أهل الفترة ومن في حكمهم

موفق أحمد شكري

أهل الفترة ومن في حكمهم تأليف موفق أحمد شكري قَدَّمَ له د. عباس محجوب محمد عبد الله الخطيب مؤسسة علوم القرآن عجمان دار ابن كثير دمشق - بَيروت

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أهل الفترة ومن في حكمهم

حُقوق الطبع محفوظَة الطبعَة الأولى 1409هـ-1988م إعتنى بتصحيحه سمير أحمد العطّار عجمان -الإمارات العربية المتحدة- ص. ب 1243 - تليفون 421543 دار بن كثير دمشق -شارع مسلّم البارودي- بناء خولي وصلاحي -ص. ب 311 - هاتف 225877 بيروت -ص. ب 6318/ 113

المقدمة

تقْدِيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن سيدنا ونبيّنا محمدًا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فبلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقّ جهاده. فجزاه الله خير ما جزى نبيًا عن أمته. وبعد: فمن الأمور المسلّمة في فكر المسلمين وقلوبهم أن الإِسلام هو الدّين الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى لعباده، وأنه جاء مكتملًا مكمِّلًا للرسالات التي جاء بها رسل الله لعباده، متتابعين داعين إلى فكرة واحدة هي إخلاص العبادة لله ونبذ الطواغيت والأصنام {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. جاء الإِسلام وقد وصلت البشرية لرشدها وأصبحت حاجتها ماسّةً لدين سماويّ جامعٍ كاملٍ لا يختص بأمة دون أخرى ولا بمكان دون آخر ولا بزمان دون زمان. فكانت رسالة سيدنا محمد الرسالة الخاتمة الشاملة التي ارتضاها الله لعباده {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

وكمال الرسالة وعموميتها تقتضي استمرارها في كمالها وسموِّها سليمة بعيدة عن التحريف، محافظة من الضياع، سالمة من النقص, لأن الرسالة قد وصلتنا كما هي وكما أنزلت على خاتم الرسل والنبيين؛ فكان من حق الأجيال علينا أن ننقلها إليهم كاملة صحيحة حتى نلزمهم الحجة ويتحملوا تبعات التكليف ومسؤوليات الرسالة ونتائج العمل من ثواب وعقاب نتيجة وصول التكليف إليهم بصورة صحيحة سليمة، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. وهدف المسلمين في هذه الحياة أن يحققوا معنى العبودية لله سبحانه وتعالى قيامًا بأعباء الاستخلاف في الأرض وتعمير الكون، وسيادة منهجه فيه، وأداء الأمانة المسؤولية التي حملها الإِنسان بعد أن أبَتِ السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72]. ومن هنا كانت أهمية هذا الكتاب عن "أهل الفترة" وهو بحث نال به مؤلفه درجة الماجستير في جامعة الإِمام محمَّد بن سعود الإِسلامية في الرياض. وأهمية هذا الكتاب في أنه يلبي حاجة ماسّة في الفقه الإِسلامي المعاصر، وفي المكتبة الإِسلامية، فالمسلمون اليوم -وبعد أن زالت الفوارق بين الأمم والشعوب بفضل وسائل الإِعلام والتطور في مجال النقل والمواصلات- يواجهون بمشكلات مختلفة يحتاجون لرأي الإِسلام فيها ووضوح الرؤية في شأنها، ومن هذه المشكلات مشكلة الذين لم تصلهم الدعوة؛ ما مصيرهم؟ وما حكمهم؟. وقد أشار الباحث إلى الأسباب التي دعته للكتابة في هذا الموضوع، فذكر جدة الكتابة فيه، حيث لم يفرد الموضوع ببحث مستقل أو كتاب يتناوله بالتفصيل، إضافة إلى اختلاف آراء الفقهاء في مصير من لم تصلهم

الدعوة، ثم أهمية الأحكام المترتبة على من لم تبلغهم الدعوة. وأهمية هذا الموضوع أنّ أناسًا كثيرين في إفريقيا وآسيا والدول الأوروبية لم تصلهم دعوة الإِسلام، وكثير من المسلمين الذين أسلموا في أمريكا يتحدثون عن سماعهم بالإِسلام مصادفة أو في فترة متأخرة، وذلك لأسباب كثيرة، منها: - تقصير المسلمين في تبليغ دعوتهم للناس واستغلال الوسائل التي أتاحتها الحضارة المعاصرة والتي يستغلها المبشرون في هدم الإِسلام وتنصير المسلمين. - ومنها ضعف إمكانات المنظمات والأجهزة والجمعيات التي تعمل في مجال الدعوة الإِسلامية لإِحجام المسلمين عن بذل أموالهم وإمكاناتهم في سبيل الدعوة إلى الله إلا من رحم الله، إضافة إلى أن المسيحية لها دولة في العالم تعمل لها وتنشرها, ولها دول تساندها وأجهزة تقويها ورؤوس أموال ضخمة تستثمر وتوجَّه لها، والإِسلام في حاجة إلى دول تساند، وحكومات تخلص، وأثرياء يسخون، ودعاة يتجرّدون إلى الله ويعملون لنشر دينه ومُثُله وتعاليمه ومنهجه الذي ارتضاه لعباده. - ومنها محاربة قوى الكفر مجتمعة للإِسلام والمسلمين وتسخير إعلامهم وأقلامهم، وأموالهم وجيوشهم دون وصول الإِسلام إلى أممٍ وشعوب لو علمت بالإِسلام لآمنت به واتخذته نظامًا لحياتها ومنهجًا لوجودها. - ومنها تفرُّق المسلمين واختلاف كلمتهم وتباين أفكارهم ومناهجهم، وابتعادهم عن دينهم ونبذهم شريعة ربهم، إضافة إلى ابتعادهم عن جعل الإِسلام نظامًا لحياتهم ونشره بين شعوبهم ليكون نبراس حياتهم ومجتمع كلمتهم وتوحُّد دولهم في دولة واحدة. وقد قسم الباحث بحثه إلى مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة، وقد فصّل

ذلك في مقدمته بما لا يحتاج معه إلى تكرار لما ذكر، غير أننا نشير إلى قضايا هامة مهّد بها لخدمة موضوعه، أهمها: حاجة البشرية للرسل وحكمة الله في إرسالهم، وكيفية الرسالات السابقة لرسالة خاتم الأنبياء، حيث كانت البشرية في مراحل التطور والنضوج، مما جعل للرسالات خصوصية سواء في الناحية الزمانية أو المكانية، وعندما بدأت مراحل النضوج البشري، جاءت رسالة سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - للبشرية كافة وللإنسانية عامة، تحمل في طبيعتها ومنهجها ومتطلباتها ووسائلها طبيعة الرسالة الخاتمة والكلمة الأخيرة من خالق الكون لعباده، لتستمر هذه الرسالة موجهة للبشر قائدة للإِنسان ما دامت الحياة على الأرض، لذلك كله جاءت رسالةً كاملةً شاملةً دائمةً تلبي حاجة الإِنسان في الأرض، وتوجِّه سلوكه فيه، وتقوِّي صلته بالله، وتلبي أيضًا حاجات الإِنسان فيما بعد الحياة الأولى. وهذا ما عالجه في الفصل الثالث من الباب الأول. وفي الباب الثاني عالج الباحث قضية بحثه بادئًا بتحديد مصطلح أهل الفترة، ذاكرًا مدلوليه اللغوي والإِصطلاحي، مبيِّنًا آراء العلماء من الفقهاء والمفسرين، مرجِّحًا ومفاضلًا بين هذه الآراء، متَّبعًا الطريقة العلمية في آرائه، ثم أشار الباحث إلى قضايا هامة تتعلق بموضوع البحث ويتعلق بالملحقين بأهل الفترة من أطفال المشركين والمجانين وذوي العاهات. وهو في كل القضايا التي أثارها يلتزم ببيان الحكم الشرعي، مبيِّنًا آراء العلماء، مرجحًا بينهم؛ الأمر الذي يظهر شخصية الباحث في بحثه واستيعابه لموضوعه وحرصه على أن يقدم خلاصة الآراء للقارىء. في الباب الثالث ناقش قضيةً هامةً أيضًا، وهي حكم من لم تبلغه دعوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في عصرنا متناولًا مسؤولية الأمة في تبليغ الرسالة إذ بها تتميز هذه الأمة بالخيرية التي ربطها الله سبحانه وتعالى بوظيفة البلاغ المبين والأمر بالمعروف الأكبر، وهو سيادة منهج الله وشرعه ودينه، والنهي عن المنكر الأكبر وهو أن تكون الحاكمية لغير الله، والمناهج من صنع البشر.

حيث أن واجب الدعوة واجب على المسلمين وجوب كفاية حتى تقوم به جماعة تحقق قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] وقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122]. وقد بيّن الباحثُ الوسائلَ التي أتاحها الله للمسلمين في عصرنا والتي تسهل لهم مسؤولية البلاغ وإيصال الحقائق للبشر عن طريق وسائل الإِعلام والأقمار الصناعية والكلمة المقروءة والمسموعة وعمليات الاتصال الجماعي والفردي. ولم ينس الباحث أن يقدم في نهاية بحثه مقترحات عملية للمنظمات والحكومات والجامعات الإِسلامية، حتى تقوم كل جهة بواجبها المقدس الذي يبرِّئها أمام الله سبحانه وتعالى، ومنطلَق ذلك كله معرفة الإِسلام معرفة صحيحة بعيدة عن البدع والأهواء. والبحث بصورة عامة يلبي كما قلتُ حاجةً في المكتبة الإِسلامية، ويمثل لبنةً من لبنات البناء الفكري للإِنسان المسلم. وإذا كان الباحث قد سُبق إلى طرح كثير من القضايا التي تناولها في كتب الفقه والتفسير والدعوة؛ فإن الفضل له بعد الله سبحانه وتعالى وهدايته في إفراد هذا الموضوع ببحث يكون مرجعًا لطلاب العلم وناشدي الحقيقة، أسال الله أن يجزيَه خيرَ الجزاء وأن يعمّنا معه بفضله وإحسانه ومغفرته إنّه سميع مجيب. د. عبّاس محجوب

تقديم

تقديم الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين. والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيطيب لي أن أقدم لهذه الرسالة لمكانة صاحبها ومنزلته من نفسي، ولأهمية الموضوع الذي تعرض له بالبحث والدرس والتحليل وهو: أهل الفترة ومَن في حكمهم. والرسالة صدرت عن جامعة الإِمام محمَّد بن سعود الإِسلامية وبإشراف عالم فاضل: الأستاذ/ عبد العزيز الراجحي. وهذا يزيد في مكانتها العلمية، وقيمتها الإِسلامية والأدبية. ولقد كان الأخ الفاضل الأستاذ موفق أحمد شكري ... موفقًا في اختياره لهذا الموضوع الذي يكثر السؤال عنه. فجزاه الله خيرًا على إلقائه الضوء على هذا الجانب، وقد أشار في مقدمته إلى الأسباب التي دعته لاختياره لهذا الموضوع، ومنها -عدم الكتابة فيه كتابة مستقلة، واختلاف الناس فيه، ووجود أقوام لم تبلغهم الدعوة ونريد أن نعرف مصيرهم وحكمهم، ومسؤولية الأمة عن تبليغ الرسالة. وقد تحدث في الباب الأول عن حاجة البشرية للرسل وأشار إلى قصور العقل البشري، وأنه لابد له من وحي إلهي يقوده ويهديه سواء

السبيل وبيّن أن حاجة الناس إلى الرسالة والرسل أكثر من ضرورية {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. ثم تحدث في الفصل الثاني عن خصوصية دعوة الرسل الذين سبقوا خاتم النبيين والمرسلين - صلى الله عليه وسلم - وهي خاصة بأقوام معنيين وبزمان محدد. تجمعهم جميعًا الدعوة إلى توحيد الله وإخلاص العبودية له وإفراده سبحانه بالألوهية والربوبية، ثم دعوتهم إلى اجتناب الأصنام والأوثان، والإِيمان باليوم الآخر. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36]. فشاءت حكمته تعالى ورحمته بالناس أن يبعث إليهم رسلًا مبشرين ومنذرين، وشاء الحق سبحانه ألا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والبيان والتبليغ قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. وفي الفصل الثالث يتحدث المؤلف عن عموم رسالة سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله الله هاديًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] ويقول سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]. وتحدث المؤلف عن عالمية الرسالة المحمدية التي انبثقت من جزيرة العرب، وهي تحمل العقيدة الصحيحة والعبادة السليمة. والأخوة والمساواة. والحرية لكل بني آدم بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو اللغة.

وتضمّن الباب الثاني عدة فصول. تدور كلها حول موضوع الكتاب: بيان المقصود بأهل الفترة، وحكم مطالبتهم بأحكام الأنبياء السابقين. ثم أشار إلى الملحقين بأهل الفترة في الحكم؛ وهم أطفال المشركين، والمجانين وذوو العاهات، وأفاض المؤلف في بيان أهل الفترة وذكر أقوال العلماء وناقش أدلتهم ورجح ما جاء في جمع الجوامع للسبكي؛ أن أهل الفترة من كانوا بين رسولين لم يرسل إليهم الأول ولم يدركوا الثاني ... وهذا التعريف يجعلها عامة لا تخصص بقوم من الأقوام ولا بزمان من الأزمنة، بل كل من انطبق عليهم هذا التعريف فهم أهل فترة. وأوضح هذه الفترات وأبرزها هي التي كانت بين سيدنا عيسى عليه السلام وسيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. وقد أشار المؤلف إلى أقوال العلماء في حكم أهل الفترة وأشار إلى الحكم الشرعي، وهو خطاب الله المتعلق بأحكام المكلَّفين وشروط المكلَّف: أن يكون قادرًا على فهم الدليل، وأن يكون أهلًا للتكليف، وأن يكون عالمًا بما كُلِّف به ليستطيع الفعل أو الترك. ثم تحدث عن أقسام أهل الفترة: من بلغته الدعوة ووحّد ولم يشرك، ومن بلغته ولكنه غيّر وأشرك. وأورد أمثلة لكل نوع وحكمه وأقوال العلماء فيه. ثم رجح القول: أن أهل الفترة يُمتحَنون في عرصات يوم القيامة، فمن أطاع الله نجا. وأشار إلى هذا القول بأنه المختار وهو الذي قال به السلف وجمهور الأئمة. واختيار الإِمام ابن تيمية وابن كثير وابن حجر. وحكاه أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة والجماعة، وقد عدّد أدلّتهم من الأحاديث الصحيحة ومنها ما رواه أحمد في مسنده .. أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة.

فأما الأصم فيقول: رب قد جاء الإِسلام وما أسمع شيئًا. وأما الأحمق فيقول: رب قد جاء الإِسلام والصبيان يخوفونني بالبحر، وأما الهرم فيقول: لقد جاء الإِسلام وما أعقل شيئًا. وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني كتاب ولا رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنّه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار. فوالذي نفس محمَّد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا. وفي رواية: "ومن لم يدخلها سُحب إليها". وبعد أن أفاض في هذه المسألة واستوفى أدلتها قال: "وبعد التأمل والنظر أرى أن أقرب الأقوال إلى الصواب هو القول الثالث وهو أن أهل الفترة يُمتحنون". ثم تحدث عن الملحقين بأهل الفترة من أطفال المشركين والمجانين وذوي العاهات. وأشار إلى نظرة الإِسلام إليهم وأقوال العلماء وأدلتهم. ثم رجح القول أنهم في الجنة. وتضمن الباب الثالث: حكم من لم تبلغهم الدعوة المحمدية وعلى من تقع مسؤولية عدم تبليغهم. وما هي الطرق التي تؤدي إلى إيصال الدعوة إلى جميع الناس مؤيدًا كل ذلك بالدليل الواضح من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة. وأشار إلى أن خيرية هذه الأمة تكمن في قيامها بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله وحده، والبراءة من الشرك بألوانه وأنواعه، والواجب على كل مسلم أن يقف على ثغرة من ثغور الإِسلام. وحين سُئل الإِمام ابن تيمية عن قوله تعالى: {قل هذه سبيلي} فقال الدعوة واجبة على كل من اتبع هذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم أمته، وعليهم أن يدعوا إلى الله كما دعا النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الواجب واجب على مجموع الأُمة، وهو فرض كفاية إذا قام به

البعض سقط عن الباقين، فالأمة كلها مخاطبة بفعل ذلك. ثم تحدث عن الطرق المؤدية لإِيصال الدعوة إلى جميع الناس؛ فتحدث عن الإعلام بمعناه الصحيح. وهو إيصال الحقائق والأخبار والمعلومات الصحيحة إلى الناس، والتوجيه السليم الذي يتناسب مع عقيدتنا وشريعتنا حتى يصل صوتنا إلى العالم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور. وأشار إلى أنواع الإِعلام المختلفة من مسموعة ومقروءة ومرئية. وتحدث عن القدوة الحسنة وأثرها في الدعوة، وعن الجهود الشخصية وما لها من أثر كبير في نشر الدعوة. وتحدث عن المحاضرة والخطبة والدرس والجدال المثمر البناء للوصول إلى الحق بأسلوب وضوابط الإِسلام. وتحدث عن أثر الدعوة الفردية، وتوجيه الدراسات الإِعلامية إلى الإِصلاح. وختم كلامه: بضرورة الجهر بالحق، والإصرار على عالمية الدعوة الإِسلامية، وتوجيه كل وسيلة صالحة للإِعلام النظيف إلى سلطان الدعوة تمكينًا لها من الذيوع والانتشار وتوضيحًا لسموّها وتفوّقها. وجاء الفصل الأخير في الكتاب عن الخلاصة، وقد تضمن موجزًا لما ورد في البحث من آراء ومسائل حول هذا الموضوع الهام والحيوي. وأرى أن المؤلف حفظه الله قد وُفِّق في بحثه هذا، وجمع من الأدلة والبراهين حول المسألة الواحدة ما يكفي لتوضيحها، كما وُفِّق أيضًا وهو يخرج الآيات والأحاديث، ويثبت المصادر التي استقى منها، وهي أمانة علمية طيبة. وإني لأدعو إخواني من طلاب العلم أن يهتموا بهذا الموضوع وأن يستفيدوا كثيرًا مما كتبه الأستاذ الفاضل الشيخ موفق، فهذا الموضوع يسأل عنه الناس كثيرًا، وعلى العالِم أن تتضح هذه المسألة وغيرها في ذهنه -حتى يتمكن من تفهيم غيره بالدليل المقنع والحجة والبرهان ....

ولقد سعدت كثيرًا وأنا أراجع هذه الرسالة واستفدت كثيرًا مما ورد فيها من علم نافع ورأي سديد. جزى الله الأخ موفق كل خير وجعل هذا في ميزان حسناته يوم يوزن دم الشهداء بمداد العلماء. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. محمَّد عبد الله الخطيب

مقدمة المؤلف

مقَدّمة المؤلف الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلِّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأصلِّي وأسلِّم على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. إن الإِسلام بعقيدته السمحة، ونظامه الشامل الكامل صالح لكل زمان ومكان، وعقيدة الإِسلام هي "لا إله إلا الله محمَّد رسول الله" ومعناها أنه لا عبودية بحق إلا لله تعالى اعتقادًا وتصوُّرًا. قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]. والعبودية هي أن تؤمنَ بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأن تقيمَ وتُحِلَّ الحلالَ، وتُحَرِّمَ الحرامَ، وتقيم المعاملاتِ والتشريعاتِ والتوجيهاتِ الإِسلامية، هذه هي العبودية الحقة، وهذه هي عقيدة الإِسلام، التي تميّزت عن غيرها من العقائد الأخرى؛ فالإِسلام كلٌّ لا يتجزأ. ومعنى ذلك أن لا نأخذ بعض أحكامه ونترك البعض الآخر، فإن الله سبحانه وتعالى حذّرنا في كتابه العزيز من هذا التلاعب الخطير، فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85].

لذا أقول: إنه لا خلاص للبشرية كلِّها من هذا التيه والضياع إلا بهذه العقيدة؛ إن أرادت التخلّص من هذه الجاهليات التي طمست معالمها ودمرت خصائصها. فمن أوجب الواجبات على أصحاب هذه العقيدة أن يقوموا بالدعوة إليها بالحكمة والموعظة الحسنة، لإِنقاذ هذه المجتمعات من جاهليتها التي تردّت إليْها فضاعَتْ وساءَ حالُها. وليكن معلومًا لدينا أن هناك أقوامًا لا يعرفون عن عقيدة الإِسلام شيئًا، بل لا يعرفون من الدين شيئًا، فما أحرانا نحن المسلمين أن نبلِّغ ما أمَرنا الله به سبحانه وتعالى، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. فالدعوة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وشرط خيرية هذه الأمة هو القيام بهذا الأمر، ومن هنا تظهر لنا أهمية العقيدة الإِسلامية في حياة الناس. ولما كان مقررًا على كل طالب يريد الحصول على درجة (الماجستير) أن يقدم بحثًا علميًا، فقد استقر رأي على موضوع "أهل الفترة ومن في حكمهم في العقيدة الإِسلامية". سبب اختيار الموضوع: إن في العقيدة الإِسلامية جوانب شتى تستحق الدراسة والبحث. ومن هذه الجوانب موضوع أهل الفترة، وهم الأقوام الذين لم تبلغهم الدعوة ولم يسمعوا برسالة نبي من الأنبياء، وهو بحق من الموضوعات التي تستحق الدراسة. وعند ذكر الأسباب التي دعت للكتابة في هذا الموضوع تبرز لنا أهميته. ومنها: 1 - عدم الكتابة فيه كتابة مستقلة فيما أعلم، إلا ما وجد متناثرًا في الكتب،

فأردت بيان الحق في هذه المسألة الهامة بالجمع بين النصوص والترجيح بين أقوال العلماء رحمهم الله. 2 - اختلاف واضطراب الناس فيه. 3 - وجود أقوام لم تبلغهم الدعوة، وبصفتنا مسلمين نريد أن نعرف ما هو حكمهم وما مصيرهم؟. هذه الأسباب وغيرها دعتني للكتابة في هذا الموضوع. منهجي في البحث: 1 - اعتمدت على المراجع والمصادر الأساسية في الموضوع. 2 - تحرّيت الأمانة العلمية والدقة والصدق في عرض آراء العلماء بالرجوع إلى كتبهم ما أمكنني ذلك. 3 - عرضت المسائل مع أدلتها، ثم ناقشت الأقوال فيها ورجحت القول المدعّم بالدليل الصحيح. 4 - تجنبت الإطالة والإِطناب في الموضوعات والتعليقات. 5 - أكثرت من الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة لخطورة الموضوع. 6 - قمت بترجمة الأعلام الذين ورد ذكرهم في الرسالة، وذلك بالرجوع إلى كتب التراجم. 7 - حرصت على أن تكون الفهارس خير دليل للقارىء الكريم فوضعت الفهارس التالية: أ - فهرس الآيات القرآنية. ب - فهرس الأحاديث النبوية الشريفة. جـ - فهرس الأعلام. هـ - فهرس المراجع. و- فهرس الموضوعات. هذا وقد جعلت البحث في مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة.

المقدمة. الباب الأول: مسؤولية الإِنسان متعلقة بإرسال الرسل. ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: حاجة البشرية للرسل والغاية من إرسالهم. الفصل الثاني: خصوصية دعوة الرسل الذين سبقوا نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة. الفصل الثالث: عموم دعوة نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وبقاؤها. الباب الثاني: بيان المقصود من أهل الفترة. ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: التعريف بأهل الفترة. الفصل الثاني: حكم مطالبتهم بأحكام الأنبياء السابقين. الفصل الثالث: الملحقون بأهل الفترة. وفيه مبحثان: أ - أطفال المشركين. ب - المجانين وأصحاب العاهات. الباب الثالث: حكم من لم تبلغه الدعوة المحمدية في عصرنا الحاضر، ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: في وجود أقوام لم تبلغهم الدعوة. الفصل الثاني: فيمن تقع عليهم مسؤولية عدم تبليغهم الدعوة. الفصل الثالث: الطرق المؤدية لإِيصال الدعوة إلى جميع الناس. الخاتمة: وفيها خلاصة البحث. هذا ما أردت الكتابة به، وأسأل الله تعالى أن يتقبل منا عملنا هذا وأحمده سبحانه -وهو المستحق للشكر دائمًا- إذ أعانني على كتابة هذا البحث، فلله الحمد في الأولى والآخرة. واستنادًا إلى الحديث الصحيح: "من لا يشكر الناس لا يشكر الله" (¬1): ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والترمذي، وذكره السيوطي في جامعه وقال: حديث حسن. انظر فيض القدير 6/ 240.

أتقدم إلى فضيلة الشيخ عبد العزيز الراجحي أستاذ العقيدة في قسم الدراسات العليا بكلية أصول الدين، الذي بذل جهده ووقته من أجل إخراج هذا البحث على أحسن صورة، فأسأل الله تعالى أن يجزيَه خير الجزاء ويحفظه إنه هو السميع المجيب. كما أشكر جميع الأساتذة الفضلاء الذين أسدوا إليّ المشورة والنصح، وأخص منهم الدكتور أحمد فرحات. كما أشكر جميع الإِخوة الذين ساهموا في إخراج هذه الرسالة وأخصّ منهم أعضاء هيئة المكتبات والإِخوة الطلاب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. موفّق أحمد شكري

الباب الأول

البَاب الأوَّل ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: حاجة البشرية للرسل والغاية من إرسالهم. الفصل الثاني: خصوصية دعوة الرسل الذين سبقوا نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. الفصل الثالث: عموم دعوة نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وبقاؤها.

الفصل الأول حاجة البشرية للرسل والغاية من إرسالهم

الفصل الأوّل حاجة البشرية للرسل والغاية من إرسالهم قال تعالى في سورة النساء: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)}. لما خلق الله سبحانه وتعالى الخلق لم يخلقهم عبثًا. وإنما خلقهم لمهمة جليلة ألا وهي الاستخلاف في الأرض قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]. وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بعد خلقهم وإخراجهم إلى الحياة الدنيا

بكل احتياجاتهم من المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك حتى أصبح كل شيء في متناول يدهم وبمقدورهم قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]. وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32 - 34]. فكما تكفل الله بتسخير هذا كله وجعله تحت تصرفهم، تكفل بأن علّمهم وجعل للعلم مكانة كبيرة في حياتهم، وأول ما نزّل من القرآن الكريم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]. هذا كله من النعم التي تكفّل الله لهم بها وسخّرها لهم، وبذلك جعل مكانتهم عالية، وميّزهم عن سائر المخلوقات فكرّمهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]. فالله سبحانه وتعالى لم يتركهم سدىً ولم يخلقهم عبثًا بل أرسل إليهم رسلًا مبشِّرين ومنذرين، يبشِّرونهم بالسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة إن هم أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، وينقذونهم ويخوِّفونهم من عقاب الله وعذابه إن هم أشركوا بالله وجعلوا له أندادًا، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. بعد ذلك كله نرى بعض الناس الذين ضلّوا طريقهم واتبعوا كل شيطان مريد، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43] وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ

اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]. ترى هذا البعض يقول بكل صلف وغرور أنه يستطيع بعقله أن يهديَ نفسه إلى الخير، ولا حاجة إذن للرسل ليعرِّفوه الطريق لأنه بعقله وفكره يستطيع أن يصل إلى الخير. لكن هذا البعض نسي أن هذا العقل الذي احتج به وارتكن إليه لا يكفي وحده للهداية, لأن دوره في الحياة محدود بالتأمل والتفكر في الوجود من حوله. فلابد له من التلقي عن وحي الله ومن خلال الشرائع التي أنزلها الله سبحانه وتعالى، وإن لم يفعل ذلك فهو الغرور والضلال، وهذا ما حكاه القرآن الكريم على لسان قارون بعد أن طغى واستكبر وكفر بنعم الله قال تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 78]. وقال تعالى حكاية عن فرعون حين طُمست بصيرتُه {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38]. والله سبحانه وتعالى يحذِّر من اغترار الإِنسان بنفسه وكبريائه، فإنه جلّ وعلا يذكِّره بنعمه وما امتنّ به عليه مخاطبًا إياه {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 58 - 62] وبقوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57] فالله سبحانه وتعالى هو الغني عن عباده، والعباد كلهم بحاجة إليه قال تعالى: {يا أيُّها

النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]. وقال تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] فجميع الخلق هم بحاجة إلى هدايته حتى يتخلصوا من هذا التيه والضياع الذي يعيشون فيه قبل إرسال الرسل. وليعلم أن العقل من غير وحي يقودُه لا يصلح لهداية البشر، بل لابدّ له من نعمة من الله. وهذه النعمة هي إرسال الرسل إلى هذه البشرية الحائرة، التي هي في أمسِّ الحاجة إلى هداية الله حتىِ تعرف الطريق السوي وتعرف شرع الله. حينئذ تصبح الرسالة أمرًا لازمًا للبشرية جمعاء وحاجةً ملحّةً لها، كي تخرجها من هذا الضياع الذي دمّرها وقضى عليها، والفوضى التي عاشتها، وهي لا تعرف كيف تشق طريقها في هذا التيه فجاءت الرسالة هاديةً مرشدةً للحيارى والتائهين، معلنة لهم انقشاع هذا الضلال والظلام وإخراج الناس من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد. فقد أصبح من المحال أن يعيش الناس بغير دين. وأصبح من الضروري أن يحكِّموا شرع الله وأن يردُّوا أمرهم إلى المنهج الرباني الذي هو من لدن حكيم خبير، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]. وقال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. وقال تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3]. فالرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده. فكما أنه لا

صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة. فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا في اتباع الرسالة. فإن الإِنسان مضطر إلى الشرع، فإنه بين حركتين حركة يجلب بها ما ينفعه وحركة يدفع بها ما يضرّه، والشرع هو النور الذي ينفعه وما يضره، والشرع نور الله في أرضه وعدله بين عباده وحصنه الذي مَن دخله كان آمنًا (¬1). ويقول ابن القيم رحمه الله (¬2): "فحاجة الناس إلى الشريعة ضرورية فوق حاجتهم إلى كل شيء، ولا نسبة لحاجتهم إلى الطب ... وأما الشريعة فمبناها على تعريف مواضع رضا الله وسخطه، فإن حركات العباد الاختيارية مبناها على الوحي المحض، والحاجة إلى التنفس مثلًا والطعام والشراب موت البدن وتعطّل الروح عنه، وأما ما يقدَّر عند عدم الشريعة ففساد الروح والقلب جملة، وهلاك الأبد، وشتان بين هذا" (¬3) وهلاك البدن بالموت. فحاجة الناس إلى الرسالات أعظم من حاجتهم إلى الأكل والشرب والهواء, لأن ذلك يؤدي إلى إصلاح النفس البشرية، وذلك بفضل الرسالات السماوية التي رحم الله بها عباده، وأنزلها بواسطة رسله عليهم السلام. ¬

_ (¬1) الفتاوى ج 19 ص 99 - ابن تيمية. (¬2) ابن القيِّم: هو محمَّد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي الملقب بابن قيِّم الجوزية، ولد سنة 691 هـ بدمشق ونشأ فيها، كان يميل في أول عهده إلى التصوف، ثم انتقل لدراسة القرآن الكريم وعلومه، ولقد لقي في سبيل حرية الرأي والجهر بالحق ما لاقاه شيخه ابن تيمية من تعذيب وسجن. له كثير من المصنفات منها: أعلام الموقعين، الطرق الحكمية، مدارج السالكين -توفي رحمه الله بدمشق سنة 751 هـ. انظر (القول المبين في طبقات الأصوليين 2/ 161). (¬3) مفتاح دار السعادة ج 2 ص1 - ابن القيم.

أثر الرسل في حياة الناس: للرسل عليهم الصلاة والسلام أثر كبير في حياة الناس, لأن الرسل لا يقومون بحركة إلا عن طريق الوحي {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]. فدعوتهم الناس إلى الشريعة وما تحتويه من قيم وأخلاق وسلوك؛ هذا كله ليس من عند أنفسهم، وإنما هو الوحي والتوجيه الرباني. والرسل عليهم الصلاة والسلام إذا بدؤوا يصلحون أقوامهم ويقوِّمون مشاكلهم فإنهم يستأصلونها من جذورها، ويقدمون لهم البديل، وما الرسل إلا مبشرون ومنذرون، أما خَلْق الهداية في القلوب وتوفيق العباد إلى الخير فهو إلى الله وحده. {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] وقال تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]. والرسل عليهم الصلاة والسلام هم القدوة الحسنة لأقوامهم في كل قول وعمل {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. والرسل عليهم الصلاة والسلام باختلاطهم بالناس ودعوتهم إلى الرسالات التي يحملونها والسلوك العملي الذي يتمتعون به يكون واقعًا ملموسًا لدى الناس، بذلك يكون اتباع الناس لهم من الأمور اليسيرة لمن وفقه الله وأراد هدايته، ويكونون دائمًا مرتبطين بالوحي محاولين ربط القلب البشري بالله، فإذا أراد المعونة والتوفيق فإنه لا يلجأ ولا يتوجّه إلا إلى الله. مهمة الرسل: ومهمة الرسل شاقة وصعبة، فإن الله عَزَّ وَجَلَّ يختار رسله ويصطفيهم ويجتبيهم مِن خلقِه، قال تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}

[الأعراف: 144]. وقال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. وقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75]. والمهمة الكبرى لدى الرسل هي تبليغ الدين الذي أمر الله سبحانه وتعالى بتبليغه على الملأ، قال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]. فتبليغ الرسل للناس يكون بالتوحيد والدعوة إليه {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59. 65، 73، 85]. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. أما توحيد الربوبية فهو أمر فطري أقرت به جميع الطوائف إلا مَن كابر وعاند كفرعون، قال تعالى حكاية عنه: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 23 - 27] [فتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، كما أن توحيد الألوهية متضمِّن لتوحيد الربوبية]. وكذلك من دعوة الرسل توحيد الله بأسمائه وصفاته، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] وقال تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].

فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل ودعوا إليه وجاهدوا الأمم عليه، ولهذا أمر الله سبحانه وتعالى نبيه أن يقتدي بهم كما قال تعالى، بعد مناظرة إبراهيم قومه في بطلان الشرك وصحة التوحيد؛ وذكر الأنبياء مِن ذريته {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. و"كان - صلى الله عليه وسلم - يعلِّم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا: أصبحنا على فطرة الإِسلام وكلمة الإخلاص وعلى دين نبينا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعلى ملة أبينا إبراهيمَ حنيفًا وما كان من المشركين" (¬1). فملة إبراهيم التوحيد، ودين محمَّد - صلى الله عليه وسلم - هو ما جاء به من عند الله، وفطرة الإِسلام هي ما فطر عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له والاستسلام لعبوديته ذلًّا وانقيادًا وإنابةً (¬2). فهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأُنزلت به الكتب، وقام عليه الدين، وأمر الله به، فلا توحيد ولا عبادة إلا لله {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40]. وكما أمر الله سبحانه وتعالى بتوحيده في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته نهى عن الشرك وهو أن يجعل لله نِدًّا أو شريكًا في ملكوته وربوبيته وأسمائه وصفاته {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 16]. وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194] وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ¬

_ (¬1) رواه الدارمي وأحمد والطبراني، ورجاله رجال الصحيح. انظر (الدارمي 2/ 202) بتحقيق عبد الله هاشم يماني. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية ص 43.

مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22] وقال تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29]. بل جعل الشرك في حقه أكبر الكبائر وأظلم الظلم. فقال جلّ شأنه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. هذه هي مهمة الرسل التي يقومون بالدعوة إليها، ثم بعد ذلك تبليغ الشريعة التي يوحي الله بها إليهم، لكي يبلَّغوها إلى أقوامهم، حتى يكونوا على بيِّنة مِن أمرِهم. وعلى الرسل مهام أخرى كلّفهم الله بها من التربية والسلوك اللذين هما الطريق الوحيد الذي من خلاله يستطيع الرسل إنقاذ المجتمعات من جاهليتها، وهنا لابد من بذل الجهد الطويل المتواصل حتى يستطيع أن يلبس هذا المجتمع ثوبًا جديدًا تملؤه مقومات الشريعة الإِسلامية، بعد أن كان غارقًا في متاهات وضلالات. والرسل عليهم الصلاة والسلام بهذا يكونون القدوة الحسنة لأقوامهم لأن الله سبحانه وتعالى لا يرسل رسولًا إلى قومه إلا بعد اصطفاء واختيار، ويكون من عِلية القوم من حيث الحسب والنسب والشرف. ونرى هذا الاختيار والاصطفاء موجودًا في جميع الرسل الذين أرسلهم الله عَزَّ وَجَلَّ، ونرى مصداق هذا في نبينا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. فكان يتصف بالخلق الحسن، حينما سئلت عائشة (¬1) رضي الله عنها قالت: "كان خلقه القرآن" (¬2). وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. ¬

_ (¬1) عائشة: هي بنت الصدّيق أبي بكر، أم المؤمنين تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة بسنتين، وبنى بها وهي بنت تسع سنين، كنّاها بأم عبد الله، وكان أكابر الصحابة يسألونها عن الفرائض، وكانت من أفقه الناس، روت الكثير من الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان عمرها عندما توفي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثماني عشرة سنة، توفيت سنة 58 أو 57 هـ، رضي الله عنها. انظر (أسد الغابة في معرفة الصحابة ج 5 ص 501 ابن الأثير). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين باب 18 ج 1 ص 513.

وكان يتصف بالرحمة {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. ويتّصف بالصبر {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يكون مذكِّرًا لقومه ناصحًا لهم، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، وجاء في الحديث الشريف الذي يرويه أبو هريرة (¬1) رضي الله عنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخوّلنا بالموعظة مخافة السآمة" (¬2). هذه بعض مهام الرسل التي يقومون بها تجاه أقوامهم لكي ينالوا السعادة في الدارين، فإفراد الله سبحانه وتعالى بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته أعظم مهام الرسل، وهي الغاية من إرسالهم، لتخليص الناس من الشرك، وإخراجهم من الظلمات إلى النور. ... ¬

_ (¬1) أبو هُريرة: هو عبد الرحمن بن صخر بن عامر بن صعصعة الدوسي، وكنيته أبو هُريرة، قيل إنه كان يحمل معه هرة ويلاعبها فكني بهذه الكنية، وكان أكثر الناس حفظًا لحديث رسول الله، توفي رضي الله عنه سنة 59 وقيل غير ذلك. انظر (الإصابة في تمييز الصحابة ج 4 ص 313 - ابن حجر). (¬2) أخرجه البخاري، انظر فتح الباري ج 1 ص 174.

الفصل الثاني خصوصية دعوة الرسل الذين سبقوا نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم -

الفصل الثاني خصوصية دعوة الرسل الذين سبقوا نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - الرسالات التي سبقت رسالة نبينا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - كانت رسالاتٍ خاصةً بأقوامٍ معينين وبزمان معين. وكان كل رسول يدعو قومه إلى توحيد الله عزّ وجل وعدم الإشراك به، ونبذ عبادة الأصنام، ويرغبهم بمغفرة الله عَزَّ وَجلَّ وبثوابه إن هم أطاعوه واتبعوا دعوته وساروا على منهاج الله المستقيم، وينذرهم ويخوِّفهم من عذاب الله وعقابه إذا هم ظلّوا على ما هم عليه من الكفر والتكذيب بدعوة الله عَزَّ وَجَلَّ. إذن فكان كل رسول من رسل الله عَزَّ وَجَلَّ يبين لقومه طريق الهداية وطريق الضلال، ويعرفهم أن الله سبحانه وتعالى إله، واحد أحد، فرد صمد، خالق، رازق، محيي ومميت، هو وحده يجب أن يُفرد بالعبادة (¬1). والله عَزَّ وَجَلَّ خلق الخلق ليعبدوه حق العبادة، لا يريد منهم رزقًا ولا طعامًا. يقول تعالى في محكم التنزيل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا ¬

_ (¬1) العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. انظر (العبودية: شيخ الإِسلام ابن تيمية/ ص 38).

لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]. فالأمر بالتوحيد وإخلاص العبودية لله عَزَّ وَجَلَّ رسالة كل رسول أرسله الله إلى الأرض لا ينقص منها ولا يزيد عليها، بل يبلِّغها -كما أمره الله عزّ وجلّ- لقومه ويأمرهم باتباعها وتطبيق ما جاء فيها. قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]. وقال تعالى حكاية عن هود عليه السلام: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65]. وقال تعالى حكاية عن صالح - عليه السلام - {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 73]. وقال تعالى حكاية عن شعيب - عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85]. إذن فالتوحيد هو الأساس الذي قامت عليه دعوات الرسل جميعًا من عهد آدم إلى محمَّد صلى الله وسلم عليهم أجمعين. وأما الشرك بالله -فهو أمر طارئ وحادث, لأن الله سبحانه وتعالى خلق الناس على الفطرة {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]. وفي الحديث: "كل مولود يُولَد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو يمجِّسانه أو ينصِّرانه". وجاء عن ابن عباس (¬1) -رضي الله عنهما- وغير واحد من العلماء في التفسير (وكان أوّل ما عُبدت الأصنام أن قومًا صالحين ماتوا، فبنى ¬

_ (¬1) هو: عبد الله بن العباس، ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، توفي رسول =

قومهم عليهم مساجد، وصوروا صور أولئك فيها ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم. فلما طال الزمان جعلوا أجسادًا على تلك الصور، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسمّوها بأسماء أولئك الصالحين: ودًّا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا، فلما تفاقم الأمر بانتشار الشرك وعبادة الأوثان بعث الله سبحانه وتعالى -وله الحمد والمِنّة- رسوله نوحًا - عليه السلام - فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له) (¬1). فجاء نوح عليه السلام يدعوهم إلى التوحيد، توحيد الله عَزَّ وَجَلَّ وإفراده بالعبادة وترك ما كان يعبد آباؤهم من الأوثان والأصنام. قال تعالى في شأن سيدنا نوح - عليه السلام - {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59]. وبعد أن دعى نوح - عليه السلام - قومه إلى التوحيد وترك ما يعبدون من الأصنام، واجه ردًّا قاسيًا وعنيفًا من قومه ووصفوه بالضلال المبين. قال تعالى حكاية عن قومه: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأعراف: 60]. فردّ نوح - عليه السلام - مقالتهم تلك، وأعلمهم بأن ما وصفتموني به من الضلال ليس بصحيح، وإنما أنا مبلِّغ ومرسَل إليكم مِن الله - عَزَّ وَجَلَّ - أبلِّغكم ما أمرني الله به، وأنصح لكم وأبيِّن لكم أن الذي أنتم عليه سبب في سخط الله عليكم وعقابه. وسوف يعاجلكم بالعقوبة. قال تعالى حكاية عن نوح: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي ¬

_ = الله - صلى الله عليه وسلم - وعمره آنذاك ثلاث عشرة سنة، كان يسمى بالحبر والبحر ربانيّ هذه الأمة. ودعى له النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "اللهم علَّمه التأويل". مات رضي الله عنه سنة 68 هـ أيام ابن الزبير. انظر: (الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 933). (¬1) تفسير ابن كثير: 2/ 223.

رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 61 - 62]. وقال تعالى حكاية عن تكذيب قومه لرسالته، وإنجائه مَن آمن معه، وإغراقه مَن كذّب برسالته ولم يؤمن به: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} [الأعراف: 64]. ثم يأتي بعد نوح - عليه السلام - هود - عليه السلام - لينذر قومه وما لاقاه منهم. ويدعوهم إلى التوحيد بعد أن انحرفوا وأشركوا بالله وعبدوا أصنامًا مِن صنع أيديهم وسمّوها بأسماء مِن عند أنفسهم. قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65]. فبعد أن خاطبهم بكلمة التوحيد، وأنه لا يجوز أن تكون العبادة إلا لله وحده لا شريك له؛ جابهوه بالردِّ الشديد. وهذه سنة الله سبحانه وتعالى، وأنه لابد أن يكون للدعوة إلى الله أعداء يقفون لها بالمرصاد ويتربّصون بها الدوائر ويحاولون إسقاطها وتكذيبها. فاتّهموا هودًا عليه السلام بالكذب والسفه. قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66]. فرد هود عليه السلام على مقالتهم وأخبرهم بأنه رسول رب العالمين، وإنه ليس سفيهًا كما يدّعون -وحاشا لنبي مرسَل مِن عندِ اللهِ أن يكون سفيهًا- وإنما أنا نذير وناصح لكم أبلِّغكم ما أُمرت به من الله - عَزَّ وَجَلَّ - دون زيادة أو نقص. قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 67 - 68]. ولكن قومه استمروا في عنادهم وتكذيبهم للحق الذي جاء به، بل وصل بهم الأمر إلى مطالبته بأن يأتيهم بالذي أنذرهم به.

قال تعالى حكاية عنهم: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70]. فأجابهم هود عليه السلام - {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 71 - 72]. فجاءهم ما توعّدهم به هودٌ عليه السلام من العذاب، ونجّى الله هودًا والذين آمنوا معه. وها هو نبي الله صالح - عليه السلام - يأتي قومه فيدعوهم إلى ما دعت إليه الرسل الذين دعوا أقوامَهم إلى التوحيد الخالص ونبذ الشرك والوثنيات التي كانوا يعيشونها ويعتقدون بها. فجاء نبي الله صالحُ يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وجاء عليه السلام بآية لكي تكون حجةً على صدق ما يدعو إليه وأنه الحق، وأنه من الله. وكان عليه السلام يذكِّرهم بنعمة الله عليهم، ولكن قومه كذبوه ولم يصدِّقوا قوله ورفضوا دعوته، فأخذ عليه السلام يحذِّرهم من عذاب الله وعقابه إن هم أصروا على تكذيبه، وإن هم مسّوا الناقة بسوء التي هي حجة عليهم، ولكنهم لم يعتبروا بكلامه عليه السلام. وتمادوا في طغيانهم وكفرهم وعنادهم، فكفروا بصالح وبدعوته وعقروا الناقة، فأتاهم الله بعذاب من عنده، إلا الذين آمنوا مع نبي الله صالح فنجّاهم من العذاب الذي لحق بالذين كفروا. قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73]. وقال تعالى حكاية عن قومه: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا

بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف:75 - 78]. وعلى نفس الطريق وبنفس الدعوة التي دعا بها نوح وهود وصالح عليهم السلام جاء نبي الله لوط - عليه السلام - ودعاهم إلى عبادة الله وحده وتركِ ما هم عليه من الكفر والشرك -وقد كان قوم لوط - عليه السلام - يأتون الرجالَ شهوةً مِن دون النساء فحذّرهم - عليه السلام - من عاقبة هذا الفعل الخبيث والمرض الفتاك، والمخالف لسنن الفطرة، لكنهم لم يلتفتوا لقوله ولم يأبهوا له ووقفوا منه موقف المعارض والمكابر والمستهزىء بدعوة الله ورسله. ونتيجة لأفعالهم المنكرة وعدم رجوعهم إلى طريق الحق والصواب عاقبهم الله عقابًا شديدًا وخسف بهمُ الأرض ليكونوا عبرة لمن يعتبر. قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 80 - 84]. ويُفتح الستار عن نبي الله شعيب - عليه السلام - ونرى دعوته مع قومه الذين أشركوا بالله وجعلوا لله ندًّا، واتبعوا شياطينهم وكانوا يبخسون الميزان والمكيال، وكانوا من المطفِّفين. فجاءهم نبي الله شعيب ناصحًا لهم ومحذِّرًا، ينصحهم بأن يتركوا الإِشراك بالله، وأن عليهم أن يوحِّدوه ويفردوه بالعبادة، وناهيًا لهم ومحذِّرًا مِن بخسِ المكيال والميزان وتطفيفهما لأن هذا إفساد في الأرض، والله سبحانه وتعالى لا يرضى هذا وهو - عَزَّ وَجَلَّ - لا يحب المفسدين. ويترتب على إصرارهم على الكفر وعمل المعاصي عقابٌ شديد من الله - عَزَّ وَجَلَّ -.

وفعلًا ظلُّوا على ما هم عليه فعاجلهم الله بالعقوبة. وهذا شأن كل مستكبر ضالٍّ عن الطريق السويّ لا يأتمر بأوامر الله ولا ينتهي بالنواهي. قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85]. ولكن قوم شعيب لم يتركوا شعيبًا ومن آمن معه، بل هددوهم بإخراجهم من القرية أو أن يعودوا إلى دين آبائهم وأجدادهم، ولكن شعيبًا - عليه السلام - والذين آمنوا معه بِعُلُوِّ إيمانهم وإخلاصهم لله لم يُلقوا لهم بالًا ولم يستمعوا لما يقولون، واستمروا على إيمانهم غير مبالين بما يفعلون. قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 88 - 89]. وهكذا حال مَن كفر برسل الله، فإن الله سبحانه وتعالى بالمرصاد لكل من يقف موقف المعادي للرسل والرسالات السماوية. قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 91]. ثم بعد هؤلاء الأنبياء أرسل الله سبحانه وتعالى كَلِيمَه ورسولَه إلى بني إسرائيلَ، أرسله الله سبحانه وتعالى إلى قومه الذينِ كانوا تحت حكم فرعون وسلطانه. فجاء موسى - عليه السلام - إلى فرعون يبيِّن له بأنه مرسَل مِن رب العالمين الأحد الفرد الصمد الخالق الرازق المحيي المميت، وهو رب كل شيء ومليكُه. ثم بيَّن موسى - عليه السلام - لفرعونَ بأنه جاء ببيِّنة وحجة دالّة ومصدِّقة على أنه مرسَل من الله سبحانه وتعالى. لذا عليك أن

ترسل معي بني إسرائيل -أي أطلق سراحهم من أمرك وعبادتك وتسلُّطك عليهم إلى عبادة الله الواحد الأحد. فكان من أمر فرعون أنه كذّبه وكذب ما جاء به من الحق، وطلب منه أن يظهر الدليل على صدقه، وأنه رسول من رب العالمين. فأظهر موسى عليه السلام الدليل على صدقه، وهي إلقاء العصا فتنقلب ثعبانًا، وإدخال يده في جيبه فتخرج بيضاء متلألئة من غير سوء. ولكن فرعون وقومه استمروا في طغيانهم واستكبروا عن طاعة رسول الله، بل ونسبوا إليه السحر. {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 104 - 110]. وكان الملأ من قوم فرعون يحرضون فرعون على موسى وقومه، وأنهم يعيثون في الأرض فسادًا وتركوا عبادتك وتمرّدوا على سلطانك، فقرر فرعون تقتيل الأبناء واستحياء النساء؛ أبناء المؤمنين ونساؤهم، قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]. فأخذ موسى عليه السلام يحثّ قومه ويأمرهم بالصبر والاستعانة بالله حتى يفرِّج الله سبحانه وتعالى عنهم ما هم فيه من البلاء ويجعل لهم مخرجًا {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128].

فأجابه قومه بأنهم كانوا يؤذَون من قبل مجيئه ومن بعد مجيئه والآن نحن نذل ونهان. وموسى عليه السلام رغم كل هذا يصبِّرهم ويواسيهم في مصيبتهم وأن نصر الله قريب منهم. قال تعالى: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]. ولكن فرعون وقومه ظلوا مكابرين معاندين حتى سلط الله عليهم الجوع وقلة الزروع والثمار، وكانوا يطَّيّرون بموسى ومن معه؛ فإذا جاءتهم حسنة ومكرمة قالوا لنا هذه بما نستحق، وإذا أصابهم قحط وجدب اطَّيّروا بموسى وقومه. قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعر اف: 130 - 131]. ولكن تمرُّد فرعون وقومه وإصرارهم على الباطل جعلهم يتهكّمون بموسى {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 132 - 136]. ثم أرسل سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام -خاتمة أنبياء بني

إسرائيل -يدعوهم بدعوة الرسل، دعوة التوحيد الخالص وإخلاص العبادة لرب العباد, لأن العبودية لغيره من أكبر الكبائر وأظلم الظلم، إذ هي شرك بالله وصرفُ خالص حقه لغيره. قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]. وعندما أُرسل عيسى عليه السلام إلى قومه جاء ببينة وحجة على صدقه في قوله وصحة رسالته ونبوته, لأن كل رسول لابد له من آيات تدلّ على صدقه. وكانت آيته عليه السلام: إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص. قال تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49]. وفي موضعِ آخر يقول تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)} [آل عمران: 50، 51]. جاء في الحديث الشريف: "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، والأنبياء أخوة لعلات، وإن أَولى الناس بابن مريم لأنا إنه ليس بيني وبينه نبي" (¬1). وهذا الدين هو الإِسلام الذي لا يقبل الله دينًا غيره لا من الأولين ولا من الآخرين، فإن جميع الأنبياء على دين الإِسلام. قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ ¬

_ (¬1) (انظر (صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري ج 6/ 477 كتاب الأنبياء، باب فضائل عيسى عليه السلام).

قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 71 - 72]. وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)} [البقرة:130 - 131]. وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84]. وقال تعالى عن بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]. وقال تعالى عن حواريي عيسى عليه السلام: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111]. قال الشيخ: (فالإِسلام هو الاستسلام لله وحده فمن استسلم له ولغيره عن عبادته كان مشركًا، ومن لم يستسلم له كان مستكبرًا عن عبادته وحده وطاعته وحده) (¬1). فهذا التوحيد الذي جاءت به الرسل يُخرج الناس من الظلمات إلى النور ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. وتبين لنا أن دعوة كل نبي هي دعوة التوحيد مِع اختلاف الشرائع، وصدق الله إذ يقول: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. ... ¬

_ (¬1) (الرسالة التدمرية لشيخ الإِسلام ابن تيمية/ 10).

الفصل الثالث عموم رسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -

الفصل الثالث عموم رسالة نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فيما تقدم تبين لنا مدى حاجة الناس إلى الرسل، وأن حاجتهم إلى الرسالة أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب والدواء والهواء والتنفس الذي يدور بين جنبات الإِنسان. ثم إن الرسالات السابقة لرسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - كانت رسالات خاصة؛ كل رسول لقومه ولزمن معين (حيث كانت حياة البشرية في عصورها الأولى حياة محدودة المطالب؛ كان كل نبي يُبعث إلى قومه خاصة، ويحمل إليهم من هدي السماء ما يرشدهم إلى صراط الله المستقيم وما يساعدهم على تقويم حياتهم الدنيا وفق هدي الله. ودخلت البشرية في تطورها مع رسل الله المتتابعين إليها حتى كان التهيؤ الكامل لما وصلت إليه البشرية من نفع وما حققته من جوانب الحضارة وما تيسر لها من أسباب الاتصال شرقًا وغربًا، ووصلت ما وصلت إليه، فأذن الله سبحانه وتعالى بفجر رسالة جديدة عالمية ختم بها الرسالات السماوية، إذ أنها الحق بأنها رسالة البشرية كافة فبُعث محمَّد - صلى الله عليه وسلم -) (¬1). ¬

_ (¬1) عن محاضرة سمو الإِسلام وعالميته للشيخ مناع القطان.

فأرسل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هاديًا ومبشِّرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فجعل رسالته عامة إلى الجن والإنس، وباقية إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها. فجاءت رسالته - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، فنسخت جميع الشرائع التي سبقتها وبها اختتمت؛ فلا رسالة بعد رسالته - صلى الله عليه وسلم - فلا يهودية ولا نصرانية إنما هو الإِسلام قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] وقال تَعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] فكما ختمَ الله سبحانه وتعالى الدين بالإِسلام فقد ختم الأنبياء بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، إذ جعله خاتم الأنبياء والمرسلين. فقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. وجاء في الحديث الشريف: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون: هلّا وضعت هذه اللبنة. وأنا اللبنة وأنا خاتم (¬1) النبيين" وفي الحديث الآخر: "إن لي أسماء: أنا محمَّد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب والعاقب الذي ليس بعده نبي" (¬2) وفي حديث آخر: "وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي" (¬3) وفي حديث آخر: "فُضِّلت على الأنبياء بسِتّ: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري انظر فتح الباري كتاب المناقب، باب خاتم 6/ 558. (¬2) أخرجه البخاري انظر فتح الباري كتاب المناقب، باب في أسماء الرسول 6/ 554. (¬3) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الفتن، باب لا تقوم الساعة 4/ 499، وقال: حديث حسن صحيح.

أُعطيتُ جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأُحِلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا؛ وأُرسلتُ إلى الخلق كافة، وخُتم بي النبيون" (¬1) فختم الله به الأنبياء وجعل رسالته خاتمة لجميع الرسالات السماوية فكان لزامًا على أصحاب الديانات الأخرى أن يتبعوه ويؤمنوا به وينصروه بعد بعثته. حيث أخذ الله سبحانه وتعالى على الأنبياء الذين سبقوه الميثاق، وبشّر به عيسى عليه السلام قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] وقال تعالىِ: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] وقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [آل عمران: 20]. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "لم يبعث الله نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق؛ لئن بُعث محمَّد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بُعث محمَّد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه" (¬2). وهذا وغيره من النصوص يؤكد على لزوم اتباع أهل الكتاب النبي محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى بنسخة من التوراة فقال: يا رسول الله هذه نسخة من التوراة، فسكت، فجعل يقرأ ووجه رسول الله يتغير فقال أبو بكر: ثكلتك الثواكل، ما ترى رسول ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب (1) 1/ 370. (¬2) الرسالة التدمرية لشيخ الإِسلام ابن تيمية ص 110.

الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فنظر عمر إلى وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله، رضينا بالله ربًا وبالإِسلام دينًا وبمحمد نبيًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم على سواء السبيل ولو كان موسى حيًا وأدرك نبوتي لاتّبعني" (¬1). فهذه نصوص السنّة تدل دلالة واضحة على عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم -، ويدخل في هذا العموم أهل الكتاب وغيرهم من الناس، فهم يدخلون في عموم النصوص التي أوردناها. وهناك نصوص أخرى من الكتاب تدل دلالة قطعية على عموم بعثته - صلى الله عليه وسلم - إلى الجن والإِنس كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف: 104] وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28] وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] وقوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2]. وجاء في الحديث الصحيح: "أُعطيتُ خمسًا لم يُعْطَهن أحد من قبلي: نُصرتُ بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأحِلَّتْ لي الغنائم ولم تحلَّ لأحد قبلي، وأُعطيتُ الشفاعةَ، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة" (¬2) وفي حديث آخر: "والذي نفس محمَّد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ثم ولم يؤمن بالذي ¬

_ (¬1) سنن الدارمي 1/ 95 ورواه أحمد بإسناد حسن وابن حبان بإسناد صحيح. (¬2) أخرجه البخاري انظر فتح الباري 1/ 435 كتاب التيمم الباب الأول.

أُرسلت به (¬1) إلا كان من أصحاب النار". أما كونه - صلى الله عليه وسلم - مبعوثًا إلى الناس كافة فهذا معلوم من دين الإِسلام بالضرورة، وأما ما جاء من زعم النصارى أنه رسول إلى العرب خاصة؛ فهو قول ظاهر البطلان وإنهم لما صدّقوا بالرسالة لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به، وقد قال إنه رسول الله إلى الناس عامة والرسول لا يكذب فلزم تصديقه (¬2). ويقول شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬3) رادًّا على شبهة أهل الكتاب بقوله: "إما أن يقروا برسالته أي برسالة نبينا محمد أو لا يقروا فإن أقروا بأنه رسول أرسله الله لم يمكن مع ذلك تكذيبه، بل يجب الإِقرار برسالته إلى جميع الخلق كما أخبر بذلك الله سبحانه وتعالى ورسوله. وقد أجمع أهل الملل قاطبة على أن الرسل معصومون فيما يبلِّغونه عن الله تبارك وتعالى، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنه لا يمهل أحدًا يكذب عليه ويدّعي النبوة بل يعاجله بالعقوبة" (¬4). قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44 - 47] وما فعله - صلى الله عليه وسلم - من إرسال الرسل إلى ملوك الفرس في العراق وملوك الروم في الشام وملوك الأقباط في مصر من الأدلة التي تؤكد على أن رسالته إلى الناس كافة وأنها باقية إلى أن تقوم الساعة "وإن نصوص الإسلام وواقعه العملي يدلان دلالة قاطعة على أنه دين عالمي وأن رسالته للعالمين" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم 1/ 134. (¬2) العقيدة الطحاوية ص 111. (¬3) هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله الحرّاني، الشيخ الإمام العلاّمة الفقيه المفسّر المحدّث شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس المشهور بابن تيمية، ولد بحرّان بسوريا سنة 661 وتحوّل مع أبيه إلى دمشق سنة 667 وتوفي سنة 728 وله مصنفات عديدة انظر (فوات الوفيات لمحمد الكتبي 1/ 72). (¬4) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 1/ 164 - 165. (¬5) الدعوة الإسلامية دعوة عالمية لمحمد الراوي ص 45.

"إن عموم الرسالة المحمدية وبقاءها وعدم قابليتها للنسخ والتبديل والتغيير بالتنقيص أو الزيادة، كل ذلك يستلزم عقلًا وعدلًا أن تكون قواعدها وأحكامها وجميع ما جاءت به على نحو يحقق مصالح الناس في كل عصر ومكان، ويفي بحاجتهم ولا يضيق عنها ولا يتخلف عن توجيه أي مستوى عال يبلغه المجتمع البشري. إن هذا والحمد لله متوافر في الشريعة الإِسلامية, لأن الله سبحانه وتعالى وهو العليم الخبير إذ جعلها عامة في كل زمان ومكان وخاتمة لجميع الشرائع جعل قواعدها وأحكامها صالحة لكل زمان ومكان ومهيأة للبقاء والاستمرار. لهذا العموم إن ما نقوله هو الحق ويدل عليه واقع الشريعة الإِسلامية وطبيعة مبادئها وأحكامها وأفكارها ومناهجها" (¬1). إن في الرسالة المحمدية ميزات جعلتها عالمية، فالرسالة منذ أن انبثقت في قلب الجزيرة العربية وهي تحمل العقيدة الصحيحة والإخاء والمساواة، جاءت هذه الرسالة لتعالج قضية الإِنسان بصرف النظر عن شكله أو جنسه أو لغته، فرسالة الإِسلام أرجعت البشرية إلى أصل نشأتها الأولى من أب واحد وأم واحدة فساوت بينهم، لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. فالإِسلام أبرز كرامة الإِنسان وجعلها في واقع الحياة سواسية كأسنان المشط الواحد، لم يميز بين هذا وذاك بلون أو جنس أو قبيلة، فقال في العصبية الممقوتة "دَعُوها فإنها منتنة" (¬2). ¬

_ (¬1) أصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان ص 55. (¬2) أخرجه البخاري انظر فتح الباري 8/ 648 كتاب التنصير باب سواء عليهم.

وقال: "ليس منا من مات على عصبية وليس منا من دعا إلى عصبية" (¬1). والرسالة المحمدية وفت بحاجة الإِنسانية جميعًا فيما يصون وحدتها ويرعى إنسانيتها ويحمي أفرادها، وكذلك النظم والتشريعات التي تجعل الإنسانية على حد سواء لا فرق بين أسود وأبيض ولا عربي وأعجمي (¬2). والرسالة الإِسلامية جاءت ميسِّرة لا معسِّرة، وبينت بأن هذا الدين يسر، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "إن هذا الدين يسر ولن يشادَّ الدينَ أحد إلا غلبه" (¬3) وللإِسلام مُثُلُه وميزاته التي لا حصر لها, ولو استطعنا أن نلم بها لاحتجنا إلى مجلدات حتى تفي بهذا الغرض، ولكن يكفي أن نقول إن الله سبحانه وتعالى عندما جعله خاتم الأديان ونبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء إشارة لنا بأن هذا الدين وهذه الرسالة عامة شاملة لكل الإِنس والجن، ولكل زمان ومكان، لما فيها من العالمية والسمو والسعة ما ليس في غيرها من الشرائع السابقة، مما جعلها صالحة لكل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وصدق الله إذ يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. ... ** * ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب باب العصبية 5/ 342 وحسنه السيوطي في الجامع الصغير انظر فيض القدير 5/ 386. (¬2) الدعوة الإِسلامية دعوة عالمية لمحمد الراوي ص 46. (¬3) أخرجه البخاري انظر فتح الباري 1/ 93 كتاب الإيمان باب الدين.

الباب الثاني بيان المقصود بأهل الفترة

البَاب الثَاني بيان المقصود بأهل الفترة وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: التعريف بأهل الفترة. الفصل الثاني: حكم مطالبتهم بأحكام الأنبياء السابقين. الفصل الثالث: الملحقون بأهل الفترة: ويشتمل هذا الفصل على مبحثين: المبحث الأول: أطفال المشركين. المبحث الثاني: المجانين وذوو العاهات.

الفصل الأول تعريف أهل الفترة

الفصل الأول تعريف أهل الفترة قال صاحب لسان العرب: الفترة في اللغة: الانكسار والضعف، وفتر الشيء والحر وفلان، يفتُر ويفتِر فتورًا وفتارًا: سكن بعد حدّة ولانَ بعد شدة، وفتره الله تفتيرًا وفتَّر هو. وقيل: فتر أي أقام وسكن، وقيل فتّر المطر: فرغ ماؤه وكفّ وتحيّر. والفَتَر: هو الضعف، وفتر جسمه: لانت مفاصله، وتقول: أجد في نفسي فترة وهي كالضعفة، ويقال للشيخ الكبير: قد علته كبره وعرته فترة. وأفتره الداء: أي أضعفه، وجاء في الحديث الشريف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن كل مسكر ومفتِّر" (¬1) فالمسكر الذي يزيل العقل، والمفتِّر: هو الذي يفتِّر الجسم. ويقال: ماء فاتر إذا سكن بعد حره، وطرْف فاتر: أي فيه فتور، أي ليس حادّ النظر (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه ج 4 ص 90 كتاب الأشربة. وقال السيوطي: هو صحيح، انظر فيض القدير على شرح الجامع الصغير. وقال العراقي: إسناده صحيح. (¬2) لسان العرب -ج 5 ص 43 - ابن منظور.

والفِتر ما بين السبابة والابهام (¬1)، وفترُ الشيء قدره، وتقول افتراه الداء أي أضعفه، وأنشد ابن مقبل (¬2): تأمّل خليلي هل ترى ضوء بارق ... بيمان رمته ريح نجد ففترا (¬3) وقال الأخطل (¬4): وتجردت بعد الهدير وصرحت ... شهباء ترمي ثوبها بفتار والفترة: فعلة من قول القائل فتر هذا الأمر يفتر فتورًا، وذلك إذا هدأ وسكن، وتقول فتر الرجل عن علمه عما كان عليه من الجد فيه. أما في الاصطلاح: هي ما بين كل نبيين، فقد ذكر ابن كثير (¬5) في تفسيره تعريف الفترة فقال: هي ما بين كل نبيين كانقطاع الرسالة بين عيسى عليه السلام ومحمد - صلى الله عليه وسلم - (¬6)، وذكر السبكي (¬7) في تعريف الفترة: هي ما كانت بين رسولين لم يُرسل إليه الأول ولم يُدرِك الثاني (¬8). ¬

_ (¬1) ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير ج 3 ص 244. (¬2) ابن مقبل: هو تميم بن أبي مقبل من بني عجلان، أبو كعب، شاعر جاهلي أدرك الإِسلام وأسلم، فكان يبكي أهل الجاهلية. عاش نيفًا ومائة سنة وعُدّ من المخضرمين، وكان يهاجي النجاشي الشاعر، توفي سنة 37 هـ./انظر (الأعلام ج 2 ص 71 - الزركلي). (¬3) أساس البلاغة 462 - الزمخشري. (¬4) الأخطل: هو غياث بن غوث ين الصلت بن عمر، ولد سنة 19 هـ، شاعر نصراني، اشتهر في عهد بني أمية وكان شاعرهم، وكان يتهاجى مع جرير والفرزدق، توفي سنة 90 انظر (الأعلام ج5 ص 318). (¬5) ابن كثير: هو إسماعيل بن عمر القرشي الشافعي أو البصروي الدمشقي. أبو الفداء، عماد الدين، حافظ مؤرخ فقيه مفسر، من أهم مصنفاته: تفسيره، والبداية والنهاية، وشرح البخاري ولم يكمله، توفي رحمه الله سنة 774/ انظر (الأعلام ج 1ص 317). (¬6) تفسير القرآن العظيم ج 2 ص 35. (¬7) السبكي: هو عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي، السبكي، الشافعي، ولد سنة 727، وجرى عليه من المحن والشدائد ما لم يجر على قاض قبله توفي سنة 771 هـ. انظر (الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/ 184). (¬8) جمع الجوامع ج 1ص 63.

وقد ذكر الألوسي (¬1) في تفسيره: أجمع المفسرون بأن الفترة هي انقطاع ما بين رسولين (¬2). وقيل الفترة ما بين إسماعيل ومحمد عليهما السلام، وقد اختار الشربيني في حاشية جمع الجوامع أن أهل الفترة هم العرب من انقطاع رسالة سيدنا إسماعيل إلى زمن نبينا محمَّد (¬3). وهذا القول فيه تخصيص أهل الفترة بالعرب، وهذا التخصيص ليس له دليل يستند إليه، والحق أن أهل الفترة من كانوا بين رسولين لم يُرسَل إليهم الأول ولم يدرِكوا الثاني (¬4)، وإنما هناك فترات. كالفترة التي حصلت بين نوح وإدريس (¬5)، والفترة التي حصلت بين عيسى ومحمد كما سبق عن ابن كثير والألوسي وغيرهما من العلماء، لذا نرى قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} [المائدة: 19] نراه يؤيد ما ذهبنا إليه من أن الفترة عامة، ولم تخصص بقوم من الأقوام ولا بزمن من الأزمان، فهذه الآية التي ذكرناها تخاطب أهل الكتاب واليهود خاصة, لأنها نزلت في المدينة، وحيث لا يوجد في المدينة من أصحاب الكتب السابقة إلا اليهود، ولو نظرنا إلى سبب نزول هذه الآية لعرفنا أن النبي محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يرسَل إلى أهل الفترة من العرب فقط بل أرسل إلى العرب وغيرهم من أهل الكتاب وكل من لم تبلغه الدعوة. ¬

_ (¬1) الألوسي: هو أبو الثناء شهاب الدين محمود بن عبد الله الألوسي، ولد بالكرخ سنة 1217 هـ. حفظ القرآن صغيرًا وكان محبًا للعلم، شغل منصب مفتي الحنفية ببغداد، كانت حياته مضطربة من حسد وسجن وفقر، له كثير من الآثار العلمية منها المطبوع والمخطوط/ انظر (الألوسي مفسرًا ص 66) الدكتور محسن عبد الحميد. (¬2) روح المعاني ج 6 ص 103 الألوسي. (¬3) جمع الجوامع 1/ 63 - السبكي. (¬4) المصدر السابق 1/ 63 - السبكي. (¬5) تفسير القرآن العظيم المسمى بالسراج المنير 2/ 289.

نزلت هذه الآية لتبين لأهل الكتاب الطريق الصواب بعد أن انحرفوا عن الحق واتبعوا هوى النفس والشيطان، وبعد ما فرطوا في أمور دينهم والخروج على القيم والأخلاق والآداب. {يُبَيِّنُ لَكُمْ} هذا في الآية تفيد العموم، ويدخل فيه ما يبينه لكم مما كنتم تخفون من الكتاب لإِقامة الحجة عليكم، ولو لم يكن رسولًا من عند الله لما عرف ذلك، وحتى تقوم عليكم الحجة، وحتى لا تقولوا يوم القيامة {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} (¬1). وسبب نزول الآية كما ذكر ابن عباس قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهود إلى الإِسلام فرغّبهم فيه وحذّرهم فأبَوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة (¬2) وعقبة بن وهب (¬3): يا معشر يهود اتقوا الله فوالله لتعلمنّ أنه رسول الله وقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه تصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهودا؛ إنا ما قلنا لكم هذا، وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى، ولا أرسل بشيرًا ولا نذيرًا بعده. فأنزل الله هذه الآية للرد عليهم (¬4). وأوضح الفترات وأبرزها لنا هي الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد عليهما السلام. ¬

_ (¬1) تفسير المنار 6/ 319 محمَّد رشيد رضا. (¬2) سعد بن عبادة: هو سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة الخزرجي الأنصاري، سيد الخزرج. يكنى بأبي ثابت، وأمه عمره بنت معوذ، ولها صحبة، شهد سعد العقبة وكان أحد النقباء، وكان يحمل راية الأنصار، توفي رضي الله عنه سنة 15 للهجرة. انظر (الإصابة 2/ 30). (¬3) عقبة بن وهب: ويقال ابن أبي وهب بن أبي ربيعة الأسدي، وهو أخو شجاع بن وهب، وكان قد شهد بدرًا، وذكر أنه كان مع أخيه في هجرة الحبشة وليس هذا بثابت - (الإصابة في تمييز الصحابة 2/ 492). (¬4) لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص 88.

اختلاف الناس في الفترة: وقد اختلف الناس في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد عليهما السلام إلى أقوال هي: الأول: أنه كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة، وقال به مقاتل (¬1). الثاني: أنه كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستون سنة وخمسمائة، وهو قول قتادة (¬2). الثالث: أنه كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة، وهو قول الضحاك (¬3). الرابع: أنه كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام خمسمائة وتسع وتسعون سنة. وكان بعد عيسى عليه السلام أربعة من الرسل، ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب (¬4)، لما ورد في طبقات ابن سعد (¬5) عن هشام بن محمَّد بن السائب (¬6) عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال: "كان بين موسى بن ¬

_ (¬1) مقاتل: هو مقاتل بن سليمان الأسدي، من المفسرين توفي سنة 150 هـ انظر (الأعلام 8/ 206). (¬2) قتادة: هو ابن دعامة أبو الخطاب الدوسي، حافظ قال عنه الإِمام أحمد: قتادة أحفظ أهل البصرة، وكان قد دلس في الحديث، مات بواسط بالطاعون سنة 118 (الوفيات 4/ 80). (¬3) الضحاك: هو ابن مزاحم البلخي، وكان مؤدبًا للأطفال وله مدرسة للأطفال توفي سنة 105 هـ انظر (الأعلام 3/ 310 الزركلي). (¬4) زاد المسير 2/ 319 ابن الجوزي. (¬5) انظر (طبقات ابن سعد 1/ 59) ابن سعد: هو محمَّد بن سعد الهاشمي. صاحب الطبقات وأحد الحفاظ، توفي سنة 230 تهذيب التهذيب 9/ 182. (¬6) محمَّد بن السائب: ويكنى بالكلبي، قال البخاري: الكلبي تركه يحيى، وقال ابن حبان: مذهبه متروك، ووضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه، كان سبئيًا ويقول إن عليًا لم يمت، وإنه راجع إلى الدنيا يملؤها عدلًا. ميزان الاعتدال: 3/ 558 - الذهبي.

عمران وعيسى ابن مريم ألف سنةٍ وستعمائة سنة ولم تكن بينهما فترة، وأنه أُرسل بينهما ألفا نبي من بني إسرائيل سوى من أُرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى وميلاد محمَّد عليهما السلام خمسمائة وتسع وستون سنة، فبعث في أولها ثلاثة أنبياء، وما ورد بشأن خالد بن سنان "ذلك نبي ضيّعه قومه" وقال: "بنت نبي ضيّعه قومه" (¬1). وهذا القول -أي الرابع- يناقض الحديث الصحيح الذي ورد في البخاري (¬2) من أنه ليس هناك نبوة بين عيسى ومحمد عليهما السلام فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات، ليس بيني وبينه نبي" (¬3) وهذا الحديث فيه دلالة واضحة على أنه لم يبعث بين عيسى ومحمد عليهما السلام نبي. لا من بني إسرائيل ولا من العرب، كما ورد في طبقات ابن سعد. والحديث الذي أورده ابن سعد ليس صحيحًا، ففي سنده محمَّد بن السائب وهو كذاب، أما ما ورد بشأن خالد بن سنان، فهي أحاديث ضعيفة وهي معارضة لما في الصحيح من حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري. وذكر ابن كثير أن هذه مرسلات لا يحتجّ بها هاهنا، وقال الهيثمي (¬4): وهذا الحديث معارض لما في الصحيح "أنا أولى الناس ¬

_ (¬1) انظر (الأحاديث الضعيفة للألباني 297 - 298). (¬2) البخاري: هو أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم، ولد سنة 194، نشأ يتيمًا، وله من المصنفات: الجامع الصحيح، والتاريخ, توفي رحمه الله سنة 256 انظر (التذكرة 2/ 555). (¬3) رواه البخاري/ انظر فتح الباري ج 6 ص 477 - كتاب الأنبياء باب "فضائل عيسى". (¬4) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 8/ 214 الهيثمي: هو علي بن أبي بكر، نور الدين، أبو الحسن، ولد سنة 735 هـ، وكان شديد الإنكار على المنكر، محبًا للغرباء وأهل الدين والعلم، وله مصنفات عديدة منها: "مجمع الزوائد"، (ذيل تذكرة الحفاظ ص 429).

بعيسى بن مريم والأنبياء إخوة لعلات وليس بيني وبينه نبي". والراجح من هذه الأقوال الأربعة الآنفة الذكر القول الأول. الذي قال به مقاتل عن ابن عباس، لما أيده البخاري في صحيحه, فقد جاء في الصحيح: "أن الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة" (¬1). والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري/ انظر فتح الباري ج 7 ص 277، كتاب مناقب الأنصار باب إسلام سلمان.

الفصل الثاني " حكم مطالبتهم بأحكام الأنبياء السابقين"

الفصل الثاني " حكم مطالبتهم بأحكام الأنبياء السابقين" قبل أن نبدأ في البحث لابد لنا من تمهيد نبين فيه الحكم الشرعي وما يترتب عليه من تعريف المكلف وشروطه. اتفق العلماء على أن جميع الأحكام التكليفية والوضعية، مصدرها الكتاب والسنة، والله سبحانه وتعالى هو الحاكم {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40]. فالحكم الشرعي هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين (¬1). والتكليف في اللغة: إلزام ما فيه كلفة، يقال: كلفت هذا الأمر وتكلفته، والكلفة ما تكلفت به من أمر في نائبة أو حق (¬2). ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول -الشوكاني ص 6. (¬2) لسان العرب -ابن منظور- 9: 307.

جاء في الحديث الشريف الذي يرويه عمر - رضي الله عنه - (¬1) يقول: "نهينا عن التكلف" (¬2). والمكلَّف في الاصطلاح: هو الشخص الذي تعلق حكم الشارع بفعله (¬3). شروط المكلَّف: 1 - أن يكون قادرًا على فهم الدليل, لأن التكليف خطاب. وخطاب من لا عقل ولا فهم له محال، والقدرة على الفهم تكون بالعقل, لأن العقل هو أداة الفهم والإِدراك، وبه يمكن الامتثال، ولما كان العقل من الأمور الخفية، ربط الشارع التكليف بأمر ظاهر منضبط يدرك بالحس، وهو البلوغ، بأن يكون عاقلًا، ويعرف ذلك بما يصدر عنه من الأقوال والأفعال، بحسب المألوف بين الناس، فمن بلغ الحلم ولم يظهر خلل في قواه العقلية والفعلية والقولية صار مكلفًا (¬4). 2 - أن يكون أهلًا للتكليف، والأهلية هي الصلاحية. قال تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26]. والأهلية تتحق بالعقل والفهم. 3 - أن يكون عالمًا بما كُلِّف به أو متمكنًا من العلم، ليستطيع الفعل والترك (4) , لأن التكليف بالمستحيل، والتكليف بما لا يقدر عليه المكلف محال. ¬

_ (¬1) هو عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي، أبو حفص أسلم قبل الهجرة، وهو أول من وضع للعرب التاريخ الهجري، ولقب بالفاروق، قتله أبو لؤلؤة المجوسي سنة 23 هـ بطعنة خنجر مسمومة. انظر (الاستيعاب، لابن عبد البر، 3: 1144). (¬2) أخرجه البخاري، انظر (فتح الباري 13: 265). (¬3) الوسيط في الفقه الإسلامي، للزحيلي، 165. (¬4) نظرية التكليف، للجبائي، تحقيق عبد الكريم عثمان ص 307.

أقسام أهل الفترة وتحرير محل النزاع: ينقسم أهل الفترة إلى قسمين: القسم الأول: من بلغته الدعوة. القسم الثاني: من لم تبلغه الدعوة وبقي على حين غفلة. ويشمل القسم الأول نوعين هما: 1 - من بلغته الدعوة، ووحّد ولم يشرك. 2 - من بلغته الدعوة ولكنه غيّر وأشرك. فمن وحّد ولم يشرك بالله شيئًا كقس بن ساعدة (¬1) الأيادي، الذي ذكره ابن كثير في بدايته، وقسّ هذا له خطبة مشهورة من كلماتها "أقسم قسٌّ قسمًا لاريب فيه أن لله دينًا هو أرضى لكم من دينكم" (¬2). وكذلك "زيد بن عمرو بن نفيل" (¬3) الذي كان يقول: "اللهم إني لو أعلم أحبَّ الوجوه إليك عبدتك، ولكني لا أعلم -ثم يسجد على راحلته" (¬4). وكان يقوِل: أربًّا واحدًا أم ألفُ رَبٍّ ... أدين إذا تقسّمت الأمور (¬5) وقد أدركه النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه، وكان يتحنث في غار حراء، وكان لا ¬

_ (¬1) هو قسّ بن ساعدة بن عمرو بن مالك بن إياد، أحد حكماء العرب، ومن كبار خطبائهم كان أسقف نجران. ويقال: إنه أول عربي خطب على سيف أو عصا، وأول من قال في كلامه "أما بعد" أدركه النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة وسئل عنه بعد البعثة فقال: "يُحشر أمة وحده" توفي سنة 23 قبل الهجرة. انظر (الأعلام 6: 39). (¬2) البداية والنهاية -ابن كثير، 2: 230. (¬3) هو زيد بن عمرو بن نفيل أحد حكماء العرب، وكان يكره عبادة الأوثان، رحل إلى الشام باحثًا عن دين، ثم عاد إلى مكة ليعبد الله على دين إبراهيم، كان عدوًّا لدودًا لوأد البنات، وهو والد سعيد بن زيد الصحابي الجليل انظر (الأعلام 3/ 100). (¬4) البداية والنهاية -ابن كثير- 2/ 237. (¬5) الأعلام للزركلي: 3/ 100.

يأكل مما ذبح على النصب، فذُكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد البعثة فقال: "غفر الله له ورحمه فإنه مات على دين إبراهيم" (¬1). وهذا النوع ليس محلًا للنزاع وذلك لورود النصوص التي تدل على أنهم ماتوا على التوحيد. والنوع الثاني: بلغته الدعوة ولكنه أشرك وغيّر ولم يوحد، وأمثلة ذلك كثيرة منها: 1 - عمرو بن لحي (¬2): فهو أول من سن عبادة الأصنام؛ فبحّر البحيرة، وسيّب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي (¬3) قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رأيت عمرو بن لحي بن خندف أخا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار (¬4). وهذا محمول على أنه غير وبدل وأشرك بعد أن بلغته الدعوة. 2 - وكما ورد في عبد الله بن جدعان (¬5). "فعن عائشة - رضي الله عنها - أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ابن جدعان قالت: قلت يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعه؟ قال: لا، إنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر (فتح الباري: 7/ 147). (¬2) هو عمرو بن لحي بن عامر الأزدي، أوّل من غيّر في دين إسماعيل، قدم الشام فوجد أهلها يعبدون الأصنام وأعجب بها، فأخذ منها وأتى مكة ودعا الناس إلى عبادتها، وكان آنذاك سيد قومه انظر (الأعلام للزركلي 5: 257). (¬3) الحاوي للفتاوي -السيوطي- 2: 392. (¬4) أخرجه مسلم -انظر (النووي- 17: 188 كتاب الجنة باب الصفات). (¬5) هو عبد الله بن جدعان التميمي القرشي أحد الأجواد المشهورين في الجاهلية، أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة، وكانت له جفنة يأكل منها الطعام القائم والراكب. انظر (الأعلام 4: 204). (¬6) أخرجه مسلم، انظر (النووي 3: 86 باب من مات على الكفر لا ينفعه عمل).

3 - ما ورد في أبي (¬1) الرسول - صلى الله عليه وسلم -، الحديث الذي أخرجه مسلم "أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفا دعاه فقال له: إن أبي وأباك في النار" (¬2). وأما ما ورد بشأن أمه (¬3) - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي" (¬4). فهذا الحديث يحتمل أنها بلغتها الدعوة ويحتمل أنها لم تبلغها الدعوة، وهذا النص ليس بصريح لأن النهي عن الاستغفار لها حيث أنها لم تمت على التوحيد سواء بلغتها الدعوة أم لم تبلغها، والله أعلم. وهذا النوع ليس محلًا للنزاع لورود النصوص التي تفيد بأن الدعوة قد بلغتهم. وقد ذكر السيوطي في الحاوي أن الله سبحانه وتعالى أحيا له أبويه فأسلما على يديه ثم ماتا (¬5). وقد نقل السيوطي ذلك عن الخطيب البغدادي في اللاحق والسابق والسهيلي في الروض الأنف (¬6)، والقرطبي في التذكرة (¬7). وقد تناقلت هذا الكلام بعض كتب السيرة وغيرها من كتب التاريخ التي تحمل الغث والسمين. مع أن هذا الكلام لا دليل على صحته إطلاقًا، وإنما هو من التخرصات التي تنتشر عند عوام الناس. ¬

_ (¬1) وهو عبد الله بن عبد المطلب، توفي والرسول - صلى الله عليه وسلم - في بطن أمه. انظر "الطبقات- لابن سعد 99:1). (¬2) أخرجه مسلم، انظر (النووي 3: 79 باب من مات على الكفر). (¬3) وهي آمنة بنت وهب توفيت عنه - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ست سنوات، انظر (الطبقات 1: 99). (¬4) أخرجه مسلم، انظر (النووي 7: 45 باب استئذان النبي لقبر أمه). (¬5) الحاوي للفتاوي 2/ 353 السيوطي. (¬6) الروض الأنف 2/ 185 السهيلى. (¬7) التذكرة 1/ 14 القرطبي.

وشيخ الإِسلام ابن تيمية يرد على هذه التخرصات التي تناقلتها بعض الكتب فيقول: "لم يصح ذلك عن أهل الحديث، بل أهل العلم متفقون على أن ذلك كذب مختلق، ولو كان صحيحًا لتناقلته كتب الصحاح لأنه من أعظم الأمور خرقًا للعادة لما فيه من إحياء للموتى والإِيمان بعد الموت، وهذا خلاف ما جاء في الكتاب والسنة والإِجماع. قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18]. فبيّن الله سبحانه وتعالى أنه لا توبة لمن مات كافرًا، وجاء في صحيح مسلم أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أين أبي؟ فقال: إنه في النار، فلما قفا دعاه، فقال له: إن أبي وأباك في النار" (¬1). وكذلك حديث الاستغفار، فلو كان الاستغفار -جائزًا بحقهما، لم ينهه عن ذلك -أي الاستغفار- فإن الأعمال بالخواتيم، ومن مات مؤمنًا فإن الله يغفر له. ولا يكون الاستغفار ممتنعًا. أما زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمه، فإنها كانت بطريقه بالحجون (بمكة) أما أبوه فقد دفن بالشام، فكيف أحياه له، ولو كان أبواه مؤمنين لكانا أحق بالشهرة من عميه الحمزة والعباس (¬2) والله أعلم. القسم الثاني: (من لم تبلغه الدعوة وبقي على حين غفلة من هذا كله). وأكثر أهل الجاهلية من هذا النوع، قال تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6]. وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة: 3]. وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، انظر (النووي 3: 79 باب من مات على الكفر). (¬2) الفتاوى -لابن تيمية- 4: 324.

رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 46]. وهذا القسم هو محل نزاع بين العلماء. أقوال العلماء في حكم هذا القسم: للعلماء في عاقبة هؤلاء ومصيرهم أقوال ثلاثة هي: 1 - من مات ولم تبلغه الدعوة مات ناجيًا. 2 - من مات ولم تبلغه الدعوة فهو في النار. 3 - من مات ولم تبلغه الدعوة فإنه يمتحن بنار في عرصات يوم القيامة. والقول الأول: قال به الأشاعرة من أهل الكلام والأصول، وبعض الشافعية من الفقهاء (¬1). واستدل هؤلاء على أن من مات ولم تبلغه الدعوة مات ناجيًا وعاقبته الجنة بالأدلة الآتية: 1 - قوله تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ} [الإسراء: 15]. ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه لا يعذب أحدًا قبل بعثة الرسل، وأهل الفترة لم يبعث إليهم رسول، فدل على أنهم لا يعذَّبون وأنهم في الجنة. 2 - قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. ¬

_ (¬1) الحاوي -للسيوطي- 2: 353.

ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى قطع الحجة على الناس بإرسال الرسل إليهم مبشرين ومنذرين حتى لا يعتذروا يوم القيامة بأنه لم يأتهم رسول ولا نذير ينذرهم من هذا اليوم، وأهل الفترة لم يأتهم نذير ولا بشير، فالحجة قائمة معهم فدلت الآية على أنهم لا يعذبون فهم في الجنة. 3 - قوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8 - 9]. وجه الدلالة أن التوبيخ الذي وجهته خزنة النار لأهل النار بقولهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} يدل هذا على أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه، وأهل الفترة لم ينذَروا فدل على أنهم لا يعذبون فهم في الجنة. 4 - قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71]. ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى أخبر أن خزنة جهنم يوبخون الكفار بعدما سيقوا إليها، ويسألونهم عن مجيء الرسل إليهم، وكان جواب هؤلاء الكافرين إليهم، بلى. وأهل الفترة لم تأتهم رسل، لذا فهم غير مؤاخذين فهم في الجنة. 5 - قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 130]. ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى خاطب خلقه من الجن والإِنس

بعد أن أشهدهم على أنفسهم، وقد أقروا بتلك الشهادة واعترفوا أن الله سبحانه وتعالى أرسل إليهم رسلًا يبلغونهم آيات ربهم وينذرونهم لقاءه يوم القيامة، وأهل الفترة لم تأتهم رسلٌ لذا فهم في الجنة. 6 - قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]. ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحدًا من خلقه، فلا يمكن أن يعذب أمة دون أن يرسل إليها رسولًا فتكذبه فتكون ظالمة بهذا التكذيب؛ وعندئذ تستحق عقاب الله تعالى لها بإهلاكها. وأهل الفترة لم تأتهم رسل ولم يكذبوا الرسل, لذا فهم معذورون ولا يستحقون عقاب الله، فهم في الجنة. 7 - قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 19]. ووجه الدلالة، أن الله سبحانه وتعالى أخبر أهل الكتاب بأنه قد أرسل إليهم رسولًا يبيِّن لهم أمور دينهم ويحذِّرهم. من عقابه إن عصوه، وقد قامت الحجة عليهم. وأهل الفترة معذورون حيث لم يأتهم رسول لذا فهم غير مؤاخذين، فهم في الجنة. ومن الأدلة التي استدلوا بها أن كلمة "كلما" التي في قوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} تفيد العموم. يقول أبو حيان (¬1) في البحر المحيط: "إن لفظة (كلما) تدل على ¬

_ (¬1) هو محمد بن يوسف بن حيان، الإمام أبو حيان الأندلسي، ولد بمطقشاش "مدينة قريبة من غرناطة" سنة 654 هـ ومات في القاهرة سنة 745 هـ نحوي لغوي مفسر محدث مؤرخ، =

عموم الأزمان والإِلقاء، فتعمّ الملقون الذين جاءتهم الرسل" (¬1). 8 - جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب". وفي رواية أخرى: "وما أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، وما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن" (¬2). ووجه الدلالة في هذا الحديث الشريف أن الله سبحانه وتعالى يقبل العذر من عباده، لذا أرسل الرسل إليهم منذرين ومبشِّرين وأنزل الكتب ليقطع الحجة عليهم. وأهل الفترة معذورون لعدم إرسال الرسل إليهم، لذا فهم في الجنة. والقول الثاني: وهو أن من مات ولم تبلغه الدعوة فهو في النار. قال به المعتزلة (¬3) وجماعة من الحنفية الماتوريدية (¬4) -قالوا بأنهم مكلفون وإن لم يرسَل إليهم رسول، وعليهم أن يستدلوا بعقولهم، فما استحسنه العقل فهو حسن، وما قبحه العقل فهو قبيح. وإن الله سبحانه يعذب في النار من لم يؤمن وإن لم يرسَل إليه رسول لقيام الحجة عليه بالعقل، وهذا يدل على أن هناك ثوابًا وعقابًا قبل بلوغ الدعوة وبعثة الرسل. ¬

_ = روي أنه سمع النحو من أربعمائة شخص، له من المصنفات العديد وأهمها البحر المحيط. انظر (طبقات المفسرين للداوودي 2: 286). (¬1) البحر المحيط 8/ 296 أبو حيان. (¬2) أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب لا شخص أغير من الله 13/ 399. (¬3) جمع الجوامع -السبكي- 1/ 62. (¬4) جمع الجوامع -السبكي- 1/ 62.

أدلتهم: واستدل هؤلاء على ما ذهبوا إليه بما يلي: 1 - قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 18]. ووجه الدلالة في الآية الكريمة: أن من يموت كافرًا فهو في النار سواء أُنذر أم لم ينذر، وأهل الفترة في النار لأنهم ماتوا على الشرك. 2 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 91]. ووجه الدلالة أن الكافر معذَّب لا محالة في ذلك، وأهل الفترة الذين ماتوا على الشرك كفار، فهم في النار. 3 - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. ووجه الدلالة أن الله سبحانه أخبر أن الشرك غير مغفور وأما غيره فهو تحت المشيئة، وأهل الفترة مشركون، فلا يغفر لهم، فهم في النار. 4 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161]. ووجه الدلالة أن من مات على الكفر فهو مبعد عن رحمة الله وأهل الفترة ماتوا على الشرك فهم في النار. 5 - ومن الأدلة التي استدلوا بها ما ورد في صحيح مسلم (¬1) من ¬

_ (¬1) هو أبو الحسين النيسابوري، أجمعت الأمة على قبول صحيحه, أخذ العلم عن مشاهير =

أحاديث تدل على أن أهل الفترة لا يُعذرون وإن لم يأتهم نذير، ومن هذه الأحاديث: أ- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "استأذنتُ ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي" (¬1). ووجه الدلالة في هذا الحديث الشريف أن عدم الإِذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستغفار لأمه يدل على أنها في النار. وهي من أهل الفترة؛ فدلّ على أن من مات من أهل الفترة على الشرك فهو في النار. ب- وحديث أنس أن رجلًا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: في النار. فلما قفى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار" (¬2). وجه الدلالة من هذا الحديث الشريف: أن الكافر في النار، وأهل الفترة كفار فهم في النار. 6 - واستدلوا بالعقل، واحتجوا بما أخبر الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام. قال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً (2) إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74]. وكذلك استدلاله عليه السلام بالنجوم ومعرفة الله بها قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78]. واحتجوا كذلك بمحاجّة الرسل لأقوامهم قال تعالى على لسان رسله بما يرشدهم بالعقل {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ¬

_ = الرجال في الحديث، وكان رحمه الله حرّ الضمير واللسان، دافع عن البخاري بكل ما أوتى من قوة، توفي سنة 261 هـ انظر (تذكرة الحفاظ- الذهبي 2: 588). (¬1) أخرجه مسلم -انظر (النووي -7: 45 باب استئذان النبي لقبر أمه/ القشيري). (¬2) صحيح مسلم على النووي -باب من مات على الكفر فهو في النار ج 3 ص 75.

يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم: 10]. وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]. فلو أنهم انتفعوا بعقولهم بمعرفة الخالق سبحانه وتعالى قبل ورود الشرع لم يعبدوا الأوثان ولكنهم لم ينتفعوا فعبدوا الأوثان فدل على أنهم في النار. والقول الثالث: وهو أن أهل الفترة يُمتحنون في عرصات القيامة بنار يأمرهم الله سبحانه وتعالى بدخولها، فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها فقد عصى الله تعالى، فيدخله الله فيها. وهذا القول قال به السلف وجمهور الأئمة واختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬1)، وتلميذه العلامة الإِمام ابن القيم (¬2)، والإِمام ابن كثير (¬3)، والإِمام ابن حجر العسقلاني (¬4). وحكاه أبو الحسن الأشعري (¬5) عن أهل السنة والجماعة. وقال به الإِمام أبو محمد بن حزم رحمه الله (¬6)، واختاره الشيخ محمد أمين الشنقيطي (¬7) في أضواء البيان (¬8). ¬

_ (¬1) انظر (الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح -ابن تيمية- 1: 312). (¬2) انظر (طريق الهجرتين -ابن القيم- ص 689). (¬3) انظر (تفسير القرآن العظيم -ابن كثير- 3: 35). (¬4) انظر (فتح الباري -ابن حجر- 3: 445). (¬5) هو علي بن أبي البشر، ينتهي نسبه إلى أبي موسى الأشعري، ولد سنة 260 هـ، كان إمامًا للمعتزلة ثم شرح الله صدره للإِسلام وخلع الاعتزال واتبع الحديث، وله العديد من المصنفات توفي سنة 339 هـ، انظر (طبقات الشافعية -السبكي- 3: 347). (¬6) انظر (الفصل في الملل والأهواء والنحل -ابن حزم 4: 74). (¬7) هو محمد الأمين محمد المختار المعروف بالحبنكي، ولد سنة 1305 هـ، كان رحمه الله فقيهًا أصوليًا محدِّثًا أديبًا مفسِّرًا، عمل في التدريس بالجامعة الإسلامية وتولى القضاء في المحكمة الشرعية بالمدينة المنورة، توفي رحمه الله سنة 1393 هـ. (¬8) انظر (أضواء البيان -الشنقيطي- ج 3 ص 483).

أدلتهم: استدل هؤلاء الأئمة على ما ذهبوا إليه بما يلي: 1 - الحديث الذي أورده أحمد (¬1) في مسنده عن الأسود بن سريع (¬2)، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربعة يحتجون يوم القيامة، رجل لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة. فأما الأصم فيقول: رَبِّ، قد جاء الإِسلام وما أسمع شيئًا، وأما الأحمق فيقول: رب، قد جاء الإِسلام والصبيان يحذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول: لقد جاء الإِسلام وما أعقل شيئًا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب، ما أتاني كتاب ولا رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنّه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا" (¬3). 2 - الحديث الذي يرويه أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يؤتى بأربعة يوم القيامة، بالمولود وبالمعتوه وبمن مات في الفترة وبالشيخ الفاني، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار ابرزي، فيقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلًا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم، قال: ويقول لهم ادخلوا هذه، ويقول من كتب عليه الشقاء: أنى ندخلها ومنها كنا نفر؟! فيقول الله: فأنتم لرسلي أشد تكذيبًا. قال: وأما من كتب عليه السعادة فيمضي فيقتحم فيها، فيدخل ¬

_ (¬1) هو الإمام أحمد بن حنبل الشيباني المروزي البغدادي، شيخ الإسلام، ولد سنة 164 هـ وقال عنه الشافعي: خرجت من بغداد فما خلفت رجلًا أعلم ولا أفضل من أحمد بن حنبل، توفي رحمه الله سنة 241 هـ. انظر (تذكرة الحفاظ الذهبي -2: 431). (¬2) هو الأسود بن سريع التميمي، كان شاعرًا وكان في أول الإِسلام قصاصًا، توفي في عهد معاوية، وقيل مات سنة 42 هـ. انظر (الإِصابة -ابن حجر- 1: 24). (¬3) رواه الطبراني بنحوه، وذكر بعده إسنادًا إلى أبي هريرة قائلًا بمثل هذا الحديث غير أنه قال في آخره "فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا ومن لم يدخلها سحب إليها" هذا لفظ أحمد ورجاله من طريق الأسود بن سريع وأبي هريرة رجال الصحيح -انظر (مجمع الزوائد -للهيثمي- 7: 216).

هؤلاء الجنة وهؤلاء إلى النار" (¬1). 3 - عن أبي سعيد الخدري (¬2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يؤتى بالهالك في الفترة والمعتوه والمولود، فيقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب ولا رسول، ويقول المعتوه: أي رب، لم تجعل لي عقلًا أعقل به خيرًا ولا شرًا، ويقول المولود: لم أدرك العمل قال: فيرفع لهم النار فيقال، رِدوها، أو قال: ادخلوها. فيدخلها من كان في علم الله سعيدًا أن لو أدرك العمل، قال: ويمسك عنها من كان في علم الله شقيًا أن لو أدرك العمل، فيقول الله تبارك وتعالى: "إياي عصيتم، فكيف برسلي بالغيب؟ " (¬3). 4 - عن معاذ بن جبل (¬4) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلًا وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرًا، فيقول الممسوخ عقلًا: يا رب، لو آتيتني عقلًا ما كان من آتيته عقلًا بأسعد مني، ويقول الهالك بالفترة: يا رب، لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه عهد بأسعد بعبده مني، ويقول الهالك صغيرًا: لو آتيتني عمرًا ما كان من آتيته عمرًا بأسعد مني. فيقول الرب إن آمركم بأمر فتطيعوني؟ فيقولون: نعم وعزتك، فيقول اذهبوا إلى النار. فلو دخلوها ما ضرتهم. فيخرج عليهم قوابس (¬5) يظنون أنها أهلكت ما خلق الله من شيء، فيرجعون سراعًا فيقولون: خرجنا يا رب ¬

_ (¬1) رواه أبو يعلى والبزار بنحوه، وفيه الليث بن أبي سليم وهو مدلس وبقية رجال أبي يعلى رجال الصحيح. انظر: (مجمع الزوائد -الهيثمي- 7: 216). (¬2) هو أبو سعيد الخزرجي الأنصاري، كان من الحفاظ المكثرين وأخباره تشهد له، خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني المصطلق وهو ابن خمس عشرة سنة، مات رحمه الله سنة أربع وسبعين هجرية، انظر (الاستيعاب -ابن عبد البر- 4: 89). (¬3) رواه البزار وفيه عطية وهو ضعيف وبقية رجاله رجال الصحيح، انظر (مجمع الزوائد -الهيثمي- 7: 216). (¬4) هو معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي، الإِمام المقدم في علم الحلال والحرام، أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن وكتب إلى أهلها إني أرسلت إليكم خير أهلي، كانت وفاته بالطاعون بالشام سنة 17 هـ انظر (الإصابة 3: ص). (¬5) قوابس جمع قبس وهي القطعة من النار.

نريد دخولها فخرجت علينا قوابس ظننا أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، فيأمرهم ثانية فيرجعون كذلك، فيقولون مثل قولهم، فيقول تبارك وتعالى قبل أن تخلقوا علمتُ ما أنتم عاملون وإلى علمي تصيرون. فتأخذهم النار" (¬1). المناقشة والترجيح: وبعد التأمل والنظر أرى أن أقرب الأقوال إلى الصواب هو القول الثالث وهو أن أهل الفترة يُمتحنون، ولا ينافيه ما استدل به أهل الفريقين الأول والثاني. أما ما استدل به الفريق الأول بما يفيد نفي العذاب عن أهل الفترة، فهذه الأدلة لا تدل على أنهم ناجون وأنهم في الجنة. وأما أهل الفترة فلا تشملهم هذه النصوص لأن هناك نصوص أخرى دلت على أنهم يُمتحنون في عرصات القيامة، وهي النصوص التي استدل بها أهل الفريق الثالث. والله أعلم. وأما ما استدل به الفريق الثاني من نصوص تفيد أنهم في النار فيُجاب عنها بأن هذه النصوص عامة ولم تخصص، وأما أهل الفترة الذين لم تبلغهم الدعوة فقد وردت فيهم نصوص تخصهم فيخرجون من هذا العموم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فمعلوم أن الحجة تقوم بالقرآن على من بلغه كقوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، فمن بلغه بعض القرآن دون بعض قامت عليه الحجة بما بلغه من القرآن دون ما لم يبلغه، فكيف فيمن لم يبلغه جميع نصوص الكتاب فهذا من باب أولى" (¬2). وأما الأحاديث التي احتجوا بها كحديث "استأذنتُ ربي" وحديث: ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه عمرو بن واقد، وهو متروك، قال عنه البخاري وغيره: رُمي بالكذب. وبقية رجال الحديث رجال الصحيح. انظر (مجمع الزوائد - 7: 217) (¬2) الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح ج 1 ص 310.

"إن أبي وأباك في النار" فهذه نصوص لا يحتجّ بها لأنها في غير محل النزاع، ولأنها محمولة على أن الدعوة قد بلغتهم، ومحل النزاع عندنا هو فيمن لم تبلغه الدعوة والله أعلم. وأما استدلالهم بالعقل فلا يصحّ لأن العقل لا يدرك به التكليف على انفراده. يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية: "والصواب أن معرفته بالسمع واجبة -التكليف- وأما بالعقل فقد يعرف وقد لا يعرف وليست معرفته بالعقل ممتنعة ولا هي واجبة" (¬1). وبعد عرضنا لأدلة كل فريق ومناقشتها يظهر لنا ترجيح القول الثالث بأن أهل الفترة يمتحنون، وهو اختيار أهل التحقيق من العلماء. قال الإِمام أبو محمَّد بن حزم رحمه الله: "إن النذارة لا تلزم إلا من بلغته لا من لم تبلغه، وأنه تعالى لا يعذب أحدًا حتى يأتيه رسول من عند الله، فصحّ بذلك أن من لم يبلغه الإِسلام أصلًا فإنه لا عذاب عليه، وهكذا جاء النص من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيوقد لهم نارًا يقال لهم ادخلوها فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا (¬2). ويقول ابن القيم رحمه الله: "إن العذاب يستحق بسببين: أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بموجبها. والثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة العمل بموجبها. فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله سبحانه وتعالى التعذيب عنه حتى تقوم الحجة بإرسال الرسل" (¬3). ويقول ابن حجر: "فقد صحت مسألة الامتحان في حق من مات ¬

_ (¬1) المصدر السابق ج 1 ص 310. (¬2) الفصل في الملل والأهواء والنحل ج 4 ص 60 ابن حزم. (¬3) طريق الهجرتين 5/ 7 ابن القيم.

في الفترة والمجنون" (¬1). ويقول الشيخ الشنقيطي: "والجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن بلا خلاف لأن إعمار الدليلين أولى من إلغاء أحدهما, ولا وجه للجمع إلا بهذا وهو القول بالعذر والامتحان" (¬2). التكليف في الآخرة: تنبني على هذه المسألة -مسألة امتحان أهل الفترة في الآخرة- مسألة أخرى وهي: هل الآخرة دار تكليف أم لا؟. للعلماء في هذه المسألة قولان: الأول: ذهب كل من شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬3)، وتلميذه الإِمام العلامة ابن القيم (¬4)، والإِمام ابن حجر العسقلاني (¬5)، والإِمام ابن كثير (¬6)، والإِمام أبو محمَّد بن حزم (¬7)، وغيرهم من العلماء إلى إثبات التكليف في الآخرة وأن كون الآخرة دار جزاء لا يتنافى ذلك من أن يكون تكليف في عرصاتها. الثاني: ذهب ابن عبد البر (¬8) وجماعة من المالكية إلى أنه لا تكليف في الآخرة وأن الآخرة دار جزاء لا دار تكليف (¬9). ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 3 ص 246 كتاب الجنائز باب ما قيل في أطفال المشركين. (¬2) مراقي أبي السعود ص 88 الشيخ محمَّد أمين الشنقيطي. (¬3) مختصر الفتاوى المصرية 646 ابن تيمية. (¬4) طريق الهجرتين 695 ابن القيم. (¬5) فتح الباري ج 3 ص 486 ابن حجر. (¬6) تفسير القرآن العظيم ج 3 ص 35 ابن كثير. (¬7) الفصل في الملل والأهواء والنحل ابن حزم ج 4 ص 60. (¬8) هو ابن عبد البر أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي، ولد سنة 318 هـ، وطلب العلم والحديث وافتتن به، وكان مع تقدمه بعلم الأثر وتبصره بالفقه فقد تولى قضاء لشبونه، له العديد من المصنفات منها الاستيعاب، التمهيد، توفي رحمه الله سنة 463 هـ انظر (تذكرة الحفاظ للذهبي ج 3 ص 1128). (¬9) تجريد التمهيد 326 ابن عبد البر.

أدلة الفريق الأول القائلين بالتكليف: استدل الفريق الأول بما يلي: أ- حديث الأسود بن سريع: "أربعة يحتجون يوم القيامة" (¬1). ب- حديث أنس (¬2) رضي الله عنه: "يؤتى بأربعة يوم القيامة" (¬3). ب- حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: "يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلًا" (¬4). د- حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "يأتي الهالك بالفترة" (¬5). هـ - قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 42 - 43]. وجه الدلالة في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه يدعو أقوامًا إلى السجود يوم القيامة، وهذا تكليف. و- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا" (¬6). ¬

_ (¬1) ورد ذكر الحديث وتخريجه ص 78 من الرسالة. (¬2) أنس: هو أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم، خادم رسول الله، وأحد المكثرين من الرواية, جاءت به أمه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعمره عشر سنين، وخرج في معركة بدر مع رسول الله، ولكنه لم يقاتل، وشهد الفتوح، ثم سكن في البصرة حتى مات فيها، وقيل هو آخر من مات من الصحابة توفي سنة 90 هـ انظر (الإصابة 1/ 71). (¬3) انظر ص 78 من الرسالة. (¬4) انظر ص 79 من الرسالة. (¬5) انظر ص 79 من الرسالة. (¬6) أخرجه البخاري انظر (الفتح كتاب التفسير -باب يوم يكشف عن ساق ج 8 ص 663).

ز- عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: "قال النبي - صلى الله عليه وسلم - .... فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك يجمع الله الناس فيقول من كان يعبد شيئًا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر ويتبع من كان يعبد الطاغوت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم، فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم ربهم في الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون أنت ربنا فيتبعونه، ويُضرب جسر جهنم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكون أول من يجيز ودعاء الرسل يومئذ اللهم سلم سلم، وبه كلاليب مثل شوك السعدان، أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فإنها مثل شوك السعدان غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتخطف الناس بأعمالهم منهم الموبق (¬1) بعمله، ومنهم المخردل (¬2) ثم ينجو. حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده، وأراد أن يُخرج من النار من أراد أن يخرج ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله أمر ملائكته أن يخرجوهم فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل من بني آدم أثر السجود فيخرجونهم قد امتحشوا (¬3) فيُصب عليهم ماء يقال له ماء الحياة، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل، ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار فيقول يا رب قد قشبني (¬4) ريحها، وأحرقني ذكاؤها (¬5)، فاصرف وجهي عن النار فلا يزال يدعو الله فيقول لعلك إن أعطيتك أن تسألني غيره فيقول لا وعزتك، لا أسألك غيره، فيصرف وجهه عن النار ثم يقول بعد ذلك: يا رب قربني إلى باب الجنة، فيقول أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره، ويلك يا ابن آدم ما أغدرك، فلا يزال يدعو فيقول لعلّي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره؟ ¬

_ (¬1) الموبق: الهالك. (¬2) المخردل: الهاوي. (¬3) امتحشوا: احترقوا. (¬4) القشب: السم. (¬5) ذكاؤها: لهيبها.

فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، فيعطي الله ما شاء من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره، فيقربه إلى باب الجنة، فإذا رأى ما فيها سكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول: رب ادخلني الجنة. ثم يقول أو ليس قد زعمت أن لا تسألني غيره، ويلك يا ابن آدم ما أغدرك، فيقول يا رب لا تجعلني أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتى يضحك، فإذا ضحك منه أذن له بالدخول، فإذا دخل فيها قيل له: تمنَّ من كذا، فيتمنى، ثم يقال له: تمنَّ من كذا فيتمنى حتى تنقطع به الأماني، فيقول له هذا لك ومثله معه" (¬1). ووجه الدلالة في هذا الحديث الشريف أن الله سبحانه وتعالى عندما أخذ العهود والمواثيق عليه ألا يسأله غير الذي يعطيه، فخالف تلك العهود والمواثيق وغدر بها، بسؤاله بعد ذلك. فإن الله تعالى قد كلف هذا العبد وذلك بأخذ المواثيق والعهود منه وهذا تكليف واضح. ح- وحديث الصراط الذي هو جسر جهنم أحدّ من السيف وأدقّ من الشعرة، يمر المؤمنون عليه كل حسب عمله، فمنهم كالبرق وكالريح المرسلة وأجاويد الخيل والراكب منهم والساعي، ومنهم المكدوش ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبوًا (¬2). يقول ابن عباس: "هو يوم كرب عظيم" (¬3)، وذكر القرطبي في التذكرة: "هو مقام هائل يمتحن الله به عباده ليميز الخبيث من الطيب" (¬4)، ويقول الطيبي (¬5): "لا يلزم من أن الدنيا دار بلاء، والآخرة دار جزاء أن لا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري انظر (الفتح كتاب الرقائق -باب الصراط 11/ 458). (¬2) أخرجه الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه 4/ 590. (¬3) فتح الباري 8/ 664. (¬4) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1/ 198. (¬5) الطيبي: هو الحسين بن محمَّد بن عبد الله الطيبي، من علماء الحديث والتفسير والبيان، كانت له ثروة طائلة من الإرث والتجارة فأنفقها في وجوه الخير، كان شديد الرد على =

يقع في أحدهما ما يختص بالأخرى، فإن القبر أول منازل الآخرة وفيه ابتلاء وفتنة بالسؤال وغيره" (¬1). أدلة الفريق الثاني القائلين بعدم التكليف: أ- استدلوا بالعقل وبأنه ليس في وسع المكلف الدخول في النار لأن دخول النار من التكليف بالمحال (¬2). وقد أجاب الفريق الثاني على أدلة الفريق الأول القائلين بالتكليف بأن هذه الأدلة أدلة ضعيفة ولا يحتج بها (¬3). وقد رد الفريق الأول بأن هذه الأحاديث منها ما هو صحيح ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالحسن والصحيح، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متعاضدة متصلة على هذا النمط، فأدت الحجة عند الناظر فيها (¬4). قال ابن القيم: هذه الأحاديث يشد بعضها بعضًا وتشهد لها أصول الشرع وقواعده، والقول بمضمونها مذهب السلف (¬5). ويقول ابن حجر (¬6): فقد ثبت بأحاديث صحيحة بأن الله سبحانه وتعالى يكلف عباده يوم القيامة في عرصات الآخرة، وأن التكليف في دار الدنيا، وأما ما يقع في القبر وفي الموقف فهي أثار ذلك التكليف (¬7). ¬

_ = المبتدعة، آية في استخراج الدقائق من الكتاب والسنة، له عديد من المصنفات لا تزال مخطوطة/ انظر (الأعلام 2/ 280). (¬1) فتح الباري 11/ 451. (¬2) تجريد التمهيد ص 326 ابن عبد البر. (¬3) تجريد التمهيد ص 326 ابن عبد البر. (¬4) تفسير القرآن العظيم 3/ 31 - ابن كثير. (¬5) طريق الهجرتين ص 694 - ابن القيم. (¬6) ابن حجر: هو شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني المصري الشافعي، ولد سنة 773 هـ، كان أديبًا ثم طلب الحديث وبرع فيه، وقيل إنه شرب ماء زمزم ليصل إلى مرتبة الذهبي في الحفظ، له عديد من المصنفات/انظر (تذكرة الحفاظ 1/ 380). (¬7) فتح الباري 11/ 451 - ابن حجر.

وقد أجاب الفريق الأول على أدلة الفريق القائل بعدم التكليف بأنه ليس في وسع المكلف الدخول في النار بما يلي: أ- بأن هذه النار هي في الحقيقة في رأي العين ومن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، كما ثبت ذلك بالأحاديث الآنفة الذكر. ب- إذا كان دخول النار سببًا في النجاة فلا مانع من التكليف بدخولها، فقد ثبت مثل ذلك من حديث الدجال في آخر الزمان "أن معه ماء ونارًا فناره ماء باردة، وماؤه نار" (¬1) فهذا الحديث يدل على أن من أدرك الدجال أمره الشارع أن يقع في ناره، وهذا تكليف بدخول النار, لأن وقوعه في النار سبب في نجاته. وبناءً على ما ورد من أدلة الفريقين: يتبين لنا أرجحية القول الأول على حسب ما ورد من نصوص صحيحة صريحة، وهو إثبات وقوع التكليف في عرصات القيامة وإنما ينقطع التكليف بدخول الجنة أو النار. هذا والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري انظر (الفتح -كتاب الفتن- باب الدجال 13/ 91).

الفصل الثالث الملحقون بأهل الفترة

الفصل الثالث الملحقون بأهل الفترة المبحث الأول أطفال المشركين والمقصود بأطفال المشركين: الذين ماتوا ولم يبلغوا الحلم، أي لم تكن لديهم القدرة على فهم شيء من الأحكام لكونهم في سن الصغر، والصغر يعتبر من العوارض التي تعترض أهلية التكليف، أي يجعل صاحبه غير مكلف بشيء ما والله أعلم. وقد اختلف العلماء حول تكليف أطفال المشركين اختلافًا كثيرًا. نورد هنا الأقوال المشهورة ثم ترجيح ما يتقوى بالدليل الصحيح: 1 - إن أطفال المشركين في الجنة. 2 - إن أطفال المشركين في النار. 3 - إن أطفال المشركين يمتحنون في عرصات القيامة. 4 - إن أطفال المشركين يجب التوقف في أمرهم. القول الأول: أنهم في الجنة. وممن ذهب إلى هذا القول:

المحققون البخاري (¬1) والنووي (¬2) وابن الجوزي (¬3) وابن حزم (¬4). وهو قول لطائفة من المفسرين (¬5) -وقاله ابن حجر العسقلاني (¬6). وهو قول الجبائي (¬7) من المعتزلة (¬8). أدلتهم: استدل القائلون بأن أطفال المشركين في الجنة بما يأتي: 1 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين فقال: "الله إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين" (¬9). 2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أطفال المشركين من يموت منهم صغيرًا فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" (¬10). وجه الدلالة من هذين الحديثين الشريفين: عندما أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "الله أعلم بما كانوا عاملين" هذا يعني إذا بلغوا وصاروا مكلفين، أما إذا لم يبلغوا فهم ليسوا بمكلفين فهم في الجنة. ¬

_ (¬1) انظر (البخاري على الفتح: كتاب الجنائز، باب ما قيل في أطفال المشركين 3/ 245). (¬2) هو محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف، الشافعي، ولد سنة 631 هـ. كان رحمه الله يواجه الملوك الظلمة بالإنكار عليهم ويكتب لهم ويخوفهم بالله. له العديد من التصانيف توفي رحمه الله 676 هـ. انظر (تذكرة الحفاظ 4/ 1470)، انظر: (النووي على صحيح مسلم: كتاب القدر، باب حكم موتى المشركين 16/ 207). (¬3) هو جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن، ولد سنة 510 هـ. كان رحمه الله علمًا في التفسير والحديث وله في كل علم مشاركة. توفي رحمه الله سنة 598 هـ. انظر (تذكرة الحفاظ 4/ 1342) انظر زاد المسير. (¬4) الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/ 74. (¬5) طريق الهجرتين لابن القيم ص 680. (¬6) انظر (البخاري على الفتح كتاب الجنائز باب ما قيل في أطفال المشركين 3/ 245). (¬7) الجبائي: هو أبو علي محمَّد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي، أحد أئمة المعتزلة، كان إمامًا في علم الكلام ولد سنة 235 هـ، وتوفي سنة 303 هـ. انظر (وفيات الأعيان لابن خلكان 4/ 267). (¬8) شرح الأصول الخمسة ص 477. (¬9) أخرجه البخاري: انظر (الفتح كتاب الجنائز باب ما قيل في أولاد المشركين 3/ 245). (¬10) أخرجه مسلم. انظر (النووي كتاب القدر حكم موتى المشركين 16/ 207).

3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" (¬1). وجه الدلالة من هذا الحديث الشريف: أن الله سبحانه وتعالى فطر خلقه على الإِسلام {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]. فإذا مات على تلك الفطرة أي قبل أن يهوِّده أو ينصِّره أو يمجِّسه أبواه مات مسلمًا ودخل الجنة. 4 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سألت ربي اللاهين من ذرية بني آدم أن لا يعذبهم فأعطانيهم" (¬2). وجه الدلالة من هذا الحديث أن عدم تعذيبهم يدل على أنهم في الجنة. 5 - عن سمرة (¬3) بن جندب أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ فيقص عليه ما شاء الله أن يقص، وأنه قال لنا ذات غداة: إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني وإنهما قالا لي انطلق وإني انطلقت معهما .... إلى أن قال فأتينا على روضة معتمة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولًا في السماء، وإذا حول الرجل أكثر ولدان رأيتهم قط .... ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم انظر (النووي كتاب القدر باب حكم موتى المشركين 16/ 207). (¬2) رواه أبو يعلى من طرق ورجال أحدها رجال الصحيح، غير عبد الرحمن بن المتوكل وهو ثقة انظر (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 7/ 219). (¬3) هو سمرة بن جندب بن هلال الفزاري، أبا سليمان، كان من حلفاء الأنصار قدمت به أمه بعد موت أبيه وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعرض عليه غلمان الأنصار فعُرض عليه سمرة فردّه فقال له سمرة: رددتَني وأجزتَ فلانًا ولو صارعته لصرعته. فأجازه النبي -توفي سنة 60 هـ انظر: (الإصابة 2/ 78).

إلى أن قال: فأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم - عليه السلام - وأما الولدان الذين حوله فكل مولود يولد على الفطرة. قال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأطفال المشركين؟ قال: وأطفال المشركين" (¬1). وجه الدلالة من هذا الحديث الشريف أنه صريح في دخول أطفال المشركين في الجنة. 6 - قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. 7 - قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]. وجه الدلالة من هاتين الآيتين الكريمتين: أن الله سبحانه وتعالى أخذ على نفسه أن لا يعذب أحدًا إلا بعد إرسال الرسل لينذروهم ويبلغوهم ما أمر الله به، والأطفال ليسوا محلًا للتبليغ لأنهم غير مكلفين، لذا فهم في الجنة. والله سبحانه وتعالى لا يظلم عباده إلا بعد صدور الظلم منهم، والأطفال لم يصدر منهم الظلم فكيف يعذبهم، فهم في الجنة. 8 - قوله تعالى: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90]. 9 - قوله تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]. 10 - قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]. 11 - وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري انظر (فتح الباري 12/ 247. كتاب التعبير -باب تعبير الرؤيا).

12 - واستدلوا بالعقل: فقالوا لو كان يصح تعذيب أطفال المشركين لكان تعذيبهم: أ- إما مع تكليفهم بالإِيمان. ب- أو بدون تكليف. فالأول: محال لاستحالة تكليف من لا تمييز له ولا عقل. وأما الثاني: فيمتنع أيضًا للنصوص التي ذكرنا من أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه. ثم لو كان تعذيب أطفال المشركين لعدم الإِيمان وهو المانع من العذاب لاشترك معهم أطفال المسلمين لاشتراكهم في عدم الإِيمان الفعلي علمًا وعملًا. ثم لو قيل بأن أطفال المسلمين تبع لآبائهم بخلاف أطفال المشركين قلنا إن الله لا يعذب أحدًا بذنب غيره قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. القول الثاني: أنهم في النار. قال به الأزارقة من الخوارج (¬1). واختاره القاضي أبو يعلى (¬2) وذكر أنه منصوص عن الإِمام أحمد وهو غلط عليه، وهو قول لجماعة من المتكلمين وأهل التفسير (¬3). واستدلوا بما يأتي: 1 - قوله تعالى: حكاية عن نوح عليه السلام {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى ¬

_ (¬1) طريق الهجرتين ومفتاح السعادتين لابن القيِّم ص 683 والفصل في الملل والأهواء والنِحَل لابن حزم 4/ 72. (¬2) هو محمَّد بن الحسين بن محمَّد، ويكنى بأبي يعلى، ولد سنة 380 هـ، كان يسمع الحديث ولم يضيع شيئًا من وقته بل صرفه في طلب العلم، كان أصوليًا محدثًا جمع إمامة الصدق والفقه، له عدد من التصانيف توفي رحمه الله سنة 458 هـ. انظر (الفتح المبين في طبقات الأصوليين 1/ 245). (¬3) الفتاوى لابن تيمية 24/ 372. وطريق الهجرتين لابن القيِّم ص 677.

الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 36 - 37]. وجه الدلالة في هذه الآية الكريمة: أن الكافر لا يلد إلا كافرًا والكافر في النار فأطفال المشركين في النار. وقد أجيب عن هذا الدليل بأنه لا حجة لهم فيه, لأن هذه الآية خاصة بقوم نوح عليه السلام وليس بكل كافر (¬1)، فعندما يئس نوح عليه السلام من إيمان القوم دعا عليهم بهذا الدعاء. 2 - الحديث الذي ورد في مسند أحمد عن عبد الله (¬2) بن أحمد عن عثمان (¬3) بن أبي شيبة عن محمَّد (¬4) بن فضيل بن غزوان عن محمَّد (¬5) بن عثمان عن زاذان (¬6) عن علي (¬7) قال: سألت خديجة رضي الله عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ولدين لها في الجاهلية فقال: هما في النار. فلما رأى الكراهية في وجهها قال: لو رأيت مكانهما أبغضتيهما. قالت: يا رسول الله فولدي منك؟ قال: في الجنة. قال ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن المسلمين وأولادهم ¬

_ (¬1) الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/ 72. (¬2) هو عبد الله بن أحمد بن حنبل، ويكنى بأبي عبد الله، محدِّث العراق، ولد سنة 213 هـ وسمع من أبيه فأكثر وكان يشهد له بمعرفة الرجال ومعرفة أهل الحديث توفي سنة 290 هـ انظر (تذكرة الحفاظ 2/ 965). (¬3) هو أبو الحسن بن محمَّد بن عثمان الكوفي قال عنه ابن معين: ثقة مأمون. توفي سنة 229 هـ انظر (تذكرة الحفاظ 1/ 414). (¬4) محمَّد بن فضيل بن غزوان كان يُتتبع وكان حسن الحديث توفي سنة 94 هـ. (¬5) محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة، حافظ بارع سمع أباه توفي سنة 297 هـ. (¬6) هو أبو عبد الله روى عن عمر وعلي وجمع من الصحابة، قال عنه ابن معين: ثقة. وقيل إنه كان كوفيًا انظر (التهذيب 3/ 303). (¬7) هو علي بن أبي طالب، ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، زوج فاطمة، ورابع الخلفاء الراشدين، ومن العشرة المبشرين بالجنة، قتل في ليلة السابع والعشرين من رمضان سنة 40 هـ. انظر (الإصابة 2/ 507).

في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار (¬1). ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]. 3 - حديث عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولاد المشركين فقال: "إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار" (¬2). وجه الدلالة من هذين الحديثين أنهما صريحان بدخول أطفال المشركين في النار. وقد أجيب عن هذين الحديثين بما يلي: 1 - إن حديث خديجة (¬3) رضي الله عنها لا يحتج به، وذلك لأنه معلول من وجهين: أ- إن في سنده محمَّد بن عثمان وهو مجهول (¬4)، وقال عنه الهيثمي: محمَّد بن عثمان غير معروف (¬5). ب- إن في سنده زاذان عن علي، وزاذان هذا لم يدرك عليًا (¬6). 2 - وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد ضعفه جمهور الأئمة ¬

_ (¬1) يقول الهيثمي: هذا الحديث فيه محمَّد بن عثمان لا أعرفه وبقية رجال هذا الحديث رجال الصحيح انظر (مجمع الزوائد 7/ 217). (¬2) رواه أحمد وفيه أبو عقيل يحيى بن المتوكل ضعفه جمهور الأئمة أحمد وغيره ويحيى بن معين. انظر (مجمع الزوائد 7/ 217). (¬3) هي خديجة بنت خويلد، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أول من صدقت وآمنت به من النساء وآزرته، وكانت تقول له: والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك تصل الرحم، وكانت رضي الله عنها تشدّ من عزم الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين يخذله قومه، توفيت قبل الهجرة بثلاث سنوات. انظر (الإصابة 4/ 281). (¬4) طريق الهجرتين لابن القيم ص 678. (¬5) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 217. (¬6) طريق الهجرتين لابن القيم 678.

ويحيى بن معين (¬1). وذكر ابن القيم أن شيخ الإِسلام ابن تيمية حكم ببطلانه (¬2)، وذلك لأن في سنده أبا عقيل يحيى بن المتوكل. 4 - حديث احتجاج الجنة والنار الذي أخرجه البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اختصمت الجنة والنار إلى ربهما، فقالت الجنة: يا رب مالها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم. وقالت النار يعني أوثرت بالمتكبرين فقال الله عزّ وجلّ للجنة أنت رحمتي وقال للنار أنت عذابي أصيب بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها قال فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدًا وأنه ينشىء للنار من يشاء فيُلقَون فيها فتقول هل من مزيد ثلاثًا فتمتلىء. ويضع بها قدمه ويرد بعضها إلى بعض وتقول قط قط قط (¬3). وجه الدلالة من هذا الحديث أن قوله: "ينشىء للنار من يشاء فيلقون فيها" قال أصحاب هذا القول فهؤلاء ينشؤون للنار بغير عمل. "فلأن يدخلها من ولد في الدنيا بين كافرين أولى (¬4) ". وقد أجيب عن هذا الحديث بأنه قد حصل فيه قلب من عند الراوي، وهذا يحدث عند رواة الحديث. وقال أبو الحسن القابسي (¬5) المعروف في هذا الموضع "إن الله ينشىء للجنة خلقًا وأما النار فيضع فيها قدمه" ثم قال ولا أعلم في شيء من الأحاديث أنه ينشىء للنار خلقًا إلا هذا (¬6). اهـ. ¬

_ (¬1) هو يحيى بن معين سيد الحفاظ أبو زكريا البغدادي، ولد سنة 158 هـ، كان أبوه من نبلاء الكتب فخلف له ألف ألف درهم. قال عنه ابن المديني انتهى علم الناس إلى يحيى بن معين. توفي رحمه الله سنة 203 هـ انظر (تذكرة الحفاظ 3/ 1079). (¬2) طريق الهجرتين لابن القيم ص 678. (¬3) أخرجه البخاري انظر (الفتح كتاب التوحيد باب إن الله قريب من المحسنين 13/ 434). (¬4) طريق الهجرتين لابن القيم ص 687. (¬5) هو علي بن محمَّد بن خلف، ولد سنة 324، وكان حافظًا للحديث والعلل، بصيرًا بالرجال، عارفًا بالأصلين، رأسًا بالفقه، له عدد من المصنفات، توفي رحمه الله سنة 403 هـ انظر (تذكرة الحفاظ 3/ 1079). (¬6) انظر (فتح الباري كتاب التوحيد باب إن الله قريب من المحسنين 13/ 434).

قال ابن القيم رحمه الله: هذا غير محفوظ وهو ممن انقلب لفظه على بعض الرواة (¬1)، فإن هذه اللفظة وقعت غلطًا وقد بينها البخاري في الحديث الآخر الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم قال الله تبارك وتعالى للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع رجله فتقول قط قط قط، فهناك تمتلىء ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله عَزَّ وَجَلَّ من خلقه أحدًا، وأما الجنة فإن الله عَزَّ وَجَلَّ ينشىء لها خلقًا آخر" (¬2). فهذا الحديث روايته صحيحة وليس فيه قلب، أما الحديث الذي احتج به الفريق الثاني فكان مما غلط فيه بعض الرواة فرووه على غير الوجه الصحيح الذي ذكرنا آنفًا وبهذا فلا يكون حجة لهم. والله أعلم. القول الثالث: إنهم يمتحنون في عرصات القيامة ويُرسَل إليهم رسول وإلى كل من لم تبلغه الدعوة؛ فمن أطاع الرسول دخل الجنة ومن عصاه دخل النار. وممّن قال بهذا القول واختاره: شيخ الإِسلام (¬3) ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم (¬4). واستدلوا بما يلي: 1 - حديث الأسود بن سريع رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أربعة يحتجون يوم القيامة" الحديث (¬5). ¬

_ (¬1) طريق الهجرتين لابن القيم 687. (¬2) أخرجه البخاري انظر (الفتح كتاب التفسير باب وتقول هل من مزيد 8/ 595). (¬3) مختصر الفتاوى المصرية لشيخ الإِسلام ابن تيمية ص 6266. (¬4) طريق الهجرتين لابن القيم ص 689. (¬5) سبق ذكره وتخريجه ص 78.

2 - حديث أنس رضي الله عنه "يؤتى يوم القيامة بأربعة" الحديث (1). 3 - حديث معاذ بن جبل، يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلًا" الحديث (2). 4 - حديث أبي سعيد الخدري: "يؤتى الهالك بالفترة" الحديث (3). وجه الدلالة من هذه الأحاديث السالفة الذكر بأن الأطفال يمتحنون في عرصات القيامة، فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا ومن أبى بقي فيها. القول الرابع: التوقف فيهم حيث لا يحكم أنهم بالجنة أو بالنار، وممن ذهب إلى هذا المذهب الإِمام أبو حنيفة (¬4) وأحمد في رواية وحماد (¬5) ابن سلامة وابن المبارك (¬6) وإسحاق بن (¬7) راهويه (¬8). أدلتهم: 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه" (¬9). ووجه الدلالة في هذا الحديث أنه دل على أن المولود يولد على ¬

_ (1 ,2، 3) هذه الأحاديث سبق ذكرها وتخريجها ص 78 - 79. (¬4) هو أبو حنيفة فقيه العراق، النعمان بن ثابت الكوفي، ولد سنة 80 هـ، رأى أنس بن مالك غير مرة لما قدم عليهم في الكوفة، كان إمامًا ورعًا لا يقبل هدايا السلطان بل يتجر ويتكسب، توفي رحمه الله سنة 150 هـ. انظر (تذكرة الحفاظ 1/ 168). (¬5) هو حماد بن سلامة بن دينار، كان بارعًا في العربية، كان شديدًا على المواظبة على قراءة القرآن والعمل به، توفي رحمه سنة 267 هـ انظر (تذكرة الحفاظ 1/ 402). (¬6) هو عبد الله بن المبارك التركي الأب الخوارزميّ الأم، ولد سنة 118 هـ، كان حاجًا مجاهدًا وتاجرًا، وكان ثقة. انظر (تذكرة الحفاظ 1/ 274). (¬7) إسحاق بن راهويه، ولد سنة 166 هـ، وسمع ابن المبارك وتوفي سنة 238 هـ. انظر (تذكرة الحفاظ ص 233). (¬8) تجريد التمهيد لابن عبد البر ص 326 - روح المعاني الألوسي 15/ 37. (¬9) أخرجه البخاري انظر (الفتح ج 3 ص 246 كتاب الجنائز -باب أطفال المشركين).

الفطرة، والفطرة هي معرفة الله والميل إلى الخير، وما دام أنه يولد على الفطرة فلا يُدرى ماذا سيعمل لو كبر، لذا يُتوقَّف فيه ويوكَل أمره إلى الله. 2 - والحديث قالوا يا رسول الله: أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" (¬1). 3 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه فسأله رجل قال: يا رسول الله، ما تقول في اللاهين؟ قال فسكت عنه رسول الله فلم يرد عليه بكلمة، فلما فرغ رسول الله من غزوة الطائف فإذا هو بغلام يبحث في الأرض، فأمر مناديه: أين السائل عن اللاهين؟ فأقبل الرجل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فنهى رسول الله عن قتل الأطفال ثم قال: الله أعلم بما كانوا عاملين" (¬2). ووجه الدلالة من هذين الحديثين أن قوله: "الله أعلم بما كانوا عاملين" يدل على التوقف في حكمهم. وقد أجيب عن استدلالهم بما يأتي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتوقف في حكمهم، وإنما فوض علم ما كانوا عاملين لو عاشوا إلى الله سبحانه وتعالى, لأنه قد سبق في علم الله سبحانه وتعالى إيمان المؤمن وكفر الكافر لو عاشوا، قال ابن القيم رحمه الله: (إن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الله أعلم بما كانوا عاملين" إنما خرج هذا الجواب منه من وجهين: الأول: جواب لهم إذ سألوه عنهم ما حكمهم، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، وهو في هذا الوجه يتضمن أن الله سبحانه وتعالى يعلم من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري انظر (الفتح ج 3 ص 246 كتاب الجنائز -باب أطفال المشركين). (¬2) رواه البزار، والطبراني في الكبير والأوسط, وفيه هلال بن خباب، وهو ثقة بلا خلاف، وبقية رجال الحديث رجال الصحيح (مجمع الزوائد 7/ 218).

يؤمن منهم ومن يكفر بتقدير الحياة، وأما المجازاة على العلم فلم يتضمنها جوابه - صلى الله عليه وسلم -. الوجه الثاني: جواب لهم حين أخبرهم أنهم من آبائهم، فقالوا بلا عمل؟ فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، كما روى أبو داود (¬1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت يا رسول الله: ذراري المؤمنين؟ قال من آبائهم. قلت: يا رسول الله بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين" (¬2). ففي هذا الحديث ما يدل على أن الذين يلحقون بآبائهم هم الذين علم الله أنهم لو عاشوا لاختاروا الكفر وعملوا به، فهؤلاء مع آبائهم، ولا يقتضي أن كل واحد من الذرية مع أبيه في النار، فإن الكلام في هذا الجنس سؤال وجواب، والجواب يدل على التفصيل، فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - الله أعلم بما كانوا عاملين يدل على أنهم متباينون في التبعية، بحمسب نياتهم ومعلوم الله فيهم. بقي أن يقال فالحديث يدل على أنهم يلحقون بآبائهم من غير عمل، ولهذا فهمت منه عائشة فقالت: بلا عمل؟ فأقرها عليه، فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين". ويجاب عن هذا بأن الحديث إنما دل على أنهم يلحقون بهم بلا عمل عملوه في الدنيا، وهذا الذي فهمته عائشة، وعائشة إنما استشكلت لحاقهم بهم بلا عمل عملوه مع الآباء، وأجابها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الله سبحانه وتعالى يعلم منهم ما هم عاملوه ولم يقل لها أنه يعذبهم بمجرد علمه فيهم. وهذا ظاهر لا إشكال فيه (¬3). ¬

_ (¬1) أبو داود: الإِمام الثبت سيد الحفاظ سليمان بن الأشعث بن الحق صاحب السنن, ولد سنة 202 هـ، سمع خلقًا كثيرًا منهم الطيالسي، حدث عنه الترمذي والنسائي وغيرهما، مات في البصرة سنة 275 هـ. انظر (تذكرة الحفاظ 2/ 591). (¬2) رواه أبو داود في سننه كتاب السنة باب ذراري المشركين 5/ 85. (¬3) طريق الهجرتين ص 676 - ابن القيم.

الترجيح: وبعد عرض الأقوال مع الأدلة ومناقشتها أرى أن القول الأول وهو أنهم في الجنة هو القول الراجح من تلك الأقوال، ولا ينافيه ما ورد من أن المولود يمتحن مع صاحب الفترة والمجنون والشيخ الهرم، كما سبق في أدلة القائلين بالامتحان لأنها عامة مجملة، خصصتها وبينتها النصوص التي دلت على أنهم في الجنة، كما سبق في أدلتهم. ونكون بذلك عملنا بالأدلة من الجانبين "لأن إعمال الدليلين أولى من إسقاط أحدهما" ومن المتقرر في الأصول أن الخاص يقضي على العام كما هو مذهب الجمهور، والله أعلم.

المبحث الثاني المجانين وذوو العاهات

الفصْل الثالث الملحقون بأهل الفترة المبحث الثاني المجانين وذوو العاهات قبل أن نبدأ الكلام في هذا البحث لابد لنا من تمهيد نبين فيه أهلية المجنون وذي العاهة للتكليف. فقد سبق أن ذكرنا أن من شروط التكليف أن يكون ذا أهلية تامة، وهذه الأهلية "صلاحية الإِنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه" (¬1). وملاك هذه الأهلية الذمّة، وهي خصوصية ميّز الله سبحانه وتعالى بها الإِنسان على غيره، وهذه الأهلية قد تعترضها عوارض، والعارض هو المانع حيث أنه إذا حصل مانع لا يستطيع الإِنسان أن يقوم بعمل من الأعمال. والعوارض نوعان: ¬

_ (¬1) الأهلية وعوارضها ص 3 أحمد إبراهيم بك.

أ- عوارض سماوية: وهي تكون من الله سبحانه وتعالى ولا دخل للإِنسان فيها مثال ذلك "الجنون". ب- عوارض مكتسبة: وهي تكون من الإِنسان ذاته ومثال ذلك "السكر". فقد عرفنا أن الجنون هو عارض سماوي أي ليس للإِنسان دخل فيه، فإذا حصل هذا العارض للإِنسان سقطت عنه التكاليف المشروعة التي عليه مثل الأحكام الشرعية إلى أن يرجع إليه رشده. والجنون: هو فقدان العقل، معنى ذلك أنه لا يدرك ولا يعي ما يقال له وما يؤمر به، فما حكمه في الآخرة هل هو مؤاخذ أم لا. تحرير محل النزاع: 1 - من كان في أول عمره مجنونًا ثم فاق، وهذا ليس محلًا للنزاع. 2 - من كان في أول عمره عاقلًا ثم جن في آخره، وهذا كذلك ليس محلًا للنزاع. 3 - من خلق مجنونًا ومات على ذلك، وهذا الأخير هو محل نزاع بين العلماء. اختلف العلماء في حكم هذه المسألة "مسألة المجنون" إلى قولين: أ- أنهم يمتحنون بنار توقد لهم يوم القيامة فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن أبى بقي فيها. وممن قال بهذا القول ابن حجر (¬1). ب- هم تبع لآبائهم. وممن قال بهذا القول شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬2). ¬

_ (¬1) انظر (فتح الباري 3/ 346 كتاب الجنائز باب أطفال المشركين). (¬2) الفتاوى لشيخ الإِسلام ابن تيمية 10/ 431.

أدلة الفريق الأول: 1 - حديث الأسود بن سريع: "أربعة يحتجون ... ورجل أحمق" (1). 2 - حديث أنس بن مالك: "يؤتى بأربعة ... وبالمعتوه" (2). 3 - حديث أبو سعيد الخدري: "يؤتى بالهالك ... والمعتوه" (3). 4 - حديث معاذ بن جبل: "يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلًا" (4). ووجه الدلالة من هذه الأحاديث أن المجنون يمتحن بنار في عرصات يوم القيامة. أدلة الفريق الثاني: استدل الفريق الثاني القائلون أنهم تبع لآبائهم بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]. ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن شرط التكليف: العقل، وهؤلاء المجانين لا عقل لهم، وليس لديهم أعمال لأن العمل مناط بالتكليف، لذا يلحقون بآبائهم. الترجيح: والناظر في أدلة الفريقين يرى أن أدلة الفريق الأول أكثر وضوحًا من أدلة الفريق الثاني، وذلك لأن النصوص التي استدلوا بها صريحة واضحة على أنهم يمتحنون. وقد ذكر ابن حجر رحمه الله في الفتح (¬5): "أنه قد صحت مسألة امتحان المجنون وصاحب الفترة". والله أعلم. ... ¬

_ (1، 2، 3، 4) سبق تخريجها ص 78 - 79. (¬5) انظر (فتح الباري 3/ 446 كتاب الجنائز، باب أطفال المشركين).

الباب الثالث حكم من لم تبلغهم الدعوة المحمدية

البَاب الثَالث حكم من لم تبلغهم الدعوة المحمدية ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: في وجود أقوام لم تبلغهم الدعوة. الفصل الثاني: في من تقع عليهم مسؤولية عدم تبليغهم الدعوة. الفصل الثالث: الطرق المؤدية إلى إيصال الدعوة إلى جميع الناس.

الفصل الأول في وجود أقوام لم تبلغهم الدعوة

الفصْل الأوّل في وجود أقوام لم تبلغهم الدعوة إن الإِنسان الذي يعيش في هذه الحياة بدون عقيدة صحيحة وبدون نور سماوي يهتدي به؛ لهو في أمسّ الحاجة إلى من ينقذه من هذا الضياع الذي يعيشه، فتراه ينسج في خياله أوهامًا لا وجود لها حتى يتخلص من هذا الضياع والفراغ الذي يعيشه، وهذا يحدث كثيرًا لمن انحرف عن العقيدة والفطرة السليمة. هذه العقيدة التي بها تحيا القلوب وتنير طريقها إلى خيري الدنيا والآخرة. ولابد لنا قبل أن ندخل في موضوعنا أن نتكلم ولو بإيجاز مبينين أن التوحيد أصلٌ في فطرة الإِنسان. فالله سبحانه وتعالى لما خلق الخلق آدم وذريته من بعده خلقهم حنفاء مسلمين، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)} [الأعراف: 172 - 173].

وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]. وجاء في الحديث: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه" (¬1). وجاء في حديث آخر: "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم" (¬2) الحديث. قال ابن كثير: "إن الله سبحانه وتعالى استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله سبحانه وتعالى ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو سبحانه وتعالى فطرهم وجبلهم على الإِسلام" (¬3). فالتوحيد ميثاق معقود بين البشر وخالق البشر منذ تكوينهم الأول، فلا حاجة لهم في نقض الميثاق حتى ولو لم يبعث إليهم الرسل يذكِّرونهم ويحذِّرونهم، لكن رحمته وحدها اقتضت أن لا يكلهم إلى فطرهم هذه، فقد تنحرف، ولا يكلهم إلى عقولهم التي أعطاها لهم فتضلّ، وأن يبعثَ إليهم رسلًا مبشِّرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" (¬4). حتى توالت عليهم الأيام والأزمان فوقعوا فيما وقعوا فيه من الشرك ففسدت فطرهم، وأخذوا يشركون بالله سبحانه وتعالى وحاشاه عما يصفه به المشركون. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "كان الناس على التوحيد مدة عشرة قرون، وكانوا كلهم على الإِسلام، وكان أول ما عُبدت الأصنام أن قومًا صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجد وصوروا صور أولئك فيها ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري انظر (الفتح 3/ 246 - كتاب الجنائز- باب أطفال المشركين). (¬2) أخرجه مسلم انظر (النووي 17/ 197). (¬3) تفسير القرآن العظيم 2/ 261 ابن كثير. (¬4) في ظلال القرآن 3/ 1391 سيد قطب -طبعة الشروق.

ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم. فلما طال الزمان جعلوا أجسادًا على تلك الصور، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسمَّوها بأسماء أولئك الصالحين ودًّا وسواعًا ويغوثَ ويعوقَ ونسرًا، فلما تفاقم الأمر بعث الله سبحانه وتعالى -وله الحمد والمنة- نوحًا يأمرهم بعبادة الله سبحانه وتعالى" (¬1). فهذا الأثر الذي ينقله ابن كثير عن ابن عباس يدل على أن الشرك طارئ وحادث والأصل في الإِنسان التوحيد والإِيمان. فعندما فسدت الفطر وخلت العقول، وتاهت في متاهات الضلال والجهل والخرافات أرسل رسله وأنبياءه إلى أقوامهم كل رسول إلى قومه، وأرسل نبيّنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى البشرية جمعاء فبلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، وكان لهذه الدعوة الحظ الوافر من الاتساع والانبساط على سطح الكرة الأرضية بفضل الله الذي تكفل بحفظ هذه الدعوة وجعلها باقية إلى ما شاء، ثم بفضل الدعاة المخلصين الذين أخلصوا النية لله منذ ولادة هذه الدعوة. وهنا نصل إلى البحث في حكم وجود أقوام لم تبلغهم الدعوة، أو بَلَغَتْهم ولكن بَلَغَتْهم مشوهةً عن طريق الإِرساليات النصرانية الحاقدة على الإِسلام وأهله، والمستشرقين من اليهود، فشوّهوا الإِسلام تشويهًا حيث تنفر منه النفوس وهم عندما يقومون بهذا العمل الخبيث قصدوا إبعاد هذه الجماعات عن هذا الدين وصدِّهم عنه. فعلى سبيل المثال يذكر الأستاذ "إبراهيم النعمة" في رسالته "الإِسلام في إفريقيا الوسطى": "ترك المبشرون في الكاميرون وأذاعوا بينهم أن المسلمين إذا مرض أحدهم قاموا عليه فذبحوه، ثم سلخوا جلده ليستفيدوا منه في عمل التمائم التي تعلق على الناس والدواب. ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم 2/ 223 - ابن كثير.

وشاعت هذه الفرية وروج لها أعداء الإِسلام فانتشرف انتشارًا كبيرًا" (¬1). فهذه صورة من الصور التي يستعملها أعداء الإِسلام لكي يبعدوا ويصدوا الناس عن هذا الدين، ولكن هيهات هيهات أن يصيبوه بسوء، وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]. أما الأسباب التي أدّت إلى عدم وصول الدعوة إلى هؤلاء الأقوام والجماعات فيمكن أن نرجعها إلى الأمور التالية: أولًا: تفريط عامة المسلمين في تبليغ الدعوة الإِسلامية، وتقاعسهم عن أداء هذه المهمة الجليلة التي هي مهمة الأنبياء والمرسلين، وانشغالهم في سفاسف الأمور التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وتعلقهم بالدنيا وزخارفها بترك هذا الواجب العظيم. ثانيًا: إن العالم بمساحاته الواسعة وأفكاره المتشتتة واختلاف أجناس الناس فيه؛ له الأثر في عدم وصول الدعوة إلى هذه المجموعات البشرية. فاللغة واللسان لهما الأثر الكبير في تبليغ الدعوة إلى الناس، فهذه في الواقع عقبة كبيرة تقف أمام الدعاة لانعدام وسيلة التفاهم بين الداعي والمدعو غالبًا. ثالثًا: وهناك سبب آخر وهو باعتقادي السبب الرئيسي في هذه المشكلة في عدم وصول الدعوة إلى هذه الجماعات، وهو تفرق المسلمين دويلات صغيرة وعدم انضمامهم تحت لواء خلافة إسلامية، وعدم تحكيم شرع الله سبحانه وتعالى. كل هذا أنساهم الواجب الذي عليهم ألا وهو الدعوة إلى الله. ¬

_ (¬1) الإِسلام في إفريقيا الوسطى ص 35 - إبراهيم النعمة.

والحقيقة أننا لو قرأنا أو تصفّحنا تاريخنا الإِسلاميّ الحافل؛ لرأينا سلفنا الصالح الذي كان سائرًا على نهج الكتاب والسنة المطهرة، فكان الخليفة رحمه الله من أولى واجباته الدعوة إلى الله، فكان الخليفة إذا أمر قواده وجنوده أن يتوجهوا إلى معركة ما من المعارك كان يوصيهم قبل القتال أن يعرضوا عليهم الإِسلام فإن أبوا فالجزية. هذا خلق الإِسلام في حروبه وغزواته مع أعداء الإِسلام وأعداء الدعوة. ولا ننسى أن هناك جماعات بدائية في تفكيرها موجودة على شكل أقليات هنا وهناك في شرق خليج البنغال وفي الغابات الجبلية من جزيرة الملايو، وهناك في جزيرة غينيا الجديدة، وهناك في سوريتام في أمريكا الجنوبية، وهناك في أوربا، وهناك في أستراليا، وهناك في إفريقيا وفي مجاهلها فما حكمهم وما مصيرهم؟. حُكم مَن لم تبلغه الدعوة: فهؤلاء والله أعلم يلحقون بأهل الفترة بالحكم وهو الامتحان في عرصات القيامة لاشتراكهم معهم في عدم وصول الدعوة إليهم. قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإِسراء: 15].

الفصل الثاني من تقع عليهم مسؤولية عدم التبليغ؟

الفصْل الثاني من تقع عليهم مسؤولية عدم التبليغ؟ قبل الدخول في موضوعنا لابد لنا أن نبين أن الدعوة هي وظيفة الرسل والأنبياء، وماهية هذه الوظيفة تعريف الناس بألوهية الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. وقد منّ الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم هو نبينا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128] وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} [الأحزاب: 45، 46] وقال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)} [الحج: 67] وقال تعالى: {وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)} [القصص: 87] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)} [الرعد: 36].

فالدعوة إلى الله من الأعمال الشريفة الجليلة التي أناطها الله سبحانه وتعالى بالرسل وبرسولنا - صلى الله عليه وسلم -، فأكرمه وجعل دعوته عامة للناس، وفضّله على سائر الأنبياء. ومن إكرام الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة ونعمته عليها أن جعلها خير أمة تدعو إلى الله، وهذا دليل على تشريف هذه الأمة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]. يقول الأستاذ عبد الكريم زيدان تعليقًا على هذه الآية: "إنها أفادت معنيين: أ- خيرية هذه الأمة. ب- أنها حازت هذه الخيرية لقيامها بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي وظيفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والرسل قبله. ثم يقول: وأول ما يدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الدعوة إلى الله وحده والبراءة من الشرك بأنواعه. ونرى القرآن الكريم جعل من صفات المؤمنين الدعوة إلى الله بخلاف المنافقين الذين يصدون عن سبيل الله" (¬1). وقال تعالىِ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] وقوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67]. وها هو القرطبي (¬2) رحمه الله يقول في تفسيره عن الآيتين السابقتي الذكر: جعل الله سبحانه وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقًا بين المؤمنين والمنافقين، فدل هذا على أن أخص أوصاف المؤمن: الأمر ¬

_ (¬1) أصول الدعوة ص 300 عبد الكريم زيدان. (¬2) هو محمد بن يوسف أبو عبد الله القرطبي، ولد سنة 558 هـ، ومات في مصر سنة 631 هـ، كان إمامًا صالحًا زاهدًا حاذقًا بفنون العربية، وله يد طولى في التفسير والحديث. انظر (طبقات القراء للذهبي 2/ 510 طبقات المفسرين 2/ 216).

بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعوة إلى الإِسلام والقتال عليه. وليس من شرط الأمر بالمعروف أن يكون عدلًا عند أهل السنة، لأن العدالة محصورة في القليل من الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس (¬1). هنا يتقرر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على كل مسلم ومسلمة من هذه الأمة كل بحسب حاله ومقدرته، والعلماء هم ورثة الأنبياء؛ عليهم النصيب الكبير بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108]. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: يقول الله سبحانه وتعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - آمرًا له أن يخبر الناس أن هذه سبيله وطريقته ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله لا شريك له، يدعو بها إلى الله على بصيرة من ذلك ويقين، وبرهان عقلي وشرعي (¬2). إن من اللوازم الضرورية لإِيمان المسلم أن يدعو إلى الله، فإذا تخلّف عن الدعوة دلّ تخلُّفه هذا عن وجود نقص في إيمانه يجب تداركه بالقيام بهذا الواجب (¬3)، وإذا كان المسلم لا يقوم بهذا الواجب فمَن يقوم به إذًا؟!. إنما الواجب على كل مسلم أن يقف على ثغر من ثغور الإِسلام، وترك العمل للدعوة الإِسلامية يفتح علينا ثغرة كبيرة، وبالتالي تكون المسؤولية كبيرة والعاقبة وخيمة. ونرى شيخ الإِسلام ابن تيمية عندما سئل عن قوله تعالى: {قل هذه سبيلي} [يوسف: 108] فيقول الدعوة واجبة على كل من اتبع هذا ¬

_ (¬1) القرطبي 4/ 47. (¬2) تفسير القرآن العظيم 2/ 296 - ابن كثير. (¬3) أصول الدعوة ص 300 عبد الكريم زيدان.

الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم أمته، وعليهم أن يدعوا إلى الله كما دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الله، وكذلك يتضمن أمرهم فيما أمر به ونهيهم فيما نهى عنه، وهذا يتضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد وصف الله سبحانه وتعالى أمة محمد بأنها أمة آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]. وهذا الواجب واجب على مجموع الأمة وهو الذي يسميه العلماء فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، فالأمة كلها مخاطبة بفعل ذلك، ولكن إذا قامت به طائفة من الناس سقط عن الباقين قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} (¬1) [آل عمران: 104]. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأمور التي لابد منها على كل مسلم ومسلمة إما بيده أو بلسانه أو بقلبه. ومن المعلوم أن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحتاج إلى علم بما يدعو إليه كما قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] لا شك أن الدعوة إلى الخير وأعلاها الدعوة إلى الله مشروط لها العلم، ولكن العلم ليس شيئًا واحدًا لا يتجزأ ولا يتبعض، وإنما هو بطبيعته يتجزأ أو يتبعض؛ فمن علم مسألة وجهل أخرى فهو عالم بما علم وجاهل بالأخرى، ومعنى ذلك أنه يكون عالمًا بالمسألة التي علم بها، وبالتالي يتوفر فيه شرط وجوب الدعوة فيما علم دون ما جهل (¬2). ومفهوم الكلام من هذا أن كل مسلم ومسلمة يجب عليه الدعوة ما دام شرط العلم موجودًا. وهذا الجصاص (¬3) صاحب كتاب أحكام القرآن ¬

_ (¬1) الفتاوى 15/ 165 ابن تيمية. (¬2) أصول الدعوة ص 302 عبد الكريم زيدان. (¬3) هو أحمد بن علي المكنّى بأبي بكر الرازي ولد سنة 305 هـ ثم درس الفقه والحديث =

يفرد بابًا في كتابه ويسميه باب فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم يذكر الآية القرآنية {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] ثم يقول لقد حوت هذه الآية معنيين: أ- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ب- أنه فرض على الكفاية وليس بفرض على كل أحد، إذا قام به بعض سقط عن الباقين، بدليل قوله: {ولتكن} (¬1). ويعلق الشاطبي (¬2) رحمه الله فيقول: إن فرض الكفاية قد قال به العلماء، وإنه متوجه للجميع لكن إذا قام به البعض سقط عن الباقين بدليل {ولتكن} (¬3) ثم إن فرض الكفاية متوجه للجميع لتحقيق هذا الغرض، وأما القادر؛ فعليه أن يقوم بهذا الواجب مباشرة فيكون معنى الآية {ولتكن منكم أمة} وأن يقوم به المسلمون بإعداد هذه الأمة إلى الجماعة المتصدية للدعوة إلى الله، وأن يعاونوهم بكل الوسائل لتحقيق المقصود من قيامهم، وهو إقامة دين الله ونشر دعوته، فإن لم يفعل المسلمون ذلك أثم الجميع. لذا يجب على كل مسلم ومسلمة أن يقوم بهذا الواجب، كل حسب قدرته وعلمه وطاقته؛ أن يقوموا بالدعوة جهارًا نهارًا لصدّ التيارات الجارفة والجاهليات التي ملأت مجتمعاتنا والعالم يعيش في هاوية لا يدري أين يوجه سيره إلى هنا أو إلى هناك، إنه يعيش فراغًا قاتلًا، لذلك لابد من ¬

_ = واستقر له التدريس وصار إمامًا للحنفية، توفي رحمه الله 370 هـ، وله عديد من المصنفات أهمها أحكام القرآن. انظر (طبقات الأصوليين الفتح المبين 1/ 203). (¬1) أحكام القرآن للجصاص 2/ 47. (¬2) هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي، إمام حافظ جليل مجتهد من المحققين، كان شديدًا على أهل البدع، توفي رحمه الله سنة 790 هـ. انظر (الديباج المذهب ص 220 وشذرات الذهب 6/ 282). (¬3) الموافقات 1/ 176 للشاطبي.

دعوة تدعوهم إلى الإِيمان بالله، هذا الإِيمان الذي يملأ هذا الفراغ الذي يعيشه سواء في نفسه أو بيئته أو محيطه. إن الإِنسان اليوم ليعيش عيشة وهمية تلمؤها الوثنية والخرافات والشعوذات في كل أرجاء المعمورة ... لابد من دعوة نظيفة أصيلة تقضي على هذه الجاهليات. ولن تكون هذه الدعوة إلا الدعوة الإِسلامية، والدعاة هم المسلمون أتباع النبي محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -. والقيام بالدعوة لها آثارها في استقامة الأمة ودفع الشرور والفتن والمحن عنها. وقد أناط الله سبحانه وتعالى بهذه الأمة وألزمها بأن تقوم بالدعوة -خير قيام لتكون خير أمة أخرجت للناس- وذلك لأمور نوجزها هنا: أ- إن الله سبحانه وتعالى أرسل رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس جميعًا ورسالته إلى الناس كافة باقية إلى قيام الساعة، ومقصد هذه الدعوة هداية الخلق إلى توحيد الله سبحانه وتعالى والتعريف بمنهجه وما يجب على عباده تجاهه سبحانه وتعالى ليفوزوا بالسعادتين في الدنيا والآخرة. ولذا كانت رسالة نبينا - صلى الله عليه وسلم - عامة ورحمة للعالمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]. فكان لزامًا على هذه الأمة المسلمة أن تنهض وتقوم من بعد النبي بوجوب التبليغ للدعوة للإِسلام إلى أهل الأرض جميعًا. وكيف لا يكون كذلك وقد قال الله سبحانه وتعالى عن هذه الأمة في محكم كتابه العزيز {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. ب- إن بقاء الشرك والكفر والجاهليات الأخرى في الأرض يؤثر تأثيرًا عاجلًا أو آجلًا على معاني الإِسلام القائمة في أي جانب من جوانب الأرض، ولذا ترى الإِسلام يمنع المسلم من البقاء في ديار الكفر بل يأمره بالتحول إلى ديار الإِسلام حتى لا يُفتتن في دينه، وعلى هذا فقيام المسلم

بدعوة أهل الشرك والكفر إلى دين الله يفيده ويقيه شرور الكفر ويقي مجتمعه (¬1). جـ- رفع الهلاك والعذاب عن المسلمين قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)} [الأنفال: 25]. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الله المسلمين أن لا يُقَرَّ المنكر بين أظهرهم فيعمَّهم العذاب الذي يصيب الصالح والطالح (¬2). وجاء في صحيح البخاري عن زينب (¬3) بنت جحش أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث" (¬4). وبعد أن بينا أن الدعوة وظيفة الأنبياء المرسلين، وقد شرف الله هذه الأمة بهذا العمل وهو الدعوة إلى الله بتوحيده والسير على منهجه، وترك الشرك والوثنية، كل هذا يبين لنا مكان الدعوة في الإِسلام. ولماذا علق الله سبحانه وتعالى الدعوة بالمسلمين دون غيرهم؟. أما على من تقع مسؤولية عدم تبليغ الدعوة للأقوام الذين لم تبلغهم للآن في شتى بقاع المعمورة؟ لا شك أن المسؤولية تقع على كل مسلم، وهذه المسؤولية العظيمة نحن المسلمين مسؤولون عنها لأننا بحق فرطنا في كثير من مسائل ديننا ومنها الدعوة إلى الله، والإِسلام حُجب بأهله ويا للأسف، فلابد إذن أن نعيَ ونصحوَ وندعوَ بدعوة نبينا محمد بن ¬

_ (¬1) أصول الدعوة ص 308 عبد الكريم زيدان. (¬2) أخرجه البخاري انظر (فتح الباري 13/ 106 كتاب الفتن باب يأجوج). (¬3) هي زينب بنت جحش الأسدي، أم المؤمنين زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة ثلاثة للهجرة ونزل بسببها آية الحجاب، ولما سمعت بتزويج رسول الله لها سجدت، توفيت سنة عشرين هجرية. انظر (الإِصابة 4/ 281). (¬4) أخرجه البخاري انظر (الفتح 13/ 106 كتاب الفتن باب يأجوج ومأجوج).

عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن هناك أقوامًا يعيشون في ظلمات الجهل والكفر والتيه والضلال، والمسلمون مسؤولون كلهم سواء حاكمًا أو محكومًا، ومن واجب الحاكم المسلم أن يوجه دعاته إلى هؤلاء الناس المتعطشين إلى عقيدة سليمة تقبلها الفطرة بكل رحابة صدر، وهذه العقيدة هي عقيدة الإِسلام قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]. والمسلم عليه أن يبلِّغ من العلم والدعوة ما يستطيع، جاء في الحديث الشريف: "فليبلِّغ العلمَ الشاهدُ الغائبَ" (¬1) ولكن يا للأسف إن أمر الدعوة قد هان لدى المسلمين فاضطرب ميزان الخير والشر، ثم استفحل الخطر فأمسى الضلال يركض في كل ناحية لا يجد عائقًا ولا ساخطًا، وهكذا ركدت ريح الدعوة إلى الله لأن هذه الأمة في عصورها الأخيرة قد فرطت الكثير في جنب الله ولم تخلُف رسولَها العظيم في طبيعة الإِشعاع والإِسعاد التي اقترنت ببعثته والتي جعلت منه صبحًا يجتاح الظلمات (¬2). ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري انظر (فتح 1/ 197 كتاب العلم باب سواء عليهم). (¬2) مع الله، دراسات في السيرة والدعوة والدعاة للشيخ محمد الغزالي ص 55.

الفصل الثالث الطرق المؤدية لإيصال الدعوة إلى جميع الناس

الفصْل الثالث الطرق المؤدية لإِيصال الدعوة إلى جميع الناس قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)} [الحج: 27]. والأذان معناه الإِعلام، وهنا يتبين لنا مدى أهمية الإِعلام في الدعوة إلى الله والدعوة إلى كل خير. فعندما أنهى إبراهيم عليه السلام بناء البيت الذي أمره الله ببنائه أمره أن يعلن للعالم كله أن عليكم حجًّا فحجُّوا. فأعلنها إبراهيم عليه السلام كما أمره ربه فسمعه مَن سمعه في الأرض فجاءه ملبيًا مكبرًا "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك له لبيك". من هذا المنطلق تبرز أهمية الإِعلام في توجيه كل فضيلة. والإِعلام بمعناه الصحيح هو إخبار الناس بالأخبار الصحيحة والمعلومات والحقائق الثابتة التي تساعد على تكوين رأي صائب في واقعة من الوقائع الثابتة، لذا كتب الله سبحانه وتعالى النجاح للدعوة الإِسلامية، ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مثلًا أعلى في الصدق إلى الحدّ الذي جعل عقلاء العرب يصدقونه بخبر السماء. لذلك يجب توجيه الإِعلام الإِسلامي توجيهًا يتناسب مع عقيدتنا

وشريعة ديننا ودعوتنا حتى نصل بها إلى العالم أجمع وإلى كل صقع وواد؛ نعرِّفهم بالإِسلام، وأنه هو الدين الذي ارتضاه رب العالمين للناس منهجًا. ومن خلال وسائل الإِعلام نستطيع أن نبين زيف الإِرساليات النصرانية من التشويه الذي شوّهوا به ديننا وعقيدتنا، ولا يزالون يحاربون هذا الدين وأهله ليطفئوا نور الله ولكن هيهات هيهات لما يفعلون {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)} [التوبة: 32]. إذن فما على المسلمين إلا أن يقفوا وقفة واحدة للدفاع عن هذا الدين والدعوة إليه وتفنيد الشبهات التي حاكها أعداء الإِسلام والمسلمين من يهود ونصارى قال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] وذكر سبحانه وتعالى في موضع آخر: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]. ولما للإِعلام من الأهمية في نشر الدعوات والأفكار كان لزامًا على المسلمين أن يوجهوا هذا الجانب توجيهًا إسلاميًا ويخدموا به الدعوة الإِسلامية وسبل نشرها في ربوع المعمورة. إن ما قام به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الجهود لنشر الإِسلام كان (إعلامًا) صرفًا بلغة العصر الحاضر، (ودعوة) صادقة بلغة المسلمين في العصر الأول من صدر الإِسلام، وحسبنا أن نعلم أنه كان من أهم الوسائل الإِعلامية التي أتيحت للرسول - صلى الله عليه وسلم -: المصدر الأول: القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. والمصدر الثاني: السنة النبوية الشريفة التي كانت مفسِّرة للقرآن

الكريم (¬1) قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3 - 4]. ثم جاء عهد الخلفاء الراشدين وانقطع الوحي وانتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى وانقطع وجود شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين الناس، وهي بحق شخصية متكاملة في الخَلْق والخُلُق كيف لا وقد كان تحت رعاية الباري عزّ وجلّ {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. لكن عندما توفي الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتحق بالرفيق الأعلى بقي الكتاب والسنة موجودين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وما إن تمسك المسلمون بهما فقد سعدوا "تركت فيكم أمرين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدًا كتاب الله وسنتي" (¬2). فعلينا نحن المسلمين أن نخطوا الخطوات تلو الخطوات ونخدم دعوتنا في هذا المضمار بعد توجيهه الوجهة الصحيحة. تعريف الإِعلام: فالإِعلام هو نشر الكلمة أو الخبر أو الفكرة أو الصورة على عامة الناس (¬3) بإحدى الوسائل الآتية: أولًا: الكتابة سواء كانت هذه الكتابة في كتاب أو صحيفة أو مجلة أو نشرة عامة. ثانيًا: التلفاز. ثالثًا: الإِذاعة. ومن هنا تظهر أهمية الإِعلام في إيجاد الوعي عند جمهور الناس ¬

_ (¬1) انظر الإعلام في صدر الإِسلام ص 103 لعبد اللطيف حمزة. (¬2) رواه الحاكم في مستدركه كتاب العلم باب خطبة حجة الوداع 1/ 93. (¬3) رسالة الإعلام في بلاد الإِسلام وعلاقتها بالدعوة الإِسلامية ص 1 للشيخ عبد الله الأنصاري.

وتوجيه مشاعرهم الوجهة الصحيحة السليمة في الدعوة إلى كل خير وفضيلة والدعوة إلى الإِسلام ودفع الشبهات عنه. وهناك وسيلة أخرى لا تقل أهمية عن الوسائل الأخرى وهي الجهود الشخصية. فالإِعلام بكل صوره ووسائله نستطيع أن نكرِّسه في الدعوة إلى الخير أو الشر. وهذا يعتمد على اليد التي تسيطر عليه، والتي يجب أن تكون أيدٍ مؤمنةً بربها ودينها متخذة التقوى بالله شعارها، وهي تبتغي بذلك إيصال الدعوة ونشرها وتبليغ هذا الدين. ويجب أن تكون هذه اليد ملتزمة "والالتزام قضية هامة وهي في غاية الخطورة، وينبغي أن تكون هي الجوهر الذي علينا اكتشافه وقبل كل شيء يجب أن تتوافر في الداعية شروط شتى. أ- التفقه في الدين ومعرفة أحكامه والإِخلاص لعقيدته الإِسلامية. ب- الإِلمام الكامل بثقافة الإِسلام ثقافة عامة، والاطلاع على ثقافة الغرب والرد على ما تناقض مع الإِسلام، والجواب على الشبهات التي تثار حوله" (¬1). ويجب على الداعية المسلم الإِيمان المطلق بأن الأمة المسلمة صاحبة رسالة سماوية وحاملة أمانة إلى أهل الأرض جميعًا قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72]. فالمسلمون ملزمون بتبليغ هذه الرسالة إلى الناس كافة على مختلف ألوانهم وألسنتهم، فإذا فعلنا ذلك كنا أوفياء لعقيدتنا. ¬

_ (¬1) رسالة الإعلام في بلاد الإِسلام وعلاقتها بالدعوة الإِسلامية للشيخ عبد الله الأنصاري ص 9.

لذا أصبح من الواجب علينا إيجاد الإِعلام الإِسلامي الذي يحافظ على قيم الإِسلام وتشريعاته وأحكامه. إن الإِعلام لو وُجِّه توجيهًا سليمًا في برامجه على اختلاف أنواعها لَسمعنا صوتَ الإِسلامِ عاليًا. والمطلوب من إعلامنا أن يتجه هذه الوجهة الإِسلامية الصحيحة، نريد أن يكون إعلامًا دفاعيًا تبليغيًا، لكي نردّ فيه على حملات أعداء الإِسلام وتشويهاتهم ونبيِّن فسادَ هذه الحملات وما ترمي إليه من تشكيك. لذا يجب أن يقف الإِعلام المسلم الموقف المدافع المناضل بالأدلة النقلية والعقلية وإبطال وفضح أكاذيب هؤلاء، وأن يكون تبليغيًا داعيًا إلى الله من خلال عمل رجال الإِعلام المسلمين فيه، فعليه أن يبين ما في الإِسلام من محاسن وقيم وعقيدة سليمة وشرائع تميل إليها النفوس (¬1). فكان لابد لنا أن نبين أهمية كل قسم من أقسام الإِعلام وما له من تأثير في نفوس الناس من خلال بث الأفكار والمعتقدات. 1 - التلفاز: هو وسيلة إعلامية ذات تأثير عميق في حياة الناس وأفكارهم ومشاعرهم فبتوجيهه توجيهًا سليمًا، وذلك بإخراج وعرض قضايا الإِسلام العقائدية والاجتماعية، فيكون بعد ذلك قد ساهم في تحسين المستوى الفكري والاجتماعي للإِنسان في نشر الدعوة. 2 - الإِذاعة: والحقيقة أنها وسيلة من أهم الوسائل الإِعلامية في عصرنا الحاضر التي يمكن تسخيرها في مجال الدعوة الإِسلامية وسبل نشر هذا الدين وما يحتوي من قيم وشعائر، وذلك بتقوية إرسالها الإِذاعي حتى تصل إلى قلوب الناس، وأن يكون ذلك بعدة لغات، وهذا "ينمي ويبعث فيهم فطرة البحث عن الحقيقة، ثم بعد ذلك تكون وظيفة الدعاة تثبيت الإِقناع والدخول في التفاصيل من عبادة وسلوك وغير ذلك" (¬2). ¬

_ (¬1) الدعوة الإِسلامية ووسائل الإعلام الدكتور عبد المنعم محمد حسنين ص 13. (¬2) وسائل الإعلام عدنان رشيد ص 8.

هذه الوسائل التي ذكرنا آنفًا هي من الوسائل الآلية، وهي تسخَّر وتوجَّه حسب حقيقة وسلوك وعقيدة الموجِّه. وهذه الآلة لا حول لها ولا قوة لأنها توجّه ولا توجِّه، فإذا كان الموجه يتمتع بروح الإِسلام فإنه سوف يوجهه توجيهًا إسلاميًا، وأما إذا كان الموجه ذا نزعة غربية أو شرقية فإنه سوف يوجهه توجيهًا حسب ما تملي عليه ثقافته الغربية أو الشرقية. 3 - الكتابة: وهي من الوسائل الإِعلامية التي تساعد على نشر الدعوة الإِسلامية، سواء كانت هذه الكتابة عن طريق صحيفة أو غير ذلك. فيستطيع الكاتب الإِسلامي أن تكون كتاباته ومقالاته في خدمة الدعوة، وبأُسلوب نظيف بعيد عن كل نزعة قومية أو عنصرية، وأن تكون كتابته في صميم الإِسلام. وهذه الكتابات لها أثرها الكبير في النفوس وخاصة في صدق الدعوات. والدعوة إلى الله من أجلِّ الأعمال وأقربها إلى الله سبحانه وتعالى. فتأليف الكتب في بيان حقيقة معاني الإِسلام وكتابة الأبحاث والمقالات والرسائل من الوسائل المفيدة في الدعوة إلى الله ولاسيما إذا ترجمت إلى لغات من يراد تعريفهم بالإِسلام ودعوتهم إليه. فيمكن بهذه الوسيلة تبليغ الإِسلام إلى ملايين الناس الذين لا يعرفون اللغة العربية ولم تصلهم حقيقة الإِسلام بعد. ويذكر الدكتور عبد الكريم زيدان "أنه يجب على الداعية أن يكتب هذه المقالات والأبحاث بأسلوب بسيط مفهوم وواضح يدركه الناس على مختلف مستوياتهم وقدراتهم وأن تكون المعاني التي يبينها فيها مما يتمكن كل واحد من معرفتها، وأن تكون خالية من ذكر المسائل الدقيقة والخلافية، وأن تكون مختصرة دون إخلال بالمعنى ومقتضيات التفهيم (¬1) ". وهناك قسم آخر من أقسام الإِعلام وهو الجهود الشخصية وما لها من ¬

_ (¬1) أصول الدعوة ص 414 الدكتور عبد الكريم زيدان.

الأثر الكبير في نشر الدعوة. والجهود الشخصية تعتمد على أساسين مهمين في حياة الداعية. أ- تعتمد على شخصه من حيث القدرة على الكلام وقوة الحجة. ب- وتعتمد على خُلق الداعية وسيرته، نعني بذلك القدوة الحسنة للغير. ونبين هنا كلا النوعين وما لهما من الأثر الطيب في النفوس، والكلمة الطيبة صدقة، والكلمة الطيبة تتلقى المكان الرحب في صدور الناس، لذلك يجب أن يكون الكلام بالقول لينًا هينًا سهلًا واضحًا خاليًا من الألفاظ المجملة المبهمة التي تحمل حقًا وباطلًا. والداعية ملزم أن يكون كلامه وألفاظه في نطاق الشريعة وحدودها، لأن المهم هو إيصال الدعوة إلى قلوب الناس، وهذا لا يحتاج إلى كلمات جوفاء غامضة لا تفيد السامع ولا تنفعه بشيء، بل يجب على الداعية أن يلتزم بالقدوة الحسنة وهو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. تقول عائشة رضي الله عنها: "كان كلام رسول الله كلامًا فصلًا يفهمه كلّ من يسمعه" (¬1) معنى ذلك كان كلامه بينًا وواضحًا. ونرى القرآن الكريم يأمر بتبليغ الدعوة وذلك بجعل القول معنىً من معاني الدعوة قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] وقوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)} [الأعراف: 104]. والخطبة: نوع من أنواع القول، وهي عادة ما تكون بين مجموعة من الناس. ومن عوامل نجاح الخطبة والتأثر بها: أن يدرس الخطيب أحوال المجتمع الذي يعيش فيه، كأن يعيش في مجتمع بعيد عن العقيدة الإِسلامية والارتماء في أحضان العقائد الفاسدة، فيكون للخطيب صولة وجولة في ¬

_ (¬1) رواه أبو داود 5/ 172 كتاب الأدب باب الهدى في الكلام.

ذكر العقيدة الإِسلامية وما لها من مزايا على العقائد الفاسدة، وبضرب الأمثلة والوقائع على ذلك. وهناك الدرس والمحاضرة والمناقشة والجدل. والمناقشة من الأهمية بمكان، وخاصة إذا كانت المناقشة في إظهار الحق بالأدلة والبراهين النقلية والعقلية. ويكون النقاش بين شخصين أو بين شخص ومجموعة من الناس، ولابد أن يكون الداعية على مكانة علمية ويتحلى بالخلق والصبر وحسن المناقشة، مبينًا بذلك قوة الحجة والبيان. وكذلك عليه أن لا يتردد في أي مناقشة ما دام سعيه وراء الحق وإظهاره قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. والحقيقة أن الجهود الفردية لها أثرها الكبير في نشر الدعوة الإِسلامية، والسيرة الحسنة والسلوك هو رأس مال الداعية إلى الله ويجب أن يكون سلوكه وعمله متأسيًا بسلوك المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. فوسائل الإِعلام هي بحق خير طريقة لإِيصال الدعوة وسبل نشرها في المجتمعات الأخرى إذا ما وُجِّه الإِعلامُ توجيهًا إسلاميًا، ولكن يا ترى: هل حدث هذا في إعلامنا نحن المسلمين من نشر الفضيلة والدعوة إلى الله؟ والجواب: لا، لم يحدث هذا لأن الإِعلام في العالم الإِسلامي ليس إعلامًا إسلاميًا، وإن كان فيه فهو قليل، وهذا دليل على أن القائمين على الإِعلام في بلادنا الإِسلامية هم مسخرون من قبل الشرق أو الغرب. فكل وسائل الإِعلام ليس فيها رائحة الإِسلام إلا ما هو نادر؛ فهذه صحافتنا نراها تحمل أفكارًا ومبادىء تتنافى مع عقيدتنا الإِسلامية ومخالفة لأعرافنا من تشجيع على الفساد. ويأتي دور الإِذاعة والتلفاز، وما أدراك ما الإِذاعة والتلفاز يذاع ويعرض فيهما الإِثم، إذ نسمع فيهما ونرى ما تخجل الأُذن والعين أن تسمعه وتراه؛ إن أبناءنا وبناتنا يعرفون عن الغرب والشرق أكثر مما يعرفون عن تاريخهم الإِسلامي، إن الإِعلام في بلادنا مسؤول مسؤولية

كبيرة عن كل تخريب حصل في مجتمعنا من تأخر وابتعاد عن العقيدة الإِسلامية. إن من الواجب على الإِعلام في بلادنا أن يسير وفق منهج مستقيم "والدراسات الإِعلامية الحديثة تؤكد أن الإِعلام إذا وُجِّه توجيهًا حقيقيًا إلى إصلاح الداخل أولًا ثم إصلاح الخارج فقد سار في الطريق المستقيم، فالإِسلام لا يعرف الجمود في مكان ولا زمان، ولكن يعرف الخروج إلى الدنيا مهما اتسعت أطرافها. وهذا واجب ينبغي أن تحمله رسالة الإِعلام لما لها من مقدرة على تخطي الحواجز" (¬1). لابد من الجهر بالدعوة وأن نصدع بها عبر الآفاق بجرأة وشجاعة كما كان يفعل السلف الصالح حين صدعوا بالحق وما خافوا في الله لومة لائم "إن للإِعلام دوره الخطير في نشر الدعوات وأنها وسيلة من وسائل الاتصال، فإنه من الواضح أن يعتبر قيامها بدور فعال في مجال الدعوة الإِسلامية وفاء بواجب من الواجبات الأساسية التي عليها (¬2). وحيث يكون للإِعلام أثر فعال لابد من نشر الحق بين الناس، وأن تكون البرامج فيها هادفةً والفصل فيها واضحًا بين دعوة الإِسلام والدعوات الأُخرى. ولابدّ من الجهر بالحق والإِصرار على عالمية الدعوة الإِسلامية (¬3). ولابد من إخضاع كل وسيلة صالحة للإِعلام النظيف إلى سلطان الدعوة تمكينًا لها من الذيوع وتوضيحًا لسموها وتفوُّقها على سائر الدعوات والمذاهب التي تتخبط البشرية في مجاهلها. ولا خلاف على أن في مقدمة هذه الوسائل كل الفنون الإِذاعية من المسموع والمنظور والمقروء (¬4). فنستطيع أن نعرض من خلالها الإِسلام ثقافةً وعبادةً وتعاملًا وتأريخًا ¬

_ (¬1) رسالة الإِعلام في بلاد الإِسلام وعلاقتها بالدعوة الإِسلامية ص 13 للدكتور طه مقلد. (¬2) نفس المصدر السابق. (¬3) نفس المصدر السابق. (¬4) نحو إعلام إسلامي ص 11 محمد المجدوب.

لِيعلم مَن لا يعلم أن الإِسلام نظام حياة متكامل أنزله الله سبحانه وتعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. بذلك ننقذ إذاعات المسلمين من تلك المساخر التي أفسدت الذوق العام ودمرت الشباب، ونريد أن نعرض معاني الإِسلام بأساليب محكمة بناءة هادفة تربط قلوب المشاهدين بروح الدين حتى يكونوا الصورة التي ترسمها الآية {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} [فصلت: 33]. ويبرز العالم الإِسلام على تباعد أقطاره الجغرافية وحدة منتظمة في وشائج الأخوة. ونريد للدعوة صحافة نقية من المخازي التي جعلت هذا الفن وصمة عار في جبين العالم الإِسلامي، نريدها حافلة بالفضائل التي يطلقها الإِسلام في كل جانب من جوانب الحياة، هذا من جهة الإِعلام ودوره الفعال في خدمة الدعوة وباستطاعته الوصول إلى أي بقعة من بقاع هذا العالم، وذلك بتقوية البث الإِرسالي حتى يبلغ أمر الله هذه المجتمعات المتعطشة إلى الإِيمان لتقتل الفراغ الذي تعيشه.

الخاتمة وفيها خلاصة البحث

الخَاتمَة وفيها خلاصة البحث 1 - تبين لنا من خلال هذا البحث أن الرسالات السماوية ضرورية في إصلاح الإِنسان في معاشه وفي معاده. فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة. فإن الإِنسان مضطر إلى الشرع، فالرسالة هي أشد ضرورة للإِنسان من الهواء والماء والدواء. 2 - إن الرسل عليهم الصلاة والسلام وظيفتهم هي بيان أن الله سبحانه وتعالى المتفرد والمستحق للعبادة وأن له الأمر والخلق. ووظيفتهم: أ- أمرهم بالتوحيد. ب- نهيهم عن الشرك. ب- أمرهم بلزوم الشرائع التي جاؤُوا بها من عند الله أمرًا ونهيًا. 3 - كانت الرسالات قبل مجيء رسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - رسالة الرسل الذين سبقوه: خاصة. وكل رسول دعا بما دعت به الرسل الذين كانوا قبله وهو الإِسلام. 4 - إن رسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - عامة إلى الإِنس والجن، وإنها صالحة لكل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإنه - صلى الله عليه وسلم - كما أُرسل إلى العرب أُرسل إلى أهل الكتاب وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى. وبهذا يتبين لنا بأن مسؤولية الإِنسان متعلقة بإرسال الرسل حتى يبينوا لهم ما يجب عليهم، أما قبل هذا فلا ثواب ولا عقاب.

5 - والفترة هي ما بين كل نبيين، وأهل الفترة هم الأقوام الذين لم تبلغهم الدعوة، أي دعوة رسول من الرسل الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى لكي يبينوا لهم ما يجب عليهم من حقوق تجاه خالقهم، وقد ثبت أن هناك فترات وأوضح هذه الفترات الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. 6 - والتكليف إنما يقع في حق من بلغته الدعوة لا على من لم تبلغه، والمختار الذي تدل عليه النصوص أن أهل الفترة يمتحنون في عرصات القيامة بنار فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، وكان هذا بمثابة من جاءه رسول في الدنيا فصدقه وآمن به، ومن لم يدخلها فقد دخل النار وكان هذا بمثابة من جاءه رسول في الدنيا فكذبه. 7 - والمختار في أطفال المشركين أنهم في الجنة كما سبق ذلك في موضعه من حيث الدليل. 8 - والمختار في المجانين أنهم يمتحنون لثبوت الأدلة بذلك. 9 - الذين لم تبلغهم الدعوة في عصرنا الحاضر ولم يسمعوا بأن هناك دينًا أو معتقدًا اسمه الإِسلام، أو قد تكون بلغتهم ولكن مشوهة عن طريق الإِرساليات النصرانية؛ فحكم هؤلاء حكم أهل الفترة أي يمتحنون في عرصات القيامة والله أعلم. 10 - المسؤولية مسؤولية كل المسلمين الذين يستطيعون القيام بهذا الواجب العظيم ألا وهو الدعوة إلى الله حكامًا ومحكومين وعلماء وطلاب علم. وقد أناط الله سبحانه وتعالى إليهم هذا الواجب الذي هو من مهام الرسل. 11 - هناك طرق ووسائل لنشر الدعوة الإِسلامية، وخير وسيلة لقيام نشر الدعوة هو الإِعلام بشتى أنواعه شريطة أن يكون الإعلام إعلامًا إسلاميًا تصورًا ومعتقدًا.

وإذا كانت ثمة مقترحات أود أن أطرحها في هذه الرسالة فهي: أ- على المنظمات الإِسلامية العمل بإنشاء مركز للدعوة الإِسلامية، وتكون مهمة هذا المركز إعداد الدعاة إعدادًا كاملًا، حتى يستطيع الدعاة بعد ذلك القيام بهذه المهمة الجليلة، ومن الممكن جدًا أن يستعين هذا المركز بأبناء الأقليات وتأهيلهم تأهيلًا كاملًا للدعوة إلى الله، وهذا من السهولة بمكان والحمد لله. ب- على الحكومات الإِسلامية مساعدة المنظمات الإِسلامية التي تعمل لنشر دعوة الإِسلام سواء في البلاد نفسها أو البلاد الأخرى وتقديم كل عون ومساعدة في سبيل الوصول إلى هدفها. جـ- وأقترح أخيرًا أن تقوم كلية أصول الدين باستغلال المناسبات الإِسلامية لإِقامة مؤتمرات إسلامية مهمتها التعريف بالإِسلام والطرق المؤدية إلى ذلك حتى يصل إلى قلوب الناس الذين لم تبلغهم الدعوة المحمدية، وبذلك نكون قد وفَّينا بعض ما علينا من واجبات تجاه دعوتنا الإسلامية. وبهذا نكون قد أتممنا ما بدأنا به، فأحمد الله عزّ وجلّ على توفيقه وامتنانه، وأضرع إليه سبحانه وتعالى أن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم، إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

قائمة المراجع

قائمَة المراجع 1 - القرآن الكريم. 2 - أحكام القرآن: أبو بكر الجصاص؛ دار الكتاب العربي -بيروت. 3 - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول: محمد بن علي الشوكاني؛ الطبعة الأولى سنة 1356 هـ -مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر. 4 - أساس البلاغة: جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري؛ دار صادر ودار بيروت سنة 1385 هـ. 5 - أسد الغابة في معرفة الصحابة: عز الدين أبي الحسن علي بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير؛ المكتبة الإِسلامية بطهران سنة 1377 هـ. 6 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب: أبو عمر يوسف بن عبد البر تحقيق: علي البجاوي؛ مكتبة نهضة مصر ومطبعتها. 7 - الإصابة في تمييز الصحابة: ابن حجر العسقلاني؛ تحقيق: دار نهضة مصر للطباعة والنشر. 8 - أصول الدعوة: عبد الكريم زيدان؛ مطبعة العاني -بغداد سنة 1972 م. 9 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: الشيخ محمد أمين الشنقيطي؛ مطبعة المدني -المؤسسة السعودية بمصر. 10 - الأعلام: خير الدين الزركلي؛ الطبعة الثالثة سنة 1969 م. 11 - الإعلام في صدر الإِسلام: حمزة عبد اللطيف؛ دار الفكر العربي -مصر سنة 1979 م. 12 - الألوسي مفسرًا: د. محسن عبد الحميد؛ مطبعة الحرية -بغداد. 13 - البداية والنهاية: إسماعيل بن عمر بن كثير؛ الطبعة الأولى.

14 - الأهلية وعوارضها في الشريعة الإِسلامية: أحمد إبراهيم بك؛ مطبعة العلوم -القاهرة سنة 1937 م. 15 - تفسير البحر المحيط: ابن حيان؛ نشر: مكتبة النصر الحديثة -الرياض. 16 - تفسير السراج المنير: الخطيب الشربيني؛ دار المعرفة للطباعة والنشر -بيروت. 17 - تفسير القرآن العظيم: ابن كثير؛ مطبعة المشهد الحسيني -القاهرة. 18 - تفسير المنار: محمد رشيد رضا؛ دار المنار -الطبعة الثالثة سنة 1367 هـ. 19 - تجريد التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: أبو عمر يوسف بن عبد البر؛ مكتبة القدس -القاهرة سنة 1350 هـ. 20 - تهذيب التهذيب: ابن حجر العسقلاني؛ الطبعة الأولى -مطبعة مجلس إدارة المعارف النظامية بالهند- نشر: دار صادر -بيروت. 21 - التذكرة في أحوال الموتى والآخرة: أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي؛ المكتبة السلفية -المدينة المنورة. 22 - ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة: الطاهر أحمد الزاوي؛ الطبعة الثانية -عيسى البابي الحلبي وشركاه- القاهرة. 23 - تذكرة الحفاظ: أبو عبد الله شمس الدين الذهبي؛ دار إحياء التراث العربي -بيروت. 24 - الجامع لأحكام القرآن: أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي دار الكتاب العربي للطباعة والنشر -القاهرة سنة 1387 هـ. 25 - الجامع الصحيح: أبو عيسى الترمذي؛ المكتبة الإِسلامية بيروت، تحقيق عطوة عوض. 26 - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: أحمد عبد الحليم بن تيمية؛ مطابع نجد -بالرياض. 27 - الحاوي للفتاوي: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي؛ تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الثانية سنة 1959 م -مطبعة السعادة بمصر. 28 - حاشية العلامة البناني على متن جمع الجوامع: تاج الدين عبد الوهاب السبكي؛ الطبعة الثانية سنة 1356 هـ، مصطفى البابي الحلبي بمصر. 29 - الدعوة الإِسلامية دعوة عالمية: محمد الراوي؛ الدار العربية للطباعة والنشر -الطبعة الثانية سنة 1971 م.

30 - الدعوة الإِسلامية ووسائل الإعلام: د- عبد المنعم محمد حسنين (بحث قدم للمؤتمر العالمي لإِعداد الدعاة وتوجيه الدعوة المنعقد في الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة سنة 1397 هـ). 31 - دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي؛ (مطبوع ضمن الجزء التاسع والأخير من كتابه "أضواء البيان")، مطبعة المدني -القاهرة. 32 - ذيل تذكرة الحفاظ: جلال الدين السيوطي؛ دار إحياء التراث العربي -بيروت. 33 - الرسالة التدمرية: شيخ الإِسلام ابن تيمية؛ المطابع الأهلية للأوفست -الرياض. 34 - الروض الأنف في شرح السيرة النبوية: عبد الرحمن السهيلي تحقيق: عبد الرحمن الوكيل؛ الطبعة الأولى سنة 1387 هـ دار النصر للطباعة -القاهرة. 35 - رسالة الإعلام: الدكتور عدنان رشيد (مذكرة ألقيت على طلاب السنة الثانية في المعهد العالي للدعوة الإِسلامية بالرياض سنة 1397 هـ). 36 - رسالة الإعلام إلى بلاد الإِسلام وأثرها وعلاقتها بالدعوة الإِسلامية: د. طه عبد الفتاح مقلد. (بحث قدم للمؤتمر العالمي لإِعداد الدعاة وتوجيه الدعوة. المنعقد في الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة سنة 1397 هـ). 37 - رسالة الإعلام إلى بلاد الإِسلام: الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري (بحث قدم للمؤتمر العالمي لإعداد الدعاة وتوجيه الدعوة المنعقد في الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة). 38 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: العلامة الألوسي البغدادي؛ دار إحياء التراث العربي -بيروت. 39 - زاد المسير في علم التفسير: ابن الجوزي؛ الطبعة الأولى سنة 1384 هـ -المكتب الإِسلامي- بيروت. 40 - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة: ناصر الدين الألباني؛ الطبعة الثانية سنة 1392 هـ -المكتب الإِسلامي- بيروت. 41 - سنن أبي داود: أبو داود السجستاني؛ تحقيق عزت عبيد الدعاس سنة 1388 هـ. 42 - سنن الدارمي: أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي تحقيق: عبد الله

هاشم يماني المدني؛ شركة الطباعة الفنية المتحدة -القاهرة- سنة 1386 هـ. 43 - شرح العقيدة الطحاوية: تحقيق: جماعة من العلماء تخريج: محمد ناصر الدين الألباني؛ الطبعة الرابعة سنة 1391 هـ -المكتب الإِسلامي. 44 - شرح مراقي السعود: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي؛ مطبعة المدني -الطبعة الأولى سنة 1378 هـ. 45 - شرح الأصول الخمسة: القاضي عبد الجبار الهمذاني؛ تحقيق: عبد الكريم عثمان؛ الطبعة الأولى سنة 1354 هـ -مطبعة الاستقلال، نشر مكتبة وهبة، القاهرة. 46 - صحيح مسلم: الإِمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج؛ دار التراث العربي -بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي؛ الطبعة الأولى سنة 1374 هـ. 47 - صحيح مسلم بشرح النووي: الإِمام النووي؛ المطبعة المصرية ومكتبتها -القاهرة. 48 - طبقات المفسرين: الحافظ محمد بن علي الداودي -تحقيق: علي محمد عمر؛ الطبعة الأولى سنة 1392 هـ مطبعة الاستقلال. الناشر: مكتبة وهبة- القاهرة. 49 - طبقات القراء: الذهبي. 50 - الطبقات الكبرى: ابن سعد؛ دار صادر -بيروت. 51 - طبقات الشافعية: تاج الدين السبكي؛ تحقيق: محمد الطناحي وعبد الفتاح الحلو؛ الطبعة الأولى سنة 1383 هـ -مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه. 52 - طريق الهجرتين وباب السعادتين: ابن القيم؛ تحقيق ومراجعة: عبد الله إبراهيم الأنصاري؛ من مطبوعات إدارة الشؤون الدينية بدولة قطر سنة 1397 هـ. 53 - الفصل في الملل والأهواء والنحل: أبو محمد علي بن أحمد بن حزم؛ مكتبة المثنى -بغداد. 54 - فتح القدير: الشوكاني؛ المكتبة الشعبية -بيروت- الطبعة الثالثة سنة 1393 هـ. 55 - فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني؛ تحقيق: الشيخ عبد العزيز بن باز؛ الطبعة السلفية.

56 - فيض القدير بشرح الجامع الصغير: المناوي؛ الطبعة الثانية سنة 1391 هـ -دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت. 57 - فوات الوفيات: أحمد بن شاكر الكتبي؛ تحقيق: إحسان عباس؛ دار صادر -بيروت. 58 - في ظلال القرآن: سيد قطب؛ الطبعة السادسة دار الشروق سنة 1398 هـ. 59 - القول المبين في طبقات الأصوليين: عبد الله مصطفى المراغي؛ دار الكتب العلمية -بيروت- الطبعة الثانية سنة 1364 هـ. 60 - لسان العرب: ابن منظور؛ طبعة مصورة عن طبعة بولاق -المؤسسة المصرية للطباعة والنشر- القاهرة. 61 - لباب النقول في معرفة أسباب النزول: جلال الدين السيوطي. 62 - المستدرك على الصحيحين: الحاكم النيسابوري؛ دار الكتاب العربي -بيروت. 63 - الموافقات في أصول الأحكام: أبو إسحاق الشاطبي؛ تحقيق: د. محمد عبد الله دراز؛ دار المعرفة -بيروت. 64 - مسند الإِمام أحمد: أحمد بن حنبل؛ المكتب الإِسلامي -دار صادر- بيروت. 65 - مقالات الإِسلاميين واختلاف المصلين: أبو الحسن الأشعري -تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد؛ مكتبة النهضة بمصر- الطبعة الثانية سنة 1389 هـ. 66 - مجموع الفتاوى: شيخ الإِسلام ابن تيمية؛ الطبعة الأولى سنة 1381 هـ -مطابع الرياض. 67 - مختصر الفتاوى المصرية: لشيخ الإِسلام ابن تيمية محمد بن علي الحنبلي؛ دار نشر الكتب الإِسلامية -باكستان. 68 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: أبو بكر الهيثمي؛ الطبعة الثانية سنة 1976 م نشر: دار الكتاب العربي -بيروت. 69 - مع الله -دراسات في السيرة والدعوة والدعاة: محمد الغزالي؛ الطبعة الثالثة سنة 1965 م -مطبعة مخيمر- القاهرة. 70 - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإِرادة: ابن القيم؛ توزيع إدارة البحوث العلمية بالرياض. 71 - ميزان الاعتدال: أبي عبد الله بن عثمان الذهبي؛ دار إحياء الكتب العربية

-عيسى البابي وشركاه- القاهرة، الطبعة الأولى سنة 1382 هـ. 72 - نظرية التكليف: القاضي عبد الجبار الهمذاني؛ تحقيق: د. عبد الكريم عثمان؛ مؤسسة الرسالة سنة 1391 هـ. 73 - الوسيط في أصول الفقه الإِسلامي: وهبة الزحيلي؛ مطبعة جامعة دمشق سنة 1385 هـ. 74 - وفيات الأعيان وأخبار أبناء الزمان: ابن خلكان؛ تحقيق: إحسان عباس؛ دار صادر بيروت، دار الثقافة -بيروت.

§1/1