أهمية العناية بالتفسير والحديث والفقه

عبد المحسن العباد

العلم الممدوح في الكتاب والسنة والعلم الشرعي

العلم الممدوح في الكتاب والسنة والعلم الشرعي ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، قيوم السموات والأرضين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد، فإن العلم المحمود المُثنى عليه وعلى أهله في الكتاب والسّنّة علم الشريعة، التي بعث الله بها رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، فكل ما جاء في كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم من مدح للعلم وثناء على حملته إنما يراد به هذا العلم الشرعي، علم الكتاب والسّنّة والفقه في الدين.

ومما جاء في كتاب الله قول الله عزّ وجلّ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] ، وقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] ، وقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] ، وقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ، وقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] . ومن سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهّل الله له به طريقاً إلى الجنّة" أخرجه مسلم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله عزّ وجلّ به طريقاً من طرق الجنّة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان

في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر" وهو حديث حسن رواه أبو داود (3641) و (3642) ، والترمذي (2682) ، وابن ماجه (223) ، وغيرهم عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وقد شرحه الحافظ ابن رجب في جزء. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلاّ من ثلاثة، إلاّ من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

مدار العلم الشرعي علي التفسير والحديث والفقه

مدار العلم الشرعي علي التفسير والحديث والفقه ... وأصول هذا العلم ترجع إلى التفسير والحديث والفقه، وقد بدأ البخاري كتاب العلم من صحيحه بباب فضل العلم وقول الله تعالى {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ

خَبِيرٌ} ، وقوله عزّ وجلّ: {رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} ، قال الحافظ في شرحه فتح الباري (1/141) في معنى الآية الأولى: "قيل في تفسيرها: يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم"، وقال في الآية الثانية: قوله: "وقوله عزّ وجلّ: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} واضح الدلالة في فضل العلم؛ لأن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء إلاّ من العلم، والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه، وقد ضرب هذا الجامع الصحيح في كل من الأنواع الثلاثة بنصيب". وتتّضح أهمية العناية بهذه العلوم الثلاثة التي عليها مدار العلم الشرعي، وهي التفسير والحديث والفقه بما يلي:

أهمية العناية بالتفسير

أهمية العناية بالتفسير ... أما التفسير فلتوضيحه معاني كلام الله عزّ وجلّ، واشتماله على نتائج التدبر لآياته، قال الله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] ، وقال: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45] ، وقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] ، وروى البخاري في صحيحه (5027) عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلّمه"، وروى مسلم في صحيحه (817) عن عامر بن واثلة: أن نافع ابن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: مَن استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومَن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟! قال: إنه قارىء لكتاب الله عزّ وجلّ، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن الله يرفع

بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين". وفي صحيح مسلم أيضاً (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الطهور شطر الإيمان" وفي آخره: "والقرآن حجّة لك أو عليك". وخير ما يفسّر به القرآن القرآن، ثم سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم كلام السلف من الصحابة والتابعين بإحسان، وأهم الكتب في ذلك: تفسير الإمام محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة (310هـ) ، وتفسير الحسين بن مسعود البغوي المتوفى سنة (516هـ) ، وتفسير إسماعيل بن كثير المتوفى سنة (774هـ) ، وكتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لشيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي المتوفى سنة (1393هـ) .

أهمية العناية بالحديث

أهمية العناية بالحديث ... وأما الحديث ـ وهو مرادف للسّنّة عند عطفها على الكتاب ـ فهو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو

فعل أو تقرير أو وصف خُلُقي أو خَلْقي، وهو وحي من الله أوحاه الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عزّ وجلّ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] ، وفي صحيح البخاري (1454) كتاب أبي بكر إلى أنس الطويل في بيان فرائض الصدقة، وفي أوله قال: "هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله"، وروى مسلم في صحيحه (1885) عن أبي قتادة أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام فيهم، فذكر لهم: "أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت إن قتلتُ في سبيل الله تكفَّر عنّي خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم! إن قتلتَ في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، إلاّ الدَّين؛ فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك" ورواه النسائي (3155) عن أبي هريرة، وفي

آخره: "نعم! إلاّ الدَّين، سارَّني به جبريل آنفاً"، وفي صحيح البخاري (1789) ومسلم (1180) عن يعلى ابن أمية في قصّة الرجل الذي عليه جبّة وهو متضمخ بالخلوق، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة: "كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ " فنزل عليه الوحي، وفي آخر الحديث: "فلما سُرِّي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أين السائل عن العمرة؟ اخلع عنك الجبّة، واغسل أثر الخلوق منك، وأنق الصفرة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجّك" والعمل بالسّنّة والحديث لازم كالعمل بالقرآن، قال الله عزّ وجلّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] ، وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59] ،وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ

وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] ، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] . وتتبين أهمية العناية بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنّته في قوله صلى الله عليه وسلم: "نضّر الله امرءاً سمع منّا حديثاً فحفظه حتى يبلّغه، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" رواه أبو داود (3660) وهذا لفظه، والترمذي (2656) ، وابن ماجه (230) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، وهو حديث متواتر، جاء عن أكثر من عشرين صحابياً، ذكرت رواياتهم وما اشتمل عليه من الفقه في كتابي" دراسة حديث نضّر الله امرءاً سمع مقالتي رواية ودراية"، وفي هذا الحديث بيان فضل من اشتغل بسنّة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة العظيمة، وقال العرباض بن سارية رضي الله عنه: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، قال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودّع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء المهديين الراشدين تمسّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" رواه أبو داود (4607) ـ وهذا لفظه ـ والترمذي (2676) ، وابن ماجه (43-44) ، وقال الترمذي: ((حديث حسن صحيح)) ، وروى مسلم في صحيحه (867) عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب يوم الجمعة قال:" أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن رغب عن سنّتي فليس منّي" رواه

البخاري (5063) ومسلم (1401) ، وروى البخاري في صحيحه (7280) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمّتي يدخلون الجنّة إلاّ مَن أبى، قالوا: يا رسول الله! ومَن يأبى؟ قال: مَن أطاعني دخل الجنّة، ومَن عصاني فقد أبى". وأهم الكتب المؤلفة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتب السّتّة وهي: صحيح الإمام البخاري المتوفى سنة (256هـ) ، وصحيح الإمام مسلم المتوفى سنة (261هـ) ، وسنن أبي داود المتوفى سنة (275هـ) ، وسنن الترمذي المتوفى سنة (279هـ) ، وسنن النسائي المتوفى سنة (303هـ) ، وسنن ابن ماجه المتوفى (273هـ) ، وقد لقيَت هذه الكتب من العلماء عناية خاصة، وكتبتُ في ذلك رسالة مختصرة بعنوان: "كيف نستفيد من الكتب الحديثية السّتّة"، ذكرت فيها جملة من كلامهم وجهودهم في هذه الكتب.

والكتب المؤلفة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة جدّاً، ومن أشهرها سوى ما تقدّم: موطّأ الإمام مالك، وسنن الدارمي ومسند الإمام أحمد.

أهمية العناية بالفقه

أهمية العناية بالفقه ... وأما الفقه فهو استنباط الأحكام من أدلة الكتاب والسّنّة، وقد اعتنى بذلك المفسرون وشرّاح الحديث، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" رواه البخاري (71) ومسلم (1037) من حديث معاوية رضي الله عنه، وهو يدل على أن من علامة إرادة الله عزّ وجلّ الخير بالعبد أن يفقهه في الدين؛ لأنه إذا فقه في دين الله يعبد الله على بصيرة، ويدعو غيره إلى الحق والهدى على بصيرة، وروى البخاري (3353) ومسلم (2378) عن أبي هريرة رضي الله عنه: "قيل يا رسول الله! مَن أكرم الناس؟ قال: أتقاهم، فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن

معادن العرب تسألون؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"، وهذا الحديث دال على أن من كان خياراً في الجاهلية لما اتصف به من صفات حسنة وأخلاق كريمة ثم أسلم على هذه الصفات وفقه في دين الله، فإنه يكون جمع بين الشرف والسؤدد في الجاهلية والإسلام، قال النووي في شرح مسلم (15/135) : "ومعناه أن أصحاب المروءات ومكارم الأخلاق في الجاهلية إذا أسلموا وفقهوا، فهم خيار الناس، قال القاضي: وقد تضمّن الحديث في الأجوبة الثلاثة أن الكرم كله عمومه وخصوصه ومجمله ومبانه إنما هو الدين من التقوى والنبوة والإعراق فيها والإسلام مع الفقه، ومعنى معادن العرب أصولها، وفقهوا بضم القاف على المشهور، وحكي كسرها، أي صاروا فقهاء عالمين بالأحكام الشرعية الفقهية، والله أعلم"

وفي صحيح البخاري (79) ومسلم (2282) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"، والحديث يدل على أن الناس في الوحي ثلاثة أصناف: صنف فقه في دين الله فعلم وعلّم، وصنف حفظ ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فحصلت الفائدة والمنفعة من حفظه، وإلى هذين الصنفين الإشارة في حديث زيد بن ثابت المتقدّم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "نضّر الله امرءاً سمع منا

حديثاً فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"، وأما الصنف الثالث فهو الذي لم يحفظ ولم يفقه، فلم ينتفع ولم ينفع.

الفقه الفهم في الكتاب والسنة

الفقه الفهم في الكتاب والسّنّة والفقه في الدين هو الفهم في كتاب الله عزّ وجلّ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واستنباط الأحكام منهما، فأما الفهم في الكتاب العزيز، ففي صحيح البخاري (3047) عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قلت لعلي رضي الله عنه: "هل عندكم شيء من الوحي إلاّ ما في كتاب الله؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! ما أعلمه إلاّ فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر" ومن أمثلة فهم علي رضي الله عنه في كتاب الله استنباطه

من آيات البقرة ولقمان والأحقاف، أن أقلّ مدّة الحمل ستة أشهر، قال ابن كثير في تفسيره عند قوله في سورة الأحقاف: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} "وقد استدل علي رضي الله عنه بهذه الآية مع التي في لقمان: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} وقوله تبارك وتعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} على أن أقل مدّة الحمل ستّة أشهر، وهو استنباط قوي صحيح، ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم" ومن الفهم في كتاب الله استنباط شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله صحّة إمامة أبي بكر صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6-7] ، قال في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/36) : "يؤخذ من هذه

الآية الكريمة صحّة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأنه داخل فيمن أمرَنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم ـ أعني الفاتحة ـ بأن نسأله أن يهدينا صراطهم، فدلّ ذلك على أن صراطهم هو الصراط المستقيم، وذلك في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، وقد بيّن الذين أنعم عليهم فعدّ منهم الصديقين، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين، فاتّضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم الذين أمرَنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم، فلم يبق لبس في أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه على الصراط المستقيم، وأن إمامته حق" وكتابه أضواء البيان حافل بالأمثلة الكثيرة من الفهم في كتاب الله عزّ وجلّ. ومن الفهم في كتاب الله فهم عمر وابن عباس رضي الله عنهم من قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] ، قرب أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري في صحيحه (4294) عن ابن عباس قال:" كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لِمَ تُدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم، فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما أُريته دعاني يومئذ إلاّ ليريهم مني، فقال: ما تقولون في: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} ؟ حتى ختم السورة، فقال بعضهم: أُمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، ولم يقل بعضهم شيئاً، فقال لي: يا ابن عباس! أكذاك تقول. قلت: لا! قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلَمَه الله له {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فتح مكة، فذاك علامة أجلك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ

تَوَّاباً} قال عمر: ما أعلم منها إلاّ ما تعلم" ومن كتب التفسير التي عُنيت باستنباط الأحكام من القرآن، كتاب الجامع لأحكام القرآن للإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي المتوفى سنة (671هـ) ، ومما يُنَبَّه عليه أن لديه تخليطاً في صفات الله عزّ وجلّ، يتّضح ذلك بما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ، في سورة الأعراف. وأما الفهم في سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون باستنباط الأحكام الشرعية مما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم فكان من قبيل الصحيح أو الحسن، وأما الأحاديث الضعيفة التي لا تستفاد الأحكام إلاّ منها، فلا يعوَّل عليها، وإنما التعويل على ما ثبتت نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الأحاديث الصحيحة والأحاديث الحسنة. ومن أمثلة الاستنباط الدقيق من الحديث ما اشتملت عليه تراجم الإمام البخاري في صحيحه، من

فهم دقيق واستنباط عجيب، جعل كتابه كتاب رواية ودراية، جمع فيه بين الحديث والفقه، ومن أمثلة ذلك: ترجمة "باب صب النبي صلى الله عليه وسلم وَضوءه على مغمى عليه"، وأورد تحتها الحديث (194) عن جابر رضي الله عنه قال: "جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل، فتوضّأ وصبّ عليَّ من وَضوئه فعقلت، فقلت: يا رسول الله! لمن الميراث، إنما يرثني كلالة؟ فنزلت آية الفرائض" فتعبيره رحمه الله في الترجمة بـ "صب النبي صلى الله عليه وسلم وَضوءه على مغمى عليه" إشارة إلى أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ولهذا لم يقل: باب صب الإمام أو العالم أو الكبير أو الزائر وَضوءه على مغمى عليه. ومن ذلك ترجمة "باب إذا استأجر أجيراً ليعمل له بعد ثلاثة أيام أو بعد شهر أو بعد سنة جاز، وهما على شرطهما الذي اشترطاه إذا جاء الأجل"، وأورد تحتها حديث عائشة رضي الله عنها (2264) قالت: "واستأجر

رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً، وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث" وقد استنبط بهذه الترجمة من هذا الحديث أن وقت تنفيذ المعقود عليه يجوز أن يكون متراخياً عن وقت إبرام العقد. ومن الفهم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما استنبطه النسائي (7) من قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، فقال في الترجمة لهذا الحديث: "الرخصة في السواك بالعشي للصائم" والمراد أن الصائم يستاك في آخر النهار لأن صلاة العصر تكون فيه، خلافاً لمن قال بمنعه آخر النهار لأنه يُذهب الخلوف، وقد أثنى السندي على هذا الاستنباط، فقال في حاشيته على سنن النسائي: "ولا يخفى أن هذا من المصنف استنباط دقيق وتيقظ

عجيب، فلله درّه؛ ما أدقّ وأحدّ فهمه! " ومن الفهم الدقيق ما ذكره الحافظ في فتح الباري (1/54) عند شرح حديث: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، أخرجه البخاري (10) ومسلم (64) ، قال: "وخصّ اللسان بالذكر لأنه المعبّر عما في النفس، وهكذا اليد لأن أكثر الأفعال بها، والحديث عام بالنسبة إلى اللسان دون اليد؛ لأن اللسان يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بعد، بخلاف اليد، نعم! يمكن أن تشارك اللسان في ذلك بالكتابة وإن أثرها في ذلك لعظيم، ويستثنى من ذلك شرعاً تعاطي الضرب باليد في إقامة الحدود والتعا زير على المسلم المستحق لذلك، وفي التعبير باللسان دون القول نكتة، فيدخل فيه من أخرج لسانه على سبيل الاستهزاء، وفي ذكر اليد دون غيرها من الجوارح نكتة، فيدخل فيها اليد المعنوية كالاستيلاء

على حق الغير بغير حق". وقد اشتملت كتبُ الشروح الحديثية على إيراد الفوائد الفقهية المستنبطة من الأحاديث، فمستقل ومستكثر، ومن أهم الكتب التي عنيت بذلك فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني، وقد ذكر عند شرح حديث عتق بريرة رضي الله عنها (2563) جملة كبيرة من الفوائد المستنبطة منه، وقال (5/194) :" قال ابن بطّال: أكثرَ الناسُ في تخريج الوجوه في حديث بريرة حتى بلَّغوها نحو مائة وجه، وسيأتي الكثير منها في كتاب النكاح، وقال النووي: صنَّفَ فيه ابن خزيمة وابن جرير تصنيفين كبيرين، أكثرا فيهما من استنباط الفوائد، فذكرا أشياء، قلت: ولم أقف على تصنيف ابن خزيمة، ووقفت على كلام ابن جرير من كتابه تهذيب الآثار، ولخصت منه ما تيسر بعون الله تعالى، وقد بلَّغ بعض

المتأخرين الفوائد من حديث بريرة إلى أربعمائة أكثرها مستبعد متكلف، كما وقع نظير ذلك للذي صنَّف في الكلام على حديث المجامع في رمضان، فبلغ به ألف فائدة وفائدة". وذكر الحافظ ابن حجر أيضاً في شرح حديث أنس (6203) في قصّة أخيه أبي عمير الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا عمير! ما فعل النغير؟ " جملة كبيرة من الفوائد، بعضها من استنباطه، وبعضها من استنباط ابن القاص، قال (10/584) : "وفي هذا الحديث عدّة فوائد، جمعها أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري المعروف بابن القاص الفقيه الشافعي صاحب التصانيف في جزء مفرد، بعد أن أخرجه من وجهين عن شعبة عن أبي التياح، ومن وجهين عن حميد عن أنس، ومن طريق محمد بن سيرين، وقد جمعتُ في هذا الموضع طرقه وتتبّعت ما في رواية كل منهم من فائدة

زائدة، وذكر ابن القاص في أول كتابه أن بعض الناس عاب على أهل الحديث أنهم يروون أشياء لا فائدة فيها، ومثَّل ذلك بحديث أبي عمير هذا، قال: وما درى أن في هذا الحديث من وجوه الفقه وفنون الأدب والفائدة ستين وجهاً، ثم ساقها مبسوطة، فلخصتها مستوفياً مقاصده، ثم أتبعته بما تيسر من الزوائد عليه، فقال: ... "، ثم ذكر فوائد ابن القاص إلى قوله:"وفيما يسره الله تعالى من جمع طرق هذا الحديث واستنباط فوائده ما يحصل به التمييز بين أهل الفهم في النقل وغيرهم ممن لا يهتدي لتحصيل ذلك، مع أن العين المستنبط منها واحدة، لكن من عجائب اللطيف الخبير أنها تسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض في الأكل، هذا آخر كلامه ملخصاً"، ثم ذكر الفوائد التي زادها على ابن القاص. ومن الشروح الحديثية التي عنيت بسرد الفوائد

المستنبطة من الأحاديث كتاب (طرح التثريب في شرح التقريب) لزين الدين العراقي المتوفى سنة (806 هـ) وابنه أبي زرعة المتوفى سنة (826 هـ) ، فإنه يذكر عند كل حديث الفوائد المستنبطة منه مسرودة، وأول حديث فيه حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما الأعمال بالنيات"، وقد اشتمل على ثلاث وستين فائدة. وقد ألّف بعض العلماء شروحاً لأحاديث مفردة، ذكروا فيها ما اشتملت عليه تلك الأحاديث من الفوائد الفقهية، ومن تلك المؤلفات: ((بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد)) للقاضي عياض المتوفى سنة (544 هـ) ، و ((نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد)) لصلاح الدين العلائي المتوفى سنة (763 هـ) ، وهما مطبوعان.

الفقه فقهان اكبر واصغر

الفقه فقهان: أكبر وأصغر وكتاب الله عزّ وجلّ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هما الينبوعان الصافيان النقيان، وهما مصدر كل خير وأساس كل صلاح وفلاح، ومنهما تستنبط الأحكام في الأصول والفروع، في العقائد والعبادات والمعاملات، والفقه في الدين فقهان: فقه أكبر، وهو ما يتعلق بأمور الاعتقاد، وهي من أمور الغيب التي لا مجال للرأي فيها، وإنما التعويل فيها على الاستنباط من كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم. والفقه الثاني، ما يتعلق بالفروع من عبادات ومعاملات، والتعويل فيها أيضاً على ما جاء في الكتاب والسّنّة، فإذا وُجد نص فيهما على مسألة من المسائل تعيَّن المصير إليه والأخذ به، وحيث لا يوجد نص ساغ الاجتهاد، والمجتهد المصيب فيما يسوغ فيه الاجتهاد مأجور أجرين، والمجتهد المخطىء مأجور أجراً واحداً، كما ثبتت بذلك السّنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اشتهار مذاهب الأئمة الأربعة في الفقه دون غيرهم

اشتهار مذاهب الأئمة الأربعة في الفقه دون غيرهم الذين اشتهروا في الفقه كثيرون، ذكر ابن القيم في أول كتابه إعلام الموقعين عدداً كبيراً من الصحابة والتابعين ومن بعدهم اشتهروا بالفقه والفتوى. ومن أشهر الذين اشتهروا بالفقه الأئمة الأربعة، وهم: الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت المتوفى سنة (150هـ) ، والإمام مالك بن أنس المتوفى سنة (179هـ) ، والإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة (204هـ) ، والإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة (241هـ) ، وقد نظم تاريخ وفياتهم بالحروف الأبجدية الشاعر فقال: فنعمانهم (قن) و (طعق) لمالك وللشافعي (در) و (رام) ابن حنبل (1)

_ (1) لما توفي الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله سنة (1389 هـ) وكان مفتي المملكة العربية السعودية ورئيس قضاتها قبل إنشاء وزارة العدل ورئيس كل من الجامعة الإسلامية بالمدينة ورابطة العالم الإسلامي بمكة والكليات والمعاهد العلمية التي أطلق عليها فيما بعد اسم: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وكان طوداً شامخاً ذا هيبة ووقار، وتثبت وأناة، وهو ممن يصدق عليه قول الشاعر، يرثي قيس بن عاصم التميمي رضي الله عنه: وما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما لما توفي رحمه الله تكلفت ـ ولم أكن شاعراً ـ نظم ثلاثة أبيات، اشتمل الأخير منها على ذكر سنة وفاته بالحروف بلفظ الدعاء فقلت: سماحة الشيخ العظيم المنزله الثاقب الرأي بحل المشكله مفتي الديار رأس كل قضاتها مع دور علم الشرع كل أنَّ له وفاته بأحرف أرَّختها فقلت (جُدْ جَوادُ واغفر لي وله) ومعنى (كل أنَّ له) أي حزن لوفاته، وهذه الأبيات الثلاثة هي كل الذي لي من الشعر، فلم أنظم شعراً قبلها ولا بعدها.

وقد اشتهر الإمام أبو حنيفة بكنيته، وأما الثلاثة الباقون، فكل منهم يكنى بأبي عبد الله، والشافعي تلميذ لمالك، وأحمد تلميذ للشافعي، وقد وردت رواية بعضهم عن بعض في مسند الإمام أحمد (15778) ،

قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن إدريس ـ يعني الشافعي ـ عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنّة، حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه"، وقد أورده الإمام ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] ، وقال: "وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة" وقد اشتهر بالفقه والفتوى جماعة من العلماء في زمن الأئمة الأربعة ولم تشتهر مذاهبهم كما اشتهرت مذاهب الأئمة الأربعة؛ لأن الأئمة الأربعة صار لهم تلاميذ وأتباع اعتنوا بجمع أقوالهم وترتيبها وتحريرها وتدوينها، ولم يحصل مثل ذلك لغيرهم، ومن هؤلاء

العلماء المشهورين بالفقه: الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي فقيه الشام ومحدثها المتوفى سنة (157هـ) ، والإمام سفيان بن سعيد الثوري فقيه الكوفة ومحدثها المتوفى سنة (161هـ) ، وهو ممن وُصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، والإمام الليث بن سعد فقيه مصر ومحدثها المتوفى سنة (175هـ) ، والإمام إسحاق ابن إبراهيم بن مخلد بن راهويه الحنظلي المروزي المتوفى سنة (238هـ) ، وهو ممن وُصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وكان الإمام الترمذي يورد في جامعه أقواله في مسائل الفقه، وكثيراً ما كان يقرنه بالشافعي وأحمد أو أحدهما.

الرجوع إلى كتب الفقه والاستفادة منها

الرجوع إلى كتب الفقه والاستفادة منها وطالب العلم كما يرجع إلى كتب شروح الحديث المشتملة على بيان ما يستنبط من الأحاديث، ينبغي له أن يرجع إلى الكتب المدونة في الفقه للاستفادة منها؛

وذلك لمعرفة الأقوال وأدلتها وما يترجح منها وفقاً للدليل، والكتب في فقه المذاهب الأربعة كثيرة، منها المختصر، ومنها المطوّل، وأوفى هذه الكتب وأشملها كتاب (المغني) للإمام ابن قدامة المقدسي المتوفى سنة (620هـ) ، وكتاب (المجموع شرح المهذب) للإمام النووي المتوفى سنة (676هـ) ، وكتاب (الاستذكار) لأبي عمر بن عبد البر المتوفى سنة (463هـ) ، وذلك لاشتمال هذه الكتب الثلاثة على فقه الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الأربعة وغيرهم. قال الإمام ابن القيم في كتاب الروح (395-396) : "فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف منها ما خالف النص لم يُهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم، بل اقتدى بهم؛ فإنهم كلهم أمروا بذلك، فمتبعهم حقاً من امتثل ما أوصوا به لا من خالفهم؛ فخلافهم في القول الذي جاء النص

بخلافه أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا ودعوا إليها من تقديم النص على أقوالهم، ومن هنا يتبين الفرق بين تقليد العالم في كل ما قال، وبين الاستعانة بفهمه والاستضاءة بنور علمه، فالأول يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلبٍ لدليله من الكتاب والسّنّة، بل يجعل ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه ويقلده به، ولذلك سمي تقليداً، بخلاف من استعان بفهمه واستضاء بنور علمه في الوصول إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فإنه يجعلهم بمنزلة الدليل إلى الدليل الأول، فإذا وصل إليه استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره، فمن استدل بالنجم على القبلة فإنه إذا شاهدها لم يبق لاستدلاله بالنجم معنى، قال الشافعي: "أجمع الناس على أن من استبانت له سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد" ومع رجوع طالب العلم إلى كتب الفقهاء

للاستفادة منها، عليه أن يوقرهم ويسلك طريق الاعتدال فيهم، فلا يتعصب لأحد منهم، ولا يجفو فيهم، بل يذكرهم بالجميل اللائق بهم، وقد قال الإمام الطحاوي في عقيدة أهل السّنّة والجماعة: "وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين، أهل الخبر والأثر وأهل الفقه والنظر، لا يُذكرون إلاّ بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل". وقال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان (7/555) : "اعلم أن موقفنا من الأئمة رحمهم الله من الأربعة وغيرهم هو موقف سائر المسلمين المنصفين منهم، وهو موالاتهم ومحبتهم وتعظيمهم وإجلالهم والثناء عليهم بما هم عليه من العلم والتقوى، واتباعهم في العمل بالكتاب والسّنّة، وتقديمهما على رأيهم، وتعلُّم أقوالهم والاستعانة بها على الحق، وترك ما خالف الكتاب والسّنّة منها.

وأما المسائل التي لا نص فيها، فالصواب النظر في اجتهادهم فيها، وقد يكون اتباع اجتهادهم أصوب من اجتهادنا لأنفسنا؛ لأنهم أكثر علماً وتقوى منّا، لكن علينا أن ننظر ونحتاط لأنفسنا في أقرب الأقوال إلى رضى الله، وأحوطها وأبعدها من الاشتباه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، وقال: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه". وحقيقة القول الفصل في الأئمة رحمهم الله أنهم من خيار المسلمين، وأنهم ليسوا معصومين من الخطأ، فكل ما أصابوا فيه فلهم فيه أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وما أخطأوا فيه فهم مأجورون على كل حال، لا يلحقهم ذم ولا عيب ولا نقص في ذلك، ولكن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حاكمان عليهم وعلى أقوالهم كما لا يخفى. فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم

فلا تك ممن يذمهم وينتقصهم، ولا ممن يعتقد أقوالهم مغنية عن كتاب الله وسنّة رسوله أو مقدّمة عليهما"

وصايا الأئمة الأربعة بالتعويل علي الأدلة لا علي اقوالهم

وصايا الأئمة الأربعة بالتعويل على الأدلة لا على أقوالهم الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أهل العلم مجتهدون، فما أصابوا فيه لهم أجران، أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، ومن أخطأ منهم هو مأجور أجراً واحداً على اجتهاده وبذله وسعه لمعرفة الحق، وقد جاء عن الأئمة الأربعة نصوص فيها وصاياهم لغيرهم بأن يأخذوا بما دلت عليه الأدلة ويتركوا أقوالهم، وقد أورد الشيخ صالح الفلاني المتوفى سنة (1218هـ) في كتابه (إيقاظ الهمم) نقولاً عنهم في ذلك: منها قول الإمام أبي حنيفة (ص:50) : "إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه، قال: اتركوا قولي

لكتاب الله، فقيل: إذا كان خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لقول الصحابة" وقوله (ص:54) : "لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعرف مأخذه من الكتاب والسّنّة أو إجماع الأمّة أو القياس الجلي في المسألة"، وقوله (ص:62) : "إذا صحّ الحديث فهو مذهبي" ومنها قول الإمام مالك (ص:72) : "إنما أنا بشر أخطىء وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسّنّة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسّنّة فاتركوه" ومنها قول الإمام الشافعي (ص:100) : "ما من أحد إلاّ وتذهب عليه سنّةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي" وقوله: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت" وقوله (ص: 103) : "أجمع الناس على أن من استبانت له سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد" وقوله (ص: 104) :"كل مسألة صحّ فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي"، وقوله (ص: 107) : "إذا صحّ الحديث فهو مذهبي" ومنها قول الإمام أحمد (ص: 113) وقد قيل له:" الأوزاعي هو أتبع أم مالك؟ قال: لا تقلد دينك أحداً من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، ثم التابعين بعدُ الرجلُ فيهم مخير".

وقوله: "لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا" وانظر مقدمة صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني (ص: 23-37) ، وهذه النقول عن الأئمة الأربعة رحمهم الله تدل على ورعهم وفقههم وإنصافهم، ومن المتعين على كل ناصح لنفسه الأخذ بهذه الوصايا، وتقدّم قريباً في كلام ابن القيم قوله: "فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف منها ما خالف النص لم يُهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم، بل اقتدى بهم؛ فإنهم كلهم أمروا بذلك، فمتبعهم حقاً من امتثل ما أوصوا به لا من خالفهم"

بم يعتذر عمن وجد له من الأئمة الأربعة وغيرهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه.

بم يُعتذر عمن وُجد له من الأئمة الأربعة وغيرهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه. وهذه الوصايا المذكورة في كلام الأئمة الأربعة تدل على فضلهم ونبلهم واتباعهم للسّنّة ودعوة

غيرهم إلى اتباعها وألاّ يصار إلى أقوالهم وأقوال غيرهم إذا وُجد سنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافها، ومن وُجد له من الأئمة الأربعة وغيرهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فإن لهم في ذلك أعذاراً أوضحها العلماء، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد ألّف في ذلك رسالة خاصّة وهي (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ، قال فيها: ((وليُعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين قبولاً عاماً يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنّته، دقيق ولا جليل؛ فإنهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويُترك إلاّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وُجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلابد له من عذر في تركه، وجميع الأعذار ثلاثة أصناف: أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة

بذلك القول، والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ، وهذه الأصناف الثلاثة تتفرّع إلى أسباب متعددة" فذكرها وهي عشرة أسباب، وهذه الرسالة تقع ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/231-290) . وهي رسالة مختصرة قليلة المبنى واسعة المعنى أثنى عليها الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي المتوفى سنة (1332هـ) ، في كتابه (الجرح والتعديل ص:26) ، فقال: ((ومن أنفع ما ألف في هذا الباب كتاب (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ، لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله، فإنه جدير لو كان في الصين أن يرحل إليه، وأن يُعض بالنواجذ عليه، فرحم الله من أقام المعاذير للأئمة، وعلم أن سعيهم إنما هو إلى الحق والهدى)) .

حكم تقليد احد المذاهب الأربعة

حكم تقليد أحد المذاهب الأربعة. الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، علماء مجتهدون دائرون في اجتهادهم بين الأجر والأجرين، وقد تقدّم ذكر جملة من وصاياهم، في ترك تقليدهم، والتعويل على الأدلة، ومن تمكن من معرفة الحق بدليله، تعيّن عليه الأخذ به، تنفيذا لوصاياهم، وقد قال الشافعي رحمه الله: "أجمع الناس على أن من استبانت له سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد" وقال ابن خزيمة: "ويحرم على العالم أن يخالف السّنّة بعد علمه بها)) فتح الباري (3/95) ، وقال أيضاً في رفع اليدين عند القيام من الركعتين:"هو سنّة وإن لم يذكره الشافعي، فالإسناد صحيح، وقد قال: قولوا بالسنة ودعوا قولي". فتح الباري (2/222) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن أهل السّنّة لم يقل أحد منهم: إن إجماع الأئمة

الأربعة حجة معصومة، ولا قال: إن الحق منحصر فيها، وأن ما خرج عنها باطل، بل إذا قال من ليس من أتباع الأئمة كسفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد ومن قبلهم من المجتهدين قولاً يخالف قول الأئمة الأربعة، ردّ ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، وكان القول الراجح هو القول الذي قام عليه الدليل". منهاج السنّة (3/412) . ومن المعلوم أن أول الأئمة أبو حنيفة المولود سنة (80 هـ) ، والمتوفى سنة (150هـ) ، وما كان عليه الناس قبل زمان الأئمة الأربعة، هو الذي عليهم أن يكونوا عليه في أزمانهم وبعد أزمانهم، وهو التعويل على الأدلة، وترك التقليد، وأما العامي ومن لم يتمكن من معرفة الحق في المسائل الفقهية، ولم يجد من أهل العلم من يبصره فيها فله أن يقلّد أحد المذاهب الأربعة، لأنه مضطر، وقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ

مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، قال شيخنا الشيخ عبد العزيز ابن باز ـ رحمه الله ـ في رده على الصابوني في قوله عن تقليد الأئمة الأربعة: "إنه من أوجب الواجبات" قال: "لا شك أن هذا الإطلاق خطأ، إذ لا يجب تقليد أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم مهما كان علمه؛ لأن الحق في اتباع الكتاب والسّنّة لا في تقليد أحد من الناس، وإنما قصارى الأمر أن يكون التقليد سائغاً عند الضرورة لمن عرف بالعلم والفضل واستقامة العقيدة، كما فصل ذلك العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه (إعلام الموقعين) ولذلك كان الأئمة ـ رحمهم الله ـ لا يرضون أن يؤخذ من كلامهم إلاّ ما كان موافقاً للكتاب والسّنّة، قال الإمام مالك رحمه الله: "كلٌّ يؤخذ من قوله ويرد إلاّ صاحب هذا القبر"، يشير إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا قال إخوانه من الأئمة في هذا المعنى، فالذي يتمكّن من

الأخذ بالكتاب والسّنّة يتعين عليه ألاّ يقلّد أحداً من الناس، ويأخذ عند الخلاف بما هو أقرب الأقوال لإصابة الحق، والذي لا يستطيع ذلك فالمشروع له أن يسأل أهل العلم، كما قال الله عزّ وجلّ: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] )) . مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (3/52) . وقال شيخنا العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه أضواء البيان (7/553) : "لا خلاف بين أهل العلم في أن الضرورة لها أحوال خاصّة تستوجب أحكاماً غير أحكام الاختيار، فكل مسلم ألجأته الضرورة إلى شيء إلجاءً صحيحاً حقيقياً فهو في سعة من أمره فيه"، إلى أن قال: "وبهذا تعلم أن المضطر للتقليد الأعمى اضطراراً حقيقياً بحيث يكون لا قدرة له البتّة على غيره، مع عدم التفريط لكونه لا قدرة له أصلاً على الفهم، أو له قدرة على الفهم وقد عاقته

عوائق قاهرة عن التعلم، أو هو في أثناء التعلم، ولكنه يتعلم تدريجاً؛ لأنه لا يقدر على تعلم كل ما يحتاجه في وقت واحد، أو لم يجد كفؤاً يتعلم منه ونحو ذلك، فهو معذور في التقليد المذكور للضرورة؛ لأنه لا مندوحة له عنه، وأما القادر على التعلم المفرط فيه والمقدم آراء الرجال على ما علم من الوحي فهو الذي ليس بمعذور"

دراسة الفقه في مذهب من مذاهب أهل السنة الأربعة

دراسة الفقه في مذهب من مذاهب أهل السّنّة الأربعة ومن المناسب لطلاب العلم دراسة الفقه في مذهب من مذاهب أهل السّنّة الأربعة على مشايخ متمكنين في الفقه ومعرفة أقوال العلماء وأدلتها وترجيح ما يعضده الدليل، كما هي وصايا الأئمة الأربعة، وقد كانت عادة العلماء في القديم والحديث دراسة الفقه على هذه الطريقة، ثم ينتهي الأمر بهم إلى

التمكن في العلم والبروز فيه وترجيح ما يؤيده الدليل ولو كان في غير المذهب الذي درسوه، ولهذا يُنسب بعض أهل العلم الذين برّزوا فيه إلى المذاهب التي نشؤوا عليها واعتنوا بها وإن لم يكونوا مقلدين فيها، كابن عبد البر من المالكية، والذهبي وابن كثير من الشافعية، وابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب من الحنابلة. وإنما قلت بمناسبة دراسة الفقه في مذهب من مذاهب أهل السّنّة الأربعة؛ لأن المسائل في هذه المذاهب اعتُني بجمعها وترتيبها وتحريرها وتدوينها، وفي ذلك تسهيل لمهمة الشيخ المدرس والتلميذ الدارس، لكن تكون هذه الدراسة مبنية على معرفة الأقوال في المسألة وأدلتها وترجيح الراجح منها بالدليل.

الجمع في دراسة الفقه بين الحديث والفقه

الجمع في دراسة الفقه بين الحديث والفقه ... الجمع في دراسة العلم بين الحديث والفقه ومن أهم المهمات لطالب العلم أن يكون في دراسته جامعاً بين الحديث والفقه، بين الدليل

والمدلول، فلا تكون دراسته متمحضة في معرفة كثرة الطرق للأحاديث، مغفلة معرفة المسائل الفقهية وأقوال أهل العلم فيها، وفي مقابل ذلك لا تكون مهمته منحصرة في معرفة المسائل الفقهية دون عناية بمعرفة أدلتها وترجيح الراجح فيها؛ لأنه إذا أخلّ بجانب الفقه فاته الكثير من معرفة مسائله وأحكامها، وإن أخلّ بجانب الحديث فاته العلم بأدلة المسائل الفقهية، وقد يستدل بالأحاديث الضعيفة لعدم عنايته وتمكنه من معرفة الصحيح الذي يعوّل عليه والضعيف الذي لا يحتج به، وقد أوضح الإمام أبو سليمان الخطابي المتوفى سنة (388هـ) في كتابه معالم السنن (سنن أبي داود) أهمية الجمع بين معرفة الحديث والفقه، وأن الفقيه لابد له من الحديث، والمحدّث لابد له من الفقه، فقال في مقدّمة كتابه (1/3-4) : "وقد رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين،

وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميّز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة؛ لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب. فأما الطبقة الذين هم أهل الأثر والحديث، فإن الأكثرين منهم إنما وكدهم الروايات وجمع الطرق وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب، لا يراعون المتون، ولا يتفهمون المعاني، ولا يستنبطون سيرها، ولا يستخرجون ركازها وفقهها، وربما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون، وأما

الطبقة الأخرى، وهم أهل الفقه والنظر، فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلاّ على أقله، ولا يكادون يميّزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيّده من رديئه، ولا يعبأون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها، ووافق آراءهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع، إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم وتعاورته الألسن فيما بينهم، من غير ثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك ضلة من الرأي وغبناً فيه ... ".

اختلاف التنوع والتضاد وهل كل مجتهد فيها نصيب؟

اختلاف التنوع والتضاد وهل كل مجتهد فيها نصيب؟ ... اختلاف التنوع والتضاد، وهل كل مجتهد فيهما مصيب؟ والاختلاف في المسائل الفقهية ينقسم إلى قسمين: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد، واختلاف التنوع لا

يؤثر؛ لأن من أخذ بشيء منه أخذ بنوع من أنواع الحق، ومن أمثلة ذلك: ألفاظ الاستفتاح في الصلاة وألفاظ التشهد فيها، فإن كل ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فهو حق، والآخذ به آخذ بنوع من أنواع الحق، لكن لا يجمع المسلم بينها في صلاة واحدة، فإذا اجتهد عالم في اختيار نوع منها، واختار عالم نوعاً آخر، فإن هذا الاختلاف غير مؤثر، وكل مجتهد في ذلك مصيب أجراً، كما أنه مصيب حقاً، وأما اختلاف التضاد فهو أن يقول عالم في مسألة قولاً، ويقول آخر فيها قولاً مضاداً، كأن يقول قائل في أمر: هذا حلال، ويقول آخر: هو حرام، أو يقول قائل في أمر: إنه ينقض الوضوء مثلاً، ويقول آخر: لا ينقضه، أو يقول قائل: هذا يبطل الصلاة، ويقول آخر: لا يبطلها، وهذا النوع من الاختلاف كل مجتهد فيه مصيب أجراً، مع التفاوت فيه بين الأجر والأجرين، ولا يكون كل

مجتهد فيه مصيباً حقاً، بل من المجتهدين من يصيب فيؤجر أجرين على اجتهاده وإصابته، ومنهم من يخطىء فيؤجر أجراً واحداً على اجتهاده، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". رواه البخاري (7352) ومسلم (1716) من حديث عمرو ابن العاص رضي الله عنه. ولو كان كل مجتهد في هذا الخلاف مصيباً حقاً لم يكن لتقسيم المجتهدين في هذا الحديث إلى مصيب ومخطىء معنى. وأسأل الله عزّ وجلّ أن يوفق الجميع للفقه في الدين والثبات على الحق، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق المسلمين في كل مكان إلى ما تحمد عاقبته في الدنيا والآخرة، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

المحتويات

المحتويات العلم الممدوح في الكتاب والسّنّة العلم الشرعي 3 مدار العلم الشرعي على التفسير والحديث والفقه 5 أهمية العناية بالتفسير 7 أهمية العناية بالحديث 8 أهمية العناية بالفقه 14 الفقه الفهم في الكتاب والسّنّة 17 الفقه فقهان أكبر وأصغر 29 اشتهار مذاهب الأئمة الأربعة في الفقه دون غيرهم 30 الرجوع إلى كتب الفقه والاستفادة منها 33 وصايا الأئمة الأربعة بالتعويل على الأدلة لا على أقوالهم 38 بم يعتذر عمن وجد له من الأئمة الأربعة وغيرهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه 41 حكم تقليد أحد المذاهب الأربعة 44 دراسة الفقه في مذهب من مذاهب أهل السّنّة الأربعة 48 الجمع في دراسة الفقه بين الحديث والفقه 49 اختلاف التنوع والتضاد، وهل كل مجتهد فيهما مصيب؟ 52

§1/1