المعطي المانع؛ متباطئاً متثاقلاً؛ كأنما يساق إلى أصعب الأفعال، وأشق الأعمال وقد فاته أن هذا التكاسل والتثاقل من صفات الكافرين، وسمات المنافقين؛ وهم رغم تثاقلهم وتكاسلهم {يُرَآءُونَ النَّاسَ} بصلاتهم

143

{مُّذَبْذَبِينَ} مترددين {بَيْنَ ذلِكَ} بين الإيمان والكفر؛ ولم يراعوا الميثاق الذي واثقهم به ربهم، وهم في عالم الغيب؛ وأضاعوا الأمانة التي ائتمنهم عليها، وأساءوا إلى آدميتهم، وأهدروا عقولهم، ونزلوا من مصاف الإنسانية إلى درك الحيوانية؛ وأصبحوا {لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ} لا إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين؛ والتردد: أسوأ ما يوصف به مخلوق وهو إن دل على شيء؛ فإنما يدل على انعدام الشخصية، وفساد العقل {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} إلى الخير، أو إلى الجنة، أو إلى الصواب وذلك لأنه أرخى لشهواته العنان، واستمرأ ما يمليه عليه الشيطان فاستوجب الخذلان والحرمان؛ وتخلى عن حفظه الرحمن؛ {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ}

144

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ} أصدقاء ونصراء؛ بعد أن بيّنا لكم شأنهم وعداوتهم {أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} حجة واضحة على نفاقكم، وموالاتكم للكفار؛ تؤدي إلى عذابكم

145

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} دركات النار: منازل أهلها فيها. والنار دركات، والجنة درجات

146

{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ} من النفاق ومن التثاقل في العبادات {وَأَصْلَحُواْ} أعمالهم {وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ} استعانوا به، ووثقوا بوعده ووعيده {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} أي أخلصوا له تعالى في العبادة (انظر آية 17 من سورة البقرة).

147

{وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً} يجازيكم على إخلاصكم وشكركم {عَلِيماً} بحالكم؛ ظاهراً وباطناً

148

{لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} أي لا يحب الله الفحش في القول، والإيذاء باللسان؛ إلا المظلوم فإنه يباح له أن يجهر بالدعاء على ظالمه، وأن يذكره بما فيه من السوء

149

{إِن تُبْدُواْ خَيْراً} أي إن تظهروا ما تعملونه من أعمال الخير والبر {أَوْ تُخْفُوهْ} تعملوه سراً {أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ} تتجاوزوا عمن أساء إليكم {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً} عن ذنوبكم - يحب العفو - ويجزيكم براً ببر، وعفواً بعفو {قَدِيراً} على ذلك بعد أن أباح تعالى لمن ظلم أن ينال من ظالمه بالجهر بالدعاء عليه: حث على العفو، وأشار إلى أنه تعالى عفو مع قدرته؛ فكيف لا تعفون مع ضعفكم وعجزكم {وَأَعْتَدْنَا} أعددنا وهيأنا لله ـ} جميعاً

152

{وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} كأن يقول المسلم: لا أومن بموسى ولا بعيسى، أو أن يقول اليهودي: لا أومن بعيسى ولا بمحمد، أو أن يقول النصراني: لا أومن بموسى ولا بمحمد، أو أن يقول النصارى: إن عيسى لم يكن رسولاً من عند الله كموسى ومحمد؛ بل هو ابنه أرسله ليحمل عن الناس أوزارهم وخطاياهم

153

{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ} اليهود {أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَآءِ} يرونه بأعينهم نازلاً عليهم؛ فلا تعجب من ذلك {فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذلِكَ} جحوداً وكفراً {فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً} نراه بأعيننا، ونمسكه بأيدينا {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} وهي نار تنزل من السماء {بِظُلْمِهِمْ} بسبب ظلمهم؛ وأي ظلم أقبح، وأي كفر أفدح؛ من طلبهم رؤية من {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} {ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ} عبدوه {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وتضافرت لهم الآيات والمعجزات -[120]- {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً} حجة ظاهرة

154

{وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ} الجبل؛ تهديداً لهم حينما امتنعوا عن العمل بما في التوراة {بِمِيثَاقِهِمْ} أي بسبب أخذ العهد عليهم بالإيمان بموسى، والعمل بما في التوراة {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} أي ادخلوا باب إيلياء مطأطئين رؤوسكم {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ} لا تعتدوا بالصيد {فِي} يوم وقد نهيتم عن ذلك {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} عهداً قوياً وثيقاً؛ فنقضوه

155

{فَبِمَا نَقْضِهِمْ} فبسبب نقضهم {مَّيثَاقَهُمْ} الذي واثقناهم به {وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ} تكذيبهم بكتبه ورسله، وآياته في الآفاق والأنفس {وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَآءَ} كيحيى وزكريا {وَقَوْلِهِمْ} لنبيهم، أو للرسول {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي ذات غلاف لا تعي ما تقوله أنت {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ} غطى وختم {عَلَيْهَا} فلا تفهم الرشد، ولا تعي الإيمان

156

{بِكُفْرِهِمْ} أي بسبب كفرهم؛ وما كان الله ليطبع على قلب مؤمن {وَقَوْلِهِمْ} أي وبسبب قولهم {عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً} يقال: بهته: إذا قال عليه ما لم يفعل. وقد بهتوها عليها السلام: بأن نسبوا إليها الزنا؛ وقد اصطفاها ربها وفضلها على نساء العالمين

157

{وَقَوْلِهِمْ} أي وبسبب قولهم أيضاً {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} توهموا قتله وصلبه {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} ألقى الله تعالى شبهه على أحد حوارييه، وقيل: على أحد أعدائه. وذلك بعد أن أخذوه عليه الصلاة والسلام وعذبوه عذاباً شديداً، وجروه على الشوك، ولاقى منهم عنتاً لا حد له؛ كشأن سائر أنبياء الله تعالى وأصفيائه وهم اليهود لعنهم الله، اختلفوا فيمن قتلوه {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} لأنهم افتقدوا واحداً من عدة من يعرفون مع عيسى أو واحداً منهم هم {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أي ما قتلوه مستيقنين بأنه عيسى

158

{بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وهو الذي افتقدوه من عدتهم

159

{وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} أي بعيسى عليه الصلاة والسلام {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي قبل موت الكتابي - حين تحضره ملائكة الموت - فلا ينفعه الإيمان، أو قبل موت عيسى عليه السلام؛ حين ينزل قبيل الساعة لقتل الدجال، والحكم بشريعة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام؛ كما جاء في الآثار والأحاديث الشريفة {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ} عيسى {عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي شاهداً على أهل الكتاب؛ بتكذيب من كذبه منهم، وتصديق من صدقه. ومن كذب بمحمد: فقد كذب بعيسى، لأن عيسى بشر بمحمد ووصفه لقومه

160

{فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} أي فبسبب ظلم الذين هادوا ضيقنا عليهم، وحرمنا عليهم الطيبات. قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ -[121]- إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} {وَبِصَدِّهِمْ} أي وذلك التضييق والتحريم بسبب صدهم {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه

161

{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} (انظر آية 275 من سورة البقرة) {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} وهو ما يأخذونه من الرشا في الحكم {وَأَعْتَدْنَا} أعددنا وهيأنا

162

{لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} أي من اليهود {يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ} من القرآن {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} من التوراة والإنجيل {وَالأَسْبَاطِ} حفدة يعقوب عليه السلام

163

{وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} الزبور: الكتاب ويجمع على زبر

164

{وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} إشارة إلى أنه تعالى أرسل للناس رسلاً في كل زمان ومكان غير من ذكرهم في القرآن {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} لا يوصف، ولا يعلم له كنه فلا ينبغي لأمثالنا أن نبحث عن كيفيته، أو نحاول الوقوف على حقيقته؛ فليس بالصوت الحادث، ولا بالأحرف المعلومة؛ فقد كلم الله موسى، وسمع موسى كلام ربه؛ ولكن كيف كان ذلك الكلام؟ وكيف كان ذلك السماع؟ فهذا مما لا ينبغي الخوض فيه والبحث وراءه؛ لأن الكلام قد حصل من قبيل الوجدان والشعور النفسي؛ كالإحساس باللذة والسرور - وهما من الأشياء التي يتذوقها الإنسان تذوقاً كاملاً - غير أنهما لا يمكن وصفهما بما توصف به المحسوسات؛ وإلا لو قلنا بخلاف ذلك لجاز لموسى - وقد سمع كلام الله تعالى - أن يصف ذلك المتكلم بالسرعة أو بالبطء، ولجاز له أيضاً أن يصف الصوت المسموع بالجهورة أو الخفوت، وما شاكل ذلك؛ وقد تعالى الله عن قول القائلين، ووصف الواصفين وهؤلاء الرسل الذين قصصناهم عليك، والذين لم نقصصهم قد أرسلناهم إلى أقوامهم

165

{مُّبَشِّرِينَ} من أطاع بالجنة {وَمُنذِرِينَ} من عصى بالنار {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} أي إنه بعد إرسال الرسل تنقطع حجة الناس، وتسقط معذرتهم؛ ويقال للكافرين عند دخول النار: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ} هذا وقد وفينا هذا البحث في كتابنا «الفرقان»

166

{لَّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ} أي لا يحزنك يا محمد حسد الحاسدين، وتكذيب المكذبين؛ فإن الله تعالى يشهد بأنك صفوته من عباده، وخيرته من خليقته، وأن ما أنزل إليك هو كلامه القديم الكريم لأنه تعالى {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} وإرادته {وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} بذلك أيضاً

167

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ} منعوا الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه

168

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ} أنفسهم بكفرهم {لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً} يوصلهم إلى الإيمان والجنة

169

{إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ} الذي سلكوه واختاروه لأنفسهم

170

{يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ} بالقرآن

171

{يأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} أي لا تتجاوزوا الحد؛ حيث قالت اليهود عن عيسى: إنه ابن زنا. وقالت النصارى: إنه ابن الله {وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} بأن توحدوه، وتمجدوه وتنزهوه عن الولد والصاحبة والشريك {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} كسائر الرسل الذين أرسلهم لهداية عباده {وَكَلِمَتُهُ} التي {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} على لسان ملائكته عليهم السلام؟ في قوله: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} يعني برسالة منه، وبشارة من عنده {وَرُوحٌ مِّنْهُ} أي رحمة منه على من اتبعه، أو وقوة منه؛ لإحيائه الموتى وإبرائه الأكمه والأبرص، وإتيانه بالمعجزات الظاهرات. قال تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} أي بقوة منه، أو برحمة منه {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ} وهو ما يزعمه النصارى من أن الإله ذو ثلاثة أقانيم: الأب، والابن، وروح القدس {انتَهُواْ} إرجعوا عن ذلك القول. -[123]- {خَيْراً لَّكُمْ} إذ أن فيه نجاتكم {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} لا ولد له ولا والد {سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} تنزه عن أن يكون له ولد؛ كما زعمت النصارى أن عيسى ابنه؛ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً

172

{لَّن يَسْتَنكِفَ} أي لن يأنف {الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ} فكيف تستنكفون أنتم عن عبادته تعالى {وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ} مثلكم {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} أي يجمع سائر الخلائق يوم القيامة للحساب: مؤمنهم وكافرهم

173

{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} من شرائط الإيمان: العمل الصالح {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} ثواب أعمالهم {وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} فوق ما يستحقونه {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ} أنفوا من الإيمان، ومن عبادة الرحمن {وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً} جزاء كفرهم واستكبارهم {وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً} يدفع عنهم عذابه {وَلاَ نَصِيراً} يمنعهم منه

174

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ} هو الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يحمل برهان صدقه، وبرهان وجوده تعالى {وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} هو القرآن الكريم؛ وأنعم به من نور لأنه يهدي إلى الحق، وينجي من الضلال

175

{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ} أي بالله، أو بالقرآن؛ والاعتصام: الامتناع والوقاية {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مَّنْهُ} خير ونعمة {وَفَضَّلَ} كبير {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ} يوفقهم إلى طاعته ومحبته {صِرَاطاً} طريقاً {مُّسْتَقِيماً} موصلاً إلى مرضاته

176

{يَسْتَفْتُونَكَ} يسألونك يا محمد عن الكلالة {قُلِ} لهم {اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} يجيب على سؤالكم {فِي الْكَلاَلَةِ} وهي {إِن امْرُؤٌ هَلَكَ} مات؛ و {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} يرثه {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} وما بقي فلعصبته. و «الكلالة»: من لا ولد له ولا والد. -[124]- {وَهُوَ يَرِثُهَآ} أي يرث أخته إن ماتت قبله؛ لا ولد لها ولا والد {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ} نصيب {الأُنْثَيَيْنِ} (انظر آية 11 من هذه السورة) {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ} الأحكام {أَن تَضِلُّواْ} أي لئلا تضلوا.

سورة المائدة

سورة المائدة بسم اللَّه الرحمن الرحيم

1

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} هو أمر بالوفاء بكل عقد. والعقد: كل اتفاق يتم بين اثنين فأكثر؛ مكتوباً كان أو غير مكتوب: فالزواج عقد، والوفاء به: حسن العشرة، وترك المضارة. والبيع عقد، والوفاء به: عدم الغش، وحسن المعاملة. والوعد - أياً كان - عقد، والوفاء به: إنجازه. ويقاس على ذلك سائر الاتفاقات التي تحمل بين طياتها حقوقاً والتزامات (انظر آية 72 من سورة الأنفال) {بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} وهي الإبل والبقر والغنم؛ أو هي الأنعام الوحشية؛ من الظباء والبقر والحمر ونظائرها {إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} تحريمه في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أي {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} غير مستحلي صيد ما يصاد منها، وأنتم محرمون. وقيل المراد بالإحلال: أجنة الأنعام التي توجد ميتة في بطونها عند ذبحها

2

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ} شعائر الله: حدوده التي حددها لعباده - من إحلال الحلال، وتحريم الحرام - والمراد بها هنا: معالم الحج؛ كالطواف، والسعي، والحلق، والنحر، ونحوه. وإحلالها: تعدي حدود الله تعالى فيها، ومخالفة أوامره {وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ} أي ولا تنتهكوا حرمات الشهر الحرام، والأشهر الحرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب؛ وانتهاك حرماتها: القتل فيها {وَلاَ الْهَدْيَ} وهو ما يهدى إلى البيت تقرباً إلى الله تعالى {وَلاَ الْقَلائِدَ} جمع قلادة؛ وهو ما قلد به الهدي. أي لا تنتهكوا حرمات الهدي؛ سواء كان مقلداً أو غير مقلد. وقيل: إنهم كانوا في الجاهلية يتقلدون من لحاء شجر الحرم؛ فيأمنون على أنفسهم حتى يلحقوا بأهلهم؛ فنهى الله عن التقلد بشيء من شجر الحرم {وَلا آمِّينَ} ولا قاصدين {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} أي لا تمنعوا قاصدي البيت عن الوصول إليه، ولا تقاتلوهم؛ لأنهم {يَبْتَغُونَ} بذلك {فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ} انتهيتم من أداء مناسك الحج، وحل لكم ما حرم -[125]- عليكم - بسبب الإحرام - كالصيد والحلق ونحوهما {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يحملنكم {شَنَآنُ} بغض {قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ} أي من أجل أنهم منعوكم {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ} عليهم {وَتَعَاوَنُواْ} جميعاً {عَلَى الْبرِّ} بالناس {وَالتَّقْوَى} وتقوى الله تعالى وخشيته {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ} أي ولا تتعاونوا على ارتكاب الذنوب {وَالْعُدْوَانِ} على الناس

3

{وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أي ما سمي عليه بغير اسمه تعالى {وَالْمَوْقُوذَةُ} التي ماتت من الضرب؛ من وقذه: إذا ضربه حتى استرخى وأشرف على الهلاك {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} التي تردت - أي سقطت - من مكان عال {وَالنَّطِيحَةُ} التي ماتت من نطح أخرى لها {وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ} أي ما بقي من أكله، أو ما أمسكه ليأكله {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} أي يستثنى من التحريم: ما ذكيتموه؛ أي طهرتموه بالذبح قبل أن يموت من الضرب، أو السقوط، أو النطح، أو أكل السبع {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} أي على الأصنام والأوثان {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ} الاستقسام: طلب ما قسم في الغيب؛ و «الأزلام» قداح كانوا يستعملونها لذلك {ذلِكُمْ} الذي ذكرته لكم وحرمته عليكم خروج عن أمر الله تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ} إلى أكل شيء {فِي مَخْمَصَةٍ} مجاعة {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} أي غير مائل لذنب؛ وإنما ألجأته الضرورة القصوى

4

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} من المطاعم {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} التي تذكونها بأيديكم {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ} أي وأحل لكم أيضاً صيد ما علمتموه {مِّنَ الْجَوَارِحِ} وهي سباع البهائم والطير: كالكلب، والفهد، والعقاب، والصقر، والبازي، ونحوها. -[126]- {مُكَلِّبِينَ} المكلب: مؤدب الجوارح، ومعلم الكلاب {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} أي مما أمسكن لكم من الصيد، ولم يأكلوا منه؛ أما إذا أكلت الجوارح من الصيد؛ فلا يحل أكله؛ بل يترك لهم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} من اليهود والنصارى؛ الذين يدينون بما نزل عليهم، ويسمون الله تعالى على ذبائحهم

5

{لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} كذبائحكم تماماً؛ ولا يطلق الحل إلا على الذبائح فحسب - لا على سائر الأطعمة - ألا ترون أنهم يطعمون الخنزير؛ وهو حرام عندنا وإثم كبير {وَالْمُحْصَنَاتُ} الحرائر العفيفات {مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} حل لكم زواجهن {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} حل لكم أيضاً {إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مهورهن {مُحْصِنِينَ} متزوجين {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} زانين. والسفاح: الزنا {وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} الخدن: الصديق {حَبِطَ} بطل

6

{أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ} أي أحدث؛ وذلك أنهم كانوا يذهبون إلى الغائط لقضاء حاجتهم. والغائط: الأرض المستوية الواسعة؛ ومنه غيط، وغيطان: لما يحرث ويزرع {أَوْ لاَمَسْتُمُ} أي جامعتم -[127]- {فَتَيَمَّمُواْ} اقصدوا {صَعِيداً} الصعيد: وجه الأرض؛ من تراب وغيره {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} ضيق {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} يطهر أجسامكم من الأحداث والخبائث، وأرواحكم من دنس الشك والمعاصي ويؤخذ من التيمم أن الله تعالى لم يرد من الغسل والوضوء: مجرد النظافة الظاهرية - وإلا لما أجزأ التيمم: الذي هو في حقيقته يتنافى مع مظهر النظافة - وإنما أريد بذلك التطهر الباطني، والتطهر الروحي؛ وبهما يكون العبد أهلاً لمناجاة ربه وللوقوف بين يديه، وبذلك أيضاً ينظر الله تعالى إليه برحمته ومغفرته، وإنعامه وإحسانه فعلى المغتسل والمتوضىء أن ينوي تطهير روحه، قبل تطهير جوارحه؛ وأن يقصد بغسل يديه: محو ما ارتكبتا من آثام وذنوب. وبغسل وجهه: إزالة خائنة عينيه، وإثم أذنيه. وبمسح رأسه: إزاحة هواجسه ووساوسه، وطرد ما يلقي الشيطان في فكره، مما يكون سبباً في وبال أمره. وبغسل رجليه: إزالة ما علق بهما من آثار خطإ خطا إليه، وجرم مشى فيه وما أراد الله تعالى بالغسل والوضوء والتيمم: سوى تطهير ذاتكم وصفاتكم، ونقاء سركم وسريرتكم {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} بالوفاء والصفاء

7

{وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بالإيمان {وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ} بأن تسمعوا وتطيعوا؛ فإذا وفيتم بذلك: وفى لكم ما ضمن لكم الوفاء به: من إتمام نعمته، ودخول جنته، والتمتع بدار كرامته وقيل: الميثاق: هو الذي أخذ عليهم - وهم في صلب آدم - حين قال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ} والأول أولى {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي بما تخفي القلوب

8

{يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ} قائمين في سبيل مرضاته: تقصدون وجهه في سائر أعمالكم، وتبتغون فضله في جميع أموركم {شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ} أي يجب أن يكون العدل في الحكم، والصدق في الشهادة؛ في المكان الأول من تقديركم، وألا تحيدوا عن ذلك أبداً مهما كان المحكوم عليه أو المشهود له {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يحملنكم {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ} بغض قوم {عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ} بينهم؛ لعداوتكم لهم، وكراهتكم إياهم {اعْدِلُواْ} بين الجميع - أعداء وأحباء، بعداء وأقرباء - فذلك أزكى لكم، وأطهر لنفوسكم، وهذا {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي أقرب لخشية الله تعالى، ومخافة عقابه وأهل التقوى: هم أهل الخوف من الله تعالى، والحذر من أن يخالفوه

11

{يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} هم يهود بني النضير. وقيل: قريش بالإيذاء والقتال {فَكَفَّ} منع} أن تصل إليكم بسوء {وَعَلَى اللَّهِ} وحده {} لا على غيره (انظر آية 81 من سورة النساء).

12

{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ} على الإيمان والطاعة {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} النقيب: هو الذي ينقب عن أفعال القوم ويفتش عنها {وَقَالَ اللَّهُ} لبني إسرائيل على لسان رسله {إِنِّي مَعَكُمْ} بالتوفيق والمعونة {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ} وداومتم عليها {وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ} أعطيتموها لمن أمرت باعطائها لهم {وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي} جميعاً {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} عظمتموهم ووقرتموهم {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} بالصدقات التي يردها لكم في الدنيا أضعافاً مضاعفة، وفي الآخرة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت لئن فعلتم ذلك {لأُكَفِّرَنَّ} لأمحون {عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} التي ارتكبتموها {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} {فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ} الميثاق {مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} أخطأ طريق الصواب والحق

13

{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} أي فبنقضهم عهدهم اللعنة من الله تعالى: الطرد والمقت؛ نعوذ به تعالى من غضبه {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} جافية عن الإيمان بي، والتوفيق لطاعتي {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} وذلك بتحريفهم التوراة، وكتابة ما يرغبون فيها، ومحو ما لا يرغبون، أو تحريفهم معانيها بما يتفق وأهواءهم {وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} الحظ: النصيب. أي تركوا نصيباً مما ذكروا به فلم يفعلوه {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ} على خيانة {مِنهُمُ} ومن ذلك همهم ببسط أيديهم إليكم بالإيذاء والقتال {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} استكانوا ولم يبسطوا أيديهم {فَاعْفُ عَنْهُمْ} أي عن الذين هموا بكم {وَاصْفَحْ} عن ذنبهم هذا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} خصوصاً من أحسن لمن أساء. وقيل: هي منسوخة بقوله تعالى {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} هذا هو حال اليهود

14

{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} أيضاً؛ كما أخذنا ميثاق اليهود {فَنَسُواْ حَظّاً} نصيباً {مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} كما نسيت اليهود «تشابهت قلوبهم» {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ} أي بين اليهود والنصارى، أو بين اليهود أنفسهم، أو بين النصارى بعضهم مع بعض. وعلى كلا الوجهين: فقد شاعت العداوة بين اليهود وبعضهم، وبين النصارى وبعضهم، وبين اليهود والنصارى؛ فترى اليهود وقد انقسموا إلى فرقتين متنافرتين: قرّايين وربانيين؛ وكلاهما له دين خاص، وشريعة خاصة، ونظام يخالف نظام الآخر - في العبادات والمعاملات - لا يجتمعان إلا في أمر واحد: هو كراهة المسلمين والنصارى. وترى النصارى وقد انقسموا إلى فرق متعددة: كاثوليك، وأرثوذكس، وبروتستانت؛ كل منها له شريعة خاصة ونظام خاص؛ وتراهم دائبي الخلاف في كل صغيرة وكبيرة. أما عداوة اليهود للنصارى، والنصارى لليهود، فأمر لا يحتاج إلى -[129]- برهان أو دليل؛ قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} وترى الأمم الغربية - وهم أبناء دين واحد - وقد تفنن بعضهم في إهلاك البعض - هلاكاً تشيب لهوله الولدان - فمن مخترع للقنبلة الذرية إلى مخترع للهيدروجينية، إلى مصمم لقنبلة الكوبالت؛ إلى ما لا نهاية له من صنوف الإيذاء والبلاء الذي لا يوصف؛ وبذلك حق عليهم الإغراء؛ فهم أبد الدهر في شحناء وبغضاء

15

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} خطاب لليهود والنصارى في عهد النبي {قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} اسم جنس. أي ما كنتم تخفونه من كتابيكم «التوراة والإنجيل» وكان مما أخفوه وبيّنه النبي عليه الصَّلاة والسَّلام: رجم الزانيين المحصنين {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} موضح؛ وهو القرآن الكريم. اللهم أمدنا بنوره، واجعله حجة لنا لا علينا

16

{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} طريق مرضاته {سُبُلَ السَّلاَمِ} طرق الأمن والسلامة؛ و {السَّلاَمِ}: يشمل كل ما تحتمله هذه الكلمة من معانٍ زاخرة بأنبل الصفات والسمات؛ فالسلام: هو السلامة والسلم، والود والهدوء، والسكينة والطمأنينة، والخير والبر {وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ} وهي جمع ظلمة؛ وهي تقع على كل ضلال وخبال، وسوء وشر، وعصيان وفسوق أرأيت كيف يتعثر الإنسان في الظلمات: فلا يرى ما يعترضه من عقبات، ولا ما يصادفه من مهاوي ومهالك؟ فيقع في موارد التهلكة وسوء العاقبة. والمراد بالظلمات أيضاً: الجهل والكفر (انظر آية 17 من سورة البقرة) فمن أحبه الله تعالى: هداه إلى سبل السلام، وأخرجه من الظلمات {إِلَى النُّورِ} والنور: كل عمل يتسم بالنبل والفضل، والهدي والرشاد أرأيت كيف يهتدي الإنسان في النور إلى سلامته وأمنه، ويتوقى مواطن الخطل والزلل؛ وبالتالي يقي نفسه غضب الرب، وسوء المنقلب والمراد بالنور: الإيمان. أي يخرجهم من ظلمات الكفر، إلى نور الإيمان {بِإِذْنِهِ} بأمره وإرادته {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ} طريق {مُّسْتَقِيمٍ} طريق النجاة، طريق الفلاح، طريق الجنة كأنّ سائلاً سأل: ما هو القرآن؟ وما فائدته؟ وما جدوى نزوله؟ فقيل له: هو {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو تعريف عرّف به القرآن منزله تعالى؛ العالم بأسراره وأنواره، الواضع لمعالمه وأحكامه وهذا التعريف بالقرآن؛ خير مما عرفه به الأصوليون؛ من أن القرآن: هو اللفظ العربي، المنزل -[130]- على محمد للتدبر والتذكر، المنقول متواتراً؛ وهو ما بين دفتي المصحف؛ المبدوء بسورة الفاتحة، المختتم بسورة الناس. وهو تعريف - كما ترى - جاف، خال من الروح والروعة الواجبة. وخير التعاريف به: تعريف منزله ومبدعه؛ تعالى شأنه، وعز سلطانه

17

{قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي فمن يملك أن يدفع شيئاً أراده الله تعالى {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} الذي تزعمون ألوهيته، أو بنوتهلله أن يهلك {أُمُّهُ} مريم التي ولدته؛ ذكرها تعالى ليعرفهم أن الله الواجب الوجود: لا يلد ولا يولد؛ فكيف تقولون عمن ولدته مريم: إنهالله، أو ابنالله؟

18

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى} تبجحاً منهم {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} قالوا ذلك حين دعاهم النبي للإيمان، وحذرهم غضب الله تعالى وعقابه {قُلْ} لهم يا محمد: إذا كنتم صادقين في أنكم أبناء الله وأحباؤه {فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} وذلك أنهم قالوا: {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} {بَلْ أَنتُمْ} في الحقيقة {بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} كسائر البشر {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} بأن يوفقه للإيمان والطاعة {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} بأن يتخلى عن هدايته؛ لتمسكه بالكفر وعناده

19

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد {يُبَيِّنُ لَكُمْ} طرق الهداية {عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ} أي على فتور من إرسال الرسل، وانقطاع الوحي {أَن تَقُولُواْ} أي أرسلناه لئلا تقولوا {مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ} محمد {بَشِيرٍ} لمن آمن منكم وأطاع بالجنة {نَذِيرٍ} لمن كفر وعصى بالنار

20

{وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} أي مالكين؛ بعد أن كنتم مملوكين لفرعون وقومه {وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ} خلصهم من الذل، وفضلهم على الكل؛ فازدادوا كفراً وعتواً وأنجاهم من البلوى، وأطعمهم المن والسلوى؛ فأبوا الطعام الأعلى، وطلبوا الطعام الأدنى وأنزل عليهم مائدة من السماء؛ فكفروا بما هنالك، وأوقعوا أنفسهم في المهالك؛ فأعد لهم ربهم عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين

21

{يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} أرض بيت المقدس {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي كتب في لوحه المحفوظ أن تسكنوها وتقيموا فيها {وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} أي لا ترجعوا مدبرين منهزمين

22

{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} أقوياء أشداء شجعاناً. وقيل: سفلة لا خلاق لهم. وقال بعض المفسرين: إنهم من بقايا قوم عاد، وأنهم ضخام الأجسام، عظام الأجساد؛ حتى أن أحدهم ليحمل الإثني عشر نفساً في أحد أكمامه. وهو قول غير صحيح، وإنما قصه القصاصون الأفاكون؛ وزينوه بروايات -[131]- لا أصل لها، وعنعنات لا وجود لها

23

{قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} الله تعالى ويخشونه {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} بالإيمان والشجاعة والإقدام {ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ} أي ادخلوا على هؤلاء الجبارين باب المدينة {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ} عليهم؛ وبدأتموهم بالهجوم والقتال {فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} أنظر كيف يعلمنا الله سبحانه وتعالى الخطط الحربية الحكيمة الموفقة: يعلمنا أن نتبع خطة الهجوم، خطة الاستبسال، خطة بيع النفس في سبيله جل شأنه وهي قاعدة معروفة متبعة؛ يعلمها كل ذي لب، ويتبعها كل ذي قلب: «اطلب الموت توهب لك الحياة» وإذا فكرت أيها المؤمن جلياً، ونظرت ملياً في هذه الخطة؛ لأنبأك التاريخ عن إصابتها وسدادها؛ فهناك سعدبن أبي وقاص، وقد قام بجيشه الصغير؛ فاكتسح به دولة الفرس اكتساحاً، وجعلها أثراً بعد عين؛ وقد كانت في أوج عظمتها وقوتها وهناك أيضاً طارقبن زياد؛ وقد فتح الأندلس فتحاً سجله له التاريخ بمداد الفخار والإكبار ولم تكن تلكم الفتوح والانتصارات: لكثرة في العدد، أو زيادة في المدد؛ وإنما هي الخطة التي وضعها القائد الأعلى، والمرشد الأعظم، وحث عليها عباده (انظر آية 251 من سورة البقرة) {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} من هذا نعلم أن التوكل من لوازم الإيمان؛ وأن الإيمان بلا توكل: إيمان مشوب بالشك والشرك؛ إذ أن الإيمان به تعالى يستوجب حتماً الإيمان بقدرته وقوته، والوثوق بمعونته ومن آمن ب الله تعالى ولم يؤمن بصفاته العلية السنية؛ فهو من عداد الكافرين (انظر آية 81 من سورة النساء)

24

{قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا} فازدادوا بذلك جبناً على جبنهم، وخوراً على خورهم، ورفضوا التوكل علىالله، وأبوا الاستماع إلى نصح الناصحين؛ الذين يخافون ربهم، وقد أنعم الله عليهم {فَاذْهَبْ} يا موسى {أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} أضاف بنو إسرائيل إلى جبنهم وضعفهم وحقارتهم: كفراً بربهم لا يعدله كفر، وتحدياً يستأهل ما أعده الله تعالى لهم من عذاب بئيس إذ قالوا لنبيهم الكريم؛ الذي بعثه الله تعالى إليهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا}

25

{قَالَ} موسى {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ} من دنياي {إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} ولا نصلح أن نلقى بمفردنا الجبابرة فنخرجهم من بيت المقدس {فَافْرُقْ} فافصل واحكم {بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} الكافرين؛ الذين خرجوا عن طاعتك

26

{قَالَ} الله تعالى لموسى {فَإِنَّهَا} أي الأرض المقدسة {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} لا يدخلونها ولا يتمتعون بخيراتها؛ بل {يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} سائرين على وجوههم؛ لا يبلغون مقصداً، ولا يحوزون مأملاً؛ عقوبة لهم على عصيانهم وجبنهم، وعدم -[132]- استماعهم لكلام ربهم ونصح نبيهم {فَلاَ تَأْسَ} لا تحزن {عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} الكافرين العاصين

27

{وَاتْلُ} يا محمد {عَلَيْهِمْ} على هؤلاء اليهود؛ الذين هموا أن يبسطوا إليكم أيديهم بالبطش والأذى {نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ} هابيل وقابيل {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً} لله {فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا} هابيل {قَالَ} قابيل - الذي لم يتقبل قربانه - لهابيل الذي تقبل منه {لأَقْتُلَنَّكَ} حسداً منه له {قَالَ} هابيل {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} الذين يخشونه

28

{لَئِن بَسَطتَ} مددت {إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} فلن أقابلك بمثل بغيك؛ و {مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} لأني لست شريراً مثلك {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ *

29

إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ} ترجع {بِإِثْمِي} إثم قتلي {وَإِثْمِكَ} الذي ارتكبته من قبل؛ ولم يتقبل قربانك بسببه أو المراد «بإثمي»: آثامي تلقى عليك «وإثمك» الذي ارتكبته بقتلي. قال «يؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف؛ فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه» يعضده قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ}

30

{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} زينت له، وتابعته وطاوعته

31

{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} يحفر فيها برجله ومنقاره {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} جسده؛ والسوأة: كل ما يسوء الإنسان ظهوره

32

{مِنْ أَجْلِ ذلِكَ} القتل الذي حصل بين ابني آدم {كَتَبْنَا} حكمنا وقضينا {عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} وعلى غيرهم أيضاً {للَّهِ} أي بغير أن يكون ذلك القتل قصاصاً من المقتول الذي قتل نفساً ظلماً {أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ} أي وبغير أن يكون القتل بسبب إفساد المقتول في الأرض، وقطعه للطريق، وسلبه أموال الناس وإفساده للأمن {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} أي لأنه بفعلته هذه سن القتل، وجعل كل الناس عرضة له، ولأن عقوبته في الآخرة لا تنقص عن عقوبة من قتل الناس جميعاً؛ ألا ترى أن جزاءه جهنم، وأنه خالد فيها، وأن غضب الله تعالى محيط به، ولعنته منصبة عليه، وأنه تعالى أعد له عذاباً عظيماً مهيناً؟ فأي شقاء وأي عذاب بقي لمن قتل الناس جميعاً بعد هذا الشقاء، وفوق هذا العذاب؟ (انظر آية 93 من سورة النساء) {وَمَنْ أَحْيَاهَا} أي أنقذها من هلاك محدق: كغرق، أو حرق، أو دفع عدو ظالم، أو غير ذلك {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} لأنه سن بينهم النجدة، والتضحية، والأمن. وقيل: إن الكف عن القتل: هو الإحياء. بعد ذلك بين الله تعالى لنا الأسباب الموجبة للقتل، والتي استثناها في الآية السابقة بقوله جل شأنه: {بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ} قال تعالى:

33

{إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بمحاربة المسلمين، -[133]- ومخالفة ما أمر الله تعالى به، وإتيان ما نهى عنه {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} وهم قطاع الطريق؛ الذين يعيثون في الأرض، وينتهكون الحرمات، ويفسدون الأمن؛ فجزاء أمثال هؤلاء {أَن يُقَتَّلُواْ} إن كان إثمهم القتل فقط {أَوْ يُصَلَّبُواْ} إن كان إثمهم القتل وسلب المال {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ} إن كان إثمهم سلب المال «السرقة بالإكراه» وطريقة ذلك أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى - يده للسرقة، ورجله لإخافة الطريق - فإن لم يتب تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} إن كان إثمهم التخويف فقط؛ والنفي: أن يطرد من موطنه قسراً حتى يلحق بأرض العدو، أو هو نفيه من بلده إلى بلد آخر يسجن فيها حتى تبدو توبته، وتظهر إنابته؛ ويقلع عن معصية الله إيذاء عباده الآمنين (انظر آية 38 من هذه السورة) {ذلِكَ} الجزاء المتقدم {لَهُمْ خِزْيٌ} ذل وفضيحة {فِي الدُّنْيَا} يعلق بهم وبأبنائهم وذراريهم

34

{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ} عن محاربة الله تعالى ورسوله، وعادوا إلى حظيرة الإيمان {مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} فأولئك ليس لكم عليهم من سبيل؛ لأن الإيمان يجبُّ ما قبله. أما إذا كان الساعي في الأرض بالفساد من المؤمنين: فعليه القود والقصاص. وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: يعفى من حق الله تعالى، ويؤخذ بحق الناس

35

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ} خافوه، واخشوا عقابه {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} الوسيلة: هي القربة، والعمل الصالح

38

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} يسرق السارق - حين يسرق - وهو آمن مطمئن؛ لا يخشى شيئاً: اللهم سوى ذلك السجن الذي يطعم ويكسى ويعالج فيه؛ فيقضي مدة العقوبة التي فرضها عليه القانون الوضعي، ويخرج من هذا السجن وهو إلى الإجرام أميل، وعلى الشر أقدر يدل على هذا أن تعداد الجرائم يزداد يوماً عن يوم، وعاماً عن عام، وذلك لقصور العقل البشري وعجزه عن الوصول للشفاء النافع، والدواء الناجع أما عقوبة قطع يد السارق فالذي وضعها الرحيم الرحمن، الذي هو أعلم بالإنسان من الإنسان؛ وها هي ذي بلاد الحجاز - رغم فقر أهلها وعوزهم - فلا تكاد تسمع بوقوع سرقة فيها؛ حتى أن الإنسان ليقع منه الدرهم فيتذكره فيعود إليه فيجده في موضعه بعد أيام؛ حيث لا يجسر أحد أن ينظر إليه، فضلاً عن أن يمد يده لأخذه وما ذلك إلا بفضل انتشار الأحكام الدينية؛ جزى الله تعالى القائمين بها خير الجزاء وها هي ذي أوروبا وأمريكا تناديان بوجوب تغيير هذه القوانين الوضعية؛ حيث لم تعد صالحة لردع النفوس الشريرة؛ بدليل ازدياد الجرائم؛ فللَّه ما أحلى هذا الدين، وأجمل تعاليمه وشرائعه {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا} من إثم السرقة -[134]- {نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ} النكال: العبرة للغير. أي ذلك القطع عبرة منالله: يعتبر بها الغير؛ فيتجنب أسبابها

39

{فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ} رجع إلى الله من بعد ارتكاب السرقة، واعترف بها {وَأَصْلَحَ} أعماله {فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} يقبل توبته؛ بعد توقيع الحد عليه

41

{يَأَيُّهَا الرَّسُولُ} خاطب الله تعالى سائر النبيين بأسمائهم؛ فقال: «يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا داود، يا عيسى، يا زكريا، يا يحيى» ولم يخاطب الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه إلا بقوله: «يا أيها الرسول، يا أيها النبي، يا أيها المزمل، يا أيها المدثر» وفي هذا من رفعة شأنه عليه الصَّلاة والسَّلام ما لا يخفى

42

{أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} الحرام والرشوة {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} بالعدل

44

{وَالرَّبَّانِيُّونَ} جمع رباني نسبة إلى الرب؛ وهم العلماء والحكماء. وقيل: هم الرهبان {وَالأَحْبَارُ} العلماء {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ} حفظوا، واستودعوا علمه {مِن كِتَابِ اللَّهِ} وهو التوراة {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} أي لا تخافوهم خوفاً ينسيكم أوامري؛ فأنا أحق بالخشية منهم؛ لأني أنفع وأضر، وهم لا يستطيعون جلب نفع لأنفسهم، ولا دفع ضر عنها. وهذا نهي عن التزلف والتملق، ووجوب نهي العاصي عن عصيانه، والطاغي عن طغيانه

45

{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ} أي في التوراة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} تقتل -[135]- {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} تفقأ {وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ} يجدع {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} تقطع {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} تقلع {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} فيقتص لكل عضو بمثله إذا أمكن. لو أن المجرم المعتاد للإجرام، والذي أشربت نفسه حب الأذى والضرر؛ علم أنه لو فقأ عيناً فقئت عينه، أو كسر سناً كسرت سنه؛ لما جسر على الأذى: ولا قوي على الفتك ولو أن أعصى العصاة، وأعتى العتاة؛ حينما يضع يده على عصاه؛ ليوقع الضرر بعبادالله: علم أنه إنما يضرب نفسه، ويقتطع من جوارحه: لانقلبت شروره خيرات، وسيئاته حسنات؛ ولكان مندفعاً إلى الخير - إن لم يكن بطبيعته وفطرته - فبرعبه ورهبته غير ما في هذه العقوبات الرادعة من شفاء للقلوب المكلومة، والنفوس الموتورة؛ التي يتولد منها - بسبب عدم إنزال العقاب الصارم، بالمجرم الظالم - سلسلة جرائم وأخذ ثارات؛ يتزلزل لها الأمن وتنزعج منها العدالة أرشد الله تعالى الناس، لما يصلح الناس {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ} أي تجاوز عن حقه في الاقتصاص من المعتدي {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} أي إن ذلك التجاوز تكفير لبعض ذنوب المعتدى عليه، أو هو كفارة للمعتدي نفسه؛ لأن العفو كالاقتصاص؛ فلا يجوز للمعتدى عليه أن يطالبه بالقصاص بعد التصدق والعفو

46

{وَقَفَّيْنَا} أتبعنا {عَلَى آثَارِهِم} أي آثار النبيين الذين تقدموا عيسى عليه السلام {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ما تقدمه {مِنَ التَوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى} من الله {وَنُورٌ} لمن اتبعه {وَمُصَدِّقاً} أي الإنجيل جاء مصدقاً {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} تقدمه

47

{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} ولكنهم لم يحكموا بما فيه؛ بل حكموا تبعاً لأهوائهم {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ومن عجب أن تنزل التوراة لليهود فلا يعملون بها، ويحرفونها عن مواضعها، وينزل الإنجيل للنصارى فلا يعملون بما فيه، بل يكون دأبهم تغييره ومخالفته، وينزل القرآن الكريم على المسلمين فيجعلون ديدنهم التشدق بحروفه، ومراعاة وقوفه. والإفراط في الغن إفراطاً أخل بنطقه، والتزيد في المد تزيداً أخل بمعناه؛ وتركوا العمل بما فيه؛ ولم ينزله منزله تعالى إلا لذلك ولكنه الشيطان زيّن لهم تافه الأمور، وصرفهم عن لب القرآن

48

{وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} يا محمد {الْكِتَابِ} القرآن {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ما تقدمه {مِنَ الْكِتَابِ} كالتوراة والإنجيل {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} رقيباً وحافظاً وأميناً {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} الشرعة: الشريعة. والمنهاج: الطريق البيِّن الواضح {وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ} ليختبركم {فِي مَآ آتَاكُم} من الشرائع والتكاليف؛ فيعلم - علم ظهور - المطيع منكم والعاصي، والبر والفاجر -[136]- {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} ابتدروها وسابقوا نحوها؛ قبل الفوات بالوفاة {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} ويجزي كلاً بما عمل بين اليهود - وقد احتكموا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في بعض مجرميهم - وقيل: إن سادة اليهود وكبراءهم ذهبوا إليه وقالوا له: إنا إن أسلمنا أسلم سائر اليهود، وإن بيننا وبين قومنا خصومة، فاقض لنا عليهم ونحن نسلم لك ونؤمن بك. فأبى اتباعهم، وأنزل الله تعالى عليه هذه الآية {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ} يضلوك {عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} من الأحكام في كتابه المبين {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عنك، وانصرفوا عن تصديقك

49

{فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم} بالعقوبة في الدنيا؛ كالجلاء، والجزية، والأسر، والقتل {بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} التي أتوها؛ ومنها الإعراض والتولي وسيصيبهم في الآخرة بالعقوبة الكاملة المدمرة

51

{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ} أي أصدقاء توالونهم من دون المؤمنين {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} يستدل من ذلك أن موالاة الكفار كفر؛ ألا ترى إلى قوله تعالى {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أي من جنسهم، ومن جماعتهم فاحذر - يا رعاك الله - أن توالي الكافرين؛ فتكون من الظالمين (انظر آية 28 من سورة آل عمران)

52

{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي يسارعون في ولايتهم وصداقتهم {يَقُولُونَ} إنما نواليهم لأننا {نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} أي مصيبة، أو حادثة تدور بالحال التي يكونون عليها {فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} بالنصر {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} بنزول العذاب {فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ} من النفاق والمكر بالمؤمنين

53

{حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بطلت

54

{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} غيركم: مؤمنين، طائعين، صالحين {يُحِبُّهُمْ} لإيمانهم {وَيُحِبُّونَهُ} لمعرفتهم به، ومزيد فضله عليهم وحب المؤمن لربه: يجب أن يكون متميزاً عن سائر الحب؛ فلا يجوز أن يكون كحب الولد؛ إذ هو كاسبه، ولا كحب الوالد؛ إذ هو واهبه، ولا كحب المال؛ إذ هو مكسبه، ولا كحب الزوج؛ إذ هو هاديها وراعيها، ولا كحب سائر الأهل - مهما كانوا نافعين قادرين، ومهما كانوا أحباء محبين - بل يجب ألا يشاركه تعالى في الحب مخلوق - مهما سما قدره، وعلت منزلته - ولا يجوز أن يتعلق حبه تعالى بسبب من الأسباب؛ لئلا يزول ذلك الحب بزوال هذا السبب بمعنى أنه يحبه لأنه يحفظ عليه أهله، أو ولده، أو ماله. بل يجب أن يكون حبهلله لذات الله فإنه تعالى إن شاء وهب، وإن شاء سلب؛ وإن شاء أعطى، وإن شاء منع؛ لا يسأل تعالى عما يفعل وهم يسألون والحبلله إن كان مبنياً على خوف عذابه، أو رجاء ثوابه؛ فإنه لا يخالف الشرع؛ قال تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} لكنه على كل حال ليس بالحب الذي يناسب ذات الله المقدسة وقد ذهب بعض الصوفية إلى أكثر من هذا؛ فقال: إن حبه تعالى لا يجوز أن يكون رغبة في جنته، أو خوفاً من ناره؛ بل يجب أن يكون مجرداً عن كل غرض، أو شبهة الغرض؛ بل يكون حبه تعالى: هو الغاية، وهو الوسيلة، وهو المقصد، وهو المطلب فإذا ما وصل العبد إلى هذه المرتبة: كان صديقاً؛ بل وفوق مرتبة الصديقين واعلم أيها المؤمن - هديت وكفيت - أن محبة الله تعالى ورضاءه لا يتوافران إلا برضاء الناس ومحبتهم؛ فاحرص على رضاء مخلوقاته وحبهم - حتى العجماوات منها - فيرضى عنك الجميع ويحبونك، ويرضى عنك الله تعالى ويحبك وما من إنسان يحبه مولاه: إلا أحبه كل مخلوق، وتيسر له كل صعب، وهان عليه كل عسير واعلم أن مخلوقات الله تعالى بمثابة عياله؛ فمن أكرمهم: أكرمهالله، ومن أعزهم: أعزه، ومن غفر لهم: غفر له {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. واعلم - هداك الله وعافاك - أنه ما من لقمة تطعمها، ولا نفقة تنفقها؛ إلا كان لك بها أجر: لو علمته لأطعمت الفقراء سائر طعامك وما طعمته، ولو تحققته لأنفقت عليهم نفقة عيالك وما بخلت به -[138]- واعلم - علم اليقين - أن الله تعالى معطيك بذلك ما تريد فوق ما تريد - في الحياة الدنيا - ومعطيك في الآخرة ما لم تتوهمه، وما لم يخطر ببالك وأن عطاءه تعالى ليس كعطائك - مهما بذلت - وأن مثوبته ليست كمثوبتك - مهما بالغت - فاعمل بذلك لدنياك وآخرتك؛ إني لك من الناصحين (انظر آية 22 من سورة المجادلة) {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ} من علامة حب الله تعالى للمؤمن، وحب المؤمن لربه: أن يكون لين الجانب متواضعاً لإخوانه المؤمنين، قوي الشكيمة متسربلاً بالعزة والكبرياء حيال الكافرين والمنافقين؛ لا يراعى أحداً لسعته أو لبطشه. أقدار الناس عنده تتسامى بإيمانهم وتقواهم، لا بقوتهم وغناهم من خلصائه وأوليائه

55

{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ} ناصركم {وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} جعل تعالى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: شرطاً من شرائط الإيمان؛ فلينظر هذا وليعتبر

58

{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ} أي أذن مؤذنكم بها {اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً} هذه صفة الكافرين؛ وصفهم الله تعالى بها في كتابه الكريم؛ ومن عجب أن هذه الصفة قد أصبحت من سمات كثير ممن تسموا بالمؤمنين: يراك أحدهم وقد شرعت في طاعة مولاك بإقامة الصلاة - التي أمرك بأدائها - فيغرب في الضحك، ويمعن في السخرية، وي0جتمع حولك مع أمثاله من الفاسقين الضالين؛ فيجعلون من صلاتك سبباً للضحك عليك، والسخرية بك {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}

59

{قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ} هل تكرهون {مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا} من القرآن {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ} على النبيين أي ثواباً. والمثوبة - وإن كانت مختصة بالإحسان - لكنها وضعت هنا موضع العقوبة؛ كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}

60

{مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ} طرده من رحمته {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} وأي شر أشر من لعن الله تعالى وغضبه؟ بل أي درك ينحط فيه إنسان - بعد اللعن والغضب - أحط من المسخ؟ {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} وأي حيوان أقبح شكلاً، وأخبث منظراً، وأكره رائحة، وأزرى خلقاً وهيئة من القردة والخنازير؟ هذا وصف بني إسرائيل من ناحية الخلق؛ أما وصفهم من ناحية الخلق: فشأنه لا يقل بحال عن الخلق؛ فقد وصفهم الله تعالى بقوله {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} والمراد بالطاغوت: الطغيان المادي أو هو كل رأس في الضلال؛ هذه الصفات، وتلك السمات؛ ساقها الله تعالى وصفاً لليهود {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً} في الدنيا: بما ضرب عليهم من الذلة والمسكنة، وفي الآخرة: بما أعده الله تعالى -[139]- لهم من عذاب النار وبئس المصير {وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ} عن طريق الصواب والحق

62

{وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} الحرام والرشوة. والسحت: الحرام. أو هو ما خبث من المكاسب فلزم عنه العار {لَوْلاَ} هلا {يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ} الزهاد فيهم {وَالأَحْبَارُ} العلماء {عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ} الكذب والزور

64

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} أي شحيحة بخيلة؛ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاء عليهم بتقييد أيديهم عن عمل الخير؛ ليحرموا من ثوابه {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} غل اليد وبسطها: كناية عن البخل والجود. قال تعالى {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} ومن أكرم من الله؟ ومن أبسط يداً منه تعالى؟ {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي بين اليهود والنصارى وبين سائر المسلمين؛ لأنه تعالى قال قبل ذلك: {لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ} أو هو بين اليهود أنفسهم؛ فكل فرقة منهم تخالف الأخرى؛ ولقوله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} فهم متباغضون أبد الدهر، متنافرون طول العمر؛ شتت الله تعالى شملهم، وفرق جمعهم {لَكَفَّرْنَا} محونا

66

{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن الطاعات مفتاح لسائر السعادات، وأن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ} طائفة {مُّقْتَصِدَةٌ} تعمل بالعدل والخير؛ ولا تقول إلا الحق. وأصل القصد: الاستقامة؛ وهو ضد الإفراط؛ والمقصود بهم الطائفة التي قالت في عيسى: إنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه؛ ولم تقل: إنه ابنالله، أو إنه ابن زنا؛ صلوات الله تعالى وسلامه عليه {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} أي ساء الذي يعملونه؛ لأن أعمالهم كلها سيئة

67

{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} يحفظك من مكرهم وكيدهم؛ فلا يتمكن أحد من قتلك أو خداعك؛ وقد كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يحرسون الرسول، فلما نزلت {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} قال: «انصرفوا عني فقد عصمني الله من الجن والإنس؛ فلا أحتاج إلى من يحرسني» أما عصمته - صلوات الله تعالى وسلامه عليه - من الشيطان: فهي عصمة مصاحبة له منذ ولد عندما تداعى إيوان كسرى، وخبت نيران الفرس؛ وعندما شق جبريل الأمين عن صدره الشريف؛ فنزع منه حظ الشيطان من بني الإنسان؛ فكان معجزة الله تعالى بين البشر، وسيد ولد آدم ولا فخر

68

{قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ} اليهود والنصارى {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} أي لستم على دين، ولا على نظام، أو لستم على حق -[140]- {حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} بأن تعملوا بما فيها. وفي التوراة والإنجيل نعت محمد، والتبشير بمجيئه؛ فالإيمان به إذن: إقامة للتوراة والإنجيل، وعمل بما فيهما (انظر آية 157 من سورة الأعراف) {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم} أي من اليهود والنصارى {مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} من القرآن {طُغْيَاناً} على طغيانهم {وَكُفْراً} على كفرهم {فَلاَ تَأْسَ} لا تحزن

69

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} ب الله تعالى؛ وهم قوم محمد عليه الصَّلاة والسَّلام {وَالَّذِينَ هَادُواْ} اليهود: قوم موسى عليه السلام {وَالصَّابِئُونَ} جنس من أهل الكتاب. وصبأ: إذا رجع. وقيل: هم قوم كانوا يعبدون النجوم. وقيل: قوم كانوا على دين نوح عليه السلام؛ وأبوا اتباع دين آخر {وَالنَّصَارَى} قوم عيسى عليه السلام {مَنْ آمَنَ} من هؤلاء جميعاً {بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً} في دنياه {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من العذاب {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} يوم القيامة؛ إذ هم ناجون بإيمانهم ب الله واليوم الآخر، وبالعمل الصالح :

71

{وَحَسِبُواْ} أي ظن بنو إسرائيل {أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي ألا يتنزل بهم عذاب بسبب تكذيبهم {فَعَمُواْ} عن رؤية الحق {وَصَمُّواْ} عن سماعه؛ وذلك لأنهم لم ينتفعوا بما رأوا ولا بما سمعوا؛ فكانوا كالأعمى والأصم {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} رفع عنهم العذاب، ومهد لهم سبيل المتاب، ولن يتوب إنسان، قبل أن يتوب عليه المنان قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} لكن بني إسرائيل هم هم؛ طول العمر، وأبد الدهر؛ فبعد أن عموا وصموا، وبعد أن رفع ربهم عنهم العذاب، {ثُمَّ} مهد لهم سبل المتاب {عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} فمجازيهم به

72

{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وكيف يكون إلهاً من ولدته مريم؟ ومن صفاته تعالى أنه لا يلد ولا يولد {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ} أن يدخلها، أو يشم ريحها {وَمَأْوَاهُ} مرجعه {النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ} الكافرين {مِنْ أَنصَارٍ} يمنعونهم من عذابالله، أو ينصرونهم من دونه؛ و

73

{لَّقَدْ كَفَرَ} أيضاً {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} وهم النصارى حيث يقولون: إن الله ذو ثلاثة أقانيم {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ} يرجعوا -[141]- {عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ} بهذا القول {عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدنيا بالخزي، وفي الآخرة بالنار

75

{مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} الذي ألهته النصارى ورمته اليهود {إِلاَّ رَسُولٌ} من عند الله {قَدْ خَلَتْ} مضت {مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أمثاله {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} مبالغة في الصدق {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} كما تأكل سائر المخلوقات؛ وفي هذا القول إشارة لطيفة إلى أن من يأكل الطعام؛ لا بد أن يكون في حاجة إلى إخراجه ومن يكن هذا حاله؛ فكيف يعبد؟ أو كيف يتوهم أنه إله؟ {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ} الدالة على فساد حكمهم، وخطل رأيهم {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} كيف يصرفون عن عبادتي؛ رغم ظهور الآيات الدالة على وحدانيتي؟

77

{قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} الغلو: مجاوزة الحد؛ من إفراط. أو تفريط: فقد قالت النصارى عن عيسى: إنه إله، وإنه ابن الله. وقالت اليهود عنه: إنه ابن زنا قاتلهم الله أنى يؤفكون {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ} يعني بهم اليهود {قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} بافترائهم على المسيح وأمه؛ وهو عبد الله وكلمته، وأمه صديقة {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً} من الناس؛ بصرفهم عن الإيمان {وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ} عن الطريق المستوي الواضح المستقيم

78

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي لعنوا على لسان داود في الزبور، وعلى لسان عيسى في الإنجيل

79

{كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ} لا ينهى بعضهم بعضاً {عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} بل تصيب الطائعين والعاصين معاً؛ لأن الطائعين لم يكونوا ينهون مرتكبي المنكر عن منكرهم؛ فيصيبهم ما يصيبهم

80

{تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ} أي من اليهود {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يصادقون مشركي العرب وعبدة الأوثان؛ ليستعينوا بهم على المسلمين {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} لدنياهم وآخرتهم -[142]- {أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} بسبب مصاحبتهم للكافرين، وموالاتهم لهم، وعدائهم للمسلمين وعدم تناهيهم عما يعملونه من المنكر

81

{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ} إذ أن موالاة الكافرين كفر

82

{لَتَجِدَنَّ} يا محمد {للَّهِ} بك {الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} ب الله من عبدة الأوثان {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى} قيل: نزلت في نفر من نصارى الحبشة؛ وفدوا على رسولالله فقرأ عليهم القرآن وآمنوا به؛ ولما رجعوا إلى الحبشة أخبروا النجاشي بذلك فآمن وظل على إيمانه حتى مات مسلماً. وقيل: إنهم قوم كانوا على ملة عيسى عليه السلام؛ فلما بعث محمد آمنوا به وصدقوه. والظاهر أن المراد: عموم النصارى {ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عن عبادة الله تعالى

83

{وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} خشوعاً وتأثراً {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ} وذلك أنهم عرفوا من الإنجيل أن مجيء محمد عليه الصَّلاة والسَّلام حق، وأن نزول القرآن عليه حق (انظر آية 158 من سورة الأعراف) {يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أي مع أمة محمد عليه الصَّلاة والسَّلام؛ الذين هم شهداء على سائر الأمم

85

{فَأَثَابَهُمُ} جزاهم

89

{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} اليمين اللغو: أن يحلف على شيء يرى أنه كذلك، وليس كما ظن، أو هو ما يسبق إليه اللسان من غير قصد الحلف؛ كقول الإنسان: لا والله، وبلى والله {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وتحريرها: إعتاقها من الرق؛ كفارة لليمين (انظر آية 177 من سورة البقرة)

90

{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} و «الخمر»: كل ما خامر العقل؛ وقد جاء في الحديث الشريف أنها أم الكبائر وقد تعددت في زماننا هذا أنواعها وألوانها؛ لشدة رغبة العصاة فيها، وانكبابهم عليها؛ قال: «يأتي على أمتي زمان يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها» وقد صدق الحديث على هذه الفترة من الزمن؛ وها هم الآن يشربونها بأسماء عدة؛ ليس من بينها لفظ «الخمر» ويشربون بعضه للتداوي؛ وهو من أفتك أنواع الخمور وأفحشها؛ كأصناف حديد الكينا وغيرها؛ مما لا يتورع بعض العلماء والفقهاء عن شربه؛ متسترين بأنها تحمل اسماً غير اسم الخمر، وغاب عنهم أن الله تعالى مطلع على خفاياهم، وعالم سرهم ونجواهم ومن دواعي الحسرة والأسف أننا نجد بعض الأمم الغربية - الغير الإسلامية - تحارب الخمور بكل الوسائل وكافة السبل؛ وتحظر صنعها وبيعها وحملها؛ في حين أننا في مصر لا نكون عصريين ومتحضرين إذا لم نشربها ونعرف سائر أنواعها وأصنافها. ومن عجب أنها في مصر - زعيمة الدول العربية - تباع جهاراً وعلى مقربة من المساجد، وبتصريح رسمي من الحكومة المسلمة - التي دينها الرسمي الإسلام - فحتى متى نظل في هذه الأدران، راضين عن هذا الكفران؟ ونحن نرجو ونلحف في الرجاء: أن تقوم حكومتنا الرشيدة المسلمة برفع هذا الإصر، ومحو هذا العار؛ لنكون أهلاً لما بوأنا الله تعالى من زعامة، وما اختصنا به من كرامة والخمر: يحد شاربها ويستتاب. وقد جاء في البخاري: «أن النبي حد شارب الخمر، وأمر أن يضربوه بالنعال» وهذا قاطع بوجوب امتهان شارب الخمر وتسفيهه والإزراء به والخمر من أولى مهامها أن تجعل شاربها يحيا حياة هي دون مستوى الحياة الإنسانية المهذبة؛ فيتسلط عليه الجانب الحيواني، على الجانب العقلي والروحي، الكامن في أعماقه وهي فوق هذا تهبط بالقوى -[144]- العقلية إلى مستوى لا يرتضيه لنفسه إنسان يريد أن يعيش موقراً بين أقرانه؛ مكرماً بين أنداده؛ لأنها تؤثر تأثيراً مباشراً على جهازه العصبي؛ فتغير من إحساساته وانفعالاته تغييراً كبيراً يجعله أقل قدرة على ضبط أقواله وأفعاله؛ فيسهل انقياده إلى حيث يرضى الشيطان، ويغضب الرحمن «والميسر»: القمار؛ ويدخل تحته سائر ضروب اللعب وأوراق اليانصيب «اللوترية» و «الأنصاب»: الأصنام والأحجار التي كانوا ينصبونها للعبادة من دون الله تعالى «والأزلام»: قداح أو سهام؛ كان أهل الجاهلية يستقسمون بها؛ قال تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ} والاستقسام بها: طلب معرفة ما قسم للإنسان في الغيب. والرجس: القذر؛ وهو كل ما يستوجب العذاب والعقاب

91

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ} يدفعكم إلى شرب الخمر، وإغوائكم على لعب القمار {أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ} بعد أن ألف الله تعالى بين قلوبكم بالإيمان {وَالْبَغْضَآءَ} بعد أن جعلكم الله تعالى إخواناً أحباء ولكن الشيطان - ودأبه دائماً إذاية بني الإنسان - أراد بدفعكم إلى هذه المناكير أن يعادي بعضكم بعضاً، ويبغض بعضكم بعضاً، وكيف لا يتعادى من سلبت عقله الخمر، وأطاحت برشده ولبه؟ أو كيف لا يتعادى المقامرون؛ وقد سلب بعضهم مال البعض الآخر ظلماً وزوراً؟ قد أراد الشيطان بذلك أيضاً أن {يَصُدَّكُمْ} يمنعكم ويحول بينكم وبين {ذِكْرِ اللَّهِ} تذكره وعبادته {وَعَنِ الصَّلاَةِ} وكيف يذكر الله تعالى أو يصلي له من لا عقل له؟ أو كيف يعبد الله من شغله القمار عن أهله وولده، بل عن أكله وشربه؟ {فَهَلْ أَنْتُمْ} أيها المؤمنون {مُّنتَهُونَ} راجعون عن طاعة الشيطان، إلى طاعة الرحمن؟ ومنصرفون عن العصيان، وعائدون إلى حظيرة الإيمان؟ (انظر آية 219 من سورة البقرة)

92

{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن الطاعة {جُنَاحٌ} إثم {فِيمَا طَعِمُواْ} ذاقوا. قال أكثر المفسرين: إنها نزلت حين تحرج قوم عند نزول تحريم الخمر وهي لا تزال في بطونهم. والذي أراه في معنى الآية:

93

{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} أي أكلوا وشربوا من المباحات {إِذَا مَا اتَّقَواْ} الله تعالى وخافوه، وتناولوا هذا المطعوم من حله، وأدوا حق التنعم به، وأطعموا منه البائس والفقير؛ يدل عليه قوله جل شأنه {وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} وأي صالحات أسمى، ولا أنمى من إطعام الطعام؛ فبه يدخل المؤمن جنة ربه، ويحظى بقربه ومزيد حبه وليس للمانع سوى النيران وغضب الرحمن واذكر إن شئت قول الحكيم العليم: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} وقول الجبار القهار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} -[145]- {ثُمَّ اتَّقَواْ} ربهم؛ فلم ينالوا ما طعموه وأطعموه إلا من حله؛ لا يشوبه نهب ولا سلب، ولا خداع {ثُمَّ اتَّقَواْ} ربهم؛ فلم يدركهم العجب بكرمهم، ولم يراءوا بجودهم {وَّأَحْسَنُواْ} العمل خالصاً لوجهه الكريم؛ غير مبتغين أجراً ولا شكوراً {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً}

94

{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ} ليختبرنكم {اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ} يسوقه إليكم؛ بحيث إنه {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} بالإمساك؛ كصغار الوحش، وضعاف الطير وفراخه وبيضه تناله {وَرِمَاحُكُمْ}؛ وذلك الابتلاء {لِيَعْلَمَ اللَّهُ} علم ظهور؛ إذ هو جل شأنه عالم بما كان وسيكون {مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} أي من يخشاه؛ مع أنه غائب عنه لا يراه {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ} فاصطاد {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لاستهانته بأوامر الله تعالى، وارتكابه ما نهى عنه، واستحلاله ما حرم والتكاليف: امتحان من الله تعالى لعبيده؛ وقد تكون المغفرة، وقد يكون التعذيب: بقدر تسلط الطبيعة البشرية على النفس وعدم تسلطها؛ فكلما كان تسلط الطبيعة قاسياً ومستحكماً على النفس؛ كانت مغفرة الله تعالى أدنى من المذنب - طالما أقلع عن ذنبه، ولجأ إلى ربه - وكلما كان ارتكاب الإثم واقعاً تحت الاختيار المحض، والرغبة المطلقة: كان الذنب أقبح، والجرم أفدح وكانت العقوبة أشد - لاستهانة النفس بوعد خالقها ووعيده - لذا توعد الله تعالى من اصطاد في الإحرام، بالتعذيب والإيلام وإلا فأي دافع يدفع المحرم إلى الصيد؟ وأي حافز له إلى ذلك غير المخالفة لأوامر الله تعالى، وعدم الاعتداد بنواهيه لذلك وجبت له الجحيم، وحق عليه العذاب الأليم

95

{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} محرمون بالحج أو العمرة {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً} قتله، ناسياً إحرامه، أما متعمد القتل مع تذكر الإحرام {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {فَجَزَآءٌ} أن جزاء على قتل الصيد {مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} أي يذبح ما يماثلها في الشكل والعد: نظيره في الخلق، وقدره في الجسم؛ فإن قتل نعامة: أهدى ناقة - للتماثل ولقرب الشبه بين الإثنين في الخلقة - وإن قتل حماراً وحشياً: أهدى بقرة، وإن قتل ظبياً: أهدى شاة، وهكذا. و {النَّعَمِ}: واحد الأنعام؛ وهو المال الراعية؛ وأكثر ما يقع على الإبل {هَدْياً} الهدي: ما يهدى إلى الحرم {أَوْ كَفَّارَةٌ} لمحو ما ارتكبه من قتل الصيد وهو محرم {طَعَامُ} إطعام {مَسَاكِينَ} وذلك يأن يقوم ثمن المثل؛ ويطعم به المساكين {أَو عَدْلُ ذلِكَ} أي ما يعادل ذلك الإطعام ويماثله من الأيام {صِيَاماً} يصومه قاتل الصيد المتعمد؛ عن كل صاع يومين {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} ثقل جزائه {عَفَا اللَّهُ عَمَّا} عما مضى قبل التحريم -[146]- {وَمَنْ عَادَ} إلى ما نهى عنه {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} في الآخرة

96

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} ما اصطدتموه من سمك وحيوان؛ محلين أو محرمين و {الْبَحْرِ}: سائر البحار والأنهار {وَطَعَامُهُ} ما قذفه على ساحله: حياً أو ميتاً؛ ما دام صالحاً للأكل {مَتَاعاً لَّكُمْ} تتمتعون بأكله {وَلِلسَّيَّارَةِ} السائرين من أرض إلى أرض

97

{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ} يقوم به أمر دينهم؛ بالحج إليه. ودنياهم؛ بأمن من يدخله. وهي قوام أن لا قوام لهم؛ من ملك يجمع كلمتهم، أو رئيس يحجز قويهم عن ضعيفهم، ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم جعل تعالى {الشَّهْرَ الْحَرَامَ} كذلك؛ يمتنع فيه القتل والعدوان، والأشهر الحرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب {وَالْهَدْيَ} وهو ما يهدى إلى الحرم من الأنعام {وَالْقَلاَئِدَ} جمع قلادة؛ وهي ما يعلق بأعناق الأنعام المهداة إلى الحرم؛ جميع ذلك جعله الله تعالى حراماً لا يعتدى عليه؛ وذلك لتهذيب النفوس التي أشربت حب الفتك والعدوان، ولتأهيلها لتلقي الأوامر والنواهي، وإعدادها لقبول الزجر عن المخالفات والعصيان؛ فكان جميع ذلك بمثابة الرئيس الذي يقوم به أمر أتباعه، وينتظم عقدهم، ويسلس قيادهم

98

{اعْلَمُواْ} أيها الناس {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ} لمن عصاه {وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن أطاعه

99

{مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ} {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} فمحاسبكم عليه

100

{قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ} الحرام {وَالطَّيِّبُ} الحلال، وكيف يستويان و {الْخَبِيثُ} موصل إلى النار و {الطَّيِّبِ} موصل إلى الجنة؟ {فَاتَّقُواْ اللَّهَ} واتركوا الحرام - مهما كثر - فإنه منعدم البركة، محقق المحق واحرصوا على الحلال - مهما قل - ففيه الخير كل الخير، وفيه النماء والبركة {يأُوْلِي الأَلْبَابِ} يا ذوي العقول

101

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ -[147]- عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وهي الأشياء التي لا يستفاد بها علم، ولا يبتغى من ورائها نفع. وقد كانوا يسألونه عليه الصلاة والسلام؛ مستهزئين به تارة، وممتحنين له أخرى. روى البخاري ومسلم رضي الله تعالى عنهما في «صحيحيهما» قال رجل لرسول الله: يا نبي الله من أبي؟ قال: «أبوك فلان» فنزلت. والإساءة المتوقعة والمعنية بقوله جل شأنه {إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} هي أن يكون السائل ابن زنا، أو منتسباً لغير أبيه. وروي أيضاً أنه لما نزل قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قالوا: يا رسول الله أفي كل عام؟ فسكت. فقالوا: أفي كل عام؟ قال: «والذي نفسي بيده لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما أطقتموها، ولو لم تطيقوها لكفرتم» فأنزل الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}. وعلى كل فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، فالآية الكريمة نزلت للنهي عن كل سؤال لا فائدة من ورائه، ولا حاجة إلى استقصائه. وقد كان هدي الصحابة رضوان الله تعالى عليهم: السؤال للفهم والعلم؛ فقد سألوه صلوات الله تعالى وسلامه عليه عما فيه خير دنياهم وآخرتهم رجاء النفع لا الضرر، والاستفادة لا التعنت: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ}. وقيل: كان السؤال عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. وخير ما يقال في هذه الآية الكريمة: إن المراد بالنهي: سؤال الآيات، واقتراح المعجزات؛ وفي إبدائها إساءة بالغة لمنكريها. قال تعالى عندما سأله بنو إسرائيل أن ينزل عليهم مائدة من السماء: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ} {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا} أي عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها {حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} أي لا تسألوا معجزة، ولا تقترحوا آية؛ إلا إذا نزل القرآن؛ ففيه كل تبيان وبرهان، وفيه ما يغنيكم عن كل سؤال، وعن كل آية، وعن كل معجزة؛ قال الإمام البوصيري رضي الله تعالى عنه: دامت لدينا ففاقت كل معجزة من النبيين إذ جاءت ولم تدم {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي عن المسألة التي سلفت منكم

102

{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} أي سأل قوم - ممن كان قبلكم - مثل سؤالكم هذه الآيات واقترحوا مثل ما اقترحتموه من المعجزات {ثُمَّ أَصْبَحُواْ} بعد إجابة سؤالهم {بِهَا كَافِرِينَ} وذلك كما فعل بنو إسرائيل عند اقتراحهم استبدال الطعام، وإنزال المائدة، أو كقوم صالح الذين سألوا الآية؛ فلما جاءتهم الناقة عقروها

103

{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ} وهي الناقة يبحر أذنها {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ} وهي ابنة السائبة؛ وحكمها حكم أمها {وَلاَ سَآئِبَةٍ} كانت الناقة إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث: سيبت فلم تركب، ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف حتى تموت؛ فإذا ماتت: أكلها الرجال والنساء جميعاً، وبحرت أذن بنتها الأخيرة فصارت {بَحِيرَةٍ} {وَلاَ وَصِيلَةٍ} الوصيلة التي كانت في الجاهلية: هي الشاة تلد سبعة أبطن - عناقين عناقين - فإن ولدت في الثامنة جدياً ذبحوه لآلهتهم، وإن ولدت جدياً وعناقاً، قالوا: وصلت أخاها؛ فلا يذبحون أخاها من أجلها، -[148]- ولا تشرب لبنها النساء؛ وكان للرجال وحدهم، وجرت مجرى السائبة {وَلاَ حَامٍ} كانوا في الجاهلية إذا نتج من صلب الفحل عشرة أبطن؛ قالوا: قد حمى ظهره. فلا يركب، ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى

104

{قَالُواْ حَسْبُنَا} كافينا {مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} من عبادات وعادات

105

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فقوموها على الإيمان، وروضوها على الطاعة، واعملوا على خلاصها من عقاب الله تعالى، وأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فقد فعلتم ما أمرتم به، وقمتم بما وجب عليكم. وهو كقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}

106

{يِاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} أي ليشهد بينكم {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي حضرت أسبابه ومقدماته؛ كاشتداد المرض، والنزع {حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ} مشهود لهما بالتقى والورع والصلاح {مِّنْكُمْ} من دينكم وملتكم {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي من غير دينكم وملتكم - إذا لم يوجد الأولان - وذلك لأن الوقت وقت ضرورة ملحة؛ وليس في الإمكان أن نطلب ممن يعالج سكرات الموت أن ينتظر حتى يعثر على المؤمنين الأتقياء الصلحاء وقالوا بعدم جواز شهادة غير المسلم على المسلم؛ إلا في الوصية - بشرط أن تكون في حال السفر - وقيل: {مِّنْكُمْ} أي من أقاربكم؛ لأنهم أعلم بأحوال الميت {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي من الأجانب المؤمنين {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} سافرتم فيها {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} أي فمتم بعد أن أديتم إلى الشاهدين ما تملكون، وأوصيتم بما تريدون؛ فإن قاما بما استودعاه، وأديا ما ائتمنا عليه، وارتاح ورثة المتوفى لتصرفهما؛ فقد تم أمر الله. أما إذا توهم الورثة كذبهما أو خيانتهما؛ فما عليكم إلا أن {تَحْبِسُونَهُمَا} تمسكونهما {مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ} وقد كانوا يجلسون للحكومة بعد صلاة العصر {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} يحلف الشاهدان به تعالى {إِنِ ارْتَبْتُمْ} إن شككتم فيهما؛ ويقولان: {لاَ نَشْتَرِي بِهِ} أي بالحق الذي استودعناه وائتمنا عليه، أو لا نشتري بالحلف ب الله {ثَمَناً} عوضاً؛ ولا نبيع أخرانا بدنيانا {وَلَوْ كَانَ} المتوفى، أو صاحب المصلحة المقسم له {ذَا قُرْبَى} يهمنا أمره {وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الثِمِينَ} المستوجبين للعقاب إذا كتمنا الشهادة

107

{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْماً} بأن كذبا في الشهادة، ولم يؤدياها على وجهها {فَآخَرَانِ} من أولياء الميت؛ أو من الموصى إليهم {يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا} في الحلف {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} أي استحق عليهم الإثم؛ وهم المجنى عليهم من أهل الميت وعشيرته ووارثيه {الأَوْلَيَانِ} الأحقان بالشهادة لقرابتهما، أو لمعرفتهما {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} يحلفان به {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ} -[149]- أولى وأصدق {مِن شَهَادَتِهِمَا} وأنهما قد كذبا فيما قالا، وخانا الأمانة؛ وأن ما وجد لديهما هو من مال المتوفى لا من مالهما {وَمَا اعْتَدَيْنَآ} عليهما في ذلك {إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} إن كنا معتدين، أو كاذبين

108

{ذلِكَ} الذي مر ذكره؛ من ترتيب الشهادة، ودفعها عند الارتياب ووقوع الإثم {أَدْنَى} أقرب {أَن يَأْتُواْ} أي الشهداء {بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَآ} الصحيح؛ كما حملوها بلا خيانة فيها {أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} فيفتضحوا بظهور كذبهم الذين أرسلهم لهداية خلقه

109

{فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ} أي بماذا أجابكم أقوامكم

110

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} بالإمامة والرسالة {وَعَلَى وَالِدَتِكَ} بالطهارة، والاصطفاء على نساء العالمين {إِذْ أَيَّدتُّكَ} قويتك {بِرُوحِ الْقُدُسِ} جبريل عليه السلام {تُكَلِّمُ النَّاسَ} صغيراً {فِي الْمَهْدِ} المهد: فراش الطفل {وَكَهْلاً} الكهل: الذي جاوز الثلاثين ووخطه الشيب {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ} الكتابة {وَالْحِكْمَةَ} العلم النافع {وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ} وهو الذي ولد أعمى {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى} من القبور أحياء {بِإِذْنِي} قيل: أخرج سامبن نوح، ورجلين، وامرأة، وجارية؛ وتكلم معهم خلق كثير. وقال بعض المحدثين: المراد بالموتى: موتى القلوب والنفوس. وهو قول هراء لا يلتفت إليه عاقل؛ وذلك لأن إحياء موتى القلوب متيسر لمن عنده أدنى معرفة ب الله تعالى؛ فكيف يكون معجزة لنبي؟ والمعجزة من صفاتها وخصائصها عدم توفرها لغير نبي مؤيد من الله تعالى {وَإِذْ كَفَفْتُ} منعت {بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ} أي اليهود حين هموا بقتلك {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بالمعجزات والحجج الظاهرات

111

{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} وحي إلهام. والحواريون: الخواص والأصفياء؛ وهم أنصار عيسى عليه السلام

112

{قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} أي لا تمتحنوا ربكم باقتراح الآيات والمعجزات؛ خشية أن يصيبكم عذابه - إذا كذبتموني بعد نزولها - قال تعالى: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ} ( انظر آية 10صلى الله عليه وسلّم من هذه السورة)

113

{قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} بأنها منزلة من السماء، وليست من صنع البشر {وَنَعْلَمَ} بذلك {أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} في ادعائك النبوة

114

{تَكُونُ لَنَا} يوم نزولها {عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً} علامة دالة على صدقي، وعلى وجودك

115

{قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} كما اقترحتم {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ} أي بعد نزولها

116

{قَالَ سُبْحَانَكَ} أنزهك عما لا يليق بك (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) {مَا يَكُونُ لِي} ما يصح لي ولا يجوز {أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} فكيف بادعاء الألوهية؟ -[150]- وسؤاله تعالى لعيسى يوم القيامة ليس سؤال استفهام؛ بل هو لإقامة الحجة على هؤلاء الكفرة الفجرة الذين عبدوا من دون الله مخلوقات الله؛ واتخذوا عبيده آلهة؛ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً {إِن كُنتُ قُلْتُهُ} أي قلت للناس ذلك القول {فَقَدْ عَلِمْتَهُ} لأنك علام الغيوب {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} أي ما أكنه في صدري؛ فكيف بالذي أقوله بلساني؟

117

{وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} أي كنت مشاهداً لأعمالهم، مراقباً لأفعالهم؛ مدة إقامتي بينهم في هذه الحياة {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} أمتني، أو توفيت مدة إقامتي في الدنيا ورفعتني إليك {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} المراقب لأعمالهم وأفعالهم

119

{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} في الدنيا؛ في عبادة الله تعالى والإنابة إليه {لَهُمْ جَنَّاتٌ} بساتين {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أي خلوداً مؤبداً؛ لا غاية له، ولا انتهاء لأمده {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} فأرضاهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} فرضي عنهم (انظر آيتي 54 من هذه السورة، و22 من سورة المجادلة)

120

{للَّهِ} ملكاً وخلقاً وعبيداً؛ لم يشركه أحد في خلقهم، ولا يشركه أحد في عبادتهم {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} أراده {قَدِيرٌ} على فعله.

سورة الأنعام

سورة الأنعام بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} الليل والنهار؛ فإنهما آيتان من آيات الله تعالى. أو المراد كل ظلمة، وكل نور، أو هو ظلمة الكفر ونور الإيمان، وظلمة الجهل ونور العلم؛ جعل الظلمات ليستدل بها على ما عداها؛ فلولا ظلمة الليل ما عرفنا نور النهار، ولولا الكفر ما عرف الإيمان، ولولا الجهل ما عرف العلم. (انظر آية 17 من سورة البقرة) {ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بعد هذه الدلالات على وجود الله تعالى ووحدانيته {بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي يجعلون له عدلاً؛ وهو المثل، والشبيه، والنظير؛ وهو تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

2

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} أي خلق أصلكم آدم عليه السلام {مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً} لكل مخلوق من مخلوقاته لا يتجاوزه {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} هو أجل القيامة ووقتها {ثُمَّ أَنتُمْ} بعد كل ذلك {تَمْتَرُونَ} تشكون في القيامة، وتجادلون في الله

3

{وَهُوَ اللَّهُ} الخالق البارىء المصور {فِي السَّمَاوَاتِ} وأين أنتم من السموات وما فيها؟ {أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا}؟ {وَفِي الأَرْضِ} وهو ذلك الكوكب الصغير الحقير؛ بالنسبة لملك الله تعالى وملكوته {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} ما تسرونه في أنفسكم وتحتفظون به في صدوركم {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} ما تعملون

4

{وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ} معجزة وبرهان -[151]- {إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} لا يأبهون بها، ولا يلتفتون إليها؛ وأي معجزة أكبر أو أجل من القرآن؟ وأي برهان أقوى من رسالة محمد عليه الصلاة والسلام؟ ذلك اليتيم الذي آواه الله، والضال الذي هداه، والعائل الذي أغناه والأمي الذي أخرس بفصاحة ما جاء به البلغاء والفصحاء، وتحدى بآياته أساطين البيان

5

{فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ} القرآن الكريم، أو محمد عليه أفضل الصلاة السلام {لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ} أي سوف يأتيهم العذاب الذي يدلهم على صدق ما كذبوا به؛ وصحة ما سخروا منه

6

{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} القرن: الأمة، أو أهل الزمان الواحد {مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} أي جعلنا لهم مكانة فيها، وقوة وسعة {وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً} أي جعلنا السماء تدر عليهم بالمطر؛ وهو كناية عن بسط الرزق، وسعة القوت؛ لأن المطر مصدر الرخاء والنماء {وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ} لكنهم طغوا وبغوا {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً} أمة

7

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} أي لو أنزلنا عليك من السماء كلاماً مكتوباً في ورق {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} ورأوه بأعينهم؛ لما آمنوا، والذي نراه ونلمسه {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} سحر واضح بيِّن

8

{وَقَالُواْ لَوْلاَ} هلا {أُنزِلَ عَلَيْهِ} أي على محمد {مُلْكُ} من السماء؛ يمشي معه ويؤيده، ويصدق أمامنا بما جاء به {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً} كما يقترحون {لَقُضِيَ الأَمْرُ} بهلاكهم واستئصالهم {ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} لا يؤجلون، ولا يمهلون

9

{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ} أي الرسول إليهم {مَلَكاً} من السماء {لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} أي جعلناه على صورة رجل؛ ليستطيعوا رؤيته، ويقووا على مواجهته؛ لأنه لا قوة ولا طاقة للبشر على رؤية الملك على حقيقته؛ ولأن كل نوع يميل إلى نوعه، وكل جنس يألف لجنسه؛ والإنسان عن الإنسان أفهم، وطباعه بطباعه آنس؛ والإنسان لا يقوى على رؤية عفريت أو شيطان، فكيف برؤية الملك الذي يهلك قرية بصيحة، ويفني أمة برجفة؟ وقد كان جبريل عليه الصلاة والسلام ينزل لنبينا صلوات الله تعالى وسلامه عليه على صورة رجل؛ ليأنس إليه، ويطمئن إلى مخاطبته؛ ولم يره على صورته الحقيقية غير مرتين: مرة عند غار حراء؛ رآه ساداً للأفق، حاجباً للشمس؛ فغشي على النبي من عظمة ما رأى ورآه مرة أخرى عندما أسري به في السموات العلى {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى} فتعالى الخالق المبدع المصور؛ الذي هدانا برسول من أنفسنا، نأنس إليه، ونلتمس غنى الدارين من يديه {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم} -[152]- لخلطنا عليهم {مَّا يَلْبِسُونَ} على أنفسهم؛ بأن يقولوا على الملك الذي أنزلناه في صورة رجل {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}

10

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} مثل ما استهزىء بك {فَحَاقَ} فنزل {بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ} أي جزاءه من العقاب والتعذيب {كِتَابَ} قضى ربكم

12

{عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} تفضلاً منه على العباد؛ ومن دلائل رحمته تعالى: تلطفه بخلقه رغم تجبرهم، وإمدادهم رغم عصيانهم؛ وأي رحمة أبلغ من رزقه لمن يكفر به، وإمهاله لمن يعبد غيره؟ {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} للحساب والجزاء {لاَ رَيْبَ فِيهِ} لا شك في حصول وقوعه {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُم} أضاعوها بكفرهم، وأعمالهم السيئة في الدنيا؛ فلا يقام لهم وزن في الآخرة، وليس لهم نصيب فيها سوى الجحيم والعذاب الأليم

13

{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي له تعالى كل شيء - هو خالقه ومالكه - من ساكن أو متحرك؛ لأن الذي يسكن لا بد أن يكون متحركاً. والآية الكريمة تنص على كل مخلوق من متحرك وساكن بطبعه، أو ساكن بعد تحرك {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم {الْعَلِيمُ} بأفعالكم

14

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} ناصراً ومعيناً {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فاطر الشيء: خالقه ابتداء من غير مثال سبق {وَهُوَ يُطْعِمُ} سائر مخلوقاته ويتكفل بأرزاقهم وأقواتهم {وَلاَ يُطْعَمُ} لا يحتاج لأحد يرزقه أو يطعمه؛ شأن من عبدتم من المخلوقات كعيسى {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يوم القيامة

18

{وَهُوَ الْقَاهِرُ} الذي لا يعجزه شيء {فَوْقَ عِبَادِهِ} مستعلياً عليهم؛ فهم كلهم تحت رحمته؛ وقيد إرادته؛ يعز من يشاء، ويذل من يشاء، يحيي من يشاء، ويميت من يشاء، يسعد من يشاء بجنته ورحمته، ويشقي من يشاء بناره وغضبه، بيده الملك والملكوت، والعزة والجبروت؛ تفرد بالعظمة والسلطان {وَهُوَ الْحَكِيمُ} في صنعه {الْخَبِيرُ} بخلقه

19

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً} لي بالرسالة والنبوة {قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي أن دعوتي لتوحيده، وحثى على معرفته: شهادة على نبوتي، ودليل على صدقي {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ} وهو شهادة أخرى قاطعة ناصعة؛ فأي شهادة أكبر من هذا تطالبونني بها، وتلزمونني بإبدائها؟ {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} أي لأنذركم بهذا القرآن؛ ومن سيبلغه من بعد وفاتي؛ فكأنما أنذرته بنفسي وأبلغته. أو ومن بلغه القرآن: وجب عليه القيام بتبليغه أيضاً

20

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} اليهود والنصارى {يَعْرِفُونَهُ} أي يعرفون محمداً؛ لنعته في كتبهم (انظر آية 157 من سورة الأعراف). -[153]- {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُم} بتعريضها للجحيم والعذاب الأليم {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بمحمد؛ رغم معرفتهم له كمعرفتهم لأبنائهم

21

{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} بأن أشرك معه غيره من مخلوقاته

22

{ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أنهم آلهة، وتشركونهم معي في العبادة

23

{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} الفتنة هنا بمعنى الاختبار؛ أي لم يكن جوابهم حين اختبروا بهذا السؤال. وقيل: «فتنتهم» معذرتهم

24

{وَضَلَّ عَنْهُم} غاب

25

{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} بأذنيه، وينصرف عنك بقلبه؛ ومثل هذا غير جدير بالاعتبار؛ وأولى بمثله أن يورده الله تعالى موارد الغواية، ويبعده عن مواطن الهداية أغطية؛ بسبب انصرافهم وعنادهم وكفرهم {أَن يَفْقَهُوهُ} أي لئلا يفقهوا القرآن {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} ثقلاً يمنع من السمع {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ} منزلة عليك من القرآن الكريم {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ} القرآن {إِلاَّ أَسَاطِيرُ} أكاذيب

26

{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} أي ينهون الناس عن سماعه {وَيَنْأَوْنَ} يتباعدون {وَأَنْ} وما {يُهْلِكُونَ} بهذا النهي والنأي {إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} لأنهم يعرضونها للعذاب الشديد يوم القيامة

27

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ} حبسوا {عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يلَيْتَنَا نُرَدُّ} نرجع إلى الدنيا.

28

{وَلَوْ رُدُّواْ} إليها {لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} أي لعادوا إلى كفرهم وعنادهم

29

{وَقَالُواْ إِن} ما {هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} لا شيء غيرها ولا حياة بعدها {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} في الآخرة كما يزعم محمد. هذا وقد ظهر في زماننا هذا قوم من غلاة الزنادقة ينكرون البعث، ويقولون بالتعطيل وفي الواقع أن عقولهم وقلوبهم هي المعطلة؛ وسيرون غداً حينما تلتهمهم النيران، ويحل بواديهم الخسران؛ من أضل سبيلاً، وأسوأ قيلا (انظر مبحث التعطيل بآخر الكتاب)

30

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ} للحساب، ورأوا بأعينهم سوء المآب {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا} الذي ترونه وتلمسونه {بِالْحَقِّ} الذي أنذركم به محمد؛ فكذبتموه وكفرتم به {حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} فجأة

31

{قَالُواْ} وقتذاك {يحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} أي على ما قصرنا في الدنيا {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} ذنوبهم

34

{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} مثلما كذبك قومك؛ وهو تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام {فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ} فاصبر كما صبروا {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} بإهلاك المكذبين {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} لأوامره وسنته، ومواعيده بنصر رسله

35

{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ} عظم وشق {إِعْرَاضُهُمْ} عن الإيمان {فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ} تطلب وتجد {نَفَقاً} سرباً {فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ} تصعد عليه {فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} معجزة مما يقترحونه من غير إرادتنا

36

{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} للدعوة إلى الإيمان {الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} سماع تدبر وتفكر {وَالْمَوْتَى} الكفار؛ سماهم موتي: لأن حالهم كحالهم {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} يوم القيامة، ويوقفهم على النار؛ فيقولون: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}

37

{وَقَالُواْ لَوْلاَ} هلا {نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} معجزة

38

{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ} الدابة: كل ما يدب على وجه الأرض؛ من إنسان أو حيوان. والمراد بها هنا الحيوان {إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} تحتاج إلى تدبير رزقها ومعايشها، وتدل على خالقها المتكفل بأرزاقها؛ وفي الآية دليل على وجوب السير مع هذه الأمم بالحسنى، وعدم مجاوزة الحدود التي رسمها الله تعالى في معاملتها؛ ووجوب الرفق بها في سائر الحالات؛ أليست أمماً أمثالنا؟ وقد شغف أناس كثيرون من علماء الحيوان والنبات بدراسة هذه الأمم - من الحيوان والطير - فرأوا عجباً يضيق بصنعه بنو الإنسان فإنك لو أردت أن ترى آية في الاختراع، وغاية في الإبداع؛ لما وجدت أروع ولا أبدع من لوح الشمع الذي يصنعه النحل بنفسه؛ فإن الرسام المبدع لا يكاد يستطيع أن يرسم بأدواته وأقلامه ما رسمه النحل بتوفيق من ربه؛ وناهيك باختياره للورود والأزهار التي يرتشف منها الرحيق الذي يحوله - بقدرة ربه وإلهامه - إلى شراب مختلف الطعوم والألوان هذا عدا النظام الدقيق الذي تسير عليه مملكة النحل؛ مما تعجز أساطين العقول البشرية عن الإتيان بمثله؛ فسبحان من خلقه وسخره، وأوحى إليه بأمره؛ فاستمع إلى وحي ربه؛ شأن فضلاء بني الإنسان ولو تأملت إلى مملكة النمل، وما هي عليه من نظام محكم دقيق، لصغرت أمامك نفسك، وهانت عليك حكمتك وتدبيرك؛ فقد ثبت أنه من خير الأمم المنظمة؛ التي تدبر حيانها ومعيشتها، وتحفظ في يومها لغدها، وتثابر في عملها حتى تنال مرادها؛ وترى النمل إذا نزلت به نازلة، أو اجتاحته جائحة؛ لا تفتر عزيمته، ولا تنهار قوته؛ بل يعتبر النمل نفسه وحدة لا تتجزأ، وأنه يجب التضحية بالفرد لمصلحة المجموع؛ فكما يدفع الإنسان عن نفسه - ما يصيبه في هذه الحياة - بيده أو بأي عضو من أعضائه، ويضحي بزهرة أبنائه في سبيل الدفاع عن أرضه ووطنه؛ فكذلك النمل يضحي ببعضه في سبيل حياة باقية؛ فتراه إذا دهمه مطر أو سيل

فأودى بمنازله، وأطاح بمملكته؛ فجعلها خراباً يباباً؛ وصار الفناء الشامل، والهلاك المدمر قيد خطوة منه، حينئذ تراه يتجمع ألوفا مؤلفة، وملايين لا عداد لها فيتكور على نفسه، فيحمل السيل هذه المجموعات الهائلة منه حتى تستقر على اليابسة - بعد أن يبيد أكثرها اختناقاً وغرقاً - فيبدأ من نجا من أفراد هذه المملكة في العمل والإنشاء والتعمير، كأن لم تحل بهم داهية تذهب بلب الحكماء، وتعصف بعقول العقلاء وتراهم يبدأون بما فيه قوام حياتهم؛ فيلتقطون الحبوب - التي اختزنوها ونالتها مياه الأمطار - فيجففونها في الشمس خشية التلف، ويعيدونها إلى مخازنها التي أعدوها لها من قبل والذي يبدو أن الله تعالى خلق هذه المخلوقات وأبدع هذه الكائنات؛ لخدمة بني الإنسان ومنفعته الخاصة؛ ولا تقف هذه المنافع عند المنفعة المادية فحسب، بل هناك منافع أدبية وتعليمية لا حد لها؛ فالمؤمن الصادق الإيمان يجب عليه أن يقلد هذه الأمم - التي هي دونه في الخلقة، وفوقه في الخلق - فلا يعيش لنفسه فقط، ولا يقصر جهده على ما يعود عليه وحده بالمنفعة؛ بل يجب أن يكون كالنحلة: دائب العمل لمصلحة الآخرين؛ فما من شك أن النحل يأكل من الثمار والأزهار ليحفظ نفسه وحياته؛ ولكنه لا يكتفي بهذا القدر؛ بل يسعى جاهداً لتوفير القوت والشراب لغيره وكذلك النمل: فإن تدبيره لمعايشه؛ يفوق تدبير كثير من المخلوقات؛ فإن مثابرته وكده، وتضحية بعضه في سبيل بعضه؛ كل ذلك سخره الله تعالى ليستفيد منه بنو الإنسان ما يجعلهم أهلاً للخلافة في هذه الأرض؛ ليعمروها بالخير والبر فتبارك الخالق البارىء المصور؛ الهادي للحيوان، والمنعم على الإنسان فليتدبر ذلك من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (انظر آية 69 من سورة النحل) {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ} ما تركنا في اللوح المحفوظ {مِن شَيْءٍ} لم نثبته ونبينه {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ} يوم القيامة {يُحْشَرُونَ} يجمعون؛ فيقتص للجماء من القرناء؛ بل يقتص من بني الإنسان، ما فعله بالحيوان (انظر آية 40 من سورة النبأ)

39

{وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ} عن سماع الحق {وَبُكْمٌ} عن النطق به {فِي الظُّلُمَاتِ} ظلمة الكفر، وظلمة الضلال، وظلمة العصيان، وظلمة الجهل (انظر آية 17 من سورة البقرة) {مَن يَشَإِ اللَّهُ} أن يضلله {يُضْلِلْهُ} بما قدمت يداه، من عصيان مولاه؛ بأن كذب بآيات الله، وأصم أذنيه عن سماعها، وحبس لسانه عن النطق بها، وتمرغ في أوحال الجهل والخبال؛ فليس له جزاء سوى النردى في الضلال {وَمَن يَشَأْ} أن يهده {يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} طريق قويم؛ هو الإيمان، الذي هو طريق الجنة -[157]- طريق النعيم المقيم

40

{قُلْ أَرَأَيْتُكُم} هي عند بعضهم بمعنى: أرأيتم. وعند الآخرين بمعنى: أخبروني {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} الذي توعدكم به في الدنيا {أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ} القيامة {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} ليكشف ما حل بكم. والمعنى: هل يوجد عندئذ من يستطيع أن يمنعكم من عذاب الله تعالى، أو أن يدفع عنكم بأسه

41

{بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} منه وحده تطلبون {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ} أي إن أراد أن يكشف ما نزل بكم {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} به في عبادته

42

{فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ} بالبؤس؛ وهو القحط والجوع {وَالضَّرَّآءِ} الضرر؛ وهو المرض، ونقصان الأنفس {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} إلينا فنكشف ما بهم

43

{فَلَوْلا} فهلا {إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ} عذابنا {تَضَرَّعُواْ} تذللوا إلينا لنكشف عنهم ما نزل بهم؛ كعادتنا دائماً

44

{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} أي تركوه فلم يعملوا به {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} قوينا جسومهم، ووسعنا أرزاقهم، وبذلنا لهم المزيد من الخيرات والنعم؛ استدراجاً لهم {حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ} فرح بطر وكفران، لا فرح شكر وإيمان {أَخَذْنَاهُمْ} بالعذاب {بَغْتَةً} فجأة. عن سيد الخلق صلوات الله تعالى وسلامه عليه «إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاءون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم» ثم تلا {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإًّذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} أي قانطون يائسون. يقال: أبلس من رحمة الله؛ إذا قنط؛ ومنه سمي إبليس. والإبلاس أيضاً: الانكسار والحزن

46

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ} استؤصلوا عن آخرهم {مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} أي بما أخذه منكم {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} يعرضون

47

{قُلْ أَرَأَيْتُكُم} أرأيتم {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً} فجأة؛ بغير مقدمات، أو دلائل تدل على مجيئه؛ فقد تأتي النقمة من جهة الرحمة، وقد يحل القحط من جهة الرخاء؛ فقد يمطر السحاب ناراً، وقد تقذف الأرض حمماً {أَوْ جَهْرَةً} ظاهراً بمقدمات تدل على إتيانه. أو المراد: {بَغْتَةً} ليلاً، و {جَهْرَةً} نهاراً {فَمَنْ آمَنَ} ب الله {وَأَصْلَحَ} عمله

50

{قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ} فأملك التصرف فيها، والإعطاء منها {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} فأستكثر من الخير. وها هو الرسول الأعظم؛ سيد الخلق قاطبة يقول له ربه: أعلن على الملإ أنك لا تعلم الغيب؛ فا بال أقوام يدعون علم ما مضى، وما حضر، وما استقبل؟ وأعجب من ادعائهم هذا: أنهم يجدون من يصدقهم ويثق بأقوالهم؛ مع أنهم من كبار الدجاجلة، وقد جاء ذكرهم والتحذير منهم في شتى الأحاديث؛ فليحذر المؤمن من تمويههم وباطلهم؛ وليعلم أن الاستسلام لمثل أقوالهم ضرب من الكفر قال -صلى الله عليه وسلم-: -[158]- «من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} ذهب بعضهم إلى تفضيل الملك على الرسول؛ بدليل هذه الآية. والآية الكريمة لا يؤخذ منها التفضيل؛ بل المراد نفي الأفعال الخارقة للعادة، والتي لا تتأتى إلا من الملائكة عليهم الصلاة والسلام {إِنْ أَتَّبِعُ} ما أتبع فيما أقول وأعمل {إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} من ربي {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى} الكافر {وَالْبَصِيرُ} المؤمن {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} في ذلك فتؤمنون

51

{وَأَنذِرْ بِهِ} أي بالقرآن {لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ} غيره {وَلِيُّ} ينصرهم

52

{وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} يعبدونه ويتضرعون إليه {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} أي صبحاً ومساءاً {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} يطلبون مرضاته تعالى؛ ولا يبتغون شيئاً من أعراض الدنيا

53

{وَكَذلِكَ فَتَنَّا} ابتلينا {بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} ابتلينا الشريف بالوضيع، والقوي بالضعيف، والغني بالفقير، والسادة بالعبيد {لِّيَقُولواْ} أي ليقول الشرفاء، والأقوياء، والأغنياء؛ والسادة {أَهَؤُلاءِ} الوضعاء، والضعفاء، والفقراء والعبيد {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ} بالعقل والإيمان والهداية؟ قال تعالى رداً على استفهامهم البادي على ألسنتهم تارة، وفي قلوبهم أخرى {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} فيوفقهم إلى مرضاته، ويسوقهم إلى جناته

54

{كِتَابَ} قضى {رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} تفضلاً منه على عبيده، وإحساناً منه لخلقه ومن رحمته تعالى {أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ} أي من بعد عمل السوء {وَأَصْلَحَ} أعماله {فَإِنَّهُ} تعالى {غَفُورٌ} لذنبه به يؤخذ من هذه الآية أن جناية العالم أكبر من جناية الجاهل، وأن من لوازم التوبة: إصلاح العمل

55

{وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ} نوضحها ونبينها {وَلِتَسْتَبِينَ} تظهر {سَبِيلٍ} طريق {الْمُجْرِمِينَ} الذين يصرون على ذنوبهم؛ فلا يتوبون منها، ولا يرجعون عنها

57

{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ} أي إني على حجة واضحة ظاهرة من ربي؛ وهي القرآن قد {وَكَذَّبْتُم بِهِ} و {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي ليس عندي ما تطلبونه من العذاب؛ وذلك كقولهم {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ} {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ} أي يقوله، ويتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدره وفي قراءة {يَقْضِي بِالْحَقِّ} {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} الحاكمين

58

{قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذاب {لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} بتعجيله وإنزاله بكم؛ وقسركم على الإيمان، ولكن الله تعالى وحده يعلم متى يعذب عباده، ومتى يعفو عنهم، ومتى يرحمهم {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} فيعذبهم وقت إرادته؛ لا وقت طلبهم

59

{وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ} من ورق الشجر يعلم شكلها وحجمها ومقدارها، ومتى تسقط، -[159]- وأين تسقط، وكم مرة تدور في الهواء، وكم مرة تتقلب على الأرض عند سقوطها {وَلاَ حَبَّةٍ} من الحبوب؛ كالبر والشعير والذرة والعدس ونحوه؛ إلا يعلم كيف تنبت، ومتى تنبت، ومن يجتنيها، ومن يأكلها؛ وقد تحمل الحبة من قطر إلى قطر، وتجوب البحار والأنهار؛ جرياً وراء آكلها؛ حتى تستقر في جوف من كتبت له، وزرعت من أجله؛ فتعالى الخالق الرازق، العليم الحكيم {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} مكتوب {مُّبِينٌ} بيّن واضح؛ وهو اللوح المحفوظ: كتب فيه لتعلمه الملائكة الموكلون بانفاذ أوامره تعالى

60

{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ} يميتكم عند نومكم؛ وذلك لأن النوم قرين الموت؛ إذ فيه تقبض روح النائم، وتسبح في ملكوت ربها؛ كما تقبض روح الميت تماماً؛ غير أن النائم لا تنفصل روحه من جسده انفصالاً تاماً؛ بل لا تزال متصلة به. أما الميت فتنفصل روحه من جسده انفصالاً تاماً فيريها الله تعالى ما شاء من نعمة أو نقمة؛ حتى يقضي تعالى بالقيامة فتتصل كل روح بجسدها الذي يعيده الله تعالى لها؛ فيلقى المؤمن من كرم الله تعالى وحسن وفادته ما ينسيه البؤس الذي لقيه في دنياه ويلقى الكافر من الذل والهوان والعذاب ما ينسيه النعيم الذي كان فيه {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} ما كسبتم فيه من الآثام. وجرح واجترح: بمعنى كسب؛ وذلك لأن الآثام لا ترتكب إلا بالجوارح {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي في النهار؛ برد أرواحكم {لِيُقْضَى أَجَلٌ مّسَمًّى} وهو انقضاء آجالكم (انظر آية 42 من سورة الزمر) {ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فيجازيكم عليه

61

{وَهُوَ الْقَاهِرُ} الذي لا يعجزه شيء {فَوْقَ عِبَادِهِ} بالاستعلاء؛ فكلهم مخلوق وفق إرادته، وكلهم تحت سلطانه ورحمته؛ يحيي ويميت، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل وهو اللطيف الخبير {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} ملائكة حافظين {حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي جاء وقته وأوانه {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} المكلفون بقبض أرواح الخلائق {وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} فيما عهد إليهم به، فلا يتعجلون أحداً لم يحن حينه، ولا يتركون أحداً انقضى أجله

62

{ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ} سيدهم ومالكهم {الْحَقِّ أَلاَ لَهُ} وحده {الْحُكْمُ} بين عبيده؛ لا يشاركه في ذلك أحد من خلقه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} قيل: يحاسب الناس جميعاً في مقدار حلب شاة

63

{قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} مخاوفهما وأهوالهما، أو ظلمات البر: الصواعق. وظلمات البحر: الأمواج؛ وكلاهما يشتد في الغيم والليل {تَدْعُونَهُ} عند الوقوع في المهالك {تَضَرُّعاً} ابتهالاً وتذللاً؛ معلنين الضراعة {وَخُفْيَةً} قائلين {لَّئِنْ أَنجَانَا} ربنا {مِنْ هَذِهِ} المهالك والأهوال {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} له، -[160]- المؤمنين به

65

{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} يخلطكم فرقاً؛ على أهواء شتى متباينة {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} شدة بعض في القتال. لما نزل قوله تعالى {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} قال «أعوذ بوجهك» فلما نزل {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: «أعوذ بوجهك» فلما نزل {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال: «هذا أهون وأيسر». وقد ذهب بعض مفسري هذا العصر إلى أن قوله تعالى: {عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} هو ما يلقى من الطائرات، من قنابل ومهلكات، وقوله: {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} هو الديناميت الذي يدسه الأعداء في باطن الأرض؛ يدل على ذلك ما بعده: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} ولم يقل ويذيقكم بأسه. وهو قول ظاهر التكلف، بادي التعسف. والمعنى المراد من الآية: {عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} هو الصواعق - التي أهلك الله تعالى بها كثيراً من مكذبي الأمم قبلنا - وما تلقيه البراكين من الأحجار والحمم. وقوله: {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} هو الخسف والزلازل؛ أعاذنا الله تعالى من نقمته، بمنه ورحمته

67

{لِّكُلِّ نَبَإٍ} أنبأتكم به، وعذاب ذكرته لكم {مُّسْتَقِرٌّ} أي قرار يستقر عنده، ونهاية ينتهي إليها؛ فيعلم صدق النبإ من كذبه {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} صدق ما أنبأتكم به؛ حين ينزل بواديكم العذاب، وتندمون؛ ولات ساعة مندم

68

{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} يتكلمون فيها بما لا يليق؛ من النقد، أو الطعن، أو التكذيب {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} تركهم عند خوضهم، والإعراض عنهم {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} أي بعد التذكر

69

{وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} الخوض مع الخائضين {مِنْ حِسَابِهِم} من آثام الخائضين {مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى} أي ولكن قيامهم وعدم القعود معهم لتذكيرهم بالقيام عنهم، وإظهار الكراهة لهم {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الخوض في آيات الله

70

{وَذَرِ} اترك {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ} الذي دعوا إليه، وكلفوا باتباعه، وهو الإسلام {لَعِباً وَلَهْواً} سخرية واستهزاء {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} خدعتهم بزخرفها وبهرجها؛ فانقادوا إليها، وتمسكوا بها؛ وتركوا الآخرة وما يوصل إليها وراء ظهورهم {وَذَكِّرْ بِهِ} عظ بالقرآن، أو بالدين {أَن تُبْسَلَ} مخافة أن تبسل. والبسل: الحبس، والفضيحة، والهلاك. والبسل: أيضاً الإعجال والشدة. وأصل الإبسال: المنع {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} وإن تقدم كل فداء؛ والعدل: المثل {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ} حبسوا، أو فضحوا، أو أهلكوا {لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} ماء شديد الحرارة

71

{قُلْ أَنَدْعُواْ} أنعبد {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} نرجع كما كنا كفاراً {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} للإسلام وأنجانا من -[161]- عبادة الأصنام؛ ونكون {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ} أضلته {الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ} بإغوائهم وتزيينهم؛ وصيرته {حَيْرَانَ} لا يدري ما هو فاعل، وماذا تكون عاقبته؟ {لَهُ أَصْحَابٌ} رفقة خيرون؛ يتمنون نجاته من زلته وتخليصه من سقطته {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى} قائلين له {ائْتِنَا} أي ارجع عن غيك، وتعال في زمرتنا. فلا يجيبهم إلى ما يطلبونه، ولا يتبعهم إلى الهدى {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ} الإسلام، والتوفيق إليه {هُوَ الْهُدَى} وما عداه فهو ضلال ووبال

73

{وَيَوْمَ يَقُولُ} الله تعالى يوم القيامة لما يريد {كُنْ فَيَكُونُ} ما أراده من فناء الدنيا، وموت الخلائق؛ ثم إحيائهم ثانية، ثم محاسبتهم على ما عملوا، ثم إدخال أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار كل هذا يتم من غير جهد، ولا عناء؛ بل بقوله تعالى {كُنَّ} كما قال للسموات والأرض؛ كونا؛ فكانتا. ولآدم: كن؛ فكان. ولفظ {كُنَّ} هي في الواقع تقريب لأذهاننا؛ لنعلم أنه تعالى لا يعجزه مطلب، ولا يؤده شيء - مهما عظم - وفي الحقيقة أنه تعالى إذا أراد شيئاً: كان؛ بغير افتقار للفظ {كُنَّ} فتعالى القادر المقتدر {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ} القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام. وقيل: «الصور» جمع صورة؛ كبسر وبسرة

75

{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ} أي مثل ما أريناه كفر قومه، وأطلعناه على فساد عبادتهم للأصنام: نريه {مَلَكُوتَ} ملك، وسلطان. قيل: الملك: السلطان الظاهر، والملكوت: السلطان الباطن؛ فهو الملك التام؛ ظاهره وباطنه {السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وما حوتا من عجائب المخلوقات، وغرائب المصنوعات؛ ليستدل بذلك على وجودنا ووحدانيتنا {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} عياناً، كما أيقن بياناً

76

{فَلَمَّا جَنَّ} أظلم {عَلَيْهِ الْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً} قيل: هو الزهرة، أو المشتري، أو هو أي كوكب من كواكب السماء؛ وهي تبلغ ملايين الملايين؛ بل لا يحيط بها عد العادين، وإحصاء المحصين؛ فلما رأى هذا الكوكب {قَالَ هَذَا رَبِّي} لا يخفى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يؤمن بالكوكب وغيره إيماناً يقينياً؛ وما كان له أن يقر بالربوبية لغير الله - وقد اختاره للنبوة والرسالة والإمامة - وحاشا أن يتصف إبراهيم بمثل هذا وإنما قال ما قال، وفعل ما فعل: لفتاً لأنظار قومه إلى فساد ما يعبدونه، وتسفيهاً لأحلامهم {فَلَمَّآ أَفَلَ} غاب هذا الكوكب

77

{فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً} طالعاً، أو مبتدئاً في الطلوع

78

{فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً} طالعة. -[162]- {قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ} من كل الكواكب التي ظننتها رباً {فَلَمَّآ أَفَلَتْ} غابت وامحى ضوؤها؛ وأثبت إبراهيم لقومه بذلك أن الله المعبود: يجب أن يكون أكبر من كل شيء، وأنه يجب ألا يطرأ عليه التغير، ولا يجوز له الأفول حينذاك انتقل إبراهيم من الاستدلال إلى التقرير، ومن الاستقراء إلى التوثيق والتثبت؛ وواجه قومه بما يجب أن يواجههم به؛ قائماً بالدعوة المطلوبة منه والمرسل بها {قَالَ يقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} به الله تعالى في العبادة

79

{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} اتجهت بكليتي {لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} خلقهما؛ والفطر: الخلق من غير مثال سابق {حَنِيفاً} مائلا إلى الدين الحق؛ والحنيف: الصحيح الميل إلى الإسلام، الثابت عليه

80

{وَحَآجَّهُ} جادله {قَوْمِهِ} فيما قاله {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي} أتجادلونني {فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي} إلى معرفته {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} في عبادته {إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً} أي إلا أن يشاء الله تعالى أن يبتليني بشيء من المكروه؛ فلا اعتراض لي عليه؛ إذ أنني ملكه وصنع يده؛ يفعل بي ما يشاء، ويحكم فيّ بما يريد

81

{وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ} وهي لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع، ولا تعقل {وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ} وهو السميع البصير، اللطيف الخبير، المعطي المانع، النافع الضار {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} أي ما لم يقم عليه دليل عقلي أو نقلي {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ} والاطمئنان للمصير: نحن الذين عبدنا الإله الحق، القادر القاهر الرازق، المحيي المميت؛ ولم نخف آلهتكم وأصنامكم؛ أم أنتم وقد عبدتم ما صنعتم بأيديكم من جماد لا يقدر على حماية نفسه؛ ولم تخشوا ربنا الذي خلقنا وهدانا، ورزقنا وكفانا {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} نحن أم أنتم {أَحَقُّ بِالأَمْنِ} والطمأنينة؟

82

{الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ} يخلطوا {إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} بشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أو هو الظلم نفسه {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ} من العذاب في الدنيا، والأمن بالنجاة من النار في الآخرة

83

{وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ} التي احتج بها إبراهيم على قومه بوجود الله تعالى ووحدانيته؛ بأن وجهنا نظره للكائنات، فرأى ما يحدث لها من تغيرات؛ وعلم أن الإله لا يتبدل، وأن الخالق لا يتغير؛ وتوصل بطريق الاستدلال العقلي إلى معرفة الله تعالى: الموجود في سائر الوجود {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} وصلوات الله وسلامه على سيدنا ومولانا إبراهيم: رأس الملة الحنيفية، وإمام أهل الحق، وجد نبينا محمد {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} في العلم والحكمة، وسمو الروح، وعلو الهمة

84

{وَمِن ذُرِّيَّتِهِ} أي من ذرية نوح عليه السلام.

85

{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى} اللذين قتلهما اليهود عليهم اللعنة {وَإِلْيَاسَ} وهو غير {إِلْيَاسَ} جد النبي عليه الصلاة والسلام - بسكون الهمز - لأنه أول من ابتلى باليأس، وهو السل؛ سمي بذلك لليأس من شفائه

87

{وَاجْتَبَيْنَاهُمْ} اخترناهم واصطفيناهم {وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ} طريق

88

{ذلِكَ} الهدى الذي أضفيناه على هؤلاء الأنبياء {هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} المتقين {لَحَبِطَ} لبطل

89

{أُوْلَئِكَ} الأنبياء المذكورون: هم {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} أي الكتب التي أنزلت عليهم {وَالْحُكْمَ} العلم النافع، وحسن الفصل في الحكومة {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا} أي بالكتب، أو بالكتاب والحكم والنبوة {هَؤُلاءِ} الفسقة الظلمة الكفرة {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً} من المؤمنين الطائعين المنيبين

90

{أُوْلَئِكَ} الأنبياء الذين ذكرناهم: هم {الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} أي اقتد يا محمد بهم، واصبر كصبرهم، وتحمل أذى قومك كما تحملوا أذى أقوامهم؛ و {قُلْ} لقومك {لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} أي لا أسألكم على القرآن جعلاً {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} لسائر الجن والإنس

91

{وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ما عرفوه حق معرفته، وما عظموه حق عظمته، وما عبدوه حق عبادته {إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} كأنهم يريدون أن ينزل إليهم ربهم بنفسه، أو ينزل لهم بعض ملائكته؛ كسابقيهم في الكفر: الذين قالوا لرسولهم: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} وقالوا {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} {قُلْ} لهم: كيف تقولون ذلك وقد تحققتم من نزول الكتاب على بشر من قبلي؛ وإلا فقولوا لي {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} أوراقاً مفرقة؛ أي كسائر الأوراق، وهو ليس كسائرها -[164]- {تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} تبدون منها ما يروق لكم من الأحكام، وتخفون كثيراً مما يثقل عليكم؛ وهو خطاب لليهود {قُلِ اللَّهُ} جواب لقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى} {ثُمَّ ذَرْهُمْ} دعهم واتركهم {فِي خَوْضِهِمْ} باطلهم الذي يخوضون فيه

92

{وَهَذَا كِتَابٌ} القرآن {أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} كثير المنافع والفوائد {فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ما تقدمه من الكتب {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} مكة شرفها الله تعالى، وزادها فضلاً وسميت «أم القرى» لأن الناس يؤمونها، وهي قبلة أهل القرى، وأعظمها شأناً {وَمَنْ حَوْلَهَا} كل الدنيا ومن فيها من العقلاء؛ وذلك لأن ما حول مكة: هي الجهات الأربع التي يتكون منها كل الأرض ومن عليها {وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} المحافظة على الصلاة: ملازمتها في أوقاتها

93

{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} الكافرون {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} أهواله وسكراته {وَالْمَلائِكَةُ} الموكلون بقبض أرواحهم {بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} بالتعذيب؛ ويقولون لهم {أَخْرِجُواْ أَنْفُسَكُمُ} أرواحكم، أي خلصوها من عذابنا إن أمكنكم، أو هو كناية عن صعوبة خروج أرواح الكافرين؛ وقد ورد أن أرواح الكافرين تنزع انتزاعاً شديداً، وتسل من جسومهم، كما يسل الحرير من الشوك؛ أما روح المؤمن فتنشط للخروج فرحاً بلقاء ربها أو يقال لهم هذا القول يوم القيامة: {أَخْرِجُواْ أَنْفُسَكُمُ} من النار إن استطعتم؛ يدل عليه ما بعده {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} الهوان

94

{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} منفردين بلا مال ولا معين {وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ} ملكناكم في الدنيا: من الأموال والنعم. -[165]- {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ} آلهتكم؛ وقد كنتم تقولون عنها: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ} أي في استحقاق عبادتكم {شُرَكَآءَ} لله {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} أي تشتت جمعكم {وَضَلَّ} غاب {عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} في الدنيا من شفاعتها لكم

95

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ} عن النبات {وَالنَّوَى} عن النخل {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} أي النبات الغض من الحب اليابس {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} الحب اليابس من النبات، أو الإنسان من النطفة، والنطفة من الإنسان، أو المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فكيف تصرفون

96

{فَالِقُ الإِصْبَاحِ} خالق نور النهار {وَجَعَلَ الْلَّيْلَ سَكَناً} تسكن فيه سائر المخلوقات، وتهدأ مما أصابها من تعب النهار ووصبه جعل {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً} أي جعلهما تعالى - فضلاً عن كونهما للإنارة والنفع العام - فهما لمعرفة الحساب الزمني؛ قال تعالى: {وَجَعَلْنَا الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الْلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً}

98

{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} هي آدم عليه السلام {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} المستقر: رحم المرأة. والمستودع: صلب الرجل. أو المستقر: من خلق من الخلائق؛ فاستقر في الأرض، والمستودع: من لم يخلق بعد. وزعم بعضهم أن المستقر: الرحم. والمستودع: القبر. وهو ليس بشيء؛ إذ أن المقام مقام إنشاء: «إن الله فالق الحب والنوى. فالق الإصباح وهو الذي أنشأكم.

99

وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء. ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه» {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً} أي أخضر {نُّخْرِجُ مِنْهُ} أي من الخضر {حَبّاً مُّتَرَاكِباً} متراكماً؛ بعضه فوق بعض؛ وهو السنبل وما يشبهه {قِنْوَانٌ} جمع قنو؛ وهو العذق؛ وهو من التمر: كالعنقود من العنب {دَانِيَةٌ} سهلة الجنى والمنال {وَجَنَّاتٍ} حدائق {مِّنْ أَعْنَابٍ} (انظر آية 266 من سورة البقرة) {مُشْتَبِهاً} في الشجر واللون {وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} في الطعم؛ فمنه الحلو والمز والحامض، وجميع ذلك {يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ} فجلَّ الصانع المبدع -[166]- {انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ} كيف يكون فجاً؛ لا طعم فيه، ولا لون له، ولا رائحة انظروا بعد ذلك إلى نضجه؛ بعد أن تتحول مرارة الثمرة إلى حلاوة، ويابسها إلى طراوة، وخضرتها إلى احمرار أو اصفرار؛ حتى تلذ في الطعم، وتلين في القضم، وتسهل في الهضم؛ وهذا كله {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}

100

{وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ} أي وجعلوا الجن شركاءلله في العبادة؛ وقد يراد بالجن: الشياطين. وذلك باتباعهم فيما يوحون به إليهم، ويوسوسون {وَخَلَقَهُمْ} أي وقد خلقهم {وَخَرَقُواْ لَهُ} أي اختلقوا {بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} منهم بحقيقة ما يقولون. واختلاقهم البنين والبنات: قولهم: الملائكة بناتالله. وقول النصارى: عيسى ابن الله، وقول اليهود: عزير ابن الله {سُبْحَانَهُ} تنزه وتقدس {وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء)} مبدعهما

101

{إِنِّي} كيف {يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ} زوجة

102

{ذلِكُمْ} الموصوف بهذه الصفات {اللَّهُ رَبُّكُمُ} الذي خلقكم

103

{لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} أي لا تراه الأبصار، ولا تحيط به {وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} أي يرى أصحاب الأبصار، ويحيط بسائر المرئيات {وَهُوَ اللَّطِيفُ} بعباده {الْخَبِيرُ} بدقائق الأمور

104

{قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ} جمع بصيرة؛ وهي نور القلب. أي جاءكم من الوحي والآيات؛ ما هو للقلوب بمنزلة البصائر {فَمَنْ أَبْصَرَ} آمن وانقى {فَلِنَفْسِهِ} لأن ثواب إيمانه وتقواه عائد إليها {وَمَنْ عَمِيَ} كفر {فَعَلَيْهَا} لأن إثم كفره عائد عليها أيضاً

105

{وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} أي قرأت الكتب السابقة ونقلت عنها ما تتلوه علينا اليوم. يقولون هذا وهم يعلمون أنه عليه الصلاة والسَّلام أمي لا يقرأ ولا يكتب {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً}

107

{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ} أي لو أراد تعالى أن يلزمهم بالإيمان ويجبرهم على الطاعة لفعل؛ ولكنه تعالى أراد أن يجعلهم أحراراً مستقلين في اختيار ما يشاءون حتى يكونوا مسؤولين عن عملهم، مؤاخذين على جرمهم

108

{وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ} يعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً} اعتداءً {بِغَيْرِ عِلْمٍ} منهم بما يجبلله تعالى {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ} من أمم الكفار {عَمَلَهُمْ} أي زيناه في زعمهم؛ حيث قالوا: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} وهو كقوله: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ}

109

{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} غاية اجتهادهم في الأيمان {لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ} معجزة {لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ} لا ينزلها بإرادتكم أو إرادتي؛ بل ينزلها متى شاء، وحيث شاء {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فقد أنزل الله تعالى على الأمم الآيات تلو الآيات، والمعجزات تلو المعجزات؛ فلم يؤمنوا بها؛ بل ازدادوا كفراً وعناداً؛ وقالوا: هذا سحر مبين

110

{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} قلوبهم؛ فلا يؤمنوا كما آمن الناس {وَأَبْصَارِهِمْ} فلا يروا الحقائق التي يراها المؤمنون؛ وذلك عقوبة لهم {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} حين ظهرت آياته البينات، وحججه الظاهرات (انظر آية 200 من سورة الشعراء) {وَنَذَرُهُمْ} ندعهم {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يترددون متحيرين

111

{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} كما قالوا: {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ} {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} كما قالوا {فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا} {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} جمع قبيل؛ أي أفواجاً. كما قالوا {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} أي إنا لو أجبناهم لما سألوا، وحققنا لهم كل ما اقترحوا {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} إيمانهم؛ فليلجأوا إلى ساحته، وليهرعوا إلى طاعته

112

{وَكَذلِكَ} كما أن لك أعداء من المشركين {جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ} ممن سبقك {عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} يزين بعضهم إلى بعض: فتزين شياطين الجن لشياطين الإنس، وتزين شياطين الإنس للإنس بما يوحون به من شرور وفجور وقد قدم تعالى شياطين الإنس على شياطين الجن؛ لأنهم على الشر أقدر؛ وعلى ما يورد الجحيم أطوع؛ وشيطان الجن - مهما علت مرتبته؛ وسمت مكانته؛ في الشر والتزيين والتغرير - فإنك بالاستعاذة منه تمحقه، وبتلاوة القرآن تهلكه أما شيطان الإنس فإنك لو قرأت عليه ما بين دفتي المصحف؛ لما تخلصت منه، ولا ابتعدت عنه إلا إن أعاذك منه اللطيف الخبير، وأنجاك من كيده وشروره وقد قال: «قرناء السوء شر من شياطين الجن» {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} ما زينوه من قولهم ووسوستهم في الشر، وإغرائهم على المعاصي {غُرُوراً} خداعاً وباطلاً {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي لو شاء الله لمنعهم من الإيحاء والوسوسة؛ ولكن الله تركهم امتحاناً لعباده؛ ليعلم أصحاب الإيمان الراسخ؛ المقيمين على العهد، الحافظين للود {فَذَرْهُمْ} دعهم واتركهم

113

{وَلِتَصْغَى} تميل وتتجه {إِلَيْهِ} إلى ما توحى به شياطين الإنس والجن {أَفْئِدَةُ} قلوب {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أما من آمن بها؛ فإنه لا يصغي قلبه، ولا يلتفت إلى ما توحي به الشياطين، ولا يرضاه، ولا يقترف ما يغضب مولاه {وَلِيَرْضَوْهُ} يرضوا بما أوحت به الشياطين {وَلِيَقْتَرِفُواْ} ليكتسبوا. والاقتراف: ارتكاب الإثم

114

{وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ} القرآن {مُفَصَّلاً} مبيناً محكماً {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} هم من آمن من اليهود والنصارى {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ} أي القرآن {مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} وذلك لما لمسوه فيه من الصدق، ولما علموه عنه من كتبهم السابقة «التوراة والإنجيل» {فَلاَ تَكُونَنَّ} أيها السامع {مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الشاكين

115

{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} القرآن {صِدْقاً وَعَدْلاً} كل ما فيه من قصص وأخبار: مشتمل على الصدق، وكل ما فيه من أوامر ونواه، وقضاء وأحكام: مشتمل على العدل {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي لا أصدق مما جاء فيه فيتبع؛ ولا أعدل من أوامره فيطاع؛ بل كل ما فيه واجب الطاعة والاتباع عقلاً؛ فلا يصح تركه إلى أصدق منه، ولا يجوز تبديله بما هو أعدل منه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} وهو جل شأنه أصدق الصادقين وأعدل العادلين {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم {الْعَلِيمُ} بأحوالكم

116

{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} أي يضلوك عن الطريق المستقيم؛ الموصل إليه تعالى. وهذه الآية دليل على ما نراه من ضلال الغالبية العظمى وإضلالها وقد ورد ذلك الخطاب موجهاً إلى الأمة الإسلامية؛ في شخص إمامها ورسولها صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ وقد علم تعالى أنه لن يطيع أحداً من الضالين المضلين، وأنه لا سبيل لأحد منهم عليه - وقد وقاه الله تعالى كيد الكائدين، ووسوسة الشياطين، وإضلال المضلين - {إِن يَتَّبِعُونَ} أي ما يتبع هؤلاء المضلون {إِلاَّ الظَّنَّ} وهو ظنهم بأن آباءهم كانوا على حق، وهم على آثارهم مقتدون {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يكذبون. والخرص: الكذب، والتخمين

119

{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ} بيَّن {لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وهو قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الآية {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} من ذلك المحرم؛ فهو حلال أيضاً عند المجاعة المتلفة؛ بشرط عدم البغي والاعتداء {وَإِنَّ كَثِيراً} من المضلين {لَّيُضِلُّونَ} الناس عن الحق، وعن كل ما هو حلال مباح {بِأَهْوَائِهِم} و {بِغَيْرِ عِلْمٍ} منهم بصحة ما يقولون؛ بل يضلون بسبب هواهم وميلهم؛ بغير استناد منهم إلى علم صحيح: كمن يحل بعض الشراب المحرم لميله إليه، ويحل الحشيش لتعوده عليه، أو كمن يفتي بغير علم ولا سند من كتاب أو سنة

120

{وَذَرُواْ} اتركوا {ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} علانيته: كالقتل والسب، وسره: كالزنا والغيبة {سَيُجْزَوْنَ} في الآخرة {بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} يكتسبون من الإثم

121

{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} الفسق: العصيان والترك لأمر الله تعالى {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ} يوسوسون {إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ} من المشركين {لِيُجَادِلُوكُمْ} فيما أحله الله تعالى وحرمه وذلك بقولهم - في حل الميتة - كيف تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتلهالله؟

122

{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} أي كافراً فهديناه للإيمان؛ الذي هو حياة القلوب والنفوس {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً} هو نور الإيمان واليقين؛ يهدي به الله تعالى أولياءه الصالحين أو هو نور العلم والمعرفة {يَمْشِي بِهِ} أي بهذا النور {فِي النَّاسِ} يهديهم بهديه، ويرشدهم إلى ما ينجيهم في دنياهم وأخراهم {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} ظلمات الكفر والجهل والخطيئة. (انظر آية 17 من سورة البقرة) {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} أي من هذه الظلمات. وكيف يخرج منها وهو لم يحاول الخروج، ولم يسع إليه، ولم يفكر فيه؟ {كَذلِكَ} كما زين للمؤمنين إيمانهم {زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وقد زين الله تعالى للمؤمنين أعمالهم، وللكافرين أعمالهم؛ بعد عرض الإيمان عليهم جميعاً: فآمن المؤمنون، وكفر الكافرون يؤيد هذا المعنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} فترى أن التزيين قد حصل بعد عدم الإيمان

123

{وَكَذلِكَ} كما جعلنا في مكة صناديد قريش يمكرون فيها {جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا} أي جعلنا أكابرها مجرمين {لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} بالصد عن الإيمان، وإفشاء الفجور والفساد، والابتعاد عن طرق السداد والرشاد {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ} لأن وبال مكرهم عائد عليهم

124

{وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ} دالة على صدق الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ} لك {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} أرادوا لعنهم الله أن يكونوا مثل أنبياء الله تعالى ورسله؛ فيمدهم بالآيات، ويخصهم بالمعجزات ونظيره قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} وذلك لمزيد كفرهم، وبالغ كبرهم، وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فيختار لها الأبرار الأطهار، لا الكفار الفجار؛ ويعد لحمل شريعته، صفوة خليقته فكلهم - عليهم الصلاة والسلام - من خيرة الأنام فكيف يختار معهم بعض الكفرة اللئام؛ الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وعبدوا من دونه الطواغيت، واختاروا العصيان على الإيمان، وعصوا الرحمن وأطاعوا الشيطان فهيهات هيهات لما يقولون {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ} ذل وهوان.

125

{وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} أي يزيده على ضلاله الذي اختاره لنفسه وارتضاه {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} الحرج: شدة الضيق والانقباض {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ} أي يتصعد فيها؛ وهو كناية عن بعد منال الإيمان، وعن تكلفه ما لا يطيقه، أو هو كناية عن الضيق الذي يأخذ بتلابيبه من كل جانب {كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ} العقاب والغضب {عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} بالله، ولا يصدقون برسله

126

{وَهَذَا} الإيمان {صِرَاطُ رَبِّكَ} طريقه: الذي رسمه لعباده، وارتضاه لهم؛ فمن حاد عنه: حاد بإرادته واختياره، ومن سلكه: فقد سلكه بإرادته وتوفيق ربه له

127

{لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ} الجنة: دار الأمن والسعادة والسلامة

128

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ} المراد بهم الشياطين {قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإِنْسِ} أي أضللتم كثيراً منهم بإغوائهم {وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم} الذين أطاعوهم {مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} في الدنيا: استمتع الجن بطاعة الإنس وانقيادهم لهم، واستمتع الإنس بالشهوات التي زينتها لهم الشياطين {وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} القيامة التي جعلتها موعداً لنا، أو الموت الذي جعلته نهاية لحياتنا واستمتاعنا

129

{وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} أي نجعلهم أولياء بعض؛ عقوبة لهم على ظلمهم، أو نسلط بعضهم على بعض فيهلكه {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يفعلون من المعاصي

130

{وَغَرَّتْهُمُ} خدعتهم

131

{ذلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} منه لها؛ فتعالى الله عن الظلم وإنما هم ظلموا أنفسهم باتباع الهوى والشيطان، وانشغالهم بالحياة الدنيا وزخرفها، عن الآخرة ونعيمها {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} بدون رسول أو نذير

132

{وَلِكُلِّ} من الجن والإنس {دَرَجَاتٌ} في الجنة، أو دركات في النار {مِّمَّا عَمِلُواْ} من خير أو شر (انظر آية 31 من سورة الأحقاف)

133

{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ} يعطي من يشاء إعطاءه، ويرزق من يشاء رزقه بغير حساب؛ ورزقه تعالى ما له من نفاد وهو جل شأنه {ذُو الرَّحْمَةِ} الواسعة قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} جعلنا الله تعالى ممن وسعته رحمته، وتناولته مغفرته، وشملته عنايته ورعايته {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} بالإهلاك أو بالموت {وَيَسْتَخْلِفُ} يخلق من يخلفكم على هذه الأرض؛ خلفاً آخر أطوع منكم

134

{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ} به؛ من العذاب والقيامة {لآتٍ} لا محالة {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بفائتين عذابنا إذا أنزلناه

135

{قُلْ يقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي اعملوا على تمكنكم من أمركم، وأقصى استطاعتكم في الكفر {إِنَّي عَامِلٌ} ما في استطاعتي من طاعة لربي، وإيمان به {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} غداً يوم القيامة؛ عند نزول نقمة الله {مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} أي العاقبة المحمودة في الآخرة

136

{وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ} أي مما خلق. ذرأ الله الخلق: خلقهم. وذرأ الشيء: كثره {مِنَ الْحَرْثِ} الزرع {وَالأَنْعَامُ} الإبل والشاء؛ وتطلق على الإبل خاصة {نَصِيباً} قسماً وجزءاً {فَقَالُواْ هَذَآ} النصيب {للَّهِ بِزَعْمِهِمْ} وجعلوا منها أيضاً نصيباً، وقالوا: {وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا} يعنون الأصنام {فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ} قيل: كان إذا اختلط ما جعلوه لله بما جعلوه لشركائهم: تركوه، وإذا اختلط ما جعلوه لشركائهم بما جعلوهلله: أخذوه. وقد يكون المعنى: أن الله تعالى لا يقبل منهم شيئاً؛ فما جعلوه له فهو مردود عليهم، وغير مقبول منهم، وواصل إلى شركائهم؛ فلينتظروا ثوابه منهم لا من الله

137

{وَكَذلِكَ} كما زين لهؤلاء المشركين أن جعلو الله نصيباً ولأصنامهم نصيباً {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ} بالوأد: زين لهم ذلك {شُرَكَآؤُهُمْ} من الشياطين؛ وسماهم تعالى شركاء: لأنهم يتبعونهم ويستمعون إليهم؛ كطاعتهم واستماعهملله؛ فهم بذلك - في نظرهم - شركاءلله في العبادة؛ أو المراد بالشركاء: أصدقاء السوء؛ الذين يزينون الكفر والمعاصي؛ فمنهم من يزين الوأد خشية الفقر، ومنهم من يزينه خشية فضيحة الزنا وهوان السبي زينوا ذلك لهم -[172]- {لِيُرْدُوهُمْ} ليهلكوهم بهذا الجرم والإثم {وَلِيَلْبِسُواْ} ليخلطوا {عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} فلا يعرفون ما أحله الله تعالى مما حرمه {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} ولكنه تعالى تركهم وشأنهم: خلق لهم عقولاً يفكرون بها، وبعث لهم رسلاً يهدونهم إلى ما ينفعهم، وأنزل عليهم كتباً يستضيئون بنورها، ويسيرون على هديها، وأبان لهم فيها ما يضرهم وما ينفعهم {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ} {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} {فَذَرْهُمْ} دعهم يا محمد واتركهم {وَمَا يَفْتَرُونَ} وما يختلقون من باطلهم من جملة افترائهم وكفرهم أن {الأَنْعَامِ} على الأنعام والحرث التي وهبها الله تعالى لهم، وأحلها لمن شاء من عباده

138

{هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} حرام {لاَّ يَطْعَمُهَآ} لا يأكلها {إِلاَّ مَن نَّشَآءُ} من خدمة الأوثان؛ وسدنة الأصنام {بِزَعْمِهِمْ} بباطلهم وكذبهم. والزعم: القول الحق، أو الباطل والكذب. وأكثر ما يستعمل في الباطل وفيما يشك فيه {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} أي حرم ركوبها؛ كالسائبة والبحيرة والحامي {سَيَجْزِيهِم} ربهم {بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} عليه من أحكام لم ينزلها، وشرائع لم يشرعها

139

{وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ} من الأجنة والألبان {خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} قيل: هي البحائر والسوائب؛ كانوا يخصون الذكران وحدهم بشرب ألبانها وأكل أولادها {وَإِن يَكُنْ} الجنين {مَّيْتَةً فَهُمْ} نساءً ورجالاً {فِيهِ شُرَكَآءُ} يأكلونه جميعاً {سَيَجْزِيهِم} ربهم {وَصْفَهُمْ} أي سيجزيهم عقوبة كذبهم وافترائهم {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم} خلق لكم وأبدع {جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ} حدائق ذات أفنان وظلال {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ} أي ثمره الذي يؤكل؛ يختلف في الطعم؛ فهذا حلو، وهذا حامض، وهذا من {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً} في الخلقة والشكل والأغصان والأوراق {وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} في الطعم {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ} أي زكاته {يَوْمَ حَصَادِهِ} بدون تأخير؛ فقد وجب حق الفقير بالحصاد. وقيل: المراد بحقه: التصدق من الحب والثمار على الفقراء؛ وهو حق ثابت: مأمور به، مثاب عليه، معاقب على تركه وهل يجوز لك - أيها المؤمن الكريم - أن تنعم وعيالك برزقالله؛ دون أن تؤتي منه عيال الله؟ وهل يجوز لك - أيها المؤمن الرحيم - أن تبيت مطمئن النفس، ممتلىء البطن؛ والفقير بجوارك طاوي الكشح، متطلع إليك، حانق عليك؟ وقد تغالى بعض الصوفية؛ فقال: إن لكل نعمة حقاً، وأن مرتب الموظف يستحق حقه يوم قبضه؛ الذي هو «يوم حصاده». -[173]- {وَلاَ تُسْرِفُواْ} في حبس الزكاة عن أربابها، والحقوق عن أصحابها؛ إذ أن هذا هو منتهى الإسراف في البخل أو أريد بالإسراف: الخطأ في العطية؛ بأن يعطي من لا يستحق. وزعم قوم من المفسرين - أثابهم الله تعالى - أن الإسراف: مجاوزة القدر في الإعطاء؛ حتى يجحف صاحب المال بنفسه. وهو قول غير مستساغ؛ إذ أنه لا سرف في الخير وقد فاتهم أن الله تعالى أعقب ذلك بقوله {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وما من أحد يؤمن ب الله واليوم الآخر يستطيع أن يقول: إن الباذل ماله في سبيل مرضاتالله؛ مستوجب لغضبالله، والحرمان من محبته؛ وهو جل شأنه القائل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}. يقول الله تعالى:

141

{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} أي هو الذي أنشأ كل هذا بقدرته وعظمته؛ لا أنتم بحرثكم الأرض، ووضعكم البذر؛ ولو شاء لما أنشأها، ولجعلها قاحلة مجدبة؛ فالفضل له وحده لا لكم وهو جل شأنه مالكها ومالككم فما لكم إذا قيل لكم: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ} أكلتم. وإذا قيل لكم: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} تغاضيتم وأعرضتم؟ فلا تبكوا إذا انتزعها منكم واستخلف عليها قوماً غيركم؛ يطيعون أمره، ويجتنبون نهيه ولا تقولوا عند حضور آجالكم {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} ولو أخركم لعدتم لما نهيتم عنه، ولبخلتم بالخيرات، وأسرفتم في الملذات {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. فانظر - يا رعاك الله - كيف عبر تعالى بقوله: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وتأمل واعلم أن للمال حقاً في أعناقنا؛ يأمرنا الله تعالى بأدائه لأربابه وانظر لمبلغ هذا النظام، الذي وضعه خالق الأنام؛ ومدى إنصافه وحسنه، والفائدة التي تعود على المعطى قبل العاطي، وعلى المنفق قبل المنفق عليه: نتملك الأرض فتنبت لنا من خيراتها، بغير حول لنا ولا قوة؛ بل بقدرته تعالى وإرادته ويأمرنا الرزاق الوهاب لسائر هذه النعم أن نعطي الفقير حقه فيها - ولو شاء لجعله المالك لها، ونحن الفقراء إلى قليل العطاء - فنأبى إلا أن نشح ونبخل؛ فنورد أنفسنا النيران، ويحل بوادينا الخسران فانظر بربك أيها المنصف لو أن الخلائق عملت بإرشاد الخالق -[174]- وأخرجت ما في ذمتها من الصدقات والزكاة؛ لما بقي على ظهرها إنسان يشتكي الفقر والحرمان؛ ولحل الوئام مكان الخصام، والوفاق مكان الشقاق وإذا نظرت - بعين التدبر - إلى معظم الجرائم لوجدت أن السبب الأول؛ بل السبب الأوحد فيها هو المال والمال وحده: يتمتع الغني بسائر ضروب التمتع، ويكسر قلب الفقير بما يظهره من نفيس الملبس، ولذيذ المطعم، وفاره المركب فيدفعه الفقر، والحقد، والجوع إلى ارتكاب السرقة، والنهب، والسلب، والقتل ويعلم الله تعالى وحده أن تبعة هذه الآثام لا تقع على الجاني؛ بل على المجنى عليه فليبادر من يتقي الله ويخشاه، ويحذر عقاب آخرته وشقاء دنياه؛ وليخرج ما في عنقه من زكاة ماله، وصدقات أوجبها عليه ربه؛ عن طيب خاطر وصفاء نية؛ ففي هذا النعيم الأكبر، والخير الأوفر

142

{وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً} أي تتخذونها لحمل الأثقال أي تتخذون من أصوافها وأوبارها ما تفترشونه. وقيل: الحمولة: الأنعام الكبيرة التي يحمل عليها. والفرش: الصغار التي لم يحمل عليها بعد. وقيل: الحمولة: ما حمل عليه من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير وغير ذلك. والفرش: الغنم والمعز

143

{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} هو بيان للحمولة والفرش؛ أي ومن الأنعام أنشأ تعالى لكم ثمانية أزواج {مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} زوجين اثنين؛ يريد الذكر والأنثى؛ فذلك أربعة أزواج؛ لأن كل واحد من الاثنين زوج للآخر؛ والواحد إذا كان وحده فهو فرد، وإذا كان معه غيره من جنسه: سمي كل واحد منهما زوجاً، وهما معاً زوجان؛ يدل على ذلك قوله تعالى: {خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} {قُلْ} يا محمد لهؤلاء الذين حرموا ما حرموا - من الحرث والأنعام - اتباعاً للشيطان {ءَآلذَّكَرَيْنِ} من الضأن والمعز {حَرَّمَ} ربكم {أَمِ الأُنثَيَيْنِ} منهما {مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} وذلك لأنهم - لعنهم الله تعالى - كانوا يحرمون الذكران تارة، والإناث تارة، وما اشتملت عليه أرحامهما تارة أخرى؛ وكذلك كان شأنهم بالنسبة للإبل والبقر

144

{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ} حضوراً مشاهدين {إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} التحريم الذي تزعمونه

145

{قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} أي على آكل يأكله {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} قذر ونجس. والرجس: كل عمل يؤدي إلى العذاب والعقاب {أَوْ فِسْقاً} الفسق: الفجور، والخروج عن الطاعة {أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} -[175]- أي ذكر اسم غير الله تعالى عليه؛ وسمي «فسقاً» لأنه خروج عن طاعة الله تعالى، وإعلاء لاسم غير اسمه، في موضع يجب ذكر اسمه تعالى فيه؛ وقد كانوا في الجاهلية يذبحون على النصب، ويذكرون اسم آلهتهم. ويقاس عليه ما يفعله الآن جهلة العوام من تسمية الأولياء عند الذبح؛ خاصة في الموالد التي يقيمونها {فَمَنِ اضْطُرَّ} إلى أكل شيء من هذه المحرمات؛ كأن أوشك على الهلاك جوعاً، ولم يجد ما يتبلغ به سوى ميتة، أو لحم خنزير، أو دماً، أو ذبيحة أُهل لغير الله بها؛ فله أن يتناول منها القدر الذي يسد رمقه فحسب؛ ولا يزيد فيبلغ بما يأكل حد الشبع؛ وبشرط أن يكون {غَيْرَ بَاغٍ} على أحد من جماعة المسلمين: كأن يكون قاطعاً للطريق، أو مبتغياً لإثم؛ وأوشك من جوعه على التلف؛ فإنه ليس له أن يتمتع برخصة الله تعالى؛ إلا أن يتوب وينيب؛ كما أنه ليس له أن يأخذ برخصة الإفطار في رمضان وقصر الصلاة؛ في حالة السفر {وَلاَ عَادٍ} معتد على آخر؛ بأن يختطف قوته من هذا المأكول الحرام المحلل. أو هو {غَيْرَ بَاغٍ} متلذذ بما يأكل؛ بغير ضرورة ملحة {وَلاَ عَادٍ} متجاوز حاجته التي تدفع عنه الموت

146

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ} اليهود {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} وهو كل ما لم يكن منفرج الأصابع من البهائم والطير: كالإبل، والأوز والبط، وأشباهها {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ} ظاهر الآية يدل على أن التحريم تناول سائر شحومهما {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} من الشحم {أَوِ الْحَوَايَآ} الأمعاء؛ أي ما حملته الأمعاء من الشحم {أَوْ مَا اخْتَلَطَ} من الشحم {بِعَظْمٍ} فجميع ذلك مباح. وقيل: إنما حرم الله تعالى الثروب خاصة؛ وهي الشحم الرقيق يكون على الكرش والأمعاء {ذلِكَ} التحريم {جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ} أي بسبب بغيهم وكفرهم

147

{فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} لا حد لها، تسع كل شيء {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ} عذابه؛ رغم رحمته الواسعة {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} فإن من تمام رحمته تعالى الانتصاف من المجرمين، والانتقام من الظالمين للمظلومين

148

{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ} أشرك فهو راض عن هذا الشرك؛ ولو لم يرضه {مَآ أَشْرَكْنَا} وهي حجة الكافرين والمعاندين في سائر العصور: {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا} {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} {لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} يحاجون بذلك ربهم؛ وحجته تعالى قائمة عليهم؛ وله تعالى الحجة البالغة: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} {كَذلِكَ} أي مثل ذلك التكذيب {كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} وقالوا مثل قولهم {حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} عذابنا {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ} بأن الله تعالى راضٍ عن -[176]- شرككم وشرك آبائكم؟ {وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} تكذبون

149

{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} على الناس جميعاً؛ حيث لا حجة لأحد عليه؛ وحجته تعالى تقطع كل المعاذير، وتزيل سائر الشكوك: ألم يرسل لعباده الرسل، وينزل عليهم الكتب؛ ويسلكها في قلوب الكافرين لعلهم يؤمنون؟ فأي عذر بعد ذلك للجاحد المعاند؟ ألم يبذل له خالقه كل السبل الموصلة إلى معرفته فأعرض عنها واتبع هواه؟ ألم يقم له الدليل تلو الدليل على قدرته ووحدانيته فأبى إلا ضلالاً وخبالاً؟ وهل بعد هذا تقوم له حجة بقوله {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} وهي كلمة حق أريد بها باطل؛ لقد قال العظيم الكريم {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} فكيف يريد ما لا يرضى؟ بل كيف يعذب على ما أراد؟ فيا أيها الكافر الفاجر؛ المشرك بربه، المجترىء على خالقه: لقد هداك ربك إلى معرفته فأنكرت، ودعاك إلى رحمته فأعرضت، وسلك الإيمان في قلبك فأبيت وبعد ذلك تريد أن تتستر وراء منطق الجهال، وقول الضلال: {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} ونسيت قول الحكيم العليم: {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} ( انظر آيتي 200 من سورة الشعراء، و28 من سورة التكوير)

150

{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ} أي هاتوا شهداءكم {فَإِن شَهِدُواْ} أي فإن شهد شهداؤهم زوراً بأن الله تعالى حرم ما حرموه من حرثهم وأنعامهم {فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أي فلا تجالسهم ولا تخاطبهم {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} لأنهم تركوا الحق الذي أنزل إليك، واتبعوا أهواءهم {وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي يجعلون له عدلاً. والعدل: المثل

151

{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ} من فقر {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وخوف الإملاق: كفر بالخلاق فقد خلق الله تعالى الخلق وتكفل بأرزاقهم - ولو كانوا في مهمه قفر - ألا ترى أنه تعالى يرزق الحشرة داخل الصخر الأصم؟ {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ} الكبائر {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} كالقتل، والسب {وَمَا بَطَنَ} كالزنا والغيبة. وقيل: أريد به سر الزنا وعلانيته {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} الذي يوجب قتلها؛ كقتل القاتل، أو القتل دفاعاً عن النفس، وأمثال ذلك

152

{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وهي أن تستثمروه له، وأن تؤدوا زكاته {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} بلوغ الأشد: هو قوة البدن، وزيادة المعرفة بالتجربة؛ وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين. وهو أيضاً بلوغ الحلم {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} بالعدل {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أي لا نكلفها إلا طاقتها - في إيفاء الكيل والوزن - وقد جاء ذلك الضابط خشية التحرج والتأثم؛ فيضطر البائع إلى زيادة المكيل والموزون، ويضطر المشتري بدوره إلى أخذ ما يقل عن استحقاقه -[177]- فيهما؛ وبذلك تضيق صدورهما؛ لذلك أمر الله تعالى بالوفاء في الكيل والميزان في حدود الطاقة البشرية؛ بغير ما ظلم ولا غبن {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ} أي إذا حكمتم بين الناس، أو أديتم شهادة؛ فاحكموا بينهم وأدوا الشهادة بالعدل {وَلَوْ كَانَ} المحكوم عليه أو المشهود ضده {ذَا قُرْبَى} وذلك عهد الله تعالى عهد به إليكم {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ} لتؤجروا، وتذوقوا حلاوة الطاعة وعزها، وتتجنبوا مرارة المعصية وذلها (انظر آية 14 من سورة لقمان)

153

{وَأَنَّ هَذَا} الذي أمرتكم به، وعاهدتكم عليه؛ من عدم الإشراك بي، وبالإحسان إلى الوالدين، وبالنهي عن قتل الأولاد خشية الفقر، وعن قربان الفواحش {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وعن قتل النفس {إِلاَّ بِالْحَقِّ} وعن قربان مال اليتيم {إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وبالوفاء بالكيل والميزان، وبالعدل في الحكم والشهادة؛ فجميع ذلك {صِرَاطِي} أي طريقي {مُّسْتَقِيماً} واضحاً، موصلاً إلى خيري الدنيا والآخرة {فَاتَّبَعُوهُ} لتؤجروا {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ} الطرق المختلفة، والأهواء المتباينة، والديانات المتعددة {فَتَفَرَّقَ} فتتفرق وتميل {بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} عن طريقه تعالى الذي وصفه بالاستقامة، وبالتالي يكون غيره مائلاً عن الحق معوجاً قال تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً}

154

{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي تماماً للنعمة على الذي أحسن الطاعة، وتجنب المعصية {وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} يحتاجون إليه

155

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} هو القرآن: كبير النفع، كثير الخير، عظيم البركة

156

{أَن تَقُولُواْ} أي لئلا تقولوا إذا لم ننزل عليكم القرآن {إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} هما اليهود والنصارى؛ وقد نزل عليهما أشهر كتابين - بعد القرآن - نزلا من عندالله: التوراة والإنجيل {وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ} أي عن دراسة هذه الأمم لكتابيها {لَغَافِلِينَ} لأنهما لم ينزلا بلساننا، ولا بلغتنا، ولم نؤمر باتباعهما. فأنزل الله القرآن قطعاً لهذه الحجة؛ ومنها يعلم أن الله تعالى لا يؤاخذ من لم يصلهم كتاب، ولم ينذرهم رسول؛ قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}

157

{أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ} الذي أنزل عليهم {لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ} أي لكنا أشد استقامة، واتباعاً لما في الكتاب، وأطوعلله من الطائفتين اللتين أنزل عليهما الكتاب من قبلنا؛ قال تعالى رداً على هذه الحجة المفترضة {فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} كتاب عربي بلسانكم، مبين لما تحتاجون إليه {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} لمن عمل به واتبعه {فَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ} بعد إذ جاءته {وَصَدَفَ} أعرض وصد {عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ -[178]- آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ} أسوأه

158

{هَلْ يَنظُرُونَ} ما ينتظرون {إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلائِكَةُ} أي ملائكة الموت لقبض أرواحهم {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} يوم القيامة للحساب والجزاء {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} علامات الساعة؛ كطلوع الشمس من مغربها؛ وحينئذٍ {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} أي من قبل حضور الموت، وظهور علامات القيامة {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} وهو الإخلاص في الإيمان

159

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} وهم اليهود والنصارى {وَكَانُواْ شِيَعاً} فرقاً متباينة {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} أي لست مسؤولاً عما فعلوا. وقيل: عنى بالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً: أهل البدع والضلال من هذه الأمة؛ الذين اتبعوا ما تشابه من القرآن، وأولوه طبقاً لأهوائهم {إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ} أي عاقبة أمرهم {إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} فيجازيهم عليه {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}

160

{مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} المراد بالعشر: الكثرة دون العدد؛ فقد يبلغ الجزاء ما لا يحصره حد، ولا يحصيه عد واقرأ إن شئت قول المنان الوهاب، المعطي من يشاء بغير حساب: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (انظر آية 261 من سورة البقرة)

161

{صِرَاطِ} طريق {دِيناً قِيَماً} مستقيماً لا عوج فيه؛ و {قَيِّماً} قيماً؛ وبه قرأ سائر القراء عدا الكوفيين وابن عامر {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} مسلماً {وَمَا كَانَ} إبراهيم {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بل كان أول الهادمين للشرك، المستدلين على الوحدانية بالعقل والمنطق والتدبر (انظر الآيات 76 وما بعدها من هذه السورة)

162

{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي} عباداتي

163

{وَبِذلِكَ أُمِرْتُ} من ربي ومن عقلي الذي وهبنيه وأكرمني به

164

{وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} إثماً {إِلاَّ عَلَيْهَا} أي لا يقع وبال إثمها إلا عليها {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الوزر: الإثم، والحمل الثقيل؛ أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى

165

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ} جمع خليفة {الأَرْضِ} أي أهلك من سبقكم، واستخلفكم مكانهم {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} في العلم والجاه والمال والسطوة {لِيَبْلُوَكُمْ} ليختبركم {فِي مَآ آتَاكُمْ} فيما أعطاكم من نعمه؛ وليعلم - علم ظهور - من أطاعه فيما آتاه، وأحسن فيما وهبه {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} لمن عصاه وخالفه؛ فليبادر من ابتلى بالعصيان والحرمان إلى الرجوع إلى ربه، والمآب إلى خالقه {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ} لمن تاب وأناب {رَّحِيمٌ} به؛ فلا يؤاخذه بما سلف من أمره؛ تفضلاً منه تعالى ورحمة بخليقته

سورة الأعراف

سورة الأعراف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{المص} (انظر آية 1 من سورة البقرة)

2

{كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} القرآن الكريم {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} ضيق {مِنْهُ} أي لا يكن في صدرك غم أو ضيق من عدم إيمانهم بما أبلغته إليهم من القرآن المنزل عليك؛ وهذا كقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} {لِتُنذِرَ بِهِ} أي {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ} {وَذِكْرَى} تذكيراً {لِلْمُؤْمِنِينَ} الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب

3

{وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ} غيره {أَوْلِيَاءَ} تطيعونهم في معصيته تعالى والكفر به

4

{وَكَم مِّن قَرْيَةٍ} ظالمة {أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا} عذابنا {بَيَاتاً} ليلاً {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} أي وقت القيلولة. والمعنى: فجاءها عذابنا ليلاً أو نهاراً؛ كما نريد

5

{فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} دعاؤهم وتضرعهم {إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ} حين جاءهم عذابنا

6

{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} أي الأمم عما فعلوه من عصيان رسلهم، وكفرهم بربهم {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} عما أجيبوا به، وما لاقوه من عنت وتكذيب

7

{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم} لنخبرنهم بما فعلوه {بِعِلْمِ} منا؛ لأنا حاضرون معهم، مشاهدون لأعمالهم

8

{وَالْوَزْنُ} للأعمال الحسنة أو السيئة {يَوْمَئِذٍ} يوم القيامة {الْحَقِّ} العدل؛ لا زيادة في السيئات، ولا نقصان للحسنات (انظر آية 47 من سورة الأنبياء) {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي ما يوزن له من الحسنات {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون

9

{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي نقصت حسناته {فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُم} حرموها من النعيم، وأضاعوها في الجحيم {بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} أي يجحدون

10

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ} أي جعلناكم متمكنين منها، قادرين عليها؛ ذوي مكانة فيها {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا} أي في الأرض {مَعَايِشَ} أي أسباباً للمعيشة؛ من مطعم ومشرب وملبس؛ فضلاً من لدنه تعالى

11

{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} أي خلقنا أصلكم وأباكم آدم من طين {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} أي صورنا آدم في صورته الإنسانية، ونفخنا فيه الروح. أو يكون معنى {خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}: إشارة إلى حكمه تعالى وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم - منذ بدايته حتى نهايته - وتصويره لهم على حقيقتهم التي علمها قبل أن يصورهم، وإثبات جميع ذلك في اللوح المحفوظ؛ الذي أثبت فيه تعالى كل ما هو كائن {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} كان الأمر بالسجود لما خلقه الله تعالى بيديه؛ لا لأن آدم مستوجب -[180]- للسجود مستحق له؛ قال تعالى: {يإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقد ابتدأ اللعين، يحاجّ رب العالمين؛ فأهلك نفسه ومن اتبعه إلى يوم الدين

12

{قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} ظناً منه أن النار جسم شفاف نوراني، والتراب جسم كثيف ظلماني؛ وهو أول من قال بالقياس؛ وفاته أن القياس لا يجوز مع صريح النص؛ فقد أمره تعالى بالسجود وهو عالم أنه مخلوق من نار، وأن آدم مخلوق من تراب؛ وهو جل شأنه {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ}

13

{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا} فانزل من الجنة {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} دل ذلك على أن التفاخر بالأنساب من أشد الكبر {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} أي من أهل الصغار؛ وهو الذل والهوان؛ وهكذا كان الجزاء من جنس العمل: لما تكبر إبليس وتعالى على أمرالله: أذله الله تعالى، وألحق به الصغار والهوان؛ وطرده من جنته، وحرمه من رحمته

14

{قَالَ} إبليس لربه {أَنظِرْنِي} أي أمهلني

16

{قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي} أضللتني؛ أي بإغوائك لي؛ وهذه إحدى مكائد الشيطان اللعين؛ حيث ينسب الإضلال لرب العالمين إذ أنه تعالى لم يضله إلا بعد أن ضل بنفسه، وانحط إلى درك المخالفة، وجادل ربه تعالى مجادلة الند للند، وعاب خلقه وصنعه، وعصى أمره ومن عجب أن يقول قوم بما قال به إبليس، ومن عجب أن يقول قوم بما قال به إبليس وينسبون الأضلال لهادي الضلال، والإغواء لمن ينهى عن الغي ويعاقب عليه؛ ويقولون: إن إبليس أعلم ب الله ممن ينفي عن ربه الإضلال والإغواء (انظر آية 200 من سورة الشعراء) {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} أي لبني آدم {صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} أي أمنعهم عن الطريق القويم الموصل إليك

17

{ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} أي من قبل الآخرة؛ التي هي أمامهم وبين أيديهم؛ أشككهم فيها، وأزين لهم عدم مجيئها وأنه لا بعث، ولا جنة، ولا نار {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من قبل الدنيا؛ لأنها وراءهم؛ أحببهم فيها، وأزيدهم تمسكاً بها {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} من قبل الحق؛ لأنه يوصف باليمين؛ أزين لهم أكله، وأشبه عليهم أمر دينهم {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} من قبل الباطل؛ أشهي لهم المعاصي، وأدفعهم إلى ارتكابها لقد جاءك إبليس يا ابن آدم من كل جانب، ومن كل وجهة؛ لكنه لم يأتك من فوقك؛ فلم يستطع أن يحول بينك وبين رحمته ورضوانه ومغفرته، فهلم إلى ربك، ادعه يستجب لك، واطلب منه أن ينجيك من إبليس ومن ترصده لك، وإيقاعه بك فهو وحده القادر على حمايتك وعصمتك عصمنا الله تعالى من المهالك، وأعاذنا ممن جعله فتنة للناس ولم يجعل له سلطاناً عليهم، وأذل جنده، وأضعف كيده {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}

18

{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً} معيباً محقراً {مَّدْحُوراً} مطروداً

19

{وَيَا آدَمُ -[181]- اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ} حواء {الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} فيها {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} أيَّ شجرة؛ نهاهما ربهما عنها امتحاناً لهما وابتلاء؛ وليسجل عليهما ضعفهما، وليلجأ إليه بالاستغفار، ويجأرا إليه بالتضرع {فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} لأنفسهم بالعصيان (انظر آية 35 من سورة البقرة)

20

{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ} استتر واختفى {سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ} عوراتهما. والسوأة: كل ما يسوء الإنسان ظهوره كانت وسوسته بأن {قَالَ} لهما {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} أي كراهة أن تكونا ضمن الملائكة المقربين {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} الباقين أبداً

21

{وَقَاسَمَهُمَآ} حلف لهما على صحة ما يقول

22

{فَدَلاَّهُمَا} أهبطهما من درجات الجنة الرفيعة العالية، إلى دركات الأرض الوضيعة السافلة {بِغُرُورٍ} أي غرر بهما وخدعهما؛ وما كانا يتوهمان أن مخلوقاً يقسم ب الله تعالى كاذباً {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ} التي نهيا عن الأكل منها {بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} جعلا يلزقان ويشدان {عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} قيل: هو ورق التين. هذا وقد زعم بعض من لاقيت من المتكلمين أن قصة الأكل من الشجرة ليس على حقيقته؛ بل هو عن طريق المجاز: وقد أريد به الالتقاء الذي يتم بين الرجل وزوجه، وأن قول إبليس {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} هو خلود آدم وحواء بأبنائهما إلى يوم القيامة وقوله: {وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى} هو ملك الدنيا، والخلافة فيها؛ وأن الشجرة قد تكون على حقيقتها وأن ما تم بينهما كان تحتها وفي ظلها؛ واستدل على رأيه بما بدا لهما من سوءاتهما عند الالتقاء - المشار إليه بالأكل من الشجرة - وهو زعم مخالف لجميع ما بأيدينا من أقوال المفسرين؛ ولم يبلغ بعد حد الإقناع الذي يلزمنا بالقول به، والدعوة إليه

23

{قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} بعصيانك {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا} خطيئتنا {وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الهالكين وقد أراد تعالى بإيراد تلك القصة على هذا الوجه: أن يعلمنا كيف يخسر المعاند «إبليس» نفسه، ويوردها موارد الهلكة، وكيف ينجو المعترف بذنبه، اللاجىء إلى ربه «آدم» فقد {اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}

24

{قَالَ اهْبِطُواْ} انزلوا من الجنة {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} المقصود: آدم وذريته، والشيطان وقبيله؛ أو بعض ذرية آدم لبعضها أعداء {وَلَكُمْ} جميعاً {فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} موضع قرار {وَمَتَاعٌ} تمتع {إِلَى حِينٍ} وهو انقضاء الأجل

25

{قَالَ فِيهَا} أي في الأرض {تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} تبعثون يوم القيامة للحساب والجزاء

26

{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} يستر عوراتكم التي أراد الشيطان إظهارها {وَرِيشاً} -[182]- لباساً للزينة {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} الذي يقي الجسم مما يؤذيه من الحر والبرد، أو هو لباس الحرب وقيل: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} الإيمان وخشية الله تعالى بدليل قوله تعالى {ذلِكَ خَيْرٌ} أي لباس التقوى - الذي يقي عذاب الله تعالى وغضبه - خير من كل لباس؛ و {ذلِكَ} اللباس الذي أنزلناه عليكم ليواري سوءاتكم {مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} الدالة على وحدانيته؛ فمن المعلوم أن اللباس لا يعدو أنواعاً ثلاثة؛ كلها تدل على قدرته تعالى، ومزيد لطفه وإبداعه؛ فالصوف: من أشعار الأنعام وأوبارها، والقطن والكتان: مما تنتجه الأرض من خيراتها، والحرير: تنتجه وتنسجه حشرة من حشرات الأرض؛ بوحي من ربها، وإرشاد من خالقها؛ وجميع ذلك - من حيوان ونبات - مسخر من عند الله تعالى لو أراد منعه لامتنع؛ فتعالى المنعم المتفضل فما أروع عظاته، وما أبدع آياته

27

{يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} احذروا لئلا يضلنكم {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} معشره وجنوده {مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} لأنهم أجسام شفافة لا ترى {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي قرناء لهم وأعواناً

28

{وَإِذَا فَعَلُواْ} أي إذا فعل الذين لا يؤمنون {فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا} في حين أن تقليد المذنب في ذنبه، والآثم في إثمه لا يقوم عذراً للمقلد {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} احتجوا بتقليد الجهال، وافتروا على ذي الجلال وظنوا أن علم الله تعالى بكفرهم أمر منه به، ورضا عنه

29

{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} بالعدل؛ فيجب اتباع أمره؛ لا معاندته {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي توجهوا بكليتكم إليه، وأخلصوا نفوسكم عند كل سجود. أو أقيموا وجوهكم بالدعاء له في مواطن الصلاة؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} وكان ذلك عند دخوله المحراب {وَادْعُوهُ} اعبدوه {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي مخلصين له العبادة؛ لأن العبادة بلا إخلاص كلا عبادة (انظر آية 17 من سورة البقرة) {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} أي كما بدأكم من العدم، يعيدكم بعد العدم

30

{فَرِيقاً هَدَى} الله بهدايته {وَفَرِيقاً حَقَّ} وجب {عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ} استوجبوها بانصرافهم عن نداء الحق؛ ونبذهم كلام ربهم وراء ظهورهم؛ ولم يوجب ربهم الضلالة عليهم ظلماً لهم؛ وكيف لا يستحقونها وقد وصفهم الله تعالى بقوله {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ} يوالونهم ويعبدونهم {مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} فحق عليهم غضب ربهم، ووجب انتقامه منهم؛ بتركهم في ضلالهم يعمهون

31

{يَابَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي البسوا أفخر ثيابكم وأطهرها؛ قيل: إنهم كانوا يطوفون بالبيت عرايا فنزلت. {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} أي {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ} مما أحله الله {وَلاَ تُسْرِفُواْ} بتناول ما حرم. أو {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ} ما يكفي لحفظ -[183]- أودكم، وبقاء حياتكم {وَلاَ تُسْرِفُواْ} بالزيادة على ذلك؛ ولا يجوز لإنسان يؤمن ب الله واليوم الآخر أن يطعم هو وأولاده فاخر الطعام، وجاره يتضور جوعاً، ويفتقر إلى الخبز القفار؛ وكفى بالمرء سرفاً أن ينيل بطنه كل ما تشتهي وقد جرت عادة أفاضل القوم على أن يطعمون الغير ما يشتهونه هم، ويحرمون أنفسهم مما يبتغون؛ زجراً لها وتأديباً وهذا إذا جاز في شريعتهم فإنه غير ملزم لغيرهم؛ لأن الله تعالى لم يكلف الناس ما يشق عليهم

32

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} وإنما هم حرموا على أنفسهم الطيبات، ليحظوا بالخيرات، ولم يطلقوا إسارها ليأمنوا عثارها وليصدق عليهم قول الحليم الكريم {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي أن زينة الله والطيبات من الرزق ستكون يوم القيامة خالصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا. كيف لا؛ وقد أطعموا الطعام على حبه، وجعلوا هواهم تحت أرجلهم ورضا ربهم نصب أعينهم؛ وآثروا غيرهم على أنفسهم فاحرص - هديت وكفيت - على الإيثار لا الأثرة، والإنفاق لا الجمع، واحذر البطنة؛ فإنها تذهب الفطنة قال: «ما ملأ ابن آدم وعاءً شر من بطنه» وقد جمع القرآن الكريم في قوله تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} أصول الطب وخلاصة تجارب الأولين، وحكمة علوم الآخرين ويعتبر من أعظم قواعد حفظ الصحة. وعدم الإسراف في الأكل والشرب: وقاية من كثير من الأمراض الفتاكة؛ كأمراض القلب، والكبد، والسكر، والضغط العالي وتصلب الشرايين

33

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} جمع فاحشة؛ وهي القبائح {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} كالقتل والسب {وَمَا بَطَنَ} كالزنا والغيبة والنميمة {وَالإِثْمَ} المعصية {وَالْبَغْيَ} الظلم والكبر {وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} حجة أو دليلاً

34

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم السابقة المكذبة {أَجَلٌ} وقت لنزول العذاب الذي قدره الله تعالى عليها {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} وقت نزول العذاب المعد لاستئصالهم

35

{يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} أي إن يجئكم {فَمَنِ اتَّقَى} آمن {وَأَصْلَحَ} أعماله {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الدنيا {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} في الآخرة

37

{فَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّنِ افْتَرَى} اختلق {أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ} مما هو مكتوب في اللوح المحفوظ؛ من الرزق والأجل {حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا} ملائكة الموت {} أي قال لهم ملائكة الموت {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ} تعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره؛ أي أين هم؟ هل يستطيعون كشف الضر عنكم، أو دفع الموت، أو تخليصكم من أيدينا؟ {قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} أي غابوا عنا

38

{قَالَ} لهم ربهم {ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ} مضت {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ} أي تداركوا وتلاحقوا -[184]- واجتمعوا {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} أي الأمم المتأخرة {لأُولاَهُمْ} لمن تقدمهم من الأمم {رَبَّنَا هَؤُلاءِ} المتقدمين {أَضَلُّونَا} لأنهم ضلوا قبلنا ابتداء فاتبعناهم في ضلالهم؛ ظناً منا أنهم مهتدون {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً} أي مضاعفاً {قَالَ لِكُلٍّ} منكما {ضِعْفَ} من العذاب: تابعاً ومتبوعاً، متقدماً ومتأخراً لأن الأولين أتتهم رسلنا فكذبوا فريقاً وقتلوا فريقاً، والآخرين أتتهم رسلنا فكذبوهم وآذوهم؛ فالأولين والآخرين في الكفر سواء فكما أن الخطأ لا يبرر الخطأ؛ كذلك كفر الأولين لا يصح أن يتخذ سبباً لكفر الآخرين و {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}

39

{وَقَالَتْ أُولاَهُمْ} أي قالت الأمم المتقدمة {لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} إذ أنكم كفرتم كما كفرنا؛ فلم يزد فضلكم علينا؛ لكنكم لو كنتم اعتبرتم بما حل بنا وآمنتم: كان ذلك فضلاً يميزكم علينا. وبذلك انقطعت حجة المتأخرين على المتقدمين، وتساووا في الكفر برب العالمين وحينئذ يقول رب العزة للفريقين {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} تعملون

40

{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} القرآن {وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَآ} فلم يؤمنوا بها {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ} أي لا يصعد لهم عمل صالح ولا يقبل منهم، أو لا تنزل لهم رحمة من السماء، أو لا تفتح لأرواحهم بعد الموت؛ بل يذهب بها إلى سجين؛ وما أدرك ما سجين {وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} أبداً {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} أي حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة؛ ويطلق الجمل أيضاً على حبل السفينة الغليظ، وعلى النخل؛ وقد علق الله تعالى دخولهم الجنة على مستحيل؛ فلن يدخل الجمل - سواء كان بعيراً، أو حبلا، أو نخلاً - في خرت الإبرة؛ كما علق تعالى رؤية موسى له؛ على استقرار الجبل فلم يستقر؛ بل جعله ربك دكاً وخرَّ موسى صعقاً

41

{لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} فراش {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} أغطية؛ فكانت النار لهم وطاء وغطاء. وقد جعل الله تعالى العذاب مكان الأمن والدعة والراحة؛ عافانا الله تعالى برحمته من غضبه ونقمته

42

{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أي إن الإيمان والأعمال الصالحة في وسع كل إنسان؛ فلا حجة لمقصر، ولا عذر لمتخلف وهل ترى من قصد إلى المسجد؛ فتوضأ وصلى وابتهل إلى ربه: خسر من ماله، أو من صحته، أو من عرضه؛ مثل من قصد إلى حانة أو ماخور؛ فخسر ماله وصحته وعرضه بل خسر أيضاً دنياه وآخرته وربما جره ذلك إلى أشد العقوبات، وأفتك الأمراض فأي الفريقين أحق بالأمن؟ وأي الطريقين أهدى وأرخص وأيسر؟ طريق الجنة، أم طريق النار؟ وحقاً إن النار لتشرى بالنقود، -[185]- والجنة تنال بالمجان وقد تمت المنة، وكملت النعمة، وسقطت المعذرة، وقامت لله الحجة البالغة؛ بقوله {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}

43

{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم} أي صدور أهل الجنة {مِّنْ غِلٍّ} حقد وعداوة، وذلك من تمام نعمته تعالى على عباده المؤمنين {وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} أي هدانا لصالح العمل؛ الذي أدخلنا بسببه الجنة {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} إلى ذلك {لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} قيل: إن أهل النار يرون مقاعدهم من الجنة لو كانوا مهتدين؛ فيكون ذلك حسرة عليهم، وتعذيباً لهم وإن أهل الجنة يرون مقاعدهم من النار لو لم يهتدوا؛ فيقولون {الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} {وَنُودُواْ} أي نادى الملائكة أصحاب الجنة {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} نادى مناد {بَيْنَهُمْ} بين أهل النار {أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} الكافرين؛ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر وتعريضها للعقاب

45

{الَّذِينَ يَصُدُّونَ} يمنعون الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه الحق {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي يحاولون أن يجعلوا طريقه القويم ودينه المستقيم؛ معوجاً {وَهُمْ بِالآخِرَةِ} بالبعث والحساب والجزاء {كَافِرُونَ} لا يصدقون بمجيء القيامة

46

{وَبَيْنَهُمَا} أي بين الجنة والنار، أو بين أصحاب الجنة وأصحاب النار {حِجَابٍ} حاجز؛ وهو السور الذي ذكره الله تعالى في قوله {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} وهو سور الأعراف المعني بقوله جل شأنه {وَعَلَى الأَعْرَافِ} جمع عرف؛ وهو كل مرتفع من الأرض، ومنه سمي عرف الديك: لارتفاعه. وقيل: سمي الأعراف: لأن أصحابه يعرفون الناس جميعاً: أهل الجنة وأهل النار {رِجَالٌ} هم أناس تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة؛ فلا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ فجعلوا هنالك حتى يقضي الكريم فيهم بما يشاء؛ وسيدخلهم الجنة بفضله ومغفرته ورحمته وزعم بعضهم أن المقصود بأصحاب الأعراف: الملائكة؛ وأنهم يناقشون أهل النار بأمر ربهم؛ وهو قول يتجافى مع الصواب والمنطق؛ فقد عرفهم الله تعالى بقوله {رِجَالٌ} ولا يطلق هذا التعريف على ملائكة الرحمن وهؤلاء الرجال {يَعْرِفُونَ كُلاًّ} من أصحاب الجنة وأصحاب النار {بِسِيمَاهُمْ} بعلامتهم؛ فأهل الجنة يعرفون ببياض الوجه ونضرته، وبالنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وأهل النار يعرفون بسواد وجوههم، وبالقترة التي ترهقهم {وَنَادَوْاْ} أي نادى أصحاب الأعراف {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} قائلين لهم {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا} أي لم يدخل أصحاب الأعراف الجنة بعد {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} في دخولها

47

{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} أي إذا اتجهت أبصار أصحاب الأعراف {تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ} دعوا الله تعالى قائلين -[186]- {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} في هذه النار

48

{وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاٍ} من أصحاب النار {يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} بهيئاتهم التي كانوا يعرفونهم بها في الدنيا، وبكفرهم وكبرهم {قَالُواْ} لهم {مَآ أَغْنَى عَنكُمْ} من النار {جَمْعُكُمْ} كثرتكم واجتماعكم في الدنيا {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} عن الإيمان بالله، وتتعالون على مخلوقاته. ويشيرون إلى أهل الجنة؛ قائلين لأهل النار

49

{أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ} في الدنيا أنهم {لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} منه، ولا يدخلهم جنته، وها هو قد قيل لهم {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} وقيل: يقال {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ} لأهل الأعراف

51

{فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ} نتركهم في العذاب كالمنسيين {كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} فلم يعملوا له {وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا} كتبنا التي أنزلناها على رسلنا {يَجْحَدُونَ} ينكرون ويكذبون

52

{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ} هو القرآن الكريم {فَصَّلْنَاهُ} بيّناه؛ بالقصص والأخبار، والوعد، والوعيد، وفصلنا فيه بين الحق والباطل {عَلَى عِلْمٍ} منا بحق ما بيناه، وصحة ما فصلناه {هُدًى} لمن اتبعه {وَرَحْمَةً} لمن تمسك به

53

{هَلْ يَنظُرُونَ} ما ينتظرون {إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} أي إلا أن يأتي ما وعدوا به في القرآن من البعث والحساب، وما يستتبعه من العذاب {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} يوم القيامة؛ وحينئذ {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ} أي نسوا الوعد والوعيد في الدنيا {لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} فقد تحقق الآن ما أنذرونا به {أَوْ نُرَدُّ} إلى الدنيا {فَنَعْمَلَ} فيها من الصالحات {غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} من السيئات {قَدْ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ} بأن ألقوا بها في الجحيم والعذاب الأليم {وَضَلَّ عَنْهُم} غاب {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي ما كانوا يعبدونه من الأصنام

54

{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواء يليق به؛ وليس كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود عن الحدود {أَيُّ} يغطيه بظلامه {يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} سريعاً {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} سائرات بقدرته، منظمات للكون بارادته؛ كل منها يعمل في الحدود التي رسمها له خالقه {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ} جميعاً؛ من ملك، وإنسان، وجن، وحيوان، ونبات، وجماد {وَالأَمْرُ} كله له لا يشاركه فيه أحد من خلقه {تَبَارَكَ} تعالى وتعاظم

55

{ادْعُواْ رَبَّكُمْ} اعبدوه {تَضَرُّعاً} تذللاً واستكانة لطاعته {وَخُفْيَةً} بخشوع قلوبكم، وصحة يقينكم؛ لا مجاهرين بذلك؛ بقصد المراءاة؛ كشأن أهل النفاق ولقد كان من سبقنا من علية القوم ما من عمل يقدرون على أن يعملوه في السر؛ فيكون علانية أبداً، وكانوا لا يعملون في الجهر إلا ما قصد به وعظ الغير إلى ما اتعظوا به، وهدايتهم إلى ما اهتدوا أو أريد بالدعاء: السؤال والطلب؛ وقد كانوا يجهدون في الدعاء؛ فلا يسمع لهم صوت -[187]- إن كان فلا يكون إلا همساً بينهم وبين ربهم - هذا وقد ذكر الله عبداً صالحاً من عباده فرضي فعله؛ فقال {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} المتجاوزين للحد في رفع الصوت بالدعاء، أو المتجاوزين لحد الأدب في الدعاء؛ كمن يطلب رتبة النبيين، أو كمن يسأل ما لا يجوز عقلاً؛ ومن المعلوم أن إرادة الله تعالى لا تتعلق بمستحيل، فلا يجوز أن يدعو إنسان ربه قائلاً: يا رب اجعل هذا النهر لبناً سائغاً، أو عسلاً صافياً؛ فهذا - ولو أنه غير مستحيل على قدرة الله تعالى - فإنه مستحيل عقلاً وعادة؛ ومثل هذا الداعي ساخر بدينه، مستهزىء بربه

56

{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} أي لا تكفروا بعد إذ أمركم بالإيمان وأقام على وحدانيته الدليل والبرهان، ولا تظلموا بعد إذ أمركم بالعدل، وأبان لكم مغبة الظلم، ولا تعصوا بعد إذ عرفكم جزاء الطائعين، وعاقبة المتقين وجماع القول أن الله تعالى أراد بما أمر به ونهى عنه: إصلاح العباد والبلاد؛ فمن ابتغى وراء ذلك: فقد بالغ في الفساد والإفساد {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} خوفاً من عذابه، وطمعاً في رحمته

57

{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرىً} مبشرات {بَيْنَ يَدَيِ} أمام {رَحْمَتِهِ} المطر؛ وسماه رحمة لأنه سبب في الرخاء والخصب والنماء؛ وجميعها رحمة وأي رحمة {بُشْرىً} حملت الرياح {سَحَاباً ثِقَالاً} ممتلئاً ماءً {سُقْنَاهُ} أي سقنا السحاب بواسطة الرياح {لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} جدب لا نبات فيه {فَأَنْزَلْنَا بِهِ} أي بواسطة الرياح، أو بالسحاب {الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي بالماء {مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} التي يحتاجها الإنسان {كَذلِكَ} أي مثل إحياء الأرض بالثمار والنبات، وإخراجها للأرزاق والأقوات؛ بعد قحطها وموتها {نُخْرِجُ الْموْتَى} أحياء من قبورهم {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتذكرون بهذه الأمثال التي نضربها لكم؛ فتؤمنون بالآخرة والحساب والجزاء

58

{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} الذي طابت تربته، وعذبت مشاربه {يَخْرُجُ نَبَاتُهُ} ثمراته وخيراته {بِإِذْنِ رَبِّهِ} بقدرته وحكمته، وفي هذا إشارة إلى أن إخراج النبات والثمرات - ولو أن سببه صنع البشر رأي العين - لا يكون إلا بإذن الحكيم العليم، الخالق القادر {وَالَّذِي خَبُثَ} أي والبلد الذي خبثت تربته، وأسنت مشاربه {لاَ يَخْرُجُ} نباته {إِلاَّ نَكِداً} رديئاً مصاباً بالعاهات والآفات؛ وهذا مشاهد في وقتنا الحاضر؛ إذ أصيب الثمار والنبات بسائر ضروب المعاطب؛ وما ذاك إلا بجناية الخلق على أنفسهم: بنسيانهم الأعز الأكرم، المتفضل بسائر النعم، وانصرافهم عن إلههم ومولاهم ويصح أن يكون ذلك مثالاً للمؤمن والكافر؛ ويكون معنى قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} أي أهله؛ وهو كقوله جل شأنه {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي أهلها {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} الذي يعمل أهله بجد واجتهاد -[188]- في دينهم ودنياهم {يَخْرُجُ نَبَاتُهُ} أي ثواب إحسانهم وإيمانهم كثيراً غزيراً {بِإِذْنِ رَبِّهِ} بتفضله وإحسانه؛ وهو الجنة، وأنعم بها من منة {وَالَّذِي خَبُثَ} أي الذي خبث أهله، وساءت أعمالهم، وكفروا بربهم؛ وركنوا إلى الكسل والخمول {لاَ يَخْرُجُ} نباته {إِلاَّ نَكِداً} أي ثواب أعمالهم النار وبئس القرار ويجوز أن يكون المراد بالبلد: الجسد. وطيبه: أكل الحلال، والابتعاد عن كل ما هو حرام. ونباته: أعماله؛ تخرج كلها حسنة، مليئة بالطاعات، موصلة إلى الجنات والجسد الذي خبث بأكل الحرام، وارتكاب الآثام: لا يخرج عمله إلا سيئاً؛ موصلاً إلى النار، وغضب الجبار فكذلك بنو آدم: خلقوا من نفس واحدة - بل من طينة واحدة - فمنهم من آمن ب الله وكتبه ورسله؛ فطاب ومنهم من كفر ب الله وكتبه ورسله فخبث (انظر آية 172 من سورة البقرة) {كَذلِكَ} أي مثل هذه الأمثال التي نضربها، والآيات التي نسوقها {نُصَرِّفُ الآيَاتِ} نوضحها ونبينها، ونكررها

60

{قَالَ الْمَلأُ} أي السادة والأشراف {فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} السفينة {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ} أي عمي عن الحق {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} أي في خفة عقل

69

{أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} موعظة تذكركم {وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ} في الأرض؛ تملكونها، وتنتفعون بخيراتها {مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} وقد أهلكهم الله تعالى بكفرهم وذنوبهم {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} زيادة في الجسم والعزم {فَاذْكُرُواْ آلآءَ اللَّهِ} أنعمه

70

{وَنُذُرِ} ندع ونترك {مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من الأصنام {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} به من العذاب

71

{قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ} عذاب {وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونِي فِي أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ} يعني بها الأصنام التي يعبدونها؛ كاللات، والعزى، ومناة؛ وما شاكلها {مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} حجة وبرهان {فَانْتَظِرُواْ} العذاب الموعود الذي تستعجلون به {إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ} له؛ فنزل بهم العذاب، وأوقع الله تعالى عليهم العقاب

72

{فأَنْجَيْناهُ} أي أنجينا هوداً {وَالَّذِينَ} آمنوا {مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} بأن حففناهم بلطفنا الخفي، وأنجيناهم من عذاب بئيس؛ لا ينزل إلا بأمرنا، ولا يدفع إلا برحمتنا {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} الدابر: الأصل؛ أي استأصلناهم فلم نبق منهم أحداً

73

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} عبر تعالى بالأخ - في مثل هذه المواضع - لأن كل نبي بعثه الله تعالى من قومه: زيادة في تألفهم {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} حجة واضحة {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} معجزته؛ أخرجها {لَكُمْ آيَةً} علامة على صدقي ووحدانيته {فَذَرُوهَا} دعوها واتركوها

74

{وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ} أسكنكم {فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا} السهل: الأرض المستوية {فَاذْكُرُواْ آلآءَ اللَّهِ} نعمه {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} العثى: أشد الفساد

75

{قَالَ الْمَلأُ} السادة والأشراف {الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ} عن الإيمان {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ} وهم الذين آمنوا بصالح عليه السلام

76

{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ} الكافرون {إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي كفروا بأن صالحاً مرسل من ربه، وأن الناقة آية منه تعالى

77

{فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ} قتلوها -[190]- {وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} استكبروا عن طاعته {وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} من العذاب

78

{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الزلزلة الشديدة {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي متلبدين بالأرض باركين على الركب ميتين

79

{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أعرض صالح عنهم {وَقَالَ} لقومه - بعد نزول العذاب بهم وموتهم - {يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} التي كلفني بإبلاغها لكم، وأرسلني بها لهدايتكم {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} باتباعي والإيمان ب الله تعالى وطاعته؛ خشية أن ينزل بكم ما نزل، ويحل بكم ما حل {وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} فعصيتموني وكفرتم بربكم؛ فحل بكم عذابه الموعود الذي استعجلتموه، ويومه المشهود الذي عاينتموه وخطاب صالح عليه السلام لقومه بعد موتهم: تسجيل لأداء ما كلفه الله تعالى بأدائه، وتسجيل لتكذيبهم وكفرهم؛ ولا شك أنهم سامعون لقوله؛ بدليل مخاطبة الرسول لقتلى المشركين يوم بدر: {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} وقال لمن حوله: {قَالُواْ نَعَمْ}

80

{وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} الكبيرة؛ وقد كانوا يأتون الذكران {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} في العصيان

82

{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي يتنزهون عما نفعله من إتيان الرجال في الأدبار. هذا وفعلة قوم لوط من أشنع الفواحش، وأبشع الجرائم، يأباها أحط الحيوانات، فما بالك بأكرم المخلوقات

83

{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} جميع من آمن به {إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} الباقين في العذاب

84

{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً} عجيباً؛ ليس كسائر المطر، الذي يأتي بالثمر؛ بل أنزل عليهم من السماء ناراً تستعر ليس بالمطر الذي يبعث الرخاء والرحمة، والسعة والنعمة؛ بل أمطرتهم السماء ناراً وأحجاراً، وبعثت فيهم موتاً ودماراً ويقال «أمطر» في العذاب، و «مطر» في الرحمة {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} ومآلهم؟ إذ دمرناهم وأحرقناهم وأهلكناهم

85

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} وهو صهر موسى عليهما السلام؛ الذي زوجه إحدى ابنتيه وقال له «لا تخف نجوت من القوم الظالمين» {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ} حجة {مِّن رَّبِّكُمْ} تدل على صدقي {فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} في معاملاتكم -[191]- {وَلاَ تَبْخَسُواْ} تنقصوا {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ} بالكفر والعصيان {بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} ببعث الرسل، وإنزال الكتب

86

{وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ} طريق {تُوعَدُونَ} من التوعد؛ أي تهددون من آمن بشعيب. والتوعد: التهدد. ويقال في الخير: وعد. وفي الشر: أوعد. قال الشاعر: وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي {وَتَصُدُّونَ} تمنعون الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه القويم {وَتَبْغُونَهَا} تريدونها {عِوَجَا} معوجة؛ غير مستقيمة؛ لتمنعوا الناس عن سلوكها

88

{قَالَ الْمَلأُ} السادة والأشراف من قوم شعيب {الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ} عن الإيمان به {لَنُخْرِجَنَّكَ يشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ} جميعاً {فِي مِلَّتِنَا} التي نحن عليها {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} أي أتعيدوننا في ملتكم؛ ولو كنا كارهين لهذه الملة، ساخطين عليها

89

{قَدِ افْتَرَيْنَا} اختلقنا {عَلَى اللَّهِ كَذِباً} آمنا بغيره، و {عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} بعنايته وتوفيقه، وهدايته إلى معرفته {وَمَا يَكُونُ} ما يجوز، وما يحق {لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا} أي إلا أن يكون قد سبق في علمه تعالى شقوتنا وانحرافنا عن الحق الذي أمرنا باتباعه {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ} كان، أو هو كائن {عِلْماً} كيف لا؛ وهو جل شأنه خالق كل شيء، وهو السميع العليم -[192]- {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} ليهدينا سبلنا (انظر آية 81 من سورة النساء) {رَبَّنَا افْتَحْ} احكم {بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} الحاكمين

91

{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الزلزلة الشديدة {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} متلبدين بالأرض، باركين على الركب ميتين

92

{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} كأن لم يقيموا فيها. والمغنى: المسكن

93

{فَتَوَلَّى} أعرض {عَنْهُمْ وَقَالَ} لهم {يقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي} التي أرسلني بها إليكم؛ فكذبتموني {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} فلم تستمعوا لنصحي {فَكَيْفَ آسَى} أحزن {عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} بذلت لهم سبل الهداية؛ فازدادوا فجوراً وكفراً، وأسدي لهم النصح؛ فأبوا إلا عتواً وعناداً

94

{أَخَذْنَا أَهْلَهَا} عاقبناهم {بِالْبَأْسَآءِ} الفقر {وَالضَّرَّآءِ} المرض {لَعَلَّهُمْ يَضَّرِّعُونَ} يتذللون

95

{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ} أبدلناهم مكان الفقر والمرض {الْحَسَنَةَ} الغنى والعافية {حَتَّى عَفَوْاْ} نمت أموالهم، وكثرت أولادهم؛ يقال: عفا الشعر والنبات: إذا كثر. وقد عرَّف تعالى أنه أخذهم بالشدة فلم تنجع، وأخذهم باللين فلم ينفع {وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ} كما مسنا؛ أرادوا أن ينسبوا ذلك إلى الدهر، وإن ما حاق بهم: حاق بمن كان قبلهم؛ وهذا ضرب من ضروب الكفر {فَأَخَذْنَاهُمْ} بالعذاب {بَغْتَةً} فجأة؛ بعد أن بذلنا في إقناعهم كل الأسباب؛ من نعمة وعذاب، وإغناء وإقناء، وصحة وإعلال، ونوال ونكال؛ فاستحقوا بذلك الإهلاك والاستئصال

96

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى} الذين كفروا ب الله تعالى، وجحدوا أنعمه، وكذبوا رسله؛ لو أنهم {آمَنُواْ} بربهم {وَاتَّقَواْ} بطشه وعذابه {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ} بالمطر والنبات. فانظر - يا رعاك الله - إلى قول مولاك {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ} ولم يقل: {أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ} وقال: {بَرَكَاتٍ} ولم يقل: {رِزْقاً} وشتان بين الفتح والإنزال، البركات والأرزاق فالمطر وحده لا يكفل الخصب والإنبات أما البركات فهي وحدها كفيلة بكل شيء. -[193]- {وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ} بالعذاب

97

{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا} عذابنا وانتقامنا {بَيَاتاً} ليلاً

98

{ضُحًى} نهاراً

99

{أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ} مكره بهم: أخذه إياهم من حيث لا يشعرون

100

{أَوَلَمْ يَهْدِ} أولم يتبين {أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} أهلكناهم بسببها {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} نغطي عليها {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} النصح؛ وذلك عقوبة لهم على انصرافهم عن آيات ربهم؛ وعدم اعتبارهم بما امتحنهم به من تعذيب، وما منحه لهم من نعيم

101

{تِلْكَ الْقُرَى} التي ذكرناها، وذكرنا أنباءها، ومن أرسل إليها؛ والمقصود بالقرى: أصحابها وساكنيها؛ وهم قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا} أخبارها ما نثبت به فؤادك؛ وليتعظ بذلك قومك، وليعلموا أنهم إن بقوا على كفرهم؛ فسيكون حالهم مثل حالهم {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} بالمعجزات الظاهرات {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} بالرسل ولا بالمعجزات {بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} أي بما كذب به آباؤهم وأسلافهم، أو {بِمَا كَذَّبُواْ} به {مِن قَبْلُ} إتيان الرسل إليهم؛ أي إنهم ظلوا بكفرهم متمسكين، وعلى تكذيبهم ثابتين. وقيل: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} إذ ردوا بعد الموت {بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} {كَذلِكَ} مثل ذلك الطبع الذي طبعه الله تعالى على قلوب الكافرين والمكذبين {يَطْبَعُ اللَّهُ} يختم ويغطي {عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} لأنهم كفروا ابتداء، وأصروا على الكفر انتهاء، وأصموا آذانهم عن الاستماع إلى النصح، وأغلقوا قلوبهم بأقفال من الغفلة والعناد فحق عليهم غضب ربهم، وتخليه عن هدايتهم ولا يخفى أن كفرهم سابق على تغطية الله تعالى قلوبهم؛ وأن طبع الحكم العدل على قلوبهم؛ كان عقوبة على عنادهم وتمسكهم بكفرهم

102

{وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ} أي ليس لهم وفاء ولا أمانة

103

{فَظَلَمُواْ بِهَا} فكفروا بها.

105

{حَقِيقٌ} جدير {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ} بمعجزة ظاهرة

106

{قَالَ} فرعون {إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ} معجزة

107

{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} بين واضح؛ لا لبس فيه ولا إبهام، ولا تمويه ولا خداع

108

{وَنَزَعَ يَدَهُ} أخرجها من جيبه {فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} مشرقة كإشراق الشمس، ولم يكن بياضاً معتاداً، كبياض البرص؛ وإلا لم تكن معجزة

111

{قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} أي أخرهما {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ} جامعين

113

{وَجَآءَ السَّحَرَةُ} الذين جمعتهم رسل فرعون من المدائن

115

{قَالُواْ يمُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ} بسحرك أولاً

116

{قَالَ} موسى {أَلْقَوْاْ} أنتم بسحركم أولاً {فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ} بسحرهم {سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ} يؤخذ من هذا أن السحر إن هو إلا تمويه على العقول، وخدع للأبصار؛ وليس نقلاً للأشياء عن حقيقتها وطبيعتها؛ كشأن المعجزة التي تسندها قوة الخالق الأعظم تبارك وتعالى وذلك لأن الساحر لو أحال طبيعية الأشياء؛ لكان ما يأتي به معجزة أو هو كالمعجزة التي يأتي بها الأنبياء عليهم السلام، وكان لا فرق بينه وبين النبي؛ ولقام العذر لمن انخدع به {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} من الرهبة؛ أي أخافوهم وأزعجوهم.

117

{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} تتناول بسرعة؛ والمعنى أنها تبتلع {مَا يَأْفِكُونَ} ما يكذبون؛ أي ما يموهون به على أعين الناس من سحرهم؛ والإفك: أسوإ الكذب

118

{فَوَقَعَ الْحَقُّ} الذي أراده الله تعالى، وانتصر رسول رب العالمين، على رسول إبليس اللعين ولقفت عصا موسى حبال السحرة وعصيهم، وظهر أمر الله تعالى، وعلت كلمته، وانهار صرح الكفر ودالت دولته

119

{فَغُلِبُواْ} أي غلب فرعون وقومه {هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ} رجعوا {صَاغِرِينَ} ذليلين مقهورين ولما بان للسحرة شأن موسى وأحسوا بما أبداه وأظهره، وعلموا أن ذلك ليس من جنس السحر الذي يخدعون أعين الناس به؛ وأنه يستعين فيما يأتيه بقدرة خارقة لطبائع الأشياء، ويستمد بقوة إلهية محسوسة؛ ولو أنها غير منظورة حينئذ علموا أنه يدعو إلى الحق، وأن فرعون يدعو إلى الباطل؛ وخروا سجداً لله، و

121

{قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ *

122

رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ *

123

قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ} استفهام؛ أي أآمنتم {بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ} بالإيمان {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ} وهو إظهار الإيمان بموسى؛ ليؤمن به باقي الناس

125

{قَالُواْ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} راجعون

126

{وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ} أي وما تعاقبنا؛ يقال نقم منه: إذا عاقبه {إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا} الدالة عليه؛ وهي ما رأيناه من معجزات ظاهرات {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} هب لنا من لدنك صبراً واسعاً، وأكثره علينا حتى يفيض ويغمرنا

127

{وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ} أتترك {مُوسَى وَقَوْمَهُ} ممن آمن به من بني إسرائيل {لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ} يدعك ويتركك {وَآلِهَتَكَ} قيل: كان لعدو الله تعالى بقرة يعبدها؛ وقد قرأ مجاهد وابن عباس «وإلاهتك» وكان القائلون لذلك خاصة فرعون وبطانته؛ وهكذا شأن بطانة السوء في كل زمان ومكان: تدس للعاملين المصلحين؛ عند الملوك الجاهلين المستبدين؛ وتفهمهم أن في بقاء أمثال هؤلاء خطراً على عروشهم وهكذا أيضاً شأن الحمقى من الملوك والرؤساء: يحيطون ملكهم وجبروتهم بسياج من السطوة والبطش؛ لتتوفر لهم بذلك أسباب الاستقرار والانقياد ولذا كان جواب فرعون على تحريض ملئه له {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي -[196]- نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} عالون بالقدرة، والكثرة، والغلبة، والقهر. وهذا هو شأن المستبد الظالم الغاشم المبطل؛ الذي لا يعتمد إلا على ظلمه وقوته وقسوته أما الذي ينشد العدل، ويرغب في الحق؛ ويسعى إلى الإصلاح؛ فهو إذا غلب على أمره: لجأ إلى مولاه يستهديه ويستعينه ويسترشده؛ لذا

128

{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ} على أعدائكم {وَاصْبِرُواْ} على أذاهم؛ ف الله معكم، وهو ناصركم {إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا} يملكها {مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} الأتقياء {وَالْعَاقِبَةُ} النهاية الحسنة المحمودة {لِّلْمُتَّقِينَ} الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب

129

{قَالُواْ} أي قال بنو إسرائيل - أصحاب موسى - حين سمعوا مقالته: لقد {أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا} بقتل الأبناء، واستحياء النساء {وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} بإيذاء فرعون لنا، ووعيده وتهديده {قَالَ} موسى لقومه {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} فرعون وملئه {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ} مكانهم {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} أتحسنون هذه الخلافة، أم تكونون - كمن سبقكم - من المفسدين؟ وقد أهلك الله تعالى عدوهم، واستخلفهم في الأرض كما وعدهم؛ فكانوا أضل من فرعون وأطغى، وكانوا من أسوأ الأمم فساداً وإفساداً؛ لعنهم الله تعالى

130

{وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ} بالقحط؛ يقال: أسنت القوم؛ بمعنى أقحطوا

131

{فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} الخصب والغنى {قَالُواْ لَنَا هَذِهِ} أي نستحقها بعملنا وعلمنا؛ ولم يشكروا الله تعالى عليها {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} قحط وبلاء {يَطَّيَّرُواْ} يتشاءموا {بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} زاعمين أنهم سبب الشؤم الواقع بهم {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهُ} أي إنما سبب شؤمهم عند الله؛ وهو عملهم الذي يعملونه، والذي استوجبوا عليه ما أسموه طيرة وشؤماً هذا والتطير والتشاؤم من العادات التي ذمها القرآن الكريم، ونهى عنها الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر» «إذا تطيرتم فامضوا وعلى الله فتوكلوا» وقال أيضاً: «من عرض له من هذه الطيرة شيء فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك» لقد تشاءم الكافرون من أنبيائهم، في حين أن الشؤم هم سببه ومصدره؛ فقد تشاءم قوم موسى بموسى، وتشاءم قوم صالح بصالح: {قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} وفي شتى العصور تشاءم الكافرون بالمرسلين وبالمؤمنين {قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} هذا وقد جرى بعض المسلمين على نهج هؤلاء الكافرين؛ فتشاءموا من الأوقات، ومن الأيام، ومن الأشخاص؛ وهي عادة مرذولة يأباها الإسلام ويحض على نبذها ومنعها؛ ولا يقبلها دين سماوي، ولا عقل راجح؛ ومن عجب أنهم يستدلون ببعض آيات -[197]- الكتاب الكريم على ما يزعمونه؛ ويوردون قوله تعالى: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} {فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} ولا ندري أي من يوم من هذه الأيام الثمانية نختصه بالنحس دون الآخر - وقد شملت الآية الكريمة كل أيام الأسبوع ولياليه - فبان لنا من ذلك: أن النحس متعلق بذات الأشخاص الواقع عليهم النحس؛ وذلك بسبب شؤم معاصيهم، وبعدهم عن مرضات ربهم ولم يخلق الله تعالى الأيام نحساً كلها، أو سعادة كلها؛ فبعضها نحس على أناس، سعد على آخرين؛ ورب إنسان تصور نحسه في يوم من الأيام، فصار هذا اليوم مصدر سعادة له لا يترقبها ولا يتوهمها ونخرج من هذا البحث بنتيجة واحدة لا ثاني لها: هي أن {مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} فسييسره ربه لليسرى؛ وأيامه كلها هناء، ولياليه كلها سعادة؛ غير ما أعده الله تعالى له من خير عميم، ونعيم مقيم أما {مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} فسييسره ربه للعسرى؛ وأيامه نحسات، ولياليه مدلهمات؛ غير ما أعده له ربه من جحيم، وعذاب أليم

133

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} كل ما طاف وغلب؛ من مطر، أو مرض، ونحوهما: فهو طوفان. ومنه قوله تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ} وورد: أنه الموت المتتابع الذريع؛ ولعله الطاعون. وقيل: هو طوفان من الماء؛ أحاط بهم، ودخل منازلهم، وعلا حتى وصل إلى حلوقهم سبعة أيام {وَالْجَرَادَ} سلطه الله تعالى عليهم؛ فلم يدع لهم طعاماً يأكلونه {وَالْقُمَّلَ} وهو السوس الذي يأكل الحنطة فلا يدع إلا قشرها؛ أفنى الجراد ما زرع ليؤكل، وأباد السوس ما أعد للأكل، وقيل: «القمل» صغار الجراد؛ الذي لا أجنحة له، أو هو قمل الرأس المعروف {وَالضَّفَادِعَ} امتلأت الدنيا بها من حولهم؛ حتى إن الرجل ليفتح فمه ليتكلم؛ فتثب واحدة منه فتدخل في فيه {وَالدَّمَ} قيل: صارت مياههم دماً. وقيل: هو الرعاف. وقد أرسل الله تعالى عليهم هذه الآفات {آيَاتُ} عظات {مّفَصَّلاَتٍ} ظاهرات؛ لا يخفى على عاقل أنها من عند الله. أو {مّفَصَّلاَتٍ} بمعنى متفرقات {فَاسْتَكْبَرُواْ} عن الإيمان، ولم يجيبوا داعي الرحمن

134

{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} العذاب المذكور. وقيل: هو عذاب آخر عذبوا به بعد إذ لم يؤمنوا بما مر من الآيات؛ وهو الطاعون {قَالُواْ يمُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} أي بما اختصك به من إجابة الدعاء، وقبول الرجاء؛ و {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ} تذهب بهم حيث تشاء

135

{فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ} وهو انتهاء أعمارهم بالغرق {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} ينقضون وعدهم وتوبتهم

136

{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} في البحر الذي لا يدرك قعره

137

{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} وهم بنو إسرائيل؛ رفعهم من حضيض الذل، إلى أوج العز {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} يبنون

138

{فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ} يقبلون مواظبين {عَلَى} عبادة {أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ} أي قال بنو إسرائيل لموسى {يمُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهاً} نعبده {كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} يعبدونها {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} عجباً لبني إسرائيل: رأوا ما حل بفرعون وقومه جزاء كفرهم ب الله وذاقوا حلاوة نصرهم على عدوهم - جزاء إيمانهم - وحينما يرون أناساً يعبدون الأصنام يقولون: كيف يكون لهم آلهة ولا يكون لنا إلهاً نعبده كما يعبدون؟ ونسوا أنعم الله تعالى عليهم

139

{إِنَّ هَؤُلآءِ} الذين ترونهم يعبدون الأصنام {مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} أي إن ما هم فيه هلاك وخسران. و {مُتَبَّرٌ} مدمر مكسر

140

{قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ} الذي خلقكم، واصطفاكم، وأهلك عدوكم وأنجاكم؛ أغيره {أَبْغِيكُمْ} أبغي لكم {إِلَهاً} معبوداً {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} فكيف تبتغون غيره، وتطلبون معبوداً سواه؛ وتقولون: {اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}؟ اذكروا يا بني إسرائيل

141

{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ} الخطاب موجه لليهود الموجودين في عصر النبي؛ أي اذكروا إذ أنجينا آباءكم وأسلافكم؛ أو هو تذكير لمنته تعالى على بني إسرائيل {يَسُومُونَكُمْ} يذيقونكم {سُوءُ الْعَذَابِ} أشده وأسوأه {} يستبقونهن أحياء، أو يفعلون بهن ما يخل بالحياء {وَفِي ذَلِكُمْ} العذاب والتقتيل {بَلاءً} ابتلاء ومحنة، أو {وَفِي ذَلِكُمْ} العذاب نعمة لكم؛ لأن سنته تعالى جرت على رفع درجات من ابتلى، وإعلاء شأن من امتحن

142

{وَوَاعَدْنَا مُوسَى} بالمناجاة {ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} فتكون أربعين؛ صامها موسى استعداداً لهذا اللقاء، وتأهباً لتلقي أوامر الله تعالى {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ} ما وقته له من الوقت {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} أي كن خليفتي فيهم، وراعياً لهم

143

{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (انظر آية 164 من سورة النساء) {قَالَ رَبِّ أَرِنِي} نفسك {أَنظُرْ إِلَيْكَ} أي لأنظر إليك وأراك {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} تجلى أمره بأن جعل الجبل لا يستقر، وتجلت قدرته بأن {جَعَلَهُ دَكّاً} أي مدكوكاً؛ وليس معنى التجلي: ظهور المولى - جل وعلا - للجبل، أو إبداء نوره؛ كما ذهب إليه أكثر المفسرين؛ والذي حصل: أن الجبل تزلزل واهتز، وانهارت أركانه، وتصدع بنيانه، ومادت أحجاره، وتساقطت صخوره {وَخَرَّ موسَى صَعِقاً} مصعوقاً؛ مغشياً عليه من هول ما رأى {فَلَمَّآ أَفَاقَ} من غشيته، اتجه بكليته و {قَالَ سُبْحَانَكَ} ربي؛ تقدست عن الرؤية، وتعاليت عن الوصف -[199]- (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) {تُبْتُ إِلَيْكَ} من قولي: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} {وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} بعظمتك، المصدقين بعلوك وتنزيهك فقبل الله تعالى توبته؛ و

144

{قَالَ} له معدداً أفضاله عليه {يمُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} اصطفيتك: اخترتك (انظر آية 164 من سورة النساء) {فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ} من التوراة، وبلغها لقومك {وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ} لي على هذا الاصطفاء

145

{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ} وذلك لأن التوراة كانت تنزل على موسى مكتوبة في الألواح، أو كان يكتبها - بأمر ربه - في الألواح؛ ولا حاجة بنا إلى أن نخوض في صفة هذه الألواح؛ وهل كانت من ياقوت أو زبرجد، أو زمرد، أو من سدر الجنة؛ مما خاض فيه أكثر المفسرين، وأطنبوا في وصفه؛ حيث لا حاجة بنا إلى ذلك {مِن كُلِّ شَيْءٍ} من التنبيه إلى وجود الله تعالى والتذكير بعظمته {مَّوْعِظَةٌ} لهم {وَتَفْصِيلاً} تبييناً {لِّكُلِّ شَيْءٍ} يحتاجون إليه لمعاشهم ومعادهم {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} بجد وعزم واجتهاد {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} وذلك لأن في التوراة: الحسن والأحسن؛ كالاقتصاص والعفو، فإن العفو خير من القصاص، وكاتباع الأوامر واجتناب النواهي، فإن اتباع الأوامر خير من اجتناب النواهي {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} أي سأريكم ما حل بفرعون وقومه من عذاب وتشريد، وأورثكم أرضهم وديارهم؛ والمراد بدار الفاسقين: مصر

146

{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي} دلائل قدرتي وعظمتي {الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ} فلا يؤمنون بي، ولا يصدقون رسلي {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ} دالة على وحدانيتي {لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ} طريق الهدى والصلاح {لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ} طريق الفساد والضلال {يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} طريقاً لهم يتمسكون به، ويسيرون فيه {ذلِكَ} الصرف عن الآيات، والوقوع في الضلالات {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} بعد ظهورها ووضوحها؛ فاستحقوا بذلك الصرف عما ينجي، والوقوع فيما يردي

147

{وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} فلم يؤمنوا بها؛ واتخذوا لقدرة الله تعالى وآياته أسباباً؛ كقولهم: إن المطر بالنوء، وإن الزلازل من تفاعلات أرضية، وإن البراكين ترجع إلى أسباب طبيعية؛ كتسرب ماء البحار وتبخره من الحرارة ومحاولته الخروج، وإن الأرض والكواكب تدور في أفلاكها بقوى مغناطيسية، ودوافع جاذبية، وإن الأرض كانت قطعة من الشمس فزالت منها، وانفصلت عنها؛ وهم بهذه التعلات والأسباب يحاولون أن يسندوا كل كائن إلى أسباب طبيعة؛ يدفع بعضها بعضاً بغير حاجة إلى موجد أو إلى صانع؛ ناسين الخالق الرازق، القادر -[200]- القاهر، العظيم الجبار؛ فتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} وهؤلاء المكذبين: كذبوا بآيات الله تعالى {وَلِقَآءِ الآُخِرَةِ} وهي القيامة، والبعث، والحساب، والجزاء {حَبِطَتْ} بطلت {أَعْمَالَهُمْ} التي عملوها في الدنيا؛ فلا يقام لها وزن؛ فكم من عالم: ملأ علمه طباق الأرض؛ وسارت مخترعاته في طولها والعرض؛ وهو من أهل النار: لكفره بالله، وإيمانه بالقوى التي أوجدها الله بقدرته ومشيئته وكم من جاهل: صفت نيته، وحسنت عبادته؛ وآمن بمولاه؛ فكان من أهل النجاة {هَلْ يُجْزَوْنَ} أي هل يجزى هؤلاء المكذبون الغافلون؛ يوم القيامة من العذاب {إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي إلا جزاء ما عملوا في الدنيا

148

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ} أي بعد ذهابه لميقات ربه {مِنْ حُلِيِّهِمْ} أي مما يتحلون به من الذهب والفضة {عِجْلاً جَسَداً} أي عجلاً مجسماً {لَّهُ خُوَارٌ} له صوت؛ والخوار: صوت البقر؛ وقد كان إبليس اللعين يدخل في جسد العجل، ويخور كما يخور، وقيل: صنعوه بحيث إذا تعرض للهواء: خرج منه صوت يشبه خوار العجل {اتَّخَذُوهُ} عبدوه

149

{وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ} هو كناية عن اشتداد الحسرة والندامة

150

{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى} من ميقات ربه {إِلَى قَوْمِهِ} بعد أن تلقى أمر ربه ووحيه {غَضْبَانَ أَسِفاً} مما رآهم عليه من الإنصراف عن عبادة الله تعالى؛ - الخالق الرازق، الضار النافع، السميع العليم - إلى عبادة صنم أخرس؛ لا يخلق ولا يرزق، ولا يضر ولا ينفع، ولا يبصر ولا يسمع {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} تعجلتم سخطه وغضبه وعذابه {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ} التي في يده، وفيها التوراة، التي تلقاها عن ربه ليبلغها لهم؛ وذلك ليتفرغ للنضال مع أخيه هارون؛ الذي استخلفه عليهم؛ وقد توهم أن هارون لم يقم بما استخلفه عليه، وأهمل في اتباع أوامره {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} فهال ذلك هارون؛ وخشي على نفسه من أخيه موسى، ورأى وضوح عذر موسى في هذا الاعتداء - رغم أن هارون كان مضطراً ومغلوباً على أمره - {قَالَ} هارون لموسى معتذراً {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي} بعد ذهابك {وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ} بما تفعله الآن معي {وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي لا تجعلني - بعدائك لي - في مصاف الكافرين ويؤخذ من هذه الآية أن حالة الغضب لا يصح أن تقاوم بالشدة؛ بل باللين، خصوصاً بين متحابين فانظر كيف أن هارون عليه السلام حينما قابل غضب أخيه وبأسه بلينه وهدوئه: سكن موسى وطلب لنفسه ولأخيه الغفران

151

{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} -[201]- التي وسعت كل شيء

152

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ} عبدوا {الْعِجْلَ} وهم اليهود {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا} غير ما أعد لهم في الآخرة من عذاب أليم مقيم

154

{وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} أي سكن؛ وبه قرأ معاوية بن قرة. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن موسى عليه السلام كان من أشد الناس غضباً، وأنه من شدة غضبه صك ملك الموت ففقأ عينه، وهي فرية إسرائيلية؛ نعوذ ب الله من الوقوع فيها {أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا} أي فيما نسخ فيها وكتب {هُدًى} من الله {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} يخافون بطشه وعقابه

155

{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} أي من قومه {لِّمِيقَاتِنَا} أي للوقت الذي ضربناه له للإتيان بهم ليعتذروا عن عبادة العجل، ويستغفروا مما جنت أيديهم {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الزلزلة الشديدة؛ وذلك لأنهم لم يفارقوا قومهم - حين عبدوا العجل - ولم ينهروهم على عبادته؛ وهم غير الذين سألوا الرؤية، وأخذتهم الصاعقة {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} محنتك وابتلاؤك؛ حين كلمتني وسمعوا كلامك، فطمعوا في رؤيتك. أخذها موسى عليه السلام من قوله تعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ} وقد فتنهم الله تعالى بعد أن ضلوا وأضلوا، وزاغوا وأزاغوا {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}

156

{إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} أي تبنا ورجعنا {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ} قرأ الحسن: «من أساء» من الإساءة {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} انظر كيف قيد الرحمة التي وسعت كل شيء بتقوى الله، وإيتاء الزكاة فاعلم أيها المؤمن أن أمامك طريقين؛ أيهما سلكت جوزيت من جنس عملك: فإما أن تشح بمالك وتضحي برحمة الرحيم الرحمن؛ الذي يطمع في رحمته كل إنسان، وإما أن تؤدي ما فرضه الله تعالى عليك من الزكاة؛ فتسعك رحمته، وتشملك مغفرته (انظر آية 14صلى الله عليه وسلّم من سورة الأنعام)

157

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} جاء في إنجيل برنابا - على لسان عيسى عليه السلام - ما نصه: «إن كلامكم لا يعزيني؛ لأنه يأتي ظلام حيث ترجون النور، ولكن تعزيتي هي في مجيء الرسول الذي سيبيد كل رأي كاذب، وسيمتد دينه ويعم العالم بأسره؛ لأنه هكذا وعد الله أبانا إبراهيم، وإن مما يعزيني أن لا نهاية لدينه؛ لأن الله سيحفظه صحيحاً حينئذ رفع الجمهور أصواتهم قائلين: يا ألله أرسل لنا رسولك، يا محمد تعال سريعاً لخلاص العالم» إصحاح 97 {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} وهو ما كانوا يحرمونه على أنفسهم - في الجاهلية - من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} كلحم الخنزير والميتة -[202]- والدم، وما كانوا يستحلونه من المطاعم والمشارب التي حرمها الله تعالى {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} أي يضع عنهم القيود والتشديد الذي كان على بني إسرائيل؛ بسبب أعمال عملوها، وذنوب ارتكبوها {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ} أي بمحمد عليه الصلاة والسلام {وَعَزَّرُوهُ} عظموه {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} وهو القرآن العظيم؛ وأكرم به من نور رب إن الهدى هداك وآيا تك نور تهدي بها من تشاء نور القلوب، وشفاء الصدور، وكلام الحكيم العليم، العزيز الرحيم {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ} الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ وأتى بما أعجز البلغاء، وأخرس الفصحاء وقد أرسله الله تعالى أميّاً؛ ليكون ذلك أذهب للريبة، وأبعد للشبهة؛ أرسله أمياً وهو أعلم العلماء، وأحكم الحكماء كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية، والتأديب في اليتم

159

{وَمِن قَوْمِ مُوسَى} يعني بني إسرائيل {أُمَّةٍ} جماعة؛ آمنوا بمحمد {يَهْدُونَ} الناس {بِالْحَقِّ} الذي تمسكوا به {وَبِهِ} أي بالحق {يَعْدِلُونَ} في أحكامهم فيما بينهم؛ فبه يعطون، وبه يأخذون، وينصفون من أنفسهم فلا يجورون. وقد ذهب قوم من المفسرين إلى أنها أمة فيما وراء الصين؛ وهو ليس بشيء

160

{وَقَطَّعْنَاهُمُ} أي فرقناهم {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً} الأسباط: أولاد الولد؛ وكانوا اثنتي عشرة قبيلة؛ من اثني عشر ولداً من ولد يعقوب عليه السلام {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ} طلبوا السقيا؛ لانعدام الماء في التيه {فَانبَجَسَتْ} فانفجرت {مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} بعدد الأسباط؛ والسبط: القبيلة من اليهود {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} كل سبط {مَّشْرَبَهُمْ} العين الخاصة بشربهم {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ} وهو كل ما منَّ الله تعالى به على عباده؛ من غير تعب ولا نصب {وَالسَّلْوَى} كل ما يتسلى به. وقيل: طائر، ويطلق أيضاً على العسل {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي من الرزق السهل، الحلال الطيب المباح. (انظر آيتي 172 من سورة البقرة. و58 من هذه السورة)

161

{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ} بيت المقدس {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} أي أمرنا حطة. وهي بمعنى: حط عنا ذنوبنا حطة {وَادْخُلُواْ الْبَابَ} أي باب القرية {سُجَّداً} مطأطئين الرؤوس، خاضعين لله الذي تفضل عليكم

162

{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} فلم يقولوا «حطة» بل قالوا: حنطة في شعيرة. ولم يسجدوا؛ بل زحفوا على أستاههم؛ ولم يقصدوا من وراء ذلك سوى المخالفة {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً} عذاباً

163

{وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} أي قريبة منه، راكبة لشاطئه «ميناء» قيل: هي أيلة؛ بين مدين والطور، وقيل: هي ساحل مدين {إِذْ يَعْدُونَ} يعتدون ويتجاوزون حدود الله تعالى {فِي السَّبْتِ} في يوم السبت - وهو يومهم المعظم في ديانتهم - وقد أمروا بعدم العمل فيه {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً} ظاهرة على وجه الماء؛ فتنة لهم وابتلاء؛ وإن الله تعالى ليبتلي المؤمن ليزداد أجراً بصبره، ويبتلي الكافر ليزداد عذاباً بكفره {كَذلِكَ} أي إتيان الحيتان وظهورها على وجه الماء في يوم السبت؛ الذي حرم فيه الصيد، وعدم إتيانها في الأيام الأخرى التي أبيح فيها؛ كذلك {نَبْلُوهُم} نشدد عليهم البلاء والاختبار والامتحان {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} بسبب فسقهم، وتركهم لأمر ربهم

164

{وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ} طائفة {مِنْهُمْ} من بني إسرائيل؛ لطائفة أخرى كانت تعظ الذين اعتدوا في السبت، وتقول لهم: احذروا مخالفة ربكم، والزموا أوامره. فقالت الطائفة الضالة لهذه الطائفة الآمرة بالمعروف {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} في الدنيا بأعمالهم {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ} يوم القيامة {عَذَاباً} إنما ننهاهم {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي نعظهم ليكون ذلك عذراً لنا عند ربنا؛ إذ قمنا بما يجب علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} بسبب وعظنا لهم

165

{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} أهملوه وتركوه واستمرأوا الكفر والمخالفة {أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوءِ} وهي الطائفة التي كانت تعظهم وتنهاهم {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} شديد البؤس {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} أي بخروجهم من طاعة الله تعالى إلى معصيته

166

{فَلَماَّ عَتَوْاْ} تكبروا {عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً} أي كالقردة في المهانة أو «قردة» على الحقيقة {خَاسِئِينَ} صاغرين مطرودين

167

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} أي أقسم وأعلم {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} أي على اليهود {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ} يقال: سامه خسفاً: إذا أولاه ذلاً {سُوءُ الْعَذَابِ} بالقتل، والأسر، وأخذ الجزية. فبعث الله تعالى عليهم سليمان، وبعده بختنصر؛ فأعمل فيهم القتل والسبي، وضرب الجزية على من بقي منهم؛ فكانوا يؤدونها إلى المجوس؛ حتى بعث الله تعالى نبينا محمداً فضربها عليهم؛ ثم بعث الله تعالى عليهم بعد ذلك أمة الألمان، فأرتهم من الذل والعذاب ألواناً لم يرها مخلوق من قبل؛ حتى أنهم ليجمعونهم بالآلاف ويطلقون عليهم الغاز الخانق، ويضعونهم في النيران أليس ذلك مما تأذن به المنتقم الجبار في سالف الأزمان؟ وسيظل اليهود طول العمر، وأبد الدهر؛ تحت نير الذل والعذاب {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}

168

{وَقَطَّعْنَاهُمُ} -[204]- فرقناهم {فِي الأَرْضِ أُمَماً} فرقاً {مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ} المؤمنون الذين آمنوا بمحمد وبما أنزل إليه {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ} أي الكافرون {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} أي امتحناهم بالنعم والنقم، والخصب والجدب، والغنى والفقر، والصحة والمرض {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلى ربهم، ويتوبون من ذنوبهم، ويؤمنون بعد كفرهم. لكنهم لم يفعلوا

169

{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} الخلف بالجزم: الأولاد الطالحون، وبفتح اللام: الصالحون {وَرِثُواْ الْكِتَابَ} التوراة عن آبائهم {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} العرض: المتاع. والأدنى: القريب، أو الأخس الأحقر. والمراد ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} وهكذا شأن الفجار الأشرار: يعملون كل ما يؤهلهم للنار، ويطمعون في المغفرة بلا عمل ولا استغفار {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ} أي مثل العرض الأدنى المذكور {يَأْخُذُوهُ} أيضاً؛ وهم في ذلك كمثل المذنب الذي يطمع في المغفرة، ولا يحاول ترك الذنوب؛ بل يصر عليها، ويداوم على فعلها. ومن المقطوع به: أنه «لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار» فكيف بالكبيرة مع الإصرار؟ {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الْكِتَابِ} وهو أخذ العهود عليهم بإقامة التوراة والعمل بما فيها، و {أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} فلا ينسبوا إليه ما لم يقله، ولا يطمعوا في مغفرته بغير توبة ولا عمل {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} أي ما في الكتاب {وَالدَّارُ الآخِرَةُ} وما فيها من نعيم مقيم {خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الله ويخشون عقابه

170

{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ} يستمسكون {بِالْكِتَابِ} ويعملون بما فيه. وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «والذين استمسكوا بالكتاب» {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} التي أمرناهم بإقامتها

171

{وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} قلعناه ورفعناه فوق رؤوسهم {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} الظلة: كل ما أظلك من سقف، أو سحاب {وَظَنُّواْ} تأكدوا {أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} لا محالة؛ حينئذٍ قلنا لهم {خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم} من الشرائع، والأوامر، والنواهي {بِقُوَّةٍ} بجد وعزم واهتمام {وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ} بالعمل

172

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} قائلاً لهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ} بأنك ربنا. وهذا من باب التمثيل والتخييل. والمعنى: أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته، والبراهين على وحدانيته، فشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها الله تعالى فيهم، وجعلها مميزة بين الضلالة والهداية فكأنه تعالى أشهدهم على أنفسهم، وقال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} وكأنهم {قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ} وهذا التمثيل شائع سائغ في لغة العرب وأشعارهم {أَن تَقُولُواْ} أي أشهدناكم على أنفسكم؛ لئلا تقولوا {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا} الإيمان {غَافِلِينَ} فلم نعلم عنه شيئاً

173

{أَوْ تَقُولُواْ -[205]- إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا} ب الله {مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} سرنا على سيرتهم، واتبعناهم في عباداتهم {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} من آبائنا

175

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} يا محمد {نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} قيل: هو رجل من بني إسرائيل؛ أوتي علماً غزيراً، وقيل: هو أميةبن أبي الصلت. وأعجب الأقوال: قول بعض المفسرين: إنه نبي من أنبياءالله؛ يقال له: بلعم، أو بلعام، وقد أنزل عليه كتاباً. وهو قول باطل؛ يرده العقل والنقل؛ فإن الله تعالى ليس كأحدنا: فيخطىء في اصطفاء عباده، واختيار أنبيائه؛ و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} أي كفر بها {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي إن الشيطان جعله تابعاً له {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} الهالكين؛ من غوى الفصيل: إذا هلك

176

{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أي بهذه الآيات؛ ووفقناه للعمل بما فيها {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ} سكن {إِلَى الأَرْضِ} أي إلى الدنيا، ورغب فيها، ومال إليها {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} واتباع الهوى من أشد الموبقات المهلكات؛ وهو إحدى موارد النار؛ فقد خلق الله تعالى الإنسان مزيجاً بين الخير والشر؛ وأبان له عن كليهما حق التبيين قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ثم ميزه بالعقل الذي يعقله عن الفجور المؤدي إلى النار، ويمهد له سبيل التقوى المؤدي إلى الجنة وما من إنسان - كائن من كان - إلا ويميز في نفسه بين الخير والشر، والطيب والخبيث؛ وقد تقل قدرته على هذا التمييز، أو تنعدم أصلاً؛ إذا كان مصاباً بفساد عقله، أو بذهابه غير أنه لا يمكن القول بأن ثمت مخلوقاً قد عدم التمييز بين الخير والشر انعداماً تاماً؛ وهو في تمام صحته، وكمال عقله. بل لا بد أن تكون لديه فكرة كاملة عن أن بعض الأعمال شر وبعضها خير؛ وإذا قلنا بغير ذلك فلماذا يستخفي عن الأعين حينما يتطلب هواه منه أمراً محذوراً غير مشروع؟ حتى الحيوان الأعجم فإنه يحس في قرارة نفسه ما هو شر، وما هو خير، وما هو مشروع، وما هو غير مشروع. أرأيت إلى القطة كيف استطاعت أن تميز بين ما هو مباح، وما ليس بمباح؛ فبينما هي تأكل ما تعطيه لها آمنة مطمئنة؛ إذا بها تفر فراراً بما تسرق أو تخطف، وتتوارى به عن الأعين؛ وتنظر إليك شزراً نظر الخائف المرتعب فالإنسان إذا ما اتبع هواه، ولم يستطع أن يقاوم في نفسه قوى الشر: فقد انحط بإنسانيته إلى مرتبة هي دون مرتبة البهائم أما إذا قاوم هواه، وحارب نفسه، وألزمها الخير المحض، وجنبها الإثم والشر: فقد ترقى -[206]- بها إلى مراتب الأملاك، وصار أهلاً لخلافة الله تعالى في أرضه، وخليقاً بتبوء جنته، والتقلب في نعمته {فَمَثَلُهُ} أي مثل من أخلد إلى الأرض واتبع هواه {كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} أو تتركه يلهث المعنى: أنه ضال سواء وعظته أم لم تعظه؛ كالكلب إن طردته فسعى لهث. وإن تركته على حاله آمناً هادئاً لهث. وهو تمثيل البلاغة، بادىء الروعة؛ يضرب لطالب الدنيا وحدها؛ فهو دائماً ذليل مهان؛ تابع لشهواته، عابد لملذاته {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} عليهم {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} يتدبرون فيها؛ فيؤمنون

177

{سَآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أي بئس المثل مثلهم {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} بالتكذيب، وتعريضها للعقاب الدنيوي، والعذاب الأخروي

178

{مَن يَهْدِ اللَّهُ} إلى دينه {فَهُوَ الْمُهْتَدِي} لأن الهداية جاءته تفضلاً من لدن العزيز الكريم {وَمَن يُضْلِلِ} يتركه بغير هداية {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وقد أضلهم الله تعالى بعد أن ضلوا وأضلوا قال تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ}

179

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} خلقنا {لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} خلقناهم ليؤمنوا بي وبرسلي؛ فكفروا بي وكذبوا رسلي. ومهدنا لهم سبيل الهدى؛ فاتبعوا الهوى، وأبنا لهم طريق الرشد؛ فأبوا إلا طريق الغي {لَهُمْ قُلُوبٌ} كسائر قلوب الناس؛ خلقناها لهم ليفقهوا بها؛ ولكنهم وضعوا عليها أكنة وأقفالاً تمنعها من الفهم؛ فأضحوا {لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ} خلقناها لهم للإبصار والاستبصار، وللتفرقة بين النافع والضار، وللنظر إلى دلائل قدرته تعالى بعين الاعتبار؛ لكنهم وضعوا عليها غشاوة فعموا عن رؤية الحق، وأصبحوا {لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ} خلقناها لهم للاستماع إلى النصح والرشد؛ لكنهم صموا عن سماع الهدى؛ فأمسوا {لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ} فحق عليهم وصف ربهم {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} سبيلاً من الأنعام، و {أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} عما ينجيهم

180

{وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى} سميت أسماؤه تعالى بالحسنى: لأنها حسنة اللفظ والمعنى، حسنة في القلب والسمع؛ كيف لا وهي تدل على اللطف والجود، والكرم، والرحمة، والرأفة، والود، والهداية {فَادْعُوهُ بِهَا} أي تقربوا إليه تعالى بها؛ واطلبوا منه ما تشاءون بأسمائه الكريمة: فيطلب الإنسان بكل اسم ما يليق به؛ كأن يقول: يا رحيم ارحمني، يا معز أعزني، يا غفار اغفر لي، يا رزاق ارزقني، يا قهار اقهر من ظلمني، يا تواب تب علي، يا هادي اهدني، وهكذا. وهذه الأسماء: صفات لذاته تعالى؛ إذ أن اسمه العظيم الأعظم هو «الله» وعلى ذلك كبار القوم؛ -[207]- ألا ترى إلى قوله جل شأنه «ولله» وهو المسمى «الأسماء» أي التسميات التي يتسمى بها، أو الصفات التي يتصف بها (انظر آية 110 من سورة الإسراء) {وَذَرُواْ} اتركوا {الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} أي يميلون فيها، ويتركون القصد؛ كما فعل المشركون في تسمية أوثانهم: فاشتقوا اللات من «الله» والعزى من «العزيز»

181

{وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ} جماعة {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي يحكمون بالحق عدلاً

183

{وَأَمْلَى لَهُمْ} أمهلهم {إِنَّ كَيْدِي} الكيد: المكر. والمراد به: العذاب. أي إن عذابي {مَتِينٌ} قوي شديد

184

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ} أي ليس بصاحبهم محمد {مِّن جِنَّةٍ} جنون. وكانوا يقولون: شاعر مجنون {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} بين الإنذار واضحه

185

{أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ} نظر اعتبار واستبصار {فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ملكه تعالى {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} فيهما؛ وأن كل ذلك يدل على وجود الله تعالى ووحدانيته، ووجوب الإيمان به، والتصديق برسله {وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} فيقبضوا على ما هم عليه من تكذيب وكفر؛ فليسارعوا في الإيمان، قبل فوات الأوان وإذا لم يؤمنوا بما سقناه لهم من الدلائل {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي فبأي تخويف وترهيب، وتبشير وترغيب؛ بعد الذي جاء به محمد لهدايتهم يهتدون؟

186

{مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ} أي من يتركه ربه بغير هداية: فلن يستطيع أحد هدايته. وإضلاله تعالى لا يعدو أن يتركه في طغيانه؛ ما دامت أمامه سبل الهداية فلم يحاول سلوكها {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} العمه: التحير والتردد

187

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ} متى {مُرْسَاهَا} إرساؤها؛ أي إثباتها وإقرارها ووقتها {لاَ يُجَلِّيهَا} لا يظهرها {لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} وحده لا يشركه أحد - من ملك أو رسول - في ذلك {ثَقُلَتْ} عظمت {فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي على أهلهما؛ لما ينتظرانه فيها من أهوال {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} فجأة {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} أي كأنك عالم بها {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ} وحده

188

{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً} ألحقه بها {وَلاَ ضَرّاً} أدفعه عنها {إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} أي يقويني ويعينني عليه {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} أي لو كنت أعلم الغيب لتحريت مواضع النجاح، ومواطن النجاة؛ ولما كنت غالباً تارة، ومغلوباً أخرى (انظر آية 50 من سورة الأنعام)

189

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} آدم عليه السلام {وَجَعَلَ مِنْهَا} من جنسها {زَوْجَهَا} حواء {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} ليستأنس بها، ويطمئن إليها {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا} أي جامعها {فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ} ثقل حملها {دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} أي نسلاً صالحاً

190

{جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ} المعنى: -[208]- إنه كان من نسل آدم عليه السلام من كفر ب الله تعالى، وجعل له شركاء في العبادة؛ والتثنية بالنسبة للذكر والأنثى

191

{أَيُشْرِكُونَ} به في العبادة {مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} يخلق الله تعالى الحجارة - التي هم من جنسها - ويخلق الإنسان منها الأصنام التي يعبدها

192

{وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} أي لا تستطيع الأصنام {لَهُمْ} أي لعابديهم {نَصْراً} على عدوهم {وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} لو أراد أحد الناس بهم سوءاً؛ وها هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد حطمها تحطيماً، وتركها جذاذاً؛ وقال لعبدتهم {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}

193

{وَإِن تَدْعُوهُمْ} أي وإن تدعوا هذه الآلهة {إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ} لأنهم لا يسمعونكم، ولا يرونكم {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} أي سيان عندهم دعاؤكم وصمتكم؛ فكيف يهديكم إلى الرشاد؛ من إذا دعي إليه: استوى عنده دعاؤكم وصمتكم؛ لأنه لا يسمع ولا يعقل

194

{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ} تعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} مملوكون له؛ كما أنتم له مماليك {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} يجيبوكم لما دعوتموهم إليه. وإلا فكيف تعبدون ما لا يسمع ولا يعقل؟

195

{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ} كأرجلكم {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ} كأيديكم {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ} كأعينكم {أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} كآذانكم؟ فإذا كانوا لم يبلغوا بعد حد العابدين المخلوقين؛ فكيف تسوونهم بأحسن الخالقين؟ {فَلاَ تُنظِرُونِ} تؤجلون وتمهلون

199

{خُذِ الْعَفْوَ} العفو: ضد الجهد؛ أي تسهل في معاملة الناس من غير كلفة، ولا تطالبهم بما يشق عليهم، أو {خُذِ الْعَفْوَ} أي الزيادة. والمعنى: لا تأخذ للصدقات إلا مما زاد عن حاجتهم. قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ} وقيل: إنها نسخت بعد نزول آية الزكاة {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} المعروف والجميل من الأعمال. وقد ورد عن الرسول الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}: هو أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك وحقاً إن من يرى ما فعله الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام بأعدائه؛ بعد أن أوسعوا في الكيد له، وأفرطوا في إيذائه والنيل منه إن من يرى ذلك الإيذاء والبلاء، ويرى بعد ذلك معاملته لهم؛ بعد أن أمكنه الله تعالى منهم، ودخل مكة - فاتحاً ظافراً - بجيش عرمرم لجب؛ لم تر جزيرة العرب مثله من قبل؛ يكتسح مكة، وتطؤها خيله؛ والبلاد جميعاً في قبضته وتحت رحمته؛ وقد شملها - مع القدرة - عفوه، وعمها - مع القوة - عدله فلم تثره عليهم حفيظة، أو تحفزه على الفتك بهم ضغينة في حين أن مثلهم قليل عليه هلاك النفوس، وقطع الرؤوس -[209]- انظروا إلى أبي سفيانبن حرب؛ وقد فعل بالمؤمنين ما فعل، وآذاهم أبلغ الإيذاء، وأنزل بهم صنوف البلاء: فهو الذي نكل بهم أشد التنكيل في أحد، وزلزلهم في الخندق، وهاج عليهم القبائل، وحرض عليهم الكفار والمنافقين وانظروا عفو الرسول عنه، بعد أن أمكن الله منه: فإن عفوه عليه الصلاة والسلام لم يقف عند حد فك أسره وإنجائه من الموت فحسب؛ بل قد منَّ عليه بما أعظم شأنه، ورفع رأسه: فقد قال عند دخول مكة «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» فأي معروف هذا، وأي فضل، وأي عفو؟ ورب قائل يقول: إن إكرام أبي سفيان وتكريمه، والعفو عنه: إنما كان لرفعته في قبيلته، وكرامته على قومه. فها هو ذا «وحشي» ذلك العبد الحبشي، الذي لا أهل له يدفعون عنه، ولا عشيرة تؤويه، ولا قبيلة تحميه؛ وهو الذي أدمى قلب المسلمين، بقتل إمام المجاهدين: عم الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام «حمزة» سيد الشهداء؛ وقد جيء بوحشي إلى رسولهالله؛ وقد أسلم - أو تظاهر بالإسلام وقتذاك خشية القتل - ولا شيء حينئذٍ أحب إلى سائر المسلمين من أن يروا دمه؛ كما رأوا أحشاء حمزة وقد طعنه وحشي بحربته خيانة وغدراً فلم يكن شأن الرسول معه سوى أن قال له: «غيب عني وجهك فلا أرينك» فأي مثل هذا لضبط النفس، والعفو الجميل وإننا لو أردنا أن نورد طرفاً مما كان عليه من كريم الخصال، وحميد الفعال: لما وسعتنا الأسفار الضخام؛ فتبارك الذي خصه بمحاسن الأخلاق (انظر آية 4 من سورة القلم)

200

{وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} نزغ الشيطان بينهم: أفسد وأغرى

201

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ} الطائف: العسس. شبه به بدء وسوسة الشيطان؛ لأنه عليه اللعنة يأتي متلصصاً؛ وبعد أن يتمكن من ضحيته: يتحكم فيها بأمرها بالمنكر، ونهيها عن المعروف

202

{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} أي يكونون مدداً لهم، ويعضدونهم

203

{قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} أي هلا اخترتها واختلقتها {هَذَا بَصَائِرُ} أي هذا القرآن بصائر: وهو جمع بصيرة؛ وهي الحجة الواضحة

204

{وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ} حال قراءته في الجهر {وَأَنصِتُواْ} حال قراءته في السر. وهذا في غير الصلاة؛ إذ «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وذهب بعضهم إلى أن الاستماع والإنصات واجبان على المأموم عند قراءة الإمام

205

{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} حين استماعك للقرآن وما فيه من عظات {تَضَرُّعاً} تذللاً وتخشعاً وتواضعاً {وَخِيفَةً} من أن يعاقبك مولاك على تقصير -[210]- وقع منك {وَدُونَ الْجَهْرِ} أي أقل من الجهر؛ لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص، وأقرب إلى حسن التفكر {بِالْغُدُوِّ} هو ما قبل طلوع الشمس {وَالآصَالِ} هو ما بعد العصر إلى المغرب. والمراد: واذكر ربك في كل وقت

206

{إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} هم الملائكة.

سورة الأنفال

سورة الأنفال بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} الأنفال: الغنائم التي تزيد عن حصة المجاهدين - وهي الخمس من كل ما غنموه - وقيل: هو ما جاء من غير قتال؛ كفرس، أو عبد، أو سلاح. وقيل: هي زيادة كان يزيدها الرسول عليه الصلاة والسلام لبعض المجاهدين: تشجيعاً لهم، وحثاً لغيرهم؛ فسألوا عن ذلك؛ فقيل لهم {قُلِ الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ} يضعها الرسول بأمر الله تعالى حيث يشاء {فَاتَّقُواْ} أي أصلحوا الأحوال التي بينكم. كقوله تعالى {بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي بمضمراتها

2

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} الكاملو الإيمان هم {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فزعت لذكره؛ استعظاماً له، وتهيباً من جلاله وعزه وسلطانه {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} على إيمانهم ويعتمدون، ويستعينون

3

{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} في أوقاتها {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} فلا يخافون فقراً، ولا يخشون فاقة؛ لأنهم {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}

4

{أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} فتدبر أيها المؤمن الكريم هذه الآية، وسائل نفسك: هل أنت مؤمن حقاً؟ وهل إذا ذكر الله أمامك: وجل قلبك؟ وإذا تليت عليك آياته: زادتك إيماناً؟ وهل أنت تنفق مما رزقكالله، كما أمركالله؟ فإن كنت تفعل ذلك: فأنت من السعداء الناجين، فاهنأ بما آتاك الله تعالى من فضل، وما وهبك من خير وإن كنت في واد والمؤمنون في واد آخر؛ فالجأ إلى الرحيم الودود، واجأر إلى اللطيف الحميد؛ ليتم إيمانك، ويثبت يقينك، ويوفقك لإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوثوق بما عندالله؛ فنعم القريب، ونعم المجيب {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} في جناته {وَمَغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وهو ما أعده الله تعالى لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب، وهنيء العيش

5

{كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ} بالمدينة إلى بدر {بِالْحَقِّ} الذي أمر به الله {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} ذلك الخروج. المعنى: إن إصلاح ذات البين، ووجل القلوب عند ذكر المحبوب، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: خير لكم عند ربكم؛ كما أن إخراج محمد عليه الصَّلاة والسَّلام من بيته كان خيراً له

6

{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} مجاهدة العدو {بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} لهم النصر؛ بوعد الله تعالى به. وذلك أنهم خيروا بين العير والنفير، فاختاروا العير {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ} حين تأمرهم بالقتال {إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} وكان ذلك في وقعة بدر

7

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ} وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام في تجارة عظيمة، وخرج أبو جهل بجميع أهل مكة لتلقي العير، والمحافظة عليها؛ ونزل جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام؛ فقال: يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين: إما العير، وإما قريشاً. فاستشار الرسول أصحابه؛ فاختاروا العير لخفة الحرب، وكثرة الغنيمة. وهذا معنى قوله تعالى {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} والشوكة: السلاح. فقام عند ذلك أبو بكر، وعمر، وسعدبن عبادة، والمقدادبن عمرو، وسعدبن معاذ؛ رضي الله تعالى عنهم، وقالوا فأحسنوا القول، وكان مما قاله المقدادبن عمرو: يا رسول الله إمْضِ إلى حيث أمرك الله فنحن معك؛ والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لئن سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك دونه حتى تبلغه ففرح رسولالله بذلك ودعا لهم بخير؛ وقال: «سيروا على بركة الله تعالى» وكان ما كان مما هو مدون في كتب السير.

9

{فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} يقال: ردفه: إذا تبعه. وأردفته إياه: إذا أتبعته

10

{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} أي ما جعل ذلك الإمداد {إِلاَّ بُشْرَى} لكم {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ} بالكثرة، ولا بالمعاونة؛ وإنما هو في الحقيقة لا يكون {إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} ينصر الأقل الأذل، على الأكثر الأعز - متى شاء - بإرادته وقوته {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} قوي غالب، لا يغلب أبداً {حَكِيمٌ} في سائر أموره وتقديراته؛ فإذا قدر النصر فلمنة، وإذا قدر الهزيمة فلحكمة

11

{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} النوم {أَمَنَةً} أمناً لكم؛ إذ أنه من المعلوم أن الخائف لا ينام؛ ولكن الله تعالى ربط على قلوبهم، وحال بينهم وبينها؛ فأمنوا في موطن الخوف، وخاف الكافرون في موضع الأمن والنعاس في القتال: أمن منالله، وفي الصلاة: رجز من الشيطان {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} قيل: كانوا على غير ماء، وأصبحوا مجنبين؛ فنزل المطر كالسيل؛ فشربوا وتطهروا {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ -[212]- الشَّيْطَانِ} بعد أن وسوس إليهم في منامهم بما أصبحهم مجنبين {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} يقويها بالصبر؛ وأنهم قد أصبحوا متطهرين {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} عند لقاء العدو، قيل: كانوا يتنقلون في حربهم على كثبان من رمل تسوخ فيه الأقدام؛ فتلبد الرمل من الماء وتثبت عليه أقدامهم عند اللقيا

12

{وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} البنان: أطراف الأصابع، أو هي الأصابع كلها؛ وذلك لجعلهم عاجزين عن إمساك السيوف، ومقاتلة المسلمين مرة ثانية

13

{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ} خالفوا وعادوا

14

{ذلِكُمْ} القتل والأسر والذل {فَذُوقُوهُ} أيها الكافرون في الدنيا {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ} في الآخرة {عَذَابَ النَّارِ} وغضب الجبار

15

{زَحْفاً} مجتمعين مهاجمين

16

{إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ} أي جاعلاً القتال حرفة له، متقناً لها؛ وقد فر ليكر، وتظاهر بالهزيمة، ليفوز بالغنيمة {فَقَدْ بَآءَ} رجع {بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} وشتان بين من رجع بالفوز والغنيمة، أو الأجر والشهادة؛ وبين من «باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير»

17

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} أي لم تقتلوا من قتل من الأعداء بأيديكم ورماحكم {وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} بأيدي ملائكته {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وذلك حين رمى سيد الكونين صلوات الله تعالى وسلامه عليه جيوش المشركين بقبضة من تراب، وقال: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه منها، ولم يستطع الإبصار؛ وتسبب من ذلك هزيمتهم ونصر المؤمنين هذا وقد استدل كثير من الفضلاء بهذه الآية على أن سائر أفعال الخلق المكتسبة؛ هي من الله وحده؛ فقد نفي عنهم الفعل والإنجاز؛ ألا ترى إلى قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فنفى عنهم القتل، وعن الرسول عليه الصلاة والسلام الرمي؛ وقد حصل كلاهما؛ فكذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة: من الله الإنشاء والإنجاز بالتسبيب، ومن الخلق الاكتساب بالقوى. وقد فاتهم أنه مما لا خلاف فيه أن سائر أعمال الخير مصدرها من الله تعالى، أما أعمال الشر فهي من الإنسان وحده؛ قال تعالى: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} وقد نسب الله تعالى إلى نفسه قتل المشركين ورميهم بالحصباء؛ وهما خير وحسنة وإذا قلنا بغير ذلك: كانت أعمال الكفار أيضاً: من الله إنشاؤها وإنجازها؛ وهذا ما لم يقل به مؤمن {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} {وَلِيُبْلِيَ} ينعم ويعطي {الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ} من فضله {بَلاءً حَسَناً} عطاءً كثيراً من الغنائم {ذلِكُمْ} النصر والغنيمة حق {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ} مضعف

19

{إِن تَسْتَفْتِحُواْ} أي إن تطلبوا القضاء أيها الكفار -[213]- {فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ} القضاء بهلاككم {وَإِن تَنتَهُواْ} ترجعوا عن الكفر والحرب {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} في الدنيا والآخرة {وَإِن تَعُودُواْ} إلى النفاق والشقاق {نَعُدْ} إلى قتلكم وتشريدكم

21

{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أي قالوا: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم

22

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ} أي إن شر المخلوقات التي تدب على وجه الأرض - ومنها الإنسان - {الصُّمُّ} عن سماع الحق {الْبُكْمُ} عن النطق بكلمة التوحيد. شبه تعالى الكفار بالبهائم، بل بشرّها وفي ذلك كل البلاعة، ونهاية الإعجاز: إذ أن الكافر لا يسمع الحق، والبهائم لا تسمعه، ولا ينطق بالخير، والبهائم لا تنطق به، ويأكل والبهائم تأكل؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} بقي أن الإنسان يؤذي ويضر، والبهائم لا تؤذي ولا تضر فكيف لا يكون بعد هذا شراً من البهائم؟

24

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ} أجيبوه {وَلِلرَّسُولِ} محمد صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ بأن تطيعوه {إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} أي إذا دعاكم للإيمان الذي به تحيا النفوس، وبه تحيون الحياة الباقية أو {إِذَا دَعَاكُم} للجهاد وفي الجهاد حياتكم؛ وإلا فالموت والويل لمن يمكن أعداءه من نفسه، ومن دينه، ومن وطنه {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} قد أريد بالقلب هنا: العقل. قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} أي إن الله تعالى يحول بين المرء وعقله؛ فيعمل بغير ما يمليه عليه؛ وقد حال الله تعالى - في الجهاد - بين المؤمنين وعقولهم؛ وكذلك حال أيضاً بين المشركين وعقولهم؛ قال تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} فلو لم يحل تعالى بين المؤمنين وقلوبهم: لانهزموا رعباً لكثرة المشركين وقوتهم، ولو لم يحل أيضاً بين المشركين وقلوبهم: لما استهانوا بالمؤمنين وأمكنوهم من أنفسهم؛ وذلك {لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} وقد ذهب كثير من المفسرين - أثابهم الله - إلى أن معنى هذه الآية: أن الله تعالى يحول بين الكافر والإيمان وهو قول ظاهر البطلان؛ لا يجوز نسبته إلى الله تعالى وإنما أريد بالقلب هنا العقل كما بينا (انظر آيتي 110 من سورة الأنعام، و200 من سورة الشعراء)

25

{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً} عذاباً {لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} وذلك لأن العذاب يصيب الذين ظلموا، والذين لم يظلموا؛ لأن الظالم يهلك بظلمه وعصيانه، والذي لم يظلم يهلك لعدم منعه الظالم من ظلمه، وتركه إقامة الحد عليه

28

{وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} أي محنة من الله؛ ليختبركم كيف تحافظون فيهما على حدوده، وتتجنبون محارمه (انظر آية 11 من سورة النساء)

29

{يِاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} الفرقان: -[214]- النصر والبرهان، ولعل المراد بذلك: يجعل لكم عقلاً راجحاً تفرقون به بين الحق والباطل، وبين الخير والشر وبين النفع والضر {وَيُكَفِّرْ} يمح

30

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يكيدوا لك {لِيُثْبِتُوكَ} ليحبسوك

31

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} قالوا هذه القالة؛ وحينما تحداهم بقوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} ركنوا إلى الفرار وولوا الأدبار

32

{وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} لقد وصف الله تعالى هؤلاء البهم بأدق ما يوصف به أمثالهم: حيث قال: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وكيف لا يكون كالأنعام - بل أسوأ حالاً من الأنعام - من يقول هذا القول؟ وكان الأليق بمن يتصف بالآدمية والإنسانية؛ أن يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، ووفقنا إلى اتباعه

33

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} وقد جرت عادته تعالى ألا يعذب أمة إلا بعد إخراج نبيها والمؤمنين منها {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قيل: كان المشركون يقولون عند طوافهم بالبيت: غفرانك غفرانك. وقيل: أريد بالمستغفرين: المؤمنين المستضعفين؛ وهو كقوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وقد ذهب المفسرون إلى أنه كان فيهم أمانان: نبي الله تعالى والاستغفار؛ فذهب النبي بموته، وبقي الاستغفار. وقد فاتهم أن الذي ذهب من الأمانين هو الاستغفار؛ لا الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ إذ لم يبق الآن مستغفر؛ وإذا استغفر إنسان: فاستغفاره في حاجة إلى استغفار أما الرسول فهو بين ظهرانينا - بل بين جوانحنا - إلى يوم نلقى الله؛ ممتعين باستغفاره لذنوبنا، وشفاعته لنا إن شاء الله قال: «تعرض علي أعمالكم؛ فإن وجدت خيراً حمدت الله، وإن وجدت شراً استغفرت لكم»

34

{وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} هو تأييد لما تقدم: أي لولا وجودك فيهم، ووجود المستغفرين بينهم: لعذبهم الله تعالى؛ لأنهم مستحقون للعذاب فعلاً؛ بسبب أنهم {يَصُدُّونَ} يمنعون المؤمنين {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يمنعونهم عن دخوله، والطواف به {وَمَا كَانُواْ} أي وما كان هؤلاء المشركون الصادون {أَوْلِيَآءَهُ} أي لا ولاية لهم على المسجد الحرام حتى يمنعوا الناس من الطواف به {إِنَّ} ما {أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ} الذين يخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب

35

{وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ} أي دعاؤهم {عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً} صفيراً {وَتَصْدِيَةً} تصفيقاً؛ وقد كانت قريش يطوفون بالبيت عراة؛ يصفقون ويصفرون؛ كما يفعل اليوم بعض من يدعون الولاية والجذب في كثير من مجالسهم -[215]- المختصة بذكر الله تعالى وعبادته

36

{فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} لأنهم لن ينالوا ما يبتغونه؛ وسيتم الله تعالى نعمته بإكمال دينه {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} في الدنيا؛ بالقتل وذهاب الأموال، والخزي

37

{لِيَمِيزَ} يفصل {الْخَبِيثَ} الكافر {مِنَ الطَّيِّبِ} المؤمن؛ فيجعل الخبيث في نيران الجحيم والطيب في جنات النعيم أو هو عام في كل شيء: في العبادات، والمعاملات، والنفقات والصدقات، وفي سائر الأعمال التي يخبثها الرياء، والأذى، والمن. ويطيبها الإخلاص في الطاعات، وتطهير السر والعلن {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ} يجمعه ويجعله متراكماً

38

{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ} يرجعوا عن الكفر {يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} ما قد مضى من ذنوبهم؛ لأن الإيمان يجب ما قبله {وَإِنْ يَعُودُواْ} إلى الكفر بعد انتهائهم عنه {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} أي طريقتنا في معاملة الكافرين؛ وهي إهلاكهم واستئصالهم؛ فكذا نفعل بهم

39

{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} حتى لا يكون شرك {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} عن الكفر {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيهم عليه

40

{وَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإيمان، وبان منهم العدوان {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ} ناصركم ومعينكم

41

{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ} من مال الكفار في القتال {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} يأمر فيه تعالى بما يشاء؛ وأربعة الأخماس للمحاربين الغانمين؛ وقد قسم الله تعالى الخمس على خمسة {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} قرابته {وَالْيَتَامَى} أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم {وَالْمَسَاكِينِ} ذوي الحاجة من المسلمين {وَابْنِ السَّبِيلِ} الذي انقطع به الطريق في السفر {إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أي وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا محمد من الآيات والمعجزات، والملائكة الذين أنزلناهم لنصرته {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} يوم النصر، وهو يوم بدر؛ وسمي «يوم الفرقان» لأنه يوم فرق الله تعالى به بين باطل المشركين، وحق المؤمنين

42

{إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} جانب الوادي القريب وهو من الدنو {وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} جانب الوادي البعيد {وَالرَّكْبُ} أي ركب المشركين {أَسْفَلَ مِنكُمْ} في مكان منخفض؛ مما يلي البحر {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ} أنتم والأعداء، على هذا اللقاء {لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن} تم هذا التوافق {لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} وهو نصر الإسلام، ومحق الكفر، وإعلاء كلمة الله تعالى: -[216]- {لِّيَهْلِكَ} ليكفر {مَنْ هَلَكَ} من كفر {عَن بَيِّنَةٍ} حجة واضحة؛ هي انخذالهم - وهم الأكثرون الأقوياء وانتصار المؤمنين عليهم - وهم الأقلون الضعفاء - {وَيَحْيَى} يؤمن {مَنْ حَيَّ} من آمن {عَن بَيِّنَةٍ} حجة ظاهرة. وأي حجة أَبين وأظهر من غلبة الضعيف للقوي وانهزام الجيش اللجب، ذي السطوة والقوة. أمام شرذمة لا حول لها ولا طول إلا ب الله ذي العزة والمنعة ولم تكن البينة في انتصار الضعفاء على الأقوياء فحسب؛ بل لقد رأى المسلمون - وهم الأقلون - الكافرين قليلاً - وهم الأكثرون - ورأى الكافرون المسلمين كثيراً؛ فانخلعت قلوبهم، وأمكن الله تعالى منهم ولم تكن بينة الله تعالى - التي جعلها فيصلاً بين الكفر والإيمان - قائمة على انتصار الضعفاء على الأقوياء، ورؤية الأقلين للأكثرين قليلاً، والأكثرين للأقلين كثيراً؛ لم يكن هذا وحده؛ بل رأى المسلمون والكافرون في هذه المعركة جنود الله تعالى من الملائكة جهاراً تنكل بالكافرين تنكيلاً، وتحصد عتاة المشركين وسراتهم حصداً؛ ولقد كان المؤمن يقصد الكافر بسيفه؛ فتطيح رأس الكافر قبل أن يصل سيف المؤمن إلى عنقه

43

{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ} أي يريك الكفار {فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} فسررت واطمأننت لذلك، وأخبرت أصحابك فسروا واطمأنوا {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ} جبنتم {وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} أي لترددتم بين الثبات والفرار {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} بما أراك في منامك؛ مما تقوى به قلوبكم، وتشتد به عزائمكم {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بمكنونات القلوب وما خفي فيها

44

{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ} في القتال {فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} كما أراكهم في منامك {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} قلة تزيد عن قلتكم؛ ليطمعوا فيكم، ويقدموا على قتالكم، ولا يحجموا عن حربكم؛ وكان ذلك قبل الالتحام؛ فلما التحم الفريقان أراهم إياكم مثليهم؛ قال تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}

46

{وَلاَ تَنَازَعُواْ} تتنازعوا {فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي تضعفوا وتذهب قوتكم، وتدول دولتكم

47

{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً} طغياناً {وَرِئَآءَ النَّاسِ} أي رياء وهم أهل مكة حين نفروا لحماية العير؛ فأتاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم. فأبى أبو جهل، وقال: حتى نقدم بدراً، وننحر بها الجزور، ونشرب الخمور، وتعزف القيان؛ ونطعم العرب - فذلك بطرهم ورياؤهم الناس بإطعامهم - فوافوها: فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان؛ فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم: بطرين، طربين، مرائين {وَيَصُدُّونَ} يمنعون {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه

48

{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} التي عملوها في معاداة الرسول {وَقَالَ} لهم الشيطان؛ تقوية لقلوبهم {لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ -[217]- مِنَ النَّاسِ} وقد ظهر لهم الشيطان على صورة سيد الناحية التي تم فيها القتال {وَإِنِّي جَارٌ} أي مجير {لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ} تلاقى الجمعان {نَكَصَ} رجع الشيطان {عَلَى عَقِبَيْهِ} هارباً {وَقَالَ} وذلك حين رأى إبليس اللعين، الملائكة المقربين؛ يضربون الكفار مع المسلمين؛ فقال: {إِنَّي أَرَى} بعيني رأسي {مَا لاَ تَرَوْنَ} أنتم {إِنَّي أَخَافُ اللَّهَ} كذب اللعين في هذا القول؛ ولكنه قاله حينما رأى ألا حول له ولا قوة في هذا اليوم: فركن إلى الفرار، وولى الأدبار

49

{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} وهم الذين أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفران {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شرك ونفاق {غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} يعنون أن المسلمين اغتروا بدينهم؛ فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر، إلى زهاء ألف ثم قال تعالى رداً عليهم {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} يعتمد عليه، ويلجأ إليه {فَإِنَّ اللَّهَ} ناصره ومعينه؛ لأنه تعالى {عَزِيزٌ} غالب لا يغلب {حَكِيمٌ} في صنعه (انظر آية 81 من سورة النساء)

50

{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ} يقبضون أرواحهم بأمر ربهم؛ فلا ينزعونها برفق؛ بل {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} بمقامع من حديد؛ تعذيباً لهم يقال لهم في الآخرة {ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} جزاء كفركم وعنادكم

52

{كَدَأْبِ} كشأن وعادة {آلِ فِرْعَوْنَ} في كفرهم وعنادهم، وتعذيبهم بعد موتهم {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} أهلكهم في الدنيا بسببها

53

{ذلِكَ} العذاب والانتقام {بِأَنَّ} بسبب أن {اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} أي إنه لا يجوز في حكمته تعالى أن يسلب قوماً نعمة أنعمها عليهم؛ إلا إذا استوجبوا بما ارتكبوه من إثم ونعمته تعالى التي أنعمها على قريش: هي بعثة الرسول إليهم؛ فلما غيروها بالإيذاء، والإخراج، والتكذيب، والمحاربة: غير الله تعالى نعمته عليهم بإهلاكهم يوم بدر؛ كما فعل بالأمم الماضية قبلهم؛ ممن عصى وطغى وبغى.

55

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ} الدواب: كل ما يدب على وجه الأرض؛ وأكثر ما يطلق على العجماوات، وقد نزل الله تعالى بالإنسان الكافر إلى مصاف الحيوان؛ بل هو - في الحقيقة - شر من الحيوان

57

{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} فإن تصادفنهم {فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} فاقتلهم شر قتلة، واضربهم الضربة القاضية؛ التي تجعل من وراءهم يفرون مشردين، ويتفرقون خائفين جزعين

58

{وَإِمَّا} وإن {تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ} بينك وبينهم عهد {خِيَانَةً} للعهد، ونقضاً للمواثيق التي بينكما {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} أي اطرح إليهم عهدهم، وعرفهم أنك قد قابلت نقضهم للعهد، بنقضك له أيضاً {عَلَى سَوَآءٍ} لتكونوا مستوين في معرفة نقض العهد؛ وليكون ذلك بمثابة إعلان الحرب عليهم؛ فلا يؤخذون على غرة، ويكون ذلك منافياً لما عرف عن الإسلام والمسلمين من الفضائل والشمائل، وتوافر المروءة؛ حتى في عداوتهم {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} ولو مع أعدائهم ـ؛ فقد نال المسلمون بأخلاقهم - من أعدائهم - أكثر مما نالوه بسيوفهم؛ فتعالى المربي الأعظم

59

{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أنهم {سَبَقُواْ} أي فاتوا الله تعالى، ونجوا من عقابه {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} أي لا يفوتونه؛ بل سيدركهم عقابه في الدنيا، وعذابه ومقته في الآخرة

60

{وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ} من عجب أن يعد لنا العدو السيف والسنان، ونعد له أطراف اللسان؛ وهيهات هيهات أن يكسب اللسان حقاً أكسبه السنان؛ وها هي ذي تعاليم الرحمن، ومن هو أعلم بالإنسان من الإنسان؛ تقول: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ} فليتنبه الغافل، وليتدبر العاقل {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} ربطها وحبسها للجهاد في سبيل الله تعالى. والرباط من الخيل: الخمس فما فوقها، وتجمع على «ربط» وبها قرأ الحسن وعمرو بن دينار وغيرهما {تُرْهِبُونَ بِهِ} تخوفون برباط الخيل {عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وهم اليهود وكفار مكة} أي وأعداء آخرين غير هؤلاء الأعداء؛ وهم المنافقون. وقيل: هم فارس والروم. وقيل: هم الجن؛ لقوله تعالى: {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} وهو ينطبق على المنافقين أيضاً؛ لأنهم غير معلومين؛ وقد ورد عن الرسول الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «إن الجن لا تقرب داراً فيها فرس، وأنها تهرب من صهيل الخيل»

61

{وَإِن جَنَحُواْ} مالوا {لِلسَّلْمِ} للمسالمة وعدم الحرب {فَاجْنَحْ لَهَا} فمل إليها؛ أي إلى السلم كما مالوا إليه {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} وحده {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لقولك {الْعَلِيمُ} بحالك (انظر آية 81 من سورة النساء)

62

{وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} يمكروا ويغدروا بك. -[219]- {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} كافيك

65

{يأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} التحريض: المبالغة في الحث على الأمر {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} على مرضات ربهم وطاعته، يجاهدون أعداء الله تعالى ابتغاء جنته {يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} نتيجة العدد في الفرضين واحدة؛ وهو أن الواحد من المؤمنين الصابرين؛ يغلب العشرة من الكافرين؛ وإنما كررها تعالى ليبين لنا أن زيادة العدد أو نقصانه لا يؤثران في الغلبة: فسواء كان المجاهد واحداً أو ألفاً؛ فإن الواحد يغلب العشرة، والألف يغلب العشرة الآلاف؛ مع اشتراط الصبر في هذا، والكفر في ذاك {بِأَنَّهُمْ} أي تلك الغلبة بسبب أن الكافرين {قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} لأنهم يقاتلون بغير احتساب وطلب ثواب؛ فيقل ثباتهم، وتضعف عزيمتهم. وقد كان ذلك عند بدء الإسلام، وقلة معتنقيه، وكثرة أعدائه ومحاربيه؛ فلما نما الإسلام، وزاد المسلمون: خفف الله تعالى عنهم:

66

{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} بقوته ومعونته {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} بالعون والنصر، والإمداد

67

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} ما صح وما جاز {أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} الإثخان: كثرة القتل؛ وذلك حتى يذل الكفر بإشاعة القتل في أهله، ويعز الإسلام والمسلمين بالاستيلاء والقهر؛ ثم يكون بعد ذلك الأسر. وقد روي أن النبي أتى بسبعين أسيراً - فيهم العباس عمه وعقيل - فاستشار النبي أصحابه فيهم؛ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: قومك وأهلك، استبقهم لعل الله يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك. وقال عمر رضي الله تعالى عنه: كذبوك وأخرجوك، فقدمهم واضرب أعناقهم؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر، وإن الله قد أغناك عن الفداء: مكن علياً من عقيل، وحمزة من العباس، ومكني من فلان - لنسيب له - فلنضرب أعناقهم فقال عليه الصلاة والسلام: مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم؛ حيث قال: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ومثلك يا عمر كمثل نوح؛ حيث قال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لهم: «إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم؛ فقالوا: بل نأخذ الفداء - فاستشهدوا بأحد - فلما أخذوا الفداء نزلت هذه الآية {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} أي متاعها؛ ويعني به ما أخذ من فدية الأسرى {وَاللَّهُ يُرِيدُ} لكم {الآخِرَةَ} وما فيها من نعيم مقيم وفي هذه القصة من احترام الشورى، والنزول على رأي الأغلبية ما فيه؛ وليس من أحد أوسع حكمة، وأسدّ رأياً، وأهدى -[220]- رشداً؛ من الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ ولكنه استشار أصحابه، وأمضى رأي الجماعة؛ تنبيهاً لأمته، وتعليماً لهم؛ وإقراراً لنظم الشورى، وهذه هي الديمقراطية الحقة؛ التي يجب السير على نهجها {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} في ملكه، غالب لا يغلب {حَكِيمٌ} في صنعه

68

{لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ} أي لولا حكم منه تعالى {سَبَقَ} بإحلال الغنائم والأسرى لكم {لَمَسَّكُمْ} لنالكم وأصابكم {فِيمَآ أَخَذْتُمْ} من فداء الأسرى {عَذَابٌ عَظِيمٌ} مما أعده الله تعالى لمن يخالفون أمره

70

{يأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} إيماناً بالله، وإخلاصاً للمؤمنين {يُؤْتِكُمْ} في الدنيا {خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ} من الفداء {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ما تقدم من ذنوبكم

71

{وَإِن يُرِيدُواْ} أي الأسرى {خِيَانَتَكَ} بأن يظهروا الإيمان، ويبطنوا الكفران {فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ} بكفرهم {مِن قَبْلُ} أي قبل وقعة بدر {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} أي أظفرك بهم في بدر

72

{وَالَّذِينَ آوَواْ} النبي {وَّنَصَرُواْ} المؤمنين وهم الأنصار رضي الله تعالى عنهم {أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} في المعونة والنصرة؛ ولا حجة لمن زعم أنهم أولياء في الإرث أيضاً

74

{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ} ليكونوا كالسابقين من المهاجرين؛ وليس معنى ذلك أن تعادوهم وتسووا بينهم وبين الكافرين أو المنافقين {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ} أي طلبوا معاونتكم على أعدائهم من أجل الدين {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} أي فواجب عليكم نصرهم ومعاونتهم {إِلاَّ} إذا كان استنصارهم بكم {عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ} عهد و {مِّيثَاقٌ} فلا يجوز نقضه من أجلهم؛ إذ أن الوفاء بالمواثيق والعهود والعقود من أسس الإسلام؛ بل هو الإسلام نفسه فكل وعد وكل عقد، وكل عهد، وكل ميثاق؛ إنما هو عقد بين طرفين ثالثهما الله تعالى؛ فمن نقضه: فقد أخل بالوفاء مع ربه وخالقه ومالك أمره؛ قال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} وقال أيضاً {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} وقال جل شأنه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} وقال عز من قائل: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة المائدة) وهذه الآية تعتبر قانوناً سامياً، ودستوراً دولياً؛ تكتبه الأمم في معاهداتها، وينص عليه المشرعون والمقننون في كتبهم وقوانينهم؛ ولكن الكتابة والتقنين والتشريع - في عرف ساسة اليوم - شيء غير التنفيذ؛ وأصبح الجميع {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} فكم من معاهدة، وكم من اتفاق، وكم من تحالف؛ ضرب به عرض الحائط؛ وصار المنطق للقوة وحدها، وصار من يملك أداة التخريب والدمار هو صاحب الحق، وهو الناطق بالصواب فانظر - يا رعاك الله -[221]- وهداك - إلى تشريع مولاك: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} فتعالى الله الملك الحق؛ الهادي للرشاد والسداد {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} ظاهر الآية: إثبات موالاة الكافرين لبعضهم؛ وحقيقتها طلب كف المؤمنين عن موالاتهم، وإيجاب مباعدتهم {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} أي إن لم تفعلوا ما أمرت به من نظام الحرب، والإثخان في الأرض قبل اتخاذ الأسرى، وولاية المهاجرين والمؤمنين، ونصرة من يستنصر من المسلمين - مع المحافظة على العهود والمواثيق - وعدم موالاة الكافرين؛ فإن لم تفعلوا ذلك {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} لأن ذلك مؤد إلى انهزامكم، واستيلاء العدو على بلادكم، وعدم الثقة في عهودكم ومواثيقكم

75

{وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ} أي ذووا القرابات {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} في البر، والإنفاق والإحسان. والرحم: وعاء الولد ومنبته. وأطلق على القرابات: لأنه أصلها وسببها.

سورة التوبة

سورة التوبة

1

{بَرَآءَةٌ} اختلف في التسمية في ابتداء هذه السورة - كسائر سور القرآن الكريم - فعن علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم: أن بسم الله الرحمن الرحيم: أمان، وبراءة نزلت لرفع الأمان. وهو قول غير جائز - ولعله قد دس على الراوين - ف الله جل شأنه: رحيم ورحمن؛ سواء أمر بالقتال، أو أمر بالسلم، أمر بالعذاب، أو أمر بالثواب وقال بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم: إن الأنفال وبراءة سورة واحدة؛ نزلت في القتال. وهو قول خير من سابقه، ولا بأس به. و {بَرَآءَةٌ} أي تخلص وتبرؤ من المواثيق والعهود وهذا التبرؤ {مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} أي عقدتم معهم مواثيق بعدم الاعتداء؛ فنقضوها

2

{فَسِيحُواْ} فسيروا آمنين أيها المشركون. والسيح: السير على مهل {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} وهي مدة الهدنة التي ضربها الله تعالى لهم للتوبة من الشرك {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} أي غير فائتي عذابه وانتقامه بل سيدرككم بالأخذ والعقوبة

3

{وَأَذَانٌ} إيذان وإعلام {مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} جميعاً: من عاهد منهم ومن لم يعاهد، ومن نقض عهده ومن لم ينقض {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} يوم عرفة -[222]- {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} ومن عهودهم {وَرَسُولُهُ} بريء منهم أيضاً. ومن بريء منه الله تعالى فإن رسوله بريء منه، ومن برىء منه الرسول فإن الله تعالى بريء منه {فَإِن تُبْتُمْ} أيها المشركون من كفركم ونقضكم للعهود {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأنكم ضمنتم الأمان في الدنيا، والأمن في الآخرة {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن ذلك {فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} غير فائتي عذابه

4

{إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} مما عاهدوكم عليه {وَلَمْ يُظَاهِرُواْ} لم يعاونوا {عَلَيْكُمْ أَحَداً} من أعدائكم {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} التي ضربتموها في العهد. يؤخذ من ذلك أنه كانت تعقد بين المؤمنين والمشركين معاهدات ومحالفات، مؤقتة بمواقيت؛ كما يفعل كبار ساسة العالم اليوم؛ بغير فارق سوى أن هؤلاء ناقضون للعهد، صارمون للود؛ وأولئك لعهدهم راعون، ولأماناتهم حافظون

5

{فَإِذَا انسَلَخَ} أي مضى {الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} وهي ذي القعدة وذي الحجة والمحرم {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} ناكثي العهد {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} في الحل أو الحرم، وفي الأشهر الحرم، أو غير الأشهر الحرم {وَخُذُوهُمْ} الأخذ: الانتقام والأسر {وَاحْصُرُوهُمْ} حاصروهم؛ حتى يضطروا إلى الإسلام، أو الاستسلام {وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} كل طريق؛ وترصدونهم به، وتترقبونهم فيه {فَإِن تَابُواْ} عن الشرك وآمنوا {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} في أوقاتها {وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ} المفروضة {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} أطلقوا سراحهم من الأسر ولا تتعرضوا لهم بأذى

6

{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين أمرت بقتالهم {اسْتَجَارَكَ} أي استجار بك، وطلب منك الأمن {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ} ومن هنا نعلم أن الإسلام لم ينتشر بالشدة والقسوة - كما يزعم بعض أعدائه وشانئيه - وإنما انتشر وشاع بالحجة والإقناع وباللطف لا العنف؛ ولم تكن مهمة المسلمين النيل من الكافرين؛ بل إقناعهم وهدايتهم حتى يعرفوا الحق فيتبعوه؛ وليس بعد ذلك مطعن لطاعن، أو مغمز لغامز؛ ممن طمس الله تعالى بصائرهم، وجعلهم من حزب الشيطان فهو يدعوهم دائماً إلى نار السعير {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} موضع أمنه؛ وهو المكان الذي يختاره لنفسه بنفسه. والمعنى: حافظ عليه حتى يصل إلى ديار قومه. وبعد ذلك يجوز قتاله إذا بدت منه إذاية للمسلمين، أو إضرار بمصالحهم

7

{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ} أي لا يجوز أن يكون لهم عهد؛ لأنهم قوم لا أمان لهم {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} منهم {عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ولم ينكثوا بعهدهم {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ} أي أقاموا على العهد. -[223]- {فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} على الوفاء بعهدهم

8

{كَيْفَ} تكرار للتأكيد؛ أي «كيف يكون للمشركين عهد» هم {وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} أي إن يظفروا بكم {لاَ يَرْقُبُواْ} لا يراعوا {فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} الإل: الحلف، والقرابة، والجوار و «الذمة»: العهد {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ} رياء ونفاقاً {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} الإيمان

9

{اشْتَرَوْاْ} استبدلوا {بِآيَاتِ اللَّهِ} القرآن {ثَمَناً قَلِيلاً} هو اتباع الشهوات {فَصَدُّواْ} منعوا {عَن سَبِيلِهِ} دين الله القويم

11

{فَإِن تَابُواْ} عن الشرك {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} في أوقاتها {وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ} المفروضة {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} وأخوة الدين: تفضل أخوة النسب، وترتقي عنها في السبب

12

{وَإِن نَّكَثُواْ} نقضوا {أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} أي وإن نكثوا عهدهم الموثق بالأيمان {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} القويم المستقيم؛ فهم من أئمة الفجرة الكفرة {فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} رؤساءه؛ لأنه بقتل الرؤساء: يخضع المرءوسون ويذلوا ويستكينوا {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} يرجعون عما هم فيه

13

{أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ} نقضوها {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} هموا بإخراجه عليه الصلاة والسلام من مكة؛ حين تشاورا بدار الندوة {وَهُم بَدَءُوكُمْ} بالقتال {أَوَّلَ مَرَّةٍ} ببدر؛ حين قالوا: لن ننصرف حتى نستأصل محمداً وأصحابه، وتغنينا القيان، وننحر الجزور، ونشرب الخمور

14

{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} بالقتل والجراح {وَيُخْزِهِمْ} أَن كُنتُم يَشَآء حَكِيمٌ وَاللَّهُ أَوَّلَ بَدَءوكُمْ يُعَذّبْهُمُ {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ -[224]- وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} أَمْ بَدَءوكُمْ يَشَآء عَلَى حَكِيمٌ مُّؤُمِنِينَ. {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} بالنصر على الكافرين

15

{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} مما نالهم من أذى المشركين

16

{أَمْ حَسِبْتُمْ} أي هل ظننتم {أَن تُتْرَكُواْ} بغير امتحان وابتلاء {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} لم يعلم حتى الآن؛ بمعنى أنه تعالى لم يظهر ما يعلم؛ لأنه جل شأنه عالم بكل معلوم، محيط بكل موجود أي لم يعلم {الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} من الولوج؛ وهو الدخول. والمراد بها بطانة الرجل وخاصته؛ أي لم يتخذوا من الكفار والمنافقين أصدقاء وخلصاء. قال تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}

17

{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} لا يحق لهم {أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} بأن يدخلوها؛ وقد كانوا يدخلون المسجد الحرام: حاجين أو طائفين؛ بعد ما نودي فيهم بالمنع عن المسجد الحرام بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وقد كانت فيهم السدانة، والسقاية، والرفادة {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} بعبادتهم للأصنام، وسجودهم لها؛ مع معرفتهم وإقرارهم بأنها مخلوقة {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ} بطلت {أَعْمَالُهُمْ} الحسنة التي يعملونها في الدنيا؛ لأن الكفر محبط لسائر الأعمال

18

{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} يدخلها {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} وخشيته تعالى: إحدى دعائم الإيمان؛ التي لا يتم إلا بها، ولا يقوم إلا عليها؛ إذ كيف يكون مؤمناً بالله، من لم يخشالله؟ أو كيف يكون مؤمناً باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب من يخشى مع الله غيره؟ ولو تأملت بعين الاستبصار والاعتبار؛ لوجدت أن كل الأعمال الموصلة إلى الجنة توصل إلى النار - إذا صحبتها خشية المخلوقين، دون خشية رب العالمين - فكم مصيب يدخل النار؛ لخبث نيته، وسوء طويته وكم من مخطىء يدخل الجنة لصدق نيته، ومزيد خشيته ومن هنا نعلم أن خشية الله تعالى هي الإيمان كله، وأنها موصلة لخيري الدارين، وأنها طاعة من أجلِّ الطاعات، وأن خشية ما سوى الله تعالى معصية من أقبح المعاصي ويندرج تحت ذلك سائر الطاعات؛ فالجهاد: خشيةلله تعالى، والإحجام عنه: خشية من الأعداء {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} والإنفاق: خشيةلله تعالى، والإمساك: خشية من الإملاق والفقر {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً} وسائر العبادات - ما لم يشبها رياء أو نفاق - فهي خشية من الله تعالى؛ فإذا شابها شيء منهما فهي خشية لسواه

19

{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ -[225]- الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قيل: افتخر العباس بالسقاية، وشيبة بالعمارة، وعلي رضي الله تعالى عنه بالإسلام والجهاد؛ فصدق الله تعالى علياً؛ لأن

20

{الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ} والمؤمن المهاجر: أعظم درجة من المؤمن الذي لم يهاجر

23

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ} أصدقاء وخلصاء {إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} وذلك لأن الكفر نهاية العداء، وغاية البغضاء

24

{قُلْ} يا محمد للمتخلفين عن الهجرة معك {إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} والتمتع بصحبتهم {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} اكتسبتموها؛ وتريدون المحافظة عليها {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ} تركها، وتخافون {كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ} وترتاحون في الإقامة بها. إن كان ذلك {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ} انتظروا {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} بعقوبته؛ يوم فتح مكة؛ و

25

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} بقدرته ومعونته؛ لا بقوتكم وكثرتكم؛ كوقعة بدر، وقريظة والنضير، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة. وقيل: إن المواطن التي نصر الله تعالى فيها الإسلام ثمانون موطناً {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} وهو وادٍ بين مكة والطائف؛ دارت فيه رحى القتال بين المؤمنين والمشركين، وانتصر المشركون فترة من الزمن. والمعنى: «ويوم حنين» نصركم الله فيه أيضاً بعد أن أذاقكم مرارة الهزيمة؛ عقوبة على تقصيركم في الاعتماد عليه، وإعجابكم بكثرتكم {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} وقلتم: لن نغلب اليوم عن قلة. وكانوا اثني عشر ألفاً؛ والكافرون أربعة آلاف {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ} هذه الكثرة {شَيْئاً} فالنصر يأتي به الله لمن شاء أنى شاء؛ ليس تبعاً لكثرة أو لقلة

26

{ثُمَّ أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} طمأنينته {عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فنادى الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام فيهم: يا معشر الأنصار، يا معشر المهاجرين، يا أصحاب سورة البقرة فرجع المسلمون إليه {وَأَنزَلَ} الله تعالى {جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} من الملائكة (انظر آية 42 من سورة الأنفال) {وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بالقتل والأسر

27

{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذلِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ} إسلامه وهدايته من المشركين، أو يتوب على من يشاء من المدبرين المنهزمين؛ لأن الواجب على المجاهد ألا يولي العدو دبره. قال تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}

28

{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} لخبث باطنهم، وقذارة ظاهرهم؛ لأنهم لا يغتسلون، ولا يتطهرون، ولا يتجنبون النجاسات؛ فهي دائماً ملابسة لهم {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} فقراً

29

{حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ} سميت جزية: لأنها جزاء على الكفر {عَن يَدٍ} أي نقداً مقبوضة؛ غير نسيئة {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي تؤخذ منهم الجزية على الصغار؛ وهو الذل والهوان

30

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} وهو أحد أنبياء بني إسرائيل؛ وربما قال هذا القول الأوائل منهم، أو قالوه في زمن الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام - عناداً له - لما رأوه منه من تقديس الإله، وتنزيهه عن الولد والوالد، أو نزلت هذه الآية بسبب أن اليهود سمعوا مقالة النصارى بمثل ذلك؛ فلم ينكروا عليهم، أو يردعوهم. وخلاصة القول: إنه لا يوجد الآن بين اليهود من يقول: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} فوجب أن نتأول ذلك بما قلناه. هذا ولو أنه من المعلوم أن اليهود يرتكبون ما هو أشد من نسبة الولد إلى الله -[227]- {يُضَاهِئُونَ} يشابهون بقولهم هذا {قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} وهم الذين قالوا: الملائكة بناتالله. وقول المشركين: اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} كيف يصرفون عن الحق؛ مع قيام الدلائل الواضحة على صدقه

31

{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ} علماءهم {وَرُهْبَانَهُمْ} نساكهم {أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} أي كالأرباب؛ حيث أطاعوهم في كل شيء. ومنه قوله تعالى: {انفُخُواْ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} أي كالنار. وقد كان الأحبار والرهبان يحلون لهم الحرام فيستحلونه، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} عطف على {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ} أي اتخذواالمسيح ابن مريم رباً لهم {وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ} تنزه وتقدس عن الولد، وعن الشبيه والنظير

32

{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ} شرعه وبراهينه، وأدلة توحيده {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ} يظهر {نُورَهُ} دينه وشرعه؛ ويعليه على سائر الأديان والشرائع

33

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} القرآن {وَدِينِ الْحَقِّ} الإسلام {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} على سائر الأديان المخالفة

34

{وَيَصُدُّونَ} يمنعون الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} ولا يؤدون زكاتها، ولا يتصدقون منها {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ذهب أبو ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه إلى أن المسلم لا ينبغي له أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته. والإجماع على غير ذلك؛ ما دام مؤدياً حق الله تعالى فيه. وقد زعم بعضهم أنها نزلت في أهل الكتاب فحسب؛ وهو زعم باطل

35

{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا} أي على الذهب والفضة {فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} وقد اختيرت الجباه والجنوب والظهور بالكي: لأن البخيل يرى الفقير قادماً عليه فيقطب جبهته، فإذا جاءه أعرض ونأى بجانبه، فإذا طالبه بإحسان ولاه ظهره؛ فوجب أن يكوى بما بخل به على جبهته وجنبه وظهره وقد يكون المراد بذلك كيّ سائر الجسم؛ فالجبهة تدل على الأمام، والجنوب والظهور على باقي الجسم. وقد يقال: كيف يحمى على أوراق العملة المتداولة الآن إن كانت مكتنزة؟ والجواب: إنه يحمى على ما يوازيها من الذهب والفضة؛ فتكوى بها الجباه والجنوب والظهور؛ وجميع ذلك على وجه التمثيل: فقد يحمى على أطنان كثيرة من الذهب والفضة؛ فتصب على البخلاء صباً؛ ويومئذٍ يتذكرون ما فعلوه في دنياهم {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} والمراد من الآية: أن الذهب والفضة اللذين هما موضع إعجابهم في الدنيا واهتمامهم وحرصهم؛ سيكونان في الآخرة موضع ألمهم وتعذيبهم نعوذ به تعالى من غضبه وعذابه {هَذَا مَا كَنَ -[228]- زْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} أي يقال لهم: إنكم لم تكنزوا خيراً لأنفسكم؛ بل كنزتم لها الشر المقيم، والعذاب الأليم {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي جزاءه وعقوبته

36

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ} لوحه المحفوظ؛ الذي كتب فيه {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ} كل ما هو كائن {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} يحرم القتال فيها وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب {ذلِكَ} أي تحريم هذه الشهور؛ هو {الدِّينُ الْقَيِّمُ} المستقيم {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي لا تظلموا أنفسكم في الأشهر الحرم؛ بارتكاب المعاصي؛ فإنها فيها أعظم إثماً، وأشد وزراً وقيل: الضمير في «فيهن» عائد على الأشهر كلها: الإثني عشر. أما الأشهر الحرم فإن الذنب فيهن أكبر، كما أن العمل الصالح والأجر فيهن أعظم. وقد اصطفى الله تعالى من خلقه صفايا: فاصطفى من الملائكة والناس رسلاً، واصطفى من الكلام القرآن، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر؛ فعظموا ما عظم الله تعالى واصطفاه: تفوزوا بجنته ورضاه {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} أي مجتمعين غير مفترقين، مؤتلفين غير مختلفين

37

{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} النسيء: التأخير؛ وقد كانوا يؤخرون حرمة الأشهر الحرم لغيرها؛ طبقاً لأهوائهم ورغبتهم في القتال {لِّيُوَاطِئُواْ} ليوافقوا {عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} وذلك بتحريم شهر حلال، مكان شهر حرام استحلوه؛ فكانوا يحرمون صفر عاماً - مكان المحرم - ويحرمون المحرم عاماً؛ وذلك معنى قوله جل شأنه {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} بإحلالهم المحرم؛ الذي هو من الأشهر الحرم

38

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ} أي اخرجوا للقتال {فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ} تثاقلتم وتباطأتم عن الجهاد {إِلَى الأَرْضِ} أي ملتم إلى القعود {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} أي أرضيتم بما في الدنيا من متاع زائل، وراحة مؤقتة؛ عما في الآخرة من نعيم مقيم، وسعادة دائمة {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي} جنب متاع {الآخِرَةِ} ونعيمها الباقي الدائم {إِلاَّ قَلِيلٌ} حقير زائل

39

{إِلاَّ} إن لم {تَنفِرُواْ} تخرجوا مع النبي للجهاد {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} في الدنيا؛ بالجدب والقحط {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} يطيعونه إذا أمر، ويخرجون معه إذا استنفر {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً} أي ولا تضروا الله شيئاً بترككم النفير وعصيانكم؛ لأنه تعالى ليس في حاجة إليكم.

40

{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} أي إن لم تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه سوى رجل واحد {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} هو وأبو بكر رضي الله تعالى عنه {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} والغار: نقب في الجبل؛ وقد كانا في غار بجبل ثور؛ وهو من جبال مكة المكرمة {إِذْ يَقُولُ} محمد {لِصَاحِبِهِ} أبي بكر رضي الله تعالى عنه؛ حين رأى المشركين يجوبون الجبل بحثاً عن النبي ليقتلوه؛ فقال للنبي: لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا. فقال عليه أفضل الصَّلاة وأتم السلام {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} بنصره وعونه وكلاءته {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} السكينة: الطمأنينة {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} ملائكة يحفظونه من أن يراه الكفار، ومن أن ينال منه أحدهم لو رآه {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} دعوتهم إلى الشرك {السُّفْلَى} المنحطة المغلوبة {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} دينه، والدعوة إلى توحيده {هِيَ الْعُلْيَا} الظاهرة الغالبة

41

{انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً} أي اخرجوا للقتال ركباناً ومشاة، أو شباباً وشيوخاً، أو أغنياء وفقراء

42

{لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً} أي لو كان ما دعوتهم إليه مغنماً سهل المأخذ {وَسَفَراً قَاصِداً} وسطاً، غير بعيد {لاَّتَّبَعُوكَ} جرياً وراء منافعهم الدنيوية {وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} المسافة الشاقة {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} بالكذب والنفاق، وتعريضها للعذاب الأليم

43

{عَفَا اللَّهُ عَنكَ} هو من ألطف العتاب {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} في التخلف عن الجهاد؟ من هذه الآية نعلم مكانة الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه عند ربه، وعلوّ قدره، وسمو منزلته؛ فقد بشره مولاه جل شأنه بالعفو قبل أن يخبره بالذنب؛ ولأنه لو قال له معاتباً: لم أذنت لهم؟ لخيف عليه أن ينشق قلبه حزناً وكمداً

45

{وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} شكت في صحة الدين

46

{وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ} كره نهوضهم للخروج للجهاد معك؛ على ما هم عليه من شك ونفاق؛ لا يتوفر معهما الإقدام، وصدق الدفاع {فَثَبَّطَهُمْ} الله عن الخروج؛ أي كسلهم عنه {وَقِيلَ} لهم {اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} مع المرضى والنساء والشيوخ والصبيان؛ الذين أقعدهم المرض والضعف والعجز والصغر؛ وهؤلاء الشاكون المرتابون

47

{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم} للقتال {مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} الخبال: النقصان، والهلاك، والعناء، والكل؛ والمعنى: ما زادوكم إلا فساداً وتعويقاً {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} لمشوا بينكم بالدس والنميمة، وإفساد ذات البين {يَبْغُونَكُمُ} يطلبون لكم {الْفِتْنَةِ} الإفساد والعداوة، أو يبغون لكم الكفر، أو المراد بالفتنة: الدس والوقيعة؛ لقوله تعالى {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي مصدقون لما يقولونه، أو {سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي جواسيس من المنافقين: يسمعون أسراركم، ويبلغونها لهم

48

{لَقَدِ ابْتَغَوُاْ} طلبوا وأرادوا لك {الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ} حين قدمت المدينة {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ} دبروا لك الحيل والمكائد لإبطال دينك {حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ} النصر الذي وعدك الله تعالى به {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} فشا دينه، وسطع نوره

49

{وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي} في القعود عن الجهاد {وَلاَ تَفْتِنِّي} أي لا توقعني في الفتنة؛ وهي الإثم. قال تعالى رداً على قولهم {أَلا فِي الْفِتْنَةِ} الكفر والعذاب والإثم {سَقَطُواْ} وقعوا؛ بسبب ما قالوا. وما فعلوا، وبسبب تخلفهم عن الجهاد {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} لا ينجو منها أحد منهم

50

{إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} نصر وغنيمة {تَسُؤْهُمْ} لأنهم لا يبتغون لك الخير؛ لخبث باطنهم {وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} شدة وهزيمة {يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} من الحذر والتيقظ؛ ولم نقع فيما وقعوا فيه

51

{قُل لَّن يُصِيبَنَآ} من خير أو شر {إِلاَّ مَا كَتَبَ} قدر وقضى {اللَّهُ لَنَا} فلا دافع له، ولا مناص من وقوعه. -[231]- {هُوَ مَوْلاَنَا} ناصرنا ومتولي أمورنا {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} في سائر أمورهم (انظر آية 81 من سورة النساء)

52

{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ} تنتظرون لنا {إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} النصر، أو الشهادة: وكلاهما حسن. بل الشهادة التي تتوقعونها لنا: أحسن وألذ من النصر {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} ننتظر لكم {أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ} بقارعة من السماء؛ كقارعة عاد وثمود {أَوْ بِأَيْدِينَا} بأن نقتلكم

53

{قُلْ أَنفِقُواْ} في طاعة الله تعالى {طَوْعاً} بإرادتكم {أَوْ كَرْهاً} رغم أنوفكم {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} ما تنفقونه {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ} كافرين

54

{وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} بنفاقهم، ورغبتهم في إيصال السوء إليك {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى} لأنهم لا يبتغون من أدائها ثواباً، ولا يخشون من تركها عقاباً وإنما يقومون بها اتقاء للمؤمنين، ومراءاة لهم

55

{فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} وكثرتها {وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} ولا تظنن أن ذلك إنعام منا عليهم، أو رضاء عن أعمالهم {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بما يلقونه في سبيل تحصيل الأموال والحرص عليها، والكدر عند إنفاقها، وبما يلقونه من عنت الأولاد، ومرضهم وفقدهم؛ في حين أن المؤمن لا يحرص على الجمع، ولا يألم للإنفاق؛ ويكتب له بكل أذى يلقاه حسنة {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ} تخرج أرواحهم؛ والزهوق: الخروج بصعوبة

56

{وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} جبناء؛ يخافون القتل إذا هم أظهروا ما يبطنون

57

{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً} يلجأون إليه خوفاً من القتال {أَوْ مَغَارَاتٍ} سراديب في الجبال {أَوْ مُدَّخَلاً} نفقاً {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} يسرعون كالفرس الجموح الذي لا يرد

58

{وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ} يعيبك {فِي الصَّدَقَاتِ} أي في توزيعها. والمراد بالصدقات الزكاة المفروضة؛ وقد كانت تجمع، وتوزع بمعرفة الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} أي إن رضاهم وسخطهم للدنيا؛ لا للدين، ولأنفسهم لا للمسلمين.

59

{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي بما آتاهم من الأموال والغنائم وطابت به نفوسهم، من غير تطلع إلى ما أوتي غيرهم {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ} كافينا

60

{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ} الذين يسألون الناس لأنهم لا يجدون ما ينفقون {وَالْمَسَاكِينِ} الذين لا يسألون أحداً؛ لأن عندهم ما يكفيهم في الحال؛ كمن يملك قوت يومه، أو من لا يجد الكفاف الجباة الذين يحصلونها {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} قوم من أشراف العرب؛ كان الرسول يتألفهم ليسلموا، أو هم كل من أسلم من اليهود أو النصارى، أو غيرهم من المشركين: ليثبتوا على إيمانهم؛ وقد كان ذلك في صدر الإسلام {وَفِي الرِّقَابِ} أي المكاتبين. وهم الذين يكاتبون مواليهم بثمنهم؛ فإذا أدوه فهم أحرار. وقد أجاز الله تعالى عليهم الزكاة؛ ليعانوا على تحرير أنفسهم {وَالْغَارِمِينَ} المثقلين بالديون، أو الذين أصابهم اضطهاد وغرم في سبيل الدين والوطن؛ اللهم إلا من تداين في سفاهة أو محرم؛ فهو واجب المحاربة لا الإعانة {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي للقائمين بالجهاد {وَابْنِ السَّبِيلِ} الذي انقطع به الطريق في السفر {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} أي فرض الله تعالى الزكاة لهؤلاء الأصناف فرضاً

61

{وَمِنْهُمُ} أي من هؤلاء الجبناء والمنافقين {الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} بكلامهم {وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} أي سماع لما يقال له من الشر {قُلْ} هو {أُذُنُ خَيْرٍ} أي سماع لكل خير {لَكُمْ} ولا يستمع للشر كما تزعمون

63

{أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ} يجاوز الحد. والمقصود أنه يحارب ويخالف {اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ولا يطعهما

64

{يَحْذَرُ} يخاف {الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي على المؤمنين {سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} أي بما في قلوب المنافقين من تبييت العداوة والشر، والاستهزاء بالمؤمنين -[233]- {قُلِ اسْتَهْزِءُواْ} ما شئتم أن تستهزئوا {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} أي مظهر ما تخفونه وتحذرون ظهوره من النفاق

65

{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} عن استهزائهم بك، وبما أنزل إليك من القرآن {لَيَقُولُنَّ} معتذرين عن استهزائهم {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ} في الحديث {وَنَلْعَبُ} نلهو ونمزح {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} والاستهزاء والسخرية بالله، أو بآياته، أو بملائكته، أو برسله - ولو على سبيل المزاح - كفر لا يمحوه اعتذار

66

{لاَ تَعْتَذِرُواْ} وكيف يجدي الاعتذار، و {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} وكم نرى بعض المتظرفين الثقلاء يقذف بالنكتة الوقحة، وبالمزحة السمجة؛ ينال بها من دينه وخالقه ومن عجب أن نرى أناساً يضحكون لنكتة هذا الفاجر الكافر؛ ولم يعلموا أنهم شركاء له في فجوره وكفره، قرناء له في جهنم وبئس المصير نعوذ ب الله الحليم، من الاستهانة بقدره العظيم، أو بكتابه الكريم أو برسله البررة، أو بملائكته الخيرة {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ} لحسن نيتها، وصدق طويتها، ورجوعها إلى محجة الصواب {نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} مصرين على كفرهم واستهزائهم

67

{وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} عن الإنفاق في الطاعات {نَسُواْ اللَّهَ} تركوا طاعته، ونسوا أجره الذي وعد به؛ لأنه تعالى وعد المنفقين أجراً عظيماً؛ فقبضوا أيديهم؛ فكانوا بذلك مكذبين لوعده، ناسين لأجره {فَنَسِيَهُمْ} تركهم من رحمته وفضله؛ وجعلهم كالمنسيين

68

{هِيَ حَسْبُهُمْ} تكفيهم جزاءً وعقاباً

69

{فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ} بنصيبهم من الدنيا {وَخُضْتُمْ} في الباطل والطعن في الرسول، وفي الكتاب المنزل عليه {كَالَّذِي خَاضُواْ} أي كالخوض الذي خاضوه -[234]- {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بطلت أعمالهم الحسنة التي عملوها {فِي الدنْيَا} لأن الكفر محبط لسائر الأعمال {وَالآخِرَةِ} لأنه لا جزاء لها

70

{أَلَمْ يَأْتِهِمْ} أي ألم يأت هؤلاء الخائضين {نَبَأُ الَّذِينَ} خاضوا {مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ} قوم هود {وَثَمُودَ} قوم صالح {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ} قوم شعيب؛ عليهم الصلاة والسلام {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} قرى قوم لوط والمراد بها أهلها {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بالآيات الواضحات، والمعجزات الظاهرات؛ فاستهزأوا برسلهم؛ فعذبهم الله تعالى عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} بالعذاب الذي أنزله بهم {وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر وارتكاب المعاصي، وتعريضها للعقاب. هذا حال الكافرين، والمنافقين، والخائضين؛ أما حال المؤمنين فقد أوضحه الله تعالى بقوله:

71

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أي هم لبعض أنصار وأعوان؛ لأنهم {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} بالإيمان، والاستقامة {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وهو كل ما ينكره العرف والشرع {وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} في أوقاتها {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} المفروضة {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ} فيما أمر به، ونهى عنه {وَرَسُولُهُ} فيما سنه لأمته من كريم الفعال، وحميد الخصال {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. يا معشر المؤمنين: لقد جاءكم البشير النذير، بقول الرحمن الرحيم {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} فأي شيء تبتغون فوق رحمته؟ وأي شيء تطلبون بعد جنته؟ ولم يجعل جل شأنه سبب الوصول إلى رحمته عسيراً شاقاً؛ بل هو طلبة كل إنسان كامل، وبغية كل شخص عاقل وقد وصف الله تعالى أولئك الذين اصطفاهم لجنته، واختصهم برحمته بقوله: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فهل ترى أيها المؤمن العاقل أن النهي عن المعروف، والأمر بالمنكر؛ أولى وأجدر من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟ ووصفهم تعالى أيضاً بإقامة الصلاة: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} وإقامتها - كما تعلم - قيام بشكره تعالى على ما وهب من واسع العطاء، وأنعم من مزيد النعم؛ وابتهال إليه تعالى ليمنّ بالهداية إلى دينه القويم، وصراطه المستقيم ووصفهم جل شأنه بإيتاء الزكاة: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} فهل ترى أيها المتقلب في نعمة الله، المتمتع بهباته وفيوضاته؛ أن تأكل كما تأكل الأنعام فلا تلتفت إلى من هم دونك من الأنام؛ وتذرهم يموتون عرياً، -[235]- ويتضورون جوعاً؟ وهل هذا شأن بني الإنسان؛ الذين فضلهم ربهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، وميزهم بالعقل الراجح، والقلب الرحيم. ووصفهم تعالى أيضاً بأحسن ما يوصف به العباد المقربون؛ وهل يقرب الإنسان من ربه سوى طاعته؟ {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وهل تجب على العاقل طاعة الشيطان، أم طاعة الرحمن؟ هل تجب طاعة من يدعوك إلى الجنة، أم من يدعوك إلى النار؟ إن الله تعالى قد ألبسك ثوب محبته ودعاك إلى جنته، ووعدك بمزيد رحمته فهلم - يا رعاك الله وهداك - إلى رحمة الله رحمنا الله تعالى وإياك، ووهبنا مزيد رضوانه ووفقنا لما يؤهلنا إلى فيض إحسانه

72

{وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} يطيب فيها العيش والإقامة {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} {الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ} وهي من عدن في المكان: إذا أقام فيه. والمعنى: جنات الإقامة {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي أكبر من ذلك النعيم الموصوف {ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا فوز بعده و {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}

73

{يأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} بالسيف {وَالْمُنَافِقِينَ} بالحجة {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} في القتال والمحاجة؛ فلا تأخذك بهم رأفة ولا رحمة

74

{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ} قيل: نزلت في الجلاسبن سويد بن الصامت؛ وقد أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء؛ على حمير لهم. فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقاً؛ لنحن أشر من حميرنا هذه التي نحن عليها. فقال مصعب: أما والله يا عدو الله لأخبرن رسول الله بما قلت؛ فإني إن لا أفعل أخاف أن تصيبني قارعة وأؤاخذ بخطيئتك فلما أتيا النبي؛ قال مصعب: يا رسول الله أقبلت أنا والجلاس من قباء، فقال كذا وكذا. فقال للجلاس: «أقلت الذي قال مصعب»؟ فحلف ما قال؛ فنزلت {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ} {وَهَمُّواْ} بالفتك بالنبي {بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} لأن الله تعالى عصمه منهم؛ قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} {وَمَآ} أي وما أنكروا، وما عابوا {إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} قيل: قتل مولى للجلاس؛ فقضى رسول الله له بديته؛ فكانت سبباً في غناه {فَإِن يَتُوبُواْ} عن النفاق، وعن كلمة الكفر {يَكُ خَيْراً لَّهُمْ} في الدنيا والآخرة {وَإِن يَتَوَلَّوْا} يعرضوا ويصروا على النفاق {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا} بالقتل، والأسر، والذل {وَالآخِرَةِ} بالنار وبئس القرار

75

{وَمِنْهُمُ} أي من المنافقين {مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ} رزقه وسعته. قيل: هو ثعلبة بن حاطب

77

{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} أي جعل عاقبتهم النفاق في القلب، وهو البخل لأن البخيل يخفي نعمة الله تعالى عليه -[236]- ولا يبديها. ونفاق القلب: أسوأ مراتب النفاق

78

{وَنَجْوَاهُمْ} ما يتناجون به فيما بينهم؛ وهي المسارة

79

{يَلْمِزُونَ} يعيبون {الْمُطَّوِّعِينَ} المتطوعين، المتبرعين {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} إلا طاقتهم؛ فيقدمونه {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} أي فيسخر المنافقون من المتطوعين: إن أكثروا زعموا أنه رياء، وإن أقلوا قالوا: إن الله غني عن مثله.

80

{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} نزلت في المنافقين وقيل: في عبد الله بن أُبي بن سلول حين صلى رسول الله على جنازته {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} المقصود من العدد التكثير، لا التحديد؛ إذ لو استغفر لهم طول حياته {فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وهؤلاء هم أشقى الناس بلا مراء: فقد حرموا من قبول استغفار من لو استغفر لعصاة الجن والإنس: لغفر لهم

81

{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ} الذين تخلفوا عن الجهاد {بِمَقْعَدِهِمْ} أي بقعودهم {خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ} أي بعد ذهابه للجهاد، أو قعدوا مخالفين له {وَقَالُواْ} لبعضهم، أو قالوا للمسلمين {لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ} أي لا تخرجوا للقتال في الحر لئلا يؤذيكم {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً} فإن كنتم تخشون الجهاد في الحر الذي يطيقه ويتحمله كل مخلوق - والجهاد موصل إلى ظل الجنة الوارف، ونعيمها الدائم - فكيف بنار جهنم الذي لا يطيقه الصخر، ويذوب من حره صم الجلاميد؟ وهل الوصول إلى الجنة بطريق مشوب بالحر المحتمل أولى، أم الوصول إلى الجحيم بطريق ممتلىء بالهواء العليل، والجو الجميل؟

82

{فَلْيَضْحَكُواْ} أي فليضحك هؤلاء القاعدون في الدنيا {قَلِيلاً} حتى انتهاء آجالهم - وهو قليل وإن طال - {وَلْيَبْكُواْ} في الآخرة {كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} في الدنيا من البخل، والنفاق، وعيب الكرماء والسخرية منهم، وتخلفهم عن الجهاد وكراهتهم له

83

{فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ} ردك من الجهاد {إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} أي من المنافقين {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} أي غزوة أخرى {فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ} المتخلفين: من الشيوخ، والصبيان والمرضى، والنساء

84

{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} نهى تعالى عن الصلاة على موتى الكفار؛ وهي مفروضة على موتى المؤمنين - صالحين كانوا أو من أهل الكبائر - ما لم يكونوا من البغاة وأهل الضلالات؛ إلا الشهيد؛ فإنه لا يغسل، ولا يصلي عليه؛ وذلك لأن الغسل لمحو النجاسات والقاذورات؛ والشهيد يبعث يوم القيامة بدمه - تشريفاً له، وإشادة بموقفه المجيد - والصلاة على الميت دعاء له بالأجر وغفران الذنب؛ والشهيد مأجور مغفور وصلاة الجنازة: أربع تكبيرات؛ يقرأ في الأولى فاتحة الكتاب سراً، ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الثانية، -[237]- ثم يخلص الدعاء للميت بعد الثالثة، ثم يكبر الرابعة ويقول: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده؛ ثم يسلم. وليس في صلاة الجنازة ركوع ولا سجود. {وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} كافرون

85

{وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} وكثرتها {وَأَوْلاَدُهُمْ} وشدتها {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا} يعذبهم بجمع الأموال والحرص عليها، وبعقوق الأولاد وجموحهم {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ} تخرج أرواحهم وهي كارهة

86

{اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ} ذوو الغنى {وَقَالُواْ ذَرْنَا} دعنا واتركنا {نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ} عن الجهاد

87

{رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ} النساء {وَطَبَعَ} غطى {عَلَى قُلُوبِهِمْ} بسبب كفرهم وجبنهم

88

{لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ} لم يتخلفوا، و {جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} منافع الدارين. وقيل: المراد بالخيرات: النساء الحسان؛ لقوله تعالى: {لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

89

{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ} حدائق وبساتين

90

{وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ} المعتذرون الذين انتحلوا الأعذار، ليتخلفوا عن الجهاد {لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} في القعود. وقيل: المعتذرون بعذر حقيقي يمنعهم من الجهاد {وَقَعَدَ} عن الجهاد المشركون {الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ} أي كذبوا عليه؛ فادعوا الإيمان ونافقوا؛ فلم يجاهدوا مع المجاهدين، ولم يعتذروا مع المعتذرين؛ وقرأ أبيّ «كذبوا الله» فلم يصدقوا وعده بأجر المجاهدين؛ وما أعده لهم من خير عميم، ونعيم مقيم

91

{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ} حرج في ترك الجهاد {وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى} لأنهما سيكونان عبئاً ثقيلاً على المجاهدين {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} في سبيل الله: من مال، أو سلاح، أو مركب {حَرَجٌ} إثم في التخلف {إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ} في حال تخلفهم؛ فلا يثبطون همم غيرهم، ولا يقعدونهم عن الجهاد. والنصح: إخلاص العمل من الغش {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} لأعمالهم؛ الذين نصحوا لله ورسوله، ولم يمنعهم عن الجهاد إلا العذر الشديد {مِن سَبِيلٍ} يدعو إلى مؤاخذتهم أو لومهم.

92

{وَلاَ عَلَى الَّذِينَ} رغبوا في الجهاد رغبة صادقة، ولم يمنعهم عنه سوى أنهم {إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} أي لتعطيهم ما يركبون عليه للجهاد {قُلْتَ} لقلة ما عندك من المراكب؛ وكثرة المجاهدين الذين استنفدوا كل ما عندك من خيل وأبعرة أعددتها وجمعتها للجهاد؛ قلت لهم {لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} وعند ذاك يظهر الأسى على وجوههم، والحسرة في قلوبهم - لمزيد إيمانهم وإخلاصهم - و {تَوَلَّوْاْ} انصرفوا {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} في سبيل الله؛ فيشترون ما يركبونه - لهم ولأمثالهم ممن منعهم عن الجهاد قلة المراكب -

93

{إِنَّمَا السَّبِيلُ} الطريق للمؤاخذة والعقوبة {عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} في التخلف {وَهُمْ أَغْنِيَآءُ} أقوياء يستطيعون الجهاد في سبيله تعالى بالأنفس والأموال؛ لكنهم {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ} النساء؛ لأنهم خلف الرجال في البيوت {وَطَبَعَ} غطى {اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} بسبب نفاقهم {فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ما ينفعهم فيوصلهم إلى الجنة، وما يضرهم فيلقي بهم في الجحيم هذا وقد طبع الله تعالى على قلوبهم؛ بعد أن أنزل عليهم آياته البينات، وأراهم معجزاته الظاهرات؛ فأبوا طريق الهدى والفلاح، واتبعوا طريق الشيطان؛ فكان لزاماً أن يطبع الله تعالى على قلوبهم، ويختم على أبصارهم {فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}

95

{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ} أي رجعتم من الجهاد {لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} فلا تعاتبوهم على تخلفهم وقعودهم {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} فلا تشيروا إلى تقصيرهم، ولا تعاتبوهم؛ وذلك لأن المعاتبة: تصفية للقلوب، وإبقاء للمودة؛ ألا ترى إلى وصفه تعالى لأهل النار: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} قذر لخبث باطنهم؛ فلا يطهرون بالعتاب والتوبيخ. والرجس: القذر المؤدي إلى العذاب والعقاب.

97

{الأَعْرَابُ} أهل البدو {أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} لجفائهم وقسوتهم، وغلظ طباعهم، وبعدهم عن العلم والعلماء، {وَأَجْدَرُ} أحق وأولى {أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} من شرائعه وفرائضه وأدلة توحيده؛ لقصر نظرهم، وقلة تبصرهم

98

{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ} في سبيل الله {مَغْرَماً} غرامة وخسراناً؛ لأنه ينفقه رياء وخوفاً {وَيَتَرَبَّصُ} ينتظر {بِكُمُ الدَّوَائِرَ} دوائر الزمان: وهي أنكاده، وتقلباته، ومصائبه، وهزائمه {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ} دعاء بنزول العذاب - الذي ينتظرونه لكم - بهم، وحلول الهلاك بساحتهم

99

{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} إيماناً يقينياً {وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وما فيه من ثواب وعقاب {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ} تقربهم منه، وتدنيهم من رحمته {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} دعواته {أَلا إِنَّهَا} أي نفقاتهم، أو دعوات الرسول عليه الصلاة والسلام، واستغفاره لهم {قُرْبَةٌ} تقربهم من الله تعالى {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ} بسبب ذلك {فِي رَحْمَتِهِ} نعيمه ورضوانه وجنته

100

{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ} هم من شهد بدراً، أو بيعة الرضوان {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} (انظر آية 22 من سورة المجادلة)

101

{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} يا أهل المدينة {مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} كقبائل أشجع وأسلم وغفار ومزينة وجهينة {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} منافقون أيضاً {مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ} أي لجوا واستمروا عليه {لاَ تَعْلَمُهُمْ} لتسترهم ونفاقهم وتظاهرهم بالإيمان {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} في الدنيا: بالقتل والأسر والخزي والهوان، أو بالأمراض والفضيحة {ثُمَّ يُرَدُّونَ} يوم القيامة.

102

{وَآخَرُونَ} من المنافقين {اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ} بأن تابوا منها. وأقلعوا عنها

103

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} بها من دنس الشح، والبخل، والإثم {وَتُزَكِّيهِمْ} تنمي أعمالهم وحسناتهم {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} ادع لهم {إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} رحمة وسلام وطمأنينة

104

{أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} يغفر لهم ذنوبهم {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} يتقبلها، ويجزي عليها

105

{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} لأنه تعالى مطلع على السرائر {وَرَسُولُهُ} بإطلاع الله تعالى له على أعمالكم؛ قال: «تعرض عليَّ أعمالكم فإن وجدت خيراً حمدت الله، وإن وجدت شراً استغفرت لكم» {وَالْمُؤْمِنُونَ} سيرون بفراستهم ما تنطوي عليه أفئدتكم، وما تنطق به ألسنتكم وتخفيه قلوبكم؛ فإن المؤمن يريه الله تعالى ببصيرته ما لا يراه المنافق ببصره وقد جرت عادة الله تعالى على فضح المنافق وانكشاف أمره؛ قال الشاعر: ومهما تكن عند امرىء من خليقةوإن خالها تخفي على الناس تعلم {وَسَتُرَدُّونَ} ترجعون يوم القيامة {إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ما خفي وما ظهر {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} يجازيكم عليه

106

{وَآخَرُونَ} غير من ذكر من المتخلفين {مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} مؤخرون إلى أن يظهر أمر الله تعالى فيهم {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} فلا يتوب عليهم، ويموتون بلا توبة؛ ويعرضهم للعذاب الأكبر يوم القيامة {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} فيتوبون إلى ربهم، ويحسنون أعمالهم؛ قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بخلقه {حَكِيمٌ} في صنعه؛ فيعلم من يستحق منهم العفو، ممن لا يستحق

107

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً} مضارة. أي بقصد الإضرار بالمؤمنين. وهم أناس من المنافقين. قيل: كانوا اثني عشر رجلاً، وقصدوا ببنائه الإضرار بالذين بنوا مسجد قباء {وَإِرْصَاداً} إعداداً وترقباً {لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} من الكفار والمنافقين {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا} ما أردناه ببناء هذا المسجد {إِلاَّ الْحُسْنَى} والتوسعة على المصلين.

108

{لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} وهو مسجد قباء

109

{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} وهو حافة الوادي المتصدع، المشرف على السقوط

110

{لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً} شكاً {فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ} تتقطع {قُلُوبِهِمْ} بالموت؛ أو إلا أن يتوبوا

111

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ} مثل تعالى إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله؛ بالشراء. عن الحسن رضي الله تعالى عنه: أنفساً هو خلقها، وأموالاً هو رزقها ومر أعرابي بالرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقرؤها فقال: بيع والله مربح؛ لا نقيله ولا نستقيله؛ وخرج إلى الغزو فاستشهد {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ} أي يقتل بعضهم بعض الكفار {يُقَاتِلُونَ} يقتل بعض الكفار بعضهم {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} أي إن جزاء المؤمن على جهاده بالجنة: وعد من الله حق {فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} ومن هنا يعلم أن فريضة الجهاد، ومقاومة الأعداء، وبذل النفس والمال في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى: كان من أقدم العصور التي نزل فيها تشريع إلهي، ودين سماوي؛ وأنه قد نص على أجر المجاهدين وثوابهم {فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} قبل أن ينزل به القرآن الكريم؛ الذي جاء مصدقاً لما تقدمه من الرسل والكتب {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} أي لا أحد أوفى منه تعالى {فَاسْتَبْشِرُواْ} أيها المجاهدون {بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} الله {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وأي فوز أعظم من التمتع بالجنة، والفوز برضا الله تعالى؟ {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ}

112

{التَّائِبُونَ} عن المعاصي {الْحَامِدُونَ} لله تعالى في كل حالة. -[242]- {السَّائِحُونَ} المجاهدون، أو الصائمون. وذلك لأن الصائم تصفو روحه، وتضعف شهوته، وتنجلي قريحته، ويعتدل نظره، ويقل هواه؛ فيكون أقرب شبهاً بالملائكة؛ فيسيح في ملكوت الله تعالى، ويتفكر في خلق السموات والأرض؛ وقيل: هم طلبة العلم؛ لأنهم يسيحون في الأرض ابتغاء طلبه وتحصيله؛ أو هم الجائلون بأفكارهم في ملك ربهم وتوحيده {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} أحكامه، والعمل بما فيها، والحض عليها {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} الذين هذا حالهم بالجنة

113

{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} أي ما يجوز لهم ولا يحق {أَن يَسْتَغْفِرُواْ} يطلبوا من الله المغفرة {لِلْمُشْرِكِينَ} الذين يتخذون مع الله إلهاً آخر {وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى} أي ولو كان المشركون ذوي قرابة للنبي والذين آمنوا. قيل: نزلت حين استغفر لعمه أبي طالب، واستغفر بعض المؤمنين لآبائهم المشركين {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} لأنهم ماتوا على الكفر؛ وليس بعد الكفر ذنب. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}

114

{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ} حين استغفر له {إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} وهي قوله لأبيه حال حياته {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} والمعنى: أنه لا يجوز لكم أيها المؤمنون المستغفرون للمشركين؛ أن تحتجوا باستغفار إبراهيم لأبيه؛ لأنه استغفر له عن موعدة وعدها إياه، ولأنه لم يتبين له بعد أنه من أعداء الله، وأنه من أصحاب الجحيم {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ} بإبائه الإيمان، وموته على الكفر {تَبَرَّأَ مِنْهُ} وترك الاستغفار له {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} كثير التأوه من خشية الله تعالى

115

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} وإنما يضل من أصر على الكفر {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ}

117

{لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} تاب عليهم: رزقهم الإنابة إلى أمره وطاعته {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} في غزوة تبوك: كان للعشرة رجال البعير الواحد، وكان زادهم التمر المدود، والشعير المسوس؛ وربما اقتسم اثنان منهم التمرة الواحدة.

118

{وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ} أي وتاب أيضاً على الثلاثة الذين خلفوا عن التوبة؛ فلم يقبل رسول الله توبتهم وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية. وقيل {الَّذِينَ خُلِّفُواْ} أي تخلفوا عن الجهاد في غزوة تبوك {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} فلم يبق فيها أنس ولا سرور، وذلك بسبب أن الرسول عليه الصلاة والسلام دعا لمقاطعتهم؛ فكان أحدهم يفشي السلام لأقرب أقربائه فلا يرد عليه، وهجرتهم نساؤهم وأهلوهم تيقنوا {أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ} فأكثروا من الابتهال والاستغفار، إلى أن تاب عليهم العزيز الغفار {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} لما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم بما وسعت: لجأوا إلى اللطيف المنان، الرحيم الرحمن؛ فتاب عليهم ليتوبوا فانظر - يا رعاك الله وهداك - إلى رحمة مولاك يتوب عليك لتتوب {تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} ويحببك لتحبه {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ويرضى عنك لترضى عنه {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} فاسأله أن يتوب عليك، وأن يحببك، وأن يرضى عنك تاب الله علينا فيمن تاب، وأحبنا فيمن أحب، ورضي عنا فيمن رضي

120

{مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ} مدينة الرسول {وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ} أي ما صح وما جاز لهم أن يقعدوا عن طاعته، ويتخلفوا عن الجهاد معه {وَلاَ يَرْغَبُواْ} لا يضنوا {بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} أي عما يصيب نفسه من أذى وغم؛ بل يجب عليهم أن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأهليهم، وأن يكونوا معه في الضراء قبل السراء، وفي الشدة قبل الرخاء {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} عطش {وَلاَ نَصَبٌ} تعب {وَلاَ مَخْمَصَةٌ} جوع {وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ} أي لا يحتلون بلداً، ولا يدوسون موضعاً {يَغِيظُ الْكُفَّارَ} وطؤهم له {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً} منالاً. أي لا يقتلون منهم قتيلاً، أو يأسرون أسيراً، أو يجرحون جريحاً {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} ينالون أجره، ويكسبون ثوابه

121

{وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً} أرضاً {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ} أجرهم وجزاؤهم

122

{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ} ما صح، وما جاز لهم {لِيَنفِرُواْ} للحرب، أو لطلب العلم {كَآفَّةً} عامة؛ ويتركوا أهلهم بلا عائل، وأوطانهم بلا حافظ؛ بل ينفر بعضهم للجهاد، وبعضهم للتفقه في الدين، ويبقى باقيهم لحماية الذمار، وحفظ الديار -[244]- {فَلَوْلاَ} فهلا {نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} جماعة {مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ} يتعلموا ويتبصروا {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} بما تعلموه وتفقهوا فيه {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} الجهل فيتجنبونه.

123

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ} أي القريبين منكم؛ لأنك لو قاتلت الأبعدين؛ لم تأمن غدر الأقربين. وذلك النظام من أدق فنون القتال؛ لتحمي ظهرك ممن يلونك من الأعداء {وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} قسوة وشدة؛ ليكونوا عبرة لمن بعدوا عنكم من الكفار؛ وليتم أمر الله تعالى وإعلاء دينه

124

{وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} من القرآن {فَمِنْهُمْ} أي من المنافقين {مَّن يَقُولُ} لأصحابه تعجباً {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ} السورة {إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} بالله؛ ويقيناً بوحدانيته، وتصديقاً برسوله {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} بما أعده الله تعالى لهم من ثواب وأجر

125

{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} الرجس: القذر. وهو كل عمل يؤدي إلى العذاب؛ أي زادتهم كفراً على كفرهم

126

{أَوَلاَ يَرَوْنَ} أي أو لا يرى هؤلاء المنافقون {أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ} ما أعده الله تعالى لهم من ثواب وأجر {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} الرجس: القذر. وهو كل عمل يؤدي إلى العذاب؛ أي زادتهم كفراً على كفرهم {أَوَلاَ يَرَوْنَ} أي أو لا يرى هؤلاء المنافقون {أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ} جعون {وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} يتذكرون

127

{وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ} على الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام {سُورَةٌ} من القرآن {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} قائلين {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} من المؤمنين {ثُمَّ انصَرَفُواْ} من مجلس الرسول؛ معرضين عن سماع القرآن {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} بعد أن مهد لهم تعالى سبل الإيمان فأنكروها، وأبان لهم دواعي الحق فتنكروا لها، وأنزل عليهم آياته فانصرفوا عنها؛ بعد كل ذلك {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} جزاء لهم على انصرافهم؛ وهو كقوله تعالى {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقد يكون معنى قوله تعالى: {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} دعاء عليهم؛ كقوله {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} هذا شأن الزائغين المنصرفين؛ أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات؛ فأولئك {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}

128

{لَقَدْ جَآءَكُمْ} أيها الناس {رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي من جنسكم، وقرىء {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} بفتح الفاء؛ من النفاسة. أي من أشرفكم وأفضلكم، أو أكثركم طاعة وتقرباً إلى الله تعالى {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} شاق على نفسه ارتكابكم الإثم، وتعرضكم للهلاك والتلف والخسران؛ وهو من العنت؛ أي المشقة والحرج {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي حريص على إيمانكم وهدايتكم ونجاتكم

129

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإيمان {فَقُلْ حَسْبِيَ} كافيّ {اللَّهِ} وحده.

سورة يونس

سورة يونس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{الر} (انظر آية 1 من سورة البقرة) {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} المحكم؛ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه

2

{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} استفهام للتقرير والتوبيخ؛ أي هل يجوز أن يعجب الناس {أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} وإنما العجب كل العجب: إذا لم نوحِ أصلاً، أو إذا أوحينا إلى رجل ليس منهم، أو إلى مخلوق ليس من جنسهم؛ فلا يسكنون إليه، أو يرتاحون لمخاطبته: كملك، أو جن، أو غيرهما {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} أي سابقة فضل؛ تستتبع الأجر الحسن، أو هي شفاعة الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ} أي ما هذا النبي إلا ساحر {مُّبِينٌ} بيّن السحر واضحه

3

{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواء يليق به؛ وليس كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان، يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود عن الحدود {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} بين الخلائق {ذلِكُمُ} الموصوف بهذه الصفات، المتسم بهذه السمات {اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} وحده، ولا تشركوا به شيئاً

4

{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} فيجازي كل واحد بما عمل {وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً} إنه لا يخلف الميعاد {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} بالإنشاء {ثُمَّ يُعِيدُهُ} بالإحياء يوم القيامة {بِالْقِسْطِ} بالعدل {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} الحميم: الماء المغلي الشديد الحرارة

5

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً} تضيء للكائنات {وَالْقَمَرَ نُوراً} ينير للموجودات {وَقَدَّرَهُ} أي قدر القمر من حيث سيره {مَنَازِلَ} ثمانية وعشرين منزلاً، لثمان وعشرين ليلة؛ ويستتر ليلة - إذا كان الشهر تسعة وعشرين يوماً - أو ليلتين - إذا كان ثلاثين يوماً {لِتَعْلَمُواْ} بواسطة الشمس والقمر، واختلاف الليل والنهار؛ أو بواسطة تلك المنازل {عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} حساب الشهور والأيام والأعوام {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ} الكون، وما فيه من آيات بينات {إِلاَّ بِالْحَقِّ} إلا بالحكمة والصواب، وإظهار بدائع الصنع، ودلائل القدرة والعلم {يُفَصِّلُ الآيَاتِ} يبينها ويوضحها {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} يتدبرون، ويتوصلون بعلمهم إلى ما في الكون من أسرار

6

{إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ} بالذهاب والمجيء، والإظلام والإنارة، والنقصان والزيادة {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} من بدائع صنعه، وعجائب مخلوقاته؛ إن في كل ذلك {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} الله؛ فيؤمنون به، ويتدبرون في مصنوعاته

7

{إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي لا يؤمنون بالبعث (أنظر مبحث «التعطيل» بآخر الكتاب) {وَرَضُواْ} سكنوا إليها، ولم يعملوا للآخرة

9

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} أي يهديهم مولاهم بسبب إيمانهم. لأنهم ليسوا كالذين انصرفوا فصرف قلوبهم، أو زاغوا فأزاغها

10

{دَعْوَاهُمْ فِيهَا} دعاؤهم في الجنة -[247]- {سُبْحَانَكَ} تقدست وتعاليت. (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} نهاية مطلبهم، أو خاتمة دعائهم، أو آخر قولهم؛ حينما تتحقق سعادتهم {أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} «الذين هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله» {أَيُّ} لو يعجل الله للناس الشر - الذي استحقوه بارتكاب المعاصي والآثام - بقدر استعجالهم للخير - الذي يظنون أنهم استوجبوه بأعمالهم - لأهلكهم جميعاً

11

{فَنَذَرُ} نترك {الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي لا يؤمنون بالبعث؛ ولا يرجون ثواباً ولا عقاباً وإنكار الآخرة وما فيها من بعث وحساب، وثواب وعقاب: يكون بلسان الحال، كما يكون بلسان المقال: فرب مؤمن بالآخرة بلسانه، وأعماله تبالغ في تكذيبه إذ أن الذي لا يقوم بما فرضه الله تعالى عليه من عبادات: غير مؤمن بالآخرة؛ ولو أقسم على إيمانه بها؛ فإن يمينه غموس، والذي يرتكب الموبقات، ولا يخشى رب الأرض والسموات: غير مؤمن بالآخرة؛ وإلا فكيف يكون مؤمناً بالآخرة من يخشى المخلوقين، ولا يخشى أحسن الخالقين؟ كيف يكون مؤمناً بلقاءالله: من يخشى الناس كخشية الله أو أشد خشية إن من شرائط الإيمان بالآخرة أيها المؤمن: أن تخشى عقابها وتطمع في ثوابها، وأن تعلم أن ربك قد أحصى عليك عملك، وأنه محاسبك؛ فمجازيك عليه: إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يترددون متحيرين

12

{وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ} المرض، أو الفاقة {دَعَانَا لِجَنبِهِ} مريضاً: لا يمكنه الحركة {أَوْ قَاعِداً} متعباً: لا يمكنه القيام {أَوْ قَآئِماً} دائباً في طلب الرزق فلا يجد ما يسد الرمق. أو المراد أنه يدعو ربه على كل حالة هو عليها. ومن المعلوم أن حالة الإنسان وهيئته لا يعدوان ثلاث حالات: نائماً، أو قاعداً، أو قائماً {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ} الذي دعانا من أجله: شفينا مرضه، ومحونا بؤسه، وأزلنا فقره {مَرَّ} انصرف عنا، أو استمر على كفره {كَأَن لَّمْ} يحتج إلينا، ويفتقر إلى معونتنا، ولم {يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} فكشفناه عنه {كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ} الكافرين

13

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ} الأمم {لَمَّا ظَلَمُواْ} كفروا {وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} الآيات الدالات على صدق رسالاتهم {وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} لأن الله تعالى طبع على قلوبهم؛ جزاء على كفرهم

14

{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ -[248]- خَلاَئِفَ} خلفاء؛ تخلفونهم في سكنى الأرض وعمارتها {لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} أتكفرون ككفرهم، وتنصرفون عن الإيمان كانصرافهم أم تؤمنون شأن سائر العقلاء

15

{قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي قال الذين لا يؤمنون بالبعث، ولا بالجزاء.

16

{قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ} أي لو شاء الله تعالى ما أرسلني به إليكم، و {مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} {وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ} أي ولا أعلمكم به الله تعالى على لساني {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً} أي مكثت بينكم سنين طوالاً؛ فلم أحدثكم بشيء من ذلك، حتى أوحى الله تعالى إلي به، وكلفني بإبلاغه

17

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} اختلق قرآناً؛ كما تنسبون إلي {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} التي أنزلها؛ كما تفعلون أنتم الآن

18

{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {مَا لاَ يَضُرُّهُمْ} أي لا يستطيع إيصال الضرر إليهم {وَلاَ يَنفَعُهُمْ} لا يجلب لهم النفع؛ وذلك لأنه جماد لا يعقل {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} نتقرب بهم إليه {سُبْحَانَهُ} تنزه وتقدس عن أن يكون له شريك، أو أن يشفع عنده أحد إلا بإذنه. (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء)

19

{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} على دين واحد؛ هو الإسلام من لدن آدم إلى نوح عليهما السلام، أو المراد بالناس: نوح ومن نجا معه في سفينته {فَاخْتَلَفُواْ} فأرسل الله تعالى إليهم رسله وأنبياءه. وقيل: كانوا أمة واحدة على الكفر، فبعث الله النبيين لهدايتهم. أو المراد أنه يولد من يولد على الفطرة، ثم أبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه «فاختلفوا» عند بلوغهم {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ} هي تأخير الجزاء إلى يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} لعجل عقابهم في الدنيا

20

{وَيَقُولُونَ لَوْلاَ} هلا {أُنزِلَ عَلَيْهِ} أي على محمد {آيَةٍ} معجزة {مِّن رَّبِّهِ} كعصا موسى، وناقة صالح، وأمثالهما {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ} لا يعلمه سواه {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} {فَانْتَظِرُواْ} ما يفعله الله بي وبكم لذلك

21

{وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} رزقاً وخيراً -[249]- {مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ} بؤس وجدب {إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا} بأن دفعوها وأنكروها بالاستهزاء والتكذيب {قُلْ} لهم {اللَّهُ أَسْرَعُ} منكم {مَكْراً} أي أسرع عقوبة لكم على مكركم {إِنَّ رُسُلَنَا} أي الحفظة {يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} أي يحصون في صحف أعمالكم ما تقومون به من سوء وشر؛ فنجزيكم به، ونؤاخذكم عليه

22

{حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ} السفن {جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} شديدة الهبوب {وَظَنُّواْ} تأكدوا {أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي أهلكوا. وهو من إحاطة العدو المؤدية إلى الهلاك {دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي مخلصين في دعوته، صادقين في محبته

23

{فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ} يفسدون فيها {يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} أي إنما إثم بغيكم واقع على أنفسكم {مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي تمتعوا متاع الحياة الدنيا؛ وليس لكم في الآخرة من نصيب {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ} يوم القيامة {فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فنجازيكم عليه

24

{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} صفتها في زوالها وفنائها {كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ} أي اختلط بالماء {نَبَاتُ الأَرْضِ} جميعاً؛ فأنبت {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ} من الحبوب والثمار وغيرهما {وَالأَنْعَامُ} أي ومما تأكل الأنعام؛ من الكلإ والتبن والشعير وغيره {حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} استكملت زينتها وبهجتها؛ بالثمار والأزهار، والنبات والأقوات {وَظَنَّ} تيقن {أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ} أي متمكنون منها، مالكون لها -[250]- {أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} وذلك لأن الأمر - إذا أتى - يكون نهاراً في بقعة من الأرض، وليلاً في بقعة أخرى. والمقصود بأمر الله الذي يأتي ليلاً أو نهاراً: الأمر بزوال الأرض والسموات، وانقضاء الدنيا {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} خراباً يباباً؛ كالأرض المحصودة {كَأَن لَّمْ تَغْنَ} كأن لم تسكن إطلاقاً

25

{وَاللَّهُ يَدْعُو} إلى الإيمان به، والعمل الصالح؛ وكلاهما موصل {إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} إلى الجنة؛ لأنها ممتلئة أمناً وخيراً، وسعادة وسلاماً؛ ولأنها هي «دار السلام» {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} ويقال لهم: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} والمنعم بها تعالى اسمه «السلام»

26

{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} في هذه الدنيا {الْحُسْنَى} الجنة؛ جزاء لإحسانهم {وَزِيَادَةٌ} هي مضاعفة حسناتهم إلى ما لا نهاية له وقد ورد في الحديث الشريف: أن الزيادة؛ هي النظر إلى وجه الله تعالى {وَلاَ يَرْهَقُ} لا يغشى {وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} غبرة وسواد؛ كشأن أهل النار {وَلاَ ذِلَّةٌ} هوان وخزي؛ كالذلة والمهانة التي تعتري أهل الجحيم

27

{وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ} عملوها {جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} أي بعقوبة تماثلها في الجرم {وَتَرْهَقُهُمْ} تغشاهم {ذِلَّةٌ} خزي وهوان وفضيحة {مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} مانع، وواق؛ يمنع عنهم عذابه، ويقيهم ناره {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ} غطيت {وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الْلَّيْلِ مُظْلِماً} أي صارت وجوههم سوداء كقطع الليل المظلم

28

{ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ} أي ألزموا مكانكم لا تبرحوه؛ حتى تروا ما يحل بكم {أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ} الذين كنتم تعبدونهم {فَزَيَّلْنَا} فرقنا وميزنا {بَيْنَهُمْ} وبين المؤمنين. وهو كقوله تعالى {وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}

30

{هُنَالِكَ} أي في ذلك اليوم {تَبْلُواْ} من الابتلاء، وقرىء «تتلو» من التلاوة {كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} ما قدمت من عمل -[251]- {وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ} إلههم وسيدهم {الْحَقِّ} الذي لا إله غيره، ولا سيد سواه، ولا شريك له {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي غابت عنهم آلهتهم التي كانوا يزعمونها؛ فلم تشفع لهم عندالله، ولم تمنع عنهم عذابه

31

{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ} بإنزال المطر؛ المنبت للحب والثمر؛ وإن شاء تعالى منعه {وَالأَرْضِ} بإخراج النبات والأقوات؛ وإن شاء تعالى أجدبها؛ فمتم عند ذاك جوعاً وعطشاً {أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ} يملك خلقها، وإن شاء أصمها {والأَبْصَارَ} أنارها، وإن شاء أعماها {وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} المسلم من الكافر، والكافر من المسلم، والإنسان من النطفة، والنطفة من الإنسان {وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ} في السماء والأرض؛ فينزل الماء، ويخرج النبات، وينشر الأقوات؛ ويهب لمن شاء البنين ولمن شاء البنات؛ بتدبير منظم حكيم {ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}

32

{فَأَنَّى} فكيف {تُصْرَفُونَ} عن الإيمان؛ وهذه دلائله وبراهينه

33

{كَذَلِكَ حَقَّتْ} وجبت {كَلِمَةُ رَبِّكَ} عذابه {عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ} كفروا وتمردوا، وتجاوزوا الحد. وهي قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}

34

{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ} الذين تعبدونهم {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فكيف تصرفون عن عبادته؛ مع قيام هذه الأدلة؟

35

{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ} أي الأصنام التي تعبدونها {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} وهو الله جل شأنه {أَحَقُّ} وأجدر {أَن يُتَّبَعَ} ويعبد ويطاع {أَمَّن لاَّ يَهِدِّي} يهتدي {إِلاَّ أَن يُهْدَى} أي لا يهتدي إلى مكانه إلا إن هداه غيره إليه. والمعنى: أفمن يهدي الناس إلى الحق ويهديهم إلى ما يصلحهم، ويهديهم إلى ما فيه خيرهم - وهو الله تعالى - أحق بالعبادة والاتباع أمن لا يستطيع هداية نفسه إلى مكانه - وهم الأصنام - إلا أن يحمله حامل؛ فيضعه حيث شاء؛ لا حيث تريد الأصنام؛ التي لا إرادة لها {فَمَا لَكُمْ} ما الذي أصابكم، وماذا دهاكم وأتلف عقولكم؟ {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكم الفاسد؛ الذي لا يسنده عقل ولا منطق

36

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ} أي أكثر الكفار {إِلاَّ ظَنّاً} حيث قلدوا آباءهم في عبادة الأصنام؛ ولم يحكموا عقولهم

37

{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى} أي لا يجوز عقلاً، ولا يصح دراية أن يكون هذا القرآن مفترى. لأنه فوق طاقة البشر {وَلَكِنْ} أنزل {تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} ما تقدمه من الكتب كالتوراة والإنجيل وغيرهما {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} تبيين ما كتبه الله تعالى، وأنزله على رسله {لاَ رَيْبَ} لا شك {فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ *

38

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} (انظر آية 23 من سورة البقرة) {وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} استعينوا بمن شئتم {مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره: هل يمكنكم أن تأتوا بسورة من مثله {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}

39

{بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} وهو القرآن الكريم؛ والناس دائماً أعداء لما جهلوا {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} لم يأتهم حتى الآن عاقبة ما في القرآن من الوعد والوعيد {وَمِنهُمْ} أي من أهل مكة {مَّن يُؤْمِنُ بِهِ} أي من سيؤمن بهذا القرآن. علم الله تعالى ذلك عنهم

40

{وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} أبد الدهر {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} وسيقتص منهم في الدنيا والآخرة

41

{وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي} ثواب عملي {وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} إثمه وعقابه

42

{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} إذا قرأت القرآن، وإذا نصحت لهم بالإيمان؛ لكنهم لا يستمعون لك سماع تدبر أو تبصر

43

{أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} شبههم بالعمي: لتعاميهم عن الحق {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}

44

{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} عندما يعاقبهم {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بارتكابهم المعاصي، وتعريض أنفسهم للعقاب

45

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} يجمعهم يوم القيامة {كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ} كأن لم يمكثوا في الدنيا، أو في القبور {إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} يعرف بعضهم بعضاً عند البعث: تعارف بغض وافتضاح؛ يقول هذا لذاك: أنت أضللتني، أنت أغويتني، أنت حملتني على الكفر. ويتبرأ بعضهم من بعض، ويسب بعضهم بعضاً وليس التعارف تعارف حب ومودة، وتراحم وشفقة؛ كتعارف المحبين في الدنيا {قَدْ خَسِرَ} يومئذ {الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ} وأنكروا البعث والحساب، والجزاء (انظر مبحث التعطيل بآخر الكتاب)

46

{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من العذاب في الدنيا {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل تعذيبهم {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} فننتقم منهم {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} مشاهد ومطلع

47

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم {رَّسُولٌ} يهديهم إلى طريق السداد والرشاد {فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ} إليهم فكذبوه {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} بالعدل فأهلكنا المكذبين، وأنجينا المؤمنين

48

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} أي متى هذا العذاب الذي تهددنا به

49

{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} وبالتالي لا أعلم ما يريده الله تعالى بي ولا بكم {إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} أن يطلعني عليه لحكمة خاصة {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} موعد لتعذيبهم

50

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً} ليلاً

51

{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} العذاب {آمَنْتُمْ بِهِ} أي بالعذاب الواقع وقيل لكم تؤمنون {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} -[254]- {وَقَدْ كُنتُم بِهِ} أي بهذا العذاب {تَسْتَعْجِلُونَ} لتشككم في وقوعه، وتكذيبكم لمن أنذر به

52

{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} كفروا {ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ} العذاب الدائم؛ نعوذ ب الله تعالى من غضبه وعذابه (انظر آية 93 من سورة النساء)

53

{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ} يستخبرونك {أَحَقٌّ هُوَ} أي ما وعدتنا به من البعث والحساب والجزاء {قُلْ إِي وَرَبِّي} نعم والله {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بغالبين، أو بفائتين العذاب الذي أعده الله تعالى لكم

54

{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} نفسها بالكفر والمعاصي، أو {ظَلَمَتْ} غيرها بالبغي والعدوان. لو أن لها {مَا فِي الأَرْضِ} جميعاً من مال ومتاع {لاَفْتَدَتْ بِهِ} نفسها من عذاب يومئذٍ {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ} أظهروها {لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ} وبدت الندامة على أسارير وجوههم؛ ومنه قولهم: أسر إليه المودة وبها. أي أظهرها له {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} بالعدل

57

{يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} القرآن الكريم {وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ} وأمراض الصدور: أخطر من أمراض الجسوم؛ لأن أمراض الصدور تؤدي إلى الجحيم، وأمراض الجسوم تؤدي إلى النعيم ولا شفاء للصدر إلا بالقرآن، ولا نجاة من النيران إلا به وشفاء الصدور: هو تخليصها من الشرور، وإرشادها إلى ما فيه الحياة الأبدية، والسعادة السرمدية

58

{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ} عليهم {وَبِرَحْمَتِهِ} لهم {فَبِذَلِكَ} الفضل والرحمة {فَلْيَفْرَحُواْ} لا بالمال والنسب، والجاه والحسب. وقد ورد أن المراد بفضل الله في هذه الآية: الإسلام. والمراد برحمته: القرآن. هذا وكل خير يصيب الإنسان: فمرده إلى فضل الله تعالى وحده، وكل بر وسعادة ونجاة: فمرده إلى رحمته جل شأنه ففضله تعالى ورحمته هما الموصلان إلى خيري الدنيا والآخرة منحنا الله تعالى فضله، ووهبنا رحمته؛ بفضله ورحمته {هُوَ} أي فضل الله ورحمته {خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} في الدنيا من الأموال

59

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ} طيب حلال {فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً} كالبحيرة والسائبة (انظر آية 103 من سورة المائدة) في تحريم ما حرمتم، وتحليل ما أحللتم -[255]- {أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} تكذبون عليه بنسبة ذلك إليه.

61

{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} من الشؤون، أو أمر من الأمور {وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ} أي {مَا تَتْلُواْ} من أجل ذلك الشأن {مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} قل أو جل {إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً} مشاهدين ومراقبين لأعمالكم؛ نعلم ظواهركم وبواطنكم {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} تأخذون في عمله {وَمَا يَعْزُبُ} وما يبعد، ولا يغيب {عَن رَّبِّكَ} عن بصره وإرادته ومشيئته {مِن مِّثْقَالِ} وزن {ذَرَّةٍ} نملة صغيرة؛ تذروها الريح إذا هبت {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} هو اللوح المحفوظ؛ كتب فيه ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة

62

{أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ} خاصته وأحباءه {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الدنيا {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} في الآخرة

63

{الَّذِينَ آمَنُواْ} بالله تعالى وأحسنوا أعمالهم {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} الله، ويخشون غضبه وعذابه؛ فصدرت أعمالهم في حدود ما رسمه الله تعالى لعباده وأراده لهم فأولئك

64

{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا} يبشرون وقت النزع؛ بأن يرى المحتضر مكانه من الجنة رأى العين؛ فيتهلل ويستبشر. وهذا مشاهد متواتر في كل مؤمن معهود فيه التقوى، مشهود له بالصلاح {وَفِي الآخِرَةِ} {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} فأمره نافذ، ووعده محقق؛ جعلنا الله تعالى من المستبشرين في الحياة الدنيا وفي الآخرة بمنه وفضله {ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي قول المشركين لك: {لَسْتَ مُرْسَلاً} {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} وأمثال ذلك {إِنَّ الْعِزَّةَ} القوة والغلبة {للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ} لأقوالهم {الْعَلِيمُ} بأفعالهم؛ وسيجازيهم عليها؛ بعد أن ينصرك نصراً عزيزاً مؤزراً

66

{وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ} يعبدون -[256]- {مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره {شُرَكَآءَ} لله في ملكه كما يزعمون {إِن يَتَّبِعُونَ} ما يتبعون {إِلاَّ الظَّنَّ} الوهم والتخمين {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يختلقون ويفترون

67

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ} لتستريحوا {فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} مضيئاً؛ تبصرون فيه

68

{قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} وهو أحد صمد؛ لم يلد ولم يولد ومن عجب أن هؤلاء الحمقى الجهال، ينسبون للعلي المتعال؛ ما ينزهون عنه رهبانهم؛ إذ أنهم لا يتزوجون ولا يلدون {سُبْحَانَهُ} تنزه وتقدس أن يكون له ولد وكيف يكون له ولد؛ و {هُوَ الْغَنِيُّ} عن الولد، والوالد، والصاحبة؛ لأن الإنسان يحتاج للصاحبة: لتؤنسه وتخدمه. وللوالد: ليكلأه ويرعاه. وللولد: ليعينه ويستكثر به. والله تعالى ليس في حاجة إلى مؤنس، أو كالىء، أو مدبر، أو راع، أو معين. إذ هو وحده مؤنس الكائنات، وكالؤهم، ومدبر مصالحهم، وراعيهم، ومعينهم {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ} ملكاً وخلقاً وعبيداً {إِنْ عِندَكُمْ} ما عندكم {مِّن سُلْطَانٍ} حجة {بِهَذَآ} الذي تقولونه

69

{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ} يختلقون {عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بنسبة الولد إليه

70

{مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} أي ليس لهم إلا تمتع قليل في الدنيا {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} فنحاسبهم حساباً عسيراً على ما عملوا في دنياهم {يقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ} عظم وثقل {عَلَيْكُمْ مَّقَامِي} إقامتي بينكم شق عليكم وعظي لكم

71

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} وحده {تَوَكَّلْتُ} أي اعتمدت عليه، واستعنت به. وليس أدل على صدق الإيمان، ومزيد الإيقان؛ من التوكل على الله تعالى. وقد قال نوح لقومه ما في نفسه ليشعرهم أنه - وقد استعان ب الله تعالى - لا يعبأ بكيدهم ولا بجمعهم، ولا يخشى من قوتهم وكثرة عددهم لذلك جابههم بقوله {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ} اعزموا على أمر تفعلونه بي، وكيد تكيدونه لي {وَشُرَكَآءَكُمْ} أي وادعوا شركاءكم لنصرتكم {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ} الذي تعزمون عليه {عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي لا يكن مستوراً عليكم، بل واضحاً، تتمكنون منه، وتقدرون عليه؛ من غم الهلال: إذا استتر واحتجب. أو {لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي لا تكن نتيجة أمركم غماً عليكم {ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ} امضوا فيما أردتموه من النيل مني {وَلاَ تُنظِرُونَ} لا تمهلوني فانظر - يا هداك الله - إلى هذه القوة التي وهبها الله تعالى لنبيه نوح، والشجاعة التي بثها في روحه وما كان ذلك إلا وليد اعتماده على ربه سبحانه وتعالى وتوكله عليه (انظر آية 81 من سورة النساء)

72

{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن الإيمان الذي دعوتكم إليه، والتذكير الذي وعظتكم به {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ} على ذلك

73

{فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ} في السفينة؛ ويطلق على الواحد والجمع {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ} خلفاء؛ جمع خليفة

74

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ} أي بعد نوح عليه السلام {رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ} أي هوداً وصالحاً، وإبراهيم ولوطاً، وشعيباً {فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الحجج الواضحة الدالة على صدق رسالتهم {فَمَا كَانُواْ} أي فما كان هؤلاء الأقوام {لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} أي بما كذب به آباؤهم {كَذَلِكَ نَطْبَعُ} نختم {عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ} الذين اعتدوا على رسلهم وأنبيائهم، وكذبوا بما أرسلوا به؛ ولم تنفعهم العظات، ولم يؤمنوا بالآيات البينات

76

{فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا} التوراة {قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} واضح ظاهر

77

{قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ} هذا القول {لِلْحَقِّ} الواضح {لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا} أي أيعقل أن يكون هذا سحراً، وهو واضح مبين؟

78

{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا} لتصرفنا {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ} أي الملك؛ لأن الملوك موصوفون بالكبر والتجبر

79

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} لقومه {ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} فائق في فن السحر؛ لنحارب موسى بسحر مثله

80

{فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} وذلك بعد أن قالوا له: «إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين» {حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} حبالهم وعصيهم

81

{قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} أي إن الذي جئتم به الآن هو السحر؛ لا ما اتهمتموني به؛ و {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} لأن سنته تعالى في خلقه: أنه {لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} يظهره ويعليه {بِكَلِمَاتِهِ} بأمره وقدرته

83

{فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} أي طائفة من أبناء قومه؛ أما كبارهم فاستكبروا وعتوا وهذه الطائفة التي آمنت؛ إنما آمنت {عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} أي رغم خوفهم من فرعون، وخوفهم من ملئهم؛ الذين هم أهلوهم وآباؤهم. أو على خوف من فرعون وشيعته {أَن يَفْتِنَهُمْ} أن يعذبهم {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ} متكبر جبار {وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} المتجاوزين للحد: بكفره وادعائه الربوبية

85

{فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} وهو لا شك معيننا وناصرنا (انظر آية 81 من سورة النساء) {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} أي موضع فتنة {لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} بحيث يفتنوننا عن ديننا، ويضلوننا. والفاتن: المضل عن الحق. أو «فتنة» بمعنى عذاباً. أي لا تجعلنا موضع عذابهم وانتقامهم

87

{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا} أي اتخذا. يقال: تبوأ المنزل: إذا نزله واتخذه سكناً {وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي مساجد تصلون فيها سراً؛ خوفاً من أذى فرعون وملئه

88

{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً} فرشا وثيراً، وملبساً حسناً، ومسكناً فخماً، ومركباً فارهاً، وحلياً نفيسة {وَأَمْوَالاً} وفيرة -[259]- {لِيُضِلُّواْ} الناس {عَن سَبِيلِكَ} عن دينك الحق القويم {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} أي أهلكها وأذهب آثارها {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} اطبع عليها؛ جزاء تمسكهم بكفرهم، واستهزائهم بنبيهم، وإيذائهم للمؤمنين {فَلاَ يُؤْمِنُواْ} لك {حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} الذي تنزله بالمستهزئين، وتلحقه بالكافرين

89

{قَالَ} الله تعالى {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} فلم يؤمن فرعون وقومه حتى أدركهم الغرق؛ فلم ينفعهم إيمانهم {فَاسْتَقِيمَا} اثبتا على ما أنتما عليه من نشر الدعوة {وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} صدق الإجابة، وحكمة الإمهال

90

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} جعلناهم يسلكونه ويتجاوزونه؛ بأن فرق الله تعالى الماء: فمر بنو إسرائيل على اليابسة. قال تعالى: {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} {فَأَتْبَعَهُمْ} لحقهم {فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً} منهم على المؤمنين {وَعَدْواً} اعتداء وتطاولاً وظلماً {حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ذهب بعضهم إلى أن فرعون قد آمن بقوله هذا؛ وأنه لا ينافي إيمانه ما جاء بعد ذلك في القرآن الكريم

91

{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} لأن ذلك القول من قول الملك الموكل بالعذاب لا من قول الحكيم الخبير وهذ القول يرده قول العزيز العليم {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} وحضور الموت - المعنى في هذه الآية - هو اليأس من الحياة؛ وقد قال فرعون ما قال وقت إطباق البحر عليه، ويأسه من النجاة، وسبب إهلاك فرعون بالإغراق: هو أنه ألجأ بني إسرائيل إلى البحر ليغرقهم أو يقتلهم؛ فكان جزاؤه من جنس عمله. وتأمل - يا رعاك الله - إلى قدرة الله؛ فقد جعل في لحظة واحدة العزيز ذليلاً، والذليل عزيزاً؛ إذ لم يكن أعز من فرعون وملئه، ولا أذل من موسى وقومه (انظر آية 18 من سورة النساء)

92

{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} بجسمك؛ بعد إزهاق روحك {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ} أي لمن بعدك من الأمم {آيَةٍ} عبرة لهم؛ وها هي ذي جثته الآن تعرض في دار الآثار المصرية. {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ} الكافرين {عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} لا يتعظون بها «وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها»

93

{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} أي أنزلناهم منزل تكريم في مصر والشام، أو الشام وبيت المقدس {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} الثمار وغيرها {فَمَا اخْتَلَفُواْ} في أمر محمد الذي بشر به كتابهم {حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} القرآن.

94

{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} من أن ذكرك قد ورد في التوراة والإنجيل {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} المقصود بالكتاب: التوراة والإنجيل. قال حين نزلت: «لا أشك ولا أسأل» {لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ} القرآن {مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الشاكين

96

{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ} وجبت {عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} بالعذاب

98

{فَلَوْلاَ} فهلا؛ وقرأ بها أُبي وابن مسعود {كَانَتْ قَرْيَةٌ} واحدة؛ من القرى التي أهلكناها {آمَنتُ} أي تاب أهلها عن الكفر، وآمنوا بمحض إرادتهم؛ قبل أن ينزل بواديهم العذاب ويحل بساحتهم، كما حل بساحة فرعون وملئه {فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا} لأنها آمنت قبل اليأس من الحياة {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ} بعد نزول العذاب بهم {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ} الذي كان سيحل بهم {فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} وهو انقضاء آجالهم

99

{وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} ولكنه تعالى تركهم لمحض إرادتهم واختيارهم؛ ليثيب الطائع، ويعاقب العاصي فإذا كان ربك يا محمد لم يشأ أن يؤمن الناس قسراً وجبراً {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} ليس عليك هداهم، وما عليك إلا البلاغ المبين

100

{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} بأمره وإرادته وتوفيقه {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ} العذاب {عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} لا يتدبرون آيات الله تعالى؛ فلا يؤمنون بها

101

{قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} من الدلالات القاطعة بوجود صانعها وبارئها ومدبرها {وَمَا تُغْنِي} ما تنفع. -[261]- {الآيَاتِ} المبينة الواضحة {وَالنُّذُرُ} الرسل {عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} لا يفتحون أعينهم للآيات، ولا أسماعهم للعظات

102

{فَهَلْ يَنتَظِرُونَ} بتكذيبك ومخالفتك {إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ} أي الذين مضوا من الأمم الذين كذبوا؛ فنزل بهم العذاب {فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} يميتكم باستيفاء آجالكم في الدنيا

105

{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ} أي استقم واتجه بكليتك {لِلدِّينِ} الذي أمرت باتباعه؛ ولا تلتفت إلى ما عداه {حَنِيفاً} مائلاً إلى الإسلام

106

{وَلاَ تَدْعُ} لا تعبد {مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره {مَا لاَ يَنفَعُكَ} إن دعوته وعبدته {وَلاَ يَضُرُّكَ} إن كفرته وتركته {فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ} الخطاب للرسول الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ والمراد به أمته؛ لأنه هو صاحب الدين الحنيف، الداعي إليه، الهادي له، وهو الآمر بالتوحيد، الحاث عليه، الناهي عن الشرك، المحطم له وفقنا الله تعالى إلى حسن اتباعه، وحشرنا في زمرته؛ بفضله ورحمته

107

{وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} مرض، وشدة {فَلاَ كَاشِفَ لَهُ} أي لا كاشف لهذا الضر {إِلاَّ هُوَ} وحده {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} عافية ويسر {فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ} أي بالخير، أو بكل ما أراد من خير وشر {مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} جزاء، أو ابتلاء

108

{قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ} القرآن - الذي هو حق كله - {مِن رَّبِّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَى} به -[262]- {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} لأن ثواب هدايته عائد إليها {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} لأن إثم ضلاله واقع عليها {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} فألزمكم بالإيمان، وأجبركم على الهدى.

سورة هود

سورة هود بسم اللَّه الرحمن الرحيم

1

{الر} (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة البقرة) {كِتَابٌ} قرآن {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} بما احتوته من عجيب النظم، وبليغ اللفظ، وبديع المعاني؛ لا خلل فيها ولا خطل {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بينت بالأحكام، والمواعظ، والوعد، والوعيد، والثواب والعقاب، والقصص {مِن لَّدُنْ} من عند {حَكِيمٍ} محكم للأمور {خَبِيرٍ} بكل ما كان وما يكون

2

{إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ} بالعقاب {وَبَشِيرٌ} بالثواب

3

{وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ} من الشرك والكبائر {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} من ذنوبكم. وقدم تعالى الأمر بالاستغفار: لأن المغفرة هي الغرض، والتوبة هي السبب المؤدي إلى المغفرة {يُمَتِّعْكُمْ} في الدنيا {مَّتَاعاً حَسَناً} بسعة الرزق، ورغد العيش؛ فإن لم يرزقهما التائب المستغفر رزق ما هو خير منهما: رزقه الله تعالى القناعة والرضا. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: غنى بلا مال عن الناس كلهموليس الغنى إلا عن الشيء لا به ورزقه الله تعالى أيضاً السرور والحبور؛ فتعالى الغني المغني، اللطيف الخبير وهذا المتاع الحسن {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو انقضاء الأجل، وتحقيق الأمل؛ وكمال السعادة، وتمام السيادة، وتوفية الأجر الذي وعد به الكريم، وتفضل به على عباده المؤمنين التائبين {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أي جزاء فضله {وَإِن تَوَلَّوْاْ} تتولوا وتعرضوا.

5

{أَلا إِنَّهُمْ} وصف للمنافقين {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} أي يطوون قلوبهم على عداوة المؤمنين وبغضهم. أو المراد: ينصرفون ويعرضون عن سماع الحق {لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} أي من الله؛ ظناً منهم أنه تعالى لا يرى سرائرهم، أو {لِيَسْتَخْفُواْ} من الرسول {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} يتغطون بها؛ كراهة استماع كلام الله تعالى. وهذا كقول نوح عليه الصلاة والسلام {جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ} والله تعالى {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما حوته القلوب

6

{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ} الدابة: كل ما يدب على وجه الأرض؛ من إنسان وحيوان وطائر {إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} تكفل به تعالى لكل ذي روح؛ فانظر - يا رعاك الله - كيف يرزق مولاك الطير في الهواء، والسمك في الماء، والدودة في الصخرة الصماء وانظر إلى رزقه للإنسان، رغم أنه دائب العصيان، دائم الكفران فإن الأسماك في البحار لتكاد تلقي بنفسها بين يديه؛ ليملأ بها شدقيه والطير يهجر أوطانه، ويترك أخدانه، وينتقل من بلد فيه نشأ، وفي أرضه درج؛ فيسبح في الهواء آلاف الأميال؛ ليلقي عصا الترحال، على مائدة بني الإنسان؛ وبعد ذلك فإن هذا الإنسان - بعد موته - يكون طعاماً لغيره مما خلق الله تعالى من الدواب التي تكفل برزقها، وضمن حياتها حتى تنتهي آجالها. فأي نظام هذا الذي وضعه العلي القدير، ونظمه الحكيم الخبير؟ هو بعد ذلك {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} أي مستقر كل دابة خلقها {وَمُسْتَوْدَعَهَا} والمستقر: موضع القرار؛ من مكان، أو مسكن في الأرض. والمستودع: مكانها في الصلب والرحم، أو مكانها في الأرض حين تدفن بعد موتها {كُلِّ} من الدواب، والرزق، والمستقر، والمستودع {فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} بين وهو اللوح المحفوظ

7

{وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} وما فيهما {لِيَبْلُوَكُمْ} ليختبركم {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فيجزي عليه الجزاء الأوفى {وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ} ومجزيون على أعمالكم {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ} أي ما هذا القرآن المحتوي على ذكر البعث {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} بيِّن السحر واضحه. وقرأ حمزة وعلي {سَاحِرٌ} ويكون المراد به الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه. والساحر: الكاذب المبطل

8

{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ} مدة من الزمن {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} أي ما يمنع العذاب من النزول؟ {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} العذاب {لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} أي لا يمنعه مانع، ولا يدفعه دافع {وَحَاقَ} نزل {بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ} من العذاب ويقولون: «ما يحبسه»

9

{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} نعمة وفضلاً {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} امتحاناً له {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ} قنوط من رحمة الله تعالى {كَفُورٌ} به

10

{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ -[264]- نَعْمَآءَ} غنى وسعة {بَعْدَ ضَرَّآءَ} فقر وشدة {مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} أي انقطع الفقر والضيق {إِنَّهُ} عندئذ {لَفَرِحٌ} فرح بطر وكبر؛ لا فرح نعمة وشكر {فَخُورٌ} على الناس، متكبر عليهم، مستهين بهم

11

{إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ} على الضراء، وشكروا ربهم في سائر حالاتهم {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} في النعماء، ولم ينكروا أنعم الله تعالى عليهم، وفضله الواصل إليهم ولا يخفى أن أولى الأعمال الصالحة وأولاها: البذل والصدقة {

12

فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا} وذلك لأنهم كانوا يتلقون الوحي - عند نزوله - بالطعن والاستهزاء؛ فنزلت هذه الآية لفتاً لأنظارهم؛ وليعلموا أنهم مهما سخروا، ومهما استهزؤا، فإن الله بالغ أمره، وإن رسوله مبلغ رسالته {وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} كراهة استهزائهم، وكراهة {أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ} هلا {أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} يؤيده في رسالته؟ قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} {إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ} منذر لهم بما أعددته للكافرين، من عذاب أليم

13

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} اختلق القرآن {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} (انظر آية 23 من سورة البقرة) {مُفْتَرَيَاتٍ} مختلقات {وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} لمعاونتكم {مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره

14

{فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} أي لم يجبكم من استعنتم بهم للإتيان بمثل هذا القرآن؛ وبان لكم عجزكم جميعاً عن الإتيان بمثله {فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أُنزِلِ} هذا القرآن {بِعِلْمِ اللَّهِ} وإرادته؛ لا باختلاق مختلق، ولا بافتراء مفتر {وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} بعد ظهور هذه الدلالات والحجج القاطعة

15

{مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} ويرغب في الحصول على المزيد من ملذاتها؛ ضارباً صفحاً عن الآخرة وما يوصل إليها من الإيمان وصالح الأعمال؛ فأولئك {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أي نجزهم في الدنيا على ما عملوه فيها من عمل صالح: كبر الوالدين، وحسن المعاملة، وأمثال ذلك {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} لا ينقصون شيئاً مما عملوه؛ فيجزون بمزيد من المال والصحة

16

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ} بطل {مَا صَنَعُواْ فِيهَا} أي في الدنيا؛ لأن أعمالهم لم يقصد بها وجه الله تعالى؛ بل قصد بها التفاخر والاستكثار

17

{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} على برهان من الله، وحجة بينة عقلية: أن دين الإسلام حق {وَيَتْلُوهُ} يتبعه {شَاهِدٌ مِّنْهُ} أي من الله تعالى؛ يشهد بصدقه؛ وهو القرآن الكريم. -[265]- {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} التوراة {إَمَاماً} الإمام: الجامع للخير، المقيم على الحق {أُوْلَئِكَ} أي الذين هم على بينة من ربهم {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي بالقرآن {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ} من الكفار؛ وسموا أحزاباً: لأنهم تحزبوا على معاداة الرسول {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ} شك

18

{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّنِ افْتَرَى} اختلق {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ} أي الشهود؛ الذين شاهدوا كفرهم: من الملائكة والنبيين {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ} بنسبة الولد والشريك إليه

19

{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} يمنعون الناس عن دينه {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} يصفونها بالاعوجاج، أو يتمنون أن تكون معوجة

20

{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} فائتين أو غالبين {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره {مِنْ أَوْلِيَآءَ} يمنعونهم من عذاب الله تعالى وينصرونهم؛ ولكنه تعالى أراد إنظارهم، وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} فيه {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} لما كانوا - لانصرافهم عن استماع الحق، وتعاميهم عنه - كمن لا يسمع ولا يرى: عبر عنهم بعدم استطاعة السمع والإبصار

21

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ} لأنهم أوقعوها في العذاب الدائم، والنار المؤبدة {وَضَلَّ عَنْهُمْ} غاب {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يختلقون على الله تعالى من دعوى الشريك

22

{لاَ جَرَمَ} لا بد ولا محالة

23

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} لأن الإيمان بغير عمل صالح: لا يعتد به. -[266]- {وَأَخْبَتُواْ} اطمأنوا {إِلَى رَبِّهِمْ} وانقطعوا إلى عبادته، ووثقوا بأجره وجزائه ورحمته

24

{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} المؤمنين والكافرين: فمثل الكافر {كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ} لأنه لا يستفيد بما يرى، ولا بما يسمع {وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} وهو مثل المؤمن؛ لأنه رأى بديع صنع الله تعالى وملكوته؛ فأقر بوحدانيته. وسمع آياته؛ فآمن به {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} وكيف يستوي الضدان؟ وقد اهتدى المؤمن بهدى الله، وآمن برسله وكتبه، وعمل بأمره، وانتهى بنهيه كيف يستوي هذا ومن تعامى عن الحق، وركب رأسه، واتبع هواه، وأكب على دنياه {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أفلا تتذكرون بهذه الأمثلة ما يجب اتباعه وما لا يجب؟ وتعلمون الحق فتتبعونه

26

{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} في الدنيا؛ أو أريد به يوم القيامة؛ أو هما معاً

27

{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} أي أسافلنا؛ وغاب عنهم أنهم هم الأسافل ولكن لا يعلمون. وقد يقصد بالأراذل: الفقراء - رغم أنهم أحباء الله تعالى وأسباب جنته - فبإكرامهم تستمطر الرحمات، وبالإحسان إليهم تجتلب البركات وبارضائهم يرضى الغني على عباده؛ فيهبهم رحمته، ويدخلهم جنته هذا والغنى من أهم أسباب البعد عن الله: إذا لم يكن مقروناً بالشكر والإنفاق؛ والفقر من أسباب القرب إلى الله: إذا كان مقروناً بالرضا والصبر؛ فإذا انعدما: كان الفقير مبعداً من الله تعالى؛ وبذلك يكون خاسراً لدنياه وآخرته و {ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} جعلنا الله تعالى من الشاكرين في النعماء، الصابرين في الضراء {بَادِيَ الرَّأْيِ} أي اتبعوك ابتداء من غير روية ولا تفكر {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} فتستحقون به أن نتبعكم

28

{قَالَ} نوح {يقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ} حجة واضحة {مَنِ} هداية ونبوة خفيت {عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أي أنجبركم على قبولها واتباعها قسراً

29

{وَيقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على التبليغ {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ} لفقرهم {إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} فآخذ لهم ممن ظلمهم وطردهم.

30

{مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أفلا تتذكرون وتتعظون بذلك

31

{وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ} فأعطيكم وأغنيكم {وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} فأخبركم به قبل وقوعه (انظر آية 50 من سورة الأنعام) {وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} بل أنا بشر مثلكم {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي} تحتقر لضعفهم وفقرهم {لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً} لأنهم ضعفاء، أو لأنهم فقراء {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} من إيمان وخير؛ فيثيبهم عليه خيراً وبراً {إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} إذا قلت ذلك

32

{قَالُواْ ينُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ} به من العذاب. ويا لها من حماقة وجهل (انظر آية 32 من سورة الأنفال)

33

{وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بفائتين الله، وناجين من عذابه

34

{وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} يهلككم؛ من غوى الفصيل: إذا بشم وهلك. أو المعنى: إن كان الله يريد أن يضلكم

35

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي اختلق محمد هذا القرآن {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} عقوبة إثمي وجرمي {وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ} في حقي؛ وتنسبونه إليّ من الكذب والاختلاق

36

{فَلاَ تَبْتَئِسْ} فلا تحزن ولا تتأسف

37

{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} بحفظنا ورعايتنا {وَوَحْيِنَا} بأمرنا ومعونتنا؛ وما نوحيه إليك من هيأتها وصفتها {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ} لا تراجعني، ولا تطلب مني العفو عنهم والمغفرة لهم؛ فإنهم قد استوجبوا العذاب بكفرهم؛ ولن تنفعهم شفاعة الشافعين

38

{قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا} الآن {فَإِنَّا نَسْخَرُ} أي سنسخر {مِنكُمْ} حين ننجو في السفينة بأمر الله تعالى؛ ويدرككم الغرق

39

{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} في القيامة {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} يفضحه {وَيَحِلُّ} ينزل {عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي دائم

40

{حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} بالعذاب؛ قلبنا الأوضاع ومحونا طبائع الأشياء: فجعلنا الماء يخرج من مصدر النار، والأرض تمتنع عن شربه {وَفَارَ التَّنُّورُ} نبع الماء من التنور بغزارة؛ و «التنور» هو ما يصنع فيه الخبز - وقد صار مصدراً للماء، بعد أن كان مصدراً للنار - من باب خرق العوائد {قُلْنَا} لنوح {احْمِلْ فِيهَا} أي في السفينة {مِن كُلٍّ} أي من كل نوع من الأنواع، وجنس من أجناس المخلوقات {زَوْجَيْنِ} ذكر وأنثى؛ لحفظ النوع بعد الطوفان {وَأَهْلَكَ} أي واحمل أيضاً في السفينة أهلك {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} بالإهلاك؛ وهم زوجته وولده كنعان؛ الذي ناداه أبوه لينجيه من الهلاك المحقق

42

{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} وفي قراءة «ابنها» والضمير لامرأته، وأنه كان ربيبه لا ابنه

43

{إِلاَّ مَن رَّحِمَ} أي إلا من رحمه الله تعالى بالإيمان، والحمل في السفينة. فلما تم ما أراده الله تعالى؛ من نفاذ أمره، وهلاك أعدائه: أعاد طبائع الأشياء إلى ما كانت عليه، وتولى حفظها

44

{وَقِيلَ يأَرْضُ} ارجعي سيرتك الأولى، و {ابْلَعِي مَآءَكِ} كطبيعتك التي أودعتها فيك -[269]- {وَيسَمَآءُ أَقْلِعِي} أمسكي عن المطر {وَغِيضَ الْمَآءُ} نقص ونضب {وَقُضِيَ الأَمْرُ} الذي أراده الله تعالى {وَاسْتَوَتْ} استقرت السفينة {عَلَى الْجُودِيِّ} جبل بأرض الجزيرة؛ قرب الموصل. وليس على جبال أرارات؛ كما يزعم الآن بعض المكتشفين - من أنهم رأوا هناك أجزاء من سفينة نوح عليه السلام - فما كل خشبة بسفينة، ولا كل سفينة بسفينة نوح {وَقِيلَ بُعْداً} أي هلاكاً وسحقاً {لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الكافرين

45

{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ} مبتهلاً إليه {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي} الذي حال بيني وبينه الموج {مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} وقد وعدتني أن تنجي أهلي؛ فكيف بولدي؟

46

{قَالَ ينُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} إشارة إلى أن الكفر يبعد القرباء، والإيمان يقرب البعداء ألا ترى إلى قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وقوله عز وجل {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} وقوله جل شأنه {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} ولذا قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} وقد ذهب بعض المفسرين إلى أنه كان ابن زنا؛ بدليل قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} أي {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أصلاً؛ لأنه نتيجة عمل غير صالح، وقوله جل شأنه عن زوجتي نوح ولوط عليهما السلام {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} وقد أورد هذا المعنى ابن جرير الطبري بأكثر من عشر طرق رواية؛ وقد حلف بعض التابعين أنه ليس بابنه. واحتج على من قال ذلك بقوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} وبأنه لا يجوز أن يحدث زنا في بيت من بيوت النبوة؛ ولو أن الكفر حدث في بيوتهم، ومن المقطوع به أن الزنا من الذنوب التي يقلع عنها، ويستغفر منها؛ وهو دون الكفر

47

{وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي} وإن لم تغفر لي

48

{قِيلَ ينُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا} انزل من السفينة. فقد زال الخوف، وحل الأمن، وطهرت البلاد من الفساد {وَبَركَاتٍ} خيرات ونعم {عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} في السفينة. أي من أولادهم وذرياتهم؛ وهم المؤمنون {أُمَمٍ} منهم سيكفرون ب الله تعالى؛ فأولئك {سَنُمَتِّعُهُمْ} في الدنيا قليلا {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ} في الآخرة {مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم دائم

49

{تِلْكَ} القصة {مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ} الذي غاب عنك فهمه وعلمه {مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا} الوقت، أو من قبل إيحائي لك بها {فَاصْبِرْ} يا محمد على أذى قومك؛ كما صبر نوح من قبلك على أذى قومه.

51

{وَيقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على التبليغ والإنذار {أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} خلقني

52

{وَيقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} يؤخذ من هذه الآية؛ أن كثر الاستغفار: تزيد في الرزق، وتعين على الباه؛ بدليل قوله تعالى في هذه الآية {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} وقوله جل شأنه: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} هذا غير الأجر الأخروي المستدل عليه بقوله تعالى: {وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} وأقسم أنه ما اعتراني هم أو ضيق؛ ولجأت إلى الاستغفار: إلا وجدت من شدتي فرجاً، ومن ضيقي مخرجاً {يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} برهان ومعجزة تدل على صدقك

54

{إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} أي أصابك بمكروه؛ فاختلط عقلك. فتحداهم هود عليه السلام، وتحدى آلهتهم {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهِ} الإله الحق {وَاشْهَدُواْ} أنتم أيضاً {أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} مع الله في العبادة؛ من آلهة لا تضر ولا تنفع

55

{فَكِيدُونِي جَمِيعاً} أنتم وآلهتكم التي تزعمون أنها مستني بسوء {ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} لا تمهلوني. انظر بربك كيف جابه هود بمفرده جمعهم، وكيف استهان بكثرة عددهم وعدتهم وكيف سفه آلهتهم؛ وما ذاك إلا لشدة إيمانه بربه، ويقينه بنصرته، وعظم ثقته بمرسله تعالى وهي وحدها - لو تأملوها بعين الاعتبار - من أعظم البراهين الدالة على صدق رسالته عليه الصلاة والسلام ولو كان مبطلاً: لمالأهم وداهنهم، وخطب ودهم؛ كما يفعل الدجالون المشعوذون

56

{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} فهو وحده القادر على حفظي وكلاءتي (انظر آية 81 من سورة النساء) {وَمَا مِن دَآبَّةٍ} وهي كل ما يدب على وجه الأرض من إنسان وحيوان وطير {إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ} أي مالك أمرها، وقاهرها؛ فلا تتحرك إلا بإرادته، ولا نفع ولا ضر يقع منها أو عليها إلا بمشيئته وخص الناصية بالذكر: لأن من أخذ بناصيته: يكون في غاية الذلة، ونهاية الاستكانة؛ ولذا كانوا يجزون ناصية المذنب إمعاناً في إذلاله وتحقيره والناصية: شعر مقدم الرأس {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يقضي بين عباده بالحق؛ فيثيب المحسن على إحسانه، ويجازي العاصي على عصيانه

57

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} تعرضوا عن الإيمان. -[271]- {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} رقيب

58

{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} بالعذاب {نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} هداية وتوفيق: هديناهم للإيمان، ووفقناهم للطاعة {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} شديد

59

{وَتِلْكَ عَادٌ} قوم هود {جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} كذبوا بالمعجزات وأنكروها {وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} كل عات متكبر، معاند للحق

60

{وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} من الناس. واللعنة: الإبعاد والطرد؛ المقترن بالسخط والغضب {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} تدركهم اللعنة أيضاً {أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} يقال: أبعده الله بعداً: نحاه عن الخير ولعنه

61

{وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} جعلكم عماراً لها: تسكنون فيها، وتتمتعون بخيراتها {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} أي قريب الرحمة، مجيب الدعاء

62

{قَالُواْ ياصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً} نرجو خيرك وعطفك وبرك؛ فما بالك تنهانا عما نعبد ويعبد آباؤنا؟ أو المراد «مرجواً» ذا عقل راجح، وذهن ثاقب

63

{قَالَ يقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} نبوة وحكمة وهداية {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} أي ضلال؛ لأن الضلال يعقبه الخسران. أو «فما تزيدونني» بتكذيبكم، والتمسك بآلهة آبائكم؛ غير زيادة ضلالكم وخسرانكم

64

{وَيقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} معجزة دالة على صدقي {فَذَرُوهَا} اتركوها {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} سريع حال

65

{فَعَقَرُوهَا} ذبحوها، أو قتلوها، وقيل: قطعوا قوائمها؛ عقرها واحد منهم؛ ورضوا جميعاً عن عمله؛ لذا عبر تعالى بجميعهم. ومن هنا يعلم أن الراضي عن المعصية: شريك في العصيان، وأن العذاب كما يصيب العاصي بعصيانه؛ فإنه يصيب الطائع بتركه النهي عن العصيان، قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} بل تصيب الذين ظلموا، والذين لم يضربوا على أيديهم ليكفوا عن ظلمهم {فَقَالَ} لهم صالح؛ بعد عقرهم للناقة، واستهانتهم بأمر ربهم {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ} بالأمن والسلامة {ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} يحل بعدها عذاب الله تعالى بساحتكم {ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} واقع لا محالة

66

{فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} بالعذاب {نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} وهي توفيقهم للإيمان؛ الذي كان سبباً في نجاتهم {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} وهو الخزي الذي لحق بالكافرين المعذبين؛ وأي خزي أخزى من غضب الله تعالى وعذابه {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ} القادر على نفاذ أمره {الْعَزِيزُ} القاهر، الذي لا يغلب

67

{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} كفروا {الصَّيْحَةُ} صاح بهم جبريل عليه السلام؛ فأهلكهم الله تعالى بصيحته؛ والصيحة: تطلق على العذاب، أو هي مقدمة لكل عذاب {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} باركين على الركب ميتين كأن لم يقيموا

68

{أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ} أبعده الله بعداً: نحاه عن الخير ولعنه

69

{وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ} ملائكتنا {إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} بشروه بإسحاق ويعقوب {قَالُواْ سَلاَماً} أي سلموا عليه سلاماً؛ أو قالوا قولاً طيباً يبعث على الأمن والراحة والسلام. قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} {قَالَ سَلاَمٌ} أي أمري سلام، ولا أريد غير السلام {فَمَا لَبِثَ} أي فما مكث {أَن جَآءَ} حتى جاء {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} مشوي؛ فوضعه أمامهم ليأكلوا منه؛ فلم يتقدم أحد منهم للأكل

70

{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ} أي لا تمتد إلى العجل المشوي الذي قدمه لإكرامهم؛ وقد كانوا جاءوه في صورة بني الإنسان {نَكِرَهُمْ} أنكرهم، وتوهمهم أعداء لا أحباء {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أضمر في نفسه الخوف منهم؛ وذلك لأنه كان من عادة العرب أنهم إذا عادوا إنساناً، وأرادوه بسوء؛ لم يمسوا طعامه؛ ولا يزال ذلك فيهم حتى الآن {قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} بالعذاب

71

{وَامْرَأَتُهُ} أي امرأة إبراهيم عليه السلام {قَآئِمَةٌ} بخدمة الأضياف، أو {قَآئِمَةٌ} وراء الستر؛ تستمع لما يدور بينهم وبين زوجها. والأولى أولى: لكلام الملائكة لها، وتبشيرهم إياها -[273]- {فَضَحِكَتْ} فحاضت؛ تمهيداً لما سيلقى عليها من البشارة {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} وقيل: {فَضَحِكَتْ} استبشاراً بما سمعته من إهلاك قوم لوط، أو سروراً بزوال الخوف عن زوجها

72

{قَالَتْ يوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ} ونسيت حيضها؛ الذي هو من علامات الاستعداد للحمل {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} أي عجوزاً؛ لا ينجب مثله الأبناء {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} قدرته؛ وهو إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون

73

{رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} أهل بيت إبراهيم، بيت النبوة {إِنَّهُ حَمِيدٌ} محمود في كل ما يعمل {مَّجِيدٌ} كثير الخير والإحسان

74

{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} الخوف من الأضياف وعدم تناولهم طعامه، وعلم أنهم رسل ربه جل شأنه {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} وذلك إنه لما علم من ملائكة الرحمن أنهم جاءوا لإهلاك قوم لوط: مسه الفزع والانزعاج؛ وقال لهم: أرأيتم لو كان في قرية لوط خمسون مؤمناً أتهلكونها؟ قالوا: لا. قال: فأربعون؟ قالوا: لا. قال: فثلاثون؟ قالوا: لا. حتى بلغ العشرة؛ قالوا: لا. قال: أرأيتم إن كان فيها مسلم واحد أتهلكونها؟ قالوا: لا. قال: إن فيها لوطاً. قالوا: نحن أعلم بمن فيها، لننجينه وأهله

75

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ} كثير التأوه والخوف من الله تعالى {مُّنِيبٌ} راجع إليه تعالى

76

{يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَآ} الجدال {إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ} بإهلاك قوم لوط {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} بجدالك عنهم، أو بشفاعتك لهم

77

{وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ} أي ساءه مجيؤهم {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} يقال: ضاق ذرعه بالأمر؛ إذا لم يطقه ولم يتحمله {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} شديد الشر والمكاره وذلك لأنه ظن رسل ربه أضيافاً؛ وخاف إذاية قومه لهم

78

{وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ} يسرعون {إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} وهي إتيان الذكران في الأدبار؛ وقد انفرد بهذا الجرم من بني الإنسان: من انحط عن مرتبة الحيوان وحد هذا الجرم: الإلقاء من حالق، أو جبل شاهق؛ ليكون عبرة لغيره، ونكالاً لمثله {قَالَ} لوط لقومه {يقَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي} أي بنات أمته - لأن كل نبي أب لأمته - لأنه لا يصح أن يتزوج الأشرار الأخيار؛ فما بالك ببنات الأنبياء {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} بالزواج {فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ} لا تفضحوني {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} عاقل؛ يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر

80

{قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} أستطيع أن أدفع أذاكم بها -[274]- {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} عشيرة تنصرني عليكم، وتقيني شروركم وحين سمع ملائكة الله تعالى تحسر لوط على ضعفه وانقطاعه

81

{قَالُواْ} له {يلُوطُ} لا تخش بأساً؛ وإن ركنك لشديد {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ} أي لن يستطيعوا الوصول إليك؛ لأننا أرسلنا لإهلاكهم، وقطع أدبارهم {فَأَسْرِ} الإسراء: السير ليلاً {بِقِطْعٍ} طائفة {مِّنَ الْلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} وراءه؛ خشية أن يرى ما حل بالقوم فيذهله ذلك ويؤلمه ويأخذ بلبه فانظر - يا رعاك الله - إلى عذاب رؤيته عذاب وقانا الله تعالى عذابه، وباعد بيننا وبين غضبه

82

{فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} بالإهلاك {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} رفع جبريل عليه الصلاة والسلام قرى قوم لوط، حتى عنان السماء، ثم قلبها بمن فيها {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} من نار {مَّنْضُودٍ} متتابع

83

{مُّسَوَّمَةً} معلمة. قيل: مكتوب على كل حجر منها اسم من يرجم به

84

{وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أي في سعة تغنيكم عن نقص الكيل والميزان

85

{وَيقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} بالعدل {وَلاَ تَبْخَسُواْ} لا تنقصوا {وَلاَ تَعْثَوْاْ} العثى: أشد الفساد

86

{بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي ما أبقاه الله تعالى لكم من الحلال: خير مما تجمعونه من الحرام، والحسنات التي يبقى ثوابها عند الله: خير لكم من البقية التي تبقونها من الكيل والميزان وهذا دستور من أعجب الدساتير: فكم قد رأينا من يطفف الميزان والمكيال: سعده في زوال، وحاله من أسوإ الأحوال ورأينا من يوفي الكيل والميزان: حاله دائماً في رجحان، ويحوطه رضا الناس والرب في كل مكان {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} برقيب أراقبكم؛ ولكنه تعالى هو المراقب لكم، المنزل العقاب بكم

87

{إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} قولهم هذا إما أن يكون على سبيل التهكم والاستهزاء؛ وإما أن يكون بمعنى: كيف تقول ذلك وأنت المشتهر بالحلم والرشد

88

{قَالَ يقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ} برهان وحجة {مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} النبوة والرسالة، أو {رِزْقاً حَسَناً} حلالاً، لا نقص فيه ولا بخس {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} أي لا أريد بنهيكم هذا أن أسبقكم إلى شهواتكم وضلالاتكم التي أنهاكم عنها {إِنْ أُرِيدُ} ما أريد {إِلاَّ الإِصْلاَحَ} لكم {مَا اسْتَطَعْتُ} أي مدة استطاعتي وقدرتي على ذلك {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في سائر أموري. (انظر آية 81 من سورة النساء) {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أرجع

89

{وَيقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يكسبنكم {شِقَاقِي} مخالفتي {أَن يُصِيبَكُم} العذاب {مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} وقد أهلكوا بالغرق {أَوْ قَوْمَ هُودٍ} وقد أهلكوا بالريح العقيم {أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} وقد أهلكوا بالرجفة {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} لقرب زمنهم من زمنكم، أو ديارهم من دياركم؛ وقد أهلكوا بالاستئصال، فجعل عالي قراهم سافلها، وأمطروا حجارة من سجيل

90

{وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ} بمن يؤمن به {وَدُودٌ} كثير الود لمن والاه

91

{وَلَوْلاَ رَهْطُكَ} عشيرتك

92

{قَالَ يقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً} أي اتخذتم الله وراء ظهوركم؛ فلم تتبعوا دينه، ولم تعبأوا بأوامره ونواهيه. -[276]- {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} علماً فمجازيكم عليه

93

{وَيقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ} حالكم وقدرتكم في الإيذاء {إِنِّي عَامِلٌ} على مكانتي في الإنذار والإصلاح؛ حسب ما يؤتيني الله تعالى من النصرة والتأييد؛ و {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} يفضحه {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ} انتظروا العذاب الموعود {إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} منتظر ومرتقب

94

{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} بالعذاب {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} صاح بهم جبريل عليه الصلاة والسلام؛ فهلكوا. والصيحة: تطلق على العذاب، أو هي مقدمة لكل عذاب {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} باركين على الركب ميتين

95

{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} كأن لم يقيموا في ديارهم {أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ} يقال: أبعده الله تعالى؛ أي نحاه عن الخير، ولعنه وطرده {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} كما لعنت وطردت وأهلكت ثمود من قبل

96

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} بالمعجزات الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا {وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} معجزة بينة قاهرة؛ ولعله أريد بها العصا؛ لأنها أظهر معجزات موسى عليه السلام

97

{وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} بذي رشد؛ إنما هو غي، ومحض ضلال

98

{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يتقدمهم {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} الورد: مكان الشرب، أو هو الموضع المقصود

99

{وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ} الدنيا {لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يلعنون في الدنيا، ويلعنون في الآخرة أيضاً {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} الرفد: العطاء. أي بئس العطاء المعطى لهم

100

{ذلِكَ} القصص {مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى} التي كفرت بخالقها وبالمرسل إليها {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} يا محمد؛ تسلية لك {مِنْهَا} أي من هذه القرى {قَآئِمٌ} باق حتى الآن {وَحَصِيدٌ} فانٍ قد اندرس وامحى

101

{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بتعذيبهم وإهلاكهم {وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بالكفر، وتعريضها للعذاب والهلاك في الدنيا، والعذاب المقيم الدائم في الآخرة {فَمَا أَغْنَتْ} فما دفعت، ولا منعت {عَنْهُمْ} العذاب والهلاك {آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ} يعبدونها -[277]- {لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ} بالعذاب {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} هلاك وتخسير

102

{وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} عذابه {إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} بالعذاب

103

{إِنَّ فِي ذلِكَ} القصص الذي قصصناه عليك من أخبار الأمم الهالكة {لآيَةً} لعبرة وعظة {لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ} وما أعده الله تعالى فيها {ذلِكَ يَوْمٌ} يوم القيامة {مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ} جميعاً: مؤمنهم وكافرهم {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} أي يشهده كل المخلوقات، لا يغيب عنه أحد

104

{وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ} وقت {مَّعْدُودٍ} معلوم عند ربك

105

{يَوْمَ يَأْتِ} ذلك اليوم {لاَ تَكَلَّمُ} لا تتكلم {نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} لا يشفع أحد إلا بإذنه تعالى {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} {فَمِنْهُمْ} أي من أهل الموقف {شَقِيٌّ} معذب في النار {وَسَعِيدٌ} ومنهم سعيد: منعم في الجنة

106

{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} الزفير: خروج النفس بشدة. والشهيق: رد النفس بشدة أيضاً. وقيل: رده بضعف شديد كالحشرجة. وهو إشارة إلى أنهم يكونون في شدة الكرب والضيق

107

{خَالِدِينَ فِيهَا} أي في النار {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} أي مدة بقائهما؛ وهو على عادة العرب عند إخبارهم عن دوام الشيء وتأبيده؛ كقولهم: لا آتيك ما غاب ليل وطلع نهار. فأخبر تعالى أنهم باقون في النار والعذاب أبد الآبدين، ودهر الداهرين {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} أن ينجيه من الخلود في النار، أو بالانتقال من النار إلى الزمهرير

108

{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} أبداً {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} من إقامة بعض عصاة المؤمنين في النار قبل دخولهم الجنة {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} غير مقطوع

109

{فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ} شك {مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} أي قل يا محمد لكل من شك في عبادة هؤلاء المشركين: «لا تك في مرية مما يعبد هؤلاء» فلم يأمرهم الله تعالى بها. ولم ينزل عليهم سلطاناً بشأنها {مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ} أي أنهم إنما عبدوها كما كان آباؤهم يعبدونها. وقيل: هو نهي للرسول؛ والمقصود به أمته: تثبيتاً لهم، وتقوية لإيمانهم {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من العذاب، أو من الرزق؛ فلا تستعجل إهلاكهم.

110

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} تصديقاً وتكذيباً؛ كما اختلف في القرآن المنزل عليك {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} بتأخير العذاب {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} في الدنيا؛ ولنزل العذاب بكل مكذب وقت تكذيبه {وَإِنَّهُمْ} أي المكذبين بالقرآن {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} أي من القرآن، أو من العذاب

111

{وَإِنَّ كُلاًّ} من المصدقين والمكذبين؛ من سائر الأمم السابقة واللاحقة {لَّمَّا} إلا {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} أي جزاءها يوم القيامة {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} بظواهرها وبواطنها

112

{فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ} أي داوم على العمل بأمر ربك، والدعوة إليه {وَلاَ تَطْغَوْاْ} تتجاوزوا حدود الله {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من خير أو شر {بَصِيرٌ} فيثيبكم على الخير، ويؤاخذكم على الشر

113

{وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} لا تميلوا إليهم بصحبة، أو ود، أو مداهنة، أو تأييد، أو بإبداء أي مظهر من مظاهر الرضا عن أعمالهم؛ فكل ذلك إثم منهي عنه، معاقب عليه {فَتَمَسَّكُمُ} تصيبكم؛ كقوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره {مِنْ أَوْلِيَآءَ} أحباء ونصراء

114

{وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} غدوة وعشية؛ والمراد جميع النهار: الصبح، والظهر، والعصر، {وَزُلَفاً مِّنَ الْلَّيْلِ} أي ساعات منه؛ قريبة من النهار؛ وهي المغرب والعشاء. ولما كان الإنسان في هذه الحياة - مهما ارتقى واتقى - معرضاً لارتكاب صغائر الآثام والذنوب؛ خاصة في وقتنا هذا الذي اختلط فيه الحرام والحلال، وسار فيه النساء متبرجات، كاسيات عاريات، مائلات مميلات. فقد يفرط منه ما ينافي الدين القويم، والخلق المستقيم؛ فإذا ما تكررت هذه الصغائر: انقلبت إلى كبائر - بالتكرار والإصرار - وفي هذه الحال يكون في مسيس الحاجة إلى ما يخفف عنه عبء الذنوب، ويرفع عن كاهله أثقال المعاصي؛ وهنا يتدخل القرآن الكريم بمبضعه الكافي الشافي؛ فيجتث آثار العصيان، ويجعل مكانها الغفران يقول الحكيم العليم، الغفور القدير {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فهل من متذكر، وهل من معتبر؟ (انظر آية 17 من سورة التغابن)

116

{فَلَوْلاَ} فهلا {كَانَ مِنَ الْقُرُونِ} الأمم {مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ} أي أصحاب دين وفضل؛ قال تعالى: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} هم الذين نهوا عن الفساد في الأرض؛ فنجوا من الهلاك {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ} يقال: أترفته النعمة: إذا أطغته

117

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} منه لها {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} بل يهلكها بذنوب أهلها وفجورهم وطغيانهم

118

{وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ -[279]- النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} على دين واحد؛ لكنه تعالى لم يرد إيمانهم قسراً وجبراً؛ بل اختياراً {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} في الكفر والإيمان

119

{إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} بتوفيقه إلى الإيمان {وَلِذلِكَ} الامتحان والاختبار {خَلَقَهُمْ} فيؤمن من يؤمن، ويكفر من يكفر {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} بقوله لملائكته {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ} لعلمه تعالى بكثرة العصاة والكافرين

120

{وَكُلاًّ} أي وكل الذي يحتاج إليه {مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} {نَّقُصُّ عَلَيْكَ} ما نطمئنك به، و {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} نقويه بذكر ما نال الرسل الذين بعثوا قبلك من أذى قومهم، وتكذيبهم لهم، وصبرهم على ذلك الأذى والتكذيب {وَجَآءَكَ فِي هَذِهِ} الأنباء، أو في هذه الآيات، أو في هذه الدنيا {الْحَقُّ} الذي لا مرية فيه {وَمَوْعِظَةٌ} يتعظ بها أولوا الألباب

121

{وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ} على حالكم، ووسع طاقتكم. وهو تهديد ووعيد للكافرين

122

{وَانْتَظِرُواْ} عاقبة أمركم، وما سيحل بكم

123

{وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} لا تخفى عليه خافية فيهما {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} أمرك وأمرهم؛ فيأخذ لك منهم، ويثبتك ويعاقبهم {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} جعل الله تعالى التوكل عليه قرين عبادته والإيمان به (انظر آية 81 من سورة النساء).

سورة يوسف

سورة يوسف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{الر} (انظر آية 1 من سورة البقرة).

3

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} أوثقه وأصدقه {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ} أي قبل نزول القرآن عليك {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} عن هذا القصص وعن هذا الهدي وقد شرع تعالى في ذكر بعض هذا القصص؛ قال تعالى

4

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ} يعقوب {يأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ} في المنام {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} فعلم يعقوب أن لابنه يوسف شأناً كبيراً

5

{قَالَ} له {يبُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ} هذه {عَلَى إِخْوَتِكَ} فتدركهم الغيرة منك، والحقد عليك، والحسد لك {فَيَكِيدُواْ لَكَ} بالدس والوقيعة والإذاية {كَيْداً} كبيراً {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} بين العداوة لسائر بني الإنسان؛ فلا يفتأ يوقع العداوة بين الخلان، والبغضاء بين الإخوان

6

{وَكَذلِكَ} كما أكرمك ربك وأعزك بهذه الرؤيا المحققة {يَجْتَبِيكَ} يختارك ويصطفيك {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أحاديث الأمم الغابرة، والكتب السابقة، واستنباط الحقيقة، وتحري أدلة التوحيد؛ وهذا جميعه من إرهاصات النبوة ومقدماتها. وقيل: «تأويل الأحاديث» تعبير الرؤيا {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بالنبوة؛ وجميع ذلك من تأويل رؤيته التي رآها {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} أولاده {كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَى أَبَوَيْكَ} جديك؛ لأن إبراهيم: أبو إسحاق، وإسحاق: أبو يعقوب والد يوسف عليهم الصلاة والسلام. وإتمام النعمة المقصود في هذه الآية: هو النبوة

7

{لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ} عظات {لِّلسَّائِلِينَ} الذين يتحرون ما في القصص من عبر، وما في السير من عظات. هذا وفي قصص القرآن الكريم ما فيه من بليغ الحكم، وروائع السير، ولفت الأنظار إلى ما فيه الاعتبار والاستبصار وفي قصة يوسف عليه السلام - وما كان من شأنه وشأن إخوته - آيات للمتوسمين

8

{إِذْ قَالُواْ} أي قال بعض إخوة يوسف للبعض الآخر {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ} الشقيق بنيامين {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} جماعة قوية {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ} خطإ

9

{اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً} بعيدة. قالوا ذلك القول حين رأوا استئثار أخويهما بحب أبيهما، وتفضيله لهما عليهم جميعاً؛ في حين أنهم يرون أنفسهم أجدر بذلك الحب، وأولى بهذا التفضيل؛ لأنهم الرجال الأشداء الأقوياء ووجه العظة: أنه يجب على الآباء عدم إيثار بعض الأبناء على بعض في الحب والقرب؛ ففي ذاك إيغار الصدور، وإشاعة البغضاء: وداعية لوقوع بني الإنسان، بين براثن الشيطان. -[281]- {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} بأن يقبل عليكم، ولا يلتفت إلى غيركم

10

{قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} قعر البئر الخرب؛ الذي حفر ولم يبن بعد {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} السائرين

11

{قَالُواْ يَأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} ذهب بعض القراء إلى أن لفظ {تَأْمَنَّا} يجب فيه الإشمام. والإشمام هذا - كما يزعمون - هو أن يشير الإنسان بشفتيه كأنه ينطق بضمة بحيث لا يظهر أثر ذلك في النطق وهو قول هراء لا يجب التعويل عليه بحال؛ انظر - إن شئت المزيد - كتابنا «الفرقان» {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} أي قائمون بمصالحه

13

{قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ} لأني لا أطيق فراقه. وقد زاد ذلك من حنقهم على يوسف، وأسرّوها في أنفسهم {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} وقد لقنهم بذلك الحجة التي يحتجون بها من حيث لا يشعر

14

{قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} جماعة قوية {إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ} لأن الذئب إذا قدر على أكل أحدنا من بيننا؛ فهو على أكل مواشينا وأغنامنا أقدر. فأذن لهم بأخذ يوسف

15

{فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ} عزموا أمرهم على ما اتفقوا عليه وو {أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ} أي أوحينا إلى يوسف - بعد أن ألقوه في الجب - وحي إلهام. وقيل: نزل إليه جبريل عليه السلام قائلاً له {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ} لتخبرنهم في مستقبل الأيام {بِأَمْرِهِمْ هَذَا} الذي صنعوه معك

16

{وَجَآءُوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ} يتباكون

17

{قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} نتسابق في الجري أو الرمي {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا} ثيابنا وطعامنا {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} بمصدق لمقالتنا

18

{وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي مكذوب؛ ليس بدم يوسف كما زعموا -[282]- {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ} زينت وسهلت {لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} سيئاً اقترفتموه {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} على فراق يوسف والصبر الجميل: ما لا شكوى فيه إلى الخلق {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ} المطلوب منه العون {عَلَى مَا تَصِفُونَ} ما تذكرون من أمر يوسف

19

{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} رفقة سائرون {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} الذي يبحث لهم عن الماء، ويرده ليستقي لهم ويدلهم عليه. فوجد الجب {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} فيه؛ فتعلق يوسف في الدلو {قَالَ} الوارد لما رأى يوسف في الدلو {يبُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ} وذهب به إلى صحبه؛ ففرحوا به {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أي أخفوه في متاعهم ليتاجروا فيه كالبضاعة

20

{وَشَرَوْهُ} أي باعوه. يقال: شراه يشريه: إذا ملكه، أو باعه، كاشتراه {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} قليل حقير

21

{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} أي أكرمي مقامه عندنا {وَكَذلِكَ} إشارة إلى إنجاء يوسف، وعطف قلب الذي اشتراه عليه {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} جعلنا له مكانة فيها، وسلطاناً عليها {وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} تصديقاً لقول أبيه يعقوب: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} أي على أمر نفسه؛ لا يعجزه شيء أراده؛ وإنما يقول له: كن؛ فيكون ويحتمل أن يعود الضمير إلى يوسف عليه السلام؛ أي والله غالب على أمر يوسف؛ يحوطه بعنايته وكلاءته وحفظه {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك

22

{وَلَمَّا بَلَغَ} يوسف {أَشُدَّهُ} كمال قوته وشدته؛ وهو من ثماني عشرة إلى ثلاثين، وهو أيضاً بلوغ الحلم. أو هو إلى الأربعين: حيث تكون النبوة؛ بدليل قوله تعالى: {حُكْماً وَعِلْماً} حكمة {وَعِلْماً} فقهاً في الدين {وَكَذلِكَ} مثل ما آتينا يوسف من الحكمة والعلم {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} الذين يحسنون أعمالهم كما أحسن يوسف، ويعفون أنفسهم كما أعف

23

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} امرأة العزيز: والمراودة: الإرادة برفق ولين {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ} عليه معها {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} أي هلم؛ فلما رأى منها ما رأى {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} أن أخون من أكرمني وآواني {إِنَّهُ رَبِّي} أي سيدي ومالكي، والمقصود به عزيز مصر، أو أراد به الله تعالى {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أحسن إقامتي؛ فلا أخونه في أهله، وإذا كان المراد به الله تعالى: كان معنى «أحسن مثواي» أي أحسن إقامتي في هذه الدنيا؛ إذ أنجاني من الهلاك المحقق، وأكرمني بحب مخلوقاته لي وعطفهم عليَّ؛ فلا أعصيه بأقبح ما يعصى به

24

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} همت بإمساكه وضمه المراد بهمه عليه السلام: ميل الطبع البشري، ومنازعة الشهوة الفطرية؛ لا القصد الاختياري. وهذا الهم مما يصح أن يكتب له به حسنة، لا أن تحسب عليه سيئة. وقد جاء في الحديث القدسي عن رب العزة: «إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة» وقد تخبط كثير من المفسرين في تأويل هذا بما يتنافى وعصمة لأنبياء عليهم الصلاة والسلام {لَوْلا أَن رَّأَى} وبرهان ربه: عصمته من الوقوع فيما يقع فيه عامة البشر. ولما كان البرهان: هو الدليل؛ كان برهان الله تعالى: دليل وجوده وقدرته؛ فأثبت الله تعالى قدرته بمنعه، وأثبت وجوده بالحيلولة بينه وبين الوقوع في الخطيئة أرانا الله تعالى برهانه، وعصمنا بقدرته، وحال بيننا وبين معصيته، وهدانا برحمته {كَذلِكَ} أي أريناه برهان وجودنا {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ} الخيانة والزنا

25

{وَاسُتَبَقَا الْبَابَ} جرى يوسف منها، وجرت وراءه لتمسكه؛ فأدركت ثيابه {وَقَدَّتْ} شقت {قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ} من خلف {وَأَلْفَيَا} وجدا {سَيِّدَهَا} زوجها {لَدَى الْبَابِ} عند الباب؛ حينما أراد أن يفتحه هرباً منها. فلما رأت زوجها أسقط في يدها، وحاولت الدفاع عن نفسها أمامه {قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} «ما» نافية؛ أي ليس له إلا أن يسجن. فلما رأى يوسف ما أحاطته به الآثمة من إثم؛ شرع في الدفاع المشروع عن نفسه

26

{قَالَ} إنني لم أراودها؛ بل {هِيَ} التي {رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} قيل: تكلم صبي من أهلها؛ وكان في المهد، وقيل: هو ابن عم لها؛ كان وزيراً للملك، ومستشاراً له؛ قال: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ} شق {مِن قَبْلُ} من أمام {فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ} من خلف

28

{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ} وهو مما يؤكد كذبها وصدقه: التفت إليها و {قَالَ} لها {إِنَّهُ} أي الذي حصل من المراودة، واتهام البريء {مِن كَيْدِكُنَّ} أيها النساء {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} ثم التفت إلى يوسف، وقال له

29

{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} الأمر الذي حدث فلا تذكره لأحد. ثم التفت إلى امرأته قائلاً {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} وبذلك وضح أنه استقر في ذهن العزيز - بعد أن رأى بنفسه ما رأى، وسمع ما سمع - براءة يوسف وخطيئة امرأته. وكان أقل ما يجب عليه وقتذاك: أن يحول بين لقائها به، ورؤيتها له: لكنه لم يفعل؛ ليتم الله تعالى ما أراده بيوسف، وما أراده له؛ فسارت بذكر قصته مع امرأة العزيز الركبان، وتناقلوا حديثهما في كل مكان

30

{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} يا للذل والعار {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا} خادمها ومملوكها {عَن نَّفْسِهِ} لتنال غرضها منه {قَدْ شَغَفَهَا -[284]- حُبّاً} أي مس حبه شغاف قلبها. وشغاف القلب: غلافه، أو حجابه، أو حبته، أو سويداؤه بقولهن؛ وسمي حديثهن مكراً: لأنه تم في خفية؛ كما يخفي الماكر مكره

31

{أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} تدعوهن لمجلسها {وَأَعْتَدَتْ} أعدت {لَهُنَّ مُتَّكَئاً} مجلساً للطعام؛ أعدت فيه ما يتكأ عليه من الوسائد والنمارق، أو أعدت لهن فاكهة يتكأ عليها عند قطعها؛ كالأترج مثلاً {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ} ليوسف {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} فخرج {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أعظمنه. وقيل: أكبرن: أي حضن، والهاء للسكت؛ وهو تأويل ليس بشيء {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} من شدة ذهولهن مما رأينه من جمال يوسف عليه السلام وصباحة وجهه؛ لم يشعرن بالسكاكين وقد جرحت أيديهن {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ} تنزيهاً لله؛ وهو لفظ خاص به تعالى: فلا يقال: حاش لك، بل حاشاك، وحاشا لك {مَا هَذَا بَشَراً} كسائر البشر {إِنْ هَذَآ} ما هذا {إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} وصفنه بالملكية؛ لأنه من المعلوم ألا شيء أجمل من الملك، ولا شيء أقبح من الشيطان

32

{قَالَتْ فَذلِكُنَّ} أي فهذا هو {الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ} من الإرادة؛ أي طلبته بنفسي لنفسي {فَاسَتَعْصَمَ} امتنع، وتحصن بالعصمة، ومنع نفسه من أن أناله {وَلَيَكُوناً مِّن الصَّاغِرِينَ} الذليلين. ووجه العظة مما مضى من هذه القصة: أنه لا يجوز لعاقل أن يضم في بيته شاباً ممتلئاً قوة وفتوة وجمالاً؛ ويدعه مع امرأته تجتاحها عواصف الشهوة، وتهتاجها أعاصير الخطيئة، ويدع للشيطان بينهما مجالاً وأي مجال، بل الواجب أن يلتزم حدود الدين الحنيف، وأوامر الخالق جل شأنه {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (انظر مبحث التبرج والسفور بآخر الكتاب)

33

{وَإِلاَّ تَصْرِفْ} وإن لم تصرف {عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ} أمل {إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} المذنبين

34

{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} أجاب دعوته، وصرف عنه كيدهن {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لمن يدعوه {الْعَلِيمُ} بحال خلقه

35

{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ} الدالة على براءته مما نسب إليه، وألصق به {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} أي إلى أن ينقطع كلام الناس وينسون ما حصل بينه وبين امرأة العزيز؛ وأدخل يوسف السجن، مع من أدخل من العصاة والمجرمين

36

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ} بعد فترة من الزمن قضوها في السجن {إِنِّي أَرَانِي} أي أرى نفسي في المنام {أَعْصِرُ خَمْراً} أي أعصر عنباً، فيصير خمراً

37

{قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في منامكما كالعنب والخبز الذي رأيتماه {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا} أخبرتكما {بِتَأْوِيلِهِ} بما يؤول إليه رؤية ذلك. {قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا} تأويله. وقد يكون المعنى: «ترزقانه» أي تطعمانه «إلا نبأتكما بتأويله» أي بما يؤول إليه ذلك الطعام من عناصر وأخلاط. وأن يكون يوسف عليه السلام قد منحه الله تعالى - من جملة ما منحه - علم خواص الأغذية {ذلِكُمَا} العلم الذي ذكرته {مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} وأفاضه عليَّ {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} لا يؤمنون بالبعث. قال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} قيل: إن يوسف عليه السلام علم مكروه الإجابة على أحدهما؛ فحاول أن يتكلم في موضوع آخر ليصرفهما عما طلباه من تأويل رؤياهما فلم يدعاه بل ألحا عليه؛ فعدل أيضاً عن إجابتهما قائلاً

39

{يصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ *

40

مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} فلم يدعاه حتى يعبر لهما ما رأياه؛ فلم يستطع مخالفتهما. وقد تدرج عليه السلام في دعوتهم وإلزامهم الحجة؛ بأن بين لهم أولاً رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة المتعددة، ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها: لا تستحق الألوهية والعبادة، ثم نص على ما هو الحق القويم، والدين المستقيم؛ الذي لا يقبل العقل غيره، ولا يرتضي العلم سواه؛ ثم شرع في إجابتهما؛ فقال

41

{يصَاحِبَيِ السِّجْنِ} أي يا صاحبي في السجن {أَمَّآ أَحَدُكُمَا} الذي رأى في منامه أنه يعصر خمراً {فَيَسْقِي رَبَّهُ} أي سيده {خَمْراً} في اليقظة؛ أي سيكون من خاصته الذين أعدهم لسقياه -[286]- {وَأَمَّا الآخَرُ} الذي رأى في منامه أنه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه {فَيُصْلَبُ} في اليقظة {فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ} وكأنه عليه السلام قد تألم من ذكر ما يؤلم؛ فقال آسفاً {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} والذي حاولت جاهداً أن أستقيل من الإجابة عليه، فلم تمكناني.

42

{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ} تأكد {أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا} وهو الساقي؛ قال له: {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} أي اذكرني عند سيدك الملك حين تلقاه {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} أي أنسى الشيطان يوسف من أن يطلب من ربه الخلاص من السجن؛ ولجأ - ناسياً - إلى العبد العاجز الفاني؛ فكان جزاءه أن لبث {فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} البضع: بين الثلاث إلى التسع

43

{وَقَالَ الْمَلِكُ} لجلسائه {إِنِّي أَرَى} أي رأيت في المنام {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} أي مهازيل

44

{قَالُواْ أَضْغَاثُ} أي تخليط في الرؤيا؛ وهو ما لا تأويل له؛ لصدوره عن فساد المعدة وأبخرة الطعام

45

{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا} وهو الساقي: تذكر يوسف وتأويله للرؤيا {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي تذكر بعد مدة طويلة قول يوسف له: «اذكرني عند ربك» وقرأ ابن عباس «وادكر بعد أمه» والأمه: النسيان {أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} أي أدلكم على من يؤول هذا المنام لكم {فَأَرْسِلُونِ} أي أرسلوني إلى السجن لأحضره لكم. فأرسلوه فقال ليوسف

46

{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} الكثير الصدق، الدائم عليه {لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} فأخبرهم بما تذكره من تأويل هذه الرؤيا {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} ما ينفعهم من تأويلها، أو لعلهم يعلمون فضلك وعلمك؛ فيخرجونك مما أنت فيه من الضيق

47

{قَالَ} تأويل ذلك: أنكم {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً} أي دائبين متوالين {فَمَا حَصَدتُّمْ} قطعتم من الأرض {فَذَرُوهُ} اتركوه {فِي سُنبُلِهِ} بغير دراس؛ ليحفظ ولا يتطرق إليه التلف. وبذلك يعلمنا الله تعالى في هذه القصة: الطريقة المثلى لتخزين الحبوب والمحاصيل لحفظها؛ إذ أن تركها بغير نزع سنابلها: أحفظ لها من التلف والفساد؛ وذلك بعكس منزوعة السنابل التي قد يدب فيها الفساد في عام واحد أو عامين -[287]- {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ} أي إلا ما تحتاجون لأكله فادرسوه وانزعوه من سنابله

48

{سَبْعٌ شِدَادٌ} أي سبع سنين تقحطون فيها؛ فلا تخرج الأرض نباتاً {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أي ما خزنتموه في السنين السبع التي زرعتموها دأباً {تُحْصِنُونَ} تدخرونه لتزرعوا؛ لأن في استبقاء البذر: تحصين للأقوات؛ وإلا إذا أكلنا الجميع فماذا نزرع؟

49

{فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} أي ينزل لهم الغيث، ويرزقون ما يعصر من الثمار؛ كالعنب، والزيتون، وغيرهما. وقيل: «يعصرون» ينجون؛ من العصرة: وهي المنجاة. ومنه العصر: وهو الملجأ

51

{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ} أي أرسل إليهن الملك، وقال لهن: ما شأنكن {إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ} هل وجدتن منه ميلاً إليكن؛ كالميل الذي بدا منكن إليه؟ {قُلْنَ حَاشَ للَّهِ} تعجباً من خلق إنسان كامل عفيف مثله {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ} قط {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} التي كان يوسف في بيتها، وراودته عن نفسه، واتهمته بإرادة السوء بها؛ لما رأت قول النسوة: {حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ} جاشت في صدرها عوامل الحب الدفين، مع الإكبار، ورغبت في الصدق الصراح؛ بعد أن ناءت بحمل الكذب المبين، طوال هذه السنين قالت: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} وضح وظهر {أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} في دفاعه عن نفسه

52

{ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} أي لم أخن يوسف في غيبته، بعد أن خنته في حضوره؛ حين جابهته بقولي لزوجي «ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً» {وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} لا يسدد عملهم

53

{وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِي} فأقول: إني لم أراوده {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الذي أراه: أن جميع ذلك تتمة لكلام امرأة العزيز؛ لأن يوسف لم يأت بعد من السجن؛ ولقول الملك بعد ذلك «ائتوني به أستخلصه لنفسي» وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أنه من كلام يوسف عليه السلام؛ وزينوا ذلك بأقاويل تتنافى مع عصمة الأنبياء عليهم السلام؛ منها: أنه حين قال: «ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب» همس جبريل في أذنه قائلاً: ولا حين حللت تكة سراويلك وهممت بها؛ فقال: «وما أبرىء نفسي» وهو قول ظاهر القبح، بادي البطلان ومن عجب أن أمهات كتب التفسير تذكر هذا القول وأمثاله، وتنسبه إلى فضلاء الصحابة، وجلة التابعين؛ وهم براء من هذا الهراء وذهب بعضهم إلى أنه من كلام العزيز: أي لم أتحامل عليه وأخنه في غيبته؛ بل جازيته على أمانته، وملكته رقاب الناس وأموالهم

54

{وَقَالَ الْمَلِكُ} حين وضح له علم يوسف، ورسوخ قدمه وفضله، وبراءته مما نسب إليه {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أي أجعله من خلصائي وأصفيائي {فَلَمَّآ} -[288]- جاءوا بيوسف من السجن، و {كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} ذو مكانة تؤتمن على كل شيء

55

{قَالَ} يوسف {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ} أي وزيراً للمالية، أو وزيراً للتموين {إِنِّي حَفِيظٌ} ذو محافظة على الأموال {عَلِيمٌ} بإدارتها وتنميتها. وقيل: «حفيظ عليم» أي كاتب حاسب

56

{وَكَذلِكَ} كما أنعمنا عليه بالعلم، والصدق، والنبوة، والنجاة من السجن، والخلاص من كيد الشيطان، والقرب إلى قلب الملك؛ مثل هذا الإنعام والتفضل {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} جعلنا له مكانة فيها، وقدرة عليها. قيل: استخلفه الملك على مصر؛ فسار موكبه في طرقاتها؛ فرأته امرأة العزيز؛ فبكت وقالت: الحمدلله الذي صير الملوك عبيداً بالمعصية، والعبيد ملوكاً بالطاعة وقال بعضهم: إنه تزوجها بعد ذلك. والقول الراجح: إنه لم يتزوجها، بل تزوج راعيل زوجة اطفير، وولدت له غلامان {يَتَبَوَّأُ} ينزل ويسكن {مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ} فقد ملك أموالها وأقواتها؛ واحتاج كل من فيها إليه، وليست به حاجة إلى أحد {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا} بعطائنا وأنعمنا في الدنيا {مَّن نَّشَآءُ} من عبادنا {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فيها؛ بل ترزقهم منها جزاء إحسانهم

57

{وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} من أجر الدنيا وجزائها {لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} بربهم {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} الله في أعمالهم

58

{وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} عدا بنيامين أخاه الشقيق؛ وهم الذين تآمروا على يوسف، وألقوه في غيابة الجب؛ جاءوا - كما جاء غيرهم - ليأخذوا حاجتهم من القوت الذي حفظه يوسف في خزائنه، لسني القحط - تأويلاً لرؤيا الملك - {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي لم يعرفوه

59

{وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} أعطاهم حاجتهم من الأقوات التي جاءوا من أجلها؛ قيل: أعطى كل واحد منهم حمل بعير. وقد كان هاجه الشوق إلى أخيه؛ وأراد أن يحتال على مجيئه {قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ} لأعطيه مثل ما أعطيتكم {أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} المضيفين، المكرمين

60

{فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي} أي فلا أعطيكم طعاماً بعد ذلك

61

{قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} سنتحايل عليه في الإتيان به إليك

62

{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ} لغلمانه {اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ} التي جاءوا بها ثمناً للطعام؛ دسوها {فِي رِحَالِهِمْ} خفية من حيث لا يشعرون {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُواْ} رجعوا {إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلينا بها وبأخيهم؛ قيل: كان محرماً في شريعتهم أخذ شيء من غير ثمن له، أو «لعلهم يرجعون» لأخذ حمل بعير لأخيهم كما أخذوا

63

{فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} لمن لم يحضر معنا {فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا} بنيامين {نَكْتَلْ} له؛ كما اكتلنا لأنفسنا، وقرىء «يكتل»

64

{قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ} يوسف {مِن قَبْلُ} ففجعتموني فيه {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} يرحم ضعفي وذلتي، وحسرتي على مهجتي؛ فيحفظ لي ولدي، ويرده إليَّ

65

{وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ} التي أمر يوسف بدسها في رحالهم {رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} فعجبوا من ذلك، و {قَالُواْ يأَبَانَا مَا نَبْغِي} أي أي شيء نطلب بعد ذلك؟ {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} تفضلاً وكرماً. أو «ما» نافية؛ أي لا نبغي شيئاً منك؛ بل تكفينا بضاعتنا هذه التي ردت إلينا {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} من الميرة؛ أي نجلب لهم الطعام {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} في رحلتنا هذه {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} أي حمل بعير لأخينا بنيامين {ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} على الملك؛ لا يبخل به علينا؛ وقد رأينا من كرمه وسخائه ما رأينا

66

{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ} عهداً وقسماً {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} أي إلا أن يحيط بكم العدو، ويصير ليس في إمكانكم النجاة به {فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} حلفوا له على ذلك {قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} رقيب مطلع

67

{وَقَالَ} موصياً لهم {يبَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ} المدينة {مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} قيل: كانت وصية يعقوب: خشية من العين. والذي أراه أنه خشي أن يصيبهم مكروه مجتمعين؛ فيحل بهم جميعاً. وقيل: خشية أن يراهم الملك مجتمعين ويرى عددهم، واستواء أجسامهم، وقوتهم، فيبطش بهم: حسداً لهم، أو خوفاً منهم {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} لا أدفع عنكم شيئاً أراده الله تعالى بكم.

69

{وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} ضمه إليه، وأجلسه بجواره، و {قَالَ} له {إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ} فلا تحزن {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي بما عمل إخوتك معنا

70

{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ} هي ما يسقى به؛ وكانت من ذهب {فِي رَحْلِ أَخِيهِ} بنيامين {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} نادى مناد {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} العير: الإبل. أي يا أهل هذه القافلة، يا أصحاب هذه الإبل {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} فدهش إخوة يوسف من توجيه هذه التهمة لهم على رؤوس الأشهاد؛ وهم منها براء قد {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} أي على المنادين بالسرقة؛ متسائلين

71

{مَّاذَا تَفْقِدُونَ} وما الذي سرق منكم؟

72

{قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ} صاع {الْمَلِكُ} والصاع: مكيال يكال به. والمراد بالصواع هنا: الكأس الذي يشرب فيه؛ لأنه سمي في الآية المتقدمة بالسقاية «جعل السقاية في رحل أخيه» {وَلِمَن جَآءَ بِهِ} أي بالصواع المسروق {حِمْلُ بَعِيرٍ} مكافأة له على ضبط السارق {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} كفيل بأداء حمل البعير

73

{قَالُواْ تَاللَّهِ} قسم فيه معنى التعجب {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} وما جاء بنا إلا طلب القوت

74

{قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ} أي فما جزاء السارق {إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ} في قولكم، وكان السارق من بينكم

75

{قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ} المسروق {فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} أي فهو عبد رق جزاء سرقته. وكان في شريعتهم استرقاق السارق

76

{فَبَدَأَ} يوسف {بِأَوْعِيَتِهِمْ} أي بتفتيشها {قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ} وذلك تمويهاً لهم، وتغطية عليهم؛ ليشعرهم بحقيقة ما يسفر عنه وعاء أخيه أي استخرج السقاية {كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} أي علمناه ذلك الكيد؛ الذي استطاع به أن يأخذ أخاه، وليكون هذا سبباً في اجتماعه بأبويه. ومن هذا يؤخذ جواز التوصل إلى الأغراض المشروعة بالحيل؛ ولو أدى ذلك إلى الكذب؛ ما توافرت المنفعة، بغير أن يترتب عليها إضرار بأحد، و {مَا كَانَ} يوسف {لِيَأْخُذَ أَخَاهُ} رقيقاً بسبب سرقة لم يرتكبها {فِي دِينِ الْمَلِكِ} سلطانه وعادته وحكمه

77

{قَالُواْ إِن يَسْرِقْ} أخونا هذا -[291]- {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} يعنون يوسف عليه السلام؛ وكان قد سرق في صغره صنماً من ذهب لجده أبي أمه؛ فكسره {فَأَسَرَّهَا} أخفى هذه القالة {يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} ولم يظهر التضجر والتألم. ويجوز أن يكون المعنى: فأسر يوسف في نفسه قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} لسرقتكم إياي من أبيكم، وظلمكم الذي ظلمتموه لي وله {وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} بما تقولون، أو بما تكذبون

80

{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ} يئسوا من قبول مطلبهم {خَلَصُواْ نَجِيّاً} انفردوا متناجين فيما بينهم {وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} أي ألم تعلموا تفريطكم في يوسف من قبله؛ فكيف تفرطون في أخيه أيضاً {فَلَنْ أَبْرَحَ} لن أفارق {الأَرْضِ} أرض مصر {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} في الرجوع؛ راضياً عني، غير غاضب عليَّ {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} بخلاص أخي بنيامين، وعودته معنا {قَالَ كَبِيرُهُمْ} وأخذ بجريرته

81

{وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} أي بما تيقنا؛ لأنا رأينا بأعيننا صاع الملك وهم يستخرجونه من رحله {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ} لما غاب عن أعيننا وأذهاننا {حَافِظِينَ} أي إن ما نذكره هو الظاهر لنا؛ المشاهد لأعيننا؛ ولا نعلم ما في الغيب: هل هو السارق للصواع حقيقة، أم أنه دس عليه؟

82

{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي أهل القرية {وَالّعِيْرَ} الإبل؛ والمقصود: واسأل أهل القافلة {الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} فقد رأوا بأعينهم ما رأينا بأعيننا. فذهبوا إلى أبيهم فقالوا له ما رسمه لهم أخوهم

83

{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ} زينت وسهلت {لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} فعلتموه ببنيامين، كما فعلتم بيوسف أخيه من قبل -[292]- {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} يوسف وأخويه: بنيامين، والذي قال: «لن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي» {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بحالي {الْحَكِيمُ} في صنعه

84

{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} انصرف وأعرض الأسف: شدة الحزن {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} وكثرة البكاء ممتلىء غيظاً وكرباً وغماً، ويكتم جميع ذلك في نفسه {فَهُوَ كَظِيمٌ} قسم فيه معنى التعجب

85

{تَفْتَأُ} أي لا تفتأ، ولا تزال {تَذْكُرُ يُوسُفَ} دائماً وتذكر فقده {حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً} الحرض: الذي أذابه الهم والمرض، وأشرف على الهلاك وقد قلت في وصف الدنيا: فكم لفرقتها أشفى على تلف صب بها مولع في حبها حرض

86

{قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي} حالي المؤلم {وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} وحده؛ فهو القادر على الذهاب به، أو بأسبابه {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من صحة رؤيا يوسف وتحققها، واطمئناني بأن الله تعالى سيجمعني به؛ عاجلاً أو آجلاً

87

{يبَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ} تجسسوا. والتحسس: في الخير، والتجسس: في الشر. وقيل: إذا تجسس لنفسه؛ يقال له: تحسس، وإذا تجسس لغيره يقال له: تجسس {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ} من رحمته وفرجه فذهبوا إلى مصر

88

{فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ} أي على يوسف {قَالُواْ يأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} الشدة والجوع {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} رديئة، أو قليلة {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ} بالزيادة، أو برد أخينا. فأراد يوسف أن يكشف لهم عن حقيقته، وأن يعاتبهم على ما فعلوه عتاباً رقيقاً

89

{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ} إذ تآمرتم عليه، وألقيتموه في غيابة الجب، وزعمتم أن الذئب قد أكله {وَأَخِيهِ} وما فعلتم بأخيه بنيامين؛ إذ صدقتم أنه سرق، وأشعتم ذلك؛ وقلتم: «إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل» فلما رأوا فعله، وسمعوا كلامه علموا أنه أخوهم؛ فقالوا:

90

{أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ} نعم {أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي} بنيامين {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ} بإنجائي من الهلاك المحقق، وتملكي دماء الناس وأموالهم، وبتبرئة أخي من السرقة، واجتماعه بي -[293]- {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ} الله، ويعمل لآخرته {وَيِصْبِرْ} على الطاعات، وعن المعاصي، وعلى المكاره {فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} بل يجزيهم على صبرهم وإحسانهم خير الجزاء

91

{قَالُواْ تَاللَّهِ} قسم فيه معنى التعجب {لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ} أي فضلك {عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ *

92

قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} لا لوم، ولا تقريع، ولا عتب {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} لإنابتكم، وندمكم على ما قدمتم، واعترافكم بخطئكم؛ وقال لهم

93

{اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً} ألهمه الله تعالى أن قميصه إذا ألقي على وجه أبيه؛ يرتد بصره إليه بقدرته تعالى وقد أبى أخوهم يهوذا إلا أن يحمل القميص بنفسه؛ وقال: أنا حملت إليه قميص يوسف بدم كذب فأحزنته وأمرضته وأعميته، وأنا الذي أحمل إليه القميص الآن لأسره وأشفيه وقيل: إن هذا القميص كان قميص إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام؛ الذي نجا به من النار، وأنه قد نسج من حرير الجنة، وأن ريح الجنة لا يقع على مريض أو مبتلى إلا عوفي. وهذا الكلام فيه نظر؛ فلو صدقنا أنه كان قميصاً لإبراهيم، وآمنا أن ريح الجنة لا يقع على مريض أو مبتلى إلا عوفي؛ فأين لنا بحرير الجنة الذي نسج منه القميص؟ وأين لنا بريح الجنة الذي يشفي كل مبتلي أو مريض؟ وهو كلام لا يعدو أن يكون من تخريف القصاص المولعين بكل غريب، الناشرين لكل عجيب فكم من كلام لا تستسيغه الأفهام، وكم من منقول لا يوافق العقول؛ وكتب التفسير ملأى بكل غريب وسقيم؛ فليحذره العاقل الحكيم {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} لأستمتع برؤيتهم، وأهنأ بقربهم

94

{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} أي خرجت من مصر، وانفصلت عن عمرانها {قَالَ أَبُوهُمْ} يعقوب لجلسائه {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} تنسبون إليَّ التخريف. وهو من الفند، أي الخرف

95

{قَالُواْ تَاللَّهِ} قسم فيه معنى التعجب {إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} خطئك القديم؛ من حب يوسف، وأملك في حياته ولقائه؛ وقد أجمعوا على هلاكه وموته

96

{فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ} يهوذا بقميص يوسف {أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ} أي ألقى قميص يوسف على وجه أبيه {فَارْتَدَّ} عاد {بَصِيراً} كما كان {قَالَ} يعقوب {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ} ومن كرمه وفضله {مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وحينئذٍ أدرك إخوة يوسف مبلغ ما ارتكبوه في حق أبيهم، ومدى الإيذاء الذي ألحقوه به، وخافوا غضب الله تعالى عليهم، وبطشه بهم

97

{قَالُواْ يأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} فيما فعلناه

98

{قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} أطلب لكم الغفران منه {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ} لكل مذنب {الرَّحِيمُ} بكل تائب ولما أبلغوا أباهم رغبة يوسف في اللحاق به: توجهوا جميعاً نحو مصر ولما استشعر يوسف بقدومهم: استقبلهم في خارج -[294]- العمران ودخلوا على يوسف

99

{فَلَمَّا دَخَلُواْ} عليه {آوَى} ضم {إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ} روي أن يعقوب حين لقى يوسف قال له: السلام عليك يا مذهب الأحزان. فرد يوسف على أبيه السلام؛ وقال: يا أبت تبكي عليَّ حتى يذهب بصرك، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ قال: بلى ولكن خشيت أن يسلب دينك؛ فيحال بيني وبينك

100

{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} أجلسهما بجواره على السرير {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً} أي خروا لأجله سجداًلله، أو الضميرلله تعالى، أو السجود كان ليوسف عليه السلام؛ وكان تحية عندهم، أو كان على هيئة الانحناء {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ} أفسد وحرش {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ} أي رفيق بعباده؛ يسبب لهم مصالحهم من حيث لا يعلمون، ويرفعهم من ناحية المكاره التي تلحقهم إذ لولا تآمر إخوة يوسف عليه لما ألقي في الجب، ولولا إلقاءه في الجب ما أخذه السيارة، ولولا أخذ السيارة له وزهدهم فيه لما باعوه لحاكم مصر، ولولا بيعه كالعبيد لما راودته سيدة القصر عن نفسه، ولولا هذه المراودة لما دخل السجن، ولولا دخوله السجن لما اختلط بصاحبي السجن، ولولا تأويله لهما ما رأياه في منامهما لما اتصل أمره بالملك، ولولا اتصال أمره بالملك لما خرج من السجن، ولما وليَّ على خزائن الأرض وهكذا أراد ربك أن يرفعه من طريق الضعة، ويغنيه من طريق الفقر، ويسعده من طريق الشقاء فقد كان الأقرب أن يموت محطماً مهشماً عند إلقائه في الجب، أو أن يموت جوعاً وعطشاً لو ترك، أو تتخذه السيارة خادماً؛ فيعيش طوال حياته ذليلاً مهاناً ولكنه تعالى «لطيف لما يشاء» {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بخلقه {الْحَكِيمُ} في صنعه وهنا يحس يوسف بمبلغ فضل الله تعالى عليه، ومدى لطفه به؛ فيقول مناجياً ربه، شاكراً نعماءه

101

{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} ما آتيتني {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} ما علمتني {فَاطِرَ} خالق {أَنتَ وَلِيِّي} ناصري، ومتولي أموري في الدنيا والآخرة

102

{ذلِكَ} الذي ذكرناه لك، وقصصناه عليك يا محمد {مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ} أخبار ما غاب عنك، ولم يصل إلى علمك {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} ليكون دليلاً على صدقك، وبرهاناً على نبوتك {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي لم تكن لدى إخوة يوسف {إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ} عزموا عزماً أكيداً على الكيد ليوسف {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} أي لم تحضرهم وقتذاك؛ فتعلم ما دار بينهم؛ فيكون ذلك مثاراً للشبهة فيك، والتهمة لك؛ وإنما علمت ذلك عن طريق الوحي

103

{وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ} على إيمانهم {بِمُؤْمِنِينَ} إلا أن يشاء الله

104

{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ} أي على القرآن {مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ} ما هو {إِلاَّ ذِكْرٌ} -[295]- عظة {لِّلْعَالَمِينَ} الناس جميعاً

105

{وَكَأَيِّن} وكم {مِّن آيَةٍ} دالة على وحدانية الله تعالى وقدرته وعظمته {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} يشاهدونها بأعينهم وألبابهم {وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} أي معرضون عن دلالتها على خالقها إذ أن كل شيء في هذا الكون يشهد للمولى تعالى بالوجود والقدرة والحكمة والعظمة وليس الجبل بعظمته وضخامته بأكثر دلالة على وجوده تعالى من الحصاة الملقاة في الفلاة، وليس الغزال المستحسن بأدل على قدرته تعالى ووجوده من الخنزير المستهجن؛ بل إن النار والثلج - مع تفاوتهما واختلافهما في الطبائع: فإنهما لم يختلفا في جهة البرهان على وجود مبدعهما ومودع خواصهما

106

{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ} ما يقرون بوجوده «ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله» {إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} به غيره: يعبدون الأصنام؛ ويقولون: «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى»

107

{أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ} عقوبة تغشاهم وتشملهم {بَغْتَةً} فجأة

108

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} طريقي {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} حجة واضحة {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} تنزيهاً له تعالى عما يقولون، وعما يعبدون

109

{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} من الرسل {إِلاَّ رِجَالاً} ليس من بينهم امرأة، ولا جني، ولا ملك؛ وهو رد على القائلين «لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً» وهؤلاء الرجال {نُّوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى} أي من أهل المدائن؛ ولم يرسل الله تعالى رسولاً من أهل البادية؛ لجفائهم وغلبة القسوة على طباعهم

110

{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} يئسوا من إيمان قومهم؛ أو يئسوا من النصر على أقوامهم {وَظَنُّواْ} أي استيقن قومهم {أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} أي أن الرسل قد أخلفوا ما وعدوا به من النصر، أو ما وعدوا به من نزول العذاب بالمكذبين؛ وقرىء «كذبوا» بالتثقيل؛ أي وتأكد الرسل أنهم قد كذبوا من قومهم تكذيباً لا إيمان بعده. وقال بعضهم: إن المعنى: وظن الرسل أن الله أخلفهم ما وعدهم به؛ وهو كفر لا يجوز نسبته إلى عامة المؤمنين فما بالك بخاصتهم، وما بالك بالرسل؛ الذين هم صفوة عباد الله وخيرته من خليقته ومن عجب أنهم ينسبون هذا التأويل إلى حبر الأمة وترجمان القرآن: ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والأعجب من ذلك أنهم يزعمون أن السامع ناقش ابن عباس في ذلك القول؛ فقال له: ألم يكونوا بشراً؟ وتلا قوله تعالى: «حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب» فاحذر - هداك الله وعافاك - من هذه الدسائس فهي كثر {جَآءَهُمْ نَصْرُنَا} أي جاء الرسل نصرنا {فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ} وهم المؤمنون {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا} عذابنا {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} الكافرين

111

{لَقَدْ كَانَ فِي -[296]- قَصَصِهِمْ} أي قصص الرسل، الذين قصصناهم عليك {عِبْرَةٌ} عظة؛ وهكذا سائر قصص القرآن {مَا كَانَ} القرآن {حَدِيثاً يُفْتَرَى} يختلق؛ كما زعموا أنك اختلقته {وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي مصدقاً لما تقدمه من الكتب {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} تحتاجون إليه في معاشكم ومعادكم.

سورة الرعد

سورة الرعد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{المر} (انظر آية 1 من سورة البقرة)

2

{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواء يليق به؛ وليس كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود على الحدود {لأَجَلٍ مُّسَمًّى} يوم القيامة {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} ويا له من مدبر حكيم، وخالق عليم ترى الشيء فيهولك مظهره، ويسوؤك مخبره، ولو نظرت إليه نظر العاقل البصير، والناقد الخبير؛ لوجدت الخير كل الخير فيما وقع؛ فنعم المدبر العظيم، والخالق الكريم {يُفَصِّلُ الآيَاتِ} يبين لكم دلائل قدرته، ومظاهر ربوبيته

3

{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ} بسطها رأي العين، وجعلها سهلة ذلولاً {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} جبالاً ثوابت {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي صنفين: حلو وحامض، ورطب ويابس، وأبيض وأسود، وأحمر وأصفر، وكبير وصغير، وغير ذلك {يُغْشِي} يغطي {الْلَّيْلَ النَّهَارَ} بظلمته {إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ} دلالات على وحدانيته تعالى

4

{وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} يريد سبحانه وتعالى أن في الأرض قطعاً متجاورة ومتماثلة: تسقى بماء واحد؛ فتنتج هذه الحامض، وهذه الحلو، وتلك الرطب، والأخرى اليابس؛ إلى غير ذلك مما لا يحصره بيان، ولا يعوزه برهان {وَجَنَّاتٌ} بساتين -[297]- {مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} (انظر آية 266 من سورة البقرة) {صِنْوَانٌ} جمع صنو؛ وهو المثل: وهي النخلات، والنخلتان؛ يجمعهن أصل واحد، وقد يراد به: الشجر المتماثل، وغير المتماثل {يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ} ولكنه ينتج ثمراً مختلفاً، وطعوماً متباينة {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} في الثمر؛ إذ ليس التمر كالعنب أو الخوخ كالتفاح، أو التوت كالرمان أو الكمثرى كالمشمش

5

{وَإِن تَعْجَبْ} يا محمد من شيء {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً} في قبورنا {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي أنبعث بعد ذلك في خلق جديد كما كنا قبل موتنا؟

6

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} ذلك بأنهم سألوا رسول الله أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ} أي مضت عقوبات أمثالهم من المكذبين؛ أفلا يتعظون بها؟ {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ} متى تابوا من ذنوبهم، ورجعوا إلى ربهم {عَلَى ظُلْمِهِمْ} أي مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب: قيل: إنها أرجى آية في كتاب الله تعالى {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن ظلم نفسه بالذنب، ولم يقلع عنه، أو يتب منه. أو شديد العقاب للكافرين

8

{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى} ذكراً كان أو أنثى، شقياً أو سعيداً، بليداً أو رشيداً، مليحاً أو قبيحاً، طويلاً أو قصيراً {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} أي وما تنقص؛ وذلك بإلقاء الجنين قبل تمامه {وَمَا تَزْدَادُ} بزيادة عدد الولد؛ فقد تلد الأنثى واحداً، أو اثنين، أو ثلاثاً، أو أربعاً {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} بقدر وحكمة؛ حيث تتوفر المصلحة، وتعم المنفعة؛ فترى الكون لا يضيق بساكنيه، لا ينقطع رزقه تعالى عمن خلقه {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وتتجلى حكمة الحكيم العليم في حفظ التوازن بين تعداد السكان وحاجاتهم؛ فترى دائماً عقب الحروب، والجوائح، والكوارث والطواعين: تزداد نسبة المواليد عنها أيام السلام، والأمن، والدعة. وترى أيضاً نسبة الذكورة والأنوثة لا تكاد تتفاوت إلا بالقدر الذي أبيح من أجله تعدد الزوجات. وترى الطفل حين يولد: يدر له الثدي لبناً خاثراً؛ يسمى اللبأ. وهو خلو من المواد الغذائية؛ مع احتوائه على مواد ملينة؛ تساعد على تنظيف أمعاء الطفل، وإعداده للتغذي؛ وبعد ذلك يتطور اللبن: كماً وكيفاً؛ وتزداد قيمته الغذائية بازدياد الطفل ونموه؛ فكلما كبر سنه ازدادت المواد الغذائية تبعاً لحاجته إليها، فتطغى المواد الدهنية والسكرية على المواد الزلالية والملحية؛ كل هذا والمرضع هي هي لم تتغير، وغذاءها هو هو لم يتطور؛ ولكنه {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}. -[298]- وترى شجر البوادي في فصل الشتاء، وتوفر الرطوبة والأمطار: مجدباً قاحلاً؛ وفي فصل الصيف مع وجود الحرارة المحرقة، وقلة المياه، وانعدام الأمطار؛ تراه مزدهراً يانعاً مكسواً بالورق؛ فائضاً بالخضرة وما ذاك إلا ليستظل به من حرارة الشمس من ألهبته أشعتها وأحرقته نيرانها؛ مع أن الطبيعة تقتضي وجود الخضرة حيث يتوفر الماء والرطوبة، ووجود القحل حيث توجد الحرارة وتقل الأمطار؛ فسبحان من {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}. وترى فاكهة الشتاء لا تصلح للصيف، وفاكهة الصيف لا تصلح للشتاء

9

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ما غاب، وما شوهد

10

{سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ} أخفاه عن الأسماع {وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} لأنه تعالى عالم السر والنجوى، و «يعلم السر وأخفى» {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْلَّيْلِ} متوار عن الأنظار في ظلمة الليل؛ بمعصية الله تعالى من هو {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} ذاهب في سربه؛ أي في طريقه؛ يعصي ربه جهراً في ضوء النهار. لا يخفى على الله تعالى منهم شيء

11

{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} ملائكة تعتقب في المحافظة عليه؛ وكتابة سيئاته وحسناته {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ} أمامه {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي من أجل أن الله تعالى أمرهم بحفظ حسناته وسيئاته {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} من العافية والنعمة {حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} من الطاعات {وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} يلي أمرهم، ويدفع عنهم عذاب الله تعالى الذي أراده بهم

12

{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} خوفاً من عذابه، وطمعاً في رحمته: خوفاً من نزول الصواعق، وطمعاً في نزول المطر {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} في وجوده وقدرته؛ وينكرون إرساله محمداً، وينكرون قدرته على بعث الخلائق وإعادتهم {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} أي شديد الكيد والقوة

14

{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} أي إن دعوته تعالى إلى معرفته، وإلى اتباع دينه؛ ملابسة للحق، محانبة للباطل {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ} يعبدونهم {مِّن دُونِهِ} غيره {لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} لا يجيبونهم إلى شيء يطلبونه منهم {إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ} أي إلا كاستجابة الماء لمن يبسط كفيه له {لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} لأن الماء لا يعقل ولا يسمع، ولا يحس. أو كمن يبسط كفيه ليحمل بهما الماء ليشرب؛ فلا يستجيب له الماء، ولا تحمله كفاه إليه بسبب بسطهما {وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ} عبادتهم {إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} ضياع لا منفعة فيه

15

{وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً} بالدليل والحجة والبرهان {وَكَرْهاً} بالسيف والقتال {وَظِلالُهُم} أي ويسجد له تعالى ظلال كل من في السموات والأرض {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} قيل: يسجد له تعالى ظل كل شيء قبل طلوع الشمس، وفي العشي كذلك

16

{قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ} غيره {أَوْلِيَآءَ} أصناماً تعبدونها وتخلصون لها {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} الكافر والمؤمن، أو الصنم الذي لا يرى ولا يسمع، والله السميع البصير {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ} الكفر والجهل {وَالنُّورُ} الإيمان والعلم. (انظر آية 17 من سورة البقرة) {فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} خلق الله تعالى، وخلق شركائه الذين أشركوهم معه تعالى في العبادة

17

{أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} بمقدارها؛ الذي علم الله تعالى أنه صالح لها، وغير ضار بها {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً} وهو ما علا على وجه الماء من الرغوة والأقذار {رَّابِياً} منتفخاً مرتفعاً على وجه السيل {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} كالذهب والفضة {ابْتِغَآءَ} مبتغين صنع {حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} من الحديد والنحاس والرصاص وأمثالها؛ مما يتخذ منه الأواني، ويتمتع به في السفر والحضر {زَبَدٌ مِّثْلُهُ} أي خبث لا ينتفع به؛ كالزبد الذي فوق الماء {كَذَلِكَ} أي مثل هذه الأمثال {يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} أي يضرب أمثالاً لهما {فَأَمَّا الزَّبَدُ} الذي هو مثل للباطل {فَيَذْهَبُ جُفَآءً} باطلاً، ملقى به {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ} من الماء النقي، والجواهر، والمعادن الخالصة الصافية؛ وهي مثل للحق {فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} يمكث الماء الصافي فتسقى منه الأناس والأنعام، وتسقى منه الأرض؛ فتجود بالبركات والخيرات. ويمكث المعدن النقي فتصنع منه الحلي، والأوعية، والآنية، والآلات النافعة

18

{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ} وآمنوا به، وصدقوا رسله، وعملوا بما في كتبه؛ فأولئك لهم {الْحُسْنَى} الجنة {وَالَّذِينَ} كفروا به تعالى، و {لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ} وعصوا رسله؛ فأولئك {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} من مال وعقار {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} أضعافاً مضاعفة {لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} أنفسهم يوم القيامة من عذاب الجحيم ويومئذ لا يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً {أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} يأخذهم تعالى بذنوبهم جميعها فلا يغفر منها شيئاً {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} بئس الفراش.

19

{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ} القرآن ويعتقد أنه {الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} عن الحق؛ وهو الكافر {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} أصحاب العقول

20

{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} الذي واثقوا به الناس (انظر آيتي صلى الله عليه وسلّم من سورة المائدة و72 من سورة الأنفال)

21

{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} من الأرحام، والقرابات، وغيرها {وَيَخْشَوْنَ} يخافون غضبه وعقابه؛ فلا تصدر أعمالهم إلا بما رضيه وأمر به، ولا تنعقد نياتهم إلا بما يجب

22

{وَالَّذِينَ صَبَرُواْ} على الطاعات، وعن المعاصي {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} طلباً لمرضاته تعالى {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} أدوها في أوقاتها {وَأَنْفَقُواْ} في وجوه الخير والبر {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} هذا وفضل الصدقة دائماً يكون في السر؛ حتى لا تعلم شماله ما فعلت يمينه؛ بعداً عن التظاهر، وبراءة من الرياء، ويستحب فيها العلن إذا قصد به اقتداء الغير؛ وترويضه على الإنفاق. وقيل: يستحب السر في الصدقة؛ والجهر في الفريضة {وَيَدْرَءُونَ} يدفعون {بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} بأن يقابلوا الجهل بالعلم، والحمق بالحلم، والأذى بالصبر، والظلم بالعفو، والقطع بالوصل {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} العاقبة المحمودة للدنيا في الدار الآخرة؛ وهي

23

{جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي جنات الإقامة؛ من عدن بالمكان: إذا أقام فيه

25

{وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} يتركون أوامره ويغفلون فرائضه، وينتهكون محارمه {مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} الذي واثقهم به؛ وهو العقل الذي وهبه لهم. والوفاء به: عدم الخروج عن جادة الحكمة والصواب أو هو قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} ( انظر آية 172 من سورة الأعراف) {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} من صلة الرحم، والإحسان للفقراء، وما شاكل ذلك من الأمور التي تميز بها الإنسان عن الحيوان؛ فإذا ما قطعها كان الحيوان أفضل منه وأعز وأكرم {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} بالكفر والعصيان {أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} البعد والطرد من رحمة الله تعالى {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} سوء العاقبة في الآخرة: جهنم يصلونها وبئس المصير

26

{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} يوسعه {لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} ويضيق على من يشاء. يعطي بغير حساب، ويمنع بغير أسباب؛ فقد يوسع على من يكره، ويضيق على من يحب، ويبتلي بالشر والخير؛ ليعلم الصابرين منهم والشاكرين. -[301]- {وَفَرِحُواْ} أي فرح الذين بسط الله تعالى لهم الرزق: فرح بطر؛ لا فرح غبطة وشكر. أو وفرح الكفار {بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وما نالوه فيها، وما اكتسبوه منها {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ} أي بجانب ما في الآخرة من نعيم مقيم، وهناء دائم {إِلاَّ مَتَاعٌ} شيء يتمتع به فترة من الزمن؛ ومآله إلى الفناء

27

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا} هلا {أُنزِلَ عَلَيْهِ} أي على محمد {آيَةٌ} معجزة {مِّن رَّبِّهِ} كما أنزل على من سبقه من الأنبياء؛ كعصا موسى، وناقة صالح، وأشباههما؛ وتناسوا آية الرسول العظمى، ومعجزته الكبرى: القرآن الكريم الموحى إليه به بأمر ربه، والمحفوظ أبد الدهر بعنايته وقدرته دامت لدينا ففاقت كل معجزة من النبيين إذ جاءت ولم تدم {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ} إضلاله؛ لتمسكه بالكفر، وإصراره على الظلم {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ} {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} من رجع إليه بقلبه. فالإنابة سابقة للهداية؛ فكانت الهداية أجراً لها، كما أن الظلم سابق للإضلال؛ فكان الإضلال عقوبة عليه

28

{أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ} بطاعته ومرضاته {تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} تهدأ وترتاح إلى ثوابه

29

{طُوبَى لَهُمْ} الطوبى: الخير والحسنى وقيل: إنه اسم للجنة بالهندية {وَحُسْنُ مَآبٍ} حسن مرجع

30

{وَقَدْ خَلَتْ} قد مضت {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ} إن ما تكفرون به {هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في أموري كلها (انظر آية 81 من سورة النساء)

31

{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أي لو صح أن قرآناً يسير الجبال ويصدع الأرض، وتسمعه الموتى لكان هو هذا القرآن، لكونه غاية في الإنذار، ونهاية في التذكير {بَل للَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً} يدخل من يشاء في رحمته، وينعم على من يشاء بجنته، ويصطفي من يشاء لرسالته {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} يعلم؛ وهي لغة قوم من النخع {أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} بطريق الإلهام أو الإلزام، والقسر والجبر؛ ولكنه تعالى تركهم لاختيارهم واختبارهم {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ} أي بسبب كفرهم {قَارِعَةٌ} داهية تفجؤهم، وسميت «قارعة» لأنها تقرع القلب بأهوالها؛ ولذا سميت القيامة بالقارعة {أَوْ تَحُلُّ} الداهية {قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ} فيفزعون منها، ويتطاير عليهم شررها، ويلحقهم شرورها؛ فلا يتعظون بها -[302]- {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} موتهم، أو القيامة؛ فتحل حينئذ بالكافرين قارعة القوارع، وداهية الدواهي

32

{فَأَمْلَيْتُ} أمهلت. والإملاء: طول العمر، مع رغد العيش {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} بالعقوبة

33

{أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ} رقيب {عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} بما عملت فيجزيها عليه؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} في العبادة {قُلْ سَمُّوهُمْ} أي عرفوهم لنا {أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ} أي بباطل منه، أو هو الكلام يلقى على عواهنه {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} كيدهم للإسلام {زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} فكادوا للمؤمنين {وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ} منعوا عن دينه تعالى {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} قال تعالى {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (انظر آية 200 من سورة الشعراء)

34

{لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بالقتل والأسر، وأنواع المحن {وَلَعَذَابُ الآُخِرَةِ أَشَقُّ} وأقسى من عذاب الدنيا {وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} يقيهم غضبه ويمنع عنهم عذابه

35

{مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي صفتها: أنها {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ} أي ثمرها مستديم؛ ولا ينقطع بإبان، ولا يمتنع بأوان {وِظِلُّهَا} باق؛ لا ينسخ بالشمس كظل الدنيا {تِلْكَ} الجنة؛ وحالها كما وصفنا {عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} والنار عذابها دائم، كدوام نعيم الجنة

36

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} من مؤمني اليهود والنصارى {يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} من القرآن؛ لأن تصديقه نزل في كتبهم {وَمِنَ الأَحْزَابِ} المشركين؛ الذين تحزبوا على النبي والمؤمنين بالمعاداة والمناهضة {مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} أي بعض القرآن. قال تعالى: «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض» {قُلْ} لهؤلاء المنكرين {إِنَّمَآ أُمِرْتُ} في هذا القرآن الذي أنكرتموه {أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} وحده {وَلا أُشْرِكَ بِهِ} أحداً غيره؛ فإنكاركم للقرآن: إنكار للتوحيد -[303]- {إِلَيْهِ أَدْعُو} الناس لمعرفته وعبادته {وَإِلَيْهِ مَآبِ} مرجعي

37

{وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} لتقرأوه وتفهموه {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم} دينهم الذي يدينون به وفق هواهم {بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} والبراهين الساطعة، والحجج الدامغة {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ} ينصرك «من الله» {وَلاَ وَاقٍ} يقيك غضبه وعذابه. هذا وكل ما جاء خطاباً للرسول عليه الصلاة والسلام؛ بلسان التهديد والوعيد: إنما أريد به أمته؛ إذ أنه من المعلوم أن الله تعالى أرسل رسله لهداية الخلق، وإبعادهم عن أهوائهم؛ لا أن يتبعوا ضلال المضلين، وأهواء الكافرين

38

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ} كما أرسلناك {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} نساءً وأولاداً؛ كما جعلنا لك {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ} منهم {أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ} معجزة {إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} بأمره وإرادته؛ لا بإرادة الرسول، ولا برغبة قومه واقتراحهم {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} أي لكل شيء موقت بوقت: أجل مكتوب محدد، أو لكل أجل من الآجال: وقت مكتوب لا يتعداه

39

{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ} ينسخ ما يشاء نسخه} ما يشاء إثباته؛ مكان الذي نسخ، أو «يمحو» ذنب المذنبين إذا تابوا، وكفر الكافرين إذا آمنوا «ويثبت» لهم الحسنات، مكان السيئات. والمحو والإثبات عام في الرزق، والأجل والسعادة، والشقاوة، فقد أخرج ابن سعد وغيره، عن الكلبي. أنه قال: يمحو الله تعالى من الرزق ويزيد فيه. ويمحو من الأجل ويزيد فيه. وقد ذهب شيخ الإسلام زكريا الأنصاري إلى صحة ذلك. وقد ورد: أن الصدقة، وبر الوالدين وصلة الرحم: تنسأ في الأجل. وقد كان عمر رضي الله تعالى عنه يقول وهو يطوف بالبيت: اللهم إن كنت كتبت عليّ شقوة أو ذنباً فامحه؛ واجعله سعادة ومغفرة؛ فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب. حتى القضاء الأزلي: يمكن محوه وتغييره؛ أليس هو الفعال لما يريد؟ وليس أدل على المحو والإثبات: مما جاء عن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه في القنوت؛ فإن فيه: «وقني شر ما قضيت» ولا ينقلب الشر خيراً؛ إلا بمحوه وتغييره، وإثبات الخير مكانه. ولولا جواز المحو والتبديل، وإمكانه: لأصبح الدعاء لغواً، لا طائل وراءه؛ وقد قال تعالى: -[304]- {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا ينفع الحذر من القدر ولكن الله تعالى يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر {وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أصله الذي لا يتغير؛ وهو علم الله تعالى الأزلي اللدني؛ الذي لا يدركه محو، ولا تبديل، ولا تغيير (انظر آية 22 من سورة البروج)

40

{وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ} وإن نريك {بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من العذاب {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل تعذيبهم {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} أي ليس عليك إلا إبلاغهم بما أرسلت به {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} مجازاتهم بما فعلوا حينما يصيرون إلينا

41

{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أي أرض الكفار؛ ننقصها بامتلاك المسلمين لها وفتحها، أو المراد بالنقص: خرابها، وهلاك علمائها وفقهائها، وخيارها وسادتها. والأطراف لغة: الكرماء والأخيار {وَاللَّهُ يَحْكُمُ} بما يشاء {لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} لا راد لحكمه

42

{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} المكر: الكيد أي مكر الأمم المتقدمة؛ فكفروا برسلهم، وكادوا لهم؛ كما كفر بك قومك، وكادوا لك {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً} فيجازي الماكرين على مكرهم، ويرد كيد الكائدين في نحورهم {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} من خير أو شر؛ فيجزيها عليه {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} أي العاقبة المحمودة في الآخرة

43

{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} بما أظهره من الأدلة والبراهين والآيات، على صدق رسالتي {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أي علماء أهل الكتاب الذين أسلموا؛ لأن صفة الرسول عليه الصلاة والسلام ونعته جاء في كتبهم (انظر آية 157 من سورة الأعراف) وقيل: المراد بمن عنده علم الكتاب: الله تعالى. وقيل: هو جبريل عليه السلام.

سورة إبراهيم

سورة إبراهيم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{الر} (انظر آية 1 من سورة البقرة) {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} هو القرآن الكريم {لِتُخْرِجَ} به {النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} من الكفر إلى الإيمان، ومن الجهل إلى العلم (انظر آية 17 من سورة البقرة) {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} بأمره وإرادته وتوفيقه {إِلَى صِرَاطِ} طريق

2

{وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} الويل: حلول الشر، وقيل: إنه وادٍ في جهنم

3

{الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} يختارونها ويفضلونها {عَلَى الآخِرَةِ} فيتمسكون بزخرف الدنيا ومتاعها الفاني الزائل، ولا يؤمنون بما في الآخرة من ثواب وعقاب {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} يمنعون الناس عن الإسلام {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} معوجة

4

{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} أي إنه لا يجوز إرسال رسول أعجمي لأمة عربية، كما لا يجوز إرسال رسول عربي لأمة -[305]- أعجمية؛ لذا وجبت ترجمة القرآن لسائر اللغات (انظر توفية هذا البحث بكتابنا «الفرقان») {فَيُضِلُّ اللَّهُ} من يشاء إضلاله؛ بعد أن يزجي له الآيات البينات، ويضرب له الأمثال والعظات، ويسوق له المعجزات والدلالات؛ حتى إذا ما استمرأ عصيانه، ولج في طغيانه: وكله إلى شيطانه؛ فأضله وزاد في إضلاله قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ}

5

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} من الكفر إلى الإيمان، ومن الجهل إلى العلم (انظر آية 17 من سورة البقرة) {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} أي أنذرهم بوقائعه التي وقعت للأمم الكافرة قبلهم، أو ذكرهم بأيام نعمه عليهم؛ من تظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، وغير ذلك من النعم التي لا تحصى {إِنَّ فِي ذَلِكَ} التذكير {لآيَاتٍ} دلالات {لِّكُلِّ صَبَّارٍ} كثير الصبر على الطاعة وعن المعصية {شَكُورٍ} كثير الشكر لربه على ما أولاه

6

{يَسُومُونَكُمْ} من سامه خسفاً: إذا أولاه ظلماً وذلاً {سُوءُ الْعَذَابِ} أسوأه وأقبحه وأشده {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} يستبقونهن وقيل: يفعلون بهن ما يخل بالحياء {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ} محنة

7

{وَإِذْ تَأَذَّنَ} أعلم. وهي أيضاً بمعنى: «قال» وبها قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} براً وخيراً {وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} عبر تعالى عن عدم الشكر بالكفر؛ لما فيهما من أوجه الشبه: فالكافر منكر للإله، وهذا منكر لنعم الإله؛ فكلاهما في الكفر سواء وحقاً إن من يعرف الإله وينكر نعمه؛ لأشد كفراً ممن لا يعرفه أصلاً جعلنا الله تعالى من عباده الشاكرين

8

{فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ} عن سائر خلقه {حَمِيدٌ} محمود في صنعه بهم

9

{وَعَادٌ} قوم هود {وَثَمُودُ} قوم صالح {جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} بالآيات الظاهرات، والحجج الواضحات {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} أي عضوا أناملهم من شدة الغيظ. وقيل: ردوا أيديهم في أفواه الرسل؛ ليمنعوهم من الكلام.

10

{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} خالقهما ومبدعهما {وَيُؤَخِّرْكُمْ} بلا حساب ولا عقاب {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو انتهاء آجالكم، أو إلى قيام الساعة {تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا} تمنعونا {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا} من الأصنام {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بحجة واضحة؛ تتسلط على عقولنا؛ فتلزمنا بتصديقكم

11

{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} بالإيمان والنبوة {وَعَلَى اللَّهِ} وحده {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} في سائر أمورهم (انظر آية 81 من سورة النساء)

12

{وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} وأي عذر لنا في ألا نتوكل عليه؟ ومن التوكل: الشكر عند العطاء، والصبر عند البلاء {وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} هدى كلامنا طريقه المستقيم؛ الذي ارتضاه لنفسه، واختاره الله تعالى له

13

{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} أي أوحى إلى الرسل {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} الكافرين الطاغين

14

{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ} أي أرض الظالمين وديارهم. وقد ورد «من آذى جاره ورثه الله داره» {ذلِكَ} النصر على الأعداء، وإيراث الأرض {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} أي خاف قيامه بين يدي للحساب يوم القيامة أو خاف قيامي عليه، ومراقبتي له؛ قال تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} {وَخَافَ وَعِيدِ} أي خاف عذابي الذي أوعدت به في القرآن

15

{وَاسْتَفْتَحُواْ} أي طلب المؤمنون النصر من الله تعالى {وَخَابَ} ذل وخسر -[307]- {كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} متكبر، مجانب للحق

16

{مِّن وَرَآئِهِ} أي بعد انقضاء حياته {جَهَنَّمَ} يصلاها {وَيُسْقَى} فيها {مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} هو ما يسيل من جوف أهل النار من القيح والدم

17

{يَتَجَرَّعُهُ} يبتلعه {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} يزدرده لرداءته وقبحه {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ} أي يأتيه أنواع العذاب المقتضية للهلاك، المفضية للموت؛ ولكن الله تعالى يمد في حياته؛ ليزيد في تألمه وتحسره

18

{مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ} أي صفة الأعمال الصالحة؛ التي يعملها الذين كفروا بربهم؛ كالصدقة، وحسن الجوار، وصلة الرحم؛ فهذه الأعمال صفتها {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} أي يوم شديد هبوب الريح، وكل مائل عن غرضه؛ فهو «عاصف» قال تعالى: {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} وذلك بالنسبة لأجر الآخرة، أما في الدنيا فيجزون على أعمالهم هذه فيها {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} {لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ} عملوا في الدنيا {عَلَى شَيْءٍ} أي لا يقدرون على نيل ثوابه في الآخرة {ذلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} العذاب والهلاك الكبير

21

{وَبَرَزُواْ للَّهِ} أي ظهرت الخلائق {جَمِيعاً} وبرزتلله تعالى من قبورها {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ} الأتباع {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ} السادة والرؤساء {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا} دافعون عنا {مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ} أي الرؤساء المتبوعون {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ} إلى الإيمان {لَهَدَيْنَاكُمْ} إليه، أو «لو هدانا» لما ندفع به عذابه «لهديناكم» إليه. وفاتهم أنه تعالى هداهم للإيمان فأبوا، وأرشدهم سواء السبيل فعصوا قال تعالى {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ} وقال جل شأنه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ} الآن {أَجَزِعْنَآ} الجزع: ضد الصبر {أَمْ صَبَرْنَا} على ما نحن فيه من العذاب {مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} منجى ومهرب

22

{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} أي فرغ من الحساب، ودخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} بأن قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني دخل النار؛ فوفى بما وعد؛ وها قد دخلتم النار بعصيانكم، ودخل أهل الجنة الجنة بطاعتهم {وَوَعَدتُّكُمْ} بأن لا بعث، ولا حساب، ولا جزاء {فَأَخْلَفْتُكُمْ} كذبتكم {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} تسلط وقوة؛ حتى ألزمكم بالعصيان، وأكرهكم على الكفر -[308]- {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ} للكفر والعصيان {فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} أجبتم ندائي؛ بغير تعقل أو روية {فَلاَ تَلُومُونِي} الآن {وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} على تغفلكم وعدم حرصكم {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} بمغيثكم. أي بمجيب صراخكم {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} أي بإشراككم إياي مع الله في الطاعة والعبادة

24

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} هي كلمة التوحيد، أو هي كل كلمة طيبة يقولها الإنسان لأخيه الإنسان؛ فتهدىء من روعه، وتزيد في حبه قال تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} فهذه الكلمة الطيبة ينميها الله تعالى ويعلي أجرها وجزاءها {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ} أي طيبة الظل والثمر. قيل: هي النخلة. والمقصود بها: كل شجرة وارفة الظلال، مفعمة الثمار

25

{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} أي تجود بثمرها لآكله في كل وقت. وهو مثل للكلمة الطيبة وما تنتجه من طيب الأثر، ويانع الثمر

26

{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} هي كلمة الكفر، أو كل كلمة رديئة بذيئة؛ تترك أثراً سيئاً في النفوس، وضغناً كامناً في القلوب {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} منظرها كريه، وطعمها رديء. قيل: هي الحنظل. وقصد بها كل شجرة سيئة المنظر والمخبر {اجْتُثَّتْ} استؤصلت {مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} ثبات

27

{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} كلمة التوحيد {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بأن ينطقه الله تعالى بها عند موته، وعند سؤاله في القبر {وَفِي الآخِرَةِ} بأن يشهد بها وقت الحساب، فينجو من العقاب {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} الكافرين؛ فالكفر سابق على الإضلال {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} وإنما يضلهم بعد إصرارهم على الكفران وتمرغهم في أوحال العصيان، ورفضهم الحجج والدلالات، والآيات البينات قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ}

28

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً} أي كفروا بالنعمة ولم يشكروا عليها، فقد خلقهم تعالى ليؤمنوا به، فأنكروا وجوده، وأصحهم ليطيعوه: فعبدوا غيره، وأفاض عليهم من نعمائه ليشكروه فكفروا به وبذلك بدلوا أنعمه تعالى عليهم كفراً به وقيل: المراد بالنعمة في هذه الآية: الرسول عليه الصلاة والسلام؛ وأكرم به من نعمة ما أعظمها وأجلها يؤيد ذلك قوله تعالى: {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ -[309]- دَارَ الْبَوَارِ} لأن قومهم لما رأوا كفرهم بالنبي وتكذيبهم له اتبعوهم على ذلك. و «دار البوار» دار الهلاك

29

{جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها {وَبِئْسَ الْقَرَارُ} المقر

30

{وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} أمثالاً {لِيُضِلُّواْ} الناس {عَن سَبِيلِهِ} دينه {قُلْ تَمَتَّعُواْ} في الدنيا مدة حياتكم {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} يوم القيامة {قُلْ} أمر صادر ممن بيده مقاليد السموات والأرض، ومن بيده الموت والحياة والنشور؛ لرسوله وصفيه، وخيرته من خليقته؛ يقول له:

31

«قل» يا محمد {لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ} بوحدانيتي ورسالتك {يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ} يؤدوها في أوقاتها {وَيُنْفِقُواْ} على الفقراء {مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ} بفضلنا؛ لا بكدهم وجهدهم؛ فكم من ساع - يتصبب عرقه، وينهال دمعه ودمه - في سبيل العيش؛ فلا يحصل على قوت يومه. وكم من قاعد أثقلته النعمة؛ والأرزاق عليه تترى من حيث لا يحتسب. وكم من مناد على سلعته؛ حتى جف لسانه، ونضب ريقه؛ فما تزداد سلعته بندائه إلا بواراً، ولا يزداد بتعبه إلا خساراً وكم من جالس على أريكته، لا يعلن عن بضاعته، ولا يدعو إليها، ولا يطنب في مدحها والمشترون من حوله كالذباب يحومون حول بضاعته المزجاة، ويتسابقون في شرائها، ويتزاحمون على اقتنائها. ومن هنا يصدق قول الحكيم العليم: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} فكيف لا تنفق مما رزقك مولاك أيها المسكين؟ {سِرّاً} إذا كان في ذلك كبحاً لجماح غرورك وطرداً لشيطان ريائك، وستراً للفقير، وحفظاً لماء وجهه {وَعَلاَنِيَةً} إذا كان في ذلك تعليماً للمنفقين، وحثاً للممسكين وحذار - رحمك الله - من الرياء والإيذاء؛ فـ «قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى» {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ} هو يوم القيامة {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ} كحال الدنيا: بيع وشراء، وأخذ وعطاء. فليراع الله تعالى في بيعه وشرائه لينفعه ذلك في يوم جزائه {وَلاَ خِلاَلٌ} ولا صداقة. فليراع في الدنيا من يصادق؛ فلا يخالل فيها إلا في الله ولله أو المراد «لا بيع فيه» لا عدل ولا فدية؛ فلا يستطيع المذنب أن يستبدل ذنبه، أو يفتدي نفسه بملء الأرض ذهباً «ولا خلال» أي ولا صديق ينفع في ذلك اليوم، أو يدفع عذاب الله تعالى

33

{وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ} دائمين لا يفتران، ولا يقف أحدهما عن الدوران

34

{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} أي وأعطاكم من كل ما رغبتم فيه. وقد جرت عادته تعالى أن يعطي عباده ما يسألون، وفوق ما يسألون {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} وكيف نحصي أنعمه التي لا تتناهى؟ أنحصي نعمة السمع والإبصار؟ أم نعمة الشم والذوق؟ أم نعمة الرزق والطعام؟ أم نعمة الماء والهواء؟ أم نعمة الإيمان والإسلام؛ التي لا تعادلها نعمة؟ -[310]- حقاً إن الإنسان لو حاول الإحصاء والحصر: لضاق ذرعاً؛ ولما وسعه إلا أن يقول: «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» {إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ} كثير الظلم لنفسه؛ لعدم شكر ربه على أنعمه {كَفَّارٌ} كثير الكفر، قليل الشكر جاء في الحديث القدسي «أخلق فيعبد غيري، وأرزق فيشكر غيري»

35

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} البلد: مكة؛ زادها الله تعالى شرفاً وأمناً {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} وقد استجاب الله تعالى لإبراهيم دعوته فلم يعبد أحد من ولده صنماً قط

36

{رَبِّ إِنَّهُنَّ} أي الأصنام {أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي} منهم {فَإِنَّهُ مِنِّي} أي شأنه كشأني. وذلك كقوله: «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوة الجاهلية». {وَمَنْ عَصَانِي} فلم يؤمن بك، ولم يستجب لدعوتك {فَإِنَّكَ غَفُورٌ} لذنوب المذنبين؛ بفضلك {رَّحِيمٌ} بعبادك تغفر لمن تشاء منهم، وتعفو عمن تشاء قال نبي الله عيسى ابن مريم صلوات الله تعالى وسلامه عليهما: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

37

{رَّبَّنَآ إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي} زوجه هاجر وولدها إسماعيل {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} مكة شرفها الله تعالى {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} لو قال عليه الصَّلاة والسَّلام: فاجعل أفئدة الناس تهوى إليهم؛ بغير «من» لما بقي على ظهر الأرض إنسان إلا وذهب إليهم بقلبه ولبه (انظر آية 60 من سورة غافر) {وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ} وقد استجاب الله تعالى لإبراهيم دعاءه؛ فجلبت لهم الثمار من سائر الأقطار؛ وقد لا يتذوقها جانيها قبل أن يتذوقوها؛ فانظر يا أخي حكمة الحكيم العليم وبعد أن دعا إبراهيم ربه بما شاء: ختم دعاءه بحمده على نعمائه

39

{الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ} بعد أن يئست من القوة والولد «وهب لي» {إِسْمَاعِيلَ} جد نبينا عليهم الصَّلاة والسَّلام {وَإِسْحَاقَ} بعد إسماعيل {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ} لمن دعاه مؤمناً به، موقناً بإجابته

40

{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي} أيضاً اجعلهم مقيمي الصلاة. وهي خير دعوة يدعوها المؤمن؛ فلا أحب له، ولا أنفع، ولا أصلح من أن يكون مقيماً للصلاة هو وذريته {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ} من آداب الدعاء: أن يدعو الإنسان ربه بقبول دعائه، وأن يكون متيقناً بالإجابة؛ وإلا فهو شاك في قدرة ربه القادر على كل شيء

42

{وَلاَ تَحْسَبَنَّ} يا محمد أن {اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} لسكوته عليهم، وإغفاله لهم {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ} في التعذيب والانتقام {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} شخص بصره: إذا فتح عينيه من غير أن يطرف؛ وهذا لشدة ذهولهم ورعبهم {مُهْطِعِينَ} مادي أعناقهم، أو مسرعين {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} رافعيها

43

{لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} لا يغمضون أعينهم: لشدة ما يرون من الهول {وَأَفْئِدَتُهُمْ} قلوبهم {هَوَآءٌ} خالية من التفكير لكثرة فزعهم

44

{فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} كفروا {رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ} أي ردنا إلى الدنيا وأمهلنا {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ} التي دعوتنا إليها، فلم نستجب لها {وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} الذين أرسلتهم لنا فكذبناهم؛ فتقول لهم ملائكة الرحمن {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} أي حلفتم أنكم إذا متم لا تزالون عن تلك الحالة، ولا تنتقلون إلى دار أخرى، وحياة أخرى. وذلك كقوله تعالى {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ} (انظر مبحث التعطيل بآخر الكتاب)

46

{وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ} أي هو عالم بما يخفونه من الشر، وما يضمرونه من السوء والأذى للمؤمنين؛ فيجازيهم عليه {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} أي وإن كان مكرهم شديداً عظيماً؛ تبلغ قوته أن تزول منه الجبال؛ فإن الله تعالى قادر على إبطاله ومحوه، مقابلته بمكر هو أشد وأقوى منه {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} وقيل: «وإن» بمعنى ما؛ أي وما كان مكرهم لضعفه وهوانه {لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} وقرأ أبي وابن مسعود وغيرهما «وإن كاد» ومعنى هذه القراءة: لقد عظم مكرهم حتى كادت الجبال أن تزول منه

47

{فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} ما وعدهم به من النصر، ونزول العذاب بالمكذبين {أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} قوي، غالب {ذُو انْتِقَامٍ} ممن عاداه

49

{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} أي مسلسلين في الأغلال؛ وقد قرنت أيديهم إلى أرجلهم، أو قرن كل مجرم مع نظيره وشبيهه في الكفر والإجرام؛ كما يفعل بمجرمي أهل الدنيا

50

{سَرَابِيلُهُم} ملابسهم {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ} تعلوها وتغطيها

51

{لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} ما عملت في الدنيا {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} يحاسب الخلائق جميعاً في أسرع من لمح البصر

52

{هَذَا} القرآن {بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} أي أنزل لتبليغهم أوامر ربهم وموجدهم، وإنذارهم بغضبه على من يخالفه، وعقابه لمن يكفر به {وَلِيَذَّكَّرَ} ليتذكر به {أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} ذووا العقول.

سورة الحجر

سورة الحجر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الرَ}

1

(انظر آية 1 من سورة البقرة)

2

{رُّبَمَا} بتخفيف الباء وتشديدها؛ وقرىء بهما {يَوَدُّ} يتمنى {الَّذِينَ كَفَرُواْ} حين يروا العذاب يوم القيامة {لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} أي لو كانوا أسلموا في الدنيا، ونجوا من هول هذا العذاب

3

{ذَرْهُمْ} دعهم واتركهم {يَأْكُلُواْ} كما تأكل الأنعام {وَيَتَمَتَّعُواْ} بدنياهم الفانية {وَيُلْهِهِمُ} يشغلهم عن الإيمان بربهم، وعن الاهتمام بآخرتهم {الأَمَلُ} في طول الحياة، وجمع المال {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} تهديد ووعيد؛ أي سوف يعلمون ما يحل بهم في الآخرة؛ من عذاب أليم مقيم

4

{وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} من القرى الظالمة {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} أجل محدود لإهلاكها

5

{مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} الذي حدد لهلالكها {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} عنه؛ بل ينزل بها الدمار في الوقت الذي حدده الله لها

6

{وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} القرآن {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} يعنون بذلك سيد العقلاء محمداً

7

{لَّوْ مَا} هلا {تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} فنراهم عياناً؛ يشهدون بصدقك، وأن القرآن قد نزل عليك من عندالله. أو هلا تأتينا بالملائكة بالعذاب على تكذيبنا لك؟ قال تعالى رداً عليهم

8

{مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ} أي إلا بالعذاب الحق؛ الذي يستحقونه {وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ} أي وما كانوا عند نزول الملائكة - إذا أنزلناهم بالعذاب - مؤخرين؛ بل يحل بهم بغتة

9

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} القرآن {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} طول العمر، وأبد الدهر؛ لا يعتريه تغيير أو تبديل، ولا يشوبه تصحيف أو تحريف، ولا تدركه زيادة أو نقصان

10

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ} أي في فرق المتقدمين

12

{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} ندخله؛ أي القرآن، لا الكفران كما ذهب إليه أكثر المفسرين (انظر آية 200 من سورة الشعراء) الكافرين

13

{لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ} مضت {سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} أي سنة الله تعالى فيهم، وعادته معهم؛ من تعذيبهم بتكذيبهم، واستئصالهم بطغيانهم

14

{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ} يرونه بأعينهم {فَظَلُّواْ فِيهِ} أي في هذا الباب {يَعْرُجُونَ} يصعدون

15

{لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ} حيرت، أو حبست {أَبْصَارُنَا} عن الإبصار

16

{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} هي منازل الكواكب السيارة؛ وهي اثنا عشر: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. والكواكب السيارة سبعة: المريخ: وله من البروج الحمل والعقرب. والزهرة: ولها الثور والميزان. وعطارد: وله الجوزاء والسنبلة. والقمر: وله السرطان. والشمس: ولها الأسد. والمشتري: وله القوس والحوت. وزحل: وله الجدي والدلو

17

{وَحَفِظْنَاهَا} أي حفظنا السموات {مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} مرجوم، أو ملعون

18

{إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} من هؤلاء الشياطين {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} شعلة من نار؛ تحرق كل ما تمسه كالصاعقة

19

{وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} جبالاً ثوابت {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} بميزان الحكمة: كتناسب العناصر في الخضر والفاكهة وغيرهما؛ مما يحير العقول، ويدهش الأفكار أو «موزون» بميزان التقدير؛ فلا يزيد على حاجة الخلق ولا ينقص {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} أو {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا} أي في الجبال {مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} مما يوزن من المعادن: كالذهب والفضة، والنحاس، والرصاص، وما شاكل ذلك

20

{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} أي أسباب العيش: من المطعومات والمشروبات {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} أي وجعلنا لكم من العيال، والمماليك، والأنعام؛ من لستم له برازقين؛ لأننا نخلق طعامهم وشرابهم لا أنتم

21

{وَإِن مِّن شَيْءٍ} وما من شيء قلَّ أو جلَّ، دق أو رق {إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} التي ننفق منها {وَمَا نُنَزِّلُهُ} للخلق {إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} حسب حاجتهم إليه، وحسب مشيئتنا وإرادتنا بالتوسعة على البعض، والتضييق على الآخرين. وقد يوسع الله تعالى على العاصين، ويضيق على المتقين؛ لحكمة يعلمها، وغرض يريد إمضاءه: ابتلاء لبعض خلقه، وإملاء لآخرين «وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال»

22

{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} أي حوامل بالسحاب؛ لأنها تحمله في جوفها، ولأن الرياح تلقح النبات والأشجار؛ فتنقل من ذكرها لأنثاها «فتبارك الله أحسن الخالقين»

24

{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} أي قد أحطنا بالخلق علماً من لدن آدم إلى قيام الساعة

26

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ} طين يابس؛ تسمع له صلصلة إذا ضرب عليه {مِّنْ حَمَإٍ} طين أسود {مَّسْنُونٍ} متغير منتن

27

{وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} هي نار لا دخان لها؛ تنفذ من المسام، وتسري مع الريح {} أتممت خلقته

29

{فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} ذهب الأكثرون إلى أنه سجود تحية بالانحناء فحسب؛ ويأبى ذلك قوله تعالى: «فقعوا» لأنه أمر بالوقوع متلبسين بالسجود، وذهب بعضهم إلى أنه امتحان للملائكة، واختبار لطاعتهم؛ لأنهم - بلا شك - نوع أرقى من النوع الإنساني؛ وليثبت تعالى للملإ حسن طاعتهم، ومزيد انقيادهم؛ وأنهم {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (انظر آية 22 من سورة التكوير) {قَالَ} الله تعالى مخاطباً إبليس اللعين؛ ليقطع الشك باليقين أمام سائر المخلوقين؛

32

قال {يإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} الذين سجدوا إطاعة لأمري، وتنفيذاً لقضائي فابتدأ اللعين، في مجادلة رب العالمين، وأحكم الحاكمين

33

{قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ} أقل مرتبة مني؛ إذ {خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ} طين يابس؛ تسمع له صلصة إذا ضرب عليه {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} طين أسود متغير؛ وقد خلقتني من نار؛ والنار أفضل من الطين

34

{قَالَ} تعالى {فَاخْرُجْ مِنْهَا} أي من الجنة؛ فلست أهلاً للبقاء في النعيم {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} مطرود

35

{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} يوم الجزاء: يوم القيامة

36

{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي} أخرني وأمهلني

37

{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} المؤخرين

38

{إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} يوم القيامة. من هنا نعلم أن الله تعالى قد يستجيب للظالم - لحكمة قدرها وعلمها - امتحاناً به لغيره، وابتلاءاً لبعض مخلوقاته

39

{قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} لقن اللعين حجة لأوليائه الملاعين؛ وهي أن الإغواء جاءه من أحكم الحاكمين؛ فقال لربه: بحق إغوائك لي؛ في حين أن ربه لم يغوه؛ وإنما غوى هو بنفسه، وأغوى غيره وقد جرت سنة الله تعالى في خليقته أن يضل الضالين، ويهدي المهتدين {قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً} {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} {قَالَ} الله تعالى:

41

{هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ *

42

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أي هذا طريق مستقيم، على أن أراعيه: وهو ألا يكون لك قوة ولا تسلط على عبادي المخلصين {إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} الكافرين {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}

43

{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} أي إن جهنم لموعد لمن اتبعك

44

{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ} من الأبواب السبعة {مِنْهُمُ} أي من الكافرين الغاوين {جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} نصيب مقسم على هذه الأبواب. قيل: إن هذه الأبواب لدركات جهنم، وهي مرتبة فوق بعضها؛ وفي أعلاها عصاة هذه الأمة، وفي أسفلها المنافقين {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}

45

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} بساتين {وَعُيُونٍ} ماء جار يرى بالعين؛ ويقال لهم

46

{ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} من كل سوء وعناء

48

{لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} تعب {وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} أبد الآبدين، ودهر الداهرين

49

{نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ} للتائبين المستغفرين {الرَّحِيمُ} بالمؤمنين الطائعين

50

{وَأَنَّ عَذَابِي} للكافرين والعاصين {هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} المؤلم

51

{وَنَبِّئْهُمْ} أخبر قومك يا محمد {عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} من الملائكة

52

{إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ} بعد أن رد عليهم السلام {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} خائفون وذلك لأنه رآهم لا يأكلون من طعامه الذي قدمه إليهم

53

{قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ} لا تخف -[316]- {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} ذي علم كثير؛ وهو إسحاق عليه السلام

54

{قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي} بالغلام {عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ} أي بعد أن كبرت، ولم أعد صالحاً لإنجاب الولد {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} بعد ذلك

55

{قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} أي بما سيقع حتماً، ويكون حقاً {فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ} الآيسين

56

{قَالَ} معاذ الله أن أقنط من وعده ورحمته {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} ولست منهم

57

{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ} ما شأنكم {أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} ولأي شيء جئتم

58

{قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} قوم لوط؛ لننزل عليهم العذاب بأمر رب العالمين

59

{إِلاَّ آلَ لُوطٍ} أهله من المؤمنين، ومن آمن به من قومه {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} من العذاب

60

{إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} الباقين في العذاب

61

{فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ} من الملائكة الذين بشروا إبراهيم بغلام عليم

62

{قَالَ} لوط أي لا أعرفكم؛ وقد أنكرهم لوط لأنه رآهم في زي نظيف لا يتفق وحال المسافر؛ وليسوا ممن يعرف من أهل قريته

63

{قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي بالعذاب الذي كان قومك يشكون في مجيئه

65

{فَأَسْرِ} أي سر ليلاً {بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ} بطائفة من الليل، أو ببقية منه، أو بجنح الليل {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} أي امش خلف المؤمنين من أهلك وقومك {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} خلفه؛ لئلا يرى ما ينزل بقومك من العذاب؛ الذي يخلع القلب، ويطيح باللب

66

{وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ} أوحينا إليه {ذَلِكَ الأَمْرَ} الذي ذكرناه؛ وهو {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} أي مستأصلون عن آخرهم صباحاً؛ لأن الدابر: آخر كل شيء وأصله

67

{وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ} بمجيء الملائكة عند لوط، طمعاً في ارتكاب الفاحشة معهم؛ ظناً منهم أنهم من عامة الناس أمثالهم؛ وقد دخلوا على لوط بأكمل شكل، وأجمل صورة

68

{قَالَ} لوط لقومه - لما رأى إقبالهم إليه - وعلم نواياهم السيئة {إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي} ضيوفي -[317]- {فَلاَ تَفْضَحُونِ} معهم

69

{وَاتَّقُواْ اللَّهَ} خافوه، واخشوا عقابه {وَلاَ تُخْزُونِ} الخزي: الذل والهوان

70

{قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} أي عن الاختلاط بالناس، وتسميم أفكارهم بما تزعمه من الرسالة، وما تدعو إليه من الإيمان بإلهك؟

71

{قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي} أي بنات أمته؛ لأن كل نبي يعتبر أباً لقومه؛ وإلا فليس بجائز أن تزوج بنات أصلح الصالحين، لأفسق الفاسقين {لَعَمْرُكَ} أي وحقك {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي في ضلالهم يتخبطون. لقد تجلى الإله على مصطفاه، وأقسم الجليل بالخليل، وشرف الكريم عبده العظيم، وأفاض المنعم على نبيه الأكرم؛ فأظهر للملإ قدره، وأعلا في الآفاق شأنه؛ وحلف بحياته عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما خلق الله، وما ذرأ، وما برأ، نفساً أكرم عليه تعالى من محمدصلى الله عليه وسلّم، وما سمعت أن الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى ذكره:

72

{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}

73

{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} الصيحة: العذاب. وقيل: صاح بهم جبريل عليه السلام حين بدأ بتعذيبهم. والصيحة: مقدمة لكل عذاب {مُشْرِقِينَ} وقت شروق الشمس

74

{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} قيل: حمل جبريل عليه السلام قريتهم إلى أن قاربوا الأفلاك، وسمعوا تسبيح الأملاك؛ وجعل عاليها سافلها؛ بأمر ربه المنتقم الجبار أعاذنا الله تعالى من غضبه بمنه، وعافانا من عذابه بكرمه {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} السجيل، والسجين: المكتوب في السجل، أي وأمطرنا عليهم حجارة مكتوب عليهم أن يعذبوا بها؛ قال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} أي مكتوب. وقيل: سجيل وسجين: اسم وادٍ في جهنم؛ أي وأمطرنا عليهم حجارة من جهنم: إذا لم يصبهم جرمها؛ أحرقتهم حرارتها

75

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} العذاب الذي أنزلناه بقوم لوط، وبغيرهم من المكذبين {لآيَاتٍ} لعبر وعظات {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} للمتأملين، والمتفكرين

76

{وَإِنَّهَا} أي قرى قوم لوط، وما فيها من آثار تعذيبهم واستئصالهم {لَبِسَبِيلٍ} طريق {مُّقِيمٍ} باق لم يندرس؛ وهي مدينة سدوم، أو سذوم. وقيل: عاموراء؛ وهما قريتان من قرى قوم لوط

77

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإبقاء على هذه القرى إلى الآن، على حالها البادي للعيان {لآيَةً} عبرة وعظة {لِلْمُؤْمِنِينَ} الصادقين في الإيمان

78

{وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ} الأيكة: الغيضة؛ وهي مجتمع الشجر. قيل: إنهم قوم شعيب عليه السلام {لَظَالِمِينَ} لكافرين

79

{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أهلكناهم؛ لما كذبوا شعيباً {وَإِنَّهُمَا} أي قرى قوم لوط، والأيكة {لَبِإِمَامٍ} طريق واضح؛ لمن يريد أن يراهما ويتعظ بما حل بأهلهما

80

{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ} ثمود: قوم صالح عليه السلام؛ و «الحجر» واد بين المدينة والشام؛ عند وادي القرى، -[318]- أو بين مكة وتبوك {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} الصيحة: العذاب؛ أو هي مقدمة لكل عذاب. وقيل: صرخ فيهم الملك المأمور بإهلاكهم صباحاً

84

{فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ} فما دفع عنهم العذاب {مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} ما كانوا يعملونه: من جمع للأموال، وبناء للقصور والحصون

85

{فَاصْفَحِ} يا محمد عن قومك {الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} أي الصفح الذي لا يبقي أثراً في القلوب لقد أقام الله تعالى عليهم الحجة التي لا تدحض، والبرهان الذي لا يدفع: فأمر رسوله عليه الصلاة والسلام بملاينتهم وملاطفتهم، والصفح عنهم صفحاً جميلاً؛ يلين من شكيمتهم، ويسلس من قيادهم. وبعد ذلك أمره بهجرهم هجراً رفيقاً رقيقاً «واهجرهم هجراً جميلاً» فأفاد ذلك بعض من هدى الله تعالى، وكتب له السعادة والسيادة، ولم يفد مع الآخرين؛ فكانوا كالعضو الفاسد المريض؛ الذي لا يسلم الجسم إلا ببتره، ولا يبرأ إلا بقطعه فأنزل تعالى على رسوله «فخذوهم واقتلوهم حين ثقفتموهم»

87

{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي} وهي - على القول الراجح - الفاتحة؛ لأنها سبع آيات، ولأنها تثنى في كل ركعة من الصلاة. وقيل: هي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال والتوبة معاً؛ وذلك لأنه قد ثنى فيها الأمثال، والخبر، والعبر، والفرائض، والحدود، والقضاء، والقصص

88

{لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} أي لا تطمح بعينيك إلى ما آتينا أصنافاً من الكفار؛ من متاع الدنيا ونعيمها الزائل، وتراثها الفاني {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي لا تحزن لعدم إيمانهم {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} تواضع، وألن جانبك {لِلْمُؤْمِنِينَ} أمر الله تعالى رسوله الكريم - وهو سيد الخلق وخيرهم - بأن يتواضع ويلين جانبه للمؤمنين؛ وأي مؤمن - وإن سما وعلا - فهو دون الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه رتبة؛ فكيف بنا معشر المؤمنين ونحن نتعالى على من هم أعلا منا ديناً، وأرقى منا مرتبة، وأسمى منا تقى وورعاً وقد فسدت المقاييس، وانخرمت المعايير وأصحبت الأقدار، تقاس بالدرهم والدينار فأي درك هذا الذي هوينا إليه؟ وأي إثم هذا الذي وقعنا فيه؟ قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ولم يقل تعالى: إن أكرمكم عندي أغناكم، أو أجملكم، أو أقواكم فاعلم - هداك الله - أن أقدار الناس لا تقاس إلا بمقياس الدين والورع، لا الحرص والطمع (انظر آية 22 من سورة الروم)

90

{كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} أي كما أنزلنا من البلاء والعذاب على المقتسمين. قيل: هم جماعة من المشركين. وقيل: هم أهل الكتاب؛ لأنهم قسموا القرآن، وقالوا بصحة ما يوافق كتبهم، وكذبوا باقيه

91

{الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ} -[319]- أي أعضاء وأجزاء، وأقوال متفرقة: شعر، سحر، كهانة، اختلاق

94

{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} أي فامض في تنفيذ ما أمرتك به؛ واجهر بما أنزلته عليك من القرآن، وأعلن كلمة التوحيد، وشق باطلهم بحقك

95

{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} أي منعنا عنك شرهم وأذاهم؛ بأن أهلكناهم، وقطعنا دابرهم

97

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} فيك، وفي الله

98

{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} قدسه واحمده على ما أفاء عليك من نعم

99

{وَاعْبُدْ رَبَّكَ} داوم على عبادته {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} الموت: المتيقن وقوعه.

سورة النحل

سورة النحل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} بمعنى سيأتي؛ وعبر تعالى بالماضي: لتيقن وقوعه؛ وهو البعث والنشور والحساب {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} وتقولوا: متى؟ وأين؟ وأيان؟ {سُبْحَانَهُ} تقدس وتنزه (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء)

2

{يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ} بالوحي {مِنْ أَمْرِهِ} بإرادته {عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} الذين اصطفاهم لنبوته، واختارهم لرسالته

4

{خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ} مني (انظر آية 21 من الذاريات) {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} خصم شديد الخصومة لمن خلقه ورزقه

5

{وَالأَنْعَامَ} الإبل والبقر والغنم {خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} من أصوافها وأوبارها وأشعارها؛ تصنعون كساء، ورداء، وغطاء لكم فيها {مَنَافِعُ} تنتفعون بركوبها، وتشربون من ألبانها

6

{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} زينة {حِينَ تُرِيحُونَ} من الإراحة؛ أي حين تردونها في العشي من مسارحها ومراعيها؛ إلى مراحها ومنازلها التي تأوي إليها {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} بها، وتخرجونها من مراحها إلى مرعاها في الصباح

7

{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ} بعيد {لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} بجهدها ومشقتها

8

{وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من وسائل النقل والركوب: كالقاطرات، والسيارات، والطائرات، وغيرها

9

{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} أي وعليه تعالى هداية الطريق المستقيم {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} أي ومن هذه السبل ما هو مائل عن الاستقامة {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} قسراً وجبراً؛ ولكنه تعالى أراد أن تهتدوا بالحجة والبرهان

10

{فِيهِ تُسِيمُونَ} أي من الشجر تأكلون؛ وهو من سامت الماشية: إذا رعت

11

{يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ} أي بالماء النازل من السماء {الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (انظر آية 266 من سورة البقرة) {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإنزال، والإنبات {لآيَةً} دالة على قدرة الخالق ووحدانيته وعظمته {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي لهم عقول يفكرون بها في الأسباب ومسبباتها، والخالق تعالى ومخلوقاته

13

{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ} ما خلق لكم {فِي الأَرْضِ} من الحيوان، والنبات، وغيره {مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} كالأحمر، والأصفر، والأخضر، والأسود، والأبيض. ويجوز أن يكون معنى «مختلفاً ألوانه» أي متعدداً أصنافه وأشكاله

14

{وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ} أي من البحر {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} كاللؤلؤ والمرجان {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ} أي جواري في البحر؛ تمخر الماء: أي تشقه {وَلِتَبْتَغُواْ} لتطلبوا بواسطة هذه الفلك {مِن فَضْلِهِ} من رزقه تعالى؛ بالانتقال للاتجار من بلد إلى بلد

15

{وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ} جبالاً ثوابت {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} أي لئلا تميد الأرض بكم وتضطرب {وَسُبُلاً} طرقاً تسيرون فيها.

16

{وَعَلامَاتٍ} تستدلون بها - في سيركم - على الطرقات؛ كالجبال، والوديان، والأنهار {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} إلى الطرق، وإلى الجهات، وإلى القبلة

17

{أَفَمَن يَخْلُقُ} جميع ذلك، ويديره، ويدبره، ويحفظه، ويكلؤه؛ وهو الله الكبير المتعال {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} شيئاً أصلاً؛ بل يفتقر إلى خالق يخلقه، وموجد يوجده؛ وهو الصنم الذي تعبدونه {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أفلا تتذكرون ذلك؛ فتؤمنوا ب الله الخالق البارىء المصور

18

{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ} عليكم {لاَ تُحْصُوهَآ} وكيف تحصى أنعمه تعالى؛ وهي لا يحدها حد، ولا يحصيها عد؛ ويكفينا من أنعمه تعالى: واسع رحمته؛ ومزيد مغفرته {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ} لكم {رَّحِيمٌ} بكم قال الحسن رضي الله تعالى عنه: إن لله في كل عضو نعمة؛ فيستعين بها الإنسان على المعصية. اللهم لا تجعلنا ممن يتقوى بنعمتك على معصيتك؛ وهب لنا لساناً ذاكراً، وقلباً خاشعاً، وجوارح لا تعمل إلا في طاعتك؛ وجنبنا معصيتك، وأدخلنا جنتك؛ بمنك ورحمتك (انظر آية 34 من سورة إبراهيم)

20

{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ} يعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أرأيت إلى الصنم: هل يستطيع أن يوجد بنفسه؛ من غير موجد له؟

21

{أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي لا يعلمون في أي وقت يبعث عبدتهم

22

{فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} وما فيها من بعث وحساب، ونعيم وعذاب {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} جاحدة: لا تقبل الوعظ، ولا ينفع معها النصح؛ لأنهم أصروا على عدم الاستماع، ولأن الذي لا يؤمن بالآخرة: لا يرجو ثواباً، ولا يخشى عقاباً {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} عن الاستماع والانتفاع

23

{لاَ جَرَمَ} أي لا بد ولا محالة أن يؤول حالهم إلى ما آل إليه، وأن تنكر قلوبهم الوعظ، وتأبى الرشاد، وأن يستكبروا عن الإيمان؛ ووٌوٍوَوُوِ} في قلوبهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} بألسنتهم وجوارحهم

24

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} على محمد {قَالُواْ أَسَاطِيرُ} أباطيل وأكاذيب {الأَوَّلِينَ} الأمم الماضية

25

{لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ} ذنوبهم {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} أي وليحملوا أوزاراً أخرى مع أوزارهم؛ وهي أوزار الناس الذين تسببوا في إضلالهم {بِغَيْرِ عِلْمٍ} ممن ضلوا بسببهم بأنهم ضلال {أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} أي بئس ما يحملونه من ذنوبهم وآثامهم، وذنوب وآثام غيرهم

26

{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} كفروا مثل كفرهم، وأضلوا مثل إضلالهم {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ} قوضه وخربه {مِّنَ الْقَوَاعِدِ} من الأساس؛ حتى لا تقوم له قائمة بعد {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ} أي وهم تحته فهلكوا. وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا الكلام على حقيقته؛ وأن المراد به نمرود بن كنعان - الذي حاج إبراهيم في ربه - أو جباراً آخر من جبابرة -[322]- النبط أو بختنصر، أو هامان. والذي أراه أن الله تعالى شبه هلاك الأمم المتقدمة واستئصالهم: بمن أقاموا في بيت انهارت أسسه؛ فخر عليهم سقفه {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} ولا يتوقعون ويصح أن يكون الكلام على حقيقته؛ إذا أطلق على الأمم المتقدمة: كقرى قوم لوط، قال تعالى في وصف تعذيبهم {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} وذلك بأن أتى قواعدها؛ بأن زلزل أرضها زلزالاً عنيفاً، ورفعها بما فيها ومن فيها؛ وجعل عاليها سافلها: فصارت سماؤها أرضاً، وأرضها سقفاً {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ}

27

{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} يذلهم {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} الذين كنتم تشركونهم معي في العبادة، و {الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} أي تعادون وتخاصمون المؤمنين {قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} هم الملائكة، أو الأنبياء، أو المؤمنون {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ *

28

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} الموكلون بقبض الأرواح؛ حال كونهم {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} بالكفر والعصيان، وتعريضها للعقاب {فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ} استسلموا على خلاف عادتهم في الدنيا من العناد والمكابرة؛ وقالوا: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ} أنكروا السوء يوم القيامة؛ وقد انغمسوا فيه طوال حياتهم؛ فتقول لهم الملائكة {بَلَى} قد كنتم تعملون السوء وتنشرونه {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فمجازيكم عليه

29

{فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} بئس المقام مقامهم

30

{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ} أنزل {خَيْراً} وصدقاً وسموا ما أنزله الله تعالى {خَيْراً} لأنه قد تسبب لهم في خيري الدنيا والآخرة فبعث فيهم الطمأنينة في الدنيا، وهدوء النفس، وسعادة الروح وذلك بما أمدهم به من إخوة إنسانية، ومن مكارم أخلاق ومن تضحية بمصالح الفرد في سبيل المجتمع، ومن حب للخير، وحث على الإحسان والبذل كما أن القرآن الكريم قد تسبب أيضاً في دخول الجنان، ورضا الرحمن وهما الأجر الذي أعده الله تعالى لمن اتبع قرآنه، وأطاع نبيه {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} مما يناله الإنسان في الدنيا {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} الذين يخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب

31

{جَنَّاتُ عَدْنٍ} جنات الإقامة؛ من عدن في المكان: إذا أقام فيه

32

{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} بقبض أرواحهم {طَيِّبِينَ} مؤمنين، طاهرين من الكفر {يَقُولُونَ} أي يقول الملائكة لهم عند الموت {سَلامٌ عَلَيْكُمُ} وقد ورد أنهم يقولون للمؤمن قبل قبض روحه: ربك يقرئك السلام؛ فتنفرج -[323]- أساريره، ويضيء وجهه بالابتسام؛ ويقال لهم في الآخرة {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ} أي تقول لهم الملائكة ذلك عند الموت؛ لأن المؤمن وقتذاك يرى مقعده من الجنة {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *

33

هَلْ يَنْظُرُونَ} أي ما ينتظر الكفار {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} لقبض أرواحهم بالعنف والشدة {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} بالعذاب {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} بتعذيبهم {وَلكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بكفرهم وتعريضها للعقاب

34

{فَأَصَابَهُمْ} أي فالذي أصابهم هو {سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} أي جزاؤها {وَحَاقَ بِهِم} نزل وأحاط

35

{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} عبث يقولونه، وباطل يزعمونه: فقد أرسل الله تعالى رسله، وأمرهم بتبليغ دينه الذي ارتضاه لعباده، وخلق لهم العقل الذي به يفهمون ما ينفعهم فيتبعونه، ويدركون ما يضرهم فيجتنبونه {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ} وبعد ذلك قال تعالى: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} فهل بعد ذلك عذر لمعتذر؟ وهل بعد هذا قول لقائل {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} {وَلاَ حَرَّمْنَا} البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي. وقولهم هذا يحمل بين طياته الاستهزاء، والتحدي، والسخرية؛ وإلا فهو إيمان مشوب بعصيان؛ لأنه اعتراف ب الله تعالى وقد عبدوا غيره، وإقرار بمشيئته وقد أنكروا وجوده {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} مثل فعلهم، واحتجوا بمثل احتجاجهم، وتناسوا كسبهم لكفرهم ومعاصيهم، وأن جميع ذلك قد كان بمحض اختيارهم؛ بعد أن أنذرتهم رسلهم مغبة أعمالهم، وحذرتهم غضب ربهم وعقابه

36

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً} لإقامة الحجة عليهم {أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ} الشيطان؛ أو هو كل رأس في الكفر والضلال، أو هو كل ما يؤدي إلى الطغيان إلى الإيمان {وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ} وجبت بإصراره على الكفر، واستكباره عن الإيمان

38

{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي نهاية طاقتهم في الأيمان {لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ} أي لا يحييه ثانية للحساب والجزاء (انظر مبحث التعطيل بآخر الكتاب).

40

{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} هو تقريب للأذهان؛ والحقيقة أنه تعالى لو أراد شيئاً لكان؛ بغير حاجة للفظ «كن»

41

{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} لنسكننهم {فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً} أي لنبوئنهم تبوئة حسنة؛ وهي سكنى المدينة المنورة؛ على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام وأي تبوئة حسنة أفضل من أن ينزل الإنسان بين من يحب، وأن يعيش بين الأطهار الأخيار

43

{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن} العلماء بالتوراة والإنجيل؛ عمن أرسلنا من قبل محمد {إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} بمن أرسلنا من قبل: من رسل؛ ليسوا بالملائكة، بل رجالاً من البشر نوحي إليهم؛ كما أوحينا إلى رسولكم محمد

44

{بِالْبَيِّنَاتِ} الحجج الواضحات {وَالزُّبُرِ} الكتب {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} يا محمد {الذِّكْرِ} القرآن؛ كما أنزلنا على من قبلك من الرسل {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فيه: من الحلال والحرام، والأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، وغير ذلك

45

{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ} أي مكروا بالسيئات. والمكر: الاحتيال والخديعة؛ وقد يقصد بهم الذين يعلنون بالإيمان؛ وليسوا بمؤمنين، ويتباهون بالطاعة؛ وليسوا بطائعين، ويتظاهرون بالعبادة؛ وليسوا بعابدين أفأمن هؤلاء {أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ} كما خسفها بقارون {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي من حيث لا يتوقعون؛ كما فعل بأصحاب الظلة. وقد أمطرتهم السحابة ناراً؛ عند توقعهم الماء والرخاء

46

{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} في ذهابهم ومجيئهم، وسفرهم للتجارة {فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} الله، أو فائتين العذاب الذي يريد إنزاله بهم

47

{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} أي حال كونهم خائفين مترقبين متوقعين العذاب -[325]- {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ} بالناس {رَّحِيمٌ} بهم؛ حيث لم يعاجلهم بالعقوبة؛ بل ويعفو عن كثير من ذنوبهم، ويملي لهم علهم يرجعوا عن غيهم وبغيهم

48

{أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} قائم: كجبل وشجرة، ونحوهما؛ مما له ظل متحرك {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} يرجع من موضع إلى موضع؛ تبعاً لسير الشمس؛ فهو في أول النهار - عند طلوع الشمس - على حال، وفي وسطه - عند الزوال - على حال، وفي آخر النهار - عند الغروب - على حال أخرى مغايرة {عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ} أي عن جانبيهما؛ بالغدو والآصال {سُجَّداً لِلَّهِ} تسجد له صباحاً ومساءًا: عند شروق الشمس وعند غروبها. وقيل: ظل كل شيء: سجوده؛ يسجد ظل المؤمن طوعاً، ويسجد ظل الكافر كرهاً {وَهُمْ دَاخِرُونَ} صاغرون، مطيعون

49

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ} وهي كل ما يدب دبيباً {وَالْمَلائِكَةُ} وهم أهل الملإ الأعلى، وأعيان المخلوقات؛ يسجدون أيضاً {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عن عبادة ربهم؛ كما يستكبر بعض حثالة البشر عن عبادته تعالى

52

{وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً} أي واجباً ثابتاً دائماً

53

{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ} أيّ نعمة: صغرت أو كبرت، قلّت أو جلّت {فَمِنَ اللَّهِ} هو وحده مصدرها وهو وحده - جل شأنه - مبدعها ومنشئها، والمتفضل بها أليس هو المتفضل بحسن الخلق وسعة الرزق؟ وصحة الجسم، وبرء السقم؟

54

{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ} المرض، أو الفقر {فَإِلَيْهِ} وحده لا إلى غيره {تَجْأَرُونَ} تتضرعون. والجؤار: رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة

56

{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} من الأصنام؛ أي لا يعلمون أنها آلهة {نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ} من الأنعام والحرث {فَقَالُواْ هَذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا} {تَاللَّهِ} قسم فيه معنى التعجب {لَتُسْأَلُنَّ} يوم القيامة {عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} على الله؛ بنسبة الشريك إليه

57

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً {سُبْحَانَهُ} تقدس وتنزه (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} أي {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} ويتمنون لأنفسهم الذكران الذين يشتهونهم؛ ذلك لأنهم

58

{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى} ولدت له {ظَلَّ} صار وبقي {وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} من الحزن والغم الذي اعتراه {وَهُوَ كَظِيمٌ} مملوء حنقاً وغيظاً

59

{يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} خجلاً {مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} مما لا يريده ولا يرغب فيه. ومن عجب أن هذا شأن بعض الجهال والسفهاء في هذه الأيام؛ وقد تكون الأنثى خيراً من الذكر عاقبة؛ وأتقى وأنجب؛ وما يرسل ربك الإناث إلا بقدر، ولا يرسل الذكران إلا بسبب {ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} الذي {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} أي أيمسك ذلك المولود الأنثى على ذل وهوان {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} وهوالوأد. وقد كانوا يدفنونهن أحياء؛ خشية ما يتوهمونه من عار وفقر غير محققين (انظر آية 8 من سورة التكوير) {أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي ساء هذا الحكم الذي يحكمونه، على شيء لا يعلمونه وهم بفعلهم هذا لا يؤمنون بالآخرة؛ ولو آمنوا بها ما فعلوا فعلتهم هذه

60

{لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} أي صفة السوء: وهو الجهل، والكفر (انظر مبحث التعطيل بآخر الكتاب) {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} الصفة العليا، والمثل الكاملة؛ التي لا يتصف بها المخلوقون: فاتصافه تعالى بالعلم والكرم؛ ليس كاتصاف سائر البشر بهما؛ إذ أن علم البشر وكرمهم محدودان. وعلمه تعالى وكرمه لا يحد. واتصافه جل شأنه بالكبرياء والجبروت؛ ليس ككبرياء البشر وجبروتهم؛ إذ أن تكبرهم وتجبرهم مذموم مؤاخذ عليه، وكبرياؤه تعالى وجبروته لازمة من لوازم ربوبيته ووحدانيته، فإذا ما استطاع إنسان أن يفهم الكمال الإلهي حق الفهم: ازداد ب الله معرفة، ومنه قرباً والتعرف إليه تعالى يحتاج إلى استعداد مخصوص فكلما ازداد تمسك العارف ب الله بأهداب الفضائل الإنسانية؛ التي أمر بها الشرع، وحث عليها الدين نما حبه لله، وأحبه الله وإنه مما لا شك فيه أن الإنسان الكريم: أحسن فهماً، وأصدق عبادة، وأرق قلباً من البخيل. وكذلك الإنسان الرحيم: أشد خوفاً لله من القاسي. والصبور: أكثر إيماناً من الأحمق النافد الصبر. والعالم: أشد معرفة من الجاهل. وهكذا كلما ازداد الإنسان تعلقاً بالفضائل والمثل العليا: كان أكثر محبة لله، وأكبر معرفة به، -[327]- وأشد قرباً منه وأمكنه بواسطة هذه الطاقات والإمكانيات أن يتذوق الحب الإلهي ويستشعر ما أعده الله تعالى له من نعيم مقيم؛ فيظل طوال حياته سعيداً بإيمانه، سعيداً بقربه، سعيداً بحبه لأنه علم علم اليقين: أن {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} وأنه جل شأنه: الواحد الأحد، الفرد الصمد، القادر المقتدر، الجبار المتكبر، الخالق الرازق، المعطي المانع، الخافض الرافع؛ الذي لا إله إلا هو {وَهُوَ الْعَزِيزُ} في ملكه، الغالب الذي لا يغلب {الْحَكِيمُ} في خلقه؛ المدبر لأمورهم

61

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ} بكفرهم، وفسقهم، وعدوانهم {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} وهي كل ما يدب على الأرض: من إنسان، وحيوان، وغيرهما {وَلكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو انتهاء آجالهم {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} المراد بالساعة هنا: أي زمن؛ طال أو قصر {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} ساعة

62

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} بزعمهم أن الملائكة بنات الله {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} تقوله وتشيعه؛ يزعمون {أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} الجنة. ومن ذلك قولهم: {وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى} {لاَ جَرَمَ} لا بد ولا محالة {أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ} لا الجنة كما يزعمون {وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} مهملون يوم القيامة؛ لا يعبأ بهم، متروكون من رحمة الله تعالى ومغفرته قال تعالى: {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} {تَاللَّهِ} قسم فيه معنى التعجب

63

{لَقَدْ أَرْسَلْنَآ} رسلنا {إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} كفرهم؛ فلم يؤمنوا برسلهم، كما لم يؤمن قومك بك {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} أي متولي أمورهم في الدنيا: يسوق لهم فيها ما يشتهونه. أو المراد باليوم: يوم القيامة؛ أي هو متولي أمورهم فيه؛ ولما كان الشيطان عاجزاً عن إنجاء نفسه فيه؛ فهو عن إنجاء غيره أعجز

65

{فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ} بالإنبات {بَعْدَ مَوْتِهَآ} بالجدب

66

{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ} الإبل والبقر والغنم {لَعِبْرَةً} لعظة واعتبار {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ} وهو ما يحتويه الكرش {وَدَمٍ} وهو ما يجري في العروق {لَّبَناً خَالِصاً} من الشوائب؛ لم يختلط بالفرث، ولم يؤثر فيه الدم {سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} سهل المرور في حلوقهم؛ لا يغص به شاربه أبداً

67

{وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ} (انظر آية 166 من سورة البقرة) {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} خمراً؛ نزلت قبل تحريمها. وقيل: السكر: الخل. {وَرِزْقاً حَسَناً} كالبلح المجفف، والزبيب، وما شاكلهما. والمعنى: لقد أنعم الله تعالى عليكم بثمرات النخيل والأعناب؛ فاتخذتم منه ما حرم الله عليكم - اعتداء منكم - وطعمتم منه حلالاً طيباً؛ فكيف تقلبون أنعم الله تعالى عليكم نقماً، وتستبدلون شكره كفراً؟

68

{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} وحي إلهام؛ أي ألهمه {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} -[328]- أي ومما تبنيه الناس من الخلايا؛ لأن العرش: يطلق على عش الطائر

69

{فَاسْلُكِي سُبُلَ} طرق {رَبُّكَ} التي رسمها لك، وألهمك باتباعها {ذُلُلاً} سهلة مذللة {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ} هو العسل {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} اختلافاً كثيراً؛ يرجع إلى عوامل عدة؛ منها: نوع النحل، وما يطعمه من رحيق الأزهار والفاكهة، وزمن الانتاج، وغير ذلك {فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} فقد ثبت بالتجربة أنه دواء نافع، وعلاج ناجع لكثير من الأدواء الفتاكة؛ ويفسده شرب الماء عقبه. وقد أثبت الطب الحديث: أن العسل يحوي مقداراً كبيراً من الجلوكوز. والجلوكوز هذا قد أصبح سلاحاً للطبيب في كثير من الحالات؛ والعسل: شفاء فعال للضعف العام، والتسمم، وأمراض الكبد، والاضطرابات المعوية، والالتهاب الرئوي، والذبحة الصدرية، وسائر أنواع الحميات، واحتقان المخ، وضعف القلب، والحصبة؛ وغير ذلك من الأمراض المستعصية؛ فسبحان من أودع فيه كل هذه الخواص، ونبهنا للانتفاع بها (انظر آية 38 من سورة الأنعام)

70

{وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أردئه؛ وهو الكبر، والمؤدي إلى الهرم والخرف {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} أي لينسى ما علمه، أو لعدم استطاعته الفهم: لذهوله. قال عكرمة: من قرأ القرآن: لم يصر بهذه الحالة

71

{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ} فجعل منكم الأغنياء والفقراء، والسادة والعبيد {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ} وهم السادة {بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أي ليسوا برازقي عبيدهم ومواليهم {فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} أي فالسادة ومواليهم في الرزق سواء؛ لأن الله تعالى هو الرزاق للجميع: يرزق السيد برزق عبيده وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يطعم خادمه مما يطعم، ويلبسه مما يلبس، ويقول: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} وفضله عليهم {يَجْحَدُونَ} ينكرونها، فيتوهمون أنهم رازقوا عبيدهم {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} الحفدة: أبناء الأبناء. وقيل: هم الأصهار، وقيل: هم بنو الزوجة: من رجل آخر

72

{أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} أي بالأصنام، وبأنها تشفع لهم {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} الإسلام {هُمْ يَكْفُرُونَ} أو بأنعمه المتوالية عليهم في كل وقت وحين

75

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} له وللأصنام، أو للمؤمن والكافر {عَبْداً مَّمْلُوكاً} حقيراً {لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} لا يملك شيئاً، ولا يستطيع التصرف في شيء {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} حلالاً طيباً {فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً} أو هو مثل للبخيل - عبد المال وأسيره ومملوكه - والكريم المنفق

76

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} آخر؛ للمؤمن والكافر، أوله تعالى وللأصنام {رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ} أخرس: لا ينطق -[329]- {لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} فلا ينطق بكلمة التوحيد، أو لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر {وَهُوَ كَلٌّ} عالة {عَلَى مَوْلاهُ} على سيده {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ} سيده لقضاء مصلحة، أو لدفع ضرر عن نفسه {لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} يعود عليه {هَلْ يَسْتَوِي} هذا الأبكم العاجز العالة {هُوَ وَمَن} يرى ويسمع وينطق، و {يَأْمُرُ} الناس وينهاهم عن المنكر {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} طريق سوي

77

{وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ} كطرفة العين {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} من ذلك؛ لأن أمر الساعة يكون بلفظ «كن»

78

{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} فعلمكم كل ما تحتاجون إليه {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} {وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ} الذي تسمعون به؛ ولا تعلمون كنهه {وَالأَبْصَارَ} التي تبصرون بها؛ ولا تدرون ماهيتها {وَالأَفْئِدَةَ} القلوب التي تفقهون بها {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله تعالى على أنعمه التي لا تعد، ولا تحد،

79

{مَا يُمْسِكُهُنَّ} في الهواء أن يقعن على الأرض {إِلاَّ اللَّهُ} فهو تعالى مسخر الهواء الذي يسبح فيه الطير، وهو الذي ألهمه وعلمه كيف يقبض أجنحته ويبسطها

80

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً} موضع سكون وراحة {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً} هي الخيام والقباب والمظلات {تَسْتَخِفُّونَهَا} تحملونها بسهولة لخفتها {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} سفركم {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً} هو متاع البيت {وَمَتَاعاً} كل ما يتمتع به؛ كالبسط، والأكسية، وشبههما {إِلَى حِينٍ} تبلى، أو إلى حين تموتون {مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً} من البيوت والشجر {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً} الكن: ما يستر؛ من كهف وغار ونحوهما

81

{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} ثياباً؛ واحدها سربال: كسراويل وسروال {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} نبه تعالى إلى أن اللباس؛ كما أنه يمنع أذى البرد فإنه يمنع أذى الحر أيضاً {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} وهي الدروع والزرد من الحديد؛ ترد عنكم سلاح عدوكم

82

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإيمان -[330]- {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} إبلاغ ما أنزلته عليك إليهم {الْمُبِينُ} الواضح؛ المذهب لكل شك، الدافع لكل ريب

83

{يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ} محمداً عليه الصلاة والسلام؛ لأنه وارد في كتبهم، بشرت به أنبياؤهم {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} بتكذيبه، وعدم الإيمان به. أو {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ} التي عددها وبيّنها في هذه السورة وغيرها من السور {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} بترك الشكر عليها، أو يعرفونها في الشدة، وينكرونها في الرخاء، أو يعرفونها بقلوبهم، ويجحدونها بألسنتهم؛ ونظيره قوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ}

84

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} يوم القيامة: وهو نبيها؛ يشهد لها أو عليها {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} في الكلام أو الاعتذار {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي ولا يعاتبون؛ لأن العتاب لا يكون إلا بين الأحباء؛ وهو نعمة حرم الله تعالى على الكافرين نيلها

85

{وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} لا يمهلون

86

{وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ} الذين كانوا يعبدونهم: من الشياطين والأصنام وغيرها {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ} أي قال المعبودون للعابدين {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} ينطقهم الله تعالى: {الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} زيادة في خزي المشركين وفضيحتهم وهوانهم

87

{وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} أي استسلموا لحكمه: العابد والمعبود {وَضَلَّ عَنْهُم} غاب عنهم {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من الأرباب التي كانوا لها عابدين

88

{الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} منعوا الناس عن دينه

89

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ} هو نبيهم {وَجِئْنَا بِكَ} يا محمد {شَهِيداً عَلَى هَؤُلآءِ} على قومك، أو على جميع المخلوقات {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} بياناً لكل ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم. ونظيره قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}

90

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} والعدل: يتناول القول، والفعل، والإشارة؛ بل يتناول كل المعاملات في شتى صورها. والعدل: جماع الفضائل كلها؛ فمن جعل العدل ديدنه: أحاطه الحب من كل جانب، وصار في عداد الأبرار، الأخيار، الأطهار قال تعالى: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}. ولما كان العدل قرين الإحسان، والإحسان: هو صلب العدل وأساسه؛ أمر الله تعالى به أيضاً فقال {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} والإحسان: يشمل كل خير يصل إلى الإنسان والحيوان، وهو أيضاً يشمل الأقوال والأفعال. ولما كان العدل والإحسان لا يتمان إلا بصلة ذي القربى قال تعالى: {وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى} وهو صلة الرحم، أو هو كل قريب منك: في النسب، أو الجوار؛ ووصلهم: بأن يبر فقيرهم، ويزور غنيهم، ويعود مريضهم، ويشيع موتاهم، متحبباً إليهم لذاتهم وقربهم؛ لا لمالهم وجاههم لما أمر الله تعالى بالعدل والإحسان وبر الأقرباء؛ نهى عن أضداد هذه الصفات؛ فقال جل شأنه {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} والفحشاء: كل قبيح من قول أو فعل، أو هو الزنا «والمنكر» كل ما ينكره الشرع والعرف والذوق السليم؛ وهو شامل لجميع المعاصي، والرذائل، والدناءات؛ «والبغي» الظلم والكبر، والاعتداء؛ وهو إجمالاً تجاوز الحد

91

{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} الناس؛ سمى الله تعالى العهود، والعقود، والمواثيق: عهوداً معه جل شأنه. (انظر آيتي صلى الله عليه وسلّم من سورة المائدة، و72 من سورة الأنفال) {وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ} أي لا تحنثوا في أيمانكم وتكذبوا فيها {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} بعد إبرامها مع الغير، وبعد أن ترتبت لذلك الغير حقوق والتزامات في أعناقكم {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} أي شاهداً ورقيباً، أو متكفلاً بالوفاء؛ حيث حلفتم به

92

{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} أي كالمرأة التي أفسدت غزلها من بعد أن تعبت فيه وأحكمته {أَنكَاثاً} أنقاضاً. وهو ما ينكث فتله: أي يحل نسجه {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} أي خديعة وفساداً، وتغريراً بالمحلوف له؛ ليطمئن إليكم؛ وأنتم مضمرون له الغدر وترك الوفاء. والدخل: ما يدخل في الشيء فيفسده؛ لأنه ليس منه {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى} أنمى وأكثر وأقوى {مِنْ أُمَّةٍ} فتنقضون العهود، وتحنثون في الأيمان: مرضاة للأمة الأقوى {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} يختبركم بالوفاء بالعهد والأيمان

93

{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} بطريق القسر والجبر {وَلكِن يُضِلُّ} الله تعالى {مَن يَشَآءُ} إضلاله؛ بعد أن يعرض -[332]- عليه الإيمان فيأباه، ويسلكه في قلبه فيرفضه، ويسوق له الدليل تلو الدليل على ألوهيته ووحدانيته؛ فيزداد تمسكاً بما كان عليه آباؤه وأجداده

94

{وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} كرره تعالى للتأكيد. أي لا تجعلوها للغش والخداع {فَتَزِلَّ قَدَمٌ} أي تزل أقدام الحالفين عن محجة الصواب. وعن طريق الإسلام، الذي رسمه الله تعالى للأنام {بَعْدَ ثُبُوتِهَا} استقامتها وهدايتها {وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ} هو في الدنيا ما يلقاه الكاذب من ازدراء الناس له، وكراهتهم لقياه ومعاملته، وانصرافهم عن صحبته {بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} أي بصدكم عن الوفاء بالعهد والعقد، أو بصدكم الناس عن الوفاء لاقتدائهم بكم، واتباعهم سنتكم {وَلَكُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ عَظِيمٌ} شديد أليم

95

{وَلاَ تَشْتَرُواْ} لا تستبدلوا {بِعَهْدِ اللَّهِ} أوامره ونواهيه، أو ما عاقدتم الناس عليه {ثَمَناً قَلِيلاً} بأن تنقضوه من أجل قليل المال؛ الذي تأكلونه سحتاً وحراماً وهو قليل - وإن كثر - لانعدام بركته، وكثرة إثمه {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ} من الثواب والأجر {هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} من الدنيا وما فيها

96

{مَا عِندَكُمْ} من مال - حلال أو حرام - كثير أو قليل {يَنفَدُ} يفنى؛ لأن مآله إلى الزوال؛ ولو من أيديكم لأيدي غيركم {وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} دائم، لا يزول ولا ينقطع {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ} على الطاعات، وعن المعاصي، وعلى الوفاء بالعهود والعقود، وصبروا على ما أصابهم من المحن. لنجزينهم {أَجْرَهُمْ} ثوابهم على ذلك في الدنيا بالحب والود والذكر الحسن، وفي الآخرة بالنعيم المقيم {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي إن جزاءهم سيكون خيراً من عملهم وأحسن منه؛ ولا بدع فهو جزاء الملك الكريم الرحيم

97

{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} في الدنيا. والمراد بطيب الحياة: هدوء البال، وانشراح الصدر (انظر آية 124 من سورة طه) {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} في الآخرة {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي جزاء خيراً مما عملوا

98

{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} أي أردت قراءته {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وهو دليل على وجوب الاستعاذة قبل القراءة؛ وذهب الأكثرون إلى أنها غير واجبة، بل مندوبة. ودليل الوجوب أقوى: فقد ورد عن الرسول الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليه: أن جبريل عليه الصلاة والسلام أقرأها له «أعوذ ب الله من الشيطان الرجيم» وقد ثبت أنه كان يستعيذ قبل القراءة في الصلاة؛ وعلى ذلك كثير من الصحابة والتابعين

99

{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} قدرة وتسلط {عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} في سائر أمورهم

100

{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ} تسلطه وإغواؤه {عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} يطيعونه فيما يوسوس إليهم به؛ مما يخالف ما جاء به الرسل. يقال: توليته؛ إذا أطعته، وتوليت عنه؛ -[333]- إذا أعرضت {وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} أي بربهم

101

{وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} أي شريعة مكان أخرى؛ أو حكماً مكان آخر، أو نسخنا آية، وأنزلنا غيرها مكانها؛ لمصلحة العباد {بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ} مختلق؛ بدليل إتيانك بشريعة أو حكم؛ غير ما عرفنا من الشرائع والأحكام، أو آية غير ما جئت به من الآيات

102

{قُلْ نَزَّلَهُ} أي نزل هذا القرآن الذي تنكرونه، وتنسبون إليّ افتراءه {رُوحُ الْقُدُسِ} جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ} بما فيه من الحجج الظاهرات، والآيات البينات

103

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ} أي إنما يعلم محمداً القرآن {بُشِّرَ} زعموا - لعنهم الله تعالى - أن غلام الفاكهبن المغيرة - وكان نصرانياً وأسلم - كان يعلم محمداً ما يقوله للناس زاعماً أنه قرآن منزل من عند الله فرد الله تعالى عليهم بقوله: {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} أي يميلون بالقول إليه ويقصدونه بزعمهم {أَعْجَمِيٌّ} لا يكاد يبين {وَهَذَا} القرآن {لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} واضح فصيح؛ فكيف يعلمه أعجمي؟

104

{إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} حججه وبراهينه، أو المراد: قرآنه {لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ} سبيل الرشاد في الدنيا؛ بل يضلهم ولا يوفقهم لإصابة الحق عقوبة لهم (انظر آية 200 من سورة الشعراء)

105

{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ} أي ليس محمد بمفتر ولا كاذب؛ وإنما المفترون هم {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} ويقولون «إنما يعلمه بشر» {وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} بقالتهم هذه، وافترائهم هذا

106

{إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} على الكفر: بالسيف والبغي؛ فله أن يتظاهر به اتقاء الموت والعذاب {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} لا يعتريه أدنى شك أو ارتياب {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} وطابت به نفسه، واتسع له صدره {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} بالغ الإيلام

107

{ذلِكَ} العذاب {بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا} اختاروها وفضلوها {عَلَى الآخِرَةِ} وما فيها من نعيم مقيم

108

{أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ} غطى وختم {عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلا يفهمون الحق {وَسَمْعِهِمْ} فلا يسمعون النصح {وَأَبْصَارِهِمْ} فلا يبصرون الهدى

109

{لاَ جَرَمَ} لا بد ولا محالة {أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ} لأنهم لم يعملوا لها

110

{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ} مع الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام إلى المدينة {مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} أوذوا وعذبوا {ثُمَّ جَاهَدُواْ} المشركين {وَصَبَرُواْ} على الطاعة، وعن المعصية {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي بعد هذه الأعمال الصالحات، أو بعد الفتنة {لَغَفُورٌ} لهم {رَّحِيمٌ} بهم

111

{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ} يوم القيامة -[334]- {تُجَادِلُ} تحاج {عَن نَّفْسِهَا} لا يهمها غيرها؛ {يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} أي تعطى جزاء أعمالها

112

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً} هي مكة المكرمة؛ والمراد أهلها {كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} من أن يغير عليها أحد، أو يعلن العداء لأهلها {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً} واسعاً. قال تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} أي لم تشكره على ما آتاها من خير، وما وهبها الله من رزق (انظر آية 7 من سورة إبراهيم) {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ} أي أذاق أهلها {لِبَاسَ الْجُوعِ} دعا عليهم الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ فقال: (اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف) فابتلاهم الله تعالى بالقحط سبع سنين؛ حتى أكلوا العظام والجيف أذاقها الله تعالى أيضاً لباس {الْخَوْفِ} فكانت سرايا رسولالله تطيف بهم ليلاً ونهاراً. ووصف الله تعالى الجوع والخوف باللباس: لأنهما خالطا أجسامهم مخالطة اللباس {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} أي بسبب ما صنعوا من المعاصي. وقيل: هذا المثل مضروب لكل قرية هذه صفتها، وتلك حالها وذهب بعضهم إلى أن المراد بالقرية: المدينة المنورة؛ وليس بشيء

113

{وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ} هو خاتم الرسل عليه الصَّلاة والسَّلام} الله

114

{عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ} المسفوح

115

{وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أي ما ذبح على النصب، وما ذكر اسم غير الله تعالى عليه {فَمَنِ اضْطُرَّ} إلى تناول شيء من هذه المحرمات؛ خشية هلاك محقق {غَيْرَ بَاغٍ} على المسلمين {وَلاَ عَادٍ} معتد عليهم. أو «غير باغ» في أكلها؛ بأن يأكلها مستطيباً لها، متلذذاً تناولها «ولا عاد» باستيفاء الأكل إلى حد الشبع؛ بل يتناول منها ما يسد رمقه، ويمنع تلفه

116

{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} أي لما تصف من الكذب {هَذَا حَلاَلٌ} وهو ليس بحلال {وَهَذَا حَرَامٌ} لما ليس بحرام

117

{مَتَاعٌ قَلِيلٌ} في الدنيا لهؤلاء الكاذبين المفترين {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم.

118

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ} اليهود {مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} (انظر آية 146 من سورة الأنعام)

119

{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} بجهل {ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ} السوء الذي عملوه بجهلهم {وَأَصْلَحُواْ} أعمالهم؛ فلم يقعوا فيما وقعوا فيه من قبل {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي من بعد توبتهم {لَغَفُورٌ} لذنوبهم {رَّحِيمٌ} بهم

120

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} إماماً؛ والأمة: الرجل الجامع للخير والفضائل {قَانِتاً} مطيعاً عابداً {حَنِيفاً} مائلاً إلى الإسلام

121

{شَاكِراً لأَنْعُمِهِ} أي مقدراً لأنعم الله تعالى عليه. وأولى هذه الأنعم: الإسلام {اجْتَبَاهُ} اختاره مولاه واصطفاه {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} طريق قويم؛ وهو الإسلام

122

{وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً} النبوة، والثناء الحسن، والذرية المباركة - وناهيك بمن كان رسولالله من نسله - وآتاه الله تعالى أيضاً تخليد اسمه والصلاة عليه في كل صلاة؛ مقروناً اسمه باسم سيد الخلق عليهما الصلاة والسلام

123

{ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} يا محمد {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} وذلك لأنها أصل الملة الحنيفية

124

{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ} أي فرض تعظيم يوم السبت {عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ} روي أن موسى عليه السلام طلب من بني إسرائيل أن يفردوا يوماً للعبادة، وأن يكون ذلك اليوم يوم الجمعة؛ فأبى أكثرهم إلا يوم السبت، وارتضى الأقلون بيوم الجمعة

125

{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ} دينه {بِالْحِكْمَةِ} القرآن {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} القول الرفيق الرقيق، الذي ينفذ في القلوب، ويحبب إلى النفوس {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي بالرفق واللين؛ وإذا كان الكفار يجادلون بالرفق واللين؛ فما بالك بالمؤمنين الموحدين؟

126

{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ليس معنى ذلك أن من قتل ابني جاز لي أن أقتل ابنه، ومن قتل أبي جاز لي أن أقتل أباه، ومن سمم إبلي جاز لي أن أسمم إبله؛ بل المراد: معاقبة الآثم نفسه بمثل إثمه؛ فإن قتل: قتل. وإن ألحق بالغير غرماً: غرم بغرم مماثل لما ألحقه بالآخرين {وَلَئِن صَبَرْتُمْ} عن الانتقام والمعاقبة {لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} في الدنيا بترك الحزازات، ومنع الثأر والبغضاء الكامنة في النفوس؛ وفي الآخرة بما أعده الله تعالى للصابرين من جزيل لأجر، وواسع المغفرة {وَاصْبِرْ} يا محمد على أذى قومك

127

{وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} بمعونته وتوفيقه.

سورة الإسراء

سورة الإسراء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{سُبْحَانَ} تنزيه له تعالى من كل نقص؛ ولا يجوز أن ينزه به غيره من المخلوقين؛ وهي كلمة تدل على نهاية التنزيه، وغاية التقديس؛ وهي من السبح: بمعنى الذهاب والإبعاد. أي أنزه الله تعالى عن النقائص، وأبعده عن صفات المخلوقين، وأجله عما وصفه به الكافرون، وافتراه عليه المكذبون الضالون {الَّذِي أَسْرَى} الإسراء: السير ليلاً {بِعَبْدِهِ} قال تعالى «بعبده» ولم يقل بنبيه، أو برسوله؛ لأن صفة العبودية: هي غاية الغايات، وأشرف النعوت والصفات؛ يبتغيها العارفون، ويتمناها المخلصون {إِلَى} بيت المقدس؛ وقد كان التوجه إليه في الصلاة قبل تحويل القبلة {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} يريد بركات الدين والدنيا؛ لأنه كان مهبط الوحي، ومتعبد الأنبياء عليهم السلام {أَنَّهُ} أي النبي صلوات الله تعالى وسلامه عليه {هُوَ السَّمِيعُ} لأوامري، المبلغ لها، العامل بها {البَصِيرُ} المتبصر في ملوكتي، المعتبر بآياتي، المتدبر في عظمتي وجبروتي أو الضمير عائد لله تعالى؛ فهو جل شأنه سميع لكل المسموعات، بصير بكل المبصرات ويأخذ بالرأي الأول المتصوفة؛ أما أرباب الكلام فلا يرون إلا القول الثاني

4

{وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} إليهم وحياً مقضيًّا أو حياً {فِي الْكِتَابِ} التوراة {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ} بالمعاصي {مَّرَّتَيْنِ} أولاهما: قتل زكريا. وحبس أرمياء عليهما السلام، والأخرى: قتل يحيى، وقصد قتل عيسى عليهما السلام {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} تبغون بغياً عظيماً؛ وأي بغي أشد من قتل خيرة خلق الله تعالى، والداعين إلى دينه الحق؟

5

{فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} أولى مرتي الفساد؛ المشار إليهما بقوله تعالى: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ} هم أهل بابل؛ وكان عليهم بختنصر. وقيل: جالوت {أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} ذوي قوة وبطش. قيل: في المرة الأولى جاءت جند من فارس متنكرون؛ يتجسسون أخبارهم، ويعلمون مواطن ضعفهم؛ لذا قال تعالى: {فَجَاسُواْ} أي تجسسوا، والجوس: طلب الشيء بالاستقصاء، والتردد خلال الدور والبيوت في الغارة

6

{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} أعدنا لكم القوة والغلبة؛ حين تبتم وأنبتم. قيل: كان ذلك بقتل داود جالوت {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} عشيرة وعدداً

7

{إِنْ أَحْسَنْتُمْ} أعمالكم {أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} لأن ثواب إحسانكم عائد إليها {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أي فلأنفسكم عقوبة إساءتكم {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} وعد المرة الآخرة في الفساد الذي تقومون به في الأرض؛ وكان ذلك بقتل يحيىبن زكرياء عليهما السلام {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} أي بعثناهم «ليسوءوا وجوهكم» وإساءة الوجه: ظهور الحزن والأسى عليه. والمراد: ليحزنوكم بالقتل والأسر والسبي. وقد يراد بـ «وجوهكم»: أشرافكم وساداتكم؛ وهو أبلغ في الهوان والإذلال {وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ} بيت المقدس: دخلوه فاتحين فخربوه {كَمَا دَخَلُوهُ} وخربوه {أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} أي يهلكوا كل شيء استولوا عليه

8

{وَإِنْ عُدتُّمْ} إلى الكفران والعصيان {عُدْنَا} إلى العقوبة والإذلال {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} من التضييق والحصر. أي محبساً وسجناً، أو فراشاً يتقلبون عليه

9

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي للطريقة التي هي أصوب وأعدل

10

{أَعْتَدْنَا} أعددنا وهيأنا

11

{وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ} أي يطلب النفع العاجل وإن قل؛ بالضرر الآجل وإن جل أو يدعو على نفسه وأهله إذا حل به ضجر؛ كما يدعو بالخير

12

{وَجَعَلْنَا الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} دالتين على قدرتنا ووحدانيتنا {فَمَحَوْنَآ آيَةَ الْلَّيْلِ} طمسنا نورها بالظلام؛ وفي هذا الطمس آية دالة على وجوده تعالى {وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} أي يبصر بها وفيها {لِّتَبْتَغُواْ} تطلبوا {فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} رزقاً بالسعي فيه والعمل والاتجار {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} لأنه لو لم يكن ليل ونهار لما عرفت الأيام، وأحصيت الأعوام {وَكُلَّ شيْءٍ} تحتاجون إليه في معايشكم {فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} بيناه تبييناً

13

{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} طائر الإنسان: عمله الذي عمله في دنياه من خير أو شر؛ أي إن جزاء عمله ملازم له ملازمة القلادة للعنق {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً} قد كتب فيه سائر ما عمل في دنياه {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} {يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} مبسوطاً مقروءاً مذاعاً؛ يقال: نشر الخبر: إذا أذاعه

15

{مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ} لأن ثواب هدايته عائد إليها {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} لأن إثم ضلاله واقع عليها {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا تحمل نفس إثم نفس أخرى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} أحداً من الناس {حَتَّى نَبْعَثَ} إليهم {رَسُولاً} يبين لهم ما يجب عليهم، وأن يكون الرسول بلسان المرسل إليهم؛ ليستطيع أن يبين لهم {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} وعلى هذا فواجب الأمة الإسلامية تبليغ القرآن الكريم لسائر الأمم، وترجمته لمن لا يتكلمون بالعربية. ولهذا البحث مزيد بيان فانظره إن شئت في كتابنا «الفرقان»

16

{وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً} أي أهل قرية؛ بسبب انصرافهم عن الطاعات، وانغماسهم في الشهوات {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} من الأمر؛ الذي هو ضد النهي. أي أمرنا أغنياءها وكبراءها بالطاعة؛ فلم يمتثلوا لأمرنا، ولم يستجيبوا لإرادتنا {فَفَسَقُواْ فِيهَا} فخرجوا عن أمرنا، وعصوا رسلنا، وكذبوا بآياتنا أو المراد بالفسق: الزنا. وقرىء «أمرنا» من التأمير. أي جعلنا مترفيها أمراء فيها {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} وجب العذاب على أهل القرية جميعهم. وجب على من عصى وفسق: لعصيانه وفسقه، ووجب على الباقين لعدم منعهم العاصي عن عصيانه، وعدم ضربهم على أيدي الفسقة قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: من أولى واجبات المؤمنين {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} أي دمرنا القرية التي فشا فيها الفساد والسفاد، وعم فيها العصيان والطغيان وتدميرها يكون بتدمير أهلها؛ وذلك بأن يسلط الله تعالى عليهم الأدواء والآفات، -[339]- ويفشي فيهم الأمراض والعاهات ولا يخفى أن الزنا مصدر من مصادر الأمراض الفتاكة المتلفة، وقد اقتضت حكمة الحكيم العليم بأن تكون عاقبة الزنا فقراً مدقعاً، وهلاكاً محققاً: فهو السبب الأوحد لمرض الزهري؛ الذي يصيب الأجسام، وينخر في العظام، ويجعل القوي هزيلاً، والعزيز ذليلاً ولا يقتصر هذا المرض اللعين على الفاسق فحسب؛ بل يصاحب بنيه وذراريه، وخلطائه وجلسائه، وخلطاء خلطائه، وجلساء جلسائه؛ إلى ما لا نهاية له؛ فتنحط بذلك قوى الأمة، ويضعف إنتاجها ونتاجها؛ حتى يعصف بزهرة الشباب؛ فيشوه خلقهم، كما شوه خلقهم: فنهلك القرية بسبب انحلال قوي بينها وضعفهم واستكانتهم؛ وعدم استطاعتهم مجاراة الحياة في تجارة، أو صناعة، أو زراعة فيحل بواديهم الدمار والبوار؛ وهذا - ولا شك - إحدى العقوبات التي ينزلها الله تعالى في الدنيا بمن غضب عليه أعاذنا الله تعالى من غضبه وعقابه؛ بمنه وفضله هذا ولا يجوز بحال فهم الآية بظاهر سياقها: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} فحاشلله أن يريد الهلاك لأناس قبل ارتكابهم الإثم، واستحقاقهم الهلاك وكيف يستطيع عبد أن يمتنع عن إرادة مولاه، وإرادته مشيئة كائنة؟ {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وحاش أن يأمر تعالى بالفسق وهو الناهي عنه، المتوعد عليه وإلا لو قلنا: إنه تعالى أراد الفسق، وأمر الفاسق به؛ فلماذا يتوعده؟ وعلام يعاقبه ويؤاخذه؟ وهل من العدل - يا ذوي العقول - أن يأمر عبيده بالعصيان، ويهلكهم على تنفيذ أمره؟ فتعالى الله عن إرادة الفسق، أو الأمر به، وجل عن الظلم؛ وهو القائل: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ولا يعذب الله تعالى أحداً من خلقه قبل أن ينذره ويحذره {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ينهي عن الفسق، ويتوعد عليه؛ لا أن يأمر به، ويرغب فيه هذا وقد عجز بعضهم عن فهم هذه الآية وأمثالها؛ فأطاح ذلك بألبابهم ومعتقداتهم؛ فساروا على غير هدى، وسقطوا في مهاوي الردى فتفهم ما قلناه وتدبره؛ هديت وكفيت

17

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ} أي وكثيراً ما أهلكنا من الأمم

18

{مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} الدنيا {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ} أي آتينا من نشاء ممن يرغبون في الدنيا ما نشاء إعطاءه له؛ لا ما يريده هو لنفسه؛ فكم قد رأينا منصرفاً عن الآخرة، مقبلاً على الدنيا، وقد خسر كليهما: لا مال في يديه، ولا صحة في جسمه، ولا ولد يسنده في كبره وعوزه؛ ورأينا آخر يماثله في كفره، ويشاكله في عقيدته؛ وقد آتاه الله تعالى من دنياه -[340]- ما أراد، بل وزاد؛ وذلك كله بتصريف الحكيم العليم يعطي من يشاء ما يشاء، ويمنع من يشاء عما يشاء؛ وقد يعطي من يبغض، ويمنع من يحب؛ لحكمة علمها، ومشيئة قدرها {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ} أي جعلنا في الآخرة لمن أراد العاجلة {جَهَنَّمَ يَصْلاهَا} يدخلها {مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} مطروداً من رحمة الله تعالى

19

{وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} أي عمل الأعمال الصالحة الموصلة لها {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} شرط الله تعالى إيمانه؛ فقد يعمل الكافر أعمالاً صالحة؛ لا يبتغي بها دنيا؛ ولكنها مردودة عليه لكفره، معجل له ثوابها في دنياه عدلاً من ربه

20

{كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ} أي نعطي كلا من المطيع والعاصي تفضلاً منا وإحساناً {وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} ممنوعاً من أحد من خلقه

21

{انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} في الرزق والجاه، والصحة والقوة؛ وقد يكون الفاضل أدنى رتبة من المفضول؛ ولكن لا عبرة في التفضيل في الدنيا، وإنما الاعتداد والعبرة بالتفضيل في الآخرة {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ} أعظم من درجات الدنيا {وَأَكْبَرُ} وأعظم {تَفْضِيلاً} فينبغي الاعتناء والتمسك بالأعمال الموصلة إليها

23

{وَقَضَى رَبُّكَ} أمر وألزم وأوجب {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} أردف تعالى عبادته بالإحسان إلى الوالدين لأنه سبحانه هو المؤثر في وجود الإنسان على الحقيقة، والوالدان هما المؤثران في وجوده - بحسب العرف الظاهر - وأيضاً فإن الله تعالى لا يمل من الإنعام على عبده؛ ولو أتى بأعظم الجرائم، وأكبر الآثام، وكذا الوالدان لا يملان الإنعام على ولدهما وإكرامه؛ ولو كان مسيئاً لهما غاية الإساءة فليتأمل ذلك العاق لأبويه، وليبادر بالإحسان إليهما؛ ليحظى بالغفران وقد ذهب بعض الفلاسفة إلى أن الوالدين لم ينجبا ولدهما رغبة في إيجاده، وإنما هو ثمرة لشهوة اشتهياها وأراداها بمحض اختيارهما؛ فلا فضل لهما عليه، ولا منة أسدياها إليه. وقد فات هؤلاء الفجار أن الله تعالى جعل مصدر الولد الاشتهاء واللذة: لحكمة حفظ الأنواع وبقائها؛ وناهيك بما يتحمله الوالدان بعد ذلك في سبيل تربية بنيهما وتنشئتهم وما يبذلانه من متاعب في سبيل راحتهم: فطالما سهرا ليناموا، وشقيا ليسعدوا وطالما أنفقا من مالهما في سبيل إطعامهم، وطالما بذلا النفس والنفيس في سبيل تمريضهم والمحافظة عليهم أليس كل ذلك موجب لإكرامهما وإعزازهما، وطلب الرحمة لهما فليتأمل ذلك كل عاق لوالديه، وليبادر إلى إدراك ما فاته من الإحسان إليهما؛ قبل أن ينقطع حبل حياتهما فيخسر الدنيا والآخرة وقد ورد أن الله تعالى لا ينظر يوم القيامة لمن عق والديه {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ} خص تعالى -[341]- الكبر؛ لأنه مبعث الضعف والحاجة، ومظنة الملل والاستثقال {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} وهي أدنى كلمة تقال في التضجر. وقد ورد عن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «لو علم ربك دون أف لنهى عنه»

24

{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أي ألن جانبك، وكن ذليلاً في معاملتهما - مهما كنت عزيزاً - حباً فيهما، ورحمة بهما؛ فقد أذللتهما في صغرك وأتعبتهما وأشقيتهما؛ وقد أحباك كل الحب ورحماك كل الرحمة فكن لهما محباً، وبهما رحيماً، ليحبك الرحمن، ويرحمك الرحيم

25

{لِلأَوَّابِينَ} الراجعين إلى الله تعالى

26

{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} بعد أن أمر الله تعالى عباده بعبادته، وبالإحسان إلى الوالدين والتذلل لهما: أردف بذوي القربى، ووجوب إيفائهم حقوقهم التي جعلها في أعناقنا؛ فأمرنا بإيتائها لهم. ومن هذه الآية يعلم أي للأقرباء حقوقاً أقلها: معاونة فقرائهم، وزيارة أغنيائهم، ومواساة ضعفائهم. وبعد أن أمرنا تعالى ببر الوالدين والأقرباء؛ ولبعضهم من الحقوق ما يستأهل البر والعطف والمساعدة؛ بعد ذلك عرفنا تعالى أن لكل محتاج - قريب كان أو بعيد - حقاً واجب الأداء والوفاء؛ قال تعالى: {وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وهو المسافر الذي انقطع به الطريق واعلم - هديت وكفيت - أن هذا الحق الذي أمر به الله تعالى غير فريضة الزكاة؛ فاحرص على ذلك حرصك على دينك {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} بالإنفاق في غير طاعة الله تعالى؛ فلو أنفق سائر ماله في الخير والصدقة: ما كان من المبذرين إذ أنه لا خير في السرف، ولا سرف في الخير ولا يعقل أن يكون البار بالمساكين، من إخوان الشياطين

27

{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} وقد خرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه من سائر ماله في سبيل الله تعالى؛ فكان ذلك إحدى محامده

28

{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} أي عمن ذكر؛ لضيق ذات يدك، وفقر به الله امتحنك {ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ} أي طلباً لرزق يأتيك؛ فتوفي به ما عليك مما أمرك الله تعالى به، وألزمك بأدائه. ومن عجب أن نرى في زماننا بعض من أفاء الله تعالى عليهم بالمال الكثير، والرزق الوفير؛ وقد بدلوا نعمة الله كفراً؛ وجزوا والديهم عقوقاً وخذلاناً، وأقربائهم ذلاً وحرماناً، ومساكينهم قهراً ونهراً؛ في حين أنهم في سعة من العيش؛ يسرفون في ملذاتهم وشهواتهم بغير حساب بينا نجد فقيراً مدقعاً يتعثر في أسماله، ولا يكاد يفي بحاجة عياله؛ إذا به يقتطع من قوته فيعطي الأبوين والأقرباء، ولا ينسى المساكين والفقراء وذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء والله يجزي العاملين، ويتولى الصالحين {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} سمحاً سهلاً: بأن تعدهم بالإعطاء، عند حلول العطاء، وبأن توسع عليهم عندما يغدق المولى -[342]- عليك وبذلك يكون رفقك سبباً في رزقك، وسخاؤك سبباً في رخائك

29

{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} أي لا تكن بخيلاً {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} فتكن من المسرفين {فَتَقْعُدَ مَلُوماً} مستوجباً للوم: من نفسك، ومن بني جنسك {مَّحْسُوراً} متحسراً

30

{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} يوسعه {وَيَقْدِرُ} يضيق

31

{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} فقر {خَطَئاً} إثماً وخطأ

32

{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى} اعلم - هداك الله تعالى - أن قربان الزنا غير إتيانه، وقرع الباب غير ولوجه. وقد أريد بقربانه: غشيان مواضعه، وتعريض النفس له؛ من إطالة النظر، وإشغال الفكر، وإشباع الغرائز: قال تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} فإذا ما صان الإنسان نفسه، وكف بصره: تجنب مواضع الزلل ولا يخفى ما في الزنا من فساد للأنساب، وقطع للأرحام؛ وما يترتب عليه من فتك الأمراض الخبيثة بالنفوس؛ وهو من الذنوب التي جاء ذمها وتقبيحها والزجر عليها في سائر الأديان؛ والدليل على فحش هذا الجرم وشناعته: قسوة عقابه، وشدة جزائه؛ فقد جعل الشارع الحكيم عقوبة الزنا: الرجم بالحجارة للمحصن «المتزوج» وجلد مائة لغير المحصن «الأعزب» (انظر آيتي 16 من هذه السورة، و2 من سورة النور» {وَسَآءَ سَبِيلاً} أي بئس هذا الطريق طريقاً

33

{وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً} بغير ذنب يستحق عليه القتل {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ} لوارثه المطالب بدمه {سُلْطَاناً} تسلطاً على القاتل وحده {فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ} بأن يقتل غير القاتل، أو يقتل بعد أخذه الدية {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} بكلمة الله تعالى وأمره

34

{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} كأن ينميه ويستثمره، ولا يأخذ الوصي منه شيئاً إلا بمقدار ما يأكل - إذا كان فقيراً - بشرط عدم الإخلال برأس المال {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي قوته: وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} الذي تعاهدون الناس عليه، والميثاق الذي تواثقونهم به {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} عنه. وقيل: يسأل العهد نفسه؛ تبكيتاً لناقضه، وتقريعاً له (انظر آيتي صلى الله عليه وسلّم من سورة المائدة، و72 من سورة الأنفال)

35

{وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ} الميزان {ذلِكَ خَيْرٌ} في الدنيا: بحب الناس لكم، وإقبالهم عليكم. وفي الآخرة: برضا الرب عنكم، وإحسانه إليكم {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي أحسن مآلا وعاقبة

36

{وَلاَ تَقْفُ} ولا تَتَتَبَّعْ {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} كأن تقول: سمعت؛ وأنت لم تسمع، ورأيت؛ وأنت لم تر؛ وعلمت؛ وأنت لم تعلم {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ} الفؤاد: القلب؛ وأريد به العقل {كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ} الإنسان {مَسْؤُولاً} فيجب على العاقل الحكيم ألا يسمع إلا خيراً، وألا يرى محرماً، وألا يفكر -[343]- شراً، ولا يعتقد نكراً

37

{وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً} أي لا تمش متكبراً، مختالاً. وقد أخذ بعضهم من هذه الآية: تحريم الرقص؛ لأنه أشد من المرح، وأشر من الاختيال {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ} بكبرك وتجبرك {وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} بتعاظمك وتفاخرك

38

{كُلُّ ذلِكَ} المذكور؛ من أمر ونهي {كَانَ سَيِّئُهُ} أي سيىء ما عددنا عليك {عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} مبغوضاً مذموماً ومن واجب المؤمن الذكي التقي أن يتبع ما أحب الله تعالى؛ لا ما أبغض وكره

39

{مَّدْحُوراً} مطروداً

40

{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم} اصطفى لكم وخصكم {بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ} لنفسه {مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً} بنات؛ كما تزعمون

41

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} فصلنا وبينا {فِي هَذَا الْقُرْآنِ} من القصص، والأمثال، والوعد والوعيد {وَمَا يَزِيدُهُمْ} ذلك القرآن المبين المفصل {إِلاَّ نُفُوراً} عن الحق، وتمسكاً بالباطل

42

{قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ} أي مع الله تعالى {آلِهَةً} أخرى {كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ} أي لطلبت الآلهة مع الله {إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} طريقاً إلى محاربته ومناوأته، ومنازعته في ملكه؛ كما تفعل ملوك الدنيا، ورؤساؤها

43

{سُبْحَانَهُ} تقدس وتنزه {وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ} ويزعمون (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من هذه السورة)

44

{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} التسبيح والثناء: كما يجريان على لسان المقال؛ فإنه ينطق بهما لسان الحال: فتسبيح السموات، والأرض، والجبال، والكواكب، والمياه، والأشجار، والأزهار: دلالتها على أنه تعالى حي قادر، جبار قاهر، له القوة والملكوت، والعزة والجبروت فقد خلقها - جلت قدرته، وتعالت عظمته - في أسرع مدة؛ بلا روية، ولا حركة، ولا تجربة {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} وترى السموات مرفوعة بلا عمد، والكواكب معلقة في الفضاء بلا سبب: تسبح في أفلاكها، وتجري إلى منازلها التي قدرت لها كذلك يسبح بحمده، ويثني عليه كل شيء نستمد منه سروراً وحبوراً، ورزقاً وخيراً كالسموات في زرقتها وصفائها، والأرض في استدارتها وانبساطها، والشمس في إشراقها، والنجوم في بريقها، والسحب في إمطارها، والحقول في خضرتها، والبساتين في نضرتها، والأشجار في حفيفها، والمياه في تدفقها وخريرها، والطيور في تغريدها، والوحوش في زئيرها، والبهم في خوارها ورغائها تلك بعض الطرق التي تسلكها مخلوقاته تعالى، في تسبيحها بحمده وإنها لقل من كثر، وغيض من فيض {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} {وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} لانصرافكم عن النظر إليها، والتأمل في بديع صنعها وقد يخلق الله تعالى لها ألسناً للتسبيح، فتسبح بحمده بالمنطق الفصيح

45

{حِجَاباً مَّسْتُوراً} يسترهم عن الفهم والإيمان؛ عقوبة لهم على كفرهم وإصرارهم، وعدم -[344]- إيمانهم بالآخرة

46

{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطية وحجباً {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} صمماً

47

{إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} أي يستمعون لك حالة كونهم متناجين، والمعنى: أنهم يستمعون إليك سراً؛ متجسسين عليك، غير ظاهرين لك. أو إنهم يتناجون مع بعضهم حينما تتكلم {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ} الكافرون للمؤمنين {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} أي مجنوناً، به مس من السحر ومن أعجب العجب أن بعض المفسرين يقول في تأويل بعض الآيات: أن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه قد سحر، مستندين في هذا التأويل الفاسد إلى إفك روته اليهود؛ فتناقله ضعاف العقول، وصغار الأحلام؛ فليحذر العاقل من الوقوع في مثل ذلك الإفك

49

{وَقَالُواْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً} حطاماً

50

{قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} أي لو كنتم حجارة أو حديداً، ولم تكونوا عظاماً ورفاتاً، فسيعيدكم الله تعالى كما كنتم في الدنيا

51

{فَطَرَكُمْ} خلقكم {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} أي يحركونها مستهزئين

52

{وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} في الدنيا، أو في القبور

53

{إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} يفسد ويغري

55

{وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} كتاباً

56

{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم} أنهم آلهة مع الله تعالى {فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ} إذا نزل بكم {وَلاَ تَحْوِيلاً} أي ولا يملكون تحويل الضر عنكم إلى غيركم

57

{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} يعبدون؛ أي يعبدهم العباد من دونالله: كالملائكة، وعيسى، وعزير. وقرأ ابن مسعود «تدعون» أي هؤلاء الأرباب الذين تعبدونهم؛ هم عباد أمثالكم {يَبْتَغُونَ} بعبادتهم وطاعتهم {إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} التي تقربهم إليه؛ ولا يدرون {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} يطلبون ويأملون رضاءه عنهم، ومغفرته لهم {وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} أن ينزل بهم {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} أي يخاف منه ويحذر. والرجاء والخوف: مرتبتان؛ متلازمتان، والجمع بينهما: هو المثل الأعلى، والتوسط فيهما: هو غاية الكمال؛ فإذا زاد الخوف: ذهب بالحب؛ وهو لب العبادة وجوهرها وإذا زاد الرجاء: ذهب بالأدب والوقار؛ وهما صلب المعرفة وكما أن الكرم: وسط بين التبذير والبخل. والشجاعة: وسط بين التهور والجبن؛ كذلك يكون كمال الإيمان: في التوسط بين الخوف والرجاء

58

{وَإِن مِّن قَرْيَةٍ} وما من قرية {إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} أي مخربوها، أو مهلكو أهلها بالموت؛ إن كانت مؤمنة، وبالعذاب؛ إن كانت ظالمة، وبالأمراض والأوصاب؛ إن كانت فاسقة {أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً} بالقتل، والأسر، والذل. أو يكون المعنى: «وإن من قرية» ظالمة «إلا نحن مهلكوها» قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} -[345]- {كَانَ ذلِك فِي الْكِتَابِ} اللوح المحفوظ

59

{وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ} الرسل {بِالآيَاتِ} المعجزات التي يقترحونها {إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} أي كذب بها آباؤهم، بعد أن أرسلناها لهم {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} أي آية واضحة جلية {فَظَلَمُواْ بِهَا} أي كفروا بها، وظلموا أنفسهم بتعريضها للعقاب والعذاب الأليم؛ وأهلكناهم بسبب هذا الكفر وذلك التكذيب {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ} أي القرآن؛ وما فيه من نذر، وقصص وعبر أو أريد «بالآيات» المعجزات {إِلاَّ تَخْوِيفاً} للمكذبين؛ فلا يستمرئون تكذيبهم، وللكافرين، فلا يبقون على كفرهم

60

{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ} يا محمد {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} علماً وقدرة {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} وهو أنه رأى في منامه - عام الحديبية - أنه يدخل مكة. غير أنه رد عنها في هذا العام؛ فافتتن المسلمون لذلك، فنزلت هذه الآية؛ فلما كان العام القابل دخل الرسول مكة فاتحاً - كما رأى في منامه - وأنزل الله تعالى {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} وقيل: رأى في منامه مصارع الكفار في وقعة بدر، وكان يقول حين ورد ماء بدر: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم؛ ويوميء إلى الأرض ويقول: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان؛ وقد كان ما قال وما رأى؛ صلوات الله تعالى وسلامه عليه {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} أي الملعون آكلها وهي شجرة الزقوم

62

{قَالَ} إبليس اللعين؛ محاجاً ربه {أَرَأَيْتَكَ} أي أرأيت؛ والكاف: توكيد للمخاطبة؛ والمعنى: أخبرني عن {هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} فضلته، وجعلته فوقي في المرتبة: لم فضلته عليّ؛ وقد خلقتني من نار، وخلقته من طين؛ والنار خير من الطين؟ {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} لأستأصلنهم جميعاً بالإغواء؛ يقال: احتنك الجراد الزرع: إذا ذهب به كله

63

{قَالَ} تعالى لإبليس {اذْهَبْ} مذموماً مدحوراً {فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} أي من أطاعك واستجاب لإغوائك من ذرية آدم {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} كاملاً وافراً

64

{وَاسْتَفْزِزْ} استخف واستنزل {وَأَجْلِبْ} اجمع وصح بهم؛ وهو من الجلبة {بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} أي بركبانك ومشاتك {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ} بأن تزين لهم الربا، والسرقة، والغصب؛ أو أن ينفقوها في معصية الله {وَالأَوْلاَدِ} بأن يكونوا أبناء إثم وسفاح؛ لا أبناء طاعة ونكاح {وَعَدَّهُمْ} أي منِّهم بالأماني الكاذبة، والآمال الباطلة؛ بأن لا قيامة، ولا حساب، ولا جزاء؛ وأنه إن كان ثمت قيامة وحساب، وجنة ونار؛ فإنهم أصحاب الجنة، وهم أولى بها ممن سواهم. قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً}

65

{إِنَّ عِبَادِي} الذين آمنوا بي، وصدقوا برسلي، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم؛ فهؤلاء {لَيْسَ -[346]- لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} تسلط وقوة

66

{رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي} يسوق ويسير {لَكُمُ الْفُلْكَ} السفن {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} لتطلبوا الرزق بطريق التجارة، والتنقل في البلاد

67

{ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} أي غاب من تستغيثون به فيغيثكم، إلا الله تعالى فهو وحده حاضر لا يغيب {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} فادعوه مخلصين له الدين ينجيكم مما تخافون، ويخلصكم مما تحذرون {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ} من الضر الذي لحقكم، والموت الذي أحاط بكم {أَعْرَضْتُمْ} عن عبادته، ونسيتم ما أسبغ عليكم من نعمته

68

{أَفَأَمِنْتُمْ} وقد نجوتم من البحر إلى اليابسة {أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} بأن يزلزل الأرض ويدكها ويخسفها بكم؛ كما فعل بمن سبقكم من المكذبين: كقارون {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} الحاصب: الريح الشديدة التي ترمي بالحصباء؛ وهي الحصى

69

{أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ} أي في البحر {تَارَةً أُخْرَى} مرة أخرى {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ} فيه {قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ} وهي الريح التي تكسر الفلك والشجر {تَبِيعاً} مطالباً

71

{يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} برئيسهم وهو نبيهم؛ فيقال: يا أمة موسى؛ يا أمة عيسى، يا أمة محمد {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} الفتيل: مثل للحقارة والصغر. وهو قشرة النواة، أو كل ما يفتل بالأصابع؛ مما يدق عن الحس

72

{وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ} الدنيا {أَعْمَى} عن الحق: أريد به عمى القلوب لا العيون {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} عن النجاة؛ كالأعمى حينما يتعثر فيما يلقاه

73

{وَإِن كَادُواْ} قاربوا {لَيَفْتِنُونَكَ} يزيلونك {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} من القرآن. قيل عن هذه الفتنة: إن قريشاً منعت الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه من الطواف بالبيت، واستلام الحجر الأسود: حتى يلم بآلهتهم؛ فحدث الرسول نفسه في ذلك: فنزلت عقاباً له على ما هجست به نفسه ونزل قوله تعالى:

74

{وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ} على ما أنت عليه من الحق {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} لأنه قال في نفسه: وما عليِّ أن ألم بآلهتهم بعد أن يدعوني أستلم الحجر؛ والله يعلم أني لها كاره مبغض وقيل: إنهم طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام الكف عن ذم آلهتهم

75

{إِذَآ} لو فعلت ما طلبوه {لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} أي لعذبناك عذاباً مضاعفاً في الحياة، وبعد الممات وحاشاه أن يركن إليهم؛ وإنما ورد هذا على سبيل التهديد للكفار، ولمن تحدثه نفسه بالركون إلى الكافرين - كما يفعل مسلمو اليوم

76

{وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ} ليزعجونك ويفزعونك {وَإِذَآ} إذا أخرجوك من أرضك {لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ} خلفك وبعدك {إِلاَّ قَلِيلاً} ثم يهلكهم الله

77

{سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} أي هذه سنتنا وطريقتنا: أن نهلك من -[347]- يعادون رسلهم ويخرجونهم

78

{أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} لزوالها {إِلَى غَسَقِ الْلَّيْلِ} ظلمته؛ وهو وقت صلاة العشاء {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} صلاة الصبح {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} تشهده الملائكة؛ أي تحضره، وتدعو لمقيميه

81

{وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ} الإسلام {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} انمحى الكفر وبطل {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} مضمحلاً زائلاً

82

{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} شفاء لقلوبهم، ورحمة لأنفسهم

83

{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ} بالسعة والرزق والعافية {أَعْرَضَ} عن العبادة {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا} تكبر على الناس، وتباعد عنهم {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً} أي وإذا أصابته مصيبة، أو حلت به بلية: قنط من النجاة، ويئس من روح الله يعارض الإنسان ربه في حكمته، ويعترض على قدرته: فيكله إلى نفسه؛ فينتهي به ذلك إلى العجز، وينتهي به العجز إلى السخط، وينتهي به السخط إلى الكفر؛ فمتى كان الإنسان عاجزاً، ساخطاً، موكولاً إلى نفسه، معتمداً على قدرته؛ مستنداً إلى قوته: كان كالأسد الجائع في المهمة القفر؛ إذا توهم أن قوته وبطشه يستطيعان أن يخلقا الفريسة له؛ فيظل هائجاً هادراً مزمجراً؛ يطيح بكل ما حوله؛ فيجلب ذلك إلى نفس الإنسان اليأس، والانزعاج، والكآبة، وغير ذلك من المهلكات التي تبعث في قلبه الشك بربه، وتدفع إلى نفسه القنوط، وتجيل بخاطره حماقات العقل، ونزغات الشيطان وقد ينتهي به ذلك إلى الانتحار. ولو أنه آمن ب الله مكان إيمانه بنفسه لسلطه الله تعالى عليها، ولم يسلطها عليه، ولأرضاه بما عنده وأقنعه بما لديه؛ ولأبعد عنه هواجسه، ومتاعبه، ولأبدل خوفه أمناً قال تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} ولكن الإنسان يؤس كفور؛ يسوق بيأسه لنفسه البلايا، ويحط بكفره على قلبه الرزايا وإن شئت فاقرأ قول الحكيم العليم {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}

84

{قُلْ كُلٌّ} منا ومنكم {يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} طريقته، وطبيعته، ومذهبه، واعتقاده

85

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} التي يحيا بها البدن: ما صفتها؟ وما هيأتها؟ وما طبيعتها؟ وذهب قوم من المفسرين إلى أن الروح المسئول عنه: هو جبريل، وقيل: ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف لسان في كل لسان سبعون ألف لغة؛ يسبح الله تعالى بكل هاتيك اللغات. وقيل: هو عيسى عليه السلام. وقيل: القرآن. والرأي الأول: أولى بالصواب، وأجدر بالاعتبار {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} توهب بقدرته، وتسلب بأمره؛ ولا يعلم حقيقتها إلا هو، ولا سيطرة لأحد عليها - وجوداً وعدماً - وهي باقية بعد فناء -[348]- الأجساد، حتى يوم المعاد؛ فيعيد الله تعالى لكل جسد روحه؛ ليحاسبها على ما اكتسبت في دنياها: فيعذب الكافر العاصي، ويثيب المؤمن الطائع وقيل: إن اليهود أوعزوا لقريش أن تسأل النبي عن ثلاثة أشياء: عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح؛ وقالوا لهم: إن أخبركم عن اثنين وأمسك عن واحدة: فهو نبي. فلما سألوه أخبرهم عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وقال عن الروح {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وقوله تعالى {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} دليل على عجز الإنسان عجزاً تاماً عن معرفة حقيقتها وكنهها؛ فليس لإنسان أن يزعم أن الروح - ولو كانت روح حيوان - هي تحت أمره، وأنه يستطيع - بإذاعة شيء من الموسيقى - أن يحضر من الأرواح ما شاء وأن يستخدمها فيما شاء، ويسألها عما يشاء وقد دأب ناس - عافاهم الله - على اللعب بعقول البسطاء وألبابهم؛ بإشاعة هذه الخرافات، وبث هذه الترهات والخزعبلات؛ وقد حضرت كثيراً من مجالسهم؛ فما ازددت إلا تكذيباً لهم، وتسفيهاً لأعمالهم وأمر هؤلاء لا يعدو أن يكون من عبث الشيطان بهم؛ إذ أنه - لعنه الله تعالى - يستطيع أن يتشكل بمن شاء من مخلوقاته تعالى؛ عدا أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام؛ فيظهر الشيطان أو أحد أعوانه على صورة الإنسان المراد تحضير روحه ويخاطبهم بما يحلو لهم أن يسمعوه. أما الروح - ولو أنها موجودة، وباقية أبد الآبدين - فإنه لا سلطان لأحد عليها من المخلوقين، ولا تدين إلا لرب العالمين

86

{وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} من القرآن؛ بأن ننزعه من الصدور، ونمحوه من الصحف؛ وسيكون ذلك قبيل القيامة؛ وهو من أشراط الساعة

87

{إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} أي إن إبقاءه وعدم إذهابه «رحمة من ربك»

88

{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ} (انظر آية 23 من سورة البقرة) {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} معيناً

89

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} بيّنا وأوضحنا {مِن كُلِّ مَثَلٍ} يصح به الاعتبار والاستبصار؛ كالأوامر، والنواهي، والترغيب، والترهيب، وذكر الثواب والعقاب، وأقاصيص المتقدمين وأخبارهم

92

{كِسَفاً} قطعاً {قَبِيلاً} جماعة؛ مقابلة وعياناً

93

{مِّن زُخْرُفٍ} ذهب {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} تنزه وتقدس عن أن يأتي بأمري، أو بأمركم (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من هذه السورة)

95

{قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ} مثلكم {مُطْمَئِنِّينَ} قارين: يطمئنون لمن في الأرض، ويطمئن من في الأرض إليهم

97

{وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ} نصراء يهدونهم {مِن دُونِهِ} من غيره {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} تجرهم الزبانية من أرجلهم «على وجوههم» {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} عموا حين دخلوا النار لشدة سوادها، وانقطع كلامهم حين قيل لهم {اخْسَؤواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} وذهب الزفير والشهيق والصراخ بسمعهم فلم يسمعوا شيئاً {كُلَّمَا خَبَتْ} انطفأ لهيبها {وَرُفَاتاً} حطاماً {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً} لموتهم وبعثهم؛ هم مواقعوه

100

{قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} من الرزق، والمطر، وسائر النعم {إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ} مخافة الفقر والعدم {وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُوراً} بخيلاً مقتراً

101

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} واضحات: وهي اليد، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنين أو البحر، ونقص الثمرات. وقد ورد في الحديث الشريف أنها «لا تشركوا ب الله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفروا من الزحف» {فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يمُوسَى مَسْحُوراً} مجنوناً؛ مغلوباً على عقلك

102

{بَصَآئِرَ} أي عبراً بينات واضحات {مَثْبُوراً} مصروفاً عن الخير، أو هالكاً، أو مطروداً

103

{فَأَرَادَ} فرعون {أَن يَسْتَفِزَّهُم} أي أن يخرج موسى وقومه من الأرض. يقال: استفزه؛ إذا أخرجه من داره وأزعجه

104

{فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} أي جميعاً؛ ملتفين، ومختلطين؛ فنجزي من أحسن بالحسنى، ومن أساء بالسوأى

106

{وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} أي فصلناه، أو فرقنا فيه بين الحق والباطل، أو نزلناه مفرقاً؛ في عشرين سنة، أو ثلاث وعشرين {عَلَى مُكْثٍ} على تؤدة وبيان وتمهل؛ ليتفهموه

107

{قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ} تهديد شديد {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ} أي قبل نزول القرآن؛ وهم مؤمنو أهل الكتاب {إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ} ساجدين {لِلأَذْقَانِ} أي على وجوههم

108

{وَيِقُولُونَ} حال سجودهم {سُبْحَانَ رَبِّنَآ} تنزه ربنا وتعالى وتقدس وقد كان يكثر أن يقول في سجوده، وركوعه «سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي» (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من هذه السورة) {إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا} بإرسال محمد، وبإنزال القرآن عليه {لَمَفْعُولاً} لحاصلاً لا محالة

109

{وَيَزِيدُهُمْ} الاستماع إلى القرآن {خُشُوعاً} خضوعاً وتواضعاًلله تعالى

110

{فَلَهُ} جل شأنه {الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى} التي تقتضي أفضل الأوصاف، وأشرف المعاني، وأسمى الصفات وأسماؤه تعالى لا يحصيها عد، ولا يحدها حد؛ وقد ورد في الحديث الشريف «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً؛ كلهن في القرآن، من أحصاهن دخل الجنة» وليس المراد بإحصائها حفظها فحسب؛ بل الإيمان بها كلها، والوثوق بمدلولاتها؛ وهي: «الله لا إله إلا هو. الرحمن. الرحيم. الملك. القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن. العزيز. الجبار. المتكبر. الخالق. البارىء. المصور. الغفار. القهار. الوهاب، الرزاق. الفتاح. العليم. القابض. الباسط. الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع. البصير. الحكم. العدل. اللطيف. الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلي. الكبير. الحفيظ. المقيت. الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود. المجيد. الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوي. المتين. الولي. الحميد. المحصي. المبدىء. المعيد. المحيي. المميت. الحي. القيوم. الواجد. الماجد. الواحد. الصمد. القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن. الوال. المتعال. البر. التواب. المنتقم. العفو. الرؤوف. مالك الملك. ذو الجلال والإكرام. المقسط. الجامع. الغني. المغني. المانع. الضار. النافع. النور. الهادي. البديع. الباقي. الوارث. الرشيد. الصبور (انظر آية 180 من سورة الأعراف) {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} -[351]- أي بقراءتك فيها؛ لئلا يسمعك المشركون فيسبوك، ويسبوا القرآن، ومن أنزله {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} أي لا تسر بها؛ فلا يسمعك من يقتدي بك. قيل: إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان يسر قراءته كلها، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يجهر بها كلها؛ فقيل لهما في ذلك؛ فقال أبو بكر: إنما أناجي ربي، وهو يعلم حاجتي إليه وقال عمر: أنا أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان فلما نزلت هذه الآية؛ قيل لأبي بكر: ارفع قليلاً. وقيل لعمر: اخفض قليلاً. وقد يقول قائل: ما دامت علة الجهر والإسرار: هو الخوف من أذى الكافرين والمشركين؛ وقد كف الله تعالى أذاهم، وأذهب قوتهم - والعلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً - فما لنا لا نجهر في صلاتنا كلها؟ والجواب على ذلك: إن الأعمال التعبدية؛ لا يجوز فيها الاجتهاد، بل يتبع فيها آثار الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام؛ القائل «صلوا كما رأيتموني أصلي» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن المراد بالصلاة في هذه الآية: الدعاء

111

{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} كما يزعم الكافرون {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} كما يزعم المشركون {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذُّلِّ} أي لم يذل؛ فيحتاج إلى ناصر بسبب ضعفه؛ بل هو ولي الصالحين، وناصر المؤمنين

سورة الكهف

سورة الكهف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{الْحَمْدُ لِلَّهِ} مستوجب الحمد {الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ} محمد {الْكِتَابُ} القرآن {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} اختلافاً، أو تناقضاً

2

{قَيِّماً} مستقيماً {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً} ليحذر عذاباً أليماً {مِّن لَّدُنْهُ} من عنده تعالى

5

{كَبُرَتْ} عظمت في الافتراء والكفر

6

{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} قاتلها غماً وحزناً {عَلَى آثَارِهِمْ} بعد توليهم عنك، وامتناعهم عن الإيمان بك {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ} القرآن -[352]- {أَسَفاً} حزناً وكمداً

7

{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ} من أشجار وحفيف ورقها، وأزهار وأريج نشرها، وثمار ولذيذ طعمها، وأنهار وسلسبيل مائها، وبحار وعظيم موجها، وجبال وشامخ بنيانها، ورمال وبديع ألوانها؛ وغير ذلك مما يدهش العقول، ويحير الألباب كل ذلك خلقه المبدع الحكيم {زِينَةً لَّهَا} أي للدنيا؛ ليستمتع به أهلها {لِنَبْلُوَهُمْ} نختبرهم {أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} بالزهد في الدنيا، وعدم الإقبال عليها، والرغبة في الآخرة، والحرص على كل ما يوصل إليها

8

{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا} أي ما على الأرض من زينة {صَعِيداً جُرُزاً} يابساً لا ينبت. والأرض الجرز: التي لا نبات عليها، ولا بنيان؛ كأن ما عليها قد اجتث

9

{أَمْ حَسِبْتَ} يا محمد {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ} وهو الغار الواسع في الجبل {وَالرَّقِيمِ} لوح مكتوب عليه أسماء أصحاب الكهف وأنسابهم، ولعله كتاب مرقوم؛ أنزل لهم لتعليمهم الشرائع. وقيل: إنه اسم كلبهم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما أدري ما الرقيم؛ أكتاب هو أم بنيان؟ {كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} أي لا تحسب أن العجب في قصة أصحاب الكهف؛ وإنما العجب كل العجب فيما خلقناه من سموات وأرضين، وما جعلناه على الأرض زينة لها ولمن فيها

10

{وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} توفيقاً للرشاد والسداد

11

{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} أي أنمناهم إنامة ثقيلة؛ لا تنبههم الأصوات {سِنِينَ عَدَداً} كناية عن التكثير؛ أي سنين كثيرة معدودة؛ وذلك لأن القليل يعلم من غير عد

12

{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} أيقظناهم من نومهم؛ كما نبعث أهل القبور من موتهم {لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ} المختلفين في مدة لبثهم {أَحْصَى} أضبط {لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً} مدة وغاية

14

{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} قويناها على تحمل المكروه في نصرة الدين {إِذْ قَامُواْ} بين قومهم، وأمام ملكهم؛ وقد عكفوا جميعاً على عبادة الأصنام {فَقَالُواْ} مجاهدين {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} لن نؤمن بغيره، و {لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلهاً} آخر {لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً} إذا دعونا من دونه {شَطَطاً} قولاً ذا شطط؛ أي بعيداً عن الحق

15

{لَّوْلاَ} هلا {بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} بحجة ظاهرة على صحة عبادتهم لها

16

{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} خطاب لأهل الكهف؛ أي وإذ جانبتم هؤلاء الكفار {وَمَا يَعْبُدُونَ} أي واعتزلتم الذين يعبدونه من الآلهة {إَلاَّ اللَّهَ} سوىالله. وقرأ ابن مسعود «وما يعبدون من دون الله» وعلى ذلك مصحفه؛ وذهب قتادة إلى أنه تفسيرها {فَأْوُوا} الجأوا {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} يبسطها لكم {وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً} وهو ما ينتفع به؛ من بناء، وغذاء، وكساء

17

{تَّزَاوَرُ} تميل تقطعهم؛ أي تتركهم وتعدل عنهم {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} متسع من الكهف. والفجوة: الفرجة {ذَلِكَ} أي ميل الشمس وتركها لمكانهم؛ مع مخالفة ذلك للنظام الكوني {مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} الدالة على وجوده وقدرته {فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً} يلي أمره، ويقوم بمعونته {مُّرْشِداً} له إلى الهدى وطريق الصواب

18

{وَتَحْسَبُهُمْ} إذا رأيتهم {أَيْقَاظاً} منتبهين؛ لأن أعينهم منفتحة {وَهُمْ رُقُودٌ} نيام {وَنُقَلِّبُهُمْ} أثناء نومهم {ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} لئلا تأكل الأرض لحومهم؛ وقد يكون التقليب بواسطة ملك يأمره الله تعالى به، أو بفعلهم هم - بتوفيق من الله تعالى - كما يفعل النائم حال نومه؛ ولذا يحسبهم الرائي أيقاظاً؛ لتقلبهم وانفتاح أعينهم {بِالوَصِيدِ} عتبة الكهف. والباب الموصد: المغلق {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} لما حفهم الله تعالى به من الهيبة، وأحاطهم به من العظمة؛ وقد منعهم الله تعالى من الناس بالرعب: لئلا يقربوا منهم، ويعبثوا بهم؛ فصاروا بحيث لا يستطيع أحد قربهم أو الدنو منهم. أما من قال: إن الفرار منهم والرعب بسبب طول شعورهم وأظفارهم؛ فليس بشيء: لأنهم حين استيقظوا قال بعضهم لبعض {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}

19

{وَكَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ} أيقظناهم من نومهم {لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ} ليسأل بعضهم بعضاً {فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} الورق: الفضة. والمراد بها: النقود التي كانت متداولة بينهم {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى} أحل وأطيب {وَلْيَتَلَطَّفْ} في دخول المدينة، وشراء الطعام

20

{إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} يطلعوا عليكم، ويعلموا مكانكم

21

{وَكَذلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أطلعنا عليهم {لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي ليعلم الناس أن وعد الله تعالى بالبعث حق: لأن القادر على بعث أهل الكهف - بعد نومهم ثلاثمائة عام - قادر على بعث الخلق بعد مماتهم. وبعث الناس يوم القيامة سيكون بأجسادهم؛ وقد أقام الله تعالى الدليل على ذلك بإحياء حمار عزير قال تعالى له {وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً} (انظر آية 259 من سورة البقرة) {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} أي يتنازع المؤمنون والكفار في شأنهم؛ فقال الكفار: نبني فوقهم بيعة، وقال المسلمون؛ وكانوا كثرة غالبة {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً} واتخذوه فعلاً فوق كهفهم؛ وفي هذا الدليل القاطع على جواز اتخاذ المساجد فوق القبور - خلافاً لما يقول به بعض الغلاة - ولا يدفع ذلك ما رواه أبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم؛ قال: «لعن رسولالله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» فهو حديث - إن صح - يجب تأويله بالنهي عن السجود إلى القبور، أو الصلاة عليها؛ يدل على ذلك قوله «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها» وذلك لأن الحديث لا يدفع صريح القرآن: «لنتخذن عليهم مسجداً» وعلة النهي في الحديث: أن اتخاذ القبور مساجد قد يؤدي إلى عبادة من فيها؛ كما اتخذت الأصنام من قبل

22

{سَيَقُولُونَ} أي يقول المختلفون في شأن أهل الكهف وعدتهم؛ وذلك في زمن النبي {رَجْماً بِالْغَيْبِ} الرجم بالغيب: القول بالظن؛ وهو دليل على بطلان السابق، وصحة اللاحق؛ وهو قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} ولم يقدح فيه بشيء {فَلاَ تُمَارِ} فلا تجادل {فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} إلا جدالاً في حدود ما ظهر لك مما أنزلناه عليك {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ} أي في شأن أهل الكهف {مِّنْهُمْ} أي من اليهود وغيرهم من المشركين

23

{وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ} الشيء {غَداً} أي فيما يستقبل من الزمان

24

{إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} أن تفعله؛ فوجب إذاً الاستثناء؛ لأنك إن قلت: إني فاعل كذا. ولم تفعل؛ كنت كاذباً. أما إن استثنيت وقلت: لأفعلن كذا إن شاءالله؛ ولم يقدرك الله تعالى على فعله: كنت صادقاً {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} أي اذكره إذا نسيته فعصيته، واستغفره وتب إليه والعصيان لا يكون إلا عند نسيان الله تعالى {وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} أي أحسن عملاً، وأقرب منفعة وهداية

25

{وَلَبِثُواْ} مكثوا -[355]- {فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعاً} قال بعضهم: إن مدة لبثهم في الكهف «ثلاثمائة سنين» شمسية «وازدادوا تسعاً» وهي السنين القمرية؛ لأنها تزيد ثلاث سنين في كل مائة عام. وهو قول فيه الكثير من التكلف، ويتنافى مع لغة العرب - التي جاء بها القرآن - قال الشاعر: كانوا ثمانين وازدادوا ثمانية يعني أنهم ثمانية وثمانون؛ ولا يعقل أن يكون مقصد الشاعر: أنهم ثمانون بالحساب الشمسي، وثمانية وثمانون بالحساب القمري والذي أراه - من صريح لفظ القرآن الكريم - أن أصحاب الكهف مكثوا في كهفهم {ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ} ثم بعثهم الله تعالى {وَكَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ} وكان ما كان من أمرهم - الذي قصه الله تعالى على رسوله عليه الصلاة والسلام - ثم أنامهم الله تسع سنين؛ يدل عليه قوله تعالى {وَازْدَادُواْ تِسْعاً} ثم أماتهم بعد ذلك، وتم بناء المسجد فوقهم. وقيل: إنهم أحياء في نومهم حتى ينفخ في الصور؛ والله تعالى أعلم.

26

{أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} وهي صيغة تعجب؛ أي ما أبصره تعالى بكل موجود، وما أسمعه لكل مسموع

27

{لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} التي ذكرها في كتابه الكريم: فقد وعد تعالى بحفظه من التبديل والتغيير، وبالتالي فإن ما فيه من قصص، وعبر، وترغيب، وترهيب، كله حق، وكله واقع لا محالة {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ} غيره {مُلْتَحَداً} ملجأ

28

{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} احبسها {} صباحاً {وَالْعَشِيِّ} مساء {يُرِيدُونَ} بعبادتهم {وَجْهَهُ} أي لا يريدون بطاعتهم الدنيا - مع حاجتهم إليها - بل يريدون عبادته تعالى ورضاءه {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ} لا تجاوز، ولا تنصرف {عَنْهُمْ} عن هؤلاء الطائعين؛ ولو كانوا من المعدمين {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لا تصرف وجهك عن الفقراء - الذين لا يجدون ما يأكلون، أو يلبسون، أو يركبون - إلى الأغنياء الذين طعموا أحسن الطعام، ولبسوا فاخر الثياب، وركبوا فاره المركب؛ وجميع ذلك من زينة الحياة الدنيا. أما في الآخرة فقد يعري الكاسي، ويكسي العاري، ويركب الماشي، ويحفي الراكب {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} عقوبة له، وانتقاماً منه؛ لاتباعه هواه، وعصيانه مولاه {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (انظر آية 176 من سورة الأعراف) {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} مجاوزاً عن الحق، ومسرفاً في العصيان والكفر

29

{وَقُلِ الْحَقُّ} الإسلام والقرآن {مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ} منكم {فَلْيُؤْمِن} باختياره {وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} بإرادته؛ فقد خير الله تعالى الإنسان، بين الكفر والإيمان؛ بعد أن بين له عاقبة الإيمان، ومغبة الكفران {إِنَّآ أَعْتَدْنَا} هيأنا -[356]- وأعددنا {لِلظَّالِمِينَ} الكافرين {نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} أي تحيط بهم يوم القيامة إحاطة السرادق بمن فيه من الجموع ويقال للدخان، إذا ارتفع وأحاط بالمكان: سرادق {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ} من العطش {يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ} وهو المعدن المذاب، أو القطران، أو عكر الزيت {وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} المرتفق: المتكأ، وهو ما يستند إليه بمرفق اليد: كالمخدة، ونحوها. والمعنى: انعدام الراحة فيها. أو هو كل ما ينتفع به، وليس في جهنم ما ينتفع به إطلاقاً؛ وإنما سيقت للمقابلة مع قوله تعالى عن الجنة «وحسنت مرتفقاً» كما سيأتي

31

{جَنَّاتُ عَدْنٍ} جنات الإقامة؛ من عدن بالمكان: إذا أقام فيه {سُنْدُسٍ} ما رق من الديباج {وَإِسْتَبْرَقٍ} ما غلظ منه {الأَرَآئِكِ} السرر

32

{وَاضْرِبْ لَهُم} يا محمد {مَّثَلاً} للكافر والمؤمن، أو لمن يعتز بالدنيا ويترك الآخرة وراء ظهره، ومن يرغب في الآخرة ولا يحرص على الدنيا؛ فمثلها كمثل {رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا} وهو المقبل على الدنيا، المنصرف عن الآخرة {جَنَّتَيْنِ} بساتين {مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} والبستان إذا أحيط بالنخيل: ضم إلى حسن المخبر؛ جمال المنظر (انظر آية 266 من سورة البقرة)

33

{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} أعطت ثمرها كاملاً {وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً} أي لم تنقص من ثمارها شيئاً: أينعت كأحسن ما يكون الينع، وأثمرت كأحسن ما يكون الثمار {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} إمعاناً في حسنهما وزيادة في خصوبتهما

34

{وَكَانَ لَهُ} أي لصاحب الجنتين {ثَمَرٌ} مال وافر مثمر؛ مما حازه من جنتيه في سابق أيامه {فَقَالَ لَصَاحِبِهِ} المقبل على الآخرة، المنصرف عن الدنيا {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} أي وأعظم عشيرة. والنفر: الرهط؛ وهو ما دون العشرة. وترك صاحبه

35

{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} دخل أحد بستانيه {وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} بالكفر، وعدم الشكر وبالغرور والكبر؛ وحين رأى كثرة ثماره، وجريان أنهاره، وأوحى إليه الشيطان أن توافر المال والماء موجب لتوافر المحصول والثراء و {قَالَ} في نفسه {مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ} الجنة

36

{وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} كما يزعمون {وَلَئِن} كانت قائمة، و {رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ} عنده {خَيْراً مِّنْهَا} أي خيراً من جنتي هذه {مُنْقَلَباً} مرجعاً وعاقبة؛ وذلك كقول نظائره من الكافرين {وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً}

37

{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ} المؤمن؛ رداً على ما قاله: كيف تقول ما قلت؟ وكيف تنكر البعث والقيامة؟ {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ} أي خلق آدم - وهو أصل البشرية - خلقه الله تعالى {مِن تُرَابٍ ثُمَّ} خلق أبناءه جميعاً {مِن نُّطْفَةٍ} مني {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} سميعاً، بصيراً، عاقلاً (انظر آية 21 من سورة الذاريات)

38

{لَّكِنَّ} أصلها -[357]- «لكن أنا» {هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أي أنا شأني أن أقول: «الله ربي» {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} ولا أكفر بنعمته تعالى؛ كما كفرت أنت

39

{وَلَوْلا} وهلا {إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ} عند إعجابك بها، وسرورك من منظرها {مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} ولم تقل «ما أظن أن تبيد هذه أبداً» إنك {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً} في هذه الدنيا الفانية

40

{فعسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ} في الآخرة الباقية {خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ} التي تعجب بها وتفخر {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً} صواعق {مِنَ السَّمَاءِ} والحسبان أيضاً: العذاب؛ وهو يشمل كل آفة تنزل من السماء؛ فتهلك الزرع {فَتُصْبِحَ} جنتك الزاهية الزاهرة، المثمرة الناضرة {صَعِيداً زَلَقاً} أرضاً جرداء ملساء؛ لا تثبت عليها قدم

41

{أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا} الذي يتوقف عليه إثمارها وازدهارها {غَوْراً} غائراً: أي ذاهباً في الأرض {فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} وكيف يطلب مالا وجود له أصلاً؟ وقد حقق الله تعالى ما قاله المؤمن في جنة الكافر: فأنزل الله من السماء ما أتلفها أو نحوها

42

{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} هو كناية عن إهلاك الثمار عن آخرها {فَأَصْبَحَ} الكافر {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} يضرب إحداهما على الأخرى؛ ندماً وتحسراً {عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا} أي في الجنة: من جهد، ووقت، ومال {وَيَقُولُ يلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} بعد أن علم أن كفره كان سبباً لما حل به من المصائب

43

{وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ} فيمنعون عنه ما نزل به، ويحولون دون ما أراده الله تعالى به من خزي وخسران {وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً *

44

هُنَالِكَ} عند حلول انتقام العزيز الجبار {الْوَلاَيَةُ} السلطان، والملك، والقدرة والنصرة {لِلَّهِ الْحَقِّ} لا لغيره أو «هنالك» يوم القيامة؛ عند معاقبة العاصين، وإثابة الطائعين {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً} أي خير من يثيب على الإيمان والطاعة {وَخَيْرٌ عُقْباً} أي عاقبة للمؤمنين

45

{وَاضْرِبْ لَهُم} يا محمد {مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وحسنها وبهجتها؛ مع سرعة زوالها وانقضائها {كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} بيسر وسهولة {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} أي شرب منه، ونما وازدهر بسببه؛ غير أنه ذبل بعد ذلك {فَأَصْبَحَ هَشِيماً} يابساً متكسراً {تَذْرُوهُ الرِّياحُ} تنسفه وتطيره

46

{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فبهما الغنى والسعة، واليسر والعون - في هذه الدنيا المحتقرة - فلا تجعلوا المال مأربكم، والبنين مطلبكم: تجمعون المال وتنسون المآل، وتخصون بنيكم بالخير، وتغفلون الغير؛ مع أن الله تعالى قد وعد منفقاً خَلَفاً، وأوعد ممسكاً تلفاً -[358]- {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} أعمال الخير والبر {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} وأجراً؛ من الدنيا وما فيها، ومن فيها {وَخَيْرٌ أَمَلاً} أي أفضل أملاً من ذي المال والبنين، بغير عمل صالح

47

{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} في الجو، أو نذهب بها؛ بأن نجعلها هباء منثوراً {وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} ظاهرة؛ لا يسترها شيء مما كان عليها؛ من الجبال والأشجار {وَحَشَرْنَاهُمْ} أي جمعنا الخلائق في المحشر للحساب {فَلَمْ نُغَادِرْ} لم نترك

48

{وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَّاً} أي مصطفين؛ بحيث لا يخفى أحد منهم، أو يستتر بغيره؛ ويقال لهم وقت عرضهم {لَقَدْ} بعثناكم بعد موتكم، وأعدناكم بعد بلاء أجسادكم؛ وها أنتم أولاء {جِئْتُمُونَا} بأجسادكم وأرواحكم {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقد ذكرنا لكم ذلك - على لسان رسلنا - فكذبتم وعصيتم و {زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً} نحاسبكم فيه

49

{وَوُضِعَ الْكِتَابُ} الذي فيه أعمال الخلائق؛ منذ ولادتهم حتى موتهم {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ} الكافرين {مُشْفِقِينَ} خائفين {مِمَّا فِيهِ} من أعمال سيئة عملوها، وجرائم بغيضة ارتكبوها {لاَ يُغَادِرُ} لا يترك {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ} في الدنيا {حَاضِراً} مثبتاً في الصحف، واضحاً. أو وجدوا جزاء ما عملوا معداً لهم

50

{إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} خرج عن طاعته {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ} ومن ذرية إبليس اللعين: من يوسوس في الصلاة، ومن يحض على الزنا، ومن يأكل مع من لم يسمالله، ومن يزعج عند المصيبة ويحض على عدم الصبر إلى ما لا نهاية من الإضلال والإفساد {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} ألا ترون أنهم ينصبون لكم الأحابيل، ويزينون لكم الأباطيل {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ} الكافرين {بَدَلاً} أن يستبدلوا طاعة الله تعالى ورسله؛ بطاعة إبليس وذريته

51

{مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ} أي ما أشهدت إبليس وذريته {خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وما استعنت بهم {وَلاَ} أشهدتهم {خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} أي ولم أشهد بعضهم خلق بعض؛ بل خلقت الجميع بإرادتي وقدرتي؛ ولم أستعن بأحد منهم فكيف تطيعونهم وتتبعونهم {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} أي أعواناً أعتضد بهم وأستعين

52

{وَيَوْمَ يَقُولُ} الله تعالى -[359]- {نَادُواْ شُرَكَآئِيَ} الذين أشركتموهم معي في العبادة {فَدَعَوْهُمْ} فنادوهم، أو استغاثوا بهم {فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} وكيف يجيب من لا يجد له مستجيب؟ أو كيف يغيث من ليس له مغيث؟ {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم} أي بين العابدين والمعبودين {مَّوْبِقاً} مهلكاً؛ وهو جهنم: يهلكون فيها جميعاً. وقيل «موبقاً» حاجزاً بينهم وبين من عبدوا؛ من الملائكة، وعزير، وعيسى؛ إذ أنهم في أعالي الجنات، وعابديهم في أحط الدركات

53

{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ} تيقنوا وتأكدوا؛ والظن يأتي في القرآن الكريم دائماً بمعنى اليقين؛ ما لم تدل قرينة السياق على خلافه؛ كقوله تعالى: {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} {مُّوَاقِعُوهَا} مخالطوها وواقعون فيها

54

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} بيّنا {مِن كُلِّ مَثَلٍ} ضربناه للناس: تقريباً لأفهامهم، وكل عظة تسلك في قلوبهم، وكل حجة تدخل في عقولهم: ليتذكروا، ويتعظوا، وينزجروا، وينيبوا {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} أي أكثر مراء، وخصومة: لا يرجع عن باطله، ولا يثوب إلى رشده ولعل المراد بالإنسان: الكافر فحسب؛ فقد وصفه الله تعالى بالجدال في غير موضع من كتابه الكريم: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ} {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ} {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ}

55

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى} أي أيّ مانع يمنع الناس عن الإيمان؛ بعد نزول القرآن؟ ولا حجة لمن ألحد بزعمه أن الله تعالى منعهم عن الإيمان، وصرفهم عن الإيقان؛ بل وسلك في قلوبهم الكفران؛ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً (انظر آية 200 من سورة الشعراء) {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} أي إن المانع لهم من الإيمان: بالغ جهلهم، ومزيد حمقهم؛ وطلبهم معاينة الهلاك الذي حل بأمثالهم من الأمم السابقة؛ كقولهم «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم» {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} مقابلة وعياناً

56

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ} من آمن بالجنة {وَمُنذِرِينَ} من كفر بالنار {لِيُدْحِضُواْ} يبطلوا {وَاتَّخَذُواْ آيَاتِي} القرآن {وَمَا أُنْذِرُواْ} به من الحساب والعذاب {هُزُواً} سخرية

57

{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ} المنذرة له بسوء المنقلب {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} من كفر وعصيان؛ فلم يرجع عن كفره، ولم يتب من عصيانه {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطية {أَن يَفْقَهُوهُ} أن يفهموا هذا القرآن: عقوبة لهم. قال تعالى: «ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون» جعلنا {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} صمماً أن يسمعوه ذلك لأنهم {وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً} كفراً منهم وعناداً

58

{لَوْ يُؤَاخِذُهُم} الله {بِمَا كَسَبُواْ} عملوا من سيئات {لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} في الدنيا {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} يعذبون فيه: وهو يوم القيامة {لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاٍ} ملجأ

59

{وَتِلْكَ الْقُرَى} أي أهلها: كقرى عاد، وثمود، وقوم لوط، وغيرهم {أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} لما كفروا؛ كما كفر هؤلاء {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم} لإهلاكهم {مَّوْعِداً} وهو إقامة الحجة عليهم، واليأس من إيمانهم

60

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى} ابن عمران {لِفَتَاهُ} يوشعبن نون؛ وكان تابعاً له يخدمه، ويتلقى منه العلم {لا أَبْرَحُ} أي لا أزال سائراً {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} ملتقى بحر فارس والروم؛ مما يلي المشرق {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} زماناً طويلاً

61

{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} أي بين البحرين {نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً} يعني دخل في الماء واستتر به؛ والمراد أن الحوت اتخذ سرباً في البحر لطريقه. والسرب: الشق الطويل

62

{فَلَمَّا جَاوَزَا} أي جاوز موسى وفتاه ذلك المكان - الذي تسرب فيه الحوت من حيث لا يدريان - وسارا في طريقهما المرسوم، وبلغ منهما الجوع مبلغه؛ وحل وقت الغداء من اليوم الثاني لتسرب الحوت {قَالَ} موسى {لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا} والغداء: ما يؤكل في الغدوة؛ وهي أول النهار؛ وليس كما يتوهمه الأكثرون من أنه وقت الظهيرة {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} تعباً، ومشقة، وجوعاً

63

{قَالَ} له فتاه {أَرَأَيْتَ} أي أتذكر {إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ} لنستريح عليها؛ عند مجمع البحرين {فَإِنِّي} عند ذاك {نَسِيتُ الْحُوتَ} أي نسيت أن أتفقده {أَنْ أَذْكُرَهُ} أن أتذكره وأحتفظ به

64

{قَالَ} له موسى {ذَلِكَ} الذي حدث {مَا كُنَّا نَبْغِ} هو الذي كنا نطلبه {فَارْتَدَّا} رجعا {عَلَى آثَارِهِمَا} من حيث جاءا {قَصَصاً} يتتبعان طريقهما الذي أتيا منه

65

{فَوَجَدَا} عند الصخرة: التي استراحا عليها، ونسيا الحوت عندها {عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ} هو الخضر عليه السلام {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً} الرحمة: الوحي، والنبوة؛ يدل عليه قوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} وقوله تعالى في نهاية هذه القصة؛ على لسان الخضر عليه السلام {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أي إنما فعلت ما فعلت بوحي من الله تعالى. وأكثر المفسرين على أنها - في هذه الآية التي نحن بصددها - الولاية، وكشف الحجب؛ والذي أراه ويقتضيه السياق: أنها النبوة قولاً واحداً: إذ لا يعقل أن يوجد في زمن أي نبي من هو أعلم وأحكم منه: لأن النبي - في كل زمان - خيرة الله تعالى من أهل ذلك الزمان

66

{رَشَداً} أي صواباً استرشد به

68

{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} أي على ما لم تعلم حقيقة خبره

71

{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} عظيماً منكراً

73

{وَلاَ تُرْهِقْنِي} تكلفني {مِنْ أَمْرِي عُسْراً} مشقة؛ بل عاملني بالعفو واليسر

74

{قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً} طاهرة، بريئة من الذنب {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} عظيماً منكراً.

76

{قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً} أي قد قام عذرك في مطالبتي بعدم مصاحبتك؛ كما قطعت على نفسي

77

{اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا} طلبا منهم أن يطعماهما على سبيل الضيافة -[362]- {فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا} لبخل فاش فيهم. والبخل من أحط الصفات المذمومة؛ خاصة إذا كان بالطعام لقوم جياع قد طلبوه بأنفسهم والبخل: يمحو سائر الحسنات، كما أن السخاء يمحو السيئات} أي جداراً آيلاً للسقوط فبناه. من هنا يعلم أن الإحسان يجب على المحسن؛ لمن أحسن أو أساء، وأنه يبذل من غير مقابل ومن عجب أنا نرى النفوس الشريرة تقابل الإحسان بالإساءة، وتجزي الخير بالشر {قَالَ} موسى للخضر عليهما السلام {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ} أي على بناء الجدار {أَجْراً} نطعم به؛ لأنهم أبوا مجاملتنا بقليل الطعام؛ فكيف نجاملهم بهذا العمل الكبير الخطير؟

79

{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} والمسكين: أحسن حالاً من الفقير؛ لأن الفقير: هو الذي لا يجد القوت، والمسكين: الذي يجد الكفاف؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} فوصفهم تعالى بالمسكنة؛ مع أنهم يملكون سفينة تؤجر للركوب والحمل؟ وقال قوم بأن المسكين أشد بؤساً من الفقير. والقول الذي قلناه أولى؛ يظاهره المعقول والمنقول؛ وقد كان رسولالله يتعوذ من الفقر، وكان يقول: «اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً» ويستحيل عقلاً أن يتعوذ عليه الصَّلاة والسَّلام من الفقر؛ ثم يسأل ما هو أسوأ حالاً منه. وقد قيده تعالى بقوله: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} أي ذا فقر {وَكَانَ وَرَآءَهُم} أي في طلبهم. وقيل: «وراءهم» أي أمامهم في سيرهم

80

{فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} إذا عاش وبلغ مبلغ الرجال؛ لأن الله تعالى علم عنه ذلك، وأمرني بما هنالك

81

{فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} من الأبناء الصلحاء {خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً} أي إيماناً وصلاحاً وتقى {وَأَقْرَبَ رُحْماً} أي رحمة بوالديه، وبراً بهما فانظر يا رعاكالله، إلى حكمةالله: لقد فرح الأبوان بابنهما حين ولد، وحزنا عليه حين قتل؛ ولو بقي لخسرا بسببه الدنيا والآخرة فارض هداكالله، بقضاءالله؛ فإن قضاءه للمؤمن فيما يكره؛ خير له من قضائه فيما يحب

82

{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} يؤخذ من هذا: أن صلاح الآباء، ينفع الأبناء؛ حتى قيام الساعة {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا} أي رشدهما. وبلوغ الأشد: اكتمال القوة؛ وهو ما بين ثماني عشرة، إلى ثلاثين سنة {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} وإنما فعلته بوحي من ربي؛ وهذا أيضاً دليل على نبوة الخضر عليه السلام؛ كما قدمنا

83

{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ} قيل: إنه الاسكندر الأكبر الرومي المقدوني. وقيل: إنه غيره. وذهب قوم إلى أنه نبي، أو رجل صالح؛ أرسله الله تعالى لإحداث أحداث كونية، روحية؛ وقد مدحه الله تعالى في القرآن. وسبب تسميته بذي القرنين: -[363]- أنه بلغ قطري الأرض؛ من مشرقها إلى مغربها. وقيل: سمي بذلك لأن له ضفيرتان كالقرنين. وقيل: لأنه عاش قرنين من الزمان؛ والله تعالى أعلم وأحكم

84

{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} أي جعلنا له مكانة فيها، وملكناها له، وسهلنا سيره فيها {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ} أراده {سَبَباً} أي وسيلة توصله إلى ذلك الشيء الذي أراده وقدرنا وقوعه

85

{فَأَتْبَعَ سَبَباً} فسلك طريقاً نحو المغرب {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي ذات حمأة. والحمأة: الطين الأسود المنتن. وقرىء «عين حامية» بمعنى حارة؛ والمراد عين سوداء لا ضوء فيها، وذلك رأي العين. أما الشمس فالثابت أنها أعظم وأكبر من الأرض؛ وقد قدروا أنها أكبر من حجم الأرض بأكثر من مليون وأربعمائة وأربعة آلاف مرة {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً} كافرين، جبارين، معتدين {قُلْنَا يذَا الْقَرْنَيْنِ} يؤخذ من هذه الآية أنه كان نبياً يوحى إليه؛ وإن لم يكنه فهو عبد صالح أوحى الله تعالى إليه وحي إلهام {إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ} هؤلاء القوم؛ على كفرهم وبغيهم وطغيانهم {وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} بإسداء النصح والإرشاد. وقيل: {إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ} بالقتل والفتك {وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} بالأسر حتى المتاب {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ} يوم القيامة {فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} شديداً: تنكره الطاقة، ولا تحتمله القوة

88

{وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} ب الله تعالى {وَعَمِلَ} عملاً {صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى} أي الجنة {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} أي لا نأمره إلا بما يسهل عليه {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أو سنعلمه ما يقربه إلينا، وييسر له كل صعب

89

{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} سلك طريقاً آخر - غير الطريق الأول - نحو المشرق

90

{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} أي أبنية تسترهم؛ لأن أرضهم لا تحتمل البناء، أو أنهم عرايا؛ لا يلبسون ثياباً تسترهم. قيل: إنهم الزنج {كَذَلِكَ} أي الأمر كما ذكرنا

91

{وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ} أي بما عند ذي القرنين من الجند والآلة، والميرة والذخيرة، وغير ذلك

92

{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} سلك طريقاً آخر غير الذي سلكه نحو المغرب والمشرق

93

{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} الجبلين؛ من قبل أرمينية وأذربيجان {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا} أي أمام السدين. وقيل: من ورائهما {قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} أي لا يفهمون ما يقال لهم، ولا يستطيعون أن يفهموا غيرهم؛ يؤيده قراءة من قرأ «يفقهون»

94

{قَالُواْ} أي قال له الناس الصالحون، القاطنون في هذه الجهات {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} قبيلتان اشتهرتا بالفساد والإفساد {مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} قيل: إنهم كانوا من أكلة لحوم البشر. وقيل: إنهم كانوا يفسدون بالقتل، والظلم، والبغي، والفساد {فَهَلْ -[364]- نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} جعلا. وفي قراءة «خراجاً»

95

{قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي} أي ما جعلني متمكناً فيه: من القوة، والحيلة، والمال والعتاد {خَيْرٌ} مما تعرضونه عليَّ من الخراج {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أي بقوتكم البدنية، ومعونتكم الجسمانية {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} جداراً، وحاجزاً حصيناً

96

{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} وهي القطع الكبيرة من الحديد {حَتَّى إِذَا سَاوَى} بذلك الحديد {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} جانبي الجبلين؛ وسد الفرجة التي بين السدين، والتي يتسرب منها يأجوج ومأجوج إلى الذين لجأوا إلى الإسكندر واستصرخوا به؛ وقد سدها بقطع كبيرة متفرقة من الحديد، ووضع حول القطع ناراً؛ ثم {قَالَ انفُخُواْ} على النار {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} أي صهر الحديد وجعله كالنار {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} نحاساً مذاباً بين ثنايا قطع الحديد

97

{فَمَا اسْطَاعُواْ} أي فما استطاع يأجوج ومأجوج {أَن يَظْهَرُوهُ} أن يعلوا السد؛ لمزيد ارتفاعه وملاسته {وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً} لعظمه وصلابته؛ فلما أتم السد

98

{قَالَ هَذَا} أي القدرة على بناء هذا السد وإتمامه {رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} بالعباد والبلاد؛ إذ كف بالسد أذى يأجوج ومأجوج عنهم {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي} بالقيامة، وخروجهم قبيلها {جَعَلَهُ دَكَّآءَ} أي هدمه وحطمه وأزاله وجعله مستوياً بالأرض

99

{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ} أي يوم خروجهم {يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} يختلطون ويضطربون لكثرتهم {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} القرن: ينفخ فيه إسرائيل عليه السلام، بأمر ربه تعالى {فَجَمَعْنَاهُمْ} أي الخلائق أجمعين، في مكان واحد

101

{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي} أي عن القرآن؛ فهم عمي لا يهتدون به {وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}

102

{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي} من الملائكة، وعيسى، وعزير {مِن دُونِي أَوْلِيَآءَ} يوالونهم بالعبادة؛ مع مساواتهم لهم في الحاجة والعجز {إِنَّآ أَعْتَدْنَا} هيأنا وأعددنا {جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} النزل: المكان المعد لنزول الضيف وإكرامه، أي أن نهاية إكرامهم أن تكون جهنم نزلاً لهم

105

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} كتبه {وَلِقَائِهِ} أي وكفروا أيضاً بالبعث والحساب، والثواب والعقاب {فَحَبِطَتْ} بطلت {أَعْمَالُهُمْ} الصالحة، التي عملوها في الدنيا {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ} ولا لأعمالهم {يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} بل نتركهم في نهاية الذلة، وغاية المهانة؛ غير ما أعددناه لهم من عذاب أليم، وشر مقيم

108

{حِوَلاً} تحولاً

109

{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ} بمائه الكثير الوفير {مِدَاداً} المداد: الذي يكتب به {لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} الدالة على عظمته وربوبيته، وعلمه وحكمته {لَنَفِدَ الْبَحْرُ} فرغ ماؤه في الكتابة {قَبْلَ أَن تَنفَدَ} تنتهي {لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ} بمثل البحر {مَدَداً} لنفد أيضاً ذلك المدد، قبل أن تنفد كلمات الله تعالى وهو تصوير لقدرته تعالى، ومزيد سلطانه وليس المراد حقيقة الكلام؛ من مداد وأقلام؛ إذ أن كلماته تعالى - في تكوينها - لا هجائية؛ بل إرادية، فالمخلوقات الربانية؛ والمبدعات الإلهية: إن هي إلا كلمات بليغة؛ ينطق بها لسان الحال، بما هو أفصح من لسان المقال. وإنلله تعالى كتابين دالين على وجوده وشهوده؛ يقوم كلاهما بالهداية إليه، والتعريف به: أحدهما: كتاباً مخلوقاً؛ وهو الكون وما فيه من عجائب تجل عن الحصر، وغرائب تعز عن الوصف. وثانيهما: كتاباً قديماً محدثاً منزلاً وهو القرآن؛ وفيه ما فيه من لآلىء المعاني، وينابيع الحكم، وبليغ الكلم (انظر آية 27 من سورة القمان).

سورة مريم

سورة مريم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{كهيعص} (انظر آية 1 من سورة البقرة)

2

{ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} أي إن في هذه السورة ذكر رحمة ربك لعبده زكريا

3

{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} سراً: لم يسمعه سوى مولاه

4

{قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} ضعف لشيخوختي وكبر سني {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} أي كنت سعيداً بإجابة دعائي فيما مضى؛ فلا تخيب رجائي فيما يأتي

5

{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} الذين يلوني في النسب {مِن وَرَآئِي} من بعدي. وخوفه منهم: إهمالهم للدين، وعدم تمسكهم به، وتضييعهم له؛ كما ضيعته بنو إسرائيل في غيبة موسى، وبعد وفاته {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} عقيماً لا تلد؛ لكبر سنها {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ} من عندك {وَلِيّاً} يلي أمري من بعدي، ويدعو الناس لمعرفتك وعبادتك

6

{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} أي يرث ما أوتيناه من علم، ودين، وحكمة {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} أي مرضياً عندك في دينه، ومرضياً عند الناس في خلقه

7

{لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} أي لم نجعل له نظيراً. وقيل: لم نجعل مسمى بيحيى قبله

8

{قَالَ رَبِّ إِنَّي} كيف {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} عقيماً لا تلد {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} من عتا: إذا يبس. أي بلغت نهاية السن. قيل: كان عمره وقتذاك مائة وعشرين سنة.

10

{قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً} علامة على ذلك {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} أي بأيامها. وقد كانوا يتقربون إلى الله تعالى بالصوم عن الطعام والكلام، والتفرغ للعبادة؛ ولا يزال - ولن يزال - الصيام والتفرغ للعبادة من موجبات إجابة الدعاء، وتحقق الرجاء

11

{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} وهو موضع الصلاة {فَأَوْحَى} أشار وأومأ {إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ} انقطعوا لعبادة الله تعالى وذكره {بُكْرَةً وَعَشِيّاً} أوائل النهار وأواخره

12

{بِقُوَّةٍ} بجد واجتهاد {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} أي آتيناه الرشاد والسداد؛ اللذين يؤهلانه لأن يحكم بين الناس. قيل: كان وهو ابن ثلاث سنين يدعوه الصبيان للعب معهم؛ فيقول: ما للعب خلقت

13

{وَحَنَاناً} أي وآتيناه {مِّن لَّدُنَّا} حناناً؛ وهو الرأفة، والشفقة، والمحبة {وَزَكَاةً} طهارة، وبركة

16

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} ابنة عمران {إِذِ انتَبَذَتْ} اعتزلت وانفردت {مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} قيل: حاضت؛ فاعتزلت المحراب، وذهبت قبل المشرق

17

{فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم} ناحيتهم {حِجَاباً} ستراً يسترها عن الناس. قيل: لتغتسل من حيضتها {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} هو جبريل عليه السلام {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً} أي كالبشر. والملائكة: أجسام نورانية؛ تتشكل - بأمر الله تعالى - كيف شاءت {سَوِيّاً} أي مستوي الخلقة؛ فلا هو بالكسيح، ولا الأعمى؛ بل حسن الوجه، مستوي الجسم {قَالَتْ} مريم؛ لما رأته معترضاً طريقها {أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} أي إن كنت ممن يتقي الله ويخافه، ويخشى غضبه وعذابه: فلا تتعرض لي بسوء {قَالَ} جبريل: لا تخافي يا مريم، ولا تخشى سوءاً {إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ} إليك {لأًّهَبَ لَكِ} بأمره وقدرته {غُلاَماً زَكِيّاً} طاهراً مباركاً وقرىء «ليهب لك» أي ربك

18

{قَالَتْ إِنِّي} كيف {يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي} أنا عذراء {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} بتزوج

20

{وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} زانية

21

{قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} وقوله قضاء وأمر. قيل: لما رأى يوسف النجار مظاهر الحمل على مريم - وقد كان لا يشك في طهرها وصلاحها - سألها قائلاً: هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت مريم: نعم. قال: فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها؟ قالت: نعم. قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم؛ ألم تعلم بأن الله تبارك وتعالى أنبت الزرع - يوم خلقه ابتداء - من غير بذر؟ والبذر يومئذٍ إنما صار من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر أولم تعلم أن الله تعالى بقدرته أنبت الشجر بغير غيث، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر؛ بعد ما خلق كل واحد منهما وحده؟ أم تقول: لن يقدر الله على أن ينبت الشجر حتى استعان عليه بالماء؛ ولولا ذلك لم يقدر على إنباته؟ أو لم تعلم أن الله تبارك وتعالى خلق آدم وزوجه من غير أنثى ولا ذكر؟ قال يوسف: بلى ووقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله تبارك وتعالى {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} علامة للناس؛ دالة على قدرتنا، وتصديقاً لرسالته {وَرَحْمَةً مِّنَّا} بهم؛ لأنه أرسل لهدايتهم وإرشادهم

22

{فَحَمَلَتْهُ} حملت بعيسى عليه السلام؛ بعد أن نفخ جبريل في جيب درعها {فَانْتَبَذَتْ} اعتزلت {بِهِ} بحملها {مَكَاناً قَصِيّاً} بعيداً. قيل: كانت مدة الحمل ساعة واحدة

23

{فَأَجَآءَهَا} ألجاها {الْمَخَاضُ} وجع الولادة {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} أصلها. قيل: كانت يابسة غير مثمرة {قَالَتْ} حين رأت ما يجر عليها ذلك من الفضيحة {يلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} لا يذكرني أحد بخير أو بشر وهنا ظهرت آية الله تعالى، ونزل عيسى عليه الصلاة والسلام للوجود؛ ليكون شاهداً على قدرته تعالى، هادياً إلى دينه، مبشراً بخاتم رسله

24

{فَنَادَاهَا} عيسى {مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي} ففزعت مريم وأجابته: وكيف لا أحزن وأنت معي؟ لا ذات زوج فأقول: من زوجي، ولا مملوكة فأقول: من سيدي فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام. وقيل المنادي جبريل عليه الصلاة واسلام {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} سيداً كريماً. وقيل: نهر ماء؛ كان منقطعاً وأجراه الله تعالى إرهاصاً لولادة عيسى عليه السلام

25

{وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} ولو شاء ربك لأنزل الرطب من غير هز الجذع؛ ولكنه تعالى أراد أن يجعل لكل شيء سبباً. والرطب من أَفضل الأغذية والأدوية للوالدات (انظر آية 81 من سورة النساء)

26

{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً} أي فإن رأيت آدمياً {فَقُولِي} لمن ترينه، ويسألك عن هذا الغلام {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} صمتاً {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} بعد ذلك وكان صومهم عن الطعام والكلام

27

{قَالُواْ يمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} عجيباً عظيماً؛ وقد أرادوا بذلك الزنا؛ -[369]- لأن الولد من الزنا: كالشيء المفترى؛ قال تعالى: {وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ} أريد به الولد؛ يقصد إلحاقه بالزوج وليس منه

28

{يأُخْتَ هَارُونَ} في العفة، والصلاح، والتقى. وكان رجلاً مشهوراً بالدين، مشهوداً له بالطهر، منقطعاً إلى عبادة الله تعالى. وقيل: قصد به هرون أخو موسى عليهما السلام {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} أي ما كان زانياً: فتطلعين مثله {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} زانية

29

{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} أي إلى عيسى: أن كلموه هو ولا تكلموني {قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} المهد: فراش الطفل. وبينما هم في جدالهم مع مريم؛ إذا بعيسى يرد عليهم

30

{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} الإنجيل، وقال: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} وهو لم يؤته بعد؛ بمعنى سيؤتيني: وذلك لتحقق الإيتاء؛ ولأن الله تعالى قضى أزلاً بنزول الكتاب عليه، واختياره للنبوة {وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} أي سيجعلني. وقال بعضهم: إن الله تعالى آتاه الكتاب، وجعله نبياً في هذه السن؛ كما علم آدم الأسماء كلها وهو لم يعد طور التكوين بعد

34

{ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} أي القول الحق: إنه عيسى ابن مريم؛ لا ابن الله كما زعم الكافرون؛ {الَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ} يختلفون

35

{مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} كما يزعمون {سُبْحَانَهُ} تنزه وتقدس عما يقولون (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) {إِذَا قَضَى أَمْراً} أراده {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} من غير تعب، ولا نصب، ولا مثال سبق

36

{هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} طريق قويم؛ مؤد إلى الجنة

38

{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} أي ما أسمعهم، وما أبصرهم في الآخرة؛ رغم تصامهم في الدنيا عن سماع آيات الله تعالى، وتعاميهم عن رؤية الحق، والنظر إلى حجج الله تعالى الدالة على وحدانيته وقدرته؛ ويقولون في الآخرة {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}

39

{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} يوم القيامة: يتحسر فيه الكافر على كفره، والظالم على ظلمه، والمسيء على إساءته، {إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ} بدخولهم النار {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} عن ذلك في الدنيا

41

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ} القرآن {إِبْرَاهِيمَ} جد رسولنا عليهما الصلاة والسلام، ورأس الملة الحنيفية -[370]- {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً} مبالغاً في الصدق

42

{إِذْ قَالَ لأًّبِيهِ} آزر {يأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ} من الأصنام؛ وتدع الخالق الرازق، السميع البصير

43

{فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} طريقاً مستوياً مستقيماً؛ موصلاً للسعادة الأبدية.

46

{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يإِبْرَاهِيمُ} أي أتاركها ومنصرف عنها؟ يقال رغب في الشيء: إذا أراده. ورغب عنه: إذا لم يرده {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} أي دهراً طويلاً

47

{إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} مكرماً

48

{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ} أي وما تعبدون من الأصنام {مِن} غيره {وَأَدْعُو رَبِّي} أعبده {عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً} أي عسى ألا أشقى بعبادة ربي، كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام

49

{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ} فارقهم، وترك معاشرتهم

50

{وَوَهَبْنَا لَهٍّمْ مِّن رَّحْمَتِنَا} النبوة، والمال، والولد {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} وهو الثناء الطيب، والذكر الحسن من جميع أهل الأديان

51

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً} خلصه الله تعالى من دنس الشرك

52

{وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} أي من جانب الجبل الذي يلي يمين موسى؛ قائلين له «يا موسى إني أنا الله رب العالمين» {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} مناجياً لنا؛ أي مكلماً؛ والمناجاة: المسارّة

55

{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ} يحثهم عليها. أثنى الله تعالى عليه بأنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة؛ فيجب على كل مؤمن أن يأمر بهما أهله وأقرباءه، وخلانه، وجيرانه، وأصدقاءه وأحباءه؛ ليفوز بالقرب، من حضرة الرب

56

{إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً} مبالغاً في الصدق

57

{وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} في الدنيا بتشريفه بالنبوة، وإعزازه بالصدق وقيل: رفع بعد موته إلى السماء، أو إلى الجنة

58

{وَإِسْرَائِيلَ} هو يعقوب عليه السلام {وَاجْتَبَيْنَآ} اخترنا

59

{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ} هذه الآية من المغيبات التي انفرد بها القرآن الكريم: فها هو ذا الخلف الذي أضاع الصلاة، واتبع الشهوات: تقوم إلى الصلاة فلا ترى سوى مستهزىء بك، ضاحك عليك، ساخر من فعلك وهو يرتكب في نفس الوقت من المناكير والشهوات؛ ما يتعفف عن إتيانه أحط المخلوقات، وأحقر الكائنات؛ فلا حول ولا قوة إلا ب الله {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} عذاباً شديداً، أو يلقون شراً وخيبة؛ وعاقبتهم العذاب الشديد

60

{إِلاَّ مَن تَابَ} عن إضاعة الصلاة، واتباع الشهوات {وَآمَنَ} إيماناً صحيحاً {وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} من ثواب أعمالهم

61

{جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي جنات الإقامة؛ من عدن في المكان: إذا أقام فيه

62

{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} كما يسمعون في الدنيا. واللغو: فحش القول، والباطل من الكلام الذي لا فائدة فيه {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} أي صباحاً ومساءً. والمعنى: أن رزقهم في الجنة دائم أبداً لا ينقطع؛ والجنة ليس فيها نهار وليل؛ بل هي ضوء ونور دائمان

64

{وَمَا نَتَنَزَّلُ} أي ما ننزل {إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} لنا بالنزول، وليس النزول وفقاً لإرادتنا ومشيئتنا. أو لا ننزل إلا حاملين أمر ربك لك. وهذا من قول جبريل عليه الصلاة والسلام للنبي حين استوحش له، وطلب منه الإكثار من زيارته، أو هو من قول المتقين عند دخولهم الجنة. أي ما ننزل الجنة بعملنا؛ بل بأمر ربنا وفضله

65

{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} داوم عليها {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} شبيهاً في القدرة، والقوة، والرحمة

66

{وَيَقُولُ الإِنْسَانُ} الكافر، المنكر للبعث {مَا مِتُّ لَسَوْفَ} وصار جسمي عظاماً نخرة، ورفاتاً مبعثرة {لَسَوْفَ أُخْرَجُ} من قبري {حَياً} كما كنت في الدنيا

68

{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} أي نجمعهم يوم القيامة مع الشياطين الذين أطاعوهم، واتبعوا إضلالهم {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} جاثين باركين على الركب؛ وهو نهاية الإذلال

69

{ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ} لنخرجن {مِن كُلِّ شِيعَةٍ} أمة وجماعة {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} أي أشد جرأة على الله تعالى، وانتهاكاً لحرماته

70

{أَوْلَى بِهَا} أحق بجهنم {صِلِيّاً} دخولاً

71

{وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} المراد بالورود: الدخول؛ فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً؛ كما كانت على إبراهيم

72

{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} نتركهم في النار باركين على ركبهم. وقيل: المراد بالورود: دخول الكافر فيها، ومرور المؤمن عليها؛ ليؤمن بالعذاب الأليم: من آمن بالنعيم المقيم

73

{قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} نحن أم أنتم {خَيْرٌ مَّقَاماً} إقامة في الدنيا {وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} بمعنى النادي؛ وهو مجتمع القوم: يتحدثون فيه ويتسامرون. أي نحن كنا أحسن حالاً منكم قال تعالى رداً عليهم وعلى أمثالهم

74

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ} أمة من الأمم الماضية {هُمْ أَحْسَنُ} من هؤلاء المكذبين المتعالين {أَثَاثاً} مالاً ومتاعاً {وَرِءْياً} منظراً وهيئة

75

{قُلْ} لهم يا محمد {مَن كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ} منغمساً فيها، مستمرئاً لها. و «الضلالة» الكفر {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ} في كفره، وفي عمره، وفي رزقه، وفي ولده، وفي ماله {مَدّاً} طويلاً في الدنيا؛ يستدرجه به (انظر آية 24 من سورة ص) {حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} ما أوعدهم به رسولهم {إِمَّا العَذَابَ} في الدنيا: بالقتل، والأسر، والقحط {وَإِمَّا السَّاعَةَ} القيامة؛ المشتملة على جهنم المعدة لهم {فَسَيَعْلَمُونَ} حينئذٍ {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً} أهم أم المؤمنون؟ {وَأَضْعَفُ جُنداً} وجندهم الشياطين، وجند المؤمنين الملائكة المكرمون

76

{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} الطاعات؛ يبقى ثوابها لصاحبها {وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} خير مرجعاً وعاقبة

77

{وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} معتمداً على فنه وقوته؛ ولم يعتمد على ربه ومشيئته

78

{أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} أي هل اطلع على الغيب؛ فعلم أنه سيؤتى المال والولد {أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} بأن يؤتيه كل ما يريد

79

{كَلاَّ} أي لن يؤتى المال والولد كما زعم: معانداً ربه. و «كلا» لم تجىء في النصف الأول من القرآن الكريم، وجاءت في ثلاثة وثلاثين موضعاً في النصف الأخير منه؛ وهذه أولاها. وهي تجيء بمعنيين: أحدهما: حقاً؛ ويكون متعلقاً بما بعده. وثانيهما: بمعنى: لا؛ ويكون متعلقاً بما قبله. وقد تحتمل المعنيين معاً في بعض المواضع: كهذا الموضع الذي نحن بصدده؛ فيجوز أن يكون المعنى: لا، لم يطلع على الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهداً. ويجوز أن يكون المعنى: حقاً {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} لنعاقبه عليه. والمعنى الأول أوضح، وأجدر بالاتباع. وقال الفراء: «كلا» حرف رد؛ فكأنها نعم، ولا؛ في الاكتفاء، وإن جعلتها صلة لما بعدها: لم تقف عليها؛ كقوله تعالى {كَلاَّ وَالْقَمَرِ} وقال الأكثرون: لا يوقف على «كلا» في جميع القرآن؛ لأنها جواب؛ والفائدة تقع فيما بعدها {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً} نزيده عذاباً فوق العذاب

80

{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أي نورثه جزاء ما قاله من الكبر والكفر، أو نسلبه يوم القيامة ما آتيناه في الدنيا من مال وولد {وَيَأْتِينَا -[374]- فَرْداً} منفرداً، بغير مال، ولا ولد، ولا معين

81

{وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً} يعتزون بهم، ويشفعون لهم عند ربهم

82

{كَلاَّ} لن تتحقق أمانيهم؛ بل {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} أي ستكفر هذه الآلهة بمن عبدها {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} يوم القيامة؛ إذ يتبرأون منهم ومن عبادتهم

83

{تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} تغريهم إغراء، وتهيجهم تهييجاً؛ لأن الأزيز: شدة الغليان

84

{إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} أي نعد لهم ذنوبهم، لنعاقبهم عليها {وَفْداً} جماعة: ركباناً

86

{وِرْداً} جمع وارد؛ وهو الماشي العطشان، الباحث عن الماء

87

{إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} بطاعته وإيمانه؛ فاستوجب رحمته ونعمته

89

{لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} أي عظيماً منكراً

90

{يَتَفَطَّرْنَ} يتشققن {فَرْداً} منفرداً؛ لا أهل معه، ولا مال، ولا ولد {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} مودة في قلوب العباد: يحبهم الله تعالى، ويحببهم إلى الناس

97

{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} أي القرآن بلسانك العربي: لتستطيع تبليغه وتفهيمه {وَتُنْذِرَ} تخوف {قَوْماً لُّدّاً} شديدي الخصومة؛ من اللدد: وهو التخاصم، والجدال بالباطل

98

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ} أمة {هَلْ تُحِسُّ} تجد {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} صوتاً؛ ولو خفياً.

سورة طه

سورة طه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{طه} هو اسم من أسمائه. وقيل: بمعنى: يا رجل. وقيل: يا حبيبي؛ بلغة عك. وقيل: هو بمعنى: طأها؛ أي طإ الأرض يا محمد. وقد كان - لكثرة قيامه بالليل - يرفع رجلاً ويحط أخرى

2

{مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} أي لتتعب نفسك في العبادة، ولتذهبها حسرات إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً

5

{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} استواء يليق به؛ لا كاستواء المخلوقين: لأن الديان، يتقدس عن المكان؛ وتعالى المعبود، عن الحدود

7

{وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أي يعلم السر، وما هو أخفى منه؛ وهو الذي يخطر بالبال

8

{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى} لفظاً ومعنى (انظر آيتي 180 من سورة الأعراف، و110 من سورة الإسراء)

10

{فَقَالَ لأَهْلِهِ} أي لامرأته؛ وهي ابنة شعيب عليهما السلام {إِنِّي آنَسْتُ} أي أبصرت {نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ} القبس: قطعة من النار {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} أي أناساً يهدونني الطريق

11

{فَلَمَّآ أَتَاهَا} أي أتى موسى النار {نُودِيَ يمُوسَى *

12

إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} المطهر {طُوًى} اسم للوادي؛ وهو بالشام

13

{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} من بين سائر خلقي؛ لحمل رسالتي {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} أي لما أوحي به إليك

14

{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} فاعلم أنه {لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِي} وحدي {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} أي لتذكرني فيها، أو لأذكرك في عليين إذا أقمتها، أو إذا نسيتها وتذكرت فصلِّ؛ قال سيد الخلق عليه الصلاة والسلام: «من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها؛ فإن الله عز وجل يقول: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ}

15

{إِنَّ السَّاعَةَ} القيامة {آتِيَةٌ} لا ريب فيها {أَكَادُ أُخْفِيهَا} من نفسي؛ وقد أخفاها الله تعالى عن رسله، وأنبيائه؛ بل عن ملائكته المقربين؛ وفيهم من يقوم بالنفخ في الصور، وطي السماء، وتسيير الجبال، وتسجير البحار، وتسعير الجحيم، وإزلاف الجنة

16

{فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} أي لا يصرفنك عن الإيمان بها {مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا} من الكفرة الفجرة {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} أطاع نفسه وشيطانه (انظر آية 176 من سورة الأعراف) {فَتَرْدَى} فتهلك

22

{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} ضع كفك اليمنى تحت إبطك الأيسر؛ مكان الجناح -[377]- {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي بياضاً نورانياً، لا بياضاً مرضياً؛ كبرص ونحوه {آيَةً أُخْرَى} أي معجزة أخرى لك، وآية دالة على نبوتك، والآية الأولى: العصا وانقلابها حية

23

{لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا؛ لتجابه بها فرعون إمام أهل البغي والكفر أي وسعه، ونوره بالإيمان والنبوة

26

{وَيَسِّرْ لِي} سهل لي {أَمْرِي} الذي كلفتني بالقيام به

27

{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي} أي قوِّ حجتي، وأيدني بالأدلة والبراهين. وقيل: كانت به لثغة من جمرة وضعها في فيه وهو صغير

29

{وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي} الوزير: المؤازر. وسمي الوزير وزيراً: لأنه يؤازر السلطان، ويحمل عنه وزره

31

{اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}: القوة والضعف؛ أي قوِّ به ضعفي. والأزر أيضاً: الظهر

36

{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يمُوسَى} أي أجيب طلبك الذي سألتنا إياه

37

{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} قبل هذه: بإنجائك من فتك فرعون بك

38

{إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ} مناماً أو إلهاماً

39

{أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} وهو الصندوق {لِلَّهِ} اقذفي الصندوق في نهر النيل {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} هو أمر منه تعالى للنيل بأن يلقي التابوت بموسى على الشاطىء {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي} هو مدعي الألوهية فرعون {وَعَدُوٌّ لَّهُ} عدو لموسى أيضاً؛ لأن من عادى الله تعالى؛ فقد عادى أولياءه؛ ولأن موسى أظهر كفره وكذبه على ملإ من قومه: الذين يؤمنون به ويؤلهونه {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} وقد أحبه كل من رآه؛ حتى فرعون - الذي أمر بقتله وقتل أمثاله - أحبه أيضاً {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أي لتربى على رعايتي وحفظي لك

40

{فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ} كما وعدناها {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} -[378]- {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} (انظر آية 15 من سورة القصص) و «الغم»: القصاص. وقيل: «الغم»: القتل {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} أي ابتليناك ابتلاء، واختبرناك اختباراً. أو هو بمعنى: محصناك تمحيصاً؛ لتكون أهلاً لمحبتنا ورسالتنا. من فتن الذهب: إذا امتحنه بالنار، وخلصه من الشوائب {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ} على تقدير مني، وموعد

41

{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} اصطفيتك واخترتك لرسالتي

42

{وَلاَ تَنِيَا} لا تقصرا

44

{فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} لطيفاً. انظر - أيها اللبيب الأريب - كيف يعلم الله تعالى عباده حسن الخلق، وكمال الأدب: يرسل موسى وهرون عليهما السلام - وهما أزكى المقربين، في ذلك الحين - إلى فرعون اللعين - وهو شر الأشرار، وأفجر الفجار - ويقول لهما: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} وانظر الآن حينما يلقاك أحد المتنطعين؛ ويحب أن يتظاهر بأنه أول الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر؛ فيبدأ بنسبة الكفر إليك - وهو إلى الكفر أقرب - ويصفك بأحط الصفات، وأرذل السمات - وهو المبغوض عندالله، المرذول عند الناس - فما ضر هؤلاء لو تخلقوا بأخلاقالله، واتبعوا هداه؛ وقالوا للناس حسناً، ونصحوا عباد الله لوجهالله؛ ولكنهم والعياذ ب الله {يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} تلى قوله تعالى: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} عند يحيىبن معاذ: فبكى، وقال: هذا رفقك بمن يقول: إنا إله؛ فكيف بمن قال: أنت الإله وهذا رفقك بمن قال: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى} فكيف بمن قال: سبحان ربي الأعلى أي أطلقهم من الاستعباد والاسترقاق

50

{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ} أي أعطى كل مخلوق ما يحتاج إليه في أحواله المعيشية، وما يناسبه من الهيئة والانسجام. أو أعطى خلقه كل شيء يحتاجون له، يفترقون إليه {ثُمَّ هَدَى} أي بعد أن أعطى كل شيء خلقه: هداه لما يصلحه؛ فترى الإنسان يخرج إلى هذه الدنيا لا يدري من أمورها شيئاً؛ فيلهم العلوم، والمعارف، والفنون، ويدرك من خواص الأشياء وطبائعها الشيء الكثير؛ مما لا يستطيع إدراكه ومعرفة كنهه بقوته الفطرية؛ وإن شئت فتأمل الحاكي «الفوتوغراف» والمذياع «الراديو» والتليفزيون، واللاسلكي، والكهرباء، وما شاكل ذلك من القوى التي ساق الله تعالى معرفتها إلى البشر بطريق المصادفة حيناً، والإلهام أحياناً؛ بل منها ما لا يدرك مداه، ولا تعرف حقيقته؛ حتى لصانعيه ومستخدميه وترى الحيوان الأعجم حين يولد: يعرف أن رجليه معدتان لحمله؛ فيقوم عليها واقفاً، وأن فمه معد للأكل؛ فيتناول به طعامه. ومن عجب أنه يعرف الطريق إلى ثدي أمه بغير مرشد ولا هاد وترى كل مولود يولد؛ إذا لم تربط سرته مات

لساعته؛ فمن يربط للوحوش في الفلوات؟ إن الهادي يهديها، والرشيد يرشدها: فتقطع سرة مولودها بأسنانها؛ بعد أن تترك جزءاً كافياً لحفظ حياته. وهكذا الكلاب والهررة وأشباهها. وترى النحلة وقد اهتدت إلى طعامها وشرابها فالتهمت من الزهرة رحيقها، دون أن تتلفها، ومن الثمرة صفوتها دون أن تنقصها، وبعد ذلك تتجه إلى خليتها - من غير أن تضل عنها - فتفرغ فيها العسل؛ بعد أن تعد له أوعيته من الشمع بشكل أنيق، ونظام دقيق وكل ذلك بهداية الهادي القدير جل شأنه، وعز سلطانه وفوق كل هذا فإن النوع الإنساني يعتبر واحداً بين ملايين الأنواع التي تزخر بها هذه الأرض التي تعتبر من أصغر الكواكب المخلوقةلله تعالى. وبعض هذه الأنواع يعيش معنا فنراه ويرانا، وبعضها ينتشر بيننا فلا نراه؛ لتناهيه في الصغر والدقة، وأنواع أخرى لا يحصيها سوى خالقها: بعضها في أعماق الماء، وبعضها في عنان السماء، وبعضها تحت الثرى، وبعضها فوق الذرى؛ وبعضها في بطون الصخور؛ كل أولئك يسيرها الخالق القدير، وينظمها {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}. ولا شك أن هناك أنواعاً أخرى - تعد بالملايين - لم ندر من أمرها شيئاً، ولم يصل إلى علمنا بصيص من معرفتها، ولا ندري كيف تحيا، وكيف تعيش. والنوع الإنساني يعيش بين هذه الملايين كفرد في هذه المجموعة الضخمة من الأحياء وهذه المخلوقات - التي لا عداد لها - يتنازعها حب البقاء، والتشبث بالحياة؛ شأن بني الإنسان تماماً؛ ولو ترك أحدها على سجيته ونما على طبيعته لضاقت به الأرض بما رحبت، ولما وسعه هذا الكوكب الكبير الصغير. وكل واحد من هذه المخلوقات - صغيرها وكبيرها، عظيمها وحقيرها - له رسالة قائم بأدائها؛ رسمها له النافع الضار، اللطيف الخبير وقد لا يدرك الإنسان أهمية هذه الرسالة؛ ولكن الخالق الأعظم يراها لازمة لزوم الماء والهواء؛ ليسير بنا وبغيرنا ركب الحياة. وهناك نظام دقيق للتوازن الحيوي بين سائر المخلوقات؛ وضعه المبدع الحكيم فلو ترك ذكر واحد وأنثى واحدة من الذباب؛ وعاش نسلهما، وتناسل هذا النسل - لمدة ستة شهور فحسب - لغطى الذباب سطح الكرة الأرضية بعمق سبعة وأربعين قدماً. وما يقال عن الذباب؛ يقال أيضاً عن الجراد والنمل وغيرهما. فلم نر جحافل الجراد الضخمة، وأسراب

النمل العظيمة، أو جيوش الذباب الجرارة، غطت مساحة الكرة الأرضية وزاحمت بني الإنسان في مكانه منها وذلك لأن الله تعالى قد أعد لكل شيء عدته؛ حتى تتوازن سائر الأحياء بعضها مع البعض؛ دون أن يطغى نوع على الآخر؛ فتفسد بذلك أسباب العمران ويأتي دور الإنسان - الذي يعتبر نفسه بحق سيداً على المخلوقات الأرضية - فيحاول بشتى الوسائل إبادة كل ما يعترضه من هذه الكائنات؛ فلا يكاد يبيد نوعاً من الأنواع؛ إلا ويفاجأ بأنواع أخرى من سلالته؛ يضيفها الإنسان إلى قائمة ما يصارع؛ حتى تكاثرت عليه الأعداء، وعز الداء. فمن بكتريا وفيروسات، إلى طحالب وفطريات، إلى هوام وحشرات، إلى كواسر وحيوانات، إلى ما لا حد له من المخلوقات؛ التي أخرجها مبدع الأرض والسموات ولكل نوع من هذه الأنواع أعداء - غير بني الإنسان - خاصة به، أوجدها الله تعالى لتحفظ توازنه، وتحد من تكاثره؛ فللجراد أعداء، وللنمل والذباب والبعوض أعداء، وللجرذان والحيات والعقارب أعداء؛ وإذا لم توجد هذه الأعداء، أو قل شرها: لكان النوع نفسه عدواً لنفسه؛ فإذا تكاثر الجراد مثلاً وزاد عن الحد المرسوم: قل الغذاء؛ فيتصارع النوع فيما بينه، ويقتل بعضه بعضاً؛ بل ويأكل بعضه بعضاً. وما يقال عن الجراد يقال عن الهوام والحشرات، والبكتيريا والفيروسات. حتى النباتات: يسري عليها قانون التوازن الذي يسري على سائر المخلوقات: فإذا ناءت بعض الأشجار بحملها: تخلصت من بعض أزهارها وثمارها، وتخففت من ثقلها؛ خشية أن يتلف بعضها البعض، أو تهلك الشجرة نفسها. وهذا القانون السماوي: ملموس مشاهد في كل الأوقات، وسائر الحالات؛ فتجد مثلاً دودة القطن؛ وقد عاثت به فساداً حتى أهلكته وأتلفته؛ فلم نسمع يوماً ما أن هذا العيث، أو ذلك الفساد؛ كان سبباً في عري الإنسان، ونقصان ما اختصه الله به من نعمة الستر واللباس؛ بل هو في ظاهره فساد وإفساد، وفي باطنه وحقيقته: نظام عجيب، وتوازن دقيق وهكذا الإنسان: تحل به الرزايا، وتحيط به البلايا؛ وتجتاحه الأوبئة والطواعين، وتنيخ عليه الحروب بكلكلها؛ وهو بين كل ذلك متضجر متململ؛ لا يدري أن جميع ذلك يسير بحكمة الحكيم العليم؛ الذي قدر كل شيء، وأعطى كل شيء حقه وخلقه؛ فتعالى المبدع الحكيم (انظر آية 251 من سورة البقرة)

53

{مَهْداً} فراشاً {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} طرقاً {أَزْوَاجاً} أصنافاً {مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى} مختلفة ومتنوعة

54

{إِنَّ فِي ذلِكَ} أي إن في جعل الأرض مهاداً، وشق الطرق فيها والعلامات، وإنزال الماء من السماء، وإخراج النبات من الأرض؛ لأكلكم ورعي أنعامكم؛ إن في جميع ذلك {لآيَاتٍ} دالات على وجود الخالق الحكيم المبدع {لأُوْلِي النُّهَى} ذوي العقول

55

{مِّنْهَا} أي من الأرض {خَلَقْنَاكُمْ} خلقنا أصلكم آدم عليه السلام من تراب {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} بعد الموت {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ} عند البعث {تَارَةً} مرة

56

{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ} أي أرينا فرعون {آيَاتِنَا كُلَّهَا} الدالة على صدق موسى، وصحة رسالته {فَكَذَّبَ} بها {وَأَبَى} أن يؤمن {قَالَ} فرعون لموسى {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا} سمى عدو الله المعجزة سحراً؛ وشتان بين المعجزة والسحر

58

{مَكَاناً سُوًى} مستوياً؛ ليرانا سائر من يحضرنا؛ ويشهدوا دلائل صدقنا وكذبك وقد توهم عدو الله أنه منتصر على حق موسى بباطله، وعلى آياته بسحره

59

{قَالَ} موسى؛ وهو مطمئن إلى حجته، واثق بمعونة ربه {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} هو يوم العيد؛ لأنهم يتزينون فيه {وَأَن يُحْشَرَ} يجتمع {النَّاسُ ضُحًى} أول النهار؛ وقد اختار موسى هذا اليوم: لتكون فضيحة فرعون أكبر، وخزيه أعظم؛ أمام ملإ كبير من شيعته وعبدته

60

{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ} انصرف وأعرض عن موسى: ليعد عدته، ويأخذ أهبته {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} أي جمع سحرته الذين ظن أنهم يستطيعون كيد موسى

61

{قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ} أي جعل الله تعالى الويل والعذاب لكم {فَيُسْحِتَكُم} يهلككم

62

{فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} قال بعض السحرة للبعض الآخر: إن كان موسى ساحراً غلبناه. وإن كان أمره من السماء غلبنا {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى} أي تشاوروا في السر متناجين. قال بعضهم: ما هذا بقول ساحر

63

{قَالُواْ} أي قال فرعون وشيعته للسحرة الذين جمعهم، أو قال السحرة لبعضهم {إِنْ هَذَانِ} يقصدون موسى وهرون {لَسَاحِرَانِ} أي ما هذان إلا ساحران {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} أي بعبادتكم الحسنة

64

{فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} أي أحكموا أمركم واستعدوا لعدوكم {ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً} مجتمعين متساندين ليحصل لموسى وهرون الرعب، ويدب في نفسيهما الخوف {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} غلب وفاز. فجاءوا صفاً كما أمرهم فرعون، و {قَالُواْ يمُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ} سحرك، أو عصاك؛ وذلك لأنهم كانوا قد سمعوا بها

66

{قَالَ بَلْ أَلْقُواْ} أنتم أولاً. فألقوا ما معهم من الحبال والعصي {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا} حيات {تَسْعَى} تمشي وتتحرك

67

{فَأَوْجَسَ} أحس {فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى} أي لم يبد عليه الخوف؛ بل كان -[382]- إحساساً كامناً في نفسه

68

{قُلْنَا} لموسى عن طريق الوحي {لاَ تَخَفْ} مما تراه {إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى} الغالب الفائز

69

{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} عصاك {تَلْقَفْ} تبتلع {وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} بسحره؛ فألقى موسى عصاه فابتلعت حبالهم وعصيهم وحين رأى السحرة ما حل بسحرهم؛ علموا أن ما صنعه موسى ليس من نوع السحر الذي يمارسونه؛ بل هو من المعجزات الظاهرات؛ التي لا يستطيع مخلوق الإتيان بها، بغير معونة من الخالق

70

{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً} بدافع من إيمانهم واقتناعهم؛ وبدافع خفي من مولاهم وهاديهم وخالقهم؛ ليرى فرعون فساد عمله، وضعف عماله؛ ورفع جل شأنه السحرة من مصاف الكفار الفجار، إلى مصاف المؤمنين الأبرار {قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} وكفرنا بفرعون

71

{قَالَ} فرعون للسحرة؛ حين رأى هزيمته المنكرة، وأحس بتصدع أركانه، وانهيار بنيانه قال لهم {آمَنتُمْ لَهُ} استفهام؛ أي أآمنتم لموسى {قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ} بالإيمان {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ} أي إن موسى رئيسكم في السحر، وهو {الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} من قبل {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ} أي اليد اليمنى، والرجل اليسرى، أو العكس {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ} أنا وموسى، أو أنا ورب موسى {أَشَدُّ عَذَاباً} أي أشد تعذيباً لكم {وَأَبْقَى} وأدوم

72

{قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ} لن نختارك، أو نفضلك {عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} بعد الذي شاهدناه من الحجج الظاهرات؛ الدالات على صدق موسى وكذبك، وقدرة إلهه وعجزك {وَالَّذِي فَطَرَنَا} خلقنا. أي و «لن نؤثرك» أيها الفاسق الكافر على «الذي فطرنا» أو هو قسم أي «لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات» وحق الذي فطرنا {فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ} فافعل ما أنت فاعل {إِنَّمَا تَقْضِي} قضاءك الظالم في {هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَآ} الفانية؛ أما الآخرة الباقية فلا سبيل لك عليها؛ وسيقضي لنا الله تعالى فيها بنعيمه الأوفر، ورضوانه الأكبر؛ حيث يقضي عليك بالجحيم والعذاب الأليم

73

{إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} أي ليغفر لنا ذنوبنا التي ارتكبناها حال جهلنا وكفرنا، والسحر الذي أكرهتنا على إتيانه

74

{لاَ يَمُوتُ فِيهَا} فيرتاح {وَلاَ يَحْيَى} حياة تنفعه وتفيده

76

{جَنَّاتُ عَدْنٍ} جنات الإقامة {وَذلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى} تطهر من الشرك والذنوب

77

{أَسْرِ بِعِبَادِي} أي سر بهم ليلاً {فَاضْرِبْ لَهُمْ} بعصاك {فِي الْبَحْرِ} يجعل الله تعالى مكان ضربك بالعصا {يَبَساً} يابساً في وسط الماء؛ تستقر عليه الرجل عند المشي {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً} لا تخشى إدراكاً من عدوك

78

{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ} سار في إثرهم في هذا الطريق اليابس؛ الذي جعله الله تعالى آية لموسى، وعذاباً لفرعون {فَغَشِيَهُمْ} أصابهم وغطاهم {مِّنَ الْيَمِّ} البحر {مَا غَشِيَهُمْ} أي -[383]- غشيهم الأمر العظيم، والخطر الداهم الذي غشيهم

80

{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} هما الترنجبين والسماني. أو هو كل ما يمن به من أطايب الرزق، وما يتسلى به من المأكول والفاكهة؛ وقلنا لهم

81

{كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي من الرزق الحلال الطيب الذي رزقناكموه (انظر آيتي 172 من البقرة، و58 من الأعراف) {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} لا تكفروا بالنعمة، ولا تدخلوا فيما طعمتم الشبهات {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} سقط في العذاب

82

{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى} أي إن من شرائط الغفران: التوبة، والإيمان، والعمل الصالح، والاهتداء

83

{وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يمُوسَى} أي أي شيء حملك على أن تسبقهم، وتدعهم عرضة للأهواء وقد كان موسى عليه الصلاة والسلام أقام هرون على بني إسرائيل؛ على أن يسير بهم في إثره

84

{قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي} أي ها هم سائرون خلفي، أو هم منتظرون عودتي إليهم بأوامرك {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} طالباً لمرضاتك، مشتاقاً لملاقاتك

85

{قَالَ} تعالى {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ} اختبرناهم وامتحناهم {مِن بَعْدِكَ} بعد فراقك لهم {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} هو موسىبن ظفر: كان منافقاً؛ وقد أضلهم بدعوتهم إلى عبادة العجل

86

{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} أي حزيناً؛ والأسف: الحزن، والغضب. قال تعالى: {فَلَمَّآ آسَفُونَا} أي أغضبونا

87

{قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} بقدرتنا، أو بأمرنا {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ} أي أثقالاً من الذهب والفضة {فَقَذَفْنَاهَا} طرحناها في النار {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} الحلي التي معه؛ كما ألقينا

88

{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً} أي صنع لهم السامري عجلاً من ذهب {لَّهُ خُوَارٌ} صوت كصوت البقر. قيل: صنع به ثقوباً وفتحات؛ إذا دخلها الهواء صار له صوت كالخوار. وقيل: دبت في العجل الحياة؛ بسبب قبضة التراب التي أخذها السامري من أثر جبريل عليه الصلاة والسلام وألقاها على العجل الذهبي {فَقَالُواْ} أي السامري وأصحابه لقوم موسى {فَنَسِيَ} أي فنسي السامري ما كان عليه من إظهار الإيمان. أو المراد: هذا العجل هو إلهكم وإله موسى؛ فنسيه موسى هنا، وذهب يطلبه عند الطور، أو نسي أن يخبركم به

89

{أَفَلاَ يَرَوْنَ} عبدة هذا العجل {أَلاَّ يَرْجِعُ} أنه لا يرجع {إِلَيْهِمْ قَوْلاً} لا يرد عليهم جواباً

90

{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} أي ابتليتم وأضللتم بالعجل

91

{قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ} أي لن نزال {عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} مقيمين {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} فلما رجع موسى، ورأى ما حل بهم: اتجه إلى أخيه هرون؛ الذي استخلفه عليهم حال غيبته؛ و

92

{قَالَ} له {يهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ} عن سبيل الله، وعبدوا ما لا يعبد

93

{أَلاَّ تَتَّبِعَنِ} أي أن تتبعني، و «لا» زائدة؛ مثل قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} والمراد بالاتباع: اتباع سنته وطريقته؛ في محاربتهم والإنكار عليهم، أو المراد: تركه لهم في ضلالهم واتباع موسى

94

{قَالَ يابْنَأُمِّ} لما رأى هرون ثورة موسى، وشدة غضبه، ومزيد تأسفه على ما حدث: ذكره بمركز الحنان، ومنبع الشفقة، وأساس الحب؛ قائلاً «يا ابن أم» لا تغضب عليّ، و {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} فإني لم أخطىء، ولم أقصد بما فعلت سوى الخير والصواب {إِنِّي خَشِيتُ} إن اتبعتك بمن أقام على الإيمان ولم يعبد العجل، أو حاربت المشركين بالمؤمنين {أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ} وجعلتهم أعداء وشيعاً {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} لم تحفظ وصيتي، ولم تنتظر أمري. وقد قال له عند ذهابه لموعد ربه {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} وعندئذٍ {سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} والتفت إلى موسى السامري

95

{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يسَامِرِيُّ} أي ما شأنك؟ وما حقيقة أمرك؟

96

{قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} أي رأيت ما لم يروه. قيل: رأى جبريل عليه الصلاة والسلام على فرسه؛ فزينت له نفسه أن يأخذ من أثره؛ وهو معنى قوله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} قيل: أخذ قبضة من التراب الذي تحت حافر فرسه {فَنَبَذْتُهَا} ألقيتها على العجل المصاغ من ذهب {وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ} زينت {لِي نَفْسِي} فتحول غضب موسى عن هرون البريء؛ إلى المجرم موسى السامري

97

{قَالَ فَاذْهَبْ} من أمامي، ولا تريني وجهك {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} أي إنه أصيب - بدعاء موسى عليه: عقوبة له - بأمراض خبيثة فتاكة معدية؛ جعلت الناس تهرب من مسه؛ فإذا مسه إنسان: حم، وأصيب بالأمراض التي ابتلى بها. وقيل: إنه جن وجعل ينادي ويقول: لا مساس، لا مساس. وقيل: أمر موسى بني إسرائيل بمقاطعته: فلا يكلمه منهم إنسان، ولا يعامله، ولا يقربه {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً} للعذاب الأليم {لَّن تُخْلَفَهُ} يوم القيامة {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} العجل {الَّذِي ظَلْتَ} ظللت وداومت {عَلَيْهِ عَاكِفاً} على عبادته مقيماً {لَّنُحَرِّقَنَّهُ} لنذيبنه بالنار {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ} البحر

98

{إِنَّمَآ إِلَهُكُمُ} الحق: هو {اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} أي وسع علمه كل شيء {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}

99

{كَذلِكَ} أي كما قصصنا عليك يا محمد من نبإ موسى وفرعون {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ} من الأمم {وَقَدْ آتَيْنَاكَ} أعطيناك وأنزلنا عليك {مِن لَّدُنَّا} من عندنا {ذِكْراً} قرآناً

100

{مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} عن هذا القرآن؛ فلم يؤمن به {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} إثماً عظيماً، وحملاً ثقيلاً

102

{يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} -[385]- القرن؛ ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام بأمر ربه {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ} الكافرين {يَوْمِئِذٍ زُرْقاً} أي سوداً. وقيل: عمياً. وليس بمستبعد أن يكون ذلك كما تفعله العامة والسوقة من تلطيخ وجوههم بالصبغ الأزرق عند حلول المصائب، وتوالي الكوارث، وأي كارثة أعم من ورودهم النار؟ وأي مصيبة أطم من غضب الملك الجبار؟ أما ما ورد من أن الزرقة تكون في عيونهم؛ فيأباه وصف ما هم فيه من خزي وعار وذلة وعذاب وقبح؛ فقد تكون زرقة العيون مدحاً لا قدحاً؛ فكيف يوصف بها أقبح الناس حالاً ومآلاً؟

103

{يَتَخَافَتُونَ} يتهامسون {ق} قائلين لبعضهم {إِن لَّبِثْتُمْ} ما لبثتم في الدنيا، أو ما لبثتم في القبور {إِلاَّ عَشْراً} من الليالي بأيامها. وذلك أنهم لهول ما يرون في القيامة: يظنون أنهم ما لبثوا في الدنيا سوى عشراً وقولهم: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} لم يكن صادراً عن جنون منهم {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أي أعقلهم وأذكاهم، وأذكرهم وأفهمهم؛ يقول - لشدة ما يرى، وهول ما يكابد ويعاين ـ

104

{إِن لَّبِثْتُمْ} في الدنيا {إِلاَّ يَوْماً} واحداً؛ يستقلون أيام الدنيا - على ما نالوا فيها من شهوات وملذات - وقد فعلوا فيها ما فعلوا، وارتكبوا فيها ما ارتكبوا؛ مما أوردهم هذا المورد، وأوقفهم هذا الموقف

106

{قَاعاً} منبسطاً {صَفْصَفاً} مستوياً

107

{وَلا أَمْتاً} أي ولا ارتفاعاً

108

{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} الملك الذي يدعوهم إلى المحشر: هلموا إلى عرض الرحمن فهم اليوم يتبعون مكرهين داعي الرحمن للعذاب، وبالأمس لم يستجيبوا لداعي النجاة والثواب {لاَ عِوَجَ لَهُ} أي لا مناص من إجابة الداعي واتباعه، أو «لا عوج» لدعائه

109

{يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} أن يشفع: من النبيين، والملائكة، والصالحين. وقيل: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} أن يشفع فيه. (انظر آية 255 من سورة البقرة)

110

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ما يؤول إليه حالهم وأمرهم في الآخرة {وَمَا خَلْفَهُمْ} وما خلفوه وراءهم من أمر الدنيا

111

{وَعَنَتِ} خضعت وذلت {الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنه الاسم الأعظم {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} من ارتكب إثماً

112

{وَلاَ هَضْماً} ولا جوراً

113

{أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ} القرآن {ذِكْراً} تذكيراً بما حدث للسابقين من المكذبين

114

{وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} أي بقراءته {مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أي من قبل أن يفرغ جبريل عليه السلام من إبلاغه إليك

115

{وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىءَادَمَ} أوحينا إليه، وأوصيناه ألا يأكل من الشجرة {فَنَسِيَ} وأكل منها {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} صبراً وحزماً، وثباتاً على التزام الأمر

117

{فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا} أي لا تستمعا إليه؛ فيخرجنكما من الجنة بسبب وسوسته

119

{وَلاَ تَضْحَى} أي ولا تتعرض فيها لحر الشمس {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً}

120

{شَجَرَةِ الْخُلْدِ} التي من أكل منها: يخلد ولا يموت {وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى} لا يفنى

121

{فَأَكَلاَ مِنْهَا} أي من الشجرة التي نهاهما الله تعالى عن قربها {بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} عوراتهما. والسوأة: كل ما يسوء الإنسان كشفه {وَطَفِقَا} وجعلا {يَخْصِفَانِ} يلزقان {عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} قيل: هو ورق التين {وَعَصَىءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} أي ضل عن الرأي وجهل. وقيل: أخطأ. وليس المراد العصيان والغيّ بمعناهما المتعارف؛ بدليل قوله تعالى في آية سابقة {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} وبالجملة فإن الله تعالى يصح أن يوجه لأوليائه، وأنبيائه وأصفيائه؛ ما لا يصح أن نوجهه نحن لهم؛ كما أن الملك يخاطب وزراءه بلهجة الآمر، والزاجر؛ وهو ما لا يجوز أن يخاطبهم به سائر أفراد الرعية؛ وليس لكائن من كان أن يقول: إن آدم عاص، أو غاو؛ فمثل هذا القول كفر، أو هو بالكفر أشبه

122

{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} اختاره {فَتَابَ عَلَيْهِ} غفر له {وَهَدَى} هداه إلى الطريق الموصل إليه (انظر آية 23 من سورة الأعراف)

123

{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا} أي من الجنة {جَمِيعاً} أنت وحواء، وما اشتملتما عليه من الذرية، أو «اهبطا» أنت وإبليس {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي بعض ذريتكم، للبعض الآخر عدو، أو «بعضكم» إبليس وذريته «لبعض» أنت وذريتك {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم} فإن يأتكم {مِّنِّي هُدًى} كتاب، وشريعة {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ} في الدنيا {وَلاَ يَشْقَى} في الآخرة؛ وهو جزاء من الله، لمن اتبع هداه

124

{أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} كتبي المنزلة {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} شديدة، ولو كان في يسر، ضيقة ولو كان في وسع وذلك لأن الله تعالى جعل مع الإيمان: القناعة، والتسليم، والاطمئنان، والرضا، والتوكل؛ فالمؤمن مسرور دائماً في سائر حالاته، راض عن مولاه، مطمئن لعاقبته: عيشه رغيد؛ ولو لم ينل سوى الخبز قفاراً، وقلبه سعيد؛ ولو انسابت عليه الهموم أنهاراً ويصدق عليه دائماً قول ربه تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} كما جعل تعالى مع الكفر والإعراض عنالله: الحرص، والشح، وعدم الرضا، وانشغال البال، والطمع، والجشع؛ فالكافر دائماً طالب الزيادة؛ ولو أوتي مال قارون، قابض اليد؛ ولو انصب عليه المال انصباباً، كاره لمن حوله؛ ولو بذلوا النفوس في طاعته؛ فعيشه ضنك شديد، وحياته كرب دائم، وحزن قائم؛ وحق عليه قول ربه جل شأنه: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} وقيل المعيشة الضنك: عذاب القبر. وقيل: هي جهنم؛ ويدفع هذا المعنى قوله تعالى:

127

{وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} مما يدل على أن ما تقدم يكون -[387]- في الدنيا أو في القبر؛ أعاذنا الله تعالى من غضبه بمنه ورحمته {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى} عن الحجة، أو أعمى البصر: تتقاذفه الأرجل في المحشر {وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} أي تنسى من النعيم والرحمة؛ كما نسيت آياتنا، وتركت العمل بها {وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} أشرك، أو جاوز الحد في العصيان

128

{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ} الأمم {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} أي أفلم يتبين لهم، أو أفلم يرشدهم ويدلهم إهلاك من مضى قبلهم من القرون؛ وقد رأوا مساكنهم ومشوا فيها: فيهتدوا إلى طريق الحق والصدق؛ بأن يؤمنوا ب الله ورسوله. وقيل: «أفلم يهد لهم» أي الله تعالى؛ يدل عليه قراءة بعضهم «أفلم نهد لهم» {إِنَّ فِي ذلِكَ} المذكور، أو ذلك المشي في مساكن الأمم السابقة المكذبة؛ ورؤية ما حل بها من هلاك وتدمير إن في جميع ذلك {لآيَاتٍ} لعبراً وتذكيراً {لأُوْلِي النُّهَى} لذوي العقول

129

{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} بتأخير العذاب عن المكذبين من أمتك إلى يوم القيامة {لَكَانَ لِزَاماً} أي لكان العذاب لازماً، ولزاماً عليهم؛ وقت ارتكابهم الآثام في الدنيا

130

{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} إشارة إلى الصلوات الخمس: {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} صلاة الفجر {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} صلاة العصر {وَمِنْ آنَآءِ الْلَّيْلِ} ساعاته {فَسَبِّحْ} فصلّ. والمراد بها صلاتا المغرب والعشاء {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} صلاة الظهر؛ لأن وقتها يدخل بزوال الشمس والزوال: طرف النصف الأول، وطرف النصف الثاني من النهار. وقيل: المراد بالآية: صلاة التطوع. والذي أراه: أنه ذكر الله تعالى، وتسبيحه، وتمجيده في كل وقت وحين: قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، وآناء الليل، وأطراف النهار؛ فقد اشتملت هذه الأوقات سائر النهار والليل {لَعَلَّكَ} بمواظبتك على العبادة، وتمسكك بمرضاة الله تعالى {تَرْضَى} أي يثيبك الله تعالى حتى ترضى. وقرىء «لعلك ترضى» بضم التاء؛ أو لعلك تعطى ما يرضيك

131

{وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} أصنافاً من الكفار {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} زينتها بالنبات والأقوات، والثمار والأشجار {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي لا تطل النظر والتفكر إلى ما متعنا به أصنافاً من الكفار بأنهم لا يستحقونه؛ فإنه فتنة لهم؛ ليحق عليهم العذاب {وَرِزْقُ رَبِّكَ} نعيمه في الآخرة {خَيْرٌ} مما تراه في الدنيا {وَأَبْقَى} لأنه دائم لا يفنى

132

{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} أي داوم على أدائها، والأمر بها

133

{وَقَالُواْ} أي قال المشركون {لَوْلا} هلا {يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ} معجزة مما يقترحونه. قال تعالى؛ رداً على قولهم {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ} في هذا القرآن {بَيِّنَةُ} بيان {مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} كالإنجيل، والتوراة، والزبور، وغيرها؛ مما أنزله الله تعالى. وبيان ما في هذه -[388]- الصحف: أنباء الرسل وأنباء الأمم المتقدمة، وما حل بالمكذبين منها. أي ألم يكفهم هذا معجزة لمحمد؟ وهو النبي الأمي، الذي لم يخط حرفاً، ولم يقرأ كتاباً

134

{وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ} أي أهلكنا هؤلاء السائلين، المقترحين للآيات {بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ} أي من قبل أن نرسل إليهم رسولنا محمداً {لَقَالُواْ} محتجين على هذا الإهلاك {رَبَّنَا لَوْلا} هلا {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} يهدينا إليك، ويعرفنا بك، ويوصلنا إلى طريقك {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} التي تنزلها علينا {مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ} في القيامة {وَنَخْزَى} في جهنم

135

{قُلْ كُلٌّ} منا ومنكم {مُّتَرَبِّصٌ} منتظر ما يؤول إليه الأمر {الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} الطريق المستقيم من الضلالة؛ نحن أم أنتم؟

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} أي اقتربت القيامة {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} عن هذا: سائرون في غيهم، سادرون في بغيهم {مُّعْرِضُونَ} عن ربهم

2

{مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ} قرآن {مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ} جديد في سماعه، وفي نطقه، وفي كتابته، وفي حفظه. أما القرآن - بصفته كلام الرحمن - فهو صفة قائمة بذات منزله وقائله تعالى قال البوصيري رحمه الله تعالى في بردته: آيات حق من الرحمن محدثة قديمة صفة الموصوف بالقدم

3

{لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} غافلة عن معناه {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي تكلم الكفار فيما بينهم متناجين سراً؛ قائلين {هَلْ هَذَآ} يعنون محمداً {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ} أي أتتبعون السحر الذي يأتي به؟

5

{بَلْ قَالُواْ} على الوحي الذي أوحينا به لمحمد {أَضْغَاثُ} أخلاط {أَحْلاَمٍ} أي رؤيا مختلطة لا تعبر لكونها نتجت من فساد المعدة، وأبخرة الطعام. وقالوا أيضاً {بَلِ افْتَرَاهُ} أي اختلق القرآن واخترعه. وقالوا أيضاً: {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} يقول القرآن من بديهته؛ كما تقول الشعراء الشعر من بدائههم {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ} معجزة {كَمَآ أُرْسِلَ} الرسل {الأَوَّلُونَ} كموسى وعيسى وغيرهما؛ فرد الله تعالى عليهم بقوله:

6

{مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ} كقوم صالح، وقوم موسى؛ فإنهم لم يؤمنوا رغم المعجزات والآيات؛ فعاقبناهم بالإهلاك {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} أي أفيؤمن قومك؟

7

{وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً} مثلك {نُّوحِي إِلَيْهِمْ} مثل ما أوحينا إليك؛ وهذا رد على قولهم «هل هذا إلا بشر مثلكم» {فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} أهل التوراة والإنجيل الذين آمنوا

8

{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ} أي وما جعلنا الأنبياء {جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} بل إنهم بشر أمثالكم: يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق {وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ} في الدنيا؛ بل يموتون كسائر البشر

9

{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} الذي وعدناهم بإنجائهم، وإهلاك المكذبين {فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ} من عبادنا المؤمنين {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ} المتجاوزين الحد بالكفر والتكذيب، وارتكاب المعاصي

10

{لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً} هو القرآن الكريم {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} أي شرفكم وعلوكم؛ وذلك كقوله جل شأنه «وإنه لذكر لك ولقومك»

11

{وَكَمْ قَصَمْنَا} أهلكنا. والقصم: الكسر

12

{فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ} شعروا بنزول عذابنا {إِذَا هُمْ مِّنْهَا} أي من القرية النازل بها العذاب {يَرْكُضُونَ} يهربون مسرعين {وَارْجِعُواْ إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ} أي

13

«لا تركضوا» وارجعوا إلى نعيمكم الذي كنتم فيه {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} أي لعله أن يطلب منكم الإيمان ثانية. وهو توبيخ وتقريع لهم

15

{حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً} أي كالزرع المحصود {خَامِدِينَ} ميتين؛ وهو من خمود النار: أي انطفائها

17

{مِّن لَّدُنَّآ} من عندنا

18

{فَيَدْمَغُهُ} فيذهبه {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} مضمحل ذاهب {وَلَكُمُ الْوَيْلُ} العذاب {مِمَّا تَصِفُونَ} به الله تعالى؛ من الزوجة، أو الولد، أو الشريك

19

{وَمَنْ عِندَهُ} من الملائكة {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} لا يتعبون، ولا يعيون

20

{يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} أي إن تسبيحهم متصل دائم؛ لا تتخلله فترة، ولا يشوبه ملل. والفتور: السكون بعد الجدة، واللين بعد الشدة

21

{يُنشِرُونَ} يحيون الموتى

22

{فَسُبْحَانَ اللَّهِ} تقدس وتنزه من أن يكون له شريك

23

{لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} لأنه تعالى صاحب الملك، وخالقه، ومدبره وقد جرت العادة أن يسأل الكبير الصغير؛ ولا أكبر من الله والجليل الذليل؛ ولا أجلَّ منه تعالى {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} لأنهم محط الأخطاء، ومناط التكاليف فلا حجة لأحد على الله، وله تعالى الحجة القائمة على كل أحد {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} (انظر آية 149 من سورة الأنعام)

24

{هَذَا} القرآن {ذِكْرُ مَن مَّعِيَ} أي إن القرآن ذكر أمتي، وسبيلها إلى التوحيد {وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} من الأمم السابقة؛ وفي هذا أن القرآن الكريم فيه ما في التوراة والإنجيل وسائر الكتب السابقة؛ مما يحتاجه المرسل إليهم لهدايتهم، والتعرف إلى ربهم؛ وليس في القرآن، ولا في أحد هذه الكتب تعدد الآلهة؛ بل كلها يجمع على أنه لا إله إلا الله وحده، لا إله غيره، وأنه فرد، صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد فمن أين جاءهم ما يقولونه، وما يزعمونه

26

{وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ} من الملائكة {وَلَداً} بقولهم: الملائكة بنات الله {سُبْحَانَهُ} تنزيهاً له، وتقديساً عن اتخاذ الولد {بَلِ} الملائكة {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} مطيعون له عابدون

27

{لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} الذي يريدونه؛ بل هم {بِأَمْرِهِ} الذي يريده {يَعْمَلُونَ} لا يعملون سواه

28

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ما سيحدث منهم ولهم {وَمَا خَلْفَهُمْ} ما مضى من أمرهم وأعمالهم {وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} خائفون

30

{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} سداً ملتئمتين {فَفَتَقْنَاهُمَا} شققنا السماء بالمطر، والأرض بالنبات؛ نظيره قوله تعالى: {وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} أو شق السماء والأرض فجعل كلاً منهما سبعاً، وزعم بعض الفلاسفة: أن قطعة انفصلت من الشمس - بعوامل طبيعية - فكانت أرضنا هذه؛ وهو قول لا دليل عليه غير ما زعموا؛ ومن عجب أن شايعهم بعض المحدثين في هذه القالة؛ التي ما أريد بها غير نفي وجود الله تعالى وقدرته على صنع هذه الأرض؛ وأنها لم تكن إلا بمحض الصدفة؛ كما أن الإنسان أيضاً كان بمحض الصدفة والتطور. وهو قول خبيث، له خبىء؛ ما أريد به وجه العلم؛ بل أريد به نشر الكفر، وفشو الإلحاد؛ فاحذر - هديت وكفيت - دس الملحدين ووسوسة الشياطين {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ} أي بواسطته وسببه {كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} جماداً كان أو نباتاً، حيواناً أو إنساناً

31

{وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ} جبالاً ثوابت {أَن تَمِيدَ بِهِمْ} أي خشية أن تميل الأرض وتتحرك بمن عليها {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً} مسالك {سُبُلاً} طرقاً

32

{وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً} من الوقوع، ومن عبث الشياطين {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا} أي آيات السماء وما فيها من شموس ومجرات، وكواكب وأنجم، وبروج ومنازل

33

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْلَّيْلَ} لتسكنوا فيه {وَالنَّهَارَ} لتعملوا فيه، وتبتغوا من فضله خلق {الشَّمْسَ} سراجاً وهاجاً، لمنفعة الإنسان والحيوان، والثمار والنبات خلق {الْقَمَرُ} نوراً وضياء؛ ليهتدي به الناس إلى حساب الأشهر والسنين {كُلٌّ} منها {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يسيرون في الهواء؛ كالسابح في الماء

35

{وَنَبْلُوكُم} نختبركم {بِالشَّرِّ} الفقر، والمرض، والبؤس {وَالْخَيْرِ} الغنى، والصحة، والسعادة. وهذا الابتلاء بالشر والخير {فِتْنَةً} لكم؛ لننظر أتصبرون على الشر، وتشكرون على الخير؛ أم تكفرون في أحدهما أو كليهما -[392]- {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} يوم القيامة؛ فنأجركم على الشكر والصبر، ونؤاخذكم على اليأس والكفر

36

{أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} أي قالوا: أهذا الذي يذكر آلهتكم بسوء {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} يتعجبون من ذكرك لآلهتهم بالسوء؛ وهي لا تعقل، ولا تنفع، ولا تضر؛ ويكفرون بالرحمن - عند ذكره - وهو الخالق الرازق، النافع الضار، السميع العليم

37

{خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} أي إن الإنسان لكثرة تعجله؛ كأنه خلق من عجل. وقيل: المراد بالإنسان: آدم عليه السلام؛ وأنه أراد أن يثب قبل أن تبلغ الروح رجليه: تعجلاً إلى ثمار الجنة. وقيل: «خلق الإنسان من عجل» أي من تعجيل في خلق الله تعالى إياه. والمراد بذلك: أن هذا الإنسان العجيب الخلقة، المحكم الصنع: لم يحتج إلى وقت في خلقته وصنعه؛ بل خلقه الله تعالى على عجل: بغير روية، ولا مثال {سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي} الدالة على قدرتي ووحدانيتي {فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} بإنزال العذاب الموعود

38

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} بالقيامة والثواب والعقاب

39

{حِينَ لاَ يَكُفُّونَ} وقت لا يمنعون ويدفعون

40

{بَلْ تَأْتِيهِم} الساعة {بَغْتَةً} فجأة {فَتَبْهَتُهُمْ} تدهشهم وتحيرهم {وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} يمهلون

41

{فَحَاقَ} فنزل {مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ} أي جزاءه وعقابه

42

{قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم} يحفظكم {مِّنَ الرَّحْمَنِ} من عذابه وبطشه إن أراد تعذيبكم والبطش بكم {وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} يجارون؛ كما يجير الصاحب صاحبه

44

{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ} المكذبين لك متعنا {آبَآءَهُمُ} بما أسبغناه عليهم من سعة ورزق وفير -[393]- {حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} في النعمة؛ وظنوا أنهم جديرون بها، وأنها لا تزول عنهم؛ فاغتروا بذلك، وانصرفوا عن الإيمان، وأعرضوا عن تدبر الحجج والآيات {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ} أي أرض الكفار {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ} بتمليك المسلمين لها {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} أم أنت؛ وقد أظهرك الله تعالى عليهم، وأعزك وأذلهم

45

{قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ} الذي هو من قبل الله تعالى؛ لا من قبل نفسي {وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} شبههم في عدم استماعهم للنصح: بالصم الذين لا يسمعون أصلاً، ولا يستجيبون للنذر {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ}

46

{وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ} النفحة: القدر الضئيل؛ كنفحة العطر، أو كما ينفح إنسان إنساناً بقدر من ماله

47

{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} أي الموازين العدل. وقد ذهب الأكثرون إلى أن لكل عبد ميزاناً توزن به أعماله، أو هو ميزان واحد لسائر الخلائق. والذي يبدو أنه ليس ثمة ميزان؛ وإنما أريد بالميزان: العدل. يؤيده لفظ الآية، وقوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} أي إن كان العمل وزن حبة من خردل أتينا بها وحاسبنا عليها. وحبة الخردل: مثل يضرب للقلة: لصغر هذه الحبة وخفة وزنها

48

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} التوراة؛ لأنها تفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام؛ وسمي القرآن فرقاناً لذلك. وقد يكون «الفرقان» بمعنى النصر على الأعداء؛ بدليل قوله تعالى: {وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} يعني يوم بدر؛ فيكون المعنى: ولقد آتينا موسى وهرون النصر على الأعداء، وتكون التوراة هي المعنية بقوله تعالى: {وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ} وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً} بغير واو؛ وهي قراءة مخالفة للمصحف الإمام

49

{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ} فيما بينهم وبين أنفسهم؛ لأنهم يعلمون تمام العلم بأنه تعالى مطلع على خوافيهم؛ كاطلاعه على ظواهرهم {مُشْفِقُونَ} خائفون

50

{وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} هو القرآن الكريم

51

{وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} هداه وتوفيقه

52

{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} الأصنام {الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} على عبادتها مواظبون -[394]- {فطَرَهُنَّ} خلقهن

57

{وَتَاللَّهِ} قسم {لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} أحطمها؛ قال ذلك في نفسه - بعد مجادلة قومه - وقد حطمها فعلاً

58

{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} مكسرين فتاتاً {إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ} أي صنماً كبيراً

61

{قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} أي على مرأى منهم

63

{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وأشار إلى الصنم الكبير الذي تركه من غير تحطيم. وقيل: إنه كنى بأصبعه {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} أراد عليه الصلاة والسلام أن يريهم مبلغ حمقهم وجهلهم، وأنهم يعبدون ما لا ينطقون: يعبدون من هو أقل من عابديه درجات؛ فتبارك القائل {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}

64

{فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ} أي فكروا تفكير الراجع عن رأيه، المتبصر في حجة خصمه، المؤيد لها {فَقَالُواْ} لأنفسهم {إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ} بعبادتكم الأصنام؛ لا إبراهيم الذي حطمها

65

{ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ} أي انقلبوا وعادوا إلى كفرهم؛ بعد ومضة الإيمان التي أظهرها الله تعالى لهم، وسلكها في قلوبهم: فبعد أن رجعوا إلى أنفسهم {فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ} تغلبت أنفسهم الشريرة عليهم، وسيطر عليهم إبليس بتزيينه؛ وقالوا لإبراهيم {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ} الأصنام {يِنْطِقُونَ} ونسوا أنهم بوصفهم هذا لآلهتهم: نزلوا بها إلى مرتبة أدنى من مراتبهم؛ بل أدنى من مرتبة العجماوات؛ وذلك لأن البهائم تنطق؛ وهؤلاء لا ينطقون. والبهائم تنفع وتضر؛ وهؤلاء لا ينفعون ولا يضرون

66

{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ} بل لا يستطيع نفع نفسه، ولا دفع الضر عنها: فقد استطاع إبراهيم بيده أن يوصل الضرر لسائرهم. وجعلهم جذاذاً

67

{أُفٍّ لَّكُمْ} أي قبحاً لكم؛ وهي كلمة تضجر وتكره

68

{قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ} بعد أن أقام عليهم الدليل القاطع، والبرهان الساطع؛ على فساد عباداتهم، وسخف معتقداتهم؛ يقولون هذا القول ولا بدع فالنار مثوى لهم وقد أوقدوا ناراً عظيمة؛ بلغ من عنفها وشدتها أن أحرقت الطير في جو السماء؛ ووضعوا إبراهيم في منجنيق، وقذفوا به وسط هذه النار؛ التي تذيب صلد الأحجار؛ وهنا تتجلى قدرة الجبار، ويثبت أنه وحده النافع الضار هنا يقيم القهار الدليل على وجوده لأعدائه، وعلى حفظه وكلاءته لأوليائه: فيقلب طبائع الأشياء، ويخص ما شاء بما شاء؛ كيف لا وهو ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد

69

{قُلْنَا ينَارُ} يا من طبعتك على الإحراق {كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَى} عبدي ورسولي {إِبْرَاهِيمُ} وأبدى القوي المتين: سره المكنون؛ وأن أمره بين الكاف والنون: فصارت النار المحرقة، كالرياض المونقة

70

{وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً} إيذاء بإحراقه بالنار {فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} في الدنيا والآخرة. قيل: سلط الله تعالى عليهم البعوض فأهلكهم، وشرب دماءهم، ودخلت واحدة منه في منخر رئيسهم النمرود: فصار يضرب رأسه بالحائط، ويأمر رعيته بضرب رأسه؛ حتى ينزف دماً؛ فلا يستريح، ولا يقر له قرار؛ حتى هلك بعد أن أذاقه الله تعالى الهوان والعذاب الأليم

71

{إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} وهي الشام؛ وقد باركها الله تعالى بنزول أكثر الأنبياء بها، وبكثرة الأنهار، والأشجار، والثمار

72

{وَوَهَبْنَا لَهُ} أي لإبراهيم {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} أي زيادة على ما سأل: لأنه سأل ولداً، فأُعطي اثنين

74

{وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ} هو إتيان الذكران

76

{وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ} دعا بقوله: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} وقوله: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} دعاءه، وانتصرنا له باستئصال الكافرين من قومه {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} الذين آمنوا معه

78

{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي} مسألة {الْحَرْثِ} الزرع {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} أي رعت؛ فجاء صاحب الحرث يحتكم إلى داود: فحكم لصاحب الحرث بالغنم، ولصاحب الغنم بالحرث. وذلك لأنه رأى أن قيمة الحرث - قبل رعي الغنم - تساوي سائر الغنم؛ والقاعدة أن الجاني يعوض المضرور بقدر ضرره. فلما سمع سليمان حكم أبيه داود؛ راجعه قائلاً: الرأي أن يخدم صاحب الغنم الحرث حتى ينمو الزرع كما كان، ويأخذ صاحب الحرث الغنم؛ فيستفيد من أصوافها وألبانها حتى يتسلم حرثه مزروعاً كما كان؛ فيرد لصاحب الغنم غنمه. فوافقه داود على هذا الحكم؛ ودعا له

79

{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أي فهمناه حقيقة القضية، وحسن الحكومة. وذلك لأن حكم سليمان طابت به نفس الخصمين، وعاد لكليهما ماله كاملاً غير منقوص. ومن هنا نعلم أنه لم يوفق موفق إلا بهدي من الله تعالى، ولا يحكم حاكم بعدل إلا بإرشاد منه تعالى ووحي. فكم رأينا ذكياً أخطأ، وغبياً أصاب {وَكُلاًّ} من داود وسليمان {آتَيْنَا حُكْماً} نبوة {وَعِلْماً} تبصرة بأمور الدين والدنيا. وقد أراد الله تعالى أن يرينا قدر داود عليه السلام، وأن حكمه - ولو أنه خالف الأولى - لم يغض من شأنه، أو ينقص من قدره. فقد حكم في حدود العدل الذي ارتآه؛ فلما وجد حكماً أقرب إلى العدل، وأدنى من المصلحة: أقره وأمضاه؛ لذلك كان أهلاً لما اختصه الله تعالى به، واختاره له؛ فقد سبحت الجبال معه والطير؛ بتوفيق من الله تعالى {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} يسبحن معه أيضاً: إكراماً له، وإعزازاً قال تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}

80

{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} كان يصنع الدروع، وقد ألان الله تعالى له الحديد {لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ} أي لتمنعكم في الحرب من عدوكم

81

{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} أي شديدة الهبوب؛ قال تعالى: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ} أي تسير الريح معه كما يشاء: عاصفة شديدة، أو هادئة لينة {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} هي الشام؛ وكانت إقامته بها

82

{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ} أي سخرنا له من الشياطين؛ وهي طائفة من الجن. والشيطان: كل عات متمرد؛ من جن أو إنس، أو دابة؛ وأطلق على إبليس: لأنه رأس العتاة والمتمردين {مَن يَغُوصُونَ لَهُ} في البحر؛ فيستخرجون له من لآلئها، وجواهرها، وغرائبها {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً} أعمالاً {دُونِ ذَلِكَ} أي غير ذلك: من بناء القصور والحصون، والتماثيل والمحاريب، وغير ذلك {وَكُنَّا لَهُمْ} أي للجن {حَافِظِينَ} لأعمالهم؛ من أن يفسدوها بعد إتمامها كشأنهم؛ والمراد أنه تعالى سلطانه قائم عليهم، وإرادته نافذة فيهم

83

{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} الضر الذي مسه: هو ذهاب ماله، وموت أبنائه، ومرض أصابه. أما ما يرويه بعض المفسرين من أن الضر: هو مرض أتلف لحمه، وأذاب جسمه، وجعل الدود يتناثر منه فهو من أقاصيص اليهود، باطل مردود: لأن الأنبياء عليهم السلام لا يصح أن يصابوا بأمراض تشمئز منها النفوس، وتوجب النفرة منهم وقد يكون الضر هو المرض؛ ولكن ليس كما حكموا ووصفوا

84

{فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} أي وهبنا له ضعف ما فقده من الأولاد

85

{وَإِدْرِيسَ} وهو من الأنبياء عليهم السلام؛ وهو اسم أعجمي، وليس مشتقاً من الدراسة كما توهم بعضهم. قيل: اسمه أخنوخ {وَذَا الْكِفْلِ} زعم بعضهم أنه بوذا: رئيس الملة البوذية؛ وقد تطرف أتباع بوذا من طاعته إلى عبادته؛ وعملوا له أصناماً لا تعد؛ دانوا بعبادتها، والخضوع لها؛ وما أشبههم بأصحاب عيسى: دعاهم إلىالله؛ فزعموا أنه هو الله ونفى عنه الولد؛ فقالوا: أنت المولود والولد وقيل: سمي بذي الكفل: لأنه كان متكفلاً بطاعة الله تعالى وعبادته، أو لأنه تكفل لملك زمانه بالجنة إن أسلم. وقيل: إنه زكريا؛ لأنه تكفل بمريم عليهما السلام. وهذا الرأي بعيد: لذكر زكريا عليه السلام بعد ذلك. والله تعالى أعلم بخلقه وأحكم {كُلٌّ} ممن ذكرنا من الأنبياء {مِّنَ الصَّابِرِينَ} على طاعة الله تعالى وعن معاصيه، وعلى ما يصيبهم في الحياة الدنيا من أحداث، وآلام، ومتاعب

87

{وَذَا النُّونِ} النون: الحوت. أي وصاحب الحوت: وهو يونسبن متى عليه السلام {إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً} قومه، منصرفاً عنهم؛ بغير إذن من مرسله تعالى {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أي تأكد أنا لن نضيق عليه؛ لقربه منا، واصطفائنا له. ولكنا أمرنا الحوت بالتقامه {فَنَادَى} نادانا {فِي الظُّلُمَاتِ} جمع ظلمة: وهي ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت {أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ} يعبد ويقصد {سُبْحَانَكَ} تعاليت وتنزهت {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ما دعا داع بدعاء يونس عليه السلام: إلا فرّج الله همه، ودفع كربه، وأنجاه من كل بلية كيف لا؟ والله تعالى يقول

88

{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أجبنا دعاءه ونداءه {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} الذي كان فيه؛ ولم يكن غمه قاصراً على التقام الحوت فحسب؛ بل كان جل همه وغمه: مظنة غضب الله تعالى عليه وقد ألهمه الله تعالى هذه الكلمات، لينجيه مما نزل به من الكرب والضيق {وَكَذلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} نلهمهم ما يوصلهم إلينا، ونوفقهم إلى ما يقربهم منا

89

{رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً} أي لا تتركني وحيداً بغير ولد يرثني

90

{وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} جعلناها صالحة للحمل بعد عقمها، أو صالحة الخلق بعد سوئها -[398]- {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً} رغبة في رحمتنا {وَرَهَباً} رهبة من عذابنا

91

{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} حفظته من الزنا: وهي مريم عليها السلام {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} أمر تعالى جبريل عليه السلام فنفخ في جيب درعها، فحملت بعيسى عليه الصلاة والسلام {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً} دلالة واضحة على قدرتنا

93

{وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي فرقوا أمر دينهم، واختلفوا فيما بينهم

94

{فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} لأن الصالحات بغير إيمان: لا اعتبار لها، ولا اعتداد بها {فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} أي فلا جحود لعمله؛ بل نثيبه عليه

95

{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ} أي ممتنع على أهل قرية أهلكناهم {أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} أي لا يعادون إلينا يوم القيامة؛ للحساب والجزاء؛ لأن عذابهم في الدنيا لا يعفيهم من عذاب الآخرة الموعود بيّن تعالى أن من يعمل من الصالحات وهو مؤمن: فلا كفران لسعيه؛ وأن له الحظ الأوفر، والنعيم الأكبر وأعقب ذلك بأن الكفار الذين عذبهم في الدنيا، وأهلكهم بذنوبهم: لا بد من إرجاعهم وإعادتهم في الآخرة لمحاسبتهم على ما أتوه، ومعاقبتهم على ما جنوه أو أنهم «لا يرجعون» إلى الدنيا كما طلبوا في قولهم «رب ارجعون» «فارجعنا نعمل صالحاً»

96

{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} يفتح السد الذي أقامه ذو القرنين بيننا وبينهم؛ وذلك قبيل يوم القيامة {وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ} مرتفع من الأرض. وقرىء «جدث» وهو القبر {يَنسِلُونَ} يسرعون

97

{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} يوم القيامة {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} مرتفعة الأجفان؛ لا تكاد تطرف من هول ما هم فيه {إِنَّكُمْ} أيها الكافرون {وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} غيره من الأصنام {حَصَبُ} حطب {أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} فيها داخلون. لما نزلت هذه الآية: فرح المشركون، وضجوا بالضحك؛ وقالوا: لقد عبد النصارى عيسى، وعبد اليهود عزيراً، وعبد بعض العرب الملائكة: فعيسى وعزير والملائكة في النار. فنزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} ولو فطن المعاندون إلى دقة التعبير في قوله تعالى:

98

{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} ولم يقل: ومن تعبدون؛ ومن المعلوم لغة أن «ما» لما لا يعقل، وأن «من» لا تطلق إلا على العقلاء

99

{لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ} الأصنام {آلِهَةً} كما زعمتم {مَّا وَرَدُوهَا} ما دخلوا جهنم

100

{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} أنين وبكاء وعويل

101

{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى} وهم الذين وعدوا بالعفو والمغفرة؛ لما قدموه من إيمان صادق، وعمل صالح

102

{لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} صوتها

103

{لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} الذي يعم سائر العصاة والمشركين؛ مما يرونه من مظاهر الشدة والبطش والقسوة {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ} مرحبين بهم، قائلين لهم: {هَذَا يَوْمُكُمُ -[399]- الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} به في الدنيا

104

{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ} الكاتب. وقيل: «السجل» اسم ملك يطوي كتب الأعمال

105

{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} الكتاب الذي أُنزل على داود عليه السلام {مِن بَعْدِ الذِّكْرِ} التذكير ب الله تعالى {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} المراد بالأرض: الجنة؛ وذلك كقوله تعالى: «وقالوا الحمد لله الذي أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين»

106

{إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغاً} لتبليغاً كافياً مفهماً

107

{وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ} يا محمد {إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} أي رحمة للجن والإنس، والوحش والطير؛ رحمة للمؤمنين: بإنجائهم يوم الدين، ورحمة للكافرين: بإنجائهم في الدنيا من نزول العذاب؛ الذي كان يلحق بمكذبي الأمم السابقة

109

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا {فَقُلْ آذَنتُكُمْ} أي أعلمتكم {عَلَى سَوَآءٍ} أي مستوين كلكم في هذا الإعلام، أو أعلمتكم أني على سواء. أي على عدل واستقامة رأي، أو «آذنتكم» بالحرب؛ لا سلم بيننا: إما الإيمان وإما القتل

111

{وَإِنْ أَدْرِي} وما أدري {أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} به من العذاب، أو «ما توعدون» به من القيامة {لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ} أي لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا اختبار لكم {وَمَتَاعٌ} تمتع {إِلَى حِينٍ} انقضاء آجالكم

112

{وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ} المطلوب منه المعونة والنصر {عَلَى مَا تَصِفُونَ} به أنفسكم؛ من القوة والشجاعة، والانتصار على المؤمنين؛ أو «المستعان» الذي نستعين به {عَلَى مَا تَصِفُونَ} به الله تعالى؛ من الولد والشريك؛ فنقضي على هذه الفرية؛ بالقضاء على مروجيها ومعتقديها

سورة الحج

سورة الحج بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{يأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ} خافوه، واحذروا غضبه وبأسه، واخشوا يوماً ترجعون فيه إليه {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} الزلزلة: الإزعاج، والإفزاع. أي اتقوا ربكم لأن زلزلة الساعة شيء مهول

2

{تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} أي تغفل عنه؛ مع أن الطبيعة البشرية: تقتضي تمام الحرص من جانب الأم على وليدها، وتقتضي كامل الشفقة به، والحدب عليه؛ فيذهب جميع ذلك لشدة ما تلقاه في هذا اليوم من الهول، وما تجده من الرعب {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} أي تطرح كل حبلى ما في بطنها؛ لشدة ما ترى من الفزع {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} أي كالسكارى؛ في عدم الوعي، وفي الخلط، وفي التعثر، وفي الذهول {وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} حقيقة؛ ولكنه هول القيامة

3

{وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} عات متمرد؛ مستمر في الشر؛ مستمرىء له

4

{كُتِبَ عَلَيْهِ} أي قضى على هذا الشيطان {أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ} أي اتبعه، واتخذه إماماً له ومعيناً {فَأَنَّهُ} أي الشيطان {يُضِلُّهُ} عن طريق الحق، ويرديه في الباطل {وَيَهْدِيهِ} يوجهه {إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} إلى ما يوصله إلى جهنم وبئس المصير وهذا كقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}

5

{يأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ} شك {مِّنَ الْبَعْثِ} يوم القيامة {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ} أي خلقنا أصلكم آدم {مِّن تُرَابٍ} أي إن كنتم شاكين في البعث، وكيف أننا نعيدكم بعد فنائكم؛ فانظروا في بدء خلقكم: إذ خلقناكم من تراب، ولم تكونوا شيئاً؛ فكيف لا نستطيع إعادتكم كما أنتم الآن؟ {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} مني {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} ذهب المفسرون إلى أن المراد بها: قطعة دم جامدة والذي أراه أن المراد بالعلقة: واحد الحيوانات المنوية، التي يتخلق منها الجنين بأمر الله تعالى؛ وتجمع على «علق» قال تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} {ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} قطعة لحم صغيرة؛ قدر ما يمضغ في الفم {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} أي تامة الخلقة، وغير تامتها {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ} أي نثبت في الأرحام ما نشاء ثبوته؛ وما لم نشأ إبقاءه: أسقطته الأرحام. فليس كل من حملت أنتجت -[401]- {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو وقت استيفاء الجنين مدته في الرحم {ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ} كمال قوتكم؛ وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين (انظر آية 21 من سورة الذاريات) {وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أردئه؛ وهو الكبر المؤدي إلى الهرم والخرف {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} أي لينسى ما عرفه، ويجهل ما علمه؛ لذهاب عقله، ومزيد كبره {وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} قال عكرمة: من قرأ القرآن: لم يصر إلى هذه الحالة نفعنا الله تعالى بكتابه، وكتبنا من أحبابه، وشفعه فينا، وجعله حجة لنا لا علينا {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} ساكنة يابسة {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ} بالمطر، أو بالسقيا من ماء المطر نفسه - المنساب في الأنهار والآبار - وذلك بعد وضع البذر {اهْتَزَّتْ} تحركت لطلوع النبات {وَرَبَتْ} انتفخت وارتفعت {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} من كل صنف حسن، سار للناظرين

6

{ذلِكَ} المذكور: من قدرة الله تعالى على إنشاء الإنسان أصلاً من تراب، ثم من نطفة؛ ثم تطور النطفة إلى علقة، ثم مضغة؛ ثم إخراجه طفلاً، ثم إنهاء أجله على الصورة التي يريدها الله تعالى له - صغيراً، أو كبيراً، أو بالغاً أرذل العمر - ثم قدرته جل شأنه، وعلا سلطانه؛ على إنزال الماء من السماء على الأرض اليابسة، واهتزازها، وانشقاقها عن أصناف النبات: البهيج المنظر والمخبر؛ كل «ذلك» يدل دلالة قاطعة على أنه تعالى {هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ} كما أنشأ الخلق ابتداء، وأماتهم {يُحْيِي الْمَوْتَى} ويبعثها يوم القيامة للحساب والجزاء؛ فتعالى الله الخالق ما يريد، الفاعل ما يشاء

9

{ثَانِيَ عِطْفِهِ} أي لاوياً عنقه: كبراً وخيلاء، أو معرضاً عن ذكر الله تعالى {وَأَنَّ اللَّهَ} في إحيائه وإماتته، ومحاسبته ومعاقبته {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} ولكن العبيد {كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}

11

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} على طرف؛ أي يعبد الله شاكاً في وجوده، أو شاكاً في إحيائه، أو شاكاً في جزائه {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} غنى وصحة {اطْمَأَنَّ بِهِ} وسكن إليه {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} شر وبلاء وفقر -[402]- {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} رجع إلى كفره: يائساً من رحمة الله تعالى؛ وبذلك يكون قد {خَسِرَ الدُّنْيَا} بفوات ما أمله فيها، وأراده منها خسر {الآخِرَةَ} لأن الله تعالى لم يعدها إلا للمتقين؛ و {ذلِكَ} الخسران {هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} الواضح؛ الذي لا خسران بعده

12

{يَدْعُو} أي يعبد {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {ذلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} الكبير

13

{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ} أي يدعو من ضره؛ واللام زائدة {أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} أي يعبد من دون الله من يحتمل وصول الضرر منه، ولا يستطيع إيصال النفع. أو يطلب رفع ما نزل به؛ ممن لا قدرة له على دفعه عن نفسه {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} أي بئس الرب، وبئس السيد؛ ذلك الذي لا يضر ولا ينفع {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} أي بئس القريب والصاحب؛ و «العشير» من المعاشرة

15

{مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ} أي من كان يظن أن الله لن ينصر رسوله عليه الصلاة والسلام. أو المراد: من كان قد يئس من روحالله، وقنط من رحمته، وظن أنه تعالى لن ينصره: فليختنق وجاء على لسان العرب «ينصره» بمعنى يرزقه {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} بحبل {إِلَى السَّمَآءِ} أي إلى السقف؛ لأن كل ما علاك فهو سماء {لْيَقْطَعْ} أي ثم ليختنق {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} أي «هل يذهبن كيده» لنفسه بالاختناق؛ الأمر الذي يغيظه: وهو ظنه بأن الله تعالى لن يرزقه، أو بأن الله تعالى لن ينصر رسوله؛ وقد نصره في الدنيا: بنصره، ورفعة شأنه، وإعلاء دينه؛ وفي الآخرة: بالمقام المشهود، والحوض المورود، والشفاعة العظمى

16

{وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ} أي القرآن {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} واضحات {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ} هدايته، أو من يريد أن يهتدي

17

{وَالَّذِينَ هَادُواْ} اليهود {وَالصَّابِئِينَ} قوم زعموا أنهم على دين نوح عليه السلام، أو هم كل من صبأ: أي خرج من دين إلى دين آخر {وَالْمَجُوسَ} عبدة النار

18

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ} كل {مَن فِي السَّمَاوَاتِ} من أملاك {وَمَن فِي الأَرْضِ} من إنس وجن -[403]- {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ} كل هؤلاء يسجدلله تعالى. أي يطيعه، ويخضع لأوامره. أو هو سجود على الحقيقة: يتمثل في ظل هذه الأشياء {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} {وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} أي ويسجد له كثير من الناس؛ وهم المؤمنون {وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} {حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} أي وجب عليه؛ لكفره، وفسوقه عن أمر ربه {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ} يشقه بالكفر {فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} أي ليس له من مسعد يرتفع به إلى مصاف المؤمنين، ويدفع عنه ما كتبه عليه أحكم الحاكمين وإنما يهن الله تعالى من استوجب الشقاء والمهانة، وارتضى لنفسه خسة الكفر، وذلة الجهل؛ وأبى رفعة الإيمان، وعزة العلم هذا ولا يعقل أصلاً أن المولى الكريم يهين من لا ذنب له، ولا إثم عليه؛ بعد أن رفعه وكرمه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وقد اعتاد أكثر المفسرين - سامحهم الله تعالى - على أن يذهبوا في مثل هذه المعاني مذاهب شتى؛ يأباها العدل السماوي، وتنبو عنها الحكمة الإلهية؛ ويتسترون وراء معان فخمة ضخمة؛ هي في الواقع عين الحقيقة، ولب الشريعة. وإلا فمن ذا الذي ينكر أنه تعالى يفعل ما يريد؟ {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} أو أن الأمر أمره، والخلق خلقه؟ وأن الجميع ملك له وعبيد؟ إن من ينكر هذا أو بعضه؛ فإنه واقع في الكفر لا محالة: لأنه قد أنكر ما لا يصح الإيمان إلا به إنما الذي ننكره، ونحارب من أجله، ونلقى الله تعالى عليه: أنه تعالى {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} وأنه جل شأنه لا يظلم الناس، ولكن الناس {كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} فإذا أهان الله تعالى عبداً؛ فإنما يعاقبه بهذه الإهانة على ظلم نفسه؛ بالرضا بالكفر، والركون إليه قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}. لذا أتبع الله تعالى ذلك بذكر خصومة المؤمنين والكافرين، وما يؤول إليه حال كل منهم. قال تعالى:

19

{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ} المؤمنون خصم، والكافرون خصم {فَالَّذِينَ كَفَرُواْ} بمحض اختيارهم؛ وليس بدافع خفي من الله تعالى؛ تنهار أمامه قوتهم، وتمحى حياله إرادتهم وهل يستطيع مخلوق أن يدفع إرادة الخالق تعالى؟ أو أن يخرج عما أكرهه عليه، واضطره إليه؟ {قُطِّعَتْ} أي سويت وأعدت {لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ} وهو تشبيه لإحاطة النار بهم من كل جانب: إحاطة الثوب بلابسه {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} وهو الماء البالغ نهاية الحرارة. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لو سقطت نقطة واحدة منه على جبال الدنيا لأذابتها

20

{يُصْهَرُ بِهِ} أي يذاب بالحميم {مَا فِي بُطُونِهِمْ} من أحشاء، وأمعاء وقلوب، وكلى، وأكباد وخص ما في بطونهم: -[404]- ليظهر مبلغ ما يحيق بهم من آلام لا توصف: فإن الإنسان لا يحتمل أدنى ألم - مهما قل - يلم بما في بطنه؛ فما بالك - عافاني الله تعالى وإياك - بالحميم في الجحيم؛ يصب فوق الرؤوس؛ فيصهر ما في البطون

21

{وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} تضرب بها رؤوسهم والمقامع: جمع مقمعة؛ وهي عمود من حديد؛ يضرب به رأس الفيل ليستكين ويحد من هيجانه. وهي مشتقة من القمع

22

{كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا} أي من النار {مِنْ غَمٍّ} حزن شديد، وهم بالغ نالهم {أُعِيدُواْ فِيهَا} بالضرب بالمقامع يقال لهم {ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} بما قدمتم

23

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ} بفضله {الَّذِينَ آمَنُواْ} به وبكتبه ورسله {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ} بساتين: لا آخر لعظمها، ولا حد لبهجتها

24

{وَهُدُواْ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أي هدوا في الدنيا إلى القول الطيب؛ الذي وصلهم إلى هذه الدرجة من النعيم: وهو لا إله إلا الله {وَهُدُواْ إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي إلى طريقالله، الموصل إليه؛ وهو الإيمان

25

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ} يمنعون {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه {سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ} المقيم {وَالْبَادِ} غير المقيم {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} أي ومن يهم فيه بمعصية {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} جاء في اللغة: ألحد في الحرم: إذا احتكر الطعام. وقيل: الإلحاد: الحلف الكاذب، أو هو منع الناس عن عمارة المسجد الحرام. وقرىء «ومن يرد» بفتح الياء: من الورود. هذا ولم يؤاخذ الله تعالى أحداً من خلقه على الهم بالمعصية ما لم يرتكبها، ولا بالشروع فيها ما لم يأتها؛ إلا في المسجد الحرام: فإن من يهم فيه بالذنب: كمن يقترفه وذلك لأن الإنسان يجب عليه أن يكون في الحرم طاهر الجسم، نقي القلب، صافي السريرة، خالصاً بكليتهلله، طامعاً في مغفرته، مشفقاً من غضبه وإن من ينتهك حرمة الملك بمعصيته في حماه، وداخل بيته: أجرأ على المعصية ممن يرتكبها بعيداً عنه وحقاً إن من تهجس نفسه بالسوء؛ وهو في داخل الحرم الآمن: لجدير بالجحيم، والعذاب الأليم

26

{وَإِذْ بَوَّأْنَا} هيأنا {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} من الأصنام والأوثان والرجس

27

{وَأَذِّن} ناد {فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} أي مشاة على أرجلهم {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي ركباناً. والضامر: البعير، أو الفرس المهزول {يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} من كل طريق بعيد

28

{لِّيَشْهَدُواْ} يحضروا {مَنَافِعَ لَهُمْ} بالتجارة، والتعرف بالناس من شتى الأقطار. وفي هذا من المنافع الاجتماعية ما فيه؛ وقد اهتم الشارع الحكيم باجتماع الناس وتآلفهم، وتبادلهم الأخوة الدينية، والمحبة الخالصة فشرع صلاة الجماعة: ليختلط أهل الحي الواحد، وشرع الجمعة: ليجتمع أهل البلدة، وشرع الحج: ليجتمع أهل الأقطار والأمصار؛ -[405]- ليتعارفوا، ويتحابوا، ويتبادلوا الآراء العامة؛ التي تعود بالنفع على الأمة الإسلامية في سائر أقطار المعمورة {وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ} الذي أصابه بؤس وشدة

29

{ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} التفث في المناسك: قص الأظافر والشارب، وحلق الرأس والعانة، ورمي الجمار، ونحر البدن، وأشباه ذلك. والتفث في اللغة: الوسخ. أي وليزيلوا وسخهم {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} من الهدايا والضحايا {وَلْيَطَّوَّفُواْ} يطوفوا طواف الإفاضة؛ الذي هو من واجبات الحج {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} القديم؛ وهو البيت الحرام. وسمي بالعتيق: لأنه أول بيت وضع للناس. قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً}

30

{وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} يجتنب ما لا يحل انتهاكه {إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} تحريمه في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} {فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ} القذر. وهو كل ما يستوجب العقاب والعذاب {مِنَ الأَوْثَانِ} الأصنام {وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ} شهادة الزور. وقول الزور: من أكبر الكبائر، وهو من الموبقات المهلكات وما فشا الزور في قوم: إلا وحل بهم الخراب والدمار

31

{حُنَفَآءَ للَّهِ} مسلمين {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} أي فكأنما سقط من السماء فتخطفته الطير، ومزقته كل ممزق {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} تسقطه وتلقيه {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} بعيد. أي إنه لا ترجى له نجاة في الحالتين

32

{ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} الشعائر: جمع شعيرة؛ وهي أعمال الحج، وكل شيء فعل تقرباً إلى الله تعالى وتعظيمها: اختيار البدن حسنة سمينة {فَإِنَّهَا} أي تعظيم الشعائر، والقيام بها على أكمل وجه، وأجمل صفة {مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} وهي أرقى مراتب التقوى قال «التقوى ههنا» وأشار إلى صدره الشريف

33

{ثُمَّ مَحِلُّهَآ} أي مكان وجوب نحرها. والضمير للأنعام

34

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} أي موضع قربان؛ وهو مكان الذبح المطمئنين بذكر الله تعالى، المطيعين له، المتواضعين

35

{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} خافت {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ} من البأساء والضراء

36

{وَالْبُدْنَ} جمع بدنة؛ وهي من الإبل والبقر: كالأضحية من الغنم {صَوَآفَّ} أي قائمات قد صفت أيديهن وأرجلهن {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أي سقطت على الأرض بعد نحرها {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ} وهو الراضي بما عنده، وبما يعطي؛ من غير مسألة. أو هو السائل {وَالْمُعْتَرَّ} وهو الذي يريك نفسه ولا يسأل

37

{لَن يَنَالَ اللَّهَ} أي لن يصل إليه {لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا} فقد استمتعتم بها أكلاً وبذلاً {وَلَكِن يَنَالُهُ} يصل إليه -[406]- {التَّقْوَى مِنكُمْ} أي إنه تعالى لن يصل إليه، ولن يقبل من ذلك إلا ما أريد به وجهه جل شأنه؛ فذلك وحده هو المقبول المجزى عليه أما ما أريد به التظاهر والتفاخر والرياء والاستعلاء: فهو مردود على فاعله موزور عليه غير مأجور

38

{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} شديد الخيانة والكفر

39

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} أي أذن للمؤمنين الذين يقاتلون: أن يقاتلوا من يقاتلونهم؛ وذلك {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} وقوتلوا ابتداء واعتداء؛ وهم

40

{الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم} مكة؛ ظلماً وعدواناً {بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ} أي أخرجوا بغير ما سبب؛ سوى قولهم {رَبُّنَا اللَّهُ} وحده، لا إله غيره، ولا نعبد سواه بعد أن بيّن تعالى مساوىء القتال الظالم، الغير المتكافىء، والقائم على الإثم والضلال: عرفنا أن الحروب والقتال: ليست شراً كلها؛ بل منها ما يقوم بسبب مشروع: يؤجر المرء ويثاب عليه. قال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي لولا ما شرعه الله تعالى لأنبيائه والمؤمنين من عباده؛ من قتال أعدائه: أعداء الدين؛ لشاعت الفوضى، وعمت الإباحية؛ و {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} جمع صومعة؛ وهي مكان العبادة. وهي للنصارى كالخلوة عند متعبدي المسلمين لهدمت {بَيْعٌ} وهي كنائس النصارى {وَصَلَوَاتٌ} كنائس اليهود {وَمَسَاجِدُ} المسلمين. وكلها معابد: واجب العناية بها، والاحترام لها؛ وذلك لأنها جميعاً {يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً} بالعبادة {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} أي من ينصر دينه، ويدفع عن أوليائه؛ لأنه تعالى لا يحتاج إلى نصرة أحد، والكل مفتقر إلى نصرته وهذه الآية الكريمة خاصة بالحروب، وحاجة الكون إليها، وأنها ضرورة من ضرورات الحياة، ولازمة من لوازم العمران. (انظر آية 251 من سورة البقرة)

41

{الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} أي جعلنا لهم مكانة فيها وسلطاناً {وَعَادٌ} قوم هود {وَثَمُودُ} قوم صالح

44

{وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ} قوم شعيب {فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} أمهلتهم {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} بالعذاب والاستئصال {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} إنكاري عليهم ما فعلوه، وتغييري؛ حيث أبدلتهم مكان الأمن خوفاً، ومكان الراحة تعباً، ومكان النعم نقماً

45

{فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} فكم من قرية -[407]- {أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي أهلكناها بسبب كفرها {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} أي وكم من بئر متروكة لا ينتفع بها؛ بسبب هلاك أهلها وإفنائهم كم من عظيم {مَّشِيدٍ} رفيع طويل متين

48

{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} وكم من قرية {أَمْلَيْتُ لَهَا} أمهلتها {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} كافرة. والمراد بالقرية فيما تقدم: أهلها {ثُمَّ أَخَذْتُهَا} بالعذاب والاستئصال {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} المرجع؛ فأعاقب الكفار أشد العقاب

51

{وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا} في القرآن: بالطعن فيه، وفيمن نزل عليه؛ بقولهم: سحر وساحر، وشعر وشاعر} أي طالبين عجزنا، ومناوئين لنا، أو ينسبون العجز للنبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين

52

{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} تمنى: قرأ. أي إذا قرأ ألقى الشيطان في قراءته: ليشوش أذهان السامعين، ويبعث في نفوسهم الشكوك والريب. قيل: كان يقرأ سورة «والنجم» فلما بلغ قوله تعالى: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} تكلم الشيطان بقوله: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى. فوقع عند بعضهم أن ذلك من قراءة الرسول عليه الصلاة والسلام. وقد كان الشيطان في ذلك الحين يتكلم ويسمع كلامه بالآذان، وقد قال يوم أحد: «لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم». والذي أراه في معنى هذه الآية: أن يكون التمني على ظاهره. أي {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى} لأمته الإيمان {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي} سبيل {أُمْنِيَّتِهِ} العثرات، وأقام بينه وبين مقصده العقبات {فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} يمحوه ويذهبه من قلوب أوليائه {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} بأن يجعلها مقبولة لدى من سبقت لهم الحسنى، وحازوا المقام الأسنى أما ما ذهب إليه أكثر المفسرين فباطل مردود؛ لا يستسيغه عقل مؤمن، ولا يقبله قلب سليم وهو زعمهم بأن الرسول الكريم - الذي لا ينطق عن الهوى - نطق بلسانه؛ حين بلغ {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} قائلاً: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى. هذه القالة التي لا ينطق بها مؤمن فضلاً عن سيد المؤمنين؛ الذي هدانا لتوحيد رب العالمين وقد استدلوا على قولهم الباطل بأحاديث واضحة البطلان، بادية الخسران وقد نبه إلى ذلك بعض فضلاء الأمة: قال ابن إسحق في حديث الغرانيق: هو من وضع الزنادقة. وقال أبو بكربن العربي: إن جميع ما ورد في هذه القصة لا أصل له. وقال القاضي عياض: إن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه أحد بسند متصل سليم؛ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون؛ المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم

53

{لِّيَجْعَلَ} الله {مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} في صدور بني الإنسان {فِتْنَةٌ} محنة وابتلاء {لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} أي ويجعله أيضاً فتنة للقاسية قلوبهم؛ التي لا تلين لذكر الله تعالى {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} الكافرين {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} خلاف كبير ألا ترى إلى الأمم الغربية - وقد يكونوا أبناء دين واحد - وقد ساد بينهم الشقاق، وفشت بينهم الشحناء والبغضاء، وشمر كل ساعده للنزال والقتال، وأعدوا لبعضهم ما أعدوا: من ضروب الأسلحة المهلكة المدمرة؛ فصدق عليهم قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} فهم طول العمر، وأبد الدهر؛ في شقاق وأي شقاق

54

{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} ب الله تعالى، وبدينه وآياته {أَنَّهُ} أي القرآن الكريم {فَتُخْبِتَ} فتطمئن

55

{وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} في شك من القرآن {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ} القيامة {بَغْتَةً} فجأة {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} وسمي عقيماً: لأنه لا يوم بعده. وقيل: هو يوم بدر؛ وهو عقيم: لأنه لا مثل له في عظمه: لأن الملائكة عليهم الصلاة والسلام قاتلت فيه، أو لأن الكفار لم ينظروا فيه إلى الليل؛ بل قتلوا قبل المساء؛ فصار يوماً لا ليلة له؛ فكان عقيماً وأول الأقوال أولى لقوله تعالى:

56

{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} فيما كانوا فيه يختلفون

58

{وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ} في الجهاد {أَوْ مَاتُواْ} ميتة طبيعية {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} في الجنة

60

{وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} أي اقتص لنفسه. وليس المراد بذلك المجانسة في العقوبة على إطلاقها؛ فمن قتل ولدي: لم يجز لي أن أقتل ولده؛ لأن ولده لم يرتكب ما يؤثم عليه، ومن سمم ماشيتي: لم يجز لي أن أسمم ماشيته؛ لأنها عجماء لم تذنب. ولا يصح الاقتصاص منها - لو أذنبت - قيل: نزلت في جماعة من المشركين مثلوا بقتلى المسلمين يوم أحد؛ فعاقبهم المسلمون بالتمثيل بقتلاهم. ومعنى الآية: من جازى الظالم بمثل ظلمه {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} أي بغى على المعاقب، الآخذ بحقه -[409]- {لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} على من بغى عليه {ذلِكَ} النصر المستمد من الله تعالى؛ لأنه وحده القادر القاهر، العفو الغفور؛ ومن قدرته تعالى أنه:

61

{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي يدخل كلاهما في الآخر؛ بأن ينقص هذا ويزيد ذاك؛ وهذا مشاهد ملموس في الصيف والشتاء؛ وهما آيتان دالتان على قدرته تعالى ووحدانيته: {مَا يَدْعُونَ} ما يعبدون {مِن دُونِهِ} غيره

65

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ} من أشجار وأنهار، ودواب وأطيار، وغير ذلك مما ينتفع به {وَالْفُلْكَ} السفن {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} بإذنه ومعونته وقدرته {وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} بأمره ومشيئته؛ يوم القيامة {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً}

66

{وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} بالإنشاء من العدم {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انتهاء آجالكم التي قدرها لكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} يوم القيامة للحساب والجزاء {إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} بالله، أو كفور بأنعمه

67

{لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} شريعة وديناً {هُمْ نَاسِكُوهُ} عاملون به

68

{وَإِن جَادَلُوكَ} فيما أنزل إليك {فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من سوء؛ فيجازيكم عليه

70

{إِنَّ ذلِكَ} المذكور؛ من إنزال الماء من السماء، وازدهار الأرض بالنماء، وتسخيره تعالى للفلك تجري بكم على الماء، وإمساكه جل شأنه للسماء، وإنشائه لمن يشاء، وإماتته بعد الإحياء، وإحيائه بعد الفناء، وإحاطة علمه تعالى بما في الأرض وما في السماء. كل ذلك {فِي كِتَابٍ} مكتوب في اللوح المحفوظ، ومعلوم له تعالى قبل حدوثه

71

{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} حجة أو برهاناً

72

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} من القرآن {بَيِّنَاتٍ} ظاهرات واضحات؛ لا لبس فيها ولا إبهام {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ} الإنكار لها، والكفر بها؛ وذلك بما يبدو عليهم من الإنقباض والعبوس والكراهة {يَكَادُونَ يَسْطُونَ} يبطشون {بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} أي بالمؤمنين الذين يتلون عليهم القرآن {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم} أيها الكافرون المكذبون {بِشَرٍّ مِّن ذلِكُمُ} التكذيب، وإيذاء المؤمنين {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ} أمثالكم من {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أو يكون المعنى: «قل أفأنبئكم» أيها المؤمنون «بشر من ذلكم» أي هل أخبركم بما هو شر من بطش هؤلاء الكفار، وإنكارهم لما جئتم به من الحق «النار وعدها الله» أمثالهم من «الذين كفروا»

73

{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ} تعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره من الآلهة. والمقصود بها الأصنام {لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً} اختار الله تعالى الذباب في التمثيل - ولو أنه أكبر من البعوض - لأن الذباب أحقر المخلوقات وأخسها، وأبغضها وأقذرها والمعنى: يا أيها الكافرون، يا أحقر المخلوقين: كيف تعبدون من دون الله ما لا يستطيع أن يخلق ذباباً {وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ} أي ولو اجتمع هؤلاء الآلهة، وصار بعضهم لبعض ظهيراً ولم يقف عجزهم عند عدم استطاعة خلقة الذباب فحسب؛ بل {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} أي لو سلب الذباب آلهتهم - التي يعبدونها - شيئاً من الطيب الذي كانوا يضمخونها به؛ لم تستطع تلك الآلهة استرجاعه منه - رغم ضعفه وحقارته - هذا وقد يتوهم أن الذباب من الأشياء المخلوقة عبثاً - بل التي يفضل عدمها على وجودها - لما تنقله من مكروبات، وما تحمله من جراثيم. لكنك لو علمت أنه يستوي في نظر الحاكم: الجلاد الذي يطيح بالرقاب، والغواص المعد للإنقاذ؛ إذ كل منهما يفعل ما أمر به: لهان الأمر. وأيضاً فإن الذباب - فضلاً عن حمله للمكروبات - فإنه خلق لإذلال المتكبرين والجبابرة: وذلك لأن الذبابة كما تقف على القمامة والقاذورات: فإنها تقف على أنف أعتى الجبابرة، وأعظم الأكاسرة حيث لا يملك دفعها، ولا يستطيع منعها؛ وأن النمروذ - على تكبره -[411]- وجبروته - سلط الله تعالى عليه بعوضة أهلكته؛ إذلالاً له، واستخفافاً بأمره، وتحقيراً لشأنه؛ فتعالى الله الملك الحق، الجبار المتكبر {ضَعُفَ الطَّالِبُ} الذباب {وَالْمَطْلُوبُ} الأصنام التي يعبدونها. أو «الطالب» العابد الكافر: لعجزه عن حماية آلهته من الذباب «والمطلوب» الصنم المعبود: لعجزه عن حماية نفسه

74

{مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ما عرفوه حق معرفته؛ حيث جعلوا الأصنام شركاء له

75

{اللَّهُ يَصْطَفِي} يختار {مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً} لرسله يصطفي {مِّنَ النَّاسِ} لخليقته {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لأقوال عباده {بَصِيرٌ} بأعمالهم. كيف لا وهو تعالى

76

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ما سيعملونه لاحقاً {وَمَا خَلْفَهُمْ} ما عملوه سابقاً {وَإِلَى اللَّهِ} وحده {تُرْجَعُ الأُمُورُ} فيقضي فيها بما شاء، ويحكم بما أراد {وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} في حياتكم الدنيا، وتفوزون بنعيم الآخرة

78

{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ} في سبيل إقامة دينه، ونشر تعاليمه؛ الموصلة لخيري الدارين {حَقَّ جِهَادِهِ} باستفراغ جهدكم وطاقتكم. ويدخل في ذلك: جهاد النفس، ومحاربة الشيطان: وجاهد النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح فاتَّهم {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} اختاركم {حَرَجٍ} ضيق {وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ} الجأوا إليه واحتموا بفضله وعنايته، وثقوا به

سورة المؤمنون

سورة المؤمنون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} الفلاح: هو الظفر بالمطلوب، والنجاة من المرهوب

3

{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ} اللغو: كل كلام ساقط؛ حقه أن يلغى: كالكذب، والسب، والهزل

5

{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} يحفظونها من الزنا، ومن كل ما يشين

6

{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} من الإماء؛ اللاتي تخلفن نتيجة جهاد الكافرين؛ في سبيل إعلاء الدين وليس كما يفعل بعض من لا خلاق لهم ولا دين: من الاتجار فيهن؛ تحت ستار إحلال الله تعالى له؛ وليس الأمر كما يقولون ويفعلون؛ بل هو من أكبر الكبائر: فلم يحل الله تعالى استعباد النفوس؛ إلا إذا طغت وتجبرت - بعد كفرها - وجاهرت المؤمنين بالعداء؛ فلا يصلحها حينذاك إلا قطع الرؤوس، وهلاك النفوس، وسلب الأموال، وسبي العيال، واستعباد النساء والرجال وهذا هو ملك اليمين، الذي شرعه رب العالمين؛ وأحله ونظمه؛ وأمر تعالى - فيما أمر - بإعزازه بعد الذل، وإكرامه بعد الهوان، وإطلاقه بعد التملك ونهى جل شأنه - فيما نهى - عن إذلاله وامتهانه، وجعل تخليصه وإعتاقه إحدى القربات إليه أما الآن - وليس ثمة حرب ولا قتال - فكيف يتملك الناس رقاب الأحرار؛ ويستحلون فروجهن بغير ما أمرالله؛ إنه الزنا ورب الكعبة بل هو الفسق، والفجور، والظلم وإلا فبماذا نسمي استعباد الأحرار المسلمين، واستحلال النساء بغير كلمةالله؟

7

{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذلِكَ} أي طلب غير ما أحله الله تعالى من زواج مشروع، وتملك مشروع {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} المعتدون؛ المستوجبون للحد

8

{وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} فلا ينقضون عهداً، ولا يغمطون وداً (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة المائدة)

9

{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أي يؤدونها في أوقاتها

11

{الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} وهو أعلى الجنان

12

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ} خلاصة. والسلالة: ما انسل من الشيء. والسليل، والسليلة: الولد والبنت -[413]- {مِّن طِينٍ} وهو آدم عليه السلام؛ أصل البشر

13

{ثُمَّ جَعَلْنَاهُ} أي جعلنا سائر الإنسان من ولد آدم {نُطْفَةً} منياً {فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} مستقر حصين في صلب الرجل؛ أو هو الرحم

14

{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} هي واحدة الحيوانات الصغيرة التي توجد بالمني {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} قطعة لحم صغيرة؛ قدر ما يمضغ {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} أي إنساناً كاملاً، ناطقاً، سميعاً، بصيراً، عاقلاً {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (انظر آية 21 من سورة الذاريات)

15

{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ} الخلق والإنشاء {لَمَيِّتُونَ} وعائدون إلى التراب الذي خلقتم منه

16

{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} فنحاسبكم على ما قدمتم لأنفسكم؛ فمن عمل خيراً أثيب عليه، ومن عمل سوءاً عوقب به

17

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ} سموات؛ جمع طريقة؛ لأنها طرق الملائكة. وسميت أيضاً «طرائق» لأن بعضها فوق بعض؛ والعرب تسمي كل شيء فوق شيء: طريقة

18

{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ} بتقدير حسب طلبكم له، وحاجتكم إليه؛ فلا هو بالمحرق، ولا هو بالمغرق؛ اللهم إلا إذا كان عذاباً وعقاباً {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} فيحل الجدب مكان الخصب

19

{فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ} بساتين {مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} (انظر آية 266 من سورة البقرة) {لَّكُمْ فِيهَا} أي في هذه الجنات {فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} متنوعة؛ لا يعلم مداها سوى خالقها

20

{وَشَجَرَةً} هي شجرة الزيتون {تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ} جبل فلسطين {تَنبُتُ بِالدُّهْنِ} أي بالزيتون المحتوي على الدهن؛ وهو الزيت {وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ} إدام يأتدمون به

21

{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ} وهي الإبل والبقر والغنم {لَعِبْرَةً} لعظة وتذكيراً بقدر الله تعالى، ومزيد أنعمه {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا} من الألبان {وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} بأصوافها وأوبارها: للفرش، واللبس، وما شاكل ذلك

22

{وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ} السفن -[414]- {تُحْمَلُونَ} في حلكم وترحالكم {يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي يترأس ويتملك {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً} برسالته إلينا

24

{مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا} الذي يدعونا إليه نوح: من التوحيد، وترك آلهتنا التي نعبدها

25

{إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} جنون {فَتَرَبَّصُواْ} انتظروا {حَتَّى حِينٍ} أي إلى أن يموت

26

{قَالَ} نوح {رَبِّ انصُرْنِي} عليهم {بِمَا كَذَّبُونِ} أي بسبب تكذيبهم إياي

27

{فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} أي اصنع السفينة بمعونتنا وتحت حفظنا ورعايتنا. و «الفلك» يطلق على الواحد والجمع {وَوَحْيِنَا} أي وبإرشادنا {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} بإهلاك الكافرين {وَفَارَ التَّنُّورُ} أي وفار الماء في التنور - الذي يخبز فيه - فكان الغرق، من موضع الحرق وقيل: المعنى: أن سفينة نوح عليه السلام سارت بالبخار، كما تسير سفن اليوم في البحار. وهذا معنى قوله تعالى: «وفار التنور» وهو قول غريب مريب: تعلق به وبأمثاله بعض المتأخرين؛ رغم مخالفته للأقوال الصريحة، والأحاديث الصحيحة وما اخترعت مثل هذه المعاني إلا لنفي قدرة الله تعالى على إيجاد الماء من النار، وبالتالي نفي وجوده تعالى وقدرته على خلق الخوارق، وقلب الحقائق {فَاسْلُكْ فِيهَا} أي فأدخل في السفينة {مِن كُلٍّ} من أنواع المخلوقات وأجناسها {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} ذكر وأنثى؛ لحفظ الأنواع وبقائها. قيل: لم يحمل نوح في سفينته إلا كل ما يلد ويبيض؛ أما أمثال البق والذباب والدود؛ فقد أخرجها الله تعالى - بعد ذلك - من الطين {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي ولا تسألني المغفرة للكافرين

28

{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ} أي علوت وتمكنت وجلست {أَنتَ وَمَن مَّعَكَ} من المؤمنين {وَعَلَى الْفُلْكِ} السفينة التي صنعتها بأمري {فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الكافرين

29

{وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} أي أنزلني إنزالاً مباركاً أو أنزلني موضعاً مباركاً

30

{إِنَّ فِي ذلِكَ} المذكور من أمر السفينة، وإنجاء نوح والمؤمنين، وإهلاك الكافرين {لآيَاتٍ} -[415]- دلالات على كمال قدرته تعالى، ومزيد فضله؛ وأنه جل شأنه ينصر دائماً أنبياءه، ويهلك أعداءهم وأعداءه {وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} مصيبين بعض الأنبياء والمؤمنين، أو مصيبين بعض الأقوام المكذبة؛ فقد أصبنا قوم نوح ببلاء عظيم، وعذاب شديد أو «لمبتلين» لمختبرين الأمم السابقة بإرسال الرسل؛ لنعلم - علم ظهور - المطيع من العاصي وقد يكون المعنى «إن في ذلك» القصص؛ الذي قصصناه عليك يا محمد من أمر نوح وغيره من الأنبياء «لآيات» دالة على صدق رسالتك «وإن كنا لمبتلين» أي لمختبرين بذلك أمتك: لنعلم من يصدق بنبوتك، ومن يكفر بما جئت به

31

{قَرْناً} قوماً

32

{فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} هو هود. وقيل: صالح. وقيل: شعيب، عليهم السلام؛ وذلك لأن أممهم هم ممن أخذوا بالصيحة، وهؤلاء أهلكوا بها؛ قال تعالى في آخر قصتهم «فأخذتهم الصيحة بالحق»

33

{وَأَتْرَفْنَاهُمْ} نعمناهم {

34

إِنَّكُمْ إِذاً} أي إذا أطعتم هذا النبي، الذي هو بشر مثلكم «إنكم إذاً» {لَّخَاسِرُونَ} أي ليست لكم عقول

35

{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ} ودفنتم، وبليت أجسامكم {وَكُنتُمْ} وصرتم {تُرَاباً وَعِظَاماً} في قبوركم {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} منها، ومبعوثون أحياء للحساب والعقاب

36

{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} أي بعد بعداً كبيراً ما يعدكم به؛ من أنكم تحيون بعد ما تموتون، وتبعثون بعد ما تدفنون، وتحاسبون على أعمالكم فتعذبون؛ فهيهات هيهات لما يتوهمون

37

{إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} وحدها، ولا حياة بعدها {نَمُوتُ وَنَحْيَا} قد يتوهم أن إقرارهم بالحياة بعد الموت: إقرار منهم بالبعث بعد أن كذبوا به؛ ولكنهم إنما أرادوا «ونحيا» بحياة أبنائنا؛ أو لعلهم كانوا ممن يقول بتناسخ الأرواح، وبعثها في أجساد أخرى، أو يكون في الكلام تقديم وتأخير - كعادة العرب في كلامهم - أي نحيا ونموت (انظر مبحث التعطيل بآخر الكتاب)

41

{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} صاح عليهم جبريل عليه السلام فأهلكهم. والصيحة: العذاب؛ أو هي مقدمة لكل عذاب {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً} الغثاء: ما حمله السيل من بقايا العيدان وورق الشجر اليابس -[416]- {فَبُعْداً} فهلاكاً

42

{ثُمَّ أَنشَأْنَا} خلقنا {قُرُوناً} أمماً {آخَرِينَ}

43

{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} أي ما تسبق أمة الوقت المؤقت لإهلاكها. وهو كقوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}

44

{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} أي تتتابع: واحداً بعد واحد؛ بفترة بينهما {كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} في الإهلاك؛ ما داموا تابعين بعضاً في الكفر والتكذيب {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي عبراً يتحدث الناس بها؛ ولا يقال «أحاديث» إلا في الشر؛ قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}

45

{وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} وحجة ظاهرة

46

{فَاسْتَكْبَرُواْ} عن الإيمان {وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ} مستكبرين، ظالمين، قاهرين لغيرهم

47

{فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} مطيعون خاضعون

49

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة

50

{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} معجزة دالة على قدرتنا: إذ ولدته - عليه السلام - بغير زوج، وولد بغير أب {وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ} مكان مرتفع؛ وهو بيت المقدس {ذَاتِ قَرَارٍ} أي أرض مستوية يستقر فيها ساكنها {وَمَعِينٍ} ماء جار؛ وسمي معيناً: لرؤيته بالعين

51

{يأَيُّهَا الرُّسُلُ} هو خطاب وجه لسائر الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ وأريد به أممهم {كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} الحلال {وَاعْمَلُواْ صَالِحاً} وهم عليهم الصلاة والسلام لا يأكلون إلا أطيب الطيب، وأحل الحلال؛ ولا يعملون إلا أصلح الأعمال وذلك بفطرتهم واكتسابهم {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فمجازيكم عليه

52

{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} خطاب لسائر الرسل {أُمَّةً وَاحِدَةً} وهذا يدل على أن الأمم الإسلامية - في شتى أنحاء المعمورة - يجب أن تكون قلباً واحداً، ويداً واحدة، وأمة واحدة: في تشريعها، ومقاصدها، وأغراضها، وتوحيدها؛ فالكل يؤمن بإله واحد يدينون له بالطاعة والعبودية، والكل مصدق بملائكته، وكتبه، ورسله، والكل معترف بالبعث والإحياء، والحساب والجزاء

53

{فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي تفرقوا في أمر دينهم، وفي أمور دنياهم -[417]- {زُبُراً} كتباً ألفوها، وضلالات وضعوها، وخرافات ابتدعوها أو أريد بالزبر: الكتب المنزلة إليهم؛ كالتوراة والإنجيل والزبور: تمسك كل فريق بكتابه؛ بعد أن شوهه، ومسخ ما فيه. أو «زبراً» بمعنى قطعاً؛ أي تفرقوا في أمر دينهم؛ فصاروا يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض

54

{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} فدعهم في غفلتهم وضلالتهم {حَتَّى حِينٍ} أي إلى حين انتهاء آجالهم

55

{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} أي أيظن هؤلاء الكفار أن إمدادنا لهم، وتوسعتنا عليهم بالأموال والبنين {} التي يبتغونها ويطلبونها؛ حباً لهم، ورغبة في إرضائهم؛ لا

56

{بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} أن ذلك استدراج لهم في الدنيا؛ لنعاقبهم على ما فعلوا عقوبة كاملة يوم القيامة

57

{مُّشْفِقُونَ} خائفون

60

{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أي الذين يعطون الصدقات وقلوبهم خائفة ألا تقبل منهم. وقرأت عائشة وكثير من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم «والذين يأتون ما أتوا» أي يرتكبون ما ارتكبوا من الذنوب «وقلوبهم وجلة» خائفة من عاقبة ما ارتكبوا {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أي لأنهم إلى ربهم راجعون فيعاقبهم على ما أتوه، أو يعاقبهم على المنع، أو على الرياء

61

{أُوْلَئِكَ} المذكورون: هم الذين {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} وأي مسارعة في الخير أكثر من وجل القلب؛ عند اقتراف الذنب؟ أو عند استقلال العطاء، رغبة في الجزاء

62

{وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ} وهو اللوح المحفوظ: سطرت فيه أعمال العباد

63

{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} في جهالة

64

{مُتْرَفِيهِمْ} متنعميهم {يَجْأَرُونَ} يصرخون مستغيثين

66

{عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} أي ترجعون القهقرى. والمعنى: تعرضون عن الحق

67

{مُسْتَكْبِرِينَ} أي متكبرين على المسلمين {بِهِ} أي بالحرم: زاعمين أنكم أهله وسادته وحماته. أو «مستكبرين به» أي بالقرآن: تستكبرون عن سماعه والتصديق به، وتطغون على المؤمنين {سَامِراً} أي جماعة تتسامرون {تَهْجُرُونَ} أي تقولون في سمركم الهجر؛ وهو القول الفاحش من الطعن في القرآن، وسب النبي

68

{أَمْ جَآءَهُمْ} من الشريعة والأحكام {مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأَوَّلِينَ} أو المراد «أم جاءهم» أمان من العذاب؛ وهو «ما لم يأت آباءهم الأولين» أو «أم» بمعنى: بل

70

{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} جنون

71

{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ} القرآن {أَهْوَآءَهُمْ} بأن ينزل بما تهوى أنفسهم؛ من حل المحرمات، وعبادة الأصنام، وتعدد الآلهة، والقول ببنوة عيسىلله. تعالى الله عما يقولون ويريدون علواً كبيراً ولو نزل القرآن بما أرادوا {لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} أي بالقرآن الذي فيه شرفهم وفخرهم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} والذكر: الشرف، والعز، والسؤدد. أو «آتيناهم» بالقرآن؛ الذي فيه ذكرهم، وذكر أعمالهم؛ وما يترتب عليها من ثواب، أو عقاب

72

{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً} أجراً؛ من الخراج: وهو الإتاوة {فَخَرَاجُ رَبِّكَ} رزقه الذي يجريه عليك من غير منع ولا قطع؛ فذلك {خَيْرُ} منهم ومما يملكون

74

{لَنَاكِبُونَ} لعادلون ومائلون

75

{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ} كشأننا دائماً مع عبادنا {وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ} جوع وفقر. وقد كانوا قحطوا بمكة سبع سنين؛ حتى أكلوا الجيف {لَّلَجُّواْ} تمادوا واستمروا {فِي طُغْيَانِهِمْ} ضلالهم {يَعْمَهُونَ} يترددون متحيرين

76

{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} بالجوع، والقحط الشديد {فَمَا اسْتَكَانُواْ} فما خضعوا {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} يتذللون بالدعاء إلى ربهم؛ ليكشف ما بهم

77

{حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} بالقتل، والأسر، والسبي، والذل؛ وكان ذلك يوم بدر. وقيل: يوم فتح مكة {إِذَا هُمْ فِيهِ} أي في ذلك العذاب -[419]- {مُبْلِسُونَ} آيسون من كل خير

78

{وَهُوَ} جل شأنه {الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ} الذي به تسمعون {وَالأَبْصَارَ} التي بها تبصرون {وَالأَفْئِدَةَ} التي بها تعقلون؛ فما لكم لا تسمعون النصح، ولا تبصرون الحق، ولا تعقلون الهدى و {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي لا تشكرون البتة

79

{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ} خلقكم {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} يوم القيامة؛ فيؤاخذكم بما كنتم تعملون في الدنيا

80

{وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} بالزيادة والنقصان؛ وذلك بفعله سبحانه وتعالى؛ ليقيم بنفسه الدليل على وجوده

81

{بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ} أي أنكروا البعث مثل إنكارهم؛ وذلك لأن الأولين

82

{قَالُواْ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا} صرنا في قبورنا {تُرَاباً وَعِظَاماً} نخرة {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} لمعادون إلى الحياة؟ لا نظن حدوث ذلك

83

{لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هَذَا} البعث {مِن قَبْلُ إِنْ هَذَآ} الوعد {إِلاَّ أَسَاطِيرُ} أكاذيب وأباطيل {الأَوَّلِينَ} المتقدمين

84

{قُلْ} يا محمد لهؤلاء المكذبين، واسألهم {لِّمَنِ الأَرْضُ} من خلقها، ومن يملكها {وَمَن فِيهَآ} من المخلوقات؟ {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} خالقها ومالكها

85

{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ} ما دام الله هو مالكها؛ فما بالكم لا تؤمنون به؟ وما دام الله هو خالقها «ومن فيها» فكيف لا يستطيع إعادتها بمن فيها؟ {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أفلا تتذكرون ذلك فتؤمنون

86

{قُلْ} لهم أيضاً مبالغة في إقامة الحجة عليهم {مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ} وما فيهن من أفلاك، ومن بهن من أملاك {وَرَبُّ الْعَرْشِ} الملك {الْعَظِيمِ} الذي لا يحد، ولا يوصف؟

87

{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} وقرأ أبو عمرو «سيقولون الله» وهي القراءة المثلى؛ لملاءمتها للسياق {قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} من هذا شأنه، وهذا سلطانه؟

88

{قُلْ مَن بِيَدِهِ} وتحت أمره وتصرفه {مَلَكُوتُ} ملك {كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ} من استجار به؛ فيحميه مما يؤذيه، ويدفع عنه ما يخشاه {وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} أي ولا يستطيع أحد أن يمنع السوء عمن أراد الله تعالى إنزاله به

89

{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} وقرأ أبو عمرو أيضاً «سيقولون الله» وهو أنسب للمقام؛ كما قدمنا {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي فكيف تخدعون، وتصرفون عن الحق الواضح الظاهر؟

91

{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ} كما تقول النصارى ببنوة عيسى {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} يشركه في ملكه؛ كما يقول المشركون {إِذَآ} أي لو كان معه إله {لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ} من الآلهة {بِمَا خَلَقَ} وانفرد بإدارته، ومنع الآخر من الاستيلاء عليه {وَلَعَلاَ} تعالى وتكبر {بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} كفعل ملوك الدنيا؛ وشأنهم دائماً التنازع والمغالبة والتعاظم {سُبْحَانَ اللَّهِ} تعالى وتقدس {عَمَّا يَصِفُونَ} من الكفر

92

{عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} السر والعلانية

93

{قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} أي إن كان ولا بد أن تريني ما تعدهم من العذاب

94

{فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الكافرين؛ لئلا ينالني ما ينالهم من العذاب

96

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أي ادفع أذى الكفار وإساءتهم بطريقة حسنة لينة؛ لا عنف فيها. قيل: نسخ ذلك بالأمر بالقتال: فيجب موادعة الكافرين، ما دمنا على محاربتهم غير قادرين. وقد ورد هذا بلفظه ومعناه في مكان آخر من الذكر الحكيم؛ وهو خاص بدفع المؤمنين. (انظر آية 34 من سورة فصلت)

97

{وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ} نزغاتهم ووساوسهم

98

{وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} أي أن يحضروني في أموري وعباداتي: فيفسدون ديني ودنياي، أو أن يحضروني عند الموت: فيفسدون آخرتي

99

{حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} أي جاء أحد الكافرين {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} أي أرجعني إلى الدنيا، وأعدني إلى الحياة

100

{لَعَلِّي أَعْمَلُ} عملاً {صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} فيما خلفت ورائي من مال، أو فيما عملته من عمل سيىء قيل: يقول ذلك الكفار، والبخلاء عند موتهم؛ وقد أجابهم الله تعالى على طلبهم الرجوع بقوله: {كَلاَّ} لا رجوع {إِنَّهَا} أي إن قول الكافر «رب ارجعون» {كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} لا أثر لها، ولا فائدة فيها {وَمِن وَرَآئِهِمْ} أمامهم إلى يوم القيامة {بَرْزَخٌ} حائل بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا

101

{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}

102

{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} بالحسنات {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون بالنعيم. الناجون من الجحيم

104

{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ} تحرقها {كَالِحُونَ} عابسون منقبضون

105

{أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي يقال لهم ذلك

106

{قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أي تغلبت علينا أهواؤنا وشهواتنا. وسميت شقوة: لأنها مؤدية إليها. وذهب قوم - غفر الله تعالى لهم - إلى أن المعنى: غلب علينا ما كتب علينا من الشقاء؛ في حين أنه لم يكتب عليهم سوى ما علم أنهم يفعلونه بمحض اختيارهم؛ فليسوا مغلوبين ولا مضطرين

108

{قَالَ اخْسَؤواْ فِيهَا} أي ابعدوا في النار أذلاء يقال: خسأ الكلب: طرده

110

{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} أي سخرتم منهم، واستهزأتم بهم {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} لانشغالكم بالاستهزاء بهم عن تذكري {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} إذا ذكروني وعبدوني

111

{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ} أي بصبرهم على إذايتكم {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ} بنعيمي

112

{قُلْ} الملك المكلف بسؤالهم {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} قيل: السائل لهم مالك عليه السلام: خازن النار

113

{قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} استقصروا مدة لبثهم في الدنيا؛ لما نالهم في الآخرة من العذاب الأليم، ولما استعجلوه في الدنيا من ملذات

115

{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ} في الدنيا {عَبَثاً} وأنكم تعيثون في الأرض فساداً ولا تصلحون، وتعبدون من الأصنام والأوثان ما تشاءون، وتذرون ربكم أحسن الخالقين {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} فنحاسبكم على ما جنيتم، ونؤاخذكم على ما كسبتم قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}

116

{فَتَعَالَى اللَّهُ} تنزه وتقدس -[422]- {الْمَلِكُ الْحَقُّ} الذي {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ولا معبود سواه

117

{وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ} لا حجة {لَهُ بِهِ} تقوم على صحة ألوهيته، وصدق ربوبيته {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ} أي عقوبة كفره، ومحاسبته عليه {عِندَ رَبِّهِ} في جهنم وبئس المصير

سورة النور

سورة النور بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{وَفَرَضْنَاهَا} أي فرضنا أحكامها {وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} ظاهرات واضحات

2

{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} قدم تعالى ذكر الزانية على الزاني: لأنها منشأ الجناية، ومبدأ الغواية فلو لم تطمع الزاني بلين كلامها، وتفتح له المجال بإشراق ابتسامها؛ وتخرجه عن طوره بإظهار محاسنها، وإبداء مفاتنها؛ وتمكنه - مع كل ذلك - بالاختلاء بها من غير محرم؛ لا ثالث لهما سوى الشيطان لولا ذلك لما اعتدى أحد على حرمتها، وأهدر كرامتها، وسلبها عزها وفخرها؛ وأخرجها من عداد العفائف الحرائر، إلى مصاف الزانيات الفواجر وجلد المائة: حكم غير المحصن «الأعزب» أما المحصن «المتزوج» فحده الرجم بالحجارة حتى الموت ومنهم من قال: يجلد المحصن والمحصنة مائة جلدة؛ ثم يرجم؛ على خلاف في ذلك. والاتفاق والإجماع على جلد غير المحصن، ورجم المحصن فحسب؛ وهل بعد الموت والتنكيل عبرة لمعتبر؟ (انظر آية 106 من سورة البقرة). ويا لها من عدالة ظاهرة، وحكمة باهرة: ينتهك المسلم حرمة أخيه المسلم؛ فلا يجد قانوناً يردعه، ولا تشريعاً يمنعه؛ وذلك لأن القوانين الوضعية - في شتى بلدان العالم - قد أجمعت على ترك الزاني بلا رادع، ولا وازع؛ حتى تفشت بسبب ذلك الأمراض الخبيثة، وفتكت بالأجسام، وأطالت الأسقام؛ وما ذاك إلا لعدم تمسكنا بديننا الحنيف، وانصرافنا عن قانوننا السماوي؛ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (انظر آية 32 من سورة الإسراء) {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} أي لا تأخذكم بهما شفقة حين ترون تألمهما من الجلد؛ فتجلدوهما جلداً هيناً ليناً - فما هكذا أرادالله؛ في تأديب عباده العصاة - بل الواجب شرعاً أن يجلدا بمنتهى الحزم والغلظة؛ ليكونا عبرة لغيرهما، ونكالاً لأمثالهما وكيف تأخذ الإنسان المسلم رأفة بمن لم تأخذه رأفة بأخيه المسلم؛ فانتهك حرمته، واستباح عرضه؟ بل انتهك حرمات الله تعالى، وطرح أوامره، ولم يعبأ بما أوعد به من عقاب وكيف تأخذ الإنسان المسلم -[423]- رأفة {فِي دِينِ اللَّهِ} وقد أمره بالجلد؛ وهو تعالى أحكم الحكماء، وأرحم الرحماء؛ ولأن الرحمة بالجاني: تحمل معنى عدم الرحمة بالمجنى عليه؛ سواء كان زوجاً، أو أباً، أو أخاً {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ} جماعة {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} زيادة في فضيحتهما، والاعتبار بهما هذا ويجب أن يتقى في الجلد الوجه والمقاتل؛ والأصوب أن يكون الجلد على الظهر؛ بلا حائل من الملبس يحول دون العذاب المفروض

3

{الزَّانِي لاَ يَنكِحُ} لا يتزوج {إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} أي أن الواجب ألا تزوج المسلمات العفيفات للزاني الفاجر، بل له أن يتزوج زانية مثله، أو مشركة تليق بشاكلته. {وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ} لا يتزوجها {إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} أي يجب ألا يتزوج الحر العفيف زانية فاجرة وقد قال بعض الفقهاء بوجوب التفريق بين العفيفة إذا تزوجت بزان؛ لأنه غير كفء لها

4

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} أي يقذفون العفائف المسلمات: بأن يرموهن بالزنا كيداً وظلماً {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} بعد أن ثبت فسقهم وزورهم؛ هذا ولا تقبل شهادتهم - ولو بعد توبتهم - للتأبيد الوارد في الآية «أبداً» أما قوله تعالى:

5

{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ} فهو استثناء من قوله تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ولا يعمل الاستثناء فيما قبل ذلك؛ وإلا لتناول الجلد أيضاً؛ وهو حد من حدود الله تعالى؛ لا يسقط بالتوبة

6

{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} وذلك بأن يقول أربع مرات: أشهد ب الله أني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي

7

{وَالْخَامِسَةَ} أي يقول في الخامسة: عليّ لعنة الله تعالى إن كنت من الكاذبين

8

{وَيَدْرَؤُاْ} يدفع {عَنْهَا الْعَذَابَ} الرجم الذي استحق عليها بشهادة زوجها {أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} بأن تقول أربع مرات: أشهد ب الله أن زوجي لمن الكاذبين. وتقول في الخامسة: وعليّ غضب الله تعالى إن كان من الصادقين وباللعان هذا تحصل الفرقة الأبدية بين الزوجين: فلا يحل أحدهما للآخر أبد الدهر؛ فلا يجتمعان. ولا يتوارثان. وكيف يمسكها وهي بغي؟ أو كيف ترضى به وقد رماها بأقبح ما ترمى به امرأة، وأسوأ ما ينسب إلى حليلة؟

11

{إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ} الإفك: أسوأ الكذب؛ وقد كذبوا على أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، ورموها بما هي منه براء -[424]- {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} أي تحمل معظم الإثم، وخاض أكثر الخوض. والكبر: الإثم الكبير ومعظم الشيء. وقرىء «كبره» بضم الكاف. والمقصود به عبد الله ابن أُبيبن سلول، وقيل: حسانبن ثابت. ولكنه رضي الله تعالى عنه كذب ما أشيع عنه بقصيدة عصماء نفى بها ما أشيع وأذيع، وأثنى على عائشة رضي الله تعالى عنها بما هي أهل له قال فيها: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافلحليلة خير الناس ديناً ومنصباً نبي الهدى والمكرمات الفواضلمهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل شين وباطل

12

{لَّوْلا} هلا {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} أي إذ سمعتم الإفك {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ} الذين سمعوا الإفك {بِأَنْفُسِهِمْ} أي بالمفترى عليها؛ لأن جميع المؤمنين: كالنفس الواحدة {وَقَالُواْ هَذَآ} الذي سمعناه {إِفْكٌ مُّبِينٌ} كذب واضح؛ والإفك: أسوأ الكذب

13

{لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ} أي هلا جاء العصبة على هذا الإفك؛ وهو قذف صريح {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} يشهدون على صدق ما زعموا

14

{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} لكم بتأخير العقوبة في {الآخِرَةَ} بالغفران لمن تاب {لَمَسَّكُمْ} أيها العصبة {فِي مَآ أَفَضْتُمْ} فيما خضتم

15

{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} أي تتلقونه؛ يؤيده قراءة من قرأ «تتلقونه» والمعنى: «تتلقونه» بأسماعكم؛ فتذيعونه «بألسنتكم» فور سماعه؛ فكأنما تلقيتموه بألسنتكم؛ لا بأسماعكم؛ لسرعة إذاعته. وقرىء «تلقونه» بكسر اللام؛ من الولق: وهو الاستمرار في الكذب {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} وفي هذا دليل قاطع على النهي عن التكلم في الجنايات بالسماع؛ بل يجب أن يكون التكلم عن بينة واضحة، وعن رؤية مثبتة؛ فليست دماء الناس، وأموالهم، وأعراضهم؛ بمثل هذا القدر من الهوان {وَتَحْسَبُونَهُ} أي تحسبون هذا الرمي -[425]- والقذف {هَيِّناً} سهلاً {وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} مستوجب للحد والمقت

16

{وَلَوْلا} وهلا {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ} ما يصح ولا يجوز لنا {أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا} أن نتهم أحداً ظلماً؛ بغير دليل ولا بينة {سُبْحَانَكَ} يا ألله؛ تنزهت وتعاليت عن كل قبيح {هَذَا بُهْتَانٌ} زور وباطل {عَظِيمٌ} كبير

17

{يَعِظُكُمُ اللَّهُ} ينهاكم {أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ} أن تقعوا فيما وقعتم فيه

19

{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} أن تذيع ظلماً وزوراً وبهتاناً {فِي الَّذِينَ آمَنُواْ} وليس معنى ذلك أن يتستر الإنسان على ما ظهر من الفواحش وبدا للعيان؛ فذلك واجب المنع بكل لسان، والمحاربة بكل سنان؛ وهو يدخل في باب تغيير المنكر؛ الذي هو إحدى مراتب الإيمان وهذا بعيد كل البعد عمن يتسقط النبأ، فيذيعه على الملأ؛ فأولئك {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} بالجلد، والخزي، وسقوط العدالة، وعدم قبول الشهادة {وَالآخِرَةِ} بغضب الرحيم، وبالعذاب الأليم

21

{وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} اللعين {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ} وكل صديق سوء أمر بمنكر، وزين معصية: فهو في حكم الشيطان؛ بل هو شر منه؛ ويجب اجتنابه والابتعاد عنه {مَا زَكَا} ما طهر {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ} يطهر من أراد من دنس الفحش، وذل العصيان

22

{وَلاَ يَأْتَلِ} ولا يقصر. وقرأ أبو جعفر «ولا يتأل» أي ولا يحلف {أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ} الغنى {أَن يُؤْتُواْ أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} أي لا يقصر، ولا يحلف هؤلاء ألا يؤتوا الفقراء من أموالهم؛ لذنب جنوه، أو إثم ارتكبوه. قيل: نزلت هذه الآية حينما أقسم كثير من الصحابة - ومنهم أبو بكر - رضي الله تعالى عنهم؛ ألا يعطوا بعض من خاض في الإفك من الفقراء الذين كانوا يعطونهم. فلما نزل قوله تعالى: {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} قال أبو بكر: بلى؛ أنا أحب أن يغفر الله لي وأعاد ما كان يجريه على الفقراء الذين جاءوا بالإفك. وقد أراد الله تعالى أن يحفز السامع إلا ملازمة الصفح والعفو؛ بقوله: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} أي حيث إنكم تحبون الغفران، وتطلبونه من الديان؛ فلم لا تغفرون للإخوان، وتصفحون عما كان؟ وفي قصة الإفك، وما أعقبها: دليل على وجوب إعطاء الفقير ولو عصى، والمسكين ولو أثم إذ أن مقياس العطاء: الحاجة؛ فإذا ما استوى فيها التقي والشقي: وجب تقديم الأول على الثاني

25

{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} أي يوفيهم جزاءهم الذي يستحقونه على أفعالهم

26

{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} أي إن الخبيثات لا يرغب فيهن إلا الخبيثون. والآية مبنية على قوله تعالى: {الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} لأن الخبيثات والخبيثين: هم الزواني {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} وهم العفائف؛ فلا يجوز أن يتزوج عفيف إلا عفيفة مثله، ولا أن تتزوج عفيفة إلا عفيفاً مثلها. وهذه هي سنة النفوس الفاضلة، والخلق الكامل هذا ولم تخرج أوامره تعالى، وإرشاداته لخلقه عن أسمى الأخلاق التي تصبو إليها الإنسانية، وتنتظم بها الأسر: فلا يختلط الخبيث بالطيب، ولا يدنس العفيف نفسه بمخالطة البغي، ولا تنزل العفيفة إلى درك الزاني الفاجر {أُوْلَئِكَ} الطيبون والطيبات {مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} أي مما يقوله فيهم الخبيثون والخبيثات، الوالغون في الأعراض، الطاعنون في الكرامات

27

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ} يعلمنا ربنا سبحانه وتعالى آداب الزيارة، وكيف أننا لا نلج بيتاً قبل أن نستأذن أهله في دخوله، ونأنس بهم، ويأنسوا بنا. وانظر - يا من تتوهم أن الحضارة والرقة نأخذهما عن الغربيين - إلى أي حد يعلمنا مربينا تعالى، وإلى أي مدى يؤدبنا قرآنه الكريم، وكتابه الحكيم؛ فيحسن تأديبنا وتربيتنا

28

{فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً} من أهلها تستأذنونه وتستأنسون به {فَلاَ تَدْخُلُوهَا} وسواء كانت البيوت مفتوحة الأبواب، أو مغلقتها؛ فقد أغلقها الله تعالى بتحريم دخولها؛ وجعل مفتاحها الإذن من قاطنها، أو مالكها؛ و

29

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} إثم؛ في {أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} أي غير معدة للسكن الخاص {فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} وهو كل ما يتمتع به: من إيواء، واتقاء حر أو برد أو هي البيوت المستعملة لخزن البضائع وما شاكلها ويجوز أن يدخل في عموم ذلك الفنادق

30

{قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} أي لا يتطلعوا بأبصارهم إلى النساء؛ لأن البصر رائد القلب؛ بل هو بريد الزنا؛ بل هو مجلبة لانطماس القلب وغضب الرب فانظر - كفاك الله كيد نفسك وشيطانك - أين تضع بصرك قال الشاعر: وطرفك إن أرسلته لك رائداً لقلبك يوماً: أتعبتك المناظررأيت الذي لا كله أنت قادر عليه، ولا عن بعضه أنت صابر

31

{وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} المراد بالزينة: مواضعها كالجيد، والمعصم، والساق، وما شاكلها، أو المراد نفس التزين: كالاكتحال، وتخضيب الكفين، ووضع المساحيق على الوجه، وتلوين الشفتين، وما أشبه ذلك {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي إلا المقدار الذي لا يمكن إخفاؤه: كالوجه والكفين؛ بغير زينة، ولا خضاب {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أي وليضعن ما يتلفعن به على صدورهن؛ والجيب: فتحة الثوب مما يلي العنق؛ ومنه قوله تعالى لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الخفية؛ وهي ما عدا الوجه والكفين، أو هو كل ما يستحب رؤيته من المرأة، وما يجذب أبصار الرجال إليها؛ فكل ذلك حرام إبداؤه {إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} أزواجهن؛ الذين تملكوهن بكلمة الله ولا يحل لامرأة تؤمن ب الله واليوم الآخر أن تبدي زينتها إلا لبعلها الذي أحلها الله تعالى له، أو لمحرم ممن ذكرهم الله جل شأنه في هذه الآية. وقد ذهب كثير من العلماء إلى حرمة كشف الوجه - إذا خيفت الفتنة - وذلك لأن الزينة منها ما هو خلقي: كالوجه، وما هو كسبي: كالثياب، والحلي، والكحل، والمساحيق، والأصباغ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} من الإماء دون العبيد؛ ولو كانوا خصياناً {أَوِ التَّابِعِينَ} كالخدم، أو الفقراء؛ الذين يتبعونكم لأجل إطعامهم والتصدق عليهم؛ بشرط أن يكونوا من {غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ} وهم الذين ليس لهم مأرب في النساء: كالشيوخ الصلحاء، والمجبوبين؛ ومن شابههما {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} أي ليسمع صوت الخلخال

32

{وَأَنْكِحُواْ} زوجوا {الأَيَامَى} جمع أيم؛ وهي من ليست بذات زوج: بكراً كانت، أو ثيباً؛ ويطلق الأيم على الذكر والأنثى {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} أي المسلمين من العبيد والإماء

33

{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} أي لا يستطيعون الزواج لفقرهم؛ والاستعفاف: الابتعاد عن الزنا، ومواطنه، وأسبابه، ومقدماته؛ ومدافعة الرغبة بالصوم؛ قال: «من استطاع الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإن الصوم له وجاء» -[428]- {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} يطلبون المكاتبة: وهم العبيد يكاتبون مواليهم على أداء شيء معلوم؛ يتحررون بعد أدائه {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ} بناتكم، أو إمائكم، أو من تقومون بأمورهن مقام الولي والكفيل {عَلَى الْبِغَآءِ} الزنا؛ بتركهن بدون تزويج {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} تعففاً؛ بالزواج الحلال الطيب هذا وقد دأب أكثر الناس اليوم على التباطىء في تزويج بناتهم تباطؤاً أدى إلى الوقوع في الموبقات؛ بحجة عدم صلاحية طالب الزواج تارة، وبالتغالي في المهور تارة أخرى؛ مما يؤدي إلى الانصراف عن الفتيات، والرغبة عنهن، مكان الرغبة فيهن وفي هذا ما فيه من الانحراف، عن الاستعفاف، فليبادر من يتق الله تعالى إلى تزويج بناته؛ متى وجد الكفء لهن، الراغب فيهن، الحافظ لأعراضهن وقيل: إنهم كانوا يكرهونهن على البغاء، لاجتلاب الرخاء؛ كما يفعل بعض من أعمى الله تعالى بصائرهم، وطمس على قلوبهم؛ وساقهم الشيطان إلى مهاوي الضلال، ومهامه الرذيلة {وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ} لهن {رَّحِيمٌ} بهن {مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ} مضوا

35

{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي منورهما، والهادي فيهما إلى الطريق القويم، والصراط المستقيم ولما كان النور: هو الذي يرشد الإنسان إلى مواطن الضرر والخطر، ويهديه إلى طرق الأمن والسلامة؛ ولولاه لتردى الإنسان في مهاوي البيداء، ومهامه الصحراء ولما كان الله تعالى هو الهادي إلى أقوم الطرق، وأوضح السبل؛ كان وصفه جل شأنه بالنور: هو الجامع لصفاته العلية، الموضح لحاجة الكل إليه، واعتمادهم عليه وإلا فليس بعد النور الإلهي سوى دياجير الظلمات، المبعدة عن الرحمات والجنات فتمسك - يا رعاك الله - بنورالله: يهدك سبل الرشاد والسداد «ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور» {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} وهي الكوة غير النافذة في الجدار {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا} في صفائه وبريقها {كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} مضيء؛ نسبة إلى الدر الذي يضيء لشدة لمعانه {يُوقَدُ} ذلك الكوكب الدري {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} أي ليست كسائر الشجر؛ بل «من شجرة» بورك فيها وعليها {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} أي بينهما؛ فلا يتمكن منها حر ولا برد يضرانها {يَكَادُ زَيْتُهَا} لشدة صفائها {يُضِيءُ} بنفسه {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} ضوء الزيت، وضوء النار. أو هو نور الله تعالى - وهو هدايته للمؤمن - على نور المؤمن - وهو اهتداؤه بنفسه إلى خالقه، واختياره للإيمان. وانصرافه عن داعي الشيطان - وهو النور الذي يبدؤه المؤمن باختياره؛ فيذكيه مولاه تفضلاً وتكريماً منه تعالى لمن أكرم -[429]- نفسه، وسما بروحه؛ فينبثق النور من القلب؛ فتشتعل جذوة الإيمان، وتبعث الأعضاء على الانقياد والعبادة؛ فيصير الإنسان الترابي نورانياً: يأمر الأقدار فتطيعه، ويقسم فيبر الله قسمه، ويرغب فينقاد إليه كل شيء طوعاً وكرهاً بإذن الحنان المنان، الرحيم الرحمن {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ} أي للإيمان به

36

{فِي بُيُوتٍ} هي المساجد، أو هو كل بيت يقيم أهله الصلاة فيه، ويذكرون اسمه تعالى ويسبحونه ويقدسونه وهذه البيوت: هي محط نور الله تعالى، ومبعث هدايته ورحمته، والطريق إلى رضائه وجنته؛ وفيها المشكاة، ومنها ينبعث نور المصباح {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} أي في الصباح والمساء

37

{يَخَافُونَ يَوْماً} هو يوم القيامة {تَتَقَلَّبُ} تضطرب {فِيهِ الْقُلُوبُ} من شدة الخوف والرعب، والتردد بين الهلاك والنجاة تتقلب فيه أيضاً {الأَبْصَارِ} حيرى بين الجنة والنار

38

{وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} من فضله في الدنيا، ومن نعيمه في الآخرة {بِغَيْرِ حِسَابٍ} بلا حد، وبلا مقابل؛ فقد يرزق بالقناطير، جزاء للنزر اليسير، وقد يدخل الجنات، جزاء لصدق الطويات؛ فتعالى المعطي المانع، الضار النافع

39

{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ} الصالحة؛ التي عملوها في الدنيا - كصلة الرحم، وحسن المعاملة، والصدقة، وأشباه ذلك - فإنها تصير يوم القيامة {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} وهو شعاع يرى في الفلاة في وسط النهار {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً} فيهرع إليه لشدة ظمئه {حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} مما أراده: لا ماء، ولا ري {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ} أي عند عمله؛ الذي هو كالسراب، والذي هو في مسيس الحاجة إلى أقل الجزاء عليه؛ وفاته أنه قد جوزي على إحسانه في دنياه؛ تفضلاً وعدلاً من الله فإذا ما طمع في الجزاء عليه يوم القيامة «وجد الله عنده» {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} من العذاب؛ جزاء فسقه وكفره

40

{أَوْ كَظُلُمَاتٍ} أي إن أعمال الكفار «كسراب بقيعة، أو كظلمات» {فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} عميق، بعيد الغور، كثير الماء {يَغْشَاهُ} أي يغطي هذا البحر العميق {مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ} أي من فوق هذا الموج {مَوْجٌ} آخر {مِّن فَوْقِهِ} أي من فوق هذا الموج؛ الذي هو فوق الموج الأول {سَحَابٌ} غيم؛ فتجتمع من هذه الظلمات، والبحر، والأمواج المتراكبة المتكاثرة، والغيوم المتكاثفة {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ} الناظر، أو الواقع في هذا البحر {يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} لما أحاط به من الظلمات وهو مثل آخر ضربه الله تعالى لأعمال الكفار؛ فمثل أعمالهم بالظلمات؛ لأنها كلها مبنية على الخطإ والزيغ والفساد، ومثل اضطراب قلوبهم، وعدم استقرارها، وتغشيتها بالحيرة والضلالة: بالبحر اللجي -[430]- المتلاطم بالأمواج؛ إلى غير مقصد، وعلى غير هداية، ومثل جهلهم الذي غطى على عقولهم، وران على قلوبهم: بالسحاب {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً} يسترشد به في الملمات، ويهتدي به في الظلمات {فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} يوصله إلى الأمن والنجاة والسلامة

41

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} من ملك وإنس وجن {وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ} باسطات أجنحتهن بين السموات والأرض؛ فصار التسبيح شاملاً لما في السموات والأرض وما بينهما {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} أي قد علم الله تعالى صلاتهم وتسبيحهم، أو «كل قد علم» كيف يصلي، وكيف يسبح. (انظر آية 44 من سورة الإسراء)

43

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي} يسوق {سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} يضم بعضه إلى بعض؛ بعد أن كان متفرقاً {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} متراكماً؛ بعضه فوق بعض {فَتَرَى الْوَدْقَ} المطر. وقيل: البرق {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} أي من ثنايا السحاب {فَيُصِيبُ بِهِ} أي بالبرد النازل من السماء {مَن يَشَآءُ} معاقبته: فيتلف به زرعه، ويهلك ضرعه {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} أي لمعان برق ذلك السحاب المزجي المتراكم {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} يعميها فلا ترى شيئاً

44

{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} يأتي بأحدهما مكان الآخر، أو ينقص من أحدهما ويزيد في الآخر

45

{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ} أي من نطفة؛ وذلك لأنها سائلة، وأغلبها ماء. والدابة: كل ما يدب على وجه الأرض من إنسان، أو حيوان أو طير، ونحوه. والدابة إجمالاً: كل مخلوق تدب فيه الحياة. حتى الطير فإنه يخلق من البيضة؛ والبيضة محتوية على ماء الذكر حتماً؛ وإلا فهي غير معدة للإنتاج. وبذلك اقتضت حكمة الحكيم {فَمِنْهُمْ} أي من الدواب {مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} كالثعبان {وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} كالإنسان، والطائر {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كالأنعام والحيوان {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ} كما شاء {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} أراده {قَدِيرٌ} على إيجاده؛ وإنما هي أسباب سببها، وأمور رتبها؛ وقد خلق تعالى كل شيء ابتداء من غير ماء ولا نطفة، وسيعيده انتهاء من غير سبب؛ فتعالى الخالق، وجل المبدع المصور

46

{لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} حجج واضحات: هي آيات القرآن الكريم {وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ} طريق {مُّسْتَقِيمٍ} هو طريق الإسلام؛ الموصل إلى الجنة

47

{وَيِقُولُونَ} أي يقول المنافقون {ثُمَّ يَتَوَلَّى} يعرض {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} فيما عرض لهم من خلاف

48

{إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ} عن هذه الحكومة يأبونها لأن الحق قد جانبهم، والصواب قد باعدهم؛ ولأن الرسول لا يقول إلا حقاً، ولا ينطق إلا صدقاً

49

{وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ} أي في جانبهم {يَأْتُواْ إِلَيْهِ} أي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لعلمهم أنه سيحكم لهم؛ ما دام الحق معهم {مُذْعِنِينَ} طائعين مسرعين

50

{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} المراد بالمرض: الرغبة في اغتيال الحقوق؛ أو المراد به الكفر {أَمِ ارْتَابُواْ} شكوا في صدقه ونبوته {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ} يجور ويظلم {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الكافرون

51

{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ} أي الواجب على من يتصف بالإيمان

53

{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ} أي أقسم المنافقون {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} غايتها ونهايتها {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ} بالخروج للجهاد {لَيَخْرُجُنَّ} معك {قُل لاَّ} حينما يقسمون لك، ويجهدون أنفسهم في خداعك {تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} أي إن مبلغ طاعتكم وانقيادكم معروف لنا أيها المنافقون، وقد أطلعنا الله تعالى على ما في قلوبكم {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من طاعة باللسان، ومخالفة بالجنان

54

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} تتولوا؛ أي فإن تعرضوا {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} من التبليغ إليكم؛ وقد بلغ {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ} من وجوب الإيمان والطاعة؛ وقد كفرتم وعصيتم

55

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} وهو أمر ظاهر: فقد تم للمؤمنين فتح فارس والروم، ودانت لهم البلاد والعباد {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} يعني بني إسرائيل: أهلك الله تعالى الجبابرة بمصر والشام؛ وأورثهم أرضهم وديارهم -[432]- {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} وأي تمكين أكثر من أن شاع الإسلام وذاع، وملأ الأراضي والبقاع، ولم تبق بقعة على وجه الأرض تخلو من الإسلام والمسلمين؛ رغم محاربة الكافرين، ومعاداة المضلين {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} فقد كان السائر في الجاهلية لا يستطيع أن يمشي بضع خطوات؛ مطمئناً على نفسه، أو ماله؛ فجاء الإسلام فأحل الوئام مكان الخصام، والوفاق مكان الشقاق، والحب مكان الكراهية، والعطف والحنان مكان البغض والحقد {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الخارجون على ربهم

57

{لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ} أي لا نقدر على مؤاخذتهم والنيل منهم. أي لا يجوز أن يدخل عليكم خدمكم، ولا أطفالكم بدون استئذان في هذه الأوقات الثلاثة: وهي قبل صلاة الفجر؛ لأنه وقت طرح ثياب النوم واستبدالها بغيرها، وحين تخلعون ثيابكم لتناموا ظهراً؛ لأنه وقت القائلة وتخفيف الثياب، ومن بعد صلاة العشاء؛ لأنه وقت التجرد من الثياب

58

{ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ} أي هذه الأوقات المذكورة «ثلاث عورات لكم» لأنكم تحتاجون فيها إلى خلع الثياب؛ وبذلك يبدو منكم ما تحرصون على ستره، وتكرهون أن يراه أحد من الناس وقيل: أصل العورة من العار؛ وذلك لما يلحق في ظهورها من العار والمذمة (انظر آية 8 من سورة النساء) {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} جناح في ترك دخول خدمكم عليكم بغير استئذان؛ في غير هذه الأوقات الثلاثة {وَلاَ} حرج {عَلَيْهِمْ} في دخولهم عليكم. وهذا الحكم قبل أن تكون للبيوت أبواب أو ستور؛ أما عند وجود الأبواب أو الستر؛ فالإذن واجب في كل الأوقات، وسائر الحالات {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} يعني الخدم يطوفون عليكم بحوائج البيت، وتطوفون عليهم بطلب ما يلزمكم

59

{فَلْيَسْتَأْذِنُواْ} أي في كل الأوقات {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ} بلغوا الحلم {مِن قَبْلِهِمْ} وهم الذين تناولتهم الأحكام السابقة

60

{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً} وهن اللائي قعدن عن الحيض والولد لكبرهن. وهم لذلك لا يطمعون في الزواج ولا يطلبونه؛ بعد أن بلغن ما بلغن {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ} التبرج: إظهار ما خفي من الزينة {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ} عن التبرج والتزين {خَيْرٌ لَّهُنَّ} في الدنيا؛ لأنه موجب للإكبار والاحترام، و «خير لهن» في الآخرة؛ لأنه مدعاة لرضا الرب سبحانه وتعالى

61

{وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} أي بيوت أبنائكم؛ لأن بيت الإنسان لا يحتاج إلى إذن ورفع حرج. ولأنه تعالى لم يذكر بيت الأبناء؛ وهو أولى البيوت بالأكل منه؛ وعبر تعالى عنها بلفظ «بيوتكم» لأن بيت الابن ليس كبيت الإنسان فحسب؛ بل هو بيته فعلاً؛ قال: «أنت ومالك لأبيك» {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} أي خزنتموه لغيركم، وكنتم وكلاء على إدارته؛ كناظري الزراعات، ومديري المطاعم، وأشباههم. ويجب - في هذه الحال - أن يكون المالك عالماً بذلك. وقيل: إن هذا خاص بمن يقوم بعمله من غير أجر {أَوْ صَدِيقِكُمْ} أي ليس عليكم جناح في أن تأكلوا من بيوت من ذكر؛ ولو بغير حضورهم. هذا وقد يرتاح الإنسان في الأكل من بيت صديقه؛ أكثر من راحته في الأكل من بيت نفسه فكم من حبيب، أعز من القريب؛ وكم من أخ لك لم تلده أمك و {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً} مجتمعين {أَوْ أَشْتَاتاً} متفرقين {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} بأن تقولوا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ فإن الملائكة ترد عليكم. هذا إذا لم يكن بها إنسان

62

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} حقاً: هم {الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} أي أمر هام يحتاج للاجتماع: كخطبة الجمعة، ودراسة الدين والقرآن

63

{تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ} أي نداءه {كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} بأن تقولوا: يا محمد. بل قولوا: يا نبيالله، يا رسول الله {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} أي يخرجون مستخفين متسترين؛ يلوذ بعضهم ببعض {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي يخالفون أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، أو أمره جل شأنه {أَن تُصِيبَهُمْ} بسبب هذه المخالفة {فِتْنَةٌ} عذاب، أو زلازل وأهوال، أو سلطان جائر

64

{قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} «قد» للتحقيق؛ أي قد علم {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} من خير فيثيبهم عليه، ومن شر فيأخذهم به.

سورة الفرقان

سورة الفرقان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

تعالى وتقدس وتنزه أو هو من البركة، وهي الخير كل الخير {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} القرآن، وسمي فرقاناً: لأنه يفرق بين الحق والباطل {عَلَى عَبْدِهِ} محمد {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ} الجن والإنس؛ و «العالمين» جمع العالم. والعالم: الخلق كله

2

{وَلَمْ} كما تزعم النصارى {وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ} كما زعم المشركون {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} بحيث لا يزيد عن الحاجة، ولا ينقص عنها (انظر آية 50 من سورة طه)

3

{وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً} هي الأصنام {وَلاَ نُشُوراً} أي بعثاً للأموات؛ وهذه جميعها يملكها مبدع الأرض والسموات؛ فهو تعالى وحده خالق الخلق ومالكهم، وهو جل شأنه القادر على إيقاع الضر، وإيصال النفع، وإحداث الموت والحياة والنشور

4

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا} ما هذا القرآن {إِلاَّ إِفْكٌ} كذب {افْتَرَاهُ} اختلقه محمد {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ} ساعده على اختلاقه {قَوْمٌ آخَرُونَ} زعم المشركون أن بعض من آمن بمحمد من اليهود كانوا يعاونونه في اختلاق القرآن {فَقَدْ جَآءُوا} بقولهم هذا {ظُلْماً وَزُوراً} كفراً وكذباً؛ إذ كيف يؤمن به قوم يعلمون علم اليقين كذبه وافتراءه؟ وكيف يعقل أن هذا القرآن المعجز من صنع البشر، ومن جنس كلامهم؟ (انظر آية 23 من سورة البقرة)

5

{وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ} أكاذيب {الأَوَّلِينَ} المتقدمين {اكْتَتَبَهَا} طلب من غيره كتابتها له {فَهِيَ تُمْلَى} تقرأ {عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أول النهار وآخره. أي صبحاً ومساء

6

{قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي الذي يعلم ما خفي فيهما. ولما كان القرآن الكريم حاوياً لكثير من المغيبات؛ التي يستحيل على البشر علمها؛ كان ذلك دليلاً على نزوله من لدن عالم السر والنجوى

7

{وَقَالُواْ} من جهلهم وغبائهم {مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} كما نأكل {وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} طلباً للمعايش؛ كما نمشي {لَوْلاَ} هلا {أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} من السماء {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} يصدقه فيما يبلغه عن ربه

8

{أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} يغنيه عن المشي في الأسواق، ويجعله من الأغنياء الذين ينظر إليهم بعين الإكبار والاعتبار {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} بستان {وَقَالَ الظَّالِمُونَ} الكافرون {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} مخدوعاً، مغلوباً على عقله

9

{انظُرْ} يا محمد {كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ} فوصفوك بالمسحور، والمحتاج إلى مال ينفقه، وإلى ملك يؤيده؛ وهذه الأمثال التي ضربوها، والأكاذيب التي اخترعوها؛ ما أرادوا بها إلا التوصل إلى تكذيبك، والحط من شأنك {فَضَلُّواْ} عن الهدى {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} إلى الإيمان؛ وكيف يهديهم الله تعالى وقد ضلوا وأضلوا {وَأَعْتَدْنَا} أعددنا وهيأنا

12

{سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً} غلياناً؛ كما يغلي صدر المغضب المغيظ {وَزَفِيراً} صوتاً شديداً. أو المعنى: رأوا لها تغيظاً، وسمعوا لها زفيراً؛ لأن التغيظ لا يسمع؛ أو هو وصف لخزنتها

13

{وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً} أي إذا ألقوا في مكان ضيق منها؛ وجهنم تضيق على وارديها - رغم سعتها، وقولها {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} - ليكون ذلك الضيق من جملة العقاب الواقع بهم {مُّقَرَّنِينَ} مسلسلين في الأغلال؛ قرنت أيديهم وأرجلهم {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} أي هلاكاً؛ كقول المصاب: وامصيبتاه؛ فيقال لهم:

14

{لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً} لأن الهلاك قد أحاط بكم من كل جانب

15

{قُلْ} للمشركين يا محمد - بعد وصف ما أعده الله تعالى لهم من عذاب أليم - {أَذلِكَ} العذاب {خَيْرٌ} لمن يحل به {أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وَعِدَ الْمُتَّقُونَ} بها، وأعدها الله تعالى لهم {كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً} ثواباً على أعمالهم {وَمَصِيراً} مرجعاً يصيرون إليه؛ فضلاً من ربهم ورضواناً

16

{كَانَ} ذلك الجزاء {وَعْداً} وعده الله تعالى عباده المتقون {مَّسْئُولاً} يسأله من وعد به: «ربنا وآتنا ما وعدتنا» ويسأله الملائكة «ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم»

17

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} أي يحشر المشركين {وَمَا يَعْبُدُونَ} من الأصنام، أو من الملائكة، والإنس والجن {فَيَقُولُ} تعالى للمعبودين

18

{قَالُواْ} أي الأصنام؛ ينطقها الله الذي أنطق كل شيء. أو المراد بما يعبدون: ما يعقل: كالملائكة، وعيسى، وعزير {سُبْحَانَكَ} تعاليت وتقدست عما قالوا، وما فعلوا (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) {مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ} ونحن المعبودون لهم نواليهم ونركن إليهم؛ فكيف نضلهم، ونطلب منهم أن يعبدونا من دونك؟ {وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ} بسعة الرزق، وطول العمر -[437]- {حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ} تركوا شكر نعمتك؛ حتى استوجبوا نقمتك {وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً} هلكى؛ أو هو كالأرض البور: الفاسدة التي لا تجود بالنبات

19

{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} أي كذبتكم الآلهة التي تزعمونها، وتبرأت منكم {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً} دفعاً للعذاب عنكم {وَلاَ نَصْراً} ولا أحداً ينصركم علىالله، ويمنعكم عذابه الذي قضاه لكم {وَمَن يَظْلِم} يشرك

20

{لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} كما تأكل {وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} كما تمشي؛ فلست بدعاً من الرسل؛ بل أنت واحد منهم {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} أي بلية: ابتلى الفقير بالغني، والمريض بالصحيح، والوضيع بالشريف؛ فيقول الفقير: ما لي لا أكون غنياً؟ ويقول المريض: ما لي لا أكون صحيحاً؟ ويقول الوضيع: ما لي لا أكون شريفاً؟ وذلك الابتلاء لينظر تعالى {أَتَصْبِرُونَ} على ما ابتليتم به، أم تكفرون؟ {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} بعباده، عالماً بما سيؤول إليه أمرهم وحالهم

21

{وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} لا يؤمنون بالآخرة {لَوْلاَ} هلا {وَعَتَوْا} طغوا

22

{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ} يوم القيامة؛ لأنهم لا يرونهم إلا يومها؛ ويومذاك {لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} الكافرين؛ بل لهم العذاب والخزي والحرمان ولا تكون البشرى إلا لصالحي المؤمنين {وَيَقُولُونَ} أي يقول الملائكة {حِجْراً مَّحْجُوراً} أي حراماً محرماً أن يبشر أو يدخل الجنة؛ إلا من قال: لا إله إلاالله، وقام بحقها. وقيل: هو من قول الكافرين؛ بمعنى: عوذاً معاذاً؛ يستعيذون من الملائكة الذين يدفعونهم إلى جهنم، ويدعونهم إلى نارها

23

{وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} أي إنا لا نقيم لحسنات الكفار وزناً يوم القيامة

24

{وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} أي منزلاً؛ وهو المكان الذي يقال فيه؛ أي ينام وقت القيلولة؛ وهي منتصف النهار

25

{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ} تتشقق {بِالْغَمَامِ} قيل: تتشقق السماء عن غمام أبيض؛ وهو المعنى بقوله تعالى {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} {وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ} من أمكنتها وسماواتها {تَنزِيلاً} بأمر ربها

26

{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} أي الملك الحقيقي؛ الذي فيه الرفع والخفض، والإعزاز والإذلال؛ وليس كملك الدنيا وملوكها؛ الذين لا حول لهم ولا طول

27

{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} ألماً وحسرة وندماً -[438]- {يَقُولُ يلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} طريقاً إلى الهدى

28

{لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} وفلاناً: هو الشيطان الموسوس: إنسياً كان أو جنياً

29

{لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} صرفني عن القرآن وما فيه من عظات، وآيات بينات

30

{وَقَالَ الرَّسُولُ يرَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} أي متروكاً؛ والمراد ترك أحكامه، أو ترك تلاوته والاتعاظ به. وقيل: اتخذوه محلاً للهجر والسخرية. والهجر: فحش القول

32

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ} هلا {نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ} لنتأكد أنه منزل من عند ربه؟ قال تعالى رداً عليهم {كَذَلِكَ} أنزلناه مفرقاً منجماً {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} نقوي قلبك بحفظه واستيعابه، وفهمه {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} أي بيناه تبييناً، ونزلناه بتمهل وتؤدة

33

{وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} يريدون به تكذيبك وإبطال أمرك {إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} الدامغ لباطلهم {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} بياناً للأمور؛ وقد وصفهم الله تعالى بقوله:

34

{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ} يجرون عليها؛ وفي هذا منتهى الإذلال والتعذيب

35

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة. وقد شرع الله تعالى في تسلية رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام؛ بسرد تكذيب الأمم السابقة لرسلهم - كما كذبه قومه - وما حل بأقوامهم من تعذيب وتدمير

36

{فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} وهم فرعون وقومه من القبط؛ فذهبا إليهم برسالة ربهم وكتابه؛ فكذبوهما وآذوهما ومن آمن بهما {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} أهلكناهم إهلاكاً

37

{وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} عظة وعبرة {وَأَعْتَدْنَا} أعددنا وهيأنا

38

{وَعَاداً} قوم هود {وَثَمُودَاْ} قوم صالح {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} الرس: البئر غير مطوية؛ وقد كانوا حولها وقت نزول العذاب فانهارت بهم؛ ولذا تسموا باسمها. وهم قوم شعيب عليه السلام {وَقُرُوناً} أمماً

39

{تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} أهلكنا إهلاكاً؛ من التبر: وهو الكسر والإهلاك

40

{وَلَقَدْ أَتَوْا} أي مر كفار مكة {عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} السوء: العذاب؛ وهي قرية سذوم: أعظم قرى قوم لوط؛ وقيل: سدوم. وقد أهلكها الله تعالى وأمطرها حجارة. وقد كانت قريش تمر بها في تجاراتهم إلى الشام {بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً} أي لا يؤمنون بالبعث

42

{لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا} دمنا وبقينا على عبادتها

43

{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أي نسي مولاه، واتبع هواه، وانقاد له في كل الأمور. قيل: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر؛ فإذا مر بحجر أحسن منه عبده وترك الأول (انظر آية 176 من سورة الأعراف)

45

{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} بسط الظل الظاهر للعيان؛ ليتمتع به كل إنسان {وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} مستقراً لا تنسخه شمس. أو المراد بسكونه: منع الشمس من الطلوع {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} أي على تحرك الظل؛ إذ أن الأشياء لا تعرف إلا بأضدادها؛ فلولا الشمس ما عرف الظل

46

{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} أي قبضنا الظل الممدود {قَبْضاً يَسِيراً} خفياً بطيئاً؛ بطلوع الشمس، أو بزوالها؛ حيث يقبض الظل ويتقلص، ويحل محله الإظلام التام

47

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً} أي ساتراً كاللباس {وَالنَّوْمَ سُبَاتاً} أي راحة. وقيل: موتاً لأنه الموت الأصغر. قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ} {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} أي ينشر فيه الخلق لطلب المعايش، أو هو كالبعث من الموت

48

{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي أرسل الرياح لتبشر الناس بالمطر وسمي المطر رحمة: لأن به حياة النفس، والأرض، والنبات، والحيوان

49

{لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} جدباً؛ لا نبات فيها {وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً} إبلاً وبقراً وغنماً {وَأَنَاسِيَّ} جمع إنسان أو جمع إنسي

50

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} بيناه؛ والمراد به القرآن الكريم؛ وقيل: المراد به الماء؛ وليس بشيء؛ وقد جاء ذكر القرآن في صدر السورة {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} وقوله {لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} القرآن {بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي} وقوله تعالى:

52

{وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} أي بالقرآن - لا بالماء - والجهاد به: الأمر بالعمل بما فيه، والقتال عليه

53

{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} جعلهما متلاصقين مختلطين {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} شديد العذوبة {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} شديد الملوحة {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} حاجزً {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} حائلاً يمنع أحدهما عن الآخر

54

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ} المني {بُشْرَى} إنساناً {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} بأن يتزوج، ويزوج، فيناسب، ويصاهر؛ وبذلك ينتج وينجب من يناسب ويصاهر أيضاً؛ فلا تنقطع البشرية

55

{وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} أي معيناً عليه أعداءه؛ من شياطين الإنس والجن

57

{قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي على التبليغ {إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي لا أطلب أجراً لي على التبليغ؛ إلا من شاء أن يتخذ طريقاً لمرضات ربه؛ فينفق من ماله، ويتصدق مما آتاه الله

58

{وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} هو قول: سبحانالله، والحمدلله قال «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} عليماً بها؛ فيجازيهم عليها {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} استواء يليق به؛ وليس كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود عن الحدود

59

{الَّذِي خَلَقَ} أي عنه؛ والباء تكون بمعنى عن؛ إذا اقتضى السياق ذلك. ونظيره قوله تعالى: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} أي عن عذاب. ومعنى «فاسأل به» أي اسأل عما ذكر من خلق السموات والأرض، والاستواء على العرش {خَبِيراً} أي خبيراً بذلك؛ وهو الله تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وقال بعض الأجلاء: «فاسأل به خبيراً» أي اسأل عن الرحمن «خبيراً» وهم مؤمنو أهل الكتاب؛ وقد ورد اسم الرحمن في كتبهم؛ وقد كان المشركون أنكروا على الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك الاسم الكريم عند نزول قوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَآءَ الْحُسْنَى} وقد وصف الله تعالى ما حدث منهم بقوله جل شأنه:

60

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ} مستنكرين {وَمَا الرَّحْمَنُ} ألست تزعم أن ما تدعونا إليه إلهاً واحداً؟ {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ} ذكر الرحمن {نُفُوراً} على نفورهم، وكفراً على كفرهم

61

{تَبَارَكَ} تعالى وتنزه وتقدس الله {الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَآءِ بُرُوجاً} وهي اثنا عشر (انظر آية 16 من سورة الحجر) {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} يضيؤها؛ وهو الشمس {وَقَمَراً مُّنِيراً} ينير الأرض عند طلوعه، ويهدي السائرين والمسافرين. هذا وقد ولع أقوام باكتشاف القمر؛ ولم تقف أطماعهم عند حد النظر؛ بل أرادوا أن يلجوه، ويسبروا غوره، ويعرفوا ما وراءه. وزعم بعضهم أنه سيرسل صاروخاً يفجر به جزءاً من القمر؛ ليكون هذا التفجير طريقاً إلى اكتشافه. وما رأينا فيما رأينا ولا سمعنا فيما سمعنا حمقا يعدل هذا الحمق ولا جهلا يوازي هذا الجهل! فإننا لو افترضنا جدلا أن الوصول إلى القمر بالطريق التي يرسمونها، ومن اليسر بالدرجة التي يتوهمونها، فهمل من الحكمة، وهل من السداد أن يحطم الإنسان ما يريد أن يكتشفه وينتفع به؟! وماذا يكون الحال لو ثبت أن في هذه الكواكب سكاناً عقلاء، وأنت هؤلاء السكان قد بلغوا

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: النص التالي في النسخة الإلكترونية، وليس في المطبوع: وقوام البحث العلمي الصحيح: أن نبحث أموراً ثلاثة: أولها: أن التحدي واقع على الإنس والجن معاً {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ}. ثانيها: أقطار السموات والأرض، ومدى هذه الأقطار، وكنهها {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ} ثالثها: السلطان؛ الذي تستطيع أن تنفذ به الإنس والجن من أقطار السموات والأرض؛ متى توفر لهم {لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} وهل يمكن توفر هذا السلطان أم لا؟ الأول: التحدي يجب أن يكون بأمر؛ ليس في طاقة المتحدِّي إتيانه. وقد ثبت من القرآن نفسه: قول الجن «وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً». فوجب أن يكون التحدي: أبعد من لمس السماء، أو أن يكون اللمس غايته؛ لأنهم قد منعوا عنه بالحرس والشهب. الثاني: أن مدى أقطار السموات والأرض؛ يستدعينا أن نستوفي المقاييس بين السماء والأرض؛ لمعرفة أقطارهما، والكواكب المتعلقة بالأرض، والمسخرة لخدمتها وخدمة سكانها؛ فالقمر: الذي وصلوا إليه، والمريخ والزهرة: اللذان يحاولون الوصول إليهما؛ بل المجموعة الشمسية كلها؛ بما فيها من كواكب، وأنجم ومجرات: كلها مسخرة للأرض {وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ} {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} -[442]- من العلم ما بلغنا وأنهم قد رغبوا فيما رغبنا فيه، من اكتشاف بعض الكواكب القريبة منهم - كالأرض مثلا- فإذا بنا نفاجأ يوما ما بصاروخ موجه إلى الأرض من القمر أو سكان الزهرة أو المريخ، وإذا بنا في لحظة من اللحظات وقد طاحت القارة الأمريكية أو الأوروبية أو غيرهما من القارات، في سبيل استكشاف سكان بعض الكواكب للكوكب الأرضي أليس في هذا من الحمق والخرق ما يكفي لأن نغل يد من يقول بذلك ويعمل في سبيله، وأن نلقي به في غياهب البيمارستانات، حتى يرتد إليه عقله، ويثوب إليه رشده وإذا سرنا وراء السائرين، وقلنا مع القائلين: بأن الإنسان سيبلغ القمر لا محالة، وأنه سيسكنه ويستعمره في بضع سنين، فما الفائدة التي تعود على بني الإنسان من سكنى القمر أو سكنى بعض الكواكب؟ ولنفترض أننا قد وصلنا إليه الآن فعلا، فهل تقف مطامع الإنسان عند هذا الحد أو يشمر عن ساعد الجد، فيسعى للوصول إلى الزهرة فالمريخ - وقد طمع من الآن في ولوجهما، وبدأ في قياس أبعادهما، وطريق الوصول إليهما - وها نحن أولاء قد وصلنا إلى القمر وسكناه، وإلى المريخ فاستعمرناه، وإلى الزهرة فملكناه، فهل تقف المطامع إلى هذا الحد، أم تتصاعد إلى عطارد، فالمشترى، فزحل -[443]- وآخر المطاف قد يفكر الإنسان في ولوج الشمس؛ ليسبر غورها، ويكشف لثامها؛ ولم لا: ألم يتغلب على سائر الأجواء، ويتملك الأرض والسماء؟ فإن كانت الشمس قطعة من النيران؛ فإنه يستطيع حتماً مكافحتها بما أوتي من حذق وعلم؛ فليأخذ كل صاعد إلى الشمس آلة صغيرة مما أعد لإطفاء الحرائق؛ فيعيش في النيران، كما يعيش المنعم في الجنان وإذا ملك الإنسان الكواكب واستعمرها - كما يزعم - فهل يقف عند ذلك؛ أم يقلب ناظريه إلى العرش والكرسي، وإلى الملك اللانهائي؛ فيطمع في معرفة حدوده وأركانه وتخومه؛ وكيف نشأ الكون؟ وكيف بدأ؟ وكيف صنع؟ ومن هو هذا الصانع؟ وأين هو؟ هلم إلى لقائه؛ بل إلى محاربته ألم ننكر وجوده؟ ألم نكفر بحقيقته؟ ألم نقل: لا إله إلا المادة، ولا خالق إلا الطبيعة، ولا رازق إلا السعي، وأن المخلوقات إنما خلقت من لا شيء، والموجودات وجدت من غير شيء؟ وها هو الكون قد جبناه، والملكوت قد حصرناه؛ فأين يوجد ما تزعمون أنه الله؟ -[444]- فيا أيها ذا الأحمق الأخرق: لقد وصلت إلى درجة من الفهم؛ ما كنت لتعقلها لولا ما وهبك الله تعالى من عقل، ووصلت إلى درجة من العلم؛ ما كنت لتعلمها لولا هداية العزيز الأكرم، الذي {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فقد استطعت أن تقيس سرعة الصوت والضوء، وأن تحسب تنقلات الشمس والقمر في بروجهما، وتحديد زمن كسوفهما وخسوفهما؛ وشأن كليهما وتأثيره في الحيوان، والنبات، والجماد. وقد أدركت - بما علمك الله تعالى - بعض القوانين الكونية، وكثيراً من الأسرار الطبيعية كل ذلك قمين بهدايتك إلى خالقك وموجدك، وجدير بإنابتك له وتعبدك ولكنك أيها الإنسان - كشأنك دائماً - جحود كنود فقد جعلت هذه الفتوحات الربانية باباً لكفرك وتكذيبك، ومصدراً لإلحادك وعنادك؛ ولم تقل: جل الصانع، وتبارك الخالق بل قلت: ما أجمل الطبيعة وأبدعها أليست هي مصدر الكون، وأصل الحياة؟ وما الكون إلا وليد الصدفة، وما الإنسان إلا وليد الطبيعة فيا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم؛ الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك اعلم أن الذي أدركته وملكته واستعمرته: لا يعدل قطرة من بحر ملك ربك الزاخر، وأن ما علمته من الكواكب، وما أدركته من صفاتها ومقوماتها؛ إن هو إلا ذرة في مجموعة من النجوم - لا تستطيع أن تحصيها ولو أضفت إلى عمرك أعمار النسور، وأضفيت على نفسك قوى الجبابرة والعمالقة - وهذه النجوم مجتمعة - ما عرفت منها وما لم تعرف - إن هي إلا ذرة في مجموعة أخرى؛ لا يحيط بها العلم، ولا يدركها الوهم؛ وهكذا هكذا بغير انتهاء واعلم أنك - وقد استويت خلقاً، وأوتيت علماً وفهماً، وسلطك الله تعالى على ما هو أكبر منك جسماً، وأشد مراساً؛ من مخلوقاته - لو سلط عليك قليلاً من النمل لأهلكك، أو ريحاً من الرمل لأفنتك وها هو الميكروب الذي عرفته، وبما آتاك الله تعالى من علم اكتشفته: لو سلطه الله تعالى عليك لجعلك كالعصف المأكول؛ كما فعل بأصحاب الفيل فيا أخي في الإنسانية، وعدوي في اللادينية: ثب إلى رشدك، وقف عند حدك، والزم أدبك؛ واعلم أن نفسك ليست بأخس من النعل، ولا بأحقر من الحديدة في حافر البغل؛ وهما لا يوجدان بغير موجد، ولا يكونان بغير مكون. فكيف توجد أنت - يا لابس الحذاء، وراكب البغل - بلا خالق، وتأكل بلا رازق، وتولد بلا مصور، وتتعلم بلا معلم، وتتربى بلا مرب، وتحفظ بلا حفيظ، وتهتدي بلا هاد، وتغنى بلا مغن؟ كيف يفوتك ذلك وأنت اللبيب الأريب؟ وقد أبان لك الله تعالى الطريقين، وهداك النجدين؛ فاحذر يا أخي من الوقوع في براثن الشيطان؛ إنه لك عدو مبين؛ وإني لك لناصح أمين ومن عجب أن يتبرع أناس بأنفسهم، ويضحون بأرواحهم، ويطلبون أن يكونوا من بين المسافرين إلى الكواكب؛ كأن السفر إلى الكواكب قد أصبح بين عشية وضحاها حقيقة ثابتة واقعة لا محالة. ومثلهم في ذلك كمثل من سعى إلى حتفه بظلفه؛ فلن يبلغ الكواكب بالغ، ولن يسافر إليها مسافر فكما أن أجواء أعماق البحار والأنهار غير صالحة لسكنى بني الإنسان - مع صلاحيتها لسكنى كثير من الحيوان - فإن أجواء الكواكب لا تصلح لسكناه، أو لبقائه بضع دقائق على قيد الحياة؛ كما أن الأرض لا تصلح لحياة ساكني البحار، ولا ساكني الكواكب. وهذا وقد قال الحكيم العليم - في معرض التعجيز والتحدي - {يمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} أي بقوة عظيمة قاهرة؛ وأنى لكم ذلك؟ {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ} فإن استطعتم يا معشر البلهاء؛ أن تبلغوا الكواكب فابلغوها، وأن تصعدوا إلى النجوم فاصعدوا إليها؛ فقد سبقكم إلى ذلك فرعون؛ حيث قال لهامان: {يهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} فما نالهما سوى الخزي والخذلان وما فرعون وهامان بأكفر ولا أحمق منكم: فقد كذب بخالقه كما كذبتم، وأنكر إلهه كما أنكرتم؛ فأنتم في الغفلة سواء؛ كما أنكم في الكفر أشقاء؛ ولم يبق إلا أن تنزل بساحتكم الأرزاء، وبجسومكم الأدواء؛ ومآلكم جميعاً إلى النار، وبئس القرار فيا أيها الناس استجيبوا لقول خالق الناس؛ واحذروا ما أعده لأمثالكم من نار ونحاس؛ واحفظوا على أنفسكم أموالكم وعقولكم؛ واعلموا أن استعمار الأنهار، وسكنى قاع البحار؛ أقرب إليكم من استعمار الكواكب وسكناها {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}

62

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} أي يخلف أحدهما الآخر {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} يتذكر؛ فإن فاتته عبادة في أحدهما؛ أدركها في الآخر {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} أو أراد أن يشكر ربه. هذا وشكره تعالى باللسان: أقل مراتب الشكر؛ وإنما يكون الشكر بالعبادة، والصدقة، -[445]- والصيام، والقيام (انظر آية 152 من سورة البقرة)

63

{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} أي متواضعين، هينين؛ بدون كبر، ولا مرح، ولا بطر {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ} بسفههم: قابلوه بحلمهم؛ و {قَالُواْ سَلاَماً} أي قالوا قولاً يسلمون به من الإثم الذي وقع فيه الجاهلون {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} أي هلاكاً لازماً، ومغرماً لا كسب فيه

67

{وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ} نفقة على أنفسهم وعيالهم {لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} أما إذا كان الإنفاق في الصدقات؛ فيستحب الإسراف فيه. قال: «لا سرف في الخير» {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} أي عدلاً بين الإسراف والتقتير؛ وكفى بالمرء سرفاً: أي ينيل نفسه كل ما تبتغيه

68

{وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} أي جزاء الإثم. وأي إثم أشد من الإسراف، والشرك، وقتل النفس، وارتكاب الزنا

69

{وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} أي يخلد في العذاب خلوداً أبدياً لا انقضاء له (انظر آية 93 من سورة النساء)

70

{إِلاَّ مَن تَابَ} عن الإسراف، والعصيان، والقتل؛ قبل أن يدركه الموت وأسبابه {وَآمَنَ} ب الله إيماناً يقينياً {وَعَمِلَ} عملاً {صَالِحاً} وذلك لأن الإيمان لا يتم إلا بالعمل الصالح بعد أن بين الله تعالى الموبقات المهلكات، وذكر جزاءها؛ وهو الخلود في النار: ذكر إثماً من أكبر الآثام وأشدها: وهو شهادة الزور

72

{وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ولا يخفى ما في شهادة الزور من ضياع للحقوق، وإتلاف للأموال، وإفساد للضمائر؛ إلى غير ذلك من إهدار للدماء، وفشو للجرائم وشهادة الزور: من أكبر الكبائر قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسولالله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين - وكان متكئاً فجلس - وقال: ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور» كررها ثلاثاً؛ لمزيد قبحها، وفادح شرها هذا وقد كان قدماء المصريين يحكمون على شاهد الزور بالقتل {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ} أي بالفحش، وكل ما ينبغي أن يلغى ويطرح. والمعنى: وإذا مروا بأهل اللغو} أي معرضين عنهم

73

{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} أي قرىء القرآن، أو ذكروا بما فيه {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} أي بل يسمعونها، ويتبصرون فيها؛ ليعملوا بها

74

{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} بأن يكونوا طائعين لك ولنا، مشفقين منك وعلينا. وقرة العين: هدوؤها واستقرارها بالاطمئنان؛ أو هو من القر: وهو البرد؛ لأن دمع السرور: بارد، ودمع الحزن: ساخن. ولذا يقال في الدعاء: أقر الله عينك، وأسخن عين عدوك {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} أي قدوة يقتدي بنا في الخير

75

{أُوْلَئِكَ} الموصوفون بما ذكر {يُجْزَوْنَ} -[446]- على صنيعهم وقولهم هذا {الْغُرْفَةَ} هي واحدة الغرفات؛ وهي أعالي الجنات؛ ومنه قوله تعالى {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} وقيل: الغرفة: الدرجة العليا {بِمَا صَبَرُواْ} أي جزاء صبرهم على الطاعات، وعن المعاصي

77

{قُلْ} يا محمد لكفار مكة {مَا يَعْبَأُ} ما يكترث {بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ} له في الملمات والشدائد؛ فيكشفها عنكم: إثباتاً لألوهيته وربوبيته؛ وتسجيلاً لعدولكم عن الإيمان إلى الشرك، وكفركم بربكم؛ بعد إنجائكم وإغاثتكم؛ قال تعالى {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} بالقرآن والرسول {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} أي سوف يكون تكذيبكم هذا لزاماً لكم؛ تجزون به، وتعاقبون عليه أو سوف يكون العذاب ملازماً لكم.

سورة الشعراء

سورة الشعراء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{طسم} (انظر آية 1 من سورة البقرة)

3

{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} أي قاتلها حزناً وغماً

4

{إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً} أي إن نشأ إيمانهم قسراً: ننزل عليهم من السماء برهاناً وحجة، ومعجزة ظاهرة {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} أي فتظل رؤساؤهم ومقدموهم، أو جماعاتهم لها منقادين. وجاء في اللغة: العنق: بمعنى الرئيس، أو الجماعة

5

{وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ} قرآن {مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} جديد بالنسبة إليهم؛ قديم بالنسبة لمنزله تعالى: آيات حق من الرحمن محدثة قديمة صفة الموصوف بالقدم

6

{فَقَدْ كَذَّبُواْ} بربهم وآياته ورسله {فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ} عواقب

7

{مِن كُلِّ زَوْجٍ} صنف من الثمار والأزهار، والمطعوم والمشموم {كَرِيمٍ} حسن نفيس

8

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإنبات {لآيَةً} دالة على وحدانيته تعالى، وكمال قدرته

13

{وَيَضِيقُ صَدْرِي} من تكذيبهم لي {وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي} في محاجتهم. قيل: كانت به لثغة تمنعه من الانطلاق في الكلام {فَأَرْسِلْ إِلَى} أخي {هَارُونَ} أي اجعله معي رسولاً إلى فرعون وقومه

14

{وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ} هو قتله للقبطي (انظر آية 15 من سورة القصص)

15

{قَالَ} تعالى {كَلاَّ} لا تخافا {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَآ} بحججنا الدالة على صدقكما ووحدانيتنا {قَالَ} فرعون لموسى؛ حين قال له:

16

{إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *

17

أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}

18

{أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} أراد فرعون أن يذكر موسى بتفضله عليه بالتربية؛ ولم يعلم اللعين أن الله تعالى هو ربه ومربيه

19

{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} المراد بالفعلة: قتله القبطي {وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} بتربيتي لك، ونعمتي عليك

20

{قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً} أي حينئذٍ -[447]- {وَأَنَاْ مِنَ الضَّالِّينَ} أي لم أكن بعثت، ولم تأتني الرسالة بعد

21

{فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً} أي علماً غزيراً؛ أستطيع بواسطته الحكم على الأشياء حكماً صحيحاً

22

{وَتِلْكَ} القالة التي تقولها؛ من أنك ربيتني وليداً، وأبقيتني بينكم سنين من عمري {نِعْمَةٌ} حقيقية {تَمُنُّهَا عَلَيَّ} ولكن ما قيمتها بعد {أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} وأذللتهم؛ وفي ذلك إذلال لي أيضاً؛ لأن كرامة النوع الإنساني لا تتجزأ

30

{قَالَ} موسى لفرعون {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} بمعجزة ظاهرة بينة

31

{قَالَ} فرعون {فَأْتِ بِهِ} أي بهذا الشيء المبين {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في دعواك

32

{فَأُلْقِيَ} موسى {عَصَاهُ} التي كان ممسكاً بها في يده يتوكأ عليها {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} ضخم عظيم

33

{وَنَزَعَ يَدَهُ} أخرجها من جيبه {فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} تسطع نوراً يغشى الأبصار؛ وليس بياضاً كبياض البرص

34

{قَالَ} فرعون {لِلْمَلإِ} الذين {حَوْلَهُ} من شيعته، المؤمنين بربوبيته {إِنْ هَذَا} يعني موسى عليه السلام

36

{أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} أن أرجئهما وأخرهما {وَابْعَثْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ} جامعين

38

{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ} لوقت {} هو وقت الضحى من يوم الزينة

41

{قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً} عندك

40

{إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} لموسى

43

{قَالَ لَهُمْ مُّوسَى} أي قال للسحرة {أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} من السحر

44

{فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} فخيل إلى موسى أنها حيات تسعى {وَقَالُواْ} حينما ألقوا ما ألقوا {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ} مولانا وإلهنا

45

{تَلْقَفُ} تبتلع {مَا يَأْفِكُونَ} ما يزورون من تخييل الحبال والعصى أنها حيات. فلما رأى السحرة ما فعله موسى بسحرهم، وعلموا أن ما جاء به ليس بسحر؛ لأن السحر تبقى معداته وأدواته، ولا تمحى؛ وقد لقفت عصاه حبالهم وعصيهم، ولم يبق أثر لها

46

{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ} على وجوههم {سَاجِدِينَ} لرب موسى وهارون؛ بعد أن كانوا يقولون {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} وأصبح من يستعين بهم فرعون: عوناً عليه، لا عوناً له؛ فأسقط في يد اللعين، وحل به الخزي والعار في عقر داره، وبين أهله وأنصاره. وحينئذٍ

49

{قَالَ} مخاطباً سحرته {آمَنتُمْ لَهُ} أي هل آمنتم لموسى {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} بالإيمان {إِنَّهُ} أي موسى {لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} أراد أن يوهم قومه أن سحر موسى من جنس سحر السحرة؛ كيف لا: وقد أحال موسى عصاه حية؛ كما أحالوا حبالهم وعصيهم حيات. وفاته أن السحرة - وهم أدرى الناس وأعلمهم بالسحر - قد علموا أن ما جاء به موسى ليس بسحر؛ وإنما هو من صنع فاطر الأرض والسموات

50

{قَالُواْ لاَ ضَيْرَ} لا ضرر {إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} راجعون إليه؛ فيجزينا على ما تفعل بنا خير الجزاء لقد آمن السحرة إيماناً صحيحاً يقينياً، ووثقوا بالبعث والحساب، -[448]- والثواب والعقاب؛ يدل على ذلك قولهم:

51

{إِنَّا نَطْمَعُ} بإيماننا وإنابتنا {أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ} التي ارتكبناها حال كفرنا {أَنْ} أي بأن {كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} من شيعتك

52

{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} أي سر بهم ليلاً {إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} سيتبعكم فرعون وجنوده؛ بقصد إهلاككم والقضاء عليكم

53

{فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي الْمَدَآئِنِ} التابعة له {حَاشِرِينَ} جامعين لقوات جيشه؛ قائلاً لهم

54

{إِنَّ هَؤُلاءِ} يقصد موسى ومن آمن معه {لَشِرْذِمَةٌ} طائفة قليلة

55

{وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ} اعترف عدو الله بالخزي والذلة؛ وأن المؤمنين قليلون؛ غير أنهم له غائظون وسيرى يوم القيامة الذل الأكبر، والخزي الأعظم، والغيظ الأعم؛ حين يقدم قومه يوم القيامة؛ فيوردهم النار، وبئس الورد المورود

56

{حَاذِرُونَ} متيقظون

57

{فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ} بساتين {وَعُيُونٍ} أنهار جارية؛ ظاهرة للعيان

58

{وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} المقصود بها أرض مصر؛ ولا يخفى ما اكتشف فيها حتى الآن من الكنوز الزاخرة التي خلفتها الفراعنة. والمراد بالمقام الكريم: الدور الرفيعة، والقصور المشيدة؛ التي كانوا يقيمون فيها، ويمرحون في جنباتها

59

{وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي ملكنا بني إسرائيل مصر وما فيها من {جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} بعد إغراق فرعون وقومه

60

{فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} أي وقت شروق الشمس أو توجهوا جهة المشرق

61

{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} أي رأى كل فريق منهما الآخر {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أي سيدركنا حتماً فرعون وأصحابه، ويقضون علينا

62

{قَالَ} موسى مطمئناً لوعد ربه بإنجائه {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} بعونه وإرشاده {سَيَهْدِينِ} إلى ما ينجيني. وحين وثق موسى بربه وتأكد من نصرته ومعونته: أمده الله تعالى بالقوى التي لا تقاوم، وبالنصر المؤزر الذي لا يدافع؛ وأوحى ربه إليه

63

{أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ} فضربه {فَانفَلَقَ} الماء عن الأرض اليابسة {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ} كالجبل

64

{وَأَزْلَفْنَا} قربنا {ثُمَّ} هناك {الآخَرِينَ} فرعون وقومه

65

{وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ} بمرورهم على الأرض؛ بعد انحسار الماء عنها

66

{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} لأنهم تبعوا موسى في الطريق الذي سار فيه؛ فأمر الله تعالى البحر فأطبق عليهم؛ فأغرقهم عن آخرهم

67

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإنجاء والإهلاك {لآيَةً} لعبرة لمن يعتبر

71

{قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} أي على عبادتها مداومين

77

{فَإِنَّهُمْ} أي الأصنام التي تعبدونها {عَدُوٌّ لِي} لا أعبدهم مثلكم، ولا أواليهم {إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} فإني أعبده؛ لأنه خالقي ومالكي ورازقي؛ وهو السميع العليم. النافع الضار

82

{وَالَّذِي أَطْمَعُ} أرجو {أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} يوم الجزاء؛ -[449]- وهو يوم القيامة. واستغفار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: تواضع منهم لربهم، وتعليم لأممهم؛ أو هو لذنوب سلفت منهم قبل اختيارهم، واضطلاعهم بمهام الرسالة؛ وخطاياهم - إن صح أن لهم خطايا - لا تعدو الصغائر المعفو عنها؛ إذ أنهم عليهم الصلاة والسلام معصومون عن الكبائر حتماً

83

{رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً} علماً يقيني الخطأ والزلل {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} بمن تقدمني من الأنبياء

84

{وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ} أي ثناء وذكراً حسناً {فِي الآخِرِينَ} فيمن يأتي بعدي إلى يوم القيامة وقد استجاب الله تعالى دعاءه، وجعل له ذكراً حسناً إلى يوم الدين: فلا يصلي مصلَ إلا إذا صلى عليه في صلاته، ولا يؤمن مؤمن إلا إذا آمن بنبوته واعترف بفضله، وأثنى عليه الثناء كله: اللهم صل على سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد

87

{وَلاَ تُخْزِنِي} لا تفضحني {يَوْمَ يُبْعَثُونَ} فياعجباً: إبراهيم خليل الله تعالى ونبيه - بل قدوة أنبيائه - وصاحب الملة الحنيفية: يدعو ربه ويسأله ألا يفضحه يوم القيامة ونحن وحالنا كما لا يخفى: إيمان قاصر، وعمل فاجر، ورياء ونفاق، وخصومات وشقاق؛ ونظن أن لنا يوم البعث القدر الأعلى، والقدح المعلى فالجأ أيها المسكين إلى ربك بالدعاء واجأر إليه بالرجاء؛ عسى أن يكتبك في عداد الناجين، الفائزين، المقبولين

88

{يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ} من الشرك، والنفاق، والحقد «سليم» بالإيمان؛ لأن قلب الكافر والمنافق: مريض؛ لقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ}

90

{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ} قربت، وهيئت، وأعدت

91

{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} أظهرت {لِلْغَاوِينَ} الكافرين، الهالكين

94

{فَكُبْكِبُواْ فِيهَا} طرح بعضهم على بعض في الجحيم {هُمْ وَالْغَاوُونَ} أي كبكب الآلهة - وهي الأصنام - «والغاوون» وهم الكافرون

95

{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} وهم أتباعه، ومن أطاعه؛ من الجن والإنس

97

{تَاللَّهِ} قسم فيه معنى التعجب {أَن كُنَّآ} في الدنيا {لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} ظاهر، بيِّن

98

{إِذْ نُسَوِّيكُمْ} أيها الشياطين؛ في الطاعة والعبادة {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} الذي ينفع ويضر، ويحيي ويميت

102

{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي لو أن لنا رجعة إلى الدنيا {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الناجين

103

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور؛ من مجادلة إبراهيم لأبيه وقومه، وذكر ما أعده الله تعالى للمؤمنين؛ من نعيم مقيم، وللكافرين من عذاب أليم؛ إن في ذكر ذلك جميعه {لآيَةً} عظة وعبرة

111

{قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} السفلة والرعاع

112

{قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي لست أعلم بما كانوا يعملون؛ وغاية علمي أنهم آمنوا وكفرتم، وصدقوا وكذبتم، وأطاعوا وعصيتم، واهتدوا وضللتم؛ وهذه هي ظواهرهم؛ وليس لي أن أطلع على سرائرهم

113

{أَنْ} ما {حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي} فهو عالم السر وأخفى {لَوْ تَشْعُرُونَ} لو تعلمون

116

{لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ} المقتولين بالحجارة

118

{فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ} أي احكم بيني وبينهم حكماً. وحكمه جل شأنه: عدل كله، وصواب كله فكأنه صلوات الله تعالى وسلامه عليه طلب إهلاك الكافرين، وإنجاء المؤمنين

119

{فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} السفينة المملوءة

123

{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} عبر القرآن الكريم بصيغة الجمع «المرسلين» لأن مكذب الرسول الواحد: مكذب لسائر من تقدمه من الرسل

127

{وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على التبليغ

128

{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} كانوا يبنون بكل مكان مرتفع برجاً يجلسون فيه، ويسخرون بمن يمر بهم من المؤمنين

129

{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} قصوراً، أو حصوناً

130

{وَإِذَا بَطَشْتُمْ} بضرب أو قتل {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} من غير رأفة ولا رحمة

132

{وَاتَّقُواْ الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} أنعم عليكم بالنعم الظاهرة؛ التي تحسونها وتعلمونها؛ وفسرها تعالى بقوله:

133

{أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ} تركبون عليها؛ وتأكلون من لحومها، وتشربون من ألبانها، وتكتسون من أوبارها وأشعارها {وَبَنِينَ} أي وأمدكم ببنين يعاونونكم، وتقر بهم أعينكم

134

{وَجَنَّاتٍ} بساتين؛ تمرحون فيها، وتنعمون بفاكهتها {وَعُيُونٍ} أنهار جارية؛ تراها العين

135

{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إن بقيتم على حالكم من الكفر، والظلم، والبطش {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} في الدنيا بالاستئصال، وفي الآخرة بالعذاب الأليم المقيم

136

{قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ} فإنا لا نتبعك، ولا نستمع لوعظك

137

{إِنْ هَذَا} ما هذا الذي نحن فيه {إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ} عادة الأولين وطبعهم {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ}

138

{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أو المعنى: ما هذا الذي تقوله، وتأمرنا به؛ إلا أكاذيب الأولين واختلاقهم؛ يؤيده قراءة من قرأ «خلق الأولين»

139

{فَكَذَّبُوهُ} أي فأصروا على تكذيبه {فَأَهْلَكْنَاهُمْ} بالريح؛ قال تعالى {وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإهلاك {لآيَةً} عظة وعبرة {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} فكانوا من الهالكين؛ ولم يؤمن بهود إلا قليل؛ أنجاهم الله معه

141

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} لأن تكذيبهم لرسولهم صالح: تكذيب لمن سبقه من المرسلين

142

{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} الله، وتخشون بأسه؛ فتؤمنون به

145

{وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على التبليغ

146

{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ} أي في الدنيا، وفيما أنتم فيه {آمِنِينَ} من السوء والعذاب؟ وقد كانوا معمرين؛ يدل عليه قوله تعالى {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}

147

{فِي جَنَّاتٍ} بساتين {وَعُيُونٍ} أنهار

148

{وَزُرُوعٍ} وهو كل ما يزرع {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا} ثمرها {هَضِيمٌ} لين؛ كالرطب، أو هش نضيج

149

{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} نشطين حاذقين؛ ومن قرأ «فرهين» أراد بطرين متكبرين

151

{وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} الكافرين

152

{الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} بالمعاصي

153

{قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} الذين غلب على عقلهم السحر؛ والمراد به: نسبته عليه السلام إلى الجنون

154

{فَأْتِ بِآيَةٍ} معجزة تدل على صدقك

155

{قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ} نصيب من الماء للشرب

157

{فَعَقَرُوهَا} ذبحوها. عقرها واحد منهم؛ ونسب العقر لجميعهم: لأنهم رضوا عن فعله؛ فكان جزاؤهم كجزائه

158

{فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} بالرجفة، أو الصيحة؛ التي طغت عليهم؛ فأهلكوا جميعاً. قال تعالى {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ}

165

{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ} اللواط

166

{وَتَذَرُونَ} تتركون {عَادُونَ} معتدون؛ بانتهاككم حرمات الله تعالى، وإتيانكم ما لا يحل هذا وحكم اللواط: كحكم الزنا؛ ألا ترى أن الله تعالى وصف اللائطين هنا بالعدوان «بل أنتم قوم عادون» ووصف الزانين بقوله: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} فوجب أن يقام الحد على اللائط؛ كما يقام على الزاني. وذهب قوم إلى وجوب إلقائه من حالق (انظر آية 7 من سورة المؤمنون)

167

{لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} المطرودين

168

{قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ} لفسقكم {مِّنَ الْقَالِينَ} المبغضين

171

{إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} الباقين في العذاب؛ وهي امرأته: أهلكها الله تعالى فيمن أهلك

172

{ثُمَّ دَمَّرْنَا} أهلكنا

173

{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً} أمطرهم الله تعالى حجارة. قيل: إن جبريل عليه الصلاة والسلام خسف الأرض بقرية قوم لوط، وجعل عاليها سافلها، وأمطر من كان منهم خارج القرية بالحجارة

175

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب الذي لا يغلب؛ المنتقم من أعدائه {الرَّحِيمُ} بعباده وأوليائه؛ فلا يحملهم ما لا طاقة لهم به؛ ولا يؤاخذهم بذنوب غيرهم

176

{كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ} هم قوم شعيب عليه السلام؛ و «الأيكة»: الغيضة؛ وهي مجتمع الشجر

181

{وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ} الذين ينقصون الناس حقوقهم، أو الذين خسروا أنفسهم وآخرتهم

182

{وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ} الميزان

183

{وَلاَ تَبْخَسُواْ} لا تنقصوا {وَلاَ تَعْثَوْاْ} العثى: أشد الفساد الخليقة

185

{قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} الذين اختلط عقلهم، وغلب عليهم السحر

187

{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً} قطعاً {مِّنَ السَّمَآءِ} وهذا كقولهم {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}

189

{فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} هي سحابة أظلتهم؛ بعد أن عذبوا بالحر الشديد سبعة أيام؛ فاجتمعوا تحتها مستجيرين بها، طامعين في بردها ومائها؛ فأمطرتهم ناراً: فاحترقوا عن آخرهم. قيل: كان لمدين ستة ملوك؛ يسمون: أبجد، هوز، حطى، كلمن، سعفص، قرشت؛ وقد وضعت العرب الكتابة العربية على عدد حروفهم؛ بعد زيادة ستة أحرف؛ جمعوها في ثخذ، ضظغ. وكان رئيسهم: كلمن. هلكوا جميعاً - فيمن هلك - يوم الظلة؛ وقد رثت ابنة كلمن أباها بقولها: كلمن هدم ركني هلكه وسط المحله سيد القوم أتاه الـ ـحتف ناراً وسط ظله جعلت ناراً عليهم دارهم كالمضمحلة

192

{وَإِنَّهُ} أي القرآن الذي يكذبون به {لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} العالمين: جمع العالم، والعالم: الخلق كله؛ من إنس وجن، وطير ووحش

193

{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} جبريل عليه السلام: أمين وحي الله

196

{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} كتبهم. أي إن القرآن ثابت مذكور في الكتب السماوية المتقدمة

197

{أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ} علامة على صدقك -[455]- {أَن يَعْلَمَهُ} يعلم هذا القرآن، ويعلم أنه منزل من لدن ربك {عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} الذين آمنوا بالرسول عليه الصلاة والسلام: كعبد اللهبن سلام، وكعب الأحبار، وأضرابهما؛ وقد صاروا من علماء المسلمين. وقد قال قائل: ما من أمة إلا وعلماؤها شرارها؛ إلا هذه الأمة المحمدية: فإن علماءها خيارها فلينظر علماء الأمة الإسلامية اليوم إلى هذا القول، وليدبروه، وليجتهدوا أن يكونوا مصداقاً له. قال الصادق المصدوق؛ عليه أفضل الصلاة وأتم السلام: «يؤتى بالرجل يوم القيامة؛ فيلقى في النار؛ فتندلق أقتاب بطنه؛ فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى. فيجتمع إليه أهل النار؛ فيقولون: يا فلان، مالك ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى؛ قد كنت آمر بالمعروف، ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه» وفي رواية: «أول أهل النار دخولاً: عالم يلقى في النار ... الحديث»

198

{وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ} جمع أعجم؛ وهو الحيوان؛ لأنه لا ينطق. وقيل: هو جمع أعجمي. وهو الذي لا يفصح وإن كان عربياً. وقرأ الحسن «الأعجميين» جمع أعجمي؛ وهو الذي لا ينطق العربية

200

{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} أي القرآن: أدخلناه {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} الكافرين: سلكناه في قلوبهم؛ بحيث يعقلونه - إذا أرادوا - أليس يعقل كل ما فيه؟ ويتفهمونه - إذا رغبوا - أليس معلوماً، وواضحاً مفهوماً؟ وذلك لأن تكذيبهم به - بعد دخوله في قلوبهم - أعظم كفراً، وأشد وزراً؛ من تكذيبهم لشيء لم يعلموه، ولم يفهموه، ولم يطرق لهم قلباً، أو يقرع لهم لباً؛ فإن المكذب بالحق بعد معرفته له: شر من المكذب لما لا يفقه، ولا يعرف. وقد سلكه الله تعالى في قلوبهم: إلزاماً لهم، وحجة عليهم لكنهم استكبروا استكباراً، وأصروا على كفرهم إصراراً: فلم يؤمنوا بما سلكه الله تعالى في قلوبهم، ويسره على أفهامهم. ونظيره قوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} وقوله جل شأنه؛ خطاباً للكفار «سيريكم آياته فتعرفونها» وقوله عز سلطانه: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} وقوله عز وجل: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} وقول الحكيم المتعال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ}

201

{لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ} بأعينهم {الْعَذَابَ الأَلِيمَ} الذي وعدوا به في الدنيا، أو يوم القيامة؛ فحينئذٍ يعلمون أنه الحق من ربهم؛ حيث لا يجدي إيمانهم، ولا تنفع توبتهم وقد ذهب جل المفسرين - إن لم يكن كلهم - إلى أن المقصود بذلك: أن الله تعالى يسلك التكذيب -[456]- في قلوب الكافرين؛ ليمنعهم من الإيمان. وهو قول بادي البطلان، ظاهر الخسران؛ يتنافى مع العدل المطلوب من بني الإنسان؛ فما ظنك بالرحيم الرحمن أعدل العادلين، وأحكم الحاكمين هذا ويؤيد ما ذهبنا إليه - وخالفنا المفسرين فيه - قوله جل شأنه في ختام هذا القول: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} إذ كيف يرسل تعالى المنذرين؛ وقد سلك تكذيبهم في قلوب الكافرين؟ وكيف ينفي الظلم عن نفسه؛ وما زعمه المفسرون هو الظلم المبين وكيف يتفق قول المفسرين؛ وقول العزيز الحميد، في كتابه المجيد «ولا يرضى لعباده الكفر» وكيف لا يرضاه؛ وقد سلكه في قلوبهم، وأجراه في دمائهم؟ وكيف يحول المولى سبحانه وتعالى بينهم وبين الإيمان؛ وهو جل شأنه القائل: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى}؟ وكيف يؤمنون، أو يهتدون؛ وقد حال بينهم وبين الإيمان والاهتداء؟ {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}. ونحن إذا ما وافقنا المفسرين فيما ذهبوا إليه: احتجنا إلى تعليل قولهم تعليلاً مقبولاً؛ بأن نقول: إن سلوك التكذيب في قلوبهم: كان نتيجة لإصرارهم على الكفر، وتعاميهم عن الحق؛ رغم وضوح آيات الله تعالى، وتواتر معجزاته، وصدق رسالاته وقد وصف الله تكذيبهم بأشنع ما يوصف به المكذبون - من جهل وعناد واستكبار - فقد بلغ تكذيبهم: أن لو قرأ القرآن عليهم من لا يدريه ولا يفهمه؛ بل ومن ليس في عداد الآدميين؛ من الأعجميين {مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} فكان سلوك التكذيب في قلوبهم: عقوبة لهم على عنادهم؛ كقوله تعالى {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} فكانت الإزاغة عقوبة على الزيغ. وقوله جل شأنه: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} فكان الظلم والفسق سابقان للإضلال وبغير الذي قلنا لا يستقيم المعنى الذي أرادهالله، ولا تتوافر القدسية الواجبة في حقه تعالى فليتأمل هذا، وليعتبر به من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد (انظر الآيات 33 من سورة الرعد و8 من سورة فاطر وصلى الله عليه وسلّم8 من سورة الحج)

202

{فَيَأْتِيَهُم} العذاب {بَغْتَةً} فجأة

203

{مُنظَرُونَ} مؤجلون

206

{مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ} به من العذاب

210

{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ} أي بالقرآن

214

{وَأَنذِرْ} خوف يا محمد {عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قومك وآلك؛ لينذروا من حولهم؛ فيكثر المسلمون، وتعم الدعوة الإسلامية. قال تعالى: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} أي ومن بلغه القرآن: ينذر به أيضاً

215

{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} ألن جانبك وتواضع

219

{وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} أي ويرى تعالى تقلبك في الصلاة مع المصلين

221

{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} أي تتنزل بالوسوسة والإغواء والإفساد

222

{تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} كذاب، مرتكب للإثم. والمقصود: رؤساء الكفار والذين يزعمون معرفة الغيب

223

{يُلْقُونَ السَّمْعَ} أي أن الشياطين تتسمع إلى الملإ الأعلى {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} يقولون لأوليائهم ما لا يسمعون. وأولياؤهم: هم {كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} يزيدون على إفك الشياطين إفكاً، ويزدادون على إثمهم إثماً

224

{وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} ليس المراد بالشعراء هنا: كل الشعراء. بل أريد الغاوون منهم، والضالون: الذين يلوكون بألسنتهم أعراض الناس، ويتشدقون بالإثم والفجور، ويروجون للفسق والخمور أما من ارتقى منهم بشعره عن درك الفساد والإفساد؛ فقد يكون من أئمة الأتقياء، وخلاصة الفضلاء الأصفياء وناهيك بأن منهم الإمام البوصيري، وحسانبن ثابت: شاعر النبي والإمام ابن الفارض، والبرعي؛ وغيرهم ممن وقفوا قرائحهم وأشعارهم على ذكر الرحمن الرحيم، ومدح رسوله العظيم، ووصف كتابه الكريم وهم الذين استثناهم الله تعالى بقوله:

227

{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} أي وانتصروا لأنفسهم، أو لإخوانهم، أو لدينهم؛ من بعد ما ظلمهم الغير. ونظيره قوله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ}.

سورة النمل

سورة النمل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{طس} (انظر آية 1 من سورة البقرة)

4

{إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} بالقيامة، والحساب، والجزاء {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} الفاسدة؛ ليزدادوا كفراً على كفرهم، وطغياناً على طغيانهم (انظر آية 122 من سورة الأنعام) {يَعْمَهُونَ} يترددون في ضلالهم

5

{لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} أسوؤه

6

{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} لتتلقاه وتتلقنه {مِن لَّدُنْ} من عند {حَكِيمٍ} يحكم قوله وفعله وأمره {عَلِيمٍ} بمصالح الناس وحاجاتهم

7

{إِذْ قَالَ مُوسَى} أي واذكر قصة موسى؛ إذ قال {لأَهْلِهِ} امرأته {إِنِّي آنَسْتُ} أبصرت من بعيد {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} لأن النار الموقدة: دليل على وجود موقد لها؛ تستقى منه الأخبار، ويهتدى به إلى الطريق، ويستطعم {بِشِهَابٍ} شعلة مضيئة {قَبَسٍ} القبس: كل ما يقتبس؛ من جمر، وجذوة، ونحوهما {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلِونَ} تستدفئون من البرد

8

{فَلَمَّا جَآءَهَا} أي جاء موسى النار التي توهمها {نُودِيَ} من حيث لا يعلم من أين يأتيه النداء، ولا يعلم صفته، ولا كنهه: نداء ولا صوت {أَنْ} بأن {بُورِكَ} بارك الله {مَن فِي النَّارِ} من الملائكة -[458]- {وَمَنْ حَوْلَهَا} موسى. وهي تحية من الله تعالى لكليمه عليه الصلاة والسلام {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} تنزه وتقدس (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) ونودي

9

{يمُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ} القوي، الغالب، الذي لا يغلب {الْحَكِيمُ} الذي يضع الأمور في مواضعها، ويعد لكل شيء عدته

10

{فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} تتحرك {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} حية {وَلَّى مُدْبِراً} أسرع راجعاً {وَلَمْ يُعَقِّبْ} لم يرجع؛ فناداه ربه تعالى {يمُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} وكيف يخافون في موطن الأمن والسلامة؟

11

{إَلاَّ مَن ظَلَمَ} نفسه منهم بالزلل {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} كآدم، ويونس، وداود، وسليمان؛ عليهم السلام فإنهم يخافون؛ رغم رضائي عنهم، ومغفرتي لهم، وتوبتي عليهم. وقيل: «إلا من ظلم» من غير الأنبياء؛ لأن الأنبياء لا يظلمون

12

{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} الجيب: فتحة الثوب مما يلي العنق {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} من غير مرض: كبرص ونحوه

13

{فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} أي ظاهرة بينة

14

{وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ} أي أنكروها بألسنتهم؛ لشدة كفرهم وعنادهم، واستيقنتها قلوبهم؛ لما رأوه من صحتها، وصدقها، ووضوحها (انظر آية 200 من سورة الشعراء)

16

{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} في النبوة والعلم؛ دون سائر أبنائه {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} المراد به كثرة ما أوتي من الملك، والعلم، والنبوة

17

{وَحُشِرَ} جمع {يُوزَعُونَ} يحبس أولهم على آخرهم؛ ليكونوا مجتمعين طوع أمره وإرادته

18

{وَادِي النَّمْلِ} هو واد كثير النمل {قَالَتْ نَمْلَةٌ} قيل: إنها ملكتهم. هذا وقد أثبت العلم الحديث: أن للنمل ملكة يأتمر بأمرها، وينتهي بنهيها (انظر آية 38 من سورة الأنعام) {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} لئلا يحطمنكم. والحطم: الكسر. ومن هنا نعلم أن القوي قد يهلك الضعيف من حيث لا يشعر، وأن الضعيف يجب أن يعد عدته، ويأخذ أهبته؛ لتوقي ضرر القوي

19

{وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} ألهمني

21

{أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} ليكون عبرة لغيره؛ ممن يستكبر عن أمري. هذا وقد رسمت هذه الكلمة في المصحف الإمام هكذا «لا أذبحنه» بصيغة النفي. وساق علماء الرسم في سبيل إثبات صحة هذا الرسم التعلات، وبذلوا ما وسعهم من الجهد ليحولوا دون الحقيقة المجردة: وهي لا تعدو خطأ كاتب، أو زلة مملٍ. وفي موضوع هجاء المصحف العثماني ورسمه، وعدم وجوب التقيد به، مزيد بيان؛ فانظره إن شئت في كتابنا «الفرقان» {بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بحجة ظاهرة

22

{فَمَكَثَ} سليمان وقتاً {غَيْرَ بَعِيدٍ} فجاء الهدهد {فَقَالَ} حين سأله سليمان عن سبب تخلفه عن مجلسه {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ} وهي قبيلة باليمن، أو هو اسم مدينة بها؛ تعرف بمأرب

23

{إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} هي بلقيس بنت شراحيل {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} تحتاجه الملوك: من الجند، والميرة، والذخيرة، والعظمة، والقوة {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} سرير كبير من ذهب، مرصع بالجواهر واليواقيت؛ كانت تجلس عليه للحكم

25

{الْخَبْءَ} المخبوء، المستتر عن الأنظار {فِي السَّمَاواتِ} من الماء في {الأَرْضِ} من النبات والكنوز} وفي هذه القصة: تعليم لنا من الله تعالى باستخدام الطير في حمل الرسائل، ولذا وفق الناس لاختيار الحمام الزاجل

28

{ثُمَّ تَوَلَّ} انصرف {عَنْهُمْ} وكن قريباً منهم؛ بحيث تراهم ولا يرونك {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} يجيبون على كتابي. فلما قرأت بلقيس خطاب سليمان: جمعت وجوه قومها، وأشرافهم، وقادتهم؛ و

29

{قَالَتْ} لهم {يأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ} يؤخذ من هذا: أن بلقيس كانت تحكم قومها حكماً «ديموقراطياً» وأنه كان لها مجلس للشورى «برلمان» والقرآن لم يورد هذه القصة عبثاً؛ بل ليرشدنا إلى الطرق الدستورية، والنظم الشورية

31

{أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ} لا تتكبروا عن طاعتي {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} مؤمنين منقادين

32

{مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} أي ما كنت ممضية أمراً حتى تحضرون. لم تأخذها العزة بالإثم، ولم تغرها سطوة سلطانها، وقوة جيشها، وإخلاص شعبها؛ لم يمنعها كل ذلك من استشارة رؤوس دولتها، وكبراء مملكتها، ومناقشتهم؛ وقد تكون بلقيس أول امرأة في التاريخ بمثل هذا الخلق، وبمثل هذا التدبير، وهذه الحكمة

34

{قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً} فاتحين غازين {أَفْسَدُوهَا} بالقسوة والبطش {وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} لقد نظرت بلقيس بثاقب رأيها، وعلمت أن الملوك الأقوياء إذا احتلوا بلداً عنوة: أخذوا خيراتها، وأذلوا أهلها واستعبدوهم -[461]- {وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ} دائماً

35

{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} امتحاناً لهم، ودرءاً لصولتهم؛ فعسى أن يكونوا طلاب مال؛ فتشغلهم هديتنا عن إيذائنا {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} من أخبارهم

36

{فَلَمَّا جَآءَ} الرسل {سُلَيْمَانُ} ورأى ما يحملون من هدايا، وأموال، وتحف، ونفائس؛ تفوق العد والحصر {قَالَ} لرسل بلقيس {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِي اللَّهُ} من الإسلام، والملك، والعلم، والنبوة {خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ} من المال وحده {بَلْ أَنتُمْ} لا أنا {بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} والتفت سليمان إلى رئيس وفد بلقيس قائلاً له

37

{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} بهديتهم {فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أي لا طاقة لهم على مقابلتهم ومقاتلتهم {وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ} أي من بلادهم {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} الصغار: شدة الذل. ثم التفت سليمان إلى خاصته ووزرائه؛ من الإنس والجن

38

{قَالَ يأَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} الذي رآه الهدهد، ووصفه لي: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} {مُسْلِمِينَ} طائعين منقادين

39

{قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ} العفريت: هو القوي، الواسع الحيلة، النافذ الأمر، الشديد الدهاء. و «الجن» المستتر. من جنه الليل: إذا ستره. وجن الليل: ظلمته {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} أي من مجلسك هذا

40

{قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} قيل: إنه ملك سخره الله تعالى لسليمان. وقيل: إنه جبريل عليه السلام. وقيل: هو وزيره آصفبن برخيا؛ وقد كان يعلم اسم الله الأعظم؛ الذي إذا دعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} أي قبل أن تغمض عينك؛ والمراد به: المبالغة في قرب المدة {لِيَبْلُوَنِي} ليختبرني {أَأَشْكُرُ} على ما أنعم به علي {أَمْ أَكْفُرُ} فأنسى ذلك، وأنسبه لنفسي ولجندي {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} عن شكر الشاكرين، وعبادة العابدين {كَرِيمٌ} في عطائه؛ يتفضل على من يشكر، ومن يكفر

41

{قَالَ نَكِّرُواْ} أي غيروا

42

{فَلَمَّا جَآءَتْ} بلقيس: أروها عرشها المستقر عند سليمان؛ و {قِيلَ} لها {أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} لم تجزم بأنه هو: لغرابة وجوده في ذلك الزمان والمكان، ولاستحالة حدوث ذلك عقلاً. وذهب بعض المحدثين إلى أنه لم يكن ثمة سوى رسم العرش - لا العرش نفسه - واستدلوا على ذلك: بقول سليمان لها: «أهكذا عرشك» وقولها «كأنه هو» وهذا الرأي يأباه سياق النظم الكريم؛ لقوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ} وإلا فأين المعجزة الخارقة وأين الآية الظاهرة؟ {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} هو من قول سليمان؛ أي أوتينا العلم بأن الله تعالى على كل شيء قدير {مِن قَبْلِهَا} أي من قبل هذه المرة، أو «وأوتينا العلم» بمجيئها طائعة وإسلامها «من قبل» مجيئها {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} منقادين لأمرالله، طائعين له

43

{وَصَدَّهَا} منعها عن عبادة الله تعالى {مَا كَانَت} أي الذي كانت {تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ} ويجوز أن يكون المعنى «وصدها» سليمان «ما كانت تعبد» عما كانت تعبد {إِنَّهَا} أي لأنها {كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} يعبدون الشمس والقمر

44

{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} وهو كل بناء عال {فَلَمَّا رَأَتْهُ} أي رأت الصرح؛ وقد صنعت أرضه من زجاج شفاف {حَسِبَتْهُ لُجَّةً} ماء عظيماً {قَالَ} سليمان {إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ} مملس {مِّن قَوارِيرَ} زجاج. فلما رأت هذه العظمة، وهذه الأبهة؛ التي أضفاهما الله تعالى على سليمان، ورأت عرشها؛ وقد جيء به إليه: علمت أن ذلك لا يتوفر إلا لمن تسنده قوى خارقة من السماء؛ و {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بالشرك الذي كنت فيه، وأقمت عليه {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قيل: إن سليمان تزوجها بعد إسلامها. وقيل: زوجها لذي تبع ملك همدان؛ ولم يثبت صحة شيء من ذلك

46

{قَالَ} لهم نبيهم صالح {يقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ} تطلبون العذاب {قَبْلَ الْحَسَنَةِ} قبل طلب المغفرة. أو {لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ} بالمعصية قبل الطاعة {لَوْلاَ} هلا {تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} من ذنوبكم الماضية

47

{اطَّيَّرْنَا} تشاءمنا {بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} من المؤمنين {قَالَ طَائِرُكُمْ} شؤمكم {عِندَ اللَّهِ} ينزله بكم؛ بسبب كفركم وتكذيبكم (انظر آية 13صلى الله عليه وسلّم من سورة الأعراف) {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} تختبرون بالخير والشر، أو «تفتنون» تعذبون بسبب إصراركم على الكفر والعصيان

48

{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} الرهط: ما دون العشرة من الرجال

49

{قَالُواْ} لبعضهم {تَقَاسَمُواْ} أي احلفوا {بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ} لنقتلنه بياتاً؛ أي ليلاً -[463]- {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} أي لولي دمه {مَا شَهِدْنَا} ما رأينا

50

{وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً} أي دبروا أمرهم بإهلاك صالح وأهله، ودبرنا أمراً بإهلاكهم

51

{أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} أهلكناهم

52

{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} أي ساقطة، أو خالية {بِمَا ظَلَمُواْ} أي بسبب ظلمهم وكفرهم وذلك بمعنى قولهم: إن الظلم يخرب الديار الإهلاك والتدمير {لآيَةً} عظة وعبرة

54

{وَلُوطاً} أي واذكر لوطاً {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} اللواط {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} أي تبصرون ما حل بالأمم السابقة من العذاب؛ حين عصوا وكفروا بربهم. أو المراد: يبصر بعضكم بعضاً؛ عند إتيان هذه الفاحشة الذميمة وذلك إمعاناً منهم في الفسوق، وانهماكاً في المعصية

56

{إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} كان قولهم ذلك استهزاء؛ كقوله تعالى: {إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} أو أرادوا «يتطهرون» مما نعمل {قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} أي قدرنا أنها من الباقين في العذاب؛ لإصرارها على الكفر، وتكذيب زوجها مع المكذبين

59

{ءَآللَّهُ} استفهام؛ أي أألله {خَيْرٌ} عبادة، وخير لمن يعبده {أَمَّا يُشْرِكُونَ} به من الأصنام

60

{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ} وما فيها من كواكب وأفلاك، ومن فيها من مخلوقات وأملاك -[464]- خلق {الأَرْضِ} وما فيها من بحار وأنهار، وزروع وأشجار، وجبال ورمال، وإنسان وحيوان {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ} بساتين {ذَاتَ بَهْجَةٍ} حسن ورونق {مَّا كَانَ لَكُمْ} ما كان في استطاعتكم فما بالكم بثمرها؟ والمعنى: أذلك الإله - الموصوف بكل هذه الصفات - خير أم ما تعبدون من دونه؟ ويلكم {مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ *

61

أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} يشركون ب الله تعالى غيره ممن خلق، ويجعلونه له عدلاً. والعدل: المثل والنظير {قَرَاراً} للاستقرار عليها؛ ولا تميد بأهلها {خِلاَلَهَآ} فيما بينها {رَوَاسِيَ} جبالاً {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} بين العذب والملح: لا يختلط أحدهما بالآخر. والحجز: المنع {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} الضر، أو الجور {وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأَرْضِ} أي سكانها؛ يخلف بعضكم بعضاً فيها {بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي للبشارة قدام المطر. وسمي المطر رحمة: لأنه سبب في حياة سائر الحيوان والنبات

64

{أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ} من غير مثال سبق {ثُمَّ يُعيدُهُ} يوم القيامة؛ بلا تعب ولا نصب {وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ} بالمطر من {الأَرْضِ} بالنبات {مَّعَ اللهِ بَلْ} فإن زعموا - بعد أن سقت لهم هذه الآيات البينات - أن هناك إلهاً مع الله {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} حجتكم

65

{قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} أي لا يعلم أحد ممن فيهما الغيب الذي انفرد الله تعالى بعلمه إلا هو. قيل: نزلت حين سأل المشركون الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عن وقت القيامة -[465]- {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} متى يبعثون من قبورهم. وقيل: نزلت في سائر الغيوب. ويؤخذ من هذه الآية أن في السموات سكاناً عقلاء؛ لأن «من» لمن يعقل، و «ما» لما لا يعقل. والآية دليل قاطع على نفي علم الغيب عن سائر المخلوقات؛ حتى سكان السموات ومن عجب أن نرى من بيننا من يدعي علم الماضي والحاضر والمستقبل والأعجب أن نرى من يصدقه في هذا الافتراء والزور والبهتان ومن ذهب إلى منجم أو عراف: فقد جحد بهذه الآية؛ بل كذب بالرسالة قال: «من ذهب إلى عراف ذهب ثلثا دينه» وفي حديث آخر «فقد كفر بما أنزل على محمد» وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: «من قال إن محمداً يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية؛ والله تعالى يقول: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}. هذا وقد اعتاد كثير من الناس التردد على بعض العرافين وأرباب التنويم والتنجيم؛ وكثير من هؤلاء يزعم علم الغيب ومعرفته؛ ويقدم لك دليلاً على صدقه: إنباءك بما في يدك - مما يقع عليه بصرك، ويدركه علمك - وهذا ليس من الغيب في شيء؛ بل يدخل تحت قراءة الأفكار. وقد جيء للحجاج بأحد العرافين؛ فأمسك الحجاج في يده حصيات - بعد أن علم عددها - وقال للعراف: كم في يدي؟ فذكره العراف ولم يخطىء. فأمسك الحجاج بحصيات أخر - لم يعدهن - وسأله عن عددها؛ فأخطأ. فسأله عن السبب؟ فقال: إن الأولى قد أحصيتها أنت وعلمتها فخرجت عن حد الغيب، والأخرى لم تحصها فكانت غيباً و {لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}

66

{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} أي تدارك وتكامل علمهم بها؛ لوصول الرسل والنذر إليهم، وتحقق الموعود به. وقيل: المعنى: بل جهلوا علمها، ولا علم عندهم من أمرها {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} أي من وقوعها {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} عمي قلب وبصيرة

67

{أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ} من قبورنا أحياء

68

{لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ} على لسانك وعد {آبَآؤُنَا} على لسان من سبقك من الرسل {إِنْ هَذَآ} ما هذا الذي تقوله من أمر البعث والحساب والجزاء {إِلاَّ أَسَاطِيرُ} أكاذيب

70

{وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي على عدم إيمانهم {وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} ويكيدون لك؛ فسننصرك عليهم

71

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} بالعذاب، أو بالقيامة {رَدِفَ لَكُم} قرب منكم

72

{بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} وقد جاءهم بعض العذاب الموعود يوم بدر، وباقيه سيأتيهم في قبورهم، ويوم القيامة عند بعثهم

74

{مَا تُكِنُّ} تخفى

75

{وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ} تغيب عن علمنا، وعن تصورنا {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} مكتوب؛ بمعنى أنه مقضي بها، ومعلوم لدى ربك أمرها

78

{إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ} يوم القيامة

79

{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} وحده؛ ولا تخش أحداً {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} الدين الواضح المنجي

80

{إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ} لما كانوا لا يعون ما يستمعون: شبهوا بالموتى؛ لأن حالهم كحالهم، وشبهوا أيضاً بالصم والعمي؛ لأنهم لا ينتفعون بما يسمعون من الحق، ولا بما يرون من الآيات

81

{وَمَآ أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ} ما تسمع سماع قبول وتفهم {إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} القرآن {فَهُم مُّسْلِمُونَ} مخلصون؛ لأنهم فتحوا أسماعهم لسماع القرآن، وقلوبهم لفهمه

82

{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم} أي وقع الغضب، وحق العذاب: وقتئذٍ لا تقبل توبتهم، ولا يفيد استغفارهم. وقد أجمع أهل العلم على أن وقوع القول - المعني في هذه الآية - لا يكون إلا عند انعدام الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} كلاماً مفهوماً؛ وحينئذٍ لا يقبل استغفار مستغفر، ولا إيمان طالب. قال: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» وقيل «تكلمهم» أي تجرحهم؛ تؤيده قراءة ابن عباس، والحسن، وغيرهما «تكلمهم» من الكلم؛ وهو الجرح. وقد اختلفوا في هيئة الدابة، وصفتها، ووقت طلوعها، ومن أين تطلع؛ وتكلموا كلاماً أغرب من الخيال، وأشبه بالمحال؛ ولا حاجة بنا إلى إيراده لأنه بالأساطير أشبه. وقد قيل: إنها فصيل ناقة صالح. وقيل: إنها دابة لها لحية طويلة. وقيل: إنها إنسان كامل عاقل؛ يكلم الناس بالقول الصحيح، والكلام الفصيح، والمنطق البليغ، والحجة القاطعة. وتطلع الدابة - كيفما كان شكلها وصفتها - قبيل القيامة. وقيل: إنها تخرج من مكة؛ فلا يدركها طالب، ولا يفوتها هارب: فتمسح على جبين المؤمن؛ فيصير وضيئاً منيراً، وتخطم الكافر والمنافق؛ فيكون وجهه كالحاً مسوداً وسئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هل «تكلمهم» أو «تكلمهم»؟ فقال: هي والله تكلمهم، وتكلمهم: تكلم المؤمن، وتكلم الكافر والفاجر؛ وتقول لهم: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ} وعلى قراءة الفتح يكون المعنى «بأن الناس» وبها قرأ ابن مسعود

83

{فَوْجاً} جماعة {يُوزَعُونَ} يحبس أولهم على آخرهم؛ حتى يجتمعوا؛ ثم يساقون إلى موضع الحساب

85

{وَوَقَعَ الْقَوْلُ} حق العذاب

86

{أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الْلَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ} من السكون. وهو الهدوء، والراحة، والطمأنينة {وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} مضيئاً؛ يبصر فيه الإنسان كل شيء، ويتقن كل مصنوع -[467]- {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} لعظات وعبر

87

{وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} وهو القرن: ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، بأمر ربه تعالى {إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ} ألا يفزعه. وهم الشهداء: لأنهم {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} والفزع إنما يصل إلى من حيي، والأنبياء: لأن لهم الشهادة مع النبوة. وقيل: هم الملائكة. ويدخل من جملة هؤلاء: المؤمنون الذين عناهم الله تعالى بقوله: {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} صاغرين منقادين

88

{جَامِدَةً} واقفة لا تتحرك {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فانظر - يا رعاك الله - إلى النملة في صغر جثتها، ولطافة هيئتها: لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر ولو تأملت ما في بطنها من مجاري أكلها، ومسالك أمعائها، وما في رأسها من أعين وآذان، وأداة ذوق وشم ولمس. لو تأملت ذلك لقضيت من خلقها عجباً، ولقيت من وصفها تعباً وهي مع هذا الضعف والصغر: تفكر في رزقها، وتنقل الحبة إلى جحرها، وتجمع في رخائها لشدتها، وفي حرها لبردها وانظر أيضاً إلى النحلة في دقة خلقتها، وجمال صنعتها، وعظم منفعتها: تأكل من ثمار الأشجار، وورق النبات والأزهار، وتخرج لنا رحيقاً مختوماً بخاتم الكمال، من صنع ذي الجلال ومنه نتخذ غذاء لذيذاً، وشراباً صافياً، ودواء شافياً. كل ذلك بتقدير العزيز الرحيم، وتدبير الحكيم العليم {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}

89

{مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ} من الثواب الجزيل، والأجر الجميل {خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} وبذلك يسلم المؤمنون المحسنون من أهوال القيامة، وينجون من الفزع الأكبر، ويكونون من المستثنين، بقول أصدق القائلين {فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ}

90

{فَكُبَّتْ} ألقيت

91

{هَذِهِ الْبَلْدَةِ} مكة شرفها الله تعالى {حَرَّمَهَا} جعلها حرماً آمناً

93

{سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} في أنفسكم، وفي غيركم، و «في الآفاق» {فَتَعْرِفُونَهَا} تعلمونها علم اليقين {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}.

سورة القصص

سورة القصص بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {طسم}

1

(انظر آية 1 من سورة البقرة)

3

{نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى} خبره {بِالْحَقِّ} بالصدق الذي لا مرية فيه؛ لا كقصص القصاصين، وأساطير الأولين

4

{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ} طغى وتكبر، وجاوز الحق. و «فرعون»: لقب لملوك مصر السابقين. قيل: إن فرعون موسى: هو منفتاح الأول، ابن رمسيس الثاني {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} أي فرقاً. وهذا شأن الملوك المستبدين: يفرقون بين الأمة، ويجعلونها شيعاً وأحزاباً {وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} أي يترك البنات أحياء للخدمة، أو يفعل بهن ما يخل بالحياء

5

{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ} نتفضل وننعم {عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ} وظلموا، وغلبوا على أمرهم {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} يهتدى بهم في الخير، ويقتدى بهم في الدين {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} للحكم والملك؛ بعد فرعون

6

{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ} نجعل لهم مكانة {فِي الأَرْضِ} أرض مصر والشام {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} وزيره ومستشاره {وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ} أي من {الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ} وعلى رأسهم موسى وهرون {مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ} أي ما كانوا يخافون ويتوقعون: وهو القتل، وذهاب الملك. وقد كان لفرعون منجم؛ رأى له أن سيكون موته وذهاب ملكه على يد طفل من بني إسرائيل. فأمر عدو الله بقتل كل ولد يولد من بني إسرائيل. وذلك معنى قوله تعالى: {يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}

7

{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى} وحي منام، أو إلهام. وقيل: وحي إعلام: بواسطة جبريل عليه الصلاة والسلام -[469]- {فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ} البحر {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} قد جمع الله تعالى في هذه الآية بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين وقد وضعته في صندوق وألقت به في اليم - كما أوحى إليها -

8

{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} وهم أعوانه وشيعته {لِيَكُونَ لَهُمْ} في عاقبة الأمر {عَدُوّاً} يسعى في هلاكهم؛ بسبب كفرهم {وَحَزَناً} سبب حزن لهم، وغم عليهم

9

{وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ} لفرعون حين خشيت فتكه بموسى؛ كما يفتك بسائر أبناء بني إسرائيل {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ} أي سبب سرور وسعادة لنا {عَسَى أَن يَنْفَعَنَا} في الخدمة {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} وكانت عاقراً لا تلد {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنه عليه السلام سيكون مصدر حزنهم وشقائهم؛ بل ومصدر فنائهم

10

{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} من العقل والتفكير؛ لفرط جزعها وهمها: حين سمعت بالتقاط آل فرعون له {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} أي لتظهر أمر موسى، وأنه ابنها. قيل: إنها لما سمعت بوقوعه في يد فرعون؛ كادت تصيح: واإبناه {لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} سكناه بالصبر والطمأنينة؛ وذكرناها بوعدنا السابق الصادق: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} وقد صدق الله تعالى وعده، وأعز جنده

11

{وَقَالَتِ} أم موسى {لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي اتبعي أثره، وانظري خبره {عَن جُنُبٍ} عن بعد. قال تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} أي البعيد؛ ومنه الأجنبي. وقيل: عن جانب. أي من ناحية الجنب. وقيل: عن شوق؛ وهي لغة لقبيلة من معد يقال لها جذام

12

{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} جعلناه يرفض التقام ثدي المراضع اللاتي أحضروهن لإرضاعه {فَقَالَتْ} لهم أخته {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ} يقومون بكفالته، وتربيته، وإرضاعه {لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} حافظون محبون

13

{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ} كما وعدناها: {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} بقربه {وَلاَ تَحْزَنِي} لفقده وفراقه {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ} الذي وعدها إياه {حَقَّ} واقع لا محالة

14

{وَلَمَّا بَلَغَ} موسى {أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} أي بلغ نهاية القوة، وتمام العقل والاعتدال؛ وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين، وهو أيضاً بلوغ الحلم {آتَيْنَاهُ حُكْماً} حكمة في فهم الأمور {وَعِلْماً} فقهاً في الدين؛ وذلك قبل أن يبعثه الله تعالى نبياً

15

{وَدَخَلَ} موسى {الْمَدِينَةِ} مدينة فرعون؛ وهي منف، أو منفيس؛ وهي مكان بلدتا البدرشين وميت رهينة؛ بمحافظة الجيزة، وكانت هذه المدينة عاصمة ملك فرعون؛ وفيها قصوره ومعابده {هَذَا مِن شِيعَتِهِ} أتباعه وأنصاره {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} من أتباع فرعون {فَوَكَزَهُ مُوسَى} ضربه بجمع كفه «لكمه» {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} أي إن هذا التسرع في القتل من عمل الشيطان ووسوسته. ومن هنا نعلم أن التسرع في الحكم على الأشياء: مضيع للتدبر والحكمة، وموجب للأسى والندم؛ وهو من عمل الشيطان وتحريضه وقد حدث ذلك لموسى قبل بعثته؛ أما بعد النبوة: فالشيطان محجوب عن الأنبياء، ممنوع من إغوائهم والوسوسة إليهم؛ ألا ترى إلى قول الحكيم العليم {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وقول اللعين {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}

16

{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بارتكاب القتل

17

{قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} أي بحق إنعامك علي بإنجائي، واصطفائي {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً} معيناً {لِّلْمُجْرِمِينَ} الكافرين

18

{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَآئِفاً} أن يؤخذ فيمن قتله بالأمس {يَتَرَقَّبُ} يتوقع المكروه {فَإِذَا} الرجل {الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ} طلب نصرته ومعونته {بِالأَمْسِ} ونصره بقتل عدوه {يَسْتَصْرِخُهُ} يستغيث به على رجل قبطي آخر يقاتله {لَغَوِيٌّ} ضال {مُّبِينٌ} بين الضلال؛ لما فعلته بالأمس، وتفعله اليوم

19

{فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ} موسى {أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا} أي عدو لموسى وللمستغيث به {قَالَ يمُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ} القائل لذلك هو القبطي؛ وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن القائل: هو الإسرائيلي - المستصرخ بموسى - لما رأى من غضب موسى عليه السلام، وقوله له {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} وهو لا يتفق وسياق النظم الكريم ولقوله بعد ذلك لموسى {إِن تُرِيدُ} ما تريد {إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ} وهذا القول لا يقوله إلا الأعداء الألداء؛ خصوصاً والقتل السابق قد حصل دفاعاً عن الإسرائيلي، وانتقاماً له

20

{وَجَآءَ رَجُلٌ} مؤمن {مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} آخرها؛ بالنسبة لمكان موسى {قَالَ يمُوسَى إِنَّ الْمَلأَ} قوم فرعون {يَأْتَمِرُونَ بِكَ} يتشاورون في أمرك {لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} من المدينة

21

{فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} يتوقع لحوق أعدائه به، أو «يترقب» نصرة الله تعالى له

22

{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ} ناحية {مَدْيَنَ} هي قرية شعيب عليه السلام؛ وهي خارجة عن حكم فرعون {سَوَآءَ السَّبِيلِ} أي الطريق الصحيح المستوي؛ الموصل للنجاة والخير

23

{وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ} وكانت بئراً يستقون منها {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً} جماعة {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ} أي سواهم؛ بعيداً عن الذين يستقون {امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ} تمنعان أغنامهما عن ورود الماء {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} ما شأنكما؟ وما الذي دعاكما إلى الابتعاد عن الماء؛ مع حاجتكما إليه؟ {قَالَتَا لاَ نَسْقِي} ولا نزاحم؛ لأن المزاحمة تقتضي الاختلاط بالرجال وملاحقتهم، وهو أمر ينقص من قدر المرأة، ويذهب بحيائها؛ بل ننتظر في مكاننا هذا البعيد عن الماء {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ} أي حتى يرجع الرعاة بعد سقيهم؛ وما ألجأنا إلى ذلك إلا انعدام وجود الرجال، الذين يقومون بالأعمال في أسرتنا {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لا يقوى على السعي والسقي. فزاحم موسى، وأخذ غنمهما

24

{فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ} حلت به متاعب الأسفار، وأدركه تعب السعي والسقي؛ فطلب الراحة لنفسه؛ و {تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} ليرتاح مما لاقاه من المشاق؛ التي لا يحتملها إلا الأنبياء؛ وخواص الأولياء والأصفياء وأحس بالجوع الذي يذيب الجسد، ويفري الكبد {فَقَالَ} مخاطباً مولاه؛ الذي خلقه فسواه، وكلأه ورعاه {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} طعام {فَقِيرٌ} محتاج. وقد قال «لما أنزلت» ولم يقل: لما تنزل؛ لتأكده من استجابة ربه له ولتحققه من نزول الخير إليه

25

{فَلَمَّا جَآءَهُ} أي جاء موسى شعيباً عليهما الصلاة والسلام {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} قصته مع فرعون، وهروبه من مصر {قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} بوصولك إلى «مدين» وهي ليست في ملك فرعون، وليست خاضعة لحكمه

27

{قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} يؤخذ من هذه الآية: أن العاقل الحكيم، يخطب لبناته صاحب الخلق الكريم، حيث لا تهمه المادة؛ بل يهمه القوة على العمل والقدرة على الكسب؛ لئلا يكون عالة على غيره {عَلَى أَن تَأْجُرَنِي} أن تكون أجيراً لي {ثَمَانِيَ حِجَجٍ} سنين

28

{قَالَ ذَلِكَ} الأمر {بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ} الثمان أو العشر {قَضَيْتُ} مهراً لزوجتي {فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ} أي فلا أكون معتدياً، أو لا يعتدي عليَّ بطلب الزيادة

29

{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} الأكمل، والأتم. وقيل: قضى عشراً وعشراً؛ ومن أوفى في الأداء، من الأنبياء؟ {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} بامرأته نحو مصر؛ بعد أن قضى بمدين المدة المسقطة للجريمة؛ وكانت تسقط بمضي عشر سنوات في شريعة فرعون؛ وهي جريمة قتل القبطي {آنَسَ} أبصر {مِن جَانِبِ الطُّورِ} الجبل {أَوْ جَذْوَةٍ} قطعة متقدة {تَصْطَلُونَ} تستدفئون

30

{فَلَمَّآ أَتَاهَا} أتى موسى النار. وقيل: أتى الشجرة الآتي ذكرها {نُودِيَ مِن شَاطِىءِ} جانب {الْوَادِي الأَيْمَنِ} بالنسبة لموسى {مِنَ الشَّجَرَةِ} التي أوجدها الله تعالى في هذا المكان، البعيد عن العمران والسكان، الخالي من الماء والنبات؛ ونودي بكلام مقدس: لا تحيط به اللغات، ولا تدركه الصفات، ولا يشابه الحروف والأصوات؛ ولا يشاكل النغمات والعبارات؛ من لدن باسط الأرض ورافع السموات «نودي» {أَن يمُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ *

31

وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} لأريك من بدائع قدرتي، وعجيب صنعي. فألقاها فإذا بالحياة تدب فيها بأمر باعث الحياة، وإذا بها تتثنى وتتلوى؛ وقد زايلها الجمود الملصق بطبيعتها {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} تتحرك {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} حية صغيرة كثيرة الحركة {وَلَّى مُدْبِراً} رجع مسرعاً من حيث أتى {وَلَمْ يُعَقِّبْ} لم يرجع

32

{اسْلُكْ} أدخل {يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} الجيب: فتحة الثوب مما يلي العنق {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي من غير مرض: كبرص ونحوه؛ بل كضوء الشمس {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} أي من أجل الرهب؛ وهو الخوف. المعنى: اضمم يدك إلى صدرك: يذهب ما بك من خوف وفرق من الحية؛ ولأن موسى خشي أن يضم يده إليه؛ لما رأى من إضاءتها وتغيرها {فَذَانِكَ} أي تحرك العصا، وإضاءة اليد معجزتان {مِن رَّبِّكَ} لتذهب بهما {اسْلُكْ يَدَكَ فِي} تأييداً لنبوتك، وتصديقاً لرسالتك

34

{رِدْءاً} عوناً {يُصَدِّقُنِي} أي يكون - بسبب فصاحته، وطلاقة لسانه - سبباً في تصديقي

35

{وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} غلبة وتسلطاً على الأعداء {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} بسوء التي نمدك بها {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا} من المؤمنين {الْغَالِبُونَ} لأعداء الله

36

{فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا} معجزاتنا {بَيِّنَاتٍ} واضحات ظاهرات؛ لا ينكرها إلا من انطمست بصيرته، وعمي قلبه {قَالُواْ} أي فرعون وشيعته {مَا هَذَآ} الذي جئتنا به؛ من انقلاب العصا حية، وما انبعث من الضوء في يدك؛ إن هذا {إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى} مختلق {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا} الذي تزعمه: من وجود إله واحد {فِي آبَآئِنَا الأَوَّلِينَ} المتقدمين

37

{وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ} ولم يختلق، ولم يفتر {وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} أي العاقبة المحمودة يوم القيامة

38

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} لقومه؛ بعد أن أخرسه موسى بحججه ومعجزاته -[474]- {يأَيُّهَا الْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} وأراد أن يوهم قومه بأنه ذو بطش شديد وقوة، وأن إله موسى في متناول يده، وغير بعيد عليه، وأن في إمكانه الصعود إليه ومقابلته ومقاتلته؛ فقال لوزيره وشريكه في الكفر ومراده من ذلك: صنع لبنات من الفخار؛ مما يتخذ للبناء {فَاجْعَل لِّي} من هذه اللبنات {صَرْحاً} بناء عالياً {لَّعَلِّي أَطَّلِعُ} أصعد وانظر {إِلَى إِلَهِ مُوسَى} وأقف على حاله

39

{وَاسْتَكْبَرَ} اللعين، وتعالى عن الإيمان {وَظَنُّواْ} تأكدوا {أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} بالبعث يوم القيامة

40

{فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} طرحناهم في البحر. قيل: إنه بحر القلزم؛ وهي بلدة على ساحل البحر الأحمر، بين مصر والحجاز

41

{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} قادة {يَدْعُونَ} الناس {إِلَى} الكفر؛ والكفر موصل إلى {النَّارِ} حتماً

42

{وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} طرداً، وإبعاداً وهلاكاً {وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} المطرودين المبعدين

43

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة {مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} الأمم المتقدمة؛ كقوم نوح، وعاد، وثمود، وغيرهم {بَصَآئِرَ} أي الكتاب المنزل على موسى «بصائر» يتبصر بها في شؤون الدين والدنيا

44

{وَمَا كُنْتَ} يا محمد {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} أي بجانب الجبل الغربي؛ الذي كان فيه ميقات موسى عليه السلام؛ حين كلمه ربه تعالى {وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} المشاهدين لذلك

45

{قُرُوناً} أمماً {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً} مقيماً {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} قوم شعيب عليه السلام -[475]- {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} لك يا محمد بهذه القصص، وهذه الأنباء؛ التي تخفى عليك؛ لولا أن أنزلناها إليك؛ لتعلمهم بها: فتكون دليلاً على صدقك، وصحة رسالتك

46

{الطُّورِ} الجبل {إِذْ نَادَيْنَا} موسى، وحملناه الرسالة {وَلَكِنَّ} أرسلناك لقومك {رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} نبي ينذرهم بطش ربهم وعقابه، ويرغبهم في رحمته وثوابه

47

{وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ} عقوبة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من الكفر والمعاصي {فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا} هلا {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} يهدينا إلى معرفتك، ويرشدنا إلى عبادتك؟ {فَنَتِّبِعَ آيَاتِكَ} المنزلة عليه

48

{فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ} محمد عليه الصلاة والسلام {قَالُواْ لَوْلا} هلا {أُوتِيَ} من المعجزات {مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَى} ونسوا أنهم - من قبل - كفروا بموسى وحاربوه، وسخروا بمعجزاته واستهزأوا بها {قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} أي تعاونا. والمراد بهما: التوراة والقرآن، أو هما موسى ومحمد؛ على قراءة من قرأ «ساحران تظاهرا» {وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ} من التوراة والقرآن، أو موسى ومحمد {كَافِرُونَ} وقراءة «سحران» أصح وأوضح؛ لقوله تعالى:

49

{قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ} أي أكثر هداية من التوراة والقرآن {وَمَنْ أَضَلُّ} أي لا أحد أضل {مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} بل يزيدهم ضلالاً على ضلالهم {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ} (انظر آية 176 من سورة الأعراف)

51

{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا} أي أوصلنا، وبينا؛ ووصل الشيء: لأمه

52

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} وهم اليهود والنصارى؛ وكتابهم: التوراة والإنجيل {مِن قَبْلِهِ} من قبل القرآن؛ والمراد بهم مؤمنو أهل الكتاب {هُم بِهِ} أي بالقرآن {يُؤْمِنُونَ *

53

وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} القرآن {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ} أي قبل نزول القرآن {مُسْلِمِينَ} مؤمنين بالله؛ لاتباعنا ما نزل علينا من الكتاب

54

{أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم} ينالون جزاءهم وثوابهم {مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ} على الطاعات، وعن المعاصي؛ ولإيمانهم أولاً بكتابهم ورسولهم، وإيمانهم آخراً بالقرآن ومن أنزل إليه {وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أي يدفعون بالطاعة المعصية، أو يدفعون الأذى بالعفو والحلم

55

{اللَّغْوَ} الباطل {وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا} فنثاب عليها {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} فتؤخذون بها {لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} لا نريد مصاحبتهم ومخالطتهم

56

{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ} هدايته {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} فيزيدهم {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى}

57

{نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ} أي يحاربنا الناس ويخرجوننا من أرضنا؛ وهذا قول باطل مردود عليه بقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً} يأمنون فيه من الاعتداء والقتل، والإغارة؛ الواقعة من بعض العرب على بعض {يُجْبَى إِلَيْهِ} أي يجلب ويجمع {رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا} من عندنا؛ لا بجهد منهم، أو مشقة عليهم: يزرع غيرهم فيأكلون، وينسج فيلبسون

58

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أي تنكرت لما اختصها الله تعالى به من النعم؛ فلم تشكر عليها {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ} خالية خاوية {لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ} لما فيها من وحشة وخراب، وما يعروها من ظلمة واكتئاب {إِلاَّ قَلِيلاً} أي إلا سكناً قليلاً: يحط بها المسافرون - للضرورة - يوماً أو بعض يوم

59

{فِي أُمِّهَا رَسُولاً} أي يبعث في عاصمتها، والقرية العظيمة فيها {إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} كافرون

60

{وَمَا عِندَ اللَّهِ} في الآخرة: من جنان، وفاكهة ورمان، وحور حسان {خَيْرٌ وَأَبْقَى} من متاع الدنيا الزائل؛ ومجدها الزائف

61

{أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً} بالنعيم الدائم في الجنة {فَهُوَ لاَقِيهِ} حتماً؛ ومن أصدق وعداً منالله؟ {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فشغله الحال، عن المآل، وأنساه التدبير عن المصير {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} في النار

63

{قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أي وجب عليهم العذاب {أَغْوَيْنَآ} أضللنا {تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ} منهم

64

{وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ} أي ادعوا الأصنام التي أشركتموها مع الله تعالى في العبادة؛ ليكشفوا عنكم ما بكم من ضيق، وليدفعوا عنكم ما أنتم فيه من عذاب {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} وكيف يستجيب من لا يجيب؟ أو كيف ينجي من العذاب من هو واقع في العذاب؟

66

{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَآءُ} أي خفيت ولم يدروا بماذا يجيبون

68

{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} خلقته {وَيَخْتَارُ} ما يشاء اختياره {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أي ما كان لأحدهم أن يختار لنفسه؛ لأنه تعالى صاحب الملك، وخالقه، وحاكمه؛ وهو وحده صاحب الخيرة فيه ويجوز أن تكون «ما» بمعنى الذي؛ أي «ويختار» الذي فيه «الخيرة» لهم والمصلحة وهذا واضح ملموس: فقد يختار الإنسان ما يضره، ويساق رغم أنفه إلى ما يسره وهذه خيرته في خليقته. وكما أنه تعالى اختار لما خلق؛ فقد خلق ما اختار: خلق تعالى أصنافاً متعددة، وأجناساً شتى، وأمماً متباينة؛ حسبما تقتضيه المصلحة، وتستوجبه الحكمة: ملائكة وشياطين، وإنساً وجناً، ووحشاً وطيراً، وبحاراً وأنهاراً، وجبالاً ووهاداً، وثماراً وأزهاراً؛ إلى ما لا نهاية لحده، ولا حد لمنتهاه؛ وليس الطاوس الجميل بأكرم عليه تعالى من الغراب الذليل، ولا الهدهد بأعز لديه من الحدأة، ولا الحمل بأحب إليه من الذئب. وكذلك خزنة النار - وهم من هم في إنزال العذاب وإحلال النقمة - فإنهم ليسوا بدون خزنة الجنة؛ وهم من هم في إسباغ السعادة وإحلال النعمة وكذلك ملك الموت - الذي يجلب الحزن ويأتي بالفناء - فإنه ليس بدون ملك الأرزاق الذي يأتي بالخصب والرخاء. وجبريل الذي ينزل بالعذاب؛ ليس بدون ميكائيل الذي ينزل بالرحمة فالكل مخلوق له تعالى، دال على وحدانيته. والكل مخلوق بإرادته ومشيئته، وتدبيره وحكمته وهو وحده {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ} (انظر آية 105 من سورة يوسف) {سُبْحَانَ اللَّهِ} تنزه وتقدس {وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} عن إشراكهم به غيره (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء)

69

{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} ما تضمره وتخفيه قلوبهم

70

{لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى} في الدنيا له الحمد في {الآخِرَةُ} وهو قول المؤمنين الناجين يوم القيامة «الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن. الحمدلله الذي صدقنا وعده. الحمدلله رب العالمين»

72

{سَرْمَداً} دائماً {تَسْكُنُونَ} تستريحون وتنامون

73

{لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} أي في الليل {وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} في النهار

75

{وَنَزَعْنَا} أخرجنا {مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} يشهد عليهم ولهم بما قالوا، وما فعلوا {فَقُلْنَا} للمشركين {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} على صحة معبوداتكم -[479]- {فَعَلِمُواْ} وقتذاك {أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} وحده، وأن ما سواه هو الباطل {وَضَلَّ} غاب {عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يختلقون من الآلهة والأصنام

76

{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى} ممن آمن به. وكان ابن عمته، وابن خالته {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ظلمهم وتكبر وتجبر فيهم؛ وأعجب بماله وغناه {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ} المفاتح: جمع مفتح. والمفتح: هو المفتاح. والمفتاح جمعه مفاتيح. وقيل: المراد بالمفاتح: الأوعية. فيكون المعنى: ما إن خزائنه، وصناديق كنوزه وأمواله {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} لتثقل بالجماعة {أُوْلِي الْقُوَّةِ} أصحاب القوة والشدة {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي الفرحين: فرح أشر وبطر؛ أما من منّ الله تعالى عليه بنعمة: فاطمأن إليها؛ اطمئنان الواثق بربه، وفرح بها: فهو ممن أحبه مولاه؛ فرضي عنه وأرضاه

77

{وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أي اطلب الآخرة فيما آتاك الله من الثروة والغنى؛ بأن تتصدق، وتصل الرحم؛ ولا تنس أن تبقى لنفسك شيئاً يقيك العوز، ويمنعك من إراقة ماء وجهك {وَأَحْسِن} إلى الناس؛ ولو أساءوا {كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} رغم إساءتك {وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} بالمعاصي

78

{قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} أي إنما حصلت على هذا المال بسبب علمي بوجوه المكاسب، وضروب الاتجار. وقيل: كان يشتغل بالكيمياء؛ وهي تحويل بعض المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة - كالذهب - وذلك بواسطة إضافة عناصر أخرى إليها. وقد شغف الكثيرون بذلك العلم؛ وقضوا أعمارهم، وأفنوا أموالهم في ذلك السبيل؛ فلم يحظوا بطائل؛ وحذر كثير من الألباء من ولوج هذا الباب؛ فحذار - أيها المؤمن اللبيب - أن تحاول ما يعكر صفو حياتك، ويشغلك عن عبادتك؛ وانصرف عما لا يفيدك، إلى ما يفيدك {مِنَ الْقُرُونِ} الأمم {وَأَكْثَرُ جَمْعاً} للمال {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} أي لا يسألون سؤال استعتاب {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} بل يسألون سؤال حساب وعقاب {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وقيل: لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم: لظهورها وكثرتها؛ بل يدخلون النار بغير حساب؛ كما يدخل خيار المؤمنين الجنة بغير حساب

79

{فَخَرَجَ} قارون {عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} أي في أبهته: لابساً فاخر الثياب، راكباً فاره المراكب {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} وليس لهم نصيب في الآخرة {يلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ} من الجاه والمال {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} نصيب كبير في الدنيا

80

{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} الدين، والمعرفة، والحقيقة {وَيْلَكُمْ} أي الويل لكم. والويل: حلول الشر {ثَوَابُ اللَّهِ} جزاؤه في الآخرة {خَيْرٍ} من الدنيا وما فيها، ومن فيها {لِّمَنْ آمَنَ} بالله -[480]- {وَعَمِلَ صَالِحاً} في دنياه {وَلاَ يُلَقَّاهَآ} أي لا يؤتى الجنة، ولا يدخلها؛ أو لا يوفق للأعمال الصالحة {إِلاَّ الصَّابِرُونَ} على الطاعات، وعن المعاصي

81

{فَخَسَفْنَا بِهِ} أي بقارون {وَبِدَارِهِ} بما فيها من كنوز، وأموال؛ لم تغن عنه كثرتها ووفرتها؛ وأهلكه الله تعالى، وأذهب حاله، وزينته، وجاهه؛ ولم يبق له في الدنيا سوى الخزي واللعنة، وفي الآخرة الجحيم والعذاب الأليم {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ} جماعة، أو عصابة {يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ} يمنعون عنه الهلاك الذي قدره له

82

{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} وكانوا يقولون {يلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ} أصبحوا يقولون {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} وي: كلمة يقولها النادم لإظهار ندمه {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} بإرادته {وَيَقْدِرُ} يقبض ويضيق عمن يشاء بحكمته وليس البسط دليلاً على رضاه، ولا القبض دليلاً على سخطه {لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بالإيمان والصبر {لَخَسَفَ بِنَا} الأرض؛ كما خسف بقارون {وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} الذين كفروا بأنعمالله؛ فلم يشكروها. وقنطوا من زوال الشدة، فلم يصبروا عليها

83

{لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً} بغياً وكبراً {وَلاَ فَسَاداً} بارتكاب المعاصي. لأن الطاعة والإحسان: هما الوضع الصحيح الذي يقتضيه النظام الكوني، وتلتزمه الفطر السليمة. أما المعصية والإساءة: فهما خروج عن الطاعة، وفساد للنظام. والمعصية: فساد {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} والعاصي: مفسد {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} {وَالْعَاقِبَةُ} في الدنيا والآخرة {لِلْمُتَّقِينَ} الذين {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} {إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي جزاءه وعقوبته

85

{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} أي أنزله إليك، وكلفك بتبليغه والعمل به {لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} إلى عود. أي لمعيدك بعد الموت، أو لرادك إلى مكة؛ بعد أن أخرجوك منها. وكانت عودته - عليه الصلاة والسلام - يوم الفتح

86

{وَمَا كُنتَ تَرْجُو} تأمل قبل أن نهبك النبوة {أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} أن ينزل عليك القرآن {إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} ولكن الله تعالى أنزله إليك: رحمة منه تعالى بك وبالناس -[481]- {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ} أي معيناً لهم. والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام - في هذا وأمثاله - وهو أبعد المخلوقين عن مظاهرة الكافرين والمراد به أمته {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}

87

{وَلاَ يَصُدُّنَّكَ} لا يمنعونك {عَنْ آيَاتِ اللَّهِ} عن تبليغها

88

{كُلِّ شَيْءٍ} سواه تعالى {هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} أي إلا الأعمال الصالحة التي قصد بها وجهه تعالى؛ فهي باقية: يثاب عليها، ويسعد بها في الدنيا وفي الآخرة أو {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} إلا ذاته العلية؛ فهي منزهة عن الهلاك والفناء {لَهُ الْحُكْمُ} القضاء النافذ في الدنيا والآخرة

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{الم} (انظر آية 1 من سورة البقرة)

2

{وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} أي لا يمتحنون ويختبرون بما يتبين به حقيقة إيمانهم. وذلك بنقص الأموال، وموت الأولاد، والقحط، وغير ذلك. وكما يكون الامتحان والاختبار بالفقر، والمرض، والموت، والجدب؛ فإنه يكون أيضاً بالغني والعافية. وكما يكون الابتلاء بالضراء، يكون بالنعماء والسراء، وقد فتن سليمان عليه السلام بكليهما. قال تعالى:

3

{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ}

4

{أَن يَسْبِقُونَا} يفوتونا؛ فلا نستطيع إدراكهم ومعاقبتهم

5

{مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ} ومثوبته في الآخرة {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ} الذي أجله ووقته لهذا اليوم الموعود {لآتٍ} لا ريب فيه {وَهُوَ السَّمِيعُ} لكل ما يقال {الْعَلِيمُ} بكل ما يفعل؛ فيجازي عليه

6

{وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} أي لمنفعتها؛ لأن في الجهاد: حماية الأهل والوطن، ودفع العدو الغاشم، وإعلاء الدين، ودخول الجنة {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} لنمحونها عنهم

8

{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} أي أمرناه بالإحسان إليهما (انظر آية 23 من سورة الإسراء) {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} في العبادة {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} فقد علمت أن المعبود بحق هو الله تعالى وحده {فَلاَ تُطِعْهُمَآ} إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وهي الحالة الوحيدة التي يجوز فيها مخالفة الوالدين وعصيانهما؛ إذا هما أكرها ابنهما على الإشراك بالله

9

{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} أي لنحشرنهم مع الأولياء والأنبياء

10

{فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ} أي بسبب إيمانه ب الله تعالى {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} أي إذايتهم له {كَعَذَابِ اللَّهِ} المتوقع للعصاة؛ فاضطر بسبب ضعف إيمانه، وفساد عقيدته، إلى الخوف من الناس، والتزلف إليهم {أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} من إيمان، أو شرك، أو نفاق

11

{وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} بقلوبهم {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} الذين أظهروا الإيمان، وأبطنوا الغش والخداع

12

{اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا} ديننا {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} في أتباعنا

13

{وَلَيَحْمِلُنَّ} القائلون «اتبعوا سبيلنا» {أَثْقَالَهُمْ} أوزارهم؛ بكفرهم {وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} أي أوزاراً مع أوزارهم؛ وهي ذنوب من اتبعهم واستن بسنتهم السيئة؛ من العصاة والكافرين (انظر آية 29 من سورة المائدة)

15

{وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً} أي وجعلنا السفينة علامة على قدرتنا ووحدانيتنا. أو وجعلنا هذه القصة عبرة لمن يعتبر، وعظة لمن يتعظ

17

{أَوْثَاناً} أصناماً {وَتَخْلُقُونَ} أي تنحتون {إِفْكاً} كذباً. والمعنى: إنما تعبدون أصناماً تنحتونها بأيديكم {لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} أي لا يستطيعون رزقكم، ولا أنفسهم يرزقون {فَابْتَغُواْ} اطلبوا {عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} فهو وحده {الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} {وَاعْبُدُوهُ} حق عبادته {وَاشْكُرُواْ لَهُ} أنعمه عليكم {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجزيكم على شكركم {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}

19

{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} رؤية روية وتفكر {كَيْفَ يُبْدِيءُ اللَّهُ الْخَلْقَ} يبدأه من غير مثال سبق -[484]- {ثُمَّ يُعِيدُهُ} يوم القيامة كما بدأه {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}

20

{ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} أي يعيد الخلق مرة أخرى، ويبعثهم يوم القيامة؛ وحينئذٍ

21

{يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} تعذيبه؛ وهو من مات على الكفر، أو أصر على الفسق؛ ولم يؤمن بربه، أو يتب من ذنبه {وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ} رحمته؛ ممن آمن به، وتاب عما فرط منه، وابتعد عن محارمه {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} ترجعون

22

{وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي بفائتين الله تعالى، وناجين من عذابه: مهما كنتم، وأين كنتم؛ فإنه مدرككم {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره {مِن وَلِيٍّ} يمنعكم منه {وَلاَ نَصِيرٍ} ينصركم عليه

23

{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ} القرآن الكريم {وَلِقَآئِهِ} أي كفروا بالبعث والقيامة {أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي} بهم؛ حين يرون العذاب {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}

24

{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} أي جواب قوم إبراهيم على دعوته لهم لعبادة الله تعالى، وترك عبادة الأوثان {إِنَّ فِي ذلِكَ} الإنجاء من النار {لآيَاتٍ} عبر ومعجزات؛ إذ جعل الله النار برداً وسلاماً عليه

25

{أَوْثَاناً} أصناماً {مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} أي جعلتم عبادة الأوثان سبباً للمودة فيما بينكم {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} يتبرأ القادة من الأتباع {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} يلعن الأتباع قادتهم

26

{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} أي آمن بإبراهيم، وصدق برسالته؛ وهو ابن أخيه {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} أي منتقل من جانبكم إلى طاعة الله تعالى. وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن القائل: هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ وأنه هاجر من سواد العراق إلى الشام. وقيل: إن القائل هو لوط عليه السلام

27

{وَوَهَبْنَا لَهُ} أي لإبراهيم {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ} أي ذرية إبراهيم {النُّبُوَّةَ} فكل الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته {وَالْكِتَابَ} اسم جنس؛ بمعنى الكتب. أي وجعلنا نزول الكتب في الأنبياء من ذريته أيضاً: كالتوراة لموسى، والإنجيل لعيسى، والزبور لداود {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} وهو الثناء الحسن في كل أهل الأديان، وبين سائر الملل

28

{وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} وهي إتيان الذكران «اللواط» {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا} أي بهذه الفاحشة؛ وقد كانوا - لعنهم الله تعالى - أول من ابتدعها، واقترفها

29

{وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} الطريق؛ لأن كل من مر؛ كان عرضة لانتهاك عرضه {فِي نَادِيكُمُ} في مجلسكم ومجتمعكم {الْمُنْكَرَ} هو ما ينكره الشرع والعرف والذوق؛ وقد كانوا يفعلون الفاحشة ببعضهم نهاراً جهاراً {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ} الذي أوعدتنا بنزوله {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فيما تقوله

31

{وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ} ملائكتنا إلى {إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} بالبشارة بالولد؛ أو بإهلاك أعدائه {قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} قرية لوط عليه السلام

32

{قَالَ} إبراهيم لرسل ربه {إِنَّ فِيهَا} أي إن في القرية التي أمرتم بإهلاك أهلها {لُوطاً} وهو جدير بالحفظ، قمين بالنجاة {قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا} من الظالمين فنهلكهم، ومن المؤمنين فننجيهم؛ و {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} وهم من آمن معه {إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} الباقين في العذاب

33

{سِيءَ بِهِمْ} ساءه مجيئهم؛ خشية الفضيحة بسببهم {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} أي ضاق صدره من أجلهم؛ وقد كانوا حسان الوجوه؛ فخشى اعتداء قومه عليهم كعادتهم. فلما رأى الملائكة خوفه وحزنه: قاموا بتسليته -[486]- {وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ} من شيء {وَلاَ تَحْزَنْ} على شيء

34

{إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً} عذاباً

35

{وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً} أي تركنا من القرية دلالة واضحة؛ على ما حل بها من الخراب والدمار؛ وهي آثارها وأطلالها البالية {وَارْجُواْ الْيَوْمَ آلآخِرَ} يوم القيامة، وما فيه من أهوال

36

{وَلاَ تَعْثَوْاْ} العثى: أشد الفساد

37

{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الزلزلة الشديدة {جَاثِمِينَ} باركين على الركب ميتين

38

{وَعَاداً} قوم هود {وَثَمُودَ} قوم صالح {وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ} ما حل بهم من دمار واستئصال؛ وكانوا يرونها في أسفارهم نحو اليمن {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} منعهم عن الإيمان {وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ} أي ذوي عقول وإدراك وتمييز؛ لكنهم لم يؤمنوا؛ فكان كفرهم أشد من كفر غيرهم؛ وذلك كقوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}

39

{وَقَارُونَ} من قوم موسى؛ وقد مضى ذكره في سورة القصص {وَهَامَانَ} وزير فرعون {بِالْبَيِّنَاتِ} بالحجج الواضحات الظاهرات {وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ} أي فائتين، وناجين من العذاب؛ بل أهلكناهم كما أهلكنا المكذبين والمستكبرين من قبلهم ومن بعدهم

40

{فَكُلاًّ أَخَذْنَا} أهلكنا {بِذَنبِهِ} الذي ارتكبه بفعله واختياره {فَمِنْهُم} كقوم لوط؛ والحاصب: الريح ترمي بالحصباء؛ وهي الحصى الصغار {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} كثمود وأهل مدين. والصيحة: العذاب؛ أو هي مقدمة لكل عذاب {وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ} كقارون -[487]- {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا} كقوم نحو {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} ليعاقبهم بغير ذنب أتوه {وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بارتكاب الذنوب، وتعريضها للعقاب

41

{أَوْلِيَآءَ} نصراء؛ والمقصود بها الأصنام {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ} أضعفها

42

{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ} يعبدون {مِن دُونِهِ} غيره {مِّن شَيْءٍ} أي إنهم لا يعبدون شيئاً يذكر بين الأشياء؛ وأن معبوداتهم: لا ترتفع إلى درجة الوجود؛ فما بالك إذا قيست بالواجد لكل موجود

43

{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ} العنكبوت، والبعوضة، وما شابههما {نَضْرِبُهَا} نسوقها {وَمَا يَعْقِلُهَآ} ما يفهمها ويتدبرها {إِلاَّ الْعَالِمُونَ} المتدبرون {لآيَةً} دالة على قدرة الله تعالى ووحدانيته

45

{إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ} عن الحسن رضي الله تعالى عنه: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر: فليست صلاته بصلاة {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} المراد بالذكر: التذكر. أي ولتذكر الله تعالى وخشيته، والإسراع في مرضاته، والابتعاد عن محرماته: أكبر من سائر العبادات؛ إذ أن العبادات وسيلة لمعرفة الله تعالى وخشيته؛ واتباع أوامره، واجتناب نواهيه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ولذكر الله إياكم برحمته: أكبر من ذكركم إياه بطاعته {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} فيجازيكم عليه، ويؤاخذكم به

46

{إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} بأن آذوكم وقاتلوكم؛ فأغلظوا عليهم، ونكلوا بهم {وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا} الذي {وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} من الكتب

48

{وَمَا كُنتَ تَتْلُو} تقرأ {مِن قَبْلِهِ} أي قبل نزول القرآن {مِن كِتَابٍ} أي مكتوب {وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} لأنك أمي: لا تقرأ ولا تكتب؛ وهي معجزة لك؛ دالة على صدقك. ولو كنت تكتب وتقرأ {إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} أي لو كنت تتلو الكتب المتقدمة - قبل نزول القرآن - وتكتب بيمينك ما نزل عليك: لشك المبطلون في رسالتك، وحق لهم أن يشكوا وقتذاك. ولكنك أمي لم تقرأ كتاباً، ولم تخط بيدك سطراً؛ فلم إذن الشك والارتياب؟

49

{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ} بعد وضوحها، وإحاطتها بسياج منيع يبعد بها عن الشبهات {إِلاَّ الظَّالِمُونَ} الكافرون

50

{وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ} أي هلا أنزل عليه آيات من ربه: مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى؛ عليهم السلام

51

{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} من الآيات الدالة على صدقك {أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} أي أولم يكفهم من الآيات المعجزات: هذا القرآن الذي أنزلناه عليك وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك لأنك أمي؛ وهذا القرآن - الذي جئت به - أعجز الفصحاء والبلغاء؛ وفيه رحمة وهدى، وشفاء للمؤمنين، وقد أحل لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث؛ ولم يستطيعوا - رغم قوة حجتهم، وبلاغة عارضتهم - أن يأتوا بمثل سورة منه؛ وهو معجزة المعجزات أبد الآبدين، ودهر الداهرين

52

{وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِالْبَاطِلِ} وهو كل معبود سوى الله تعالى {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}

53

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} بقولهم: «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم» {وَلَوْلاَ أَجَلٌ} وقت {مُّسَمًّى} ضربناه لنزول العذاب بهم {لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ} حين استعجلوا به {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} فجأة

55

{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ} يغطيهم {وَيِقُولُ} أي يقول لهم ربهم على لسان ملائكته - لأنهم محجوبون عن التلذذ بخطاب العزيز الكريم - {ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي جزاءه

56

{يعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} فإذا أوذيتم في بلدة؛ فهاجروا منها إلى غيرها

58

{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} لننزلنهم {مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً} الغرف: أعالي الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا} أبداً؛ خلوداً لا نهاية له

59

{الَّذِينَ صَبَرُواْ} على الطاعات، وعن المعاصي

60

{وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ} أي وكم من دابة. والدابة: كل ما يدب على وجه الأرض؛ من إنسان، أو حيوان، أو طير، أو حشرة، أو نحوه {لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا} أي لا تستطيع الحصول عليه، ولا تدخره {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم ودعائكم {الْعَلِيمُ} بأفعالكم وضمائركم والعجب كل العجب: أن تضرب الصخرة؛ فتنشق عن حشرة: لا تدري حين تلقاها، من أين يرزقها مولاها، وعلى أي شيء أنشأها ورباها وهي إن لم تجد القوت؛ فليس لها حتماً سوى الموت وتجد الإنسان - صاحب الحول والطول، والحيلة والدهاء والتدبير - دائب الكد، متواصل السعي؛ فلا يدرك - بكده وجهده - غير لقمته، ولا يبلغ من حياته سوى الكفاف، أو ما هو دون الكفاف وتجد آخر متربعاً في عقر داره؛ يحمل إليه فاخر الملبس، ونفيس المأكل والمشرب؛ بما يفيض عن حاجته، ويزيد عن طلبته؛ ليسجل تعالى على مخلوقاته: أنه الرازق بلا سبب، المعطي بلا طلب رزق «السميع العليم» الذي تكفل بما خلق؛ وساق لكل ما أراده تعالى له، لا ما أراده هو لنفسه؛ فتعالى المدبر الحكيم، الرزاق الكريم {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} فكيف يصرفون عن الإيمان، بعد اعترافهم

62

{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} يوسعه من غير سبب {لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} من غير طلب {وَيَقْدِرُ لَهُ} ويضيق عليه؛ بعد التوسعة: ابتلاء له، أو انتقاماً منه

63

{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} إذ يعترفون بخلقته، ويكفرون بوحدانيته

64

{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ} وما فيها من زخرف وبهجة {إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} لا بقاء له، ولا ثمرة فيه {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أي لهي الحياة الحقيقية: الدائمة النعيم، الباقية السرور والحبور؛ الجديرة بأن تسمى حياة

65

{فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ} في السفن؛ وهاج عليهم البحر العجاج، وتلاطمت بهم الأمواج؛ وظنوا ألا مهرب من الله إلا إليه {دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي صادقين في نيتهم، مخبتين في دعوتهم: فاستجاب ربهم لدعائهم؛ وهو تعالى دائم الاستجابة لمن دعاه، ولو كان عابداً لسواه فتعالى الملك العظيم، البر التواب الرحيم {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} وأمنوا الهلاك والإغراق {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} بمولاهم، ويكفرون بمن أنجاهم

66

{لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ} من نعمة الإثراء والإنجاء {وَلِيَتَمَتَّعُواْ} بالدنيا وما فيها من نعيم زائل؛ ما هو {إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} {فَسَوْفَ يَعلَمُونَ} عاقبة أمرهم، ومغبة كفرهم

67

{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} أي جعلنا بلدهم حرماً يأمن داخله؛ في حين أن الناس تتخطف من حولهم بالقتل، والسلب، والسبي {أَفَبِالْبَاطِلِ} الأصنام، وكل ما عدا الله {يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ} الإسلام، ومحمد عليه الصلاة والسلام {يَكْفُرُونَ} فياعجباً لهم: اشتروا دنياهم بآخرتهم، وشقاءهم بسعادتهم؛ فتعساً لهم

68

{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّنْ افْتَرَى} اختلق {عَلَى اللَّهِ كَذِباً} بأن نسب له الشريك والولد {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ} القرآن والإسلام {مَثْوًى} مأوى

69

{وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا} أي جاهدوا من أجلنا. والجهاد يطلق على مجاهدة النفس والشيطان، وأعداء الدين {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي لنهدينهم إلى سبيل الخير والتوفيق. أو والذين جاهدوا فيما علموا؛ لنهدينهم إلى ما لم يعلموا؛ لأن من عمل بما علم: أعطاه الله علم ما لم يعلم {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} بالعون، والنصر، والحفظ، والهداية

سورة الروم

سورة الروم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{الم} (انظر آية 1 من سورة البقرة)

2

{غُلِبَتِ الرُّومُ} غلبتها الفرس: ففرح كفار مكة بذلك؛ لأن الفرس كانوا يعبدون الأصنام مثلهم

3

{فِي أَدْنَى الأَرْضِ} أقربها إلى فارس، وإلى بلاد العرب. قيل: كانت موقعتهم بالشام {وَهُمْ} أي الروم {مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ} أي بعد غلبة فارس {سَيَغْلِبُونَ *

4

فِي بِضْعِ سِنِينَ} البضع: ما بين الثلاث إلى التسع. وقد التقى الجيشان في السنة السابعة من اللقاء الأول؛ وغلبت الروم فارس: مصداقاً لقول العزيز الكريم {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} فهو وحده الذي قدر هزيمة الروم «من قبل» وقضى بنصرتهم «من بعد» {وَيَوْمَئِذٍ} يوم نصرة الروم على الفرس {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} لأن الروم أهل كتاب؛ فهم بالمؤمنين أشبه، وإلى قلوبهم أقرب. أما الفرس فقد كانوا من عبدة الأوثان ككفار مكة

5

{يَنصُرُ مَن يَشَآءُ} نصره - ولو كان ضعيفاً - ويكبت من يشاء كبته - ولو كان قوياً - {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}

7

{يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي يعلم الكفار ما يحتاجون إليه في الدنيا من أمور المعايش: كالزراعة، والصناعة، والتجارة، ونحو ذلك. ولا يزالون حتى الآن متقدمين في شتى العلوم والفنون - مصداقاً لهذه الآية الكريمة - فقد تقدموا تقدماً كبيراً في استخدام القوى الكهربائية، والطاقة الذرية، وفنون الطيران واللاسلكي، والميكانيكا، وغيرها {وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ} وما يوصل إليها: من قول وعمل {هُمْ غَافِلُونَ} فلا يؤمنون بخالقهم، ولا يدينون برازقهم

8

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ} كيف أنشأناهم وأبدعنا صورهم؟ وكيف سويناهم وخلقنا عقولهم؟ وكيف هديناهم إلى ما يصلحهم؟ أو {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} فيما بينهم وبين «أنفسهم» {مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ} وما فيها من كواكب وأملاك، وأنجم وأفلاك، ومخلوقات جمة؛ لا يحصيها، ولا يعلمها إلا خالقها ومبدعها ما خلق الله {الأَرْضِ} وما فيها من بحار وأنهار، وجبال وأشجار، ونبات وحيوان {وَمَا بَيْنَهُمَآ} مما لا يعد ولا يحد {إِلاَّ بِالْحَقِّ} إلا لإقامة الحق والعدل {وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي وبقاؤها لأجل مسمى {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ} رغم هذه الدلالات الواضحات على قدرة الله تعالى ووحدانيته {بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} لا يؤمنون بالبعث والحساب

9

{أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من المكذبين؛ بسبب تكذيبهم؛ وقد {كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وما حل بهم: كعاد وثمود {وَأَثَارُواْ الأَرْضَ} حرثوها للزرع، وحفروها لاستخراج الفلزات والمعادن {وَعَمَرُوهَآ} بالتجارة والبناء {أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أي أكثر مما عمرها الكفار المعاصرون {وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} بالحجج الواضحات؛ فلم يؤمنوا، وكذبوا رسلهم وآذوهم: فأهلكهم الله تعالى واستأصلهم {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} بهذا الإهلاك {وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بتكذيبهم الرسل

10

{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ السُّوءَى} أي العذاب الأسوأ؛ كما أن عاقبة الذين أحسنوا الحسنى {أَنَّ} بسبب أن

11

{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} ينشؤه ابتداء؛ من غير مثال سبق {ثُمَّ يُعِيدُهُ} يحييه للبعث والحساب يوم القيامة {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} جميعاً: مسلمكم وكافركم

12

{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} ييأسون ويتحيرون. والإبلاس: الحزن والانكسار. وقيل: هو انقطاع الحجة

13

{شُرَكَآئِهِمْ} آلهتهم اللاتي أشركوا بعبادتها مع الله تعالى؛ وهي الأصنام

14

{يَتَفَرَّقُونَ} المؤمن في الجنة، والكافر في النار

15

{يُحْبَرُونَ} يتهللون فرحاً وسروراً

18

{وَعَشِيّاً} وقت العشاء {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} وقت الظهر. والمراد: ليلاً ونهاراً

19

{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} يخرج الدجاجة - وهي حية - من البيضة - وهي ميتة - ويخرج الإنسان - وهو حي - من المني - وهو ميت في ظاهره - {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} يخرج البيضة من الدجاجة، ويخرج المني من الإنسان والحيوان. وقد ورد في الحديث الشريف: «يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن» وذلك لأن الإيمان: هو الحياة الحقيقية التي يعتد بها وقد شبه الله تعالى الكفار بالموتى في غير موضع من كتابه الكريم (انظر آية 27 من سورة آل عمران) {وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} ينبتها بعد جدبها {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي وكما يخرج النبات من الأرض - بعد جدبها - بقدرة الله تعالى: تبعثون من القبور - بعد موتكم - بإرادته تعالى

20

{وَمِنْ آيَاتِهِ} علامات قدرته وربوبيته {أَنْ خَلَقَكُمْ} أي خلق أباكم وأصلكم: آدم عليه السلام {تَنتَشِرُونَ} في الأرض، وتتصرفون فيما فيه معاشكم ومنفعتكم

21

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ} لتطمئنوا {إِلَيْهَا} وترتاحوا {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} أي جعل بينكم التواد والتراحم؛ بسبب الزواج وقيل: «مودة» بالشابة «ورحمة» بالعجوز. ولا يخفى ما بثه الله تعالى بين الأزواج: من الشفقة والحنان؛ وما أوجبه على كلا الزوجين من المودة، والتفاني في الإخلاص والمحبة وهذا لا يتنافى مع ما يحدث من الشقاق بين الطبقة الدنيا، وذوي النفوس الوضيعة، مما ينشأ من ضعف الأخلاق، وفساد البيئة، ونقص التربية. وكثيراً ما يكون ذلك سبباً في هدم بعض النواميس الطبيعية: فقد يقتل الابن أمه - وهو أحب الناس لديها - والأب ابنه - وهو قرة عينه في الحياة - وما سبب ذلك إلا فساد الطبائع، والانصراف عن الدين الحنيف: الآمر بكل خير، الناهي عن كل شر والآية الكريمة تشير إلى أن الواجب على الزوجين: أن تسود بينهما المودة والحنان، والرحمة والإحسان كيف لا وهما شركاء البأساء والنعماء، والضراء والسراء

22

{وَمِنْ آيَاتِهِ} تعالى أيضاً {خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وما فيهما، ومن فيهما {وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ} لغاتكم {وَأَلْوَانِكُمْ} فهذا أبيض، وهذا أسود، وهذا أحمر، وهذا أصفر؛ بغير تفريق بين كل منهم في القدر والفضل؛ اللهم إلا بالعلم والتقوى: فالعالم الأسود المتقي ربه: خير من الجاهل الأبيض المفرط في حقوق مولاه {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ومن عجب أن كثيراً من الأمم الغربية - التي تتزعم المدنية الزائفة - اتخذت التفريق العنصري ديدناً وشعاراً: فهم يقتلون الملونين بأوهى الأسباب؛ بل بلا سبب أصلاً؛ ولا يثأرون لهم ممن يعتدي عليهم من أبناء جلدتهم. وقد فاتهم -[494]- أن جميع الكائنات البشرية إخوة، وأن وراء هذه الألوان المتعددة روحاً واحدة لا لون لها؛ وأن إلهاً واحداً هو الذي خلقهم جميعاً، وأودع في كل منهم سره ونوره؛ وأرخى على روح كل واحد منهم ستاراً كثيفاً: هو الجسد؛ وهذا الستار يكون في صقع أبيض، وفي آخر أسود؛ وفي صقع أحمر، وفي آخر أصفر. ومن آياته تعالى البينات: اختلاف اللغات؛ وقد بلغ عددها في بعض الأصقاع عشرات المئات. وقد قام كثير من الباحثين بحصر اللغات العالمية وإحصائها؛ فزاد ما أحصوه على الثلاثة آلاف، ولم يبلغوا بعد غايتها ونهايتها. وتستوي اللغات جميعها في وحدة المقصد: وهو الإبانة. ولا فضل لإحداها على الأخرى إلا بالسهولة، ويسر التناول. وقد شرف الله تعالى اللغة العربية بنزول القرآن بها؛ وذلك بسبب حاجة الأمة العربية للهداية؛ ولا يستطيع إنسان - بالغاً ما بلغ من رجحان العقل أو نقصانه - أن يزعم أن اللغة العربية - التي نزل بها القرآن - هي اللغة التي يتخاطب بها ملائكة الرحمن في سمواته، وأنها لغة الله تعالى التي لا يصدر أوامره إلا بها. ألم ينزل بها كتابه؛ وهو كلامه العزيز، وقرآنه الكريم؟ والواقع أن اللغات جميعها - عربيها وعجميها - مخلوقةلله تعالى، وهي إحدى آياته البينات {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}. وليس من فضل للغة من اللغات على صاحبها: سوى الإبانة التي لم تخلق اللغة إلا لتكون أداة لها. وكما أوحى ربك إلى الإنسان؛ أوحى أيضاً إلى الحيوان {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} ونتيجة الوحي في الحالتين: هي وصول العلم بالموحي به إلى الموحى إليه - مع اختلاف الوسائل - وكذلك كان وحيه تعالى إلى كثير من خلقه {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى} فلم يقل إنسان: أنه تعالى أوحى إليها عن طريق جبريل عليه السلام؛ وإنما كان عن طريق الكشف عما يجب أن يتبع، أو عما فيه الصالح العام للمجتمع الإنساني. ومن ذا الذي يستطيع أن يجحد أن ما نراه من صنوف المخترعات، وشتى الفنون؛ إنما كان عن طريق الوحي، والتوجيه، والتعليم الإلهي {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}. وإلا فأين جهد العقل الإنساني من الكهرباء؛ وهو لم يعلم - حتى الآن - كنهها، ولم يكشف سرها؟ وأين جهد العقل البشري من الرادار، والتليفزيون، والذرة، وما شاكل ذلك؟ إن الإنسان يتوهم أن جميع ذلك كان وليد الصدفة المحضة؛ ولكن هذه الصدفة التي يزعمونها؛ -[495]- إن هي إلا وحي خالص من لدن حكيم عليم (انظر آية 5 من سورة العلق). وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد

26

{كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} منقادون

27

{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي إن إعادة الخلق: أهون عليه من بدئه

28

{هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} عبيدكم {مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي هل يرضى أحدكم أن يكون مملوكه شريكاً له في ماله الذي رزقه الله تعالى؟ فإذا لم يكن ذلك كذلك؛ فكيف ترضونلله شريكاً: هو في الأصل مخلوق، ومملوكلله؟ {فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} أي أنتم وعبيدكم سواء في الرزق؛ ومع ذلك لا ترضونهم شركاء فيه؛ ورضيتملله شركاء في خلقه وملكه، من عبيده وصنع يده {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} أن تخافون أن يرثكم عبيدكم وإماؤكم؛ كخيفة أن يرث بعضكم بعضاً. فإذا كنتم تخافونهم على أموالكم - وأنتم وهم فيها سواء - فكيف ترضون أن يشرك الله تعالى في ملكه: ما تصنعونه بأيديكم؛ وأنتم صنع يده، وفقراء رحمته؟

30

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ} أي أقبل عليه باهتمام {حَنِيفاً} مسلماً، مائلاً إليه {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} خلقته ودينه {الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} أعدهم لقبولها، وأهلهم لفهمها وألزمهم بها؛ بما أودعه فيهم من عقل وتمييز {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} المستقيم، الواضح، المعقول، المقبول؛ الذي تستسيغه وتقبله الفطر السليمة

31

{مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} راجعين إليه: مؤتمرين بأوامره، منتهين عن نواهيه

32

{وَكَانُواْ شِيَعاً} فرقاً {كُلُّ حِزْبٍ} كل فرقة، وجماعة {بِمَا لَدَيْهِمْ} من الآراء الباطلة، والعقائد الفاسدة {فَرِحُونَ} مسرورون؛ لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث وراء الحقائق، والسعي إلى معرفة الخير الموصل إلى رضا الرحمن ورحيب الجنان

33

{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ} شدة، وفقر، ومرض {دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} راجعين إلى طاعته {ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً} سعة، ورخاء، وصحة {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} أي يشركون غيره معه في العبادة: يخلقهم فيعبدون غيره، ويرزقهم فيشكرون سواه وللشرك مظاهر شتى لا حصر لها فليس مقصوراً على عبادة غير الله فحسب: فلو انتصر محارب على عدوه، وظن أن نصرته من قوته: فقد أشرك بمن أعانه وأخذ بناصره. ولو أثرى تاجر، وظن أن ذلك بفطنته: فقد أشرك برازقه. وإذا برع صانع في صنعته، وظن أن ذلك بحذقه ومهارته: فقد أشرك بمعلمه وموفقه فاحذر - هداك الله - الشرك الخفي؛ فقد أهلك من كان قبلكم قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} ومن قبل قال قارون {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}

34

{لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ} من الخيرات والبركات: فمن مال وفير، ورزق كثير؛ إلى سرور - -[496]- وحبور، وصحة وقوة، وبنين وبنات {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة تمتعكم، وعدم شكركم

35

{أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} حجة؛ وكتاباً {فَهُوَ} أي الكتاب {يَتَكَلَّمُ} كلام دلالة؛ لا كلام نطق {بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} أي بصحة شركهم

36

{وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} شدة وضيق {} بسبب ما قدمت {أَيْدِيهِمْ} من ذنوب وآثام {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} ييأسون من رحمة الله تعالى ومعونته ويضيق

37

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} البسط والتضييق {لآيَاتٍ} لعبر، وعظات، ودلالات؛ تدل على وجود الخالق الرازق؛ الذي {يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وبغير سبب ظاهر، ويضيق على من يشاء بغير سبب؛ ومع توافر أسباب الرزق والسعة. فهو تعالى وحده يختص من يريد بما يريد {لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} فإذا كنت يا من هداكالله؛ ترغب في فضل الله

38

{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} وهو المسافر المنقطع. وقد عرفنا الله تعالى بذلك: أن لذي القربى، والمسكين، وابن السبيل حقوقاً ثابتة في أموالنا؛ يجب بذلها لهم، وأداؤها إليهم. وأن هذه الحقوق ليست تفضلاً منا عليهم؛ بل هي فرض واجب الأداء والوفاء، وأوامر واجبة النفاذ؛ أصدرها من يملك الخلق والرزق، والثواب والعقاب

39

{وَمَآ آتَيْتُمْ} أعطيتم أحداً {مِّن رِّباً} أي من شيء تطلبون زيادته؛ كأن تهبوا هبة أو تهدوا هدية؛ لا بقصد الهبة، ولا بقصد الإهداء؛ بل بقصد الزيادة والتفاخر، والتكاثر {لِّيَرْبُوَ} ليزيد {فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} فيردونه إليكم مضاعفاً؛ فإن هذا العمل إذا جاز أن يربو عند الناس {فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} لأنه لم يقصد به وجهه الكريم فليس لكم عليه من أجر، ولا ثواب. وهو كقوله تعالى: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} {وَمَآ آتَيْتُمْ} أعطيتم وأنفقتم {مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ} بها {وَجْهَ اللَّهِ} مرضاته وثوابه {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} الذين يضاعفون ثواب حسناتهم؛ فيرضيهم ربهم ويرضى عنهم

40

{هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ} الذين تعبدونهم {مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ} أي هل من شركائكم من يستطيع أن يبسط الرزق لأحد، أو أن يقدره على أحد؟ أو أن يكشف الضر عن أحد، أو أن يلحقه بأحد؟ أو أن يخلق، أو يرزق؟ أو أن يحيي أو يميت؟

41

{ظَهَرَ الْفَسَادُ} المراد بظهور الفساد: ظهور المعاصي؛ وظهوره: ظهور آثاره وعواقبه {فِي الْبَرِّ} بالجدب، ونقص الثمرات، وذهاب البركة {وَالْبَحْرِ} بقلة ماء المطر، المستمد منه، أو بقلة الأسماك التي تصاد منه، أو بكثرة طغيانه بالفيضان والإغراق {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} من المعاصي {لِيُذِيقَهُمْ} ربهم {بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ} أي جزاءه {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن معاصيهم؛ فتعود إليهم أرزاقهم، وتتوافر خيراتهم ومكاسبهم، ويرضى عنهم ربهم

43

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ} اقصد واتجه بكليتك {لِلدِّينَ الْقِيِّمِ} الإسلام؛ فذلك وحده سبب كل خير ويسر {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ} هو يوم القيامة {لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} لا دافع له، ولا مانع {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أي يتفرقون {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}

44

{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} أي يسوون لأنفسهم مقر راحتهم في الدنيا، ونعيمهم الدائم في الآخرة

46

{الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} بالمطر؛ الذي هو سبب الإنبات والرزق {وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ} خصبه وسعته {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ} السفن {بِأَمْرِهِ} بإرادته، ومعونته، وحفظه {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} تطلبوا الرزق بالتجارة والكسب؛ عن طريق الأسفار، في البحار

47

{فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ} بالحجج الواضحات الظاهرات

48

{وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} قطعاً {فَتَرَى الْوَدْقَ} المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} أي من خلال السحاب؛ وهو وسطه {فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ} أي بالمطر

49

{لَمُبْلِسِينَ} آيسين

50

{فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} بعباده، وشفقته بخليقته {كَيْفَ يُحْيِيِ الأَرْضَ} بالماء، والنبات، والأقوات {بَعْدَ مَوْتِهَآ} جدبها ويبسها {إِنَّ ذَلِكَ} الإله؛ المرسل الرياح، المثير السحاب، المنزل الماء على من يشاء، المحيي به الأرض بعد موتها «إن ذلك» القوي القادر {لَمُحْييِ الْمَوْتَى} من قبورها، وباعثها من أجداثها، ومحاسبها على أعمالها

51

{فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً} أي الريح، أو الزرع، أو السحاب. وذلك لأن اصفرار السحاب: يدل على عدم وجود الماء فيه، واصفرار الريح: على أنها لا تلقح السحاب، واصفرار الزرع: على يبسه وعدم نمائه {لَّظَلُّواْ} لمكثوا {مِن بَعْدِهِ} أي من بعد الاصفرار، ويأسهم من الإمطار {يَكْفُرُونَ} يجحدون أنعم الله تعالى السابقة عليهم، ورحمته الواصلة إليهم

52

{فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ} أي لا تستطيع إسماع موتى القلوب، ولا صم العقول. وشبههم تعالى بالموتى والصم؛ لأن حالهم كحالهم في عدم الانتفاع بالسماع

54

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ} أي من شيء ضعيف؛ لا قوة له: وهو المني. أو أريد به الطفولة؛ وهي مكمن الضعف {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ} وهو سن الشباب والفتوة {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً} وهو الهرم والشيخوخة

55

{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} الكافرون؛ أنهم {مَا لَبِثُواْ} مكثوا في الدنيا، أو في القبور {كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ} أي «كذلك» كما صرفوا عن حقيقة لبثهم في الدنيا أو في القبور؛ كانوا يصرفون عن الحق في الدنيا

56

{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} الملائكة {وَالإِيمَانَ} وهم الأنبياء {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي فيما كتبه الله تعالى في سابق علمه وتقديره

57

{فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} الكفار {مَعْذِرَتُهُمْ} اعتذارهم عما سلف منهم في الدنيا {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} يعاتبون؛ لأن العتاب، لا يكون إلا بين الأحباب. والاستعتاب أيضاً: الاسترضاء

58

{وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} معجزة مما يقترحون؛ كالعصا، واليد، والناقة، والمائدة، وأشباه ذلك {لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} وهم الذين يقترحون الآيات والمعجزات؛ كقولهم {مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ} {بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ} فإذا جاءهم رسولهم بآية قالوا {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} كاذبون، ساحرون

59

{كَذَلِكَ} كما طبع الله تعالى على قلوب هؤلاء حتى أدخلوا النار بأعمالهم {يَطْبَعُ اللَّهُ} يختم ويغطي {عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} أي الذين لا يلقون بالهم لأدلة التوحيد، وبراهين الربوبية

60

{فَاصْبِرْ} على أذاهم {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بنصرك وخذلانهم {حَقٌّ} لا مراء فيه {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ} أي لا يحملنك على الخفة، والقلق، والجزع: قولهم لكم {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ}.

سورة لقمان

سورة لقمان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{الم} (انظر آية 1 من سورة البقرة).

5

{أُوْلَئِكَ} المقيمون الصلاة، المؤتون الزكاة، الموقنون بلقاء الله {عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} فتحوا آذانهم لكلامه؛ فحفهم بإنعامه، وأطاعوا رسله؛ فهداهم سبله؛ {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون في الآخرة بالنعيم الأكبر، والخير الأوفر

6

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} أي ما يلهي من الحديث {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} طريق الإسلام

7

{كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} صمماً

10

{رَوَاسِيَ} جبالاً شوامخ {أَن تَمِيدَ} لئلا تميل الأرض {بِكُمْ} وتضطرب {وَبَثَّ} فرق ونشر {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ} صنف {كَرِيمٍ} حسن، عظيم، بهيج

11

{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} خلق الجنان ومن أهَّلهم لسكناها، والجحيم ومن أعدهم للظاها، وخلق السموات وما فيها ومن فيها، والأرض وما فوقها وما تحتها، والجبال لتقيها وتحفظها، والإنسان، والدواب لتسكنها وتنعم بخيراتها وبركاتها، وأنزل من السماء ماءاً ليصلحها ويخصبها، وأمتع من فيها؛ امتحاناً لهم، واختباراً لإيمانهم «هذا» جميعه «خلقالله» {فَأَرُونِي} أيها المكذبون الضالون {مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ} تعبدونهم {مِن دُونِهِ} غيره تعالى {بَلِ الظَّالِمُونَ} الكافرون الذين ظلموا أنفسهم بتعريضها للعقاب، وحرمانها من الثواب

12

{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} وهي العلم، والإصابة في الرأي، وتحري الحق، و «لقمان» قيل: إنه كان عبداً حبشياً. وقيل: إنه من أولاد آزر. وقيل: إنه عاش ألف سنة: وأدركه نبي الله داود، وأخذ عنه العلم. وقد كان يقضي ويفتي قبل مبعثه؛ فلما بعث قطع القضاء والفتيا؛ فسئل في ذلك. فقال: ألا أكتفي إذ كفيت. وقال بعضهم بنبوته. والجمهور على أنه كان حكيماً ولياً، ولم يكن نبياً؛ ولقد أحب لقمان ربه فأحبه؛ وآتاه «الحكمة» وعلمه ما لم يكن يعلم {أَنِ اشْكُرْ للَّهِ} وشكر الله تعالى: أساس الإيمان، ورأس الحكمة {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأن ثواب شكره عائد عليها {وَمَن كَفَرَ} فلم يشكر أنعم الله تعالى عليه {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} عن عبادته، وعن شكره {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} {حَمِيدٌ} محمود في صنعه، مستوجب الحمد والشكر؛ فما من نعمة إلا هو - جل شأنه - مسديها. وما من خير إلا هو - عز سلطانه - باعثه. وما من مخلوق إلا تحوطه من الله تعالى أنعم لا يدرك مداها، ولا تعلم خوافيها: فكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي وقد أبان الله تعالى لنا حكمة لقمان، وأن جماعها شكر العزيز المنان: «أن أشكرلله» وأن أفحش الظلم وأعظمه: الشرك ب الله

13

{يبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وأن خير ما يرضيه تعالى: طاعة الوالدين وبرهما، والحدب عليهما، وشكرهما {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}

14

{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} والوصية: أرقى مرتبة من الأمر؛ ألا ترى إلى قول الرحيم الرحمن - بعد أن أمر ونهى في محكم القرآن - {ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} {ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (انظر آيتي 15صلى الله عليه وسلّم وصلى الله عليه وسلّم52 من سورة الأنعام} {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} أي ضعفاً على ضعف {وَفِصَالُهُ} فطامه {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} الشكر لله تعالى -[501]- على أنعمه؛ وأجلها وأفضلها: نعمة الإيمان {الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} والشكر للوالدين: على حبهما، وتضحيتهما، وتربيتهما، ونصحهما وقد قرن تعالى شكر الوالدين بشكره: ليشعرنا بمزيد الاهتمام لهما، والعناية بهما (انظر آية 23 من سورة الإسراء)

15

{وَإِن جَاهَدَاكَ} قاتلاك {عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي على أن تعبد ما يعبدان من آلهة لا أصل لها ولا حقيقة لأمرها {فَلاَ تُطِعْهُمَا} على الشرك. وهو الأمر الوحيد الذي يستوجب عصيانهما ومخالفتهما؛ ولكنه لا يستوجب نبذهما، أو محاربتهما؛ كسائر الكفار والمشركين؛ فقد قال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} أي بالمعروف الواجب لهما: من بر، وصلة، ومعونة. وقد أفتى الأكثرون على وجوب معاونتهما في الذهاب إلى الكنيسة متى طلبا ذلك {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ} رجع {إِلَى} في دينه، وأمره، واستعانته، وتوكله {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من عمل؛ فأجازيكم عليه: ثواباً، أو عقاباً

16

{يبُنَيَّ إِنَّهَآ} أي الخصلة السيئة، والفعلة الذميمة {إِن تَكُ مِثْقَالَ} وزن {حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} التمثيل بحبة الخردل: مبالغة في الصغر؛ لأن حبة الخردل؛ من أصغر الحبوب {فَتَكُنْ} هذه الحبة من الخردل مستكنة {فِي صَخْرَةٍ} فلا ترى لذي عينين {أَوْ} تكن ضائعة {فِي السَّمَاوَاتِ} على سعتها {أَوْ فِي الأَرْضِ} على رحبها؛ فإنها لا تخفى على ربها؛ بل {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} الذي {يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} بعباده {خَبِيرٌ} بأحوالهم

17

{يبُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ} في أوقاتها. والصلاة لله تعالى: فرضت في سائر الشرائع المتقدمة؛ مع اختلاف بسيط في طرق أدائها؛ مع اتحادها جميعاً في الخضوع له تعالى، والالتجاء إليه، والإقرار بوحدانيته {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} وهو كل ما يقره الشرع ويرتضيه، ويأمر به {وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وهو كل ما ينكره الشرع، وتأباه المروءَة، وتنبو عنه الأذواق السليمة {وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ} أي ما يصيبك في هذه الحياة من شدائد وبلايا، وما تلقاه من أذى عند الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما يصيبك عند كبح الجماح، عن غير المباح {إِنَّ ذَلِكَ} الصبر {مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} أي معزوماتها؛ التي يجب التمسك بها. أو «إن ذلك» الذي وصيتك به جميعاً: من إقامة الصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على المكاره

18

{وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أي لا تعرض عنهم تكبراً. والصعر - بفتح العين - ميل الوجه

19

{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} القصد: التوسط. أي لا تسرع في المشي؛ فيذهب بهاؤك، ولا تتباطأ؛ فتبدو خيلاؤك {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ} -[502]- أتمها ووسعها

20

{ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} الظاهرة: حسن الخلق واستواء الأعضاء. والباطنة: حسن الخلق، والذكاء، والعلم، والمعرفة. أو الظاهرة لك: كالغنى، والعافية، والإيمان. والباطنة عنك: كالإنجاء من المكاره، ودفع الأرزاء والأسواء؛ من حيث لا تدري ولا تحتسب. ونعم الله تعالى الخفية: أكثر من أن تحصى، وأعظم من أن تستقصى فلو علمت أيها الإنسان، أن الحنان المنان: يسلك من بين يديك ومن خلفك من يكلؤك بإرادته، ويحفظك بمشيئته؛ لما وسعك إلا التمسك بطاعته، والتزلف إليه واذكر قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} وقوله العزيز الجليل: «ف الله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين»

22

{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} أي يقبل على طاعته، وينقاد لأوامره {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله بالحبل المتين الوثيق؛ الذي لا انقطاع له؛ وهو دين الله المستقيم: الذي من تمسك به فاز ونجا، ونال الدرجات العلا

23

{إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} هؤلاء الكفار {فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ} ونجزيهم عليه: جحيماً، وعذاباً أليماً {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بمكنوناتها

24

{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً} في الدنيا؛ لأن زمنها قصير وإن طال {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} نلجئهم {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} قاس، شديد

26

{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} عن خلقه {الْحَمِيدُ} مستوجب الحمد: المحمود في صنعه

27

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} أي لو أن سائر شجر الأرض؛ تحولت فروعه وأغصانه إلى أقلام يكتب بها {وَالْبَحْرُ} الذي لا يحد حده، ولا يبلغ أمده {يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} تماثله في العمق، والسعة، والعظم؛ وصارت مياه هذه البحار مجتمعة مداداً؛ تستمد منه هذه الأقلام، وتكتب كلمات الله تعالى: لنفدت هذه الأبحر، ونضب ماؤها؛ و {مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} وليس المراد بالكلمات في هذا المقام: الكلام المكون بالنطق، المؤلف بالحروف؛ وإنما أريد بها نتائجها؛ وهي النعم الجزيلة، والمنن العظيمة، والصفات الباهرة، والآيات الظاهرة؛ فإن كلا من هذه لو وقف عليه إنسان صافي الذهن، صحيح الفكرة، طلق اللسان، واضح البيان؛ لما وسعته أشجار الأرض أقلاماً، وبحورها مداداً ولو تضاعفت هذه الأشجار، وتلكم البحار؛ أضعافاً مضاعفة (انظر آية 109 من سورة الكهف) {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} في ملكه؛ غالب لا يغلب {حَكِيمٌ} لا يخرج شيء عن علمه وحكمته

29

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ} أي يدخل الليل في النهار، والنهار في الليل؛ وذلك بزيادة الليل شتاءاً ونقصه صيفاً -[503]- {كُلُّ} من الشمس والقمر {يَجْرِي} في فلكه بأمر ربه تعالى {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو انتهاء الدنيا، وقيام الساعة

30

{ذَلِكَ} النظام الدقيق المحكم {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ} الإله {الْحَقُّ} القادر؛ واجب الوجود، والموجد لكل موجود {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ} ما يعبدون {مِن دُونِهِ} غيره {الْبَاطِلُ} الزائل؛ الذي لا أصل له، ولا برهان عليه {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} المتعالي عن صفات المخلوقين؛ بالبقاء، والقدرة؛ المتعالي عليهم بالغلبة والقهر {الْكَبِيرُ} العظيم؛ الذي لا يماثله شيء

31

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ} بالأرزاق والتجارات {لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ} دلائل قدرته؛ من حمل الماء للفلك، والحفظ من مهالك البحر، والهداية إلى مسالكه، والتوفيق إلى أسباب الكسب؛ فقد يقوم تاجران - في وقت واحد - بتجارة متجانسة؛ فيعود أحدهما بالمال الكثير، والربح الوفير، ويعود الآخر بالخسارة والحرمان. وقد يربح الغبي، ويخسر الذكي {لِّكُلِّ صَبَّارٍ} كثير الصبر {شَكُورٍ} كثير الشكر

32

{وَإِذَا غَشِيَهُمْ} غطاهم {مَّوْجٌ} شديد {كَالظُّلَلِ} الظلل: جمع ظلة؛ وهي كل ما أظلك من جبل، أو سحاب {دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي متوجهين بقلوبهم إليه مؤمنين حق الإيمان به {فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} أي باق على الإيمان، أو هو بين بين: بين الكفر والإيمان، وقيل: مظهر للإيمان، مبطن للكفر؛ والأول أولى. والمعنى: فمنهم باق على إيمانه وإخلاصه الذي بدا منه وقت شدته، ومنهم من رجع إلى أصله، وعاد إلى كفره {خَتَّارٍ} غدار {كَفُورٍ} شديد الكفر

33

{وَاخْشَوْاْ يَوْماً} هو يوم القيامة {لاَّ يَجْزِي} لا يغني {وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} أي لا يتحمل والد العقوبة عن ولده، ولا مولود العقوبة عن والده؛ بل يجزي كل منهما بما فعل واكتسب {كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} وذكر تعالى الوالد والولد: لأن الوالد محط الحب والفداء، والمولود محط الرحمة والرجاء؛ فإذا كانا لا يغني أحدهما عن الآخر شيئاً؛ فبالنسبة للأباعد يعز الغناء {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالبعث والجزاء {حَقٌّ} ليس فيه مراء {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الشيطان

34

{إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} كيف تقوم، ومتى تقوم؟ {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} المطر؛ وسمي المطر غيثاً: لأنه يغيث الناس من الجوع والفقر؛ ولذا سمي الكلأ غيثاً: لأنه يغيث الماشية {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} من الأجنة: ذكراً أو أنثى؟ حياً أو ميتاً؟ شقياً أو سعيداً؟ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} من خير أو شر {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} فقد يسافر مسافر إلى الصين بلا سبب: فتعاجله المنية وقد يحين حينه وهو في ذروة قوته، ووافر صحته وقد يسافر ليبرأ من علته: فيأتيه الموت لساعته -[504]- وهذه الأمور الخمسة اختص بمعرفتها العليم الخبير وقد يقال: إن علماء الفلك، والأرصاد الجوية؛ قد أصبحوا - بواسطة علمهم وآلاتهم - يعلمون متى تهب الرياح؟ ومتى تنزل الأمطار؟ وهو قول لا يعتد به، ولا يلتفت إليه؛ فكم من مرة وعدوا بالخصب: فحل الجذب، وأوعدوا بالبلاء: فعم الرخاء. وكم من مرة حذروا من البرد: فجاء الحر، ومن الحر: فجاء القر وقولهم لا يعدو التخمين والظن {وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} أما اليقين: فلا يعلمه سوى رب العالمين.

سورة السجدة

سورة السجدة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{الم} (انظر آية 1 من سورة البقرة)

2

{لاَ رَيْبَ} لا شك

3

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي اختلق محمد هذا القرآن {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} وهم قريش خاصة، أو العرب كافة. وبذلك تكون من أهل الفترة؛ قبل بعثته عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وقد كانوا مكلفين باتباع إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام؛ وذلك مصداق قوله جل شأنه {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} لكنهم تحولوا إلى عبادة الأصنام؛ التي أحدثها فيهم عمرو الخزاعي لعنه الله تعالى

4

{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواء يليق به تعالى، وليس كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود عن الحدود

5

{يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ} مدة بقاء الدنيا. وتدبير الأمر: أمره تعالى بما يصلح البلاد والعباد: من نزول أمطار، ونمو أشجار، وازدهار أثمار، وجريان أنهار، وإماتة أحياء، وإحياء أموات. فتعالى الخالق المصور، الرازق المدبر {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} أي يصعد إليه ذلك الأمر، ونتائجه ليفصل فيه: لقد أمر تعالى بنعمة لبعض عباده؛ هل شكروها، أم كفروها؟ وأمر لبعض عباده ببلاء؛ هل صبروا على بلواهم. أم قنطوا من رحمة مولاهم؟ ووسع على بعض عباده في الرزق؛ هل أعطوا منه الفقير، أم بخلوا وعندهم الكثير؟ وضيق على بعضهم؛ فهل لجأوا له بالطلب، وجأروا إليه بالدعاء، أم يئسوا من روحالله؛ ولا {يبَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ} فتصعد إليه تعالى أوامره وما تم فيها - وهو جل شأنه أعلم بها من فاعلها وحاملها - وذلك {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} وهو يوم القيامة {ذلِكَ} الإله القادر القاهر، رب الأرباب، ومنزل الكتاب، ومجري السحاب، وخالق السموات والأرضين؛ وما بينهما من حيوان وطير وجماد وآدميين، وغيرهم من المخلوقين «ذلك» هو مدبر الأمر

6

{عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} رب العالمين

7

{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} أي أحسن خلق كل شيء خلقه. فلو تصورت مثلاً أن للفيل مثل رأس الجمل، أو للجمل مثل رأس الأسد، أو للإنسان مثل رأس الحمار: لوجدت في ذلك خللاً عظيماً، ونقصاً كبيراً؛ وعدم تناسب في الخلقة، وانعدام الانسجام بين الأعضاء مع حاجة المخلوق إليها على حالتها؛ بالنسبة لبيئته ورغبته؛ لأنك لو علمت أن طول عنق الجمل وشق شفته: سببه حاجة الناس إليه في الأسفار الطويلة، وحاجته هو إلى تناول الكلإ أثناء سيره. وأن الفيل لولا خرطومه الطويل: لما استطاع أن يبرك بجسمه الثقيل ليتناول طعامه وشرابه. وهكذا سائر المخلوقات من شتى الصور والأجناس؛ حتى الجمادات فقد اختصها الله تعالى بأشكال جذابة يسرح البصر في محاسنها، وألوان خلابة يتوه الفكر في مفاتنها فإنك لو تأملت ذلك، وتدبرت ما هنالك: لتيقنت أنه ليس في مقدور البشر، وأنه {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ} وهو آدم عليه السلام

8

{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ} خلاصة؛ وهي المني. و «السلالة»: ما انسل من الشيء؛ سمي به المني: لأنه ينسل من سائر البدن، أو هو ينسل من النخاع {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ} {مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} ضعيف: لا قوة فيه، ولا أثر له بنفسه: وهو النطفة

9

{ثُمَّ سَوَّاهُ} جعله مستوي الأعضاء، تام الخلقة، جميل الصورة {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} المملوكة له تعالى؛ والتي لا يستطيع مخلوق أن يهبها {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ} الذي به تسمعون، وعنه تسألون {وَالأَبْصَارَ} التي بها تبصرون، وعنها تحاسبون {وَالأَفْئِدَةَ} التي بها تعقلون، وبواسطتها تهتدون. وكل هؤلاء جعلها الله تعالى أداة لتلقي الإيمان، وقبول الهداية؛ والإنسان عن جميعها مؤاخذ مسؤول ألا ترى إلى قول العزيز الجليل «إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً»

10

{وَقَالُواْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} أي إذا متنا وصرنا حطاماً ورفاتاً، واختلطنا بتراب الأرض، وضاعت معالم أجسامنا {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي نخلق خلقاً جديداً بعد هذا؟

11

{قُلْ} لهم يا محمد: نعم {يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} أي كلف بقبض أرواحكم {ثُمَّ} تبعثون، و {إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} يوم القيامة، فيعاقبكم بذنوبكم، ويعذبكم على كفركم

12

{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ} الكافرون، المنكرون للبعث: حين يبعثون {نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ} مطأطئوها من الذل والخزي والهوان؛ ويقولون {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا} بأعيننا البعث الذي كنا به نكذب {وَسَمِعْنَا} الحق الذي كنا له ننكر {فَارْجِعْنَا} إلى الدنيا {نَعْمَلْ} عملاً {صَالِحاً} كما أمرت {إِنَّا} الآن، بعد ظهور -[506]- البرهان {مُوقِنُونَ} بصحة ألوهيتك، وصدق رسلك

13

{وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ} من هذه الأنفس {هُدَاهَا} في دنياها؛ على سبيل القسر والإلجاء. أو {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ} تطلب الرجعة إلى الدنيا «هداها» ورددناها إلى الدنيا {وَلَكِنْ حَقَّ} وجب {الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ} كفرة الجن وعصاتهم {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} الذين كفروا بي؛ بعد ظهور آياتي، وكذبوا رسلي؛ بعد إبداء معجزاتهم، وتوالى براهين صدقهم فكيف نردهم {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ}

14

{فَذُوقُواْ} العذاب {بِمَا نَسِيتُمْ} بسبب نسيانكم {لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَآ} وإنكاركم للبعث والحساب، والثواب والعقاب {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} أي تركناكم كالمنسيين {وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ} الدائم؛ الذي لا انقطاع له

15

{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} ويصدق برسالاتنا {الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا} أي تليت عليهم {خَرُّواْ سُجَّداً} لله {وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عن طاعته، وعن عبادته

16

{تَتَجَافَى} تتنحى وتتباعد {جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} أي أن نومهم قليل، وسهرهم طويل؛ لانقطاعهم إلى الله تعالى، وحرصهم على عبادته {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً} من غضبه وعقوبته {وَطَمَعاً} في رحمته وجنته

18

{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} كافراً

19

{أَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} التي يأوي إليها كل مؤمن {نُزُلاً} النزل: ما يعد لنزول الضيف وتكرمته

20

{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ} كفروا وكذبوا

21

{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى} أي الأقرب؛ وهو عذاب الدنيا: بالقتل، والأسر، والخزي {دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} أي قبل عذاب الآخرة، أو أقل من عذابها {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلى ربهم، ويتوبون عن كفرهم

22

{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} وعظ بها

23

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ} شك {مِّن لِّقَآئِهِ} أي من لقاء موسى؛ وقد لقيه ليلة الإسراء: عند العروج به إلى السماء. وقيل: «من لقائه» أي من تلقي موسى الكتاب. وقيل: من لقاء ما لقيه موسى من تكذيب وإيذاء؛ مثل ما لاقيت أنت من تكذيب قومك وإيذائهم

24

{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ} أي ممن آمن بموسى من بني إسرائيل {أَئِمَّةً يَهْدُونَ} الناس {بِأَمْرِنَا} بأوامرنا وشرائعنا التي بيناها لهم في التوراة {لَمَّا صَبَرُواْ} على الطاعات، وعن المعاصي؛ وجعل الله تعالى جزاء الصبر: إمامة الناس

26

{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} أو لم يتبين لهم {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْقُرُونِ} الأمم {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} ويرون ما حل بها من خراب ودمار {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإهلاك {لآيَاتٍ} لعبراً ودلالات على قدرتنا، وبطشنا بمن يكفر بنا

27

{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} أيضاً {أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ} اليابسة، التي لا نبات بها {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ} بهائمهم {وَأَنفُسُهُمْ} أي ويأكلون هم من ذلك الزرع أيضاً

28

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} أي متى هذا الفصل في الحكومة؛ الذي تعدنا به؟ وهو يوم القيامة. وقيل «الفتح» النصر الموعود: يوم بدر، أو يوم فتح مكة

29

{قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} يمهلون، أو يؤجلون

30

{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ} نزول العذاب الموعود بهم {إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} بك الدوائر.

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{ياأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} الخطاب للرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ والمراد به أمته: إذ ليس في البشر جميعاً أتقى منه لمولاه عليه صلوات الله تعالى وتسليماته، أمدنا الله تعالى بنفحة منه؛ تقربنا إليه، وتدنينا من رحمته

4

{مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} أي لا يجتمع الكفر والإيمان، والضلال والهدى، والمعصية والطاعة؛ في قلب واحد. وما دام الإنسان بقلب واحد - لا يتسع إلا لشيء واحد - فلا يكون إلا مؤمناً أو كافراً، ضالاً أو مهتدياً، عاصياً أو طائعاً. ولا طاقة لإنسان أن يجمع بين الضدين؛ فما جعل الله لرجل من قلبين {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} كان الرجل في الجاهلية إذا أراد طلاق امرأته؛ قال لها: أنت علي كظهر أمي {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ} نزلت في زيدبن حارثة رضي الله تعالى عنه؛ وقد تبناه الرسول؛ فكانوا يقولون: زيد ابن محمد {ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} ويقضي به {وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} الطريق القويم؛ المؤدي لكل خير

5

{ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ} أي انسبوهم لهم {هُوَ أَقْسَطُ} أعدل {وَمَوَالِيكُمْ} أقرباؤكم {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} إثم

6

{النَّبِيُّ أَوْلَى} أحق {بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} لأنه عليه الصلاة والسلام أب لهم؛ وهو يدعوهم إلى النجاة، وأنفسهم تدعوهم إلى الهلاك {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} في الحرمة والإجلال والتكرمة {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ} ذووا القرابات {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} في التوريث؛ كما أمر الله تعالى، وفرض في كتابه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} وقد كانوا يتوارثون - في بدء الإسلام - بالإيمان والهجرة؛ فنسخ بتوريث ذوي الأرحام {إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً} أي إلا أن تهبوا لأقربائكم الأباعد، أو لعبيدكم، أو توصوا لهم بشيء؛ لا أن يرثوا فيكم؛ فأقرباؤكم - من ذوي الأرحام - أولى بالميراث وأحق

7

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ} عهدهم على الوفاء بما حملوا، وأن يبشر بعضهم ببعض، ويصدق بعضهم بعضاً {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} عهداً عظيماً؛ وما ذاك إلا

8

{لِّيَسْأَلَ} الله تعالى {الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} أي ليسأل الأنبياء عن تبليغهم لأقوامهم، أو عما أجابهم به قومهم. فانظر يا هذا: إذا كان الأنبياء يسألون؛ فكيف بمن عداهم من عامة البشر؟ قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}

9

{إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ} وكان ذلك يوم الأحزاب: جاءت قريش، وغطفان، وقريظة، والنضير؛ تجمعوا لحرب المؤمنين {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} هي الصبا. قال: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» أرسل الله تعالى تلك الريح في ليلة شاتية؛ فأسفت التراب في وجوههم، وقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب؛ فماجت خيل الكافرين بعضها في بعض، وكبرت الملائكة في جوانب المعسكر؛ فانهزموا من غير قتال؛ وذلك قوله تعالى: {وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} وهم الملائكة عليهم الصلاة والسلام

10

{إِذْ جَآءُوكُمْ} أي جنود الأعداء {مِّن فَوْقِكُمْ} فوق الوادي؛ وهو أعلاه {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} بطن الوادي: من المشرق والمغرب {وَإِذْ زَاغَتِ} شخصت ومالت {الأَبْصَرُ} عن رؤية أي شيء؛ عدا رؤية الأعداء من كل جانب {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} من شدة الخوف والفزع؛ وهو ارتفاع القلب - من شدة الخفقان - حتى يكاد أن يبلغ الحلقوم؛ فيعتري الخائف عند ذاك ضيق قد يبلغ حد الاختناق {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ} تظنون اليأس من النصر؛ وقد وعدكموه؛ ووعده الحق {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} وقيل: الظن هنا بمعنى اليقين؛ أي تيقن المؤمنون بالنصر، وتيقن الكافرون بهزيمة المؤمنين

11

{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} امتحنوا بالصبر على الإيمان {وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} اضطربوا اضطراباً شديداً من شدة الفزع، وخوفوا خوفاً بليغاً؛ ليختبرهم ربهم، ويعلم - علم ظهور - مبلغ تصديقهم، ووثوقهم بوعده

12

{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} الذين أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفران {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} بالنصر {إِلاَّ غُرُوراً} خداعاً وباطلاً

13

{يأَهْلَ يَثْرِبَ} يا أهل المدينة. ويثرب: من أسماء مدينة الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه {لاَ مُقَامَ لَكُمْ} لا إقامة لكم بيننا {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي مكشوفة، ينالها العدو لعدم تحصينها -[510]- {إِن يُرِيدُونَ} ما يريدون بزعمهم هذا {إِلاَّ فِرَاراً} من الجهاد؛ لكفرهم وجبنهم

14

{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا} من نواحيها. أي لو هوجموا ودخلت عليهم هذه البيوت، واحتلها العدو من أولها إلى آخرها {ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا} أي لو سئلوا الردة إلى الكفر، ومحاربة المسلمين؛ لفعلوا {وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ} أي ما مكثوا بالفتنة، أو بالمدينة {وَلاَ نَصِيراً} وبعد ذلك يصيبهم الله تعالى بالهلاك، أو بالموت

15

{وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ} أن يقاتلوا الكفار، و {لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ} لا يهربون من القتال منهزمين {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ} الذي عاهدوه من قبل {مَّسْئُولاً} أي يسأل الإنسان عن الوفاء به، ويعاقب على نقضه

16

{وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ} بالحياة {إِلاَّ قَلِيلاً} ثم يدرككم الموت، فالبعث، فالحساب، فالعقاب

17

{وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره

18

{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ} الذين يعوقون الناس عن الجهاد، وعن نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وعن الدخول في الإسلام {وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ} أي القتال

19

{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} بالمعاونة {فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ} تأزم الموقف، ودارت رحى الحرب {رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} أملاً في أن توقف القتال {تَدورُ أَعْيُنُهُمْ} من جبنهم وشدة خوفهم {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ} بانتصاركم على أعدائكم، واطمأنت قلوبهم على أنفسهم: لم يزدهم ذلك إلا حنقاً عليكم، وكراهة لكم؛ و {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} أي آذوكم ببذيء الكلام {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} لا ينفقون في سبيلالله؛ بل في سبيل الدنيا والحرص عليها. والمعنى أنهم في الأمن: أشح قوم مالاً، وأبسطهم لساناً، وفي الخوف: أجبن قوم حرباً، وأسرعهم هرباً {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} أبطلها

20

{يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ} أي إنهم لجبنهم يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا {بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ} أي مقيمون في البادية؛ بعيداً عن القتال {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ} وما حل بكم؛ من غير ممارسة للقتال والنزال

21

{أُسْوَةٌ} قدوة

22

{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ} الذين تحزبوا وتجمعوا لقتالهم {قَالُواْ} إن {هَذَا} التجمع والتحزب هو {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} من الابتلاء والنصر

23

{فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ} أي مات شهيداً {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} أي ينتظر الموت على الشهادة؛ لأنهم كانوا يعدون الموت في الجهاد فوزاً عظيماً؛ ويا له من فوز {وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} أي ولم يبدلوا عهدهم الذي عاهدوا الله تعالى عليه؛ من الجهاد في سبيله، والموت دون رسوله

24

{لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ} في الإيمان، الموفين بالعهد {بِصِدْقِهِمْ} أي بجزاء صدقهم

26

{وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم} أي عاونوا الأحزاب {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يهود بني قريظة {مِن صَيَاصِيهِمْ} حصونهم

27

{وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا} هي خيبر؛ وكل أرض تفتح إلى يوم القيامة؛ لم يسبق للمسلمين تملكها

28

{إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} أي السعادة في الدنيا، وكثرة الأموال {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} أي أعطكن متعة الطلاق {وَأُسَرِّحْكُنَّ} أطلقكن {سَرَاحاً جَمِيلاً} طلاقاً لا ضرار فيه؛ لأن ما رغبتن فيه من متاع الدنيا ليس عندي

30

{مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} هي مخالفة الرسول صلوات الله تعالى وتسليماته عليه. وأي فاحشة أبين وأقبح من مخالفته، أو العمل على غير إرادته {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} أي يكون ضعفي عذاب غيرهن من النساء؛ لأنهن لسن كسائر النساء؛ وكما أن حد العبد نصف حد الحر: يكون عذاب الخاصة ضعف عذاب العامة. وقد قيل: حسنات الأبرار؛ سيئات المقربين فما بالك بأقرب المقربين ولأن إغضاب الرسول عليه الصلاة والسلام ليس كإغضاب أحد من الناس. قال تعالى: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} وقال جل شأنه: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} (أنظر الآيات: من 2 - 5 من سورة الحجرات)

31

{وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ} يطع {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} أي لا تكلمن الرجال بقول خاضع لين؛ كعادة أكثر النساء؛ وهذا واجب على كل امرأة تؤمن ب الله واليوم الآخر؛ خصوصاً من تعرضت منهن للرئاسة والهداية، وانتصب لها لواء التوجيه والإرشاد

32

{فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي ريبة وفجور -[513]- {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} لا ينكره الذوق والعرف؛ من غير لين، ولا خضوع

33

{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أي اقررن؛ من القرار. أو هو من الوقار؛ تؤيده قراءة من قرأ «وقرن» بكسر القاف {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} أي لا تتبرجن مثل تبرج النساء في الجاهلية الأولى. والتبرج: التبختر، وإظهار الزينة والمحاسن {أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} بهذا الابتلاء، وهذه الأوامر {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ} القذر والإثم؛ الذي يقع فيه كثير من الناس {أَهْلَ الْبَيْتِ} بيت النبوة الزكي الطاهر {وَيُطَهِّرَكُمْ} من سائر الدنايا {تَطْهِيراً} كبيراً

34

{وَاذْكُرْنَ} تذكرن ما اختصكن الله تعالى به من فضل على نساء العالمين، و {مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} كتابه العظيم، وقرآنه الكريم {وَالْحِكْمَةِ} التي ينطق بها الرسول عليه الصلاة والسلام؛ من الأحاديث

35

{وَالْقَانِتِينَ} المطيعين {وَالصَّابِرِينَ} على الطاعات والبلايا، وعن المعاصي {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ} من الزنا -[514]- {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} بالإسلام؛ وهو زيدبن حارثة {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالإعتاق {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} لقد تخبط أكثر المفسرين في تأويل هذه الآية، وذهبوا على غير مذهب، وأبعدوا في اتباع الأقاصيص التي حاكها أعداء الدين في الدين، وجاروا ما أذاعه اليهود طعناً في الرسول الكريم، العفيف النظيف؛ عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم فقالوا: إن الرسول الأعظم رأى زينب - وهي في عصمة زيد - فأعجبته وأحبها، ووقعت من قلبه موقعاً كبيراً؛ إلى آخر ما أوردوه من إفك وبهتان يتبرأ منه أحط الفساق؛ فضلاً عن أكرم الخلق على الإطلاق وخلاصة القول: أن العرب جرت عادتهم ألا يتزوج الرجل امرأة دعيه الذي تبناه. فأراد الله تعالى أن يبطل تلك العادة، ويجعل إباحة الإسلام مكان حرج الجاهلية: فأوحى إلى نبيه بأن يزوج زينب ابنة جحش - بنت عمته - بزيدبن حارثة متبناه؛ وأن يتزوجها بعد طلاقها منه؛ فخطبها لزيد: فأبت، وأبى أخوها عبد الله؛ فنزل قوله تعالى:

36

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فلما سمعاها قالا: رضينا يا رسولالله. فزوجها لزيد، وأمهرها له؛ فصارت تشمخ بأنفها، وتفخر عليه بنسبها. وتسيء معاملته؛ وكان يشكو ذلك لرسولالله - المرة بعد المرة - فكان عليه الصلاة والسلام - مع علو مقامه - يغلبه الحياء؛ فيتئد ويتمهل، ولا يعمل في تنفيذ حكم الله تعالى - الذي قضاه وأطلعه عليه - ويقول لزيد

37

{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} إلى أن غلب أمر الله تعالى: فأذن لزيد في طلاقها؛ بعد أن ذاق معها الأمرين فتزوجها رسولالله؛ طائعاً لأمر ربه {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً} أي دخلوا بهن، وخلا بعضهم إلى بعض. فأين هذا مما خاض فيه الخائضون، وداعاه المبطلون؛ مما لا يرتضيه الأتقياء، فكيف بسيد الأنبياء؟ وتعالى الله عن أن يرسل رسولاً يطمح بعينيه إلى حلائل المؤمنين وأما خشيته للناس: فذلك استحياء منهم أن يقولوا: تزوج زوجة ابنه، بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} أي أمره لك، ووحيه إليك بتزوج زينب؛ رغم قولك لزيد {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}

38

{مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ} إثم {فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ} أحله {لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ} طريقته {فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ} مضوا من الأنبياء {مِن قَبْلُ} فقد أحل لهم التوسعة في الزواج: كداود، وسليمان، -[515]- وغيرهما؛ ممن لم تصل إلينا أخبارهم

40

{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (أنظر آية 4 من سورة القلم)

42

{بُكْرَةً} أول النهار {وَأَصِيلاً} آخره

43

{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ} الصلاة من الله تعالى: الرحمة، ومن الملائكة: الدعاء والإستتار {لِيُخْرِجَكُمْ} برحمته {مِنَ الظُّلُمَاتِ} الكفر {إِلَى النُّورِ} الإيمان، ومن الجهل إلى العلم (أنظر آية 17 من سورة البقرة)

45

{يأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} على من أرسلت إليهم؛ بل على الناس جميعاً {وَمُبَشِّراً} من أطاع الله برحمته وجنته {وَنَذِيراً} لمن عصاه بغضبه وناره

46

{وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ} إلى معرفته وطاعته {بِإِذْنِهِ} بأمره وتقديره {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} جمع الله تعالى - في وصف نبيه الأعظم - بين صفتي الشمس والقمر: قال تعالى {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} وفضله عليه الصلاة والسلام على سائر المخلوقات؛ لا يقل بحال عن فوائد الشمس، ونور القمر: فكما أن الشمس تبعث الدفء والحياة في سائر الكائنات؛ فإنه قد بعث دفء الإيمان، في قلوب بني الإنسان، وبعث الحياة الحقيقية، والسعادة الأبدية بين المؤمنين؛ وأنار الدنيا بشريعته وهدايته وكما أن السراج المنير يستضاء به، ويسترشد بواسطته: كذلك الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ فإن من سار على سنته، واهتدى بطريقته: لا شك واصل إلى أمنيته، متمتع في جنته وأي سراج وهاج، وأي قمر منير يضاهي محمداً في نوره، أو يحاكيه في هدايته؟ جعلنا الله تعالى ممن يستضيء بنوره، ويستنير بضوئه، ويسير على سنته، ويهتدي بهديه؛ وينضوي تحت لوائه، ويحشر في زمرته، ويرتوي من حوضه

48

{وَدَعْ أَذَاهُمْ} أي اترك مقابلة إذايتهم لك بمثلها. وهو تعليم من الله تعالى لعباده: بالإحسان إلى من أساء

49

{إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} أي عقدتم عليهن {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} أي من قبل أن تدخلوا بهن {فَمَتِّعُوهُنَّ} قيل: هي منسوخة بقوله تعالى {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أي فنصف المهر الذي فرضتموه {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} أي طلقوهن طلاقاً لا ضرار فيه

50

{اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} مهورهن {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} من الإماء {مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} الفيء: الغنيمة؛ وهما صفية وجويرية؛ أعتقهما وتزوجهما -[516]- {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا} أي يطلب زواجها {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي إن الهبة لا تجوز إلا له عليه الصلاة والسلام. فليس لمؤمنة أن تهب نفسها لمؤمن، وليس له أن يقبل ذلك؛ إذ أن الهبة إحدى خصوصيات الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} أي على المؤمنين {فِي أَزْوَاجِهِمْ} من وجوب المهر، والولي، والشهود، وانعدام الموانع، وعدم تجاوز الأربع من النسوة {حَرَجٌ} ضيق وإثم فيما فعلت

51

{تُرْجِي} تؤخر {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ} أي تضم إليك {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} أي ومن طلبت الفراش من أزواجك اللاتي عزلتهن عن القسمة بينهن في المبيت. وقد كان قد خير بعض أمهات المؤمنين: بين الطلاق، أو التنازل عن حقوقهن في القسمة: فاخترن التنازل. فأراد الله تعالى أن يعلمه أنه لا حرج عليه في رد من يشاء منهن إلى فراشه {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} لا إثم ولا حرج فيما تفعل: من العزل، والإرجاء، والإيواء {ذلِكَ أَدْنَى} أقرب {أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} بما قضى به الله تعالى في أمرهن: من الإرجاء، والإيواء، والعزل {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} {وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ} من ذلك {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ} من شأن النساء، والميل إلى بعضهن، وعدم العدل بينهن؛ فيجزى كلا بقدر نيته

52

{لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِن بَعْدُ} أي من بعد التسع، وهن: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وصفية، وميمونة، وزينت بنت جحش، وجويرية {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ} بتطليق بعضهن وإحلال غيرهن مكانهن {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} من الإماء؛ مما كان يخصه عليه الصلاة والسلام من السبي

53

{غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أي غير منتظرين نضجه {فَإِذَا طَعِمْتُمْ} أكلتم -[517]- {فَانتَشِرُواْ} فتفرقوا {وَلاَ} تمكثوا {يأَيُّهَا الَّذِينَ} تتناولونه مع بعضكم {إِنَّ ذَلِكُمْ} الدخول بغير استئذان، وانتظار الطعام، وحديث بعضكم مع بعض؛ كل ذلك {كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ} فلا يظهر تضجره؛ لسمو أخلاقه، وعظيم استحيائه {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً} عارية، أو حاجة {فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} ولا تتطلعوا لرؤيتهن {ذلِكُمْ} السؤال من وراء حجاب {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} من الخواطر المريبة؛ التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال. والتي يبثها الشيطان في قلب كل إنسان وهذه الآية الكريمة جاءت حاوية لأدق الأخلاق الإنسانية، وأسمى الآداب الاجتماعية؛ فكم نرى بعض الثقلاء، يتظرف بالإيذاء: فيقتحم الحرمات، ويرتكب المحرمات؛ وهو لاه غافل، أو متلاه متغافل {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ} بعمل ما لا يرضاه {وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ} لأنهن أمهات لكم، محرمات عليكم

55

{لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَآئِهِنَّ} أي لا إثم على النساء ألا يحتجبن من آبائهن. ولم يذكر تعالى العم والخال؛ لأنهما يجريان مجرى الوالدين {وَلاَ نِسَآئِهِنَّ} أي ولا يحتجبن عن النساء المؤمنات؛ أما الكافرات: فيجب الاستغفار عنهن كالرجال تماماً؛ لئلا يصفنهن للغير؛ لعدم أمانتهن ومن عجب أن نرى بعض المسلمات يصفن لبعض الرجال: المخدرات من النساء. وهي خصلة ذميمة: يأباها الشرع، وتقع تحت طائلة العقاب الإلهي؛ فليتقين الله ولا يفضحن محارمه؛ فيفضحهن الله تعالى بين العباد، وعلى رؤوس الأشهاد

56

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} الصلاة من الله تعالى: الرحمة ومن الملائكة: الدعاء والاستغفار، ومن الأمة: التعظيم والدعاء والإكبار وهذا أمر من الله تعالى بالصلاة عليه وهي تجب كلما ذكر اسمه الكريم عليه الصلاة والسلام؛ كما يجب ألا يكتب اسمه إلا مقروناً بها. وقد طعن في كثرة الصلاة عليه بعض الزنادقة الذين لا يعبأ برأيهم، ولا يعتد بقولهم، واختصرها بعضهم بوضع «صلعم» مكانها، أو «ص» وهذا نهاية في السخف؛ إذ ما معنى وضع هذه الطلاسم والمعميات؛ إذا لم نرد إثبات الصلاة عليه وما معنى أن نضع الألقاب الرنانة، والأسماء الطنانة، والكنى الضخمة، والرتب الكبيرة؛ لأناس غير أهل لبعض ذلك - بل ربما كانوا من وقود النار - ونبخل على كبير المرسلين، وخاتم النبيين، وإمام المتقين، وسيد الخلق أجمعين؛ بكلمة أمرنا الله تعالى بها وألزمنا لها، وأثابنا عليها صلاة يرضاها منا، ويرضى بها عنا، وسلم تسليماً كثيراً؛ بعدد كل الكائنات؛ -[518]- رغم أنف الملحدين والمكابرين ومن أعجب العجب قول القائلين: إن الصلاة عليه واجبة في العمر مرة واحدة. مع أن نص الآية يقتضي التكثير «صلوا عليه وسلموا تسليماً» والجمهور على أنها واجبة عند ذكر اسمه الشريف هذا ولا يصح إفراد غير الأنبياء بالصلاة. وإنما يصلي على غيرهم بالتبعية؛ كقولهم صلى الله على النبي وآله وصحبه

57

{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} بالكفر، ونسبة الولد والشريك إليه، ووصفه بما لا يليق به والمراد بالإذاية هنا: عملها؛ لا وصولها يؤذون {رَسُولِهِ} بالطعن والتكذيب {لَّعَنَهُمُ اللَّهُ} طردهم من رحمته {فِي الدُّنْيَا} بالتخلي عن توفيقهم وهدايتهم في {الآخِرَةَ} بما أعده لهم من العذاب الأليم المقيم

58

{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} برميهم بما ليس فيهم، واختلاق الجرائم عليهم {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ} بغير ما عملوا {فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً} البهتان: أسوأ الكذب

59

{يُدْنِينَ} يقربن، ويرخين {عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} جمع جلباب؛ وهو الثوب يستر جميع البدن، أو هو الملاءة التي تشتمل بها المرأة {ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ} أي ذلك أقرب أن يعرفن بأنهن حرائر محصنات {فَلاَ يُؤْذَيْنَ} فلا يؤذيهن أحد. وقد كانت عادة الإماء، والغير المحصنات: كشف الوجوه. {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} فسق وفجور؛ بدليل قوله تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}

60

{وَالْمُرْجِفُونَ} هم أناس من المنافقين كانوا يذيعون أخباراً سيئة عن سرايا رسولالله {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} لنسلطنك عليهم {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ} أي في المدينة {إِلاَّ قَلِيلاً} إلا مدة قليلة؛ ثم يستأصلهم الله تعالى بذنوبهم

61

{مَّلْعُونِينَ} مطرودين {أَيْنَمَا ثُقِفُواْ} أينما وجدوا

62

{سُنَّةَ اللَّهِ} عادته وطريقته {فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ} مضوا

63

{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} القيامة؛ ومتى وكيف تقوم؟ -[519]- {وَقَالُواْ} أي الكفار؛ حينما رأوا العذاب المحيط بهم، والمعد لهم

68

{رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ} مثلين {مِّنَ الْعَذَابِ} في جهنم {وَالْعَنْهُمْ} عذبهم {لَعْناً كَبِيراً} عذاباً كثيراً متواصلاً. وأصل اللعن: الطرد والإبعاد. ومن لوازم الطرد والإبعاد: الغضب؛ الذي من لوازمه العذاب

69

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَى} بأن رموه بالسحر والجنون {فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ} وأثبت تعالى أن ما جاء به موسى آيات بينات، ومعجزات ظاهرات؛ لا تمت للسحر والجنون بسبب. وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن الإيذاء المقصود هنا: أنهم رموه بأنه آدر. ويدفع هذا المعنى السقيم قوله تعالى: {وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} أي نبياً كريماً، ورسولاً عظيماً؛ عليه وعلى نبينا صلوات الله تعالى وسلامه

72

{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ} هي الشهوة المركبة في الإنسان، أو التكاليف التي تعم جميع وظائف الدين؛ من أوامر، ونواه؛ أهمها: ضبط جماح النفس، والصبر على الطاعات، وعن المعاصي والشهوات {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} وخفن من حملها {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً} لنفسه؛ لأنه لم يراع ما حمل: فعرض نفسه للعقاب {جَهُولاً} بحقيقة ربه؛ إذ لو علم حقيقته، وقدره: لما وسعه إلا التمسك بطاعته، والابتعاد عن معصيته وهذا العرض، والإباء: هو من قبيل الأمثال، ولسال الحال؛ كقوله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}

سورة سبإ

سورة سبإ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

2

{يَعْلَمُ مَا يَلْجُ} يدخل {فِي الأَرْضِ} من ماء، وكنوز، ودفائن، وأموات {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من نبات وأقوات {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ} من ماء، وأرزاق، وبركات، وخيرات، وصواعق، وسيول {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي وما يصعد إليها من أعمال العباد، ومن ملائكته تعالى؛ الذين ينزلون منها، ويعرجون إليها؛ بأمره جل شأنه

3

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ} أي لا تقوم القيامة {عَالِمُ الْغَيْبِ} كل ما غاب عن العلم والفهم {لاَ يَعْزُبَ} لا يغيب {مِثْقَالَ} وزن {ذَرَّةٍ} أصغر نملة تذروها الرياح؛ وهو مثال في نهاية الدقة والصغر {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} بين، وهو اللوح المحفوظ: كتب فيه تعالى ما خلق وما يخلق، وما رزق وما يرزق، وما دق، وما جل، وما عظم، وما حقر، ومن كفر ومن آمن، ومن عصى ومن أطاع؛ حتى قيام الساعة؛ و {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} ذلك

4

{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} بإيمانهم وعملهم

5

{وَالَّذِينَ سَعَوْا} بالرد والطعن -[521]- {فِي آيَاتِنَا} قرآننا الذي أنزلناه على محمد {مُعَاجِزِينَ} مغالبين لنا، ظانين أنهم سينجون من عذابنا، مقدرين ألا بعث، ولا ثواب، ولا عقاب {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} الرجز: أسوأ العذاب

6

{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} وهم مؤمنو أهل الكتاب؛ أن {الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} القرآن {هُوَ الْحَقَّ} هو {وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ} طريق {الْعَزِيزُ} الغالب الذي لا يغلب {الْحَمِيدِ} المحمود في كل أفعاله

7

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} يعنون به محمداً {يُنَبِّئُكُمْ} يخبركم أنكم {إِذَآ} متم و {مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} فرقتم في قبوركم كل تفريق {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي ستخلقون يوم القيامة من جديد

8

{افْتَرَى} استفهام؛ أي هل افترى بقوله هذا {عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ} جنون؛ فهو يعرف بما لا يعرف قال تعالى رداً على إفكهم وضلالهم {بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ} عن الحق في الدنيا

9

{أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً} قطعاً {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} برهاناً {لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} راجع إلى الله بكليته

10

{يجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} أي رجعي التسبيح معه {وَالطَّيْرُ} أيضاً يسبح معه. قال تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} جعلناه ليناً كالطين المعجون، أو وفقناه إلى إلانته بواسطة الصهر، وعلمناه طرق صناعته، وتشكيله كما يريد

11

{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} دروعاً تامة؛ تغطي سائر البدن {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي في نسج الدروع. يقال لصانعها: سراد. ومعنى «وقدر» أي اجعل حلقاتها منسقة متناسبة {وَاعْمَلُواْ صَالِحاً} الخطاب لآل داود، وأمته؛ ويشمل الصلاح المأمور به: صلاح الأعمال والأفعال؛ من العبادات والصناعات سخرنا

12

{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ} -[522]- {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي جريها بالغداة مسيرة شهر، وكذلك جريها بالعشي {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أي معدن النحاس: أذبناه له، أو وفقناه لطرق صهره، والانتفاع بصناعاته؛ كما وفقناه لصهر الحديد. والرأي الأول أولى؛ ليتفق مع المعجزة: فإلانة الحديد؛ وإذابة النحاس؛ بغير ملين، أو مذيب طبيعي: أدعى إلى الإعجاز، وتنبيه القلوب، ولفت الأنظار {وَمَن يَزِغْ} يعدل ويحد {مَّحَارِيبَ} مساجد، أو مساكن {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} الجفان: جمع جفنة؛ وهي القصعة الكبيرة. والجوابي: جمع جابية؛ وهي الحوض الضخم

13

{اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ} عملاً صالحاً {شَاكِراً} لله على ما آتاكم {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (انظر آية 24 من سورة ص)

14

{دَابَّةُ الأَرْضِ} هي الأرضة {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} عصاه. وقد مات عليه السلام وهو ممسك بها؛ وظل على ذلك الحال؛ إلى أن جاءت الأرضة فأكلت من العصا حتى كسرتها؛ وسقط جسده عليه السلام إلى الأرض {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} ويؤخذ من ذلك أن أجساد الأنبياء عليهم السلام لا تبلى، ولا تأكلها الأرض؛ شأن كل الأجساد

15

{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} سبأ: قبيلة باليمن سميت باسم جد لهم. وقيل: مدينة؛ وهي التي منها بلقيس {جَنَّتَانِ} لم يرد تعالى بالجنتين: جنتين اثنتين فحسب؛ بل أراد أن بلادهم كلها أشجار وثمار وبساتين. وإنما التثنية في أنها يمنة ويسرة؛ يؤيده قوله تعالى: {عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} أي حيثما سرت وجدت {جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ}

16

{فَأَعْرِضُواْ} عن عبادة الله تعالى وطاعته {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} المطر الشديد؛ الذي يحطم كل ما يعترضه من أبنية، وأودية. و «العرم» السدود التي تبنى لتحجز المياه {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} أي ثمر مر، بشع. وقيل: هو كل شجر ذي شوك {وَأَثْلٍ} شجر طويل لا ثمر له {وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ} وهو شجر بري؛ له ثمر كالنبق؛ غير أنه مر الطعم، سام لا يؤكل {ذلِكَ} التبديل الذي بدلناهم به: التلف بعد الترف، والمر بعد الحلو، والداء بعد الشفاء

17

{جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ} أي بسبب كفرهم -[523]- {وَهَلْ نُجْزِي} بالشر بعد الخير، وبالعقاب بعد الثواب {إِلاَّ الْكَفُورَ} الذي أعرض عنا، ولم يقم بواجب شكرنا

18

{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} وهي الشام: باركنا فيها بالماء والشجر، والزهر والثمر {قُرًى ظَاهِرَةً} متتابعة؛ لا تنتهي من قرية حتى تبدو لك أخرى؛ ليستبين الفرق بين رضا الله تعالى وغضبه، وبين نعمته ونقمته {وَقَدَّرْنَا فِيهَا} أي في هذه القرى {السَّيْرَ} فلا يكاد السائر يقبل في قرية؛ حتى يبيت في أخرى؛ فلا يحتاج إلى مزيد من الأمن والزاد؛ وهذا معنى قوله جل شأنه: {سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} من الخوف والفزع، والجوع والعطش؛ فأطغتهم الراحة، وأبطرتهم النعمة، ونزغ الشيطان في نفوسهم؛ وتحرك الكفر الكامن في قلوبهم

19

{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} ملوا الراحة، وطلبوا الكد والتعب {وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بحرمانها من الثواب، وتعريضها للعقاب {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} يتحدث الناس بما حل بهم، ويعجبون من أحوالهم {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} فرقناهم في البلاد كل التفريق، وصيرناهم مضرباً للمثل؛ يقال: تفرقوا أيدي سبا، وذهبوا أيدي سبا {إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ} عظات {لِّكُلِّ صَبَّارٍ} كثير الصبر عن المعاصي وعلى الطاعات {شَكُورٍ} كثير الشكرلله تعالى على أنعمه

21

{وَمَا كَانَ لَهُ} أي لإبليس {مِّن سُلْطَانٍ} تسلط عليهم؛ ولكنهم {نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} وما كان تسلط إبليس عليهم {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} علم ظهور ويعمل لها؛ فلا يبالي بالشيطان ووسوسته، ولا يعبأ بالنفس وهواجسها: وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح فاتَّهم {مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} فليس بمستيقن حساباً، ولا ثواباً ولا عقاباً: فإذا بدت له فرصة كسب - من أي طريق - انتهزها، وإذا لاحت له بارقة لذة انغمس فيها، وإذا لوح له إبليس بما يسره اليوم ويضره غداً بادر إلى إجابته وطاعته؛ فأي شك في الآخرة أكبر من هذا الشك؟ بل وأي كفر ب الله أشد من هذا الكفر؟ {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ} رقيب وعليم

22

{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم} ألوهيتهم، وعبدتموهم {مِن دُونِ اللَّهِ} اطلبوا منهم أن يدفعوا عنكم ضراً أو أن يلحقوا بكم خيراً فإنهم لن يستجيبوا لكم؛ لأنهم {لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} أي لا يملكون وزن نملة صغيرة في ملك الله الكبير {وَمَا لَهُ} جل شأنه {مِنْهُمْ} أي من هذه الآلهة {مِّن ظَهِيرٍ} من معين؛ بل هو وحده المعين الذي لا يعان عليه، المغيث الذي لا يغاث عليه

23

{وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} بها، وارتضاه شفيعاً فيمن أراد بفضله أن يمنحهم -[524]- رفده، ويعفو عن ذنوبهم؛ لسابقة خير أتوها، ويد برّ أسدوها {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} أي كشف الفزع، وزال عن قلوب الشافعين والمشفوع فيهم الرعب؛ بالإذن في الشفاعة، أو بقبولها من الشافعين في المشفوع لهم {قَالُواْ} أي قال الشفعاء لبعضهم، أو قال الأنبياء - وهم الذين يأذن الله تعالى لهم بالشفاعة - للملائكة الذين يبلغون أمر ربهم؛ قالوا لهم {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} في شأن شفاعتنا للعصاة من أممنا؟ {قَالُواْ} قال {الْحَقِّ} الذي ارتضاه وكتبه على نفسه {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقد أذن بكرمه وفضله لكم في الشفاعة {وَهُوَ الْعَلِيُّ} المتعالي فوق خلقه بالقهر {الْكَبِيرُ} العظيم؛ الذي كل شيء - مهما عظم - دونه

24

{وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ} أي ونحن أو أنتم {لَعَلَى هُدًى} من الله {أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أيّ تلطف هذا من الله تعالى بعبيده؟ وأي منطق تشرئب له الأعناق، وتنخلع له القلوب؟ يأمر الله تعالى أهدى الهداة؛ بأن يخاطب أعتى العتاة، وأعصى العصاة؛ بقوله: إن الخلاف بيننا لا يعدو إحدى اثنتين: إما أن أكون أنا على هدى، أو في ضلال مبين؛ وأنتم كذلك. فإذا ما تبصر المخاطب في هذا الجدل الرقيق الرفيق؛ الذي إن دل على شيء؛ فإنما يدل على الحقيقة المجردة من كل زيف، والقوة المجردة من كل قسوة، واطمئنان الواثق، ووثوق المطمئن. وإذا ما تدبر المخاطب المعاند أنه لا أحد يرزقه من السموات والأرض سوى الله تعالى، وأن معبوده المزعوم لا يخلق شيئاً؛ بل يخلقه العابد له بيديه، وأنه لا يملك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وأن الذي يخاطبه يسانده المنطق لا القوة، وتؤيده البراهين والآيات؛ لا الأكاذيب والترهات؛ وأنه - ولا شك - مرسل من عند الله الحق؛ ليخرجه من الظلمات إلى النور، وينجيه من عذاب السعير إذا تدبر المخاطب كل ذلك: علم أنه على ضلال وأي ضلال؛ وأن الرسول على هدى وأي هدى

26

{قُلْ} لهم يا محمد {يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا} أي يحكم

27

{شُرَكَآءَ} في العبادة {كَلاَّ} ردع لهم عن اتخاذ الشركاء للملك الحق

29

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} بالقيامة والبعث، والثواب والعقاب

31

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} ولن نصدق أنه منزل من عند الله {وَلاَ} نؤمن {بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي ما تقدمه من الكتب؛ كالتوراة والإنجيل {وَلَوْ تَرَى} يا محمد {إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ} أي محبوسون {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ} الأتباع والضعفاء {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ} السادة والرؤساء {لَوْلاَ أَنتُمْ} وإضلالكم لنا {لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} وفي عداد الناجين

32

{أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ} منعناكم {عَنِ الْهُدَى} الإيمان، أو القرآن، أو هما معاً؛ وهو استفهام إنكاري. أي لم نصدكم عن الهدى، ولم نكرهكم على الكفر

33

{بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أصل المكر: الاحتيال والخديعة. أي بل مكركم بنا ليلاً ونهاراً، أو كفركم أمامنا ليلاً ونهاراً؛ وهو الذي صدنا ومنعنا عن الهدى؛ وذلك لأن العمل الظاهر: فيه معنى الأمر بمثله؛ فمن يكفر: يكن قدوة لغيره في الكفر، ومن يفسق يكن قدوة لغيره في الفسق {أَندَاداً} أمثالاً وأشباهاً {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ} أي أظهروها؛ وهو من الأضداد: يكون بمعنى الإخفاء والإبداء. أو هو مشتق من الأسارير؛ وهي محاسن الوجه، والخدان؛ أي بدت الندامة وظهرت على أساريرهم؛ مما يعتري وجوههم من الانقباض والأسى والحزن

34

{مُتْرَفُوهَآ} رؤساؤها ومتنعموها

35

{وَقَالُواْ} أي الكفار المترفون المتنعمون {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً} من المؤمنين الفقراء {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} توهماً منهم أن الأموال والأولاد هي منجاة لهم في الآخرة؛ كما كانت منجاة لهم في الدنيا

36

{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ} في الدنيا {لِمَن يَشَآءُ} من عباده: كافراً كان أو مؤمناً، طائعاً أو عاصياً؛ وكثيراً ما يعطي من يبغض، ويمنع من أحب {وَيَقْدِرُ} ويقبض عمن يشاء. وقد رد الله تعالى على هؤلاء المحتجين بغناهم، المحتجبين عن مولاهم؛ بقوله:

37

{وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} الزلفى: القربى والمنزلة. أي تقربكم عندنا منزلة {إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أي إلا الإيمان والعمل الصالح؛ فهما وحدهما مقياس القرب من حضرة الرب {فَأُوْلَئِكَ} المؤمنون الصالحون {لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ} أي نضاعف لهم جزاء حسناتهم -[526]- {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ} أعالي الجنة {آمِنُونَ} من العذاب، ومن انقطاع النعيم

38

{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا} القرآن: يسعون في إبطاله، وإنكاره، والطعن فيه {مُعَاجِزِينَ} مغالبين لنا، ناسبين العجز إلينا

39

{وَيَقْدِرُ} ويقبض {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أي ما أنفقتم في سبيله تعالى، ومن أجل مرضاته؛ فإنه جل شأنه يعوضه لكم، ويرزقكم أضعافه. وقد ورد أن ملكاً في السماء يدعو «اللهم أعط منفقاً خلفاً، وممسكاً تلفاً» {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} لأن المخلوق يرزق الآخر لحاجة منه إليه، أو لرغبة يبتغيها عنده. أما «خير الرازقين» فيرزق بلا حاجة، ويعطي بلا مقابل

41

{قَالُواْ سُبْحَانَكَ} تعاليت وتقدست، وتعاليت عن المثل، والشبيه، والنظير {أَنتَ وَلِيُّنَا} خالقنا، ومعيننا، وكافينا؛ الذي نخلص له في العبادة؛ فكيف نرتضي أن نعبد من دونك؟ {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} الشياطين الذين كانوا يغوونهم بعبادتنا، وعبادة غيرنا

42

{وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} كفروا

43

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} ظاهرات واضحات {قَالُواْ مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ} يمنعكم {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ} من الأصنام والأوثان {وَقَالُواْ مَا هَذَآ} القرآن {إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} كذب مختلق

45

{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} من الأمم المتقدمة مثل تكذيبهم {وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ} أي وما بلغ أهل مكة عشر ما أوتي الأولون من طول الأعمار، وقوة الأجسام، وكثرة الأموال والأولاد. وقيل: المعشار: عشر العشر، أو هو عشر عشر العشر؛ فيكون جزءاً من ألف. ولعله المراد: لأنه أريد به المبالغة في التقليل. وقد يكون المعنى: وما بلغ المكذبين الذين من قبلهم معشار ما آتينا أمتك من العلم والبيان، والحجة والبرهان؛ فهم أولى الأمم بالإيمان، وأجدرهم بالإيقان {فَكَذَّبُواْ رُسُلِي} أي كذبت الأمم السابقة رسلي؛ كما كذبك قومك {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} النكير: تغيير المنكر؛ أي فكيف كان تغييري لمنكرهم، واستئصالي وتدميري لهم؟

46

{قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} أي أنصحكم بكلمة واحدة: هي جماع الفضائل كلها، وأساس الإيمان واليقين والتوحيد {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ} لعبادته {مَثْنَى} جماعات {وَفُرَادَى} أي مجتمعين ومتفرقين {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ} فيما قلتموه، وترجعوا عما زعمتموه {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ} جنون {إِنْ هُوَ} ما هو {إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ} قدام {عَذَابٍ شَدِيدٍ} هو عذاب الآخرة. قال: «بعثت بين يدي الساعة»

47

{قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ} على التبليغ {فَهُوَ لَكُمْ} المعنى: {لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} والأجر الذي سألتكموه: هو لكم؛ لأن نفعه عائد عليكم {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ} عالم به، ومطلع عليه

48

{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} أي يلقيه وينزله إلى أنبيائه

49

{قُلْ جَآءَ الْحَقُّ} الإسلام {وَمَا يُبْدِىءُ الْبَاطِلُ} الكفر {وَمَا يُعِيدُ} أي متى جاء الحق؛ فأي شيء بقي للباطل يبدؤه أو يعيده؟

51

{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ} عند البعث {فَلاَ فَوْتَ} فلا مهرب

52

{وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} التناول. أي وكيف لهم تناول الإيمان بعد فوات وقته

53

{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ} أي وقد كانوا يتكهنون بالغيب؛ ويقولون: لا بعث، ولا حساب

54

{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} أي حيل بينهم وبين النجاة من العذاب الذي هم فيه؛ أو حيل بينهم وبين ما يشتهون في الدنيا: من مال، وأهل، وولد، أو حيل بينهم وبين ما يشتهونه: من الإيمان وقبوله منهم {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم} أشباههم من الأمم السابقة.

سورة فاطر

سورة فاطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} خالقهما ابتداء من غير مثال سبق {جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً} إلى الأنبياء بكلامه وهدايته، ورسلاً إلى الناس بنقمته ورحمته وهم من خاصة خلق الله تعالى. ومن خواصهم: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل. ولا حصر لهم عدداً ولا إحاطة بهم وصفاً {أُوْلِي أَجْنِحَةٍ} ذوي أجنحة {مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} أي إن لبعضهم جناحان، ولبعضهم ثلاثة، ولبعضهم أربعة {يَزِيدُ} تعالى {فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ} أي يزيد في خلق ملائكته، أو يزيد في أجنحتهم؛ فقد رأى نبينا محمد جبريل عليه الصلاة والسلام - على صورته - ساداً ما بين الأفق. وقيل: إن إسرافيل عليه السلام له اثنا عشر ألف جناح. والزيادة في الخلق: تشمل كل خلق خلقه الله تعالى. فقد خلق تعالى الإنسان؛ والزيادة في خلقه: اعتداله وحسنه وجماله. وخلق العينان؛ والزيادة في خلقهما: حورهما. وخلق الصوت والزيادة في خلقه: ملاحته وحلاوته. وخلق الخط؛ والزيادة في خلقه: وضوحه وحسنه. وخلق الشعر؛ والزيادة في خلقه: إرساله وتهدله ونعومته

2

{مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} رزق، أو مطر، أو صحة، أو ما شاكل ذلك

3

{يأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} فاعبدوه واشكروا له {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ} بما ينزله من أمطار، ويجريه من أنهار من {الأَرْضِ} بما يخرجه من نبات وأقوات، وثمار وأزهار {لاَ إِلَهَ} يعبد {إِلاَّ هُوَ} له الحمد، وله الشكر، وله الثناء الجميل {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فكيف تصرفون عن عبادته؛ وأنتم لا ترزقون إلا بسببه، ولا تنعمون إلا بسببه

5

{وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الشيطان

6

{إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} أتباعه وأولياءه {لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} بسبب طاعتهم له، وانغماسهم في كفرهم ومعاصيهم

8

{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ} زينه له شيطانه، ورغبته فيه نفسه {فَرَآهُ حَسَناً} وهو في الحقيقة أقبح من القبح، وأسوأ من السوء والجواب محذوف تقديره «أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً» كمن هدي إلى الصراط المستقيم؟ {لاَّ يَسْتَوُونَ} {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} يضل من يشاء إضلاله؛ بسبب انصرافه عن آيات ربه بعد أن جاءته بينات محكمات، وبعد أن أدخلها الله تعالى في لبه، وسلكها في قلبه ولا تنس قول الحكيم العلم {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقوله جل شأنه: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}

9

(انظر آية 200 من سورة الشعراء) {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} أي لا تقتل نفسك عليهم غماً وحسرة {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} مجدب؛ لا نبات فيه {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ} أي أحيينا الأرض بالمطر المستكن في السحاب؛ فأنبتت بعد جدبها {كَذَلِكَ النُّشُورُ} أي مثل إحيائنا للأرض الميتة: كذلك يكون بعثكم وإحياؤكم

10

{مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} في الدنيا والآخرة؛ فلا تنال بالمال، ولا بالولد، ولا بالجاه؛ وإنما تنال بطاعة الله تعالى؛ فمن أرادها فليعمل عملاً صالحاً يؤهله لنيلها {إِلَيْهِ} تعالى {يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وهو كل كلام يتقرب به إلى الله تعالى؛ ويدخل فيه قوله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} فكل قول حسن؛ هو من الكلم الطيب. وكذلك قوله جل شأنه: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} و {الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} من أسباب العزة عندالله، وعند الناس؛ وصعود الكلم الطيب إليه تعالى: معناه أنه جل شأنه يعلمه، ويسرع بالجزاء عليه، ويحسن إلى صاحبه {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} العبادة الخالصة {يَرْفَعُهُ} أي والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب؛ فقد يكون الكلم الطيب رياء، أو مداهنة. أو «والعمل الصالح» يرفع عامله إلى مصاف الأتقياء. وقيل: «والعمل الصالح يرفعه» الكلم الطيب. يؤيده قراءة من قرأ «والعمل الصالح» بالنصب. هذا «والعمل الصالح» غير قاصر على العبادات فحسب؛ بل يشمل سائر الأعمال والمصنوعات التي يعهد بعملها إلى الناس. قال: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» وما من شك أن الأعمال الصالحة المتقنة: ترفع صاحبها عند الله وعند الناس؛ فيزداد بها علواً ورفعة {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} أي المكرات السيئات {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} يفسد ويبطل

11

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ} أي خلق أصل الإنسان «آدم» من تراب {ثُمَّ} خلقكم {مِن نُّطْفَةٍ} مني. (انظر آية 21 من سورة الذاريات) {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً} أنصافاً، أو ذكراناً وإناثاً {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} المعمر: طويل العمر. أي ما يزاد في عمر طويل العمر {وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} هو اللوح المحفوظ؛ مكتوب فيه تلك الزيادة، وذلك النقصان. قيل: إن الزيادة: هي ما يستقبله من عمره، والنقصان: ما يستدبره منه. ونقصان الأعمار وزيادتها: أمر مسلم به، مقطوع بوقوعه: فالإحسان، وبر الوالدين، والصدقة، وصلة الرحم؛ فهي - فضلاً عن أنها مرضاة للرب - تطيل الأجل، وتزيد القوة، وتنمي الصحة، وتضفي السعادة قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره - عمره - فليصل رحمه» وقد ورد أنه مكتوب في اللوح المحفوظ: عمر فلان كذا؛ فإن وصل رحمه: زيد في عمره كذا {إِنَّ ذَلِكَ} النقصان والزيادة {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} هين لا يشق عليه

12

{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} الملح والعذب {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} شديد العذوبة والحلاوة {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} شديد الملوحة {وَمِن كُلٍّ} منهما {تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} هو السمك {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} هي اللؤلؤ والمرجان {وَتَرَى الْفُلْكَ} -[531]- السفن {فِيهِ مَوَاخِرَ} مخرت السفينة الماء: أي شقته {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} بالتجارة والكسب

13

{يُولِجُ} يدخل {الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ} بنقصان الليل، وزيادة النهار {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ} بنقصان النهار، وزيادة الليل {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ} تعبدون {مِن دُونِهِ} غيره {مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} وهو القشرة الرقيقة الملتفة على النواة. وهو مبالغة في القلة، والحقارة. أي أنهم لا يملكون شيئاً مطلقاً

14

{إِن تَدْعُوهُمْ} تنادوهم {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي يتبرأون منكم، ومن عبادتكم لهم

15

{يأَيُّهَا النَّاسُ} خطاب لسائر الناس: غنيهم قبل فقيرهم، وسليمهم قبل سقيمهم، وقويهم قبل ضعيفهم؛ يقول لهم ربهم، وخالقهم، ومالكهم {أَنتُمُ} جميعاً {الْفُقَرَآءُ} المحتاجون {إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ} وحده {هُوَ الْغَنِيُّ} المستغني بنفسه عن غيره {الْحَمِيدُ} المحمود في صنعه والفقر: هو الافتقار؛ وجميع الناس - على اختلاف طبقاتهم، وتباين أجناسهم - مفتقرون إليه تعالى في كل شؤونهم؛ فالغني لا يكون إلا بأمره، والسعادة لا تكون إلا بمشيئته، والسلامة لا تتم إلا بإرادته، والحاجة دائماً إليه، والاستعانة دائماً به

18

{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} أي إن تدع نفس مثقلة بالذنوب {إِلَى حِمْلِهَا} أي إلى حمل حملها الثقيل من الذنوب {لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ} المدعو للحمل {ذَا قُرْبَى} {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذٍ شأنه يغنيه} {وَمَن تَزَكَّى} تطهر بفعل الطاعات، وبترك المعاصي {فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} لأن ثواب ذلك عائد إليه وعليه

19

{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} الكافر والمؤمن، أو الجاهل والعالم

20

{وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ} الكفر والإيمان، أو الجهل والعلم (انظر آية 17 من سورة البقرة)

21

{وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ} الحق والباطل، أو الجنة والنار

22

{وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَآءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ} أي الذين دخلوا في الإسلام، ومن لم يدخلوا فيه. ويصح أن يكون جميع ما تقدم على ظاهره {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} أي كما أنك لا تسمع الموتى - سكان القبور - فكذلك لا تستطيع إسماع الكفار: موتى القلوب

24

{وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} أي وما من أمة سبقت؛ إلا مضى فيها رسول ينذرهم سوء عاقبة الكفران، ويخوفهم وخامة الظلم والطغيان

25

{جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} الآيات الواضحات {وَبِالزُّبُرِ} الصحف {وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} الواضح؛ كالتوراة والإنجيل

26

{ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} عذبتهم؛ بسبب تكذيبهم لرسلهم، وإنكارهم لكتبهم {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} إنكاري عليهم، وتعذيبي لهم

27

{فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ} فاكهة {مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} كحمرة التفاح وصفرته، وبياض العنب وسواده، واختلاف ألوان الفاكهة وطعومها؛ مع سقياها بماء واحد {يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ} طرق لونها أبيض، وأخرى لونها أحمر؛ وهذا مشاهد يعرفه كل من ارتاد الجبال وطرقاتها، ورأى مفاوزها ومسالكها. وقد رأيت ذلك رأي العين - ورآه الكثيرون - بجبال مكة المشرفة {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} أي وطرق سوداء حالكة السواد. يقال: أسود غربيب. ومنه الغراب لسواده

28

{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} الاختلاف الظاهر في الثمرات، والجبال والطرق {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ} حق خشيته، ويعرفه حق معرفته {مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} الذين يعلمون رحمته ونقمته، وعفوه وبطشه، وحلمه وقهره، ومغفرته وعذابه؛ ويعلمون أنه تعالى على كل شيء قدير والعلم: هو في نفسه غاية الغايات، ونهاية النهايات؛ ألا ترى أنه يرشدك إلى بارئك، ويلهمك ما ينجيك، ويطلق عقلك من عقال الأوهام، ويقاوم التعصب والتقليد؛ وينزه فكرك من القيود، ويوصلك إلى المعرفة الخالصة، والحق المجرد وكل علم لا يصل بك إلى هذا المستوى؛ فليس بعلم والعلم أيضاً وسيلة سامية، لغايات بالغة السمو: فبغير العلم لا تستطيع أن تعالج مشاكل الحياة علاجاً سليماً محكماً، وبغيره لا تستطيع أن تحمي نفسك وتدفع عنها إيذاء المؤذين، وعدوان المعتدين فالعلم إذن يجمع بين الحق والقوة، والسعادة والسيادة، والعظمة والسلطان. فبالعلم استطاع الإنسان - في دفاعه عن نفسه - أن يستعمل اللسان والسنان، وبالعلم استطاع أن يسخر الماء والهواء، والبخار والكهرباء؛ حتى صار الإنسان بعلمه: كمن يضع في أصبعه خاتم سليمان، ويجلس على بساطه أما رجال السياسة؛ فهم - رغم غزارة علمهم، وسعة مداركهم - غير جديرين بشرف الانتساب إلى العلم: لأنهم جعلوه وسيلة للخسران، لا للعمران، وللفناء، لا للبقاء ومثلهم في ذلك كمثل إبليس: -[533]- حاز علم العلماء، وسلك سلوك الجهلاء

29

{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} ويعملون بما فيه {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} محافظين عليها في أوقاتها {وَأَنفَقُواْ} على الفقراء {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} بفضلنا؛ لا بكسبهم {سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} من غير من، ولا أذى، ولا رياء: يسرون في النافلة «الصدقة» ويعلنون في الفريضة «الزكاة» أو يسرون ستراً على الفقير، وجبراً لخاطره، ويعلنون ليقتدى بفعلهم من عداهم. أولئك {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} وهي طلب ثواب الله تعالى، والنجاة من عقابه هذا والتجارة معه تعالى من أربح التجارات وأحسنها، وأعلاها وأغلاها (انظر آية 245 من سورة البقرة)

31

{مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ما تقدمه من الكتب

32

{اصْطَفَيْنَا} اخترنا {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} بالكفر، وتحمل الإثم، وذل المعصية {وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم. أو هم الذين أعطوا الدنيا حقها، والآخرة حقها {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} لا يبغي من الدنيا مغنماً، ولا يقرب محرماً وهذه الأصناف الثلاثة: هي التي عناها الله تعالى بقوله {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} فأصحاب الميمنة: هم المعنيون بقوله تعالى {وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} وأصحاب المشأمة: هم المعنيون بقوله {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} والسابقون السابقون: هم المعنيون بقوله جل شأنه {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} وهم السابقون إلى الخيرات والمكرمات {بِإِذُنِ اللَّهِ} بأمره وتوفيقه {

33

جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي جنات الإقامة

35

{الَّذِي أَحَلَّنَا} أنزلنا {دَارَ الْمُقَامَةِ} دار الإقامة: وهي الجنة. وسميت بذلك: لأن الإقامة فيها مؤبدة {لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} تعب {وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} إعياء

36

{لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ} ويستريحوا

37

{رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا} من النار، وأعدنا إلى الدنيا {نَعْمَلْ} فيها عملاً {صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} من قبل. قال تعالى رداً عليهم {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} أي «أوَلم نعمركم» في الدنيا الوقت الطويل الذي يتذكر فيه من أراد أن يتذكر، ويهتدي فيه من أراد أن يهتدي {وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ} محمد عليه الصلاة والسلام. وقيل «النذير» الشيب، أو موت الأهل والأحباب. والأول أحق بالصواب وأجدر

38

{إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ما غاب فيهما عن البصر، واحتجب عن الوهم {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بخفايا القلوب

39

{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ} خلائف: جمع خليفة. أي يخلف بعضكم بعضاً في تملك الأرض، والتمتع بخيراتها {فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي عليه إثم كفره وعقوبته {وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً} المقت: أشد البغض {وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً} خسراناً؛ وأي خسران أشق وأشد من خسران الجنة ونعيمها؟ وأي خسران أدهى وأنكى من الخلود في جهنم وجحيمها؟

40

{الَّذِينَ تَدْعُونَ} تعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ} أي إن الله تعالى عالم غيب السموات والأرض، ومبدعهما، وخالق من فيهما؛ وقد خلقكم تعالى شعوباً متعددة، وأمماً شتى، وأجناساً متباينة؛ ووالى - سبحانه وتعالى - خلقكم وإنشاءكم؛ فإذا ما انقرضت أمة؛ أخلف مكانها أمة أخرى، وإذا ما فني شعب؛ أحل مكانه شعباً آخر. وجميع ذلك خلق الله تعالى؛ فماذا خلق آلهتكم في هذه الأرض التي أنتم عليها؟ {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ} شركة مع الله {فِي} خلق {السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً} مكتوباً يؤكد هذه الشركة {فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ} حجة {مِّنْهُ} أي من هذا الكتاب {بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً} باطلاً

41

{إِنْ أَمْسَكَهُمَا} ما يمسكهما

42

{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} غاية اجتهادهم في الأيمان {فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ} محمد {مَّا زَادَهُمْ} مجيؤه {إِلاَّ نُفُوراً} من الحق، وانصرافاً عن الإيمان

43

{اسْتِكْبَاراً} منهم وعلواً -[535]- {فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّىءِ} أي ما زادهم مجيؤه إلا أن مكروا المكر السيء. والمكر: الخداع يحيط {فَهَلْ يَنظُرُونَ} ما ينتظرون {اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ} أي إلا طريقتنا مع الأولين: وهي تعذيبهم وقت تكذيبهم، واستئصالهم وقت كفرهم

44

{أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من المكذبين، وكيف فعلنا بهم {وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أي أشد من أهل مكة؛ فما أعجزونا، وما استطاعوا النجاة من انتقامنا {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ} ليفوته

45

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ} بما ارتكبوا من المعاصي {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا} أي ظهر الأرض {مِن دَآبَّةٍ} الدابة: كل ما يدب على وجه الأرض؛ من إنسان، أو حيوان، أو غيرهما {وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو القيامة {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} فيجازيهم على ما عملوا.

سورة يس

سورة يس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{يس} هو اسم الرسول الأعظم صلوات الله تعالى وسلامه عليه. وقيل: معناه: يا إنسان؛ في لغة طيىء. وقيل معناه: يا سيد البشر. وقيل: بل هو اسم من أسمائه تعالى؛ لذا منع مالك رضي الله تعالى عنه التسمي به. وهو قسم؛ يدل عليه عطف القسم الآخر

2

{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} المحكم الذي لا يعتريه نقص، ولا يشوبه تناقض أو بطلان. وجواب القسم:

3

{إِنَّكَ} يا محمد {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} وإنك

4

{عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} على طريق الهدى والاستقامة؛ طريق من تقدمك من الأنبياء. وهو رد على الكافرين القائلين {لَسْتَ مُرْسَلاً}

5

{تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} وهو القرآن {لِتُنذِرَ} به {قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ} أي لم يأت آباءهم قبلك نذير مثلك؛ بكتاب مثل كتابك {فَهُمْ غَافِلُونَ} عن خالقهم، منصرفون إلى إفكهم وباطلهم. أو «ما» بمعنى الذي. أي

6

لتنذر قوماً بالذي أنذر به آباؤهم. والأول أولى؛ لأن أمة العرب ظلت فترة طويلة من الزمن؛ بغير نبي يرسل إليهم، أو كتاب ينزل عليهم. يؤيده قوله تعالى: {وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ}

7

{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} وجب العذاب

8

{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً} جمع غل؛ ويكون الغل في الأعناق، والقيد في الأيدي {فَهُم مُّقْمَحُونَ} مرتفعة رؤوسهم؛ لا يستطيعون تحريكها؛ لضيق الغل وتحكمه عند أذقانهم. وذلك يكون يوم القيامة. وجاء السياق بصيغة الماضي «إنا جعلنا» لتحقق الوقوع. أو هو تشبيه على سبيل التمثيل؛ وذلك لأنهم امتنعوا عن الاهتداء؛ امتناع المغلول، وأنهم - على ما هم عليه من ذلة الكفر - مشرئبو الأعناق، رافعو الرؤوس

9

{فَأغْشَيْنَاهُمْ} أي غطينا على أبصارهم، وجعلنا عليها غشاوة

11

{إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي إنما ينفع إنذارك ويتقبله من اتبع القرآن {وَخشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ} خافه ولم يره، وصدق بجنته وناره، وثوابه وعقابه

12

{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} للحساب والجزاء {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ} من عمل: خير أو شر؛ فنجازيهم عليه نكتب {آثَارِهِمْ} ما سنوه من سنة حسنة أو سيئة؛ فإن الله تعالى يجزيهم عمن اتبعها بعدهم؛ ثواباً أو عقاباً {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} هو اللوح المحفوظ

13

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ} إنطاكية {إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ} رسل عيسى عليه الصلاة والسلام؛ بأمر ربه تعالى

14

{فَعَزَّزْنَا} قوينا الرسالة {بِثَالِثٍ} هو كبير الحواريين {فَقَالُواْ} أي قال الرسل الثلاثة {قَالُواْ} أي أصحاب القرية؛ المرسل إليهم

15

{مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} فما الذي يدعو إلى اختصاصكم بالرسالة من دوننا {وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَنُ} عليكم {مِن شَيْءٍ} من وحيه {قَالُواْ} أي قال أصحاب القرية لرسلهم

18

{إِنَّا تَطَيَّرْنَا} تشاءمنا {لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ} ترجعوا عن دعوتكم

19

{قَالُواْ} أي قال الرسل لأهل إنطاكية {طَائِرُكُم} شؤمكم الذي تزعمونه {مَّعَكُمْ} ملصق بكم؛ لكفركم بإلهكم وعدم انقيادكم لمولاكم (انظر آية 13صلى الله عليه وسلّم من سورة الأعراف) {أَإِن ذُكِّرْتُم} استفهام. أي أئن وعظتم وخوفتم: تطيرتم وكفرتم؟ {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} في الكفر

22

{وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} أي أي شيء يحول بيني وبين عبادة الذي أنشأني وخلقني؟ {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} جميعاً؛ فيحاسبكم على عملكم، ويدخلكم النار بكفركم

23

{أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ} غيره {آلِهَةً} كما اتخذتم {إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ} أي إن يرد أن يلحقني {بِضُرٍّ} بمرض، أو فقر، أو آفة {لاَّ تُغْنِ عَنِّي} لا تنفعني {شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ} مما أراده الله تعالى

24

{إِنِّي إِذاً} إن اتخذت إلهاً من دون الله {لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} واضح ظاهر

26

{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} أي سيقال له يوم القيامة: «ادخل الجنة» وسيقول يومئذٍ: «يا ليت قومي يعلمون» لأنه لما كان دخوله الجنة محققاً مقطوعاً به: ذكرت القصة بصيغة الماضي، كقوله تعالى: «أتى أمرالله» «وبرزوا لله جميعاً» أو قيل له ذلك عند موته؛ فقال: «يا ليت قومي يعلمون»

28

{وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ} أي من بعد موته {مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ} لقتالهم وإهلاكهم

29

{إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} صاحها عليهم جبريل عليه الصلاة والسلام. والصيحة: العذاب؛ أو هي مقدمة لكل عذاب {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} ميتون

31

{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ} الأمم {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} هو رد على من يقول بتناسخ الأرواح، ورجوعها إلى أبدان غير أبدانها

32

{وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ} وما كل إلا جميع {لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} يوم القيامة؛ فنعذب من كفر بكفره

33

{وَآيَةٌ لَّهُمُ} علامة دالة على البعث، ويسر الإعادة {الأَرْضُ الْمَيْتَةُ} الجدبة، التي لا تنبت {أَحْيَيْنَاهَا} بالنبات {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً} كالقمح، والذرة، والفول، والعدس، وما شاكلها

34

{وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ} بساتين {مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} (انظر آية 266 من سورة البقرة)

35

{لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} أن ثمر النخيل والأعناب، وما تنتجه البساتين من فاكهة وثمار {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} «ما» نافية. أي «ليأكلوا من ثمره» الذي صنعته لهم بقدرتي، وأسبغته عليهم بفضلي، ولم ينالوه بعمل أيديهم؛ فكم من أرض خصبة: اختصها الإنسان بالحرث والبذر، واصطفاها بالسقي والري؛ فأصبحت بفضل التفاته لها، وعنايته بها جدبة ممحلة ويجوز أن تكون «ما» بمعنى الذي؛ أي «ليأكلوا من ثمره» وليأكلوا أيضاً من الذي «عملته أيديهم» من شتى الأصناف والأنواع: حلاوات وأطعمة، وأدهان وأدوية، وغير ذلك؛ وكله مستخرج من الثمر، الذي خلقه بارىء البشر؛ من حدائق ذات بهجة، ما كان لهم أن ينبتوا شجرها «رزقاً للعباد»

36

{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ} الأصناف والأنواع؛ باختلاف الألوان، والطعوم، والأشكال، والأحجام {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} أي ومن أنفسهم أيضاً خلق تعالى أزواجاً: ذكراناً وإناثاً، طوالاً وقصاراً سماناً وعجافاً، بيضاً وسوداً، حمراً وصفراً {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} من مخلوقاته تعالى في البر والبحر، والأرض والسماء {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}

37

{وَآيَةٌ لَّهُمُ} علامة دالة على قدرتنا، وعظمتنا، ووحدانيتنا {الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} أي نفصله وننزعه منه

38

{وَالشَّمْسُ تَجْرِي} في منازلها {لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} وهو أبعد منازلها؛ ثم تعود إلى أدناها. أو المراد بذلك يوم القيامة؛ حيث يكورها الرحمن؛ فتسكن عن الجريان ورووا عن ابن عباس، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما قراءة «والشمس تجري لا مستقر لها» والإجماع على بطلانها؛ لمخالفتها رسم المصحف الإمام. وشمسنا هذه التي نراها، والتي تضيء الكون بمحياها: إن هي إلا واحدة من شموس لا يعلم مداها. وهذه الشموس لا تقل عن أربعين مليوناً: حساباً وعداً. ومن هذه الشموس -[539]- ما يزيد في الحجم عن شمسنا هذه أربعين ضعفاً، ويربو في الضوء والحرارة عن ذلك. وبعض هذه الشموس يرى في الفضاء كالذرة الصغيرة؛ لبعده عنا بعداً سحيقاً؛ فقد سجلوا أن الشعرى اليمانية - وهي تبدو كأصغر نجم في السماء - تبعد عن الأرض بحوالي اثنين وخمسين بليوناً من الأميال، وأنه لولا هذا البعد السحيق: لذابت الأرض بما فيها ومن فيها من حرارتها وحول هذه الشموس - التي لا تحد ولا تعد - كواكب كثيرة تدور في فلكها؛ كما تدور أرضنا هذه في فلك شمسنا؛ وما يدرينا ما في هذه الشموس، وهذه الكواكب من مخلوقات، وما تحتويه من كائنات؛ لا يعلمها سوى خالقها وبارئها العليم الحكيم وشمسنا هذه - رغم ضآلتها وحقارتها بجانب الشموس الأخرى - لو دنت قليلاً من الأرض: لفارت البحار والمحيطات؛ من شدة الغليان، ولتبخر ما فيها من مياه، ولانصهر أشد أنواع الصخور صلابة. فانظر - يا رعاك الله - إلى بديع صنعالله

39

{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} يتنقل فيها (انظر آية 61 من سورة الفرقان) {حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ} العرجون: العذق؛ وهو من التمر كالعنقود من العنب {الْقَدِيمِ} حين يجف ويصفر ويتقوس

40

{لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ} لا يجوز لها، ولا يمكنها؛ لما أحاطها الله تعالى به من ضروب الحفظ، وما سخره لسيرها من ملائكته وخزنته؛ فلا ينبغي لها {أَن تدْرِكَ القَمَرَ} وأنى لها أن تدركه؛ وقد وضع لها خالقها نظاماً لا يمكنها من إدراك القمر؛ لو سعت إلى ذلك وأرادته. قال تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} {وَكُلَّ} من الشمس والقمر {فِي فَلَكٍ} خاص به، لا يتعداه إلى غيره {يَسْبَحُونَ} يسيرون في الهواء كسير السابح في الماء

41

{وَآيَةٌ لَّهُمُ} علامة أخرى دالة على قدرتنا وحفظنا وكلاءتنا {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} أي ذرية الأمم المتقدمة: حملهم الله تعالى {فِي الْفُلْكِ} السفينة. والمراد بهم قوم نوح عليه السلام، أو المراد: ذرية كفار مكة. أو المراد بالذرية: الآباء؛ وهي من أسماء الأضداد. والمعنى: حمل الله تعالى آباءهم وهم في أصلابهم {الْمَشْحُونِ} المملوء ناساً ومعاشاً

43

{فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} أي فلا يستطيعون الصريخ، أو فلا يستجاب لصريخهم

44

{إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا} لمن ننجيه {وَمَتَاعاً} تمتيعاً له بالحياة {إِلَى حِينٍ} إلى حين انقضاء أجله

45

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} -[540]- أي خافوا قدرتنا على تعذيبكم في الدنيا: بالمرض والفقر، أو القتل والأسر. وفي الآخرة بالجحيم والعذاب الأليم أو «ما بين أيديكم» ما ظهر لكم «وما خلفكم» ما غاب عنكم

47

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} وهكذا الكفار في كل زمان ومكان: إذا ضاقت بهم الحيل، وأغلقت في وجوههم السبل: لجأوا إلى تافه القول، وفاسد الحجج، وتلاعبوا بالحقائق تلاعب الصوالجة بالأكر، ولاكوا بأفواههم الألفاظ الطنانة الجوفاء؛ فقد تهربوا من إطعام الطعام بقولهم {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} كما دافعوا - عن جهلهم وحمقهم، وعبادتهم الأحجار التي لا تضر ولا تنفع - بقولهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وكما احتجوا عن كفرهم وتعنتهم بالقضاء والقدر {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا}. هذا وقد لجأ الناس في آخر الزمان إلى التلاعب بالألفاظ، والتمويه بالأسماء: فسموا الفوضى: حرية. والشيوعية: عدالة اجتماعية. والظلم: عدلاً، والاستبداد: نظاماً. والشورى: ضعفاً. والرشوة: هدية. والمحاباة: صلة رحم. والإهمال: أناة. والتهور: شجاعة. والقسوة: حزماً وهكذا فسدت المقاييس، واختلت المعايير؛ تبعاً للأهواء المردية

48

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} بالبعث والحساب والعقاب

49

{مَا يَنظُرُونَ} ما ينتظرون {إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} هي نفخة إسرافيل الأولى؛ وبها يكون فناء سائر الأحياء {تَأُخُذُهُمْ} تهلكهم {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} يختصمون في البيع والشراء، والقضاء

51

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} النفخة الثانية؛ وبها يحيا كل ميت: يحيي بها الله تعالى الأموات، كما أمات بالأولى الأحياء: يعيدهم - جل شأنه - كما خلقهم أول مرة «كما بدأكم تعودون» {فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ} القبور {يَنسِلُونَ} يخرجون مسرعين

52

{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ} بوقوعه {وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} في إبلاغهم ذلك عن ربهم. وهذا القول رد من الملائكة على سؤال الكافرين {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا}؟

53

{إِن كَانَتْ} ما كانت {إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} يصيحها إسرافيل عليه السلام في سائر الأموات: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، والشعور المتمزقة؛ إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء وهذا معنى قوله تعالى: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ}

55

{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ} ما يشغلهم عن التفكر فيما عانوه في الدنيا {فَاكِهُونَ} متنعمون ومنه سميت الفاكهة: لما يلقاه آكلها من شعور بالنعيم، وتلذذ بالنعمة ومنه الفكاهة؛ لانبساط النفس وانشراحها بها

56

{عَلَى الأَرَآئِكِ} السرر، أو الفرش

57

{وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} -[541]- ما يتمنون

58

{سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} أي يسمعون صوت الرحمن الرحيم؛ يقول لهم في الجنان، بصوت لا يحيط به الجنان: سلام عليكم {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً}

59

{وَامْتَازُواْ} أي انفردوا عن المؤمنين {أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} الكافرون. ويقال لهم وقتذاك

60

{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} آمركم {يبَنِي آدَمَ} على لسان رسلي {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ} ولا تطيعوه {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} عاهد نفسه على إضلالكم، وأقسم على إغوائكم {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}

61

{وَأَنِ اعْبُدُونِي} وحدي، وأطيعوني {هَذَا} الاتباع والعبادة {صِرَاطٍ} طريق

62

{وَلَقَدْ أَضَلَّ} الشيطان {مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} خلقاً كثيراً {أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ} ذلك؛ حين رأيتم وقوع غيركم في الضلال

64

{اصْلَوْهَا} ادخلوها

65

{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} نخرسهم فلا يتكلمون؛ لأنهم لا ينطقون إلا كذباً؛ أرأيت قولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}

66

{وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} أعميناها في الدنيا {فَاسْتَبَقُواْ الصِّرَاطَ} ابتدروا طريق الشر والكفر {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} فكيف يبصرون؛ بعد أن أعميناهم؟ ولكنا لعدلنا ورحمتنا: هديناهم الطريق، وأوضحنا لهم السبيل {فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} قال تعالى {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} أو المراد {لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} أعميناها في الآخرة؛ كما أخرسنا ألسنتهم {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً}

67

{وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} أي لمسخناهم في منازلهم، وفي أمكنتهم؛ حيث يجترحون المآثم، ويرتكبون العظائم؛ فجعلناهم قردة، أو خنازير، أو أحجاراً؛ كما مسخنا غيرهم {فَمَا اسْتَطَاعُواْ} بعد مسخهم {مُضِيّاً} في سيئاتهم {وَلاَ يَرْجِعُونَ} وما استطاعوا رجوعاً عن غيهم وكفرهم. أو لم يستطيعوا ذهاباً ولا مجيئاً

68

{وَمَن نّعَمِّرْهُ} نطل عمره {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} أي نغير حاله: من قوة إلى ضعف، ومن شباب إلى هرم، ومن جمال إلى قبح

69

{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} أي ما علمنا محمداً الشعر؛ حتى تتهمونه بأنه شاعر، وأن ما جاء به من جنس الشعر {وَمَا يَنبَغِي لَهُ} ما يجوز له أن يكون شاعراً {إِنْ هُوَ} ما هو؛ أي القرآن الذي أتى به محمد {إِلاَّ ذِكْرٌ} عظة {وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} واضح، مظهر للأحكام، ولكل ما تحتاجون إليه

70

{لِّيُنذِرَ} به {مَن كَانَ حَيّاً} ذا قلب ولب {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي يجب عليهم العذاب الموعود

71

{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} أي مما خلقناه من غير شريك، ولا معين {أَنْعاماً} هي الإبل، والبقر، والغنم

72

{وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} سخرناها لهم

73

{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} من أصوافها، وأوبارها، وأشعارها من ألبانها

74

{وَاتَّخَذُواْ} عبدوا {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} يمنعون من عذاب الله تعالى بشفاعتها كزعمهم

75

{وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ} أي إن آلهتهم التي علقوا آمالهم عليها في النصر؛ ستحضر معهم في النار {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} {نُّطْفَةٍ} مني. (انظر آية 21 من سورة الذاريات)

77

{فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} شديد الخصومة لنا

78

{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} بقوله: {مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} أي نسي خلقنا له أول مرة، ولم يك شيئاً

82

{إِنَّمَآ أَمْرُهُ} تعالى {إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} هذا تقريب لأفهامها والواقع أنه تعالى إذا أراد شيئاً: كان؛ بغير حاجة للفظ «كن»

83

{فَسُبْحَانَ} تنزيه وتقديسلله تعالى. (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) {الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ} ملك {كُلِّ شَيْءٍ} والقدرة عليه. والملكوت: الملك، والعز، والسلطان {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يوم القيامة؛ فيحاسبكم على ما اجترحتم.

سورة الصافات

سورة الصافات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{وَالصَّافَّاتِ صَفَّا} الملائكة تصطف في العبادة، أو تصف أجنحتها. قال تعالى على لسانهم {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ} أو هم المؤمنون يصطفون للصلاة. وقيل: الطير؛ لأن في صفها وقبضها، وإمساكها في الهواء؛ من آيات الله تعالى ودلائل قدرته ما فيه

2

{فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً} الملائكة تزجر السحاب وتسوقه بأمر الله تعالى، أو هم المؤمنون: الزاجرون الناس عن المعاصي، الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر

3

{فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} الذين يتلون القرآن؛ من سائر المخلوقات. والتأنيث في الجمع هنا على اعتبار أنه جمع طائفة، أو جماعة. وقيل في هذه الآيات: إنها في المجاهدين؛ يصفون للقتال في سبيلالله، ويزجرون الخيل للجهاد، ويتلون الذكر طلباً للنصر أقسم الله تعالى بملائكته، وصفوة عباده، والمجاهدين في سبيله، والآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر، المنقطعين لعبادته، العاكفين على تلاوة كتابه. وجواب القسم

4

{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} لا إله إلا هو، ولا معبود سواه

5

{رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وما فيهما {وَمَا بَيْنَهُمَا} من مخلوقات، وعجائب؛ لا يعلمها، ولا يحيط بها إلا خالقها {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} جمع مشرق؛ وذلك لأن الشمس لها في كل يوم مشرق ومغرب؛ بعدد أيام العام. أو هو مشرق كل نجم، وكل كوكب. ومشرق الشيء: نوره وطلوعه

6

{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا} وهي أول سماء تلي الأرض {بِزِينَةٍ} وأي زينة {الْكَوَاكِبِ} جمع كوكب؛ وهي النجوم

7

{وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} متمرد، عنيد، جبار

8

{لاَّ يَسَّمَّعُونَ} لا يتسمعون. أي لا يستطيعون التسمع {إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى} الملائكة في السماء {وَيُقْذَفُونَ} أي الشياطين الذين يحاولون استراق السمع: تقذفهم الملائكة بالشهب

9

{دُحُوراً} طرداً. والدحور: الطرد والإبعاد. قال تعالى على لسانهم {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} دائم، موجع. من الوصب: وهو المرض الذي يصل إلى القلب

10

{فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} شعلة من نار تحرقه. والثاقب: النافذ؛ الذي يثقب. والشهب: هي التي ترى في الأفق، كأنها كواكب منقضة

11

{فَاسْتَفْتِهِمْ} اسألهم {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} أعظم خلقة، وأمتن بنية، وأشق إيجاداً -[544]- {أَم مَّنْ خَلَقْنَآ} من السموات والأرضين، وما فيهما من كائنات ومخلوقات. والمراد: كل ما عدا بني آدم: من الملائكة، والجن، والسموات والأرضين، والكواكب، والبروج، وغير ذلك مما لا يدركه الوصف، ولا يحيط به الوهم {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} لازم؛ أي يلصق باليد

12

{بَلْ عَجِبْتَ} من تكذيبهم لك؛ مع وضوح حجتك {وَيَسْخُرُونَ} مما أرسلت به؛ وهو الحق

13

{وَإِذَا ذُكِّرُواْ} وعظوا بالقرآن {لاَ يَذْكُرُونَ} لا يتعظون

14

{وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} أي إذا رأوا آية لك، وعلامة على صدقك؛ كانشقاق القمر، ونبع الماء، وما أفاضه الله تعالى عليك من بركات شهدتها الأرض والسماء؛ إذا رأوا بعض ذلك: لم يكتفوا بالاستهزاء بك؛ بل يحضون بعضهم بالسخرية عليك

15

{وَقَالُواْ إِن هَذَآ} ما هذا الذي أبديته {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهر واضح

17

{أَوَ آبَآؤُنَا الأَوَّلُونَ} أي هل يبعث آباؤنا الأولون أيضاً؛ رغم قدمهم وبلاء أجسادهم؟

18

{قُلْ نَعَمْ} تبعثون أنتم وآباؤكم الأولون {وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} ذليلون صاغرون

19

{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} هي أمر المولى جل وعلا بإحياء الخلائق، أو هي نفخة إسرافيل عليه السلام الثانية {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} أحياء ينظر بعضهم لبعض

20

{وَقَالُواْ يوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} يوم الجزاء

22

{وَأَزْوَاجَهُمْ} أي أشباههم، أو قرناءهم من الشياطين {وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ *

23

مِن دُونِ اللَّهِ} أي وأصنامهم التي كانوا يعبدونها {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} دلوهم إلى طريق جهنم، أو ادفعوهم إليه {وَقِفُوهُمْ} أي احبسوهم

24

{إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} عما قدموا؛ فمعذبون عليه

25

{مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ} أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً الآن؛ كما كنتم تتناصرون في الدنيا

26

{بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} عاجزون أذلاء

28

{قَالُواْ} أي قال الأتباع للمتبوعين {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} أي عن طريق القوة والقهر. والمعنى: إنكم كنتم تحملوننا على الضلال قسراً وجبراً

30

{سُلْطَانٍ} تسلط وقوة -[545]- {إِنَّا لَذَآئِقُونَ} العذاب، وهو معنى قوله تعالى:

31

{فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ}

32

{فَأَغْوَيْنَاكُمْ} أضللناكم {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} ضالين مضلين

36

{وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا} التي نعبدها وآباؤنا من قبلنا {لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} يعنون سيد الفضلاء والعقلاء: محمداً وما هو بشاعر ولا مجنون؛ بل خاتم الأنبياء وخير أهل الأرض والسماء {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً}

37

{بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ} القرآن {وَصَدَّقَ} من سبقه وتقدمه من {الْمُرْسَلِينَ} فلم يكذب بأحدهم؛ بل صدق بجميعهم

45

{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} خمر يجري على وجه الأرض؛ كأنهار الماء التي ترى بالعين. ولا تسمى الكأس كأساً؛ إلا إذا كانت ملأى؛ وإلا فهي كوب

46

{بَيْضَآءَ} صفة للكأس، أو صفة للخمر. وقرأ عبد الله «صفراء» ويؤيد أنها صفة للخمر قوله تعالى: {لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} أي ليست كخمر الدنيا: كريهة الطعم، فاسدة الرائحة

47

{لاَ فِيهَا غَوْلٌ} أي لا تغتال العقول كخمر الدنيا؛ التي تجعل شاربها يهرف بما لا يعرف {وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} يسكرون؛ فيخلطون. يقال: نزف الشارب: إذا ذهب عقله. أو المعنى: ولا هم عنها يصرفون ويمنعون

48

{وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} اللاتي يقصرن أبصارهن على أزواجهن، فلا يطمحن بأعينهن إلى غيرهم {عِينٌ} جمع عيناء؛ وهي النجلاء: حسناء العين واسعتها

49

{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} شبههن بالبيض المكنون في البياض والصفاء؛ وقد جرت عادة العرب في تشبيه النساء؛ بقولهم: بيضات الخدور

50

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ} أي بعض أهل الجنة {عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} عما مر بهم في الدنيا؛ وذلك على سبيل المسامرة وقت الشراب

51

{قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} صديق مقارن لي في الدنيا

52

{يَقُولُ} لي متعجباً {أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} أي كان ينكر عليّ تصديقي وإيماني بالبعث

53

{أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} أي أئنا لمحاسبون ومجزيون؟ {قَالَ} هذا القائل لإخوانه؛ الذين يتكلم معهم، ويذكر لهم أخبار قرينه في الدنيا؛ الذي كان ينكر البعث والجزاء؛

54

قال: {هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} أي هل أنتم ناظرون معي إلى النار؛ لننظر حاله وما صار إليه الآن عقوبة على إنكاره وتكذيبه

55

{فَاطَّلَعَ} فنظر إلى النار هو ومن معه من أهل الجنة {فَرَآهُ} رأى قرينه في وسط النار

56

{قَالَ} مخاطباً قرينه في النار {تَاللَّهِ} قسم فيه معنى التعجب {إِن كِدتَّ} قاربت {لَتُرْدِينِ} لتهلكني معك بإغوائك لي

57

{وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي} لطفه ورحمته: أن هداني للإيمان {لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} معك في النار

58

{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ *

59

إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى} التي متناها في الدنيا {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} بعد أن تداركتنا نعمة الله تعالى في الدنيا بالإيمان، وفي الآخرة بالنجاة من النيران وهو استفهام تلذذ، وتحدث بنعمة الله تعالى وتقرير لتأبيد الحياة المنعمة، وانعدام التعذيب

60

{إِن هَذَآ} التنعم الخالد {لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا يدانيه فوز

61

{لِمِثْلِ هَذَا} النعيم الدائم} في الدنيا

62

{أَذَلِكَ} النعيم {خَيْرٌ نُّزُلاً} النزل: ما يعد لإكرام الضيف {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} هي من أخبث الشجر المر؛ ويوجد منه بتهامة. ينبتها الله في الجحيم؛ لتكون طعاماً لأهلها

63

{إِنَّا جَعَلْنَاهَا} أي جعلنا ذكر هذه الشجرة، وأنها «تخرج في أصل الجحيم» {فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ} اختباراً للكافرين؛ حيث قالوا: إن النار تحرق الشجر؛ فكيف تنبته؟ وفاتهم أن الله تعالى هو وحده الذي اختص مخلوقاته بما شاء من مزايا؛ وهو جل شأنه، وتعالت قدرته؛ يرفع مزايا الأشياء إن شاء. ألا ترى أنه جل شأنه منع من النار مزية الإحراق؛ وجعلها برداً وسلاماً على إبراهيم حين شاء

65

{طَلْعُهَا} ثمرها {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} كرءوس الحيات القبيحة المنظر

68

{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} لخلطاً من ماء حار؛ يشوي الوجوه، ويقطع الأمعاء

69

{إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ} وجدوا

70

{فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} يسرعون

72

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ} أنبياء أنذروهم عاقبة كفرهم، ومآل أمرهم

73

{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} أي عاقبة المرسل إليهم؛ حين كذبوا رسلهم؛ فأهلكناهم

74

{إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} الذين آمنوا به، وصدقوا رسله؛ فإنهم لم يمسسهم العذاب

77

{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} كان لنوح عليه السلام ثلاثة أولاد: سام: وهو أبو العرب، وفارس، والروم. وحام: وهو أبو السودان. ويافث: وهو أبو الترك، والخزر، ويأجوج ومأجوج

83

{وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ} ممن تابعه في الدين {لإِبْرَاهِيمَ} الخليل: جد نبينا عليهم الصلاة والسلام

84

{إِذْ جَآءَ} إبراهيم {رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} خالص من الشك والشرك

86

{أَإِفْكاً آلِهَةً} أي أتعبدون إفكاً؟ والإفك: أسوأ الكذب

87

{فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} إذ لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ أتظنون أنه تارككم بغير حساب وعقاب؟ فانصرفوا عنه؛ بعد أن دعوه إلى مصاحبتهم

88

{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} أي نظر إلى السماء؛ موهماً لهم أنه يستطلع أخبار النجوم - وقد كانوا ممن يعتقدون ذلك - والتفت إليهم

89

{فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} أي عليل. وكانوا يخشون العدوى؛ ولذلك وصفهم الله تعالى بقوله:

90

{فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} أي أسرعوا بالابتعاد عنه. وعلم التنجيم: علم قديم شائع ذائع. وقد شغف به كثير من المتقدمين، وأسسوا له أسساً، وبنوا له قواعد؛ وربطوا بين كل إنسان وما يتفق مع ولادته من طوالع الكواكب واقترانها، وقالوا بسعادة بعض الكواكب، ونحوسة بعضها. كما قالوا - تبعاً لذلك - بسعادة بعض المواليد، وشقاوة البعض الآخر. وما من شك أن هناك رابطة بين أجزاء الكائنات، وبالتالي بين الكواكب، وبين الكون الذي نحن فيه. كيف لا؛ والأرض كوكب من بين هاتيك الكواكب أما تعلق الكواكب بسعادة بعض الناس، وشقاوة البعض الآخر؛ فمما لا يسلم به الفكر السليم؛ فكثيراً ما نرى أناساً - لا حصر لهم - يموتون في الحروب؛ في وقت واحد، وآخرين يموتون في حرق أو غرق، وآخرين تحصدهم الأوبئة، وتجتاحهم الطواعين. فكيف اتفق لجميع هؤلاء الشقاوة والنحوسة، مع اختلاف طبائعهم، وتباين أوقات ميلادهم؟ وكثيراً ما نرى أيضاً الرجل صنو الرجل: في مولده، وفي معيشته، وفي دراسته؛ فيفترقان: هذا في قمة السعادة، وذروة المجد؛ وذاك في حضيض البؤس، ودرك الفقر

91

{فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} مال إليها سراً وخفية

93

{ضَرْباً بِالْيَمِينِ} أي ضرباً بالقوة؛ فكسرها

94

{فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} يسرعون؛ حينما رأوا ما حل بآلهتهم

95

{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} بأيديكم

96

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} أي خلقكم، وما تعملونه بأيديكم من الأصنام؛ فكيف تعبدونها؟

99

{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} متجه إليه، ومتوكل عليه؛ فإنه {سَيَهْدِينِ} إلى معرفته، وإلى سبل الرشاد

100

{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينِ} أي ولداً من الصالحين

102

{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أي لما بلغ الولد أن يمشي، ويسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه؛ وهو إسماعيل جد نبينا؛ عليهما الصلاة والسلام، وقيل: هو إسحق. وأيد كلا القولين أقوام، ولكل فريق أدلة ساقها، ومراجع ذكرها؛ ولكن الفؤاد يرتاح إلى أنه إسمعيل لا إسحق؛ يدل عليه قوله تعالى في الآية المقبلة {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين {قَالَ يبُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ورؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: وحي

103

{فَلَمَّا أَسْلَمَا} انقادا لأمره تعالى، ولإرادته جل شأنه: أسلم الأب ابنه، والابن نفسه {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} صرعه في الأرض على جبينه، ووضع السكين على حلقه

104

{وَنَادَيْنَاهُ أَن يإِبْرَاهِيمُ *

105

قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ} وفعلت ما أوحينا به إليك، وأمرناك به

106

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ} الاختبار البين

107

{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} قيل: نزل له جبريل عليه السلام بكبش عظيم؛ فذبحه مكان ابنه. والقرآن الكريم لم يورد ما أورده من القصص عبثاً؛ وإنما أورده للذكرى والاعتبار والاستبصار وقد أراد الله تعالى بإيراد هذه القصة: أن يعلمنا إلى أي مدى يطيع الابن أباه؛ ليرضي مولاه فالواجب على من أحبالله، وأحبهالله: أن يكون مع والديه كالميت في يد المغسل: هل يستطيع أن يقول له أف لقد برد الماء، أو أف لقد زادت حرارته؟

108

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} في الأمم المتأخرة بعده

109

{سَلاَمٌ} منا {عَلَى إِبْرَاهِيمَ} وهو - عليه الصلاة والسلام - يصلي عليه ويسلم كل مؤمن، في كل صلاة؛ تحية مباركة من الله

113

{وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ} بتكثير ذريته من المؤمنين، وجعل ملته خير الملل «قل بل ملة إبراهيم حنيفاً» {وَعَلَى إِسْحَاقَ} أي وباركنا أيضاً على ولده إسحق، بأن جعلنا من نسله أكثر الأنبياء {وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} مؤمن {وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} كافر: ظلم نفسه؛ بتعريضها للجحيم، والعذاب الأليم

114

{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} بالنبوة

115

{وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا} من آمن بهما من بني إسرائيل {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} استعباد فرعون لهم، وتقتيله لأبنائهم

117

{وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} القوي البيان؛ لما احتواه من أوامر ونواه، وحدود وأحكام، وغيرها. وهو التوراة

123

{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} قيل: هو إدريس النبي عليه السلام؛ ويعضده قراءة ابن مسعود «وإن إدريس» مكان «إلياس» وهذه القراءة شاذة لمخالفتها المصحف الإمام. و {إِلْيَاسَ} النبي؛ غير اليأس: جد نبينا عليه الصلاة والسلام. وصحة اسمه اليأس - بفتح الياء وسكون الهمز - لا «إلياس» كما رواه الرواة خطأ، ونقله عنهم الناقلون. وسمي بالياس: لأنه أول من ابتلي باليأس - بفتح الهمز - وهو السل

125

{أَتَدْعُونَ} أتعبدون {بَعْلاً} اسم صنم لهم

127

{فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} في النار

129

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} في الأمم المتأخرة بعده

130

{سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} أي على إلياس وقومه المؤمنين

135

{إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} أي الباقين في العذاب؛ وهي امرأته

136

{ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} أهلكناهم

137

{وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ} أي على منازلهم، وتشاهدون آثارهم، وترون آثار نقمتنا وتعذيبنا {مُّصْبِحِينَ} وقت الصبح

138

{وَبِالْلَّيْلِ} أي ترون ذلك في أسفاركم ليلاً ونهاراً {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ذلك؛ فتتعظون بما حل بهم؟

140

{إِذْ أَبَقَ} هرب من قومه، ومن تعذيبهم وأذاهم له. وأبق العبد: إذا هرب واستخفى {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} السفينة المملوءة

141

{فَسَاهَمَ} أي فزاحم؛ ليأخذ له سهماً ونصيباً في ركوب الفلك {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} أي فزلق في البحر. وكثيراً ما يحصل هذا عند التزاحم على الركوب في السفن المشحونة، وغيرها. يقال: دحضت رجله: زلقت. ودحضت الحجة: بطلت. أو «فساهم» من المساهمة. أي فقارع. قيل: إنه لما ركب في السفينة؛ وقفت بهم في عرض البحر. فقال الملاحون: لا بد أن يكون بيننا عبد آبق من سيده؛ واقترعوا فيما بينهم، فخرجت القرعة عليه. فقال: أنا الآبق. وألقى بنفسه في الماء. وسمي آبقاً: لأنه هرب من قومه قبل أن يأذن له ربه بالانصراف عنهم

142

{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ} ابتلعه {وَهُوَ مُلِيمٌ} أي واقع في الملامة، ومستوجب للوم

143

{فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} في بطن الحوت

144

{لَلَبِثَ} لمكث {فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} لم يفتر لسانه عليه الصلاة والسلام - حين التقمه الحوت - عن قول «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» فأنجاه الله تعالى بسببها؛ وقد ورد أن من قرأها في مهلكة: أنجاه الله تعالى منها بمنه وفضله

145

{فَنَبَذْنَاهُ} طرحناه؛ كما ينبذ آكل التمر النواة {بِالْعَرَآءِ} جعل الله تعالى الحوت يقذفه من جوفه؛ في أرض عراء؛ لا شجر فيها ولا نبات {وَهُوَ سَقِيمٌ} مريض؛ مما حل به في بطن الحوت، ومما اعتراه من خشية غضب الله تعالى عليه

146

{وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} وهو الدباء «القرع» ويطلق اليقطين على كل شجرة تنبسط على وجه الأرض، ولا تقوم على ساق

148

{فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} أي إلى حين انقضاء آجالهم

149

{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} وذلك لقولهم: الملائكة بناتالله. أي كيف تنسبون له الولد؛ وهو تعالى {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}؟ ولم تكتفوا بذلك؛ بل نسبتم إليه البنات، وهن أخس الجنسين - في نظركم - قال تعالى {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ}

151

{مِّنْ إِفْكِهِمْ} كذبهم

153

{أَصْطَفَى} أي هل اختار

154

{مَا لَكُمْ} أي ماذا دهاكم، وماذا جرى لعقولكم؟ {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكم الفاسد

156

{أَمْ لَكُمْ} على ذلك الزعم {سُلْطَانٌ مُّبِينٌ} حجة ظاهرة على ما تدعونه

157

{فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ} الناطق بصحة دعواكم {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في زعمكم {وَجَعَلُواْ} أي المشركون {بَيْنَهُ} تعالى {وَبَيْنَ الْجِنَّةِ} أي الملائكة؛ وسموا جناً: لاجتنانهم عن الأبصار؛ أي اختفائهم. أو أريد بالجنة: الجن {نَسَباً} وذلك لأن قريشاً زعمت أن الملائكة بنات الله وأمهاتهم من بنات الجن. وقيل:

158

{وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ} أي الشياطين «نسباً» أي مناسبة؛ حيث أشركوهم به تعالى في استحقاق العبادة. والقول الأول: أولى {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ} أي الملائكة {إِنَّهُمْ} أي قائلي ذلك {لَمُحْضَرُونَ} في النار؛ يعذبون فيها على ما قالوا، وما فعلوا

159

{سُبْحَانَ اللَّهِ} تنزه، وتقدس، وتعالى {عَمَّا يَصِفُونَ} من نسبة الشريك والولد إليه

160

{إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} الذين لم يشب إيمانهم شك أو شرك؛ فإنهم ناجون

161

{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} من الأصنام

162

{مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} أي على الله {بِفَاتِنِينَ} أحداً. أي بمضلين، أو غالبين

163

{إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} في علمه تعالى؛ وقد تخلى عنه حفظه وكلاءته، وبعدت منه نعمته ورحمته

164

{وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} لا يتجاوزه، ولا يتعداه؛ وهو قول الملائكة عليهم السلام؛ تبرأوا مما نسبه إليهم المشركون

165

{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ} أقدامنا في الصلاة، وفي الطاعة

167

{وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ} أي كفار مكة

168

{لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأَوَّلِينَ} أي لو أن عندنا كتاباً من جنس كتب المتقدمين؟ فنزل إليهم خير كتب الله تعالى، وأوفاها، وأهداها «القرآن»

170

{فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} عاقبة كفرهم.

171

{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا} وعدنا وتقديرنا بالنصر

174

{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أعرض {حَتَّى حِينٍ} أي إلى أن تؤمر بقتالهم

175

{وَأَبْصِرْهُمْ} ذكرهم بتكذيبهم حين ينزل العذاب بهم {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} عاقبة ذلك

177

{فَإِذَا نَزَلَ} العذاب {بِسَاحَتِهِمْ} بفنائهم. والمراد: نزل بهم. وتعبر العرب عن القوم بالساحة

178

{وَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أعرض

180

{سُبْحَانَ رَبِّكَ} تعالى وتقدس {رَبِّ الْعِزَّةِ} رب العظمة والغلبة {عَمَّا يَصِفُونَ} بأن له شريكاً أو ولداً

181

{وَسَلاَمٌ} من الله تعالى {عَلَى الْمُرْسَلِينَ} وأنت إمامهم

182

{وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أن هداك، وهدى بك

سورة ص

سورة ص بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{ص} (انظر آية 1 من سورة البقرة) {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} أي ذي البيان والشرف

2

{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ} واستكبار عن الإيمان به -[553]- {وَشِقَاقٍ} خلاف، وأي خلاف بل أي شقاق أعظم وأفدح من إعداد الأمم الغربية للقنابل الذرية والهيدروجينية؛ ليحارب بها بعضهم بعضاً، ويفني بعضهم بعضاً؛ ويزعمون أنهم أشياع عيسى عليه السلام. وعيسى منهم براء، وهم في الكفر سواء فلينظر هذا وليعتبر به من ألقى السمع وهو شهيد

3

{كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} أمة {فَنَادَواْ} بالتوبة والاستغفار، والاستغاثة؛ عند نزول العذاب بهم {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} أي ليس الوقت وقت نجاة، ولا وقت خلاص. و «لات»: ليس. و «مناص»: ملجأ

6

{وَانطَلَقَ الْمَلأُ} الأشراف أو الجماعة {مِنْهُمْ} حين سمعوا دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى التوحيد: انطلقوا يقولون {امْشُواْ} من مجلس الرسول؛ الذي يذكر فيه دينه، وربه، وكتابه {وَاْصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ} اثبتوا على عبادتها؛ ولا تعبأوا بدعوته {إِنَّ هَذَآ} الذي يقوله محمد ويدعيه {لَشَيْءٌ يُرَادُ} بنا ومنا؛ ويريد به محمد الزعامة والرئاسة علينا

7

{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} يعنون ملة عيسى عليه السلام. وقد كذبوا في ذلك؛ فلم تقم ملة عيسى إلا على التوحيد الذي قامت عليه ملة محمد، وملل سائر الأنبياء؛ عليهم الصلاة والسلام. وإنما أرادوا به التثليث الذي قالت به النصارى، وزعمت أنه دين عيسى {إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ} كذب مختلق لا أصل له

8

{أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} القرآن {مِن بَيْنِنَا} من دوننا؛ وهو الضعيف ونحن الأقوياء، الفقير ونحن الأغنياء، ولا عصبة له ونحن أولوا العصبة وذووا الحمية. قال تعالى {بْل هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي} من قرآني، وحقيقة نزوله على نبيي {بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} لم يذوقوا عذابي ولو ذاقوه لآمنوا وصدقوا

9

{أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} فيهبون النبوة لمن شاءوا، وينزلون الذكر على من أرادوا

10

{فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأَسْبَابِ} أي فليصعدوا إلى السموات، ويمنعوا الملائكة من النزول على محمد

11

{جُندٌ مَّا هُنَالِكَ} أي أن هؤلاء المكذبين المتكبرين: هم جند {مَهْزُومٌ مِّن الأَحَزَابِ} الذين تحزبوا على عدائك، وتجمعوا لمحاربتك

12

{وَعَادٌ} قوم هود {وفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ} سمي بذي الأوتاد: لأنه كان يوتد من يريد تعذيبه بأربعة أوتاد: في يديه ورجليه. أو هو كناية عن ثبوت ملكه، وقوة سلطانه. أو كناية عن المباني العظيمة الثابتة. أو صاحب الجنود. وتسمى الجنود أوتاداً: لأنها دعائم الملك والقوة والسطوة والسلطان

13

{وَثَمُودُ} قوم صالح {وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ} أي الغيضة؛ وهي مجتمع الشجر. قيل: هم قوم شعيب عليه السلام {أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ} أي أولئك الأقوام الذين ذكرتهم لك: هم مثل الأحزاب الذين تحزبوا عليك؛ وسأجزيهم مثل ما جزيتهم

15

{وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً} هي نفخة القيامة عند البعث {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} من رجوع، أو من إمهال قدر فواق الناقة؛ وهو ما بين حلبتي الحالب

16

{وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} حظنا من النعيم أو العذاب

17

{دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ} ذا القوة في الدين {إِنَّهُ أَوَّابٌ} رجاع إلى الله تعالى

18

{يُسَبِّحْنَ} مع تسبيحه ويرددن مع ترديده {بِالْعَشِيِّ} وقت العشاء {وَالإِشْرَاقِ} عند شروق الشمس

19

{وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} مجموعة من كل ناحية. قيل: كان إذا سبح: رددت الجبال والطير تسبيحه

20

{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} النبوة، وكمال العلم. وقيل: الزبور {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} القضاء الفاصل بين الحق والباطل

21

{وَهَلْ أَتَاكَ} يا محمد {نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ} أي تسلقوا حائطه. و «المحراب» المسجد، أو الغرفة

22

{وَلاَ تُشْطِطْ} أي ولا تتجاوز الحد {وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ} إلى الطريق السوي القويم

23

{أَكْفِلْنِيهَا} أي ملكنيها؛ لأنها كفلي، ومن نصيبي {وَعَزَّنِي} غلبني

24

{وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ} الشركاء الذين اختلط مالهم -[555]- {لَيَبْغِي} ليجور {بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} في المعاملات. هذا وقد ذهب أكثر المفسرين - في قصة داود عليه السلام - إلى أقاصيص من وضع اليهود والزنادقة: وزعموا أنه عليه السلام رأى زوجة أوريا عريانة - وهو أحد قواده - فتعلق بها، وأراد أن يتزوجها: فأرسل زوجها إلى القتال - على رأس جيش ليقتل فيتزوجها - فانتصر أوريا، وعاد سالماً. فأرسله ثانياً وثالثاً؛ إلى أن قتل؛ فتزوج داود عليه السلام زوجته التي رآها عريانة وأحبها من قبل؛ فأرسل الله تعالى ملكين على صورة خصمين؛ فاحتكما إليه في خصومة وهمية؛ كما وردت في سياق القرآن الكريم. وهذه القصة فضلاً عن أنها تكفر واضعها؛ فإنها أيضاً تكفر معتقدها ومصدقها: إذ أنه لا يصح نسبة ذلك لعامة المسلمين، وجهلة الفساق؛ فما بالك بخواص الأنبياء ولا يجوز بحال صرف هذه القصة عن ظاهرها؛ فليتدبر ذلك من له عقل سليم، ودين قويم وإنما أوردت هذه القصة وأمثالها للتحذير منها، والتنبيه على بطلانها. وقد قال علي رضي الله تعالى عنه: «من حدثكم بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص: جلدته مائة وستين» وهو حد الفرية على الأنبياء عليهم السلام {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} فإنهم لا يبغون {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} قال الفضلبن عياض رضي الله تعالى عنه: الزم طرق الهدى؛ ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة؛ ولا تغتر بكثرة الهالكين {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} اختبرناه بتلك الزلة. وزلته: أنه حكم قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر؛ بقوله {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} وهي زلة عظيمة بالنسبة لعموم القضاة؛ فما بالك بنبي الله داود عليه السلام وقد قضت القوانين الوضعية برد القاضي إذا أبدى رأيه أثناء سير الدعوى

26

{وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى} أي هوى النفس

28

{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ} أي لو بطل الجزاء؛ كما يقول الكفار بإنكارهم البعث والحساب؛ لاستوت أحوال من أصلح وأفسد، ومن اتقى وفجر

29

{أُوْلُو الأَلْبَابِ} ذوو العقول

30

{أَوَّابٌ} كثير الرجوع إلى الله تعالى

31

{الْجِيَادُ} الخيل السراع

32

{إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي آثرت حب الخيل حتى فاتتني صلاة العصر، وتوارت الشمس بالحجاب

33

{فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} أي فجعل يمسح بيده على سوق الخيل وأعناقها. وهي عادة مشاهدة عند المعجبين بالخيل، المقتنين لها. أما ما ذهب إليه أكثر المفسرين: من أنه عليه السلام طفق يقطع أعناقها وسوقها بالسيف؛ لأنها ألهته عن الصلاة. فهو قول واضح البطلان؛ وإلا فأي ذنب جنته هذه العجماوات تستحق عليه التقتيل والتمثيل؟ فضلاً عما في ذلك من تلف الأموال، ونسبة الأنبياء إلى فعل السفهاء والجهال وكان في مقدوره أن يخرجها من ملكه إلى الجهاد؛ وبذلك يتم له التخلص منها؛ مع نفع هو من أجل القرب إلى الله تعالى ولم يقل أحد: إن المسح بمعنى القطع. وإلا لكان قوله تعالى {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} أي اقطعوها. وإنما يعدل عن الظاهر: إذا اقتضت القرينة والسياق ذلك: كأن يقول: فطفق مسحاً بالسيف بالسوق والأعناق

34

{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} ابتليناه {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً} أي رزقناه ولداً ميتاً؛ وجيء به على كرسيه. قال: «قال سليمانبن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة - أو تسع وتسعين - كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيلالله. فقال له صاحبه: إن شاءالله. فلم يقل إن شاء الله فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل. والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاءالله: لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون» ولعل سليمان لم يقلها: لأنه لم يتذكرها، ولم يسمعها من صاحبه الذي وجهه إلى قولها؛ لأن الأنبياء عليهم السلام: أئمة المتوكلين المنيبين {أَنَابَ} رجع إلى الله تعالى، وتاب عن الانشغال عن الصلاة بما عداها، وعن عدم تقدير مشيئة الله تعالى في أموره كلها

36

{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ} أي تجري طيبة لينة حيث أراد

37

{وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ} أي وسخرنا الشياطين له: يبنون ما يريد، ويغوصون في البحر بأمره؛ لاستخراج اللؤلؤ

38

{وَآخَرِينَ} من الشياطين {مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} مقيدين في السلاسل والأغلال؛ إذا أتوا ذنباً، أو عصوا له أمراً

39

{هَذَآ} الملك الواسع، والعلم الكبير، والتسخير العظيم {عَطَآؤُنَا} الذي أعطيناكه؛ استجابة لدعوتك: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي} {فَامْنُنْ} على من شئت؛ مما أعطيناك من الملك الذي لا حدود له {أَوْ أَمْسِكْ} لا تعط أحداً {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي لا نسألك: لم مننت؟ ولم أمسكت؟ أو المراد: «فامنن» على من شئت من الشياطين؛ بالإطلاق «أو أمسك» دع من شئت -[557]- منهم في قيده وعبوديته. وهذا وقد تخبط كثير من المفسرين في تأويل هذه الآية؛ تخبطاً شنيعاً، وقال فيه قولاً لا يتفق وجلال القرآن فقال قائلهم: إن معنى قوله تعالى {هَذَا عَطَآؤُنَا} إشارة إلى ما أعطاه الله من القوة على الجماع، وأن «فامنن» مشتقة من المني. وهو قول بالغ غاية البذاءة والأعجب من ذلك أن ينسبوه لابن عباس - حبر الأمة، وترجمان القرآن - وعلم الله تعالى أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بريء من هذا القول وأشباهه

40

{وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى} قربى {وَحُسْنَ مَآبٍ} حسن مرجع

41

{وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ} بتعب ومشقة؛ وذلك أنه كان يوسوس إليه، ويعظم في عينيه ما نزل به من الإبتلاء بفقد صحته وفقد ماله وأهله، ويغريه على الجزع، وعدم الصبر فالتجأ إلى ربه تعالى ليكشف عنه البلاء الذي تسبب في تدخل الشيطان بينه وبين ربه {وَعَذَابٍ} قيل: النصب، والضر: في الجسد. والعذاب: في الأهل والمال. ونسبة التعب، والضر، والعذاب؛ إلى الشيطان: تأدب في حقه تعالى كقول إبراهيم عليه السلام {وَإِذَا مَرِضْتُ} ولم يقل: وإذا أمرضني. وقيل: تسبب الشيطان في تعبه وتعذيبه: بوسوسته له بأن يسأل ربه البلاء؛ ليمتحن نفسه، ويجرب صبره؛ كما قال العارف بالله: الإمام عمربن الفارض: وبما شئت في هواك اختبرني فاختياري ما كان فيه رضاكا هذا وسؤال البلاء؛ دون العافية: ذنب يجب الإقلاع عنه، والاستغفار منه فلما فطن أيوب إلى ذلك لجأ إلى ربه؛ ليكشف ما به، أو يوفقه للصبر الجميل (انظر آيتي 83 و84 من سورة الأنبياء)

42

{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} أي لقد أجيبت دعوتك؛ فاضرب برجلك الأرض. فضربها فنبعت عين ماء. فقيل له: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}

43

{لأُوْلِي الأَلْبَابِ} لذوي العقول

44

{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} حزمة صغيرة من حشيش. والضغث: ملء الكف من قضبان، أو حشيش، أو شماريخ {فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} كان أيوب عليه السلام قد آلى في مرضه أن يضرب امرأته مائة؛ لما رأى من شدة جزعها وحزنها، أو لأنها باعت ذؤابتيها برغيفين؛ فأنزل الله تعالى هذه الفتوى. هذا وإن التحايل في الأيمان لا يجوز؛ وإنما جاز في هذه الحالة؛ لأنه حلف محقاً، وهي فعلت ما فعلت محقة. وذلك لأن الشقاء والمرض: ألجآها إلى الفزع والجزع. وألجأها الجوع إلى بيع الشعر وقد دفعه إلى الحلف: مزيد ثقته بربه، وعلمه بأن الجزع منقصة للإيمان، وأن بيع الشعر - وهو جزء -[558]- من الجسم، وحلية تتحلى بها المرأة - منقصة للتوكل {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي رجاع إلى الله تعالى

45

{أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} ذوي القوة في نصرة الدين والتبصر

46

{إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ} أي جعلناهم خالصين لنا {بِخَالِصَةٍ} هي {ذِكْرَى الدَّارِ} الآخرة. أي تذكرها والعمل لها

49

{هَذَا ذِكْرٌ} لهم؛ بالثناء الجميل عليهم في الدنيا {لَحُسْنَ مَآبٍ} حسن مرجع في الآخرة

50

{جَنَّاتِ عَدْنٍ} جنات الإقامة. عدن بالمكان: أقام فيه

51

{يَدْعُونَ فِيهَا} أي يطلبون في الجنات؛ فيجابون إلى طلبهم

52

{وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أي يقصرن أبصارهن على أزواجهن {أَتْرَابٌ} جمع ترب. أي في سن واحدة؛ لا تعدو سن الجمال والشباب

54

{مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} أي ليس له انقطاع

57

{حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} الحميم: الماء البالغ نهاية الحرارة والغساق: ما يسيل من صديد أهل النار

58

{وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} أي وعذاب آخر في الشدة مثل العذاب الأول؛ وهو أصناف

59

{هَذَا فَوْجٌ} جمع {مُّقْتَحِمٌ} داخل {مَّعَكُمْ} في النار؛ وذلك أن قادة الكفار ورؤساءهم إذا دخلوا النار، ثم دخلوا بعدهم الأتباع: قال خزنة جهنم للقادة والرؤساء {هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} فتقول السادة {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ} فتقول الملائكة {إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} داخلوها معكم

60

{قَالُواْ} أي قال الأتباع للرؤساء {بَلْ أَنتُمْ} يا من أضللتمونا وأغويتمونا {لاَ مَرْحَباً بِكُمْ} لأنكم {أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} أي قدمتم لنا في الدنيا أسباب العذاب الذي نصطليه الآن؛ و

61

{قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا} العذاب؛ وسوغ أسبابه في الدنيا، وحببه إلينا {فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ} أي عذاباً مضاعفاً فيها

62

{وَقَالُواْ} جميعاً لبعضهم متسائلين {مَا لَنَا لاَ نَرَى} معنا في النار {رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأَشْرَارِ} يعنون الفقراء أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام؛ كعمار، وصهيب، وبلال، وأمثالهم

63

{أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً} أي كنا نسخر منهم في الدنيا {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَرُ} أي مالت عنهم؛ فلم نرهم في النار معنا. قال الحسن رضي الله تعالى عنه: كل ذلك قد فعلوا: اتخذوهم سخرياً، وزاغت عنهم أبصارهم في الدنيا محقرة لهم. وقيل: «أم» بمعنى بل

64

{إِنَّ ذَلِكَ} المذكور {لَحَقٌّ} واقع {تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} في النار

67

{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} أي ما أنذركم به؛ من الحساب، والثواب والعقاب: خبر عظيم القدر، جليل الخطر؛ فلا تستهينوا به، ولا تهزأوا منه

69

{مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمََلإِ الأَعْلَى} بالملائكة {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} في أمر آدم: وهو قولهم {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ} وقول إبليس {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} والإخبار بجميع ذلك لا يكون إلا بتأييد إلهي، ووحي غيبي

70

{إِن يُوحَى إِلَيَّ} ما يوحى إلي}

75

{أَسْتَكْبَرْتَ} الآن عن أمري {أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} المتكبرين أصلاً. وقيل: «العالين» هم ملائكة السماء - ولم يؤمروا بالسجود لآدم - وإنما أمر بالسجود ملائكة الأرض فحسب

77

{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا} أي من الجنة {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} مطرود

78

{إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} يوم الجزاء؛ وهو يوم القيامة فأمهلني

82

{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أقسم اللعين بعزة الله ليغوين بني آدم أجمعين

84

{قَالَ} الله تعالى {فَالْحَقُّ} مني، أو فأنا الحق {وَالْحَقَّ أَقُولُ} أي ولا أقول إلا الحق؛ وإذا قلت فلا راد لقولي، ولا مانع لإرادتي. أو «فالحق» ما تقول يا إبليس: من أن عبادي المخلصين: لا قدرة لك على إغوائهم ولا سلطان لك عليهم «والحق أقول» من إدخالك جهنم أنت ومن تبعك

85

{لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ} أي من جنسك أيها الشيطان {وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} أي من الناس الذين أقسمت على إغوائهم فاتبعوك

86

{قُلْ} يا محمد لأهل مكة {مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على التبليغ، أو على القرآن {وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أي المتصنعين، المدعين، المرائين. والتكلف أيضاً: التعسف والتشكك

88

{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ} أي صدق ما جاء به القرآن {بَعْدَ حِينِ} أي حين تقوم الساعة، ويساق المؤمنون إلى الجنة، والكافرون إلى النار، أو حين موتكم.

سورة الزمر

سورة الزمر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

2

{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينِ} أي مخلصاً في عبادته، صادقاً في محبته (انظر آية 17 من سورة البقرة)

3

{أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} الذي لا تشوبه شائبة، ولا يقصد به غير وجهه تعالى وقد ورد في الحديث الشريف أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أتصدق بالشيء، وأصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس. فقال: (والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله شيئاً شورك فيه) ثم تلا: «ألا لله الدين الخالص» {زُلْفَى} قربى {لاَّصْطَفَى} لاختار

4

{سُبْحَانَهُ} تنزه وتقدس عن صفات المخلوقين

5

{يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} التكوير: اللف، واللي. والمعنى: أنه تعالى يدخل أحدهما في الآخر؛ بنقصان الليل وزيادة النهار، ونقصان النهار وزيادة الليل. ونظيره: قوله تعالى «يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل» أو هو تشبيه لجريانهما، وأن كلاهما يكر على الآخر: فيحجبه {كُلِّ} من الشمس والقمر -[561]- {يَجْرِي} في فلكه، ويقوم بما سخره فيه ربه {لأَجَلٍ مُّسَمًّى} هو انتهاء الدنيا؛ حين تنفطر السماء، وتنتثر الكواكب، وتبدل الأرض غير الأرض

6

{خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} خلقها تعالى بيده. وهي آدم عليه السلام {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا} أي من جنسها {زَوْجَهَا} حواء {وَأَنزَلَ لَكُمْ} أي خلق لكم {مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} ذكراً وأنثى: من الإبل، والبقر، والغنم، والمعز {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ} أي نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم إلى تمام التكوين {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ} ظلمة الصلب، وظلمة الرحم، وظلمة البطن {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} فكيف تصرفون عن عبادته تعالى؛ إلى عبادة غيره؛ بعد ظهور هذه الدلائل، وثبوت هذه الحقائق؟

7

{وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وكيف يرضى تعالى بالكفر، وقد نهى عنه، وأوعد عليه. وأمر بالإيمان، وحث عليه، ورغب فيه، ووعد بجزائه؟ {} تؤمنوا {يَرْضَهُ لَكُمْ} ويثبكم عليه {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى. والمعنى: أنه لا يؤاخذ أحد بذنب الآخر {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فيحاسبكم عليه، ويجزيكم به {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما في القلوب

8

{وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ} مرض وفقر {دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} راجعاً إليه {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً} أعطاه إياها؛ كرماً وتفضلاً. والمراد بالنعمة: الصحة والغنى {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً} أمثالاً ونظراء يعبدهم

9

{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} مطيع عابد {آنَآءَ اللَّيْلِ} ساعاته {يَحْذَرُ} يخاف {الآخِرَةِ} وما فيها من أهوال وجحيم، وعذاب أليم -[562]- {وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ} نعمته وجنته {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} فيؤمنون، ويرجون رحمة ربهم، ويخشون عذابه {وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} فيكفرون، ويجعلونلله أنداداً {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ} ذوو العقول

10

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} بالإيمان والطاعة {حَسَنَةٌ} الجنة؛ جزاء لإحسانهم {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} فهاجروا إليها، وسيروا فيها؛ إذا خشيتم على دينكم، أو أوذيتم في أوطانكم {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ} على الطاعات، وعن المعاصي {أَجْرَهُمْ} جزاءهم {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي أجراً كبيراً، وجزاء عظيماً؛ لا يوزن بأعمالهم؛ بل هو عطاء ربك الملك الوهاب

11

{قُلْ} لهم يا محمد {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ} أي صادقاً في العبادة، موفياً حقها؛ من الإخلاص والمواظبة. (انظر آية 17 من سورة البقرة)

15

{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ} هم {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} بتعريضها للعقاب، وحرمانها من الثواب خسروا {أَهْلِيهِمْ} المراد بأهليهم: أزواجهم المعدة لهم في الجنة؛ من الحور العين. أو خسروا صحبة أهليهم؛ لأنهم كفروا فذهبوا إلى النار، وآمن أهلوهم فذهبوا إلى الجنة. كفرعون في النار بكفره، وآسية زوجه في الجنة بإيمانها {لَهُمُ} أي للكفار «الذين خسروا أنفسهم وأهليهم»

16

لهم {مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ} طبقات {مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} مثلها {ذَلِكَ} المذكور من شأن أهل النار من الكفار {يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} ليؤمنوا به ويتقوه

17

{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ} الأوثان، أو الشيطان، أو هو كل رأس في الضلال {وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ} آمنوا به، ورجعوا إليه {لَهُمُ الْبُشْرَى} بالجنة ونعيمها

18

{وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ} ذووا العقول

19

{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ} وجبت عليه {كَلِمَةُ الْعَذَابِ} وهي قوله تعالى {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} {أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} بدعوتك؛ وقد أعرضوا عنها، ولم يؤمنوا بها، واستوجبوا كلمة العذاب

20

{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ} فآمنوا به، واتبعوا رسوله {لَهُمْ غُرَفٌ} في الجنة {ثُمَّ يَهِيجُ} يجف ذلك الزرع {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} بعد نضارته وحسنه {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً} متكسراً

21

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإنزال للماء، وسلوكه ينابيع في الأرض، وإخراج الزرع المختلف الألوان، ثم اصفراره وتكسره «إن في ذلك» جميعه {لَذِكْرَى} تذكيراً بقدرة الله تعالى، ووحدانيته؛ وأن القادر على فعل ذلك: قادر على أن يحيي الموتى {لأُوْلِي الأَلْبَابِ} لذوي العقول

22

{أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ} بسطه {لِلإِسْلاَمِ} فاتبعه، وأقام حدوده {فَهُوَ عَلَى نُورٍ} هداية {مِّن رَّبِّهِ} أي أهذا المتبع للإسلام، المهتدي بهداية الله تعالى «كمن هو أعمى» {فَوَيْلٌ} شدة عذاب {لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} الذين لا يفقهون، ولا يرون النور؛ فويل لهم {مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} أي من ترك ذكر الله تعالى؛ فإذا ذكر أمامهم: ازداد كفرهم، وقست قلوبهم أو المراد بذكرالله: القرآن الكريم. أي فويل للقاسية قلوبهم مما قضاه عليهم القرآن الكريم؛ من عذاب أليم مقيم

23

{كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} يشبه بعضه بعضاً: في البيان، والحكمة، والإعجاز {مَّثَانِيَ} جمع مثنى؛ أي مردداً ومكرراً: لا يمل من ترديده وتكراره؛ بل كلما تكرر: ازداد حلاوة وبهاء وكل هذا واضح محسوس؛ لكل من تذوقه وعرفه أو تثنى فيه المواعظ والأحكام؛ لترسخ في ذهن القارىء والسامع {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي كلما سمعوا آيات الوعيد والعذاب: اقشعرت جلودهم. واقشعرار الجلد لا يكون إلا عند شدة الخوف، ومزيد الرعب {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} عند ذكر آيات رحمته ومنته، ومغفرته ونعمته

24

{أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ} أي يتلقى به {سُوءِ الْعَذَابِ} أشده وأقبحه وأشنعه {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ} الكافرين {ذُوقُواْ} عقوبة {مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} تعملون في الدنيا

26

{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ} القتل، والأسر، والذل، والهوان من عذاب الدنيا وأشد

27

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} تقريباً لعقولهم، وتيسيراً لأفهامهم

28

{قُرْآناً عَرَبِيّاً} بلغتهم التي يفهمونها ويتقنونها {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} أي مستقيماً، بريئاً من التناقض؛ لا لبس فيه ولا إبهام

29

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} للكافر، الذي يعبد آلهة متعددة كالأصنام، أو من يعبد المال؛ ويتقيد بجمعه وحفظه، أو من يعبد هواه {رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ} متنازعون ومختلفون وهو كناية عن تحيره في أهوائه، وتنازع قلبه بين مطالبه التي يزينها له شيطانه {وَرَجُلاً سَلَماً} أي سالماً، خالصاً من الشركة. وهو مثل للمؤمن الذي يعبد إلهاً واحداً؛ لا يطيع غيره، ولا ينقاد لسواه فلا المال يطغيه، ولا الهوى يقوده

30

{إِنَّكَ} يا محمد {مَيِّتٌ} رغم رفعة قدرك، وعلو منزلتك {وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} رغم انحطاطهم وتفاهتهم؛ فلا شماتة في الموت: فسيموت الأعلى والأدنى

31

{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} بأن تحتج عليهم بتبليغك الرسالة، ويعتذرون عن عدم قبولها بما لا طائل وراءه

32

{فَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ} بأن نسب إليه تعالى الشريك والولد {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ} القرآن -[565]- {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} مأوى لهم

33

{وَالَّذِي جَآءَ بِالصِّدْقِ} النبي: جاء بالقرآن الكريم الذي {وَصَدَّقَ بِهِ} وهم المؤمنون. صدقوا به، وبما أنزل عليه من الصدق

35

{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ} يمحو {عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُواْ} من كفرهم قبل إيمانهم، وعصيانهم قبل توبتهم

36

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} حفظاً، ورزقاً، وعوناً، وكلاءة {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} بالأصنام؛ وقد كانت قريش تقول للرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه: إنا نخاف عليك أن تخبلك آلهتنا، وعلم الله تعالى أنهم هم وآلهتهم المخبولون

37

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ} قوي، غالب لا يغلب {ذِي انتِقَامٍ} ممن يكفر به، أو يعصيه

38

{قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ} تعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ} مرض، أو فقر، أو أذى {هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} يعني: هل تستطيع هذه الأصنام أن تكشف الضر الذي أراده الله تعالى {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ} نعمة، وعافية، وغنى {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} الذين هداهم سبحانه للتوكل عليه، والإنابة إليه (انظر آية 81 من سورة النساء)

39

{قُلْ يقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ} على حالتكم التي أنتم عليها، والعداوة التي تمكنتم فيها

41

{فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ} أي فثواب هدايته عائد على نفسه

42

{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا} أي يقبضها عند انتهاء آجالها {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها. ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ} عن سعيدبن جبير رضي الله تعالى عنه: إن الله تعالى يمسك أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا {فَيُمْسِكُ} تعالى روح النفس {الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} فلا تقوم من منامها {وَيُرْسِلُ} النفس {الأُخْرَى} التي لم يقض عليها بالموت في منامها {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو انتهاء عمرها؛ المكتوب لها في عالم الأزل. والنوم: هو الموت الأصغر؛ كما أن الموت: هو النوم الأكبر. قال: «كما تنامون فكذلك تموتون، وكما توقظون فكذلك تبعثون». ومن عجب أن ترى الإنسان دائب البحث، حثيث السعي؛ وراء ما يجلب له النوم، ويدفع عنه الأرق؛ في حين أن فرائصه لترتعد جزعاً وفرقاً حين يذكر أمامه الموت والموت لا يعدو أن يكون نوماً هادئاً مريحاً؛ يمتاز بكثير عن النوم الذي يسعى إليه، وينفق الأموال في اجتلابه؛ وليس ثمة مدعاة للجزع والخوف؛ ما دام الإنسان ممتلئاً صدره إيماناً بالله، ويقيناً بوجوده، واطمئناناً لجزائه ولذا تحدى الله تعالى اليهود - حينما زعموا أنهم أولياؤه وأحباؤه - بقوله: {فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وأجاب عنهم بما في صدورهم: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ} فاحرص - يا من هديت إلى الإيمان والعرفان - على طاعة الله تعالى، واجتلاب مرضاته؛ لتنام خير منام، وتبعث خير مبعث، وتلقى خير جزاء، وأوفر نعيم (انظر آية 60 من سورة الأنعام)

45

{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أي نفرت وانقبضت {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} الأصنام التي يعبدونها؛ كاللات والعزى

46

{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ} خالق ومبدع {السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} وما فيهما، ومن فيهما {عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ما غاب، وما شوهد {أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ} يوم القيامة؛ في اليوم الموعود: الذي أنكروه وكفروا به، وآمن به المؤمنون، وعملوا له

47

{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} كفروا {مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} من مال، وعقار، وأنعام {وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} أنفسهم {مِن سُوءِ الْعَذَابِ} بؤسه وشدته وقسوته {وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ} ظهر لهم من أمره، وحقيقة وجوده، وصدق وعده ووعيده {مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} يحسبون، ويظنون. أو أنهم عملوا أعمالاً في الدنيا؛ وتوهموا أنها حسنات؛ فإذا هي سيئات. روي عن سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه - في هذه الآية - ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء؛ هذه آيتهم وقصتهم. اللهم باعد بيننا وبين الرياء في أعمالنا وعباداتنا، واجعلها خالصة لوجهك الكريم يا كريم

48

{وَبَدَا لَهُمْ} ظهر {سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} عقاب ما عملوا من الكفر والمعاصي {وَحَاقَ} نزل {بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي عقاب استهزائهم بمحمد وبكتابه

49

{فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ} مرض، أو فقر {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً} أعطيناه غنى وصحة؛ تفضلاً منا {قَالَ} لمزيد كفره، وانعدام شكره {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} مني بوجوه التجارات والمكاسب، أو على علم من الله باستحقاقي لذلك. قال تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أي بل تخويلنا إياه النعمة؛ إنما هو امتحان له واختبار؛ لنرى أيشكر أم يكفر؟

50

{قَدْ قَالَهَا} أي قال مثل هذه القالة {الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} كقارون؛ حين قال: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}

51

{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} أي عقوبة هذه السيئات التي ارتكبوها: فخسف بقارون الأرض {وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ} أشركوا، وقالوا مثل هذا القول {مِنْ هَؤُلاَءِ} الموجودين {سَيُصِيبُهُمْ} أيضاً {سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} كما أصاب {الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} بفائتين عذابنا

52

{أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ} يوسع {الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ} من عباده؛ بغير ما سبب: من علم، أو ذكاء، أو حنكة، أو دراية {وَيَقْدِرُ} يضيق على من يشاء؛ ولو كان من أعلم العلماء وأحكم الحكماء فقد يعطي الجاهل، ويمنع العالم، ويعطي الخامل، ويمنع العامل؛ فهو - جل شأنه، وتعالى سلطانه - الخالق الرازق؛ وهو وحده يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، يتصرف في ملكه كما يريد؛ لا كما يريد العبيد {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} هو الحاكم {لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الإعطاء والمنع، والبسط والتضييق {لآيَاتٍ} دالات على وجوده تعالى وقدرته، وأنه وحده المعطي المانع، الخافض الرافع، الضار النافع

53

{قُلْ يعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} بارتكاب المعاصي، واقتحام الذنوب {لاَ تَقْنَطُواْ} لا تيأسوا {مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} ومغفرته؛ فالقنوط من رحمته تعالى كفر {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} للتائب المستغفر

54

{وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبِّكُمْ} ارجعوا إلى ساحته، واطلبوا مغفرته {وَأَسْلِمُواْ لَهُ} وأخلصوا له العمل والنية {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً} فجأة؛ كما حل بآل فرعون

56

{أَن تَقُولَ نَفْسٌ} أي لئلا تقول نفس مذنبة يوم القيامة: {يحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ} على ما قصرت {فِي جَنبِ اللَّهِ} أي في حقه تعالى، وفي طاعته

57

{أَوْ تَقُولَ} نفس {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ينكرون على الله تعالى هدايته لهم؛ وقد هداهم. ألم يرسل لهم الرسل، وينزل عليهم الكتب؟ ألم يخلق لهم العقول التي تميز بين المليح والقبيح، والسقيم والصحيح؟

58

{أَوْ تَقُولَ} نفس {حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} المعد لها يوم القيامة: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} رجعة إلى الدنيا {بَلَى} جواب النفي المستكن في المعنى؛ لأن القائل حين يقول: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} فإنه ينفي هداية الله تعالى له وينكرها؛ فقيل له جواباً لنفيه للهداية:

59

«بلى» أي نعم قد بيَّن الله تعالى لك طريق الهدى؛ بحيث صار في مقدورك، وفي متناول فهمك؛ و {قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي} المحكمات البينات {فَكَذَّبْتَ} ولم تؤمن {بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ} عن اتباع سبيل المؤمنين {وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} الضالين عن الرشد والهداية

60

{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ} بنسبة الشريك والولد إليه {وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} من غضب الله تعالى ونقمته {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى} مأوى {لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} عن الإيمان

61

{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ} أي وينجي الله الذين اتقوا بسبب أعمالهم الصالحة؛ التي أدت إلى فوزهم ونجاتهم. والمفازة: المنجاة {لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} العذاب، أو الخزي {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} بالحرمان من النعيم الذي يريدونه، والخير الذي يطلبونه

62

{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} حافظ، وقائم، ومتصرف

63

{لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ملكهما؛ وذلك كقولهم: فلان تولى مقاليد الملك. والمقاليد: المفاتيح. أو هي الخزائن، أو الأبواب

64

{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي} تأمرونني؛ وبها قرأ ابن عامر

65

{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} أي ليبطلن

67

{وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عرفوه حق معرفته، وما عظموه حق تعظيمه {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي تحت قبضته وقهره، وسيطرته وسلطانه {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} أي بقدرته؛ وقيل: هو على سبيل المجاز؛ أي أن السموات على عظمها وكبرها؛ فإنها تكون بالنسبة إليه تعالى كالشيء الصغير الحقير، الذي يطوى باليمين. وهو كناية عن قدرة الله تعالى، وإحاطته بجميع مخلوقاته. كما تقول: فلان لا يخرج من يدي، ولا ينفك من قبضتي {سُبْحَانَهُ} تنزه وتقدس

68

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} وهو قرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام؛ بأمر ربه {فَصَعِقَ} مات {مَن فِي السَّمَاوَاتِ} من مخلوقات وأملاك {وَمَن فِي الأَرْضِ} من الإنس والجن، وغيرهما من المخلوقات {إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ} وهم الشهداء؛ لأنهم {أَحْيَاءٌ} بعد موتهم {عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وقيل: هم خواص الملائكة؛ كجبريل، وإسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل؛ عليهم السلام

69

{وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ} أضاءت أرض المحشر {بِنُورِ رَبِّهَا} بعدله وقضائه بين عباده {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} الصحف التي فيها أعمال بني آدم؛ فمنهم آخذ بيمينه، ومنهم آخذ بشماله {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّيْنَ} ليسألهم تعالى: {مَاذَآ أَجَبْتُمُ} {وَالشُّهَدَآءِ} فيشهدون لمن ذب عن دين الله تعالى، ودافع في سبيله

70

{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ} جزاء {مَّا عَمِلَتْ} من خير أو شر

71

{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} وعصوا الرسول -[570]- {إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} أفواجاً وجماعات {قَالُواْ بَلَى} أي نعم جاءتنا رسل ربنا {وَلَكِنْ حَقَّتْ} وجبت {كَلِمَةُ الْعَذَابِ} أي كلمة الله تعالى، المقتضية له؛ أو هي قوله تعالى {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}

72

{فَبِئْسَ مَثْوَى} مقام {الْمُتَكَبِّرِينَ} الكافرين

73

{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ} خافوا عقابه، وسعوا إلى رضوانه {إِلَى الّجَنَّةِ زُمَراً} أفواجاً وجماعات {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ} حراسها من الملائكة {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} من دنس الذنوب والمعاصي؛ فاستحققتم الجنة، أو «طبتم» نفساً؛ بما أوتيتم من خير عميم، ونعيم مقيم {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} فيها، غير خارجين منها {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}

74

{وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} بالجنة {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ} أي أرض الجنة {نَتَبَوَّأُ} نسكن {مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ} أي حيث نريد؛ فلا تثريب ولا تضييق، ولا منع ولا حجر { محيطين ومحدقين

75

{مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} يقدسونه، وينزهونه عما لا يليق به {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي بين الخلائق جميعاً. وقيل: بين الملائكة؛ فهم - وإن كانوا كلهم معصومين من الخطأ والزلل - فإن ثوابهم يكون على حسب تفاضل أعمالهم؛ فتتفاوت بذلك مراتبهم {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} افتتح تعالى الخلق بالحمد: قال عز من قائل: {الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} واختتمه أيضاً جل شأنه بالحمد: «وقيل الحمدلله رب العالمين».

سورة غافر

سورة غافر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{حم} قيل: اسم من أسمائه تعالى. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «الر» و «حم» و «ن» هي حروف الرحمن متفرقة. وقيل غير ذلك (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة البقرة)

3

{غَافِرِ الذَّنبِ} لمن أقلع عن ذنبه، واستغفر ربه {وَقَابِلِ التَّوْبِ} ممن تاب وأناب {شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن عصى ربه، واستمرأ ذنبه {ذِي الطَّوْلِ} ذي الفضل السابغ، والإنعام الواسع {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} لا معبود سواه

4

{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ} فيجزي كلاً بما عمل {فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ} أي لا تخدعك أسفارهم بالتجارات، والأموال والأولاد؛ وعودتهم سالمين غانمين؛ فتظن أنهم بمنجاة من عذابنا وانتقامنا؛ فإن مصيرهم جميعاً إلى النار

5

{وَالأَحْزَابُ} الأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم: كعاد، وثمود، ومن بعدهما {لِيَأْخُذُوهُ} ليقتلوه {لِيُدْحِضُواْ} ليبطلوا {فَأَخَذْتُهُمْ} فعاقبتهم

6

{حَقَّتْ} وجبت

7

{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} من الملائكة {وَمَنْ حَوْلَهُ} أي حول العرش؛ من الملائكة أيضاً -[572]- {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي لا عمل لهم سوى قولهم: سبحان الله وبحمده {وَيَسْتَغْفِرُونَ} يطلبون المغفرة {لِلَّذِينَ آمَنُواْ} قائلين في استغفارهم {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً} أي وسعت رحمتك كل شيء، ووسع علمك كل شيء {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ} من ذنوبهم، وأقلعوا عن كفرهم {وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ} الذي ارتضيته لعبادك؛ وهو دين الإسلام

8

{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي جنات الإقامة؛ من عدن في المكان: إذا أقام فيه {الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ} بها

9

{وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} أي عقوبتها

10

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ} لكم في الدنيا {أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} والمقت: أشد البغض. ومقتهم أنفسهم يوم القيامة: كراهة بعضهم بعضاً، قال تعالى: {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} وقال جل شأنه: {قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ} {إِذْ تُدْعَوْنَ} في الدنيا {إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} المعنى: {مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} في الدنيا حين {تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} {أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} الآن

11

{قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} في هذا دليل على الإحياء داخل القبر للسؤال، والإماتة بعده، والإحياء للبعث؛ فتصير موتتان وحياتان {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} وكفرنا الآن {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ} من النار، ورجوع إلى الدنيا {مِّن سَبِيلٍ} {فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} فيقال لهم: لا سبيل إلى الخروج ألبتة

12

{ذَلِكُمُ} العذاب الذي أنتم فيه، وعدم الاستماع إليكم، ورفض إخراجكم من النار وإعادتكم إلى الدنيا {بِأَنَّهُ} بسبب أنه {إِذَا دُعِيَ} عبد {اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ} أي يعبد سواه {تُؤْمِنُواْ} بذلك المعبود الآخر

13

{هُوَ} جل شأنه {الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} دلائل قدرته ووحدانيته {وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً} مطراً؛ لأنه سبب للرزق -[573]- {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ} يرجع إلى الله، ويقلع عن الكفر والعصيان

14

{فَادْعُواْ اللَّهَ} اعبدوه أيها المؤمنون {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي مخلصين له وحده الطاعة والعبادة من كل شائبة؛ فقد علمتم ما سيحيق بالكافرين (انظر آية 17 من سورة البقرة)

15

{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} أي عظيم الصفات، أو رافع درجات المؤمنين: في الدنيا، وفي الجنة أي ذو الملك: صاحبه، ومالكه، وخالقه {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} أي يلقى الوحي بأمره {عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} الذين اصطفاهم لرسالته {لِيُنذِرَ} بما ينزله عليهم {يَوْمَ التَّلاَقِ} يوم القيامة؛ ففيه يلتقي الأولون والآخرون، وأهل السموات وأهل الأرضين

16

{يَوْمَ هُم بَارِزُونَ} ظاهرون؛ لا بظواهرهم وأشكالهم فحسب، بل بأعمالهم وخوافيهم {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} يقول ذلك الملك الجليل؛ ويجيب نفسه بقوله {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أو تقول ذلك الملائكة، وتجيب عليه سائر الخلائق إنسهم وجنهم، مؤمنهم وكافرهم

17

{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} بما عملت

18

{وَأَنذِرْهُمْ} يا محمد {يَوْمَ الأَزِفَةِ} يوم القيامة؛ وسميت آزفة: لقربها {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} أي إنهم - من شدة فزعهم ورعبهم - تصعد قلوبهم إلى حناجرهم {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} أي صديق مخلص؛ يدفع عنهم العذاب

19

{يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأَعْيُنِ} أي استراق النظر إلى ما لا يحل {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} أي ما تكنه من خير وشر؛ أو يعلم استراق النظر إلى الأجنبية، وما تخفي الصدور من التفكر في جمالها، والرغبة في نيلها؛ في حين لا يعلم بنظرته وفكرته من بحضرته؛ والله يعلم بذلك كله

20

{وَاللَّهُ يَقْضِي} في الدنيا والآخرة {بِالْحَقِّ} الكامل المطلق {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ} أي يعبدونهم {مِن دُونِهِ} غيره {لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} أصلاً؛ لأنها جمادات لا تستطيع القضاء بالحق ولا بالباطل؛ فكيف تعبد من دون الله وهذا حالها؟

21

{كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ} فقد كانت لهم المصانع، والقصور، والحصون وغير ذلك. وها هي أهرامهم، ومعابدهم، ودورهم، وقبورهم، ونصبهم، وتماثيلهم؛ كل ذلك يشهد بآثارهم التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم، والتي لم تصل أخبارها إلى نبيه الصادق عليه الصلاة والسلام؛ فكانت إحدى معجزاته البينات

22

{فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} أهلكهم {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ} أي من بطشه وعذابه {مِن وَاقٍ} حافظ يقيهم بأسه وعذابه

23

{وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} برهان ظاهر؛ يتسلط على الأبصار، والأسماع، والأذهان؛ وهي المعجزات الظاهرات

25

{فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا} أي بالكتاب الحق؛ وهو التوراة. أو بتوحيد الله تعالى، والأمر بطاعته {وَاسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ} استبقوهن للخدمة أو افعلوا بهن ما يخل بالحياء {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} خسران وهلاك

26

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} لقومه {ذَرُونِي} دعوني واتركوني {أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} حينئذٍ لينصره مني، ويمنعه من القتل إن كان صادقاً.

27

{وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ} التجأت واعتصمت

28

{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} قيل: ابن عمه {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} عن فرعون وشيعته؛ خشية أن يقتلوه {وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الآيات الواضحات، والمعجزات الظاهرات {وَإِن يَكُ كَاذِباً} فيما يقول -[575]- {فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} أي عليه وحده إثم كذبه؛ لا عليكم {وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} من العذاب {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} الإسراف: تجاوز الحد في كل شيء

29

{ظَاهِرِينَ} عالين {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ} عذابه وبطشه {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} لقومه {مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى} أي ما أشير عليكم إلا بما ارتضيته لنفسي

30

{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} أي مثل اليوم الذي أنزل فيه الله تعالى العذاب على الأقوام الذين تحزبوا على أنبيائهم

31

{مِثْلَ دَأْبِ} مثل عادة {قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ} ممن كذبوا أنبياءهم؛ فعذبهم الله تعالى عذاباً شديداً في الدنيا، وأخذهم بكفرهم وتكذيبهم

32

{وَيقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} يوم القيامة. وسمي بذلك لأنه ينادي فيه على الخلائق: «واستمع يوم ينادي المناد من مكان قريب ... ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ... ونادى أصحاب الأعراف رجالاً ... ونادوا أصحاب الجنة ... ونادوا يا مالك» {مَا لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} يعصمكم من عذابه

34

{وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} بالحجج القاطعة الظاهرة؛ كقوله عليه السلام: {مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ} {حَتَّى إِذَا هَلَكَ} مات {كَذَلِكَ} أي مثل الإضلال الذي وقع على الكافرين بالأنبياء، وما أنزل عليهم من آيات بينات {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} في الكفر والعصيان {مُّرْتَابٌ} شاك فيما جاءه من المعجزات. فالكفر، والارتياب: سابقان للإضلال؛ وإضلال الله تعالى لا يكون إلا نتيجة للإصرار على الكفر، والتمسك بالتكذيب، وطرح تفهم الآيات، والنظر في الدلالات جانباً؛ و {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}.

35

{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} حجة أو برهان {كَبُرَ مَقْتاً} عظم بغضاً {كَذَلِكَ} أي مثل ذلك الإضلال الواقع على من كفر وفجر {يَطْبَعُ اللَّهُ} يختم ويغطي {عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} فالتكبر والتجبر: سابقان على طبع الله وختمه {عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وقد أراد الله تعالى أن يرينا مثالاً للمتكبرين المتجبرين، المسرفين المرتابين الكاذبين؛ المستحقين للإضلال والإذلال، والتغطية والتعمية؛ وهل بعد تكبر فرعون من تكبر؟ وهل بعد إسرافه في الكفر من إسراف؟

36

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} لوزيره {يهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً} قصراً عالياً

37

{أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} أي أبوابها، أو طرقها، أو ما يؤدي إليها. ولعل اللعين قد طلب من وزيره ما يفعله الآن بعد الملاعين؛ من عمل صواريخ يزعمون الوصول بها إلى الكواكب والسموات؛ وهيهات هيهات لما يتوهمون (انظر آية 61 من سورة الفرقان) {فَأَطَّلِعَ} انظر {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ} أي أظن موسى {كَاذِباً} فيما يزعمه: من أن له إلهاً واحداً {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} عقوبة له على تماديه في الكفر، وطرحه ما ظهر له من الآيات والمعجزات وراء ظهره {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} منع عن الإيمان؛ لأنه منع عقله عن التدبر، وقلبه عن التبصر؛ وحارب ربه، وقاتل رسوله، وقتل مخلوقاته، وادعى الربوبية، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} فحق عليه غضب الله تعالى: فأصمه عن الاستماع، وصده عن سبيل الإيمان؛ عقوبة له على غيه وبغيه {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ} خسار، وهلاك

39

{إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} أي تمتع لا يلبث أن يزول {وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} دار البقاء والاستقرار

40

{يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} رزقاً واسعاً؛ لا حد له، ولا انتهاء

41

{وَيقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} أي إلى الإيمان؛ وهو الطريق الموصل إلى النجاة من النيران {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} أي إلى الكفر الموصل إلى الجحيم، والعذاب الأليم

42

{وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى} عبادة {الْعَزِيزُ} القادر المقتدر، الخالق الرازق {الْغَفَّارِ} الذي يغفر الذنوب جميعاً، ويعفو عن السيئات

43

{لاَ جَرَمَ} حقاً، لا محالة {أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} لأعبده {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ} أي لا يستطيع استجابة دعوة {فِي الدُّنْيَا} بأن يحفظ، أو يكلأ، أو يرزق، أو يشفي {وَلاَ فِي الآخِرَةِ} بأن يشقي، أو ينعم، أو يغفر، أو يرحم {وَأَنَّ مَرَدَّنَآ} مرجعنا جميعاً {إِلَى اللَّهِ} فيجزينا على إيماننا خير الجزاء، ويعاقبكم على كفركم أشد العقاب {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ} المتجاوزين الحد بكفرهم

44

{فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ} حين ترون العذاب بأعينكم، وتحسونه بجسومكم؛ حيث لا ينفع الندم، ولا يجدي الاستغفار

45

{فَوقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ} وقاه تدبيرهم لقتله، ومكرهم لإيذائه {وَحَاقَ} نزل {بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} أشده وأقبحه؛ وهو

46

{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} صبحاً ومساءاً. والمراد به استمرار العذاب؛ وذلك في الدنيا: يعذبون في قبورهم؛ وهو دليل على عذاب القبر؛ وهو واقع لا محالة بأهل الكفر والضلال؛ وقد استعاذ منه سيد الخلق صلوات الله تعالى وسلامه عليه {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} يقول العزيز الجبار لملائكته {أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ} هو ومن تبعه {أَشَدَّ الْعَذَابِ} في جهنم وبئس المهاد

47

{وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ} يتخاصمون {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ} الأتباع {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ} لرؤسائهم {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ} دافعون {عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ} جانباً منها

48

{إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه

50

{بِالْبَيِّنَاتِ} بالمعجزات الظاهرات، والآيات الواضحات {قَالُواْ بَلَى} نعم جاءتنا رسلنا {قَالُواْ} أي قال خزنة جهنم للكافرين {فَادْعُواْ} ربكم ما شئتم أن تدعوه؛ فلن يستجيب لكم -[578]- {وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} خسار وضياع

51

{وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} الشهداء؛ وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ وذلك يوم القيامة {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} المعجزات التي تهدي من رآها، والتوراة التي تهدي من قرأها

53

{وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} التوراة

54

{هُدًى} ليهتدوا بما فيها {وَذِكْرَى} تذكرة {لأُوْلِي الأَلْبَابِ} ذوي العقول

55

{فَاصْبِرْ} يا محمد على أذاهم {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بنصر أوليائه، وكبت أعدائه {حَقٌّ} واقع لا مرية فيه {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} ليكون استغفارك سنة لأمتك {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي داوم على التسبيح. وأفضل التسبيح: «سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» وقيل: المراد بالتسبيح: الصلاة؛ لأنها مشتملة عليه {بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} في المساء والصباح

56

{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} قرآنه بغير حجة، ولا برهان؛ على صدق مجادلتهم ومحاجتهم {إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ} أي ما في صدورهم إلا تكبر عليك، وطمع أن تعلو مرتبتهم على مرتبتك {مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} أي ما هم ببالغي أثر هذا الكبر؛ وهو الارتفاع والاستعلاء عليك؛ بل هم في أسفل سافلين، في الدنيا ويوم الدين {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} الجأ إليه من مكرهم وأذاهم {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لقولك وأقوالهم {الْبَصِيرُ} بحالك وحالهم

57

{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ} وما فيها من الكواكب والمخلوقات {وَالأَرْضِ} وما فيها وما عليها {أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} وإعادتهم للحساب والجزاء يوم القيامة

58

{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيءُ} أي كما أنه لا يستوي الأعمى والبصير: فإنه لا يستوي المؤمن والكافر، والطائع والعاصي

59

{إِنَّ السَّاعَةَ} القيامة {لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا} أي لا شك في إتيانها

60

{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أي سلوني أعطكم. وقيل: «ادعوني» أي اعبدوني «أستجب لكم» أجب ما تطلبونه من حوائج الدنيا والآخرة ولو أن الداعي حين يدعو ربه - القادر القاهر - يكون واثقاً بما عنده؛ وثوقه بما عند نفسه؛ لما أبطأت إجابته، ولسعت إليه حاجته، ولكان طلبه رهن إشارته، ووفق رغبته فانظر - هداك الله تعالى ورعاك - إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام: يضع أهله وذريته في مهمه قفر؛ حيث لا كلأ ولا ماء، ولا إنس ولا أنيس؛ فيدعو ربه: واثقاً بما عنده: «ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع ... فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات» فهوت إليهم أفئدة كثير من الناس من سائر الأقطار؛ وحملت المطعومات والثمار؛ من كل صوب وحدب؛ فطعموها قبل أن يطعمها زارعوها وحاملوها أليس هذا من صنع واسع العطاء، مجيب الدعاء؟ (انظر آية 186 من سورة البقرة) {دَاخِرِينَ} أذلاء صاغرين

61

{لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} ترتاحوا وتناموا {وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} تبصرون فيه ما تريدون، وتعملون فيه ما ترغبون {ذَلِكُمُ} الخالق للسموات والأرضين، المالك ليوم الدين، المستجيب للداعين، الجاعل الليل سكناً وراحة للنائمين، والنهار مبصراً للمشتغلين والعاملين «ذلكم» هو {اللَّهِ} رب العالمين {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} مبدع الكائنات وما فيها ومن فيها، وخالق كل ما أحاط به علمكم، وما لم يحط به، وما خطر في أذهانكم، وما لم يخطر لكم على بال {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} وحده؛ واجب الوجود، والعبودية {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فكيف تصرفون عن معرفته؛ وقد ظهرت لكم الحجج على وحدانيته؟ وعن عبادته؛ وقد بانت لكم الدلالات على قدرته؟ {كَذَلِكَ} أي كما صرفتم عن الحق الواضح، وعن معرفته تعالى؛ مع قيام الأدلة والبراهين على ألوهيته {يُؤْفَكُ} يصرف {الَّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ} كتبه، ودلائل ربوبيته {يَجْحَدُونَ} يجحدون بها، ولا يلتفتون إليها، ولا يتدبرونها

64

{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً} مستقراً لكم؛ حال حياتكم، وبعد مماتكم {وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} سقفاً ثابتاً؛ لا يزول، ولا يحول {ذَلِكُمُ} الذي جعل الأرض قراراً لكم، والسماء بناء فوقكم {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} ورزقكم ما عمله بيديه، ولم تعمله أيديكم، وأسبغ عليكم نعمه بفضله لا بسعيكم «ذلكم»

{هُوَ الْحَيُّ} الباقي على الدوام، السامع لدعائكم، المجيب لندائكم {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ولا معبود سواه {فَادْعُوهُ} اعبدوه {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} صادقين في عبادته، ولا تشركون في طاعته ومحبته ومن الشرك الخفي: أن تفضل -[580]- دنياك على دينك، وأن تحب مالك أكثر من مآلك {الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أن وهبك الإيمان، وهداك بالقرآن، ووفقك إلى الإحسان ووقاك كيد الشيطان

67

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ} أي خلق أباكم آدم منه {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} مني {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} هي واحدة الحيوانات الصغيرة التي ثبت وجودها بالمني. وقيل: العلقة: قطعة دم غليظ {ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ} تكامل قوتكم. وهو من ثلاثين إلى أربعين سنة. (انظر آية 21 من الذاريات) {وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى} يستوفي أجله فيموت {مِن قَبْلُ} أي قبل بلوغ الأشد والشيخوخة {وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى} وقتاً محدوداً: هو انتهاء آجالكم {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} دلائل التوحيد التي بسطناها لكم، وهيأنا أذهانكم لقبولها

68

{فَإِذَا قَضَى أَمْراً} أي أراد فعله وإيجاده {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ} هو تقريب لأفهامنا؛ والواقع أنه تعالى إذا أراد شيئاً: كان بغير افتقار للفظ «كن»

69

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} القرآن {أَنَّى يُصْرَفُونَ} كيف يصرفون عنها؛ مع وضوحها وإعجازها

72

{ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} أي تملأ بهم النار؛ وهو من سجر التنور: إذا ملأه بالوقود {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} أو {يُسْجَرُونَ} يوقدون بها

74

{قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} غابوا عن عيوننا {بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ} نعبد {كَذَلِكَ} أي مثل إضلال هؤلاء المكذبين {يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} المعاندين لله، المكذبين لرسله، المنكرين لكتبه

75

{ذَلِكُمُ} العذاب الذي تعذبونه في الآخرة {بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} باللهو والعصيان؛ وذلك لأن السارق يفرح بسرقته، والزاني يفرح بزناه، والباغي يفرح ببغيه، والظالم يفرح بظلمه. أما الفرح بالطاعات، وبما أحلهالله: فهو من عموم المباحات؛ التي يثاب عليها {وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} المرح: التوسع في السرور والفرح. ويطلق أيضاً على البطر

76

{مَثْوَى} مقام

77

{فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} فإن نرينك بعض ما نعدهم به من العذاب {فَإِلَيْنَا} بعد موتهم {يُرْجَعُونَ} فنعاقبهم بما عملوا، ونأخذهم بما ظلموا

78

{مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ} نبأهم في هذا القرآن {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ} ما حق، وما جاز لأي رسول ممن أرسلنا من رسلنا {أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ} معجزة من عند نفسه {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ} يوم القيامة {بِالْحَقِّ} المطلق؛ الذي لا تشوبه شائبة {وَخَسِرَ هُنَالِكَ} في الآخرة {الْمُبْطِلُونَ} الكافرون

79

{الأَنْعَامَ} الإبل

80

{وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} في نسلها، ووبرها، وشعرها، وألبانها {وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} هي الأسفار وحمل الأثقال {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ} أي على الأنعام في البر، وعلى السفن في البحر {تُحْمَلُونَ} فيا لها من نعمة لا يحيط بها وصف، ولا يوفيها شكر: ذلل لنا ما نركب في البر والبحر، وسخر لنا الحيوان والجماد. اللهم أعنا على القيام بواجب شكرك، ولا تجعل هذه النعم استدراجاً لنا، وامتحاناً لإيماننا؛ بفضلك ومنِّك يا أرحم الراحمين

81

{وَيُرِيكُمْ} الله {آيَاتِهِ} الدالة على وحدانيته، الموصلة إلى جنته

82

{فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الكفار؛ الذين انتقمنا منهم وأهلكناهم، وقطعنا دابرهم؛ وقد {كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ} عدداً {وَأَشَدَّ قُوَّةً} وعدة {وَآثَاراً فِي الأَرْضِ} مما بنوه من قصور، وآثار، وقبور، وكنوز {فَمَآ أَغْنَى} أي لم يغن {عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يعملون في الدنيا

83

{فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} بالمعجزات الظاهرات، والحجج الواضحات {فَرِحُواْ} أي فرح الكفار {بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ} الدنيوي {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقيل: فرح الرسل بما علموه من ربهم: من نصرتهم وخذل الكافرين {وَحَاقَ} نزل {بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي حل بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به، وينكرون وقوعه

84

{فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} شاهدوا عذابنا الموعود {قَالُواْ آمَنَّا} حيث لا ينفع الإيمان وقتئذٍ

85

{فَلَمْ يَكُ} طريقته وعادته {الَّتِي قَدْ خَلَتْ} مضت {فِي عِبَادِهِ} السابقين {وَخَسِرَ هُنَالِكَ} وقت نزول العذاب {الْكَافِرُونَ} خسروا حياتهم الدنيا بالموت، وحياتهم الأخرى بالجحيم

سورة فصلت

سورة فصلت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{حم} (انظر آية 1 من سورة البقرة) {تَنزِيلٌ} أي هذا القرآن

2

«تنزيل» {مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} بعباده: أرسل لهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وأحاطهم بكل ما ينجيهم، وهيأ لهم أسباب الإيمان واليقين

3

{كِتَابٌ} هو القرآن {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} بينت؛ بما احتوته من أحكام، وأوامر، ونواه

4

{بَشِيراً} لمن اتبعه بالجنة {وَنَذِيراً} لمن خالفه بالنار {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} عن سماع هذا الكتاب وتدبره {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} سماع تدبر

5

{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} أغطية -[583]- {وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ} صمم {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} حائل ومانع؛ يحول دون اتباعك، وإيماننا بما جئت به. ولم يكن ثمة مانع سوى عنادهم واستكبارهم {فَاعْمَلْ} على دينك {إِنَّنَا عَامِلُونَ} على ديننا {فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ} بالإيمان والطاعة عما فرط منكم؛ ليصلح دنياكم وآخرتكم

6

{وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ *

7

الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} عبر تعالى عمن لا يؤتي الزكاة بالمشركين، وأنه من الكافرين بيوم الدين. لأنه لو آمن بالجزاء؛ لما بخل بالعطاء؛ فتدبر هذا أيها المؤمن (انظر آيتي 254 من سورة البقرة، وصلى الله عليه وسلّم4صلى الله عليه وسلّم من سورة الأنعام)

8

{غَيْرُ مَمْنُونٍ} غير مقطوع

9

{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} خلقها تعالى في يومين؛ ولو شاء لخلقها في أقل من لمحة؛ وذلك ليعلم خلقه التدبر والأناة {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً} شركاء، ونظراء. والند: المثل

10

{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} جبالاً شامخات {وَبَارَكَ فِيهَا} بالماء، والزرع، والضرع، والشجر، والثمر {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} أرزاق أهلها، ومعايشهم، وما يصلحهم

11

{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} قصد ووجه إرادته وقدرته إليها {وَهِيَ دُخَانٌ} بخار مرتفع كالسحاب؛ والمراد أنها لم تكن شيئاً مذكوراً {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} هو على سبيل المجاز؛ ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان، وامتثالهما ذلك الأمر: أنه تعالى أراد أن يكونهما؛ فلم يمتنعا عليه، ولم يعسر عليه خلقتهما؛ وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع؛ إذا أمره الآمر المطاع

12

{فَقَضَاهُنَّ} خلقهن {وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا} السماء الأولى {بِمَصَابِيحَ} كواكب {وَحِفْظاً} أي والكواكب فضلاً عن كونها زينة للسماء؛ فهي أيضاً معدة لحفظها من الشياطين التي تسترق السمع {ذَلِكَ} الخلق، والتزيين، والحفظ {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} القادر في ملكه، القاهر في خلقه، الغالب الذي لا يغلب -[584]- {الْعَلِيمِ} بخلقه

13

{فَإِنْ أَعْرَضُواْ} عن الإيمان؛ بعد ظهور بواعث الإيقان {فَقُلْ} لهم {أَنذَرْتُكُمْ} أي أنذركم وأحذركم {صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} أي عذاباً يهلككم؛ مثل العذاب الذي أهلك عاداً وثمود. والصاعقة: نار تنزل من السماء. وعاد: قوم هود. وثمود: قوم صالح

14

{إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ} فأنذرتهم بالعذاب، وحذرتهم من الكفر؛ كما جئتكم وأنذرتكم {جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ} {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} هو كناية عن كثرة الرسل، وإحاطتهم بهم من كل مكان. أو المراد: تتابع الرسل عليهم؛ متقدمين عنهم ومتأخرين. فكذبوهم، وكفروا بهم

16

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} عاصفة، تصرصر في هبوبها؛ أي تصوت، وهو من الصرير {فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} مشئومات؛ لوقوع العذاب فيها. أما سائر الأيام: فلا شؤم فيها؛ إنما يتولد الشؤم من المعاصي، وإتيان ما يغضب الله تعالى، ويستوجب عقابه. (انظر آية 13صلى الله عليه وسلّم من سورة الأعراف) {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى} أشد، وأفدح، وأفضح {وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} لا يستطيع أحد أن يمنع وقوعه بهم

17

{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} أي فمهدنا لهم سبل الهداية: بأن جعلنا لهم عقولاً بها يفقهون، وآذاناً بها يسمعون، وأعيناً بها يبصرون؛ وأعددناهم بذلك للرؤية، والاستماع والتفهم؛ ثم أرسلنا لهم الرسل، وأبنا لهم طرق الرشد، وحذرناهم من الوقوع في شرك الشيطان، والسقوط في مهاوي الضلال {فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} أي فاختاروا - برغبتهم وميلهم - الكفر على الإيمان {الْعَذَابِ الْهُونِ} المهين {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بما كانوا يعملون من المعاصي

19

{فَهُمْ يُوزَعُونَ} يساقون بكثرة إلى النار؛ بحيث يحبس أولهم على آخرهم

20

{حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا} أي جاءوا القيامة، أو جاءوا الجحيم {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم} يشهد «سمعهم» بما سمع من الغيبة «وأبصارهم» بما رأت من الحرام «وجلودهم» بما ارتكبت من زنا؛ لأن المراد بالجلود: الفروج. والتعبير عن الفروج بالجلود: من الكنايات الدقيقة؛ وإلا فأي ذنب تأتيه الجلود الحقيقية؛ إذا فسرناها على ظاهرها؟

22

{وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ} تستخفون من أنفسكم؛ خشية {أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ} وكيف يستخفي الإنسان بذنبه من أعضائه وهي ملتصقة به؟ أو كيف يستخفي بجريمته من جوارحه وهي أداتها، والسبيل إليها؟ ولكنه لما كان هو المسيطر عليها، الدافع لها، المدبر لارتكابها: كان الإثم محيطاً به، والعقاب واقعاً عليه. ولا أدري كيف يعصي الله تعالى عاصيه، أو كيف يجحده جاحده؛ وهو مطلع عليه، وناظر إليه، وجوارحه يوم القيامة شاهدة عليه؟ وما أحسن قول القائل: هل يستطيع جحود ذنب واحد رجل جوارحه عليه شهود؟

23

{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ} من أنه لا يراكم، وأنه {لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ} {أَرْدَاكُمْ} أهلككم، وأوقعكم في النار {فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الُخَاسِرِينَ} وقد كان في استطاعتكم أن تكونوا ضمن الفائزين

24

{وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} أي وإن يطلبوا الرضا: فما هم من المرضيين. وذلك لأن العتاب من علائم الرضا، والعتاب: مخاطبة الإدلال. كما أن التوبيخ: مخاطبة الإذلال

25

{وَقَيَّضْنَا} سخرنا وسلطنا {قُرَنَآءَ} أخداناً من الشياطين {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} وجب عليهم العذاب {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ} قد مضت

26

{وَالْغَوْاْ فِيهِ} أي شوشوا عليه بكلام ساقط؛ لا معنى له، ولا طائل وراءه -[586]- {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} المؤمنين؛ بهذا اللغو والتشويش

29

{وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} هما شيطانا الجن والإنس؛ فإن شيطان الجن يوسوس إلى بعض الناس بالمعصية، ويوسوس إلى بعضهم بالإغراء عليها، والإيقاع فيها، وكثيراً ما يفوق شيطان الإنس شيطان الجن؛ وهذا ظاهر: فإن من شياطين الإنس من يفوق بوسوسته وإغرائه شياطين الجن؛ أعاذنا الله تعالى منهما بمنه، وحمانا من كيدهما بفضله (انظر آية 112 من سورة الأنعام)

30

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ} عملوا الصالحات وأقاموا على التوحيد {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ} تنزل عليهم عند الموت؛ قائلين لهم {أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ} ولذلك يرى الميت الصالح ضاحكاً عند موته مستبشراً وقيل: هذه البشرى في مواطن ثلاثة: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث

31

{نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ} نصراؤكم. وهو قول المولى عز وجل. أو من قول الملائكة التي تتنزل عليهم بأمر ربهم {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} ما تطلبون، وما تتمنون

32

{نُزُلاً} النزل: ما يعد للضيف من إكرام

33

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ} إلى طاعته وعبادته؛ وهو الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه

34

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي إذا أساء إليك مسيء فأحسن إليه. أو «ادفع بالتي هي أحسن»: بالصبر عند الشدة، والكظم عند الغضب، والعفو عند القدرة -[587]- {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أي بسبب إحسانك لمن أساء إليك: يصير الذي بينك وبينه عداوة؛ كالصاحب المحب المخلص

35

{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي وما يلقى، ويوفق إلى هذه الخصلة الحميدة - التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان، والدفع بالتي هي أحسن - إلا أهل الصبر، الذين لهم عند ربهم حظ عظيم؛ إذ فازوا بجنته، وحظوا بمعيته «إن الله مع الصابرين ... وبشر الصابرين ... والله يحب الصابرين ... ولئن صبرتم لهو خير للصابرين»

36

{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} النزغ: الإغراء. أي فإن أغراك الشيطان على ما لا ينبغي؛ من عدم الدفع بالتي هي أحسن، ومقابلة الإساءة بأسوأ منها {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} الجأ إليه، واطلب منه تعالى إنجاءك من كيده وشره فرب شرارة أذكت ناراً، وكلمة أشعلت حرباً؛ وكم رأينا من مجازر بشرية؛ ضاع فيها كثير من الأنفس البريئة؛ بسبب كلمة بسيطة؛ كان علاجها شيء من الحلم، وقليل من الكظم. وذلك من عمل الشيطان الغوي المضل {

37

وَمِنْ آيَاتِهِ} تعالى؛ الدالة على قدرته ووحدانيته {اللَّيْلُ} وقد جعله لباساً؛ لتسكنوا فيه {وَالنَّهَارُ} مبصراً؛ لتبتغوا من فضله {وَالشَّمْسُ} وقد جعلها ضياء {وَالْقَمَرُ} نوراً. خلق الله تعالى كل ذلك لكم؛ ليدل به على وجوده، وَجُوده؛ فاتخذتم منها آلهة تعبدونها {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ} فإنهما مخلوقان أمثالكم {وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ} المعبود؛ واجب الوجود {الَّذِي} خلقكم، و {خَلَقَهُنَّ} فكيف تعبدون المخلوق، وتذرون أحسن الخالقين؟

38

{فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ} عن عبادة الرحمن، وأصروا على اتباع الشيطان {فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} من الملائكة عليهم السلام؛ يعبدونه حق عبادته، و {يُسَبِّحُونَ لَهُ} ينزهونه ويقدسونه {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ} لا يملون من عبادته تعالى، وتنزيهه وتقديسه {يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ}

39

{وَمِنْ آيَاتِهِ} دلائل قدرته وعظمته وسلطانه {أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} يابسة؛ لا نبات فيها {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} تحركت بالنبات وانتفخت {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا} بالإنبات؛ بعد موتها بالجدب {لَمُحْىِ الْمَوْتَى} يوم القيامة للحساب والجزاء

40

{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} أي يغيرون في معانيها، ويميلون بها عن الحق الذي نزلت به. أو «يلحدون في آياتنا» دلائل قدرتنا؛ التي قدمناها وسقناها؛ من إنزال الماء، وإحياء الأرض. بأن يقولوا: إن نزول الماء، بواسطة الأنواء، وطلوع النبات بطبيعة الأشياء {أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ} بسبب كفره وعصيانه، وإلحاده في آيات الله تعالى {خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً} من العذاب؛ بسبب إيمانه، وصالح عمله {اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ} هو غاية الإنذار والتهديد

41

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ} القرآن {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} منيع، جليل؛ لا يعتريه لغو، أو تناقض

43

{مَّا يُقَالُ لَكَ} يا محمد؛ من الطعن، والسب، والتكذيب {إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ} مثله {لِلرُّسُلِ} الذين أرسلناهم {مِن قَبْلِكَ} كنوح، ولوط، وإبراهيم؛ عليهم السلام {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ} لمن تاب وآمن {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} لمن كفر وفجر

44

{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً} الأعجمية: هي كل لغة تخالف اللغة العربية {لَّقَالُواْ} محتجين على ذلك {لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} هلا بينت بالعربية حتى نفهمها {ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} أي أقرآن أعجمي، يرسل إلى عربي؟ {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى} يهديهم إلى طريق البر والخير، ويوصلهم إلى الرحمة، والنعمة، والمغفرة، والنعيم المقيم {وَشِفَآءٌ} لما في الصدور وأقسم بكل يمين غموس: أن القرآن الكريم كم أذهب أسقاماً، وأزال آلاماً، وشفى صدوراً، وأبرأ جسوماً وليس بمنقص من قدره، ولا بغاض من فضله: أن يتخذه أناس أداة للتكسب والاحتيال. وقد ورد أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يرقون اللديغ بأم الكتاب فيبرأ لوقته، ويقوم لساعته. وقد أقر الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك. فأنعم به من هدى، وأكرم به من شفاء وهو فضلاً عن شفائه الأسقام والأوجاع؛ فإنه يشفي كل من آمن به؛ من الشك والريب {وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} هو {فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} صمم {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} يطمس قلوبهم، ويعمي أبصارهم وبصائرهم {أُوْلَئِكَ} الذين لم يؤمنوا بالقرآن؛ وأصموا أسماعهم عن تلقيه، وأعينهم عن رؤية ما فيه، وقلوبهم عن تفهم معانيه {يُنَادَوْنَ} يوم القيامة {مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} ينادون بأسوإ الصفات، وأقبح السمات: فضيحة لهم، وإزراء بهم، وتقبيحاً لأفعالهم. أو هو تشبيه لعدم استماعهم للنصح في الدنيا؛ كمن ينادي من مكان بعيد؛ فلا يسمع النداء

45

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} كما اختلف في القرآن {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} بتأخير الجزاء والعقاب إلى يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} في الدنيا {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} أي في شك من القرآن {مُرِيبٍ} موقع في الريبة

47

{إِلَيْهِ} تعالى وحده {يُرَدُّ} يرجع؛ لا إلى أحد من خلقه {عِلْمُ السَّاعَةِ} معرفة القيامة، ومتى تقوم؟ {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا} أوعيتها؛ قبل أن تنشق عن الثمرة -[589]- {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} أي ينادي المشركين؛ قائلاً لهم {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} الذين أشركتموهم معي في العبادة {قَالُواْ آذَنَّاكَ} أي أعلمناك {مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} أي ما منا من أحد يشهد، أو يقول: إن لك شريكاً؛ بعد أن عاينا ما عاينا. أو ما منا من أحد يشاهدهم الآن ويراهم؛ حيث إنهم ضلوا عنهم

48

{وَضَلَّ عَنْهُم} غاب {مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ} يعبدون من الأصنام {وَظَنُّواْ} تيقنوا أنهم {مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} مهرب من العذاب

49

{لاَّ يَسْأَمُ الإِنْسَانُ} لا يمل {مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ} من طلب المال والعافية {وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ} الفقر، أو المرض {فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} من رحمة الله تعالى واليأس والقنوط: كفر

50

{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} أي لئن أذقناه عافية من بعد سقم، أو غنى من بعد فقر؛ ليقولن: هذا لي. أي هذا من حقي؛ استوجبته بتقواي وصلاحي، أو بقوتي واجتهادي. وهو في عداد المتكبرين، وفي مقدمة المرائين {وَمَآ أَظُنُّ} أن {السَّاعَةَ قَآئِمَةً} كما يزعم محمد {وَلَئِنْ} قامت كما يقول، و {رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّي} يوم القيامة {إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى} للجنة؛ وهي الجزاء الحسن. وذلك لأن الكافر والمرائي يريان أنهما أولى الناس في الحياة الدنيا بالنعمة، وأحقهم بالعافية، وأنهما أجدر الناس في الآخرة بالثواب والنعيم

51

{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ} بسعة وغنى {أَعْرَضَ} عن الشكر والعبادة {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا} تباعد عن فعل الخير {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} الفقر، أو المرض {فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} أي دعاء كثير

52

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ} هذا القرآن {مِنْ عِندِ اللَّهِ} كما يقول محمد {ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} كحالكم الآن {مَنْ أَضَلُّ} أي لا أحد أضل {مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ} خلاف في شأن القرآن وصحته {بَعِيدٍ} عن الحق والإيمان

53

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا} دلائل وحدانيتنا وقدرتنا {فِي الآفَاقِ} أقطار السموات؛ وما فيها من كواكب وبروج، وأنجم وأفلاك. وأقطار الأرض: وما فيها من جبال وبحار، ونبات وأشجار، ومعادن وجواهر، وغير ذلك سنريهم أيضاً آياتنا {فِي أَنْفُسِهِمْ} من بديع الصنعة، ومزيد الحكمة؛ وكيف أنشأناهم من ماء مهين؛ فكانوا بشراً وصهراً أو {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ} بفتح البلاد للمسلمين «وفي أنفسهم» بفتح مكة. أو آيات الآفاق: خراب ديار الأمم السابقة المكذبة، وآيات النفس: الأمراض والبلايا {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} أي القرآن، أو الإسلام، أو أن محمداً هو الرسول الحق {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} أي أولم يكفهم للإيمان بربهم: ما ساقه من أدلة وجوده وتوحيده؟ -[590]- و {أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} مشاهد وعالم، ومجاز عليه

54

{أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ} في شك {مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ} وثوابه وعقابه؛ يوم القيامة {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ} قدرة وعلماً.

سورة الشورى

سورة الشورى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{حم *

2

عسق} (انظر آية 1 من سورة البقرة)

3

{كَذَلِكَ} أي مثل ما أوحينا إلى كثير ممن سبقك من الأنبياء

5

{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} أي يتشققن من ظلم العباد، وادعائهم أنلله شريكاً وولداً {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ} من عصاة المؤمنين؛ أما الكافرين فلا شفاعة لهم، ولا استغفار يقبل بشأنهم {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}

6

{مِن دُونِهِ} غيره تعالى {أَوْلِيَآءَ} يعبدونهم ويوالونهم {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} أي حافظ لما يقولون، وما يعملون؛ فمحاسبهم عليه

7

{لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} مكة؛ لأنها أشرف البقاع، ومنها انتشر الدين {وَمَنْ حَوْلَهَا} يشمل سائر الأرض، وجميع الناس {وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} أي تنذر بيوم الجمع؛ وهو يوم القيامة؛ لأن الخلائق تجمع فيه للحساب والجزاء {لاَ رَيْبَ فِيهِ} لا شك في حدوثه ومجيئه؛ ويومئذٍ يكون الناس {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ} وهم المؤمنون {وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} وهم الكافرون

8

{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} على دين واحد؛ وهو الإسلام {وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ} في جنته ونعمته؛ لإيمانه بربه، واستجابته لرسله {وَالظَّالِمُونَ} الكافرون {مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ} ينفعهم {وَلاَ نَصِيرٍ} ينصرهم من الله ويدفع عنهم عذابه

9

{أَمِ اتَّخَذُواْ} أي بل اتخذوا {مِن دُونِهِ} غيره {أَوْلِيَآءَ} وهم الأصنام {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} الحق؛ الذي يهدي من يتولاه في دنياه، وينجيه في أخراه

10

{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} أي إلى ما أنزل الله في كتابه؛ من الشرائع والأحكام {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في سائر أموري (انظر آية 81 من سورة النساء) {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أرجع في أموري كلها

11

{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} خالقها من غير مثال سبق {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} لتسكنوا إليها جعل {أَزْواجاً} ذكراناً وإناثاً؛ لحفظ نسلها، وتمام نفعها لكم {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} يخلقكم ويكثركم؛ بواسطة التزاوج

12

{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ملكهما. والمقاليد: المفاتيح، أو الأبواب، أو الخزائن {وَيَقْدِرُ} ويضيق

13

{شَرَعَ} بيَّن وأظهر {مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} ما شرعه لنوح عليه السلام؛ وهو أول الأنبياء شريعة -[592]- {أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ} لله وحده {وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ} لا تختلفوا {كَبُرَ} عظم، وشق {اللَّهُ يَجْتَبِي} يختار {إِلَيْهِ} إلى معرفته، وإلى دينه، وإلى توحيده {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} من يرجع إليه، ويقبل على طاعته، ويستمع إلى كلامه

14

{وَمَا تَفَرَّقُواْ} أي ما تفرق الناس في الدين؛ فآمن بعضهم، وكفر البعض الآخر {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ} جميعاً {الْعِلْمُ} بالله تعالى، وبحقيقة توحيده، وصحة دينه، وصدق رسله. وهو علم مسقط للمعذرة، موجب للتكليف؛ وإنما كان كفر الكافرين {بَغْياً بَيْنَهُمْ} ظلماً واستعلاء، وطلباً للرئاسة. أو المراد بـ «العلم» الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه. قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} (انظر آية 89 من سورة البقرة) {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} بتأخير العذاب {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وقت معلوم؛ وهو يوم القيامة {لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ} بتعذيب المكذبين، وإهلاكهم في والدنيا {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ} أي نزل إليهم، وورثوا علمه؛ وهم اليهود والنصارى {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} من محمد

15

{فَلِذَلِكَ} الدين القيم والإله الواحد {فَادْعُ} الناس {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} لا تعر مزاعمهم التفاتاً {وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ} عليّ، وعلى الرسل السابقين {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} في الحكم - إذا تخاصمتم - وفي قسمة الغنائم، وفي كل ما تحتكمون إليَّ فيه {لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي نحن نؤاخذ بأعمالنا، وأنتم تؤاخذون بأعمالكم؛ لا يؤاخذ أحدنا بعمل الآخر {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} أي لا حجة قائمة تحتجون بها علينا؛ وإنما هو عناد ومكابرة {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} وبينكم يوم القيامة {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} فيثيب الطائع، ويأخذ العاصي

16

{وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ} يخاصمون {مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ} له أي بعد ما استجاب له الناس، ودخلوا في دين الله تعالى أفواجاً. أو من بعد ما قامت الحجج الظاهرة، والبراهين القاطعة؛ على وجوده تعالى ووحدانيته وبذلك وجبت الاستجابة له؛ والإيمان به {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} باطلة ساقطة

17

{بِالْحَقِّ} بالصدق، وأنزل {وَالْمِيزَانَ} أقام العدل، وأمر به؛ لأن الميزان: آلة الإنصاف والعدل. وربما أريد بالميزان: العقل؛ لأن به توزن الأمور، ويفرق بين الخير والشر، والحق والباطل

18

{مُشْفِقُونَ} خائفون {يُمَارُونَ} يجادلون

19

{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} بالعاصي منهم والطائع، والكافر والمؤمن؛ يرزق كلا النوعين، ويمتع كلا الصنفين: لطف بأوليائه حتى عرفوه؛ ولو لطف بأعدائه لما جحدوه وإنما كان لطفه بهم من ناحية الرزق والحفظ {وَهُوَ الْقَوِيُّ} على مراده {الْعَزِيزُ} الغالب الذي لا يغلب

20

{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ} أي ثوابها. لما كان العامل في هذه الدنيا كالزارع الذي خدم الأرض وسقاها: جعل جزاؤه وثوابه على عمله في الآخرة كالحرث

21

{أَمْ لَهُمْ} أي للمشركين {شُرَكَاءُ} آلهة {شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} كالشرك، ونسبة الولد إليه تعالى {وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ} أي القضاء السابق بتأخير الجزاء ليوم القيامة {لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ} بالعقوبة التي يستحقونها {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} الكافرين

22

{مُشْفِقِينَ} خائفين {مِمَّا كَسَبُواْ} من جزاء ما عملوا من المعاصي {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي نازل بهم العذاب، الذي هو جزاء ما كسبوا

23

{قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي لا أسألكم على التبليغ أجراً؛ إلا أن تودوا قراباتكم، وتصلوا أرحامكم. وقيل: المراد بالقرابة: قرابة الرسول عليه الصلاة والسلام. وهو مردود؛ لأن مودة قرابة الرسول - ولو أنها فرض على كل مؤمن - فإنها تعتبر أجراً على التبليغ، وسياق القرآن الكريم ينافي ذلك في سائر مواضعه. وقيل: {إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي إلا أن تودوني وتكفوا عن إذايتي؛ لقرابتي منكم {وَمَن يَقْتَرِفْ} يكتسب {حَسَنَةً} طاعة {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا} في أجرها {حُسْناً} أي نضاعفها له

24

{فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} أي يربط عليه بالصبر على أذاهم، وتكذيبهم لك {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بمكنونات القلوب

25

{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} توبة العبد: هو أن يندم على ما ارتكبه من الذنوب، ويعيد ما فاته من الفرائض، ويرد ما اكتسبه من المظالم

26

{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أي يجيبهم الله تعالى إلى ما يسألونه. واستجاب، وأجاب بمعنى {وَيَزِيدُهُم} فوق مطلوبهم

27

{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأَرْضِ} أي لو أغناهم: لاستكبروا وظلموا {وَلَكِن يُنَزِّلُ} الرزق {بِقَدَرٍ} بتقدير {مَّا يَشَآءُ} فيبسطه لأناس: يستحقون البسط، أو لا يستحقونه؛ جديرون بالإكرام، أو غير جديرين به. ويقبضه عن أناس: يستوجبون القبض، أو لا يستوجبونه؛ جديرون بالامتهان، أو غير جديرين به. وفي كلا الحالين: هو الحكيم العليم؛ الذي يعلم ما يصلح عباده، وما لا يصلحهم. جاء في الحديث القدسي: «إن من عبادي من إذا أغنيته لفسد حاله، ومنهم من إذا أفقرته لفسد حاله» {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ} بما يصلحهم {بَصِيرٌ} بحاجاتهم؛ أكثر من إبصارهم لها

28

{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} المطر {مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} أي من بعد يأسهم وقنوطهم من نزوله. وسمي المطر غيثاً: لأنه يغيث الناس من الفقر والجوع. ولذا سمي الكلأ غيثاً: لأنه يغيث الماشية {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} يبسط رزقه بالإنبات؛ الذي هو نتيجة للمطر {وَهُوَ الْوَلِيُّ} الذي ينصر أولياءه، ويواليهم {الْحَمِيدُ} المحمود على أي حال: في السراء والضراء، والنعماء والبأساء

29

{وَمَا بَثَّ} فرق، ونشر {فِيهِمَا} أي في السموات والأرض {مِن دَآبَّةٍ} الدابة: كل ما يدب على وجه الأرض: من إنسان، وحيوان، وطائر، ونحو ذلك. وقد يقال: هذا بالنسبة لما يدب على وجه الأرض؛ فما الذي يدب في السموات؟ والجواب على ذلك: إن كل ما علاك؛ فهو سماء: فالكواكب، والأنجم، والأفلاك: سموات؛ والذي يدب فيها: هو ما يدب على أرض تلك السموات من سكان وأملاك، لا يعلمها سوى بارئها سبحانه وتعالى

30

{وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ} بلية، وشدة؛ في المال، أو في الأهل، أو في الجسم {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} من المعاصي {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} ولولا عفوه تعالى؛ لأحاط بكم البلاء من كل جانب، ولحلت بكم الأرزاء من كل صوب

31

{وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بفائتين، أو بغالبين {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره

32

{وَمِنْ آيَاتِهِ} الدالة على قدرته {الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ} السفن التي تجري في البحر كالجبال

33

{إِن يَشَأْ} تعالى {يُسْكِنِ الرِّيحَ} التي تدفع السفن، أو يمنع خاصية الماء في حملها؛ فيتخلى عما على ظهره {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ} ثوابت لا تجري {عَلَى ظَهْرِهِ} أو غرقى في قعره وهو أمر مشاهد محسوس؛ فقد تكون سفينة من أضخم البواخر؛ وأقوى المواخر: فيدركها أمر الجبار القهار؛ فتنهار في قعر البحار: بغير سبب ظاهر سوى إرادته، ولا علة غير مشيئته وكيف تقوى على السير؛ وقد تخلى عن حفظها القدير الحكيم؟ وقد تكون سفينة أخرى من أخس المراكب، وأحقر القوارب: تسير في خضم الأمواج، وسط العجاج؛ كالسهم المارق، وكالسيل الدافق؛ وما ذاك إلا بحفظ الحفيظ العليم، الرحمن الرحيم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} دلالات على قدرته تعالى {لِّكُلِّ صَبَّارٍ} كثير الصبر على الطاعة، وعن المعصية، وعلى البلاء الذي يقدره الله تعالى {شَكُورٍ} كثير الشكر على ما يوليه المولى من فضله وأنعمه

34

{أَوْ يُوبِقْهُنَّ} يهلكهن بالإغراق {بِمَا كَسَبُوا} بما عملوا من الذنوب

35

{مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} من مهرب

36

{فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ} نعمة في هذه الحياة {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الزائل الفاني {وَمَا عِندَ اللَّهِ} من نعيم الآخرة {خَيْرٌ} من متاع الحياة الدنيا {وَأَبْقَى} لأنه دائم؛ لا انقطاع له أبداً

37

{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} كبائر الذنوب {وَالْفَوَاحِشَ} الذنوب الفاحشة: كالزنا، والقتل. أو هي كل موجبات الحدود {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} أي إذا أغضبهم أحد: عفوا عنه، وتجاوزوا عن ذنبه

38

{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} وصف تعالى المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم؛ ليدل على أن أرقى النظم وأسماها: هي النظم الديمقراطية، وأن الاستبداد، في الحكومات ليس من نظام الدين، ولا من شأن المؤمنين وأن الدول التي تسير بالنظم البرلمانية: هي أولى الحكومات بالتقدير والإكبار؛ ولله در القائل: اقرن برأيك رأي غيرك واستشر فالحق لا يخفى على إثنينللمرء مرآة تريه وجهه ويرى قفاه بجمع مرآتين {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} يتصدقون، وينفقون ابتغاء وجهه تعالى

39

{وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ} وقع عليهم الظلم {هُمْ يَنتَصِرُونَ} ينتقمون ممن ظلمهم: غير متجاوزين الحد، ولا مسرفين في الانتقام {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} لما قال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} وكانت الآية مطلقة: آمرة بالغفران من غير قيد ولا شرط؛ وربما تغالى الآخذ بها؛ فصار ذليلاً، مهاناً، جباناً: ينال منه عدوه؛ فلا يحرك ساكناً؛ فتهون نفسه عليه. وقديماً قال الشاعر: إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها هواناً بها؛ كانت على الناس أهونا لذا ألحقها تعالى بهذه الآية:

40

{وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} من غير بغي، ولا إسراف {فَمَنْ عَفَا} عمن ظلمه: خشية استفحال الضرر، وكبحاً لجماح الشر، ورجاء أن يعود الباغي عن بغيه، والظالم عن ظلمه {وَأَصْلَحَ} قلبه ومعاملته؛ فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم {فَأَجْرُهُ} فجزاء عفوه وحلمه {عَلَى اللَّهِ} يكافئه عليه في الدنيا والآخرة

41

{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} أي إن من أخذ حقه ممن ظلمه، وعاقب بمثل ما عوقب به: ليس لأحد عليه من سبيل لمعاقبته، أو معاتبته وبعد ذلك غلب الحليم الغفار: العفو، والحلم، والصبر، والمغفرة؛ قال تعالى:

43

{وَلَمَن صَبَرَ} على أذى الغير؛ فلم ينتصر لنفسه، ولم يوسع دائرة الشر، ويذكي نيران العداوة والبغضاء {وَغَفَرَ} تجاوز عن ذنب من أذنب في حقه؛ واستبدل عداوته حباً، وبعده قرباً {إِنَّ ذَلِكَ} الصبر، والحلم، والغفران {لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} أي من الأمور المستحبة، المؤدية إلى الخير دائماً

44

{وَتَرَى الظَّالِمِينَ} يوم القيامة {لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ} المعد لهم {يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ} رجوع إلى الدنيا {مِّن سَبِيلٍ} يطلبون الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ}

45

{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} أي على النار {خَاشِعِينَ} خاضعين ذليلين؛ من شدة الهول والرعب {يَنظُرُونَ} إلى النار {مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} ذليل؛ كما ينظر المحكوم عليه إلى سيف -[597]- الجلاد {إِنَّ الْخَاسِرِينَ} حقاً هم {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} بوقوعها في الجحيم، والعذاب الأليم خسروا {أَهْلِيهِمْ} وذلك لأن أهلهم إذا كانوا صلحاء: فهم في الجنة، وإذا كانوا غير صلحاء: فهم في النار؛ فلا انتفاع بهم في كلا الحالتين. أو خسروا أهليهم من الحور العين

47

{اسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ} أجيبوه لما دعاكم إليه {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ} من إنكار؛ أي لا تقدرون أن تنكروا شيئاً مما اقترفتموه؛ إذ أن سمعكم، وأبصاركم، وأيديكم، وأرجلكم وجلودكم؛ ستشهد عليكم بما كسبتم

48

{فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} تحفظ أعمالهم، وتلزمهم بما لا يريدون {رَحْمَةً} نعمة، وغنى وصحة {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} بلاء، وفقر، ومرض {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي بسبب معاصيهم {فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ} يئوس قنوط: يعدد مصائبه، وينسى أنعم الله تعالى عليه {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}

49

{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وما فيهما؛ خلقاً، وملكاً، وعبيداً {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} هو؛ لا ما يشاؤه الناس {يَهَبُ} بفضله {لِمَن يَشَآءُ} أن يهب له {إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} حسب حاجة الكون والبشرية؛ لا وفق هوى الوالدين؛ وذلك بالقدر الذي يكفل عمار الدنيا، وحفظ النوع الإنساني

50

{أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} أو يهب لمن يشاء الصنفين: ذكراناً وإناثاً {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} لا نسل له {إِنَّهُ عَلِيمٌ} بما يجب أن يكون {قَدِيرٌ} على كل شيء يريده

51

{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} أي وما صح لأحد من البشر {أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً} إلهاماً، أو رؤيا في المنام؛ لأنها وحي. قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} ... {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى} {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن} كتكليم موسى عليه السلام: سماع بدون رؤية. والمقصود بالحجاب: حجب السامع، لا المتكلم. تعالى الله عن أن يحجبه حاجب، أو يستره ساتر {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ} الرسول: هو جبريل عليه الصلاة والسلام؛ لأنه رسول الله تعالى إلى أنبيائه (انظر آية 22 من سورة الروم) -[598]- {إِنَّهُ عَلِيٌّ} عظيم، متعالٍ عن صفات المخلوقين {حَكِيمٌ} في صنعه: لا يعمل إلا ما تقتضيه المصلحة، وتستوجبه الحاجة

52

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً} هو القرآن الكريم؛ إذ فيه حياة القلوب من موت الجهل؛ بل هو روح الأرواح أو المراد بالروح: جبريل عليه الصلاة والسلام {مِّنْ أَمْرِنَا} أي بأمرنا الذي نوحيه إليك؛ و {مَا كُنتَ تَدْرِي} من قبل أن نوحي إليك {مَا} هو {الْكِتَابُ وَلاَ} ما هو {الإِيمَانُ} والمقصود بالإيمان الذي لم يكن يدريه محمدبن عبد الله؛ صلوات الله تعالى وسلامه عليه - وقد اختاره الله تعالى لهداية العالمين؛ وهو في أصلاب آبائه وأجداده - إنما أريد به شرائع الإيمان، وأحكامه، ومعالمه. وقد تعاضدت الأخبار والآثار على تنزيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن النقائص منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد منذ درجوا، وإحاطتهم بأنواع المنن واللطائف، وإشراق أنوار المعارف وليس محمد بأقل شأناً من يحيى - وقد أوتي الحكم صبياً - ومن عيسى - وقد أوتي الكتاب وجعل نبياً في مهده - ولا من إبراهيم - وقد أوتي رشده من قبل - صلوات الله تعالى وسلامه على سائر أنبيائه ورسله أو المعنى: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ} لولا الرسالة {وَلاَ الإِيمَانُ} لولا الهداية {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ} أي القرآن {نُوراً} ينير القلوب والنفوس، ويجلو الأبصار والبصائر، ويشرح الصدور؛ فهو نور النور {نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا} الذين انقادوا لأمرنا، واستمعوا لكلامنا: رب إن الهدى هداك وآيا تك نور تهدي بها من تشاء {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} بما به هديت، وترشد إلى ما به رشدت {إِلَى صِرَاطٍ} طريق {مُّسْتَقِيمٍ} واضح، بين الاستقامة

53

{صِرَاطِ اللَّهِ} دينه القويم {أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} ترجع: فيقضي فيها بما يشاء، ويحكم فيها بما يريد {أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}.

سورة الزخرف

سورة الزخرف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{حم} (انظر آية 1 من سورة البقرة)

2

{وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} الواضح

4

{فِي أُمِّ الْكِتَابِ} اللوح المحفوظ {لَدَيْنَا} عندنا {لَعَلِيٌّ} عال على سائر الكتب {حَكِيمٌ} محكم؛ ذو حكمة بالغة

5

{أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ} أي أفنمسك عنكم نزول القرآن إمساكاً؛ لأنكم قوم مسرفون في الكفر وارتكاب المعاصي

8

{وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} أي سلف في القرآن ذكر الأمم السابقة، وما حل بها من التعذيب والتنكيل؛ جزاء كفرهم وتكذيبهم

10

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً} فراشاً؛ كالمهد الذي هو فراش الصبي {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} طرقاً فيها تمشون، وطرقاً منها تتعيشون

11

{وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ} بتقدير: بقدر حاجتكم إليه؛ ولم ينزله كثيراً فيغرق، ولا قليلاً فيقحط {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} {فَأَنشَرْنَا بِهِ} أحيينا به. ومنه قوله تعالى {كَذَلِكَ النُّشُورُ} أي الإحياء {بَلْدَةً مَّيْتاً} جدبة؛ لا نبات فيها {كَذَلِكَ} أي مثل إخراج النبات من الأرض الجدبة {تُخْرَجُونَ} من قبوركم يوم القيامة

12

{وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} الأصناف كلها {مِّنَ الْفُلْكِ} السفن {وَالأَنْعَامِ} الإبل

13

{لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ} أي ظهور السفن والأنعام {ثُمَّ تَذْكُرُواْ} تتذكروا {نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} عليكم؛ بتسخير الفلك والأنعام؛ لمزيد نفعكم وراحتكم {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أي مطيقين

14

{وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} لراجعون إليه؛ فمجازينا على شكرنا، أو كفرنا

15

{وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} بقولهم: عيسى ابن الله، والملائكة بنات الله. لأن الولد جزء من الوالد؛ وهم من عبيده، لا من أبنائه {إِنَّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} بين الكفر

16

{وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ} أي اختصكم بهم

17

{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً} أي إذا بشر بالأنثى؛ لأنهم كانوا يقولون: الملائكة بنات الله {ظَلَّ} دام {وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} من الحزن والحسرة {وَهُوَ كَظِيمٌ} ممتلىء غيظاً وغماً

18

{أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} أي أو ينسب للرحمن من الولد من هذه صفته؟ وهو أنه «ينشأ» أي يتربى «في الحلية» أي في الترف والزينة؛ وإذا احتاج إلى تقرير دعوى، أو إقامة حجة: كان {فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} أي غير قادر؛ لضعف حجته، وخطل رأيه. وذلك أنهم نسبوا إليه سبحانه الولد؛ مع نسبة أخس النوعين - في نظرهم - وهو البنات؛ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً

19

{أَشَهِدُواْ} أحضروا {خَلْقَهُمْ} أي خلق الملائكة؛ فعلموا أنهم إناثاً كما يزعمون. أو هو من الشهادة، لا المشاهدة {سَتُكْتَبُ} في صحائف أعمالهم {شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} عنها يوم القيامة، ويحاسبون عليها

20

{وَقَالُواْ} كفراً، وعناداً، ولجاجاً {لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} أي لو أراد الله أن يمنعنا عبادة الملائكة لمنعنا. وهي كلمة حق أريد بها باطل؛ إذ أن الله تعالى لو شاء أن يؤمن الناس جميعاً لآمنوا، و {لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} وإنما يكون ذلك الإيمان، وتلك الهداية على سبيل القسر والإلجاء. وقد هدى الله تعالى الناس جميعاً بخلق العقول والأفئدة، وبعث الرسل، وإنزال الكتب؛ فمنهم من استجاب لداعي مولاه: فحباه واجتباه، ومنهم من استحب الغواية على الهداية، واختار الكفر على الإيمان؛ فاستوجب الحرمان والنيران قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أي ما لهم من علم بمشيئة الله تعالى وإرادته؛ حتى يتبعوها، ويحتجوا بوقوعها {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يكذبون

21

{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ} أي قبل القرآن؛ قلنا فيه بعبادة الملائكة، أو بيّنا فيه مشيئتنا لذلك {فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} أي بهذا الكتاب

22

{بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} على دين. والأمة: الطريقة التي تقصد، ومنه الأمام

23

{وَكَذَلِكَ} مثل الذي حدث من قومك؛ من احتجاجهم بهذه الحجج الواهية الواهنة: احتج الأمم السابقة على رسلهم؛ و {مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ} ينذرها غضب الله تعالى، ويخوفها عقابه {إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ} متنعموها، مثل قول هؤلاء {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} ملة وطريقة

24

{قُلْ} لهم يا محمد مقنعاً ومتلطفاً {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى} بدين أهدى {مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ} وهنا يظهر عنادهم، وتتضح نواياهم وخفاياهم؛ ويقولون: {إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ} أنت ومن سبقك من الأنبياء {كَافِرُونَ} لا نؤمن به؛ ولو ظهرت صحته، وبانت هدايته؛ وأصروا على عبادة الأصنام، -[601]- دون الملك العلام؛ فهل بعد هذا يجوز لمثلهم أن يقول: {لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} لقد بطلت حجتهم، وسقطت معذرتهم؛ واستوجبوا الجحيم؛ والعذاب الأليم

25

{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} بالقحط، والمرض، والفقر، والذل، والاستئصال

26

{إِنَّنِي بَرَآءٌ} أي بريء

27

{إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} خلقني {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} إلى معرفته ودينه

28

{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً} أي كلمة التوحيد؛ يدل عليها قوله عليه الصلاة والسلام {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} {بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أي في ذريته؛ فلا يزال فيهم من يعبد الله تعالى، ويدعو إلى توحيده {لَعَلَّهُمْ} أي لعل أهل مكة حين يسمعون توحيد إبراهيم {يَرْجِعُونَ} إلى الدين الحق الذي استمسك به جدهم إبراهيم

29

{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَءِ} الكفار متعت {آبَآءَهُمُ} من قبلهم؛ ولم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم {حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ} من عندنا؛ وهو القرآن {وَرَسُولٌ} هو سيد الرسل محمد عليه الصلاة والسلام {مُّبِينٌ} مظهر لديننا، وشريعتنا، وأحكامنا. وقرأ قتادة والأعمش، وغيرهما: «بل متعت» بتاء الخطاب على معنى أن القائل لذلك: إبراهيم عليه السلام؛ أو هو من مناجاة الرسول. وقرأ الأعمش: «بل متعنا» بنون العظمة. والأول: هو أولى الأقوال

30

{وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ} القرآن، وما صاحبه من معجزات، وإرهاصات {قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} يكفرون بمن خلق، ويعبدون من خلق، ويكفرون بالآيات البينات، ويؤمنون بالأباطيل والترهات

31

{وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} يعنون بالقريتين: مكة والطائف. وبالعظيم: الذي يكون له مال، ومنصب، وجاه، وقد فاتهم أن العظيم: هو الذي يكون عند الله تعالى عظيماً؛ أما المال، والجاه، والمنصب؛ فهي عظمة يبتغيها الجاهلون، ويقدرها الفاسقون ومقياس العظمة الحقيقية عند الله تعالى، وعند العقلاء: عظمة النفس، وسمو الروح، وعلو الهمة ومن أعظم نفساً، وأسمى روحاً، وأعلى همة؛ من محمدبن عبد الله: خاتم رسل الله؟ عليه الصلاة والسلام وقد قال تعالى؛ رداً على من اقترح نزول القرآن على رجل من القريتين عظيم:

32

{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} فيعطون النبوة والرسالة لمن يشاءون دون من أشاء، وينزلون القرآن على من يحبون؛ دون من أحب؟ {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فجعلنا بعضهم أغنياء، وبعضهم فقراء {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} لا كما تنادي بعض المبادىء الهدامة؛ بما يبثونه من سموم فكرية، وما يدعون إليه من نظم؛ في ظاهرها البر والخير، وفي باطنها الإثم والشر كالنظام الشيوعي، والنظم الأخرى التي تستوردها بعض الأمم من البلاد التي لا تدين بالإسلام، بل ولا تدين بأي دين سماوي؛ بل تقول

بالتعطيل، وألا إله في الكون أصلاً والدين الإسلامي - في مظهره وجوهره - ليس في حاجة إلى نظام أو منظمين؛ فقد نظمه خالق الكون ومدبره، وهو وحده العالم بما يصلح عباده ويكفل إسعادهم. وهو جل شأنه بامتحانه لهم بضروب من الغنى والفقر، والسعة والضيق: إنما يؤهلهم بهذا الاختبار إلى حياة أخرى دائمة السعادة والخير لمن أحسن، والشقاء والبؤس لمن أساء {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ} فالابتلاء والاختبار: أساس عظيم في تقدير استحقاق من يدخل الجنة؛ ممن يدخل النار. فإذا ما تعادلت الاحتياجات، وتساوت الأقدار - كما يزعم الشيوعيون ومن يدور في فلكهم - فقد سقط الامتحان الذي أراده الله تعالى لعباده، وأعدهم لاجتيازه وتنطوي هذه النظم التي يزعمونها على ظلم فادح لكلا النوعين؛ فقد أصبح الغني فقيراً؛ وهو قبل ذاك مكلف بالشكر على ما آتاهالله، والإنفاق منه وأضحى الفقير مرذولاً؛ وقد كان قبل ذاك مكلفاً بالصبر على فقره، مشكوراً مأجوراً عليه وما حاجة الفقراء إلى النظم البشرية؛ وقد صيرهم الله تعالى جميعاً أغنياء بنظمه المحكمة الربانية فإذا ما فسد نظام المسلمين؛ بالبخل، والشح، والانصراف عن الله تعالى وأوامره: فليس ذلك عيباً في الدين، وإنما هو عيب القائمين بالأمر فيهم لقد رتب الدين الحنيف حقوقاً للفقراء؛ حتى صيرهم أغنى من الأغنياء: لقد جعل إطعامهم قربى تقرب إلى مغفرته، والإحسان إليهم حسنى تدني من رحمته ولو أنّ إنساناً تخير ملة ما اختار إلا دينك الفقراء أما هذه النظم التي يدعون إليها، ويحاربون من أجلها: فظاهرها الرحمة، وباطنها من قبله العذاب يقولون بالمساواة؛ وأين المساواة؟ وبشيوع المال بين السادة والعبيد؛ وأين ما يزعمون؟ لقد جعلت بعض الدول نظاماً خاصاً: يفرق بين الإنسان وأخيه الإنسان - بسبب اللون - وقد خلقهم الله تعالى من أب واحد، وأم واحدة. وقد يكون المفضول أفضل من الفاضل {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} لقد ظلموا الناس وقالوا: إنه العدل. وأجاعوهم وقالوا: إنه الشبع. وأفقروهم وقالوا: إنه الغنى لقد أفقروا الأغنياء، ولم يستطيعوا أن يطعموا الفقراء وجميع ذلك بأنظمة نظموها، وشرائع شرعوها. ولكن هلم معي - يرحمك الله - إلى شرعةالله، ودينالله، وهدىالله؛ يقول الله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ

أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ} فجعل تعالى إيتاء المال للفقراء من أفضل العبادات والقربات. ووقف تعالى خيره وبره على المنفقين؛ فقال جل شأنه، وعلت حكمته: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}. كما وقف رحمته على من يسارع في العطاء؛ فقال سبحانه: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا}. وقد أباح الدين مقاتلة مانعي الزكاة، وأخذها منهم قسراً وجبراً بأمر الله وقد كانوا في صدر الإسلام يبحثون عن الفقير والمحتاج؛ ويشكرونه حينما يقبل صدقتهم، ويعتبرونه صاحب الفضل عليهم؛ لا هم أصحاب الفضل عليه؛ كيف لا وهو المتسبب في رضا الرب سبحانه وتعالى عنهم وفي دخولهم الجنة هذا ولم يحل فقر الفقراء دون توليهم أرقى المناصب في الدولة؛ بل كان الفقر مؤهلاً ضمن المؤهلات لولاية الحكم، والقضاء، وما شاكلهما من كبرى المناصب؛ وذلك لأن الفصل في جميع ذلك: التقى لا الغنى، والورع لا الطمع هذا في حين أن المناصب في الدول ذوات المبادىء الجوفاء الطنانة؛ لا يليها إلا الذين أتخمهم الغنى، وأصمهم الترف، وأعماهم الجشع والطمع؛ فلم يتركوا لقمة لجائع، ولا مزقة لعار؛ وبعد كل هذا ينادون بالعدل، والمساواة، ورحم الله تعالى العدل والمساواة هذا وقد اختلف كثير من الناس في الغني الشاكر، والفقير الصابر: أيهما أفضل من الآخر؟ وقد فضل بعضهم الغني الشاكر عن الفقير الصابر: وذلك لأنه ابتلي بالغنى فشكر نعمة ربه، وقام بما يجب عليه حيالها ومن أول الواجبات عليه: رعاية الفقير، والمحتاج. وبذلك يكون أنفق ما وهبه الله في حدود ما أمر بهالله، وآتى المال على حبه، وأطعم الطعام في سبيله. فإذا قلنا بما قال به بعض الفرنج - من شيوع المال واشتراكيته - فقد حاولنا القضاء على النظام الكوني الذي رسمه الله تعالى لعباده، وامتحنهم به وقد اقتبسوا معنى الاشتراكية: من اشتراك الجميع في المال. ولكنهم لم يحققوا ما ذهبوا إليه، ولا ما أحاطوا به مذاهبهم الباطلة من سياج التمويه والتضليل وها هي ذي البلاد التي اعتنقت مثل هذه المبادىء وقد قضى عليها الفقر، وأطاح بها الجوع والحرمان. بعكس بلادنا التي تطورت إلى الاشتراكية الإسلامية.

أما الإسلام: فهو مؤسس الاشتراكية الصحيحة، والشيوعية السليمة. فمعنى الاشتراكية: شركة الفقير مع الغني فيما آتاه الله من مال، أو عقار، أو زرع، أو ضرع. وقد عقد الله تعالى بينهما عقداً لا تنفصم عراه: فضمن لمن وفى به الجنة والثواب الجزيل، وأوعد من نقض العقد، ونكث العهد بالعذاب الأليم، والشقاء المقيم هذا وقد حدد في هذا العقد ما لكل طرف منهما من حقوق، وما عليه من واجبات. ومعنى الشيوعية: شيوع المال بين بني الإنسان؛ فلا يوجد أحد يشتكي الفقر والحرمان ولئلا يكون المال دولة بين الأغنياء وقد كفل الله تعالى للفقير حقوقاً يحارب الغني من أجلها، ويقاتل عليها. ولكن هذه الحقوق محدودة بحدود رسمها خالق الدنيا، ورازق الخلق؛ بحيث لا يفتقر الغني، ولا يجوع الفقير. وبحيث يصح امتحان الله تعالى لعباده - الذي ما خلقهم إلا من أجله - فيجزي غنياً شكر، وفقيراً صبر وها هي ذي الدول الأجنبية - وقد تباينت أهواؤها، وعظمت أدواؤها - قد انقسمت إلى قسمين، أو قل معسكرين: شيوعي، ورأسمالي؛ وكلاهما ضل السبيل، وحاد عن جادة الطريق: فأولاهما قتله الجوع، وثانيهما قتله الشبع، وكلاهما يسير في حياته على غير هدى وذلك لأن {هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} فاتبع - هديت وكفيت - هدى الله، واجتنب هدى الشيطان {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ}. هذا وقد قيض الله تعالى لهذه الأمة من أقامها من كبوتها، وأقالها من عثرتها، ونظم لها النظم والقوانين؛ التي لا تخرج عما أراده رب العالمين: فأخذ من الأغنياء حق الفقراء؛ فجزى الله تعالى كل من نافح عن الدين، ولم يخرج عن تعاليم القرآن، التي جعلها الله تعالى صالحة لكل زمان ومكان وأساس النظام الإلهي في تفاوت الدرجات {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} من التسخير؛ لا من السخرية؛ أي يسخر الغني الفقير في مصالحه التي تعود على المجتمع كله - غنيه وفقيره - بالخير العميم {أَهُمْ يَقْسِمُونَ} مغفرته وجنته لمن يتصدق {خَيْرٌ} من الأموال؛ ويبخلون بها

33

{وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} على الكفر {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ} وذلك لحقارة الدنيا عند الله تعالى وأن بسط الرزق لبعض من فيها: لا يدل على هدايته. وتضييقه على بعضهم لا يدل على غوايته فلو كانت الدنيا جزاءً لمحسن ... إذاً لم يكن فيها معاش لظالم لقد جاع فيها الأنبياء كرامة ... وقد شبعت فيها بطون البهائم -[605]- {وَمَعَارِجَ} ومصاعد {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} يصعدون {وَزُخْرُفاً} الزخرف: الذهب، أو هو الزينة

35

{وَإِن كُلُّ ذَلِكَ} النعيم الزائل، والمتاع الفاني {لَمَّا} إلا {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قليل ثم يزول؛ مشوب بالتنغيص؛ محاط بالأكدار {وَالآخِرَةُ} وما فيها من نعيم مقيم، و {جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} {عِندَ رَبِّكَ} في رحابه؛ أعدها {لِلْمُتَّقِينَ} من أحبابه

36

{وَمَن يَعْشُ} يغفل {عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} ويعرض متعامياً عن داعي الإيمان {نُقَيِّضْ} نسخر، ونسلط {لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} مقارن، وملازم له؛ لا يفتأ يزين له القبيح، ويقبح له المليح؛ حتى يورده موارد الهلاك والتلف وذلك بسبب غفلته، وتعاميه عن ذكر ربه

37

{وَإِنَّهُمْ} أي الشياطين القرناء {لَيَصُدُّونَهُمْ} ليمنعون الغافلين المتعامين {عَنِ السَّبِيلِ} عن طريق الهدى

38

{حَتَّى إِذَا جَآءَنَا} ذلك الغافل المتعامي، يوم القيامة {قَالَ} لقرينه الذي صده عن السبيل {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} أنت؛ إذ أوردتني موارد الحتوف

40

{أَفَأَنتَ} يا محمد {تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} أي كما أنك لا تستطيع إسماع الأصم، أو هداية الأعمى؛ فكذلك لا تستطيع إسماع الكافر، أو هدايته وكيف تهدي من أصم أذنيه عن استماع النصح، وأعمى قلبه عن رؤية الحق لا تستطيع أن تهدي {وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} بين ظاهر

41

{فَإِمَّا} فإن {نَذْهَبَنَّ بِكَ} أي نتوفينك قبل تعذيبهم {فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} في الدنيا

42

{أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} به من العذاب

43

{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} من القرآن {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} طريق قويم

44

{وَإِنَّهُ} أي القرآن {لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} أي شرف عظيم لك ولهم {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} عن مدى تمسككم به، ونشركم له

45

{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} أي اسأل أمم الأنبياء الذين أرسلناهم من قبلك. يؤيده قراءة ابن مسعود {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} وقيل: واسأل رسلنا - حين تلقاهم - ليلة المعراج؛ وقد التقى عليه الصلاة والسلام بكثير منهم؛ كما ورد في كثير من الأحاديث {أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ} غيره

47

{فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} يسخرون منها، ويستهزئون بها

48

{وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ} معجزة {إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} في الدلالة على صدق موسى، ووحدانية مرسله. أو المراد بالآية: آية العذاب؛ فقد ابتلوا بالطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم (انظر آية 133 من سورة الأعراف) {وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن كفرهم وتكذيبهم. ومن عجب أنهم - رغم نزول العذاب بهم، وتنوعه وتكرره عليهم - لم يؤمنوا، ولم يرتدعوا، ولم يقولوا في محنتهم وشدتهم: يا أيها النبي، أو يا أيها الرسول، أو يا أيها الصادق؛ بل قالوا

49

{يأَيُّهَا السَّاحِرُ} وقيل: معنى الساحر عندهم: العالم؛ يؤيده قول فرعون {ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} من كشف العذاب عنا؛ إن آمنا

50

{إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} ينقضون عهدهم، ويصرون على كفرهم

52

{أَمْ} بل {أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَذَا} إشارة إلى موسى عليه السلام {الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} ضعيف، حقير {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} لا يكاد يظهر الكلام: للثغة في لسانه؛ جعلته يستعين - فيما يقول - بأخيه هرون: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً}

53

{فَلَوْلاَ} فهلا {أُلْقِيَ عَلَيْهِ} ألبس كما يلبس السادة والعظماء {أَسْوِرَةٌ} جمع سوار؛ وقد كان العظماء فيهم يلبسونها {مُقْتَرِنِينَ} متتابعين؛ يشهدون بصدقه

54

{فَاسْتَخَفَّ} استجهل فرعون {قَوْمَهُ} أي استغل فرعون جهل قومه، وضعفهم؛ فقال لهم: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى} {فَأَطَاعُوهُ} وعبدوه من دون الله تعالى {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} عاصين كافرين

55

{فَلَمَّآ آسَفُونَا} أغضبونا

56

{فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} أي أهلكناهم؛ فجعلناهم سابقين؛ بعد أن كانوا حاضرين جعلناهم {مَثَلاً} عظة {لِّلآخِرِينَ} لمن يأتي بعدهم

57

{وَلَمَّا ضُرِبَ} عيسى {ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً} في قوله تعالى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ} أي من هذا المثل {يَصِدُّونَ} يضجون. وقد قال المشركون وقتذاك: إنما يريد محمد أن نعبده؛ كما عبد النصارى عيسى

58

{وَقَالُواْ} أيضاً أأصنامنا التي نعبدها {خَيْرٌ أَمْ هُوَ} يعنون عيسى عليه السلام. قال تعالى رداً عليهم {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ} أي ما ضربوا لك هذا المثل {إِلاَّ جَدَلاَ} مجادلة؛ لا أثر للمنطق والتعقل فيها {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} شديدو الخصومة

59

{إِنْ هُوَ} أي ما عيسى {إِلاَّ عَبْدٌ} من عبادنا {أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} بالاصطفاء والنبوة {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً} آية {لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} يستدل بها على وجود الخالق تعالى وقدرته: لخلقه من غير أب، واستطاعته - بأمر ربه - أن يبرىء الأكمه والأبرص، وأن يحيي الموتى بإذنه تعالى

60

{وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ} أي لجعلنا بعضكم {مَّلاَئِكَةً} لأني خالق النوعين، ومبدع الصنفين {يَخْلُفُونَ} أي يخلف بعضهم بعضاً فيما بينكم، أو يخلفونكم أنتم

61

{وَإِنَّهُ} أي عيسى عليه السلام {لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} أي دليل عليها؛ حين ينزل قبيل القيامة؛ كما ورد في الأحاديث. أو الإشارة إلى القرآن الكريم؛ وما فيه من صفات القيامة وأهوالها، وما يعقب ذلك من نعيم مقيم، وعذاب أليم {فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} من المرية؛ أي لا تشكون في وقوعها {هَذَا} الذي أدعوكم إليه {صِرَاطٍ} طريق

63

{وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ} المعجزات الظاهرات {قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ} بالنبوة، والمعرفة، والشرائع

65

{فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ} في شأنه. فمن قائل: إنهالله. -[607]- ومن قائل: إنه ابنه. ومن قائل: ثالث ثلاثة. ومنهم من قال: هو ابن زنا {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ} كفروا

66

{هَلْ يَنظُرُونَ} ما ينتظرون {بَغْتَةً} فجأة

67

{الأَخِلاَّءُ} أي الأصدقاء في الدنيا؛ المجتمعون فيها على الكفر والمعاصي، المكبون على الآثام {يَوْمَئِذٍ} أي يوم القيامة يكون {بَعْضَهُمْ} رغم المحبة والصداقة في الدنيا {لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} الذين تحابوا فيالله، واجتمعوا على عبادته ومرضاته؛ فإنهم سعداء بحبهم وصداقتهم؛ يقال لهم

68

{يعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} فقد انقطع الخوف، وزال الحزن؛ ولم يبق لكم سوى الأمن والسرور

70

{ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} تسرون؛ وهو من الحبور

71

{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ} بأطباق {وَفِيهَا} أي في الجنة أو في الصحاف والأكواب

74

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} الكافرين

75

{لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} لا يخفف العذاب عنهم {مُبْلِسُونَ} آيسون من النجاة، والعفو، والرحمة

76

{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بتعذيبهم، وتخليدهم في النار {وَلَكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ} لأنفسهم؛ بتعريضها للعقاب، وتمسكهم بالكفر والعناد

77

{وَنَادَوْاْ} الكفار {يَمْلِكُ} وهو خازن النار {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي ليمتنا لنسترح. وهو من قضى عليه: إذا أماته {قَالَ} الخازن لهم: لا تفكروا في الخلاص، فلات حين مناص {إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} باقون في العذاب أبد الدهر

79

{أَمْ أَبْرَمُواْ} أحكموا {أَمْراً} في كيد محمد {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} محكمون أمراً في كيدهم وإهلاكهم

80

{وَنَجْوَاهُم} ما يتحدثون به فيما بينهم، ويخفونه عن غيرهم {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} هم الحفظة: يكتبون ما يفعلونه، وما ينطقون به

81

{قُلْ} لهم يا محمد {إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} كما يزعمون {فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} لهذا الولد

82

{سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} تنزيهاً، وتقديساً له {رَبِّ الْعَرْشِ} مالك الملك {عَمَّا يَصِفُونَ} يقولون من الكذب؛ بنسبة الولد، والشريك إليه

83

{فَذَرْهُمْ} دعهم {يَخُوضُواْ} في باطلهم {وَيَلْعَبُواْ} في دنياهم {حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} أي يوم عذابهم، والانتقام منهم؛ وهو يوم القيامة

84

{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمآءِ إِلَهٌ} يعبد، ويطاع، ويتقى {وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} واجب العبودية، واجب الطاعة {وَهُوَ الْحَكِيمُ} في صنعه {الْعَلِيمُ} بخلقه، البصير بمصالحهم

85

{وَتَبَارَكَ} تقدس وتعالى الله {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وما فيهما {وَمَا بَيْنَهُمَا} من مخلوقات {وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} أي وقت قيامها، وكيفيته، وحالته

86

{وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ} يعبدون {مِن دُونِهِ} غيره {الشَّفَاعَةَ} لعابديهم؛ كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ} آمن بالله، وشهد ألا إله إلا الله؛ فهؤلاء يشفعون لغيرهم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بقلوبهم صدق ما قالوه بألسنتهم. والمراد بهم: عيسى، -[608]- وعزير، والملائكة

87

{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} أي لئن سألت هؤلاء المعبودين {مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} هو خالقهم {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} فكيف يصرفون عن عبادة الله تعالى إلى عبادة غيره؛ بعد اعتراف المعبودين؛ بخلق رب العالمين لهم؟ أو ولئن سألت العابدين لغيرالله: {مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فكيف يصرفون عن عبادته، مع اعترافهم بخلقته؟

88

{وَقِيلِهِ} أي قول النبي

89

{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} فأعرض عن دعوتهم {وَقُلْ سَلاَمٌ} وذلك قبل الأمر بقتالهم {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} تهديد شديد، ووعيد للمشركين.

سورة الدخان

سورة الدخان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{حم} (انظر آية 1 من سورة البقرة)

3

{إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} هي ليلة القدر؛ نزل فيها القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام على رسولالله بحسب الحاجة؛ وهذا لا يتنافى مع قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} لأن ليلة القدر تكون في هذا الشهر {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} بالقرآن، ومخوفين به

4

{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أي في ليلة القدر يفصل كل أمر عظيم؛ من أرزاق العباد، وآجالهم

5

{أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ} أي هذا الإنزال، وهذا الإنذار وهذا الفصل في الأرزاق والأعمار؛ بأمرنا وإرادتنا {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} الرسل

6

{رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} بعباده {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لأقوالهم {الْعَلِيمُ} بأفعالهم

9

{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ} من البعث والحساب، والجزاء

10

{فَارْتَقِبْ} انتظر هو قبيل القيامة. وقيل: إن قريشاً لما بالغت في عصيان الرسول وإذايته؛ دعا عليهم وقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف؛ وكان الرجل يحدث أخاه فيسمع صوته ولا يراه؛ لشدة الدخان المنتشر بين السماء والأرض

11

{يَغْشَى النَّاسَ} يشملهم ويغطيهم

13

{أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} أي كيف ينفعهم التذكر والإيمان عند نزول العذاب

14

{ثُمَّ تَوَلَّوْاْ} أعرضوا {عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ} أي يعلمه القرآن بشر مثله وليس من عندالله. قال تعالى {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}

15

{إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} عنكم {قَلِيلاً} لعلكم ترجعون عن غيكم وبغيكم {إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} إلى ما كنتم عليه من الكفر

16

{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} يوم القيامة، أو يوم بدر {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} منكم

17

{وَلَقَدْ فَتَنَّا} بلونا واختبرنا

18

{أَنْ أَدُّواْ إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} أي أرسلوا عباد الله - الذين خلقهم أحراراً - وأطلقوهم من الأسر والعذاب أو {أَدُّواْ إِلَيَّ} يا عباد الله أسماعكم وأذهانكم {أَنْ أَدُّواْ إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} -[609]- لا تستكبروا عليه

19

{إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بحجة واضحة

20

{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي} التجأت إليه، واحترزت به من {أَن تَرْجُمُونِ} بالحجارة

21

{فَاعْتَزِلُونِ} فاجتنبوني، ولا تؤذوني

23

{فَأَسْرِ بِعِبَادِي} الإسراء: السير ليلاً {إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} يتبعكم فرعون وقومه

24

{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً} ساكناً، أو طريقاً سهلاً، أو يبساً

27

{وَنَعْمَةٍ} متعة {فَاكِهِينَ} متنعمين

28

{كَذَلِكَ} شأني مع من عصاني، ومن أريد إهلاكه {وَأَوْرَثْنَاهَا} أي أورثنا تلكم الجنات والعيون، وهاتيك الزروع والمقام الكريم، وهذه النعمة التي كانوا فيها فاكهين «أورثناها» غيرهم؛ لعلهم بنعمة ربهم لا يكفرون

29

{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ} كناية إلى أنهم هلكوا فلم يجزع عليهم أحد، ولم يحس بنقصانهم. أو هو على الحقيقة؛ فقد ورد أن المؤمن إذا مات: بكى عليه مصلاه، وحزنت عليه ملائكة السماء {وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} مؤجلين للتوبة

31

{إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ} متكبراً، مسرفاً في الكفر

32

{وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ} أي اخترنا بني إسرائيل {عَلَى عِلْمٍ} منا بحالهم، وجدارتهم لهذا الاختيار؛ فقد بعث من بينهم كثير من الأنبياء {عَلَى الْعَالَمِينَ} أي على عالمي زمانهم؛ فلا ينصب الاختيار على الأمة المحمدية؛ لقوله جل شأنه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وذهب بعضهم إلى أن الاختيار على كل العالمين ويكون قوله جل شأنه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} أي بعد بني إسرائيل. وهو قول لا يعتد به؛ فقد تضافرت الآيات، ودل سياق القرآن على أن محمداً خير الأنبياء، وأمته خير الأمم

33

{وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيَاتِ} المعجزات التي جاء بها موسى عليه السلام {مَا فِيهِ بَلاَءٌ} اختبار وامتحان

34

{أَنَّ هَؤُلاَءِ} يعني كفار قريش {لَيَقُولُونَ} لجهلهم، ومزيد كفرهم

35

{إِنْ هِيَ} ما هي {إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُوْلَى} التي نموتها في الدنيا {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} بمبعوثين

36

{فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا} أحيوهم لنا {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فيما تقولونه عن البعث. قال تعالى، رداً عليهم

37

{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} وهو أحد ملوك اليمن، كان يملك اليمن، والشحر، وحضرموت. ويقال لكل من ملك اليمن «تبع» وسموا التبابعة؛ وقد كان «قوم تبع» في غاية من الرخاء والنعمة، والقوة والمنعة؛ فأهلكهم الله تعالى بفسقهم وكفرهم {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم الجاحدة الكافرة

39

{مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي لإقامة الحق وإظهاره فيهما؛ من توحيد الله تعالى، والتزام طاعته {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}

40

{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} أي إن يوم القيامة - الذي يفصل فيه بين الخلائق - موعدهم جميعاً

41

{يَوْمَ لاَ يُغْنِي} لا ينفع، ولا يدفع {مَوْلًى عَن مَّوْلًى} المولى: الصاحب، والصديق، والقريب؛ أي -[610]- يوم لا يدفع القريب عن قريبه، والصديق عن صديقه، والصاحب عن صاحبه {شَيْئاً} من العذاب {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} من الله تعالى

42

{إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ} من المؤمنين؛ فيشفعون لغيرهم، ويشفع غيرهم لهم {إِنَّهُ} تعالى {هُوَ الْعَزِيزُ} بانتقامه من أعدائه {الرَّحِيمُ} بعباده وأوليائه

43

{إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ} هي شجرة قيل: إنها تنبت في قعر جهنم

44

{طَعَامُ الأَثِيمِ} الكثير الآثام {كَالْمُهْلِ} وهو عكر الزيت، أو النحاس المذاب

46

{كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} كغلي الماء الحار

47

{فَاعْتِلُوهُ} فقودوه بغلظة وعنف {إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ} وسطها؛ وقولوا له

49

{ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} يقال له ذلك: استهزاء به، وتشفياً فيه أو المراد: ذق هذا العذاب المهلك المذل؛ إنك كنت في الدنيا العزيز الكريم

50

{إِنَّ هَذَا} العذاب الذي تصلونه؛ هو {مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} أي ما كنتم فيه تشكون

51

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} يؤمن فيه الخوف، والعذاب، والخزي، والهوان

52

{فِي جَنَّاتٍ} بساتين {وَعُيُونٍ} أنهار جارية؛ ترى رأي العين

53

{يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ} وهو ما رق من الديباج {وَإِسْتَبْرَقٍ} ما غلظ منه {مُّتَقَابِلِينَ} يدور بهم مجلسهم؛ يتحدثون متسامرين، ويتضاحكون مستبشرين

54

{وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} الحور: جمع حوراء؛ وهي شديدة سواد العين، مع شدة بياضها. والعين: جمع عيناء؛ وهي الواسعة العينين. هذا وقد أورد بعض المفسرين في أوصاف الحور العين ما تعافه العقول، وتمجه الأذواق والأسماع؛ فقد رووا أنهن مخلوقات من ياقوت ومرجان، وأنه يرى مخ سوقهن؛ إلى غير ذلك من الأوصاف السمجة؛ التي هي في الواقع حط من قدرهن، وتنقيص من شأنهن والحقيقة أنهن كأحسن ما تكون النساء: جمالاً، وصفاء، وطهارة؛ وليس فوق هذا مطمع لطامع، ولا زيادة لمستزيد وليس معنى ذلك أنهن كسائر نساء الدنيا - فهذا ما لا يجوز أن يقال - بل المراد أنهن من نوعهن؛ مع الفارق العظيم؛ لأن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر وهذا الذي حدا بطائفة من ضعاف العقول والأحلام إلى وصف ما في الجنة بما لا يصح أن يوصف به

55

{يَدْعُونَ فِيهَا} يطلبون في الجنة {بِكلِّ فَاكِهَةٍ} يريدونها {آمِنِينَ} من الموت، والمرض، ومن نفاذ النعيم الذي هم فيه، و

56

{لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} التي أدركتهم في الدنيا

58

{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} أي يسرنا القرآن، وسهلنا تناوله {بِلِسَانِكَ} العربي؛ الذي هو لسانهم ولغتهم {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتعظون فيؤمنون

59

{فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ} فانتظر ما يحل بهم من العذاب؛ إنهم منتظرون ما يحل بك من الدوائر.

سورة الجاثية

سورة الجاثية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (انظر آية 1 من سورة البقرة)

2

{تَنزِيلُ الْكِتَابِ} القرآن {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ} في ملكه {الْحَكِيمِ} في صنعه

3

{إِنَّ فِي} خلق {السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} وما فيهما {لآيَاتٍ} علامات دالة على وحدانية الله تعالى، وقدرته

4

{وَفِي خَلْقِكُمْ} أيضاً: آية وأي آية (انظر آية 21 من سورة الذاريات) {وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ} البث: النشر، والتفريق في الأرض؛ أي إن جميع ذلك {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بالبعث؛ لأن من قدر على خلق السموات والأرض، وما فيهما، ومن فيهما، وصوركم، فأحسن صوركم، وفرق في الأرض - بقدرته - من أنواع الدواب، وأصناف البهائم؛ ما فيه خيركم ومصلحتكم: قادر على أن يعيد خلقكم كما بدأكم، ويبعثكم للحساب والجزاء يوم القيامة في

5

{اخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ} بالزيادة والنقصان، والذهاب والمجيء {وَمَآ أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ} مطر. وسمي رزقاً؛ لأنه سبب له {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} جدبها {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} تقليبها: مرة جنوباً، ومرة شمالاً، وباردة تارة، وحارة أخرى؛ كل ذلك حسب حاجات الإنسان، وغذائه وكسائه. وفي جميع ذلك {آيَاتِ} بينات {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} الدليل والبرهان، ويتدبرون الحقائق مجردة عن العناد والهوى

6

{تَلْكَ} الآيات المذكورة {آيَاتِ اللَّهِ} الدالة على وجوده، المثبتة لقدرته، المؤيدة لوحدانيته {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} يا محمد {بِالْحَقِّ} أي بالصدق الذي لا يلابسه شك، أو بطلان؛ فإذا لم يؤمنوا به {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ} حديث {اللَّهْوِ} بعد {آيَاتُهُ} البينات {يُؤْمِنُونَ} {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ}

7

{وَيْلٌ} عذاب شديد {لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} كذاب، كثير الآثام

8

{ثُمَّ يُصِرُّ} على كفره

9

{وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً} كقول بعضهم في الزقوم: إنه الزبد والتمر. وفي خزنة جهنم: إن كانوا تسعة عشر - كما يقول محمد في قرآنه - فأنا ألقاهم وحدي

10

{مِّن وَرَآئِهِمْ} أي من وراء حياتهم في الدنيا، ووراء ما هم فيه من التعزز والتكبر؛ وراء جميع ذلك {جَهَنَّمُ} يصلونها وبئس المصير {وَلاَ يُغْنِي} لا ينفع، ولا يدفع {عَنْهُم} العذاب {مَّا كَسَبُواْ} في الدنيا من المال والفعال {وَلاَ} يغني عنهم {مَا اتَّخَذُواْ} عبدوا {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {أَوْلِيَآءُ} من الأصنام {هَذَا} القرآن

11

{هُدًى} من الضلال {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} الدالة على ربوبيته ووحدانيته {لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ} الرجز: أشد العذاب

12

{لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ} السفن {فِيهِ بِأَمْرِهِ} بإرادته، وحفظه، وكلاءته {وَلِتَبْتَغُواْ} تطلبوا {مِن فَضْلِهِ} رزقه؛ بحمل التجارات، والتقلب في البلاد

13

{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ} من شموس وأقمار وأنجم، وهواء وماء وغير ذلك {وَمَا فِي الأَرْضِ} من دواب وأشجار، ونبات وأنهار، وغير ذلك. سخر ذلك {جَمِيعاً مِّنْهُ} بإرادته وقدرته؛ لا بإرادتكم أنتم وقدرتكم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} دلالات على قدرته ووحدانيته

14

{قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ} يعفوا ويتجاوزوا {لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} أي لا يخافون بأسه ونقمته، أو لا يرجون ثوابه، ولا يخشون عقابه {لِيَجْزِيَ} الله {قَوْماً} بالنعيم {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من الإحسان والغفران. قيل: نزلت قبل نزول الأمر بالقتال. وقيل: بل هي عامة؛ فانظر - يا رعاك الله وهداك - إلى دين يأمر بالعفو عن أعدائه والصبر على أذاهم، والغفران لذنوبهم، ويحث على الإحسان إليهم

16

{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} التوراة {وَالْحُكْمَ} الشرائع المنزلة عليهم، والتي يحكمون بها بين الناس {وَالنُّبُوَّةَ} أكثر ما بعث الله تعالى من الأنبياء في بني إسرائيل: من وقت يوسف، إلى زمن عيسى عليهما السلام -[613]- {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} أي الحلال من الأقوات، أو هو المن والسلوى

17

{وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ} الشرائع التي تحل الحلال، وتحرم الحرام. أو هو أمر الرسول - صلوات الله تعالى وسلامه عليه - وعلائم بعثته، ودلائل نبوته {فَمَا اخْتَلَفُواْ} في أمر دينهم {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام {بَغْياً بَيْنَهُمْ} حسداً منهم، وطلباً للرئاسة؛ فقتلوا أنبياءهم، وأنكروا شرائعهم، وحاربوا ربهم {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ} يحكم ويفصل؛ فيعاقب العاصي، ويثيب الطائع

18

{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ} يا محمد {عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ} الشريعة: المذهب والملة؛ وهي ما شرعه الله تعالى لعباده. أي جعلناك على منهاج واضح من الدين

19

{إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ} لن يدفعوا {عَنكَ مِنَ اللَّهِ} من عذابه؛ إن أراد أن ينزله بخير خلقه وأقربهم منه

20

{هَذَا} القرآن {بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} البصائر: جمع بصيرة؛ وهو ما يبصر بالقلب. ولما كان القرآن وسيلة لإبصار الهدى والرشاد، وكان القلب محلاً للإبصار الحقيقي: سماه تعالى بصائر. كما سماه روحاً، وحياة، وشفاء

21

{اجْتَرَحُواْ} اكتسبوا {أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} لا؛ فإنهما يختلفان تمام الاختلاف: فالمؤمن يحيا مؤمناً ويموت مؤمناً، والكافر يحيا كافراً ويموت كافراً؛ فشتان بين الاثنين، وشتان بين المآلين

22

{بِمَا كَسَبَتْ} عملت من خير أو شر

23

{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أي أطاع هواه في كل ما أمره به؛ فكان في طاعته العمياء كالعابد له (انظر آية 176 من سورة الأعراف) {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} منه تعالى؛ بأنه من أهل الضلال قبل أن يخلق. أو أضله على علم من الضال بفساد ما يعبده من أصنام، وما يحيط به من أوهام {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} أصمه عن سماع الوعظ، وجعل قلبه لا يقبل الحق -[614]- {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} غطاء؛ فلا يرى الحق {فَمَن يَهْدِيهِ} إذن {مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} تتذكرون ذلك وتفقهونه

24

{وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ} أنكروا البعث: وهو أشد أنواع الكفر وقد وجد في هذا العصر من يدين بهذا الدين، ويدعو لهذا المذهب؛ فلهم الخزي والويل يوم يقال لهم {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} (انظر مبحث «التعطيل» بآخر الكتاب) {إِنْ هُمْ} ما هم {إِلاَّ يَظُنُّونَ} ظناً فاسداً، لا على وجه العلم والتأكد

25

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} من القرآن؛ الدالة على قدرتنا على بعثهم وإعادتهم {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ} حيال ذلك {إِلاَّ أَن قَالُواْ} معارضين مناوئين {ائْتُواْ بِآبَآئِنَآ} السابقين أحياء {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فيما تزعمونه من بعثنا بعد موتنا

26

{قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ} ابتداء {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انتهاء آجالكم {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أحياء كما كنتم في الدنيا {لاَ رَيْبَ} لا شك {فِيهِ} في يوم القيامة

27

{يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} الكافرون

28

{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} مجتمعة، باركة على الركب؛ من فرط الذل والهوان {كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} إلى صحائف أعمالها

29

{هَذَا كِتَابُنَا} الذي كتبته الحفظة {يَنطِقُ} يشهد بما فيه {عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} الذي كان منكم {إِنَّ كُنَّا} في الدنيا {نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي كنا نأمر الملائكة بكتابة أعمالكم

30

{فِي رَحْمَتِهِ} في جنته ومغفرته

31

{أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي يقال لهم ذلك {فَاسْتَكْبَرْتُمْ} عن سماعها، وعن تفهمها

32

{وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا} أي والقيامة لا شك في وقوعها

33

{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} أي ظهر لهم جزاء السيئات التي عملوها؛ وهو العذاب المعد لهم {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي نزل بهم إثم استهزائهم بكتبهم، ورسلهم

34

{وَقِيلَ} لهم {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ} من رحمتنا ومغفرتنا {كَمَا نَسِيتُمْ} وأغفلتم {لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} فلم تصدقوا به، ولم تعملوا له

35

{وَغَرَّتْكُمُ} خدعتكم {الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} بلهوها وزخرفها؛ فتمسكتم بها، وحرصتم عليها أي لا يخرجون من الجحيم؛ بل يخلدون فيه {وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ} أي لا يسترضون؛ لأن الاستعتاب: الاسترضاء، والإعتاب: إزالة الشكوى. أو هو من العتاب أي ولا هم يعاتبون: لأن العتاب من علامات الرضا؛ وهو مخاطبة الإدلال، ومذاكرة الوجدان؛ وليس ثمة إدلال، بل إذلال. ولا وجدان بل خذلان وكيف يكون إدلال ووجدان، وقد فعلوا كل موجبات الغضب والحرمان على عدله، والشكر على فضله

37

{وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ} العظمة والجلال، والبقاء والسلطان {وَهُوَ الْعِزِيزُ} في ملكه في صنعه

سورة الأحقاف

سورة الأحقاف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

3

{مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي إلا لإقامة الحق، وبسط العدل {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} هو يوم القيامة: تنتهي فيه السموات والأرض وما بينهما

4

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ} تعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ} مشاركة {ائْتُونِي بِكِتَابٍ} منزل {مِّن قَبْلِ هَذَآ} القرآن {أَوْ أَثَارَةٍ} بقية {مِنْ عِلْمٍ} يدل على صحة ما تعبدون، وما تزعمون

5

{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو} يعبد {مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ} لا يجيبه إلى شيء يسأله؛ وهم الأصنام {وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ} عن عبادتهم {غَافِلُونَ} لأنهم جماد لا يعقل، ولا يحس إن عبدته وعظمته، أو أهنته وحطمته

6

{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ} أي جمعوا للحساب والجزاء يوم القيامة {كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً} أي كانت الأصنام أعداء لعابديها

8

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي اختلق القرآن {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي بما تقولونه من الطعن في القرآن

9

{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ} أي لم أكن أولهم؛ فقد سبقني الكثير منهم: كموسى، وعيسى، وإبراهيم

10

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ} هذا القرآن {مِنْ عِندِ اللَّهِ} كما أقول {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} فماذا يكون حالكم يوم القيامة؟ {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ} هو عبد اللهبن سلام {عَلَى مِثْلِهِ} على التوراة - التي هي مثل القرآن في نسبتها إلى الله تعالى - بأن فيها ذكر الرسول، وصفته، وأنباء بعثته {فَآمَنَ} هو بالقرآن {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} عن الإيمان به

11

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} اليهود {لِلَّذِينَ آمَنُواْ} منهم؛ كعبد اللهبن سلام وأضرابه {لَّوْ كَانَ} هذا الدين {خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} أي ما سبقنا إليه الفقراء والرعاع؛ كبلال، وصهيب، وعمار {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ} أي بالقرآن {فَسَيَقُولُونَ هَذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ} أي كذب. وذلك كقولهم {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} والإفك: أسوأ الكذب وأفحشه

12

{وَمِن قَبْلِهِ} أي قبل القرآن {كِتَابُ مُوسَى} التوراة {إِمَاماً} أي قدوة يؤتم به في دين الله تعالى وشرائعه {وَرَحْمَةً} للمؤمنين؛ لأنه ينقلهم من الظلمات إلى النور {وَهَذَا} القرآن {كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ} لما سبقه من الكتب {لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} كفروا؛ بالعذاب الأليم -[618]- {وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} المؤمنين بالنعيم المقيم

13

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ} أقاموا على الطاعة، وجانبوا المعصية

15

{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} أي أمرناه أمراً جازماً بالإحسان إليهما {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً} أي ذات كره. والمراد به: المشقة أثناء الحمل {وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} أي بتعب ومشقة أثناء الوضع {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} أي مدة حمله وإرضاعه حتى ينفطم {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} استكمل قوته وعقله. وبلوغ الأشد: بين ثماني عشرة إلى ثلاثين؛ وهو أيضاً بلوغ الحلم. وهو مثل ضربه الله تعالى للمؤمن المصدق {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} ألهمني {وَأَنْ أَعْمَلَ} عملاً {صَالِحاً تَرْضَاهُ} وهو اتباع أوامره تعالى، واجتناب نواهيه {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} أي هبني ذرية مؤمنة؛ وهو كقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي} {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} مما جنيت في سابق أيامي

17

{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} أفٍ: كلمة تضجر؛ وقد نزلت هذه الآية في الكافر العاق لوالديه، المكذب بالبعث {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} أي أخرج من الأرض بعد الموت، وأبعث {وَقَدْ خَلَتِ} مضت {الْقُرُونِ} الأمم {وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ اللَّهَ} أي يطلبان من الله تعالى الغوث؛ ليرجع ابنهما عن غيه وبغيه، ويرده عن كفره؛ ويقولان له {وَيْلَكَ آمِنْ} أي الويل لك؛ آمن ب الله وبالبعث {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالقيامة والبعث، والحساب والجزاء {حَقٍّ} واقع؛ لا مراء فيه -[619]- {فَيَقُولُ} لهما {مَا هَذَآ} الذي تقولانه {إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أكاذيبهم

18

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} وجب عليهم العذاب {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ} قد مضت {مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} الكافرين

19

{وَلِكُلِّ} من جنس المؤمن والكافر {دَرَجَاتٌ} فدرجات المؤمنين في الجنة، ودرجات الكافرين في النار. والجنة درجات والجحيم دركات {مِّمَّا عَمِلُواْ} أي إن أعمالهم هي التي أوصلت كلا منهم إلى درجته التي يستحقها {وَلِيُوَفِّيَهُمْ} الله تعالى {أَعْمَالَهُمْ} أي جزاءها

20

{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ} ليدخلوها؛ يقال لهم حينئذ {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} الباقية، بانصرافكم عن الإيمان، واشتغالكم بالملذات والشهوات. أو «أذهبتم طيباتكم» أذهبتم أعمالكم الطيبة؛ التي عملتموها في الدنيا: كالصدقة، وصلة الرحم، وأمثالهما {فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} تمتعتم بما يقابلها؛ من صحة وسعة؛ وأصبح لا مقابل لها في الآخرة؛ وقد أوفاكم الله تعالى - لسعة فضله وكرمه - أجوركم عليها في دنياكم؛ فلم يبق لكم سوى الجحيم، والعذاب الأليم {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ} على ما كسبتم من الكفر {عَذَابَ الْهُونِ} الهوان. وقرىء به {بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} تتكبرون

21

{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} هو هود عليه السلام {بِالأَحْقَافِ} هو واد باليمن؛ وبه منازلهم {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ} مضت الرسل {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ} من قبله {وَمِنْ خَلْفِهِ} من بعده. وقرىء شاذاً: «من قبله ومن بعده» ولولا ذلك؛ لجاز العكس.

22

{لِتَأْفِكَنَا} لتصرفنا {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} من العذاب

23

{قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ} بوقت نزول العذاب {عَندَ اللَّهِ} فهو وحده ينزله متى شاء

24

{فَلَمَّا رَأَوْهُ} الضمير للعذاب {عَارِضاً} العارض السحاب الذي يعرض في أفق السماء {مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} أي متجهاً إليها {قَالُواْ هَذَا عَارِضٌ} سحاب {مُّمْطِرُنَا} بعد محل، ومخصبنا بعد جدب. فقيل لهم: لا. ليس الأمر كما توهمتم {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ} من العذاب؛ وما هو إلا {رِيحٌ} عاتية {فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قيل: القائل لذلك هود عليه السلام؛ يؤيده قراءة من قرأ: قال هود {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ}

25

{تُدَمِّرُ} تهلك {كُلِّ شَيْءٍ} مرت عليه {بِأَمْرِ رَبِّهَا} بقدرته وإرادته {فَأَصْبَحُواْ} بعد نزول العذاب بهم هلكى {لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} لتدل على ما حل بساحتهم. وذهب بعض الصوفية إلى أن المراد بمساكنهم: أجسادهم؛ بعد أن خلت من أرواحهم

26

{وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} المكانة: المنزلة والتمكن. أي ولقد مكناهم فيما لم نمكنكم فيه أو {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} لفجرتم أكثر من فجوركم، ولطغيتم أكثر من طغيانكم {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً} كسمعكم {وَأَبْصَاراً} كأبصاركم {وَأَفْئِدَةً} قلوباً كقلوبكم، وعقولاً كعقولكم {فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ} أنهم قد أصموا أسماعهم عن الاستماع إلى الهدى، وأعموا أبصارهم عن رؤية الحق، وأقفلوا قلوبهم عن تفهم الإيمان؛ و {كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} ينكرون حججه البينات، ودلائل قدرته الظاهرات {وَحَاقَ} نزل {بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ} وهو العذاب الذي كانوا ينكرون حدوثه

27

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى} أي أهلكنا أهلها: كعاد وثمود، وقوم لوط، ونحوهم؛ مما كان يجاور بلاد الحجاز، وأخبارهم متواترة ذائعة عندهم {وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ} بينا الحجج والعظات والدلالات، وكررناها عليهم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن كفرهم

28

{فَلَوْلا} فهلا {نَصَرَهُمُ} أي دفع العذاب عن أهل هذه القرى المهلكة {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {قُرْبَاناً آلِهَةَ} معه؛ وهم الأصنام؛ لأنهم كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} {بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} غابوا عنهم، وعن نصرتهم؛ عند نزول العذاب {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} كذبهم. والإفك: أسوأ الكذب

29

{وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ} أملناهم إليك. والنفر: ما دون العشرة. وكانوا من جن نصيبين باليمن - وهي قاعدة ديار ربيعة - أو جن نينوى {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} أي حضروا مجلس الرسول وقت تلاوة القرآن {قَالُواْ} لبعضهم {أَنصِتُواْ} اسكتوا؛ لنستمع لما يتلى ونتفهمه {فَلَمَّا قَضَى} أي فرغ الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه من القراءة {وَلَّوْاْ} انصرفوا مسرعين -[621]- {إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} مخوفين لهم بالعذاب الذي سمعوه، والذي أعده الله تعالى لمن يكفر به، ولا يصدق بكتابه. قالوا لقومهم

30

{إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً} يعنون القرآن الكريم {أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} لما تقدمه من الكتب؛ كالتوراة والإنجيل {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} الواضح {وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} لا عوج فيه. وهل أقوم من الإسلام، وأهدى من الإيمان؟

31

{يقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ} رسوله الذي يدعو إليه، وإلى دينه القويم {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} التي اقترفتموها قبل إيمانكم؛ لأن الإيمان يجبّ ما قبله {وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ذهب كثيرون إلى أن الجن ثوابهم: أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا تراباً؛ فيكونوه؛ كالبهائم تماماً. وذهب آخرون إلى أنهم كما يعاقبون على سيئاتهم: يثابون على حسناتهم. وهذا القول أولى بالصواب وأجدر بالعدالة الإلهية، قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} بعد مخاطبته للجن والإنس بقوله {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ}

32

{فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضَ} أي لن يعجز الله بالهرب من بطشه وعقوبته {وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ} غيره {أَوْلِيَاءَ} أنصار يمنعونه عذاب الله تعالى، أو يدفعون عنه عقابه {أُوْلَئِكَ} الذين لم يجيبوا داعي الله {فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} الضلال: ضد الهدى. ويطلق أيضاً على الحيرة، والموت

33

{وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} أي لم يتعب، ولم يعجز {بَلَى} أي نعم هو قادر على بعث الموتى وإحيائهم

34

{أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} أي يقال لهم: أليس هذا العذاب هو الحق الذي تستحقونه، وقد استوجبتموه بكفركم، وقد جئناكم في الدنيا بأنبائه؛ فلم تؤمنوا بوقوعه

35

{فَاصْبِرْ} يا محمد على أذى قومك {كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ} ذووا الجد والثبات والصبر {مَّنَ الرُّسُلِ} الذين تقدموك {وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} أي لا تستعجل العذاب لقومك {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من العذاب يوم القيامة {لَّمْ يَلْبَثُواْ} في الدنيا، أو في القبور {إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} وذلك لشدة ما يلقون من هول القيامة {بَلاَغٌ} أي هذا القرآن «بلاغ» من الله تعالى إليكم.

سورة محمد عليه الصلاة والسلام

سورة محمد عليه الصلاة والسلام بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{وَصَدُّواْ} منعوا وصرفوا {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أحبطها وأبطلها؛ وذلك كإطعام الطعام؛ ولين الكلام، وصلة الأرحام، وبر الأيتام؛ فلا يجدون ثواباً لذلك في الآخرة؛ لأن الله تعالى عجل لهم جزاء أعمالهم في الدنيا

2

{كَفَّرَ عَنْهُمْ} غفر لهم ذنوبهم، ومحا {سَيِّئَاتِهِمْ} في الآخرة {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} في الدنيا؛ فتجد المؤمن - وقد تلفع بالفقر، وتسربل بالمصائب - هادىء البال، قرير العين، مطمئن القلب، ساكن النفس

3

{ذَلِكَ} الإضلال والإحباط، والتكفير والإصلاح {بِأَنَّ} بسبب أن {الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ} ولم يجيبوا داعيالله؛ فاستحقوا الإضلال {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّبَعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ} فاستوجبوا تكفير ذنوبهم، وإصلاح بالهم {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} فالكافر يحبط عمله، والمؤمن يغفر زلله

4

{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} في ساحة القتال {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} أي فاضربوا رقابهم واقتلوهم {حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ} أكثرتم فيهم القتل. والإثخان: المبالغة في الجراحة والتوهين {فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ} أي فأسروهم. قال تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} أي حتى يبالغ في النيل من أعداء الله والبطش بهم؛ ليشرد بهم من خلفهم، وليكونوا عبرة لغيرهم {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} أي فإما أن تمنوا على الأسرى بالإطلاق؛ فتكون لكم يد عليهم، وجميل في أعناقهم {وَإِمَّا فِدَآءً} وإما أن تأخذوا منهم الفدية {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أي تضع أثقالها؛ من السلاح وغيره؛ بأن يسلم الكفار، أو يدخلوا في العهد {وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ} أي لأهلكهم بغير قتال {وَلَكِن} جعل عقوبتهم في القتال {لِّيَبْلُوَ} ليختبر {بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} ليعلم المجاهدين والصابرين

6

{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي التي عرفها لهم، وبشرهم بها في الدنيا على لسان رسله

7

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ} أي تنصروا دينه ورسله وتعاليمه. ومن نصرة الله تعالى: إقامة الحق، وعدم كتمان الشهادة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر {يَنصُرْكُمْ} على أعدائكم، وعلى أنفسكم، وعلى الشيطان الرجيم {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} عند مجاهدة العدو، ومجاهدة النفس

8

{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} أي هلاكاً وخيبة

9

{ذَلِكَ} الهلاك والخيبة {بِأَنَّهُمُ} بسبب أنهم {كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} كرهوا القرآن، وما اشتمل عليه من شرائع وتكاليف، وأوامر ونواه {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أبطلها {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الكفار

10

{دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي أهلكهم هلاك استئصال {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} أي أمثال عاقبة من قبلهم من العذاب والتدمير

11

{ذَلِكَ} الإحباط والتدمير {بِأَنَّ} بسبب أن {اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ} وليهم وناصرهم، وحافظهم، وكافلهم؛ لأنهم يتوكلون عليه، وينيبون إليه {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ} ينصرهم؛ أو يحفظهم؛ لأنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ووكلهم إليها وإلى شياطينهم

12

{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ} في الدنيا {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} التي تأكل وهي غير عابئة بعاقبتها، ولا حاسبة لمآلها حساباً. ومآلها النحر والذبح والمهانة {وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} أي منزل ومقام ومصير

13

{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} وكم من قرية. والمراد بالقرية أهلها {مِّن قَرْيَتِكَ} مكة

14

{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ} حجة واضحة، وبرهان ظاهر. وهو المؤمن {كَمَن زُيِّنَ} زينت {لَهُ} نفسه وشيطانه {سُوءُ عَمَلِهِ} وهو الكافر {وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءَهُمْ} ولم يتبعوا ربهم

15

{مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ} غير متغير الطعم، أو الرائحة، أو اللون؛ كماء الدنيا {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} أي ليست كخمر الدنيا: رديئة الطعم، شنيعة الرائحة {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} لا تشوبه شائبة. قد يقول قائل: وما لذة تناول العسل لمن لا يتقبله في الدنيا؛ أو لا يطيق الإكثار منه؟ والجواب على ذلك: أن الله تعالى ساق لعباده في جنته كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين؛ وقد تعاف بعض النفوس ما يشتهى، وتتأذى بعض العيون بما يتلذذ به: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم وحينما تشتفي النفوس من أمراضها، والأعين من أرمادها؛ فإنها تعود إلى طبيعتها السليمة: فتشتهي ما يشتهى، وتلذ بما يتلذذ منه. والعسل من أفضل أنواع الحلوى: مذاقاً، ولوناً، وريحاً، ونفعاً {وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} والمغفرة خير من سائر النعيم وهذا مثل المؤمن وما يلقاه من كرم مولاه أما مثل الكافر {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} أي أمن هو خالد في النعيم المقيم؛ كمن هو خالد في العذاب الأليم؟ {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً} بالغاً نهاية الحرارة

16

{وَمِنْهُمْ} أي من الكفار والمنافقين {مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} حين تقرأ القرآن، أو تخطب للجمعة، أو تعظ المؤمنين {قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وممن آمن من أهل الكتاب {مَاذَا قَالَ آنِفاً} أي ماذا قال الآن {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} غطاها عقوبة لهم؛ فلا تسمع ولا تعي

17

{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ} بهداية الله ورسوله وكتابه {زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} أي آتاهم جزاء تقواهم؛ أو ألهمهم من الأعمال ما يتقون به غضبه وناره

18

{فَهَلْ يَنظُرُونَ} ما ينتظرون {إِلاَّ السَّاعَةَ} القيامة {بَغْتَةً} فجأة {أَشْرَاطُهَا} علاماتها {فَأَنَّى لَهُمْ} فكيف لهم {إِذَا جَآءَتْهُمْ} الساعة {ذِكْرَاهُمْ} تذكرهم. أي لا ينفع تذكرهم وإيمانهم بعد مجيء الساعة، أو مجيء أشراطها؛ حيث لا يقبل اعتذار، ولا استغفار

19

{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} إشارة إلى أن العمل يكون بعد العلم؛ كما في قوله جل شأنه: {اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} وقال بعد ذلك {سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ}. -[625]- {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ} سيركم وسعيكم في معايشكم ومتاجركم {وَمَثْوَاكُمْ} مأواكم إلى مضاجعكم بالليل. أو «متقلبكم» أعمالكم في الدنيا «ومثواكم» جزاءكم في الآخرة. والمعنى أنه عالم بجميع أحوالكم، لا يخفى عليه تعالى شيء منها

20

{لَوْلاَ} هلا {مُّحْكَمَةٌ} أي غير متشابهة؛ بل واضحة لا تحتمل التأويل. وقيل: كل سورة نزل فيها القتال فهي محكمة لم ينسخ منها شيء. وذلك لأن القتال ناسخ للصفح والمهادنة وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} شك؛ وهم المنافقون {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} لشدة جبنهم، ومزيد خوفهم {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} وذلك لأن الميت يشخص بصره كالمذعور {فَأَوْلَى لَهُمْ} تهديد ووعيد. أو المعنى: فخير لهم

21

{طَاعَةٌ} لك {وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} للمؤمنين {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ} أي فرض القتال ووجب {فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ} وجاهدوا في سبيله. واتبعوا أوامره {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} من القعود عن الجهاد، والنكوص والنفاق؛ لأن نتيجة الجهاد: الاستشهاد - وهو الفوز الأكبر - أو الظفر والغنيمة

22

{فَهَلْ عَسَيْتُمْ} أي فلعلكم {إِن تَوَلَّيْتُمْ} الأمر والحكم، أو «إن توليتم» بمعنى أعرضتم عن الإيمان والطاعة {أَن تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ} بالعصيان، والقتل، والظلم، وأخذ الرشوة {وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ} تعادوا أهليكم ولا تبروهم

23

{أُوْلَئِكَ} الذين تعاموا عن الحق، وأفسدوا في الأرض: هم {الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} طردهم من رحمته {فَأَصَمَّهُمْ} عن استماع الهدى {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} عن الصراط المستقيم

24

{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} فيعرفون ما فيه {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} أم قلوبهم مقفلة لا يدخلها الهدى، ولا يصل إليها الذكر

25

{سَوَّلَ} زين {وَأَمْلَى لَهُمْ} أي مد لهم في الآمال والأماني، أو أملى لهم الشيطان الكفر والفسوق والعصيان

26

{ذَلِكَ} الإضلال الواقع عليهم {بِأَنَّهُمُ} بسبب أنهم {قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ} أي للمشركين؛ لأنهم كرهوا القرآن الكريم، وكرهوا الاستماع إليه. قالوا لهم {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} أي في عداوة الرسول، وتثبيط الناس عن الجهاد معه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} ما أسروه من ذلك فيما بينهم

27

{فَكَيْفَ} بهم {إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ} يعني إذا لم يصبهم العذاب في الدنيا؛ فإن الموت لاحق بهم لا محالة. فكيف يكون حالهم عند الموت، والملائكة {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} ظهورهم. والمراد أن العذاب ينزل حينذاك على سائر أعضائهم

28

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ} عليهم {وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ} أي كرهوا العمل بما يرضيه {فَأَحْبَطَ} أبطل {مَّرَضٌ} شك ونفاق

29

{يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} يظهر أحقادهم على الرسول وعلى المؤمنين

30

{وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ} على حقيقتهم {فَلَعَرَفْتَهُم} عرفت سرائرهم، كما عرفت ظواهرهم {بِسِيمَاهُمْ} بعلاماتهم {فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} فحواه ومعناه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} ما خفي منها وما ظهر، وما أريد به وجهه الكريم، وما أريد به الفخر والمراءاة

31

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} لنختبرنكم بالقتال {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} نعلم ونظهر أسراركم، وخفايا قلوبكم

32

{وَصَدُّواْ} منعوا الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه {وَشَآقُّواْ} خاصموا وخالفوا {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} ظهرت شواهده، وبانت دلائله؛ وهل بعد إرسال الرسل بالمعجزات، والكتب بالبينات، وإنزال الآيات تلو الآيات. هل بعد جميع ذلك تحتاج معرفة الله تعالى إلى تبيان أو برهان؟ {وَسَيُحْبِطُ} يبطل

33

{وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ} بالمعاصي، والنفاق، والرياء

34

{وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} عن دينه، والجهاد في سبيله

35

{فَلاَ تَهِنُواْ} تذلوا وتجبنوا {وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ} إلى الصلح بعد بدء القتال {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} الغالبون {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي ولن ينقصكم أجر أعمالكم

36

{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} فلا يحرص العاقل عليها، ولا يميل إليها؛ ولا يأسف على فقدها. إنما يكون الحرص على الآخرة وما فيها من أجر كبير غير ممنون {وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} جميعها؛ بل زكاتها فقط. «ولا يسألكم أموالكم» أنتم؛ بل ماله هو الذي خلفكم عليه

37

{إِن يَسْأَلْكُمُوهَا} جميعاً {فَيُحْفِكُمْ} أي يجهدكم ويطلب ما يثقل عليكم {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} أي ويظهر أحقادكم على الإسلام والمسلمين

38

{وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} أي فإنما يبخل عن نفسه بحرمانها من جزاء العطاء، ومن الأجر العظيم المعد للمنفقين {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ} عنكم {وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ} إليه {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ} تعرضوا {يَسْتَبْدِلْ} الله تعالى {قَوْماً غَيْرَكُمْ} يستخلفهم في أرضه {ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم} في الكفر، والجحود، والبخل؛ بل يكونون مؤمنين، طائعين، منفقين، مسرعين في إجابة داعي الله

سورة الفتح

سورة الفتح بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} هو فتح مكة، وقيل الحديبية. وقيل: خيبر

2

{لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} بسبب جهادك الكفار {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} خطاب للرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ والمراد به أمته. لأنه معصوم من الذنوب حتماً بعد النبوة، مطهر منها، بعيد عنها قبل النبوة {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بتوالي الفتوح وإخضاع من تجبر، وطاعة من استكبر {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} يثبتك على الهدى؛ إلى أن يقبضك عليه

3

{وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} كبيراً عظيماً؛ لا ذل بعده

4

{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ} الطمأنينة {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ} من الملائكة {وَالأَرْضِ} من الإنس والجن {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً} بخلقه {حَكِيماً} في صنعه

5

{لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} أي إن إنزال السكينة: سبب في ازدياد الإيمان. وازدياد الإيمان: سبب في دخول الجنان {وَيُكَفِّرَ} يمحو {وَكَانَ ذَلِكَ} الدخول في الجنان. والقرب من الرحمن، وتكفير السيئات، وجزاء الحسنات {فَوْزاً عَظِيماً} ظفراً بكل مطلوب، ونجاة من كل مرهوب

6

{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} أي {أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} ليزيدهم ثباتاً وإقداماً، و {لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً} بمصابرتهم على الجهاد، ومزيد يقينهم، وانتصارهملله ورسوله؛ وليعذب المنافقين بالذل، والأسر، والقتل؛ في الدنيا. وبالجحيم، والعذاب الأليم في الآخرة؛ بسبب نفاقهم وكفرهم {الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} وذلك أنهم ظنوا أن الله تعالى لن ينصر محمداً كما وعده، ولن يدخله مكة ظافراً {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ} الخزي والعذاب

8

{إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} على أمتك؛ بل على سائر الأمم {وَمُبَشِّراً} من أطاعك وآمن بالجنة {وَنَذِيراً} لمن عصاك بالنار

9

{وَتُعَزِّرُوهُ} تنصروه. وقرىء «وتعززوه» {وَتُوَقِّرُوهُ} تحترموه. والتوقير: نهاية الإجلال والاحترام {وَتُسَبِّحُوهُ} الضمير في التعزير، والتوقير؛ للرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه. والتسبيحلله تعالى. وقيل: الضمير في الكللله جل شأنه {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} صباحاً ومساء. والبكرة: التبكير. والأصيل: ما بعد العصر إلى المغرب؛ وهو كقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}

10

{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يريد تعالى أن يد الرسول التي تعلو أيدي المبايعين: هي يدالله؛ لأن الله تعالى منزه عن الجوارح، وعن صفات الأجسام. والمعنى: أن من بايع الرسول فقد بايعالله؛ كقوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} أو يكون المعنى: يد الله في العطاء، فوق أيديهم في الوفاء. ويده في المنة، فوق أيديهم في الطاعة. وقد ذهب المجسمة - أخزاهم الله تعالى - إلى أنلله جل شأنه من الجوارح ما للإنسان. وأن كل ما في القرآن من صفاته تعالى: على ظاهرها: كاليد، والرجل، والعين، والأذن، والقيام، والجلوس، والمشي، وغير ذلك. وهو قول أجمع السلف الصالح على بطلانه، وفساده. ونرى تكفير قائله: لاستهانته بقدر مولاه سبحانه وتعالى {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} {فَمَن نَّكَثَ} نقض البيعة {فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} لأن إثم نقضه يعود عليه، ويعاقب بسببه

11

{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ} وهم الذين تخلفوا عن الجهاد {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} أي لم تشغلهم الأموال والأهل؛ بل شغلهم الجبن والخوف، ولم يطلبوا الاستغفار، رغبة في الاعتذار؛ بل أرادوا به النفاق، وهم كاذبون في استغفارهم، كافرون في قرارة نفوسهم {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً} فهل يستطيع أحد أن يدفعه؟ {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} فهل يستطيع أحد أن يمنعه؟

12

{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ} لن يرجع {الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ} من القتال {إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} بل إنهم يستأصلون بالقتل والتشريد {ظَنَنْتُمْ} بالله {ظَنَّ السَّوْءِ} وأنه لن ينصر رسله {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} أي هلكى

13

{فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا} أعددنا وهيأنا

14

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَتِ وَالأَرْضِ} وما فيهما، ومن فيهما {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} أي إنه تعالى غني عن عباده؛ يثيب من آمن، ويعذب من كفر {وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ}

15

{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} الذين تخلفوا عن الجهاد لنفاقهم {إِذَا انطَلَقْتُمْ} في جهادهم {إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} هي مغانم خيبر {ذَرُونَا} دعونا {نَتَّبِعْكُمْ} في أخذ هذه المغانم {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ} وعده لأهل الحديبية؛ وقد وعدهم غنائم خيبر خاصة؛ عوضاً عن فتح مكة؛ إذ رجعوا من الحديبية على صلح، ولم يفوزوا منها بغنيمة. وقيل: {يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ} يغيروه؛ وقد قال: {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} -[630]- {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أي لم يقل الله ذلك؛ بل تحسدوننا أن نصيب معكم من الغنائم؛ وقد أراد الله تعالى أن يعطي المنافقين فرصة أخيرة تؤمنهم عذابه، وتجنبهم غضبه، وتدنيهم من رحمته: فقال لرسوله عليه الصلاة والسلام

16

{قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ} الذين تخلفوا عن الجهاد {سَتُدْعَوْنَ إِلَى} محاربة {قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أصحاب قوة عظيمة. قيل: هم بنو حنيفة. وقيل: فارس والروم {تُقَاتِلُونَهُمْ} فتقتلونهم وتأسرونهم {أَوْ يُسْلِمُونَ} فتمسكوا عن قتالهم وأسرهم، ويكون لهم ما للمسلمين: من تكريم وإعظام {فَإِن تُطِيعُواْ} الله والرسول في جهادكم حال كفرهم، وتكريمهم حال إسلامهم {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً} النصر والغنيمة في الدنيا. والجنة وحسن الثواب في الآخرة {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ} تعرضوا عن الجهاد {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ} وتخلفتم {يُعَذِّبْكُمْ} الله {عَذَاباً أَلِيماً} في الدنيا بالذلة والمهانة، وفي الآخرة بالجحيم، والعذاب الأليم

17

{لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} في التخلف عن الجهاد؛ لأذن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها {وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ} الذي لا يستطيع الجهاد لمرضه {حَرَجٌ} أيضاً في التخلف. هذا ولا يسمى الصداع، أو الحكة، أو ما شابههما، مرض يعوق عن الفريضة العظمى: التي ترفع الرؤوس، وتحفظ النفوس، وتصون الديار، وتحمي الذمار وإنما المرض العائق، الداعي للتخلف: هو ما يمكن الخصم من النيل منك، ويمنعك من الدفاع عن نفسك: كالعمى، والعرج، والمرض الذي يزيد الجهاد في وطأته، ويودي إلى التهلكة {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ويجاهد في سبيله: يؤته في الدنيا عزة ورفعة، و {يُدْخِلْهُ} في الآخرة {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} {نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} {وَمَن يَتَوَلَّ} يعرض عن الجهاد؛ فله جهنم وبئس المهاد

18

{لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ} يعاهدونك بالحديبية: على الجهاد، وبذل النفس والنفيس؛ في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، وبسط دينه، ونصرة نبيه {تَحْتَ الشَّجَرَةِ} هي سمرة كانوا يستظلون بها وقتذاك. وقد قطعها عمربن الخطاب رضي الله تعالى عنه؛ حين رأى - بعد رفع الرسول عليه الصلاة والسلام - طواف المسلمين بها، وتعظيمهم لها؛ وهم حديثو عهد بالجاهلية وعبادة الأصنام {فَعَلِمَ} الله تعالى {مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من الإيمان، والصدق، والوفاء {فَأنزَلَ السَّكِينَةَ} الطمأنينة {وَأَثَابَهُمْ} جازاهم {فَتْحاً قَرِيباً} نصراً عاجلاً؛ اطمأنت به قلوبهم: وهو فتح خيبر؛ عند انصرافهم من الحديبية

19

{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} بعد ذلك؛ من فارس والروم. أو هي مغانم خيبر: وقد غنموا منها أموالاً وعقاراً، وعتاداً. و

20

{وَعَدَكُمُ اللَّهُ} أيضاً {مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} غير هذه المغانم {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} لتطمئن قلوبكم -[631]- {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} بأن قذف في قلوب اليهود الرعب؛ فلم يحاربوكم، ولم يمسوا أموالكم ولا أهليكم بالمدينة عند خروجكم إلى خيبر والحديبية {وَلِتَكُونَ} هذه الغنائم المعجلة {آيَةً} علامة {لِّلْمُؤْمِنِينَ} على صدق وعد الله تعالى؛ وليعلموا أن الله تعالى قد حرسهم في مشهدهم ومغيبهم {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} هو طريق الطاعة الموصل إلى مرضاته تعالى

21

{وَأُخْرَى} أي ومغانم أخرى {لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} أي ما كان لكم أن تقدروا عليها؛ لولا نصره تعالى ومعونته؛ وهي مغانم هوازن. وقيل: فارس والروم؛ أو هما معاً {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} أي علم وقدر أنها ستكون لكم، وأقدركم عليها بفضله لا بقوتكم

22

{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ} بالحديبية؛ ولم يصطلحوا {لَوَلَّوُاْ الأَدْبَارَ} لأن الله تعالى قد قضى بنصرتكم عليهم: محاربين أو مسالمين

23

{سُنَّةَ اللَّهِ} أي سن الله تعالى سنة وطريقة؛ وهي إعزاز المؤمنين، وإذلال الكافرين {الَّتِي قَدْ خَلَتْ} قد مضت

24

{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} فلم يقاتلوكم {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم} فلم تقاتلوهم {بِبَطْنِ مَكَّةَ} بالحديبية {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} قيل: هبط ثمانون رجلاً؛ من أهل مكة: شاكي السلام؛ يريدون غرة المؤمنين والفتك بهم. فرآهم المؤمنون، وأمسكوهم بالأيدي. وبعد ذلك أمر النبي بإخلاء سبيلهم؛ وسموا بذلك العتقاء؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أعتقهم من القتل؛ وكان من بينهم معاوية وأبوه

25

{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني قريشاً {وَصَدُّوكُمْ} منعوكم {عَنِ} بلوغ {الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} عام الحديبية؛ وقد أحرم المؤمنون بعمرة {وَالْهَدْيَ} هو ما يهدى إلى الحرم من البُدُن {مَعْكُوفاً} محبوساً بفعل المشركين {أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} مكانه الذي ينحر فيه عادة؛ وهو الحرم {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ} موجودون بمكة مع المشركين؛ وهم المستضعفون {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} لم تعرفوهم، أو لم تعلموا إيمانهم {أَن تَطَئُوهُمْ} تقتلوهم خطأ مع الكفار {مَّعَرَّةٌ} إثم وعيب. أي لولا ذلك؛ لأن الله لكم في دخول مكة، والفتك بمن فيها. ولعل المراد {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ} في أصلاب هؤلاء الكفار «لم تعلموهم» والله تعالى يعلمهم «أن تطئوهم» بقتل من هم في أصلابهم «بغير علم» منكم بما فعلتم. لولا ذلك لأذن الله تعالى لكم في قتلهم؛ وذلك {لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} من هؤلاء الذراري المؤمنين {لَوْ تَزَيَّلُواْ} تفرقوا، وتميزوا عن الكفار، وخرجوا من أصلابهم إلى عالم الظهور {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ} من أهل مكة، وأبحنا لكم فتحها وقتال من فيها

26

{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} الكبر والأنفة، والغلظة والعصبية -[632]- {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} وهي أنهم قالوا: لقد قتلوا أبناءنا وإخواننا؛ ثم يدخلون علينا في منازلنا؟ واللات والعزى لا يدخلنها أبداً {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} طمأنينته {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} هي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله وأضيفت إلى التقوى: لأنها سببها {وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا} أحق بكلمة التقوى؛ لأنهم سمعوها واتبعوها؛ فكانوا أحق بها من كفار مكة؛ الذين أصموا آذانهم عن استماعها، وقلوبهم عن قبولها {وَأَهْلَهَا} أي وكانوا أهل هذه الكلمة؛ المستوجبين لفضلها، الحائزين لشرفها

27

{لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} رأى رسولالله في المنام - عام الحديبية - أنه يدخل مكة هو وأصحابه: محلقين ومقصرين؛ فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا. وقد تحققت الرؤيا بفتح مكة (انظر آية 60 من سورة الإسراء) {لاَ تَخَافُونَ} من أحد {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ} أي فعلم من تأخير دخولكم مكة؛ ما لم تعلموه من الخير لكم، والصلاح لأحوالكم {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} أي جعل من قبل فتح مكة «فتحاً قريباً» عاجلاً؛ هو فتح خيبر

28

{لِيُظْهِرَهُ} أي ليعلى الإسلام {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} على سائر الأديان

29

{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} إلينا؛ فضلاً من الله علينا (انظر آية 4 من سورة القلم) {وَالَّذِينَ مَعَهُ} من المؤمنين {أَشِدَّآءُ} غلاظ أقوياء {عَلَى الْكُفَّارِ} وليست الغلظة والشدة من صفاتهم؛ بل هم {رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} يرحم كبيرهم صغيرهم، ويوقر صغيرهم كبيرهم {سِيمَاهُمْ} علامتهم {فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} هو نور الإيمان يلوح في وجه المصلي؛ فتراه كالبدر ليلة التمام - رغم رقة حاله، ورثاثة هيأته - فترى الزنجي الأسود - رغم فقره وقبحه - يتلألأ وجهه ضياء، ويزداد حسناً وبهاء؛ لملازمته الصلاة، وتذلله لمولاه وترى العاصي - رغم وجاهته وغناه - على وجهه غبرة، ترهقها قترة وما ذاك إلا لتركه الجماعة، وانصرافه عن الطاعة. ولا وجه لمن يقول: إن أثر السجود هو النكتة السوداء التي تحدث في وجوه البعض من أثر السجود على الحصير ونحوه؛ فمثل ذلك قد يحدث لكثير ممن يلازمون الصلاة، ويفرطون في جنب الله فكم من مصلٍ لا يأتمر بمعروف، ولا ينتهي عن منكر وكم من مصل يلغ في أعراض المؤمنين، ولا يتقي رب العالمين وكل هؤلاء لهم في جباههم من آثار السجود كركبة البعير أو أشد؛ وهم أبعد الناس عن مغفرةالله، وعن جنة الله {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ} أي ذلك الوصف المذكور صفتهم {فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ} صفتهم {فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} فراخه وورقه. يقال: أشطأ الزرع: إذا أفرخ {فَآزَرَهُ} قواه وأعانه {فَاسْتَغْلَظَ} غلظ وقوى {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} استقام على أصوله. وهذا مثل ضربه الله -[633]- تعالى للإيمان؛ حيث بدأ ضعيفاً، ثم قوي. عن عكرمة «أخرج شطأه» بأبي بكر «فآزره» بعمر «فاستغلظ» بعثمان «فاستوى على سوقه» بعلي؛ رضوان الله تعالى عليهم {يُعْجِبُ} هذا الزرع {الزُّرَّاعَ} وهم أصحاب محمد؛ الذين نصروا الدين ونشروه، وأيدوا دعوة الله باللسان والسنان {لِيَغِيظَ} الله تعالى {بِهِمُ الْكُفَّارَ} ويكبتهم.

سورة الحجرات

سورة الحجرات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي لا تقدموا قولاً من الأقوال، أو عملاً من الأعمال؛ بغير موافقة ذلك لما أراده الله تعالى ورسوله أو لا تتقدموا في العبادات عن مواقيتها المحددة لها

2

{وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ} أي لا تخاطبوه {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} كمخاطبة بعضكم بعضاً {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} أي لئلا تبطل أعمالكم. وفي هذا ما فيه من الحث على توقير العلماء - الذين هم ورثة الأنبياء - وتعظيم الأتقياء والصلحاء؛ أسوة بتوقير سيد الأنبياء {يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} يخفضونها تعظيماً لرسولالله. وفي هذه الآيات من علو شأن الرسول عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى وقد أجمع العلماء - قياساً على ذلك - على أنه لا يجوز رفع الصوت عند تلاوة حديثه الشريف، ولا عند قبره المعظم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} اختبرها {لِلتَّقْوَى} وأخلصها: طهرهم من كل قبيح، وهيأهم لكل مليح، وأسكن قلوبهم محبته وخشيته

4

{إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} لا يفهمون عظيم قدرك، وكبير مقامك

5

{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ} بغير مناداة لك {حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} من غير إزعاج. وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام ليس كسائر البشر؛ فربما كان ينزل عليه الوحي وقت ندائهم له، أو كان يناجي مولاه ويستغفر لأمته؛ وفي هذا من الخير العام ما لا يخفى؛ فضلاً عما في المناداة من سوء الأدب، وعدم المجاملة (انظر آية 30 من سورة الأحزاب)

6

{إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ} أي فتثبتوا من قوله؛ وتبينوا صوابه من خطئه. والفاسق: العاصي. والعصيان: يشمل الكذب، والغيبة، والنميمة {أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ} أي لئلا تصيبوا قوماً وأنتم تجهلون حقيقة أمرهم

7

{لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} أي لو يسمع وشاياتكم ويصغي لإرادتكم؛ لوقعتم في الجهد والهلاك. والعنت: الإثم، والمشقة، والهلاك {وَلَكِنَّ اللَّهَ} لمزيد كرمه، وعميم فضله {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ} فاعتنقتموه {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} فتمسكتم به {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} فحاربتموه {وَالْفُسُوقَ} فاجتنبتموه {وَالْعِصْيَانَ} فلم تقربوه {أُوْلَئِكَ} الذين حبب إليهم الإيمان، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان {هُمُ الرَّاشِدُونَ} العقلاء، الأذكياء؛ لأنهم قبلوا الإيمان: فحببه الله إليهم، وزينه في قلوبهم. واتبعوا مرضاتالله: فباعد بينهم وبين معاصيه

8

{فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ} اختصهم به {وَنَعْمَةٍ} منه تعالى أسبغها عليهم

9

{فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} بأن ظلمتها، ونقضت الصلح، أو أبته {حَتَّى تَفِيءَ} ترجع {إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} إلى الحق الذي أمر به الله، وإلى الصلح الذي دعيت إليه {فَإِن فَآءَتْ} رجعت إلى أمر الله، وقبلت الصلح الذي فرضته عليها جماعة المسلمين وتوقفت عن بغيها واعتدائها {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} الذي يرتضيه الله تعالى {وَأَقْسِطُواْ} واعدلوا في كل أموركم

10

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} جميعاً {إِخْوَةً} لا يصح أن تقوم بينهم عداوة، ولا أن ينتصب بينهم قتال، ولا يجوز أن يكون بينهم تباغض؛ فكيف يختصمون؟ بل كيف يقتتلون؟ وإذا اختصموا أو اقتتلوا؛ فكيف تتركونهم على هذه الحال؟ -[635]- {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} والسعي في الصلح: واجب على كل مسلم يمكنه السعي فيه؛ وهو يبلغ حد الفريضة، وتركه يبلغ حد الكبيرة وتاركه - مع القدرة على القيام به - عاص مولاه، آثم في حق المروءَة والإنسانية، وليس من حقه أن ينتسب للأمة المحمدية؛ بل للأسرة الآدمية

11

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ} قال: «رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبرّه» أي لأجاب سؤاله. والسخرية بالغير من أحط الأخلاق، وهي موجبة للمقت وغضب الرب؛ عافانا الله تعالى من غضبه وعذابه {وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} أي لا تطعنوا في إخوانكم في الدين؛ وعبر بذلك لأن سائر المؤمنين كنفس واحدة. واللمز: العيب. وأصله الإشارة بالعين ونحوها {وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالأَلْقَابِ} النبز: اللقب. أي لا يدع بعضكم بعضاً باللقب الذي يكرهه {بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإَيمَانِ} كانوا يعيرون من كان فاسقاً في الجاهلية بمناداتهم له: يا فاسق. فنزلت: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} عن اللمز والتنابز

12

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ} السيىء بالناس {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ليس المراد بالنهي عن الظن: الظن العابر؛ الموجب للحيطة والحذر. والذي عناه الشاعر بقوله: لا يكن ظنك إلا سيئاً إن سوء الظن من أقوى الفطن وإنما نهى تعالى عن الظن الذي يمليه الشيطان وينميه حتى يصيره حقيقة واقعة: كمن يظن أن فلاناً يكرهه ويبغي الكيد له؛ فيسرع هو إلى بغضه والكيد له. وقد يكون بريئاً من البغض، بعيداً عن الكيد. وكمن يظن فيمن أتى لزيارته أنه إنما أتى لقتله؛ فيعمل بهذا الظن كأنه حقيقة واقعة. وربما كان هذا الزائر قد جاء للاعتذار عن هفوة ارتكبها، أو للاستغفار من ذنب أتاه. لذلك نهانا الشارع الحكيم عن العمل بالظن؛ لما يترتب عليه من نتائج سيئة، وعواقب وخيمة. وكذلك نهينا في الأحكام عن الأخذ بالظن؛ فإذا ما قضى قاض، أو حكم حاكم بما ينحط إلى مرتبة الظن، ولا يرتقي إلى مرتبة اليقين: فهو ظالم آثم فليحذر الذين ولاهم الله تعالى أمور العباد من الوقوع في هذه المخاطر، والانزلاق في هذه المهالك قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» ولم يكن النهي عن نفس الظن المعلوم؛ لأنه خواطر لا يملك الإنسان منعها، ولا يستطيع دفعها. والأمر والنهي لا يوردان إلا بتكليف المستطاع من الأمور {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} أي لا تتتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} الغيبة: أن تذكر أخاك بما يكره. وفي الحديث: «إذا ذكرت أخاك بما هو فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه -[636]- فقد بهته» {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} شبه تعالى الغيبة بأكل لحم الأخ - حال كونه ميتاً - وإذا كان الإنسان يكره أن يأكل لحم الإنسان؛ فضلاً عن كونه أخاً، وكونه ميتاً: وجب عليه أن يكره الغيبة بمثل هذه الكراهة. ولا يفوتني - بمناسبة هذه الآية الكريمة - أن أقرر أن الغيبة الآن منتشرة بحيث لا يخلو منها مجلس، وقد أصبح الناس لا يشعرون بقبحها، ولا يحسون بإثمها، وأنها كبيرة - بل ومن أكبر الكبائر - فليتحاش ذلك من يرجو رحمة ربه، وليستغفر لذنبه

13

{لِتَعَارَفُواْ} لتتعارفوا وتتعاونوا، وتتحابوا (انظر آية 8 من سورة النساء) {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} لم يقل تعالى: إن أكرمكم عند الله أجملكم، أو أفضلكم نسباً وحسباً، أو أعلمكم؛ بل قال «أتقاكم» قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} (انظر آيتي 88 من سورة الحجر. و22 من سورة الروم)

14

{وَلَمَّا يَدْخُلِ} ولم يدخل {لاَ يَلِتْكُمْ} لا ينقصكم {مَنِ} جزاء {أَعْمَالَكُمْ} التي عملتموها حقاً؛ هم

15

{الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إيماناً يقينياً {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} لم يشكوا

16

{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} أي أتخبرونه بتصديق قلوبكم

17

{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} بغير قتال؛ بخلاف غيرهم الذي لم يسلم إلا بعد محاربته {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ} لأن فائدته عائدة إليكم وعليكم {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ} وأنجاكم من الكفران {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم: آمنا

18

{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ما غاب فيهما عن العيان. والعالم بما يغيب: أعلم وأخبر بما يظهر.

سورة ق

سورة ق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} الكريم العظيم؛ ذي المجد والشرف أقسم تعالى بالقرآن المجيد أنه أنزله على رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام؛ فأنذرهم به فلم يؤمنوا، وأكد لهم البعث فلم يصدقوا

2

{بَلْ عَجِبُواْ} حيث لا عجب {أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} أي من أنفسهم ومن جنسهم -[637]- {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا} الذي يقوله محمد من أمر البعث {شَيْءٌ عَجِيبٌ} لا يعقل {أَإِذَا مِتْنَا} ودفنا في قبورنا {وَكُنَّا} صرنا {تُرَاباً} وعظاماً: أنحيا بعد ذلك، ونعود من جديد كما كنا؟ {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} أي ذلك الرجوع والإحياء أمر مستبعد

4

{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضَ مِنْهُمْ} أي ما تأكله من لحومهم، وتبليه من أجسادهم {وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} هو اللوح المحفوظ؛ يحفظ ما عملوا وما هم عاملون، وما قالوا وما هم قائلون. ولم يكن الأمر قاصراً على العجب من بعثة محمد فحسب

5

{بَلْ} كان ينصب على ما هو أفحش وأقبح؛ لقد {كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ} القرآن وما اشتمل عليه من الحق {لَمَّا جَآءَهُمْ} على لسان محمد {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} أي أمر مضطرب؛ فتارة يقولون عن القرآن: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} وتارة يقولون: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} وتارة يقولون عن سيد البشر: إنه ساحر، إنه شاعر. وما هو بساحر ولا بشاعر

6

{أَفَلَمْ يَنظُرُواْ} هؤلاء الجهلاء {إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} بغير عمد {وَزَيَّنَّاهَا} بالكواكب {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} شقوق تعيبها

7

{وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} بسطناها، ومهدناها للسير عليها، والانتفاع بها {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} جبالاً ثوابت؛ لئلا تميد بهم {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} من كل صنف حسن اللون، والمنظر، والمخبر

8

{تَبْصِرَةً} أي جعلنا ذلك تبصرة لكم {وَذِكْرَى} تذكيراً بقدرة ربكم {لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} راجع إلى ربه في كل أموره

9

{فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} أي بساتين وفواكه، والحب الذي يحصد: كالحنطة، والشعير، وما شاكلهما

10

{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} أي طوالاً. وبسق النخل: طال {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} متراكم؛ بعضه فوق بعض

11

{وَأَحْيَيْنَا بِهِ} أي بالماء {بَلْدَةً مَّيْتاً} مجدبة؛ لا نبات فيها ولا زرع {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} أي مثل إحيائنا الأرض بالنبات: نحيي الموتى، ونخرجهم بعد فناء رسومهم، وبلاء أجسادهم

12

{وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} الرس: البئر المطوية بالحجارة. وهو اسم بئر؛ كانوا حولها وقت نزول العذاب بهم. وقيل: هم أصحاب الأخدود {وَثَمُودُ} قوم صالح عليه السلام

13

{وَعَادٌ} قوم هود عليه السلام

14

{وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ} وهي الغيضة: مجتمع الشجر؛ وهم قوم شعيب عليه السلام {وَقَوْمُ تُّبَّعٍ} هو ملك باليمن: أسلم ودعا قومه للإسلام فكذبوه. و «تبع» اسم لكل من ملك اليمن؛ وسموا التبابعة {كُلِّ} من هؤلاء الأمم المذكورة {كَذَّبَ الرُّسُلَ} التي أرسلناها {فَحَقَّ} وجب -[638]- {وَعِيدِ} عذابي الذي أوعدتهم به

15

{أَفَعَيِينَا} أفعجزنا. يقال: عيي بالأمر: إذا لم يهتد لوجه عمله {بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} خلقتهم أول مرة {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ} شك {مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو البعث

16

{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} أي نعلم خواطره وهواجسه. لأنه تعالى {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} هو مثل لشدة القرب. والوريدان: عرقان في باطن العنق: يموت الإنسان والحيوان بقطع أحدهما

17

{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} هما الملكان الملازمان لكل إنسان؛ لكتابة ما يصدر عنه من خير أو شر {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} أي قاعدان؛ أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله

18

{مَّا يَلْفِظُ} ما ينطق {رَقِيبٌ} مراقب لأقواله وأفعاله {عَتِيدٌ} حاضر

19

{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} أي شدته وغمرته؛ وهي الغرغرة {بِالْحَقِّ} أي جاءت بسعادة الميت أو شقاوته. فقد ورد أنه في هذه الحال يرى مقعده من الجنة، أو من النار. أو {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} أي جاءت بأمر الله تعالى، وسلطانه، وقهره، وجبروته {ذَلِكَ} الموت {مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} تهرب من ملاقاته؛ لشعور عقلك الباطن بما أعد لك من عقاب

20

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} القرن؛ وهي نفخة البعث {ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ} للكفار بالعذاب

21

{وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ} مؤمنة أو كافرة {مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} هما ملكان: أحدهما يسوقه إلى المحشر، والآخر يشهد عليه بما فعل. ويقال للكافر وقتذاك

22

{لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ} في الدنيا {مِّنْ هَذَا} العذاب النازل بك اليوم {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ} أزلنا غفلتك، وأريناك عياناً ما كنت تنكره وتكذب به {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} من الحدة؛ أي قوي: تشاهد به اليوم ما خفي عليك بالأمس؛ من البعث والحساب

23

{وَقَالَ قَرِينُهُ} أي شيطانه المقارن له في الدنيا. أو المراد بقرينه: الملك الذي يسوقه إلى المحشر {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} أي هذا الذي عندي حاضر ومهيأ للنار

24

{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} يقول ذلك رب العزة؛ مخاطباً السائق والشهيد

25

{مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ} ظالم، شاك في الله وفي دينه

27

{قَالَ قرِينُهُ} الشيطان المقارن له في الدنيا؛ يقول متبرئاً من إضلاله وإغوائه {رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ} بنفسي {وَلَكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} وذلك كقوله تعالى: «إن كيد الشيطان كان ضعيفاً»

28

{وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم} في الدنيا؛ في كتبي، وعلى لسان رسلي {بِالْوَعِيدِ} بالعذاب الذي ترونه الآن؛ وقد أنكرتموه وكذبتم به في الدنيا

29

{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} أي لا يبدل قولي الذي قلته على لسان رسلي؛ من إدخال المؤمنين الجنة، والكافرين النار {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} حين أحاسبهم على ما جنوه، وأعاقبهم على ما ارتكبوه؛ بل هم الذين ظلموا أنفسهم بتعريضها لغضبي وعذابي

30

{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} هو على طريق المجاز: كناية عن سعتها، وأنها تسع سائر الكفار رغم كثرتهم

31

{وَأُزْلِفَتِ} قربت، وأعدت، وهيئت

32

{أَوَّابٍ} رجاع؛ كثير الذكرلله تعالى {حَفِيظٌ} حافظ لحدود الله تعالى

34

{ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ} الدائم؛ الذي لا موت بعده

35

{لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا} أي في الجنة {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} من الخير؛ فوق ما يشاءون، وما يطلبون

36

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} أي قبل قريش {مِّن قَرْنٍ} أمة {فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلاَدِ} فتشوا فيها عن سبب يمنعهم من الموت {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} هل من مهرب من الموت؟ ومثل هؤلاء كمثل من يبحثون - في زمننا هذا - عن إطالة أعمارهم، وبقاء شبابهم. ولا ندري ماذا يكون بعد بقاء الشباب، وإطالة العمر؟ أيكون البقاء حيث لا بقاء، والخلود حيث لا خلود؟ وماذا ينفع الخلود في الدنيا؛ إذا لم تكن طريقاً للآخرة، وسبيلاً موصلاً إلى مرضاة الله تعالى

37

{لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} واع للإيمان؛ لأن من لا يعي الإيمان؛ كمن لا قلب له {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أي أصغى إلى المواعظ واستمع لها، وعمل بها {وَهُوَ شَهِيدٌ} حاضر بقلبه

38

{وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} إعياء

40

{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} أي عقب الصلوات يصيحها فيهم إسرافيل عليه السلام (انظر آية 53 من سورة يس)

42

{ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} يوم البعث

44

{يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً} يوم تتصدع الأرض؛ فتخرج الموتى مسرعين

45

{وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} تجبرهم على الإيمان قسراً {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} من يخشى عذابي.

سورة الذاريات

سورة الذاريات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} الرياح تذرو كل شيء تمر به؛ كرمل وتراب ونحوهما؛ أي تفرقه وتبدده. وقيل: «الذاريات» النساء الولود؛ لأنهن يذرين الأولاد السحب تحمل الماء. وقيل: هي السفن الموقرة بالناس وأمتعتهم وتجاراتهم، أو هي الحوامل من سائر النساء والحيوانات

3

{فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً} السفن تجري ميسرة بإذن الله؛ تحمل المتاجر ليسر الخلق ورخائهم. أو هي السحب؛ تجري وتسير؛ إلى حيث أراد الله تعالى. أو هي الكواكب التي تجري في منازلها

4

{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} الملائكة التي تقسم الأرزاق بأمر الله تعالى. وقيل: الرياح؛ لأنها تقسم الماء بتصريف السحاب

5

{إِنَّمَا تُوعَدُونَ} به من البعث والحساب والجزاء {لَصَادِقٌ} واقع لا محالة

6

{وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} الدين: الجزاء على الأعمال

7

{الْحُبُكِ} طرائق النجوم

8

{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} هو قولهم في الرسول عليه الصلاة والسلام: ساحر، وشاعر، ومجنون

9

{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يصرف عنه من صرف

10

{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} الكذابون المفترون؛ ويصح أن يطلق على المنجمين

11

{الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ} في جهل يغمرهم

12

{أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} متى يوم الجزاء

13

{يُفْتَنُونَ} يحرقون ويعذبون

14

{ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} عذابكم الذي تستحقونه

17

{مَا يَهْجَعُونَ} ما ينامون

19

{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} نصيب وافر؛ يرون إعطاءه حقاً من الحقوق في أعناقهم {لَّلسَّآئِلِ} الذي يطلب من الناس {وَالْمَحْرُومِ} الذي لا يسأل الناس تعففاً

20

{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} آيات دالة على قدرته تعالى، ووحدانيته

21

{وَفِي أَنفُسِكُمْ} آيات أيضاً {أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} هذه الآيات؛ فتعتبرون بها، وتدينون بخالقها وموجدها فإنكم لو تأملتم ما تنبته الأرض من النبات، وفكرتم فيما تخرجه من الأقوات: تضعون الحبة فيخرج لكم منها المئات، وتضعون البذرة فينشىء لكم منها البساتين والجنات؛ إلى غير ذلك من اختلاف الطعوم والألون، والهيئات؛ لو تأملتم ذلك بعين الفكرة والتبصرة؛ لما وسعكم إلا أن تقولوا: وفي الأرض آيات وأي آيات ولو تأملتم في أنفسكم لوجدتم العجب العجاب؛ انظروا مثلاً كيف أنشأكم الله تعالى ابتداء من طين، ثم كيف خلقكم من نطفة في قرار مكين بل انظروا إلى النطفة نفسها، وكيف يتكون منها الجنين؛ الذي لا يتكون إلا من الاتحاد الذي يتم بين جرثومة الذكر وبويضة الأنثى، وبذلك تتكون خلية؛ يحدث انقسام بينها إلى خليتين، ثم انقسام آخر لكل من الخليتين، ثم آخر للمنقسمين، وآخر وآخر؛ وهكذا دواليك؛ إلى أن يصل العدد إلى أربعين جيلاً من الخلايا؛ حتى يزيد مجموع الخلايا - التي يتكون منها الإنسان الواحد - عن سكان الكرة الأرضية بأكثر من ألف مرة. وكل خلية من هذه الخلايا تعيش بمعزل عن الأخريات؛ وكل منها بمثابة مصنع للإنتاج؛ فمنها ما ينتج الشعر، ومنها ما ينتج الأظافر، ومنها ما ينتج العظام، ومنها ما ينتج الدم، وهكذا. ومتى نضجت هذه الخلايا، واكتمل نموها: تخصص كل منها في تكوين نوع واحد من الأنسجة والأعضاء. هذا وقد أصبح من السهل جداً - تحت المجهر - التفريق بين الخلايا المكونة للكبد، والخلايا المكونة للكلى؛ بالرغم من أن مهمة العضوين تكاد تكون واحدة: هي الاشتراك في عملية التغييرات الكيميائية في الجسم. ومن هذه الخلايا ما ينتج الجهاز العصبي؛ الذي يتوقف عليه إيصال الرسائل من الحواس والأعضاء المختلفة إلى المخ؛ ومن المخ تنتقل الرسائل - التي هي بمثابة أوامر وأحكام - إلى العضل والأطراف؛ التي تتحرك

بموجبها - تبعاً للظروف المحيطة بالإنسان - أو إلى الغدد الجمة؛ فتفرز سائلاً معيناً - وفقاً للحالة التي يجابهها الشخص - كالدموع، واللعاب، والأدرينالين. مثال ذلك: إذا أبصر إنسان لصاً أمامه بيده خنجر: فإن الجهاز العصبي يوجه إلى المخ إشارة بذلك الخطر المحدق؛ فتتلقى الجوارح من المخ إشارة بما يجب اتباعه. وقد يشير المخ - تبعاً للسلوك الشخصي للإنسان - بالفرار من اللص؛ أو بالهجوم عليه وانتزاع الخنجر من يده، أو بمبادرته بطلقة من مسدس، أو ضربة من عصا ونحوها. على أن الزمن الذي تستغرقه هذه الرسائل - الذاهبة والآيبة - يدق على أي آلة أو أداة لاسلكية أو الكترونية؛ وفي الوقت ذاته لا يتجاوز جزء من مائة من الثانية. فعلاقة الحواس بالمخ علاقة ثابتة ما ثبت الوعي والإدراك؛ الذي يتفرع منهما التمييز، والتصور، والذاكرة، والتعليل، والطموح، وإدراك الهدف. ولا يخفى ما في خلقة المخ من أعاجيب وغرائب؛ فمن أعجب الأعاجيب: اختزان العلوم والمعارف، والمدارك، والمحفوظات؛ واستخراج ما يراد من ذلك من سجلاتها المرتبة المبوبة في ظرف قد لا يتجاوز ارتداد الطرف؛ بوساطة ذبذبات يعجز اللسان عن وصفها، ويضيق الجنان عن الإحاطة بها هذا وقد دل الفحص المجهري على أن عدد الخيوط العصبية في المخ يتجاوز عشرة آلاف مليون. كل واحد منها تدب فيه الحياة، ويحمل وظيفة عضوية يؤديها على أكمل وجه وعلى هذا المنوال تؤدي أجسامنا - بما احتوته من أعضاء - وظائفها ذات الأهداف المتباينة؛ بغير وعي منها، الأمر الذي يدل دلالة قطعية على أن هناك إرادة عليا تسيرها وتوجهها ولو لم يكن في بديع صنع الإنسان: سوى أنه يأكل الطعام، ويشرب الشراب؛ في مدخل واحد؛ ثم يخرج كلاهما من مخرج منفصل عن الآخر؛ لكفى ذلك عجباً وناهيك بما يفعله الجسم بالطعام والشراب حين يهضمهما، ويأخذ أطايبهما؛ ثم يلقي بنفايتهما؛ بعد أن يستنفذ وقوده، ويأخذ حاجته، ويستوعب كفايته {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}. ولو تأملتم في حواسكم: لوجدتم أعجب العجب انظروا مثلاً إلى حاسة اللمس؛ وكيف أنكم تستطيعون بها الفرق بين الناعم والخشن، والبارد والحار، واللين والرخو. وانظروا أيضاً إلى حاسة الشم؛ وكيف تستطيعون بواسطتها معرفة ذكي الرائحة من رديئها، وطيب النكهة من فاسدها.

وانظروا أيضاً إلى حاسة الذوق، وكيف تستدلون بواسطتها إلى تذوق الأصناف والطعوم، ومعرفة الحلو والحامض، والمر، والمالح. وكذلك البصر؛ وانطباع المرئيات عليه، وانعكاسها على صفحة المخ لتترك أثرها. وكذلك السمع؛ وانقلاب المسموعات إلى مفهومات، وانطباع هذه المفهومات في حافظة المخ؛ لتزودكم به، وقت حاجتكم إليه. وهكذا سائر الأعضاء بما وهبها الله تعالى من مزايا يضيق الخاطر عن حصر فوائدها ومنافعها فإذا ما فكر الإنسان في خلقة نفسه، ودقة حواسه، وتأمل هذه الآلات والأدوات؛ التي صاغها الخلاق العليم، وبرأها المدبر الحكيم وهل يستطيع الإنسان - بما أوتي من علم ومال، وجاه وسلطان - أن يستعيض عن أحدها لو سلبها، أو أن يردها بعد تلفها، أو أن يفهم كنهها، ويعرف سر تركيبها حقاً لو تأمل الإنسان بعض ذلك؛ لما وسعه إلا أن يقول: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}

22

{وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ} في الدنيا. أي إن رزقكم مقدر في السماء، مسجل في اللوح المحفوظ؛ يسعى إليكم؛ قبل أن تسعون إليه، ويجري وراءكم؛ قبل أن تكدون في تحصيله. وربما أريد بالرزق: المطر؛ لأنه سبب له، ويأتي الرخاء والخصب بواسطته {وَمَا تُوعَدُونَ} به في الآخرة؛ من نعيم مقيم للطائع، وعذاب أليم للعاصي. وقيل: أريد بما توعدون: الجنة. وأنها فوق السماء السابعة؛ تحت عرش الرحمن

23

{فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ} أي رزقكم المقدر لكم، وما توعدون به في كتب الله المنزلة، وعلى ألسنة رسله المرسلة ثابت واقع {مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} أي كما أنكم - أيها المخاطبون المكلفون - قد تميزتم عن سائر الحيوانات بالنطق؛ فكذلك تميز كلامه تعالى، ووعده ووعيده؛ بالصدق والحق

25

{قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} أي أنكرهم ولا أعرفهم

26

{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} ذهب إليهم خفية

28

{فَأَوْجَسَ} أضمر

29

{فِي صَرَّةٍ} في صيحة؛ تعجباً لما سمعت {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} ضربت وجهها بأصابع يديها: فعل المتعجب {وَقَالَتْ} كيف ألد وأنا {عَجُوزٌ} كبيرة السن؛ لا تحمل عادة؛ فضلاً عن أني {عَقِيمٌ} لم ألد في شبابي؛ فكيف في شيخوختي ويأسي؟

31

{قَالَ} إبراهيم لضيفه {فَمَا خَطْبُكُمْ} ما شأنكم، وما طلبكم؟

32

{إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} قوم لوط

34

{مُّسَوَّمَةً} معلمة؛ على كل واحد منها اسم من يهلك به {لِلْمُسْرِفِينَ} للكافرين

35

{فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا} أي من كان في قرى قوم لوط

36

{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} هو بيت لوط عليه السلام. -[644]- قيل: هو وابنتاه

37

{وَتَرَكْنَا فِيهَآ} أي في القرى بعد تخريبها {آيَةً} علامة تدل على إهلاكهم، وما فعله الله تعالى بهم؛ ليتعظ المتعظ، ويتذكر المتذكر

38

{بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بحجة ظاهرة

39

{فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أي بما يركن إليه؛ من جند ومال

40

{فَنَبَذْنَاهُمْ} طرحناهم {فِي الْيَمِّ} في البحر {وَهُوَ مُلِيمٌ} فاعل ما يلام عليه

41

{وَفِي عَادٍ} قوم هود {الرِّيحَ الْعَقِيمَ} التي لا فائدة فيها؛ من سحاب ومطر ونحوهما. وهي الدبور؛ وسميت عقيماً: لأنها لا تلقح الأشجار، ولا تنضج الثمار

42

{مَا تَذَرُ} ما تترك {إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} وهو كل ما بلي وتفتت

43

{وَفِي ثَمُودَ} قوم صالح {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ} بما وهبكم الله تعالى من سعة ورزق {حَتَّى حِينٍ} إلى انقضاء آجالكم

44

{فَعَتَوْاْ} استكبروا {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} وهي نار تنزل من السماء {وَهُمْ يَنظُرُونَ} إليها، وينتظرون خيرها؛ وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون

47

{بِأَيْدٍ} بقوة {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} لقادرون؛ والوسع: الطاقة

49

{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} ذكراً وأنثى. وعن الحسن رضي الله تعالى عنه: السماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، والبر والبحر، والموت والحياة. وقال: كل اثنين منها زوج؛ والله تعالى فرد لا مثل له

50

{فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ} أي الجأوا إليه ليخلصكم من أوضار الذنوب

53

{أَتَوَاصَوْاْ بِهِ} أي أأوصى بعضهم بعضاً بهذا القول؛ وهو قولهم: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} يعني أنهم لم يتواصوا بهذا القول؛ بل العلة واحدة: وهي أنهم قوم طاغون

54

{فَتَوَلَّ} أعرض {عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} حيث بلغتهم الرسالة التي كلفت بها

55

{وَذَكِّرْ} عظ بالقرآن تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} لأن من يوصف بالإيمان: أولى به أن يتصف بالإصغاء للذكرى، وتفهم العظة؛ شأن سائر العقلاء. أما غير المؤمن: فقد غطى قلبه عن فهم الحقيقة، وأعمى عينه عن رؤية الهدى، وأصم سمعه عن داعيالله؛ فلا تنفعه الذكرى. فتعال معي يا أخي المؤمن نتعاهد على ألا نسرق، ولا نقتل، ولا نزني، ولا نغتب، ولا نكذب، ولا نرتكب إثماً يلحق بنا أو بغيرنا الضرر؛ وأنا الكفيل لك بثواب الدنيا، وحسن ثواب الآخرة قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}

56

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} أي إلا ليكونوا عباداً لي

57

{مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ} بل أنا المتكفل بأرزاقهم {وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} بل أنا الكفيل بإطعامهم

59

{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} أنفسهم بالكفر {ذَنُوباً} نصيباً من العذاب {مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} أي مثل نصيب أصحابهم ونظرائهم في الكفر؛ من القرون الماضية؛ وقد أهلكهم الله تعالى وأبادهم.

سورة الطور

سورة الطور بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{وَالطُّورِ} هو الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام

2

{وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ} هو التوراة، أو القرآن؛ وقيل: إنه اللوح المحفوظ

3

{فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ} هو الصحيفة المفتوحة، التي لا ختم عليها

4

{وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} هو بيت في السماء السابعة؛ حيال الكعبة. وقيل: هي الكعبة نفسها؛ لكونها معمورة دائماً بالحجاج. ومن المشاهد أن الطواف بها لا ينقطع ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاءاً، صبحاً ومساءاً؛ زادها الله تعالى تشريفاً وتعظيماً

5

{وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} السماء

6

{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} المملوء. وجميع ما تقدم: قسم، وجوابه:

7

{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} أي لنازل بمستحقيه من المكذبين

8

{مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ} يدفعه عنهم

9

{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً} تتحرك وتدور وتضطرب؛ يوم القيامة

10

{وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} في الهواء؛ كسير السحاب؛ لأنها تصير هباء منثوراً

12

{الَّذِينَ هُمْ} في الدنيا {فِي خَوْضٍ} باطل {يَلْعَبُونَ} غير عابئين بما ينتظرهم

13

{يَوْمَ يُدَعُّونَ} يدفعون بعنف

15

{أَفَسِحْرٌ هَذَا} يعني: كنتم تقولون عن معجزات الأنبياء: إنها سحر «أفسحر هذا» أيضاً كما كنتم تدعون؟ {أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} النار، وتحسون بلهبها؛ الذي يجعلها حقيقة واقعة

16

{اصْلَوْهَا} ادخلوها {فَاصْبِرُواْ} على حرها وألمها {أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ} أي إن صبركم وجزعكم {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ} لأنكم لم تؤمنوا حين دعوناكم للإيمان {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ} عقوبة {مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا

18

{فَاكِهِينَ} متلذذين. وسميت الفاكهة فاكهة: للتلذذ بتناولها

20

{وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} حسان الأعين (انظر آية 54 من سورة الدخان)

21

{وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم} أي وما نقصناهم من ثواب عملهم {كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ} بما عمل من خير أو شر {رَهَينٌ} مرهون: يثاب على الخير، ويعاقب على الشر

23

{يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} أي يتعاطون خمراً لذة للشاربين: يتناول هذا الكأس من يد هذا، وهذا من يد هذا. أو يتخاطفون من بعضهم كما يتخاطف الأصدقاء والأحباء في الدنيا لذيذ المطعم والمشرب -[646]- {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ} أي لا تحمل شاربها على اللغو والسباب، ولا على ارتكاب الجرائم والآثام؛ كشأن خمر الدنيا

24

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} للخدمة {غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ} لفرط جمالهم {لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} عزيز مصون

26

{مُشْفِقِينَ} خائفين من عذاب الله تعالى

27

{وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} عذاب النار؛ لأنها تتخلل المسام

28

{إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ} نعبده {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ} المحسن للمحسن والمسيء، المعطى للمؤمن والكافر، الحافظ للطائع والعاصي

29

{فَذَكِّرْ} يا محمد بالقرآن {فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ} أي أنت بفضل الله تعالى عليك لست بكاهن، ولا بمجنون؛ كما يدعون {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} ننتظر له نوائب الزمن

31

{قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} أي انتظروا هلاكي؛ فإني منتظر هلاككم. ومآلي إلى الجنة، ومآلكم إلى النار

32

{أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ} عقولهم {بِهَذَآ} القول، وهذا الفعل {أَمْ} بل {هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} كافرون

33

{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} اختلقه

34

{فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} أي بقرآن مختلق مثل هذا القرآن

35

{أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} أي من غير خالق خلقهم؛ كما يقول الطبعيون {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} للأشياء ولأنفسهم

37

{أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ} من الرحمة، والنبوة، والرزق؛ فيخصون من شاءوا بما شاءوا -[647]- {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ} {أَمْ هُمُ المُصَيْطِرُونَ} المتسلطون على الكون، الموجهون للأمور؛ وفق رغبتهم ومشيئتهم

38

{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} يصعدون عليه، و {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} كلام الملائكة، وتدبير الأرض من السماء؛ وإن زعموا هذا {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم} الذي سمع من السماء {بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بحجة واضحة تدل على صعوده إلى السماء واستماعه

39

{أَمْ لَهُ} تعالى {الْبَنَاتُ} ذلك بأنهم قالوا: الملائكة بنات الله

41

{أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ} ما غاب علمه عن الأنظار والأفهام {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} منه، ويخبرون الناس به

42

{أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} بك؛ كما اتفقوا في دار الندوة على إهلاكك {فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ} أي الواقع بهم الكيد والهلاك

43

{أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} يعينهم ويرزقهم، ويمنعهم منه {سُبْحَانَ اللَّهِ} تنزه، وتعالى، وتقدس {عَمَّا يُشْرِكُونَ} به من الآلهة

44

{وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} يريد أنهم قالوا لك تعجيزاً: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} ولو أسقطتها كسفاً - كما طلبوا - لقالوا: ليس هذا من السماء؛ بل هو سحاب متراكم

45

{فَذَرْهُمْ} اتركهم ودعهم {حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} يموتون؛ ثم يعذبون

47

{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} قبل يوم القيامة؛ وهو عذاب القبر

48

{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} بإمهالهم؛ ولا يضيق صدرك بمكرهم {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي بحفظنا وكلاءتنا، وتحت رعايتنا. وكذا {اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} من النوم، أو «حين تقوم» إلى الصلاة

49

{وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} حين تغرب: وقت صلاة الفجر.

سورة النجم

سورة النجم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} إذا انتثر وسقط يوم القيامة، وهوى من مقره. قال تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} أو «هوى» بمعنى غاب وهو قسم؛ جوابه

2

{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} أي ما ضل محمد، وما غوى كما تدعون. والغي: الجهل مع اعتقاد فاسد؛ وهو ضد الرشد

3

{وَمَا يَنطِقُ} بما ينطق به {عَنِ الْهَوَى} أي عن هوى في نفسه

4

{إِنْ هُوَ} أي إن الذي ينطق به من القرآن؛ ما هو {إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} إليه من ربه

5

{عَلَّمَهُ} إياه، ولقنه له {شَدِيدُ الْقُوَى} جبريل عليه الصلاة والسلام

6

{ذُو مِرَّةٍ} ذو قوة، وبأس، وشدة {فَاسْتَوَى} أي استقر واستقام على صورته الحقيقية؛ لا كما كان ينزل بالوحي

7

{وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} الأفق: الناحية، أو هو ما يظهر من نواحي الفلك. وقد ورد أن جبريل عليه الصلاة والسلام ظهر للرسول ناحية الشمس - عند مطلعها - على صورته الحقيقية التي أوجده الله تعالى عليها؛ ساداً الأفق ما بين المشرق والمغرب. وكان النبي عليه الصلاة والسلام بغار حراء؛ فخرَّ مغشياً عليه من عظم ما رأى من بديع صنع ربه

8

{ثُمَّ دَنَا} قرب جبريل عليه السلام من الرسول {فَتَدَلَّى} جبريل في الهواء. ومنه تدلت الثمرة

9

{فَكَانَ} جبريل من النبي {قَابَ} قدر {قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} أو أقل من مقدار قوسين. وقد جرت عادة العرب في التقدير بالقوس، والرمح، والسوط. أو أريد بالقاب: قاب القوس. وهو ما بين المقبض والسية. ولكل قوس قابان. وقيل: أريد بقاب قوسين: قابى قوس؛ فسيق في القرآن على طريقة القلب

10

{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى} أي «فأوحى» الله تعالى «إلى عبده» محمد عليه السلام؛ بواسطة جبريل «ما أوحى» وقيل: «فأوحى» الله تعالى «إلى عبده» جبريل «ما أوحى» به جبريل إلى محمد

11

{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} أي فؤاد محمد {مَا رَأَى} أي لم يكن متوهماً لما رآه، أو مخدوعاً فيه؛ بل كانت رؤيته لجبريل عليه السلام حقيقة واقعة. وقد ظهر جبريل بصورته لمحمد عليه الصلاة والسلام؛ ليتأكد لديه أنه هو بنفسه الذي يأتيه بالوحي من ربه على صورة دحية الكلبي؛ تأليفاً لقلبه: فقد رآه وعرفه، وأوحى إليه بما كلف به من مولاه

12

{أَفَتُمَارُونَهُ} أفتجادلون محمداً وتكذبونه {عَلَى مَا يَرَى} معاينة بنفسه

13

{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} -[649]- أي رأى محمد جبريل مرة أخرى. وأخطأ من قال: إن محمداً رأى ربه. قال تعالى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} ومحمد عليه الصلاة والسلام: من البشر، ولو أنه سيدهم وإمامهم؛ وليس كسائرهم. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: «من قال: إن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية»

14

{عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى} الجمهور على أنها شجرة نبق في السماء السابعة، عن يمين العرش؛ يسير في ظلها الراكب كذا من الأعوام. والذي أراه أن السدرة ليست كما يقولون، أو يروون {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} وقد يكون المراد بسدرة المنتهى: الظل الذي تفيء إليه الأرواح؛ لترتاح من حر الحياة اللافح، والواحة التي يستريح إليها المتعب المكدود؛ بعد أن لاقى في حياته الدنيا ما لاقى، وكابد في بيدائها المحرقة ما كابد ولذا أعقب الله تعالى ذكر السدرة بقوله جل شأنه

15

{عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} والجنة: البستان، والشجر الكثير؛ الذي يأوي إليه الناس للراحة. وأريد بالجنة: {جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وَعِدَ الْمُتَّقُونَ}

16

{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} هو تعظيم لما يغشاها من الخلائق؛ الدالة على عظمة الخالق أو هو لما يغشاها من البهاء والجمال، والنور والجلال

17

{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} أي لم يتجاوز الحد؛ ويطمح إلى رؤية مالا تجوز رؤيته، ولا يمكن الإحاطة به {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}

19

{أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى *

20

وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} هي أسماء آلهة كانوا يعبدونها (انظر آية 52 من سورة الحج)

21

{أَلَكُمُ الذَّكَرُ} الذي تطلبونه وتتمنونه من البنين {وَلَهُ الأُنْثَى} التي تعافونها وتكرهونها. وذلك لأنهم كانوا يقولون: الملائكة بنات الله

22

{تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} أي قسمة جائرة

23

{وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} الرسول العظيم، والقرآن الكريم

25

{فَلِلَّهِ الآخِرَةُ والأُولَى} الدنيا والآخرة؛ يفعل فيهما وبأهلهما ما شاء

26

{وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ} مقرب إلى الله، طائع لمولاه {لاَ تُغْنِي} لا تنفع {شَفَاعَتُهُمْ} في أحد العصاة {إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ} تشفيعه، أو «لمن يشاء» إنجاءه {وَيَرْضَى} عنه

27

{إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} حيث قالوا: الملائكة بنات الله

30

{ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ} أي نهاية علمهم: أن أعرضوا عن الإيمان، وآثروا الحياة الدنيا على الآخرة

32

{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} الكبائر: كل ما أوعد الله تعالى عليه بالنار. والفواحش: ما شرع فيه الحد {إِلاَّ اللَّمَمَ} وهو صغار الذنوب؛ كالنظر إلى الأجنبية، واللغو من القول، أو «اللمم»: ما يلم بالإنسان من الذنوب فجأة؛ من غير روية أو قصد {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ} جمع جنين وهو الولد في بطن أمه {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} لا تمدحوها معجبين بها {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} فيزكيه بفضله، ويعليه بكرمه

33

{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} كفر بعد إيمانه. قيل: هو الوليدبن المغيرة؛ وكان قد اتبع الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ فعيره بعض الكفار، فقال له الوليد: إني اتبعت محمداً خشية عذابالله؛ فضمن له إن هو أعطاه شيئاً من ماله، ورجع إلى كفره؛ تحمل عنه عذابالله. فارتد الوليد، وأعطاه بعض الذي وعده وشح بالباقي؛ وذلك معنى قوله تعالى:

34

{وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} أي ومنع باقي عطائه

36

{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} التوراة صحف

37

{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} أي وفى بكل ما يوجبه الإسلام: من إيمان يقيني بالله، ومعرفة حقيقية له تعالى؛ من غير تقليد. قيل: كان يقول كلما أصبح وأمسى «سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون. وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون»

38

{أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا تحمل نفس إثم نفس أخرى. وقد ورد هذا المعنى في سائر الكتب السماوية؛ ومنها صحف موسى وإبراهيم

39

{وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} أي إلا ثواب سعيه هو بنفسه لنفسه؛ أما عمل غيره له فلا. ولا ينافي ذلك الحديث الصحيح؛ عن سيد البشر عليه الصلاة والسلام «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له» وذلك لأن الصدقة الجارية: من عمله، والعلم المنتفع به: من سعيه، والولد الصالح: ثمرة تنشئته وتأديبه وتهذيبه

40

{وَأَنَّ سَعْيَهُ} عمله في الدنيا {سَوْفَ يُرَى} يتكشف، ويجزى عليه في الآخرة

43

{وَأَنَّهُ هُوَ} جل شأنه {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} خلق الضحك والبكاء، والسرور والحزن؛ بخلق أسبابهما: فقد يضحك الضاحك؛ وأسباب البؤس والشقاء تكتنفه من كل صوب وحدب. ويبكي الباكي وأسباب النعمى والسرور تحيط به من كل جانب. فهو جل شأنه باعث نعمة السرور لأناس ليعوض عليهم بعض ما فاتهم من أنعم، وهو عز سلطانه منزل نقمة الحزن على أناس جزاء ما فرطوا في جنبه، وأفرطوا في ارتكاب محارمه

45

{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} الصنفين {الذَّكَرَ وَالأُنثَى} من الإنسان والحيوان

46

{مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} أي من مني حين يمنى - أي يصب - في الرحم (انظر آية 21 من سورة الذاريات)

47

{وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} الإحياء، وبعث الخلائق يوم القيامة

48

{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} أي أغنى وأفقر. وهذا المعنى متفق مع قوله تعالى: {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} و {أَمَاتَ وَأَحْيَا} ويقال أيضاً: أقناه الله تعالى؛ إذا أرضاه. وقد تجد مع الفقر الرضا، ومع الغنى الطمع. أو المعنى: أنه تعالى أغنى بالمال، وأقنى بالأشياء التي تتخذ للاقتناء والزينة؛ لنفاستها

49

{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} الشعرى: كوكب كانت تعبده العرب في الجاهلية

50

{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى} وهي قوم عادبن إرم، وهي غير عاد الأخرى: قوم هود

51

{وَثَمُودَ} قوم صالح

53

{وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} المؤتفكة: قرى قوم لوط؛ رفعها جبريل عليه الصلاة والسلام إلى السماء، وألقاها؛ فهوت إلى الأرض. وسميت مؤتفكة: لأنها ائتفكت بأهلها؛ أي انقلبت بهم، وصار عاليها سافلها

54

{فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} غطاها من العذاب والإهلاك ما غطى، وشملها من التدمير ما شملها

55

{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ} أي فبأي نعمة من نعم ربك أيها الإنسان {تَتَمَارَى} تتشكك وتتجادل وقد أنجاك مما أصاب به من كان قبلك من الأمم

56

{هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُوْلَى} أي محمد عليه الصلاة والسلام: نذير من جنس النذر الأولى؛ التي أنذر بها من كان قبلكم فكذبوهم؛ فأخذهم العذاب. فلا تكذبوه لئلا يحل بكم ما حل بالمكذبين من قبلكم

57

{أَزِفَتِ الآزِفَةُ} دنت القيامة، وقرب حينها

58

{لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {كَاشِفَةٌ} تكشف ما فيها من العذاب والأهوال

59

{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ} القرآن {تَعْجَبُونَ} وتسخرون على ما فيه من الوعيد لأمثالكم

60

{وَلاَ تَبْكُونَ} وهو الأجدر بحالكم

61

{وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} غافلون لاهون

62

{فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ} وحده {وَاعْبُدُواْ} إياه؛ ولا تسجدوا للأصنام، ولا تعبدوها.

سورة القمر

سورة القمر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} القيامة {وَانشَقَّ الْقَمَرُ} نصفين. قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: رأيت حراء بين فلقتي القمر. وقيل: معناه سينشق القمر يوم القيامة، وأخذ بهذا المعنى بعض المتأخرين؛ الذين لا يعبأ بقولهم، ولا يعتد برأيهم. والجمهور على القول الأول، ويؤيده ما جاء في الصحيحين، وقراءة من قرأ «وقد انشق القمر» ويؤيده أيضاً ما بعده:

2

{وَإِن يَرَوْاْ آيَةً} معجزة للرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه {يُعْرِضُواْ} عنها، ولا يلتفتوا إليها {وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} أي سحر قوي محكم

3

{وَكُلُّ أَمْرٍ} من الخير، أو الشر {مُّسْتَقِرٌّ} أي كائن في وقته بإرادته تعالى، ومعلوم في اللوح المحفوظ

4

{مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي ما يصح أن يزجر به قارئه، ويتعظ به سامعه. وهذه الأنباء التي جاءتهم

5

{حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} يجب أن يتعظ بها سامعها، وأن يفهمها قارئها {فَمَا تُغْنِي} فما تنفع فيهم {النُّذُرُ} الرسل؛ الذين ينذرونهم عاقبة كفرهم، ومغبة طغيانهم

6

{فَتَوَلَّ} أعرض {عَنْهُمْ} ولا تجادلهم {يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ} أي إلى شيء تنكره نفوسهم؛ لأنهم لم يعهدوه، ولم يألفوه. وذلك يوم القيامة: حينما يدعون إلى الحساب فالعذاب

7

{خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} خشوع الأبصار: كناية عن الذلة {يَخْرُجُونَ} القبور

8

{مُّهْطِعِينَ} مسرعين، مادي أعناقهم

9

{وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} أي مجنون عولج بالسب والضرب؛ حتى رجع إلى عقله، وثاب إلى رشده.

11

{بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} منصب انصباباً شديداً

12

{فَالْتَقَى المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي التقى الماءان: ماء السماء الذي نزل من السحاب، وماء الأرض الذي نبع من التنور؛ على أمر قد قدره الله تعالى: وهو إغراق قوم نوح عن آخرهم. وقرىء «فالتقى الماءان»

13

{وَحَمَلْنَاهُ} أي حملنا نوحاً ومن آمن معه {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} يعني السفينة. والدسر: جمع دسار؛ وهو المسمار

14

{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي بحفظنا وكلاءتنا {جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ} وهو نوح عليه السلام؛ لأنه مكفور به

15

{وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا} أي السفينة؛ والمراد به جنسها. قال تعالى: «ولتجري الفلك بأمره» {آيَةً} علامة على قدرتنا. وقيل: المراد به سفينة نوح نفسها؛ فقد تركت على الجودي، ورآها بعض أوائل هذه الأمة. هذا ولا يزال حتى الآن بعض الباحثين والمنقبين يبحثون عنها في مظان وجودها. وزعم بعضهم أنه رآها فعلاً مغطاة بالثلوج؛ والله أعلم بخلقه وأحكم {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} متذكر، متعظ

16

{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي} الذي أنزلته بقوم نوح جزاء كفرهم بي، وتكذيبهم لرسولي كيف كان {نَّذْرٍ} أي إنذاري لهم قبل نزول العذاب بهم

17

{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا} سهلنا {الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} للاتعاظ به، والتذكر بما فيه

18

{كَذَّبَتْ عَادٌ} قوم هود

19

{إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} شديدة البرودة، شديدة الصوت {فِي يَوْمِ نَحْسٍ} شؤم {مُّسْتَمِرٌّ} دائم الشر

20

{تَنزِعُ النَّاسَ} من أماكنهم؛ فتدقهم على الأرض؛ فتبين رقابهم من جسومهم {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} منقلع، ساقط على الأرض؛ وذلك لطولهم، وأنهم لا حراك بهم

23

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ} قوم صالح {بِالنُّذُرِ} بالرسل؛ لأن من كذب رسولاً واحداً: فكأنما كذب رسل الله جميعاً. أو المراد بالنذر: الأمور التي أنذرهم بوقوعها نبيهم صالح عليه السلام

24

{إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} أي نحن إذا اتبعناه كنا في ضلال وفي سعر؛ كما يقول على مخالفيه. والسعر: الجنون

25

{أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ} الوحي {عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} ونحن لا نشعر بذلك، وليس بأفضلنا {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي بطر متكبر؛ حمله تكبره على أن يتعاظم علينا بادعائه النبوة. قال تعالى رداً عليهم، وتهديداً لهم:

26

{سَيَعْلَمُونَ غَداً} يوم القيامة؛ حين يرون العذاب {مَّنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} نبيهم صالح - حين يأتي تحف به المهابة وتحيط به الأنوار - أم هم حين يأتون يجرون أذيال الخزي والخيبة؛ تسوقهم ملائكة العذاب نحو الحساب؟

27

{إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً} ابتلاء {لَّهُمْ} وامتحاناً {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} انتظرهم يا صالح، واصبر على أذاهم

28

{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} لهم يوم يستقون فيه، وللناقة يوم تشرب فيه

29

{فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ} واحداً منهم ليقتل الناقة. قيل: اسمه قدار {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} فتناول السيف؛ فقتل به الناقة؛ فاستوجبوا على أنفسهم العذاب الموعود

31

{إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} صاحها بهم جبريل عليه السلام والصيحة: العذاب، أو هي مقدمة لكل عذاب {فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} الهشيم: الشجر اليابس المتهشم، المتكسر. والمحتظر: الذي يجعل لغنمه حظيرة من الهشيم

34

{حَاصِباً} ريحاً تحصبهم - أي ترميهم - بالحجارة {إِلاَّ آلَ لُوطٍ} ابنتاه، ومن آمن معه {نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} وقت الصبح؛ حين أنزل الله تعالى العذاب بقوم لوط

36

{بَطْشَتَنَا} أخذنا لهم بالعذاب {فَتَمَارَوْاْ} فكذبوا

37

{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ} بأن طلبوا منه تسليم الملائكة - حينما نزلوا عليه في صورة الأضياف - ليأتوا بهم الفاحشة أعميناها

38

{بُكْرَةً} أي باكراً من التبكير {عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} دائم، متصل بعذاب القيامة: يصاحبهم حتى يسلمهم للموت، والموت يسلمهم لعذاب القبر، وعذاب القبر يصحبهم إلى يوم القيامة؛ حتى يروا العذاب الأكبر؛ نعوذ ب الله تعالى من غضبه وعذابه

41

{وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ} هو وقومه معه {النُّذُرُ} جمع نذير. أي جاءهم الإنذار معاداً متكرراً بالعذاب المتوقع

42

{كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا} وهي الآيات التسع؛ التي أوتيها موسى {فَأَخَذْنَاهُمْ} بالعذاب الموعود -[655]- {أَخْذَ عِزِيزٍ} قوي {مُّقْتَدِرٍ} تام القدرة؛ لا يعجزه شيء، ولا يفر من عذابه مذنب

43

{أَكُفَّارُكُمْ} يا أهل مكة {خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ} المذكورين؛ فندعهم في طغيانهم وكفرهم، ولا نعذبهم {أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزُّبُرِ} في الكتب. أي نزل لكم الأمان في الكتب المتقدمة

44

{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} أي نحن جمع كبير؛ سننتصر لكثرتنا وقوتنا

45

{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} الكبير {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} فهزموا - على جمعهم وكثرتهم - شر هزيمة يوم بدر، ونصر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين - رغم قلتهم - وتحقق وعيده تعالى في أعدائه، ووعده لأوليائه وليست هذه الهزيمة هي كل ما ينتظرهم من العذاب والخزي

46

{بَلِ السَّاعَةُ} القيامة {مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} أي والقيامة وما فيها من الشدة والعذاب: «أدهى وأمر» مما نالهم في الدنيا من خزي الانهزام، وذل القتل والانكسار

47

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} الكافرين {لَّفِي ضَلاَلٍ} هلاك؛ في الدنيا بالقتل والهزيمة {وَسُعُرٍ} نار مستعرة في الآخرة

48

{ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} إصابة جهنم

49

{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي بتقدير: محكم، مستوف فيه مقتضى الحكمة والمنفعة. وقيل: المعنى: مقدر. وذهب كثيرون إلى أن هذه الآية دليل على أن السيئة مقدرة: فالقتل بقدر، والزنا بقدر، وشرب الخمر بقدر، والسرقة بقدر. وأن جميع ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، قبل خلق النفوس. وهو كلام يؤدي إلى نسبة الظلم إلى الله تعالى؛ وهو أعدل العادلين، وأحكم الحاكمين أما كتابة الأعمال، وما كان وما يكون في اللوح المحفوظ: فأمر مسلم به، وأما التقدير الذي يشبه الإلزام فكلا وألف مرة كلا ولكن الله تعالى جلت قدرته؛ لسعة علمه ومعرفته: علم بعمل خلقه؛ فكتبه قبل أن يعملوه، ولم يلزمهم به. وهو جل شأنه، وتعالى سلطانه لا يهدي الفاسقين، ولا يهدي الظالمين، ولا يهدي الكافرين، ولا يهدي من هو مسرف كذاب، ولا من هو كاذب مرتاب وإنما يهدي تعالى من أناب: يهديه إلى الرشد، وإلى الحق، وإلى سواء السبيل وإلا إذا قلنا بما يقولون؛ فعلام شرعت الشرائع. وقننت القوانين، وأرسلت الرسل، ونزلت الكتب؟ ولما نقتص من المذنب؛ ولا ذنب له؟ ومن المجرم؛ ولا جرم عليه؟ ولماذا يرجم الزاني؛ وقد أكره على الزنا؟ ويقطع السارق؛ وقد ألزم بالسرقة؟ ويقتل القاتل؛ وقد فرض عليه القتل؟ ولماذا تقوم المحاكم لفض المظالم؟ وأي مظالم يدفعونها؛ ودفعها هو عين الظلم؟ إذ كيف يقتل -[656]- القاتل؛ وقد قتل بقدر؟ أو كيف يرجم الزاني؛ وقد زنا بقدر؟ أو كيف يقطع السارق؛ وقد سرق بقدر؟ أو كيف يحد شارب الخمر؛ وقد شربها بقدر؟ ألم يقدر الله تعالى - كما يقولون - ذلك القتل، وذلك الزنا، وذلك السكر، وتلكم السرقة؟ وأين من يزعم أنه يستطيع أن يخرج عما قدره الله تعالى ورسمه لعباده؟ وأخيراً يحق لنا أن نسائل هؤلاء القائلين بهذا الرأي الفاسد: لم خلق الله تعالى جنته وناره؛ وقد أطاعه من أطاعه بقدر، وعصاه من عصاه بقدر؟ أكره هذا على الطاعة، وأكره ذاك على المعصية

50

{وَمَآ أَمْرُنَآ} لشيء إذا أردناه {إِلاَّ} مرة {وَاحِدَةً} فيكون في سرعة حدوثه {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} وهو قول «كن» {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}

51

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ} أشباهكم في الكفر من الأمم الماضية

52

{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ} من خير، أو شر {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} في الكتب التي تكتبها الحفظة

53

{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} من ذنوبهم وأعمالهم {مُّسْتَطَرٌ} مسطور: مكتوب

54

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} بساتين {وَنَهَرٍ} «أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى»

55

{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} مكان صدق قد وعدوه في الدنيا، وحققه الله تعالى لهم في الآخرة {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} قادر على إفاضة هذا النعيم الكامل على أوليائه

سورة الرحمن

سورة الرحمن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{الرَّحْمَنُ *

2

عَلَّمَ الْقُرْآنَ} لما كانت هذه السورة الكريمة حاوية لمزيد أنعمه تعالى على عباده: بدأ بذكر النعمة الكبرى، والمنة العظمى: وهي تعلم القرآن. وأي نعمة تداني علمه وتعلمه، وفهمه وتفهمه؟ فاحرص أيها المؤمن اللبيب على حفظ كتاب الله تعالى وتلاوته، والتحرز بما فيه من أوامر ونواه؛ تسعدك في دنياك، وتقربك من مولاك، وتسرك في مثواك، وتنجيك في أخراك

3

{خَلَقَ الإِنسَانَ} فسواه فعدله (انظر آية 21 من سورة الذاريات)

4

{عَلَّمَهُ البَيَانَ} ألهمه النطق؛ الذي به يستطيع أن يبين عن رغائبه ومقاصده

5

{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} بحساب معلوم: يجريان في بروجهما، ويتنقلان في منازلهما. والحسبان: قطب الرحى. أي يدوران في مثل القطب

6

{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} أي ينقادان للرحمن فيما يريده منهما: هذا بالتنقل في البروج، وذاك بإيتاء الثمر، نعمة للبشر. وقيل «النجم»: كل ما لا ساق له من الشجر

7

{وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} الذي توزن به -[657]- الأشياء

8

{أَلاَّ تَطْغَوْاْ} لئلا تطغوا

9

{بِالْقِسْطِ} بالعدل {وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ} لا تنقصوا الموزون؛ عندما تبيعون، ولا تزيدوه عندما تشترون. قال تعالى: «ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون»

11

{وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ} الأكمام: أوعية التمر. والمراد به هنا: الليف والسعف

12

{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} العصف: التبن؛ لأن الريح تعصف به. والريحان: الرزق، وهو يطلق على الثمر، وكل ما يتلذذ به من الفاكهة. أو هو كل أصناف المشمومات: كالورد، والفل، والنرجس، والياسمين؛ وما شاكلها

13

{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} الآلاء: النعم. أي فبأي نعم ربكما أيها الإنس والجن تكذبان؟

14

{صَلْصَالٍ} طين يابس

15

{وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ} المارج: اللهب الصافي

17

{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} مشرق الشتاء، ومشرق الصيف، ومغربيهما. أو «المشرقين» مشرق الشمس والقمر. و «المغربين» مغربيهما

19

{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي خلطهما في مرأى العين؛ لا يحول بينهما سوى قدرته تعالى

20

{بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} حاجز من القدرة الإلهية {لاَّ يَبْغِيَانِ} لا يبغي أحدهما على الآخر؛ فيمتزج به، ويختلط العذب الفرات، بالملح الأجاج

22

{يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} أي من أحدهما، لأنهما لا يخرجان إلا من البحار خاصة؛ لا من الأنهار

24

{وَلَهُ الْجَوَارِ} السفن الجارية في البحر {كَالأَعْلاَمِ} كالجبال في العظم

27

{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ذاته العلية {ذُو الْجَلاَلِ} القدرة والعظمة {وَالإِكْرَامِ} يكرم عباده المؤمنين بما أعده لهم من نعيم مقيم

29

{يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي يفتقر إليه كل من فيهن، ويطلب منه الحفظ، والعون، والرزق {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويشفي سقيماً، ويسقم سليماً، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين

31

{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ} أي ستنتهي الدنيا، ولا يبقى إلا حسابكم ومجازاتكم؛ وهو وعيد وتهديد، و «الثقلان» الإنس والجن

33

{يمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ} الأقطار: جمع قطر؛ وهو الناحية. أي إن استطعتم أن تنفذوا من نواحي السموات {وَالأَرْضِ} وتخرجوا مما رسمه الله تعالى لكم، وحدده لوجودكم ومعيشتكم {فَانفُذُواْ} من أقطارهما -[658]- {لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة، وغلبة، وقهر؛ وأنى لكم ذلك؟ وهذا على سبيل التعجيز والتحدي؛ يدل عليه ما بعده

35

{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} إذا حاولتما ذلك {شُوَاظٌ} لهب، لا دخان له {مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ} ملتهب {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} فلا تبلغان مأربكما؛ من ورود هذا المورد، وركوب هذا المركب (انظر آية 61 من سورة الفرقان)

37

{فَكَانَتْ وَرْدَةً} أي صارت كالوردة؛ في تشعب أوراقها وسهولة انتثارها، أو صارت كلون الوردة في الاحمرار {كَالدِّهَانِ} أي كالأديم الأحمر

39

{فَيَوْمَئِذٍ} يوم القيامة {لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} لأن للمذنب علامات تدل على ذنبه: كاسوداد الوجوه وزرقتها؛ يؤيده قوله تعالى:

41

{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} أي بهيئاتهم وعلاماتهم. ويصح أن يكون ما جاء في مواضع أخر من التنزيل؛ من أنهم يسألون عن أعمالهم: معناه أنهم يحاسبون عليها، ويجزون بها {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي} جمع ناصية؛ وهي شعر مقدم الرأس {وَالأَقْدَامِ} يجر الكافرون من نواصيهم: إذلالاً لهم، ومن أقدامهم: ليسحبوا على وجوههم إلى النار

44

{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} ماء بالغ غاية الحرارة

46

{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أي القيام بين يديه يوم القيامة. قال تعالى {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ومن خاف مقام ربه: لم يقتل، ولم يزن، ولم يسرق، ولم يسكر، ولم يغتب، ولم يقل زوراً فهذا له {جَنَّتَانِ} بستانان. قيل: هما للسابقين. قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}

48

{ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} جمع فنن؛ أي أغصان. وخص الأفنان بالذكر؛ لأنها هي التي تورق وتثمر. أو «أفنان» جمع فن. أي ذواتا ألوان وأجناس وأصناف من الفاكهة؛ المختلفة الألوان والطعوم

52

{فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} صنفان: حلو وحامض، ورطب ويابس، وأحمر وأصفر

54

{إِسْتَبْرَقٍ} هو ما غلظ من الحرير {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ} ثمرهما {دَانٍ} قريب: يناله القائم، والقاعد، والمضطجع. سهل التناول: لا يحول دونه بعد، ولا شوك، ولا يحتاج إلى صعود نخلها لاجتناء تمرها، ولا معالجة شجرها لاجتناء ثمرها

56

{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أي اللاتي يقصرن بصرهن على أزواجهن {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} لم يطأهن. والطمث: افتضاض البكر

58

{كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} لما كان الياقوت والمرجان: من أنفس حلى العرب في ذلك العهد: شبههن بهما. ولا صحة لما ذهب إليه بعض المفسرين من وصف الحور العين: بأن أعينها من ياقوت، وأرجلها من زبرجد، وجسمها من عنبر وأنها من الصفاء بحيث يرى مخ سوقها؛ إلى غير ذلك مما لا يتفق والحقيقة؛ وهو من المغالاة المذمومة. فلو تصور إنسان امرأة على هذه الصورة، وتلك الصفة: لكانت محل اقتنائه، لا موضع متعته ولذته

60

{هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ} في الدنيا بطاعة الله {إِلاَّ الإِحْسَانُ} في الآخرة بالنعيم المقيم؟ وأين إحسان المخلوق؛ من إحسان الخالق المنعم المتفضل؟

62

{وَمِن دُونِهِمَا} أي من دون هاتين الجنتين اللتين وصفهما الله تعالى بأنهما لمن خاف مقامه: دونهما في العظم، والمقام، والدرجة؛ وهما لأصحاب اليمين من المتقين. قال تعالى: «وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين: في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، وماء مسكوب، وفاكهة كثيرة؛ لا مقطوعة ولا ممنوعة»

64

{مُدْهَآمَّتَانِ} خضراوان؛ من وفرة الري والعناية الربانية

66

{نَضَّاخَتَانِ} فوارتان بالماء لا تنقطعان

70

{فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ} مخففة من خيرات؛ بتشديد الياء. وبها قرىء أيضاً وهن الحور {حِسَانٌ} أي حسان الخلق والخلق

72

{حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ} حور: جمع حوراء؛ وهي شديدة بياض العين وسوادها (انظر آية 54 من سورة الدخان) و «مقصورات» أي مخدرات؛ قصرن في خدورهن

74

{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} لم يطأهن. والطمث: افتضاض البكر

76

{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ} الرفرف: الوسائد والفرش؛ وما إليها {وَعَبْقَرِيٍّ} هو نسبة إلى «عبقر» تزعم العرب أنه اسم بلد الجن؛ وينسبون إليه كل ما كان بديع الصنع. والمقصود به هنا: الديباج، والطنافس

78

{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} تعالى ذكره، وتقدس اسمه {ذِي الْجَلاَلِ} ذي العظمة {وَالإِكْرَامِ} أي إنه تعالى واجب التكريم من سائر مخلوقاته، أو هو جل شأنه المختص بإكرام أوليائه وأحبائه

سورة الواقعة

سورة الواقعة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} قامت القيامة. وسميت واقعة: لتأكد وقوعها

2

كَاذِبَةٌ} أي لا شك ولا ريب في وقوعها؛ أو لا يكون حين وقوعها نفس تكذب بها. وكيف يحصل لها تكذيب وقد صارت حقيقة واقعة محسوسة ملموسة؟

3

{خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} تخفض الكافرين، وترفع المؤمنين: خفضت أقواماً - كانوا في الدنيا أعزاء - إلى عذاب الله ونقمته، ورفعت أقواماً - كانوا في الدنيا أذلاء - إلى جنة الله ورحمته

4

{إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً} زلزلت زلزالاً شديداً، واضطربت واهتزت

5

{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ} أي فتتت

6

{فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} غباراً منتشراً

7

{وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً} أصنافاً

8

{فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم {مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} تعجيب لحالهم؛ وتعظيم لشأنهم؛ في دخولهم الجنة، ومزيد تنعمهم فيها

9

{وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} وهم الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم {مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} تعجيب لحالهم أيضاً؛ من دخولهم النار وما يلقون فيها من البؤس والشقاء والبلاء

10

{وَالسَّابِقُونَ} إلى الخيرات والحسنات: هم {السَّابِقُونَ} إلى النعيم والجنات. أو هو تأكيد لتعظيم شأنهم (انظر آيتي 32 من سورة فاطر، و46 من سورة الرحمن)

13

{ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ} أي جماعة كثيرة من متقدمي هذه الأمة؛ لملازمتهم الصلاح، واستمساكهم بالتقوى

14

{وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} من متأخري هذه الأمة. وقيل: «من الأولين» من الأمم الماضية، و «من الآخرين» من هذه الأمة

15

{عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} مرصعة باللؤلؤ والجواهر

16

{مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} ينظر بعضهم إلى بعض، ويدورون في مقاعدهم بحيث لا تبدو أقفيتهم. وهذا مظهر من مظاهر العظمة التي نجدها في عظماء الدنيا: حيث يجلسون على مكاتبهم في مقاعدهم التي تدور بهم حيث شاءوا؛ فيواجه بوجهه من يريد محادثته من جلسائه

17

{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ} للخدمة {وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} لا يهرمون أبداً. وقد ذهب بعض الفساق إلى أن هؤلاء الولدان للخدمة واللواط أيضاً. وهو قول يضم إلى فساده؛ سوء خلق قائله، وانعدام ذوقه فليحذر المؤمن من مكائد شياطين الإنس والجن؛ وقد أسهبنا في الرد على هذه المزاعم وأمثالها في تفسيرنا الكبير

18

{وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} خمر من عيون تجري على وجه الأرض؛ ترى بالعين. قال تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ}

19

{لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي لا يحصل لهم صداع بسببها؛ كخمر الدنيا {وَلاَ يُنزِفُونَ} أي لا يذهب عقلهم؛ من نزف الرجل: إذا ذهب عقله من السكر. وقيل: من أنزف القوم: إذا نفد شرابهم

22

{وَحُورٌ عِينٌ} الحور: جمع حوراء؛ وهي شديدة بياض العين وسوادها. والعين: جمع عيناء؛ وهي الواسعة العين (انظر آية 54 من سورة الدخان)

24

{جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدنيا من صالح الأعمال

25

{لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً} أي لا يسمعون قولاً باطلاً، ولا هذياناً، ولا سباباً؛ مما يستوجب الإثم} قولاً

26

{سَلاَماً سَلاَماً} تسليماً عليهم من الملائكة، ومن إخوانهم المؤمنين

27

{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ} وهم الذين أوتوا كتبهم بأيمانهم (انظر آية 62 من سورة الرحمن)

28

{فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} السدر: شجر النبق. والمخضود: الذي لا شوك فيه

29

{وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} هو شجر الموز. و «منضود» أي مرصوص

30

{وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} دائم. قال تعالى في وصف الجنة: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} وجاء في الحديث الشريف: «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها»

34

{وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} أي عالية. أو أريد بالفرش: النساء؛ وقد جرت عادة العرب بتسمية المرأة بالفراش؛ ويؤيده ما بعده. و «مرفوعة» أي مرفوعة فوق الأرائك. قال تعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَآئِكِ}.

36

{فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} دائمي البكارة؛ كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً

37

{عُرُباً} جمع عروب؛ وهي المتحببة إلى زوجها {أَتْرَاباً} أي مستويات في السن

41

{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ} وهم الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم

42

{فِي سَمُومٍ} حر نار ينفذ في المسام {وَحَمِيمٍ} ماء بالغ نهاية الحرارة

43

{وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} دخان أسود

44

{لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ} المراد: نفي صفات الظل المعتاد؛ وهي البرودة والكرم؛ بأن يخلص كل من يأوي إليه من أذى الحر

45

{إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ} في الدنيا {مُتْرَفِينَ} منعمين

46

{الْحِنثِ الْعَظِيمِ} الذنب العظيم؛ وهو الشرك: وأي حنث أعظم من قولهم

47

{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا} في قبورنا {تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أي هل نحيا بعد ذلك، ونبعث كما يزعم محمد

48

{أَوَ آبَآؤُنَا الأَوَّلُونَ} أي أو يبعث آباؤنا الأولون أيضاً، بعد أن بليت أجسامهم، وتفتتت عظامهم

50

{إِلَى مِيقَاتِ} إلى وقت {يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} هو يوم القيامة

52

{مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} هو شجر ينبت في أصل الجحيم

54

{فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} أي أنهم إذا عطشوا - بعد أكل الزقوم - فلا يشربون إلا {مِنَ الْحَمِيمِ} وهو الماء البالغ نهاية الحرارة

55

{فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} الإبل العطاش

56

{هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} النزل: ما يعد لإكرام الضيف أي هذا هو الشيء المعد لإكرامهم يوم القيامة

57

{فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ} فهلا تصدقون

58

{أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} تريقون في أرحام نسائكم. يعني إذا كنتم لا تؤمنون بأن الله تعالى هو خالقكم من ماء مهين، وتعتقدون أن خلقتكم تأتي على مقتضى الطبيعة البشرية: تمنون فتنجبون. إذا اعتقدتم هذا؛ فما قولكم في المني المتسبب في خلقكم

59

{أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ} بأنفسكم، وتصنعون ما فيه من الحيوانات والجراثيم التي يتكون منها الجنين {أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ} له، المدبرون لآثاره؟ ألا ترون أن كثيراً منكم يمنون فلا ينتجون، ويحاولون إيجاد الولد من مظانه الطبيعية فلا يستطيعون؛ إلا إذا أراد خالق الخلق أجمعين {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} يقول تعالى {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} فتبارك الله رب العالمين

60

{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} بميقات معلوم، فعجلناه لبعضكم وأخرناه عن البعض الآخر إلى أجل مسمى {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي بعاجزين

61

{عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} نخلق غيركم - من جنسكم - بعد مهلككم {وَنُنشِئَكُمْ} نشأة أخرى {فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي خلق شئنا، وأي نشأة أردنا. يؤخذ من هذه الآية أن الإنسان قد يخلق بعد موته في خلق أدنأ من خلقته، وأحط من طبيعته؛ تأديباً له وتعذيباً كما أنه يجوز أن يخلق في خلق أعلا من خلقه، وأشرف من جنسه؛ تعظيماً له وتكريماً وهذا القول يعارضه الأكثرون؛ تحرزاً من القول بتناسخ الأرواح

62

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى} وهي خلق آدم من طين؛ لا يمت إلى الحياة بأي سبب {فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} فهلا تتذكرون ذلك؛ فتعرفون قدرة الخالق؟

65

{لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} هشيماً متكسراً {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تعجبون، أو تتندمون على تعبكم فيه؛ وتقولون

66

{إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أي لملزمون غرامة ما أنفقنا، أو لمهلكون لهلاك رزقنا، وتلف قوتنا. من الغرام؛ وهو الهلاك

67

{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} من ثمرة كدنا وعملنا {مِنَ الْمُزْنِ} السحاب {أُجَاجاً} ملحاً؛ فلم تنتفعوا منه بشرب، ولا غرس، ولا زرع {فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} فهلا تشكرون {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} توقدون من الشجر الأخضر

73

{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} تذكيراً لنار جهنم، أو تذكرة لقدرتنا وعظمتنا {وَمَتَاعاً} منفعة {لِّلْمُقْوِينَ} للمسافرين. أو «للمقوين» أي الخالية بطونهم. يقال: أقوى - من الأضداد - إذا افتقر، أو استغنى. لقد عدد سبحانه وتعالى النعم على عباده: فبدأ بذكر خلق الإنسان؛ فقال {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} ثم ثنى بما به قوامه ومعيشته؛ وهو الزرع: فقال «أفرأيتم ما تحرثون» ثم بما به حياته؛ وهو الماء: فقالـ

68

{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} ثم بما به يصطلي، ويصنع طعامه، وبما به يصنع سلاحه؛ الذي به يدفع الغوائل عن نفسه، ويحفظ حياته ووطنه؛ وهي النار: فقال:

71

{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} فيا له من منعم، ويا له من متفضل؛ وله الحمد حتى يرضى

74

{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} نزهه عما يقولون

75

{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} قالوا: إن «لا» زائدة. أي {أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} وهي مطالع النجوم -[664]- ومساقطها، أو منازلها، أو وقوعها وانتثارها عند قيام الساعة. قال تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} أو أريد {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}: منازل القرآن الكريم؛ لأنه نزل منجماً: أي مفرقاً. وقيل: المراد به محكم القرآن

77

{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} عزيز جليل

78

{فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} مصون؛ وهو اللوح المحفوظ. وقد ذهب بعضهم إلى أنه المصحف

79

{لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} الملائكة عليهم السلام بأمر ربهم. ولا حجة لمن يقول: بتحريم مس المصحف لغير المسلم، ولغير المتوضىء؛ اللهم إلا إذا كان بقصد امتهانه؛ وحينئذٍ لا يكون حراماً بل كفر يقتل فاعله وقد نزل القرآن - حينما نزل - للناس أجمعين - كافرهم ومؤمنهم، طائعهم وعاصيهم - فكيف نحرم مسه على أناس أنزل إليهم، وأريد به هدايتهم؟

80

{تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} نزل به الروح الأمين، على قلب محمد لينذر به الخلق أجمعين والقرآن الكريم - ولو أنه نزل بلسان العرب ولغتهم - غير أنه لا يساويه قول مهما علا، ولا كلام مهما سما؛ لأنه قول المنزه عن المثال والشبيه، المتعالي عن الصفات والأنداد وحسب القرآن جلالة ومجداً: أن الأربعة عشر قرناً التي مرت عليه لم تستطع أن تذهب ببهاء أسلوبه الذي لا يزال غضاً كأن عهده بالسماع أمس وإن الإنسان ليقرأ كلام أحب الناس إليه؛ فيمجه بالتكرار، ويعافه على مر الأيام. أما القرآن الكريم فكلما زدته تلاوة: ازداد حلاوة وكلما زدته عناية: ازداد لك رعاية وإذا استمسكت به: استمسك بك؛ حتى يسلمك إلى منزله تعالى فيعطيك من نعمته حتى يكفيك، ويفيض عليك من كرمه حتى يرضيك ومن أعجب العجب: أن يحن الإنسان إلى استماع القرآن، ويطرب لتلاوته؛ ولو لم يفهم معناه، أو تبلغ ألفاظه أذنيه أدام الله تعالى علينا نعمة القرآن، وزادنا له حباً، وبه تمسكاً

81

{أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} أي أبهذا القرآن أنتم متهاونون مكذبون؟ يقال: دهن الرجل؛ إذا نافق. والمداهن: المظهر خلاف ما يبطن

82

{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي وتجعلون شكر رزقكم: أنكم تكذبون برازقكم وخالقكم

83

{فَلَوْلاَ} فهلا {إِذَا بَلَغَتِ} الروح {الْحُلْقُومَ} عند الموت. والحلقوم: ممر الطعام والشراب

86

{فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} فهلا إن كنتم غير مربوبين؛ تدينون لإله، أو غير محاسبين، ولا مجزيين؛ ولكم قدرة على البقاء والإبقاء؛ بغير استعانة بخالق الأرض والسماء: المحيي المميت، المبدىء المعيد

87

{تَرْجِعُونَهَآ} أي ترجعون تلك الروح التي بلغت الحلقوم إلى البدن {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فيما تزعمونه

88

{فَأَمَّآ إِن كَانَ} الميت {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} الذين قربهم الله تعالى منه؛ لإيمانهم وطاعتهم

89

{فَرَوْحٌ} أي فله استراحة، أو فله رحمة ومغفرة {وَرَيْحَانٌ} رزق حسن، طيب هنيء. أو المراد به: كل ما له رائحة من الزهور والمشمومات: تتلقاه به الملائكة عند موته؛ كما يتلقى العروس في الدنيا يوم عرسه

90

{وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، أو الذين يؤخذ بأيمانهم إلى الجنة؛ كما يأخذ الصديق بيمين صديقه، والحبيب بيمين حبيبه

91

{فَسَلاَمٌ لَّكَ} أي سلامة من العذاب، أو سلام لك من مولاك جل شأنه {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أي سلام لك لأنك «من أصحاب اليمين»

92

{وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ} الذين كذبوا الرسول والقرآن {الضَّآلِّينَ} الذين ضلوا سواء السبيل؛ وعصوا الرب الجليل

93

{فَنُزُلٌ} موضع نزولهم. والنزل: ما يعد لتكرمة الضيف {مِّنْ حَمِيمٍ} ماء بالغ غاية الحرارة. فإذا كان إكرامهم بالحميم؛ فكيف يكون تعذيبهم وامتهانهم؟

94

{وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي إدخال في جهنم

95

{إِنَّ هَذَا} التنعيم والتعذيب {لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أي الحق الواجب الحدوث، المتيقن الوقوع.

سورة الحديد

سورة الحديد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي إن كل من عداه من مخلوقاته: يجله ويعظمه، ويسبح بحمده، حتى الجماد والوحش والطير؛ فإنها جميعاً تسبح بحمده {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}

3

{هُوَ الأَوَّلُ} قبل كل شيء؛ بلا بداية {وَالآخِرُ} بعد كل شيء؛ بلا نهاية {وَالظَّاهِرُ} بالأدلة والبراهين الدالة عليه: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد لكونه تعالى غير مدرك بالحواس؛ ولو أنه ظاهر في مخلوقاته وآثاره {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواء يليق به؛ لا كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود عن الحدود {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} ما يدخل فيها: من البذر، والقطر، والموتى {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من النبات، والمعادن، وغيرهما {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ} من الملائكة، والغيث، والشهب، وغيرها {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} من الأعمال والدعوات «إليه يصعد الكلم الطيب» {وَهُوَ مَعَكُمْ} بحفظه وكلاءته

5

{لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} يتصرف فيهما كيف شاء {وَإِلَى اللَّهِ} وحده {تُرْجَعُ الأُمُورُ} فيقضي فيها بما أراد؛ لا راد لقضائه

6

{يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ} يدخل أحدهما في الآخر؛ بنقصان هذا وزيادة ذاك -[666]- {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بخوافيها وما فيها

7

{وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} يعني إن الأموال التي في أيديكم: إنما هي أموال الله تعالى؛ استخلفكم عليها؛ فإن أحسنتم التصرف فيها، وأديتم زكاتها، وأنفقتم في سبيله: نمت أموالكم، وزادت حسناتكم. وإن أسأتم التصرف، وأدرككم الشح المردي، ومنعتم ذوي الحاجات حاجاتهم، وأرباب الحقوق حقوقهم: استوجبتم النيران، وحل بواديكم الخسران

8

{وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} لا تقرون بوحدانيته وربوبيته {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ} ويرشدكم إلى معرفته بالحجج القاطعة، والبراهين الدامغة؛ فليس لكم عذر بعد ذلك {وَقَدْ أَخَذَ} الله {مِيثَاقَكُمْ} في صلب آدم؛ حين قال {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} وقلتم «بلى» (انظر آية 172 من سورة الأعراف)

9

{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ} محمد {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} محكمات، واضحات {لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} من الكفر إلى الإيمان، ومن الجهل إلى العلم (انظر آية 17 من سورة البقرة)

10

{لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ} أي فتح مكة، ورفعة الإسلام، وانتصار المسلمين. أو هو فتح الحديبية

11

{مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} في الدنيا. (انظر آية 245 من سورة البقرة)

12

{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} في الجنة {يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أمامهم. والمراد بذلك: أن وجوه المؤمنين تصير مضيئة كضوء القمر في سواد الليل؛ تكريماً لهم وتشريفاً؛ ويؤيده ما بعده {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} وحقاً إن للمؤمن لنوراً يراه كل من أنار الله تعالى بصيرته في هذه الحياة الدنيا؛ فكيف بيوم القيامة: يوم الجزاء والوفاء -[667]- {وَبِأَيْمَانِهِم} أي يصير النور أمامهم وحواليهم؛ ويقال لهم {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} تدخلونها

13

{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} وهم في العذاب والظلمات {لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظُرُونَا} أي انظروا إلينا {نَقْتَبِسْ} نأخذ ونستمد {مِن نُّورِكُمْ} فقد أعمانا ما نحن فيه من الظلمات {قِيلَ} أي قالت لهم الملائكة {ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً} أي ارجعوا إلى أعمالكم التي عملتموها في الدنيا: هل تجدون فيها ما يؤهلكم للاستمتاع بهذا النور الذي يشع من المؤمنين وعليهم؟ {فَضُرِبَ بَيْنَهُم} أي بين المؤمنين والمنافقين {بِسُورٍ} هو سور الأعراف {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} أي باطن السور فيه المؤمنون والجنة {وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ} من جهته {الْعَذَابُ} الكفار والنار أي ينادي المنافقون المؤمنين؛ قائلين لهم

14

{أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} في الدنيا: نصلي مثلما تصلون، ونصوم مثلما تصومون، ونحج مثلما تحجون؟ {قَالُواْ} أي قال المؤمنون للمنافقين {بَلَى} كنتم تعبدون معنا كما كنا نعبد، وتشهدون كما كنا نشهد {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} أهلكتموها بالنفاق، وأوقعتموها في العذاب {وَتَرَبَّصْتُمْ} انتظرتم بالمؤمنين الدوائر {وَارْتَبْتُمْ} شككتم في أمر التوحيد {وَغرَّتْكُمُ} خدعتكم {الأَمَانِيُّ} الأطماع الكاذبة؛ فلم تجاهدوا مع المجاهدين، ولم تنفقوا مع المنفقين {حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ} الموت {وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الشيطان

15

{هِيَ مَوْلاَكُمْ} أي أولى بكم

16

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} أي ألم يجىء الأوان الذي فيه تخشع قلوب المؤمنين {لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} القرآن {وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} وهم اليهود والنصارى {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} الأجل أو طال الزمن بين نزول الكتب إليهم، ونزول الرسل بعد ذلك {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} وكفروا بما آمنوا به، وتنكروا لكتبهم وشوهوها وحرفوها

17

{اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي كما أنه تعالى يحيي الأرض بعد موتها؛ كذلك ذكره تعالى يحيي القلوب بعد قساوتها {وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ} أي والذين أقرضوا الله. والمقرض: هو الذي يبذل المال في الحياة الدنيا؛ رجاء ثواب الآخرة {يُضَاعَفُ لَهُمْ} الثواب والأجر {أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} الذين سبقوا إلى التصديق. لأن التصديق لا يكون باللسان؛ بل بالجنان وهم آمنوا، وصدقوا، وأنفقوا يقول أصدق القائلين، وأحكم الحاكمين، وأكرم الأكرمين:

18

{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} الذين آمنوا بي وبرسلي {وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} أنفقوا في سبيله تعالى؛ من غير رياء، ولا منَ، ولا أذى {أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} أولئك هم {الشُّهَدَآءِ} أي في درجة الشهداء: في التنعم والقرب {عِندَ رَبِّهِمْ} في روضات الجنات {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} الذي أعده الله تعالى لهم {وَنُورُهُمْ} الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم. أو المعنى: «أولئك» الذين مر ذكرهم

19

{هُمُ الصِّدِّيقُونَ} وانتهى القول عند ذلك {وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} خبر جديد عن نوع آخر من خواص المؤمنين: وهم الشهداء

20

{اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي متاعها المعجل لكم: ما هو إلا {لَعِبٌ} تلعبونه {وَلَهْوٌ} تتلهون به {وَزِينَةٌ} تتزينون بها {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ} يفخر بعضكم على بعض، ويسابق بعضكم بعضاً؛ بالأموال، والجاه، والأولاد. وذلك التفاخر والتكاثر، واللهو واللعب والزينة: مثله {كَمَثَلِ غَيْثٍ} مطر نزل على الأرض فازدهرت وأنبتت؛ وقد {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} الزراع {نَبَاتُهُ} أي نبات ذلك الغيث. وسمي المطر غيثاً: لأنه يغيث الناس من الجوع والفاقة؛ ولذا سمي الكلأ غيثاً: لأنه يغيث الماشية {ثُمَّ يَهِيجُ} أي يجف {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} بعد خضرته {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} يابساً متكسراً. شبه تعالى حال الدنيا، وسرعة انقضائها؛ مع قلة جدواها: بالنبات الذي يعجب الزراع لاستوائه وقوته ونمائه؛ وبعد ذلك يكون حطاماً، ويدركه الفناء. وكذلك حال الدنيا: «حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس» {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} للكفار؛ الذين ركنوا إلى لهو الدنيا ولعبها، وزينتها والتفاخر فيها {وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} لمن آمن بالله، وصدق برسله {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ} وما فيها من تمتع وزخرف {إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي إلا متاع مزيف؛ لا أثر له. ورجل مغرور: مخدوع

21

{سَابِقُواْ} بالأعمال الصالحة {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ} إشارة إلى أنه لا حد لها في العظم، وأنها من السعة بالقدر الذي لا يعرف مداه، ولا يوصل إلى منتهاه

22

{مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ} من الجدب، وآفات الزرع والثمار {وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ} من الأمراض والأوصاب والموت {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} هو اللوح المحفوظ. ما أصابنا: لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا: لم يكن ليصيبنا (انظر آية 156 من سورة البقرة) {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} أي من قبل أن نخلق الأنفس {إِنَّ} معرفة {ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} هين؛ لا يصعب ولا يشق عليه أن يعلم ما كان، وما سيكون، وما هو كائن

23

{لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ} من الأسى: وهو الحزن. أي أعلمكم الله تعالى بذلك لئلا تحزنوا {عَلَى مَا فَاتَكُمْ} في الدنيا من ربح {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} الله تعالى منها. هذا ومن المعلوم أنه ما من أحد يعقل: إلا ويحزن على ما يفوته، ويفرح بما يأتيه. ولكن المراد من الآية الكريمة: ألا يحزن حزناً مذهباً للثواب، ولا يفرح فرحاً موجباً للعقاب ولكن من أصابته مصيبة فجعل منها صبراً، ومن أصابه خير فجعل منه شكراً: كان جزاؤه الجنة {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} متكبر بما أوتي من الدنيا {فَخُورٍ} به على الناس

24

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بما آتاهم الله من فضله لا يكتفون ببخلهم الذي أهلكهم وأرداهم؛ بل {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} وهذا مشاهد فيمن أعمى الله تعالى بصائرهم، وقضى عليهم بالحرمان من لذة السخاء، وفرحة الإعطاء، وكتب لهم الشقاء. فهم في شقاء دائم في دنياهم، وعذاب واصب في أخراهم {وَمَن يَتَوَلَّ} يعرض عن الإنفاق

25

{بِالْبَيِّنَاتِ} الحجج الواضحات {وَالْمِيزَانَ} الذي يوزن به. قيل: إن جبريل عليه الصلاة والسلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام؛ وقال له: مر قومك يزنوا به. ويجوز أن يراد بالميزان: القانون الذي يحكم به بين الناس {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} بالعدل {وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ} أظهرناه؛ وذلك لأن من معاني الإنزال: الإظهار؛ يدل على ذلك إنزال القرآن {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} وهو بمعنى إظهاره: إذ أن القرآن الكريم قديم - صفة الموصوف بالقدم - ونزوله: إظهاره للناس {فِيهِ بَأْسٌ} قوة {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} وأي منافع فقد صار الحديد من ألزم لوازم الحياة، وإحدى الضرورات التي لا تستطيع أمة من الأمم أن تبني نهضتها ومجدها بما عداه: إذ منه تصنع القاطرات والطائرات، والسفن العظيمة التي تجوب المحيطات؛ وبغيره لا تكون الأسلحة على اختلاف درجاتها وأنواعها: من مدافع ودبابات وصواريخ وناسفات ذلك {لِيَعْلَمَ اللَّهُ} علم ظهور للمخلوقات {مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ} ينصر {وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} حال كونه تعالى غائباً عن بصره، حاضراً في بصيرته: ينصره ولا يبصره وهذا الوصف ينطبق تمام الانطباق على أمة سيد الخلق محمد عليه الصلاة والسلام؛ فقد آمنا بالله -[670]- ورسله بالغيب، ونصرنا الله تعالى - بإعلاء دينه، والدعوة إلى توحيده - ونصرنا رسله بالإيمان بهم جميعاً. وكل ذلك من غير أن نرى ربنا، أو نطلب رؤيته بأعيننا؛ ومن غير أن نرى رسله تعالى، أو نسمع دعوتهم، ونشهد معجزاتهم؛ فاستحققنا بذلك أن نكون خير أمة أخرجت للناس؛ فللَّه الحمد على ما أنعم، والشكر على ما به تفضل

26

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ} إلى الناس {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} اسم جنس؛ أريد به التوراة والإنجيل، والزبور، والقرآن؛ وهي في ذرية إبراهيم وحده {فَمِنْهُمْ} أي من المرسل إليهم {مُّهْتَدٍ} إلى طريق الحق، مؤمن ب الله ورسله {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} كافرون

27

{ثُمَّ قَفَّيْنَا} أتبعنا {عَلَى آثَارِهِم} أي على آثار نوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} أي اتبعوا عيسى وآمنوا به، وكانوا على شرعته ومنهاجه {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} وهما صفتان يمن الله تعالى بهما على من ارتضى من عباده، وجعله أهلاً لكرامته وجنته {وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا} أي اخترعوها؛ وهي أنهم كانوا يهجرون النساء، وكثيراً من المطاعم والملابس؛ بقصد التجرد من الملذات والشهوات، والتفرغ للعبادة {مَا كَتَبْنَاهَا} ما فرضناها {عَلَيْهِمْ} ولم يفعلوها {إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} قاصدين بها وجهه الكريم؛ لكن من أتى بعدهم، وأراد السير على نهجهم: انتظم في سلك الرهبانية؛ قاصداً بذلك الصوالح الدنيوية؛ لذلك وصفهم الله تعالى بقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} كالذين سبقوهم إليها، وفرضوها على أنفسهم؛ ابتغاء ثواب الله تعالى

28

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ} خافوه واخشوا غضبه وعقابه {وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ} أي اثبتوا على إيمانكم به {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} نصيبين {مِن رَّحْمَتِهِ} والمراد بالكفلين: كثرة الثواب، وعظم الأجر {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} المراد بالنور هنا: العقل؛ لأنه كالنور الذي يهتدى به: يرى الإنسان به الصواب فيتبعه، والخطأ فيجتنبه؛ كما أن النور يتجنب به الإنسان المهاوي والمزالق والمهالك {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم {وَاللَّهُ غَفُورٌ} كثير المغفرة لمن تاب {رَّحِيمٌ} بعباده؛ أرحم بهم من أمهاتهم

29

{لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ} أي خشية أن يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على نيل شيء من فضل الله - لو أسلموا - مثل ما نلتموه أنتم بإسلامكم، واستوجبتموه، بتقواكم وإيمانكم {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} كلام مستأنف؛ أي اعلموا أيها المخاطبون أن الفضل بيد الله، لا بيد غيره؛ ولا طريق لنيله إلا بالتزام الطاعة، واجتناب المعصية، وتحري مرضاته تعالى {يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وقيل: الضمير في {أَلاَّ يَقْدِرُونَ} للذين آمنوا: الذين منحهم الله تعالى رفده -[671]- وفضله؛ وآتاهم كفلين من رحمته، وجعل لهم نوراً يمشون به في الدنيا والآخرة، وغفر لهم ذنوبهم، وآتاهم تقواهم و «لئلا يعلم» أي ليعلم، و «لا» زائدة، ويؤيد ذلك: قراءة من قرأ «ليعلم» و «لكي يعلم» وما قلناه أولاً هو أقرب إلى الصواب، وأجدر بالتفهم؛ ولم يسبقنا أحد إليه.

سورة المجادلة

سورة المجادلة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي} شأن {زَوْجِهَا} هي خولة بنت ثعلبة، امرأة أوسبن الصامت؛ وقد كان راودها فأبت، فغضب منها وظاهرها؛ فأتت رسولالله، وقالت له: إن لي منه صبية صغاراً، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا. فقال لها: حرمت عليه. فقالت: يا رسول الله إنه ما ذكر طلاقاً، وهو أبو ولدي، وأحب الناس إليَّ. فقال عليه الصلاة والسلام: حرمت عليه. فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي فنزلت هذه الآيات

2

{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ} المظاهرة: أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي. فتبين منه {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ} تنكره العقول؛ إذ ليست الأزواج بأمهات {وَزُوراً} باطلاً وكذباً

3

{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} أي يعودون لما حرموه على أنفسهم؛ مما أحله الله تعالى لهم. أو «يعودون» عما قالوه من الظهار، ويرغبون في إعادة أزواجهم إليهم {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي أن يعتق عبداً مملوكاً؛ عقوبة له على تحريم ما أحله الله تعالى (انظر آية 177 من سورة البقرة) {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} أي يعتق قبل أن يمس زوجته؛ بل تظل كالمطلقة {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي تتعظون به، وتتأدبون؛ فلا تعودون إلى الظهار

4

{فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أي لم يكن في ملكه عبيد أرقاء، ولم يكن عنده مال يشتري به ويعتق {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} بحيث إنه إذا أفطر أثناءهما - ولو في اليوم الأخير - وجب عليه إعادة صوم الشهرين ابتداء {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} الصيام؛ لمرض، أو كبر، أو مشقة {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} من أوسط ما يطعم أهله؛ بشرط إشباعهم طول يومهم؛ وذلك الإعتاق، والصيام، والإطعام {لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} فلا أدل على الإيمان من الطاعة والنزول على أمره تعالى

5

{إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ} يعادون {كُبِتُواْ} أذلوا وأخزوا، وردوا بغيظهم من كفار الأمم السابقة: الذين عصوا رسلهم، وعادوهم وآذوهم

6

{فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} من سوء {أَحْصَاهُ اللَّهُ} عليهم، وكتبه في صحائف أعمالهم -[672]- {وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} يحدث {شَهِيدٌ} مشاهد له، وعالم به

7

{مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} النجوى: المسارة. والمعنى أنه تعالى حاضر معهم، مطلع على أحوالهم وأعمالهم، وما تهجس به أفئدتهم {وَلاَ أَدْنَى} أقل من الثلاثة {وَلاَ أَكْثَرَ} من الخمسة؛ ولو بلغوا آلاف الآلاف {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ} في أقطار السموات، أو في أعماق المحيطات

8

{عَنِ النَّجْوَى} عن المسارة {وَإِذَا جَآءُوكَ} ودخلوا عليك {حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} كانوا يقولون للرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه: السام عليك؛ مكان السلام عليك. والسام: الموت {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ} أي هلا يعذبنا {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} أي كافيتهم {يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها

9

{إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} تساررتم {وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ} يعني لا تكون مسارتكم إلا بقصد البر بالناس {وَالتَّقْوَى} خشية الله تعالى؛ وهي تشمل كل خير وبر قال تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} خافوه، واخشوا عذابه، واعملوا ما يرضيه {الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تجمعون يوم القيامة؛ فيحاسبكم على ما فعلتم من سوء، ويجزيكم على ما قدمتم من خير

10

{إِنَّمَا النَّجْوَى} المسارة بالإثم والمعصية؛ كأن يناجي إنسان إنساناً على إذاية آخر، أو يناجيه على ارتكاب محرم؛ فكل هذا {مِنَ الشَّيْطَانِ} يوعز به لبني الإنسان {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُواْ} وهم الذين لم يستمعوا للنجوى؛ بل رأوا المتناجين فظنوا أنها ضدهم. وقيل: كان الرجل يأتي الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فيسأله حاجته؛ فكان إبليس اللعين يوسوس إليهم: إنه ناجى الرسول بشأن شدة الأعداء، وكثرة جموعهم؛ فيحزن المؤمنون لذلك -[673]- {وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ} أي ليس الشيطان بضار أحد من المؤمنين، أو من المتناجي ضدهم {وَعَلَى اللَّهِ} وحده {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} في سائر أمورهم وأحوالهم؛ فهو جل شأنه لا شك ناصرهم ومعينهم (انظر آية 81 من سورة النساء)

11

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} والتفسح في المجالس من أكرم الخلال الإسلامية والخلق الإنسانية فيجب على كل مؤمن أن يفسح لأخيه الذي يريد الجلوس، أو الصلاة؛ ولو لم يقل بلسانه {وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ} أي إذا قيل: انهضوا وانصرفوا، فانصرفوا: ولا ينتظرن أحدكم أن يقال له ذلك في مجلس من المجالس؛ بل عليه أن يراعي حالة الجالسين إليه، وأنسهم به؛ فإذا ما افتقد رعايتهم له، واهتمامهم بأمره: انصرف مشكوراً مأجوراً؛ قبل أن تمجه الأسماع، وتعافه الأبصار وهذا هو الأدب الرباني، والخلق القرآني؛ فاستمسك به أيها المؤمن: تعش سالماً من البغض، آمناً من الحقد وقيل: كان ذلك في مجالس الرسول خاصة والأولى أنها عامة {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ} وعملوا بطاعة الله تعالى، وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام {وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} كل بقدر عمله بعلمه. فمنهم من يعلم ولا يعمل، ومنهم من يعلم ويعمل؛ ولكنه فاسد الذوق، بليد الإحساس؛ يأتي سائر المكروهات، ويرتكب سائر المحرمات: فتراه يناجي من بجانبه بلا سبب، ويجلس مكان أربعة رجال بسبب عنجهيته، ولا يفسح المكان إذا ضاق بمن فيه، ولا يقوم من مجلسه - رغم بغض الجالسين له - حتى يكون عليهم كالطاعون؛ بل وشر من الطاعون فماذا أفاد علمه بجانب هذا الإحساس البارد، والذوق السمج؟ {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من خير أو شر {خَبِيرٌ} فيجازيكم عليه؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر

12

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} أردتم محادثته سراً؛ لأمر يهمكم {فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} هو حث على التصدق؛ عند طلب الحاجة من الله تعالى، أو من رسوله عليه الصلاة والسلام. وذلك كقوله: «داووا مرضاكم بالصدقة» وهي نعم الدواء عن تجربة {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ} ما تتصدقون به عند مناجاة الرسول، أو عند الدعاء {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لكم {رَّحِيمٌ} بكم

14

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً} صادقوهم، واتخذوهم أولياء. والمراد بالقوم: بعض اليهود لعنهم الله تعالى {مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ} أي ليسوا من المؤمنين، ولا من اليهود؛ بل هم منافقون

16

{اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} ستراً ووقاية لنفاقهم؛ يحلفون لك لتصدقهم، وما هم بصادقين {فَصَدُّواْ} بتوليهم اليهود {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} عن دينه؛ فهؤلاء

17

{لَّن تُغْنِيَ} لن تدفع {عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} التي يجمعونها {وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} الذين يعتزون بهم {مِّنَ اللَّهِ} من عقوبته وعذابه

18

{فَيَحْلِفُونَ لَهُ} في الآخرة كذباً. قال تعالى: «ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين» {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} الآن في الدنيا {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ} بحلفهم هذا {عَلَى شَيْءٍ} بأن ينفعهم حلفهم في الآخرة؛ ويتخذونه «جنة» كما اتخذوه في الدنيا {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} في الدنيا والآخرة

19

{اسْتَحْوَذَ} استولى {فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} تذكره، والعمل بأوامره

20

{يُحَآدُّونَ} يعادون {أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} المغلوبين، المعذبين يوم القيامة

21

{كَتَبَ اللَّهُ} قضى، وخط في أم الكتاب، وقال؛ وقوله الحق {لأَغْلِبَنَّ} الكافرين {أَنَاْ وَرُسُلِي} بالحجة، والسيف؛ وذلك لأن الذلة للكافرين والمنافقين {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}

22

{لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ} يتحببون إلى {مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} عاداهما، وخالف أمر الله ونهيه {وَلَوْ كَانُواْ} هؤلاء المحادون المعاندون {آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} بل يضعون مكان الود البغض، ومكان الحب الحرب. نفى تعالى الإيمان عمن يواد الكفار {وَلَوْ كَانُواْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} ويقاس على ذلك العصاة والفسقة. وهل بعد مخالفة الله تعالى ورسوله، ومجاهرتهما بالعصيان من محادة؟ فليتدبر هذا من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد {أُوْلَئِكَ} إشارة إلى من استمع لكلام ربه، واتبع توجيهه ونصحه؛ فلم يتخذ من الكافرين والفاجرين أولياء، أو أحباء؛ فهؤلاء {كَتَبَ} الله تعالى {فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} جزاء بغضهم لمن يكره، وحبهم لمن يحب فواجب المؤمن أن يحب في الله، ويبغض في الله {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} بقوة منه. وقيل: الضمير في «منه» راجع للإيمان؛ أي وأيدهم بروح من الإيمان؛ فازدادوا إيماناً ويقيناً، والإيمان في ذاته: روح القلوب وحياتها -[675]- {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} أرقى المراتب التي يسعى إليها المؤمنون، ويجدّ في نيلها المتقون أن يرضى الله تعالى عنهم، ويرضيهم عنه اللهم ارض عنا وأرضنا؛ بقدرتك علينا، وحاجتنا إليك؛ يا رب العالمين، يا مالك يوم الدين، يا ألله، ياألله، ياألله {أُوْلَئِكَ} الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وأدخلهم جنته، ورضي عنهم وأرضاهم «أولئك» {حِزْبُ اللَّهِ} أحبابه وأنصاره: اتبعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه؛ فكانوا موطناً لحبه، وأهلاً لحزبه {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون في الدنيا والآخرة. (انظر آية 54 من سورة المائدة).

سورة الحشر

سورة الحشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{سَبَّحَ لِلَّهِ} نزهه وقدسه {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} من أملاك ومخلوقات {وَمَا فِي الأَرْضِ} من إنس وجن، ووحش وطير «وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم»

2

{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} اليهود {مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ} هم بنو النضير: أخرجهم المسلمون من ديارهم؛ حينما نقضوا عهدهم؛ وكان ذلك أول حشرهم إلى الشام. وقيل: إن آخر حشرهم: إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه لهم. أو هو حشر يوم القيامة. هذا وقد يكون الحشر الثاني: هو خروجهم من فلسطين - بعون الله تعالى وقدرته - بعد أن تملكوها، وشتتوا أهلها في البراري والقفار، وسفكوا دماءهم، وقتلوا أطفالهم، وفضحوا نساءهم {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} كانت النضير - قبل إجلائهم عن ديارهم - يخربونها؛ لئلا ينتفع المسلمون بها، وقد خرب المسلمون باقيها بالسلب والمغانم

3

{الْجَلاَءَ} الخروج من الوطن {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} ولكنه تعالى اكتفى بما حل بهم من خزي خروجهم من وطنهم، وذلة مفارقتهم لبيوتهم

4

{ذَلِكَ} الخزي في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة} خالفوا وعادوا

5

{مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ} نخلة {} بأمره وقضائه؛ نقمة منه تعالى

6

{وَمَآ أَفَآءَ} الفيء: الغنيمة {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} أي لم تسيروا إليه خيلكم، ولا ركابكم

7

{كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ} أي حتى لا يكون الفيء دولة بين الأغنياء منكم خاصة. والمراد: حتى لا تتداوله الأغنياء منكم، وتتكثر به؛ مع حاجة الفقراء إليه، واضطرارهم له

9

{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} أي توطنوا المدينة {وَالإِيمَانَ} أي تمسكوا به وألفوه كما يألف الإنسان داره ووطنه؛ وهم الأنصار رضي الله تعالى عنهم {مِن قَبْلِهِمْ} يعني من قبل المهاجرين {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} وقد بلغ بهم الحب أن تآخوا معهم، وقاسموهم أموالهم. وقد بلغ من شدة حبهم، ومزيد تفانيهم: أن كان الأنصاري ينزل لأخيه المهاجر عن إحدى زوجتيه - أيتهما شاء - ويزوجها له {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} كمداً، أو حقداً على المهاجرين {مِّمَّآ أُوتُواْ} أي بسبب ما أوتوه من الفيء والغنائم. وقد كان يعطي المهاجرين ويمنع الأنصار؛ وهم أحب إليه منهم الخصاصة: الفقر والحاجة؛ وقد نزلت هذه الآية في الأنصار لأنهم آثروا المهاجرين بكل ما في أيديهم؛ رغم افتقارهم وحاجتهم إليه. وقيل: ذهب أحد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم - بعد انتهاء إحدى المواقع - يبحث عن أخيه القتيل؛ وفي يده كوز فيه ماء ليسقيه إن كان به رمق؛ فوجده يحتضر، فناوله الكوز، وبعد أن رفعه إلى فيه سمع بجواره أنين جريح آخر؛ فأشار إلى أخيه أن يسقيه قبله؛ فذهب إليه فوجده قد أسلم الروح؛ فعاد إلى أخيه فوجده قد لفظ النفس الأخير: فنزلت هذه الآية. وسأل شاب من أهل بلخ أبا زيد: ما الزهد عندكم؟ قال: إذا وجدنا شكرنا، وإذا فقدنا صبرنا. فقال البلخي: هكذا عندنا كلاب بلخ؛ بل نحن إذا فقدنا شكرنا، وإذا وجدنا آثرنا {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} الشح: اللؤم، وأن تكون النفس كزة، حريصة على المنع. وأما البخل: فهو المنع نفسه

10

{وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} أي من بعد الذين تبوأوا الدار والإيمان من الأنصار. والمقصود بهم المهاجرون {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا} من الأنصار {الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} فقد آمنوا بالرسول، وابتنوا المساجد، وجاهدوا في الله حق جهاده؛ قبل أن يحضروا إليهم

11

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ} هم عبد اللهبن أبي ابن سلول وأصحابه {يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وهم بنو النضير؛ يقولون لهم تقوية لقلوبهم، وإثارة لهم ضد المؤمنين {لَئِنْ} غلبكم المؤمنون، و {أُخْرِجْتُمْ} من دياركم {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً} بالامتناع عن معونتكم {وَإِن قُوتِلْتُمْ} أي قاتلكم المؤمنون {لَنَنصُرَنَّكُمْ} عليهم {وَاللَّهُ يَشْهَدُ} يعلم {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وإنما أرادوا بذلك إثارتهم وتحمسهم ضد المؤمنين

12

{لَئِنْ أُخْرِجُواْ} أي لئن أخرج المؤمنون بني النضير {وَلَئِن قُوتِلُواْ} أي قاتلهم المؤمنون {لاَ يَنصُرُونَهُمْ} لأن من صفات المنافق: الجبن؛ فهم جبناء. والكذب؛ فهم كاذبون {وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ} ساعدوهم فرضاً، وصدقوا في وعودهم {لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ} معهم: المنافقون وبنو النضير جميعاً؛ فقد كتب الله النصر لعباده، والخذلان لأعدائهم؛ فلا تجدي القوة، ولا يجدي الإقدام؛ فما بالك وهم ضعفاء أذلاء جبناء

13

{لأَنتُمْ} أيها المؤمنون {أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ} وذلك لأنهم يؤمنون بقوتكم وبطشكم، ولا يؤمنون ببطش الله تعالى وقوته. فإيمانهم في هذه الحال كإيمان البهائم: لا تؤمن إلا بحامل سوط أو عصا {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} ولو فقهوا لآمنوا بالله، وأطاعوا رسوله، وأنجوا أنفسهم من غضبه وعقابه بعد أن وصف الله تعالى حال اليهود والمنافقين، ومبلغ إيمانهم به: أراد جل شأنه أن يصف مبلغ شجاعتهم وإقدامهم؛ فقال عز من قائل: إنهم لو أرادوا قتالكم؛ فإنهم

14

{لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً} مجتمعين {إِلاَّ} إن كانوا {فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ} يأمنون فيها بطشكم {أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ} حوائط تقيهم بأسكم وسهامكم {بَأْسُهُمْ} بطشهم وشدتهم {بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أي هم شديدو العداوة لبعضهم {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً} متحدين، ذوي ألفة {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} متفرقة؛ لا ألفة بينهم ولا مودة

15

{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} كفار بدر {ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي ذاقوا الهلاك، الذي هو عاقبة كفرهم. فمثل المنافقين واليهود

16

{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ} موسوساً إليه {اكْفُرْ فَلَمَّا} أطاعه و {كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ} فكذلك المنافقون. قالوا لليهود: «لئن أخرجتم لنخرجن معكم ... وإن قوتلتم لننصرنكم» فلما جد الجد: تخلوا عنهم وأسلموهم للتهلكة، وصدق فيهم قول الحكيم العليم {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}

17

{فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ} أي عاقبة الشيطان. ومن أطاعه، والآمر بالكفر والفاعل له، والمنافقين واليهود

18

{وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أي ما قدمت من الأعمال الصالحة - في دنياها - ليوم القيامة

19

{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ} تركوا ذكره وتذكره، وخشيته ومراقبته {فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} أنساهم الإيمان والعمل الصالح الذي ينفعهم في معادهم، أو أراهم يوم القيامة من الأهوال ما أنساهم أنفسهم

21

{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أن لو جعلنا للجبل تمييزاً كما جعلنا لكم، وأنزلنا عليه هذا القرآن؛ بوعده ووعيده: لخشع وخضع، واستكان وتشقق؛ خوفاً من الله تعالى ومهابة له، واعترافاً بوجوده وقدرته أو أريد بالجبل كما هو، وأنه - كسائر الجمادات - كائن يسبح دائباً بحمد الله تعالى {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وأنه لو ألقي عليه القرآن: لما وسعه إلا الخشوع، ولما كان من شأنه إلا التصدع من خشية الله تعالى. أو هو كقول القائل للسامع المعاند: لقد قلت لك قولاً يفهمه الحمار. ومن المعلوم أن الحمار لن يفهم؛ ولكنه دليل على قوة الحجة، وأنها مفهمة مفحمة ولكن السامعين لها كانوا أحط من البهائم، وأخس من السوائم، وأصم من الجمادات

22

{عَالِمُ الْغَيْبِ} ما غاب عن الأنظار، ودق على الأسماع {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} {وَالشَّهَادَةِ} ما شوهد وبان للعيان. لأن من يعلم ما غاب؛ فإنه لما ظهر أعلم

23

{الْمَلِكُ} الذي لا يزول ملكه {الْقُدُّوسُ} المنزه عن كل قبيح. ومن تسبيح الملائكة له سبحانه: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) جل شأنه، وعز سلطانه {السَّلاَمُ} الذي سلم الخلق من ظلمه، وعم الكون عدله، وسلم كل من لجأ إليه واحتمى به. وهو الاسم الكريم الذي تدعو به الأنبياء يوم القيامة: يا سلام، يا سلام، يا سلام سلمنا الله تعالى من غضبه. ووقانا عقوبته، وأدخلنا جنته؛ بحرمة أسمائه {الْمُؤْمِنُ} واهب الأمن؛ الذي يأمن عذابه من أطاعه {الْمُهَيْمِنُ} الرقيب، الحافظ لكل شيء {الْعَزِيزُ} الغالب؛ الذي لا يغلب، ولا يناله ذل {الْجَبَّارُ} العالي العظيم؛ الذي يذل له من دونه: والكل دونه {الْمُتَكَبِّرُ} ذو العظمة والكبرياء {سُبْحَانَ اللَّهِ} تنزه وتعالى وتقدس؛ من هذه أسماؤه وتلك صفاته

24

{الْبَارِىءُ} الموجد للأشياء؛ بريئة من النقص والتفاوت {لَهُ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى} (انظر آيتي 180 من سورة الأعراف و110 من سورة الإسراء) {يُسَبِّحُ لَهُ} ينزهه ويقدسه. هذا وقد ختمت هذه السورة المباركة بمثل ما بدئت به: فقد كان بدؤها «سبح لله» بصيغة الماضي، وختامها «يسبح له» تعالى؛ بصيغة المضارع. فتعالى من سبح له كل مخلوق، وسبحت له سائر الأشياء

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} أي لا تتخذوا الكفار - الذين هم أعدائي: فلا يؤمنون بي، وأعداؤكم: فيسعون في إيصال الأذى بكم - أولياء توالونهم؛ وتتخذون منهم أصدقاء وأحباء {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} بالحب، ومظاهر الاحترام. وكيف يكون هذا حالكم معهم {وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ} الإسلام والقرآن. ولم يكتفوا بكفرهم وتكذيبهم؛ بل بلغ من إيذائهم أنهم {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} من مكة {أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} أي لأنكم تؤمنون ب الله ربكم {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي} فاحذروا ذلك؛ إذ أن خطر المنافق في الحرب أبلغ من خطره في السلم {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} وهذا غير لائق بالمؤمنين {وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} {وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ} لا تخفى منكم خافية {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ} أي يوالي العصاة، والكافرين، والمنافقين، ويوادهم {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} أخطأ طريق الحق والصواب؛ لأنهم

2

{إِن يَثْقَفُوكُمْ} أي إن يجدوكم ويظفروا بكم {يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالقتال {وَأَلْسِنَتَهُمْ} بالإيذاء

3

{لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} قراباتكم لهم {وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ} المشركون؛ و

4

{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ} قدوة {حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} إذ تبرأ من أبيه حين أبى الإيمان -[681]- {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} فاكفناهم الدنيا (انظر آية 81 من سورة النساء) {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} رجعنا وأقبلنا

5

{رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي لا تسلطهم علينا؛ فيفتنوننا بعذاب لا نطيقه {وَمَن يَتَوَلَّ} يعرض عن الإيمان {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} عن العالمين {الْحَمِيدُ} المحمود في كل حال

7

{عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً} بانضمامهم إلى زمرتكم، واعتناقهم دينكم؛ فلا تحتاجون بعدها للوقوع في إثم موالاة الكافرين، وإلقاء المودة لهم {وَاللَّهُ قَدِيرٌ} على ذلك؛ وقد أسلم خلق كثير من المشركين؛ فصاروا لهم أولياء ونصراء {وَاللَّهُ غَفُورٌ} لما سبق منكم قبل النهي {رَّحِيمٌ} بكم؛ لا يعاقبكم

8

{لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ} يرينا الله تعالى أنه يجب علينا: حسن المعاملة، وطيب المعاشرة؛ مع سائر الأجانب الذين لم يقاتلونا، ولم يخرجونا من ديارنا، أو يحتلوا أوطاننا. أما الذين يعتدون على ديننا أو بلادنا: فلزاماً علينا معاداتهم ومقاتلتهم {أَن تَبَرُّوهُمْ} أن تكرموا الذين لم يقاتلوكم، ولم يعتدوا عليكم؛ وأن تحسنوا إليهم قولاً وفعلاً {وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ} تعدلوا بينهم ولا تظلموهم

9

{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} عن موالاة ومصاحبة {الَّذِينَ} أضمروا لكم العداوة، و {قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} أي بسبب الدين ومن أجله {وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ} من مكة {وَظَاهَرُواْ} عاونوا أعداءكم {عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} فهؤلاء هم الذين ينهاكم ربكم {أَن تَوَلَّوْهُمْ} أي تتخذوهم أولياء وأصدقاء {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ} ينصرهم، أو ينتصر بهم؛ بعد ظهور نياتهم، وإبداء سيئاتهم {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الكافرون

10

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} أي نساء الكفار؛ مهاجرات إليكم، راغبات في دينكم {فَامْتَحِنُوهُنَّ} اختبروهن في إيمانهن. روي أن رسولالله كان يقول للتي يريد أن يمتحنها: «ب الله الذي لا إله إلا هو: ما خرجت من بغض زوج؟ ب الله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض؟ ب الله ما خرجت التماس دنيا؟ ب الله ما خرجت إلا حباً لله ورسوله؟» وهذا هو الامتحان الذي أمر به الله تعالى، ونفذه رسوله عليه الصلاة والسلام؛ ولكم ظاهر قولهن، و {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} فإن كن صادقات: فهن ناجيات، وإن كن كاذبات: فهن معذبات -[682]- {فَإِنَّ} أدين امتحانهن، و {عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى} أزواجهن {الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ} لأنهن حرمن عليهم بالإيمان {وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} لأنهم كافرون {وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ} أي أعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا من المهور. وذلك لأن المهر: مقابل الاستمتاع، وقد زال الاستمتاع ببينونتها منه بسبب إسلامها؛ وليس بسبب طلاقه لها {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} لا إثم ولا حرج {أَن تَنكِحُوهُنَّ} تتزوجوهن بعد ذلك {إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن. وقد شرط تعالى إيتاء المهر في نكاحهن: إيذاناً بأن ما أعطى أزواجهن لا يقوم مقام المهر {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} أي اللاتي ارتددن ولحقن بالكفار اطلبوا {مَآ أَنفَقْتُمْ} من المهر

11

{وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} اللائي لحقن بأهلهن من {الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} أي فأردتم القصاص {فَآتُواْ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ} أي أعطوهم {مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ} من المهور على أزواجهم. وذلك من مهور من لحق بكم من المؤمنات اللاتي كن متزوجات من الكفار؛ وبذلك تحصل المقاصة التي أمر بها الله تعالى، وتقرها القوانين الوضعية {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} فلا تجوروا في ذلك؛ بل مثل بمثل

12

{يأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} يعاهدنك: فعاهدهن {عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} قد يكون المراد بالإشراك هنا: الإفراط في الحرص على المال، والإفراط في حب النفس والأولاد، والجبن؛ لأن الله تعالى وصفهن أولاً بالمؤمنات {إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} فوجب أن ينصرف الشرك عن عبادة ما عدا الله تعالى؛ إلى ما يبلغ حبه والحرص عليه حد العبادة {وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} لم يرد أن أما قتلت وليدها في الجاهلية؛ وإنما كان يقوم بذلك الرجال دونهن؛ بطريق الوأد خشية العار، والقتل خشية الإملاق. وقد كان ذلك يتم برضاهن؛ فكن شريكات في الإثم. قال: «إذا قتل إنسان في المشرق، ورضي عن ذلك إنسان في المغرب: كان شريكاً في دمه» {وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ} بكذب وزور {يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ} وهو ما أخذته المرأة لقيطاً؛ وزعمت لزوجها أنه ولدها منه بين وهو ما ولدته المرأة من زنى

13

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً} لا تصادقوهم، ولا تتخذوا منهم خلصاء وأحباباً. -[683]- {قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخِرَةِ} أي أنكروا البعث ويئسوا من الإعادة يوم القيامة، أو يئسوا من الأجر والثواب؛ لأنهم لا إيمان لهم يجزون عليه، ولا عمل صالح يثابون بسببه {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ} الأحياء {مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} أن يعودوا إليهم مرة ثانية. أو «كما يئس الكفار» الذين هم في القبور؛ أن يرجعوا إلى الدنيا، أو يأسهم من ثواب الآخرة؛ لانقطاع عملهم بموتهم.

سورة الصف

سورة الصف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{سَبَّحَ لِلَّهِ} نزهه وقدسه {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} أي من فيها من الملائكة، والكواكب والأفلاك؛ مما أحاط به علمنا، وما لم يحط به {وَمَا فِي الأَرْضِ} من إنس وجن، ووحش وطير، وهواء وماء، ونبات وجماد {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} {وَهُوَ الْعَزِيزُ} في ملكه {الْحَكِيمُ} في صنعه

2

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} وهو أن يأمر الإنسان أخاه بالمعروف ولا يأتمر به، وينهاه عن المنكر ولا ينتهي عنه؛ وقد عناه الشاعر بقوله: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم تصف الدواء لذي السقام، وذي الضنا كيما يصح به وأنت سقيم

3

{كَبُرَ مَقْتاً} كبر: عظم. والمقت: أشد البغض

4

{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} مصطفين، متساندين، متعاونين، مقدمين على لقاء العدو {كَأَنَّهُم} لإقدامهم وتمسكهم {بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} لا ينهار؛ لشدته واستوائه

5

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} بالتكذيب والمعاندة {وَقَد تَّعْلَمُونَ} بما قدمت لكم من البراهين

6

{أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} لا شك في رسالتي؛ بعد وضوح صدقي، وقيام معجزاتي {فَلَمَّا زَاغُواْ} مالوا عن الحق {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} صرفها عن الحق، وأمالها عن الهداية؛ عقوبة لهم على زيغهم، وعدم إيمانهم -[684]- {مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي مصدقاً لما تقدمني من الأنبياء، والكتب التي جاءوا بها {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} هو إمام الرسل: نبينا محمد؛ وهو محمد، وأحمد، ومحمود، وحامد؛ وله عليه الصلاة والسلام من الأسماء مائتا اسم وواحد؛ منها: الطاهر، المطهر، الطيب، رسول الرحمة، المدثر، المزمل، حبيب الله، صفيالله، نجيالله، كليم الله، المحيي، المنجي، البشير، النذير، النور، السراج المنير، البشرى، الغوث، الغيث، نعمة الله، صراط الله، سيف الله، المختار، الشفيع، المشفع. وهي مدونة بكتب الحديث والسير؛ مزينة بها حوائط مسجده الشريف بالمدينة المنورة. (انظر آية 157 من سورة الأعراف) {فَلَمَّا جَاءَهُم} أحمد عليه الصلاة والسلام؛ الذي بشروا به. وقيل: الضمير في «جاءهم» عائد إلى عيسى عليه الصلاة والسلام؛ لأنه المحدث عنه {بِالْبَيِّنَاتِ} بالحجج الظاهرات، والآيات الواضحات: كفروا به و {قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} واضح بيَّن

7

{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّنِ افْتَرَى} اختلق {عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بأن كذب بآياته وبرسله {وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ} الذي ينجيه من الضلالة والجهالة، ويخلصه من ظلمات الكفر {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي} إلى دينه {الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين يدفعون المعجزات بالتكذيب، والآيات بالإنكار

8

{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ} أي ليبطلوا نور الحق الذي جاء به محمد؛ بما يقولونه {بِأَفْوَاهِهِمْ} من أنه ساحر، وأن ما جاء به سحر

9

{وَدِينِ الْحَقِّ} الإسلام؛ الذي هو حق كله {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} اسم جنس؛ أي ليظهره على سائر الأديان

10

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} لما كان الله تعالى بمنه وكرمه يثيب على الإيمان والعمل الصالح؛ شبه هذا الثواب، والنجاة من العذاب بالتجارة؛ فمن قدم عملاً صالحاً: لقي جزاء رابحاً، ومن قدم إحساناً: لقي جناناً، ومن أرضى مولاه: أرضاه ربه وكرمه ونعمه فلا تجارة أنجح من هذه التجارة، ولا فوز أربح من هذا الفوز

11

{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ما يصلحكم، وما ينجيكم

12

{فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} جنات الإقامة؛ من عدن بالمكان: إذا أقام فيه

13

{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} أي ويمن عليكم بخصلة أخرى تحبونها؛ وهي النصر، والفتح القريب {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} يا محمد - في الدنيا - بالنصر والفتح القريب، وفي الآخرة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت {ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}

14

{قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} وهم أنصار عيسى عليه السلام، وحواري الرجل: خاصته وأنصاره {فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} غالبين.

سورة الجمعة

سورة الجمعة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي يقدسه، وينزهه كل شيء فيهما: من ملك، وإنس، وجن، وحيوان، ونبات، وجماد. (انظر آية 44 من سورة الإسراء) {الْمَلِكِ} المالك؛ الذي لا ملك سواه، ولا سلطان لمن عداه، ولا سعادة لمن عاداه {الْقُدُّوسِ} المنزه عن النقائص {الْعَزِيزِ} الغالب الذي لا يغلب {الْحَكِيمِ} في صنعه

2

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ} الذين لا يقرأون؛ لأن أمة العرب كانوا لا يقرأون ولا يكتبون من بين سائر الأمم. وقيل: «الأميين» نسبة إلى أم القرى مكة زادها الله تعالى شرفاً {رَسُولاً مِّنْهُمْ} أي من بني جلدتهم، ومن جنسهم، أمياً مثلهم: وهو محمد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام -[686]- {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} المنزلة من لدنه؛ بواسطة ملائكته عليهم السلام {وَيُزَكِّيهِمْ} يطهرهم من دنس الشرك، وخبائث الجاهلية {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} القرآن {وَالْحِكْمَةَ} الأحكام، وما يليق بذوي الأفهام {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ} إرساله إليهم {لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} فقد كانوا يئدون بناتهم خشية الإملاق؛ فعرفهم أن خالقهم قد تكفل بأرزاقهم {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} وكانوا يرثون النساء ويعضلوهن؛ فنهاهم عن ذلك، وأمرهم بإكرامهن {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} وكانوا يصنعون أصنامهم بأيديهم، ثم يعبدونها. فقبح عملهم، وسفه أحلامهم {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} {أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}

3

{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} أي ويعلم آخرين منهم؛ وهم سائر الأمة من بعده؛ فهو عليه الصلاة والسلام المعلم الأول لأمته إلى يوم القيامة، ولله در القائل: لم يوفق موفق قط إلا جاءه عن طريقه التوفيق {لَمَّا} لم {يَلْحَقُواْ بِهِمْ} في السابقة والفضل وهل يستوي من تمتع بصحبة الرسول، وفاز بطلعته؛ بمن لم يره؟ والمعنى: لم يلحقوا بهم، وسيلحقون بهم في الجنة، أو سيلحقون بهم إذا اهتدوا بهديهم، وساروا على طريقتهم {ذَلِكَ} الفضل الذي أسبغه الله تعالى على من فاز بصحبة النبي ورؤيته؛ فذلك

4

{فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} يخص به من شاء من عباده

5

{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ} أي كلفوا علمها والعمل بما فيها {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} لم يعملوا بما كلفوا به {كَمَثَلِ الْحِمَارِ} الذي لا يفهم شيئاً {يَحْمِلُ أَسْفَاراً} إذا حمل كتباً عظاماً؛ فلا ينتفع بما في هذه الكتب؛ فكذلك هؤلاء اليهود «حملوا التوراة» فكانوا «كمثل الحمار» إذا حمل أسفاراً {قُلْ} يا محمد لليهود

6

{يأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ} أحباء له تعالى {فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ} أي إن كنتم أولياء الله وأحباءه - كما تزعمون - فتمنوا على الله أن يميتكم، وينقلكم إلى جواره في دار كرامته

7

{وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً} لأن الكافر والعاصي لا يتمنيان الموت {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ} من الكفر والمعاصي؛ لما ينتظرهم من العقاب على ما قدمت أيديهم (انظر آية 42 من سورة الزمر) في الدنيا؛ فيجازيكم عليه {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ} إذا أذن لها

9

{مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} في المساجد (انظر آية 27 من سورة الحج). -[687]- {وَذَرُواْ الْبَيْعَ} اتركوا التجارة الخاسرة، واسعوا إلى التجارة الرابحة

10

{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ} امشوا فيها؛ وهو أمر إباحة، لا أمر إلزام {وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ} رزقه؛ بالسعي في مصالحكم، أو أريد بفضل الله: العلم

11

{انفَضُّواْ} تفرقوا من عندك، وعن الاستماع إلى نصحك {انفَضُّواْ} أي إلى التجارة أو اللهو {وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يخطب يوم الجمعة؛ فقدم دحية بن خليفة بتجارة من الشام؛ فقاموا إليه وتركوا النبي قائماً وحده؛ ولم يبق معه غير اثني عشر رجلاً من صحابته عليه الصلاة والسلام {قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ} من الأجر والثواب {خَيْرٌ} مما انصرفتم إليه {مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} لأن الصلاة: مرضات لله، والله جل شأنه يملك الدنيا والآخرة، ويملك خزائن الأرض والسموات. فإن شاء أبكاكم، وإن شاء أضحككم {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} وإن شاء أعطاكم، وإن شاء منعكم {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} ولا رازق سواه أصلاً وإن قيل: فلان يرزق عياله؛ فقد أريد أنه يسعى عليهم من فضل الله

سورة المنافقون

سورة المنافقون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ} يا محمد {قَالُواْ} نفاقاً ورياء {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} شهد المنافقون بذلك أو لم يشهدوا {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} فيما يقولون

2

{اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي اتخذوا شهادتهم للرسول بالرسالة: وقاية لهم من القتل والأسر (انظر آية 16 من سورة المجادلة) {فَصَدُّواْ} منعوا الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه القويم {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من نفاقهم وكذبهم. وقد لحقهم السوء - في حياتهم - بانكشاف سترهم، وانفضاح أمرهم، وسيلحقهم - بعد موتهم - فيما يلقونه من العذاب في قبورهم، وفي الجحيم بعد بعثهم

3

{ذَلِكَ} السوء الذي وقع منهم {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {آمَنُواّ} أي نطقوا بكلمة الشهادة؛ كسائر من يدخل في الإيمان -[688]- {ثُمَّ كَفَرُوا} ظهر كفرهم بما أبدوه من نفاقهم. أو قالوا كلمة الإيمان للمؤمنين {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} غطى عليها؛ فلا تقبل الإيمان؛ بسبب نفاقهم، وكفرهم بعد إيمانهم. فالطبع على قلوبهم: كان عقوبة لهم؛ لأن كفرهم سابق على طبع الله تعالى وتغطيته على قلوبهم؛ و {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}

4

{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ} أي إذا رأيت هؤلاء المنافقين {تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} لأنهم أصحاء أقوياء {وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} لأنهم بلغاء فصحاء {كَأَنَّهُمْ} لخلوهم من الفائدة، وحرمانهم من النفع {خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} لأنهم أجرام خالية من الإيمان {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} لأنهم جبناء {هُمُ الْعَدُوُّ} حقيقة {فَاحْذَرْهُمْ} لأنهم يشيعون الذعر في صفوف الجنود، أكثر مما يشيعه الأعداء المحاربون {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} لعنهم وطردهم من رحمته {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} كيف يصرفون عن الحق مع وضوحه؟

5

{لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ} تكبراً {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} يعرضون {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} عن الإيمان

7

{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ} للأغنياء {لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} من فقراء المؤمنين؛ الذين يمتون إليهم بالرحم والقرابات {حَتَّى يَنفَضُّواْ} يتفرقوا عن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه {وَلِلَّهِ} وحده {خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} يعطي منها من شاء، ويمنع من شاء {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ} لعمى قلوبهم {لاَ يَفْقَهُونَ} هذه الحقيقة البديهية؛ ومن غفلتهم أيضاً أنهم

8

{يَقُولُونَ لَئِن} من غزوة بني المصطلق {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ} الأعظم، والأقوى؛ يعنون بذلك أنفسهم؛ لغناهم وتكبرهم {مِنْهَا} أي من المدينة {الأَذَلَّ} الأضعف. عنوا بذلك المؤمنين؛ لفقرهم وتواضعهم {وَلِلَّهِ} وحده {الْعِزَّةُ} الغلبة والقوة؛ يهبهما لمن شاء من عباده {وَلِرَسُولِهِ} أيضاً العزة؛ يضفيها على أتباعه {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وليست لكم؛ لأن العزة لا تكون إلالله وبالله؛ وأنتم عنه بعداء

9

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ} لا تشغلكم {أَمْوَالُكُمْ} وجمعها والحرص عليها {وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ} وفرط الرغبة في إسعادهم؛ مضحين في سبيل ذلك بأوامر ربكم، وبما فرضه عليكم من الإنفاق والبذل؛ ناسين وعده بالإخلاف والأجر؛ فلا يلهكم الإنشغال بذلك {عَن ذِكْرِ اللَّهِ} تذكره، وخشيته؛ وإطعام الفقير في سبيله، وإنفاق المال على حبه {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} فيتلهى بجمع المال، وحفظه للعيال {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} لأموالهم ولآخرتهم؛ بل ولأولادهم أيضاً فكم قد رأينا من أبناء الأغنياء، من أضاع ما جمعه الآباء؛ فيما يغضب الله تعالى من الملذات والشهوات. وبعد ذلك صاروا عالة على المجتمع: يتكففون الناس، ولا يجدون قوت يومهم وما ذاك إلا من سوء نيات آبائهم، وبعدهم عن مرضات ربهم وكم قد رأينا من أبناء الفقراء: من أضحوا - بين عشية وضحاها - سادة؛ بل قادة وما ذاك إلا من اتباع آبائهم لدينهم، واستماعهم لنصح ربهم وتذكر هداك الله قول الحكيم العليم {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} فاحرص - كفيت ووقيت - على إرضاء مولاك؛ فيقيك الضر والفقر، ويحفظ عليك دينك وبدنك وعيالك؛ ويقيهم المذلة من بعدك، ويحسن دنياك وآخرتك فيا سعادة من جعل ماله ذخراً له عند ربه، وجعل الله تعالى ذخراً لولده من بعده

10

{وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} كما أمركم {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي أسبابه ومقدماته {فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلا} هلا {أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} كما أمرت {وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما قصر أحد في الزكاة والحج، إلا سأل الرجعة عند الموت. نعوذ ب الله تعالى من ذلك

11

{وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من خير أو شر؛ فيجزيكم عليه.

سورة التغابن

سورة التغابن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي كل شيء فيهما: من ملك، وإنسان، وحيوان، وجماد (انظر آية 44 من سورة الإسراء) {لَهُ} وحده {الْمُلْكُ} والملكوت، وهو وحده المتصرف فيه؛ لا شريك له {وَلَهُ الْحَمْدُ} على كل حال

2

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} من نفس واحدة -[690]- {فَمِنكُمْ كَافِرٌ} بخالقه، منكر لرازقه {وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} به، موحد له {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فمعاقبكم على الكفران، ومثيبكم على الإيمان. وقد ذهب قوم - غفر الله تعالى لهم - إلى أن الله تعالى خلق هذا كافراً، وخلق هذا مؤمناً؛ وبذلك يكون - أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين - قد ألزم الكافر بالكفر، وألزم المؤمن بالإيمان؛ وهذا المعنى - رغم فساده وإفساده - فإنه يتنافى مع قول العزيز الجليل {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فأذع - أيها المؤمن اللبيب - فساد هذا المعنى، وقبحه، وتمسك بما نقول: تحظ بالقبول وتذكر قول الحميد المجيد {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. قال عليبن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: «أتظن أن الذي نهاك دهاك؟ إنما دهاك أسفلك وأعلاك؛ وربك بريء من ذاك وإذا كانت المعصية حتماً؛ فالعقوبة عليها ظلماً»

3

{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} لا يستطيع إنسان - بالغاً ما بلغ من الكفر والعناد - أن يرى في تصوير الآدمي نقصاً أو اعوجاجاً؛ وإن الإنسان لو تأمل في يده - مثلاً - ورأى أنها كيف تنقسم إلى خمسة أصابع، وكيف أن كل أصبع من هذه الأصابع ينقسم إلى عدة مفاصل: لما وسعه إلا أن يقول: تبارك الله أحسن الخالقين وأين اليد وحسنها؛ من الوجه ودقة تصويره، وبديع تنسيقه؟ حقاً إن دقة هذا الصنع، وإحكام هذا الوضع؛ ليشهدان لمبدعهما بالقدرة والوحدانية والربوبية. فنعم الخالق، ونعم المصور {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} المرجع؛ فيثيب الطائع، ويعذب العاصي

4

{وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما في القلوب

5

{فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} الوبال: الهلاك. أي ذاقوا الهلاك؛ الذي هو عاقبة بغيهم، وعقوبة كفرهم

6

{بِالْبَيِّنَاتِ} بالمعجزات الواضحات، والآيات الظاهرات {فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} يا للعجب؛ ينكرون رسالة البشر، ويؤمنون بربوبية الحجر {فَكَفَرُواْ} بالمعجزات والآيات {وَتَوَلَّواْ} انصرفوا عن الإيمان {وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ} عنهم وعن إيمانهم {وَاللَّهُ غَنِيٌّ} عن سائر المخلوقات {حَمِيدٌ} محمود في كل أفعاله

7

{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ} يعادوا للحساب والجزاء يوم القيامة أي تجزون عليه: إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر

8

{وَالنّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} هو القرآن الكريم؛ وهذا الاسم من أجلِّ أسمائه؛ إذ أن النور: يستضاء به في الظلمات، والقرآن الكريم: ينير القلوب، ويمحو الشبهات، ويهدي إلى الجنات

9

{ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} أي يوم غبن الكافر، وضعفه، وخسارته، وحسرته. أو هو يوم التناسي: أي نسيان الكافر من الرحمة والنعمة. والتغابن -[691]- يطلق على التناسي، والخسران، والضعف. وأصل الغبن: النقص في الثمن، أو رداءة المبيع في البيع. ولما كان الكافر لا يجزى عن أعماله الصالحة التي عملها في الدنيا {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} كان مثله كمثل المغبون {يُكَفِّرْ} يمح

11

{مَآ أَصَابَ} الإنسان {مِن مُّصِيبَةٍ} في المال أو النفس {إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} بإرادته وتقديره (انظر آية 156 من سورة البقرة) {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} جزاء على إيمانه. وهكذا ربك يجزي دائماً الإحسان بالإحسان: يزيد من آمن إيماناً، ومن اهتدى هداية {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى} أما من ضل وغوى؛ فإنه تعالى يزيده، ضلالاً على ضلاله، وخبالاً على خباله: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً}

12

{فَإِن تَولَّيْتُمْ} أعرضتم عن الإيمان والطاعة

13

{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} لا إله يعبد سواه {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} قرن تعالى التوكل عليه بكلمة التوحيد: لأن الإيمان بغير توكل لا أثر له؛ إذ أن كلمة التوحيد: إيمان باللسان، والتوكل: إيمان بالقلب، ووثوق بوجوده تعالى وقدرته (انظر آية 81 من سورة النساء)

14

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ} وهو ما يبدو كثيراً من نشوز بعض الأزواج وجهلهن، وعقوق بعض الأولاد وطيشهم {فَاحْذَرُوهُمْ} أي فاحذروا عداوتهم. والحذر: الاحتراز، والاستعداد، والتأهب. والاحتراز من الأعداء: دفعهم، والتأهب للقائهم وقتالهم. أما الحذر والاحتراز من الأحباء: فهو إزالة أسباب العداء. كيف لا؛ والزوج: قد أوصى بها الرب، وهي الصاحب بالجنب. وقد أمرنا ببسط المودة لها، والرحمة بها أما الأولاد: فهم فلذات الأكباد؛ وزينة الحياة الدنيا وقد أمرنا إلهنا، وهدانا إلى دفع أعدائنا بالإحسان: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} فمن باب أولى يكون دفع الأزواج والأبناء؛ وهم من خير الأحباء فوجب ألا يكون دفع عداوتهم، والحذر منهم: إلا بالإحسان إليهم، ومزيد برهم والعطف عليهم؛ فينقلب بغضهم محبة، وعداوتهم مودة يدل على ذلك قول الحكيم العليم {وَإِن تَعْفُواْ} عنهم {وَتَصْفَحُواْ} عن عداوتهم {وَتَغْفِرُواْ} ذنوبهم {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لكم ولهم {رَّحِيمٌ} بكم وبهم هذا وقد سار جل الناس، وأغلب المفسرين على وتيرة واحدة في فهم هذه الآية بأوسع معاني العداء: حتى لقد زعم بعض المفسرين أن «من» بيانية، لا تبعيضية؛ فتبلبلت الخواطر، وحل الإزعاج مكان الطمأنينة؛ ونظر كل والد إلى أولاده بعين الارتياب، وكل زوج إلى زوجته بعين التوجس والاحتياط ألم يقل الله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} ألم نر بعض شرار الأبناء يقتلون

آباءهم، وبعض الفاجرات يكدن لأزواجهن؛ بما يصل إلى حد الإيقاع بهم ظلماً، أو دس السم في طعامهم؟ ألم يناد نوح ابنه للنجاة؛ فأبى إلا اتباع الطغاة؟ وامرأة نوح، وامرأة لوط؛ ألم تكونا من أعداء زوجيهما وأعداء الله؟ كل هذا ساعد على فهم هذه الآية ذلك الفهم الخاطىء؛ الذي لا يحتمله كتاب الله تعالى ولا يرتضيه سبحانه لمعاني كلامه المجيد فقد أنزل تعالى كتابه لتهدأ النفوس لا لتنزعج، ولتطمئن القلوب لا لترتاع والشر كما يأتي من شرار الأبناء: فقد يأتي من شرار الآباء وكما يأتي من شرار الزوجات: فإنه قد يأتي من شرار الأمهات ولكنا لو تفهمنا هذه الآية بالعقل السليم، وعلى ضوء المنطق المستقيم، وعلى هدى الكتاب الكريم: لوجدنا أنها بعيدة كل البعد عن هذا الفهم، وهذا الزعم. وكيف يثير الحكيم العليم العداوة بين الآباء والأبناء، والأزواج والزوجات؛ ويفرض وجود العداوة بينهم فرضاً لا مرية فيه، ووجوب الحيطة والحذر منهم؛ وهو جل شأنه القائل {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} فالأساس السكن والتراحم، لا العداء والبغضاء وقد بان لنا من ذلك أن العداء المشار إليه في الآية ليس بالعداء الحقيقي الذي يكون بين الألداء يقول الله تعالى وهو أصدق القائلين {لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} فالذي يلهي عن ذكر الله تعالى هو العدو المبين؛ الواجب الحيطة، المستوجب الحذر فهل معنى ذلك أن الأبناء من الأعداء المستوجبين للحيطة والحذر؟ ويقول جل شأنه أيضاً: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} والمزين هو الشيطان الواجب مخالفته، المفروض محاربته؛ فهل معنى ذلك أن قربان الزوجة إثم؛ لأنه من الشهوات؟ وحب البنين جرم؛ لأنه مما زينه الشيطان؟ وإنما أراد الله تعالى بهذه الآية الشريفة: أن من الأولاد والأزواج من يفعل بكم ما يفعله الأعداء: من تعويقكم عن الذكر والطاعات أليس الولد مجبنة مبخلة كما يقولون؟ وأي جرم أشد من الجبن، وأي إثم أحط من البخل؟ وقد أريد بهذه الآية الكريمة: الاحتياط من الانشغال عن الطاعات بالملذات، والحذر من الاشتغال بحب الأولاد عن حب الله تعالى والحرص على العبادات وأي عدو أعدى من المخلوق الذي يشغل عن الخالق، والمرزوق الذي يصرف عن الرازق؟

وكن وسطاً في حبك، وسطاً في ميلك هداك الله تعالى إلى صراطه المستقيم ومن قبل زعم المفسرون أن سليمان - وهو من خيرة الأنبياء - قتل بضعة آلاف من الخيل لأنها عطلته عن صلاة العصر؛ عند قوله تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} وهي فرية على سليمان عليه السلام افتراها اليهود الأفاكون الملاعين وهذا لا يمنع من وقوع بعض الهنات، من الأبناء والزوجات؛ وهو الذي أشار إليه المولى جل وعلا بقوله: {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. وقد أشار المولى الكريم إلى المعنى الذي أشرنا إليه آنفاً وعضدناه بشتى الحجج والآيات بقوله عز وجل:

15

{إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} أي بلاء ومحنة؛ يوقعونكم في الإثم من حيث لا تشعرون

16

{فَاتَّقُواْ اللَّهَ} خافوه، واعملوا بأوامره {وَاسْمَعُواْ} نصح القرآن {وَأَطِيعُواْ} داعي الرحمن {وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ} وأي خير ينال الإنسان: أسمى من الإحسان؟ وأي خير يحتسبه المؤمن عند ربه: أفضل من الإنفاق؟ فأنفق أيها المؤمن - جهد طاقتك، ووسع مالك - فذلك خير لك في دنياك، وسعادة دائمة لك في أخراك {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} الشح: اللؤم، وأن تكون النفس كزة حريصة على المنع. أما البخل: فهو المنع نفسه. والمراد هنا: بخل النفس بالزكاة والصدقة، بدليل قوله تعالى:

17

{إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} عبر تعالى عن المتصدق بالمقرض؛ وذلك إثباتاً لحقه في الوفاء له بالأجر. وجعل تعالى نفسه مقترضاً: ليطمئن المقرض إلى رد ما بذله إليه. لأنه كلما كان الملتزم مليئاً: كان الوفاء محققاً؛ فما بالك والمقترض ملك الملوك، وأغنى الأغنياء؛ وقد وعد بالوفاء وفوق الوفاء؛ فقال تعالى: {يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} وينميه {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم؛ زيادة على مضاعفة أجوركم ومن ذلك نعلم أن الصدقة: ترضي الرب، وتمحو الذنب {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} {وَاللَّهُ شَكُورٌ} كثير المجازاة على الطاعات {حَلِيمٌ} يعفو عن السيئات

18

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ما خفي، وما ظهر؛ وهو {الْعَزِيزُ} في ملكه: يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء {الْحَكِيمُ} في صنعه

سورة الطلاق

سورة الطلاق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي مستقبلات لها. والمراد ألا تطلق المرأة إلا في طهر لم تجامع فيه، ثم تخلى -[694]- حتى تنقضي عدتها {وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ} اضبطوها؛ فلا تزيدوا عليها، ولا تنقصوا منها {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} حتى تنقضي عدتهن {وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} هي الزنا: تخرج من بيتها لحتفها تخرج لترجم؛ إذ ما فائدة إحصاء العدة مع زناها؟ فربما علقت من الزاني بها {بِفَاحِشَةٍ} الأوامر هي {حُدُودُ اللَّهِ} التي لا يجوز تجاوزها {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} بتعريضها للعقاب {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} أيها المطلق {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ} الطلاق {أَمْراً} أي لعل الله - وهو مقلب القلوب - يقلب قلبك من بغضها إلى محبتها، ومن طلاقها إلى رجعتها؛ فتراجعها وهي في بيتك، وتحت كنفك

2

{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي قاربن انقضاء عدتهن {فَأَمْسِكُوهُنَّ} راجعوهن؛ إن أردتم {بِمَعْرُوفٍ} بغير قصد إلحاق الضرر بهن بتلك المراجعة {وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ} على المراجعة، أو الطلاق. هذا وقد أجمع الفقهاء على وقوع الطلاق بمجرد إرادته والنطق به. وقد جرى العمل على ذلك في صدر الإسلام؛ وبذلك يكون المراد بالإشهاد: الإشهاد على المراجعة دون الطلاق. وقد خالف الشيعة الإجماع، وزعموا أن الطلاق بدون إشهاد: لغو، لا يقع، ولا يعتد به. وقد رأى بعض مفكري هذا العصر: منع وقوع الطلاق إلا أمام القاضي؛ وهو رأي فاسد يأباه صريح القرآن، وما سار عليه السلف الصالح من الأمة؛ فالطلاق يقع - بلا قيد ولا شرط - متى رغب الزوج في إيقاعه؛ ولا تستطيع قوة على ظهر الأرض منعه من هذا الحق الذي جعله الله تعالى متنفساً للزوجين (انظر مبحث الطلاق بآخر الكتاب) {وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} أي أدوا الشهادة لوجهه تعالى؛ لا من أجل المطلق أو المطلقة {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} أي تلك الأحكام يتعظ بها وينتفع {مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} القيامة، وما فيها من حساب وجزاء {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ} في أموره {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} من كرب الدنيا والآخرة

3

{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} أي من حيث لا يخطر بباله. أو المراد {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ} في معاملة أزواجه، ويتبع ما أمره الله تعالى به؛ في طلاقهن. أو إمساكهن {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} بأن يقيم له اعواجاجها إذا أمسكها، أو يبدله خيراً منها إذا طلقها «ويرزقه» مهراً ونفقة {مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} عن الصادق المصدوق صلوات الله تعالى وسلامه عليه «إني لأعرف آية لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم؛ وهي: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب» {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي كافيه. قال: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خماصاً وتروح بطاناً» (انظر آية 81 من سورة النساء) -[695]- {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} منفذ أمره ومراده {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ} شرعه؛ كالطلاق، والعدة ونحوهما {قَدْراً} زمناً لازماً؛ لا يجوز نقصانه

4

{وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} لكبر سنهن {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي إن شككتم في عدتهن، أو إن شككتم فيما ينزل منهن: أهو حيض، أم استحاضة؟ {وَاللاَّتِي لَمْ يَحِضْنَ} لصغرهن؛ فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً {وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ} النساء الحوامل {أَجَلُهُنَّ} انتهاء عدتهن {أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أن يلدن؛ ولو بعد الطلاق بدقائق معدودات {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ} في أموره كلها {يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} فيهون عليه كل شيء أراده: زواجاً، أو طلاقاً، أو غير ذلك

5

{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ} يمح {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} في الآخرة

6

{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} أي مثل سكناكم، أو مكاناً من نفس مسكنكم {مِّن وُجْدِكُمْ} أي وسعكم، وقدر طاقتكم {وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ} في المسكن {لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ} وليفتدين أنفسهن منكم {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي أنفقوا عليهن مدة الرضاع {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} أي ليكن أمركم بينكم بالمعروف: في شأن النساء، وإرضاع الأولاد؛ فلا يأمر أحدكم بظلم المرضع المطلقة، وهضم حقوقها، والنيل منها؛ ومن كان متكلماً فليقل خيراً أو ليصمت. أو هو أمر للآباء والأمهات بأن يفعلوا ما يجب عليهم بما يليق بالسنة، وتقتضيه المروءَة؛ فيبذل الأب أعلى ما يستطيع، وتقبل الأم أدنى ما تستطيع؛ وذلك لأنهما شريكان في الرضيع {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ} أي تشددتم؛ كأن تتغالى الأم في زيادة النفقة، أو يتغالى الأب في الشح بها {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} هذا منتهى العتاب للأم على المعاسرة؛ أي فستقبل امرأة أخرى أن ترضع الصغير؛ وهي ليست له بأم

7

{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} أي لينفق ذو غني من غناه، الذي وسع به عليه الله {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ضيق عليه {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا} أي ما أعطاها من الرزق {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} هو وعد من الله تعالى بالتيسير على من أنفق قدر طاقته ووسعه. كأن سائلاً سأل: ذاك الموسع عليه قد أنفق من سعته؛ فما بال من ضيق عليه يؤمر بالإنفاق؟ فجاءت الإجابة على هذا السؤال، من لدن ذي الجلال: إن الإنفاق ما هو إلا علاج للإملاق {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} (انظر الآيات 267 - 274 من سورة البقرة)

8

{وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ} وكم من قرية {عَتَتْ} تمردت {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً} منكراً عظيماً

9

{فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} أي ذاقت الهلاك؛ الذي هو عاقبة أمرها {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} أي خسراناً وهلاكاً

10

{يأُوْلِي الأَلْبَابِ} يا ذوي العقول {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً} هو القرآن الكريم {رَّسُولاً} أي -[696]- وأرسل إليكم رسولاً. ويجوز أن يكون المعنى {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً} أي شرفاً عظيماً:

11

«رسولاً» من لدنه {لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} من الكفر إلى الإيمان، ومن الجهل إلى العلم (انظر آية 17 من سورة البقرة) {قَدْ أَحْسَنَ} في الجنة {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}

12

{يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ} بالوحي والأرزاق، والإحياء والإفناء {بَيْنَهُنَّ} أي بين السموات والأرض

سورة التحريم

سورة التحريم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{يأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} قيل: إنه شرب عسلاً عند زينب بنت جحش؛ فأدرك أمهات المؤمنين - من الغيرة - ما يدرك سائر النساء من البشر: فتواطأت عائشة وحفصة على أن يقولا له: إنا نشم منك ريح المغافير - وهو صمغ كريه الرائحة يغش به العسل - فلما سمع منهما ذلك: حرم العسل على نفسه؛ فنزلت هذه الآية. وقيل: حرم على نفسه مارية أم ولده إبراهيم مرضاة لحفصة

2

{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أي شرع لكم ما تتحللون به من أيمانكم؛ وهو الكفارة {وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ} يتولاكم برعايته وتدبيره وإرشاده

3

{وَإِذَ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} حفصة {حَدِيثاً} هو تحريم العسل؛ أو مارية القبطية {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} أي أخبرت بهذا الحديث عائشة رضي الله تعالى عنها {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي أطلعه على هذا الإنباء {عَرَّفَ} النبي حفصة {بَعْضَهُ} عرف بعض الذي أفشته من سره عليه الصلاة والسلام {وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} فلم يعرفها أنه قد اطلع عليه. وقيل «عرف» بمعنى عاتب، وآخذ

4

{إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ} قيل: المعنى: هلا تتوبا إلى الله {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي مالت إلى ما كرهه النبي؛ من اجتناب العسل، أو تحريم مارية {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} أي تتعاونا على إيذائه، وحب ما يكره {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ} أي وليه وناصره {وَجِبْرِيلُ} أيضاً {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} أي والصالحون من المؤمنين {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} أي والملائكة - على كثرتهم وقوتهم - بعد نصر الله تعالى له أعواناً

5

{عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} بسبب ما بدا منكن {أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} لا يتظاهرن عليه، ولا يتآمرن، ولا يفشين سره لغيره {مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ} مطيعات {سَائِحَاتٍ} صائمات والسائح: الصائم الملازم للمساجد {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} حسبما يريد، وكيفما شاء (انظر آية 125 من سورة البقرة)

6

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ -[697]- آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} أي اعملوا الأعمال الصالحة، وائتمروا بالأوامر، واجتنبوا النواهي، وأمروا أهليكم بها، وألزموهم الطاعة والعبادة؛ لتتقوا بذلك النار؛ التي {وَقُودُهَا النَّاسُ} الكافرون والمخالفون {وَالْحِجَارَةُ} وذلك لأن جهنم من قوتها وشدتها: تذيب الحجارة {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ} هم خزنتها عليهم السلام؛ وعدتهم تسعة عشر {غِلاَظٌ} على أهل النار {شِدَادٌ} أقوياء؛ لا يمنعهم مانع، ولا يدفعهم دافع {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ} به من البطش والتنكيل بالكافرين

8

{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} أي توبة صادقة خالصة. والتوبة النصوح: أن يتوب عن الذنب؛ فلا يعود إليه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي الاستغفار باللسان، والندم بالجنان، والإقلاع بالأركان {عَسَى رَبُّكُمْ} إن تبتم {أَن يُكَفِّرَ} يمحو {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أمامهم {وَبِأَيْمَانِهِمْ} حواليهم (انظر آية 12 من سورة الحديد) {يَقُولُونَ رَبَّنَآ} بإدخالنا الجنة

9

{يأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} بالسيف والسنان {وَالْمُنَافِقِينَ} بالحجة والبيان {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} شدد عليهم بالحدود

10

{كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} في الدين والمعاشرة؛ فقد كانت امرأة نوح تقول لقومه: إنه مجنون؛ وكانت امرأة لوط تدعو قومه إلى إذاية أضيافه (انظر آية 46 من سورة هود) {فَلَمْ يُغْنِينَا} أي لم يدفع نوح ولوط {عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ} من عذابه {شَيْئاً} ولم ينفعهما أن كان زوجاهما من الأنبياء، ومن خيرة خلق الله تعالى، وأقربهم لديه

12

{وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} حفظته {فَنَفَخْنَا فِيهِ} أي نفخ جبريل في فرجها بأمرنا {مِن رُّوحِنَا} المخلوقة لنا؛ قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} يهبها لمن يشاء إحياءه، أو المراد: نفخنا في فرجها بواسطة روحنا؛ الذي هو جبريل. وقد تأول قوم الفرج هنا: بالخرق، أو الفتق في درع مريم؛ وهو ليس بشيء. وإنما ألجأهم إلى هذا التأويل: خشية أن يقول قائل: إنما كانت ولادتها لعيسى عن الطريق المعهود لسائر من يولد من البشر {وَصَدَّقَتْ} آمنت {بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا} شرائعه، وأحكامه، وأوامره، ونواهيه. أو المراد «بكلمات ربها» عيسى عليه السلام؛ لأنه كلمة الله؛ يؤيده قراءة من قرأ «بكلمة ربها» {وَكُتُبِهِ} أي وآمنت بكتبه. يعني التوراة والإنجيل، وما أنزل من قبل {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} المطيعين العابدين.

سورة الملك

سورة الملك بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{تَبَارَكَ} تعالى وتقدس عن صفات المخلوقين {الَّذِي بِيَدِهِ} أي تحت تصرفه، وطوع إرادته، ورهن مشيئته {الْمُلْكُ} السلطان والقدرة

2

{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ} في الدنيا {وَالْحَيَاةَ} في الآخرة؛ أو خلقهما في الدنيا؛ لأن إيجاد الحياة في النطفة: إحياء لما يتخلق منها {لِيَبْلُوَكُمْ} ليختبركم ويمتحنكم {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فيجزيه في الدنيا، ويحييه فيها حياة طيبة، ويكرمه في الأخرى وينعمه {وَهُوَ الْعَزِيزُ} القادر على الإكرام، وعلى الانتقام {الْغَفُورُ} لمن تاب وأناب

3

{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} مطابقة؛ بعضها فوق بعض {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ} أي في مخلوقاته: صغيرها وكبيرها، حقيرها وجليلها، نفيسها وخسيسها {مِن تَفَاوُتِ} التفاوت: عدم التناسب والتناسق {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} أي رده إلى مصنوعات الله تعالى {هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} أي هل ترى من عيب أو خلل. والفطر: الشق

4

{ثُمَّ ارجِعِ} عادوه {كَرَّتَيْنِ} مرة بعد مرة، وكرة بعد كرة {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} أي يرجع إليك بصرك ذليلاً حسيراً. والمعنى: أن بصرك لن يرى عيباً ولا خللاً؛ مهما بحث ونقب عن عيب أو خلل

5

{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا} السماء الأولى، القريبة من الأرض {بِمَصَابِيحَ} بكواكب؛ هي منها بمثابة المصابيح المضيئة؛ وهي النجوم {وَجَعَلْنَاهَا} أي جعلنا هذه النجوم - فضلاً عن كونها مصابيح تضيء لكم - {رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} بأن ينفصل شهاب من النجم - كالقبس من النار - فيمحق الشيطان الصاعد لاستراق السمع {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ} أي أعددنا للشياطين

7

{سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ} أي سمعوا لها صوتاً منكراً، وهي تغلي بهم

8

{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} جعلت كالمغتاظة؛ استعارة لشدة غليانها بهم، وإيلامها لهم {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} جماعة {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ} الملائكة الموكلون بها {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} رسول ينذركم ما أنتم عليه الآن من العذاب

11

{فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} فبعداً لهم عن رحمة الله

12

{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ} يخافونه قبل معاينة العذاب، ويؤمنون به من غير أن يرونه

13

{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بخفايا القلوب؛ لأنها من خلقته تعالى، ويعلم ما تهجس به

14

{أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ} بعباده {الْخَبِيرُ} بخلقه

15

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً} لينة، سهلة، مذللة {فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا} في جوانبها ونواحيها؛ طلباً للرزق {وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ} الذي يرزقكم به {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} مرجعكم بعد بعثكم إن عصيتم

16

{مَّن فِي السَّمَآءِ} {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمآءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} بعد أن جعلها لكم ذلولاً، تمشون في مناكبها، وتأكلون من رزقه: يخسفها بكم - لكفرانكم بتلك النعم - كما خسفها بقارون {فَإِذَا هِيَ} بعد استقرارها {تَمُورُ} تضطرب وتتحرك، ثم تنقلب بكم؛ فتدفنكم في جوفها

17

{حَاصِباً} حجارة من السماء، أو ريحاً ترمي بالحصباء؛ وهي الحصى {فَسَتَعْلَمُونَ} وقتذاك {كَيْفَ نَذِيرِ} أي كيف كان إنذاري لهم بالعذاب، وكيف تحقق ذلك الآن

18

{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم السابقة {فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ} أي كيف إنكاري لهم على هذا التكذيب؛ بإنزال العذاب بهم، وإهلاكهم

19

{أَوَلَمْ يَرَوْا} من دلائل قدرتي ووحدانيتي {إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ} في جو السماء {صَافَّاتٍ} باسطات أجنحتهن {وَيَقْبِضْنَ} يضممنها إذا ضربن بها جنوبهن {مَا يُمْسِكُهُنَّ} حال طيرانهن في الهواء {إِلاَّ الرَّحْمَنُ} لأنه تعالى مسخر الهواء؛ ولو شاء لأمسكه؛ فلا يجدي الطائر طيرانه، ولم تفده أجنحته؛ مهما قبضها أو بسطها؛ وكيف لا يمسك الطير حال طيرانه؛ من يمسك الفلك حال دورانه، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه

20

{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ} يعني إذا علمتم أنه تعالى قادر على أن يخسف بكم الأرض فيهلككم، وأن يرسل عليكم حاصباً فيفنيكم؛ فمن هذا الذي هو جند لكم: تلجأون إليه، وتحتمون به؟

21

{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ} الله تعالى عنكم {رِزْقَهُ} الجواب: لا أحد. ولكن الكافرين لا يسمعون، ولا يعقلون {بَل لَّجُّواْ} تمادوا {فِي عُتُوٍّ} عناد واستكبار {وَنُفُورٍ} من الإيمان، واتباع الطريق السوي

22

{أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ} ساقطاً على وجهه؛ يتعثر في كل خطوة؛ لما هو فيه من الظلام. وهو مثل ضربه الله تعالى للكافر. أي أهذا الذي يمشي مكباً على وجهه؛ يتعثر في ظلمات الكفر والجهل {أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً} مستوياً معتدلاً؛ يرى بنور الله، ونور الإيمان {عَلَى صِرَاطٍ} طريق {مُّسْتَقِيمٍ} وهو الإسلام. وهو مثل ضربه الله تعالى للمؤمن. فالكافر «يمشي مكباً على وجهه» والمؤمن «يمشي سوياً على صراط مستقيم»

23

{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ} من لا شيء، ومن غير مثال سبق {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} خص الله تعالى بالذكر هذه الحواس: لأنها مناط العلم، وأداة الفهم

24

{ذَرَأَكُمْ} خلقكم {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} يوم القيامة؛ للحساب والجزاء

25

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} أي متى يكون الحشر والجزاء الذي تعدنا به؟

26

{قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} {وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ} أي منذر بوقوعها، وما يحدث فيها {مُّبِينٌ} بيّن الإنذار، واضحه {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ}

27

{فَلَمَّا رَأَوْهُ} أي الحساب والعقاب يوم القيامة {زُلْفَةً} قريباً. والزلفة والزلفى: القربى والمنزلة {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي ساءها رؤية العذاب؛ فاسودت وعلتها الكآبة، وغشيتها القترة {وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ} أي تذكرون ربكم وتطلبون منه أن يعجله لكم. وقريء «تدعون» من الدعاء؛ أي تطلبون. قال تعالى: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}

29

{قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} قرن تعالى التوكل عليه؛ بالإيمان به. والتوكل على الله تعالى: من موجبات رحمته، وعزائم مغفرته (انظر آية 81 من سورة النساء)

30

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً} أي غائراً، ذاهباً في الأرض {فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} جار، تراه العين؛ يصل إليه من أراده.

سورة القلم

سورة القلم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{ن} قيل: إنه إشارة إلى الدواة، وما بعدها القلم {وَالْقَلَمِ} وما بعده الكتابة {وَمَا يَسْطُرُونَ} أما ما قيل من إن «ن» اسم للحوت، الذي يحمل الثور، الذي يحمل الأرض فهو قول بادي التحريف، واضح التصحيف. ولعل المراد بالقلم: القلم الذي تكتب به الملائكة وما يسطرونه - بأمر الله تعالى - من أرزاق العباد وآجالهم. وفي القسم بالقلم والكتابة: إعلاء لشأن الكاتبين، ودعوة إلى تعلم الكتابة ومحاربة الأمية. وحسبك دليلاً على شرف القلم: أنه يقيم الدول ويقعدها، ويزلزل الممالك ويوطدها. وما تقدم قسم: جوابه

2

{مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} أي ما أنت يا محمد - وقد أنعم ربك عليك بالنبوة والرياسة العامة - بمجنون كما يدعون

3

{وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} لثواباً غير مقطوع

4

{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} يا له من شرف رفيع، وقدر منيع؛ لم يخطر على قلب بشر، ولم يطمح لإدراكه إنسان، ولم يدرك شأوه مخلوق: رب العزة يصف محمدبن عبد الله بأنه على خلق عظيم فأي فضل شمل الله تعالى به نبيه وأي مقام رفع إليه عبده، ورسوله، وصفيه وخليله؟ وقد كان من خلقه: العلم، والحلم، والعدل، والصبر، والشكر، والزهد، والعفو، والتواضع، والعفة، والجود، والشجاعة، والحياء، والمروءة، والرحمة، والوقار، وحسن الأدب والمعاشرة؛ إلى ما لا حد له من الأخلاق المرضية، والخلال العلية؛ التي اختصه بها خالقه جل شأنه وحقاً إن المادحين مهما وصفوا وبالغوا في مدح الرسول؛ صلوات الله تعالى وسلامه عيه؛ فلن يصلوا إلى بعض ما بلغه من شرف مدح الله تعالى له؛ ولله در القائل: يا مصطفى من قبل نشأة آدم ... والكون لم تفتح له أغلاق أيروم مخلوق ثناءك بعد ما ... أثنى على أخلاقك الخلاق؟

وهو عليه الصلاة والسلام: خاتم المرسلين وإمامهم، وشفيع المؤمنين ورائدهم؛ سيد ولد آدم ولا فخر وقد وقف غلاة الكافرين؛ حيال عظمته مشدوهين، ووصفه ألد أعدائه ومقاتلوه بالصادق الأمين؛ صلاة تبلغنا رضاه، وتجعلنا أهلاً لشفاعته ومحبته هذا وقد مدحه كثير من كتاب الغرب والفرنجة بمدائح لم يصل إليها مادحوه من المسلمين، وإليك شذرات مما قاله فيه أساطين كتاب الغرب: قال «برناردشو» الفيلسوف الانكليزي الكبير: إنني أعتقد أن رجلاً كمحمد؛ لو تسلم اليوم زمام الحكم المطلق في العالم بأسره: لتم النجاح في حكمه، ولقاده إلى الخير، ولحل مشاكله على وجه يحقق للعالم السلام والسعادة المنشودة وقال «لامرتين» شاعر فرنسا الكبير: إن حياة محمد، وقوة تأمله وتفكيره، وجهاده، ووثبته على خرافات أمته وجاهلية شعبه، وشهامته، وجرأته، وبسالته، وثباته ثلاثة عشر عاماً؛ يدعو دعوته في وسط أعدائه؛ وتقابله سخرية الساخرين، وهزء الهازئين، وحروبه - التي كان جيشه فيها أقل من عدوه عدة وعدداً - ووثوقه بالنجاح. وإيمانه بالظفر؛ وإعلاء كلمته، ونجواه التي لا تنقطع مع الله، وقبض الله إياه إلى جواره؛ مع نجاح دينه بعد موته: كل ذلك أدلة على أنه لم يكن يضمر خداعاً؛ أو يعيش على باطل ومين وقال «ميور» الكاتب الانكليزي الكبير: لقد امتاز محمد بوضوح كلامه، ويسر دينه؛ وقد أتم - في حياته - من الأعمال ما يدهش العقول؛ ولم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس، وأحيا الأخلاق، ورفع شأن الفضيلة، في زمن قصير؛ كما فعل محمد وقال «إدوار جيبسون» الكاتب الروسي الكبير: إن دين محمد خال من الظنون والشكوك؛ لأنه ينهى عن عبادة الكواكب والأصنام؛ وهو دين أكبر من أن تدرك أسراره عقولنا الحالية وقال «توماس كارليل» الفيلسوف الانكليزي الشهير: ليس من المعقول أن تكون رسالة محمد - التي عاش فيها ومات عليها هؤلاء الملايين من المسلمين خلال هذه الحقبة الطويلة من الزمن - أكذوبة كاذب، أو خدعة مخادع؛ أرأيت رجلاً مدعياً؛ يستطيع أن يبني بيتاً من الطوب؛ مع جهله بخصائص البناء؟ أما محمد فقد بنى بيتاً بقيت دعائمه اثني عشر قرناً، وسكنه الملايين من الأنفس لقد كان متقشفاً في مسكنه،

ومأكله، وملبسه؛ وربما تتابعت الأيام - بل الشهور - ولم توقد بداره نار وكان دائب السعي لنشر دين الله ليلاً ونهاراً؛ غير طامع في مرتبة، ولا طامح إلى سلطان، أو متطلع إلى صيت أو شهرة ولم يكن ذليلاً، ولا متكبراً؛ فهو قائم في ثوبه المرقع: يخاطب قياصرة الروم، وأكاسرة العجم؛ بقوله المبين ويرشدهم إلى ما يجب عليهم وقد كان محمد صادقاً؛ ما في ذلك ريب هذا الذي خلق من الصحراء القاحلة: دولة وشعباً، وأمة إنه لم يمارس معجزة، ولم يدع أنه قادر على إتيانها؛ ولكن حياته ذاتها: كانت معجزة تفوق كل المعجزات وكيف يستطيع الواصف أن يصف أخلاق من آذاه قومه بأقسى ضروب الإيذاء، وابتلوه بأشنع أنواع الابتلاء؛ فلم يقابل أذاهم بالدعاء عليهم؛ بل بالدعاء لهم: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» وقديماً أصيب نوح عليه السلام ببعض ما أصيب به محمد، فقال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} فتبارك من خصنا ببعثته، وشرفنا برسالته (انظر آية 199 من سورة الأعراف)

5

{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} أي فسترى ما وعدناك به من النعيم المقيم، ويرون ما أوعدناهم به من العذاب الأليم

6

{بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} أي وسيتضح يومذاك أيكم الذي فتن بالجنون: أنت كما يفترون، أم هم بكفرهم وانصرافهم عن الهدى؟

9

{وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} أي ودوا لو تلين لهم؛ فيلينون لك. وهو من المداهنة؛ التي هي المصانعة. وأدهن: غش. أو المراد: ودوا لو تتهاون فيتهاونون

10

{وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ} كثير الحلف {مَّهِينٍ} حقير. ومن العجب أن كل من يكثر الحلف: يستهان ويستحقر

11

{هَمَّازٍ} عياب للناس، طعان فيهم {مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ} يسعى بين الناس بالفساد والنميمة

12

{مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} بخيل، أو مناع للناس من الإيمان؛ الذي هو الخير كل الخير {مُعْتَدٍ} عليهم بهذا المنع، والإيذاء {أَثِيمٍ} ظالم، كثير الآثام

13

{عُتُلٍّ} جاف {زَنِيمٍ} أي ابن زنى. قيل: نزلت هذه الآيات في الوليد ابن المغيرة؛ وقد كان دعياً في قريش. قال الشاعر: زنيم ليس يعرف من أبوه

14

{أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} أي لا تطع من هذا شأنه؛ لكونه ذا مال وبنين. ومن هنا يعلم أنه لا عبرة، ولا اعتداد بالمال والغنى؛ بل الإعتداد بالإيمان، وحسن الخلق

15

{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا} القرآن {قَالَ أَسَاطِيرُ} أكاذيب {الأَوَّلِينَ} السابقين

16

{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} أي سنكويه بالنار يوم القيامة، على أنفه؛ زيادة في مهانته. وقيل: خطم بالسيف يوم بدر فصارت سمة على أنفه إلى أن مات

17

{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} أي أهل مكة: -[704]- امتحناهم بالقحط، والجوع؛ استجابة لدعوة الرسول بقوله: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف» {كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} الجنة: البستان. وهم قوم كان لهم بستان بقرية يقال لها ضروان؛ بالقرب من صنعاء. وقيل: كانت بالحبشة. وقيل: هي الطائف؛ التي هي بلاد ثقيف بالحجاز {إِذْ أَقْسَمُواْ} حلفوا {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} ليقطعن ثمرها وقت الصبح

18

{وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} أي ولم يقولوا: إن شاءالله، قال تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ}

19

{فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ} أنزل عليها المنتقم الجبار آفة سماوية فأحرقت أشجارها، وأتلفت ثمارها وكان ذلك ليلاً؛ لأن الطائف: لا يكون إلا ليلاً. قيل: نزلت عليها شهب من السماء فأحرقتها

20

{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} أي كالليل المظلم، أو كالشيء المصروم؛ وهو المقطوع. قيل: كانت جنتهم هذه بمدينة الطائف؛ ولذا سميت الطائف

21

{فَتَنَادَوْاْ} نادى بعضهم على بعض

22

{أَنِ اغْدُواْ} بكروا {صَارِمِينَ} قاطعين للثمر. وصرم الشيء: قطعه

23

{فَانطَلَقُواْ} إلى جنتهم {وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} يتهامسون سراً؛ خشية أن يسمعهم فقير؛ فيطلب منهم شيئاً

24

{أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ} محذرين بعضهم بأن لا يدخل عليهم في بستانهم مسكين؛ لئلا يطالبهم بصدقة من ثمارهم

25

{وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} أي بكروا؛ قاصدين بستانهم بسرعة - قبل أن يفجأهم النهار بضوئه فتراهم الناس - ظانين أنهم قادرون على جني ثماره

26

{فَلَمَّا رَأَوْهَا} رأوا جنتهم، وما حل بها {قَالُواْ إِنَّا لَضَآلُّونَ} أي ضللنا جنتنا، وقصدنا غيرها؛ فليس هذا شأنها. ولما تأملوها جيداً، وتحققوا من أنها جنتهم؛ قالوا:

27

{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} حرمنا ثمرة كدنا وجهدنا طوال عامنا، وخسرنا ثمارنا

28

{قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أعدلهم وأخيرهم - وكان معارضاً لهم - ولم يكن مرتضياً حرمان المساكين {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ} أي هلا {تُسَبِّحُونَ} ربكم، وتشكرونه على أنعمه التي اختصكم بها؛ ولكنكم عصيتموه؛ فاستوجبتم ما حل بكم

29

{قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ} تقدس، وتعالى، وتنزه {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} بمنع الفقراء، وعدم التوكل على الله وتقديم مشيئته وهذه القصة أوردها الحكيم المتعال: ليعلمنا أن مصير الشحيح، ومانع الزكاة إلى التلف حتماً: إن لم يكن بتلف ماله، فبتلف أجره وفساد حاله وأنه إن ضن بما يستوجب رضاءالله: هلك ماله مصحوباً بغضب الله

33

{كَذَلِكَ الْعَذَابُ} أي مثل إهلاكنا لجنة هؤلاء؛ نستطيع أن نهلك المكذبين أنفسهم، أو كذلك نعذب من نريد تعذيبه: بابتلائه في أمواله مثل هذا الابتلاء وكم قد رأينا من يشح بالإنفاق: -[705]- فيبتلى في ماله بما يذهبه، أو في عياله بما يرهقه فليتق الله من يؤمن ب الله

36

{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} تعجب منهم؛ حيث إنهم يسوون المطيع بالعاصي، والمؤمن بالكافر

37

{أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ} منزل من السماء {فِيهِ تَدْرُسُونَ} تقرأون

38

{إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} أي لكم في هذا الكتاب ما تختارون

39

{أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} أي أم أخذتم علينا العهود والمواثيق؛ أن لكم الذي تريدونه وتحكمون به

40

{سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ} كفيل

41

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ} فيما يزعمونه {فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ} ليذوقوا معهم ما أعد لهم من العذاب. وقد يراد بالشركاء: شركاء الله تعالى في الملك

42

{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} هو كناية عن صعوبة الأمر وشدته، وذلك كقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} كناية عن البخل؛ وليس ثمت يد ولا غل. والعرب تقول: كشفت الحرب عن ساقها: إذا حمي وطيسها، واشتد لهيبها. ومن أفحش ما قاله بعض المفسرين في تأويل ذلك: أن الرحمن يكشف يومئذٍ عن ساقه. تعالى الله عما يقولون، وجل عن صفات المخلوقين

43

{تَرْهَقُهُمْ} تغشاهم

44

{فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} هو منتهى الوعيد {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} بأن نمد في أعمارهم، ونوسع في أرزاقهم: حتى يزدادوا كفراً على كفرهم، وطغياناً على طغيانهم

45

{وَأُمْلِي لَهُمْ} أمهلهم {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} قوي شديد

48

{وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} وهو يونسبن متى عليه السلام {إِذْ نَادَى} ربه؛ وهو في بطن الحوت: {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} {وَهُوَ مَكْظُومٌ} مملوء غيظاً على أمته وغماً مما نزل به

49

{لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ} رحمة {مِّن رَّبِّهِ} فعفى عن ذنبه وقد كان غضب على قومه وتعجل تعذيبهم وفارقهم؛ من قبل أن يؤمر بذلك {لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ} لطرح بالخلاء {وَهُوَ مَذْمُومٌ} مذنب وملوم

50

{فَاجْتَبَاهُ} اختاره {رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} المرسلين، العاملين بما أمرهم ربهم؛ المنتهين عما نهاهم عنه

51

{لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} ليزيلونك عن مكانك؛ لشدة نظرهم إليك شزراً.

سورة الحاقة

سورة الحاقة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{الْحَاقَّةُ} القيامة؛ سميت بذلك: لأن الأمور تحق فيها وتستقر، ولأنها يوم الحق

2

{مَا الْحَآقَّةُ *

3

وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} تعظيم لأمرها، وتهويل لشأنها

4

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ} قوم صالح عليه السلام {وَعَادٌ} قوم هود -[706]- عليه السلام {بِالْقَارِعَةِ} القيامة؛ لأنها تقرع الناس بهولها وفزعها

5

{بِالطَّاغِيَةِ} قيل: هي الرجفة. أو الصيحة؛ التي طغت عليهم فأهلكتهم جميعاً

6

{بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} هي الدبور. وصرصر: أي شديدة الصوت

7

{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} متتابعة؛ حتى أتت عن آخرهم (انظر آية 13صلى الله عليه وسلّم من سورة الأعراف) {حُسُوماً} حسمت آجالهم؛ أي قطعتها. وقيل: متتابعة {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} أي أصول نخل ساقطة

9

{وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ} من الأمم الكافرة التي تقدمته، أو جاء فرعون وأتباعه؛ يؤيده قراءة من قرأ «ومن قبله» بكسر القاف وفتح الباء {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} قرى قوم لوط؛ وسميت بذلك: لأنها ائتفكت بهم؛ أي انقلبت {بِالْخَاطِئَةِ} أي الخطأ الشائن؛ وهو الكفر {فَأَخَذَهُمْ} ربهم: عذبهم وأهلكهم {أَخْذَةً رَّابِيَةً} شديدة

11

{إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ} فاض وزاد؛ وانقلب نفعه الكثير، إلى ضرر كبير، وشر مستطير: يوم الطوفان {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} السفينة التي تجري على وجه الماء

12

{لِنَجْعَلَهَا} أي لنجعل هذه الفعلة؛ التي هي إنجاء المؤمنين، وإغراق الكافرين. أو لنجعل هذه السفينة {لَكُمْ تَذْكِرَةً} عبرة وموعظة {وَتَعِيَهَآ} تحفظها وتفهمها {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أي مصغية: تسمع ما يقال، فتنقله إلى الذهن. فيفهمه

13

{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} وهو القرن؛ ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام النفخة الثانية؛ للفصل بين الخلائق

14

{فَدُكَّتَا} أي دقتا وكسرتا

15

{فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي قامت القيامة

16

{وَاهِيَةٌ} ساقطة واهنة

17

{وَالْمَلَكُ} يعني الملائكة عليهم السلام {عَلَى أَرْجَآئِهَآ} أي على جوانب السماء {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} هو تمثيل لعظمته تعالى؛ مثلما هو مشاهد من أحوال الملوك والسلاطين يوم خروجهم على الناس؛ لكون ذلك أقصى ما يتصور من الجلال والعظمة؛ وإلا فشؤونه سبحانه وتعالى أجل من أن تدركها إشارة، أو تحيط بها عبارة، أو يتسع لها فهم

19

{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ} أي كتاب أعماله {بِيَمِينِهِ} وهو المؤمن الصالح، الذي رجحت حسناته على سيئاته {فَيَقُولُ} لذويه وأهله - مفتخراً - أو يقول للملائكة {هَآؤُمُ} أي خذوا وتعالوا

20

{إِنِّي ظَنَنتُ} علمت وتأكدت أن وعد الله حق، وأن القيامة قائمة، و {أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} جزاء ما عملت في الدنيا

23

{قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} ثمارها قريبة لمريدها

24

{بِمَآ أَسْلَفْتُمْ} بما قدمتم {فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} الماضية في الدنيا

25

{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} وهو الكافر {فَيَقُولُ يلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} لما يرى فيه من القبائح والفضائح

27

{يلَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} أي يا ليت الموتة الأولى كانت القاضية؛ فلم أبعث، ولم أحاسب

28

{مَآ أَغْنَى} ما نفع، وما دفع {عَنِّي مَالِيَهْ} -[707]- الذي جمعته في الدنيا، ولم أتصدق منه، وكنت أفخر وأتعالى به

29

{هَّلَكَ} ذهب ومضى وامحى {عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} قوتي وحجتي، وعزي وهيبتي؛ فيقال لملائكة العذاب

30

{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} وهو قول الله تعالى لخزنة جهنم، أو قول بعضهم لبعض بأمر ربهم

31

{ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} أدخلوه

32

{ذِرَاعاً} طولها {فَاسْلُكُوهُ} فأدخلوه

35

{فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} صديق يدفع عنه العذاب

36

{وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} غسالة أهل النار، وما يسيل منهم من الصديد

38

{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ *

39

وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} أقسم تعالى بالمشاهدات والمغيبات، أو بالدنيا والآخرة، أو بالأجسام والأرواح، أو بالإنس والجن، أو بالنعم الظاهرة والباطنة، أو بالخلق والخالق

40

{إِنَّهُ} أي القرآن {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هو محمد عليه الصلاة والسلام؛ عن رب العزة جل شأنه وعز سلطانه

41

{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} كما تفترون

42

{وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ} كما تزعمون. والكاهن: العراف الذي يتكهن بالغيب {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} تتعظون وتعتبرون

44

{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} أي لو افترى علينا محمد كما تتهمونه

45

{لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} أي لأخذناه بالقوة والشدة

46

{ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} الوتين: نياط القلب؛ وهو عرق فيه؛ إذا انقطع: مات صاحبه. وهو تصوير لإهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك: يؤخذ بالشدة والقسوة؛ ثم تقطع رأسه

47

{فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} أي في هذه الحال لا يستطيع أحد أن يمنع عنه عذابنا وتنكيلنا

48

{وَإِنَّهُ} أي القرآن {لَتَذْكِرَةٌ} لعظة

50

{وَإِنَّهُ} أي التكذيب بالقرآن، أو الإشارة إلى القرآن نفسه {لَحَسْرَةٌ} وندامة يوم القيامة {عَلَى الْكَافِرِينَ} حين يرون ما أعده الله تعالى لمن صدق به من النعيم المقيم، ولمن كذب به من العذاب الأليم

51

{وَإِنَّهُ} أي القرآن، أو العذاب {لَحَقُّ الْيَقِينِ} أي للحق من ربك يقيناً

52

{فَسَبِّحْ} نزه وقدس {بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} الذي يصغر كل عظيم أمامه

سورة المعارج

سورة المعارج بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} هو النضربن الحارث؛ حيث قال مستهزئاً «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم»

3

{مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} السماوات التي تعرج منها وإليها الملائكة، أو هي المصاعد التي تصعد بها الملائكة لتلقي أوامر ربها

4

{تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ} أي تصعد الملائكة وأرواح الخلائق، أو «الروح» جبريل عليه السلام {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} هو بيان لغاية ارتفاع تلك المعارج؛ على منهاج التمثيل والتخييل؛ أي إنهم يصعدون في اليوم الواحد: ما لا يستطاع بلوغه في خمسين ألف سنة. أو هو يوم القيامة يراه الكافر - لكثرة عذابه وشدة بلائه - كخمسين ألف سنة

5

{فَاصْبِرْ} يا محمد على أذى قومك {صَبْراً جَمِيلاً} لا جزع فيه، ولا تضجر منه

6

{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ} أي يوم القيامة {بَعِيداً} أي مستحيلاً

7

{وَنَرَاهُ قَرِيباً} واقعاً لا محالة

8

{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ} كالمعدن المذاب أو كدردي الزيت، أو كالقطران

9

{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} أي كالصوف المنفوش

10

{وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} أي لا يطلب صاحب من صاحبه شيئاً؛ وإن طلب فلا يجاب؛ لانشغال كل واحد بما هو فيه. والحميم: القريب والصديق

11

{يُبَصَّرُونَهُمْ} أي يبصر القريب قريبه، والصديق صديقه، لكنه لا يستطيع أن يسأله شفاعة أو أمراً من الأمور {لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}

12

{وَصَاحِبَتِهِ} زوجته

13

{وَفَصِيلَتِهِ} عشيرته {الَّتِي تُؤْوِيهِ} تضمه وتكلؤه

14

{ثُمَّ يُنجِيهِ} ذلك الافتداء

15

{كَلاَّ} لن يكون شيء مما أراده -[709]- {إِنَّهَا لَظَى} لظى: علم للنار؛ من اللظى: وهو اللهب

16

{نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى} والشوى: جلدة الرأس؛ تحترق وتعود ثانية. وخصها بالذكر لأنها أشد الجسم حساسية وتأثراً بالنار

17

{تَدْعُو} أي تنادى النار وتأخذ {مَنْ أَدْبَرَ} عن سماع القرآن {وَتَوَلَّى} عن الإيمان

18

{وَجَمَعَ} المال {فَأَوْعَى} أمسكه فلم ينفق منه حيث أمره الله تعالى. أو «فأوعى» أي جعله محفوظاً في وعائه؛ فلم يخرج منه شيئاً. أو هو من الوعي؛ أي جمعه وحفظه. ومن عجب أن يجمع الإنسان خشية العدم؛ وهو في نفس الوقت يسلم نفسه للعدم. قال الشاعر: ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر

19

{إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} الهلع: سرعة الجزع ويفسره ما بعده

20

{إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} الفقر

21

{وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ} الغنى

22

{إِلاَّ الْمُصَلِّينَ} المؤمنين؛ فإنهم بخلاف ذلك: لا يجزعون بل يصبرون، ولا يمنعون بل ينفقون

23

{الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} المقصود بالدوام هنا: الذي لا يتخلله انقطاع. جعلنا الله تعالى ممن يداوم على طاعته، ويحافظ على مرضاته

26

{وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} يوم الجزاء؛ وهو يوم القيامة

27

{وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} أي خائفون

28

{إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} لا يأمنه العاصي، ولا الطائع. جاء في الحديث الشريف، عن الصادق المصدوق؛ صلوات الله تعالى وسلامه عليه «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع؛ فيسبق عليه الكتاب: فيعمل بعمل أهل النار: فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع؛ فيسبق عليه الكتاب: فيعمل بعمل أهل الجنة: فيدخلها». فلا بد للمؤمن أن يكون في خشية دائمة من ربه، وهذه الخشية يجب أن تكون مصحوبة بالحب والأمل، فإنه جل شأنه عند ظن عبده به: إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر

29

{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} فلا يزنون

31

{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ} طلب غير الذي أحله الله تعالى {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} المعتدون على حرماته. (انظر آية 7 من سورة المؤمنون)

33

{وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ} قال تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وقال جل شأنه: {وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وقال عز من قائل: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}

36

{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ} نحوك -[710]- {مُهْطِعِينَ} مسرعين؛ أو دائمي النظر إليك

37

{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} جماعات، أو فرقاً شتى. أصلها عزة؛ وهي الفرقة. قائلين استهزاء بالمؤمنين: لئن دخل هؤلاء الجنة؛ لندخلنها قبلهم، فنحن أحق بها منهم؛ لنسبنا وغنانا. قال تعالى رداً عليهم

38

{أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلاَّ} لن يدخلها أحد منهم، ولن يشم ريحها

39

{إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} أي من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة؛ فليس لهم فضل على غيرهم يستوجبون به الجنة؛ إنما الفضل بالأعمال والتقوى. فمن اتقى دخل الجنة، ومن عصى دخل النار

40

{فَلاَ أُقْسِمُ} أي أقسم {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} مشارق الشمس والقمر وسائر الكواكب، ومغاربها. وسر القسم بها: لفت النظر لعظمها وعظمة خالقها وموجدها، وتمهيد لذكر قدرته تعالى على كل شيء {إِنَّا لَقَادِرُونَ *

41

عَلَى أَن} نهلكهم، و {نُّبَدِّلَ} خلقاً آخر {خَيْراً مِّنْهُمْ} إيماناً وتصديقاً وطاعة {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} بعاجزين عن أن نفعل ذلك، أو «بمسبوقين» إلى هذا الخلق والتبديل؛ بأن سبقنا أحد إليه

42

{فَذَرْهُمْ} دعهم في كفرهم وباطلهم {حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ} يوم القيامة {الَّذِي يُوعَدُونَ} فيه بالعذاب {الَّذِي يُوعَدُونَ} للبعث

43

{مِنَ الأَجْدَاثِ} القبور {سِرَاعاً} مسرعين {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ} النصب: هو كل ما نصب، وعبد من دون الله تعالى {يُوفِضُونَ} يسرعون

44

{تَرْهَقُهُمْ} تغشاهم.

سورة نوح

سورة نوح بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ} بالعذاب الموعود على التكذيب. ونوح: هو أبو البشر الثاني، ومن أولي العزم. وأبناؤه: سام، وحام، ويافث.

4

{وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو يوم القيامة، أو هو الموت

6

{فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِي} لهم بالإيمان {إِلاَّ فِرَاراً} من الحق، ومن الإيمان

7

{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ} إلى معرفتك {لِتَغْفِرَ لَهُمْ} ذنوبهم السابقة {جَعَلُواْ} وضعوا {أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} ليحولوا بين استماعها لعظاتي وكلامي {وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ} تغطوا بها، ليحجبوا بصرهم عن رؤيتي {وَأَصَرُّواْ} على كفرهم {وَاسْتَكْبَرُواْ} عن الإيمان

8

{ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} ظاهراً في غير خفاء

9

{ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ} بأعلى صوتي، وصحت فيهم مجتمعين بالذي أمرتني به {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} حاولت نصحهم في السر فرادى؛ فقد يكون ذلك أدعى لاقتناعهم

11

{يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} بالمطر (انظر آية 52 من سورة هود)

12

{وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ} بساتين في الدنيا {وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} جارية: تسقون منها وتستقون. أو أريد بذلك جنات القيامة، وما فيها من أنهار ونعيم مقيم

13

{مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} أي ما لكم لا تسعون في توقيره وتعظيمه

14

{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} خلقكم أولاً نطفاً، ثم علقاً، ثم مضغاً، ثم عظاماً ولحماً، ثم إنساناً كاملاً، ناطقاً، سميعاً بصيراً

15

{أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} بعضها فوق بعض

17

{وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} بخلق أبيكم آدم منها

18

{ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} بعد موتكم {وَيُخْرِجُكُمْ} منها {إِخْرَاجاً} عند بعثكم

19

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً} منبسطة كالبساط

20

{سُبُلاً فِجَاجاً} طرقاً واسعة، أو طرقاً مختلفة

21

{قَالَ نُوحٌ} عندما رأى إصرار قومه على الكفر، وعزوفهم عن الإيمان، وتمسكهم بعبادة الأصنام {رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} واستهانوا برسالتي وشريعتك {وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً} إلا طغياناً وكفراً؛ وهم الأغنياء

22

{وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً} مكراً عظيماً كبيراً

23

{وَقَالُواْ} أي قال السادة والأغنياء؛ للضعفاء والفقراء {لاَ تَذَرُنَّ} لا تتركن {آلِهَتَكُمْ} التي تعبدونها {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} هي أسماء أصنام كانوا يعبدونها؛ وكان «وداً» على صورة رجل، و «سواعاً» على صورة امرأة «ويغوث» على صورة أسد و «يعوق» على صورة فرس و «نسراً» على صورة نسر. لعنهم الله تعالى أنى يؤفكون {وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ} الكافرين {إِلاَّ ضَلاَلاً} على ضلالهم. وقد طلب لهم العقوبة من جنس أعمالهم؛ لأنهم

24

{وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً}

25

{مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} أي بسبب خطاياهم أغرقوا بالطوفان، وأدخلوا النيران

26

{رَّبِّ لاَ تَذَرْ} لا تترك {عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} الديار: كل من يسكن الديار، أو هو كل من يدور: أي يمشي على وجه الأرض

27

{إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ} إن تتركهم بلا تعذيب، ولا إهلاك {يُضِلُّواْ عِبَادَكَ} بصرفهم عن الإيمان، وبتعذيبهم. يقال: أضله: إذا أضاعه وأهلكه {وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} رب قائل يقول: ومن أين لنوح أن يقطع بأن قومه لا يلدوا إلا فاجراً كفاراً؟ والجواب على ذلك: أنه علم ذلك من قوله تعالى: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ}

28

{وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ} الكافرين {إِلاَّ تَبَاراً} هلاكاً.

سورة الجن

سورة الجن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} استمعوا لرسولالله، وهو يقرأ القرآن في صلاة الفجر

3

{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} الجد: العظمة والغنى {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً} زوجة {وَلاَ وَلَداً} كما يزعمون

4

{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} أي جاهلنا. أو هو إبليس؛ إذ لا سفيه فوقه {شَطَطاً} كذباً. والشطط: الغلو في الكفر. وشطت الدار: بعدت. وصف به قولهم؛ لبعده عن الصواب. وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله تعالى

6

{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ} كان الرجل إذا أمسى في واد قفر، وأدركه الخوف؛ قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه. يريد بذلك الجن وكبيرهم؛ فإذا سمع الجن ذلك استكبروا {فَزَادوهُمْ رَهَقاً} أي زاد الإنس الجن إثماً - باستعاذتهم بهم - لأنهم تكبروا وعتوا؛ وقالوا: سدنا الإنس والجن. ويجوز أن يكون المعنى: فزاد الجن الإنس رهقاً؛ بأن أغووهم وأضلوهم. هذا ولا يجوز الاستعاذة بغير الله تعالى؛ فهو وحده القادر على الحفظ، القاهر فوق عباده، السميع، البصير، العليم وعن الصادق المصدوق صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «إذا أصاب أحداً منكم وحشة، أو نزل بأرض مجنة؛ فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات؛ التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر؛ من شر ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن فتن النهار، ومن طوارق الليل؛ إلا طارقاً يطرق بخير»

7

{وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} أي إن الجن كانوا ينكرون البعث كإنكاركم؛ فلما سمعوا القرآن اهتدوا؛ فهلا اهتديتم؟

8

{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ} تحسسنا الطريق إليها كعادتنا. والمراد: طلبناها {فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً} من الملائكة؛ يمنع كل من يقترب منها {وَشُهُباً} أي وملئت نجوماً محرقة؛ تحرق كل من اقترب من السماء. وهذا على خلاف العادة: قبل بعثته

9

{وَأَنَّا كُنَّا} قبل ذلك {نَقْعُدُ مِنْهَا} أي نقعد بقرب السماء {مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} فنسمع بعض ما يدور فيها، وما يصدر من الأوامر؛ أما الآن {فَمَن يَسْتَمِعِ} أي من يحاول الاستماع من السماء {يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} شهاباً ينتظره بالمرصاد

11

{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ} المؤمنون الطائعون {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} الكافرون العاصون {كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} مذاهب متفرقة، وأدياناً مختلفة، وأهواء متباينة

12

{وَأَنَّا ظَنَنَّآ} تأكدنا {أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ} أي لن نفوته، ولن ننجو من عقوبته إذا أراد

13

{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} القرآن {فَلاَ يَخَافُ بَخْساً} نقصاناً من ثوابه {وَلاَ رَهَقاً} أي ولا يخاف إثماً، ولا ترهقه ذلة

14

{وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} الكافرون، الجائرون. قسط: جار. وأقسط: عدل

16

{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ} المثلى؛ وهي الإيمان ب الله تعالى {لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً} أي كثيراً من الإغداق. والمراد بذلك سعة الرزق؛ حيث إن الماء سبب للخصب والرخاء

17

{لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لنختبرهم: أيشكرون أم يكفرون؟ {يَسْلُكْهُ} يدخله {عَذَاباً صَعَداً} شاقاً

18

{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} المساجد: موضع السجود {فَلاَ تَدْعُواْ} لا تعبدوا

19

{وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} محمد عليه الصلاة والسلام {يَدْعُوهُ} أي يدعو ربه {كَادُواْ} أي كاد الجن {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} جماعات؛ لاستماع القرآن، والاتعاظ به. أو كاد المشركون يجتمعون على تسفيهه والاستهزاء به و «لبداً» جمع لبدة؛ وهو ما تلبد بعضه فوق بعض من الله

21

{ضَرّاً وَلاَ رَشَداً} أي ولا نفعاً

22

{وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ} غيره {مُلْتَحَداً} ملجأ؛ لأن الملتحد: اسم الموضع

23

{إِلاَّ بَلاَغاً} أي لا أملك إلا إبلاغكم ما أوحي إلي

24

{حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} من العذاب يوم القيامة {فَسَيَعْلَمُونَ} يومئذٍ {مَنِ} منا {أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} أقل أعواناً من الآخر: نحن أم هم؟

25

{قُلْ إِنْ أَدْرِي} ما أدري {أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} به من العذاب {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} أجلاً. والأمد لا يطلق إلا على المدة الطويلة

26

{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً *

27

إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} فإنه يظهره على ما شاء من ذلك. والغيب هنا: الوحي؛ فيظهره عليه: بما يوحيه إليه من غيبه. أي لا يطلع على غيبه أحداً؛ إلا بعض الرسل الذين يرتضيهم؛ فإنه يطلعهم على بعض غيبه الذي يكون متعلقاً برسالاتهم؛ ليكون معجزة لهم لدى أقوامهم (انظر آية 44 من سورة آل عمران) {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} أي يرسل أمام الرسول الذي يطلعه على الغيب وخلفه حرساً من الملائكة: يحوطونه من كل جانب؛ يحرسونه من تعرض الشياطين؛ لئلا يتشبهوا له في صورة الملك الموحى، ويحفظونه؛ حتى يبلغ إليه، ما أمر بتبليغه إلى الناس، و {لِّيَعْلَمَ} الله تعالى علم ظهور - لأنه تعالى يعلم ما كان، وما يكون، وما هو كائن - ويصير هذا العلم حجة على الخلق الذين ينكرون مجيء الرسل إليهم، ومجيء الملائكة إلى الرسل؛ وهو كقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} وهوأعلم بهم قبل خلقهم

28

«ليعلم» {أَن قَدْ أَبْلَغُواْ} أي أبلغ ملائكته إلى رسله {رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ} أو ليعلم الرسول أنه قد أبلغ الملائكة رسالات ربهم بلا تحريف، ولا تغيير. أو ليعلم محمد أن الملائكة «قد أبلغوا رسالات ربهم» لمن تقدمه من الأنبياء، مثل تبليغهم له {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} أي أحاط الله تعالى بما لدى الرسل، والمرسل إليهم، والملائكة، والرصد؛ وعلم ما يخفون وما يكتمون

سورة المزمل

سورة المزمل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{يأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} المتلفف بثيابه؛ وهو كقوله تعالى: {يأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} وإنما ناداه تعالى بذلك - تدليلاً له - قبل أن يلقي إليه بالأمر الذي يشتم منه رائحة التقصير؛ وذلك كقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} وهو لوم شديد؛ لو لم يسبق بالتدليل: «عفا الله عنك» لانخلع قلب الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه

2

{قُمِ الْلَّيْلَ} عابداً ربك، مصلياً له، متبتلاً إليه {إِلاَّ قَلِيلاً} من الليل؛ فاجعله لحاجتك وراحتك؛ وليكن هذا القليل

3

{نِّصْفَهُ} أي نصف الليل {أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً} أي من ذلك النصف المجعول لراحتك

4

{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} قليلاً أيضاً؛ وبذلك يكون المطلوب من سيد الخلق: ألا يزيد القيام عن الثلثين، ولا ينقص عن الثلث {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ} أي اقرأه بتؤدة وتمهل، وتبيين، وتفهم. وقد زعم بعض القراء - أثابهم الله تعالى - أن معنى ذلك ما يتبعونه من غنَ بلغ مبلغ طنين الذباب، ومد تجاوز حد الصواب، وتسهيل بلغ حد التثقيل، وسكتات فيها كثير من الهنات؛ إلى غير ذلك من إدغام وإشمام، وإخفاء واستعلاء، وإمالة وإشالة. وقد رددناه على هذه المزاعم في كتابنا «الفرقان»

5

{إِنَّا سَنُلْقِي} سننزل {عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} هو القرآن الكريم؛ لما فيه من الأوامر والنواهي؛ التي هي - في نفسها - تكاليف شاقة؛ ثقيلة على المكلفين. أو «قولاً ثقيلاً» على الكافرين. أو المراد: إنه كلام موزون راجح؛ ليس بالسفساف، ولا بالهذر، ولا باللغو {عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} قيامه للعبادة، وقراءة القرآن فيه

6

{هِيَ أَشَدُّ وَطْأً} أي أعظم أثراً، وأجزل نفعاً: لحضور الذهن، وموافقة السمع للقلب. أو إنها أثقل على المصلي من صلاة النهار. وما بعده يؤيد المعنى الأول {وَأَقْوَمُ قِيلاً} أي أسدّ مقالاً، وأثبت قراءة؛ لهدوء الأصوات، وانقطاع الحركات

7

{إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً} تصرفاً لمعاشك، وتقلباً في مهماتك؛ فلا تستطيع أن تتفرغ للعبادة تفرغاً تاماً كاملاً؛ فعليك بها بالليل

8

{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} أي انقطع إلى عبادته، ولا يشغل قلبك سواه: فإذا ما عملت عملاً ظاهره طلب الدنيا؛ فليكن باطنه مرضاة الرب سبحانه، والتقرب إليه والتبتل: رفض الدنيا، والتماس الآخرة. وقد كان الحبيب المحبوب صلوات الله تعالى وسلامه عليه لا يعمل عملاً دنيوياً إلا كان مقصده منه إرضاء مولاه، والتبتل إليه، وطلب الزلفى منه. وقد كان -[717]- يدخل ضمن العبادات ما يتخذه الناس للملذات والشهوات (انظر مبحث تعدد الزوجات بآخر الكتاب)

10

{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} في إذايتهم وسبهم لك، وطعنهم في دينك {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} الهجر الجميل: هو المفارقة إرضاءلله تعالى، واجتناباً لما يغضبه. وذلك كقوله تعالى {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}

11

{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} أي دعني وإياهم؛ فإني أكفيكهم. والمراد بالمكذبين: رؤساء قريش وصناديدهم {أُوْلِي النَّعْمَةِ} أصحاب الغنى والترفه والتنعم {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} في هذه الدنيا؛ وسيلقون جزاءهم كاملاً من العذاب في الآخرة

12

{إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً} قيوداً؛ واحدها: نكل؛ وهو القيد الثقيل

13

{وَطَعَاماً} في الجحيم؛ من الزقوم {ذَا غُصَّةٍ} ينشب في الحلق؛ فلا يكاد يساغ

14

{يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ} أي تتحرك حركة شديدة، وتتزلزل {وَكَانَتِ الْجِبَالُ} أي صارت {كَثِيباً مَّهِيلاً} رملاً منتثراً

16

{فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} عذبناه عذاباً شديداً وخيماً

17

{يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} من هوله وشدته؛ وهو يوم القيامة

18

{السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} أي إن السماء - على عظمها - تتشقق وتتصدع بيوم القيامة؛ فما ظنك بغيرها من الخلائق الذين هم دونها في الخلق {أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا}

19

{إِنَّ هَذِهِ} الآيات المخوفة {تَذْكِرَةٌ} عبرة وعظة {فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} طريقاً يوصله إليه تعالى؛ وهو الإيمان

20

{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى} أقل {مِن ثُلُثَيِ الْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ} تقوم {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ} أي جماعة يقومون أيضاً {مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ} من خيرة المؤمنين {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ} بالأوقات والساعات؛ وقد جعل تعالى بعضها للعمل، وبعضها للعبادة، وبعضها للنوم والراحة {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} أي لن تطيقوا قيامه على هذه المقادير إلا بشدة ومشقة {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} بالتخفيف عنكم، وإسقاط فرض قيام الليل. وترى الكثير ممن أحبهم الله تعالى وأحبوه، وعرفهم بنفسه فعرفوه، وهداهم إلى بابه فولجوه: يرون قيام الليل فرضاً واجباً، والتبتل إليه تعالى ضرباً لازباً؛ فإذا جن عليهم الليل: بان وجدهم، واشتد شغفهم، وسالت أدمعهم، ونشطت للعبادة أعضاؤهم؛ فتراهم في الله خاشعين باكين، وله راكعين ساجدين وما ذاك إلا لعناية الله تعالى بهم، وحبه لهم ولله در الإمام البوصيري حيث يقول: وإذا حلت العناية قلباً نشطت للعبادة الأعضاء أحلنا الله تعالى دار عنايته، وألبسنا ثوب هدايته، وأفاض علينا من رعايته {فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ما سهلت عليكم معرفته، وهان عليكم حفظه؛ في صلاتكم بالليل {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى} -[718]- لا يطيقون قيام الليل {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} يسافرون {يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} يطلبون رزقه؛ فلا يستطيعون حال سفرهم، قيام ليلهم {وَآخَرُونَ} منكم {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فهل يقومون ليلهم؛ ويتركون أعداءهم؟ والقتال في سبيله تعالى خير من قيام الليل وصيام النهار؛ لأنه من أفضل العبادات، وأجل القربات {وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ} أنفقوا مما رزقكم (انظر آية 245 من سورة البقرة) {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} عجباً لمن يقرأ هذه الآية ويبخل على الله، مما آتاه الله فاحذر - هديت وكفيت - عاقبة البخل المقيت؛ فعاقبته في الدنيا الفقر وقد أغناك الله وكفاك، وعاقبته في الآخرة الذل والحرمان ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر؛ فالذي فعل الفقر

سورة المدثر

سورة المدثر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{يأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} المتلفف في ثيابه. قيل: إنها أول سورة أنزلت على الرسول: رأى الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه - في أول الأمر - جبريل عليه الصلاة والسلام على هيئته وصورته التي خلقه الله تعالى عليها: فرعب رعباً شديداً، وذهب إلى أم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها. وقال: دثروني، دثروني؛ فدثرته خديجة. فنزلت: «يا أيها المدثر»

2

{قُمْ فَأَنذِرْ} قم من نومك فحذر قومك من عذاب الله تعالى (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة المزمل)

3

{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي فعظم؛ وقد يحمل الأمر على تكبير الصلاة

4

{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي طهر ذاتك ونفسك مما يستقذر من الأفعال. يقال: فلان طاهر الثياب؛ إذا كان نقياً من المعايب، سالماً من النقائص. أو ثيابك فقصر: لتطهر من عادة الكبر؛ كشأن سادات العرب وكبرائها - في الجاهلية من جر الثياب كبراً وبطراً. أو المراد ظاهر اللفظ: فطهرها بالماء من النجاساة

5

{وَالرُّجْزَ} القذر، أو أريد به الأصنام «والرجز» والرجس: كل مستقذر يجر إلى العذاب والعقاب

6

{وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} أي لا تعط رغبة في رد ما تعطيه مضاعفاً. وهو أمر مشاهد في زمننا الحاضر؛ فكم قد رأينا من يهدي البيضة منتظراً للدجاجة، ومن يهدي الدجاجة منتظراً للشاة، ومن يعطي رغبة في الذكر والثناء العريض. وقد يكون المعنى: لا تعط العطاء وتستكثره (انظر آية 39 من سورة الروم)

7

{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} أي لوجه الله تعالى اصبر على أداء الفرائض، وعلى أذى المشركين وكيدهم لك

8

{فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} نفخ في الصور

9

{فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} شديد

10

{عَلَى الْكَافِرِينَ} بك، المعاندين لك -[719]- {غَيْرُ يَسِيرٍ} لما ينتابهم فيه من الرعب القائم، يتلوه العذاب الدائم

11

{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} أي دعه لي وحدي فإني أكفيكه، وأنتقم لك منه؛ وهو الوليدبن المغيرة. أو ذرني ومن خلقته وحدي بلا معين؛ فلا أحتاج إلى معين في إهلاكه، أو ذرني ومن خلقته وحيداً؛ بلا مال، ولا ولد

12

{وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً} كثيراً وفيراً

13

{وَبَنِينَ شُهُوداً} حضوراً معه - يتمتع بقربهم ومشاهدتهم، ويتمتعون بقربه ومشاهدته - وذلك لاستغنائه واستغنائهم عن التجارة ومشاق السفر

14

{وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً} أي بسطت له الجاه والرياسة

15

{ثُمَّ يَطْمَعُ} بعد كفره ومزيد إنعامنا عليه {أَنْ أَزِيدَ} أي يرجو أن أزيد في ماله وولده؛ من غير شكر لما تقدم من إنعامنا

16

{كَلاَّ} لن أزيده، ولن أجمع له بين الكفر والمزيد من النعم {إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً} أي كان للقرآن جاحداً معانداً

17

{سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} الإرهاق: حمل ما لا يطاق. أي سأجعل له مكان ما يطمع فيه من الزيادة عقبة شاقة المصعد. وهو مثل لما يلقى من العذاب الصعب الأليم

18

{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} أي فكر في تكذيب القرآن ومنزله وقدر ما يقوله من الإفك، ونسبة الرسول عليه الصلاة والسلام للسحر والجنون

19

{فَقُتِلَ} لعن وطرد من رحمة الله تعالى {كَيْفَ قَدَّرَ} تعجيب من تدبيره وتقديره؛ حيث بلغ غاية الكفر؛ وهو تكذيب الرسول، والطعن فيما جاء به

20

{ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} تكراراً لتأكيد لعنه

21

{ثُمَّ نَظَرَ} تفكر في أمر القرآن

22

{ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} قطب وجهه، وزاد في التقبض والكلوح

23

{أَدْبَرَ} عن الحق والإيمان {وَاسْتَكْبَرَ} عن اتباع النبي

24

{فَقَالَ} عن القرآن {إِنْ هَذَآ} ما هذا {إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} يروى عن السحرة

25

{إِنْ هَذَآ} ما هذا القرآن {إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} قاله محمد، أو تعلمه ممن قاله. قال تعالى رداً على قوله وكفره

26

{سَأُصْلِيهِ} سأدخله {سَقَرَ} هو علم لجهنم

27

{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} تهويل لشأنها

28

{لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ} لا تدع شيئاً ألقي فيها إلا أحرقته

29

{لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ} البشر: جمع بشرة؛ وهي ظاهر جلد الإنسان. أي محرقة للجلود، مسودة لها. والمراد بذلك تبيين أنها لا تهلكهم فيستريحوا

30

{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} ملكاً؛ يلون أمرها

31

{وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ} خزنتها {إِلاَّ مَلاَئِكَةً} لأنهم في قواهم واستعدادهم خلاف البشر و {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وقد أمرهم المنتقم الجبار بألا تأخذهم رأفة، ولا رحمة بمن عصى الله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} بتسعة عشر {إِلاَّ فِتْنَةً} أي ابتلاء واختباراً (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الفاتحة) {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} أن هذا القرآن منزل من عند الله تعالى؛ لأن هذا العدد موجود في كتبهم {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ -[720]- إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} {وَلاَ يَرْتَابَ} لا يشك {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك؛ وهم المنافقون {مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} أي أي شيء أراده الله بهذا العدد؟ {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ} وعددهم، ومبلغ قوتهم {وَمَا هِيَ} أي وما جهنم وذكرها ووصفها {إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} عبرة وعظة

32

{كَلاَّ وَالْقَمَرِ} أقسم تعالى بالقمر؛ لما فيه من النفع العميم. فبه تنضج المزروعات، وبه يحدث المد والجزء في البحار؛ وبهذا المد والجزر - الذي يحدث كل يوم وليلة - تتنفس الأرض؛ لأن المياه للأرض كالرئة، والهواء كالنفس؛ فإذا ما حدث الجزر - وهو انحسار الماء عن شواطىء البحار، وارتفاعه في وسطها - كان ذلك بمثابة الزفير. وإذا حصل المد - وهو رجعة المياه إلى الشواطىء، وعودتها إلى مستواها السابق - كان ذلك بمثابة الشهيق؛ وبذلك يتم في الكون والكائنات ما أراده لهما مبدعهما؛ من نمو، ونضج، ومعيشة؛ {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}

33

{وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ *

34

وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ} أي أضاء. أقسم تعالى أيضاً بإدبار الليل، وإسفار الصبح؛ لأن فيهما وقت صلاة الفجر؛ وفي هذا الوقت ما فيه من التجليات؛ قال تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً}

35

{إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ} أي إن سقر لإحدى البلايا والدواهي الكبير

37

{لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ} لفعل الخير {} عنه

38

{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} من شر {رَهِينَةٌ} أي كل نفس مذنبة مرهونة بذنبها؛ فلا يفك رهنها حتى تؤدي ما عليها من العقوبات. ومنها ما يحبس في النار أبد الآبدين، ودهر الداهرين

39

{إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ} إلا المسلمين؛ الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون؛ فإنهم

40

{فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ} فيما بينهم

41

{عَنِ الْمُجْرِمِينَ} قائلين لهم ما الذي أدخلكم فيها، وجعلكم من سكانها؟

43

{قَالُواْ} لأنا {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} أي لم نك في زمرة المؤمنين بربهم، المصلين له

44

{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} كما كانوا يطعمون

45

{وَكُنَّا نَخُوضُ} في الباطل

46

{وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} يوم الجزاء؛ وهو يوم القيامة

47

{حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} الموت، أو القيامة التي كنا نكذب بها

49

{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ} عن تذكرة الله تعالى لهم بهذا القرآن لا يستمعون لها؛ فيتعظون بها. وهم في إعراضهم وتوليهم وانصرافهم عن الحق

50

{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} وهي الحمر الوحشية، الغير المستأنسة: التي تجمح وتنفر

51

{فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} أي فرت من الأسد، أو فرت من الرامي للسهام. وقد كانوا يسمونه «قسورة» أو هو القانص. شبه تعالى انصرافهم عن الإيمان، وإدبارهم عن الهدى: بالحمر المستنفرة؛ إذا رأت أسداً مفترساً، أو صائداً مقتنصاً

52

{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} أي يريد كل واحد منهم أن يكون -[721]- نبياً، ويؤتى صحفاً تنشر وتقرأ على الناس؛ كصحف الأنبياء. أو يريد كل واحد منهم أن ينزل له كتاباً خاصاً؛ يراه نازلاً من السماء باسمه

54

{كَلاَّ} لن يكون ما يريدون {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} أي إن القرآن تذكرة بليغة كافية للجميع

55

{فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} أي من شاء: ذكر القرآن واتعظ به

56

{وَمَا يَذْكُرُونَ} هذا القرآن، ويتعظون بما فيه {إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} ذلك التذكر، وهذا الاتعاظ. ولن يشاء الله ذلك: إلا إذا التزم الإنسان طاعته، واجتنب عصيانه، واتقاه حق تقاته {هُوَ} جل شأنه {أَهْلُ التَّقْوَى} أهل لأن يتقى؛ لأنه القوي الجليل {وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} أهل لأن يغفر لمن أطاعه واتقاه؛ لأنه الغفور البر الرحيم

سورة القيامة

سورة القيامة بسم الله الرحمن الرحيم

1

(لا أقسم بيوم القيامة) أي أقسم به. والقسم به: تعظيم لشأنه، وتأكيد لمجيئه

2

(ولا أقسم بالنفس اللوامة) أي وأقسم بالنفس التي تلوم صاحبها على عصيانه، وعلى تقصيره في جنب الله تعالى، وتستغفره بعد ذلك، وتتوب إليه، وتنيب له

3

(أيحسب الإنسان) أيظن الكافر (ألن نجمع عظامه) بعد تفتتها وتفرقها

4

(بلى قادرين) على جمعها، و (على أن نسوي بنانه) أي نعيد أصابعه كما كانت في الدنيا. والبنان: أطراف الأصابع أو هي الأصابع نفسها. وقد ذكرها الله تعالى، لما فيها من دقة الصنع، وغرابة الوضع. وذلك لأن الخطوط والتجاويف الدقيقة التي في باطن أطراف أصابع إنسان: لا تماثلها خطوط أخرى في أصابع إنسان آخر على وجه الأرض، وهي دقة لا يتصورها العقل، ولا يحيط بكنهها اللب، ولذلك يعتمدون على طابع الأصابع في تحقيق الشخصية في سائر أنحاء العالم

5

(بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) أي ليداوم على فجوره فيما بقى أمامه من الزمن؛ لأن الفجر: الانبعاث في المعاصي. أو المعنى (ليفجر أمامه) من التفجير، أي ليبحث وينقب فيما أمامه من المغيبات التي لم يحط علمه بها، ولا ضرورة تلجئه إلى بحثها، ويؤيده ما بعده

6

(يسأل أيان يوم القيامة) أي يسأل منكرا متعنتا: متى يوم القيامة

7

(فإذا برق البصر) تحير فزعا ورعبا، وذلك يكون يوم القيامة

8

(وخسف القمر) ذهب ضوؤه

9

(وجمع الشمس والقمر) أي طلعا في مكان واحد - وشأنهما ألا يجتمعا - أو جمع بينهما في الخسف وذهاب الضوء

10

(يقول الإنسان) الكافر (يومئذ أين المفر) من هذا العذاب

11

(كلا) ردع عن طلب الفرار. أي لا فرار من عذاب الله تعالى، ولا ملجأ منه إلا إليه (لا وزر) لا ملجأ، ولا منجا، ولا حصن

12

(إلى ربك يومئذ المستقر) مستقر سائر الخلائق؛ فيحاسبون ويجازون

13

{يُنَبَّأُ الإِنسَانُ} أي يجازى {يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ} في الدنيا من عمل: خير أو شر ما {آخَرَ} من هذه الأعمال بعد موته. ذلك لأنه يستن بمن مات - في الحسنات والسيئات - فيثاب بأجر من عمل بحسناته، ويجازى بعقوبة من تبعه في سيئاته. قال: «من سن سنة حسنة: فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة: فعليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة» فذلك معنى قوله تعالى: «وأخر» أو «بما قدم» من المعصية «وأخر» من الطاعة. أو يحاسب «بما قدم» من خير أو شر «وما أخر» منهما؛ فيعاقب على ما قدم من شر، وأخر من خير، ويثاب على ما قدم من خير، وأخر من شر

14

{بَلِ الإِنسَانُ} أي أعضاؤه وجوارحه التي تتكون منها نفسه {عَلَى نَفْسِهِ} على ذاته {بَصِيرَةٌ} مبصرة لما يعمل ويرتكب في الدنيا؛ فتكون شاهدة عليه يوم القيامة. أو «بصيرة» بمعنى حجة. أي هو بنفسه على نفسه حجة. وقد جاء في القرآن الكريم الحجة بمعنى البصيرة؛ في غير موضع: قال تعالى: {قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً}

15

{وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} أي ولو بسط يوم القيامة أعذاره، وحاول التخلص من ذنوبه، والتبرؤ منها

16

{لاَ تُحَرِّكْ بِهِ} أي بالقرآن {لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} أي لتعجل بقراءته. وقد كان الرسول يأخذ في قراءة القرآن قبل فراغ جبريل منه؛ خشية أن يغيب عن ذهنه منه شيء

17

{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} في صدرك {وَقُرْآنَهُ} وإثبات قراءته على لسانك

18

{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أي قرأه عليك جبريل بأمرنا

19

{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي بيان ما أشكل عليك فهمه

20

{كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} الدنيا؛ لمتاعها الزائل؛ وزخرفها الباطل

21

{وَتَذَرُونَ} تتركون وراء ظهوركم {الآخِرَةَ} فلا تعملون لها

22

{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} هي وجوه المؤمنين؛ تكون يومئذٍ حسنة مضيئة؛ لأنهم كرهوا الدنيا وباعوها، وأنفقوا ما اتفق الأكثرون على حفظه والحرص عليه، وأحبوا الآخرة، وعملوا لها

23

{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} بلا كيفية، ولا جهة. وقال جار الله الزمخشري: {نَاظِرَةٌ} أي منتظرة ثواب ربها. وهو قول وجيه من حيث تنزيهه تعالى عن رؤية المخلوقين {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}

24

{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} كالحة، شديدة العبوس {فَاقِرَةٌ} داهية عظيمة، تقصم فقار الظهر

26

{كَلاَّ} ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة {إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} أي إذا بلغت الروح التراقي؛ وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر؛ وهو كقوله تعالى: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ}

27

{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} أي تقول الملائكة: أيكم يرقى بروحه؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ أو قال أهله: من يرقيه ليشفيه؟ -[723]- أو هل من طبيب ينجيه؟

28

{وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} أي أيقن المحتضر أن هذا هو فراق الدنيا

29

{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} هو مثل لبلوغ الشدة أقصاها، والكربة مداها أي والتقى آخر يوم من الدنيا - وفيه ما فيه من آلام المرض، وسكرات الموت - بأول يوم من الآخرة - وفيه ما فيه من عذاب القبر وأهواله - وهذا مثل للكافر فحسب؛ بدليل قوله تعالى:

31

{فَلاَ صَدَّقَ} بالقرآن {وَلاَ صَلَّى} للرحمن

33

{ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ} رغم كفره وتكذيبه {يَتَمَطَّى} يتبختر كبراً وعجباً

34

{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} أي ويل لك، فويل لك أو هو خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام؛ بمعنى: أنت أولى بالتيه والتبختر - إذا جاز ذلك - حيث إنك رأس النبيين، وإمام المتقين

36

{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} أي لا يبعث، ولا يحاسب

37

{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى} أي ألم نخلقه ابتداء: من مني خلقناه في صلب أبيه وترائب أمه

38

{ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً} هي واحدة الحيوانات المنوية؛ التي يتخلق منها الإنسان، بصنع الرحمن {فَخَلَقَ فَسَوَّى} أي فخلقه الله تعالى فسواه (انظر آية 21 من سورة الذاريات)

39

{فَجَعَلَ مِنْهُ} أي من الإنسان، أو من العلق، أو من المني {الزَّوْجَيْنِ} الصنفين

40

{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} أي أليس الفعال لهذه الأشياء، الخالق لها؛ بقادر على إعادتها بعد فنائها، وإحيائها بعد موتها؟

سورة الإنسان

سورة الإنسان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} أي قد مضى على الإنسان حين من الدهر. و «هل» تجيء بمعنى: قد، وبل، وأم. والمراد من الحين: هو مدة لبثه في بطن أمه أو في صلب أبيه. أو أريد بالإنسان: آدم عليه السلام. وبالحين الزمن السابق على خلقته وإيجاده

2

{مِن نُّطْفَةٍ} مني {أَمْشَاجٍ} أخلاط. أي من نطفة الرجل مخلوطة بنطفة المرأة. ومشج بينهما: أي خلط {نَّبْتَلِيهِ} نختبره بالتكاليف {فَجَعَلْنَاهُ} استعداداً لهذه التكاليف؛ وتهيئة له لفهمها وقبولها {سَمِيعاً} يسمع فيزدجر {بَصِيراً} يبصر فيعتبر وبعد استماعه واعتباره: ابتليناه بالتكاليف؛ بعد أن أبنا له الطريقين {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ} وأوضحنا له السبل

3

{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} بيّنا له طريق الهدى؛ بأدلة العقل، والسمع، والبصر {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} يختار بنفسه طريقه؛ الذي يحدد به مستقبله ومصيره؛ فهو {إِمَّا شَاكِراً} لربه، مؤمناً به؛ فيكون من أهل الجنة {وَإِمَّا كَفُوراً} بنعمةالله، منكراً لوجوده؛ فيكون من أهل النار وقد اختار بعقله؛ وما ارتضاه لنفسه

4

{إِنَّآ أَعْتَدْنَا} -[724]- أعددنا وهيأنا

5

{إِنَّ الأَبْرَارَ} جمع بر، أو بار؛ وهم الصادقون في الإيمان {يَشْرَبُونَ} في الجنة {مِن كَأْسٍ} لا تسمى الكأس كأساً؛ إلا وفيها الشراب، وإلا فهي كوب {كَانَ مِزَاجُهَا} ما تمزج به {كَفُوراً} ليس المراد بالكافور: الكافور المعلوم. بل أريد المبالغة في طيب ما يمزج به الخمر؛ ولأن الكافور: كان عند العرب من أطيب الطيب

6

{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} أي عيناً في الجنة، طيبة الرائحة «يشرب بها عباد الله» الخمر. أو المراد بالعين نفس الخمر. ويكون معنى: {يَشْرَبُ بِهَا} أي منها. وقد جاء في اللغة: يشرب بها، أي يشرب منها. قال جميل: شرب النزيف ببرد ماء الحشرج أي من برد ماء الحشرج. والنزيف: الذي عطش حتى جف لسانه، ويبست عروقه {يُفَجِّرُونَهَا} يجرونها حيث شاءوا؛ وذلك النعيم لأنهم كانوا في حياتهم الدنيا

7

{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} طويلاً، فاشياً، ممتداً. كأن سائلاً سأل: بم استوجبوا هذا النعيم؟ فأجيب: جزاء وفائهم بالنذر، وخوفهم يوم الحساب، وإطعامهم الطعام

8

{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} أي رغم حبهم للطعام، وميلهم إليه، وحاجتهم له. أو «على حبه»: في سبيل حبه تعالى، والتقرب إليه (انظر آية 32 من سورة الزخرف) قائلين لمن يطعمونهم

9

{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} أي ابتغاء مرضاته، وطلب ثوابه لم يقولوا ذلك وإنما علمه الله تعالى من ضمائرهم وسرائرهم؛ فأثنى عليهم به

10

{يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} القمطرير: الشديد العبوس. وصف تعالى اليوم بصفة أهله من الأشقياء

11

{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ} بسبب ما قدموه {شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ} العبوس القمطرير {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً} حسناً، وجمالاً، وبهجة، وإضاءة {وَسُرُوراً} يملأ وجوههم وقلوبهم

13

{عَلَى الأَرَائِكِ} الأسرة {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} أي لا حراً ولا برداً

14

{وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا} أدنيت، وسهل تناولها؛ لأنها ليست كقطوف الدنيا: بعيدة المنال، لا تنال إلا بالاحتيال

16

{قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ} أي هي جامعة بين صفاء الزجاج، وبياض الفضة وحسنها {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} هو مبالغة في وصف الآنية ونفاستها. أي إنها مقدرة ذات قدر كبير، وقيمة عظيمة

17

{كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} أي ما تمزج به كالزنجبيل؛ في جليل فوائده، وطيب نكهته. وقد كانت العرب تستلذه، ولا ترى أطيب منه

18

{عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} أي هذا الزنجبيل عيناً في الجنة «تسمى سلسبيلاً» لسلاسة انحدارها في الحلق، وسهولة مساغها؛ وهذا عكس زنجبيل الدنيا؛ فإنه حريف لاذع

19

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ} غلمان للخدمة {مُّخَلَّدُونَ} لا يموتون {حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} لصفاء ألوانهم، وفرط جمالهم

20

{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} -[725]- «ثم» وثمة: بمعنى هنالك. أي إذا رأيت هناك في الجنة {رَأَيْتَ نَعِيماً} عظيماً؛ لا يحاكيه نعيم {وَمُلْكاً كَبِيراً} لا يدانيه ملك

21

{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ} وهو ما رق من الديباج؛ أي يعلو أهل الجنة «ثياب سندس» بمعنى أنهم يلبسونه {وَإِسْتَبْرَقٍ} ما غلظ من الديباج {وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} وفي مكان آخر من القرآن الكريم «من ذهب» فعلم أنه سيجمع بين الاثنين في التحلية. أو أريد أن يجمع بين نفاسة الذهب، وصفاء الفضة وبياضها. ألا ترون إلى الذهب الأبيض؛ وقد علا وغلا عن الذهب الأحمر والأصفر؟ وإلى معدن البلاتين؛ وقد امتاز عن الذهب بالصفاء، والغلاء؛ فقد يبلغ ثلاثة أضعاف الذهب في الثمن والقدر؛ مع امتيازه ببياض الفضة

22

{وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} مقبولاً، مرضياً، محموداً

25

{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} البكرة: ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، والأصيل ما بين الظهر والعصر. والمراد بذلك: المداومة على ذكره تعالى وتذكره في كل الأوقات وأريد بالذكر: الصلاة. فالبكرة: صلاة الصبح، والأصيل: الظهر والعصر

26

{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} المغرب والعشاء {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} أي وسبح في الليل تسبيحاً كثيراً

27

{إِنَّ هَؤُلآءِ} المشركين {يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} الدنيا {وَيَذَرُونَ} يتركون {وَرَآءَهُم} خلف ظهورهم العمل للآخرة {يَوْماً ثَقِيلاً} شديداً؛ وهو يوم القيامة

28

{وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ} قويناهم، وأحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب. أو الأسرة بمعنى الكل. ومنه قولهم: خذه بأسره؛ أي خذه كله. فيكون معنى «وشددنا أسرهم» قوينا سائر أعضائهم وأجزائهم: كل عضو بما يحتاج إليه؛ من لحم، ودم، وعظم، وعصب، وغضروف

29

{إِنَّ هَذِهِ} السورة، وما فيها من بدء خلقة الإنسان وتدرجها، وهدايته السبيل؛ بواسطة الحواس التي خلقها الله تعالى، والأعضاء التي ركبها فيه، وما أعد للكافرين من عذاب أليم، وللمؤمنين من نعيم مقيم، وأمره لرسوله وخيرته من خليقته؛ بالصبر على أذى الكافرين، ومواصلة ذكر رب العالمين، والصلاة له بكرة وأصيلاً، وتسبيحه ليلاً طويلاً إن جميع ذلك عبرة لمن يعتبر، وعظة لمن يتعظ {فَمَن شَآءَ} الجنة ونعيمها {اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} طريقاً يرضيه عنه ويوصله إليه؛ وليس هناك من طريق يوصل إلى الله تعالى: سوى اتباع أوامره، والتزام طاعاته

30

{وَمَا تَشَآءُونَ} شيئاً {إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} أن تفعلوه، ولن يشاء سبحانه وتعالى لكم فعل الخير؛ إلا إذا أخذتم في أسبابه؛ لأنه تعالى لا يشاء لإنسان الإيمان، وقد أصم سمعه عن استماع الهدى، وغطى قلبه عن تفهم الحجج والآيات والمعجزات؛ ولن يشاء جل شأنه لإنسان دخول الجنان، -[726]- وقد أعلن الكفران، وجاهره بالعصيان، وعاث بالفساد، وظلم العباد؛ وأكل أموالهم، وحرم فقيرهم وكيف يشاء الله تعالى لإنسان الخير وقد انصرف عنه؟ أو كيف يريد له الإيمان، وقد صد عنه؟ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً} بخلقه {حَكِيماً} في صنعه فحذار أيها المؤمن أن تقول ما قاله الجاهلون: من أنه تعالى يسلك الكفر في قلوب الكافرين فحاشاه تعالى أن يكون من الظالمين واذكر قوله جل شأنه: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} واعلم أن ما استوجب الحمد: فمنالله، وما استوجب الاستغفار: فهو منك (انظر آية 200 من سورة الشعراء)

31

{وَالظَّالِمِينَ} الكافرين. سماهم تعالى ظالمين: لأنهم ظلموا أنفسهم بالكفر، وعرضوها للعذاب.

سورة المرسلات

سورة المرسلات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1 - 5

{وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً * والنَّاشِرَاتِ نَشْراً * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً} أقسم سبحانه وتعالى بطوائف الملائكة؛ اللاتي أرسلهن بأوامره، واللاتي عصفن الرياح لتعذيب بعض الكفرة، واللاتي نشرن الشرائع في الأرض، وفرقن بين الحق والباطل، وألقين الذكر إلى الأنبياء عليهم السلام. والعرف: ضد النكر. أو هو إقسام من الله تعالى برياح عذاب أرسلهن فعصفهن. وبرياح رحمة نشرن السحاب في الجو، ففرقن بينه، فألقين ذكراً

6

{عُذْراً أَوْ نُذْراً} وهذا الذكر: إما عذراً للمعتذرين إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم عند مشاهدتهم لآثار نعمة الله تعالى ورحمته في الغيث فيشكرونهما؛ فتخصب أراضيهم، ويحل الخير بواديهم. وإما إنذاراً للذين يكفرون بها، وينسبونها إلى الأنواء ويقولون: مطرنا بنوء كذا. فتنقلب عليهم عذاباً، وتدع ديارهم يباباً. وجواب القسم

7

{إِنَّمَا تُوعَدُونَ} به: من القيامة، والحساب، والثواب، والعقاب {لَوَاقِعٌ} لا محالة ومن دلائل القيامة

8

{فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} محيت، أو ذهب ضوؤها

9

{وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ} فتحت وشققت

11

{وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} أي جعل لها وقت معلوم؛ يحضرون فيه للشهادة على أممهم

12

{لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} سؤال للتهويل والإشادة بشأن ذلك اليوم، وما يتم فيه من أمور جسام فما أعظمه، وما أهوله

13

{لِيَوْمِ الْفَصْلِ} الذي يفصل فيه الله تعالى بين الخلائق؛ فيأخذ للمظلوم من ظالمه؛ وللمحكوم من حاكمه؛ ويجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته

16

{أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ} الأمم الماضية؛ حين كذبوا الرسل، وجحدوا بالآيات والمعجزات

17

{ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ} ممن سلك سبيلهم في التكذيب والكفر

18

{كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} الذين يسيرون على سنتهم، ويتبعون طريقتهم

20

{أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} حقير؛ وهوالنطفة

21

{فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} هو الرحم

22

{إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ} توقيت يعلمه الله تعالى؛ هو مدة الحمل؛ فإنها تختلف بين الستة أشهر والتسع؛ عدا بعض الحالات الشاذة

23

{فَقَدَرْنَا} جميع ذلك لحكمة عظيمة؛ لا يعلمها الأكثرون: فقد يتلف الجنين لو بقي في بطن أمه أكثر من ستة أشهر، وقد يتلف غيره من الأجنة لو لم يمكث تمام شهوره التسعة، وقد تتلف الأم لو بقي الجنين أكثر، أو أقل فتعالى المقدر الحكيم العليم

25 - 26

{أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَآءً وَأَمْواتاً} أي تكفت الناس أحياء على ظهرها، وأمواتاً في بطنها. والكفت: الجمع والضم

27

{رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} جبالاً ثوابت، طوالاً شواهق {مَّآءً فُرَاتاً} عذباً. يقال: فرت الماء؛ إذا عذب

29

{انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي انطلقوا إلى الذي كذبتم به

30

{انطَلِقُواْ إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} وهو دخان جهنم: يتشعب ثلاث شعب؛ لعظمه

31

{لاَّ ظَلِيلٍ} أي لا يظل من حر ذلك اليوم

32

{إِنَّهَا} أي جهنم {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} وهو البناء الشامخ العظيم، أو الحصن، أو هو الغليظ من الشجر

33

{كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ} جمع جمل؛ كحجر وحجارة {صُفْرٌ} أي سود. جاء في لغة العرب: الأصفر: الأسود

35

{هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} فيه بشيء

38

{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} بين الخلائق

39

{فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ} حيلة تدفعون بها عذابي عنكم وتحولون بين بطشي بكم {فَكِيدُونِ} فافعلوا هذه الحيلة. وهو سؤال تحد: لإظهار ضعفهم، وتبكيتهم على ما فعلوه في الدنيا

41

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ} جمع ظل؛ والمراد به تكاثف أشجار الجنة، لأن الجنة ليست فيها شمس فيستظل من حرها {وَعُيُونٍ} جارية

46

{كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً} في الدنيا، وهو خطاب للكافرين

50

{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي بعد القرآن؛ وما فيه من عبر؛ تدعو إلى الاعتبار، وآيات؛ تدعو إلى الاستبصار

سورة النبإ

سورة النبإ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} أي عن أي شيء يتساءلون؟

2

{عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} أي يتساءلون عن النبإ العظيم؛ وهو البعث

4

{كَلاَّ} ردع عن التساؤل، وعن التكذيب {سَيَعْلَمُونَ} عاقبة اختلافهم وتكذيبهم؛ ويقال لهم: {ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}

6

{أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً} أي فراشاً. والمهاد: جمع مهد، وهو فراش الطفل

7

{وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} لتثبت بها الأرض؛ كما تثبت الخيمة بالأوتاد

8

{وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} أصنافاً

9

{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي راحة، أو موتاً؛ قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ}

10

{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} ستراً يستركم؛ كما يستر اللباس الجسم عن الأبصار

11

{وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} تقومون فيه لمعاشكم، أو هو وقت حياة: تبعثون فيه من نومكم؛ الذي هو الموتة الصغرى كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً}

12

{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} السموات

13

{وَجَعَلْنَا} لكم {سِرَاجاً وَهَّاجاً} الشمس

14

{وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} السحب، وسميت بالمعصرات: لأنها تتحلب بالمطر، وأعصروا: أمطروا. وقيل: «المعصرات» الريح تعتصر السحاب فيمطر؛ ومنه الإعصار: وهو الريح تثير السحاب {مَآءً ثَجَّاجاً} سيالاً، منصباً بكثرة

16

{وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} أي بساتين ملتفة الأشجار

17

{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} وقتاً؛ يثاب فيه المؤمن، ويعاقب فيه الكافر

18

{يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ} القرن؛ ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام بأمر ربه {فَتَأْتُونَ} من قبوركم إلى الموقف {أَفْوَاجاً} جماعات جماعات، وزمراً زمراً

20

{فَكَانَتْ سَرَاباً} أي لا شيء، وكان مكانها منبسطاً كالذي يرى عليه السراب

21

{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} تترصد الكافرين؛ كمن يترصد لعدوه ليفتك به

22

{لِلطَّاغِينَ} الكافرين {مَآباً} مرجعاً؛ ليس لهم مدخل غيرها فيدخلونها

23

{لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً} ماكثين في جهنم دهوراً

24

{لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً} هو ما يتبرد به، أو هو بمعنى النوم، أو الموت {وَلاَ} يذوقون فيها {شَرَاباً} يطفيء ظمأهم، ويروي غلتهم

25

{إِلاَّ حَمِيماً} ماء بالغاً نهاية الحرارة {وَغَسَّاقاً} هو ما يسيل من صديد أهل النار

26

{جَزَآءً وِفَاقاً} أي موافقاً لأعمالهم السيئة

27

{إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} أي لا يخافون محاسبة الله تعالى لهم؛ على كفرهم وبغيهم

28

{وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ} بحججنا وأدلتنا {كِذَّاباً} تكذيباً

29

{وَكُلَّ شيْءٍ} فعلوه {أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} أي كتابة

30

{فَذُوقُواْ} جزاء أعمالكم {فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} فوق عذابكم

31

{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} فوزاً بمطلوبهم، وظفراً بمرغوبهم؛ وهو الجنة

32

{حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً} (انظر آية 266 من سورة البقرة)

33

{وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} نواهد مستويات في السن

34

{وَكَأْساً دِهَاقاً} مترعة ملأى

35

{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} باطلاً وهجراً من القول {وَلاَ كِذَّاباً} ولا تكذيباً من أحد لأحد، أو لا يسمعون فيها كذباً

36

{عَطَآءً حِسَاباً} أي تفضلاً على حسب أعمالهم

37

{لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} أي لا يستطيع أن يكلمه أحد من خشيته، وهو بمعنى أنهم لا يملكون الشفاعة إلا بإذنه

38

{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} جبريل عليه السلام. وقيل: «الروح» خلق كالناس وليسوا بالناس {صَفَّا} مصطفين

39

{ذَلِكَ الْيَوْمُ} هو اليوم {الْحَقِّ} الذي يكذب به الكافرون {فَمَن شَآءَ} منكم أيها الناس {اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} أي مرجعاً؛ بأن يؤمن ويعمل الصالحات

40

{إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} في يوم القيامة. وقربه: أن الميت حين يقوم من قبره يظن أنه ما لبث فيه سوى يوم أو بعض يوم {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي ينظر ثوابه، أو عقابه؛ على ما قدم من خير أو شر {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} وذلك لأن الله تعالى يحشر الحيوانات يوم القيامة؛ فيقتص للجماء من القرناء، وبعد ذلك يصيرها تراباً؛ فيتمنى الكافر أن لو كان كذلك (انظر آية 38 من سورة الأنعام).

سورة النازعات

سورة النازعات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} الملائكة تنزع أرواح الكفار. وقيل: إن الكافر عند طلوع روحه: يشعر كأنه غريق

2

{وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} التي تنشط الروح؛ أي تخرجها برفق؛ وهي نفس المؤمن

3

{وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً} التي تسبح في مضيها؛ أي تسرع

4

{فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً} التي تسبق إلى أداء ما أمرت به

5

{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} التي تدبر أمر العباد بما يصلحهم في دينهم ودنياهم؛ بأمر ربهم

6

{يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} تتحرك الأرض بشدة؛ فيموت كل من عليها. وهو عند النفخة الأولى

7

{تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} النفخة الثانية؛ وعندها تبعث الخلائق. وقيل: «الرادفة» السماء؛ لأنها تتبع الأرض في التخريب؛ فتنشق؛ وتنتثر كواكبها

8

{قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} مضطربة

9

{أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} ذليلة لهول ما ترى

10

{يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} أي كانوا يقولون ذلك في الدنيا، أو ذلك قولهم في الآخرة. يقال: رد إلى حافرته: أي إلى أول أمره. وقيل: يتمنون أن لو يردوا إلى قبورهم ميتين، أو يردوا إلى الدنيا؛ كقوله تعالى حكاية عنهم {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} {نَّخِرَةً} بالية

12

{كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} رجعة ذات خسران

13

{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} أي صيحة واحدة؛ وهي النفخة الثانية

14

{فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} فإذا هم أحياء على وجه الأرض

16

{بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ} المطهر المبارك {طُوًى} اسم للوادي، أو هو بمعنى مرتين. أي الوادي الذي قدس مرة بعد أخرى. وقيل: «طوى» بمعنى طإ الأرض حافياً

17

{إِنَّهُ طَغَى} تجاوز الحد

18

{فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى} إلى أن تتطهر من الشرك والعصيان

20

{فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى} ألقى موسى عصاه «فإذا هي حية تسعى»

22

{ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} تولى عن موسى، وسعى في مكايدته. أو أدبر مرعوباً، يسرع في مشيته

23

{فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى} أي فجمع الجنود والسحرة

24

ونادى فيهم قائلاً: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى}

25

{فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُوْلَى} أي فعاقبه الله تعالى على كلمتيه «الآخرة» وهي «أنا ربكم الأعلى» «والأولى» وهي {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} أو عاقبه الله عقاب الدنيا والآخرة

26

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} التنكيل بفرعون، وبسائر الكافرين {لَعِبْرَةً} لعظة {لِّمَن يَخْشَى} الله تعالى، ويخاف عقابه

27

{أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا} أي أخلقكم بعد موتكم أصعب أم بناء السماء؟

28

{رَفَعَ سَمْكَهَا} أي أعلى ارتفاعها

29

{وَأَغْطَشَ} أظلم {لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أبرز ضوء نهارها

30

{وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} بسطها، أو جعلها كالدحية؛ وهي البيضة. ويؤيده ما ذهب إليه الفلكيون، والجغرافيون؛ من كروية الأرض، وانبعاجها كالبيضة

31

{أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا} فجر منها العيون، وأخرج منها الكلأ الذي يرعى

33

{مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} أي كل ما ذكر: خلقناه متاعاً لكم ولأنعامكم

34

{فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى} الداهية العظمى؛ وهي القيامة

35

{يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى} ما عمل في الدنيا؛ من خير أو شر

37

{فَأَمَّا مَن طَغَى} كفر وفجر

38

{وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي فضل الدنيا الفانية الزائلة؛ على الآخرة الدائمة الباقية

40

{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أي قيامه بين يديه للحساب {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} أي نهاها عما تهواه؛ مما يوقع في الردى، ويستوجب العذاب (انظر آية 176 من سورة الأعراف)

42

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} عن القيامة {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} متى وقتها؟

43

{فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} أي أين أنت من ذكر الساعة ووقتها؟ فقد تفرد بعلمها علام الغيوب

44

{إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ} أي منتهى علمها، وما يكون فيها

45

{إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} أي إنما أرسلناك لتنذر - من أهوالها - من يخشاها؛ لا أن تعلمهم بوقتها

46

{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا} أي يوم يرون الساعة {لَمْ يَلْبَثُواْ} في الدنيا {إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} وهما طرفا النهار؛ فكأنه تعالى يقول: لم يلبثوا إلا جزءاً من يوم. وهو تعالى القادر على تقصير الأوقات وإطالتها؛ فقد يرى النائم أنه قد تزوج وأنجب، وأنه قد مرت عليه من الأحداث ما يستغرق السنين ذوات العدد؛ وهو لم يزاول مضجعه بعد، وقد لا يتجاوز وقته بضع ثوان؛ فكذلك الميت حين يبعث يظن أنه لم يلبث في دنياه وقبره إلا جزءاً من يوم.

سورة عبس

سورة عبس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{عَبَسَ وَتَوَلَّى} أي قطب وجهه وأعرض. وهو حكاية عن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه

2

{أَن جَآءَهُ} أي لأن جاءه {الأَعْمَى} وهو عبد الله ابن أم مكتوم: أتى النبي - وعنده صناديد قريش يدعوهم للإسلام - فقال له: يا رسول الله علمني مما علمك الله. وصار يكرر ذلك؛ فكره رسولالله قطعه لكلامه مع صناديد قريش؛ فعبس لذلك، وأعرض عنه؛ وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على هداية أشراف قريش؛ ليهتدي بإسلامهم قومهم

3

{لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} يتطهر من دنس الجهل بما يسمعه منك من الآيات والعظات

4

{أَوْ يَذَّكَّرُ} يتعظ {فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} ويؤمن

5

{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} كان غنياً بالمال؛ كأشراف قريش

6

{فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى} تتصدى، وتتعرض؛ بالإقبال عليه؛ حرصاً على إيمانه

7

{وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} أي وليس عليك بأس في ألا يتطهر بالإسلام؛ إن عليك إلا البلاغ

9

{وَهُوَ يَخْشَى} الله

10

{فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} تتلهى، وتعبس، وتتولى

11

{كَلاَّ} أي لا تعد إلى مثلها من الإعراض عن الفقير، والإقبال على الغني {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي إن هذه الآيات موعظة

12

{فَمَن شَآءَ} من المؤمنين {ذَكَرَهُ} تذكر تنزيل الله تعالى ووحيه، واستمع إلى أوامره ونهيه؛ وعلم أن بذل النصح والإرشاد واجب لمن يطلبه ويسعى إليه؛ لا لمن يأباه وينصرف عنه

13

{فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} أي إن هذه الآيات منتسخة من اللوح المحفوظ {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} عند الله، لا يمسها إلا ملائكته المطهرون

14

{مَّرْفُوعَةٍ} في السماء، أو مرفوعة القدر والمنزلة {مُّطَهَّرَةٍ} عما ليس من كلام الله تعالى

15

{بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} كتبة؛ وهم ملائكة الرحمن، الذين انتسخوها - بأمر ربهم - من اللوح المحفوظ

16

{كِرَامٍ بَرَرَةٍ} كرام عند ربهم، أتقياء

17

{قُتِلَ الإِنسَانُ} لعن الكافر {مَآ أَكْفَرَهُ} أي ما أشد كفره وعلام يكفر، ولماذا يتكبر؟ أفلا ينظر

18

{مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ} الله؟ أليس

19

{مِن نُّطْفَةٍ} قذرة {خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} فسواه فعدله؛ وهيأه لما يصلح له، ويليق به من الأعضاء والأشكال (انظر آية 21 من سورة الذاريات)

20

{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} أي بين له طريق الخير والشر، أو سهل له الخروج من بطن أمه

22

{ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} أحياه بعد موته، وقت مشيئته

23

{كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ} أي لم يفعل الكافر ما أمره الله تعالى به من الإيمان؛ حتى الآن، و «لما» تفيد النفي إلى الحال؛ لأن منفيها متوقع الثبوت؛ بخلاف منفى «لم» فإنه يحتمل الاتصال والانقطاع؛ كلم يكن، ثم كان

24

{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ} نظر تدبر {إِلَى طَعَامِهِ} أي فليتأمل كيف دبرنا طعامه الذي يأكله ويحيا به، وكيف صنعناه؟ ولينظر إلى الحبوب وأنواعها؛ والثمار وطعومها، والأزهار وألوانها؛ ليعلم أن هذا بتقدير منا، وتفضل من لدنا، ولينظر كيف

25

{أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً} من السماء أو الأنهار المتكونة من الأمطار

26

{ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً} بالنبات

27

{فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً} كالحنطة، والشعير، وغيرهما

28

{وَعِنَباً وَقَضْباً} القضبة: الرطبة؛ وهو كل نوع اقتضب - أي اقتطع - فأكل طرياً، وهو أيضاً ما يسقط من أعالي العيدان لمزيد نضجه

29

{وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً} (انظر آية 266 من سورة البقرة)

30

{وَحَدَآئِقَ غُلْباً} بساتين كثيرة الأشجار

31

{وَأَبّاً} مرعى لدوابكم؛ من أبه: إذا أمه؛ أي قصده

33

{فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ} صيحة القيامة؛ لأنها تصخ الآذان؛ أي تصمها

34

{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ} مساعدة {أَخِيهِ} ومعاونته والأخ واجب المعاونة والمساعدة في كل وقت، وفي كل حين من

35

{وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} وبرهما فرض عليه

36

{وَصَاحِبَتِهُ} زوجته؛ وقد كلف بحفظها ورعايتها، والذب عنها {وَبَنِيهِ} وهم صنو روحه، وقطعة من كبده

37

{لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ} أخاً، أو أماً، أو أباً، أو زوجاً، أو ابناً؛ لكل واحد منهم في ذلك اليوم {شَأْنٌ يُغْنِيهِ} شغل شاغل، وخطب هائل؛ يصرفه عن الاهتمام بغيره، إلى الاهتمام بنفسه. وفي هذا ما فيه من الدلالة على ما يكتنف هذا اليوم العصيب من أحداث تخرج المرء عن صوابه، وتشغله بما حل به

38

{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} مضيئة؛ وهي وجوه المؤمنين

39

{ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} بما أعده الله تعالى لها من الثواب والجزاء

40

{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} كدورة؛ وهي وجوه الكافرين

41

{تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} تعلوها ظلمة وسواد

سورة التكوير

سورة التكوير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} نكست، وذهب بضوئها

2

{وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} انطمس نورها

3

{وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} انتثرت، وسيرت في الجو تسيير السحاب

4

{وَإِذَا الْعِشَارُ} وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر، وشارفت الوضع {عُطِّلَتْ} تركت مهملة؛ لاشتغال أصحابها بأنفسهم، أو «عطلت» من الولادة. وقيل: إن العشار السحاب؛ وتعطيلها: عدم إمطارها

5

{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} جمعت، وبعثت للقصاص (انظر آية 40 من سورة النبإ)

6

{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} غلت مياهها، أو امتلأت وتفجرت

7

{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} أي الأرواح قرنت بأجسادها، أو إذا النفوس صنفت: كل نفس مع من يشاكلها من أجناسها

8

{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} وهي التي دفنت حية. وقد كانت العرب تئد البنات خشية العار والإملاق. روي أن عمربن الخطاب رضي الله تعالى عنه بينما كان يجلس مع بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم؛ إذ ضحك قليلاً، ثم بكى؛ فسأله من حضر عن سبب ضحكه، وسر بكائه؟ فقال: لقد كنا في الجاهلية نصنم الصنم من العجوة؛ فنعبده أياماً ثم نأكله؛ وهذا ما أضحكني، أما بكائي فلأنه كانت لي ابنة؛ فأردت وأدها - كشأننا في تلكم الأيام - فأخذتها معي وحفرت لها حفرة؛ فصارت تنفض لحيتي كلما تراكم عليها التراب؛ فلم يشفع لها ذلك دون وأدها؛ وقد دفنتها حية؛ وهذا ما أبكاني هذا هو عمر - قبل الإسلام - فانظر إلى عمر بعد الإسلام، وكيف خطت الدموع في وجنتيه خطين؛ لمزيد رقته، وشدة بكائه، وكيف أنه حمل إلى أم الصبية - التي كانت تعلل أبناءها الجياع بالماء والحصى في القدر ليناموا - الدقيق والسمن وجعل ينفخ في النار؛ ولحيته على الأرض في التراب حتى طاب الطعام، وأقبل على الصبية يطعمهم، وهو يبكي ويقول: ويل عمر ليت أم عمر لم تلد عمر هذا ولم ينقل عمر من درك الوحشية، إلى سماء الإنسانية: سوى دين الإسلام - الذي سرى في روحه، وأشرب به قلبه - دين النور، والرأفة، والرحمة، دين السماحة والحضارة

10

{وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} هي صحف الأعمال: تتكشف وتفتح للقراءة

11

{وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ} قطعت وأزيلت

12

{وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} أوقدت إيقاداً شديداً

13

{وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} هيئت، وأدنيت من المتقين

14

{عَلِمَتْ نَفْسٌ} وقتذاك {مَّآ أَحْضَرَتْ} -[736]- ما عملت من خير أو شر

15

{فَلاَ أُقْسِمُ} أي أقسم {بِالْخُنَّسِ} الكواكب الرواجع لأنها تذهب وتجيء، أو هي الكواكب كلها؛ لأنها تختفي نهاراً، وتظهر ليلاً

16

{الْجَوَارِ} السيارة، التي تجي مع الشمس {الْكُنَّسِ} التي تختفي تحت ضوء الشمس. وكناس الظبي: بيته

17

{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} أدبر بظلامه

18

{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أقبل. ولا يخفى ما في مجيء الصبح من النسيم، والروح؛ الذي يشبه التنفس. وجميع ما تقدم: قسم؛ وجوابه:

19

{إِنَّهُ} أي القرآن {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هو جبريل عليه السلام؛ وقد أسند إليه: لأنه هو الذي نزل به

20

{مَكِينٍ} ذي جاه ومكانة

21

{مُّطَاعٍ ثَمَّ} أي مطاع هناك في السموات؛ يطيعه أهلها {أَمِينٍ} على الوحي المكلف بإنزاله

22

{وَمَا صَاحِبُكُمْ} محمد {بِمَجْنُونٍ} وقد استدل الزمخشري بهذه الآيات على تفضيل الملك على الرسول؛ وهو استدلال باطل؛ لأنها لم ترد على سبيل التفضيل؛ بل جاءت تكذيباً لقولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} وقولهم: {أَم بِهِ جِنَّةٌ} وهذا وإن كان فيه غلو من جانب الزمخشري في تفضيل الملك على الرسول؛ فقد تغالى أقوام بقولهم: إن عوام البشر: أفضل من عوام الملائكة. والذي أراه - ويراه كل منصف - أننا لو استثنينا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: كانت الملائكة أفضل من البشر؛ لما ميزهم الله تعالى به من الطاعة المطلقة {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وما اختصهم به من القرب {يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} (انظر آية 29 من سورة الحجر)

23

{وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} أي لقد رأى محمد جبريل عليهما الصلاة والسلام على صورته الملائكية بمطلع الشمس

24

{وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أي وما محمد على تبليغ ما أوحي إليه، وتعليمه للبشر بمقصر بخيل. وقرىء «بظنين» أي بمتهم

25

{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} هو نفي لقولهم: إن القرآن كهانة وسحر

26

{فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} أي فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريق؟

27

{إِنْ هُوَ} أي القرآن: ما هو {إِلاَّ ذِكْرٌ} تذكرة وتبصرة

28

{لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} أي لمن شاء الاستقامة؛ بالدخول في الإسلام. ومن هنا علم أن الإيمان والاستقامة في وسع كل إنسان، ووفق مشيئته؛ ولا يمنع ذلك قول الحكيم العليم

29

{وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} إذ أنه جل شأنه: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} ولا يفعل عز سلطانه ما لا يرضاه فمتى فتح الإنسان مغاليق فهمه، وأبدى استعداده لتلقي كلام ربه: أعانه الله تعالى على نفسه، ودفع عنه بأس شيطانه أما إذا ركب رأسه، ووضع أقفال الجهل على قلبه، وأصم سمعه عن الهداية، واتبع غير سبيل المؤمنين؛ فإن الله تعالى يمد له في ضلاله، ويزيد في خباله {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} وليس معنى ذلك أن الحكيم العليم فرض -[737]- عليهم الكفر فرضاً، وألزمهم به إلزاماً، وقسرهم عليه قسراً

سورة الانفطار

سورة الانفطار بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ} انشقت

2

{وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} تساقطت

3

{وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} فتح بعضها على بعض؛ فاختلط عذبها بأجاجها، أو طغت البحار على اليابسة فأغرقتها ومحتها. والمراد أن كل شيء يضطرب ولا يستقر على حاله

4

{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} أخرج ما فيها من الموتى

5

{عَلِمَتْ نَفْسٌ} أي كل نفس؛ وعلمها: رؤيتها الجزاء المعد لها {مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} ما قدمت من معصية، وأخرت من طاعة، أو «ما قدمت» في حياتها من عمل - صالح أو طالح - وما «أخرت» بعد موتها من عمل يقتدي به غيرها

6

{يأَيُّهَا الإِنسَانُ} خطاب للكافر {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} أي ما الذي جرأك على عصيان مولاك؛ الذي أكرمك بما أكرمك، وخلقك فسواك فعدلك

8

{فِي أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} أي ركبك في صورة أي صورة والمراد أنه تعالى ركبك في أحسن الصور. لقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وقد ذهب بعض ضعاف الرأي إلى أن الله جلت قدرته أراد بهذه الآيات: إلهام المخاطب المعاتب بالجواب؛ فللعبد أن يجيب مولاه بقوله: غرني كرمك. ألم يقل جل شأنه: {يأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} وهذا - كما لا يخفى - تلاعب بالتأويل؛ يأباه صريح التنزيل إذ أن هذا الكلام صادر في مقام التهويل والإرهاب، والتخويف من شدة الحساب يدل عليه ما بعده

9

{كَلاَّ} ردع عن الاغترار، بكرم الجبار {بَلْ} الحال أنكم {تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} يوم الجزاء وهو يوم القيامة

10

{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ} في كل وقت وآن من الملائكة: يحفظون أعمالكم وأقوالكم

11

{كِرَاماً} أمناء على ما أسند إليهم من ربهم {كَاتِبِينَ *

12

يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} فيكتبونه

13

{إِنَّ الأَبْرَارَ} جمع بر، أو بار؛ وهم الذين يعملون البر، ويتصفون به {لَفِي نَعِيمٍ} جنة {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ}

14

{وَإِنَّ الْفُجَّارَ} الكفار {لَفِي جَحِيمٍ} الجحيم: اسم من أسماء النار. وكل نار عظيمة في مهواة: فهي جحيم. قال تعالى: {قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}

15

{يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها {} يوم الجزاء

16

{وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ} أي لا يخرجون عنها طرفة عين؛ كقوله تعالى: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} وهذا ينقض قول -[738]- القائلين بعدم الخلود في النار، وأن المراد بالخلود: المبالغة في طول المكث

18

{ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} تكرار لذكر هذا اليوم للتهويل

سورة المطففين

سورة المطففين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{وَيْلٌ} شدة عذاب. وقيل: هو واد في جهنم {لِّلْمُطَفِّفِينَ} الذين يبخسون الناس في الكيل والوزن؛ يفسره ما بعده

2

{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ} أي كالوا منهم لأنفسهم {يَسْتَوْفُونَ} ما يكيلونه

3

{وَإِذَا كَالُوهُمْ} أي كالوا لهم {يُخْسِرُونَ} ينقصون. والتطفيف في الكيل والوزن: من أسوإ الأخلاق المسقطة للمروءة، الماحية للحسنات، المفسدة للإيمان، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وقد صار للمشتري منك أمانة عندك؛ وهي أن تؤدي له ما اشتراه كاملاً غير منقوص. وصار للبائع لك أيضاً أمانة لديك؛ وهي أن تؤدي له ثمنه كاملاً، وتستوفي حقك منه بغير زيادة. فارع الله أيها المؤمن في دينك، واخش مولاك من فوقك هذا وقد كان قدماء المصريين يقطعون يمين مطفف الكيل والميزان

4

{أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ} المطففون {أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ *

5

لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يوم القيامة

6

{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ} من قبورهم {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} انتظاراً لثوابه، أو عقابة

7

{كَلاَّ} أي ليس الأمر كما يظنون؛ من أنهم غير مبعوثين، ولا معذبين؛ بل {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ} صحف أعمال الكفار والمطففين {لَفِي سِجِّينٍ} واد في جهنم. وقيل: إنه ديوان الشر؛ أمر الله تعالى أن تدون فيه أعمال الكفرة الفجرة

8

{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} تهويل لشأنه

9

{كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} مسطور؛ بين الكتابة

10

{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} الكافرين

11

{الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} يوم الجزاء

12

{وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ} متجاوز للحد {أَثِيمٍ} مرتكب للإثم

13

{أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أكاذيبهم

14

{كَلاَّ} ردع وزجر عن قولهم ذلك {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي غطت على قلوبهم ذنوبهم؛ حتى حجبتها عن الفهم؛ فقالوا ما قالوا، وفعلوا ما فعلوا

15

{كَلاَّ} أي حقاً {إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} أي إن الكفار لمحجوبون من رحمة الله تعالى ومغفرته يوم القيامة

16

{ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} أي لداخلو النار

18

{كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ} صحف أعمالهم. والأبرار: هم الذين يعملون البر، ويتصفون به {لَفِي عِلِّيِّينَ} أعالي الجنات. أو هو ديوان الخير؛ كما أن سجين ديوان الشر

20

{كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} مختوم

21

{يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} أي يرونه رأي العين؛ أو أريد بالمقربين: الملائكة

23

{عَلَى الأَرَآئِكِ} على الأسرة {يَنظُرُونَ} ينظر بعضهم إلى بعض سروراً، أو ينظرون مغتبطين إلى ما اختصهم به ربهم من نعيم مقيم

24

{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} بهجة التنعم

25

{يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ} الرحيق: اسم من أسماء الخمر، وهو صفوتها. والرحيق أيضاً: الشراب الخالص؛ الذي لا غش فيه

26

{خِتَامُهُ مِسْكٌ} أي مختومة أوانيه بالمسك؛ مكان الطين الذي كانوا يختمون به أوعية الخمر {رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} أي فيما تقدم من النعيم والتكريم {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} فليرغب الراغبون، وليتسابق المتسابقون؛ بالمسارعة إلى الخيرات، والانتهاء عن السيئات

27

{وَمِزَاجُهُ} أي ما يمزج به ذلك الشراب {مِن تَسْنِيمٍ} التسنيم: مصدر سنمه، إذا رفعه. والمعنى: أن الخمر تمزج بأرفع شراب في الجنة

29

{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ} من الكفار {كَانُواْ} في الدنيا {مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ} استهزاء

30

{وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} عليهم؛ سخرية منهم

31

{وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ} رجعوا إلى أهلهم في الدنيا {انقَلَبُواْ فَكِهِينَ} ضاحكين، ساخرين من المؤمنين

32

{وَإِذَا رَأَوْهُمْ} أي إذا رأى المجرمون المؤمنين {قَالُواْ} عنهم {إِنَّ هَؤُلاَءِ} الناس {لَضَالُّونَ} نسبوا إليهم الضلال وهو لاصق بهم. قال تعالى:

33

{وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ} أي ما أرسل الكفار على المؤمنين {حَافِظِينَ} لأعمالهم؛ فيردونهم إلى صلاحهم، ويمنعونهم عن ضلالهم الذي يزعمونه

34

{فَالْيَوْمَ} يوم القيامة {الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} كما ضحك الكفار منهم في الدنيا

35

{عَلَى الأَرَآئِكِ} السرر

36

{هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي هل جوزوا في الآخرة بسخريتهم بالمؤمنين في الدنيا؟

سورة الانشقاق

سورة الانشقاق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ} تصدعت وتقطعت يوم القيامة

2

{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} سمعت له وأطاعت؛ حين أراد انشقاقها {وَحُقَّتْ} أي وحق لها أن تمتثل لأمر خالقها؛ إذ هو مدبرها ومالكها

3

{وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} بسطت وسويت باندكاك جبالها {لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً}

4

{وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} أي ورمت ما في جوفها من الأموات، والأموال، والكنوز {وَتَخَلَّتْ} عن حفظه في بطنها

5

{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} سمعت له وأطاعت

6

{يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ} أي إنك جاهد ومجد بأعمالك التي عاقبتها الموت حتماً؛ فتساق بعملك هذا إلى ربك فتلاقيه؛ فيكافئك عليه: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ}

7

{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} وهو المؤمن

8

{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} سهلاً ليناً: يجازى على حسناته، ويتجاوز عن سيئاته

9

{وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ} إلى عشيرته المؤمنين، أو إلى أهله من الحور العين {مَسْرُوراً} بما لاقاه من الإكرام والتكريم، وعفو البر التواب الرحيم

10

{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ} وهو الكافر. وقيل: تغل يمناه إلى عنقه، وتجعل شماله وراء ظهره؛ فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره

11

{فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً} الثبور: الهلاك. أي يتمنى الهلاك

12

{وَيَصْلَى سَعِيراً} يدخل جهنم

13

{إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} أي كان في الدنيا لاهياً لاعباً. قال تعالى: {وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ}

14

{إِنَّهُ ظَنَّ} تيقن. والظن - في القرآن الكريم - يأتي دائماً بمعنى اليقين؛ إلا في بضع مواضع - يقتضيها مقام الكلام - فإنها جاءت بمعنى الشك كقوله تعالى: {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً} {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} {أَن لَّن يَحُورَ} لن يرجع {بَلَى} سيرجع

15

{إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ} وبأعماله {بَصِيراً} فيأخذه بها

16

{فَلاَ أُقْسِمُ} أي أقسم {بِالشَّفَقِ} وهو الحمرة التي تشاهد في الأفق بعد الغروب. وعند الزجاج: إنه النهار

17

{وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} أي وما جمع وضم؛ لأن ما انتشر بالنهار: يجتمع بالليل؛ حتى أن جناحيك اللذين تمدهما إلى العمل بالنهار: تضمهما إلى جنبيك للراحة بالليل. والليل يضم الأفراخ إلى أمهاتها، والسائمات إلى مناخها، والإنسان إلى فراشه. وبالجملة فإن كل ما نشره النهار بالحركة؛ يجمعه الليل ويضمه بالسكون

18

{وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} إذا اجتمع وتم

19

{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} أي لتركبن حالة بعد حالة؛ على أن الحالة الثانية تطابق الحالة الأولى. أي ستعودون بعد الموت إلى حياة أخرى شبيهة بحياتكم هذه، مطابقة لها: من حيث الحس والإدراك، واللذة والألم. أي إنها حياة حقيقية، وإن خالفت في بعض شؤونها هذه الحياة

20

{فَمَا لَهُمْ} رغم هذه الدلالات {لاَ يُؤْمِنُونَ} بربهم

21

{وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ} أي لا يخضعون لأوامره تعالى ونواهيه؛ لأن السجود أصلاً معناه الخضوع. وبه سمي السجود في الصلاة؛ لما فيه من الذلة والخضوع: بوضع الرأس - وهي أشرف الأعضاء - في موضع القدم؛ وهي أخسها

22

{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ} دائماً بآيات الله تعالى ورسله

23

{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} بما يضمرون من الكفر والحقد على المسلمين

25

{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} ب الله وكتبه ورسله {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} التي أمرهم الله تعالى بها، وحثهم عليها {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي غير مقطوع، أو «غير ممنون» عليهم به.

سورة البروج

سورة البروج بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} ذات الكواكب والنجوم

2

{وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} يوم القيامة؛ الذي وعد الله به المؤمنين، وأوعد الكافرين

3

{وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} قيل: الشاهد: محمد، والمشهود: يوم القيامة. أو الشاهد: أمة محمد، والمشهود: سائر الأمم. أو الحفظة وبنو آدم

4

{قُتِلَ} لعن {أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} وهم قوم كانوا يشقون في الأرض شقاً؛ فيوقدون فيه ناراً يطرحون فيها كل من آمن بنبيهم

5

{النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} بيان للأخدود

6

{إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} أي جلوس حول النار؛ يتشفون في المؤمنين بإحراقهم فيها

7

{وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} أي حضور: ناظرون لهم، فرحون بتعذيبهم وإيلامهم

8

{وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي وما كان سبب انتقامهم هذا؛ سوى أنهم آمنوا ب الله العزيز الحميد

10

{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ} أي ابتلوهم بالأذى {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ} عن إيذاء المؤمنين

12

{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} البطش: الأخذ بعنف وقسوة؛ فإذا ما وصف بالشدة؛ فقد تضاعف وتزايد

13

{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ} أي يخلق الخلق ابتداء، ويعيدهم بعد الموت عند بعثهم. وقيل: «يبدىء» العذاب على الكفار، ويعيده عليهم

14

{وَهُوَ الْغَفُورُ} لمن تاب {الْوَدُودُ} الذي يبذل وده لأوليائه. وناهيك بود الغفور الودود

15

{ذُو الْعَرْشِ} صاحب العظمة والسلطان {الْمَجِيدُ} ذو المجد؛ المستحق لسائر صفات العلو

16

{فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} لا يعجزه شيء

17

{هَلُ أَتَاكَ} يا محمد {حَدِيثُ الْجُنُودِ} نبؤهم وما تم في أمرهم. وهم

18

{فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} وقد كانوا أشد بأساً، وأقوى مراساً؛ من بأس قومك وشدتهم؛ وقد أخذهم الله تعالى بذنوبهم

19

{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} في سائر الحالات، وكل الأوقات {فِي تَكْذِيبٍ} لما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب

20

{وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ} قادر عليهم، وعالم بأحوالهم

21

{بَلْ هُوَ} أي بل المكذب به {قُرْآنٌ مَّجِيدٌ} عزيز، شريف

22

{فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} اللوح المحفوظ: شيء أخبرنا الله تعالى به، ولم يعرفنا حقيقته وكنهه. وأما دعوى أنه جرم مخصوص، بذات مخصوصة - كما أورده بعضهم - فهذا ما لم يثبت بالتواتر عن المعصوم صلوات الله تعالى وسلامه عليه. واللوح المحفوظ: مدون فيه ما كان، وما يكون؛ في كوننا هذا؛ بل في سائر الأكوان التي خلقها الله تعالى؛ من بدء الخليقة حتى قيام الساعة. وهو قابل للمحو والإثبات؛ عدا أم الكتاب فإن ما فيه لا يقبل محواً ولا إثباتاً. ومثل اللوح المحفوظ؛ كمثل القانون العام الذي يصدره الملك؛ ويذكر فيه كل ما يريده من الأنظمة المنظمة لملكه، الصالحة لرعيته: لذا كان القرآن الكريم بعض ما تدون في اللوح {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} والقرآن الكريم بعض ما تناوله المحو والإثبات في اللوح المحفوظ {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فالنسخ والإنساء: محو، والإيتاء بخير - مما نسخ أو أنسي - أو مثله: إثبات؛ وكل ذلك بأمر العزيز الجليل وكل إنسان يولد: يكتب في اللوح المحفوظ رزقه، وأجله، وسعادته أو شقاوته؛ في هذه الحياة. وجميع ذلك خاضع للمحو والإثبات. فمن وصل رحمه: اتسع رزقه، وطال أجله؛ كنص الحديث الشريف. ومن تصدق: رفع من ديوان الأشقياء وكتب في ديوان السعداء. وقد ورد في الحديث عن سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه: «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع؛ فيسبق عليه الكتاب: فيعمل بعمل أهل النار: فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع؛ فيسبق عليه الكتاب: فيعمل بعمل أهل الجنة: فيدخلها» وظاهر الحديث: أن الإنسان ليعمل السيئة؛ فيقذف به في النار - وقد قضى حياته في موجبات النعيم - وأنه ليعمل الحسنة؛ فيزف إلى الجنة - وقد قضى حياته في موجبات الجحيم أما أم الكتاب: فهو علم الله الأزلي الأقدس؛ الذي لا يعتريه تبديل ولا تغيير، ولا يلحقه محو ولا إثبات؛ ولا يطلع عليه ملك ولا رسول فسبحان من أحاط علمه بالكائنات، وتنزه عن صفات المخلوقات، وتفرد بالملك والملكوت وقيل: إن اللوح المحفوظ: هو أم الكتاب (انظر آية 39 من سورة الرعد).

سورة الطارق

سورة الطارق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ} وهو النجم. وأصل «الطارق» كل آت ليلاً

2

{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} -[744]- تهويل لذكره، وتعظيم لشأنه

3

{النَّجْمُ الثَّاقِبُ} الذي يثقب الظلام بضوئه

4

{إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} أي ما كل نفس إلا عليها حافظ - من قبل الله تعالى - يحفظ عملها، ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر؛ كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} وقوله تعالى: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} أو أريد بالحافظ: الله تعالى {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}

5

{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ} نظر تدبر واستبصار {مِمَّ خُلِقَ} من أي شيء خلق؟ فعلام التكبر، وحتام التجبر؟

6

{خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} وهو المني؛ لأن الله تعالى جلت قدرته جعله يتدفق من الرجل بقوة؛ ليصل إلى بوق الرحم

7

{يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ} الصلب: فقار الظهر؛ وهو ما تعبر عنه العامة بسلسلة الظهر. والترائب: عظام الصدر. والجنين يتخلق من صلب الرجل، وترائب المرأة. وهناك رأي يقول بأنه يتخلق من صلب الرجل وترائبه أيضاً

8

{إِنَّهُ} تعالى؛ وقد خلق المني، والصلب، والترائب، والرجل والمرأة {عَلَى رَجْعِهِ} على إعادة الإنسان، وبعثه، وجعله كما كان {لَقَادِرٌ} يوم القيامة

9

{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ} تكشف سرائر بني آدم، ويعرف ما بها من العقائد والنيات. أما الأعمال: فهي مدونة مكتوبة

10

{فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ} تدفع عنه العذاب {وَلاَ نَاصِرٍ} ينصره من الله، ويجيره من عذابه

11

{وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} الرجع: الماء. أي والسماء ذات المطر

12

{وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} أي ذات النبات؛ لأنه يصدع الأرض، أي يشقها. أقسم تعالى بالسماء التي تفيض عليكم بمائها، وبالأرض التي تقيم معاشكم بنباتها. وجواب القسم

13

{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} أي إن هذا القرآن لقول فاصل بين الحق والباطل

14

{وَمَآ} ما هو باللعب والباطل؛ بل هو جد كله؛ فجدير بقارئه وسامعه أن يتعظ به، ويفكر فيه، ويتدبر في معانيه

15

{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} يعملون المكائد؛ لإبطال أمر الله تعالى، وتعطيل دينه

16

{وَأَكِيدُ كَيْداً} أي وأجازيهم على كيدهم هذا بكيد مثله. وأين كيدهم من كيدي؟

17

{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} أي لا تستعجل هلاكهم ومؤاخذتهم؛ وأمهلهم قليلاً. وهذا منتهى الوعيد

سورة الأعلى

سورة الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} أي نزهه عما لا يليق به

2

{الَّذِي خَلَقَ} سائر المخلوقات {فَسَوَّى} ما خلقه، -[745]- وأخرجه على أحسن نظام يصلح له، وفي خير حالة أعد لها

3

{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} أي الذي «قدر» في كل شيء من المزايا والخواص: ما تعجز عن إدراكه الأفهام، وهدى الإنسان لوجه الانتفاع بما فيه فلو تأملت ما في النبات من الخواص، وما في المعادن من المزايا؛ وكيف اهتدى الإنسان للانتفاع بها، وكيف استطاع أن يستنبط من الحيوان والنبات: مادة لغذائه؛ ومما تخرجه الأرض: مادة لدوائه، ومما في باطنها من المعادن والفلزات: مادة لحياته؛ فلولا ما وفق إليه من تحويل الحديد إلى أسلحة وأدوات؛ لما استطاع أن يبني الدور، أو يشيد القصور، أو ينشىء المصانع، ويصنع المدافع، ويبني الأساطيل الجوية والبحرية؛ التي يحمي بها الذمار، ويذود بها عن الديار إنك لو تأملت جميع ذلك بعين التفكر والاستبصار؛ لعلمت أنه لولا تقديره تعالى لخليقته، وهدايته لبريته: لكنا نهيم في دياجير الظلام، كسائر الأنعام

4

{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} أنبت ما ترعاه الدواب من الكلإ

5

{فَجَعَلَهُ غُثَآءً} أي هشيماً يابساً {أَحْوَى} أسود. ولا يخفى ما في المرعى من المنفعة؛ بعد صيرورته هشيماً يابساً؛ فإنه يكون طعاماً هشاً، نافعاً لكثير من الحيوانات؛ مسمن لها، مدر لألبانها. فسبحان من أحكم كل شيء، و {قَدَّرَ فَهَدَى}

6

{سَنُقْرِئُكَ} يا محمد {فَلاَ تَنسَى} أي سننزل عليك كتاباً تقرؤه على أمتك، ولا تنسى منه شيئاً {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}

7

{إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} نسخه من القرآن؛ فإنه ينسيك إياه؛ كقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا}

8

{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} أي نهديك ونوفقك للشريعة السمحة؛ التي يسهل على النفوس قبولها، وعلى العقول فهمها

9

{فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} أي عظ الناس؛ حيث تنفع العظة. وقيل: العظة واجبة؛ نفعت أو لم تنفع. وهو قول باطل؛ لأنه من الحمق والخرق أن تعظ أقواماً وأنت على تمام اليقين من أنهم لن يقبلونها. وإنما يجب التذكير: إذا كان فيهم من يقبلها، ومنهم من يرفضها؛ ويؤيده ما بعده

10

{سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} الله تعالى، ويخاف عقابه

11

{وَيَتَجَنَّبُهَا} يرفضها ولا يسمعها، وإن سمعها لا يعمل بها {الأَشْقَى} الكافر؛ الذي هو أشقى المخلوقات؛ بما سينزل عليه من العذاب والبلاء

12

{الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} وهي جهنم. أما النار الصغرى: فهي نار الدنيا

13

{ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا} كما مات في الدنيا واستراح {وَلاَ يَحْيَا} أي ولا تتوفر لها أسباب الحياة؛ لأن من دأب النار الإماتة والإفناء؛ بمعنى أنه لا يحيا حياة طيبة من غير الإحتراق، الذي هو من أسباب الموت

14

{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} تطهر من الكفر بالإيمان، ومن المعاصي بالطاعة. أو هو بمعنى تصدق

15

{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} بقلبه ولسانه -[746]- {فَصَلَّى} الصلاة المكتوبة؛ أو بمعنى: فرحم الفقير؛ لأن من معاني الصلاة: الرحمة {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} أي يرحمكم

16

{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} تفضلونها. ومعنى ما تقدم: قد أفلح من تصدق، وتذكر ربه فرحم الفقير؛ بل أنتم تفضلون الحياة الدنيا فتبخلون وما فيها من النعيم

17

{خَيْرٌ} من الدنيا وما فيها {وَأَبْقَى} لدوام نعيمها. أما ما ترونه من نعيم الدنيا؛ فإنه صائر إلى الزوال والفناء

18

{إِنَّ هَذَآ} أي ما تقدم من النصح الرباني، والإرشاد، والتذكير، والتحذير {لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} التي نزلت قبل القرآن

19

{صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} وذلك لأن التحذير من النار، والتبشير بالجنة، والتعريف ب الله تعالى، والدعوة إلى الإيمان به، والحث على طاعته؛ كل ذلك وارد في كتب الله، المنزلة على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام.

سورة الغاشية

سورة الغاشية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} الداهية التي تغشى الناس بأهوالها وشدائدها؛ يعني يوم القيامة. أو هي النار؛ كقوله تعالى: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ} والمعنى: هل علمت يا محمد حديث الغاشية؟ فإن لم تكن تعلم؛ فهاك حديثها، وحدثها

2

{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} ذليلة

3

{عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} أي وقع منها في الدنيا عمل، وأصابها فيه نصب؛ أي تعب. وقيل: إنها تعمل ما تتعب فيه يوم القيامة: كخوض النار، وجر السلاسل والأصفاد، ونحو ذلك. والأول أولى؛ لمقابلته مع قوله تعالى في وصف أهل الجنة {لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أي لأعمالها في الدنيا

5

{تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي شديدة الحرارة؛ من أنى الحميم: إذا انتهى حره؛ فهو آن الضريع: شوك رديء ترعاه الإبل؛ فتسوء حالها. ويسمى الشبرق. و

8

{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ} حسنة منعمة؛ ذات بهجة

9

{لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} لعملها في الدنيا فرحة، مطمئنة لما رأته من ثوابه

10

{فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} بستان مرتفع. والعلو هنا: حساً ومعنى

11

{لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} أي لا تسمع فيها فحشاً، ولا شتماً، ولا سباً

13

{فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ} ليرى الجالس عليها ما خوله ربه من النعيم، والملك العظيم وهي مرفوعة قدراً ومحلاً

15

{وَنَمَارِقُ} وسائد. وهو ما يسمى بالمسند والمخدة

16

{وَزَرَابِيُّ} بسط فاخرة منقوشة {مَبْثُوثَةٌ} مبسوطة

17

{أَفَلاَ يَنظُرُونَ} نظر تأمل واعتبار {إِلَى الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} على هذا النحو العجيب، والوضع الغريب فانظر - يا رعاك الله - كيف أنها تبرك؛ ليستطيع الإنسان أن يضع عليها حمولتها عن قرب، ثم تقوم بما تحمل، بما ينوء بالعصبة أولي القوة. ثم تميزها بالصبر على الجوع -[747]- والعطش الأيام المعدودات. ثم بلوغها المسافات الطويلة. ثم اكتفاؤها من المرعى بما لا يكاد يرعاه سائر البهائم. إلى غير ذلك من استعدادها الخلقي الذي يساعدها: فشفتها مشقوقة لسهولة تناول الكلإ أثناء المشي، ورجلها مفرطحة لئلا تغوص في الرمال فيعوقها ذلك على السير. فتبارك الذي أحسن كل شيء خلقه وقد خص الله تعالى «الإبل» بالذكر: لأنها أفضل دواب العرب، وأكثرها نفعاً

18

{وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} من غير عمد

19

{وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} فبعضها قائم، وبعضها منحدر، وبعضها كبير، وبعضها صغير؛ وما خفي منها في باطن الأرض أكبر مما ظهر. قال تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} وكل ذلك لحفظ توازن الأرض - أثناء دورانها - لئلا تميد بكم

20

{وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} بسطت رأي العين؛ ولو أنها في واقع الأمر كروية الشكل. وها قد وضحت الأدلة، وقامت البراهين - حتى بلغت حد اليقين - على وجود رب العالمين

21

{فَذَكِّرْ} هؤلاء الكفار؛ بصنع العزيز الجبار، وبأنعمه تعالى عليهم، ووضوح أدلة وجوده وجوده {إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ} فلا عليك أن يهتدوا

22

{لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} بمتسلط

23

{إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ} فلا داعي لتذكيره. قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} أما {مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ} وطغى واستكبر؛ فيقابل بالسنان لا باللسان وبعد ذلك يرد إلى يوم القيامة

24

{فَيْعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} في النار وبئس القرار؛ بعد أن يلقى العذاب الأصغر في الدنيا؛ بالقتل، والأسر، والذل، وعذاب القبر

25

{إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ} مرجعهم جميعاً

26

{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} جزاءهم على ما فعلوه في دنياهم.

سورة الفجر

سورة الفجر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{وَالْفَجْرِ} أقسم سبحانه وتعالى بالفجر؛ لما فيه من خشوع القلب، لحضرة الرب. وقيل: أريد بالفجر: النهار كله

2

{وَلَيالٍ عَشْرٍ} هي عشر ذي الحجة؛ أقسم بها تعالى: لما يكتنفها من عبادات، ومناسك، وقربات وقيل: هي العشر الأواخر من رمضان

3

{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} أي والزوج والفرد؛ كأنه تعالى أقسم بكل شيء؛ لأن سائر الأشياء: إما زوجاً، وإما فرداً. أو هو قسم بالخلق والخالق

4

{وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} إذا يمضي. قيل: هي ليلة المزدلفة؛ لاجتماع الحجيج بها، وصلاتهم فيها، وقيامهم بمناسك حجهم

5

{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} الحجر: العقل؛ لأنه يحجر صاحبه عما لا ينبغي. أي هل في ذلك القسم الذي أقسمت به مقنع لذي عقل؟

6

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} هم قوم هود عليه السلام. وهي عاد الأول -[748]- ى

7

{إِرَمَ} هو اسم لجد القبيلة، أو هو اسم قبيلة عاد نفسها {ذَاتِ الْعِمَادِ} وصف لإرم: التي هي قبيلة عاد ومعنى «ذات العماد» سكان الخيام؛ لأنها تنصب بالعمد. أو هو كناية عن القوة والشرف وقال قوم: إن «إرم» هي دمشق. وقال آخرون: إنها الاسكندرية. أما ما رواه المفسرون؛ من أن «إرم ذات العماد» مدينة عظيمة: قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الياقوت والزبرجد؛ فهو من أقاصيص اليهود وأساطيرهم

8

{الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ} أي لم يخلق مثل أهلها؛ في القوة والبطش، والخلقة

9

{وَثَمُودَ} قوم صالح عليه السلام {الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ} أي قطعوا الحجارة ونحتوها، واتخذوها بيوتاً؛ لقوله تعالى {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً}

10

{وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ} قيل: كانت له أوتاد يربط بها من يريد تعذيبه. وقيل: هو كناية عن كثرة الجنود، وخيامهم التي يأوون إليها. وقيل: «الأوتاد» المباني العظيمة؛ كالأهرام ونحوها وقيل: غير ذلك

11

{الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلاَدِ} تجبروا فيها، وتكبروا على أهليها

12

{فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ} أي أكثروا المعاصي وسفك الدماء

13

{فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} هو كناية عن شدة التعذيب

14

{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} أي لا يفوته شيء؛ وسيجازي على سائر الأعمال: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر

15

{فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ} اختبره وامتحنه بالغنى ومزيد النعم {فَأَكْرَمَهُ} بالمال والآل، والعيال {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} بما أعطاني من النعم التي أستحقها. ولم يعلم أنه ابتلاء له: أيشكر أم يكفر؟ {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ} اختبره أيضاً وامتحنه بالفقر والفاقة

16

{فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} ضيق عليه عيشه {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} بتضييقه علي، ولم يخطر بباله أنه ابتلاء له: أيصبر أم يجزع؟ ولم يعلم كلاهما أن التقدير قد يؤدي إلى كرامة الدارين، وأن التوسعة قد تفضي إلى خسرانهما والمعنى: أن الإنسان على كلا الحالين لا تهمه الآخرة؛ بل جل همه العاجلة؛ ويرى أن الهوان في قلة الحظ منها

17

{كَلاَّ} ليس الإكرام والإهانة: في كثرة المال وقلته، وسعة العيش وتضييقه {بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} انتقل القرآن الكريم من بيان سوء أقوال الإنسان؛ إلى بيان سوء أفعاله، وإلى أن التوسعة - كما قدمنا - قد تؤدي إلى الخسران؛ إذا لم يقم الموسع عليه بما يجب عليه: من إكرام اليتيم، والحض على إطعام المسكين، والقيام بكل الواجبات التي هو مسؤول عنها، مطالب بها، محاسب عليها

18

{وَلاَ تَحَاضُّونَ} أي لا يحض بعضكم بعضاً {عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أي على إطعامه كما طعمتم، وإشباعه كما شبعتم

19

{وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ} الميراث {أَكْلاً لَّمّاً} أكلاً ذا لمّ؛ وهو الجمع بين الحلال والحرام -[749]- كناية عن أنهم كانوا يأكلون أنصباءهم، وأنصباء باقي الورثة. وهو أمر مشاهد في كل حين؛ وعاقبته من أوخم العواقب. فكم رأينا مستكثراً: داهمه الفقر، وظالماً: ظلمه الدهر، وناهباً: صير الله ماله من بعده نهباً لأعدائه

20

{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} حباً كثيراً؛ مع حرص، وطمع، وشره

21

{كَلاَّ} ردع عن أكل التراث، وعن حب المال؛ فماذا يفيد أكل حقوق الغير؛ عند دخول القبر؟ وماذا يجدي حب المال؛ عند المآل؟ وماذا يفيد النعيم الزائل؛ عند العذاب الدائم؟ ماذا يفيد كل هذا {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً} أي تزلزلت زلزالاً شديداً متتابعاً، وتهدمت؛ عند قيام الساعة

22

{وَجَآءَ رَبُّكَ} أي جاء أمره وقضاؤه، وظهرت آيات عظمته وقدرته جاء {وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} أي وجاءت الملائكة صفوفاً صفوفاً؛ متتابعة: كما يصطف جنود الملك وحراسه: انتظاراً لأمره

23

{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ} ما قدم وأخر؛ ويعلم أنه مؤاخذ على ما أكل من حق، وما حفظ من مال، وما بخل به من طعام {} أي ومن أين يكون له الذكرى؟ وماذا يجدي التذكر؟ وماذا تفيد التوبة؛ وقد فات أوانهما؟ و

24

{يَقُولُ} حينئذٍ {يلَيْتَنِي قَدَّمْتُ} في الدنيا عملاً صالحاً ينفعني {لِحَيَاتِي} الباقية الدائمة: حياة الخلود

25 - 26

{فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} هو كناية عن هول عذاب الله تعالى، وشدة وثاقه

27

{يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} الآمنة. يقال ذلك للمؤمنين: عند الموت، أو عند البعث، أو عند دخول الجنة

28

{ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} إلى رحمته، ورضوانه، ونعيمه الوافر {رَاضِيَةً} عن الله تعالى بما آتاك من نعيم مقيم {مَّرْضِيَّةً} عنده؛ بما عملت من صالح الأعمال

29

{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أي في زمرة عبادي الصالحين. وقيل: الخطاب لروح المؤمن؛ يؤيده قراءة من قرأ «فادخلي في عبدي» أي في جسد عبدي

30

{وَادْخُلِي جَنَّتِي} مع الداخلين، من عبادي المؤمنين

سورة البلد

سورة البلد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{لاَ أُقْسِمُ} أي أقسم {بِهَذَا الْبَلَدِ} أقسم تعالى بالبلد الحرام؛ وهو مكة شرفها الله تعالى

2

{وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} ساكن بها. أو «حل» بمعنى حلال لك ما فيها: لك أن تقتل من ترى قتله، وتأسر من ترى أسره، وتعذب من ترى تعذيبه، وتعفو عمن ترى العفو عنه؛ ليس عليك من شيء في هذا. -[750]- وكان ذلك يوم دخوله مكة - وقد أمر يومئذٍ بقتل ابن خطل؛ وهو آخذ بأستار الكعبة؛ وكان من ألد الأعداء للإسلام والمسلمين - ولم تحل مكة لأحد بعد رسولالله. أو المراد بقوله جل شأنه: {لاَ أُقْسِمُ} نفي القسم؛ أي {لاَ أُقْسِمُ} بها «وأنت حل» بها؛ أي حلال. وذلك أن أهل مكة استحلوا إذاية الرسول عليه الصلاة والسلام، وإخراجه منها

3

{وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} هو كل والد وولده؛ من إنسان وحيوان وغيرهما

4

{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} في مشقة ومكابدة: فالفقير - في هذه الحياة الدنيا - يكابد من آلامها وهمومها ما يكابد في سبيل نيل قوته، وإدراك عيشه. والغني يكابد فيها أيضاً في سبيل المحافظة على ماله، والخوف على حياته. هذا غير ابتلاء الأغنياء بالمرض، والأصحاء بالفقر؛ وبذلك لا يكون على ظهر الأرض إنسان لم ينل حظه من الامتحان والابتلاء، والمكابدة

5

{أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} لقوته، وكثرة ماله

6

{يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} كثيراً مجتمعاً. يقول ذلك على سبيل الفخر والرياء، وهو على عادة الجاهلية؛ من ادعاء الكرم والتظاهر به. وقيل: يفتخر بإهلاك ماله في سبيل عداوة محمد والمؤمنين

7

{أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} حين كان ينفق هذا المال في غير مواضعه، وأن الله تعالى لا يحاسبه عليه، ولا يجازيه عنه

8

{أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ} يرى بهما

9

{وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} ينطق بهما

10

{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ} أوضحنا له طريق الخير، وطريق الشر (انظر آية 176 من سورة الأعراف)

11

{فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي فهلا شكر تلك النعم الجليلة؛ بأن عمل الأعمال الصالحة: مثل الإعتاق، والإطعام، وغير ذلك

12

{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} تعظيم لشأنها

13

{فَكُّ رَقَبَةٍ} إعتاق رقبة (انظر آيتي 177 من سورة البقرة و92 من سورة النساء)

14

{مَسْغَبَةٍ} مجاعة

16

{أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} هو الفقير الشديد الفقر، اللاصق بالتراب

17

{وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على المصائب، والشدائد، ونوائب الدهر، ويتواصوا أيضاً بالصبر على طاعة الله تعالى، وعن محارمه {وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ} بالتراحم فيما بينهم

18

{أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} أولئك هم السعداء يوم القيامة وهي من اليمين، أو من اليمين: بمعنى البركة

19

{أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} وهم الأشقياء يوم القيامة. وهي من الشمال، أو من الشؤم

20

{عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ} أي مطبقة عليهم ومغلقة؛ من آصد الباب: إذا أغلقه.

سورة الشمس

سورة الشمس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} أي وضوئها

2

{وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا} إذا تبعها في الطلوع والإنارة عند غروبها

3

{وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا} أظهر الشمس تمام الظهور

4

{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} أي يستر الشمس؛ فتظلم الآفاق

5

{وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا} أي والقادر العظيم المبدع؛ الذي بناها

6

{وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} أي والمدبر الحكيم العليم؛ الذي بسطها

7

{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} أي والخالق الرازق المصور؛ الذي سوى الإنسان، وأخرجه في أحسن تقويم. ومن تمام التسوية: أن ركب تعالى في النفس قواها الظاهرة والباطنة، وشد أسرها، وأمرها بما يصلحها، ونهاها عما يضرها، ووهبها العقل الذي تميز به بين الخير والشر، والتقوى والفجور

8

{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أي عرفها طاعتها ومعصيتها، وما ينجيها وما يرديها، وخلق فيها العقل والإدراك؛ اللذين تميز بهما بين الغث والثمين، والحسن والقبيح. (انظر آية 176 من سورة الأعراف) أقسم تعالى في هذه السورة الكريمة: بالشمس، والقمر، والنهار، والليل، والسماء، والأرض والنفس: ليلفت النظر إلى هذه الآيات الكونية الدالة على وجود بارئها، ومدبر حركاتها وسكناتها؛ بهذا الوضع العجيب، والنظام الباهر

9

{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} من طهر هذه النفس، وأصلحها، وارتفع بها من مرتبة الحيوانية

10

{وَقَدْ خَابَ} خسر {مَن دَسَّاهَا} التدسية: النقص والإخفاء؛ كأنه تعالى يقول لقد خلقت النفس، وأعددتها بمعدات العلم والفهم؛ اللذين ينجيانها من مهاوي الجهالة؛ ولم يبق لها بعد ذلك عذر: فمن طاوع هواه، وجاهر بمعصيته مولاه؛ فقد نقص من عداد العقلاء، والتحق بالأغبياء الجهلاء وأراد ربك أن يضرب مثلاً ملموساً لمن دساها، وما كان من عاقبة أمره في دنياه؛ فضلاً عما أعده له ربه في أخراه؛ فقال:

11

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ} قوم صالح عليه السلام {بِطَغْوَاهَآ} أي «كذبت ثمود» نبيها بسبب طغيانها وبغيها

12

{إِذِ انبَعَثَ} قام وانطلق {أَشْقَاهَا} أشقى القبيلة؛ حين قام لعقر الناقة

13

{فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} صالح عليه السلام {نَاقَةَ اللَّهِ} أي دعوا ناقة الله تعالى؛ التي أرسلها لكم آية، ولا تمسوها بسوء {وَسُقْيَاهَا} أي لا تمنعوها الشرب في يوم شربها المعد لها {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ}

14

{فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} طحنهم، وأهلكهم عن آخرهم {فَسَوَّاهَا} أي فسوى ثمود في -[752]- العقوبة؛ فلم يفلت أحد. أو سواها بالأرض: بأن دمر مساكنها على ساكنيها

15

{وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} أي ولا يخاف الله تعالى عاقبة إهلاكهم؛ لأنه ليس كسائر الملوك؛ فلا هو بالظالم: فيخيفه الحق، ولا بالضعيف؛ فيلحقه المكروه. ولا ينقص ملكه هلاك طائفة منه، بل لا ينقص ملكه هلاك سائر مخلوقاته

سورة الليل

سورة الليل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} إذا غطى النهار بظلمته

2

{وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} إذا ظهر بزوال ظلمة الليل

3

{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} أي والقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى. أقسم تعالى بذاته - على هذه الصفة - إشعاراً بأنه جل شأنه الخالق المصور المبدع؛ لأنه لا يعقل أن هذا التخالف بين الذكر والأنثى؛ يحصل بالاتفاق من طبيعة لا شعور لها بما تفعل، ولا علم عندها بما يلزم؛ إذ أن الأجزاء الأصلية في المني متساوية التكوين: فالولد ينتج من عناصر واحدة؛ لكنه يخرج تارة ذكراً، وتارة أنثى؛ بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر. ومن أعجب العجب أن تكثر ولادة الذكران عقيب الحروب والطواعين، واجتياح الرجال وجميع ذلك يدل دلالة قاطعة على أن واضع هذا النظام: عالم بما يفعل، محكم لما يصنع ولا عبرة بما يقوله الآن بعض المشتغلين بالطب: من أنهم سيستطيعون قريباً التحكم في الجنين، وجعله كما يريدون؛ فإن هذا من صنع مدبر الكون؛ الذي {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ}

4

{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} أي إن عملكم لمختلف: فمنه النافع، ومنه الضار، ومنه المنجي، ومنه المردي؛ ويفسره ما بعده

5

{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} الفقراء مما وهبه الله {وَاتَّقَى} ربه، وخاف سوء الحساب

6

{وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} آمن بالمثوبة الحسنى؛ وهي الجنة. أو صدق بالكلمة الحسنى؛ وهي لا إله إلا الله

7

{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} نهيئه للخصلة المؤدية لليسر؛ وهي الأعمال الصالحة؛ المؤدية للجنة؛ فتكون الطاعة أيسر شيء لديه

8

{وَأَمَّا مَن بَخِلَ} على عباد الله، ولم يؤتهم ما أمر به الله {وَاسْتَغْنَى} عن ثوابه

9

{وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أي كذب بالجزاء الحسن، مقابل الإحسان، أو كذب بكلمة التوحيد

10

{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} نهيئه للخصلة المؤدية للعسر والشدة؛ وهي الأعمال السيئة؛ المفضية إلى النار؛ فتكون الطاعة أعسر شيء عليه. وسمى تعالى طريقة الخير يسرى: لأن عاقبتها اليسر. وطريقة الشر عسرى: لأن عاقبتها العسر

11

{وَمَا يُغْنِي} ما يدفع {عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} أي إذا هلك، وتردى في القبر، أو إذا تردى -[753]- في جهنم. و «تردى» سقط

12

{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} أي علينا أن نوضح طريق الهدى، ونحث عليه؛ ونبين طريق الضلال، وننفر منه

13

{وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} نوفق في الأولى، ونجزي في الآخرة؛ ومن أراد الدنيا أو الآخرة من غيرنا؛ فقد أخطأ الطريق

14

{فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} تتلهب. أي لرحمتنا بكم، وعلمنا بمصالحكم: أسدينا لكم النصح؛ فأوضحنا لكم الهدى وما يؤدي إليه، والضلال وما يؤدي إليه؛ فأنذرناكم ناراً تتلظى

15

{لاَ يَصْلاَهَآ} لا يدخلها للخلود فيها {إِلاَّ الأَشْقَى} الكافر؛ الذي هو أشقى العصاة

16

{الَّذِي كَذَّبَ} النبي والقرآن أعرض عن الإيمان

17

{وَسَيُجَنَّبُهَا} لا يدخلها، ولا يقربها {الأَتْقَى} المؤمن الصالح، التقي النقي

18

{الَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ} الفقراء {يَتَزَكَّى} يتطهر بذلك من دنس البخل، أو متزكياً به عن الرياء والسمعة؛ بل يبذله بأمر الله في سبيل مرضاته

19

{وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى} أي يجزيه عليها بإعطاء المال، أو لا ينتظر جزاء من أحد

20

{إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} المعنى: أنه لا يعطي ما يعطي جزاء نعمة سابقة أسبغها عليه المعطى له، أو منتظراً جزاءاً لما يعطيه: كعوض، أو ثناء؛ بل يفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى فحسب

21

{وَلَسَوْفَ يَرْضَى} هو وعد من الله تعالى بإرضاء من أرضى عبيده فمن أراد رضا الله تعالى؛ فليرض مخلوقاته

سورة الضحى

سورة الضحى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{وَالضُّحَى} صدر النهار؛ حين ترتفع الشمس

2

{وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} إذا سكن

3

{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} من الوداع؛ أي ما تركك {وَمَا قَلَى} وما أبغضك

4

{وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى} من الدنيا

5

{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} أي يعطيك في الآخرة من النعيم والثواب حتى ترضى. قيل: لما نزلت؛ قال: «لا أرضى وواحد من أمتي في النار» وقد يكون المعنى: لنهاية أمرك؛ خير من بدايته. يدل عليه ما بعده

6

{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} أي فآواك إلى عمك أبي طالب، وضمك إليه، وجعلك أحب الناس لديه. فالإيواء خير من اليتم

7

{وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى} أي وجدك بين أهل الضلال، معرضاً له فعصمك منه، وهداك للإيمان، وإلى إرشادهم إليه. فالهدى خير من الضلال وقد نشأ في عصر تفشت فيه عبادة الأوثان، وانتشرت فيه اليهودية والنصرانية؛ ورأى بعينه ما في هذه الأديان من أباطيل، وما يستمسكون به من أضاليل؛ فحماه الله تعالى من الوقوع في براثن الوثنية، وعصمه من السقوط في وهاد -[754]- اليهودية والنصرانية. ورغماً عن ذلك فقد كان أهله وعشيرته - عن آخرهم - يعبدون الأصنام؛ وجدير بمن نشأ في عصر كله ضلال أن يكون ضالاً؛ لولا أن أغاثه مولاه بعنايته، وأدركه بلطفه وهدايته

8

{وَوَجَدَكَ عَآئِلاً} فقيراً {فَأَغْنَى} فأغناك بما أفاء عليك من الغنائم، أو بمال خديجة رضي الله تعالى عنها. فالغنى خير من الفقر

9

{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} أي فلا تغلبه على ماله لضعفه. وقرىء «فلا تكهر» أي فلا تعبس في وجهه وهذا لا ينافي القيام على إصلاحه وتأديبه وتهذيبه؛ إذ أن تركه وإهماله: قهر له

10

{وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} أريد بالسائل هنا: من يسأل علماً وفهماً؛ فلا ينهر، بل يجاب على سؤاله برفق ولين. أو سائل المال؛ فلا يحبس عنه. وتركه بغير إعطاء - مع حاجته - نهر له. ولا يحل بحال أن يمنع عن سائل المال المال، أو يحبس عن سائل العلم العلم؛ وكل من سأل شيئاً: وجبت إجابته في حدود الإمكان. وإنه لمن دواعي سقوط المروءة: رد السائل. وقد كان من قبلنا يقف ببابه السائل: فيشاطره قوته وماله؛ غير منتظر منه جزاءًا ولا شكوراً؛ بل يسرع ببذل الشكر له على قبوله العطاء؛ وتسببه في رضاء مولاه عليه

11

{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} التحدث بنعمة الله تعالى: شكر هذه النعم، والشكر على النعم: صرف كل نعمة فيما خلقت له؛ فيصرف المال في الخيرات، وبر المخلوقات، ويبذل العلم لطالبيه، لينتفعوا به، وينفعوا الغير بنشره وإذاعته

سورة الشرح

سورة الشرح بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} بالإسلام وقيل: أريد به: شق صدره الشريف. وغسل قلبه بماء زمزم؛ كما ورد في الحديث الشريف

2

{وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} الوزر: الحمل الثقيل. أي وحططنا عنك عبأك الثقيل

3

{الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} أي أثقله؛ وهو مثل لشدة تألمه عليه الصلاة والسلام، وتلهفه على إسلام قومه

4

{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} بالنبوة وبذكره في التشهد، والأذان، والإقامة

7

{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} أي إذا فرغت من دعوة الخلق؛ فاجتهد في عبادة الخالق والنصب: التعب

8

{وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أي فارغب إليه بالسؤال، ولا تسأل غيره. وقرىء «فرغب» أي رغب الناس في طلب ما عند الله لأنه متحقق الوجود، متحقق الإجابة

سورة التين

سورة التين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

2

{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ} الطور: الجبل. وقصد به هنا: الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى و «سينين» و «سيناء» شجر. و «سينا» جبل بالشام. وقيل: «طور سينا» جبل بين مصر والعقبة

3

{وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} مكة زادها الله تعالى علواً وشرفاً وسميت بالبلد الأمين: لأمان من يدخلها. قيل: إن في هذا تقسيم لتاريخ هذا العالم منذ نشأته؛ إلى أربعة أقسام؛ وأقسم بكل قسم منها: لأهميته في تاريخ البشر عامة؛ فالتين: إشارة إلى القسم الذي بدأ من خروج آدم من الجنة إلى وقت الطوفان؛ وذلك لأن آدم وحواء استترا - حين بدت لهما سوءاتهما - بورق التين. والزيتون: إشارة إلى القسم الذي بدأ من الطوفان إلى ظهور الأديان الحديثة؛ ببعثة موسى عليه السلام؛ وذلك لأن نوحاً عليه السلام - حينما استوت سفينته على الجودي - زرع شجرة الزيتون؛ لغذائه منه، وغذاء ماشيته من ورقه، والاستضاءة بزيته. وطور سينين: إشارة إلى القسم الذي بدأ ببعثة موسى عليه السلام إلى ظهور الإسلام، ومجيء سيد الرسل عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لأن موسى ناجى ربه وكلمه عليه. والبلد الأمين: إشارة إلى القسم الذي بدأ برسالة خاتم النبيين محمد إلى يوم تقوم الساعة؛ وذلك لأن مكة عظمها الله تعالى: هي مولد الرسول عليه الصلاة والسلام ومبعثه، ومصدر الإسلام ومنبعه، وفيها بيت الله الحرام وقبلة سائر المسلمين وفي الإقسام بالتين والزيتون: إعلاء لشأنهما، ولفت لما فيهما من منافع تجل عن البيان والحصر. فالتين: مقو للقلب والدم، مسمن، ملين، وهو يقطع البواسير، ويعالج الأمراض الروماتيزمية، ويدفع النقرس. والزيتون: مفتت للحصى؛ مقو للصدر، طارد للبلغم؛ وهذا بعض مزاياهما، وقل من كثر من منافعهما. وقال بعضهم: المراد بالتين والزيتون: منابتهما. فالتين: دمشق. والزيتون: بيت المقدس. وقيل: «التين والزيتون»: إشارة إلى نبوة عيسى «وطور سينين» إشارة إلى نبوة موسى عليهما السلام. و «البلد الأمين» إشارة إلى نبوة محمد

4

{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} في أحسن تصوير؛ حيث خلقه تعالى مستوي القامة، متناسب الأعضاء، متصفاً بالعلم والفهم

5

{ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} -[756]- أي حيث إنه لم يشكر نعمة خلقنا له في أحسن تقويم، ولم يستعمل ما خصصناه به من المزايا في طاعتنا ومرضاتنا: سنرده في أسفل سافلين؛ وهي جهنم. نعوذ ب الله تعالى منها. ويحتمل أن يكون المعنى: رددناه إلى الكبر والهرم؛ اللذين هما مظهر الضعف والخرف. والمعنى الأول أدق؛ لقوله تعالى:

6

{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي غير مقطوع؛ وهو الجنة وليس بمعقول أن يكون المعنى: «إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات» فلن يكبروا، ولن يهرموا

7

{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} الخطاب للإنسان - على طريقة الالتفات - أي فما سبب تكذيبك بالبعث والجزاء؛ بعد هذا التبيين، وبعد وضوح الأدلة والبراهين؟

8

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} أي ليس الذي خلق التين والزيتون، وكلم موسى على طور سينين، وأنشأ البلد الأمين، وخلق الإنسان في أحسن تقويم، وجعل النعيم والجحيم؛ فأدخل المؤمن في نعيمه، وأصلى الكافر في جحيمه؛ أليس ذلك بأحكم الحاكمين: صنعاً، وتدبيراً، وعدلاً؟

سورة العلق

سورة العلق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي اقرأ مبتدئاً باسم ربك. صح في الأخبار أن النبي نزل عليه الملك جبريل - أول نزوله عليه - وقال له: «اقرأ» فقال: ما أنا بقارىء فأخذه فغطه - حتى بلغ منه الجهد - ثم أرسله فقال له: «اقرأ» قال: ما أنا بقارىء. فغطه الثانية - حتى بلغ منه الجهد - ثم أرسله فقال له «اقرأ» قال: ما أنا بقارىء، فغطه الثالثة - حتى بلغ منه الجهد - فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} حتى بلغ «علم الإنسان ما لم يعلم» وهذا أول خطاب إلهي وجه إلى النبي صلوات الله وتعالى وسلامه عليه؛ أما بقية السورة فمتأخر النزول

2

{خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} العلق: ديدان صغيرة؛ يؤيده ما أثبته العلم الحديث من احتواء المني على حييوانات صغيرة لا ترى إلا بالميكروسكوب

3

{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} الذي لا يداني كرمه كرم

4

{الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} أرشد، ووفق إلى الكتابة به؛ وفي هذا تنبيه على فضل علم الكتابة؛ فما دونت العلوم، ولا ضبطت كتب الله تعالى المنزلة إلا بالكتابة؛ ولولاها لما استقامت أمور الدين والدنيا

5

{عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} أي علمه ما لم يكن يعلم، أو علمه ما لا يستطيع علمه بقواه البشرية؛ وإن من ينظر إلى الكهرباء، واللاسلكي، والرادار، والصواريخ الموجهة، والطائرات، والغواصات، وغير ذلك من خوارق الصناعات والمعلومات: يعلم حق العلم أن العقل البشري - مهما سما وعلا - ما كان ليستطيع أن يبلغ ما بلغ؛ بغير إلهام -[757]- وتعليم من الله تعالى (انظر آية 22 من سورة الروم)

6

{كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} أي ليتجاوز الحد؛ فتطمح نفسه إلى نيل ما لم ينل، ويتطلع ببصره إلى السماء؛ متخطياً ما رسمه الله تعالى له في الكون، خارجاً على سنن الطبيعة التي أوجدها الله؛ راغباً بلوغ الكواكب؛ وما هو ببالغها

7

{أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} أي أن رأى نفسه غنياً بالمال، الذي رزقه الله ليتصدق به، متسلحاً بالعلم؛ الذي وهبه الله ليفيد به، ويستفيد منه

8

{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} المرجع؛ فيجازي الكافر على كفرانه، والطاغي على طغيانه

9

{أَرَأَيْتَ} أيها السامع؛ وهي للتعجب في مواضعها الثلاثة من هذه السورة {الَّذِي يَنْهَى *

10

عَبْداً إِذَا صَلَّى} كأنه تعالى يقول: ما أسخف عقل من يطغى به الكبر والكفر؛ فينهى عبداً من عبيد الله تعالى عن صلاته قيل: إن أبا جهل قال في ملإ من قريش: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن عنقه. وكان يصلي مرة فألقوا عليه - حين سجد - سلا جزور، وكثيراً ما كانوا يتحينون صلاته؛ فيخصونه بصنوف من الإيذاء، وضروب من الاستهزاء

11

{أَرَأَيْتَ إِن كَانَ} هذا المصلي {عَلَى الْهُدَى *

12

أَوْ أَمَرَ} الذي ينهاه {بِالتَّقْوَى} أي أمره باتقاء الله تعالى وخشيته فيما يفعل. وقيل: «أرأيت» ذلك الناهي «إن كان على الهدى» فيما ينهى عنه من عبادة الله، أو كان آمراً بالمعروف والتقوى؛ فيما يأمر به من عبادة الأوثان؛ كما يعتقد

13

{أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي إن كان على التكذيب للحق، والتولي عن الدين الصحيح

14

{أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} كل هذا فيجازيه عليه

15

{كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ} عما يفعل {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} لنأخذن بناصيته، ولنسحبنه بها إلى النار. والناصية: شعر مقدم الرأس

16

{نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} وصف الناصية بذلك مجازاً، وأراد به صاحبها

17

{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أي ليدع أهل ناديه؛ وهم خلانه وأصدقاءه؛ الذين يجلسون معه في ناديه؛ وكان - في دنياه - يعتز بقوتهم، ويتطاول بشوكتهم. والنادي والندى: المجلس الذي يجلس فيه القوم؛ ويسمع بعضهم فيه نداء بعض. والمعنى: ليدع اليوم من كان يستنصر بهم في الدنيا؛ فإنهم لن يستجيبوا لدعائه، ولا لندائه، ولن يسمعوه، وإن سمعوه فلن يستطيعوا نصرته

18

{سَنَدْعُو الزَّبَانِيَةَ} ملائكة العذاب؛ فنقول لهم: «خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه» و «الزبانية» الشرطة؛ أطلقت على ملائكة العذاب؛ لأن الشرطة يدفعون بالمجرمين إلى السجون، وملائكة العذاب يدفعون بالكافرين إلى النار

19

{كَلاَّ} ردع وزجر لذلك العاتي الطاغي: الناهي عن الصلاة، وعن عبادة الله وردع عن طاعته واتباعه -[758]- {لاَ تُطِعْهُ} في ترك الصلاة {وَاسْجُدْ} لله؛ وداوم عليها {وَاقْتَرِب} وتقرب إلى ربك بالسجود؛ فإن «أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد»

سورة القدر

سورة القدر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} أي القرآن: نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا؛ وكان ذلك {فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أي في ليلة تقدير الأمور وقضائها؛ كقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وقيل: سميت بذلك؛ لشرفها وفضلها على سائر الليالي؛ وهي في العشر الأواخر من رمضان، ويرجح أن تكون في ليلة السابع والعشرين منه

2

{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} تفخيم لها، وتعظيم لشأنها

3

{لَيْلَةِ الْقَدْرِ} في العظمة والشرف {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} فالعبادة فيها: تفضل العبادة في غيرها بأكثر من ثلاثين ألف ضعف

4

{تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ} تنزل إلى السماء الدنيا، أو إلى الأرض {وَالرُّوحُ} جبريل عليه السلام. وخص بالذكر: لأنه النازل بالذكر. وقيل: «الروح» طائفة من الملائكة؛ حفظة عليهم، كما أن الملائكة حفظة علينا {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} {بِإِذْنِ رَبِّهِم} بأمره وإرادته {مِّن كُلِّ أَمْرٍ} أي تنزل الملائكة لأجل كل أمر قضاه الله تعالى على مخلوقاته لتلك السنة

5

{سَلاَمٌ هِيَ} أي لا يقدر الله تعالى فيها للمؤمنين المتقين إلا الأمن والسلامة {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} وبه يكون انتهاء الليلة. أو المراد بالسلام: ما يحدث في هذه الليلة المباركة من كثرة تسليم الملائكة على المؤمنين.

سورة البينة

سورة البينة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} اليهود والنصارى؛ وكفرهم: تكذيبهم بمحمد عليه الصلاة والسلام {وَالْمُشْرِكِينَ} عبدة الأصنام والأوثان {مُنفَكِّينَ} منفصلين عن الكفر، تاركين له {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} الحجة الواضحة؛ وهي الرسول عليه الصلاة والسلام؛ الذي ذكر في كتبهم

2

{رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} هي القرآن

3

{فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أي في هذه الصحف مكتوبات مستقيمة، ناطقة بالحق والعدل

5

{حُنَفَآءَ} مؤمنين {وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} الملة المستقيمة

7

{الْبَرِيَّةِ} الخليقة

8

{جَنَّاتُ عَدْنٍ} جنات الإقامة -[759]- من عدن في المكان: إذا أقام فيه {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} خلوداً دائماً؛ لا يخرجون منها {رِّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ} بقبول أعمالهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} بثوابها (انظر آية 22 من سورة المجادلة).

سورة الزلزلة

سورة الزلزلة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} أي حركت واضطربت اضطراباً شديداً؛ لقيام الساعة

2

{وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} ما في جوفها من الموتى، والكنوز

3

{وَقَالَ الإِنسَانُ} الكافر {مَا لَهَا} يقول ذلك مستغرباً؛ لأنه لا يؤمن بالبعث. أما المؤمن فيقول: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}

4

{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} ينطقها الله تعالى - الذي أنطق كل شيء - فتشهد على كل واحد بما عمل على ظهرها؛ وذلك

5

{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} أي إن نطقها هذا بوحي منه تعالى

6

{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} متفرقين {لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ} أي ليروا جزاء أعمالهم

7

{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ} وزن {ذَرَّةٍ} الذرة: النملة الصغيرة التي تذروها الرياح. وهومثل للصغر والقلة {خَيْراً يَرَهُ} أي يرى ثوابه

8

{وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} أي يرى عقابه.

سورة العاديات

سورة العاديات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} الخيل التي تجري، فتضبح. والضبح: صوت أنفاسها عند عدوها

2

{فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً} التي تورى النار، وتقدحها بحوافرها. وهذا مشاهد عند جري الخيل؛ حين تصطدم حوافرها بقطع الصخر؛ فتقدح شرراً

3

{فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً} التي تغير على العدو صباحاً

4

{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} أي فهيجن بوقت الصبح غباراً

5

{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} أي توسطن بهذا الوقت جموع الأعداء. أقسم تعالى بالخيل الجياد، التي تغدو للجهاد؛ فتعدو فتورى النار، وتقدحها بحوافرها؛ لقوتها وشدة بأسها، فتغير على الأعداء، وتنزل بهم صنوف البلاء، وتثير الغبار، وتتوسط الجموع. وذلك للإشعار بعلو مرتبة الخيل، والحض على اقتنائها والاعتناء بشأنها ولا يخفى ما يترتب على ذلك من تعلم الفروسية، وإعداد العدة، وأخذ الأهبة للحرب والجهاد في سبيل الله تعالى

6

{إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} أي الكفور بأنعمه

7

{وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ} أي وإن الإنسان على كفره هذا وكنوده {لَشَهِيدٌ} يشهد على نفسه بكفر النعمة؛ -[760]- حيث يظهر أثر ذلك عليه؛ فهو دائماً يشكو من الله ولا يشكره على أنعمه

8

{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} المال {لَشَدِيدٌ} أي لأجل حبه للمال لبخيل ممسك

9

{أَفَلاَ يَعْلَمُ} ذلك الكنود الكفور ما يحل به {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} بعث ما فيها من الموتى

10

{وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} أي أخرج، وعلم ما فيها: من كفر وإيمان، وطاعة وعصيان، وشح وكرم

11

{إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ} وبما في قلوبهم {لَّخَبِيرٌ} فيجازيهم على ما قدموا: من خير أو شر.

سورة القارعة

سورة القارعة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{الْقَارِعَةُ} القيامة؛ وسميت قارعة: لأنها تقرع القلوب بأهوالها

3

{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} تهويل لشأنها

4

{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} الفراش: هو الطائر الصغير الدقيق؛ الذي يتطاير حول النار. أو هو الجراد الصغير. وقد شبههم تعالى بالفراش؛ لكثرتهم وانتشارهم وضعفهم وذلهم، و «المبثوث» المتفرق المنتشر

5

{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} كالصوف المنتثر المتطاير؛ كقوله تعالى: {فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً}

6

{فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي زادت حسناته على سيئاته

8

{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي نقصت حسناته عن سيئاته، أو لم تكن له حسنات يعتد بها؛ كمن يتصنع الكرم مباهاة، أو العبادة رياء

9

{فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} أي فمأواه النار. ويقال للمأوى: أم؛ لأن الأم: مأوى الولد ومفزعه.

سورة التكاثر

سورة التكاثر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ} شغلكم التفاخر بالأموال والأولاد؛ عن طاعة الله

2

{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أي شغلكم جمع المال، عن المآل؛ حتى أدرككم الموت، ودفنتم في المقابر. وقيل: «حتى زرتم المقابر» معددين سجايا آباءكم وأجدادكم

3

{كَلاَّ} ردع عن التكاثر والتفاخر {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة تكاثركم وتفاخركم

4

{ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} تكرير للتأكيد مما سوف يعلمونه، وأنه حاصل لا محالة

5

{كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} أي لو علمتم العلم الحقيقي، وتدبرتم وتفكرتم؛

6

لعرفتم الجحيم، ولخفتموها كأنكم ترونها. وذلك كقوله عليه الصلاة والسلام: «أن تعبد الله كأنك تراه»

7

{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} أي ثم ترونها يقيناً يوم القيامة

8

أي تحاسبون وتؤاخذون على التنعم الذي شغلكم عن الطاعة ولم تقوموا بشكره

سورة العصر

سورة العصر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{وَالْعَصْرِ} أي والدهر. أقسم الله تعالى بالدهر لنتخذ من التاريخ عظة وعبرة؛ فنعلم أن الرومان أهلكهم الترف، وأطاح بملكهم الفجور والخمور. وأن الفراعنة: أهلكهم الكفر والكبر. وأن كثيراً ممن سبقنا من الأمم {نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} وأن البقاء دائماً للأصلح، و {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}. هذا وقد يكون المراد بالعصر: صلاة العصر؛ لفضلها، أو لكونها الصلاة الوسطى

2

{إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ} أي لفي خسران؛ لأنه يفضل العاجلة على الآجلة؛ في حين أنه - فيما يتعلق بالدنيا - بفضل الآجلة على العاجلة: فكم أقرض محتاجاً رغبة في الربا لأنه مطمئن لصدق مقرضه وملاءته. أما وعد الإله - الغني القدير - بالجزاء؛ فليس في حسبانه، ولا يدخل في مجال اليقين لديه؛ فبئست التجارة تجارته؛ وهو في خسران أبد الدهر

3

{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} بالله تعالى، وصدقوا برسله وكتبه، وبوعده ووعيده {وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ} أي أوصى بعضهم بعضاً بالحق الذي شرعه الله تعالى وأمر به. والحق: الخير كله؛ من توحيد الله تعالى، وطاعته، واتباع ما أمر به واجتناب ما نهى عنه {وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} على الشدائد والمصائب، والصبر على الطاعات، وعن المعاصي.

سورة الهمزة

سورة الهمزة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} وهو الذي يغتاب الناس، ويطعن في أعراضهم. والهمز: الغمز والضغط، والنخس. واللمز: العيب، والإشارة بالعين

2

{الَّذِى جَمَعَ مَالاً} كثيراً؛ لأن القليل: لا يسمى جمعاً {وَعَدَّدَهُ} أحصاه، أو جعله عدة لنوائب الدهر

3

{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} أي يظن أن سعة ماله تخلده في الدنيا؛ فلا يموت. أو تخلده في الغنى والنعيم؛ فلا يساق إلى الجحيم

4

{كَلاَّ} ردع عن ذلك {لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} أي ليطرحن في النار. وسميت حطمة: لأنها تحطم كل شيء

5

{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} تهويل لشأنها، وتعظيم لأمرها

6

{نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} جهنم أعاذنا الله تعالى منها

7

{الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ} أي تحرق قلوب الكافرين. وخص الأفئدة بالذكر: لأنها مكان الكفر، وموطن النفاق. ولأنها أيضاً لا شيء في البدن أشرف منها، ولا أشد تألماً

8

{إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} -[762]- مطبقة مغلقة. من آصد الباب: إذا أغلقه

9

{فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} أي إنهم بعد إطباق أبواب جهنم عليهم: تمدد عليها العمد. وذلك لتأكيد يأسهم من الخروج. أو المراد أنهم مربوطون في العمد بالسلاسل والأغلال

سورة الفيل

سورة الفيل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} وهم قوم أبرهة. روي أن أبرهةبن الصباح، ملك اليمن: بنى كنيسة بصنعاء، وأراد أن يصرف إليها الحاج عن مكة؛ فجاء رجل من كنانة فلطخ قبلتها بالعذرة - احتقاراً لها - فحلف أبرهة ليهدمن الكعبة. وجاء مكة بجيش له جرار تحمله الفيلة. ولذلك سماهم الله تعالى أصحاب الفيل. قيل: إن عبد المطلب - سيد قريش، وجد الرسول عليه الصلاة والسلام - أصاب جيش أبرهة من ماله مائتي بعير؛ فاستأذن على أبرهة فأذن له، وقال أبرهة لترجمانه: سله عن حاجته، فقال: أن ترد إبلي. فقال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني في مائتي بعير أصابها جيشي، وتترك بيتاً هو دينك، ودين آبائك؛ فلا تكلمني فيه فقال عبد المطلب: إني رب الإبل، وإن للبيت رباً سيمنعه. قال: ما كان ليمنع مني. قال عبد المطلب: أنت وذاك. فرد عليه الإبل. وبعد ذلك تحرزوا في شعف الجبال خوفاً من فتك أبرهة. وقام عبد المطلب آخذاً بحلقة باب الكعبة مبتهلاً إلى الله تعالى بقوله: لاهم إن المرء يمـ ـنع رحله فامنع حلالك وانصر على آل الصليـ ـب وعابديه اليوم آلك لا يغلبن صليبهم ومحالهم عدواً محالك جروا جموع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك عمدوا حماك بكيدهم جهلاً وما رقبوا جلالك إن كنت تاركهم وكعـ ـبتنا فأمر ما بدا لك

2

{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} في تضييع وإبطال. أي أبطل كيدهم الذي جاءوا من أجله

3

{وَأَرْسَلَ -[763]- عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} أي جماعات من الطيور

4

{تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ} أي من طين متحجر. أو المراد إنها حجارة من جهنم؛ لقوة بأسها، وشدة عذابها. ولعله من السجل: وهو النصيب. أي إن كل حجر منها من نصيب رجل منهم

5

{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} العصف: ورق الشجر الذي يجف، وتعصف به الريح. والمأكول: الذي أكله السوس، أو أكل الدواب بعضه، وتناثر بعضه. وقيل: إن الطير الأبابيل: هي ميكروبات الأمراض، وإنه قد تفشى فيهم مرض الجدري؛ بدرجة يندر وقوع مثلها؛ فكان لحمهم يتساقط؛ حتى هلكوا عن آخرهم. ولا حرج من تمثيل الميكروب بالطير؛ لحمل الهواء له، وكثرة تنقله.

سورة قريش

سورة قريش بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} أي لأجل تأليف قريش، وإذهاب عداواتهم وأضغانهم

2 - 3

{إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} أي «فليعبدوا رب هذا البيت» الذي ألف بين قلوبهم في رحلة الشتاء والصيف. وكانت لهم رحلة في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام للتجارة. وكانوا في رحلتيهم آمنين لا يتعرض لهم أحد. وقيل: المعنى متصل بما قبله في الصورة السابقة. أي «فجعلهم كعصف مأكول، فليعبدوا رب هذا البيت» الذي حماه من المغيرين، وأهلك المعتدين، ولا يتشاغلوا عنه تعالى بأنعمه، ولا يجعلوا كفره مكان شكره. وهو جل شأنه

4

{الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ} أي بعد جوع {وَآمَنَهُم} أمنهم {مِّنْ خَوْفٍ} بعد خوف. قال تعالى: «واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات».

سورة الماعون

سورة الماعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} أي هل عرفت الذي يكذب بالبعث والجزاء

2

{فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} أي يدفعه بعنف، ويرده بزجر وخشونة

3

{وَلاَ يَحُضُّ} لا يحث نفسه، ولا غيره {عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} المحتاج للطعام؛ وذلك لأن من شأنه التكذيب بالبعث والجزاء: لا يبالي بما يفعل؛ أحراماً كان أم حلالاً؟ ما دام في ذلك تحقيق لرغبته، وإرضاء لنزوته؛ وما دام يعتقد ألا معقب على فعله، ولا محاسب على جرمه

4

{فَوَيْلٌ} شدة عذاب؛ أو هو واد في جهنم

5

{الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} أي يؤخرونها -[764]- عن وقتها؛ فما بالك بمن لا يأتيها أصلاً

6

{الَّذِينَ هُمْ} إذا صلوا {يُرَآءُونَ} أي يصلون أمام الناس رياء؛ ليقال: إنهم صلحاء، ويتخشعون ليقال: إنهم أتقياء، ويتصدقون ليقال: إنهم كرماء

7

{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} وهو كل ما يستعان به؛ كالإبرة، والفأس، والقدر، والماء، والملح، ونحو ذلك.

سورة الكوثر

سورة الكوثر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} الخير الكثير و «الكوثر» من الرجال: السيد الكثير الخير. وقيل: «الكوثر» نهر في الجنة

2

{فَصَلِّ لِرَبِّكَ} صلاة عيد الأضحى {وَانْحَرْ} أضحيتك. وقيل: كل صلاة، وكل نحر

3

{إِنَّ شَانِئَكَ} أي مبغضك {هُوَ الأَبْتَرُ} المنقطع عن كل خير. قيل: نزلت في العاص بن وائل؛ حيث سمى الرسول عليه الصلاة والسلام: أبتر عند موت ابنه القاسم. وكيف يكون أبتر من التحق بنسبه سائر المؤمنين؟

سورة الكافرون

سورة الكافرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

2

{لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} لأن إلهكم الذي تدعونه يلد، وإلهي لا يلد

3

{وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} لأن إلهي يأمركم باتباعي فلم تتبعوني؛ فإذاً أنتم لا تعبدونه

4

{وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي ولا أنا بعابد عبادتكم

5

{وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} أي ولا أنتم عابدون عبادتي. ومعنى الجملتين الأوليين: الاختلاف التام في المعبود، والجملتين الآخرتين: الاختلاف التام في العبادة. أي لا معبودنا واحد، ولا عبادتنا واحدة

6

{لَكُمْ دِينُكُمْ} لكم شرككم {وَلِيَ دِينِ} ولي توحيدي.

سورة النصر

سورة النصر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} هو فتح مكة، أو هو الفرج، وتنفيس الكرب

2

{وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} أي جماعات وذلك بعد فتح مكة: صارت العرب تأتي من أقطار الأرض؛ طائعة للرسول، مختارة لدينه

3

{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا} وقد كان - بعد نزولها - يكثر من قول «سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه».

سورة المسد

سورة المسد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{تَبَّتْ} أي هلكت {يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} وهو عم الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ وسبب ذلك أن الرسول عليه السلام لما دعا قومه للإسلام، وقال لهم: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} فقال أبو لهب: تباً لك، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت هذه السورة؛ دعاءًا عليه بمثل ما دعا به على الرسول {وَتَبَّ} أي وقد كان ذلك وحصل، يؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «وقد تب»

2

{مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} أي لم يفده ماله الذي جمعه، ولا عمله الذي اكتسبه

3

{سَيَصْلَى} سيدخل {نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} هي جهنم أعاذنا الله تعالى منها وقد كانت تمشي في القوم بالنميمة، ويعبر عن الواشي بحمال الحطب في لغة العرب؛ قال الشاعر: إن بني الأدرم حمالوا الحطب هم الوشاة في الرضاء والغضب وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أنها كانت تحمل الحطب حقيقة، لتضعه في طريق رسولالله؛ وهو بعيد؛ لأنها كانت موسرة ذات خدم وحشم، فلا تعدم خادماً يقوم لها بما تريد: من إذاية الرسول، ووضع الحطب في طريقه

5

{فِي جِيدِهَا} في عنقها يوم القيامة {حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} المسد: الذي فتل من الحبال فتلاً شديداً، من ليف وجلد وغيرهما. وليس كحبال الدنيا، كما أن النار ليست كنار الدنيا، وإنما هو على سبيل التمثيل.

سورة الإخلاص

سورة الإخلاص بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لا رب غيره، ولا معبود سواه

2

{اللَّهُ الصَّمَدُ} الذي يحتاج إليه كل مخلوق، ولا يحتاج إلى أحد

3

{لَمْ يَلِدْ} لأنه لا يجانسه أحد؛ فيتخذ من جنسه صاحبة فيتوالدا {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ} {وَلَمْ يُولَدْ} لأن كل مولود: حادث. وهو جل شأنه قديم؛ لا أول لوجوده. ولو كان حادثاً لافتقر إلى محدث؛ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً

4

{وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} أي لا يماثله أحد.

سورة الفلق

سورة الفلق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلق: الصبح

2

{مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} من شر كل شيء خلقه؛ كنار، -[766]- وشيطان، وحية، وعقرب، وغير ذلك

3

{وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} قيل: إنه الليل إذا دخل؛ لما يتبع ذلك من الشرور، والإجرام، والفتك. وقيل: إنه الثريا إذا سقطت؛ لما يتبع سقوطها من الأسقام والطواعين. أو هو القمر إذا انخسف؛ لأنه من علائم الجدب والقحط، أو انخسافه يوم القيامة؛ حيث لا يوجد على ظهرها مؤمن. وقيل: الغاسق إذا وقب: الأير إذا قام؛ وكم في ذلك من بلاء كبير، وشر مستطير وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما

4

{وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} المراد هنا: النمامون، الذين يقطعون روابط الألفة، وحبال المحبة؛ بما ينفثونه من سموم نمائمهم. شبههم تعالى بالسحرة المشعوذين؛ الذين إذا أرادوا أن يحلوا عقدة المحبة بين الرجل وزوجه: عقدوا عقدة ثم نفثوا فيها وحلوها؛ ليكون ذلك حلاً للعقدة التي بين الزوجين، أو بين المتحابين. والنميمة تشبه أن تكون ضرباً من ضروب السحر؛ لأنها تحول ما بين الصديقين من محبة إلى عداوة ولما كانت النميمة على هذا الجانب العظيم من الخطورة: علمنا الله تعالى أن نلجأ إليه، ونعوذ به منها. أما ما رواه بعض المحرفين المخرفين - في تأويل هذه الآية - من أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد سحره لبيد بن الأعصم، وقد أثر سحره فيه؛ حتى أنه كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء وهو لا يأتيه؛ فهو باطل مردود ممجوج؛ إذ ما أشبه هذا بقول المشركين فيه: «إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً» ولا يبعد أن من خولط في عقله بدرجة أنه كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء وهو لا يأتيه: أن يخيل إليه أيضاً أنه يوحى إليه، ولم يوح إليه، أو أنه قد بلغ ما أوحي إليه ولم يبلغ وفضلاً عن هذا فإن هذه السورة مقطوع بمكيتها، وما يزعمونه من السحر يقولون: إنه وقع بالمدينة. وبالجملة فإن هذا واضح البطلان، بادي الخسران لا يلتفت إليه، ولا يعول عليه

5

{وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} الحاسد: الذي يتمنى زوال نعمة الغير؛ ومن طبيعة الذي يتمنى زوال النعمة: أن يجتهد في إيصال الأذى، وتدبير المكائد؛ بكافة الوسائل، وسائر السبل. وجدير بمن هذا شأنه أن يلجأ الإنسان منه إلى قوة عظيمة يستعين بها على دفع أذاه؛ ومن أعظم من الله في دفع الأذى، وحماية من يحتمي به؟ أما ما يروونه في الحسد من أنه هو التأثير بنفس العين المجردة، فهذا ما لا أظنه ولا أعتقده - رغم تواتره، وكثرة وقوعه - وقد يكون من بعض الخرافات السائدة. وقد يؤثر السحر على بعض النفوس الضعيفة القلقة.

سورة الناس

سورة الناس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ألجأ إليه وأستعين به. ورب الناس: مربيهم

2

{مَلِكِ النَّاسِ} الذي يحكمهم، ويرعى مصالحهم، ويضبط أعمالهم، ويدبر شؤونهم

3

{إِلَهِ النَّاسِ} معبودهم، الذي لا إله غيره

4

{مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ} الذي يلقي حديث السوء في النفس؛ وهو الشيطان {الْخَنَّاسِ} الذي يوسوس إلى الإنسان؛ فإن لم يجد عنده استعداداً لوسوسته: رجع عنها وأعاد الكرة ثانية بعد برهة. وهو من خنس: إذا رجع

6

{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} أي إن الشياطين قسمان: من الجن، ومن الإنس، ولا شك أن شياطين الإنس أشد فتكاً وخطراً من شياطين الجن. (أنظر آيتي 112 من سورة الأنعام، و29 من فصلت).

§1/1