أم القرى

الكَوَاكِبي

مقدمة

مُقَدّمَة بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين، وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد أفضل المخلوقين، وعَلى آله وَأَصْحَابه أنصار دينه الْأَوَّلين، وعَلى أتباعهم فِي مسالكهم إِلَى يَوْم الدّين. أما بعد فَأَقُول، وَأَنا هُوَ الرحالة المتكنى بالسيد الفراتي: إِنَّه لما كَانَ عهدنا هَذَا، وَهُوَ أَوَائِل الْقرن الرَّابِع عشر، عهدا عَم فِيهِ الْخلَل والضعف كَافَّة الْمُسلمين، وَكَانَ من سنة الله فِي خلقه أَن جعل لكل شَيْء سَببا، فَلَا بُد لهَذَا الْخلَل الطَّارِئ، والضعف النَّازِل، من أَسبَاب ظاهرية غير سر الْقدر الْخَفي عَن الْبشر؛ فدعَتْ الحمية بعض أفاضل الْعلمَاء والسراة وَالْكتاب السياسيين للبحث عَن أَسبَاب ذَلِك، والتنقيب عَن أفضل الْوَسَائِل للنهضة الإسلامية، فَأخذُوا ينشرون آراءهم فِي ذَلِك فِي بعض الجرائد الإسلامية الْهِنْدِيَّة

والمصرية والسورية والتاتارية، وَقد اطَّلَعت على كثير من مقالاتهم الغراء فِي هَذَا الْمَوْضُوع الْجَلِيل، وَاتَّبَعت أَثَرهم بنشر مَا لَاحَ لي فِي حل هَذَا الْمُشكل الْعَظِيم. ثمَّ بدا لي أَن أسعى فِي توسيع هَذَا الْمَسْعَى بِعقد جمعية من سراة الْإِسْلَام فِي مهد الْهِدَايَة أَعنِي " مَكَّة المكرمة ". فَقَعَدت الْعَزِيمَة متوكلاً على الله تَعَالَى على إِجْرَاء سياحة مباركة بزيارة أُمَّهَات الْبِلَاد الْعَرَبيَّة، لاستطلاع الأفكار وتهيئة الِاجْتِمَاع فِي موسم أَدَاء فَرِيضَة الْحَج، فَخرجت من وطني، أحد مدن الْفُرَات، فِي أَوَائِل محرم سنة سِتّ عشرَة وثلاثمائة وَألف وكلي السن تنشد: (دراك فَمن يدنف لعمرك يدْفن ... وَمَا نَافِع نوح مَتى قيل قد فني) (دراك فَإِن الدّين قد زَالَ عزه ... وَكَانَ عَزِيزًا قبل ذَا غير هَين) (فَكَانَ لَهُ أهل يُوفونَ حَقه ... بهدى وتلقين وَحسن تلقن) (إلام وَأهل الْعلم أحلاس بَيتهمْ ... أما صَار فرضا رأب هَذَا التوهن) (هلموا إِلَى بذل التعاون إِنَّه ... بإهماله إِثْم على كل مُؤمن) (هلموا إِلَى (أم الْقرى) وَتَآمَرُوا ... وَلَا تقنطوا من روع رب مهيمن) (فَإِن الَّذِي شادته أسياف قبلكُمْ ... هُوَ الْيَوْم لَا يحْتَاج إِلَّا لألسن)

فَأتيت بَلْدَة لَا اسميها، وَمَا أطلت الْمقَام فِيهَا حَيْثُ وَجدتهَا كَمَا وصف أُخْتهَا أَبُو الطّيب بقوله: (وَلم أر مثل جيراني ومثلي ... لمثلي عِنْد مثلهمو مقَام) (بِأَرْض مَا اشْتهيت رَأَيْت فِيهَا ... فَلَيْسَ بفوتها الْإِكْرَام) فَخرجت مِنْهَا سالكا الطَّرِيق البحري من إسكندرون معرجاً على بيروت فدمشق ثمَّ يافا فالقدس، ثمَّ جِئْت إسكندرية فمصر، ثمَّ من السويس يممت الحديدة فصنعاء فعدن، وَمِنْهَا قصدت عمان فالكويت، وَمِنْهَا رجعت إِلَى الْبَصْرَة وَمِنْهَا إِلَى حَائِل إِلَى الْمَدِينَة على منورها أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام، على مَكَّة المكرمة فوصلتها فِي أَوَائِل ذِي الْقعدَة؛ فَوجدت أَكثر الَّذين أجابوا الدعْوَة مِمَّن كنت اجْتمعت بهم من أفاضل الْبِلَاد الْكَبِيرَة الْمَذْكُورَة وسراتها قد سبقوني بموافاتها، وَمَا انتصف الشَّهْر وَهُوَ موعد التلاقي إِلَّا وَقدم الْبَاقُونَ مَا عدا الأديب الْبَيْرُوتِي الَّذِي حرمنا الْقدر ملاقاته لسَبَب أَنبأَنَا عَنهُ فعذرناه. وَفِي أثْنَاء انتظارنا منتصف الشَّهْر، سعيت مَعَ بعض الإخوان الوافدين فِي تحري وتخير اثنى عشر عضوا أَيْضا لأجل إضافتهم

للجمعية، وهم من مراكش وتونس والقسطنطينية وبغجة سراي وتفليس وتبريز وكابل وكشغر وقازان وبكين ودلهي وكلكته وليفربول. وَإِذ كنت الْمُبَاشر لهَذِهِ الدعْوَة بادرت واتخذت لي دَارا فِي حَيّ متطرف فِي مَكَّة، مُنَاسبَة لعقد الاجتماعات بِصُورَة خُفْيَة، وَمَعَ ذَلِك استأجرتها باسم بواب داغستاني روسي لتَكون مصونة من التَّعَرُّض رِعَايَة للِاحْتِيَاط. وَقد انْعَقَد من منتصف الشَّهْر إِلَى سلخه اثْنَا عشر اجتماعاً غير اجْتِمَاع الْوَدَاع، جرت فِيهَا مذاكرات مهمة، صَار ضَبطهَا وتسجيلها بِكَمَال الدقة كَمَا سَيعْلَمُ من مطالعة هَذَا السّجل المتضمن كَيْفيَّة الاجتماعات مَعَ جَمِيع المفاوضات والمقررات، غير مَا آثرت الجمعية كتمه كَمَا سيشار إِلَيْهِ.

الاجتماع الأول

الِاجْتِمَاع الأول يَوْم الِاثْنَيْنِ خَامِس عشر ذِي الْعقْدَة سنة 1316 فِي الْيَوْم الْمَذْكُور انتظمت الجمعية للمرة الأولى وأعضاؤها اثْنَان وَعِشْرُونَ فَاضلا، كلهم يحسنون الْعَرَبيَّة، فَبعد أَن عرفت كلا مِنْهُم لباقي إخوانه، وتعارفوا بالوجوه، بادرتهم بتوزيع اثْنَيْنِ وَعشْرين قَائِمَة مهيئات قبلا، مطبوعات بمطبعة الجلاتين الَّتِي استعرتها من تَاجر هندي فِي مَكَّة لأجل طبع هَذِه الْقَائِمَة وأمثالها من أوراق الجمعية، محرراً فِي نسخ الْقَائِمَة مُخْتَصرا تراجم إخْوَان الجمعية جَمِيعهم، بِبَيَان الِاسْم وَالنِّسْبَة وَالْمذهب والمزية الخصوصية، وموضحاً فِيهَا أَيْضا مِفْتَاح الرموز الَّتِي يحْتَاج الإخوان لاستعمالها. وأعضاء الجمعية هم: " 443138151279812176635584522 8413259365727835264332327404919867562321 " واعني بذلك: " السَّيِّد الفراتي: والفاضل الشَّامي، البليغ الْقُدسِي، الْكَامِل

الإسكندري، الْعَلامَة الْمصْرِيّ، الْمُحدث اليمني، الْحَافِظ الْبَصْرِيّ الْعَالم النجدي، الْمُحَقق الْمدنِي، الْأُسْتَاذ الْمَكِّيّ، الْحَكِيم التّونسِيّ، المرشد الفاسي، السعيد الإنكليزي، الْمولى الرُّومِي، الرياضي الْكرْدِي، الْمُجْتَهد التبريزي، الْعَارِف التاتاري، الْخَطِيب القازاني، المدقق التركي، الْفَقِيه الأفغاني، الصاحب الْهِنْدِيّ، الشَّيْخ السندي، الإِمَام الصيني. ثمَّ بادرت الإخوان جاهراً بِكَلِمَة شعار الْأُخوة الَّتِي يعرفونها مني من قبل وَهِي (لَا نعْبد إِلَّا الله) مسترعياً سمعهم، وخاطبتهم بِقَوْلِي: " من كَانَ مِنْكُم يعاهد الله تَعَالَى على الْجِهَاد فِي إعلاء كلمة الله وَالْأَمَانَة لإخوان التَّوْحِيد أَعْضَاء هَذِه الجمعية الْمُبَارَكَة فليجهر بقوله: على عهد الله بِالْجِهَادِ وَالْأَمَانَة، وَمن كَانَ لَا يُطيق الْعَهْد فليعنزلنا "؛ وَمَا جال نَظَرِي فيهم إِلَّا وسارع الَّذِي عَن يَمِيني إِلَى عقد الْعَهْد ثمَّ الَّذِي يَلِيهِ ثمَّ وَثمّ إِلَى آخِرهم. ثمَّ التمست مِنْهُم أَن ينتخبوا أحدهم رَئِيسا يُدِير الجمعية ومذاكراتها، وَآخر كَاتبا يضْبط المفاوضات ويسجل المقررات؛ فَأَجَابَنِي الْعَلامَة الْمصْرِيّ: " إِن معرفَة الإخوان بَعضهم بَعْضًا جَدِيدَة الْعَهْد، وَإنَّك

أشملهم معرفَة بهم، فَأَنا أترك الانتخاب لَك "؛ وَمَا أتم رَأْيه هَذَا إِلَّا وَأجْمع الْكل على ذَلِك، فَحِينَئِذٍ أعلنت لَهُم أَنِّي أتخير للرئاسة الْأُسْتَاذ الْمَكِّيّ، وأتخير نَفسِي لخدمة الْكِتَابَة، تفادياً عَن أتعاب غَيْرِي فِي الْخدمَة الَّتِي يمكنني الْقيام بهَا، واستأذنت الأفاضل الأعجام مِنْهُم بِنَوْع من التَّصَرُّف فِي تَحْرِير بعض ألفاظهم، فأظهر الْجَمِيع الرضاء والتصويب، وَصرح الْأُسْتَاذ بِالْقبُولِ مَعَ الامتنان من حسن ظنهم بِهِ، وَاسْتولى على الجمعية السُّكُوت ترقباً لما يَقُول الرئيس. أما الْأُسْتَاذ الرئيس فقطب جَبينه مستجمعاً فكره، ثمَّ اسْتهلّ فَقَالَ: الْحَمد لله عَالم السِّرّ والنجوى، الَّذِي جَمعنَا على توحيده وَدينه وأمرنا بالتعاون على الْبر وَالتَّقوى، وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على نَبينَا مُحَمَّد الْقَائِل (الْمُسلم للْمُسلمِ كالبنيان يشد بعضه بَعْضًا) ، وعَلى آله وَأَصْحَابه الَّذين جاهدوا فِي الله انتصاراً لدينِهِ، لم يشغلهم عَن إعزاز الدّين شاغل، وَكَانَ أَمرهم شُورَى بَينهم يسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم اللَّهُمَّ إياك نعْبد لَا نخضع لغيرك، وَإِيَّاك نستعين لَا نَنْتَظِر نفعا من سواك وَلَا نخشى ضراً، اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم الَّذِي لَا خفيات وَلَا ثنيات

فِيهِ صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم بِنِعْمَة الْهِدَايَة إِلَى التَّوْحِيد، غير المغضوب عَلَيْهِم بِمَا أشركوا وَلَا الضَّالّين بعد مَا اهتدوا، سُبْحَانَكَ رَبنَا آتنا من لَدُنْك رَحْمَة وهيء لنا من امرنا رشدا. وَبعد فيا أَيهَا السادات الْكِرَام، كل منا يعلم سَبَب اجتماعنا هَذَا من سَابق مفاوضات أخينا السَّيِّد الفراتي، الَّذِي أجبنا دَعوته لهَذِهِ الجمعية شاكرين سَعْيه. وَلذَلِك لَا أرى لُزُوما للبحث عَن السَّبَب، كَمَا لَا أجد حَاجَة لتنشيط همتكم وتأجيج حميتكم لأننا كلنا فِي هَذَا العناء سَوَاء، وَلَكِن أذكركم بخلاصة تَارِيخ هَذِه الْمَسْأَلَة فَأَقُول: إِن مَسْأَلَة تقهقر الْإِسْلَام بنت ألف عَام أَو أَكثر، وَمَا حفظ عز هَذَا الدّين الْمُبين كل هَذِه الْقُرُون المتوالية إِلَّا متانة الأساس، مَعَ انحطاط الْأُمَم السائرة عَن الْمُسلمين فِي كل الشؤون، إِلَى أَن فاقتنا بعض الْأُمَم فِي الْعُلُوم والفنون المنورة للمدارك، فربت قوتها، فنشرت نفوذها على أَكثر الْبِلَاد والعباد من مُسلمين وَغَيرهم؛ وَلم يزل الْمُسلمُونَ فِي سباتهم إِلَى أَن استولى الشلل على كل أَطْرَاف جسم المملكة الإسلامية؛ وَقرب الْخطر من الْقلب، اعني (جَزِيرَة

الْعَرَب) ، فتنبهت أفكار من رزقهم الله بَصِيرَة بالعواقب ووفقهم لنيل أجر الْمُجَاهدين، فهبوا ينشرون المواعظ والتذكرة والمباحث المنذرة، فَكثر المتنبهون، وتحركت الخواطر، لَكِنَّهَا حَرَكَة متحيرة الْوَجْه، ضائعة الْقُوَّة، فَعَسَى الله أَن يرشد جمعيتنا للتوصل لتوحيد هَذِه الوجهة وَجمع هَذِه الْقُوَّة. وبتدقيق النشريات والمقالات الَّتِي جَادَتْ بهَا أَقْلَام الْفُضَلَاء فِي هَذَا الْمَوْضُوع ترى كلهَا دَائِرَة على أَرْبَعَة مَقَاصِد ابتدائية فَقَط: الأول مِنْهَا: بَيَان الْحَالة الْحَاضِرَة، وَوصف إعراضها بِوَجْه عَام وَصفا بديعاً يُفِيد التأثر وَيَدْعُو إِلَى التدبر، على أَن ذَلِك لَا يلبث إِلَّا عَشِيَّة أَو ضحاها. وَالثَّانِي: بَيَان أَن سَبَب الْخلَل النَّازِل هُوَ الْجَهْل الشَّامِل بَيَان إِجْمَال وتلميح، مَعَ أَن الْمقَام يَقْتَضِي عدم الاحتشام من التَّفْصِيل والتشريح. وَالثَّالِث: إنذار الْأمة بِسوء الْعَاقِبَة المحدقة بهَا إنذاراً هائلاً تطير مِنْهُ النُّفُوس، مَعَ أَن الْحَال الْوَاقِع لَا تغني فِيهِ النّذر. وَالرَّابِع: تَوْجِيه اللوم والتبعة على الْأُمَرَاء وَالْعُلَمَاء والكافة لتقاعدهم عَن اسْتِعْمَال قُوَّة الِاتِّفَاق على النهضة، مَعَ أَن الِاتِّفَاق وهم

متشاكسون مُتَعَذر لَا متعسر فَهَذِهِ الْمَقَاصِد القولية قد استوفت حَقّهَا من أَنْوَاع بَدَائِع الأساليب، وآن أَوَان استثمارها، وَذَلِكَ لَا يتم إِذا لم يشخص الْمَرَض أَو الْأَمْرَاض الْمُشْتَركَة، تشخيصاً مدققاً سياسياً، بالبحث أَولا عَن مراكز الْمَرَض، ثمَّ عَن جراثيمه، ليتعين بعد ذَلِك الدَّوَاء الشافي الأسهل وجودا والأضمن نتيجة، وبالتنقيب ثَانِيًا عَن تَدْبِير إِدْخَاله فِي جسم الْأمة بحكمة تصرع العناد وَالوهم، وتتغلب على مقاومة أَعْضَاء الذَّوْق والشم. ثمَّ أظنكم أَيهَا السَّادة تستحسنون الاكتتام الَّذِي اخْتَارَهُ أَكثر هَؤُلَاءِ الْكتاب الأفاضل، لِأَن لذَلِك محسنات بل مُوجبَات شَتَّى يَنْبَغِي أَن تستعملها جمعيتنا أَيْضا؛ فلنحرص كلنا على الاكتتام لِأَن من موجباته الْتِزَام كل منا المشرب الْعمريّ، أَعنِي القَوْل الصَّرِيح فِي النَّصِيحَة للدّين بِدُونِ رِيَاء وَلَا استحياء وَلَا مُرَاعَاة ذوق عَامَّة أَو عتاة، لِأَن حَيَاء الْمَرِيض مهلكة، وكتم الْأَمر المستفيض سخافة، وَالدّين النَّصِيحَة، وَلَا حَيَاء فِي الدّين. وَمن مُوجبَات الاكتتام أَيْضا أَن كل مَا يخالج الْفِكر فِي مَوْضُوع مَسْأَلَتنَا مَعْرُوف عِنْد الْأَكْثَرين، وَلَكِن بِصُورَة مشتتة،

وَالنَّاس فِيهِ على أَقسَام، فصنف الْعلمَاء أما جبناء يهابون الْخَوْض فِيهِ، وَإِمَّا مراؤن مداجون يأبون أَن تخَالف أَقْوَالهم أَحْوَالهم. وَبَاقِي النَّاس يأنفون أَن يذعنوا لنصح نَاصح صادع غير مَعْصُوم، وَلذَلِك كَانَ القَوْل من غير معرفَة الْقَائِل أرعى للسمع وَأقرب للقبول والقناعة وأدعى للْإِجْمَاع. ثمَّ يَا أَيهَا الإخوان: أظنكم كَذَلِك تستصوبون أَن نَتْرُك جانباً اخْتِلَاف الْمذَاهب الَّتِي نَحن متبعوها تقليداً، فَلَا نَعْرِف مآخذ كثير من أَحْكَامهَا، وَأَن نعتمد مَا نعلم من صَرِيح الْكتاب وصحيح السّنة وثابت الْإِجْمَاع، وَذَلِكَ لكيلا نتفرق فِي الآراء وليكون مَا نقرره مَقْبُولًا عِنْد جَمِيع أهل الْقبْلَة، إِذْ أَن مَذْهَب السّلف هُوَ الأَصْل الَّذِي لَا يرد وَلَا تستنكف الْأمة أَن ترجع إِلَيْهِ وتجتمع عَلَيْهِ فِي بعض أُمَّهَات الْمسَائِل، لِأَن فِي ذَلِك التَّسَاوِي بَين الْمذَاهب، فَلَا يثقل على أحد نبذ تَقْلِيد أحد الْأَئِمَّة فِي مَسْأَلَة تخَالف الْمُتَبَادر من نَص الْكتاب الْعَزِيز أَو تبَاين صَرِيح السّنة الثَّابِتَة فِي مدونات الصَّدْر الأول. وَلَا يكبر هَذَا الرَّأْي على الْبَعْض مِنْكُم؛ فَمَا هُوَ بِرَأْي حَادث بَين الْمُسلمين، بل جَمِيع أهل جَزِيرَة الْعَرَب مَا عدا أخلاط الْحَرَمَيْنِ

على هَذَا الرَّأْي، وَلَا يخفى عَلَيْكُم أَن أهل الجزيرة وهم من سَبْعَة ملايين إِلَى ثَمَانِيَة كلهم من الْمُسلمين السلفيين عقيدة، وغالبهم الْحَنَابِلَة أَو الزيدية مذهبا، وَقد نَشأ الدّين فيهم وبلغتهم فهم أَهله وَحَمَلته وحافظوه وحماته، وقلما خالطوا الأغيار، أَو وجدت فيهم دواعي الأغراب والتفنن فِي الدّين لأجل الفخار، وَلَا يعظمن على الْبَعْض مِنْكُم أَيْضا انه كَيفَ يسوغ لِأَحَدِنَا أَن يَثِق بفهمه وتحقيقه مَعَ بعد الْعَهْد، وَيتْرك تَقْلِيد من يعرف انه أفضل مِنْهُ وَأجْمع علما وَأكْثر إحاطة واحتياطاً. وَلَا أَظن أَن فِينَا من لَيْسَ فِي نَفسه أشكال عَظِيم فِي تحري من هُوَ الأعلم من بَين الْأَئِمَّة وَالْعُلَمَاء والأحرى بالاعتماد على تَحْقِيقه، لوُجُود اختلافات واضطرابات مهمة بَينهم مَا بَين نفي وَإِثْبَات، حَتَّى فِي كثير من الْأُمُور التعبدية الفعلية الَّتِي مأخذها الْمُشَاهدَة المتكررة أُلُوف مَرَّات، مثل: هَل كَانَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ثمَّ جُمْهُور أَصْحَابه عَلَيْهِم الرضْوَان يصلونَ وتر الْعشَاء بِتَسْلِيمِهِ أم بتسليمتين؟ وَهل كَانُوا يقنتون فِي الْوتر أم فِي الصُّبْح؟ وَهل كَانَ المؤتمون يقرؤون أم ينصتون. وَهل كَانُوا يرفعون الْأَيْدِي

عِنْد تَكْبِيرَات الِانْتِقَال أم لَا يرفعون؟ وَهل يعقدون الْأَيْدِي أم يرسلونها. فَإِذا كَانَ الْأَئِمَّة وَالْعُلَمَاء الأقدمون هَذَا شَأْنهمْ من التباين والتخالف فِي تَحْقِيق كَيْفيَّة عبَادَة فعلية هِيَ عماد الدّين، أَعنِي الصَّلَاة الَّتِي هِيَ من المشهودات المتكررات وَتُؤَدِّي بالجموع والجماهير، فَكيف يكون شَأْنهمْ فِي الْأَحْكَام الَّتِي تستند إِلَى قَول أَو فعل أَو سكُوت صدر عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مرّة أَو مَرَّات فَقَط، وَرَوَاهَا فَرد أَو أَفْرَاد. فعلى هَذَا، لَا أرى من مَانع أَن نَتْرُك النقول المتخالفة خُصُوصا مِنْهَا الْمُتَعَلّق بِالْبَعْضِ الْقَلِيل من الْأُصُول، ونجتمع على الرُّجُوع إِلَى مَا نفهمه من النُّصُوص، أَو مَا يتَحَقَّق عندنَا حسب طاقتنا أَنه جرى عَلَيْهِ السّلف، وَبِذَلِك تتحد وجهتنا ويتسنى لنا الِاتِّفَاق على تَقْرِير مَا نقرره، وَيُقَوِّي الأمل فِي قبُول الْأمة منا مَا ندعوها إِلَيْهِ. وَإِنِّي أسلفكم أَيهَا السادات انه يَنْبَغِي أَن لَا يهولنا مَا ينبسط فِي جمعيتنا من تفاقم أَسبَاب الضعْف والفتور كَيْلا نيأس

من روح الله، وان لَا نتوهم الْإِصَابَة فِي قَول من قَالَ: أننا أمة ميتَة فَلَا ترجى حياتنا، كَمَا لَا إِصَابَة فِي قَول من قَالَ: " إِذا نزل الضعْف فِي دولة أَو أمة لَا يرْتَفع؛ فَهَذِهِ الرومان واليونان والأمريكان والطليان واليابان وَغَيرهَا كلهَا أُمَم أمثالنا استرجعت نشأتها بعد تَمام الضعْف وفقد كل اللوازم الأدبية للحياة السياسية، بل لَيْسَ بَيْننَا وَلَا سِيمَا عرب الجزيرة منا وَبَين أعظم الْأُمَم الْحَيَّة المعاصرة فرق سوى فِي الْعلم والأخلاق الْعَالِيَة، على أَن مُدَّة حضَانَة الْعلم عشرُون عَاما فَقَط وَمُدَّة حضَانَة الْأَخْلَاق أَرْبَعُونَ سنة. فعلينا أَن نثق بعناية الله الَّذِي لَا يعبد سواهُ؛ وَبِهَذَا الدّين الْمُبين الَّذِي نشر لِوَاء عزه على الْعَالمين، وَلم يزل بِالنّظرِ لوضعه الإلهي دينا حَنِيفا متيناً محكماً مكيناً لَا يفضله وَلَا يُقَارِبه دين من الْأَدْيَان فِي الْحِكْمَة والنظام ورسوخ الْبُنيان. ثمَّ أيقنوا أَيهَا الإخوان أَن الْأَمر ميسور، وان ظواهر الْأَسْبَاب وَدَلَائِل الأقدار مبشرة أَن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ، وَنَشَأ فِي الْإِسْلَام إنجاب أَحْرَار وحكماء أبرار يعد وأحدهم بِأَلف وجمعهم بِأَلف ألف. فقوة جمعية منظمة من هَؤُلَاءِ النبلاء كَافِيَة لِأَن تخرق

طبل حزب الشَّيْطَان، وتسترعي سمع الْأمة مهما كَانَت فِي رقاد عميق، وتقودها إِلَى النشاط وَإِن كَانَت فِي فتور مستحكم عَتيق، على أَن مَحْض انْعِقَاد جمعيتنا هَذِه لمن أعظم تِلْكَ الْمُبَشِّرَات، خُصُوصا إِذا وفقها الله تَعَالَى بعنايته لتأسيس جمعية قانونية منتظمة، لِأَن الجمعيات المنتظمة يتسنى لَهَا الثَّبَات على مشروعها عمرا طَويلا يَفِي بِمَا لَا يَفِي بِهِ عمر الْوَاحِد الْفَرد، وَتَأْتِي بأعمالها كلهَا بعزائم صَادِقَة لَا يُفْسِدهَا التَّرَدُّد؛ وَهَذَا هُوَ سر مَا ورد فِي الْأَثر من أَن يَد الله مَعَ الْجَمَاعَة، وَهَذَا هُوَ سر كَون الجمعيات تقوم بالعظائم وَتَأْتِي بالعجائب، وَهَذَا هُوَ سر نشأة الْأُمَم الغربية، وَهَذَا هُوَ سر النجاح فِي كل الْأَعْمَال المهمة، لِأَن سنة الله فِي خلقه أَن كل أَمر كليا كَانَ أَو جزئياً لَا يحصل إِلَّا بِقُوَّة وزمان متناسبين مَعَ أهميته، وان كل أَمر يحصل بِقُوَّة قَليلَة فِي زمَان طَوِيل يكون احكم وارسخ وأطول عمرا مِمَّا إِذا حصل بمزيد قُوَّة فِي زمَان قصير. وكلنَا يعلم أَن مَسْأَلَتنَا اعظم من أَن يَفِي بهَا عمر إِنْسَان يَنْقَطِع، أَو مَسْلَك سُلْطَان لَا يطرد، أَو قُوَّة عصبية حضرية حمقاء تَفُور سَرِيعا وتغور سَرِيعا. وَإِذا تفكرنا أَن مبدأ أعظم الْأَعْدَاد اثْنَان فَذَلِك مبدأ الجمعيات شخصان ثمَّ تتزايد حَتَّى تكمل، وتتقلب أشكالاً حَتَّى ترسخ؛ فعلى

هَذَا لَا يبعد أَن يتم لنا انْعِقَاد جمعية منتظمة تَنْعَقِد الآمال بناصيتها. وَلَا يَنْبَغِي الاسترسال مَعَ الْوَهم إِلَى أَن الجمعيات معرضة فِي شرقنا لتيار السياسة فَلَا تعيش طَويلا، وَلَا سِيمَا إِذا كَانَت فقيرة وَلم تكن كغالب الأكاديميات أَي لمجامع العلمية، تَحت حماية رسمية؛ بل الْأَلْيَق بالحكمة والحزم الْإِقْدَام والثبات وتوقع الْخَيْر إِلَى أَن يتم الْمَطْلُوب. هَذَا وَإِن شرقنا مشرق العظائم وَالزَّمَان أَبُو الْعَجَائِب، وَمَا على لله بعزيز أَن يتم لنا انتظام جمعية يكون لَهَا صَوت جَهورِي، إِذا نَادَى مؤذنها حَيّ على الْفَلاح فِي رَأس لرجاء يبلغ أقْصَى الصين صداه. وَمن المأمول أَن تكون الحكومات الإسلامية راضية بِهَذِهِ الجمعية حامية لَهَا وَلَو بعد حِين، لِأَن وظيفتها الأساسية أَن تنهض بالأمة من وهدة الْجَهَالَة وترقي بهَا فِي معارج المعارف، متباعدة عَن كل صبغة سياسية، وسنعود لبحث الجمعية فِيمَا بعد. ولنبدأ الْآن بتشخيص دَاء الفتور المستولي على الْأمة تشخيصاً سياسياً مدققاً، فأرجوكم أَيهَا السَّادة أَن يعْمل كل مِنْكُم فكره الثاقب فِيمَا هُوَ سَبَب الفتور، ليبين رَأْيه وَمَا يفتح الله بِهِ عَلَيْهِ فِي اجتماعاتنا الَّتِي نواليها كل يَوْم، مَا عدا يومي الثُّلَاثَاء وَالْجُمُعَة، من بعد طُلُوع

الشَّمْس بساعة إِلَى قبيل الظّهْر أَعنِي إِلَى مَا بعد مثل هَذَا الْوَقْت بساعة، فنفتتح كل اجْتِمَاع بِقِرَاءَة ضبط المذاكرات الَّتِي جرت فِي الِاجْتِمَاع السَّابِق ثمَّ نشرع بالمفاوضات. " وَإِنِّي أختم اجتماعنا الْيَوْم ببرنامج الْمسَائِل الأساسية الَّتِي تَدور عَلَيْهَا مذاكرات جمعيتنا، وَيَنْبَغِي لكل منا أَن يفتكر فِيهَا ويدرسها وَهِي عشر مسَائِل: 1 - مَوضِع الدَّاء. 2 - إِعْرَاض الدَّاء. 3 - جراثيم الدَّاء. 4 - مَا هُوَ الدَّاء. 5 - مَا هِيَ وَسَائِل اسْتِعْمَال الدَّوَاء. 6 - مَا هِيَ الإسلامية. 7 - كَيفَ يكون التدين بالإسلامية. 8 - مَا هُوَ الشّرك الْخَفي. 9 - كَيفَ تقاوم الْبدع. 10 - تَحْرِير قانون لتأسيس جمعية تعليمية. وَلما انْتهى خطاب الْأُسْتَاذ الرئيس، وانتهت الجلسة، قَالَ السَّيِّد

الفراتي: إِنِّي أرى أَن يُقيد كل منا هَذِه الْمسَائِل الْعشْر فِي جَانب من ورقة التراجم ليَكُون الْقَيْد تذكرة لَهُ، فخف أَرْبَعَة مِنْهُم نَحْو المكتبة وَأخذ كل قَلما وَقيد فهرست الْمسَائِل، ثمَّ توالي الْبَاقُونَ على ذَلِك؛ وعندما فرغوا من التَّحْرِير خاطبهم السَّيِّد الفراتي بقوله: إِنِّي أغتنم تشريفكم الأول لمحلي وَسِيلَة لضيافتكم، وَقد أَعدَدْت مَا يتسهل إعداده لغريب مثلي فِي مثل هَذِه الْبَلدة الْمُبَارَكَة، ثمَّ خرج بهم إِلَى مَحل الْمَائِدَة، وَكَانَ حَدِيثهمْ على الطَّعَام استقصاء أَخْبَار مهتدي ليفربول من السعيد الإنكليزي، وَبعد أَن طعموا عرض عَلَيْهِم الشاي والقهوة وَالشرَاب المثلوج، فَكل اخْتَار مَا ألف واحب، ثمَّ انصرفوا أَزْوَاجًا وفرادى مجيبين دَعْوَة خير الدعاة، إِذْ كَانَ قد دنا وَقت الصَّلَاة.

الاجتماع الثاني

الِاجْتِمَاع الثَّانِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع عشر ذِي الْقعدَة سنة 1316 فِي صباح الْيَوْم الْمَذْكُور انْعَقَد الِاجْتِمَاع، وَبعد قِرَاءَة ضبط الجلسة الأولى افْتتح الْكَلَام الْأُسْتَاذ الرئيس فَقَالَ: أَنا نجد الباحثين فِي الْحَالة النَّازِلَة بِالْمُسْلِمين يشبهونها بِالْمرضِ فيطلقون عَلَيْهَا اسْم الدَّاء مُجَردا، أَو مَعَ وَصفه بالدفين أَو المزمن أَو العضال، وَلَعَلَّ مَأْخَذ ذَلِك مَا ورد فِي الْأَثر وألفته الإسماع من تَشْبِيه الْمُسلمين بالجسد إِذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْو تداعى لَهُ سائره بالسهر والحمى. ويلوح لي أَن إِطْلَاق الفتور الْعَام أليق بِأَن يكون عنواناً لهَذَا الْبَحْث لتَعلق الْحَالة النَّازِلَة بالأدبيات أَكثر مِنْهَا بالماديات، وَلِأَن آخر مَا فِيهَا ضعف الْحس فيناسبه التَّعْبِير عَنهُ بالفتور. كَمَا أَن هَذَا الفتور فِي الْحَقِيقَة شَامِل لكافة أَعْضَاء الْجِسْم الإسلامي، فيناسب أَن يُوصف بِالْعَام، وَرُبمَا يتَوَقَّف الْفِكر فِي الوهلة الأولى عِنْد الحكم بَان الفتور عَام يَشْمَل كَافَّة الْمُسلمين، وَلَكِن

بعد التدقيق والاستقراء نجده شَامِلًا للْجَمِيع فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا لَا يسلم مِنْهُ إِلَّا أَفْرَاد شَاذَّة. فيا أَيهَا السَّادة: مَا هُوَ سَبَب مُلَازمَة هَذَا الفتور مُنْذُ قُرُون للْمُسلمين، من أَي قوم كَانُوا وأينما وجدوا، وكيفما كَانَت شؤونهم الدِّينِيَّة أَو السياسية أَو الإفرادية أَو المعاشية؛ حَتَّى أننا لَا نكاد نجد إقليمين متجاورين أَو ناحيتين فِي إقليم أَو قريتين فِي نَاحيَة أَو بَيْتَيْنِ فِي قَرْيَة، أهل أَحدهمَا مُسلمُونَ وَالْآخر غير مُسلمين، إِلَّا ونجد الْمُسلمين أقل من جيرانهم نشاطا وانتظاما فِي جَمِيع شؤونهم الحيوية الذاتية والعمومية؛ وَكَذَلِكَ نجدهم أقل اتقاناً من نظرائهم فِي كل فن وصنعة، مَعَ أننا نرى أَكثر الْمُسلمين فِي الحواضر، وجميعهم فِي الْبَوَادِي، محافظين على تميزهم عَن غَيرهم من جيرانهم ومخالطيهم فِي أُمَّهَات المزايا الأخلاقية مثل الْأَمَانَة والشجاعة والسخاء. فَمَا هُوَ وَالْحَالة هَذِه سَبَب تعمم هَذَا الفتور، وملازمته لجامعة هَذَا الدّين كملازمة الْعلَّة للمعلول، بِحَيْثُ أَيْنَمَا وجدت الإسلامية وجد هَذَا الدَّاء، حَتَّى توهم كثير من الْحُكَمَاء أَن الْإِسْلَام والنظام لَا يَجْتَمِعَانِ؛ هَذَا هُوَ الْمُشكل الْعَظِيم الَّذِي يجب على جمعيتنا الْبَحْث فِيهِ أَولا بحث

تدقيق واستقراء، عَسى أَن نهتدي إِلَى جرثومة الدَّاء عَن يَقِين، فنسعى فِي مقاومتها، حَتَّى إِذا ارْتَفَعت الْعلَّة بَرِيء العليل أَن شَاءَ الله تَعَالَى. قَالَ الْفَاضِل الشَّامي: أَنِّي أوافق الْأُسْتَاذ الرئيس على تَعْرِيفه وتوصيفه الْحَالة النَّازِلَة بالفتور، كَمَا أَنِّي لَا أعلم مَا يُعَارض كَون هَذَا الفتور عَاما محيطاً بِجَمِيعِ الْمُسلمين. قَالَ الصاحب الْهِنْدِيّ: أَنِّي وَأَن كنت أقل الإخوان فَضِيلَة ولكنني جوال، وَقد خبرت الْبِلَاد وأحوال الْعباد، وَلَا شكّ عِنْدِي فِي أَن هَذَا الفتور عَام وَإِن كَانَ لَا يظْهر فِي بعض الْمَوَاضِع الَّتِي لَيْسَ فِيهَا غير الْمُسلمين، كأواسط جَزِيرَة الْعَرَب وَبَعض جِهَات إفريقيا، وَلَا يظْهر أَيْضا فِي بعض مواقع أُخْرَى مجاورو الْمُسلمين فِيهَا ومخالطوهم من أهل النَّحْل الوثنية الغريبة الْوَضع، المتناهية فِي الشدَّة، كبقايا الصابئة حول دجلة الَّذين يضيعون كثيرا من أوقاتهم منغمسين فِي المَاء تعبداً، وكالكونغو من الزنوج، وكالبوذية من الهنود المعتقدين أَن كل مصائبهم حَتَّى الْمَوْت الطبيعي من تأثيرات أَعمال السَّحَرَة عِنْدهم، فَإِن أَمْثَال هَؤُلَاءِ اكثر فتوراً من الْمُسلمين، على أَن ذَلِك لَا يرفع صفة الفتور وعموميته عَن الْمُسلمين.

فَقَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: أَن الصاحب الْهِنْدِيّ مُصِيب فِي تَفْصِيله وتحريره، وَلذَلِك رجعت عَن قولي بِأَن الْمُسلمين أحط من غَيرهم مُطلقًا إِلَى الحكم بِأَنَّهُم أحط من غَيرهم، مَا عدا أهل النَّحْل المتشددة فِي التدين. قَالَ الْحَافِظ الْبَصْرِيّ: يلوح لي أَنه - يلْزم اسْتثِْنَاء الدهريين والطبيعيين وأمثالهم مِمَّن لَا دين لَهُم، لأَنهم لَا بُد أَن يَكُونُوا على غير نظام وَلَا ناموس فِي أَخْلَاقهم، معذبين منغصين فِي حياتهم منحطين عَن أهل الْأَدْيَان، كَمَا يعْتَرف بذلك الطبيعيون فَيَقُولُونَ عَن أنفسهم أَنهم أَشْقَى النَّاس فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا. فَأَجَابَهُ الصاحب الْهِنْدِيّ: أَنِّي كنت أَيْضا أَظن أَنه يُوجد فِي الْبشر أَفْرَاد مِمَّن لَا دين لَهُم، وان من كَانُوا كَذَلِك لَا خلاق لَهُم؛ ثمَّ أَن خبرتي الطَّوِيلَة قد برهنت لي أَن الدّين بِمَعْنَاهُ الْعَام وَهُوَ إِدْرَاك النَّفس وجود قُوَّة غالبة تتصرف فِي الكائنات، والخضوع لهَذِهِ الْقُوَّة على وَجه يقوم فِي الْفِكر، هُوَ أَمر فطري فِي الْبشر؛ وَإِن قَوْلهم فلَان دهري أَو طبيعي هُوَ صفة لمن يتَوَهَّم أَن تِلْكَ الْقُوَّة هِيَ الدَّهْر أَو الطبيعة فيدين لما يتَوَهَّم. بِنَاء على ذَلِك ثَبت عِنْدِي مَا يقرره الأخلاقيون: من أَنه

لَا يَصح وصف صنف من النَّاس بِلَا دين لَهُم مُطلقًا بل كل إِنْسَان يدين بدين، أما صَحِيح. أَو فَاسد عَن أصل صَحِيح، وَإِمَّا بَاطِل أَو فَاسد عَن اصل بَاطِل، والفاسدان يكون فسادهما أما بِنُقْصَان أَو بِزِيَادَة أَو بتخليط وَهَذِه أَقسَام ثَمَانِيَة. فالدين الصَّحِيح كافل للنظام والنجاح فِي الْحَال، والسعادة والفلاح فِي الْمَآل. وَالْبَاطِل والفاسدان بِنُقْصَان قد يكون أَصْحَابهَا على نظام ونجاح فِي الْحَيَاة على مَرَاتِب مُخْتَلفَة؛ وَأما الفاسدان بِزِيَادَة أَو بتخليط فمهلكة مَحْضَة. ثمَّ أَقُول رُبمَا كَانَ تقريري هَذَا غَرِيبا فِي بَابه فالتمس أَن لَا يقبل وَلَا يرد إِلَّا بعد التدقيق والتطبيق، لِأَنَّهُ أصل مُهِمّ لمسألة الفتور الْعَام المستولي على الْمُسلمين. قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: إِنِّي أجلكم أَيهَا السَّادة الأفاضل عَن لُزُوم تعريفكم آدَاب الْبَحْث والمناظرة، غير أَنِّي أنبه فكركم لأمر لَا بُد هُوَ قَائِم فِي نفوسكم جَمِيعًا، أَو تحبون أَن يُصَرح بِهِ، أَلا وَهُوَ عدم الْإِصْرَار على الرَّأْي الذاتي وَعدم الِانْتِصَار لَهُ، وَاعْتِبَار أَن مَا يَقُوله ويبديه كل منا إِن هُوَ إِلَّا خاطر سنح لَهُ، فَرُبمَا كَانَ صَوَابا أَو خطأ، وَرُبمَا كَانَ مغايراً لما هُوَ نَفسه عَلَيْهِ اعتقاداً أَو عملا، وَهُوَ إِنَّمَا يُورِدهُ فِي الظَّاهِر مُعْتَمدًا عَلَيْهِ، وَفِي الْحَقِيقَة مستشكلاً أَو مستثبتاً

أَو مستطلعاً رَأْي الْغَيْر. بِنَاء على ذَلِك فَمَا أحد منا مُلْزم بِرَأْي يبديه وَلَا هُوَ بملوم عَلَيْهِ، وَله أَن يعدل أَو يرجع عَنهُ إِلَى ضِدّه؛ لأننا إِنَّمَا نَحن باحثون لَا متناظرون، فَإِذا أعجبنا رَأْي الْمُتَكَلّم منا أثْنَاء خطابه إعجابا قَوِيا فَلَا بَأْس أَن نجهر بِلَفْظ (مرحى) ، تأييداً لإصابة حِكْمَة وأشعاراً باستحسانه، وعَلى هَذَا النسق فلنمض فِي بحثنا فِيمَا هِيَ أَسبَاب الفتور الْعَام. قَالَ الْفَاضِل الشَّامي: إِنِّي أرى أَن منشأ هَذَا الفتور هُوَ بعض الْقَوَاعِد الإعتقادية والأخلاقية: مثل العقيدة الجبرية، الَّتِي من بعد كل تَعْدِيل فِيهَا جعلت الْأمة جبرية بَاطِنا قدرية ظَاهرا (مرحى) . وَمثل الْحَث على الزّهْد فِي الدُّنْيَا والقناعة باليسير والكفاف من الرزق، وإماتة المطالب النفسية: كحب الْمجد والرياسة، والتباعد عَن الزِّينَة والمفاخر، والأقدام على عظائم الْأُمُور، وكالترغيب فِي أَن يعِيش الْمُسلم كميت قبل أَن يَمُوت. وَكفى بِهَذِهِ الْأُصُول مفترات، مخدرات، مثبطات، معطلات، لَا يرتضيها عقل وَلم يَأْتِ بهَا شرع، ولمثلها نفى عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَبَا ذَر الْغِفَارِيّ الربذَة.

فَأَجَابَهُ البليغ الْقُدسِي: أَن هَذِه الْأُصُول الجبرية والتزهيدية الممتزجة بعقائد الْأمة، وَمَا هُوَ اشد مِنْهَا تعطيلا للأخذ بالأسباب ولنشأة الْحَيَاة، مَوْجُودَة فِي كَافَّة الديانَات لتعدل من جِهَة شَره الطبيعة البشرية فِي طلب الغايات وتدفعها إِلَى التَّوَسُّط فِي الْأُمُور، ولتكون من جِهَة أُخْرَى تَسْلِيَة للعاجزين وتنفيساً عَن المقهورين البائسين، وتوسلاً لحُصُول التَّسَاوِي بَين الْأَغْنِيَاء والفقراء فِي مظَاهر النَّعيم. أَلا يرى إِجْمَاع كل الْأَدْيَان على اعْتِقَاد الْقدر خَيره وشره من الله تَعَالَى، أَو خَيره مِنْهُ وشره من النَّفس أَو من الشَّيْطَان؛ وَمَعَ ذَلِك لَيْسَ فِي الْبشر من ينْسب أمرا إِلَى الْقدر إِلَّا عِنْد الْجَهْل بِسَبَبِهِ سترا لجهله، أَو عِنْد الْعَجز عَن نيل الْخَيْر أَو دفع الشَّرّ سترا لعَجزه، وَحَيْثُ غلب أخيراً على الْمُسلمين جهل أَسبَاب المسببات الكونية وَالْعجز عَن كل عمل، إلتجأوا إِلَى الْقدر والزهد تمويها لَا تدينا. وَهَذَا التبتل وَالْخُرُوج عَن المَال من اعظم القربات فِي النَّصْرَانِيَّة، فَهَل كَانَ قصد شَارِع الرهبانية أَن ينقرض النَّاس كَافَّة بعد جيل وَاحِد؟ أم كَانَ قَصده أَن يشرعها على أَن لَا يتلبس بهَا إِلَّا الْبَعْض النزر؟ كلا، لَا يعقل فِي هَذَا الْمقَام إِلَّا التَّعْمِيم، وينتج من ذَلِك أَنه

لَا يَصح اعْتِبَار هَذِه الْأُصُول الجبرية والتزهيدية سَببا للفتور؛ بل هِيَ سَبَب لاعتدال النشاط وسيرة سير انتظام ورسوخ. وَفِي النّظر إِلَى المشاق والعظائم الَّتِي اقتحمها الصَّحَابَة وَالْخُلَفَاء الراشدون رَضِي الله عَنْهُم لنيل الْغنى والرياسة والفخار فضلا عَن الثَّوَاب كِفَايَة برهَان، مَعَ أَن الْأمة إِذْ ذَاك كَانَت زاهدة فعلا، لَا كالزهد الَّذِي ندعيه الْآن كذبا ورياء. (مرحى) . إِذا تتبعنا كل مَا ورد فِي الإسلامية حاثاً على الزّهْد، نجده موجها إِلَى التَّرْغِيب بالأثرة الْعَامَّة، أَي بتحويل الْمُسلم ثَمَرَة سَعْيه للمنفعة العمومية دون خُصُوص نَفسه، حَتَّى أَن كل مَا ورد فِي الْحَث على الْجِهَاد فِي سَبِيل الله مُرَاد وَبِه سعي الْمُؤمن بِكُل الْوَسَائِل، حَتَّى ببذل حَيَاته، لإعزاز كلمة الله وَإِقَامَة دينه، لَا فِي خُصُوصِيَّة محاربة الْكفَّار كَمَا تتوهم الْعَامَّة؛ كَمَا أَن المُرَاد من محاربة الْكفَّار هِيَ من جِهَة إعزاز الجامعة الإسلامية، وَمن أُخْرَى خدمَة الجامعة الإنسانية من حَيْثُ إلجاء الْكفَّار إِلَى مُشَاركَة الْمُسلمين فِي سَعَادَة الدَّاريْنِ؛ لِأَن للأمم المترقية علما ولَايَة طبيعية على الْأُمَم المنحطة، فَيجب عَلَيْهَا إنسانية أَن تهديها إِلَى الْخَيْر وَلَو كرها باسم الدّين أَو السياسة.

ثمَّ قَالَ: أما عِنْدِي فيخيل إِلَيّ أَن سَبَب الفتور هُوَ تحول نوع السياسة الإسلامية، حَيْثُ كَانَت نيابية اشتراكية أَي (ديمقراطية) تَمامًا، فَصَارَت بعد الرَّاشِدين بِسَبَب تمادي المحاربات الداخلية ملكية مُقَيّدَة بقواعد الشَّرْع الأساسية، ثمَّ صَارَت أشبه بالمطلقة. وَقد نَشأ هَذَا التَّحَوُّل من أَن قَوَاعِد الشَّرْع كَانَت فِي الأول غير مدونة وَلَا محررة، بِسَبَب اشْتِغَال الصَّحَابَة المؤسسين رَضِي الله عَنْهُم بالفتوحات، وتفرقهم فِي الْبِلَاد، فَظهر فِي أَمر ضَبطهَا خلافات ومباينات بَين الْعلمَاء، وتحكمت فِيهَا آراء الدخلاء، فرجحوا الْأَخْذ بِمَا يلائم بقايا نزعاتهم الوثنية فَاتخذ الْعمَّال السياسيون وَلَا سِيمَا المتطرفون مِنْهُم هَذَا التخالف فِي الْأَحْكَام وَسَائِل للانقسام والاستقلال السياسي، فَنَشَأَ عَن ذَلِك أَن تَفَرَّقت المملكة الإسلامية إِلَى طوائف متباينة مذهبا متعادية سياسة، متكافحة على الدَّوَام. وَهَكَذَا خرج الدّين من حضَانَة أَهله وَتَفَرَّقَتْ كلمة الْأمة، فطمع بهَا أعداؤها وَصَارَت معرضة للمحاربات الداخلية والخارجية مَعًا، لَا تصادف سوى فترات قَليلَة تترقى فِيهَا فِي الْعُلُوم والحضارة على

حسبها، وَقد أثر اسْتِمْرَار الْأمة فِي هَذِه الحروب أَن صَارَت بِاعْتِبَار الأكثرية أمة جندية صَنْعَة وأخلاقا، بعيدَة عَن الْفُنُون والصنائع وَالْكَسْب بالوجوه الطبيعية. ثمَّ بِسَبَب فقدان القواد والمعدات لم يبْق مجَال للحروب الرابحة، فاقتصرت الْأمة على المدافعات، خُصُوصا مُنْذُ قرنين إِلَى الْآن، أَي مُنْذُ صَارَت الجندية عِنْد غَيرهم صَنْعَة علمية مفقودة عندنَا، فصرنا نستعمل بأسنا بَيْننَا فنعيش بالتغالب والتحايل لَا بالتعاون والتبادل؛ وَهَذَا شَأْن يُمِيت الانتباه والنشاط ويولد الخمول والفتور (مرحى) . ابتدر الحكم التّونسِيّ وَإجَابَة: أَن غَيرنَا من الأقوام، جرمانياً مثلا، وجدوا فِي حكومات مُطلقَة كليا وَفِي اختلافات مذهبية وَفِي انقسامات إِلَى طوائف سياسية وَفِي حروب مستمرة، وَلم يشملهم الفتور بِوَجْه عَام؛ فَلَا بُد للفتور فِي الْمُسلمين من سَبَب آخر. ثمَّ قَالَ: وَفِيمَا أتصور أَن بلاءنا من تأصل الْجَهْل فِي غَالب أمرائنا المترفين، الأخسرين أعمالاً، الَّذين ضلوا وأضلونا سَوَاء السَّبِيل وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا، حَتَّى بلغ جهل هَؤُلَاءِ منزلَة أحط من جهل العجماوات الَّتِي لَهَا طبائع ونواميس؛ فَمِنْهَا الَّتِي تَحْمِي وزمارها، وتمنع عَن حُدُودهَا، وتدفع عَمَّا إستحفظت عَلَيْهِ؛ وَهَؤُلَاء لَيْسَ لَهُم

طبائع ونواميس، يخربون بُيُوتهم بِأَيْدِيهِم وهم لَا يَشْعُرُونَ. وَمِنْهُم الْبَعْض ضالون على علم، وهم الَّذين يَشكونَ ويبكون حَتَّى يظنّ انهم مغلوبون على أَمرهم، ويتشدقون بالإصلاح السياسي مَعَ انهم وأيم الْحق يَقُولُونَ بأفواههم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم؛ يظهرون الرَّغْبَة فِي الْإِصْلَاح، ويبطنون الْإِصْرَار والعناد على مَا هم عَلَيْهِ من إِفْسَاد دينهم ودنياهم، وَهدم مباني مجدهم وإذلال أنفسهم وَالْمُسْلِمين، وَهَذَا دَاء عياء لَا يُرْجَى مِنْهُ الشِّفَاء لِأَنَّهُ دَاء الْغرُور، وَلَا يقر صَاحبه لفاضل بفضيلة وَلَا يجاري حازما فِي مضمار، وَقد سرى من الْأُمَرَاء، إِلَى الْعلمَاء، إِلَى الكافة. أجَاب الْمولى الرُّومِي: أَن تحميل التبعة على الْأُمَرَاء فَقَط غير سديد، خُصُوصا لِأَن أمراءنا إِن هم إِلَّا لفيف منا، فهم أمثالنا من كل وَجه؛ وَقد قيل " كَمَا تَكُونُوا يُولى عَلَيْكُم " فَلَو لم نَكُنْ نَحن مرضى لم يكن أمراؤنا مدنفين. وَعِنْدِي أَن البلية فَقدنَا الْحُرِّيَّة، وَمَا أدرانا مَا الْحُرِّيَّة؛ هِيَ مَا حرمنا مَعْنَاهُ حَتَّى نسيناه، وَحرم علينا لَفظه حَتَّى

استوحشناه، وَقد عرف الْحُرِّيَّة من عرفهَا: " بَان يكون الْإِنْسَان مُخْتَارًا فِي قَوْله وَفعله لَا يَعْتَرِضهُ مَانع ظَالِم ". وَمن فروع الْحُرِّيَّة تَسَاوِي الْحُقُوق ومحاسبة الْحُكَّام بِاعْتِبَار انهم وكلاء، وَعدم الرهبة فِي الْمُطَالبَة وبذل النَّصِيحَة. وَمِنْهَا: حريَّة التَّعْلِيم، وحرية الخطابة والمطبوعات، وحرية المباحثات العلمية؛ وَمِنْهَا الْعَدَالَة بأسرها حَتَّى لَا يخْشَى إِنْسَان من ظَالِم أَو غَاصِب أَو غدار مغتال؛ وَمِنْهَا الْأَمْن على الدّين والأرواح، والأمن على الشّرف والأعراض، والأمن على الْعلم واستثماره. فالحرية هِيَ روح الدّين وينسب إِلَى حسان بن ثَابت الشَّاعِر الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ قَوْله: (وَمَا الدّين إِلَّا أَن تُقَام شرائع ... وتؤمن سبل بَيْننَا وهضاب) فلننظر كَيفَ حصر هَذَا الصَّحَابِيّ الدّين فِي إِقَامَة الشَّرْع والأمن. هَذَا وَلَا شكّ أَن الْحُرِّيَّة اعز شَيْء على الْإِنْسَان بعد حَيَاته،

وَأَن بفقدانها تفقد الآمال، وَتبطل الْأَعْمَال، وَتَمُوت النُّفُوس، وتتعطل الشَّرَائِع، وتختل القوانين. وَقد كَانَ فِينَا راعي الخرفان حرا لَا يعرف للْملك شنئانا، يُخَاطب أَمِير الْمُؤمنِينَ بيا عمر وَيَا عُثْمَان، فصرنا رُبمَا نقْتل الطِّفْل فِي حجر أمه ونلزمها السُّكُوت فتسكت، وَلَا تجسر أَن تزعج سمعنَا ببكائها عَلَيْهِ. وَكَانَ الجندي الْفَرد يُؤمن جَيش الْعَدو فَلَا يخفر لَهُ عهد، فصرنا نمْنَع الْجَيْش الْعَظِيم صَلَاة الْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ، ونستهين دينه لَا لحَاجَة غير الفخفخة الْبَاطِلَة (مرحى) . فلمثل هَذَا الْحَال لَا غرو أَن تسأم الْأمة حَيَاتهَا فيستولي عَلَيْهَا الفتور، وَقد كرت الْقُرُون وتوالت الْبُطُون وَنحن على ذَلِك عاكفون، فتأصل فِينَا فقد الآمال وَترك الْأَعْمَال والبعد عَن الْجد والارتياح إِلَى الكسل والهزل، والانغماس فِي اللَّهْو تسكيناً لآلام أسر النَّفس، والإخلاد إِلَى الخمول والتسفل طلبا لراحة الْفِكر المضغوط عَلَيْهِ من كل جَانب. إِلَى أَن صرنا ننفر من كل الماديات والجدّيات حَتَّى لَا نطيق مطالعة الْكتب النافعة وَلَا الإصغاء إِلَى النَّصِيحَة الْوَاضِحَة، لِأَن ذَلِك يذكرنَا بمفقودنا الْعَزِيز، فتتألم أَرْوَاحنَا وتكاد تزهق إِذا لم نلجأ إِلَى التناسي بالملهيات والخرافات المروحات

وَهَكَذَا ضعف إحساسنا وَمَاتَتْ غيرتنا، وصرنا نغضب ونحقد على من يذكرنَا بالواجبات الَّتِي تقتضيها الْحَيَاة الطّيبَة، لعجزنا عَن الْقيام بهَا عَجزا واقعياً لَا طبيعياً. هَذَا ونعترف أَن فِينَا بعض أَقوام قد ألفوا أُلُوف سِنِين الاستعباد والاستبداد، والذل والهوان، فَصَارَ الانحطاط طبعا لَهُم تؤلمهم مُفَارقَته؛ وَهَذَا هُوَ سَبَب أَن السوَاد الْأَعْظَم من الهنود والمصريين والتونسيين لَا سِيمَا بعد أَن نالوا رغم أنوفهم الْأَمْن على الْأَنْفس وَالْأَمْوَال، وَالْحريَّة فِي الآراء والأعمال، وَلَا يَرِثُونَ وَلَا يتوجعون لحالة الْمُسلمين فِي غير بِلَادهمْ، بل ينظرُونَ للناقمين على أمرائهم الْمُسلمين شذرا، وَرُبمَا يعتبرون طالبي الْإِصْلَاح من المارقين من الدّين، كَأَن مُجَرّد كَون الْأَمِير مُسلما يُغني عَن كل شَيْء حَتَّى عَن الْعدْل، وَكَأن طَاعَته وَاجِبَة على الْمُسلمين، وَإِن كَانَ يخرب بِلَادهمْ وَيقتل أَوْلَادهم ويقودهم ليسلمهم لحكومات أَجْنَبِيَّة، كَمَا جرى ذَلِك قبلا مَعَهم، وَالْحَاصِل أَن فَقدنَا الْحُرِّيَّة هُوَ سَبَب الفتور والتقاعس عَن كل صَعب وميسور. أجَاب الْمُجْتَهد التبريزي: أَن هَذَا الْحَال لَيْسَ بعام، مَعَ أَن الفتور لم يزدْ إزدياداً عَاما، بل هُوَ فِي ازدياد واستحكام فَلَا بُد لذَلِك من

سَبَب آخر. ثمَّ قَالَ: ويلوح لي أَن انحطاطنا من أَنْفُسنَا، إِذْ أننا كُنَّا خير أمة أخرجت للنَّاس نعْبد الله وَحده، أَي نخضع ونتذلل لَهُ فَقَط، ونطيع من أطاعه مَا دَامَ مُطيعًا لَهُ، نأمر بِالْمَعْرُوفِ وننهى عَن الْمُنكر، امرنا شُورَى بَيْننَا، نتعاون على الْبر وَالتَّقوى وَلَا نتعاون على الْإِثْم والعدوان، فتركنا ذَلِك كُله مَا صَعب مِنْهُ وَمَا هان. وَقد يظنّ أَن أصعب هَذِه الْأُمُور النَّهْي عَن الْمُنكر، مَعَ أَن إِزَالَة الْمُنكر فِي شرعنا تكون بِالْفِعْلِ، فَإِن لم يكن فبالقول، فَإِن لم يكن فبالقلب، وَهَذِه الدرجَة الثَّالِثَة هِيَ الْأَعْرَاض عَن الخائن وَالْفَاسِق والنفور مِنْهُ وإيطال بغضه فِي الله؛ وَمن علائم ذَلِك تجنب مجاملته ومعاملته، وَلَا شكّ أَن ايفاء هَذَا الْوَاجِب الديني كَاف للردع، وَلَا يتَصَوَّر الْعَجز عَنهُ قطّ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض} ؛ فَهَذَا هُوَ سَبَب استرسال الْأمة لعبادة الْأُمَرَاء والأهواء والأوهام، وَلَا طَاعَة العصاة اخْتِيَارا، ولترك التناصح، وللركون إِلَى الفسّاق والأذعان للاستبداد وللتخاذل فِي الْخَيْر وَالشَّر، قَالَ: {ولتكن مِنْكُم أمة يدعونَ إِلَى الْخَيْر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر وَأُولَئِكَ هم المفلحون} وَعنهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]

: (لتأمرون بِالْمَعْرُوفِ ولتنهون عَن الْمُنكر أَو ليستعملن الله عَلَيْكُم شِرَاركُمْ فيسومونكم سوء الْعَذَاب) . إِلَى غير ذَلِك من الْآيَات الْبَينَات وَالْأَحَادِيث المنذرات القاضيات بالخذلان على تاركي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، فَهَذَا هُوَ السَّبَب الناشيء عَنهُ الفتور. أَجَابَهُ المرشد الفاسي: أننا كُنَّا على عهد السّلف الصَّالح شريعتنا سمحاء وَاضِحَة المسالك، مَعْرُوفَة الْوَاجِبَات والمناهي، فَكَانَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَظِيفَة لكل مُسلم ومسلمة، وَكُنَّا فِي بساطة من الْعَيْش، متفرغين لذَلِك، ثمَّ شغلنا شَأْن التَّوَسُّع فخصصنا لذَلِك محتسبين، ثمَّ دخل فِي ديننَا أَقوام ذَوُو بَأْس ونفاق أَقَامُوا الِاكْتِسَاب مَكَان الاحتساب، وحصروا اهتمامهم فِي الجباية وآلتها الَّتِي هِيَ الجندية فَقَط، فَبَطل الاحتساب وَبَطل الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر طبعا، فَهَذَا يصلح أَن يكون سَببا من جملَة الْأَسْبَاب، وَلكنه لَا يَكْفِي وَحده لَا يراث مَا نَحن فِيهِ من الفتور. على أَن انحصار همة الْأُمَرَاء الدخلاء فِي الجباية والجندية أدّى بهم لإهمال الدّين كلياً، وَلَوْلَا أَن فِي الْقُرْآن آيَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ لهجروه ظهرياً، إِحْدَاهمَا قَوْله تَعَالَى: (وَأَطيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي

الْأَمر مِنْكُم} مَعَ الْغَفْلَة عَن المُرَاد بأولي الْأَمر، وَمَا تَقْتَضِيه صِيغَة الْجمع، وَمَا يَقْتَضِيهِ قيد (مِنْكُم) ، وَالثَّانيَِة قَوْله تَعَالَى: {وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله} مَعَ إغفال: هَل الْجِهَاد الْمَأْمُور بِهِ مَا يستحصل بِهِ إعزاز كلمة الله، أم مَا نؤيد بِهِ سلطة الْأُمَرَاء العاملين على الْإِطْلَاق؛ فإهمال الاهتمام بِالدّينِ قد جر الْمُسلمين إِلَى مَا هم عَلَيْهِ حَتَّى خلت قُلُوبهم من الدّين بِالْكُلِّيَّةِ، وَلم يبْق لَهُ عِنْدهم أثر إِلَّا على رُؤُوس الألسن، لَا سِيمَا عِنْد بعض الْأُمَرَاء الْأَعَاجِم، الَّذين ظواهر أَحْوَالهم وبواطنها تحكم عَلَيْهِم بِأَنَّهُم لَا يتراؤون بِالدّينِ إِلَّا بِقصد تَمْكِين سلطتهم على البسطاء من الْأمة، كَمَا أَن ظواهر عقائدهم وبواطنها تحكم عَلَيْهِم بِأَنَّهُم مشركون وَلَو شركا خفِيا من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. فَإِذا أضيف إِلَى شركهم هَذَا مَا هم عَلَيْهِ من الظُّلم والجور، يحكم عَلَيْهِم الشَّرْع وَالْعقل بَان مُلُوك الْأَجَانِب أفضل مِنْهُم وَأولى بِحكم الْمُسلمين، لأَنهم أقرب للعدل ولإقامة الْمصَالح الْعَامَّة، وأقدر على إعمار الْبِلَاد وترقية الْعباد، وَهَذِه هِيَ حِكْمَة الله فِي نزع الْملك من أَكْثَرهم، كَمَا يَقْتَضِيهِ مَفْهُوم: لَا يهْلك الله الْقرى وَأَهْلهَا مصلحون. وَقد افتخر النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بِأَنَّهُ ولد فِي زمن كسْرَى

أنوشروان عَابِد الْكَوَاكِب فَقَالَ: (ولدت فِي زمن الْملك الْعَادِل) . وَحكى ابْن طَبَاطَبَا فِي الْآدَاب السُّلْطَانِيَّة والدول الإسلامية أَنه لما فتح السُّلْطَان هلاكو (وَهُوَ مَجُوسِيّ) بَغْدَاد سنة 656، أَمر أَن يستفتي علماؤها أَيهمَا أفضل السُّلْطَان الْكَافِر الْعَادِل أم السُّلْطَان الْمُسلم الجائر، فَاجْتمع الْعلمَاء فِي المستنصرية لذَلِك، فَلَمَّا وقفُوا على الْفتيا احجموا عَن الْجَواب، حَيْثُ كَانَ رَضِي الدّين عَليّ بن طَاوُوس حَاضرا، وَكَانَ مقدما مُحْتَرما، فَتَنَاول الْفتيا وَوضع خطه فِيهَا بتفضيل الْعَادِل الْكَافِر على الْمُسلم الجائر، فَوضع الْعلمَاء خطوطهم بعده. ثمَّ قَالَ: إِنِّي أَظن أَن السَّبَب الْأَعْظَم لمحنتنا هُوَ انحلال الرابطة الدِّينِيَّة، لِأَن مبْنى ديننَا على أَن الْوَلَاء فِيهِ لعامة الْمُسلمين؛ فَلَا يخْتَص بِحِفْظ الرابطة والسيطرة على الشئون العمومية رُؤَسَاء دين سوى الإِمَام أَن وجد؛ وَإِلَّا فَالْأَمْر يبْقى فوضى بَين الْجَمِيع، وَإِذا صَار الْأَمر فوضى بَين الْكل فبالطبع تختل الجامعة الدِّينِيَّة وتنحل الرابطة السياسية كَمَا هُوَ الْوَاقِع. وَمن أَيْن لنا حَكِيم (كبسمرك) أَو مُلْزم (كغاريبالدى)

يوفق بَين أمرائنا أَو يلْزمهُم وَيجمع كلمتنا. وَقد زَاد على ذَلِك فَقدنَا الرابطة الجنسية أَيْضا فَإِن الْمُسلمين فِي غير جَزِيرَة الْعَرَب لفيف إخلاط دخلاء، وبقايا أَقوام شَتَّى لَا تجمعهم جَامِعَة غير التَّوَجُّه إِلَى هَذِه الْكَعْبَة المعظمة. وَمن الْمُقَرّر الْمَعْرُوف انه لَوْلَا رُؤَسَاء الدّين فِي سَائِر الْملَل وروابطهم المنتظمة المطردة، أَو من يقوم مقَام الرؤساء من الدعاة أَو مديري أَو معلمي الْمدَارِس الجامعة المتحدة المبادئ، لضاعت الْأَدْيَان وتشعبت أَخْلَاق الْأُمَم، ونالهم مَا نالنا من أَن كل فَرد منا أصبح أمة فِي ذَاته. أَجَابَهُ الْمُحَقق الْمدنِي: أَن فقد الرابطة الدِّينِيَّة والوحدة الخلقية لَا يكفيان أَن يَكُونَا سَببا للفتور الْعَام، بل لَا بُد لذَلِك من سَبَب أَعم وأهم. ثمَّ قَالَ: أما أَنا، فَالَّذِي يجول فِي فكري، أَن الطامة من تشويش الدّين وَالدُّنْيَا على الْعَامَّة بِسَبَب الْعلمَاء المدلسين وغلاة المتصوفين الَّذين استولوا على الدّين فضيعوه، وضيعوا أَهله، وَذَلِكَ أَن الدّين إِنَّمَا يعرف بِالْعلمِ، وَالْعلم يعرف بالعلماء العاملين، وأعمال الْعلمَاء قيامهم فِي الْأمة مقَام الْأَنْبِيَاء فِي الْهِدَايَة إِلَى خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَلَا شكّ

أَن لمثل هَذَا الْمقَام فِي الْأمة شرفا باذخا يتعاظم عل نِسْبَة الهمم فِي تحمل عنائه وَالْقِيَام بأعبائه. فبعض ضعيفي الْعلم وفاقدي الْعَزْم تطلعوا إِلَى هَذِه الْمنزلَة الَّتِي هِيَ فَوق طاقتهم، وحسدوا أَهلهَا المتعالين عَنْهُم، فتحيلوا للمزاحمة والظهور مظهر الْعلمَاء العظماء بالأغراب فِي الدّين وسلوك مَسْلَك الزاهدين؛ وَمن الْعَادة أَن يلجأ ضَعِيف الْعلم إِلَى التصوف، كَمَا يلجأ فَاقِد الْمجد إِلَى الْكبر، وكما يلجأ قَلِيل المَال إِلَى زِينَة اللبَاس والأثاث (مرحى) . فَصَارَ هَؤُلَاءِ المتعالين يدلسون على الْمُسلمين بِتَأْوِيل الْقُرْآن بِمَا لَا يحْتَملهُ مُحكم النّظم الْكَرِيم، فيفسرون مثلا الْبَسْمَلَة أَو الْبَاء مِنْهَا بسفر كَبِير، تَفْسِيرا مملوءاً بِلَفْظ لَا معنى لَهُ، أَو بِحكم لَا برهَان عَلَيْهِ. ثمَّ جَاءُوا الْأمة بوراثة أسرار أدعوها، وعلوم لدنيات ابتدعوها، وتسنم مقامات اخترعوها، وَوضع أَحْكَام لفقوها وترتيب قربات زخرفوها، وبالإمعان نجدهم قد جَاءُوا مصداقا لما ورد فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (لتتبعن سنَن من كَانَ قبلكُمْ شبْرًا بشبر وذراعا بِذِرَاع) ، وَفِي رِوَايَة (حَذْو القذة بالقذة، حَتَّى لَو دخلُوا جُحر ضَب تبعتموهم) ، (قُلْنَا يَا رَسُول الله الْيَهُود وَالنَّصَارَى، قَالَ هُوَ: فَمن) ؛ وَذَلِكَ أَن هَؤُلَاءِ المدلسين اقتبسوا مَا هُنَالك كُله أَو جله عَن أَصْحَاب التلمود

وتفاسيرهم، وَمن المجامع المسكونية ومقرراتها، وَمن البابوية ووراثة السِّرّ وَمن مضاهاة مقامات البطاركة والكردينالية وَالشُّهَدَاء واسقفية كل بلد، وَمظَاهر القديسين وعجائبهم، والدعاة المبشرين وصبرهم، والرهبنات ورؤسائها، وَحَالَة الأديرة وبادريتها، والرهبنة أَي التظاهر بالفقر ورسومها، وَالْحمية وتوقيتها، وَرِجَال الكهنوت ومراتبهم وتميزهم فِي ألبستهم وشعورهم، وَمن مراسم الْكَنَائِس وَزينتهَا، وَالْبيع واحتفالاتها، والترنحات ووزنها، والترنمات وأصولها، وَإِقَامَة الْكَنَائِس على الْقُبُور وَشد الرّحال لزيارتها والإسراج عَلَيْهَا، والخضوع لَدَيْهَا وَتَعْلِيق الآمال بسكانها. وَأخذُوا التَّبَرُّك بالآثار كالقدح وَالْحريَّة والدستار من احترام الذَّخِيرَة وقدسية العكاز. وَكَذَلِكَ إمرار الْيَد على الصَّدْر عِنْد ذكر بعض الصَّالِحين من امرارها على الصَّدْر لإشارة التصلب؛ وانتزعوا الْحَقِيقَة من السِّرّ، ووحدة الْوُجُود من الْحُلُول، والخلافة من الرَّسْم، والسقيا من تنَاول القربان، والمولد من الميلاد وحفلته من الأعياد؛ وَرفع الْأَعْلَام من حمل الصلبان، وَتَعْلِيق أَلْوَاح الْأَسْمَاء المصدرة بالنداء على الجدران من تَعْلِيق الصُّور والتماثيل؛ والاستفاضة والمراقبة من التَّوَجُّه بالقلوب انحناء أَمَام الْأَصْنَام، وَمنع الاستهداء من نُصُوص الْكتاب وَالسّنة

من حظر الكهنة الكاثوليك قِرَاءَة الْإِنْجِيل على غَيرهم، وسد الْيَهُود بَاب الْأَخْذ من التَّوْرَاة وتمسكهم بالتلمود إِلَى غير ذَلِك مِمَّا جَاءَ بِهِ المدلسون تقليداً لهَؤُلَاء شبْرًا شبْرًا، واقتفاء لأثرهم حجرا حجرا، وَهَكَذَا إِذا تتبعنا الْبدع الطارئة نجد أَكْثَرهَا مقتبسا وقليلها مخترعا. وَقد فعل المدلسون ذَلِك سحرًا لعقول الجهلاء، واختلابا لقلوب الضُّعَفَاء: كالنساء وَذَوي الْأَهْوَاء والأمراض القلبية أَو العصبية من الْعَامَّة، والأمراء الليني القياد طبعا إِلَى الشّرك، لِأَن التَّعَبُّد رَغْبَة أَو رهبة لما بَين أَيْديهم وَتَحْت أنظارهم أقرب إِلَى مداركهم من عبَادَة آله لَيْسَ بجوهر وَلَا عرض وَلَيْسَ كمثله شَيْء، وَلِأَن التَّعَبُّد باللهو واللعب أَهْون على النَّفس والطبع من الْقيام بتكليفات الشَّرْع، كَمَا وصف الله تَعَالَى عبَادَة مُشْركي الْعَرَب فَقَالَ: (وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية) أَي صفيرا وتصفيقاً، وَهَؤُلَاء جعلُوا عبَادَة الله تصفيقاً وشهيقاً وخلاعة ونعيقاً (مرحى) . وَالْحَاصِل، أَن بذلك وَأَمْثَاله نجح المدلسون فِيمَا يقصدون، وَلَا سِيمَا بِدَعْوَى فِئَة مِنْهُم الْكَرَامَة على الله وَالتَّصَرُّف بالمقادير، وباستمالتهم الْعَامَّة بالزهد الْكَاذِب والورع الْبَاطِل والتقشف الشيطاني؛ وبتزينهم

لَهُم رسوما تميل إِلَيْهَا النُّفُوس الضعيفة الخاملة، سَموهَا آدَاب السلوك، مَا انْزِلْ الله بهَا من سُلْطَان وَلَا عمل بهَا صَحَابِيّ أَو تَابِعِيّ، ظَاهرهَا أدب وباطنها تشريع وشرك؛ وبجذبهم البلة الْجَاهِلين بتصعيب الدّين من طَرِيق الْعلم وَالْعَمَل بِظَاهِر الشَّرْع، وتهوينه كل التهوين من طَرِيق الِاعْتِقَاد بهم وبأصحاب الفتور. وَقد تجاسروا على وضع أَحَادِيث مكذوبة أشاعوها فِي مؤلفاتهم، حَتَّى الْتبس أمرهَا على كثير من الْعلمَاء المخلصين من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين، مَعَ أَنَّهَا لَا أصل لَهَا فِي كتب الحَدِيث الْمُعْتَبرَة. وجلبوا النَّاس بالترهيب وَالتَّرْغِيب، ترغيباً بالاستفادة من الدُّخُول فِي الرابطات والعصبيات المنعقدة بَين أشياعهم، وترهيباً بتهديدهم معاكسيهم أَو مسيئي الظَّن بهم أَو بإضرارهم فِي أنفسهم وَأَوْلَادهمْ وَأَمْوَالهمْ، ضَرَرا يتعجلهم فِي دنياهم قبل آخرتهم (مرحى) . وَقد قَامَ لهَؤُلَاء المدلسين أسواق فِي بَغْدَاد ومصر وَالشَّام وتلمسان قَدِيما، وَلَكِن لاكسوقها فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة مُنْذُ أَرْبَعَة قُرُون إِلَى الْآن، حَتَّى صَارَت فِيهَا هَذِه الأوهام السحرية والخزعبلات كَأَنَّهَا هِيَ دين مُعظم أَهلهَا، لَا الْإِسْلَام؛ وَكَأَنَّهُم لما ورثوا عَن الرّوم الْملك، حرصوا على أَن يرثوا طبائعهم أَيْضا حَتَّى التَّوَسُّع فِي هَذِه

المصارع السَّيئَة؛ فاقتبس لَهُم المدلسون كثيراًُ مِمَّا بَيناهُ، وطبقوه على الدّين وَإِن كَانَ الدّين يأباه، وزينه لَهُم الشَّيْطَان بِأَنَّهُ من دقائق الدّين وآدابه، وَمن هَذِه العواصم سرى ذَلِك إِلَى الْآفَاق بالعدوى من الْأُمَرَاء إِلَى الْعلمَاء الأغبياء إِلَى الْعَوام. فَهَؤُلَاءِ المدلسون قد نالوا بسحرهم نفوذاً عَظِيما، بِهِ أفسدوا كثيرا فِي الدّين، وَبِه جعلُوا كثيرا من الْمدَارِس تكايا للبطالين الَّذين يشْهدُونَ لَهُم زوراً بالكرامات المرهبة، وَبِه حولوا كثيرا من الْجَوَامِع مجامع للطبالين، الَّذين ترتج من دوِي طبولهم قُلُوب المتوهمين وتكفهر أعصابهم، فيتلبسهم نوع من الخبل يَظُنُّونَهُ حَالَة من الْخُشُوع؛ وَبِه جعلُوا زَكَاة الْأمة ووصاياها رزقا لَهُم، وَبِه جعلُوا مداخيل أوقاف الْمُلُوك والأمراء عطايا لاتباعهم، مِمَّا يُسمى فِي الْبِلَاد العثمانية (دعاكو وطعامية) (مرحى) .

وَبِذَلِك ضَاقَ على الْعلمَاء الخناق، لَا رزق وَلَا حُرْمَة، وَكفى بذلك مضيعا للْعلم وللدين؛ لِأَنَّهُ قد الْتبس على الْعَامَّة عُلَمَاء الدّين الْفُقَرَاء الأذلاء من هَؤُلَاءِ المدلسين الْأَغْنِيَاء الأعزاء، فتشوشت عقائدهم وَضعف يقينهم. فضيع الاكثرون حُدُود الله وتجاوزوها، وَفقدُوا قُوَّة قوانين الله ففسدت أَيْضا دنياهم واعتراهم هَذَا الفتور. أجَاب الْمولى الرُّومِي: أَن كل الديانَات معرضة بالتمادي لأنواع من التشويش وَالْفساد، وَلَكِن لَا تفقد من أَهلهَا حكماء ذَوي نشاط وعزم، ينبهون النَّاس ويرفعون الالتباس، أَو يعوضون قَوَاعِد الدّين إِذا كَانَ أَصْلهَا واهيا فوهنت بقوانين مَوْضُوعَة تقوم بنظام دنياهم؛ ويتحملون فِي سَبِيل ذَلِك مَا يتحملون من المشاق خدمَة لأفكارهم السامية، ويفدون مَا عز وَهَان حفظا لشرفهم، الْقَائِم بشرف قَومهمْ، بل حفظا لحياتهم وحياة قَومهمْ من أَن يصبحوا أَمْوَاتًا متحركين فِي أَيدي أَقوام آخَرين. وَلَقَد أثبت الْحُكَمَاء المدققون بعد الْبَحْث الطَّوِيل العميق، أَن المنشأ الْأَصْلِيّ لكل شقاء فِي بني حَوَّاء هُوَ أَمر وَاحِد لَا ثَانِي لَهُ: إِلَّا

وَهُوَ وجود السلطة القانونية منحلة وَلَو قَلِيلا لفسادها، أَو لغَلَبَة سلطة شخصية أَو اشخاصية عَلَيْهَا. فَمَا بَال الزَّمَان يضن علينا بِرِجَال ينبهون النَّاس ويرفعون الالتباس؟ يفتكرون بحزم ويعملون بعزم، وَلَا ينفكون حَتَّى ينالوا مَا يقصدون، فينالون حمداً كثيرا وفخراً كَبِيرا وَأَجرا عَظِيما. وَعِنْدِي أَن داءنا الدفين: دُخُول ديننَا تَحت ولَايَة الْعلمَاء الرسميين، وَبِعِبَارَة أُخْرَى تَحت ولَايَة الْجُهَّال المتعممين. نبه السَّيِّد الفراتي الْأُسْتَاذ الرئيس إِلَى قرب وَقت الِانْصِرَاف، وعندئذ جهر الْأُسْتَاذ الرئيس بشعار (لَا نعْبد إِلَّا الله) استلفاتًا للإخوان، وَقَالَ لَهُم: أَن أخانا الْمولى الرُّومِي لفارس مغوار نحب مِنْهُ مَا عودنا من التَّفْصِيل والإشباع، والآن قد آن وَقت الظّهْر وحان أَن نتفرق لندرك الصَّلَاة، وموعدنا غَدا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

الاجتماع الثالث

الِاجْتِمَاع الثَّالِث يَوْم الْخَمِيس ثامن عشر ذِي الْقعدَة سنة 1316 فِي الْوَقْت الْمعِين، وَهُوَ بعد طُلُوع الشَّمْس بساعة، تمّ توارد الإخوان لمحفل الجمعية؛ غير أَن الْأُسْتَاذ الرئيس تَأَخّر نَحْو نصف سَاعَة ثمَّ حضر وَاعْتذر بِأَنَّهُ إعاقه عَن الْحُضُور أَن حَضْرَة الشريف الْأَمِير قد طلبه لزيارته، فَمَا وَسعه إِلَّا الْإِجَابَة باكراً، وَمَا يظنّ أَن يسترسل بَينهمَا الحَدِيث فَيتَأَخَّر عَن الميعاد، وَلَكِن صَادف أَن الحَدِيث كَانَ طَويلا. ثمَّ قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: أننا متشوقون لتَمام بحث الْمولى الرُّومِي، وَأمر السَّيِّد الفراتي، كَاتب الجمعية، فَقَرَأَ ضبط مذاكرات الِاجْتِمَاع السَّابِق، حَتَّى بلغ آخِره من عبارَة الْمولى الرُّومِي، وَهُوَ قَوْله: وَعِنْدِي أَن داءنا الدفين دُخُول ديننَا تَحت ولَايَة الْعلمَاء الرسميين، وَبِعِبَارَة أُخْرَى تَحت ولَايَة الجهلة.

المتعممين. فَحِينَئِذٍ أَفَاضَ الْمولى الرُّومِي فِي الْكَلَام فَقَالَ: وهم المقربون من الْأُمَرَاء على انهم عُلَمَاء وارتباط الْقَضَاء والإمضاء بهم، فَإِن هَؤُلَاءِ المتعممين فِي الْبِلَاد العثمانية كَانُوا اتَّخذُوا لأَنْفُسِهِمْ قانونا سموهُ (طَرِيق الْعلمَاء) ، وَجعلُوا فِيهِ من الْأُصُول مَا انتج، مُنْذُ قرنين إِلَى الْآن، أَن يصير الْعلم منحة رسمية تُعْطى للجهال، حَتَّى للأميين، بل وللأطفال. ويترقى صَاحبهَا فِي مَرَاتِب الْعلم وَالْفضل والكمال، بِمُجَرَّد تقادم السنين أَو ترادف العنايات، لَا سِيمَا إِذا كَانَ من زمرة (زَاد كَانَ) ، أَي الاصلاء، فَإِنَّهُ يكون طفْلا فِي المهد، وينعت فِي منشوره الرسمي من قبل حَضْرَة السُّلْطَان بِأَنَّهُ: (أعلم الْعلمَاء الْمُحَقِّقين) ؛ ثمَّ يكون فطيما فيخاطب بِأَنَّهُ: (أفضل الْفُضَلَاء المدققين) ؛ ثمَّ يصير مراهقاً فَيعْطى المولوية، وَيشْهد لَهُ بِأَنَّهُ: (أقضى قُضَاة الْمُسلمين، مَعْدن الْفضل وَالْيَقِين، رَافع إِعْلَام الشَّرِيعَة وَالدّين، وَارِث عُلُوم الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ) ثمَّ وَثمّ حَتَّى يصدر فيوصف: (بِأَعْلَم الْعلمَاء المتبحرين، وَأفضل الْفُضَلَاء المتورعين، ينبوع الْفضل وَالْيَقِين) إِلَى آخر مَا فِي المناشير من الْكَذِب المشين!

وَلَا يظنّ ظان أَن هَذَا الإطراء من حَضْرَة السُّلْطَان للمتعممين هُوَ بِقصد أَن يقابلوه بِالْمثلِ، وَصفهم إِيَّاه ومخاطبتهم لَهُ بِنَحْوِ: (الْمولى الْمُقَدّس، ذِي الْقُدْرَة، صَاحب العظمة والجلال، المنزه عَن النظير والمثال، واهب الْحَيَاة، ظلّ الله، خَليفَة رَسُول الله، مهبط الإلهامات، مصدر الكرامات، سُلْطَان السلاطين، مَالك رِقَاب الْعَالمين، ولي نعْمَة الثقلَيْن، ملْجأ أهل الْخَافِقين) . إِلَى غير ذَلِك من مصَارِع الشّرك والكبرياء والمهالك. هَذَا، وَلَا ريب، أَن التسعين فِي الْمِائَة من الْعلمَاء المتبحرين لَا يحسنون قِرَاءَة نعوتهم المزورة، كَمَا أَن الْخَمْسَة وَالتسْعين من أُولَئِكَ المتورعين، رافعي إِعْلَام الشَّرِيعَة وَالدّين، يُحَاربُونَ الله جهارا، ويستحقون مَا يسْتَحقُّونَ من الله وَمَلَائِكَته وَالْمُؤمنِينَ. وَيَكْفِي حجَّة عَلَيْهِم بذلك، تمييزهم جَمِيعًا بلباس عروسي، محلى بِكَثِير الْفضة وَالذَّهَب، مِمَّا هُوَ حرَام بِالْإِجْمَاع وَلَا يحْتَمل التَّأْوِيل؛ وَقد اقتبسوا هَذَا اللبَاس من كهنة الرّوم الَّذين يلبسُونَ القباء والقلنسوات المذهبة عِنْد إِقَامَة شعائرهم، وَفِي احتفالاتهم الرسمية. وَهَذَا الْخَطِيب فِي بعض جَوَامِع السلاطين يَسْتَوِي على الْمِنْبَر وَيَقُول: اتَّقوا الله، وعَلى رَأسه وصدره ومنكبيه هَذَا اللبَاس

الْمُنكر، (مرحى) . وَهَؤُلَاء قُضَاة الْقُسْطَنْطِينِيَّة على عهدنا، أَكْثَرهم لَا يعرضون لحضرة السُّلْطَان الْمُعظم نصب خطيب لإِقَامَة الْجُمُعَة، وَلَا ينصبون وَصِيّا على إبِله، أَو مختل الْعقل، أَو مُسْرِف فَاسد التَّدْبِير؛ وَلَا يعزلون مُتَوَلِّيًا أَو وَصِيّا لخيانة فِي مَال الْوَقْف أَو الْيَتِيم؛ وَلَا يقضون فِي مَسْأَلَة خلع زَوْجَة، وَلَا يسمعُونَ بَيِّنَة تَوَاتر؛ إِلَى غير ذَلِك من قضايا وَأَحْكَام شَرْعِيَّة كَثِيرَة لَا يجوز شرعا وَلَا إدارة إهمالها، وَلَا حجَّة لَهُم فِي ارْتِكَاب إِثْم تعطيلها غير مجاراة الأوهام. ثمَّ أَن هَؤُلَاءِ المتعممين مَا كفاهم هَذَا القانون، فألحقوه بقانون آخر سموهُ قانون (تَوْجِيه الْجِهَات) ؛ جعلُوا فِيهِ التدريس والإرشاد والوعظ والخطابة والإمامة وَسَائِر الخدم الدِّينِيَّة، كالعروض، تبَاع وتشرى، وتوهب وتورث، وَمَا ينْحل مِنْهَا نَادرا عَن غير وَارِث، يَبِيعهَا الْقُضَاة لمن يُرِيدُونَ؛ ويتكرمون بهَا على المتملقين؛ وَبِهَذَا القانون انحصرت الخدم الدِّينِيَّة فِي الجهلاء وَالْمُنَافِقِينَ. ثمَّ لما وضع قانون (تشكيل الولايات) ، لم يرض المتعممون حَتَّى جعلُوا فِيهِ قَاضِي الْمُسلمين، وَكَذَلِكَ مفتي الْمُؤمنِينَ فِي كل بلد، عضوين فِي مجْلِس الإدارة، يحكمان بأَشْيَاء كَثِيرَة مِمَّا يصادم الشَّرْع

كالربا والضريبة على الْخُمُور، والرسوم الْعُرْفِيَّة، وَغَيرهَا مِمَّا كَانَ الْأَلْيَق والأنسب بالإسلامية أَن يبْقى الْعلمَاء بعيدين عَنهُ. كَمَا أَن القسيس بل الشماس لَا يحضر مَجْلِسا يعْقد فِيهِ زواج أَو تَفْرِيق مدنيان، وَلَا يشْهد فِي صك دين دَاخله رَبًّا، فضلا عَن أَن يقْضِي أَو يمْضِي بِصفة رسمية كهنوتية، أَمْثَال ذَلِك من الْأَعْمَال الَّتِي تصادم دين النَّصْرَانِيَّة. ثمَّ لما وضع (قانون العدلية) ، تهافت المتعممون على جعل قَاضِي الْمُسلمين رَئِيسا للمحكمة النظامية، الَّتِي تحكم بِمَا لم ينزل الله وَبِمَا يتبرأ الدّين الحنيف مِنْهُ، من نَحْو: رَبًّا صَرِيح، وَمن إبِْطَال حُدُود الله الَّتِي صرح بهَا الْقُرْآن كلياً أَو باستبدالها بعقوبات سياسية، أَو بتغريمات مَالِيَّة؛ وَمن نَحْو: معاقبة الْعباد بِمُجَرَّد الظَّن، والرأي، وَشَهَادَة الْوَاحِد، وَشَهَادَة الْفَاسِق، وَشَهَادَة العاهرة المجاهرة، مِمَّا لَا يلائم الشَّرْع قَطْعِيا. وَمن نَحْو: تَنْفِيذ كل حكم عرفي، حق أَو بَاطِل، بِدُونِ نظر فِيهِ. وَمن تَحْصِيل ضَرَائِب وغرامات. وَمن تَوْقِيف الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة على اسْتِيفَاء الرسوم من الأخصام وأموال الْأَيْتَام. وَمن أهم دسائس المتعممين، أَنهم ينفثون فِي صُدُور الْأُمَرَاء

لُزُوم الِاسْتِمْرَار على الِاسْتِقْلَال فِي الرَّأْي، وَإِن كَانَ مضراً، ومعاداة الشورى وَإِن كَانَت سنة، والمحافظة على الْحَالة الْجَارِيَة، وَإِن كَانَت سَيِّئَة، ويلقون عَلَيْهِم بِأَن مُشَاركَة الْأمة فِي تَدْبِير شؤونها، وَإِطْلَاق حريَّة الانتقاد لَهَا، يخل بنفوذ الْأُمَرَاء، وَيُخَالف السياسة الشَّرْعِيَّة؛ ويلقنونهم حجَجًا واهنة، لَوْلَا أَن أمامها جهل الْأمة، ووراءها سطوة الْإِمَارَة، لما تحركت بهَا شفتان، وَلَا تردد فِي ردهَا إِنْسَان. وَالْأَمر الْأَمر أَن أُولَئِكَ الْأُمَرَاء يقتبسون من هَذِه الْحجَج، مَا يتسلحون بِهِ فِي مُقَابلَة من يعْتَرض على سياستهم من الدول الْأَجْنَبِيَّة، بقَوْلهمْ: إِن قَوَاعِد الدّين الإسلامي لَا تلائم أصُول الشورى، وَلَا تقبل النظام والترقيات المدنية، وانهم مغلوبون على أَمرهم، ومضطرون لرعاية دين رعاياهم، ومجاراة ميل الْفِكر الْعَام. ولنرجع لبحث الْعلمَاء الرسميين، فَنَقُول: بِهَذِهِ القوانين عِنْد العثمانيين، وباشباهها عِنْد اكثر حكومات الْمُسلمين، ضل المتعممون وصاروا أضرّ على الدّين من الشَّيَاطِين. وبهذه القوانين اسْتَأْثر الجهلاء الْفَاسِقُونَ بمزايا الْعلمَاء العاملين، واغتصبوا أَرْزَاقهم من بَيت المَال وَمن أوقاف الأسلاف؛ فبالضرورة

قلت الرغبات فِي تَحْصِيل الْعُلُوم، وثبطت الهمم، وَصَارَ طَالب الْعلم يضْطَر للاكتفاء ببلغة مِنْهُ، ويشتغل بالاحتراف للارتزاق؛ وَهَكَذَا فسد الْعلم، وَقل أَهله، فاختلت التربية الدِّينِيَّة فِي الْأمة، فَوَقَعت فِي الفتور وعمت فِيهَا الشرور. أجَاب الرياضي الْكرْدِي: أَن هَذَا الدَّاء خَاص بِبَعْض الْأُمَم الإسلامية، فَلَا يصلح سَببا للفتور الْعَام الَّذِي نبحث فِيهِ، ونتساءل عَنهُ؛ وَعِنْدِي أَن السَّبَب الْعَام، هُوَ أَن علماءنا كَانُوا اقتصروا على الْعُلُوم الدِّينِيَّة وَبَعض الرياضيات، وأهملوا بَاقِي الْعُلُوم الرياضية والطبيعية، الَّتِي كَانَت إِذْ ذَاك لَيست بِذَات بَال وَلَا تفِيد سوى الْجمال والكمال، ففقد أَهلهَا من بَين الْمُسلمين، واندرست كتبهَا، وانقطعت علاقتها، فَصَارَت منفوراً مِنْهَا، على حكم: (الْمَرْء عَدو مَا جهل) ؛ بل صَار المتطلع إِلَيْهَا مِنْهُم يفسق ويرمى بالزيغ والزندقة، على حِين أخذت هَذِه الْعُلُوم تنمو فِي الغرب؛ وعَلى كرّ الْقُرُون، ترقت وَظهر لَهَا ثَمَرَات عَظِيمَة فِي كَافَّة الشئون المادية والأدبية، حَتَّى صَارَت كَالشَّمْسِ، لَا حَيَاة لذِي حَيَاة إِلَّا بنورها؛ فَأصْبح الْمُسلمُونَ مَعَ شاسع بعدهمْ عَنْهَا مُحْتَاجين إِلَيْهَا لمجاراة جيرانهم، احتياجاً يعم الجزئيات والكليات: من تربية الطِّفْل إِلَى سياسة الممالك، وَمن استنبات الأَرْض إِلَى استمطار

السَّمَاء، وَمن عمل الإبرة والقوارير إِلَى عمل المدافع والبوارج، وَمن اسْتِخْدَام الْيَد وَالْحمار إِلَى اسْتِخْدَام الْبَرْق والبخار. وَلَا شكّ أَن الْمُسلمين أَصْبحُوا بعد الاكتشافات الجديدة، يستفيدون من الْعُلُوم الطبيعية والحكمية فَوَائِد عَظِيمَة جدا، بِالنّظرِ إِلَى كشفها بعض أسرار كتاب الله وَبَالغ الْحِكْمَة المنطوية فِيهِ، مِمَّا كَانَ مَسْتُورا إِلَى الْآن، وَقد خبط فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ خبط عشواء، كظهور حَيَاة الجمادات بِمَاء التبلور؛ وكازدواج النباتات عَامَّة؛ وكقبول الأَرْض الانتقاص وانشقاق الْقَمَر مِنْهَا؛ وكانفتاق الأَرْض من السَّمَاء؛ وكحدوث الجدري الَّذِي نَشأ فِي أَصْحَاب الْفِيل بالمكروب، وكظهور سلسلة خلق الْحَيَوَان من تُرَاب

وطين وصلصال، بقاعدة الترقي الَّتِي أثبتها الْعَلامَة دارون؛ وكظهور صفة الْحَرَكَة الدائمة من الشخوص والهبوط المستمرين فِي الكائنات كلهَا؛ وكظهور سر ضبط الْمَقَادِير فِي التركيبات الكيماوية؛ وكظهور انقسام طَبَقَات الأَرْض إِلَى سَبْعَة على الرَّأْي الْأَصَح؛ وكظهور أَن السَّمَاء فضاء بِالْإِجْمَاع؛ وَبِذَلِك تنْدَفع مشكلة قبُولهَا الفتق والرتق؛ وكظهور امتلاء الْكَوْن بالأثير وَأَنه أصل مَادَّة الكائنات؛ وكالأخبار عَن المركوبات الْبَريَّة البخارية والكهربائية وَغير ذَلِك من الْحَقَائِق الَّتِي كشفها الْعلم أخيراً، واعظم بهَا من براهين قَطْعِيَّة على إعجاز الْقُرْآن، وتجدد إعجازه مَا كرّ الجديدان. بل أضحى الْمُسلمُونَ مُحْتَاجين للحكمة الْعَقْلِيَّة، الَّتِي كَادَت تجْعَل الغربيين أدرى منا حَتَّى فِي مباني ديننَا؛ كاستدلالهم

بالمقايسة على أَن نَبينَا، عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام، أفضل الْعَالمين عقلا وأخلاقاً؛ وكإثباتهم بالمقابلة أَن ديننَا أسمى الديانَات حِكْمَة ومزية. وَعِنْدِي انه لَوْلَا هَذَا الْقُصُور مَا وَقع الْمُسلمُونَ فِي هَذَا الفتور؛ والأمل بعناية الله انهم بعد زمَان قصير أَو طَوِيل، لَا بُد أَن يلتفتوا لهَذِهِ الْعُلُوم النافعة، فيستعيدوا نشأتهم، بل يجلبوا إِلَى دينهم الْعَالم المتمدن، لِأَن نور المعارف، على قدر أبعاده الْعُقَلَاء عَن النَّصْرَانِيَّة وأمثالها، يقربهُمْ من الإسلامية لِأَن الدّين المملوء بالخرافات وَالْعقل المتنور لَا يَجْتَمِعَانِ فِي دماغ وَاحِد (مرحى) . ثمَّ أَن تبعه هَذَا التَّقْصِير، وَإِن كَانَت تلْحق عُلَمَاء الْأمة الْمُتَقَدِّمين، إِلَّا أَن علماءنا الْمُتَأَخِّرين اكثر قصوراً؛ لأَنهم فِي زمَان ظَهرت فِيهِ فَوَائِد هَذِه الْعُلُوم، وَلم يحصل فيهم ميل لاقتباسها؛ بل نراهم مقتصرين على تدريس اللُّغَة وَالْفِقْه فَقَط، أَو بعلاوة شَيْء من الْمنطق إتماما للعقائد، وَشَيْء من الْحساب إكمالاً للفرائض والمواريث قَلما يُفِيد. وَكَذَلِكَ نرى وعاظنا مقتصرين على الْبَحْث فِي النَّوَافِل والقربات المزيدة فِي الدّين، وَرِوَايَة الحكايات الْإسْرَائِيلِيات؛ وَمثلهمْ المرشدون أهل الطرائق، مقتصرون على حكايات نَوَادِر الزهاد، من صَحِيح وموضوع، وَرِوَايَة كرامات الإنجاب والنقباء والإبدال،

وعَلى ضبط وزن التمايل وأصول الإنشاد؛ وَلَا ننسى خطباءنا واقتصارهم على تكْرَار عِبَارَات فِي النَّعْت، وَالدُّعَاء للغزاة والمجاهدين، وتعداد فَضَائِل الْعِبَادَات. وَالْحَاصِل أَن تقصيرات الْعلمَاء الأقدمين، واقتصارات الْمُتَأَخِّرين، وتباعد الْمُسلمين إِلَى الْآن عَن الْعُلُوم النافعة الحيوية، جعلتهم أحط بِكَثِير عَن الْأُمَم. وَلَا شكّ أَنه إِذا تَمَادى تباعدهم هَذَا خمسين عَاما أُخْرَى، تبعد النِّسْبَة بَينهم وَبَين جيرانهم كبعدها مَا بَين الْإِنْسَان وَبَاقِي أَنْوَاع الْحَيَوَان. فبناء عَلَيْهِ، يكون ناموس الارتقاء هُوَ الْمُسَبّب لهَذَا الفتور، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (قل هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ) . فَأَجَابَهُ الْكَامِل الإسكندري: أَن هَذَا سَبَب من الْأَسْبَاب، وَلَا يَكْفِي وَحده لحل الأشكال، لِأَن فقد الْعُلُوم الْحكمِيَّة والطبيعية لَا يصلح سَببا لفقد الإحساس الملي والأخلاق الْعَالِيَة، لِأَنَّهَا تُوجد فِي أعرق الْأُمَم جَهَالَة , وَإِنَّمَا سَبَب فتور حياتنا الأدبية هُوَ يأسنا من المباراة، وَذَلِكَ أننا كُنَّا عُلَمَاء راشدين، وَكَانَ جيراننا متأخرين عَنَّا، فَعرفنَا الْبَقَاء فنمنا، واجتهدوا فلحقونا، ولبثنا نياما فاجتازوا وسبقونا، وتركونا وَرَاء؛ وَطَالَ نومنا، فَبعد الشوط حَتَّى صَار

مَا بعد وَرَائِنَا وَرَاء، فصغرت نفوسنا، وفترت همتنا، وَضعف إحساسنا، فيئسنا من اللحاق والمجاراة؛ وَخَرجْنَا من ميدان المنافسة والمباراة وألسنتنا تفيض بقولنَا: " سَوَاء علينا أجزعنا أم صَبرنَا مَا لنا من محيص. "؛ فعدنا إِلَى كَهْف النّوم مستسلمين للْقَضَاء، نطلب الْفرج بِمُجَرَّد التَّمَنِّي وَالدُّعَاء، ذاهلين عَن أَن الله تَعَالَى جلت حكمته، رتب هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا على أَسبَاب ظاهرية، وَلم يَشَأْ أَن يَجْعَلهَا كالآخرة عَالم أقدار؛ فَهَذَا الْيَأْس هُوَ سَبَب الفتور، فنسأل الله تَعَالَى اللطف من الْمَقْدُور. أَجَابَهُ الْعَارِف التاتاري: أَن هَذِه شكاية حَال، وَلَا تفي بِالْجَوَابِ؛ لِأَنَّهُ مَا السَّبَب فِي هَذَا النّوم الَّذِي غشي الْمُسلمين، وَلم يزل يَغْشَاهُم دون كثير غَيرهم من الْأُمَم الَّتِي إنتبهت، وسارت، ولحقها ظعن الْأَحْيَاء، وَمَا الْمُسلمُونَ إِلَّا بعدين المنقطعين كَأَهل الصين، وَلَا هم بالمتوحشين العريقين كَأَهل أمريكا الأصليين. ثمَّ قَالَ: أَنا أرى أَن عَارَضنَا فَقدنَا السراة والهداة: فَلَا أَمِير عَام حَازِم مطالع ليسوق الْأمة طَوْعًا أَو كرها إِلَى الرشاد؛ وَلَا حَكِيم معترف لَهُ بالمزية وَالْإِخْلَاص، لتنقاد إِلَيْهِ الْأُمَرَاء وَالنَّاس؛ وَلَا تربية قويمة المبادئ، ينْتج مِنْهَا رَأْي عَام لَا يطرقه تخاذل وانقسام؛

وَلَا جمعيات منتظمة تسْعَى بِالْخَيرِ وتتابع السّير. وَلذَلِك حل فِينَا الفتور، وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور. أَجَابَهُ الْفَقِيه الأفغاني: أَن مَا وَصفته من أَمِير وَحَكِيم لَا يوجدان فِي الْأُمَم المنحطة إِلَّا اتِّفَاقًا، أما الرَّأْي الْعَام والجمعيات فَلَا يفقدان إِلَّا بِسَبَب فقد الإحساس، وَهَذَا مَا نتساءل عَنهُ. وَذكر أَن الدَّاء الْعَام فِيمَا يرَاهُ هُوَ الْفقر الْآخِذ بالزمام، لِأَن الْفقر قَائِد كل شَرّ، ورائد كل نحس؛ فَمِنْهُ جهلنا، وَمِنْه فَسَاد أَخْلَاقنَا، بل مِنْهُ تشَتت آرائنا حَتَّى فِي ديننَا، وَمِنْه فقد إحساسنا، وَمِنْه إِلَى كل مَا نَحن فِيهِ، أَو نتوقع أننا سنوافيه. فَهَذِهِ فطرتنا، لَا نقص فِيهَا عَن غَيرنَا، وعددنا كثير، وبلادنا متواصلة، وَأَرْضنَا مخصبة، ومعادننا غنية، وشرعنا قويم، وفخارنا قديم، فَلَا ينقصنا عَن الْأُمَم الْحَيَّة غير الْقُوَّة الْمَالِيَّة، الَّتِي أَصبَحت لَا تحصل إِلَّا بالعلوم والفنون الْعَالِيَة، وَهَذِه لَا تحصل إِلَّا بِالْمَالِ الطائل؛ فوقعنا فِي مُشكل الدّور، وَعَسَى أَن نهتدي لفكه سَبِيلا، وَإِلَّا فيحيق بِنَا ناموس فنَاء الضَّعِيف فِي الْقوي وبيننا الْجَاهِل والعالم. وَمن اعظم أَسبَاب فقر الْأمة: أَن شريعتنا مَبْنِيَّة على أَن فِي

أَمْوَال الْأَغْنِيَاء حَقًا مَعْلُوما للبائس والمحروم، فَيُؤْخَذ من الْأَغْنِيَاء ويوزع على الْفُقَرَاء؛ وَهَذِه الحكومات الإسلامية، قد قلبت الْمَوْضُوع، فَصَارَت تجبي الْأَمْوَال من الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وتبذلها للأغنياء، وتحابي بهَا المسرفين والسفهاء. أجَاب السعيد الإنكليزي: أَن الْمُسلمين من حَيْثُ مجموعهم أَغْنِيَاء لَا يعوزهم المَال اللَّازِم للتدرج فِي الْعُلُوم، حَتَّى للسياحات البحرية والقطبية، لِأَن فَرِيضَة الزَّكَاة على مالكي النّصاب وَالْكَفَّارَات الْمَالِيَّة، جاعلة لفقراء الْأمة وَبَعض المصاريف العمومية نَصِيبا غير قَلِيل فِي مَال الْأَغْنِيَاء؛ بِحَيْثُ إِذا عَاشَ الْمُسلمُونَ مُسلمين حَقِيقَة أمنُوا الْفقر، وعاشوا عيشة الِاشْتِرَاك العمومي المنتظم الَّتِي يتَمَنَّى مَا هُوَ من نوعها أغلب الْعَالم المتمدن الإفرنجي، وهم لم يهتدوا بعد لطريقة نيلها، مَعَ أَنه تسْعَى وَرَاء ذَلِك مِنْهُم جمعيات وعصبيات مكونة من ملايين باسم (كومون، وفنيان، ونيهلست، وسوسيالست) ، كلهَا تطلب التَّسَاوِي أَو التقارب فِي الْحُقُوق وَالْحَالة المعاشية؛ ذَلِك التَّسَاوِي والتقارب المقررين فِي الإسلامية دينا بوسيلة أَنْوَاع الزَّكَاة وَالْكَفَّارَات، وَلَكِن تَعْطِيل إيتَاء الزَّكَاة وإيفاء الْكَفَّارَات سَبَب بعض الفتور المبحوث فِيهِ، كَمَا سَبَب إهمال الزَّكَاة فقد الثمرات الْعَظِيمَة

من معرفَة الْمُسلم ميزانية ثروته سنويا، فيوفق نفقاته على نِسْبَة ثروته ودخله، وَلَا شكّ أَن الْوَاحِد من الْأَرْبَعين يَكْفِي أَن يبْذل لأجل هَذِه الثَّمَرَة وَحدهَا. والشريعة الإسلامية هِيَ أول شَرِيعَة ساقت النَّاس والحكومات لأصول البودجة المؤسس عَلَيْهِ فن الاقتصاد المالي، الإفرادي والسياسي. ويخيل لي أَن سَبَب هَذَا الفتور، الَّذِي أخل حَتَّى فِي الدّين، هُوَ فقد الاجتماعات والمفاوضات؛ وَذَلِكَ أَن الْمُسلمين فِي الْقُرُون الْأَخِيرَة قد نسوا بِالْكُلِّيَّةِ حِكْمَة تشريع الْجَمَاعَة وَالْجُمُعَة وجمعية الْحَج؛ وَترك خطبائهم ووعاظهم، خوفًا من أهل السياسة، التَّعَرُّض للشؤون الْعَامَّة. كَمَا أَن علماءهم صَارُوا يسترون جبنهم بجعلهم التحدث فِي الْأُمُور العمومية والخوض فِيهَا من الفضول والاشتغال بِمَا لَا يُغني، وَإِن إتْيَان ذَلِك فِي الْجَوَامِع من اللَّغْو الَّذِي لَا يجوز، وَرُبمَا اعتبروه من الْغَيْبَة أَو التَّجَسُّس أَو السَّعْي بِالْفَسَادِ؛ فسرى ذَلِك إِلَى إِفْرَاد الْأمة، وَصَارَ كل شخص لَا يهتم إِلَّا بخويصة نَفسه وَحفظ حَيَاته

فِي يَوْمه، كَأَنَّهُ خلق أمة وَاحِدَة، وسيموت غَدا، جَاهِلا أَن لَهُ حقوقا على الجامعة الإسلامية والجامعة البشرية، وَإِن لَهما عَلَيْهِ مثلهَا، ذاهلاً عَن أَنه مدنِي الطَّبْع، لَا يعِيش إِلَّا بالاشتراك، نَاسِيا أَو جَاهِلا أوَامِر الْكتاب وَالسّنة لَهُ بذلك (مرحى) . ثمَّ بتوالي الْقُرُون والبطون على هَذِه الْحَال، تأصل فِي الْأمة فقد الإحساس، إِلَى دَرَجَة انه لَو خربَتْ هَذِه الْكَعْبَة وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى لما تقطبت الْحَيَاة أَكثر من لَحْظَة، وَلَا أَقُول لما زَاد تلاطم النَّاس على سَبْعَة أَيَّام، كَمَا ورد فِي الإثر، لِأَن المُرَاد بأولئك النَّاس أهل خزينة الْعَرَب إِذْ ذَاك. وَإِذا دققنا النّظر فِي حَالَة الْأُمَم الْحَيَّة المعاصرة، وَهِي لَيْسَ عِنْدهَا مَا عندنَا من الْوَسَائِل الشَّرِيفَة للاجتماعات والمفاوضات، نجدهم قد احْتَالُوا للاجتماعات ولاسترعاء السّمع والاستلفات بوسائل شَتَّى: 1 - مِنْهَا تخصيصهم يَوْمًا فِي الْأُسْبُوع للبطالة والتفرغ من الأشغال الْخَاصَّة، لتحصل بَين النَّاس الاجتماعات، وتنعقد الندوات، فيتباحثون ويتناجون. 2 - وَمِنْهَا تخصيصهم أَيَّامًا، يتفرغون فِيهَا لتذاكر مهمات الْأَعْمَال لأعاظم رِجَالهمْ الماضين، تشويقا للتمثل بهم.

3 - وَمِنْهَا إعدادهم فِي مدنهم ساحات ومنتديات، تسهيلا للاجتماع والمذاكرات وإلقاء الْخطب وإبداء التظاهرات. 4 - وَمِنْهَا إيجادهم المنتزهات الزاهية العمومية، وإجراء الاحتفالات الرسمية والمهرجانات بِقصد السُّوق للاجتماعات. 5 - وَمِنْهَا إيجادهم محلات التشخيص الْمَعْرُوف (بالكوميديا) و (التياترو) ، بِقصد أراءة العبر واسترعاء السّمع للْحكم والوقائع، وَلَو ضمن أَنْوَاع من الخلاعة الَّتِي اتَّخذت شباكا لمقاصد الْجمع والإسماع، ويعتبرون أَن نَفعهَا أكبر من ضَرَر الخلاعة. 6 - وَمِنْهَا اعتناؤهم غَايَة الاعتناء بتعميم معرفَة تواريخهم الملية، المفصلة المدمجة بالعلل والأسباب، تمكينا لحب الجنسية. 7 - وَمِنْهَا حرصهم على حفظ العاديات المنبهة، وادخار الْآثَار الْقَدِيمَة المنوهة، واقتناء النفائس المشعرة بالمفاخر. 8 - وَمِنْهَا إقامتهم النصب، المفكرة بِمَا نصبت لَهُ من مهمات

الوقائع الْقَدِيمَة. 9 - وَمِنْهَا نشرهم فِي الجرائد اليومية كل الوقائع والمطالعات الفكرية. 10 - وَمِنْهَا بثهم فِي الأغاني والنشائد الحكم والحماسات؛ إِلَى غير ذَلِك من الْوَسَائِل الَّتِي تنشئ فِي الْقَوْم نشأة حَيَاة اجتماعية، وتولد فِي الرؤوس حمية وحماسة، وَفِي النُّفُوس سموا ونشاطاً. أما الْمُسلمُونَ فَإِنَّهُم كَمَا سبق بَيَانه، أهملوا اسْتِعْمَال تِلْكَ الْوَسَائِل الشَّرِيفَة، المؤسسة عِنْدهم للشورى والمفاوضات والتناصح والتداعي، أَعنِي بذلك الْجَمَاعَة وَالْجُمُعَة وجمعية الْحَج؛ حَتَّى كَأَن الشَّارِع لم يقْصد مِنْهَا أَدَاء الْفَرِيضَة فَقَط بِصُورَة تعبدية بسيطة، وَالْحَال حِكْمَة الشَّارِع أبلغ من ذَلِك، وَعِنْدِي أَن هَذَا أعظم أَسبَاب الفتور (مرحى) . فَأَجَابَهُ الإِمَام الصيني: أَن هَذَا أشبه بالعوارض مِنْهُ بالأسباب، فَهُوَ أليق بِأَن يكون دَوَاء للداء، وَنحن مهتمون ابْتِدَاء بِمَعْرِِفَة سَبَب الفتور. ثمَّ قَالَ: أَنِّي أرى أَن السَّبَب الْأَكْبَر للفتور هُوَ تكبر الْأُمَرَاء،

وميلهم للْعُلَمَاء المتملقين الْمُنَافِقين، الَّذين يتصاغرون لديهم، ويتذللون لَهُم، ويحرفون أَحْكَام الدّين ليوفقوها على أهوائهم؛ فَمَاذَا يُرْجَى من عُلَمَاء يشْتَرونَ بدينهم دنياهم، ويقبلون يَد الْأَمِير لتقبل الْعَامَّة أَيْديهم، ويحقرون أنفسهم للعظماء ليتعاظموا على أُلُوف من الضُّعَفَاء، اكبر هَمهمْ التحاسد والتباغض والتخاذل والتفاشل، لَا يحسنون أمرا من الْأُمُور حَتَّى وَلَا الْخُصُومَة، فتراهم لَا يتراغمون إِلَّا بتكفير بَعضهم بَعْضًا عِنْد الْأُمَرَاء والعامة. وَهَذَا دَاء عياء صَعب المداواة جدا، لِأَن كبر الْأُمَرَاء يمنعهُم من الْميل إِلَى الْعلمَاء العاملين، الَّذين فيهم نوع غلظة لَا بُد مِنْهَا، ولنعما هِيَ مزية لولاها لفقد الدّين بِالْكُلِّيَّةِ (مرحى) . فَلَا شكّ أَن فِي هَذَا الزَّمَان، أفضل الْجِهَاد فِي الله الْحَط من قدر الْعلمَاء الْمُنَافِقين عِنْد الْعَامَّة، وتحويل وجهتهم لاحترام الْعلمَاء العاملين؛ حَتَّى إِذا رأى الْأُمَرَاء انقياد النَّاس لهَؤُلَاء أَقبلُوا هم أَيْضا عَلَيْهِم رغم أنوفهم. وأذعنوا لَهُم طَوْعًا أَو كرها؛ على أَنه يجب على حكماء الْأمة الْمُجَاهدين فِي الله أَن يعتنوا بالوسائل اللينة لتثقيف عقول الْعلمَاء العاملين، لِأَن الْعلم رَافع للْجَهْل فَقَط، وَلَا يُفِيد عقلا وَلَا كياسة؛ فَيلْزم تعليمهم وتعريفهم كَيفَ تكون سياسة الدّين، وَهَكَذَا

يفعل الْحُكَمَاء عندنَا معاشر إِسْلَام الصين، وَلَا تفقد أَيَّة بَلْدَة كَانَت رجَالًا حكماء نبلاء يمتازون طبعا على الْعَامَّة، لَهُم نوع من الْوَلَاء حَتَّى على الْعلمَاء. وَهَؤُلَاء الَّذين نسميهم عندنَا بالحكماء هم الَّذين يُطلق عَلَيْهِم فِي الإسلامية اسْم أهل الْحل وَالْعقد، الَّذين لَا تَنْعَقِد شرعا (الْإِمَامَة) إِلَّا ببيعتهم؛ وهم خَواص الطَّبَقَة الْعليا فِي الْأمة، الَّذين أَمر الله عز شَأْنه نبيه بمشاورتهم فِي الْأَمر، الَّذين لَهُم شرعا حق الاحتساب والسيطرة على الْأَمَام والعمال، لأَنهم رُؤَسَاء الْأمة ووكلاء الْعَامَّة، والقائمون فِي الْحُكُومَة الإسلامية مقَام مجَالِس النواب والإشراف فِي الحكومات الْمقيدَة، ومقام الأسرة الملوكية الَّتِي لَهَا حق السيطرة على الْمُلُوك فِي الحكومات الْمُطلقَة كالصين وروسيا؛ ومقام شُيُوخ الأفخاد فِي إزاء أُمَرَاء العشائر الْعَرَبيَّة، أُولَئِكَ الْأُمَرَاء الَّذين لَيْسَ لَهُم من الْأَمر غير تَنْفِيذ مَا يبرمه الشُّيُوخ. وَإِذا دققنا النّظر فِي أدوار الحكومات الإسلامية من عهد الرسَالَة إِلَى الْآن، نجد ترقيها وانحطاطها تابعين لقُوَّة أَو ضعف احتساب أهل الْحل وَالْعقد واشتراكهم فِي تَدْبِير شؤون الْأمة. وَإِذا أرجعنا الْبَصَر إِلَى التَّارِيخ الإسلامي، نجد أَن النَّبِي عَلَيْهِ

السَّلَام كَانَ أطوع الْمَخْلُوقَات للشورى امتثالا لأمر ربه فِي قَوْله تَعَالَى: (وشاورهم فِي الْأَمر) ، حَتَّى أَنه ترك الْخلَافَة لمُجَرّد رَأْي الْأمة. ثمَّ كَانَ أول الْخُلَفَاء رَضِي الله عَنهُ أشبه النَّاس بِهِ حَتَّى أَنه أَخذ رَأْي سراة الصَّحَابَة فِيمَن خلف؛ ثمَّ الْخَلِيفَة الثَّانِي اتبع أثر الأول، وَإِن اسْتَأْثر فِي تَرْتِيب الشورى فِيمَن يخلفه؛ ثمَّ الْخَلِيفَة الثَّالِث اجْتهد فِي مُخَالفَة رُؤَسَاء الصَّحَابَة فِي بعض الْمُهِمَّات، فَلم يستقم لَهُ الْأَمر، وَظَهَرت الْفِتَن كَمَا هُوَ مَعْلُوم؛ ثمَّ مُعَاوِيَة رَحمَه الله كَانَ قَلِيل الِاسْتِقْلَال بِالرَّأْيِ فحسنت أَيَّامه عَن قبل. وَهَكَذَا كَانَت دولة الأمويين تَحت سيطرة أهل احل وَالْعقد لَا سِيمَا من سراة بني أُميَّة، فانتظمت على عَهدهم الْأَحْوَال، كَمَا كَانَ ذَلِك كَذَلِك على عهد صدر العباسيين، حَيْثُ كَانُوا مذعنين لسيطرة رُؤَسَاء بني هَاشم، ثمَّ لما استبدوا فِي الرَّأْي وَالتَّدْبِير، فخالفوا أَمر الله وَاتِّبَاع طَريقَة رَسُول الله، ساءت الْحَال حَتَّى فقد الْملك. هَكَذَا عِنْد التدقيق فِي كل فرع من الدول الإسلامية الْمَاضِيَة والحاضرة، بل فِي تَرْجَمَة كل فَرد من الْمُلُوك والأمراء، بل فِي حَال كل ذِي عائلة أَو كل إِنْسَان فَرد، نجد الصّلاح وَالْفساد دائرين مَعَ سنة الاستشارة أَو الِاسْتِقْلَال فِي الرَّأْي.

فَإِذا تقرر هَذَا، علمنَا أَن سَبَب الفتور الْعَام المبحوث فِيهِ هُوَ استحكام الاستبداد فِي الْأُمَرَاء شِيمَة وتكبرا، وَترك أهل الْحل وَالْعقد والاحتساب جهلا وجبانة؛ وَهَذَا عِنْد بعض الأقوام الْمُسلمين كإيران، وَأما الْأَكْثَر فقد أَمْسوا لَا عُلَمَاء هداة وَلَا سراة أباة، بل هم فوضى فِي الدّين وَالدُّنْيَا. وَلَا بدع فِيمَن يكونُونَ على مثل هَذَا الْحَال، أَن لَا يُرْجَى لَهُم دَوَاء إِلَّا بعناية بعض الْحُكَمَاء، الَّذين ينجبون من أَي طبقَة كَانَت من الْأمة، وَقد قَضَت سنة الله فِي خلقه أَن لَا تَخْلُو أمة من الْحُكَمَاء. فَأجَاب الْعَالم النجدي: أَن شؤون السياسة فِي الصين تخْتَلف كثيرا عَنْهَا فِي غَيرهَا، وَلَيْسَ فِي الصين مُلُوك كَثِيرَة وأمراء جبابرة كَمَا عِنْد غَيرهم، فالحكماء فِي الصين آمنون؛ وَمن جِهَة أُخْرَى لم يزل الْإِسْلَام فِي الصين حَنِيفا خَفِيفا، لم يُفْسِدهُ التفنن وَالتَّشْدِيد، وَمَعَ ذَلِك نرى الفتور شاملهم أَيْضا. وَنحن الْآن نبحث عَن السَّبَب الْعَام لهَذَا الدَّاء، وَلَيْسَ كل السَّبَب أَحْوَال الْأُمَرَاء وَالْعُلَمَاء. ثمَّ قَالَ أَنِّي أَجْزم، وَلَا أَقُول أَظن أَو أخال، أَن سَبَب الفتور الطَّارِئ الملازم لجامعة هَذَا الدّين هُوَ هَذَا الدّين الْحَاضِر ذَاته، وَلَا

برهَان أعظم من الْمُلَازمَة، وَمَا جَاءَ الخفاء إِلَّا من شدَّة الوضوح؛ فَهَل بَقِي من شكّ بعد هَذِه الأبحاث الَّتِي سبقت فِي جمعيتنا، وَلَا سِيمَا مَا بَينه الْمُحَقق الْمدنِي، فِي أَن الدّين الْمَوْجُود الْآن بِالنّظرِ إِلَى مَا ندين بِهِ لَا بِالنّظرِ إِلَى مَا نقرره، وَبِاعْتِبَار مَا نفعله لَا بِاعْتِبَار مَا نقُوله، لَيْسَ هُوَ الدّين الَّذِي تميز بِهِ أسلافنا مئين من السنين على الْعَالمين، كلا بل طرأت على الدّين طوارئ تَغْيِير غيرت نظامه. " وَذَلِكَ أَن الإخلاف تركُوا أَشْيَاء من أَحْكَامه: كإعداد الْقُوَّة بِالْعلمِ وَالْمَال، وَالْجهَاد فِي الدّين، وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَإِزَالَة الْمُنكر، وَإِقَامَة الْحُدُود، وإيتاء الزَّكَاة؛ وَغير ذَلِك مِمَّا أوضحه الإخوان الْكِرَام، وَزَاد فِيهِ الْمُتَأَخّرُونَ بدعا وتقليدات وخرافات لَيست مِنْهُ، كشيوع عبَادَة الْقُبُور، وَالتَّسْلِيم لمُدعِي علم الْغَيْب وَالتَّصَرُّف فِي الْمَقْدُور. وَهَذِه الطوارئ من تغييرات أَو متروكات أَو مزيدات أَكْثَرهَا يتَعَلَّق بأصول الدّين، وَبَعضهَا بِأَصْل الْأُصُول أَعنِي التَّوْحِيد، وَكفى بِأَن يكون سَببا للفتور، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} . (مرحى) . وَلقَائِل أَن يَقُول: إِذا سلمنَا أَن الدّين تغير عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، فَمَا

تَأْثِير ذَلِك فِي الفتور الْعَام الَّذِي هُوَ من شئون الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَهَا نَحن نجد أَكثر الْأُمَم الْحَيَّة الَّتِي نغبطها قد طَرَأَ على دينهَا التَّغْيِير والتبديل فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع، وَلم يُؤثر ذَلِك فِي الفتور؛ بل زعم كثير من حكماء تِلْكَ الْأُمَم انهم مَا أخذُوا فِي الترقي إِلَّا بعد عزلهم شئون الدّين عَن شئون الْحَيَاة، وجعلهم الدّين أمرا وجدانياً مَحْضا لَا علاقَة لَهُ بشؤون الْحَيَاة الْجَارِيَة على نواميس الطبيعة. فَالْجَوَاب على ذَلِك بِأَنَّهُ كَمَا يُطَالب كل إِنْسَان بَان يكون صَاحب ناموس، أَي مُتبعا على وَجه الاطراد فِي أخلاقه وأعماله قانونا مَا، مُوَافقا وَلَو فِي الْأُصُول فَقَط لقانون الْهَيْئَة الاجتماعية الَّتِي هُوَ مِنْهَا، وَإِلَّا فَيكون لَا ناموس لَهُ، منفوراً مِنْهُ مضطهداً؛ فَكَذَلِك كل قوم مكلفون بِأَن يكون لَهُم ناموس عَام بَينهم، ملائم نوعا لقوانين الْأُمَم الَّتِي لَهَا مَعَهم علاقات جوارية أَو تجارية أَو مناسبات سياسية، وَإِلَّا فيكونون قوما متوحشين لَا خلاق لَهُم وَلَا نظام، منفوراً مِنْهُم مضطهدين. وَذَلِكَ أَن الناموس الطبيعي فِي الْبشر هُوَ ناموس وَحشِي لَا خير فِيهِ، لِأَن مبانيه هِيَ تنَازع الْبَقَاء، وَحفظ النَّوْع، والتزاحم على الأسهل، والاعتماد على الْقُوَّة، وَطلب الغايات، وَحب الرِّئَاسَة،

وحرص الإدخار، ومجاراة الظروف، وَعدم الثَّبَات على حَال، إِلَى غير ذَلِك. وَكلهَا قَوَاعِد شَرّ ومجالب ضرّ، لَا يلطفها غير ناموس شرِيف وَاحِد، مودوع فِي فطْرَة الْإِنْسَان، وَهُوَ: إذعانه الفكري للقوة الْغَالِبَة، أَي معرفَة الله بالإلهام الفطري، الَّذِي هُوَ الْهَام النَّفس رشدها، وإلهامها فجورها وتقواها (مرحى) . وَلَا ريب فِي أَن لهَذِهِ الْفطْرَة الدِّينِيَّة فِي الْإِنْسَان علاقَة عظمى فِي شؤون حَيَاته، لِأَنَّهَا أقوى وَأفضل وازع يعدل سَائِر نواميسه الْمضرَّة، ويخفف مرَارَة الْحَيَاة الَّتِي لَا يسلم مِنْهَا ابْن أُنْثَى، وَذَلِكَ بِمَا يؤمله الْمُؤمن من المجازاة والمكافأة، والانتقام مِنْهُ وَله (مرحى) . وَعند تدقيق حَالَة جَمِيع الْأَدْيَان والنحل تدقيقاً تاريخياً، تُوجد كلهَا ناشئة عَن اصل صَحِيح بسيط سماوي، لَا ترى فِيهِ عوجا وَلَا أمتا، يُوجد أَن كل دين كَانَ فِي أوليته باثا فِي أَهله النظام والنشاط، وراقياً بهم إِلَى أوج السَّعَادَة فِي الْحَيَاة، إِلَى أَن يطْرَأ عَلَيْهِ التَّأْوِيل والتحريف والتفنن والزيادات رُجُوعا إِلَى اصلين اثْنَيْنِ: (الْإِشْرَاك بِاللَّه، وَالتَّشْدِيد فِي الدّين) . فَيَأْخُذ فِي الانحطاط بالأمة، وَلم يزل نازلا بهَا إِلَى أَن تبلغ حَالَة أقبح من الْحَالة الْأَصْلِيَّة الهمجية، فتنتهي

بالانقراض أَو الاندماج فِي أمة أُخْرَى. أَو يتدارك الله تِلْكَ الْأمة بعناية بَالِغَة، فيبعث لَهُم رَسُولا يجدد دينهم، أَو يخلق فيهم أَنْبيَاء أَو حكماء يصلحون لَهُم مَا فسد من دينهم، كَمَا حصل ذَلِك فِي الْأُمَم الْمَاضِيَة: كعاد وَثَمُود، وكالسريان وَإِسْرَائِيل وكنعان وَإِسْمَاعِيل، وكما قَالَ الله تَعَالَى: (وَمَا كَانَ الله ليضل قوما بعد إِذْ هدَاهُم حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ} . وَعند التَّأَمُّل يُوجد الشّرك وَالتَّشْدِيد كَأَنَّهُمَا أَمْرَانِ طبيعيان فِي الْإِنْسَان، يسْعَى وراءهما جهده بسائق النَّفس وقائد الشَّيْطَان؛ لِأَن النَّفس تميل إِلَى عبَادَة الْمَشْهُود الْحَاضِر أَكثر من ميلها إِلَى عبَادَة الْمَعْقُول الْغَائِب، ومفطوره على التَّشْدِيد رَغْبَة فِي التميز؛ والشيطان يسعف النَّفس بالتسويل والتأويل، والتحويل والتضليل، إِلَى أَن يفْسد الدّين (مرحى) . ثمَّ إِذا دققنا حَالَة الإسلامية فِي الْقُرُون الخالية، نجدها عِنْد أَكثر أهل الْقبْلَة قد أَصَابَهَا بعض مَا أصَاب قبلهَا غَيرهَا من الْأَدْيَان؛ كَمَا أخبرنَا الله تَعَالَى بقصصها فِي كِتَابه الْمُبين، ووعدنا بوقوعنا فِيهِ سيد الْمُرْسلين، وأرشدنا إِلَى طرائق التَّخَلُّص مِنْهُ إِن كُنَّا راشدين.

أَعنِي بذلك ماطراً على الإسلامية من التَّأْوِيل والتحريف فِي بعض أُصُولهَا وَكثير من فروعها، حَتَّى استولى عَلَيْهَا التَّشْدِيد والتشويش، وتطرق لَهَا الشّرك الْخَفي والجلي من يَمِينهَا وشمالها، فأمست محتاجة إِلَى التَّجْدِيد بتفريق الغي من الرشد، وَعِنْدِي أَن هَذِه الْحَال أَعم وَأعظم سَبَب للفتور المبحوث فِيهِ، قَالَ الله تَعَالَى: (وَمن أعرض عَن ذكري فَإِن لَهُ معيشة ضنكا) . (مرحى) . وَأَنْتُم أَيهَا السَّادة الأفاضل، فِي غناء عَن إِيضَاح ذَلِك لكم بِوَجْه التَّفْصِيل. قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: إِنِّي أرى أَن الْبَحْث فِي أَعْرَاض الدَّاء وأسبابه وجرائمه وَمَا هُوَ الدَّوَاء وَكَيف يسْتَعْمل قد نضج أَو كَاد؛ وَقد قَررنَا فِي اجتماعنا الأول أننا سنبحث فِي: مَا هِيَ الإسلامية؟ وَمَا يتبع ذَلِك مِمَّا أدرجناه فِي برنامج المباحث، وَإِنِّي أرى أَن تَقْرِير أخينا الْعَالم النجدي نعم الْمدْخل لنقل الْبَحْث، وَلَا سِيمَا إِذا تكرم بتفصيل مَا أجمله؛ لِأَن مسَائِل منشأ الديانَات، وَسنَن الله فِي مسراها، وَأَسْبَاب طوارئ التَّغْيِير والتحريف عَلَيْهَا، كلهَا مسَائِل مهمة تَقْتَضِي تدقيق النّظر واستقصاء التَّحْقِيق، وَيحسن فِيهَا الإطالة والاستيعاب. بِنَاء عَلَيْهِ، نرجو من الْعَالم النجدي أَن يتكرم بِإِعَادَة مَا قَرَّرَهُ بِصُورَة مفصلة فِي اجتماعنا الْآتِي، إِذْ الْيَوْم قد أذن لنا الْوَقْت بالانصراف.

فارغ

الاجتماع الرابع

الِاجْتِمَاع الرَّابِع يَوْم السبت الْعشْرين من ذِي الْقعدَة سنة 1316 انتظمت الجمعية فِي الْيَوْم الْمَذْكُور صباحاً، وقرىء الضَّبْط السَّابِق حسب الْعَادة، وَأذن الْأُسْتَاذ الرئيس بِالشُّرُوعِ فِي الْبَحْث. فَقَالَ الْعَالم النجدي: إِنِّي استسمح السَّادة الإخوان عَن إملالهم بمقدمات وتعريفات هم أعلم مني بهَا، بل هِيَ عِنْدهم فِي رُتْبَة البديهيات، وَلَكِن لَا بُد مِنْهَا للباحث رِعَايَة لقاعدة التسلسل الفكري وَالتَّرْتِيب القياسي، فَأَقُول. أَن النَّوْع الإنساني مفطور على الشُّعُور بِوُجُود قُوَّة غالبة عَاقِلَة، لَا تتكيف، تتصرف فِي الكائنات على نواميس منتظمة، فالعامة يعبرون عَن هَذِه الْقُوَّة بِلَفْظ (الطبيعة) ؛ والراشدون من النَّاس مهتدون إِلَى أَن لهَذِهِ الْقُوَّة من هُوَ قَائِم بهَا، يعبرون عَنهُ بِلَفْظ (الله) ثمَّ أَن هَذَا الشُّعُور يخْتَلف قُوَّة وضعفاً، حسب ضعف النَّفس

وقوتها؛ وَيخْتَلف النَّاس فِي تصور وتوصيف مَاهِيَّة هَذِه الْقُوَّة حسب مَرَاتِب الْإِدْرَاك فيهم، أَو حَسْبَمَا يصادفهم من التلقي عَن غَيرهم، وَذَلِكَ هُوَ (الضلال وَالْهِدَايَة) . على أَن الضلال غَالب لِأَن مَوَازِين الْعُقُول البشرية مهما كَانَت وَاسِعَة قَوِيَّة، لَا تسع وتتحمل وزن جبال الأزلية والأبدية، والامتثال، والأزمان، والإمكان، وَنَحْو ذَلِك، مِمَّا لصعوبته سمي الْعلم بِهِ علم مَا وَرَاء الْعقل؛ وَلِهَذَا لَا يُقَال فِي حق الضَّالّين أَنهم منحطون عقلا عَن المهتدين، بل كثير مِنْهُم، فِي الماضين والحاضرين، أسمى عقلا بمراتب كَبِيرَة من المهتدين، وَلَكِن صعوبة التَّصَوُّر وَالْحكم أوقعتهم فِي بحار من الأوهام وظلمات من الضلال، على أَن البارئ تَعَالَى قدر اللطف بِبَعْض عباده، وَأَرَادَ إِقَامَة الْحجَّة على الآخرين، فأوجد بعض أَفْرَاد من الْبشر يميزون فِي تصور توصيف مَاهِيَّة هَذِه الْقُوَّة تمييزاً كَبِيرا، فصاروا هداة للنَّاس وهم (الْأَنْبِيَاء) عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام. ثمَّ بعض الْأَنْبِيَاء الْكِرَام قَامُوا فِيمَن حَولهمْ من النَّاس مقَام المشرعين؛ واثبتوا، ببراهين خرق الْعَادَات على يدهم عِنْد التحدي أَي عِنْد طلب ذَلِك مِنْهُم، أَن مخاطبيهم مكلفون من قبل الله تَعَالَى باتبَاعهمْ وهم (المُرْسَلُونَ) ، فَآمن بهم من آمن، أَي شهدُوا لَهُم

بالرسالة واتبعوهم فِي هديهم مستسلمين، فأخرجوهم من بحار الأوهام إِلَى سَاحل الْحِكْمَة، وَمن ظلمات الضلال إِلَى نور الْهِدَايَة، وَهَؤُلَاء (الْمُؤْمِنُونَ) ، فَهَذِهِ مُقَدّمَة أولى. (مرحى) . وَمن الْمُؤمنِينَ: نَحن معاشر (الْمُسلمين) ؛ علمنَا، بِمَا علمنَا، أَن مُحَمَّدًا بن عبد الله الْهَاشِمِي الْقرشِي الْعَرَبِيّ أجل الْبشر حِكْمَة وفضيلة، وصدقناه بِأَنَّهُ رَسُول الله للْعَالمين كَافَّة، مصححاً مِلَّة إِبْرَاهِيم، دَاعيا لعبادة الله وَحده، هاديا إِلَى مَا يُكَلف الله لَهُ عبَادَة من أَمر وَنهي كافلين لكل خير فِي الْحَيَاة وَبعد الْمَمَات. وَمن أُمَّهَات قَوَاعِد ديننَا، أَن نعتقد: أَن مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَام بلغ رسَالَته، لم يتْرك وَلم يكتم مِنْهَا شَيْئا، وَأَنه أتم وظيفته بِمَا جَاءَ بِهِ من كتاب الله، وَبِمَا قَالَه أَو فعله أَو أقره على سَبِيل التشريع إكمالاً لدين الله. وَمن أهم قَوَاعِد ديننَا أَيْضا: أَنه مَحْظُور علينا أَن نزيد على مَا بلغنَا إِيَّاه رَسُول الله أَو ننقص مِنْهُ أَو نتصرف فِيهِ بعقولنا، بل متحتم علينا أَن نتبع مَا جَاءَ بِهِ الصَّرِيح الْمُحكم من الْقُرْآن، والواضح الثَّابِت مِمَّا قَالَه الرَّسُول أَو فعله أَو أقره، وَمَا أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة، أَن أدركنا حِكْمَة ذَلِك التشريع أَو لم نقدر على إِدْرَاكهَا، وَأَن تتْرك

مَا يتشابه علينا من الْقُرْآن فَنَقُول فِيهِ: (آمنا بِهِ، كل من عِنْد رَبنَا، وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله) . وَمن قَوَاعِد ديننَا كَذَلِك: أَن نَكُون مختارين فِي بَاقِي شؤوننا الحيوية، نتصرف فِيهَا كَمَا نشَاء، مَعَ رِعَايَة الْقَوَاعِد العمومية الَّتِي شرعها أَو ندب إِلَيْهَا الرَّسُول، وتقتضيها الْحِكْمَة أَو الْفَضِيلَة، كَعَدم الْإِضْرَار بِالنَّفسِ أَو الْغَيْر، والرأفة على الضَّعِيف، وَالسَّعْي وَرَاء الْعلم النافع، وَالْكَسْب تتبادل الْأَعْمَال، والاعتدال فِي الْأُمُور، والإنصاف فِي الْمُعَامَلَات، وَالْعدْل فِي الحكم، وَالْوَفَاء بالعهد، إِلَى غير ذَلِك من الْقَوَاعِد الشَّرِيفَة الْعَامَّة. وَهَذِه مُقَدّمَة ثَانِيَة. وَيتَفَرَّع عَن هَاتين المقدمتين بعض مسَائِل مهمة، يَنْبَغِي أَيْضا إفرادها فِي الْبَحْث تباعا وإشباعاً. مِنْهَا أَن أصل الْإِيمَان بِوُجُود الصَّانِع أَمر فطري فِي الْبشر كَمَا تقدم، فَلَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى الرُّسُل، وَإِنَّمَا حَاجتهم إِلَيْهِم فِي الاهتداء إِلَى كَيْفيَّة الْإِيمَان بِاللَّه كَمَا يجب من التَّوْحِيد والتنزيه. وَهَؤُلَاء قوم نوح، وَقوم إِبْرَاهِيم، وجاهلية الْعَرَب، وَالْيَهُود

وَالنَّصَارَى، ومجوس فَارس، ووثنيو الْهِنْد والصين، ومتوحشو إفريقيا وأمريكا وَسَائِر الْبشر، كلهم كَانُوا وَلَا زَالُوا أهل فطْرَة دينية يعْرفُونَ الله، وَلَيْسَ فيهم من يُنكره كليا كَمَا قَالَ عز من قَائِل: (وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ) . ويل الْبشر، يغلب عَلَيْهِم الْإِشْرَاك بِاللَّه، فيخصصونه تَعَالَى شَأْنه بتدبير الْأُمُور الْكُلية والشؤون الْعِظَام كالخالقية وتقسيم الأرزاق والآجال، كَأَنَّهُمْ يجلونه عَن تَدْبِير الْأُمُور الْجُزْئِيَّة، ويتوهمون أَن تَحت أمره مقربين وأعوانا ووسائط من مَلَائِكَة وجن وأرواح، وَبشر وحيوانات، وَشَجر وَحجر؛ وَأَنه جعل لَهُم وللنواميس الكونية من أفلاك وطبائع، وللحالات النفسية من سحر وَتوجه فكر، دخلا وتأثيراً فِي تَدْبِير الْأُمُور الْجُزْئِيَّة إيقاعاً أَو منعا، وَأَعْطَاهُمْ شَيْئا من الْقُوَّة القدسية وَعلم الْغَيْب. وتوهمهم هَذَا نَاشِئ عَن قياسهم ملكوت ذِي الجبروت على إدارة الْمُلُوك فِي اختصاصهم بتدبير مهمات الْأُمُور، وتفويضهم مَا دون ذَلِك للعمال والأعوان، واستعانتهم بِالْإِخْصَاءِ والخدام، وربطهم مجْرى الْأَعْمَال بالقوانين والنظامات (مرحى) . وَمن تتبع تواريخ الْأُمَم الغابرة وأفكار الْأُمَم الْحَاضِرَة، لَا يستريب فِيمَا قَرَّرْنَاهُ من أَن آفَة الْبشر الشّرك الَّذِي أوضحناه

فَقَط، وَكفى بِالْقُرْآنِ برهانا، فقد قَالَ الله تَعَالَى {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله} . وَقَالَ تَعَالَى {بل إِيَّاه تدعون} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تدعوا مَعَ الله أحدا} . وَقَالَ تَعَالَى {من ذَا الَّذِي يشفع عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ} . إِلَى غير ذَلِك من الْآيَات الْبَينَات المثبتة أَن زيغ الْبشر هُوَ الْإِشْرَاك من بعض الْوُجُوه فَقَط، لَا الْإِنْكَار وَلَا الْإِشْرَاك الْمُطلق، لِأَن الْعقل البشري مهما تسفل لَا ينزل دَرَجَة الشّرك الْمُطلق. بِنَاء عَلَيْهِ جرت عَادَة الله تَعَالَى جلت حكمته أَن يبْعَث الرُّسُل، ينقذون النَّاس من ضَلَالَة الشّرك، وينتشلونهم من وهدة شَره فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، ويهدونهم إِلَى رَأس الْحِكْمَة أَي (معرفَة الله) حق مَعْرفَته لكَي يعبدوه وَحده، وَبِذَلِك تتمّ حجَّته عَلَيْهِم، ويملكون حريتهم الَّتِي تحميهم من أَن يَكُونُوا أرقاء أذلاء لِأَلف شَيْء من أَرْوَاح وأجسام وأوهام، فثمرة الْإِيمَان بِأَن (لَا إِلَه إِلَّا الله) عتق الْعُقُول من الإسارة، وَثَمَرَة الإذعان بِأَن (مُحَمَّدًا رَسُول الله) اتِّبَاعه حَقًا فِي شَرِيعَته الَّتِي تحول بَين الْمُسلم وَبَين نزوعه إِلَى الشّرك، وتنيله سَعَادَة الدَّاريْنِ. ثمَّ أَن الْإِنْسَان، قتل مَا أكفره وقبح مَا أجهله، لَا يَهْتَدِي

إِلَى التَّوْحِيد إِلَّا بِجهْد عَظِيم، ويندفع أَو ينقاد بِشعرِهِ إِلَى الشّرك، فيتلبس بِهِ على مَرَاتِب ودرجات فِي اعْتِقَاد وجود قُوَّة قدسية ترجى وتتقي فِي غير الله، أَو تبعا لله، ذاهلاً عَن انه لَو كَانَ فِي الأَرْض أَو فِي السَّمَاء آلِهَة غير الله، أَي أَصْحَاب قُوَّة تصرف فِي شَيْء وَلَو فِي تَحْرِيك ذرة رمل، لفسدتا. فَالنَّاس سريعو الْأَعْرَاض عَن ذكر الله، إِلَى ذكر من يتوهمون فيهم أَنهم شُرَكَاء وأنداد الله، فيعبدونهم، أَي يعظمونهم، ويخضعون لَهُم، ويدعونهم، ويستمدون مِنْهُم، ويرفعون حاجاتهم إِلَيْهِم، ويرجون عِنْد ذكر أسمائهم الْخَيْر، ويتوقعون من سخطهم الشَّرّ، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَمن أعرض عَن ذكري فَإِن لَهُ معيشة ضنكا} ، وَالله صَادِق الْوَعْد نَافِذ الحكم. وَفِي الْوَاقِع، وبالضرورة والطبع، لَا معيشة أَشد ضنكا من معيشة الْمُشْركين الَّذين وَصفهم الله عز وَجل بِأَنَّهُم لأَنْفُسِهِمْ ظَالِمُونَ، فَقَالَ: {إِن الشّرك لظلم عَظِيم} ، وَقَالَ: {وَلَا يظلم رَبك أحدا} . وَهَذَا زيد بن عَمْرو بن نفَيْل، الْحَكِيم الجاهلي، ضجر من الشّرك فَقَالَ من أَبْيَات لَهُ: (أربا وَاحِدًا أم ألف رب ... أدين إِذا تقسمت الْأُمُور) (تركت اللات والعزى جَمِيعًا ... كَذَلِك يفعل الرجل الْخَبِير) وَمثل الْحَيَاة الأدبية فِي الْمُوَحِّدين وَالْمُشْرِكين: كبلد سُلْطَانه

حَكِيم قاهر، بَابه مَفْتُوح لكل مراجع، وَينفذ قانوناً وَاحِدًا، وَلَا يصغي لساع وَلَا لشفيع، وَلَا يُشَارِكهُ فِي حكمه أحد. وبلد آخر سُلْطَانه جبان مغلوب على أمره، نَالَ مِنْهُ متقربوه المتعاكسون وأعوانه المتشاكسون مَرَاتِب من الْكَرَامَة ونفوذ الْكَلِمَة عِنْده، واحرزوا سلطة استقضائه مَا يشاءون من حوائج خير لذويهم، أَو دفع شَرّ عَن اتباعهم، فَهَل يَسْتَوِي أهل البلدين؟ كلا، لَا تستوي السَّعَادَة والشقاء، وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى فَإِنَّهُ جلت عَظمته لَا يرضى أَن يُشَارِكهُ فِي ملكه أحد، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء وَمن يُشْرك بِاللَّه فقد ضل ضلالا بَعيدا} . وَلَا شكّ أَن الشّرك من اكبر الْفُجُور وَعمل السوء، وَقد قَالَ تَعَالَى: {إِن الْفجار لفي جحيم} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمن يعْمل سوءا يجز بِهِ} . وَمَا الْجَحِيم والمجازاة خاصان بِالآخِرَة بل يشملان الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. ثمَّ أَقُول: فَإِذا أَرَادَ الْمُسلم أَن يعلم مَا هُوَ الشّرك المشؤوم عِنْد الله، بِمُقْتَضى مَا عرفه إِيَّاه فِي كِتَابه الْمُبين، يلْزم أَن يعرف مَا هُوَ مَدْلُول أَلْفَاظ: (إِيمَان، وَإِسْلَام، وَعبادَة، وتوحيد، وشرك) فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة الَّتِي هِيَ لُغَة الْقُرْآن، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: (أَنا جَعَلْنَاهُ

قُرْآنًا عَرَبيا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم فيضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} . فَإِذا علم الْمُسلم معنى هَذِه الْأَلْفَاظ، وَأَرَادَ أَن يمتثل أَمر ربه بِأَن لَا يتَعَدَّى حُدُود الله، يتَعَيَّن حِينَئِذٍ عِنْده مَا هُوَ مُرَاد الله بالشرك الَّذِي لَا يرضاه، الَّذِي أشْفق وأخاف علينا نَبينَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من الْوُقُوع فِيهِ فَقَالَ: {أَن أخوف مَا أَخَاف عَلَيْكُم الشّرك} . وَمن يبْحَث عَمَّا ذكر من الْأَلْفَاظ، يجد أَن أهل اللُّغَة مجمعون على أَن الْمَدْلُول للفظ (الْإِيمَان) الطَّاعَة وَالتَّسْلِيم بِدُونِ اعْتِرَاض، وللفظة (الْعِبَادَة) التذلل والخضوع؛ وللفظه (التَّوْحِيد) الْعلم بِأَن الشَّيْء وَاحِد، ومضافة إِلَى الله نفي الأنداد والأشباه عَنهُ. وَمن هَذِه الْمَادَّة الْوَاحِد والأحد، صفتان لله، مَعْنَاهُمَا الْمُنْفَرد الَّذِي لَا نَظِير لَهُ أَو لَيْسَ مَعَه غَيره. وأصل معنى مَادَّة الشّرك لُغَة الْخَلْط، واستعمالا اسْم للإشراك بِاللَّه. فِي اصْطِلَاح الْمُؤمنِينَ الْإِشْرَاك بِاللَّه فِي (ذَاته) أَو (ملكه) أَو (صِفَاته) . ثمَّ إِذا وزعنا اعتقادات من وَصفهم الله تَعَالَى بالشرك فِي كِتَابه الْعَزِيز على هَذِه الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة، نجد مَظَنَّة (الْإِشْرَاك فِي الذَّات) قَائِمَة فِي اعْتِقَاد الْحُلُول، وَهُوَ أَنه، تَعَالَى شَأْنه عَمَّا يصفونَ، أفنى

أَو يفني بعض الْأَشْخَاص فِي ذَاته، كَقَوْل النَّصَارَى فِي عِيسَى وَمَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَقَول عُلَمَائِنَا فِي وحدة الْوُجُود، وَهَذَا النَّوْع من الشّرك عسر التَّصَوُّر والتفريق حَتَّى عِنْد أساطين أَهله، وَلذَلِك يُسَمِّيه النَّصَارَى حَقِيقَة سَرِيَّة، ويسميه عُلَمَاؤُنَا حَقِيقَة ذوقية (مرحى) . أما مظنات (الْإِشْرَاك فِي الْملك) : فَيدْخل تحتهَا اعْتِقَاد اخْتِصَاص بعض المخلوقين بتدبير بعض الشؤون الكونية، كاعتقاد الْيَهُود فِي ملك الْمَوْت، وكاعتقاد بعض النَّاس تصرف غير لله فِي شَيْء من شؤون الْكَوْن، كَقَوْل من يَقُول: فلَان عَلَيْهِ دَرك الْبر أَو الْبَحْر، أَو الشَّام أَو مصر. وَأما مظنات (الْإِشْرَاك فِي الصِّفَات) : فَهِيَ الِاعْتِقَاد فِي مَخْلُوق انه متصف بِشَيْء من صِفَات الْكَمَال من الْمرتبَة الْعليا، الَّتِي لَا تنبغي إِلَّا لواجب الْوُجُود جلت شؤونه. وَهَذَا النَّوْع الثَّالِث اكثر شيوعاً من النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلين لثَلَاثَة أَسبَاب: الأول: كَون غير الأحدية والخالقية، وَنَحْوهَا من الصِّفَات الْخَاصَّة بِاللَّه تَعَالَى، صِفَات مُشْتَركَة يعسر على غير الْعلمَاء الرَّاشِدين

تَمْيِيز الْحَد الْفَارِق بَين مراتبها فِي المخلوقين، وَبَين مراتبها المختصة بِهِ تَعَالَى. الثَّانِي: مَا نطقت بِهِ الشَّرَائِع من تَفْوِيض الله تَعَالَى بعض الْأُمُور إِلَى الْمَلَائِكَة، واستجابة دُعَاء المقربين، وإكرامه تَعَالَى بعض عباده الصَّالِحين، ووعده بِقبُول شَفَاعَة من يَأْذَن لَهُم بهَا يَوْم الْقِيَامَة، فَالْتبسَ على الجهلاء التَّفْرِيق بَين هَذِه وَبَين التَّصَرُّف. الثَّالِث: هُوَ كَون التَّعْظِيم مدرجة طبيعية للإغراق والتغالي، ومطية سريعة السّير لَا يلتوي عنانها عَن تجَاوز الْحُدُود إِلَّا برغم الطَّبْع وتوفيق الله، وَلذَلِك قاسى الرُّسُل ألو الْعَزْم الشدائد فِي كبح جماح النَّاس عَن إشراكهم معظميهم مَعَ الله فِي مرتبَة بعض صِفَاته الْعليا، وركبوا متون المصاعب والعزائم فِي إرجاع النَّاس إِلَى حد الِاعْتِدَال؛ وشددوا النكير على إطراء النَّاس إيَّاهُم؛ وحذروا وانذروا من مقاربة مظان الشّرك، حَتَّى الْخَفي الَّذِي يدب دَبِيب النَّمْل. وَمن الْمَعْلُوم عندنَا أَن نَبينَا عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام لبث عشرَة أَعْوَام يقاسي الْأَهْوَال فِي دَعوته النَّاس إِلَى التَّوْحِيد فَقَط، وسمى أمته الْمُوَحِّدين، وَأنزل الله الْقُرْآن ربعه فِي التَّوْحِيد؛ وتأسس دين الله على كلمة (لَا إِلَه إِلَّا الله) و، وَجعلت أفضل الذّكر

لحكمة أَن الْمُسلم مهما رسخ فِي الْإِيمَان، يبْقى مُحْتَاجا إِلَى نفي الشّرك عَن فكره احتياجاً مستمراً، وَذَلِكَ لما قُلْنَا من شدَّة ميل الْإِنْسَان إِلَى الشّرك، ولشدة التباسه عَلَيْهِ ولشدة قربه مِنْهُ طبعا، فنسأل الله تَعَالَى الحماية (مرحى) . وَمَا هَذَا خَاص بِالْمُسْلِمين، بل مَضَت الْأُمَم كلهَا، لم يكد يفارقها رسلها الْكِرَام إِلَّا وَوَقعت فِي الشّرك، كقوم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فارقهم أَرْبَعِينَ لَيْلَة فاتخذوا الْعجل (مرحى) . ثمَّ إِذا انقلبنا فِي الْبَحْث إِلَى مَا هُوَ الشّرك فِي نظر الْقُرْآن وَأَهله لنتقيه، نجد أَن الله تَعَالَى قَالَ فِي حق الْيَهُود وَالنَّصَارَى: {اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله} . مَعَ أَنه لم يُوجد من قبل وَلَا من بعد من الْأَحْبَار والرهبان من أدعى الْمُمَاثلَة، وَنَازع الله الخالقية أَو الْإِحْيَاء أَو الإماتة كَمَا يَقْتَضِيهِ انحصار معنى الربوبية عِنْد الْعَامَّة من الْإِسْلَام، حَسْبَمَا تلقوهُ من مروجي الشّرك بالتأويل وَالْإِيهَام، بل الْأَحْبَار والرهبان إِنَّمَا شاركوا الله تَعَالَى فِي التشريع الْمُقَدّس فَقَط، فَقَالُوا هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام، فَقبل مِنْهُم اتباعهم ذَلِك، فوصفهم الله أَنهم اتَّخذُوا أَرْبَابًا من دون الله. ونجد أَيْضا أَن الله تَعَالَى سمى قُريْشًا مُشْرِكين، مَعَ أَنه وَصفهم

بقوله: {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله} أَي يخصصون الخالقية بِاللَّه، وَوصف توسلهم بالأصنام إِلَى الله بِالْعبَادَة فَحكى عَنْهُم قَوْلهم: {مَا نعبدهم إِلَّا ليقربونا إِلَى الله زلفى؛ والمعظمة من الْمُسلمين يظنون أَن هَذِه الدرجَة الَّتِي هِيَ التوسل لَيست من الْعِبَادَة وَلَا من الشّرك؛ ويسمون المتوسل بهم وسائط، وَيَقُولُونَ أَنه لَا بُد من الْوَاسِطَة بَين العَبْد والرب، وَإِن الْوَاسِطَة لَا تنكر. وَيعلم من ذَلِك أَن مُشْركي قُرَيْش مَا عبدُوا أصنامهم لذاتها، وَلَا لاعتقادهم فِيهَا الخالقية وَالتَّدْبِير، بل اتَّخَذُوهَا قبْلَة يعظمونها بندائها وَالسُّجُود أمامها، أَو ذبح القرابين عِنْدهَا، أَو النّذر لَهَا على أَنَّهَا تماثيل رجال صالحين كَانَ لَهُم قرب من الله تَعَالَى وشفاعة عِنْده، فيحبون هَذِه الْأَعْمَال الاحترامية مِنْهُم فينفعونهم بشفاء مَرِيض أَو إغناء فَقير وَغير ذَلِك، وَإِذا حلفوا بِأَسْمَائِهِمْ كذبا أَو أخلوا فِي احترام تماثيلهم يغضبون، فيضرونهم فِي أنفسهم وَأَوْلَادهمْ وَأَمْوَالهمْ. ونجد أَن الله تَعَالَى قَالَ (فَلَا تدعوا مَعَ الله أحدا} ، وَاصل معنى الدُّعَاء النداء، ودعا الله: ابتهل إِلَيْهِ بالسؤال واستعان بِهِ،

وَالدَّلِيل الكاشف لهَذَا الْمَعْنى هُوَ قَوْله تَعَالَى: {بل إِيَّاه تدعون فَيكْشف مَا تدعون} ؛ وَكَذَلِكَ أنزل الِاسْتِعَانَة بِهِ مقرونة بِعِبَادَتِهِ فِي قَوْله جلت كَلمته: {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} . وَبِمَا ذكر وَغَيره من الْآيَات الْبَينَات جعل الله هَذِه الْأَعْمَال لقريش شركا بِهِ حَتَّى صرح النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي الْحلف بِغَيْر الله أَنه شرك فَقَالَ: {من حلف بِغَيْر الله فقد أشرك} . وَجعل الله القربان لغيره والإهلال وَالذّبْح على الأنصاب شركا، وَحرم تسييب السوائب والبحائر لما فِيهَا من ذَلِك الْمَعْنى. وَكَانَ الْمُشْركُونَ يحجون لغير بَيت الله بِقصد زِيَارَة محلات لأصنامهم، يتوهمون أَن الْحُلُول فِيهَا يكون تَقْرِيبًا من الْأَصْنَام، فَنهى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أمته على مثل ذَلِك فَقَالَ: (لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد: الْمَسْجِد الْحَرَام، ومسجدي هَذَا، وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى) . بِنَاء عَلَيْهِ لَا ريب أَن هَذِه الْأَعْمَال وأمثالها شرك، أَو مدرجة للشرك (مرحى) . فَلْينْظر الْآن، هَل فَشَا فِي الْإِسْلَام شَيْء من هَذِه الْأَعْمَال وأشباهها فِي الصُّورَة أَو الحكم؟ وَمن لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومه لائم، لَا يرى بدا من التَّصْرِيح بَان حَالَة السوَاد الْأَعْظَم من أهل الْقبْلَة،

فِي غير جَزِيرَة الْعَرَب، تشبه حَالَة الْمُشْركين من كل الْوُجُوه، وَإِن الدّين عِنْدهم عَاد غَرِيبا كَمَا بَدَأَ كشأن غَيرهم من الْأُمَم. فَمنهمْ الَّذين استبدلوا الْأَصْنَام بالقبور، فبنوا عَلَيْهَا الْمَسَاجِد والمشاهد، وأسرجوا لَهَا، وأرخوا عَلَيْهَا الستور، يطوفون حولهَا مُقْبِلين مستلمين أَرْكَانهَا، ويهتفون بأسماء سكانها فِي الشدائد، ويذبحون عِنْدهَا القرابين يهل بهَا عمدا لغير الله، وينذرون لَهَا النذور، ويشدون لِلْحَجِّ إِلَيْهَا الرّحال، ويعلقون بسكانها الآمال، يستنزلون الرَّحْمَة بذكرهم وَعند قُبُورهم، ويرجونهم بإلحاح وخضوع ومراقبة وخشوع أَن يتوسطوا لَهُم فِي قَضَاء الْحَاجَات وَقبُول الدَّعْوَات، وكل ذَلِك من الْحبّ والتعظيم لغير الله، وَالْخَوْف والرجاء من سواهُ. وَمِنْهُم من استعوضوا أَلْوَاح التماثيل عِنْد النَّصَارَى وَالْمُشْرِكين بألواح فِيهَا أَسمَاء معظميهم، مصدرة بالنداء تبركا وذكراً وَدُعَاء، يعلقونها على الجدران فِي بُيُوتهم، بل فِي مَسَاجِدهمْ أَيْضا ويتوجون بهَا الْإِعْلَام من نَحْو: يَا عَليّ، يَا شاذلي، يَا دسوقي، يَا رفاعي يَا بهاء الدّين النقشي، يَا جلال الدّين الرُّومِي، يَا بكتاش ولي.

وَمِنْهُم نَاس يَجْتَمعُونَ لأجل الْعِبَادَة بِذكر الله، ذكرا مشوبا بإنشاد المدائح والمغالاة لشعراء الْمُتَأَخِّرين، الَّتِي أَهْون مَا فِيهَا الإطراء الَّذِي نَهَانَا عَنهُ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] حَتَّى لنَفسِهِ الشَّرِيفَة فَقَالَ: (لَا تطروني كَمَا أطرت الْيَهُود وَالنَّصَارَى أنبياءهم) . وبإنشاد مقامات شيوخية، تغَالوا فِيهَا بالاستغاثة بشيوخهم والاستمداد مِنْهُم بصيغ لَو سَمعهَا مشركو قُرَيْش لكفروهم، لِأَن أبلغ صِيغَة تَلْبِيَة كَانَت لمشركي قُرَيْش قَوْلهم: (لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، لَا شريك لَك غير شريك وَاحِد، تملكه وَمَا ملك) ، وَهَذِه أخف شركا من المقامات الشيوخية الَّتِي يهدرون بهَا إنشاداً بِأَصْوَات عالية مجتمعة، وَقُلُوب محترقة خاشعة كَقَوْلِهِم: (عبد الْقَادِر يَا كيلاني ... يَا ذَا الْفضل وَالْإِحْسَان) (صرت فِي خطب شَدِيد ... من إحسانك لَا تنساني) وَقَوْلهمْ: (اللَّهُمَّ يَا رفاعي إِنِّي ... أَنا المحسوب أَنا الْمَنْسُوب) (رفاعي لَا تضيعني ... أَنا المحسوب أَنا الْمَنْسُوب) إِلَى نَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يشك فِيهِ شَاك أَنه من صَرِيح الْإِشْرَاك الَّذِي يأباه الدّين الحنيف.

وَمِنْهُم جمَاعَة لم يرْضوا بِالشَّرْعِ الْمُبين، فابتدعوا أحكاماً فِي الدّين سَموهَا علم الْبَاطِن، أَو علم الْحَقِيقَة، أَو علم التصوف، علما لم يعرف شَيْئا مِنْهُ الصَّحَابَة والتابعون وَأهل الْقُرُون لأولى الْمَشْهُود لَهُم بِالْفَضْلِ فِي الدّين. علما نزعوا مسائلة من تأويلات الْمُتَشَابه من الْقُرْآن، مَعَ أَن الله تَعَالَى امرنا أَن نقُول فِي الْمُتَشَابه مِنْهُ (آمنا بِهِ، كل من عِنْد رَبنَا) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله} ، وَقَالَ عز شَأْنه فِي حَقهم: {وَإِذا رَأَيْت الَّذين يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا فَأَعْرض عَنْهُم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَقَالَ تَعَالَى {فاستقم كَمَا أمرت} وَقَالَ تَعَالَى: {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن تصيبهم فتْنَة} . وانتزع هَؤُلَاءِ المداجون أَيْضا بعض تِلْكَ المزيدات من مشكلات الْأَحَادِيث والْآثَار، وَمِمَّا جَاءَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام من قَول على سَبِيل الْحِكَايَة، أَو عمل على سَبِيل الْعَادة، أَي لم يكن ذَلِك مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام على سَبِيل التشريع، أَو من الْأَحَادِيث الَّتِي وَضعهَا أساطينهم أغراباً فِي الدّين لأجل جذب الْقُلُوب، كَمَا ورد فِي الحَدِيث وَمَعْنَاهُ: (يفتح بِالْقُرْآنِ على النَّاس حَتَّى يقرأه الْمَرْأَة وَالصَّبِيّ وَالرجل، فَيَقُول الرجل قد قَرَأت الْقُرْآن فَلم أتبع، لأقومن بِهِ

فيهم لعَلي اتبع، فَيقوم بِهِ فيهم فَلَا يتبع؛ فَيَقُول قد قَرَأت الْقُرْآن وَقمت بِهِ فَلم اتبع، لأحتظرن فِي بَيْتِي مَسْجِدا لعَلي اتبع، فيحتظر فِي بَيته مَسْجِدا فَلَا يتبع، فَيَقُول قد قَرَأت الْقُرْآن وَقمت بِهِ واحتظرت فِي بَيْتِي مَسْجِدا فَلم اتبع، وَالله لآتينهم بِحَدِيث لَا يجدونه فِي كتاب الله وَلم يسمعوه عَن رَسُول الله لعَلي اتبع) . وَمِنْهُم فِئَة اخترعوا عبادات وقربات لم يَأْتِ بهَا الْإِسْلَام، وَلَا عهد لَهُ بهَا إِلَى أَوَاخِر الْقرن الرَّابِع؛ فَكَأَن الله تَعَالَى ترك لنا ديننَا نَاقِصا فهم أكملوه، أَو كَأَن الله جلّ شَأْنه لم ينزل يَوْم حجَّة الْوَدَاع: (الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ، وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي، ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا) . أَو كَأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لم يتمم كَمَا يَزْعمُونَ تَبْلِيغ رسَالَته، فهم أتموها لنا، أَو كتم شَيْئا من الدّين وَأسر بِهِ إِلَى بعض أَصْحَابه وهم أَبُو بكر وَعلي وبلال رَضِي الله عَنْهُم، وَهَؤُلَاء اسروا بِهِ إِلَى غَيرهم؛ وَهَكَذَا تسلسل حَتَّى وصل إِلَيْهِم، فأفشوه لمن أَرَادوا من الْمُؤمنِينَ، تَعَالَى الله وَرَسُوله عَمَّا يأفكون. وَهل لَيْسَ من الْكفْر بِإِجْمَاع الْأمة اعْتِقَاد أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام نقص التَّبْلِيغ، أَو كتم أَو أسر شَيْئا من الدّين (مرحى) .

وَمِنْهُم جمَاعَة اتَّخذُوا دين الله لهوا وَلَعِبًا، فَجعلُوا مِنْهُ التغنى والرقص، ونقر الدفوف ودق الطبول، وَلبس الْأَخْضَر والأحمر، واللعب بالنَّار وَالسِّلَاح والعقارب، والحيات، يخدعون بذلك البسطاء ويسترهبون الحمقاء. وَمِنْهُم قوم يعتبرون البلادة سِلَاحا، والخمول خيرا، والخبل خشوعاً، والصرع وصُولا، والهذيان عرفانا، وَالْجُنُون مُنْتَهى الْمَرَاتِب السَّبع للكمال. وَمِنْهُم خلفاء كهنة الْعَرَب، يدعونَ علم الْغَيْب بالاستخراج من الجفر والرمل وَأَحْكَام النُّجُوم، أَو الروحاني الزايرجة، أَو الأبجدات، أَو بِالنّظرِ فِي المَاء أَو السَّمَاء والودع، أَو باستخدام الْجِنّ والمردة؛ إِلَى غير ذَلِك من صنائع التَّدْلِيس وَالْإِيهَام والخزعبلات، وَلَيْسَ الْعجب انتشار ذَلِك بَين الْعَامَّة الَّذين هم كالأنعام فِي كل الْأُمَم والأقوام، بل الْعجب دُخُول بعضه على كثير من الْخَواص وَقَلِيل من الْعلمَاء، كَأَنَّهُ من غريز الكمالات فِي دين الْإِسْلَام (مرحى) . أفهذه حالات السوَاد الْأَعْظَم من الْأمة، وَكلهَا أما شرك صراح، أَو مظنات إشراك، حكمهَا فِي الْحِكْمَة الدِّينِيَّة حكم الشّرك بِلَا إِشْكَال. وَمَا جر الْأمة إِلَى هَذِه الْحَالَات الْجَاهِلِيَّة، وبالتعبير

الْأَصَح رَجَعَ بهَا إِلَى الشّرك الأول، إِلَّا الْميل الطبيعي للشرك كَمَا سبق بَيَانه، مَعَ قلَّة عُلَمَاء الدّين، وتهاون الْمَوْجُودين فِي الْهدى والإرشاد. نعم رد الْعَامَّة عَن ميلها أَمر غير هَين، وَقد شبه النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام معاناته النَّاس فِيهِ بقوله: (مثلي كَمثل رجل استوقد نَارا، فَلَمَّا أَضَاءَت مَا حولهَا جعل الْفراش وَهَذِه الدَّوَابّ الَّتِي تقع فِي النَّار يقعن فِيهَا، وَجعل يحجزهن ويغلبنه، فيقتحمن فِيهَا، فَأَنا آخذ بِحُجزِكُمْ عَن النَّار وَأَنْتُم تقحمون فِيهَا) . وَقد قَالَ الله تَعَالَى فِي الْعلمَاء المتهاونين عَن الْإِرْشَاد كَيْلا يقابلوا النَّاس بِمَا لَا يهوون: {إِن الَّذين يكتمون مَا أنزل الله من الْكتاب ويشترون بِهِ ثمنا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُون فِي بطونهم إِلَّا النَّار} وَقَالَ الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : (لما وَقعت بَنو إِسْرَائِيل فِي الْمعاصِي: نهتهم علماؤهم فَلم ينْتَهوا، فجالسوهم فِي مجَالِسهمْ، وآكلوهم وشاربوهم فَضرب الله قُلُوب بَعضهم بِبَعْض، ولعنهم على لِسَان دَاوُد وَعِيسَى ابْن مَرْيَم، ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون) . بِنَاء عَلَيْهِ فالتبعة كل التبعة على الْعلمَاء الرَّاشِدين، وَلم يزل وَالْحَمْد لله فِي الْقوس منزع، وَلم يستغرقنا بعد انتزاع الْعلمَاء بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا أنذرنا

بِهِ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَوْله: (إِن الله لَا يقبض الْعلم انتزاعا من النَّاس، وَلَكِن يقبض الْعلمَاء، حَتَّى إِذا لم يبْق عَالم اتخذ النَّاس رُؤَسَاء جهلاء، فسئلوا فأفتوا بِغَيْر علم فضلوا وأضلوا) ، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه. ثمَّ قَالَ: ولننتقل من بحث الشّرك والإعراض عَن ذكر الله إِلَى بَيَان أَسبَاب التَّشْدِيد فِي الدّين، وَحَالَة التشويش الْوَاقِع فِيهِ الْمُسلمُونَ فَأَقُول: قد وجد فِينَا عُلَمَاء كَانَ أحدهم يطلع فِي الْكتاب أَو السّنة على أَمر أَو نهي فيتلقاه على حسب فهمه، ثمَّ يعدي الحكم إِلَى أَجزَاء الْمَأْمُور بِهِ أَو الْمنْهِي عَنهُ، أَو إِلَى دواعيه، أَو إِلَى مَا يشاكله وَلَو من بعض الْوُجُوه، وَذَلِكَ رَغْبَة مِنْهُ فِي أَن يلْتَمس لكل أَمر حكما شَرْعِيًّا، فتختلط الْأُمُور فِي فكره، وتشبه عَلَيْهِ الْأَحْكَام، وَلَا سِيمَا من تعَارض الرِّوَايَات، فيلتزم الأشد وَيَأْخُذ بالأحوط ويجعله شرعا، وَمِنْهُم من توسع فَصَارَ يحمل كل مَا فعله أَو قَالَه الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام على التشريع وَالْحق؛ كَمَا سبق لنا ذكره أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ وَفعل أَشْيَاء كَثِيرَة على سَبِيل الِاخْتِصَاص أَو الْحِكَايَة أَو الْعَادة،. وَمِنْهُم من تورع فَصَارَ لَا يرى لُزُوما لتحقيق معنى

الْآيَة أَو للتثبت فِي الحَدِيث إِذا كَانَ الْأَمر من فَضَائِل الْأَعْمَال، فَيَأْخُذ بالأحوط، فَيعْمل بِهِ، فَيَقَع فِي التَّشْدِيد، ويظن النَّاس مِنْهُ ذَلِك ورعا وتقوى ومزيد علم واعتناء بِالدّينِ، فيميلون إِلَى تَقْلِيده، ويرجحون فتواه على غَيره. وَهَكَذَا بالتمادي عظم التَّشْدِيد فِي الدّين حَتَّى صَار أصراً وإغلالاً، فكأننا لم تقبل مَا من الله بِهِ علينا من التَّخْفِيف فَوضع عَنَّا مَا كَانَ على غَيرنَا من ثقيل التَّكْلِيف، قَالَ تَعَالَى شَأْنه وجلت حكمته: {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} . وَقَالَ مبشراً جلت منته: {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم} ، أَي يُخَفف عَنْهُم التكاليف الثَّقِيلَة، وَعلمنَا كَيفَ نَدْعُوهُ بعد أَن بَين لنا أَنه: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} فَنَقُول: {رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا رَبنَا وَلَا تحمل علينا إصرا كَمَا حَملته على الَّذين من قبلنَا} ؛ وامرنا بقوله تَعَالَى: {لَا تغلوا فِي دينكُمْ} . وَقد ورد فِي الحَدِيث: (لن يشاد الدّين أحد إِلَّا غَلبه} وَفِي حَدِيث آخر: (هلك المتنطعون) أَي المتشددون فِي الدّين. وَظن بعض الصَّحَابَة أَن ترك السّحُور أفضل بِالنّظرِ إِلَى حِكْمَة تشريع الصّيام، فنهاهم النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام عَن ظن الْفَضِيلَة فِي تَركه. وَقَالَ

عمر، رَضِي الله عَنهُ، فِي حُضُور رَسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لمن أَرَادَ أَن يصل النَّافِلَة بِالْفَرْضِ {بِهَذَا هلك من قبلكُمْ} ، فَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: (أصَاب الله بك يَا ابْن الْخطاب) . وَأنكر النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام على عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ الْتِزَامه قيام اللَّيْل وَصِيَام النَّهَار وَاجْتنَاب النِّسَاء وَقَالَ لَهُ: (أرغبت عَن سنتي) . فَقَالَ: بل سنتك أبغي، قَالَ: (فَإِنِّي أَصوم وَأفْطر وأصلي وأنام وأنكح النِّسَاء، فَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني) . وَقد كَانَ عُثْمَان بن مَظْعُون وَأَصْحَابه عزموا على سرد الصَّوْم وَقيام اللَّيْل والاختصاء، وَكَانُوا حرمُوا الْفطر على أنفسهم ظنا أَنه قربه إِلَى رَبهم، فنهاهم الله عَن ذَلِك لِأَنَّهُ غلو فِي الدّين واعتداء عَمَّا شرع فَأنْزل: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم وَلَا تَعْتَدوا إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ} ، أَي أَنه لَا يحب من اعْتدى حُدُوده وَمَا رسمه من اقتصاد فِي أُمُور الدّين. وَقد ورد فِي الحَدِيث الصَّحِيح قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، مَا تركت شَيْئا يقربكم من الْجنَّة ويباعدكم من النَّار إِلَّا أَمرتكُم بِهِ. وَمَا تركت شَيْئا يقربكم من النَّار ويباعدكم من الْجنَّة إِلَّا نَهَيْتُكُمْ عَنهُ) . فَإِذا كَانَ الشَّارِع يَأْمُرنَا بِالْتِزَام مَا وضع لنا من

الْحُدُود فَمَا معنى نَظرنَا الْفَضِيلَة فِي الْمَزِيد؟ وَورد فِي حَدِيث البُخَارِيّ: (أَن اعظم الْمُسلمين جرما من سَأَلَ عَن شَيْء لم يحرم فَحرم من اجل مَسْأَلته) ، وبمقتضى هَذَا الحَدِيث مَا أَحَق بعض الْمُحَقِّقين المتشددين بِوَصْف الْمُجْرمين؟ وَهَذِه مَسْأَلَة السِّوَاك مثلا، فَإِنَّهُ ورد عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِيهَا أَنه قَالَ: (لَوْلَا أَن اشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ) . فَهَذَا الحَدِيث مَعَ صراحته فِي ذَاته أَن السِّوَاك لَا يتَجَاوَز حد النّدب، جعله الْأَكْثَرُونَ سنة، وخصصه بَعضهم بِعُود الْأَرَاك، وعمم بَعضهم الإصبع وَغَيرهَا بِشَرْط عدم الإدماء؛ وَفصل بَعضهم أَنه إِذا قصر عَن شبر، وَقيل فتر، كَانَ مُخَالفا للسّنة. وتفنن آخَرُونَ بِأَن من السّنة أَن تكون فَتحته مِقْدَار نصف الْإِبْهَام وَلَا يزِيد عَن غلظ أصْبع؛ وَبَين بَعضهم كَيْفيَّة اسْتِعْمَاله فَقَالَ: يسند بباطن رَأس الْخِنْصر؛ ويمسك بأصابع الْوُسْطَى، ويدعم بالإبهام قَائِما. وَفصل بَعضهم أَن يبْدَأ بإدخاله مبلولاً فِي الشدق الْأَيْمن، ثمَّ يراوحه ثَلَاثًا، ثمَّ يتفل، وَقيل يتمضمض؛ ثمَّ يراوحه ويتمضمض ثَانِيَة، وَهَكَذَا يفعل مرّة ثَالِثَة.

وَبحث بَعضهم فِي أَن هَذِه الْمَضْمَضَة هَل تَكْفِي عَن سنة الْمَضْمَضَة فِي الْوضُوء أم لَا؟ وَمن قَالَ لَا تَكْفِي احْتج بِنُقْصَان الغرغرة؛ وَاخْتلفُوا فِي أَوْقَات اسْتِعْمَاله فِي الْيَوْم مرّة أَو عِنْد كل وضوء، أَو عِنْد تِلَاوَة الْقُرْآن أَيْضا، حَتَّى الْبَعْض صَارُوا يتبركون بِعُود الْأَرَاك يخللون بِهِ الْفَم يَابسا. وَالْبَعْض يعدون لَهُ كثيرا من الْخَواص، مِنْهَا إِنَّه إِذا وضع قَائِما يركبه الشَّيْطَان؛ وَالْبَعْض خَالف فَقَالَ: بل إِذا ألقِي يُورث لمستعمله الجذام؛ وَكثير من الْعَامَّة يتَوَهَّم السِّوَاك بالأراك من شَعَائِر دين الْإِسْلَام. إِلَى غير هَذَا من مبَاحث التَّشْدِيد والتشويش المؤديين إِلَى التّرْك، على عكس مُرَاد الشَّارِع عَلَيْهِ السَّلَام من النّدب إِلَى تعهد الْفَم بالتنظيف كَيْفَمَا كَانَ. ثمَّ قَالَ الْعَالم النجدي: هَذَا مَا ألهمني رَبِّي بَيَانه فِي هَذَا الْمَوْضُوع وَرُبمَا كَانَ لي فِيهِ سقطات، وَلَا سِيمَا فِي نظر السادات الشَّافِعِيَّة من الإخوان كالعلامة الْمصْرِيّ والرياضي الْكرْدِي؛ لِأَن غَالب الْعلمَاء الشَّافِعِيَّة محسنون الظَّن بغلاة الصُّوفِيَّة، ويلتمسون لَهُم الْأَعْذَار، وهم لَا شكّ أبْصر بهم منا معاشر أهل الجزيرة، لفقدانهم بَين أظهرنَا كليا ولندرتهم فِي سواحلنا؛ وَلَوْلَا سياحتي فِي بِلَاد مصر والغرب وَالروم وَالشَّام لما عرفت أَكثر مَا ذكرت وَأنْكرت إِلَّا عَن سَماع،

ولكنت أقرب لتحسين الظَّن. وَلَكِن مَا بعد العيان لتحسين الظَّن مجَال، وَمَا بعد الْهدى إِلَّا الضلال، فنسأل الله تَعَالَى أَن يلهمنا سَوَاء السَّبِيل. فَأَجَابَهُ الْعَلامَة الْمصْرِيّ: أَن أَكثر الصُّوفِيَّة من رجال مَذْهَبنَا، وَنحن معاشر الشَّافِعِيَّة نتأول لَهُم كثيرا مِمَّا يُنكره ظَاهر الشَّرْع ونلتمس لَهُ وُجُوهًا وَلَو ضَعِيفَة، لأننا نرى مؤسسي التصوف الْأَوَّلين كالجنيد وَابْن سبعين من احسن الْمُسلمين حَالا وقولا. وَفِيمَا يلوح لي أَن منشأ ذَلِك فِينَا جملَة أُمُور مِنْهَا: كَون عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة بعيدين عَن الأمامة والسياسة الْعَامَّة إِلَّا عهدا قَصِيرا؛ وَمِنْهَا كَون الْمَذْهَب الشَّافِعِي مؤسسا على الْأَحْوَط والأكمل فِي الْعِبَادَات والمعاملات، أَي على العزائم دون الرُّخص؛ وَمِنْهَا كَون الْمَذْهَب مَبْنِيا على مزِيد الْعِنَايَة فِي النيات. بِنَاء عَلَيْهِ، فالشافعي فِي شغل شاغل بخويصة نَفسه، وهم مُسْتَمر من جِهَة دينه، ومحمول على تَصْحِيح النيات وتحسين الظنون، وَمن كَانَ كَذَلِك مَال بالطبع إِلَى الزّهْد والإعجاب بالزاهدين، وَحمل أَعمال المتظاهرين بالصلاح على الصِّحَّة وَالْإِخْلَاص. بِخِلَاف الْعلمَاء الْحَنَفِيَّة، فَإِنَّهُم من عهد أبي يُوسُف لم يَنْقَطِع تقلبهم فِي النّظر فِي

الشؤون الْعَامَّة فِي عُمُوم آسيا، وَكَذَا الْمَالِكِيَّة فِي الغرب وإمارات أفريقيا، والحنابلة والزيدية فِي الجزيرة. وَمن لَوَازِم السياسة الحزم، وتغليب سوء الظَّن، وإتقان النَّقْد، وَالْأَخْذ بالجروح، ومحاكمات الشؤون لأجل الْعَمَل بالأسهل الْأَنْسَب. وَقد امتاز أهل الجزيرة فِي هَذَا الْخُصُوص بِأَنَّهُم كَانُوا وَلَا زَالُوا بعيدين عَن التَّوَسُّع فِي الْعُلُوم والفنون، وهم لم يزَالُوا أهل عصبية وصلابة رَأْي وعزيمة، وَقد ورد قَول النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فيهم: (إِن الشَّيْطَان قد آيس إِن يعبده الْمُسلمُونَ فِي جَزِيرَة الْعَرَب وَلَكِن فِي التحريش) أَي إغراء بَعضهم على بعض. وَكَذَلِكَ أهل الجزيرة، لم يزل عِنْدهم بَقِيَّة صَالِحَة كَافِيَة من السليقة الْعَرَبيَّة، فَإِذا قرؤوا الْقُرْآن أَو الحَدِيث أَو الْأَثر أَو السِّيرَة يفهمون الْمَعْنى الْمُتَبَادر باطمئنان، فينفرون من التَّوَسُّع فِي الْبَحْث وَلَا يعيرون سمعا للإشكالات، فَلَا يَحْتَاجُونَ للتدقيقات والأبحاث الَّتِي تسبب التَّشْدِيد والتشويش. وَأما غَيرهم من الْأُمَم الإسلامية فيتلقون الْعَرَبيَّة صَنْعَة ويقاسون العناء فِي اسْتِخْرَاج الْمعَانِي والمفاهيم، وَمن طبيعة كل كَلَام فِي كل لُغَة إِذا مخضته الأذهان تعبت وتشتتت فِيهِ الأفهام. وَرُبمَا جَازَ أَن يُقَال فِي السَّادة الشَّافِعِيَّة، وَلَا سِيمَا فِي عُلَمَاء مصر

مِنْهُم، إِن انطباعهم على سهولة الانقياد سهلت أَيْضا دُخُول الْفُنُون الدِّينِيَّة المستحدثة عَلَيْهِم؛ ووداعة أَخْلَاقهم تأبى عَلَيْهِم إساءة الظَّن مَا أمكن تحسينه، فبناء عَلَيْهِ حازت هَذِه الْفُنُون التصوفية المستحدثة قبولاً عِنْد عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة الْأَوَّلين فَتَبِعهُمْ الْآخرُونَ. هَذَا وَحَيْثُ قُلْنَا أَن من خلق المصريين سهولة الانقياد وَلَا سِيمَا للحق، وَكَذَلِكَ عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة الأكراد كلهم أهل نظر وَتَحْقِيق، فَلَا يصعب حمل الشَّافِعِيَّة على النّظر فِي الْبدع الدِّينِيَّة خُصُوصا مَا يتَعَلَّق مِنْهَا بمظنات الشّرك الجالب للمقت والضنك، وَلَا شكّ أَنهم يمثلون أوَامِر الله فِي قَوْله تَعَالَى: إِنَّمَا كَانَ قَول الْمُؤمنِينَ إِذا دعوا إِلَى الله وَرَسُوله ليحكم بَينهم أَن يَقُولُوا سمعنَا وأطعنا وَأُولَئِكَ هم المفلحون} . وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} . وَقَوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ} . وَقَوله تَعَالَى: {اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء} . هَذَا وَكثير من عُلَمَاء الشَّافِعِيَّة، الأقدمين والمتأخرين، المنتصرون للْمَذْهَب السلَفِي السديد المقاومون للبدع وَالتَّشْدِيد؛ وَالْحق أَن التصوف المتغالى فِيهِ لَا تصح نسبته لمَذْهَب مَخْصُوص

فَهَذَا الشَّيْخ الجيلي رَضِي عَنهُ حنبلي وصوفي. قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: أَن أخانا الْعَالم النجدي يعلم أَن مَا أَفَاضَ بِهِ علينا لَا غُبَار عَلَيْهِ بِالنّظرِ إِلَى قَوَاعِد الدّين وواقع الْحَال، وَكفى بِمَا اسْتشْهد بِهِ من الْآيَات الْبَينَات براهين دامغة، وَللَّه على عباده الْحجَّة الْبَالِغَة. وَعبارَة التَّرَدُّد الَّتِي ختم بهَا خطابة، يتْرك بهَا الحكم لرأي الجمعية، مَا هِيَ إِلَّا نَزعَة من فقد حريَّة الرَّأْي والخطابة فأرجوه وَأَرْجُو سَائِر الإخوان الْكِرَام أَن لَا يتهيبوا فِي الله لومة لائم، ورأي كل منا هُوَ اجْتِهَاده وَمَا على الْمُجْتَهد سَبِيل. وليعلموا أَن رائد جمعيتنا هَذِه الْإِخْلَاص، فَالله كافل بنجاحها، وَغَايَة كل منا إعزاز كلمة الله وَالله ضَامِن إعزازه، قَالَ تَعَالَى: {إِن تنصرُوا الله ينصركم} . نعم هَذَا النَّوْع من الْإِرْشَاد، أَعنِي الانتقاد على الِاعْتِقَاد، هُوَ شَدِيد الوقع والصدع على التائهين فِي الوهلة الأولى، لِأَن الآراء الاعتقادية مؤسسة غَالِبا على الوارثة والتقليد دون الِاسْتِدْلَال وَالتَّحْقِيق، وَجَارِيَة على التعاند دون التقانع. على أَن أَعْضَاء جمعيتنا هَذِه وكافة عُلَمَاء الْهِدَايَة فِي الْأمة، يشربون وَالْحَمْد لله من عين وَاحِدَة هِيَ عين الْحق الظَّاهِر الباهر الَّذِي لَا يخفى على أحد. فَكل مِنْهُم يختلج فِي

فكره مَا يخالج فكر الآخرين عينة أَو شبهه، لكنه يتهيب التَّصْرِيح بِهِ لغَلَبَة الْجَهْل على النَّاس واستفحال أَمر المدلسين. وَيخَاف من الِانْفِرَاد فِي الانتقاد فِي زمَان فَشَا فِيهِ الْفساد وَعم الْبِلَاد والعباد، وَقل أنصار الْحق وَكثر التخاذل بَين الْخلق. ويسرني وَالله ظُهُور الثَّمَرَة الأولى من جمعيتنا هَذِه، أَعنِي اطمئنان كل منا على إِصَابَة رَأْيه، وإطلاعه على أَن لَهُ فِي الْآفَاق رفاقا يرَوْنَ مَا يرَاهُ ويسرون مسراه، فيقوى بذلك جنانه وينطلق لسانة، فَيحصل على نشاط وعزم فِي إعلاء كلمة الله، وَيُصْبِح غير هياب لوم اللائمين وَلَا تحامل الْجَاهِلين. وَمن الْحِكْمَة اسْتِعْمَال اللين والتدريج والحزم والثبات فِي سياسة الْإِرْشَاد، كَمَا جرى عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاء الْعِظَام عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقد بسطت ذَلِك فِي اجتماعنا الأول، وسنلاحظه فِي قانون الجمعية الدائمة الَّذِي نقرره إِن شَاءَ الله بعد اسْتِيفَاء الْبَحْث فِي طَرِيقه الاستهداء من الْكتاب وَالسّنة فِي اجتماعاتنا الْآتِيَة، أما الْيَوْم فقد انْتهى الْوَقْت وانتصف النَّهَار.

الاجتماع الخامس

الِاجْتِمَاع الْخَامِس يَوْم الْأَحَد الْحَادِي وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة 1316 فِي الْوَقْت الْمعِين فِي الْيَوْم الْمَذْكُور تَكَامل الِاجْتِمَاع واستعدت الْهَيْئَة للمداولة وَالسَّمَاع، وَقَرَأَ كَاتب الجمعية ضبط الجلسة السَّابِقَة حسب الْقَاعِدَة المرعية. قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: سنبحث بعد يَوْمَيْنِ فِي وضع قانون للجمعية الدائمة، وَإِنِّي أرى أَن نفوض للجنة منا من الَّذين سبق لَهُم دُخُول فِي جمعيات علمية، أَو الَّذين لَهُم وقُوف على مباني الجمعيات القانونية وَلَا سِيمَا الغربية الْمَعْرُوفَة باسم (أكاديميات) لتنظم لنا هَذِه اللجنة سانحة قانون نضعها تَحت الْبَحْث فِي الجمعية. وَإِنِّي أكلف لهَذِهِ اللجنة أخانا السَّيِّد الفراتي ليقوم بكتابتها، وأخانا السعيد الإنكليزي ليُفِيد اللجنة عَمَّا يُعلمهُ عَن الأكاديميات وَعَن مجربات جمعيات ليفر بَوْل وَرَأس الرَّجَاء، وإخواننا الْعَلامَة الْمصْرِيّ

والصاحب الْهِنْدِيّ والمدقق التركي وَهَذَا يرأسهم لِأَنَّهُ أسنهم، وَهَؤُلَاء خَمْسَة أَعْضَاء، فَهَل تستصوب الجمعية ذَلِك وَترى الْكِفَايَة والكفاءة أم تستدرك شَيْئا. ثمَّ ابتدر السعيد الإنكليزي: للمقال مُخَاطبا الْأُسْتَاذ الرئيس فَقَالَ: أننا مُسْلِمِي (ليفربول) حديثو عهد بِالْإِسْلَامِ، وَلنَا إشكالات مهمة تتَعَلَّق ببحث الْيَوْم أَعنِي بطريقة الاستهداء من الْكتاب وَالسّنة، لِأَن أكثرنا قد اهتدينا وَالْحَمْد لله إِلَى الإسلامية منتقلين إِلَيْهَا من (البروتستانتية) أَي الطَّائِفَة الإنجيلية لأمن الكاثوليك أَي الطَّائِفَة التقليدية، فنميل طبعا لإتباع الْكتاب وَالسّنة فَقَط وَلَا نثق بقول غير مَعْصُوم فِيمَا ندين، وَقد تركنَا دين آبَائِنَا وقومنا لنتبع دين مُحَمَّد نَبِي الْإِسْلَام [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، لَا لنتبع الْحَنَفِيّ أَو الشَّافِعِي أَو الْحَنْبَلِيّ أَو الْمَالِكِي وَإِن كَانُوا ثقاة ناقلين. وَلنَا جمعية منتظمة لَهَا شعبتان فِي أمريكا وجنوب إفريقيا، وَنحن راغبون أَن نسعى سعيا حثيثا فِي الدعْوَة للدّين السَّامِي الإسلامي الْمُبين. والأقوام الَّذين ندعوهم غالبهم متمدنون أَي أفكارهم متنورة بالعلوم

والمعارف، وأكبر أملنا مَعْقُود بهداية فئتين اثْنَتَيْنِ الأولى البروتستان وَالثَّانيَِة الزَّنَادِقَة. أما أملنا فِي البروتستان فلأنهم منقلبون حَدِيثا من الكاثوليكية، انقلاباً ناشئاً عَن ترجيحهم الِاقْتِصَار على الْإِنْجِيل ومجموعة الْكتب المقدسة متونا فَقَط، أَي بإهمال الشُّرُوح والتفسيرات والمزيدات الَّتِي لَا يُوجد لَهَا أصل صَرِيح فِي الْإِنْجِيل. والبروتستان فِي أوروبا وأمريكا يزِيدُونَ على مائَة مليون من النُّفُوس كلهم مفطورون على التدين، قليلو العناد فِي الِاعْتِقَاد، مستعدون لقبُول الْبَحْث والانقياد للحق بِشَرْط ظُهُوره ظهوراً عقليا؛ وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ الْحق ملائماً لأسباب هجرهم الكاثوليكية من نَحْو: إنكارهم الرياسة لدينية والرهبانية، والتوسل بالقديسين وَطلب الشَّفَاعَة مِنْهُم، واحترام الصُّور والتماثيل، وَالدُّعَاء لأجل الْأَمْوَات، وَبيع الغفران، وَالْقَوْل بِأَن للبطارقة قُوَّة قدسية وَقُوَّة تشريعية، وَإِن للبابا صفة الْعِصْمَة عَن الْخَطَأ فِي الدّين، وَإِن للأساقفة وَمن دونهم من القسيسين مَرَاتِب مُقَدَّسَة، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا ينْتج فِي النَّصْرَانِيَّة سلطة دينية وتشديدات تعبدية لَا يُوجد لَهَا أصل فِي الْإِنْجِيل. وَقد يشبه هَؤُلَاءِ البروتستان فِي رَأْيهمْ فِئَة قَليلَة من الْيَهُود تعرف

باسم القرائين، وهم الآخذون بِأَصْل التَّوْرَاة والمزامير النابذون للتلمود أَي لتفسيرات ومزيدات الْأَحْبَار والحاخامين الأقدمين. أما الفئة الثَّانِيَة فهم الزَّنَادِقَة المارقون من النَّصْرَانِيَّة كليا لعدم ملاءمتها لِلْعَقْلِ، وَهَؤُلَاء فِي أوروبا وأمريكا كَذَلِك يزِيدُونَ على مائَة مليون من النُّفُوس، غالبهم مستعدون لقبُول ديانَة تكون معقولة حرَّة سمحاء تريحهم من نصب الْكفْر فِي الْحَيَاة الْحَاضِرَة فضلا عَن الْعَذَاب فِي الْآخِرَة. وَمن غَرِيب نتائج التدقيق: إِن أَفْرَاد هَذِه الفئة كلما بعدوا عَن النَّصْرَانِيَّة نفوراً من شركها وخرافاتها وتشديداتها، يقربون طبعا من التَّوْحِيد والإسلامية وحكمتها وسماحتها. فبناء على هَذِه الآمال ترى جمعية) ليفربول) أهمية عَظِيمَة لتحرير مَسْأَلَة الاستهداء من الْكتاب وَالسّنة، وتصوير حِكْمَة وسماحة الدّين الإسلامي للْعَالم المتمدن. فأرجو حَضْرَة الْأُسْتَاذ الرئيس أَن يسمح لي بتفهم مَسْأَلَة الاستهداء على أسلوب المحاورة والمساجلة مَعَ بعض الإخوان الأفاضل فِي هَذَا المحفل العلمي الْعَظِيم. فَأَجَابَهُ الْأُسْتَاذ الرئيس بقوله لَهُ: ساجل من شِئْت وخاطب من أردْت فالأخوان كلهم عُلَمَاء أفاضل حكماء.

فَقَالَ السعيد الإنكليزي مُخَاطبا الْعَالم النجدي. أَنَّك يَا مولَايَ قد صورت فِي مُقَدّمَة خطابك فِي التَّوْحِيد من هُوَ الْمُسلم وألزمته الْعَمَل بِالْكتاب وَالسّنة، فأرجوك أَن تعرفنِي أَولا مَا هُوَ الْكتاب وَمَا هِيَ السّنة. فَقَالَ الْعَالم النجدي: أما (الْكتاب) فَهُوَ هَذَا الْقُرْآن الَّذِي وصل إِلَيْنَا بطرِيق لَا تحْتَمل الشُّبْهَة فِيهِ لِاجْتِمَاع الْكَلِمَة واتفاق الْأمة عَلَيْهِ، وتناقلها إِيَّاه جيلاً عَن جيل، وحفظاً فِي الصُّدُور، وضبطاً فِي السطور مَعَ الْحِرْص الْعَظِيم على كَيْفيَّة أَدَائِهِ لفظا وعَلى هَيْئَة إمْلَائِهِ كِتَابَة، وَمَعَ الاعتناء الْكَامِل فِي تَحْقِيق أَسبَاب النُّزُول ومكانه وَوَقته، وَمَعَ حفظ اللُّغَة الْعَرَبيَّة المضرية القرشية الَّتِي نزل بهَا بِاتِّفَاق لَا مزِيد عَلَيْهِ. وَبَقَاء الْقُرْآن مَحْفُوظًا من التحريف والتغيير وموجبات الريب إِلَى الْآن هُوَ أحد وُجُوه إعجازه، حَيْثُ جَاءَ مُصدقا لقَوْله تَعَالَى فِيهِ: {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} . أما (السّنة) فَهِيَ مَا قَالَه الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَو فعله أَو أقره، وَلم يكن صدر مِنْهُ ذَلِك على سَبِيل الِاخْتِصَاص أَو الْحِكَايَة أَو الْعَادة؛ وَقد اعتنى الصَّحَابَة وَلَا سِيمَا التابعون وتابعوهم رَضِي الله عَنْهُم بِحِفْظ السّنة حَدِيثهَا وآثارها وسيرها غَايَة الاعتناء؛ وتناقلوها

بالرواية والسند المتسلسل متحرين الوثوق مُنْتَهى مَرَاتِب التَّحَرِّي والتثبت؛ وَقد حازت بعض مدونات السّنة وثوقا تَاما وقبولا عَاما فِي الْأمة فوصلتنا بِكَمَال الضَّبْط خُصُوصا مِنْهَا الْكتب السِّتَّة. قَالَ السعيد الإنكليزي لَا يشك أحد حَتَّى الْعَدو والمغاند فِي أَنه لم تبلغ وَلنْ تبلغ أمة من الْأُمَم شأو الْمُسلمين فِي اعتنائهم بِحِفْظ الْقُرْآن الْكَرِيم وضبطهم التَّارِيخ النَّبَوِيّ أَو السّنة، وَكَذَلِكَ يُقَال فِي اعتنائهم باللغة الْعَرَبيَّة الَّتِي هِيَ آلَة فهم الْخطاب. وبالنظر إِلَى ذَلِك كَانَ يجب أَن نحرر الشَّرِيعَة الإسلامية أحسن تَحْرِير، فَلَا يُوجد فِيهَا مَا وجد فِي غَيرهَا بِسَبَب عدم ضبط أُصُولهَا من اختلافات ومباينات مهمة بَين الْعلمَاء الْأَئِمَّة، فأرجوك أَن تبين لي مَا هُوَ منشأ هَذَا التشتت الَّذِي نرَاهُ فِي الْأَحْكَام. إِجَابَة الْعَالم النجدي: أَن الاختلافات الْمَوْجُودَة فِي الشَّرِيعَة لَيست كَمَا يظنّ شَامِلَة لِلْأُصُولِ، بل أصُول الدّين كلهَا وَالْبَعْض من الْفُرُوع مُتَّفق عَلَيْهَا لِأَن لَهَا فِي الْقُرْآن أَو السّنة أحكاماً صَرِيحَة قَطْعِيَّة الثُّبُوت، قَطْعِيَّة الدّلَالَة، أَو ثَابِتَة بِإِجْمَاع الْأمة الَّذِي لَا يجوز الْعقل فِيهِ أَن يكون عَن غير أصل فِي الشَّرْع. أما الخلافات فَإِنَّمَا هِيَ فِي فروع تِلْكَ الْأُصُول وَفِي بعض الْأَحْكَام

الَّتِي لَيْسَ لَهَا فِي الْقُرْآن أَو السّنة نُصُوص صَرِيحَة، بل بعض عُلَمَاء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وفقهاء التَّابِعين وَمن جَاءَ بعدهمْ من الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين اخذوا تِلْكَ الْأَحْكَام الَّتِي تخالفوا فِيهَا إِمَّا تلقياً من بعض الصَّحَابَة، فَكل قلد من صَادف؛ وَأما استنبطوها اجْتِهَادًا من نُصُوص الْكتاب أَو السّنة بالمدلول الْمُحْتَمل، أَو بِالْمَفْهُومِ أَو بالاقتضاء، أَو من قَرَائِن الْحَال أَو قَرَائِن الْمقَال، أَو بالتوفيق أَو بالتخريج أَو التَّفْرِيع أَو الْقيَاس، أَو باتحاد الْعلَّة أَو باتحاد النتيجة أَو بالتأويل أَو الِاسْتِحْسَان. وَهَذِه الْأَحْكَام الخلافية كلهَا ترجع إِلَى دَلَائِل أما قَطْعِيَّة الثُّبُوت ظنية الدّلَالَة، أَو ظنية الثُّبُوت ظنية الدّلَالَة. وَلكُل وَاحِد من الْمُجْتَهدين أصُول فِي التطبيق وقوانين فِي الاستنباط يُخَالف فِيهَا الآخر، ومنشأ معظمها الخلافات النحوية والبيانية. ثمَّ أَن أَكثر الخلافات هِيَ فِي مسَائِل الْمُعَامَلَات، وعَلى كل حَال جاحدها لَا يكفر بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة، بل المتخالفون لَا يفسق بَعضهم بَعْضًا إِذا كَانَ التخالف عَن اجْتِهَاد لَا عَن هوى نفس أَو تَقْصِير فِي التتبع الْمُمكن للمقيم فِي دَار الْإِسْلَام (مرحى) . قَالَ السعيد الإنكليزي: إِنِّي أشكرك على مَا أجملت وأوضحت، غير أَنَّك لم تذكر فِي جملَة أَسبَاب الِاخْتِلَاف فِي اعْتِبَار النَّاسِخ

والمنسوخ بَين آيَتَيْنِ أَو حديثين، أَو آيَة وَحَدِيث، وَإِنِّي أَظن أَن ذَلِك من اعظم أَسبَاب الِاخْتِلَاف فِي الْأَحْكَام. الْإِجَابَة الْعَالم النجدي: أَن نواسخ الْأَحْكَام قَليلَة ومعلومة، وَالْخلاف فِيهَا أقل، لِأَن النّسخ فِي زمن التشريع لم يحصل إِلَّا عَن حِكْمَة ظَاهِرَة كالتدريج فِي منع السكر حَالَة الصَّلَاة ثمَّ تَعْمِيم مَنعه. وكتغيير الْمُقْتَضى للتوارث بالإخاء وَهُوَ القطيعة الَّتِي حصلت بَين الْمُهَاجِرين وَذَوي أرحامهم فِي بَدْء الْأَمر، ثمَّ لما تَلَاحَقُوا بعد فتح مَكَّة نسخ ذَلِك وَجعل التَّوَارُث بِالنّسَبِ. وكالدعوة فِي الأول للتوحيد وَالدّين بِمُجَرَّد الموعظة بِدُونِ جِدَال، ثمَّ بِهِ بِدُونِ صدع، ثمَّ بِهِ بِدُونِ قتال، ثمَّ بِهِ فِي أهل جَزِيرَة الْعَرَب فَقَط ثمَّ بتعميمه مَعَ قبُول الْجِزْيَة وَالْخَرَاج من غَيرهم (مرحى) . قَالَ السعيد الإنكليزي: أَن مَا وصفت من أصُول الِاجْتِهَاد وقوانين استنباط الْأَحْكَام قد أنتج خلاف مَا يَأْمر الله بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أقِيمُوا الدّين وَلَا تفَرقُوا فِيهِ} ، وَخلاف مَا تَقْتَضِيه الْحِكْمَة فَهَل من وَسِيلَة سهلة لرفع هَذَا التَّفَرُّق.

إِجَابَة الْعَالم النجدي: إِنِّي لَا أهتدي لذَلِك سَبِيلا، وَلَعَلَّ فِي الإخوان من يتَصَوَّر وَسِيلَة لهَذَا الْأَمر المهم. فابتدر الْعَلامَة الْمصْرِيّ مُخَاطبا السعيد الإنكليزي وَقَالَ: أَن رفع الْخلاف غير مُمكن مُطلقًا وَلَكِن يُمكن تَخْفيف تأثيراته. وَذَلِكَ انه لما كَانَ مُعظم الِاخْتِلَاف كَمَا قَرَّرَهُ أخونا الْعَالم النجدي فِي الْفُرُوع دون الْأُصُول، وَفِي السّنَن والمندوبات والصغائر والمكروهات دون الشعائر والواجبات والكبائر والمنكرات؛ وَكَانَ أَكثر الْأمة هم الْعَامَّة الَّذين لَا يقدرُونَ أَن يميزوا بَين الْوَاجِب وَالسّنة وَالْمَنْدُوب، وَبَين النَّفْل والمباح؛ أَو يفرقُوا بَين الْكفْر وَالْحرَام، وَبَين الْكَبِيرَة وَالصَّغِيرَة وَالْمَكْرُوه تَنْزِيها وَالتَّقوى؛ بل تَنْقَسِم الْأَحْكَام كلهَا فِي نظرهم إِلَى نَوْعَيْنِ أصليين فَقَط: مَطْلُوب ومحظور، وبتعبير آخر إِلَى حَلَال وَحرَام، وَكَانَت أَحْكَام الشَّرِيعَة كَثِيرَة جدا، فالعامة يَجدونَ أنفسهم مكلفين بِمَا لَا يُطِيقُونَ الْإِحَاطَة بمعرفته فضلا عَن الْقيام بِهِ،

ويرون أَن لَا مناص لَهُم من التهاون فِي أَكْثَره أَو بعضه، فَيقوم أحدهم بِالْبَعْضِ دون الْبَعْض، فَيَأْتِي بالنفل ويتهاون بِالْوَاجِبِ وَيَتَّقِي الْمَكْرُوه وَيقدم على الْحَرَام، وَذَلِكَ كَمَا قُلْنَا لاستكثاره الْأَحْكَام وجهله بمراتبها فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير. بِنَاء على ذَلِك أرى لَو أَن فُقَهَاء الْأمة كَمَا فرقوا مَرَاتِب الْأَحْكَام على الْمسَائِل، يفرقون الْمسَائِل أَيْضا على مَرَاتِب فِي متون مَخْصُوصَة؛ فيعقدون لكل مَذْهَب من الْمذَاهب كتابا فِي الْعِبَادَات يَنْقَسِم إِلَى أَبْوَاب وفصول تذكر فِي كل مِنْهَا الْفَرَائِض والواجبات فَقَط، وتنطوي ضمنهَا الشَّرَائِط والأركان بِحَيْثُ يُقَال أَن هَذِه الْأَحْكَام فِي هَذِه الْمذَاهب هِيَ أقل مَا تجوز بِهِ الْعِبَادَات. ويعقدون كتابا آخر يَنْقَسِم إِلَى عين تِلْكَ الْأَبْوَاب والفصول، تذكر فِيهَا السّنَن بِحَيْثُ يُقَال أَن هَذِه الْأَحْكَام يَنْبَغِي رعايتها فِي أَكثر الْأَوْقَات. ثمَّ كتابا ثَالِثا مثل الْأَوَّلين تذكر فِيهِ سنَن الزَّوَائِد، بِحَيْثُ يُقَال إِن هَذِه الْأَحْكَام رعايتها أولى من تَركهَا.

وعَلى هَذَا النسق يوضع كتاب للمنهيات، يقسم إِلَى أَبْوَاب وفصول تعد فِيهَا المكفرات والكبائر، وَكَذَا الصَّغَائِر والمكروهات، وَمثل ذَلِك تقسم كتب الْمُعَامَلَات على طَبَقَات من الْأَحْكَام الإجماعية أَو الاجتهادية أَو الاستحسانية. فبمثل هَذَا التَّرْتِيب يسهل على كل من الْعَامَّة أَن يعرف مَا هُوَ مُكَلّف بِهِ فِي دينه، فَيعْمل بِهِ على حسب مراتبة وإمكانه، وبهذه الصُّورَة تظهر سماحة الدّين الحنيف، وَيصير الْمُسلم مطمئن الْقلب، مثله كَمثل تَاجر لَهُ دفاتر وقيود وحسابات وموازنات منتظمة فيعيش مطمئن الْفِكر. وَكم بَين هَذَا التَّاجِر وَبَين تَاجر آخر حساباته فِي أوراق منتثرة ومعاملاته مشتتة متزاحمة فِي فكره، لَا يعرف مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، فيعيش عمره مرتبك البال مُضْطَرب الْحَال (مرحى) . قَالَ الْمُحدث اليمني: أننا معاشر أهل الْيمن وَمن يلينا من أهل الجزيرة، كَمَا أننا لم نزل بعيدين عَن الصَّنَائِع والفنون فَكَذَلِك لم نزل على مَذْهَب السّلف فِي الدّين، بعيدين عَن التفنن فِيهِ. ومسلكنا مَسْلَك أهل الحَدِيث وأكثرنا يخرج الْأَحْكَام على أصُول اجْتِهَاد الإِمَام زيد ابْن عَليّ بن زين العابدين، أَو أصُول الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل. وَأَنِّي أذكر للإخوان حالتنا الاستهدائية عَسى أَن الذكرى تَنْفَع الْمُؤمنِينَ؛

وَعَسَى أَن يعلم الْمُسلمُونَ وَلَا سِيمَا الأتراك وَمن يحكمون أننا من أهل السّنة، لَا كَمَا يوهمون أَو يتوهمون، فَأَقُول أَن الْمُسلمين عندنَا على ثَلَاث مَرَاتِب: الْعلمَاء والقراء والعامة. فالطبقة الأولى: الْعلمَاء، وهم كل من كَانَ متصفا بِخمْس صِفَات: 1 - أَن يكون عَارِفًا باللغة الْعَرَبيَّة المضرية القرشية بالتعلم والمزاولة معرفَة كَافِيَة لفهم الْخطاب، لَا معرفَة إحاطة بالمفردات ومجازاتها، وبقواعد الصّرْف وشواذه، والنحو وتفصيلاته وَالْبَيَان وخلافاته، والبديع وتكلفاته، مِمَّا لَا يَتَيَسَّر إتقانه إِلَّا لمن يفني ثُلثي عمره فِيهِ، مَعَ أَنه لَا طائل تَحْتَهُ وَلَا لُزُوم لأكثره إِلَّا لمن أَرَادَ الْأَدَب. 2 - أَن يكون قَارِئًا كتاب الله تَعَالَى قِرَاءَة فهم للمتبادر من مَعَاني مفرداته وتراكيبه، مَعَ الِاطِّلَاع على أَسبَاب النُّزُول ومواقع الْكَلَام من كتبهَا الْمُدَوَّنَة الْمَأْخُوذَة من السّنة والْآثَار وتفاسير الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام، أَو تفاسير أَصْحَابه عَلَيْهِم الرضْوَان، وَمن الْمَعْلُوم أَن آيَات الْأَحْكَام لَا تجَاوز الْمِائَة وَالْخمسين آيَة عدا.

3 - أَن يكون متضلعا فِي السّنة النَّبَوِيَّة الْمُدَوَّنَة على عهد التَّابِعين وتابعيهم، أَو تَابِعِيّ تابعيهم فَقَط، بِدُونِ قيد بِمِائَة ألف أَو مِائَتي ألف حَدِيث، بل يَكْفِيهِ مَا كفى مَا لكافي موطئِهِ واحمداً فِي مُسْنده. وَمن الْمَعْلُوم أَن أَحَادِيث الْأَحْكَام لَا تجَاوز الْألف وَخَمْسمِائة حَدِيث أبدا. 4 - أَن يكون وَاسع الِاطِّلَاع على سيرة النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَأَصْحَابه وأحوالهم من كتب السّير الْقَدِيمَة والتواريخ الْمُعْتَبرَة لأهل الحَدِيث كالحافظ الذَّهَبِيّ وَابْن كثير وَمن قبلهم، وكابن جرير وَابْن قُتَيْبَة وَمن قبلهم كمالك وَالزهْرِيّ وإضرابهم. 5 - أَن يكون صَاحب عقل سليم فطري لم يفْسد ذهنه بالْمَنْطق والجدل التعليميين والفلسفة اليونانية والإلهيات الفيثاغورسية، وبأبحاث الْكَلَام وعقائد الْحُكَمَاء ونزعات الْمُعْتَزلَة، وإغرابات

الصُّوفِيَّة، وتشديدات الْخَوَارِج، وتخريجات الْفُقَهَاء الْمُتَأَخِّرين، وحشويات الموسوسين، وتزويقات المرائين وتحريفات المدلسين (مرحى) . فَأهل هَذِه الطَّبَقَة يستهدون بِأَنْفسِهِم وَلَا يقلدون إِلَّا بعد الْوُقُوف على دَلِيل من يقلدون، فَإِذا وجدوا فِي الْمَسْأَلَة قُرْآنًا ناطقاً لَا يتحولون عَنهُ لغيره مُطلقًا، وَإِذا كَانَ الْقُرْآن مُحْتملا لوجوه، فَالسنة قاضية عَلَيْهِ مفسرة لَهُ ثمَّ مَا لم يجدوه فِي كتاب الله أَخَذُوهُ من صَحِيح سنة رَسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] سَوَاء كَانَ الحَدِيث مستفيضاً أم غير مستفيض، عمل بِهِ اكثر من وَاحِد من الصَّحَابَة الْمُجْتَهدين أم لم يعْمل بِهِ إِلَّا وَاحِد فَقَط، وَمَتى كَانَ فِي الْمَسْأَلَة حَدِيث صَحِيح لَا يعدلُونَ عَنهُ إِلَى اجْتِهَاد. ثمَّ إِذا لم يَجدوا فِي الْمَسْأَلَة حَدِيثا يَأْخُذُونَ بِإِجْمَاع عُلَمَاء الصَّحَابَة، ثمَّ بقول جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلَا يتقيدون بِقوم دون قوم. فَإِن وجدوا مَسْأَلَة يَسْتَوِي فِيهَا قَولَانِ رجحوا أَحدهمَا بمرجح يقوم فِي الْفِكر، لَا يتبعُون فِيهِ أصولاً مَوْضُوعَة غير مَشْرُوعَة، أَو طرقاً مقررة غير مَرْفُوعَة. وَأهل هَذِه الطَّبَقَة عندنَا، ينورون أذهانهم بأصول استدلالات الإِمَام زيد رَضِي الله عَنهُ أَو غَيره من الْأَئِمَّة تخريجهم الْأَحْكَام واستنباطها من النُّصُوص بِدُونِ تقيد

بتقليد أحدهم خَاصَّة دون غَيره، لأَنهم لَا يجوزون اتِّبَاع إِمَام إِذا رَأَوْا مَا ذهب إِلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَة بَعيدا عَن الصَّوَاب، فَلَا يقلدون أحدا تقليداً مُطلقًا كَأَنَّهُ نَبِي مُرْسل. والطبقة الثَّانِيَة هم: الْقُرَّاء، وهم الَّذين يقرأون كتاب الله تَعَالَى قِرَاءَة فهم بالإجمال مَعَ إطلاع على جملَة صَالِحَة من سنة رَسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَهَؤُلَاءِ يستهدون فِي أصُول الدّين بِأَنْفسِهِم لِأَنَّهَا مَبْنِيَّة غَالِبا على قُرْآن نَاطِق أَو سنة صَرِيحَة، أَو إِجْمَاع عَام مُفَسّر لغير النَّاطِق والصريح. وَأما فِي الْفُرُوع فيتبعون أحد الْعلمَاء الموثوق بهم عِنْد المستهدي من الأقدمين أَو المعاصرين، بِدُونِ ارتباط بمجتهد مَخْصُوص أَو عَالم دون آخر، مَعَ سَماع الدَّلِيل والميل إِلَى قبُوله كَمَا كَانَ عَلَيْهِ جُمْهُور الْمُسلمين قبل وجود التعصب للمذاهب. والطبقة الثَّالِثَة هم: الْعَامَّة، وَهَؤُلَاء يهْدِيهم الْعلمَاء مَعَ بَيَان الدَّلِيل بِقصد الْإِقْنَاع، فَالْعُلَمَاء عندنَا لَا يجسرون على أَن يفتوا فِي مَسْأَلَة مُطلقًا مَا لم يذكرُوا مَعهَا دليلها من الْكتاب وَالسّنة أَو الْإِجْمَاع، حَتَّى وَلَو كَانَ المستفتي أعجميا أُمِّيا لَا يفهم مَا الدَّلِيل، وطريقتهم هَذِه هِيَ طَريقَة الصَّحَابَة كَافَّة وَالتَّابِعِينَ عَامَّة وَالْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين وَالْفُقَهَاء

الْأَوَّلين من أهل الْقُرُون الْأَرْبَعَة أَجْمَعِينَ (مرحى) . والتزام عُلَمَائِنَا هَذِه الطَّرِيقَة مَبْنِيّ على مَقَاصِد مهمة أعظمها تضييق دَائِرَة الجراءة على الْإِفْتَاء بِدُونِ علم، وَفِي هَذَا التَّضْيِيق على الْعلمَاء توسعة على الْمُسلمين وسدا لباب التَّشْدِيد فِي الدّين والتشويش على القاصرين، ولهذه الْحِكْمَة الْبَالِغَة بَالغ الله وَرَسُوله فِي النكير على المتجاسرين على التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم والمستسلمين لمحض التَّقْلِيد. فالعالم عندنَا لَا يَسْتَطِيع أَن يُجيب إِلَّا عَن بعض مَا يسْأَل وَلَا يأنف أَن يقف عِنْد " لَا أَدْرِي "، بل يحذر وَيخَاف من غش السَّائِل وتغريره إِذا إِجَابَة بِأَن فلَانا الْمُجْتَهد يَقُول أَن الله أحل كَذَا وَحرم كَذَا، لِأَن السَّائِل لَا يعلم مَا يعلم هُوَ من أَن هَذَا الْمُجْتَهد الَّذِي لَيْسَ بمعصوم كثيرا مَا يُخَالف فِي قَوْله من هُوَ أفضل مِنْهُ من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَمن أَنه يتَرَدَّد فِي رَأْيه وَحكمه كم إجتهد وَكم رَجَعَ، وَمن أَن أَكثر دلائله أما ظنية الثُّبُوت أَو ظنية الدّلَالَة أَو ظنيتهما، وَمن أَنه لم يدون مَا قَالَه وَلَكِن نَقله عَنهُ الناقلون، وَكم اخْتلفُوا فِي الرِّوَايَة عَنهُ بَين سلب وَإِيجَاب وَنفي وَإِثْبَات. وَكم زيف أَصْحَابه اجْتِهَاده وَرَأَوا غير مَا رَآهُ، وَمن أَنه أَي الْمُجْتَهد إِنَّمَا اجْتهد لنَفسِهِ وَبلغ عذره عِنْد ربه، وَصرح بِعَدَمِ جَوَاز أَن يتبعهُ أحد فِيمَا أجتهد وتبرأ من تبعه الْخَطَأ.

فَهَذَا (الإِمَام مَالك) رَضِي الله عَنهُ يَقُول: مَا من أحد إِلَّا وَهُوَ مَأْخُوذ من كَلَامه مَرْدُود عَلَيْهِ إِلَّا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَنقل المؤرخون أَن الْمَنْصُور لما حج وَاجْتمعَ بِمَالك إِرَادَة على الذّهاب مَعَه ليحمل النَّاس على الْمُوَطَّأ كَمَا حمل عُثْمَان النَّاس على الْمُصحف، فَقَالَ مَالك لَا سَبِيل إِلَى ذَلِك لِأَن الصَّحَابَة افْتَرَقُوا بعد وَفَاة النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي الْأَمْصَار، يُرِيد أَن السّنة لَيست بمجموعة فِي موطئِهِ الَّذِي جمع فِيهِ مرويات أهل الْمَدِينَة. وَحكي فِي اليواقيت والجواهر أَن (أَبَا حنيفَة) رَضِي الله عَنهُ كَانَ يَقُول: " لَا يَنْبَغِي لمن لَا يعرف دليلي أَن يَأْخُذ بكلامي ". وَكَانَ إِذا أفتى يَقُول: هَذَا رَأْي النُّعْمَان بن ثَابت، يَعْنِي نَفسه، وَهُوَ أحسن مَا قَدرنَا عَلَيْهِ، فَمن جَاءَ بِأَحْسَن مِنْهُ فَهُوَ أولى بِالصَّوَابِ. وروى الْحَاكِم الْبَيْهَقِيّ أَن الشَّافِعِي) رَضِي الله عَنهُ كَانَ يَقُول: إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مذهبي، وَفِي رِوَايَة إِذا رَأَيْتُمْ كَلَامي يُخَالف الحَدِيث فاعملوا بِالْحَدِيثِ واضربوا بكلامي الْحَائِط. وَأَنه قَالَ يَوْمًا للمزني: يَا إِبْرَاهِيم لَا تقلدني فِيمَا أَقُول وَانْظُر فِي ذَلِك لنَفسك فَإِنَّهُ دين. وَكَانَ يَقُول: لَا حجَّة فِي قَول أحد دون رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .

ويروى عَن (أَحْمد بن حَنْبَل) رَضِي الله عَنهُ أَنه رأى بَعضهم يكْتب كَلَامه فَأنْكر عَلَيْهِ وَقَالَ: تكْتب رَأيا لعَلي ارْجع عَنهُ. وَكَانَ يَقُول لَيْسَ لأحد مَعَ الله وَرَسُوله كَلَام. وَقَالَ لرجل: لَا تقلدني وَلَا تقلدن مَالِكًا وَلَا الْأَوْزَاعِيّ وَلَا الْحَنَفِيّ، وَلَا غَيرهم، وخذوا الْأَحْكَام من حَيْثُ أخذُوا من الْكتاب وَالسّنة وَأسسَ مذْهبه على ترك التَّأْوِيل والترقيع بِالرَّأْيِ وَاتِّبَاع الْغَيْر فِيمَا فِيهِ طَرِيق الْعقل وَاحِد. وَنقل الثقاة أَن سُفْيَان الثَّوْريّ رَضِي الله عَنهُ لما مرض مرض الْمَوْت دَعَا بكتبه فغرقها جَمِيعهَا. وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف وَزفر رحمهمَا الله تَعَالَى انهما كَانَا يَقُولَانِ لَا يحل لأحد أَن يُفْتِي بقولنَا مَا لم يعلم من أَيْن قُلْنَا. وَقيل لبَعض أَصْحَاب أبي حنيفَة: انك تكْثر الِاخْتِلَاف إِلَى أبي حنيفَة، فَقَالَ: لِأَنَّهُ أُوتِيَ من الْفَهم مَا لم نُؤْت، فَأدْرك مَا لم ندرك، وَلَا يسعنا أَن نفتي بقوله مَا لم نفهم دَلِيله ونقنع (مرحى) . ثمَّ قَالَ: أَيهَا الإخوان الْكِرَام قد أطلت الْمقَال فاعذروني، فَإِنِّي من قوم ألفوا ذكر الدَّلِيل وَإِن كَانَ مَعْرُوفا مَشْهُورا، وَقد ذكرت طَريقَة عُلَمَاء الْعَرَب فِي الجزيرة منوها بفضلها لَا بفضلهم على غَيرهم، كلا بل غَالب عُلَمَاء سَائِر الْجِهَات أحد ذهنا وأدق نظرا وأعزر مَادَّة

وأوسع علما، وَلذَلِك لم نزل نَحن فِي تعجب وحيرة من نظر أُولَئِكَ الْعلمَاء المتبحرين فِي أنفسهم الْعَجز عَن الاستهداء وَقَوْلهمْ بسد بَاب الِاجْتِهَاد. نعم لم يبْق فِي الْإِمْكَان أَن يَأْتِي الزَّمَان بأمثال ابْن عَمْرو ابْن الْعَبَّاس، أَو النَّخعِيّ وَدَاوُد، أَو سُفْيَان وَمَالك، أَو زيد وجعفر، أَو النُّعْمَان وَالشَّافِعِيّ، أَو احْمَد وَالْبُخَارِيّ رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ، وَلَكِن مَتى كلف الله تَعَالَى عبَادَة بدين لَا يفقهه إِلَّا أَمْثَال هَؤُلَاءِ النوابغ الْعِظَام؟ أَلَيْسَ أساس ديننَا الْقُرْآن وَقد قَالَ تَعَالَى عَنهُ فِيهِ: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا لَعَلَّكُمْ تعقلون} . وَقَالَ تَعَالَى {كتاب فصلت آيَاته قُرْآنًا عَرَبيا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدَّ كرّ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَد أنزلنَا إِلَيْك آيَات بَيِّنَات} وَقَالَ تَعَالَى {أَفلا يتدبرون الْقُرْآن} فَمَا معنى دَعْوَى الْعَجز والتمثل بِمن قَالُوا: {قُلُوبنَا غلف} ، حمانا الله تَعَالَى (مرحى) . أما السّنة النَّبَوِيَّة أفلم تصل إِلَيْنَا مَجْمُوعَة مدونة بهمة أَئِمَّة الحَدِيث جزاهم الله خيرا، الَّذين جابوا الأقطار والبلاد الَّتِي تفرق إِلَيْهَا الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم بِسَبَب الفتوحات والفتن فَجمعُوا متفرقاتها ودونوها، وسهلوا الْإِحَاطَة بهَا بِمَا لم يتسهل الْوُقُوف عَلَيْهِ لغير إِفْرَاد من عُلَمَاء

الصَّحَابَة الَّذين كَانُوا ملازمين النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام. وَكَذَا يُقَال فِي حق أَسبَاب النُّزُول ومواقع الْخطاب ومعاني الْغَرِيب فِي الْقُرْآن وَالسّنة، فَإِن عُلَمَاء التَّابِعين وتابعيهم والناسجين على منوالهم رَحِمهم الله لم يألوا جهداً فِي ضَبطهَا وبيانها. وَكَذَلِكَ الْأَئِمَّة المجتهدون وَالْفُقَهَاء الْأَولونَ علمونا طرائق الاستهداء وَالِاجْتِهَاد، والاستنباط والتخريج والتفريع، وَقِيَاس النظير على النظير، فهم أرشدونا إِلَى الاستهداء وَمَا أحد مِنْهُم دَعَانَا إِلَى الِاقْتِدَاء بِهِ مُطلقًا (مرحى) . ثمَّ أننا إِذا أردنَا أَن ندقق النّظر فِي مرتبَة علم أُولَئِكَ الْمُجْتَهدين الْعِظَام لَا نجد فيهم علما وهبياً أَو كسبياً خارقا للْعَادَة، فَهَذَا الإِمَام الشَّافِعِي رَحمَه الله، وَهُوَ اغزرهم مَادَّة وَأول وَأعظم من وضع صولا لفقهه، نجده قد أسس مذْهبه على اللُّغَة فَقَط من حَيْثُ: الْمُشْتَرك والمتباين والمترادف، والحقيقة وَالْمجَاز والاستعارة وَالْكِنَايَة وَالشّرط وَالْجَزَاء، وَالِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل والمنفصل والمنقطع، والعطف الْمُرَتّب وَغير الْمُرَتّب، والفور والتراخي، والحروف ومعانيها، إِلَى قَوَاعِد أُخْرَى لَا تخرج عَن علم اللُّغَة. وَاتبع أَبَا حنيفَة فِي إِدْخَاله فِي أصُول مذْهبه بعض قَوَاعِد منطقية مثل: دلَالَة الْمُطَابقَة، والتضمن والالتزام،

وَمَعْرِفَة الْجِنْس وَالنَّوْع والفصل والخاصة وَالْعرض، والمقدمتين والنتيجة وَالْقِيَاس المنتج. وَاتبعهُ أَيْضا فِي قِيَاس مَا لم يرد فِيهِ قُرْآن أَو حَدِيث على مَا ورد فِيهِ؛ وَهَكَذَا فتح كل من أُولَئِكَ الْأَئِمَّة الْعِظَام لمن بعده ميداناً وَاسِعًا، فجَاء أتباعهم ومدوا الْأَطْنَاب وَأَكْثرُوا من الْأَبْوَاب، وتفننوا فِي الأشكال وتنويع الْأَحْكَام، وأحدثوا علمي الْأُصُول وَالْكَلَام. وَهَذَا التوسيع كُله لَيْسَ من ضروريات الدّين بل ضَرَره اكثر من نَفعه، وَمَا أشبه الْأُمُور الدِّينِيَّة بالأمور المعاشية: كلما زَاد التأنق فِيهَا بِقصد استكمال أَسبَاب الرَّاحَة سلبت الرَّاحَة. وَالْقَوْل الَّذِي فِيهِ فصل الْخطاب: أَن الله سُبْحَانَهُ وَله الحكم لم يرض منا أَن نتبع الأعلم الْأَفْضَل، بل كلفنا بِأَن نستهدي من كِتَابه وَسنة رَسُوله على حسب إمكاننا وطاقتنا وَهُوَ يرضى منا بجهدنا حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} ، فنسأل الله التَّوْفِيق لسواء السَّبِيل. قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: إِنِّي أَحْمد الله على توفيقه إيانا إِلَى هَذَا الِاجْتِمَاع الْمُبَارك، الَّذِي استفدنا مِنْهُ مَا لم نَكُنْ نعلمهُ من قبل عَن حَالَة إِخْوَاننَا وَأهل ديننَا فِي الْبِلَاد المتباعدة. وَلم يكن يسمع بَعْضنَا عَن بعض شَيْئا إِلَّا من السواح الغرباء الجهلاء الَّذين لَا يعْرفُونَ

مَا يصفونَ؛ أَو من أهل السياسة وَالْعُلَمَاء المتشيعين لَهُم، الَّذين رُبمَا يموهون الْحق بِالْبَاطِلِ بِقصد تَفْرِيق الْكَلِمَة وَمنع الائتلاف (مرحى) . ثمَّ قَالَ: هَذَا وَالْيَوْم قد انسحب ذيل الظل وَقرب الزَّوَال وَأذن لنا الْوَقْت بالانصراف.

الاجتماع السادس

الِاجْتِمَاع السَّادِس يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّانِي وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة 1316 فِي الضُّحَى الأول من الْيَوْم الْمَذْكُور تألفت الجمعية حسب معتادها، وَقُرِئَ الضَّبْط السَّابِق، واستعدت الأذهان لتلقي مَا يفيضه الله على أَلْسِنَة أهل الْإِيمَان من الإخوان. قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس مُخَاطبا " الشَّيْخ السندي ": إِنَّك يَا مَوْلَانَا لم تشاركنا فِي الْبَحْث إِلَى الْآن، فنرجوك أَن تتكرم على إخوانك بنبذة من عرفانك تنور بهَا أفكارنا. ونرجوك أَن لَا تحتشم من التلعثم فِي بعض التعبيرات اللُّغَوِيَّة لغَلَبَة العجمة عَلَيْك، فَإِن لَك أُسْوَة بالفيروز أبادي والسعد وَالْفَخْر وَغَيرهم. فَقَالَ الشَّيْخ السندي: أَنكُمْ أَيهَا السَّادة الإخوان، سراة أفاضل الزَّمَان، وسباق فرسَان كل ميدان، قد أفدتم وأجدتم، وَلم تتركوا لقَائِل من مجَال، وَلَا لمثلي غير الإصغاء والامتثال. وَإِنِّي احب أَن

أذكر لكم حالتي وفكرتي قبل هَذِه الاجتماعات، وَمَا أثرته فِي هَذِه المفاوضات، فَأَقُول: أنني من خلفاء الطَّرِيقَة النقشبندية. إِذْ كَانَ وَالِدي المرحوم هُوَ ناقل هَذِه الطَّرِيقَة للأقاليم الشرقية والجنوبية فِي الْهِنْد، وَقد صرت بعد وَالِدي مرجعا لعامة خلفائها، ثمَّ جرت لي سياحات مكررة فِي تِلْكَ الأرجاء وَفِي أيالات كاشغر وقازان حَتَّى سيبيريا وَتلك الإنحاء، وبسبب حرصنا على تَعْمِيم طريقتنا، صَار لَهَا شيوع مُهِمّ وانتشار عَظِيم بَين مُسْلِمِي هاتيك الديار. وَمن الْمَعْلُوم أَن طريقتنا من أقرب الطرائق للإخلاص وأقلها انحرافا عَن ظَاهر الشَّرْع؛ وَهِي مؤسسة على الذّكر القلبي وَقِرَاءَة ورد خواجكان، ومراقبة المرشد والاستمداد من الروحانيات، وَإِنِّي لم اكن أفكر قطّ فِي أَن الذّكر وَقِرَاءَة الْورْد على وَجه راتب فِيهِ مَظَنَّة الْبِدْعَة أَو الزِّيَادَة فِي الدّين، وَلَا أَن المراقبة والاستفاضة والاستمداد من أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ فِيهَا مَظَنَّة الشّرك، إِلَى أَن حضرت هَذِه الاجتماعات الْمُبَارَكَة فَسمِعت وقنعت وأقلعت وَالْحَمْد لله. على أَنِّي عزمت أَيْضا على أَن أتلطف فِي الْأَمر بِالنَّصِيحَةِ وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة، عَسى أَن أوفق لهداية جَمَاهِير النقشبندية فِي تِلْكَ

الْبِلَاد، وَإِلَى تَصْحِيح وجهتهم بِأَن يذكرُوا الله قلباً وَلِسَانًا بِدُونِ عدد مَخْصُوص معِين، قيَاما وقعوداً وعَلى جنُوبهم بِدُونِ هَيْئَة أَو كَيْفيَّة مُعينَة، مَتى شاؤا وَأَرَادُوا بِدُونِ وَقت مُرَتّب، فُرَادَى ومجتمعين بِدُونِ تداع. وَأَن يتْركُوا المراقبة ويستعيضوا عَنْهَا بِالدُّعَاءِ بالغفران وَالرَّحْمَة لكل من الشَّيْخ بهاء لدين النقشي مرشدهم الْأَعْلَى ولخليفته مرشدهم الْأَدْنَى الَّذِي هم مبايعوه. وَقد فتح الله عَليّ ببركة جمعيتنا هَذِه فهم أَسبَاب ميل الْمُسلمين فِي هاتيك الْبِلَاد، صَالحهمْ وفاسقهم، للانتساب إِلَى إِحْدَى الطرائق الصُّوفِيَّة، وَكنت قبلا أحمل ذَلِك على مُجَرّد إخلاص المرشدين، والآن اتَّضَح لي أَن السَّبَب هُوَ: أَن السَّادة الْفُقَهَاء عندنَا من الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة قد ضيقوا على الْمُسلمين الْعِبَادَات تضييقاً لَا يعلم أَن الله تَعَالَى يَطْلُبهُ من عباده، وكثروا الْأَحْكَام فِي الْمُعَامَلَات تكثيراً ضيع النَّاس وشوش الْإِفْتَاء وَالْقَضَاء، حَتَّى صَار الْمُسلم لَا يكَاد يُمكنهُ أَن يصحح عِبَادَته أَو مُعَامَلَته مَا لم يكن فَقِيها. فتوسيع الْفُقَهَاء دَائِرَة الْأَحْكَام انتج تضييق الدّين على الْمُسلمين تضييقاً أوقع الْأمة فِي ارتباك عَظِيم، ارتباكا جعل الْمُسلم لَا يكَاد يُمكنهُ أَن يعْتَبر نَفسه مُسلما ناجياً لتعذر تطبيق جَمِيع عباداته ومعاملاته

على مَا يتطلبه مِنْهُ الْفُقَهَاء المتشددون الأخذون بالعزائم، فبذلك أصبح الْجُمْهُور الْأَكْبَر من الْمُسلمين يَعْتَقِدُونَ فِي أنفسهم التهاون أضراراً، فيهون عَلَيْهِم التهاون اخْتِيَارا كالغريق لَا يحذر البلل. لِأَنَّهُ كَيفَ يطمئن الْحَنَفِيّ الْعَاميّ حق الاطمئنان فِي الإستبراء لنصح طَهَارَته، وَكَيف يحسن مخارج الْحُرُوف كلهَا وَقد أفسدت العجمة لِسَانه لتصح صلَاته؟ وَكَذَلِكَ كَيفَ يصحح الشَّافِعِي الْعَاميّ نِيَّته على مَذْهَب أَمَامه فِي الصَّلَاة، أَو يعرف شدات الْفَاتِحَة الثَّلَاث عشرَة وينتبه لإظهارها كلهَا ليَكُون أدّى فريضته. بل أَي عَامي يعرف وصف الْكَلَام، وَمعنى الاسْتوَاء، وَتَأْويل الْوَجْه وَالْيَد وَالْيَدَيْنِ، وَتَعْيِين الْجُزْء الِاخْتِيَارِيّ، وَإِضَافَة الْأَعْمَال لَهُ أَو لله، إِلَى غير ذَلِك، ليَكُون عِنْد الْحَنَفِيَّة الماتريدية وَالشَّافِعِيَّة إِلَّا شاعرة مُسلما مُقَلدًا يُرْجَى لَهُ قبُول الْإِيمَان. وَمن من الْعَامَّة يُحِيط علما بِكُل مَا ثَبت بِالنَّصِّ الْقَاطِع حَتَّى صفرَة بقرة بني إِسْرَائِيل مثلا، لكيلا يعْتَقد خِلَافه فيكفر فيحبط عمله وَمن جملَته انْفِسَاخ نِكَاحه. وَكم من مُسلم يحكم عَلَيْهِ الْفَقِيه الشَّافِعِي بِأَنَّهُ نسل سفاح ومقيم

على السفاح وراض لمحارمه بالسفاح، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يُنَافِي سماحة الدّين ومزية التدين بِهِ فِي الدُّنْيَا قبل الْآخِرَة. فَبِهَذَا التَّضْيِيق صَار الْمُسلم لَا يرى لنَفسِهِ فرجا إِلَّا بالالتجاء إِلَى صوفية الزَّمَان، الَّذين يهونون عَلَيْهِ الدّين كل التهوين. (مرحى) . وهم الْقَائِلُونَ: أَن الْعلم حجاب، وبلمحة تقع الصلحة، وبنظرة من المرشد الْكَامِل يصير الشقي وليا، وبنفخة فِي وَجه المريد أَو تفلة فِي فَمه تُطِيعهُ الأفعى وتحترمه الْعَقْرَب الَّتِي لدغت صَاحب الْغَار عَلَيْهِ الرضْوَان، وَتدْخل تَحت أمره قوانين الطبيعة، وهم المقررون: بَان الْولَايَة لَا ينافيها ارْتِكَاب الْكَبَائِر كلهَا إِلَّا الْكَذِب، وَإِن الِاعْتِقَاد أولى من الانتقاد، وَإِن الِاعْتِرَاض يُوجب الحرمان، أَي أَن تَحْسِين الظَّن بالفساق والفجار أولى من الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر. إِلَى غير ذَلِك من الْأَقْوَال المهونة للدّين والأعمال الَّتِي تَجْعَلهُ نوعا من اللَّهْو الَّذِي تستأنس بِهِ نفوس الْجَاهِلين. على أَن النَّاس لَو وجدوا الصُّوفِيَّة الحقيقيين؛ وَأَيْنَ هم؟ لفروا مِنْهُم فرارهم من الْأسد، لِأَن لَيْسَ عِنْد هَؤُلَاءِ إِلَّا التوسل بالأسباب العادية الشاقة لتطهير النُّفُوس من أمراض إفراط الشَّهَوَات،

وتصفية الْقُلُوب من شوائب الشره فِي حب الدُّنْيَا، وَحمل الطبائع بوسائل الْقَهْر والتمرين على الِاسْتِئْنَاس بِاللَّه وبعبادته عوضا عَن الملاهي الْمضرَّة، وَذَلِكَ طِبًّا للراحة الفكرية والعيشة الهنية فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا والسعادة الأبدية فِي الْآخِرَة، وَأَيْنَ التهوين السالف الْبَيَان لصوفية الزَّمَان من هَذِه المطالب التهذيبية الشاقة؟ وَمن حقائق الْعرْفَان المعنوية الَّتِي لَا يعرفهَا ويتلبس بهَا إِلَّا من وَفقه الله وكشف عَن بصيرته. وَذَلِكَ نَحْو الْعرْفَان عَن يَقِين وإيمان: أَن من اعز كلمة الله أعزه الله، وَمن نصر الله نَصره الله، وَمن توقع الْخَيْر أَو الشَّرّ جَازِمًا نَالَ مَا توقع. وَمن تصفو نَفسه يلهم رشده، وَمن اتكل على الله حَقًا كَفاهُ الله مَا أهمه، وَمن دَعَا الله مُضْطَرّا أجَاب دعاءه. إِلَى غير ذَلِك من الْحَقَائِق المقتبسة من الْقُرْآن وأسرار حِكْمَة سيد ولد عدنان [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . (مرحى) . قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: قد أحسن أخونا الشَّيْخ السندي توصيفه المتفقهة المتشددة والمتصوفة المخففة، وَإِنِّي مُلْحق تَقْرِيره بِمَا يُنَاسب أَن يكون مُقَدّمَة تاريخية لبحث التصوف فَأَقُول: قد كَانَ التنسك فِي الْمُسلمين شِيمَة لأكْثر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، ثمَّ أَن التَّوَسُّع فِي الدُّنْيَا قلل عدد المتنسكين، فَصَارَ لأَهله حرمه

مَخْصُوصَة بَين النَّاس. وَصَارَ بعض المتفرغين يقصدون نيل هَذِه الْحُرْمَة بالتلبس بالتنسك وإلزام النَّفس بالتمرن عَلَيْهِ؛ وَحَيْثُ كَانَ من لَوَازِم استحصال تِلْكَ الْحُرْمَة إِظْهَار التقشف اتَّخذُوا الصُّوف دثاراً وإسم الْفقر شعاراً، فغلب عَلَيْهِم اسْم الصُّوفِيَّة وَاسم الْفُقَرَاء. ثمَّ أَن بعض الْعلمَاء من هَؤُلَاءِ المعتزين بالتنسك، أحبو التميز بالرياسة أَيْضا، فصاروا يدعونَ النَّاس إِلَى التنسك ويرشدونهم إِلَى طرائق النمرن عَلَيْهِ، وَمن هُنَا جَاءَ اسْم الْإِرْشَاد وَاسم الطَّرِيق. وَحَيْثُ كَانَت إِرَادَة الاعتزاز بِالدّينِ إِرَادَة حَسَنَة لِأَن فِيهَا إعزازاً لكلمة الله، فَلَا يُؤْخَذ شَيْء على المرشدين الْأَوَّلين، وَلَا على الْبَعْض النَّادِر من الْمُتَأَخِّرين وَلَو من أهل عهدنا هَذَا كالسادات السنوسية فِي صحراء إفريقيا. أما دُخُول الْفساد على التصوف وإضراره بِالدّينِ وبالمسلمين مِمَّا ذكره أخونا الشَّيْخ السندي وَغَيره من الإخوان الْكِرَام، فقد نَشأ من أَن بعض المرشدين من أهل الْقرن الرَّابِع، لما رَأَوْا توسع الْفُقَهَاء فِي الشَّرْع وتفنن الْمُتَكَلِّمين فِي العقائد، فهم كَذَلِك اقتبسوا من فلسفة فيثاغورس وتلامذته فِي الألهيات قَوَاعِد، وانتزعوا من لاهوتيات الكتابيين والوثنيين جملا، وألبسوها لباسا

إسلاميا فجعلوه علما مَخْصُوصًا ميزوه باسم علم التصوف، أَو الْحَقِيقَة، أَو الْبَاطِن. وَهَكَذَا بعد أَن كَانَ التصوف عملا تعبدياً مَحْضا جَعَلُوهُ فَنًّا نظريا اعتقاديا بحتا. ثمَّ جَاءَ مِنْهُم فِي الْقرن الْخَامِس وَمَا بعده بعض غلاة دهاة، رَأَوْا مجالاً فِي جهل أَكثر الْأمة لِأَن يحوزوا بَينهم مقَاما، كمقام النُّبُوَّة بل الألوهية، باسم لولاية والقطبانية أَو الغوثية؛ وَذَلِكَ بِمَا يدعونَ من الْقُوَّة القدسية وَالتَّصَرُّف فِي الملكوت، فوسعوا فلسفة التصوف بِأَحْكَام تشبه الحكم، بنوها على زخرف التأويلات والكشف والتحكمات والمثال والخيال والأحلام والأوهام، وألفوا فِي ذَلِك الْكتب الْكَثِيرَة والمجلدات الْكَبِيرَة، محشوة بحكايات مكذوبة، وتقريرات مخترعة، وقضايا وتركيبات لَا مَفْهُوم لَهَا الْبَتَّةَ حَتَّى وَلَا فِي مخيلة قائليها، كَمَا أَن قارئيها أَو سامعيها لَا يتصورون لَهَا معنى مُطلقًا وَإِن كَانَ بَعضهم يتظاهر بِحَالَة الْفَهم، ويتلمظ بِأَن للْقَوْم اصْطِلَاحَات لَا تدْرك إِلَّا بالذوق الَّذِي لَا يعرفهُ إِلَّا من شرب مشربهم. وَبَعض هَؤُلَاءِ الغلاة قتلوا كفرا وَمَعَ ذَلِك شاعت كتبهمْ ومقالاتهم، وحازوا الْمقَام الَّذِي ادعوهُ بعد مماتهم، لِأَن فِي تَعْظِيم

شَأْنهمْ ترويج مَقَاصِد المقتفين لآثارهم كالإباحيين. وَبَعْضهمْ لم يكن من الغلاة، وَلَكِن إخلافه إعظاماً لأَنْفُسِهِمْ فِي نظر حمقاء الْأمة نسبوا إِلَيْهِ الغلو، وعزوا إِلَيْهِ كتبا ومقالات لَا يعرفهَا، وَمِنْهُم الأفاعيون يَفْعَلُونَ ذَلِك حَتَّى فِي عهدنا هَذَا وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه. ثمَّ قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس للخطيب القازاني: إِن الأخوان يترقبون مِنْهُ أَيْضا أَن يفيدهم بِمَا يلهمه الله مِمَّا يُنَاسب مَوْضُوع مبَاحث الجمعية. فَقَالَ الْخَطِيب القازاني: إِن الإخوان الأفاضل لم يتْركُوا قولا لقَائِل، وَلذَلِك لَا أجد مَا أَتكَلّم فِيهِ، وَإِنَّمَا أقص عَلَيْهِم مساجلة جرت فِي الاستهداء بَين مفتي قازان وإفرنجي روسي من الْعلمَاء المستشرقين العارفين باللغة الْعَرَبيَّة، المولعين باكتشاف وتتبع الْعُلُوم الشرقية وَلَا سِيمَا الإسلامية، وَقد هداه الله إِلَى الدّين الْمُبين، فَاجْتمع بمفتي قازان وَقَالَ لَهُ: أَنه قد أسلم جَدِيدا، وَهُوَ بَالغ من معرفَة لُغَة الْقُرْآن وَالسّنة مبلغا كَافِيا، وعالم بموارد ومواقع الْخَطَأ علما وافياً، فيريد أَن

يتتبع الْقُرْآن وَمَا يُمكنهُ أَن يتَحَقَّق وُرُوده عَن رَسُول الله، فَيعْمل بِمَا يفهمهُ ويمكنه تَحْقِيقه على حسب طاقته، لِأَنَّهُ لَا يرى وَجها معقولاً للوثوق بزيد أَو عَمْرو أَو بكر أَصْحَاب الْأَقْوَال المتضاربة المتناقضة، لِأَن حكم الْعقل فِي الدَّلِيلَيْنِ المتعارضين التساقط، وَفِي البرهانين المتباينين التهاتر، فَهَل من مَانع فِي الإسلامية يمنعهُ من ذَلِك. فَأَجَابَهُ " الْمُفْتِي ": إِن أكثرية الْأمة مطبقة مُنْذُ قُرُون كَثِيرَة على لُزُوم اعْتِمَاد مَا حَرَّره أحد الْمُجْتَهدين الْأَرْبَعَة المنقولة مذاهبهم، فاطباق الأكثرية دَلِيل على الصِّحَّة فَلَا يجوز الشذوذ. فَقَالَ " المستشرق ": لَو كَانَ الصَّوَاب قَائِما بِالْكَثْرَةِ والقدم، وَإِن خَالف الْمَعْقُول، لاقتضى ذَلِك صوابية الوثنية ورجحان النَّصْرَانِيَّة، ولاقتضى كَذَلِك عكس حكم مَا صَحَّ وُرُوده عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : من أَن أمته تفترق إِلَى ثَلَاث وَسبعين فرقة كلهَا فِي النَّار إِلَّا وَاحِدَة، هِيَ الَّتِي كَانَ هُوَ وَأَصْحَابه عَلَيْهَا. وَقد وَقع مَا اخبر بِهِ، وكل فرقة تَدعِي أَنَّهَا هِيَ تِلْكَ الْوَاحِدَة النَّاجِية، وَلَا شكّ أَن الاثنتين وَسبعين فرقة أَكثر من أَي وَاحِدَة كَانَت مِنْهَا، فَأَيْنَ يبْقى حكم الأكثرية؟ فَأَجَابَهُ " الْمُفْتِي " أَنه قد سبقنَا من أهل التَّحْقِيق والتدقيق الَّذين

تشهد آثَارهم بمزيد علمهمْ أُلُوف من الْفُضَلَاء، وَكلهمْ اعتمدوا لُزُوم اتِّبَاع أحد تِلْكَ الْمذَاهب الْقَدِيمَة، حَتَّى بِدُونِ مُطَالبَة أَهلهَا بدلائلهم، لِأَن مداركنا قَاصِرَة عَن أَن توازن الدَّلَائِل وتميز الصَّحِيح وَالرَّاجِح، ومثلنا فِي ذَلِك كالطبيب لَا يلْزمه أَن يجرب طبائع الْمُفْردَات كلهَا ليعتمد عَلَيْهَا، بل يَأْخُذ علمه بطبائعها عَمَّا دونه أَئِمَّة الطِّبّ. فَقَالَ " المستشرق ": نعم أَن الطَّبِيب يعْتَمد على مَا حَقَّقَهُ الْأَولونَ وَلَكِن فِيمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ، وَأما مَا اخْتلفُوا فِيهِ على طرفِي نقيض بَين نَافِع أَو سَام فَلَا يعْتَمد فِيهِ أحد الْقَوْلَيْنِ، بل يهملهما ويجدد التجربة بمزيد الدقة وَالتَّحْقِيق، لِأَن اعْتِمَاده على أَحدهمَا يكون تَرْجِيحا بِلَا مُرَجّح. هَذَا وأننا لنرى ببادئ النّظر أَن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الأقدمين لَا يقدرُونَ أَن يطلعوا على مَا لَا يقدر الْمُتَأَخّرُونَ أَن يطلعوا عَلَيْهِ، وَيَكْفِينَا برهانا على ذَلِك: (أَولا) تخالفهم فِي كل الْأَحْكَام، إِلَّا فِيمَا قل وندر، تخالفا مهما مَا بَين مُوجب وسالب ومحلل ومحرم، حَتَّى لم يُمكنهُم الِاتِّفَاق فِي نَحْو مسَائِل الطَّهَارَة وَستر الْعَوْرَة وَمَا يحل أكله وَمَا لَا يحل. (ثَانِيًا) : ترددهم فِي الْأَحْكَام وتقلبهم فِي الآراء، وَذَلِكَ كَحكم أحدهم فِي الْمَسْأَلَة ثمَّ عدوله عَنهُ إِلَى غَيره؛ كَمَا يَقُول أَصْحَاب الشَّافِعِي

أَنه كَانَ لَهُ مذهبان، رَجَعَ بِالثَّانِي مِنْهُمَا عَن الأول. (ثَالِثا) : اخْتِلَاف أتباعهم فِي الرِّوَايَة عَنْهُم كأصحاب أبي حنيفَة الَّذين قَلما يتفقون على رِوَايَة عَنهُ، ويؤول ذَلِك لَهُم بعض الْمُتَأَخِّرين بِتَعَدُّد مذاهبه فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة. وَالْحَاصِل أَن الْإِنْسَان الَّذِي يتَقَيَّد بتقليد أحد أُولَئِكَ الْأَئِمَّة، وَلَا سِيمَا الإِمَام الْأَعْظَم مِنْهُم، لَا يتَخَلَّص من قلق الضَّمِير، أَو يكون كحاطب ليل: بِنَاء على ذَلِك لَا بُد للمتحري فِي دينه من أَن يَهْتَدِي بِنَفسِهِ لنَفسِهِ، أَو يَأْخُذ عَمَّن يَثِق بِعِلْمِهِ وَدينه وصواب رَأْيه وَلَو من معاصريه، لِأَن الدّين أَمر عَظِيم لَا يجوز الْعقل وَالنَّقْل فِيهِ المماشاة وَاتِّبَاع التَّقْلِيد. أَجَابَهُ " الْمُفْتِي ": نَحن لَا نحتم بَان الصَّوَاب مَقْطُوع فِيهِ فِي جَانب أحد تِلْكَ الْمذَاهب، بل الْمُقَلّد منا أما أَن يَقُول بِإِصَابَة الْكل أَو يرجح الْخَطَأ فِي جَانب من ترك مَعَ احْتِمَال الصَّوَاب. فَقَالَ " المستشرق ": هَذَا القَوْل يسْتَلْزم تعدد الْحق عِنْد الله. أَو القَوْل بالترجيح بِلَا مُرَجّح، لأنكم تتحامون المفاضلة بَين الْأَئِمَّة. واعترافكم بِاحْتِمَال الْجَمِيع للخطأ يَقْتَضِي جَوَاز تَركهَا كلهَا مَعَ أَنكُمْ توجبون اتِّبَاع أَحدهَا. أفليست هَذِه قضايا لَا تتطابق وَلَا تعقل،

فلماذا لَا تجوزون وانتم على هَذَا الارتباك أَن يستهدي المبتلي لنَفسِهِ، فَإِن تحقق عِنْده شَيْء عَن يَقِين أَو غَلَبَة ظن اتبعهُ وَلَا كَانَ مُخْتَارًا وَهل يُكَلف الله نَفسهَا إِلَّا وسعهَا؟ أَجَابَهُ " الْمُفْتِي " أننا لبعد الْعَهْد لم يبْق فِي إمكاننا التَّحْقِيق، فَمَا لنا من سَبِيل غير اتِّبَاع أحد الْمُتَقَدِّمين وَلَو كَانَ تَحْقِيقه يحْتَمل الْخَطَأ. قَالَ " المستشرق ": مَا الْمُوجب لتكليف النَّفس مَا لم يكلفها بِهِ الله؟ أَلَيْسَ من الْحِكْمَة أَن يحفظ الْإِنْسَان حُرِّيَّته واختياره، فيستهدي بِنَفسِهِ لنَفسِهِ حسب وَسعه، فَإِن أصَاب كَانَ مأجورا وان أَخطَأ كَانَ مَعْذُورًا، وَيكون ذَلِك أولى من أَن يأسر نَفسه للخطأ الْمُحْتَمل من غَيره. أَجَابَهُ " الْمُفْتِي ": أَن هَذَا الْغَيْر أعرف منا بِالصَّوَابِ وَأَقل منا خطأ، فتقليده أقرب للحق. قَالَ " المستشرق " هَذَا مُسلم فِيمَا اتّفق عَلَيْهِ الأقدمون، أما فِي الخلافات فالعقل يقف عِنْد التَّرْجِيح بِلَا مُرَجّح، وَلَا سِيمَا إِذا كُنْتُم لَا تجوزون أَيْضا الْبَحْث عَن الدَّلِيل ليحكم المبتلي عقله فِي التَّرْجِيح، بل تَقولُونَ نَحن إسراء النَّقْل وَأَن خَالف

ظَاهر النَّص. أَجَابَهُ " الْمُفْتِي " أننا إِذا أردنَا أَن لَا نعد من شرعنا إِلَّا مَا نتحقق بِأَنْفُسِنَا دَلِيله من الْكتاب أَو السّنة أَو الْإِجْمَاع تضيق حِينَئِذٍ علينا أَحْكَام الشَّرْع، فَلَا تفي بِحل إشكالاتنا فِي الْعِبَادَات وَلَا لتعيين أَحْكَام حاجاتنا فِي الْمُعَامَلَات، فَيحْتَاج كل منا أَن يعْمل بِرَأْيهِ فِي غَالب دقائق الْعِبَادَات والمعاملات، وَيصير الْقَضَاء غير مُقَيّد بإيجابات شَرْعِيَّة. وَهل من شكّ فِي أَن اطراد الآراء وانتظام الْمُعَامَلَات أليق بالحكمة من لَا اطراد وَلَا نظام. قَالَ " المستشرق ": لَا شكّ فِي ذَلِك، وَلَكِن أَيْن الاطراد والانتظام مِنْكُم، وَلَا يكَاد يُوجد عنْدكُمْ مَسْأَلَة فِي الْعِبَادَات أَو الْمُعَامَلَات غير خلافية، أَن لم تكن فِي الْمَذْهَب الْوَاحِد فَبين مذهبين أَو ثَلَاث. هَذَا وَرُبمَا يُقَال أَن توفيق الْعَمَل على قَول من اثْنَيْنِ أَو أَكثر، أقرب للاطراد من الفوضى الْمَحْضَة فِي تَفْوِيض الْأَمر لرأي المبتلي، أَو تَفْوِيض الحكم لحرية القَاضِي. فيجاب على ذَلِك أَن الْأَمر أَمر ديني لَيْسَ لنا أَن نتصرف فِيهِ برأينا ونعزوه إِلَى الله وَرَسُوله كذبا وافتراءً وإفساداً لدين الله على عباده، وَلَو أَن الْأَمر نظام وضعي لما كَانَ أَيْضا من الْحِكْمَة أَن يلْتَزم أهل زَمَاننَا آراء من سلفوا من عشرَة

قُرُون، وَلَا أَن يلْتَزم أهل الغرب بقانون أهل الشرق. وَعِنْدِي أَن هَذَا التَّضْيِيق قد استلزم مَا هُوَ مشَاهد عنْدكُمْ من ضعف حُرْمَة الشَّرْع الْمُقَدّس. ثمَّ قَالَ " المستشرق " وأعيد قولي أَنكُمْ تحبون أَن تكلفوا أَنفسكُم بِمَا لم يكلفكم بِهِ الله، وَلَو أَن فِي الزِّيَادَات خيرا لاختارها الله لكم وَلم يمنعكم مِنْهَا بقوله تَعَالَى: {مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} أَي مِمَّا يتَعَلَّق بِالدّينِ، وَقَوله تَعَالَى: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} . وَقَوله تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُود الله فَلَا تعتدوها وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} . وَلَكِن، علم الله، الْخَيْر فِي الْقدر الَّذِي هدَاكُمْ إِلَيْهِ، وَترك لكم الْخِيَار على وَجه الْإِبَاحَة فِي بَاقِي شئونكم لتوفقوها على مقتضيات الزَّمَان أبي الْغَيْر وموجبات الْأَحْوَال الَّتِي لَا تَسْتَقِر، فبناء عَلَيْهِ، إِذا أتيتم أَكثر أَعمالكُم الحيوية باطمئنان قلب بإباحتها، يكون خيرا من أَن تأتوها وَأَنْتُم حيارى لَا تَدْرُونَ هَل أصبْتُم فِيهَا أم خالفتم أَمر الله، فتعيشون وأفئدتكم هَوَاء، تحاذرون فِي الدّين شُؤْم الْمُخَالفَة وَفِي الْآخِرَة عذَابا

عَظِيما. وَلَيْسَ هَذَا من مُخَالفَة الله الَّتِي هِيَ رَأس الْحِكْمَة، وَلَا من مراقبة الْوَازِع الَّتِي هِيَ مزية الدّين، بل هَذَا من الارتباك فِي الرَّأْي وَالِاضْطِرَاب فِي الحكم ونتيجة ذَلِك فقد الحزم والعزم فِي الْأُمُور. ثمَّ قَالَ: أعلم أَيهَا الْمُفْتِي الْمُحْتَرَم، أَن هَذِه الْحَالة الَّتِي أَنْتُم عَلَيْهَا من التَّشْدِيد والتشويش فِي أَمر الدّين، هِيَ اكبر أَسبَاب انحطاط الْمُسلمين بعد الْقُرُون الأولى فِي شؤون الْحَيَاة، كَمَا انحط قبلهم الإسرائيليون بِمَا شدده وشوشه عَلَيْهِم أهل التلمود، وكما انحطت الْأُمَم النَّصْرَانِيَّة لما كَانَت (أرثوذكسية) مُغَلّظَة أَو (كاثوليكية) متشددة، يتحكم فِيهَا البطارقة والقسيسون بِمَا يشاؤن تَحت اسْم الدّين، فَكَانُوا يكلفون النَّاس أَن يتبعوا مَا يلقنونهم من الْأَحْكَام بِدُونِ نظر وَلَا تدقيق؛ حَتَّى كَانُوا يحظرون عَلَيْهِم أَن يقرأوا الْإِنْجِيل أَو يستفهموا معنى التَّثْلِيث الَّذِي هُوَ أساس النَّصْرَانِيَّة كَمَا أَن التَّوْحِيد أساس الإسلامية. وَبَقِي ذَلِك كَذَلِك إِلَى أَن ظَهرت (البروتستان) ، أَي الطَّائِفَة الإنجيلية الَّتِي رجعت بالنصرانية إِلَى بساطتها الْأَصْلِيَّة، وأبطلت المزيدات والتشديدات الَّتِي لَا صَرَاحَة فِيهَا فِي الأناجيل، وَإِلَى أَن اتَّسع من جِهَة أُخْرَى عِنْد الْأُمَم النَّصْرَانِيَّة نطاق الْعُلُوم

والفنون رغماً عَن مُعَارضَة رجال الكهنوت لَهَا، فتلطفت أَيْضا الكاثوليكية والأرثوذكسية عِنْد الْعَوام واضمحلتا بِالْكُلِّيَّةِ عِنْد الْخَواص. لِأَن الْعلم والنصرانية لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا، كَمَا أَن الإسلامية المشوبة بحشو المتفننين تضلل الْعُقُول وتشوش الأفكار. أما الإسلامية السمحاء، الْخَالِصَة من شوائب الزَّوَائِد وَالتَّشْدِيد، فَإِن صَاحبهَا يزْدَاد إِيمَانًا كلما ازْدَادَ علما ودق نظرا، لِأَنَّهُ بِاعْتِبَار كَون الإسلامية هِيَ أَحْكَام الْقُرْآن وَمَا ثَبت من السّنة وَمَا اجْتمعت عَلَيْهِ الْأمة فِي الصَّدْر الأول، لَا يُوجد فِيهَا مَا يأباه عقل أَو يناقضه تَحْقِيق علمي. وَكفى شرفا لِلْقُرْآنِ الْعَزِيز أَنه على اخْتِلَاف مواضيعه من تَوْحِيد وَتَعْلِيم وإنذار وتبشير وأوامر ونواه وقصص وآيات آلَاء، قد مضى عَلَيْهِ ثَلَاثَة عشر قرنا تمخضه أفكار الناقدين المعادين وَلم يظفروا فِيهِ وَلَو بتناقض وَاحِد، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فِيهِ: {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} . بل الْأَمر كَمَا تنبه إِلَيْهِ المدققون الْمُتَأَخّرُونَ انه كلما اكتشف الْعلم حَقِيقَة وجدهَا الباحثون مسبوقة التلميح أَو التَّصْرِيح فِي الْقُرْآن. أودع الله ذَلِك فِيهِ ليتجدد إعجازه ويتقوى الْإِيمَان بِهِ أَنه من عِنْد الله، لِأَنَّهُ لَيْسَ من شَأْن مَخْلُوق

أَن يقطع بِرَأْي لَا يُبطلهُ الزَّمَان. فَهَذِهِ القضايا الَّتِي قررها حكماء اليونان وَغَيرهم على أَنَّهَا حقائق، وَلم تَتَرَدَّد فِيهَا عقول عَامَّة الْبشر ألوفاً من السنين، أَصبَحت مَحْكُومًا على أَكْثَرهَا بِأَنَّهَا خرافات. وَكَذَا يُقَال: كفى السّنة النَّبَوِيَّة شرفاً، انه لم يُوجد فِي أعاظم الْحُكَمَاء الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين، من يَرْبُو عدد مَا يعزى إِلَيْهِ من الحكم الَّتِي قررها غير مَسْبُوق بهَا على عدد الْأَصَابِع، مَعَ أَن فِي السّنة المحمدية على صَاحبهَا أفضل التَّحِيَّة من الحكم والحقائق الأخلاقية والتشريعية والسياسية والعلمية ألوفا من المقررات المبتكرة، ويتجلى عظم قدرهَا مَعَ تجدّد الزَّمَان وترقي الْعلم والعرفان. وَكفى بذلك ملزماً لأهل الْإِنْصَاف بِالْإِقْرَارِ وَالِاعْتِرَاف لصَاحِبهَا عَلَيْهِ السَّلَام بِالنُّبُوَّةِ والأفضلية على الْعَالمين عقلا، وعلماً، وَحِكْمَة وحزماً، وأخلاقاً، وزهداً، واقتداراً، وعزماً، وَكفى أَيْضا بِهَذِهِ المزايا الْعُظْمَى ملزماً بتصديقه فِي كل مَا جَاءَ بِهِ واتباعه فِي كل مَا أَمر أَو نهي، لِأَن الدَّهْر لم يَأْتِ بمرشد للبشر أكمل وَأفضل مِنْهُ (مرحى) . ثمَّ قَالَ " المستشرق " للمفتي: وَهَذَا مَا دَعَاني لِلْإِسْلَامِ فلبيت وَالْحَمْد لله،

وَعِنْدِي أَن لَو قَامَ فِي الْإِسْلَام سراة حكماء دعاة مقدمون لما بَقِي على وَجه الأَرْض عَاقل يكفر بِاللَّه. ثمَّ قَالَ: وَإِنِّي أرى انه لَا يمْضِي قرن إِلَّا وَيكثر المهتدون من المستشرقين ويرسخون فِي الدّين، فيتولون تَحْرِير شَرِيعَة الْإِسْلَام، ويفيضون بهَا على الْأَنَام، حَتَّى على أهل الرُّكْن وَالْمقَام. وَلَا يبعد أَن تَأتي الْأَيَّام بالبرنس مُحَمَّد الْمُهْتَدي الروسي أَو الإنكليزي مثلا، قَائِما مقَام الإِمَام، معيداً عز الْإِسْلَام بأكمل نظام. أجَاب " الْمُفْتِي ": لَا مَانع مِمَّا ذكرت، ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء، وَدين الله دين عَام لَا يخْتَص بِقوم من الأقوام. ثمَّ قَالَ " المستشرق ": أَيهَا الْمُفْتِي الْمُحْتَرَم، لَا يطاوعني لساني أَن أَدعِي الْغيرَة على الْملَّة الْبَيْضَاء الأحمدية أَكثر مِنْك، إِنَّمَا أناشدك بِاللَّه وبحبك لدينك أَن تتْرك هَذِه الأوهام التقليدية الْقَائِمَة فِي فكرك، وتعينني على تأليف كتاب يصور حِكْمَة دين الْإِسْلَام وسماحته، ليَكُون سعينا هَذَا ذخْرا عَظِيما ننال بِهِ فَخر وثواب هِدَايَة عشرات الملايين بل مئات الملايين من النَّاس لهَذَا الدّين الْمُبين. وَلَا يكبرن مَا أَقُول على فكرك، فَإِن أهل هَذَا الزَّمَان المتنورين الْأَحْرَار لَا يقاسون بِأَهْل الْأَزْمِنَة الْمظْلمَة الغابرة. نعم، وننال أَيْضا ثَوَاب حفظ الملايين الْكَثِيرَة من أَبنَاء

الْمُسلمين العريقين، تلامذة الْمدَارِس المصرية، من هجر الإسلامية على صورتهَا الْحَاضِرَة المشوهة باختلاط الحكم بالخرافات، المعطلة بثقل التشديدات المبتدعة، فالبدار البدار لِأَن نفوز بِهَذِهِ الْخدمَة الَّتِي يكَاد يعادل أجرهَا أجر نَبِي مُرْسل وَالله الْمعِين الْمُوفق. أَجَابَهُ " الْمُفْتِي ": أُصِيبَت فِيمَا افتكرت ولنعم مَا أَشرت بِهِ، وَلَكِن هَذَا عمل مُهِمّ، يحْتَاج الْقيام بِهِ لعناية جمعية يتكون من تضلع أعضائها فِي فروع الْعُلُوم الدِّينِيَّة علم كَاف للإحاطة وَحُصُول الثِّقَة ولسوء الْحَظ لَا يُوجد من فيهم الْكَفَاءَة فِي هَذِه الْبِلَاد، وَلذَلِك يتحتم علينا أَن نَتْرُك هَذِه الفكرة آسفين، وندعو الله تَعَالَى أَن يلهم عُلَمَاء مَكَّة أَو صنعاء أَو مصر أَو الشَّام الْقيام بإيفاء هَذَا الْوَاجِب. وَلما انْتهى الْخَطِيب القازابي إِلَى هُنَا قَالَ: هَذِه هِيَ المساجلة، وَقد سَمِعت الْمُفْتِي يَقُول أَنه اجْتمع بِكَثِير من المستشرقين، فَوَجَدَهُمْ كلهم يحسنون الْعَرَبيَّة أَكثر من عُلَمَاء الْإِسْلَام غير الْعَرَب، مَعَ أَنهم يشتغلون فِي عُلُوم اللُّغَة عمرهم كُله، وَمَا ذَلِك إِلَّا من ظفر مدارس اللُّغَات الشرقية الإفرنجية بأصول لتعليم الْعَرَبيَّة اسهل من الْأُصُول الْمَعْرُوفَة عندنَا. قَالَ الْمُجْتَهد التبريزي: إِنِّي أرى أَن الْإِسْلَام أَصَابَهُ فتنتان عظيمتان،

وَلَوْلَا قُوَّة أساسه الْبَالِغَة فَوق مَا يتصوره الْعقل لما ثَبت الدّين إِلَى الْآن. أما الْفِتْنَة الأولى: فقد قدرهَا الله مَضَت على وَجههَا، وَهِي حِين تشاجروا فِي الْخلَافَة وَالْملك، وانقسموا على أنفسهم بأسهم بَينهم، يقتل بَعضهم بَعْضًا، وَتَفَرَّقُوا فِي الدّين لتفرقهم فِي السياسة. وَأما الْفِتْنَة الثَّانِيَة فَلم تزل مستمرة، وَهِي أَن الْخُلَفَاء العباسيين مالوا إِلَى تعميق النّظر فِي العقائد فخدمهم من خدمهم من عُلَمَاء الإعجام تقرباً إِلَيْهِم فِي علم الْكَلَام، وَأَكْثرُوا من القيل والقال. ثمَّ سرت الْعَدْوى إِلَى المناظرة فِي الْفِقْه وَبَيَان الأولى من الْمذَاهب، فاقبلوا على التدقيق والجدل فِي الخلافات بَين أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ. وأثاروا بَينهمَا فتْنَة عمياء وحربا صماء، وَتركُوا بَقِيَّة الْمذَاهب فاندرست، وَلم يبْق مِنْهَا سوى مَذْهَب زيد وَاحْمَدْ فِي جَزِيرَة الْعَرَب، وَمذهب مَالك فِي الغرب وَمذهب جَعْفَر فِي بِلَاد الخزر وَفَارِس. فاكثروا التَّأْلِيف والتصنيف فِي هَذِه الْمذَاهب، كل مؤلف يحب أَن يُبْدِي مَا عِنْده ليشتهر فَضله وينال حَظه من دُنْيَاهُ، زاعما أَن غَرَضه استنباط دقائق الشَّرْع وَتَقْرِير علل الْمذَاهب. فتزاحموا وتجادلوا وناقض بَعضهم بَعْضًا، وَكَانَ من الْعلمَاء بعض الصلحاء المغفلين شاركوهم فِي الْفِتْنَة وهم

لَا يَشْعُرُونَ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم لَا تفسدوا فِي الأَرْض قَالُوا إِنَّمَا نَحن مصلحون أَلا إِنَّهُم هم المفسدون وَلَكِن لَا يَشْعُرُونَ} . وَقَوله تَعَالَى: {قل هَل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا} . وَهَكَذَا اتسعت دَائِرَة الْأَحْكَام فِي الشَّرْع، فَصَارَ الْخلف عاجزين عَن الْتِقَاط الْفُرُوع فضلا عَن الرُّجُوع إِلَى الْأُصُول، فاطمأنت الْأمة للتقليد، وَاقْبَلْ الْعلمَاء على التعمقات فِي الدّين: يغرب الْمُفَسّر، ويتفنن وَلَو بحكايات قَاضِي الْجِنّ لِأَنَّهُ غير مطَالب بِدَلِيل. ويتفحص الْمُحدث عَن نَوَادِر الْأَخْبَار والْآثَار وَلَو مَوْضُوعَة لِأَنَّهُ غير مسئول عَن سَنَده. ويستنبط الْفَقِيه الحكم وَلَو بالشبه من وَجه للازم اللَّازِم لِلْعِلَّةِ لِأَن مجَال التحكم وَاسع. وَهَذِه الْفِتْنَة لم تزل مستمرة إِلَى أَن أوقفها قُصُور الهمم عِنْد الْأَكْثَرين. على أَن هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرين اخلدوا إِلَى التَّقْلِيد الصّرْف حَتَّى فِي مَسْأَلَة التَّوْحِيد الَّتِي هِيَ أساس الدّين، ومبدأ الْإِيمَان وَالْيَقِين، والفارق بَين الْكفْر وَالْإِسْلَام. وَجعلُوا أنفسهم كالعميان لَا يميزون الظلمَة من النُّور وَلَا الْحق من الزُّور، وصاروا يحسنون الظَّن فِي كل مَا يجدونه مدونا بَين دفتي كتاب، لأَنهم رَأَوْا التَّسْلِيم أَهْون من التبصر،

والتقليد اسْتُرْ للْجَهْل. وَصَارَ أهل كل إقليم أَو بلد يتعصبون لمؤلفات شيوخهم الأقدمين، ويتخذون الخلافيات مدارا لتطبيق الْأَحْكَام على الْهوى، لَا يبالون بِحمْل أثقال النَّاس فِي الدّين على عواتقهم، يَزْعمُونَ أَن التَّسْلِيم أسلم، وَأَنَّهُمْ إسراء النَّقْل وان خَالف ظَاهر النَّص، ويتوهمون أَن اخْتِلَاف الْأَئِمَّة رَحْمَة للْأمة. نعم أَن اخْتِلَاف الْأَئِمَّة يكون رَحْمَة إِذا حسن اسْتِعْمَاله، وَيكون نقمة إِذا صَار سَببا للتفرقة الدِّينِيَّة والتباغض: كَمَا هُوَ الْوَاقِع بَين أهل الجزيرة السلفيين، وَبَين أهل مصر والغرب وَالشَّام وَالتّرْك وَغَيرهم من المستسلمين، وَبَين أهل عراق الْعَجم وَفَارِس، والصنف الممتاز من أهل الْهِنْد الشيعيين، وَبَين أهل زنجبار وَمن حَولهمْ من الأباضيين. فَهَذِهِ الْفرق الْكُبْرَى يعْتَقد كل مِنْهُم أَنهم وحدهم أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وان سواهُم مبتدعون أَو زائغون. فَهَل وَالْحَالة هَذِه يتَوَهَّم عَاقل أَن هَذَا التَّفَرُّق والانشقاق رَحْمَة لَا نقمة، وَسَببه، وَهُوَ التَّوَسُّع فِي الْأَحْكَام، سَبَب خير لَا سَبَب شَرّ؟ وَكَذَلِكَ اخْتِلَاف الْمُجْتَهدين فِي كل فرقة من تِلْكَ الْفرق، لَا يتَصَوَّر الْعقل أَن يكون رَحْمَة إِلَّا بِقَيْد حسن اسْتِعْمَاله، وَإِلَّا فَيكون نقمة حَيْثُ يُوجب تَفْرِقَة ثَانِيَة بَين مالكي وحنفي

وشافعي مثلا. وَالْمرَاد من حسن اسْتِعْمَال الْخلاف، هُوَ أَن كل قوم من الْمُسلمين قد اتبعُوا مذهبا من الْمذَاهب تَرْجِيحا أَو وراثة أَو تعصبا، وَلَا بُد أَن يكون فِي الْمَذْهَب الْآخِذ بِهِ كل قوم بعض الْأَحْكَام الاجتهادية، الَّتِي لَا تناسب أَخْلَاق أُولَئِكَ الْقَوْم أَو لَا تلائم أَحْوَالهم المعاشية وطبائع بِلَادهمْ، فيضطرون إِلَى الْإِقْدَام على أحد أَمريْن: أما التَّمَسُّك بِتِلْكَ الْأَحْكَام وَإِن أضرت بهم، أَو الجنوح إِلَى تَقْلِيد مَذْهَب اجتهادي آخر فِي تِلْكَ الْأَحْكَام فَقَط. وَقد كَانَ أَكثر عُلَمَاء وفقهاء الْمُسلمين إِلَى الْقرن الثَّامِن بل التَّاسِع يختارون الشق الثَّانِي، فيقلدون فِي هَذِه الْحَالة الْمذَاهب الْأُخْرَى، وَلَكِن بعد النّظر والتدقيق فِي الْأَدِلَّة كَمَا كَانَ شانهم فِي نفس مذاهبهم الْأَصْلِيَّة، لِئَلَّا يَكُونُوا مقلدين تقليداً أعمى لَا يجوزه الدّين أساسا إِلَّا للجاهل بِالْكُلِّيَّةِ. وَهَذِه الطَّرِيقَة هِيَ الطَّرِيقَة المتبعة إِلَى الْيَوْم فِي بِلَاد فَارس، وَالْعُلَمَاء المتصدرون لذَلِك هم أَفْرَاد من نوابغ الْعلمَاء المتضلعين فِي عُلُوم مآخذ الدّين، أَكْثَرهم وَلَا سِيمَا الإيرانيون مِنْهُم متفقهون ومتخرجون على مَذْهَب الإِمَام " جَعْفَر الصَّادِق " رَضِي لله عَنهُ المدون عِنْدهم. وَيُطلق

أهل فَارس على هَؤُلَاءِ الْعلمَاء اسْم " مجتهدين " تجوزا واتباعا لعادة الأعجام فِي التغالي فِي التبجيل ونعوت الاحترام، وَمن ذَلِك يعلم أَن مَا يَظُنّهُ فيهم إخْوَانهمْ الْمُسلمُونَ البعيدون عَنْهُم غير الواقفين على أَحْوَالهم إِلَّا من تفوهات السياسيين غير صَحِيح، فَمَا هم كَمَا يَقُولُونَ عَنْهُم مجتهدون فِي أصُول الدّين، مجوزون الرَّأْي فِي الاجماعيات، مخرجون الْأَحْكَام أخذا من الدَّلَائِل الظنية وَلَو لم يقل بهَا أحد من عُلَمَاء الصَّحَابَة أَو التَّابِعين وأعاظم أَئِمَّة الْهِدَايَة الْأَوَّلين. فَمَا أَحْرَى أَن يُسمى مجتهدو فَارس بمرجحين أَو مخرجين أَو فُقَهَاء مدققين. ثمَّ أَن بَعضهم وصفوا الْمُقَلّد لأحد الْمذَاهب، إِذا أَخذ فِي بعض الْأَحْكَام بِمذهب آخر، مُلَفقًا وَأَخذه تلفيقاً، واستعملوا لَفظه تلفيق فِي مقَام التلاعب فِي الدّين أَو الترقيع الْقَبِيح. وَالْحَال، لَيْسَ مَا سموهُ بالتلفيق إِلَّا عين التَّقْلِيد من كل الْوُجُوه، وَلَا بُد لكل من أجَاز التَّقْلِيد أَن يُجِيزهُ، لِأَنَّهُ إِذا تَأمل فِي الْقَضِيَّة يجد الْقيَاس هَكَذَا: يجب على كل مُسلم عَاجز عَن الاستهداء فِي مَسْأَلَة دينية بِنَفسِهِ أَن يسْأَل عَنْهَا من أهل الذّكر، أَي يُقَلّد فِيهَا مُجْتَهد، وكل مقلد عَاجز طبعا عَن التَّرْجِيح بَين مَرَاتِب الْمُجْتَهدين، فبناءً عَلَيْهِ يجوز لَهُ أَن يُقَلّد فِي كل مَسْأَلَة دينية مُجْتَهدا مَا.

وَمَا الْمَانِع على هَذَا الِاعْتِبَار للْمُسلمِ الْمُقَلّد أَن يتَعَلَّم كل مَسْأَلَة من الطَّهَارَة وَالْغسْل وَالْوُضُوء وَالصَّلَاة من مُجْتَهد أَو فَقِيه تَابع لمجتهد، فَإِذا اغْتسل بِمَاء دون قُلَّتَيْنِ لحقته قَطْرَة خمر واعتبره طَاهِرا كَمَا علمه عَالم مالكي، غسلا بِدُونِ دلك كَمَا علمه عَالم حَنَفِيّ؛ وَبعد حدث مُوجب تَوَضَّأ وَمسح شَعرَات من الرَّأْس كَمَا علمه عَالم شَافِعِيّ، وَصلى بعد خُرُوج دم قَلِيل مِنْهُ كَمَا علمه عَالم حنبلي، صَلَاة الصُّبْح بعد طُلُوع الشَّمْس كَمَا علمه عَالم زيدي، وَوصل الْفَرْض بِصَلَاة أُخْرَى بِدُونِ خُرُوج من الأولى كَمَا علمه عَالم جعفري. أَفلا يكون هَذَا الْمُقَلّد صلى صَلَاة تُجزئه عِنْد الله؟ بلَى ثمَّ بلَى، تجزئة بِالضَّرُورَةِ حَتَّى لَا يقوم دَلِيل على أَن ذَلِك خلاف الأولى، كَمَا يُقَال فِي حق الْخُرُوج من الخلافات لِأَنَّهُ لَا يعقل أَن يُكَلف هَذَا الْمُقَلّد بِأخذ دينه كُله من عَالم وَاحِد، لِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم مَعَ اجتهادهم وتخالفهم فِي الْأَحْكَام كَانَ يُصَلِّي بَعضهم خلف بعض، مَعَ حكم الْمُؤْتَم مِنْهُم على حسب اجْتِهَاده بِعَدَمِ صِحَة صَلَاة إِمَامه، وإشتراطه صِحَة صَلَاة الْمَأْمُوم بِصِحَّة صَلَاة الإِمَام، وَهل يتَوَهَّم مُسلم أَن أَبَا حنيفَة كَانَ يمْتَنع أَن يأتم بِمَالك أَو يَأْبَى أَن يَأْكُل ذَبِيحَة جَعْفَر؟ كلا، بل كَانُوا أجل قدرا من أَن يخْطر لَهُم هَذَا التعصب على بَال،

وَمَا كَانَ تخالفهم إِلَّا من احْتِيَاط كل مِنْهُم لنَفسِهِ. وَيُوجد فِي كل مَذْهَب من الْمذَاهب جمَاعَة من تلاميذ الإِمَام أَو الْفُقَهَاء المعروفين بالمرجحين، كل مِنْهُم كَانَ مُجْتَهدا لم يتَقَيَّد بِمذهب إِمَامه تَمامًا، وَخَالفهُ فِي كثير أَو قَلِيل من الْأَحْكَام مُخَالفَة اجْتِهَاد، بِسَبَب إطلاعه على أَدِلَّة مُجْتَهد آخر، أَو الْفَتْح عَلَيْهِ بِمَا لم يفتح بِهِ على إِمَامه. وَلِأَن الدّين يلْزم الْمُسلم بَان يتبع فِي كل مَسْأَلَة مِنْهُ الشَّارِع لَا الإِمَام، وَإِن يعْمل فِي مواقع الِاجْتِهَاد بِاجْتِهَادِهِ، لَا بِاجْتِهَاد غَيره وَإِن كَانَ أفضل مِنْهُ. وَهَذَا أَبُو حنيفَة وَأَمْثَاله رَحِمهم الله تَعَالَى، كَانُوا أفضل من أَن يعتقدوا فِي أنفسهم الْأَفْضَلِيَّة على أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا، وَمَعَ ذَلِك خالفوهما فِي كثير من الْأَحْكَام الاجتهادية. وفقهاء كل مَذْهَب من الْمذَاهب، لم يزَالُوا إِلَى الْآن يجوزون الْأَخْذ تَارَة بقول الإِمَام وَتارَة بقول أحد أَصْحَابه مَعَ أَن ذَلِك هُوَ عين التلفيق. فلماذا لَا يجوز الْحَنَفِيَّة مثلا التلفيق بَين أَقْوَال أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ أَو غَيره، وَلَيْسَ فيهم من يَقُول أَن أَصْحَاب إمَامهمْ أفضل من الشَّافِعِي وَمَالك وَابْن عَبَّاس، فَمَا هَذَا إِلَّا تَفْرِيق بِلَا فَارق وَحكم بعكس

الدَّلِيل. وَقد نتج من التَّفْرِيق بَين الْمُسلمين وَالتَّشْدِيد عَلَيْهِم فِي دينهم ومصالحهم بِدُونِ مُوجب غير التعصب الْمُخَالفَة لأَمره تَعَالَى: {أقِيمُوا الدّين وَلَا تتفرقوا فِيهِ} مرحى. ثمَّ ختم الْمُجْتَهد التبريزي مقاله بقوله: وَلَيْسَ مقامنا الْآن مقَام اسْتِيفَاء لهَذَا الْبَحْث، وَإِنَّمَا أوردت هَذَا الْمِقْدَار مِنْهُ بِقصد بَيَان جَوَاز التلفيق إِذا كَانَ عَن غَرَض صَحِيح كَمَا جوزه كثير من فُقَهَاء كل الْمذَاهب. وَلَا شكّ أَن ضَرُورَة التلفيق أهم من الضَّرُورَة الَّتِي لأَجلهَا جوز الْفُقَهَاء الْحِيَل الشَّرْعِيَّة مَعَ أَنَّهَا وصمة عَار على الشَّرْع. حَيْثُ لَا يعقل أَن يُقَال مثلا أَن الشُّفْعَة مَشْرُوعَة دفعا للضَّرَر عَن الشَّرِيك أَو الْجَار، وَلَكِن يجوز هَذَا الْإِضْرَار للمحتال. أَو أَن الرِّبَا حرَام وَلَكِن إِذا أضيف للقرض ثمن مَبِيع خسيس بنفيس جَازَ اسْتِبَاحَة مقصد الرِّبَا. أَو أَن إيتَاء الزَّكَاة فرض، وَلَكِن إِذا اخْرُج رب المَال مَاله قبل الْحول ثمَّ استعاده سَقَطت عَنهُ الزَّكَاة. إِلَى غير ذَلِك من إبِْطَال الشَّرْع وَجعل التَّكْلِيف تخييراً والتقيد إطلاقاً؛ وَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذَا غير مَا رخص الله بِهِ لأيوب عَلَيْهِ السَّلَام من التَّوَصُّل للبر بِالْيَمِينِ فِي قَوْله

تَعَالَى: {وَخذ بِيَدِك ضغثا فَاضْرب بِهِ وَلَا تَحنث} ، وَمَا أبعد الْقيَاس بَين الْحِنْث وَبَين إبِْطَال الشَّرْع، وَلَا شكّ أَن بذلك صَار الْمُسلمُونَ كَأَنَّهُمْ لَا شرع لَهُم. وَقد غضب الله على الْيَهُود لتحيلهم على صيد السبت فَقَط. وَنحن نجوز ألف حِيلَة مثلهَا بضرورة وَبلا ضَرُورَة. بِنَاء عَلَيْهِ، من الْحِكْمَة أَن نلتمس للضرورات أحكاما اجتهادية، فيأمر بهَا الإِمَام إِن وجد وَإِلَّا فالسلطان ليرتفع الْخلاف، فتعمل بهَا الْأمة مَا دَامَ الْمُقْتَضى بَاقِيا. فَإِذا ألجأ الزَّمَان إِلَى تبديلها بقول اجتهادي آخر فَكَذَلِك يَأْمر بِهِ الإِمَام أَو السُّلْطَان رفعا للْخلاف. وبمثل هَذَا التَّدْبِير الَّذِي لَا يأباه شرعنا وَلَا تنافيه الْحِكْمَة نستعوض تِلْكَ الْحِيَل المعطلة للشَّرْع، الْمسلمَة لترقيعات كل فَقِيه ومتفقه، بِأَحْكَام شَرْعِيَّة إيجابية لازيغ فِيهَا. وَبِنَحْوِ ذَلِك يسلم شرعنا من التلاعب والتضارب، ويتخلص الْقَضَاء والإفتاء من التَّوْفِيق على الْأَهْوَاء، وَحِينَئِذٍ يتَحَقَّق أَن الْخلاف فِي الْفُرُوع رَحمَه. وَالْحَاصِل انه يَقْتَضِي على عُلَمَاء الْهِدَايَة أَن يقاوموا فكر التعصب لمَذْهَب دون آخر، فَيكون سَعْيهمْ هَذَا منتجاً للتأليف وَجمع الْكَلِمَة فِي الْأمة.

قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: أَنا نشكر أخانا الْمُجْتَهد التبريزي على بَيَانه لنا حَالَة إِخْوَاننَا أهل فَارس، وعَلى غيرته للدّين وقصده التَّأْلِيف بَين الْمُسلمين. أما تَقْرِيره بِخُصُوص أَن حكم الإِمَام إِن وجد وَإِلَّا فالسلطان يرفع الْخلاف، وبخصوص أَن التلفيق هُوَ عين التَّقْلِيد، فتقرير يحْتَاج إِلَى نظر وتدقيق، وستقوم بِمثل هَذِه التدقيقات فِي الْمسَائِل الدِّينِيَّة الَّتِي بحث فِيهَا الإخوان الْكِرَام الجمعية الدائمة الَّتِي ستتشكل إِن شَاءَ الله. وَالْيَوْم قد قرب وَقت الظّهْر وآن أَوَان الِانْصِرَاف.

الاجتماع السابع

الِاجْتِمَاع السَّابِع يَوْم الْأَرْبَعَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة 1316 فِي صباح الْيَوْم الْمَذْكُور انتظمت الجمعية وَقُرِئَ الضَّبْط السَّابِق حسب الْقَاعِدَة المرعية. قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس مُخَاطبا السَّيِّد الفراتي: إِن الجمعية لتنتظر مِنْك فَوق همتك فِي عقدهَا وقيامك بمهمتها التحريرية، إِن تفيدها أَيْضا رَأْيك الذاتي فِي سَبَب الفتور المبحوث فِيهِ، وَذَلِكَ بعد أَن تقرر لَهَا مُجمل الآراء الَّتِي أوردهَا الإخوان الْكِرَام، حَيْثُ أحطت، بهَا علما مكرراً بِالسَّمْعِ وَالْكِتَابَة وَالْقِرَاءَة والمراجعة فَأَنت أجمعنا لَهَا فكراً. هَذَا والجمعية ترجو الْفَاضِل الشَّامي والبليغ الإسكندري أَن، يشتركا فِي ضبط خطابك بَان يتعاقبا فِي تلقي الْجمل الكلامية وكتابتها، لِأَنَّهُمَا كباقي الأخوان لَا يعرفان طَريقَة الِاخْتِصَار

الخطي الْمُسْتَعْمل فِي مثل هَذَا الْمقَام. نظر الْفَاضِل الشَّامي إِلَى رَفِيقه واستلمح مِنْهُ القَوْل ثمَّ قَالَ: أننا مستعدان للتشرف بِهَذِهِ الْخدمَة. قَالَ السَّيِّد الفراتي: حبا وَطَاعَة وَإِن كنت قصير الطول، كليل القَوْل، قَلِيل البضاعة، ثمَّ انحرف عَن المكتبة فَقَامَ مقَامه عَلَيْهَا الْفَاضِل الشَّامي والبليغ الإسكندري، وَمَا لبث أَن شرع فِي كَلَامه، فَقَالَ: يُسْتَفَاد من مذاكرات جمعيتنا الْمُبَارَكَة أَن هَذَا الفتور المبحوث فِيهِ ناشيء عَن مَجْمُوع أَسبَاب كَثِيرَة مُشْتَركَة فِيهِ، لَا عَن سَبَب وَاحِد أَو أَسبَاب قَلَائِل تمكن مقاومتها بسهولة. وَهَذِه الْأَسْبَاب مِنْهَا أصُول، وَمِنْهَا فروع لَهَا حكم الْأُصُول. وَكلهَا ترجع إِلَى ثَلَاثَة أَنْوَاع: وَهِي أَسبَاب دينية، وَأَسْبَاب سياسية، وَأَسْبَاب أخلاقية. وَإِنِّي أَقرَأ عَلَيْكُم خلاصاتها من جدول الفهرست الَّذِي استخرجته من مبَاحث الجمعية رامزاً لِلْأُصُولِ مِنْهَا بِحرف (الْألف) وللفروع مِنْهَا بِحرف (الْفَاء) وَهِي: النَّوْع الأول: الْأَسْبَاب الدِّينِيَّة 1 - تَأْثِير عقيدة الْجَبْر فِي أفكار الْأمة (1) .

2 - تَأْثِير المزهدات فِي السَّعْي وَالْعَمَل وزينة الْحَيَاة (ف) . 3 - تَأْثِير فتن الجدل فِي العقائد الدِّينِيَّة (1) . 4 - الاسترسال للتخالق والتفرق فِي الدّين (1) . 5 - الذهول عَن سماحة الدّين وسهولة التدين بِهِ (1) . 6 - تَشْدِيد الْفُقَهَاء الْمُتَأَخِّرين فِي الدّين خلافًا للسلف (1) . 7 - تشويش أفكار الْأمة بِكَثْرَة تخَالف الآراء فِي فروع أَحْكَام الدّين (ف) . 8 - فقد إِمْكَان مُطَابقَة القَوْل للْعَمَل فِي الدّين بِسَبَب التَّخْلِيط وَالتَّشْدِيد (ف) . 9 - إِدْخَال الْعلمَاء المدلسين على الدّين مقتبسات كِتَابِيَّة وخرافات وبدعا مضرَّة (1) . 10 - تهوين غلاة الصُّوفِيَّة الدّين وجعلهم إِيَّاه لهواً وَلَعِبًا (ف) . 11 - إِفْسَاد الدّين بتفنن المداجين بمزيدات ومتروكات وتأويلات (ف) . 12 - إِدْخَال المدلسين والمقابرية على الْعَامَّة كثيرا من الأوهام (1) . 13 - خلع المنجمين والرمالين والسحرة والمشعوذين قُلُوب الْمُسلمين بالمرهبات (ف) . 14 - إِيهَام الدجالين والمداجين أَن فِي الدّين أموراً سَرِيَّة وَإِن الْعلم حجاب (ف) . 15 - اعْتِقَاد مُنَافَاة الْعُلُوم الْحكمِيَّة والعقلية للدّين (1) . 16 - تطرق الشّرك الصَّرِيح أَو الْخَفي إِلَى عقائد الْعَامَّة (ف) . 17 - تهاون الْعلمَاء العاملين فِي تأييد التَّوْحِيد (ف) . 18 - الاستسلام للتقليد وَترك التبصر والاستهداء (ف) . 19 - التعصب للمذاهب ولآراء الْمُتَأَخِّرين وهجر النُّصُوص ومسلك السّلف (ف) . 20 - الْغَفْلَة عَن حِكْمَة الْجَمَاعَة وَالْجُمُعَة وجمعية الْحَج (1) .

21 - العناد على نبذ الْحُرِّيَّة الدِّينِيَّة جهلا بمزيتها (ف) . 22 - الْتِزَام مَا لَا يلْزم لأجل الاستهداء من الْكتاب وَالسّنة (ف) . 23 - تَكْلِيف الْمُسلم نَفسه مَا لَا يكلفه بِهِ الله وتهاونه فِيمَا هُوَ مَأْمُور بِهِ (ف) . النَّوْع الثَّانِي: الْأَسْبَاب السياسية 24 - السياسة الْمُطلقَة من السيطرة والمسئولية (1) . 25 - تفرق الْأمة إِلَى عصبيات وأحزاب سياسية (ف) . 26 - حرمَان الْأمة من حريَّة القَوْل وَالْعَمَل، وفقدانها الْأَمْن والأمل (ف) . 27 - فقد الْعدْل والتساوي فِي الْحُقُوق بَين طَبَقَات الْأمة (ف) . 28 - ميل الْأُمَرَاء طبعا للْعُلَمَاء المدلسين وجهلة المتصوفين (ف) . 29 - حرمَان الْعلمَاء العاملين وطلاب الْعلم من الرزق والتكريم (1) . 30 - اعْتِبَار الْعلم عَطِيَّة يحسن بهَا الْأُمَرَاء على الإخصاء، وتفويض خدمَة الدّين للجهلاء (1) . 31 - قلب مَوْضُوع أَخذ الْأَمْوَال من الْأَغْنِيَاء وإعطائها للْفُقَرَاء (1) . 32 - تَكْلِيف الْأُمَرَاء الْقُضَاة والمفتين أموراً تهدم دينهم (ف) . 33 - إبعاد الْأُمَرَاء النبلاء والأحرار وتقريبهم المتملقين والأشرار (1) . 34 - مراغمة الْأُمَرَاء السراة والهداة والتنكيل بهم (ف) . 35 - فقد قُوَّة الرَّأْي الْعَام بِالْحجرِ والتفريق (ف) . 36 - حَمَاقَة أَكثر الْأُمَرَاء وتمسكهم بالسياسات الخرقاء (ف) . 37 - إِصْرَار أَكثر الْأُمَرَاء على الاستبداد عناداً واستكباراً (ف) . 38 - انغماس الْأُمَرَاء فِي الترف ودواعي الشَّهَوَات، وبعدهم عَن الْمُفَاخَرَة

بِغَيْر الفخفخة وَالْمَال (ف) . 39 - حصر الاهتمام السياسي بالجباية والجندية فَقَط (1) . النَّوْع الثَّالِث: الْأَسْبَاب الأخلاقية 40 - الِاسْتِغْرَاق فِي الْجَهْل والارتياح إِلَيْهِ (1) . 41 - اسْتِيلَاء الْيَأْس من اللحاق بالفائزين فِي الدّين وَالدُّنْيَا (ف) . 42 - الإخلاد إِلَى الخمول ترويحاً للنَّفس (ف) . 43 - فقد التناصح وَترك البغض فِي الله (1) . 44 - انحلال الرابطة الدِّينِيَّة الاحتسابية (1) . 45 - فَسَاد التَّعْلِيم والوعظ والخطابة والإرشاد (ف) . 46 - فقد التربية الدِّينِيَّة والأخلاقية (1) . 47 - فقد قُوَّة الجمعيات وَثَمَرَة دوَام قِيَامهَا (1) . 48 - فقد الْقُوَّة الْمَالِيَّة الاشتراكية بِسَبَب التهاون فِي الزَّكَاة (1) . 49 - ترك الْأَعْمَال بِسَبَب ضعف الآمال (ف) . 50 - إهمال طلب الْحُقُوق الْعَامَّة جبنا وخوفا من التخاذل (ف) . 51 - غَلَبَة التخلق بالتملق تزلفاً وصغاراً. 52 - تَفْضِيل الإرتزاق بالجندية والخدم الأميرية على الصَّنَائِع (ف) . 53 - توهم أَن علم الدّين قَائِم فِي العمائم وَفِي كل مَا سطر فِي كتاب (ف) . 54 - معاداة الْعُلُوم الْعَالِيَة ارتياحاً للْجَهَالَة والسفالة (1) . 55 - التباعد عَن المكاشفات والمفاوضات فِي الشئون الْعَامَّة (1) . 56 - الذهول عَن تطرق الشّرك وشآمته (1) .

ثمَّ قَالَ السَّيِّد الفراتي: هَذِه هِيَ خلاصات أَسبَاب الفتور الَّتِي أوردهَا إخْوَان الجمعية وَلَيْسَ فِيهَا مكررات كَمَا يظنّ. وَحَيْثُ كَانَ للخلل الْمَوْجُود فِي أصُول إدارة الحكومات الإسلامية دخل مُهِمّ فِي توليد الفتور الْعَام، فَإِنِّي أضيف إِلَى الْأَسْبَاب الَّتِي سبق الْبَحْث فِيهَا من قبل الإخوان الْكِرَام الْأَسْبَاب الْآتِيَة، أعددها من قبيل رُؤُوس مسَائِل فَقَط، حَيْثُ لَو أردْت تفصيلها وتشريحها لطال الْأَمر ولخرجنا عَن صدد محفلنا هَذَا. والأسباب الَّتِي سأذكرها هِيَ أصُول موارد الْخلَل فِي السياسة والإدارة الجاريتين فِي المملكة العثمانية، الَّتِي هِيَ أعظم دولة يهم شَأْنهَا عَامَّة الْمُسلمين. وَقد جاءها اكثر هَذَا الْخلَل فِي السِّتين سنة الْأَخِيرَة، أَي بعد أَن اندفعت لتنظيم أمورها، فعطلت أُصُولهَا الْقَدِيمَة وَلم تحسن التَّقْلِيد وَلَا الإبداع، فتشتت حَالهَا وَلَا سِيمَا فِي الْعشْرين سنة الْأَخِيرَة الَّتِي ضَاعَ فِيهَا ثلثا المملكة؛ وَخرب الثُّلُث الْبَاقِي وأشرف على الضّيَاع لفقد الرِّجَال وَصرف السُّلْطَان قُوَّة سلطنته كلهَا فِي سَبِيل حفظ ذَاته الشَّرِيفَة وسبيل الْإِصْرَار على سياسة الِانْفِرَاد. وَأما سَائِر الممالك والإمارات الإسلامية فَلَا تَخْلُو أَيْضا

من بعض هَذِه الْأُصُول، كَمَا أَن فِيهَا أحوالاً أُخْرَى أضرّ وَأمر يطول بَيَانهَا واستقصاؤها، والأسباب المُرَاد إلحاقها ملخصة هِيَ: الْأَسْبَاب السياسية والإدارية العثمانيتين: 57 - تَوْحِيد قوانين الإدارة والعقوبات، مَعَ اخْتِلَاف طبائع أَطْرَاف المملكة وَاخْتِلَاف الأهالي فِي الْأَجْنَاس والعادات (1) . 58 - تنويع القوانين الحقوقية، وتشويش الْقَضَاء فِي الْأَحْوَال المتماثلة (1) . 59 - التَّمَسُّك بأصول الإدارة المركزية مَعَ بعد الْأَطْرَاف عَن العاصمة وَعدم وقُوف رُؤَسَاء الإدارة فِي المركز على أَحْوَال تِلْكَ الْأَطْرَاف المتباعدة وخصائص سكانها (ف) . 60 - الْتِزَام أصُول عدم تَوْجِيه المسئولية على رُؤَسَاء الإدارة والولاة عَن أَعْمَالهم مُطلقًا (ف) .

61 - تشويش الإدارة بِعَدَمِ الِالْتِفَات لتوحيد الْأَخْلَاق والمسالك فِي الوزراء والولاة والقواد، مَعَ اضطرار الدولة لاتخاذهم من جَمِيع الْأَجْنَاس والأقوام الْمَوْجُودين فِي المملكة بِقصد استرضاء الْكل (ف) . 62 - الْتِزَام الْمُخَالفَة الجنسية فِي اسْتِخْدَام الْعمَّال بِقصد تعسر التفاهم بَين الْعمَّال والأهالي، وَتعذر الامتزاج بَينهم لتأمن الإدارة غائلة الِاتِّفَاق عَلَيْهَا (ف) . 63 - الْتِزَام تَفْوِيض الإمارات المختصة عَادَة بِبَعْض الْبيُوت، كإمارة مَكَّة وإمارات العشائر الضخمة فِي الْحجاز وَالْعراق والفرات لمن لَا يحسن إدارتها، لأجل أَن يكون الْأَمِير منفوراً مِمَّن ولي عَلَيْهِم مَكْرُوها عِنْدهم فَلَا يتفقون مَعَه ضد الدولة (1) . 64 - الْتِزَام تَوْلِيَة بعض المناصب المختصة بِبَعْض الْأَصْنَاف كالمشيخة الإسلامية والسر عسكرية لمن يكون منفوراً فِي صنفه من الْعلمَاء أَو الْجند، لأجل أَن لَا يتَّفق الرئيس والمرؤس على أَمر مُهِمّ (ف) . 65 - التَّمْيِيز الْفَاحِش بَين أَجنَاس الرّعية فِي الْغنم وَالْغُرْم.

66 - التساهل فِي انتخاب الْعمَّال والمأمورين والإكثار مِنْهُم بِغَيْر لُزُوم، وَإِنَّمَا بِقصد إعاشة الْعَشِيرَة والمحاسيب والمتملقين الملحين. 67 - التسامح فِي الْمُكَافَأَة والمجازاة تهاوناً بشؤون الإدارة حسنت أم ساءت، كَأَن لَيْسَ للْملك صَاحب. 68 - عدم الِالْتِفَات لرعاية المقتضيات الدِّينِيَّة كوضع أنظمة مصادمة للشَّرْع بِدُونِ لُزُوم سياسي مُهِمّ، أَو مَعَ اللُّزُوم وَلَكِن بِدُونِ اعتناء بتفهيمه للْأمة والاعتذار لَهَا جلباً للقناعة وَالرِّضَا. 69 - تَضْييع حُرْمَة الشَّرْع وَقُوَّة القوانين بِالْتِزَام عدم اتباعها وتنفيذها، والإصرار على أَن تكون الإدارة نظامية اسْما إرادية فعلا. 70 - التهاون فِي مجاراة عادات الأهالي وأخلاقهم ومصالحهم استجلاباً لمحبتهم القلبية فَوق طاعتهم الظَّاهِرِيَّة. 71 - الْغَفْلَة أَو التغافل عَن مقتضيات الزَّمَان ومباراة الْجِيرَان وترقية السكان بِسَبَب عدم الاهتمام بالمستقبل. 72 - الضغط على الأفكار المتنبهة بِقصد منع نموها وسموها وإطلاعها على مجاري الإدارة، محاسنها ومعايبها، وَإِن كَانَ الضغط على النمو الطبيعي عَبَثا مَحْضا، ويتأتى مِنْهُ الإغراء والتحفز وينتج عَنهُ الحقد على الإدارة.

73 - تَمْيِيز الأسافل أصلا وأخلاقاً علما وتحكيمهم فِي الرّقاب الْحرَّة وتسليطهم على أَصْحَاب المزايا، وَهَذَا التهاون بشأن ذَوي الشؤون يسْتَلْزم تسفل الإدارة. 74 - إدارة بَيت المَال إدارة إِطْلَاق بِدُونِ مراقبة، وجزاف بِدُونِ موازنة، وإسراف بِدُونِ كتاب، وَإِتْلَاف بِدُونِ حِسَاب، حَتَّى صَارَت المملكة مديونة للأجانب بديون ثَقيلَة توفى بلاداً ورقاباً وَدِمَاء وحقوقا. 75 - إدارة الْمصَالح المهمة السياسية والملكية بِدُونِ استشارة الرّعية وَلَا قبُول مناقشة فِيهَا، وَإِن كَانَت إدارة مَشْهُودَة الْمضرَّة فِي كل حَرَكَة وَسُكُون. 76 - إدارة الْملك إدارة مداراة وإسكات للمطلعين على معايبها حذرا من أَن ينفثوا مَا فِي الصُّدُور فتعلم الْعَامَّة حقائق الْأُمُور، والعامة من إِذا علمُوا قَالُوا وَإِذا قَالُوا فعلوا وَهُنَاكَ الطامة الْكُبْرَى. 77 - إدارة السياسة الخارجية بالتزلف والإرضاء والمحاباة بالحقوق والرشوة بالامتيازات والنقود، تبذل الإدارة ذَلِك للجيران بِمُقَابلَة تعاميهم عَن الْمشَاهد المؤلمة التخريبية، وصبرهم على الروائح المنتنة الإدارية، وَلَوْلَا تِلْكَ الْمشَاهد والروائح لما وجد الْجِيرَان وَسِيلَة للضغط مَعَ مَا أَلْقَاهُ الله بَينهم من الْعَدَاوَة والبغضاء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. ثمَّ قَالَ السَّيِّد الفراتي: أَن بعض هَذِه الْأَسْبَاب الَّتِي ذكرتها، هِيَ أمراض قديمَة مُلَازمَة لإدارة الْحُكُومَة العثمانية مُنْذُ نشأتها أَو مُنْذُ قُرُون، وَبَعضهَا أَعْرَاض وقتية تَزُول بِزَوَال محدثها، وَرُبمَا

كَانَ يُمكن الصَّبْر عَلَيْهَا لَوْلَا أَن الْخطر قرب وَالْعِيَاذ بِاللَّه من الْقلب كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذ الرئيس فِي خطابه الأول. ثمَّ قَالَ: ويلتحق بِهَذِهِ الْأَسْبَاب بعض أَسبَاب شَتَّى أفصلها بعد تعدادها إِلْحَاقًا بالخلاصات. وَهِي: أَسبَاب شَتَّى: 78 - عدم تطابق الْأَخْلَاق بَين الرّعية والرعاة. 79 - الغرارة أَي الْغَفْلَة عَن تَرْتِيب شؤون الْحَيَاة. 80 - الغرارة عَن لُزُوم توزيع الْأَعْمَال والأوقات. 81 - الغرارة عَن الإذعان للإتقان. 82 - الغرارة عَن موازنة الْقُوَّة والاستعداد. 83 - ترك الاعتناء بتعليم النِّسَاء. 84 - عدم الِالْتِفَات للكفاءة فِي الزَّوْجَات. 85 - الخور فِي الطبيعة، أَي سُقُوط الهمة. 86 - الاعتزال فِي الْحَيَاة والتواكل.

أما عدم التطابق فِي الْأَخْلَاق بَين الرُّعَاة والرعية، فَلهُ شان عَظِيم كَمَا يظْهر للمتأمل المدقق فِي تواريخ الْأُمَم من أَن أعاظم الْمُلُوك الموفقين والقواد الفاتحين كالإسكندرين، وَعمر وَصَلَاح الدّين رَضِي الله عَنْهُمَا، وجنكيز والفاتح وشرلكان الألماني وبطرس الْكَبِير وبونابرت، لم يفوزوا فِي تِلْكَ العظائم إِلَّا بالعزائم الصادقة مَعَ مصادقة تطابقهم مَعَ رعاياهم وجيوشهم فِي الْأَخْلَاق والمشارب تطابقاً تَاما، بِحَيْثُ كَانُوا رؤوساً حَقًا لتِلْك الْأَجْسَام لَا كرأس جمل على جسم ثَوْر أَو بِالْعَكْسِ. وَهَذَا التطابق وَحده يَجْعَل الْأمة تعْتَبر رئيسها رَأسهَا، فتتفانى دون حفظه وَدون حكم نَفسهَا بِنَفسِهَا، حَيْثُ لَا يكون لَهَا فِي غير ذَلِك فلاح أبدا كَمَا قَالَ الْحَكِيم المتنبي: (إِنَّمَا النَّاس بالملوك وَهل ... يفلح عرب مُلُوكهَا عجم) وَمِمَّا لَا خلاف فِيهِ أَن من أهم حِكْمَة الحكومات أَن تتخلق بأخلاق الرّعية، وتتحد مَعهَا فِي عوائدها ومشاربها وَلَو فِي العوائد غير المستحسنة فِي ذَاتهَا. وَلَا أقل من أَن تجاري الْحُكُومَة الْأَجْنَبِيَّة أَخْلَاق الرّعية وَلَو تكلفاً وقتياً، إِلَى أَن توفق إجتذابهم إِلَى لغتها فأخلاقها فجنسيتها، كَمَا فعل الأمويون والعباسيون والموحدون، وكما تهتم بِهِ الدول المستعمرة الإفرنجية فِي هَذَا الْعَهْد، وكما فعل جَمِيع

الْأَعَاجِم الَّذين قَامَت لَهُم دوَل فِي الإسلامية كآل بويه والسلجوقيين والأيوبيين والغوريين والأمراء الجراكسة وَآل مُحَمَّد عَليّ، فَإِنَّهُم مَا لَبِثُوا أَن استعربوا وتخلقوا بأخلاق الْعَرَب، وامتزجوا بهم وصاروا جُزْءا مِنْهُم. وَكَذَلِكَ المغول التاتار صَارُوا فرسا وهنوداً، فَلم يشذ فِي هَذَا الْبَاب غير المغول الأتراك أَي العثمانيين، فَإِنَّهُم بِالْعَكْسِ يفتخرون بمحافظتهم على غيرية رعاياهم لَهُم، فَلم يسعوا باستتراكهم كَمَا أَنهم لم يقبلُوا أَن يستعربوا، والمتأخرون مِنْهُم قبلوا أَن يتفرنسوا أَو يتألمنوا. وَلَا يعقل لذَلِك سَبَب غير شَدِيد بغضهم للْعَرَب كَمَا يسْتَدلّ عَلَيْهِ من أَقْوَالهم الَّتِي تجْرِي على ألسنتهم مجْرى الْأَمْثَال فِي حق الْعَرَب: كإطلاقهم على عرب الْحجاز (ديلنجي عرب) أَي الْعَرَب الشحاذين. وإطلاقهم على المصريين (كور فلاح) بِمَعْنى الفلاحين الأجلاف. و (عرب جنكنه سي) أَي نور الْعَرَب. و (قبْطِي عرب) أَي النُّور المصريين. وَقَوْلهمْ عَن عرب سوريا: (نه شامك شكري ونه

عربك يوزي) أَي دع الشَّام وسكرياتها وَلَا تَرَ وُجُوه الْعَرَب. وتعبيرهم بِلَفْظِهِ (عرب) عَن الرَّقِيق وَعَن كل حَيَوَان اسود. وَقَوْلهمْ بِلَفْظِهِ (عرب) عَن الرَّقِيق وَعَن كل حَيَوَان أسود. وَقَوْلهمْ (بس عرب) أَي عَرَبِيّ قذر. و (عرب عَقْلِي) أَي عقل عَرَبِيّ أَي صَغِير. و (عرب طبيعتي) أَي ذوق عَرَبِيّ أَي فَاسد. و (عرب جكه سي) أَي حنك عَرَبِيّ أَي كثير الهزر. وَقَوْلهمْ (بوني يبارسه م عرب أَوله يم) أَي أَن فعلت هَذَا أكون من الْعَرَب. وَقَوْلهمْ (نرده عرب نرده طنبوره) أَي أَيْن الْعَرَب من الطنبور. هَذَا وَالْعرب لَا يقابلونهم على كل ذَلِك سوى بكلمتين الأولى هِيَ قَول الْعَرَب فيهم: (ثَلَاث خُلِقْنَ للجور وَالْفساد: الْقمل وَالتّرْك وَالْجَرَاد) . والكلمة الثَّانِيَة تسميتهم بالأراوم كِنَايَة عَن الرِّيبَة فِي إسلاميتهم، وَسبب الرِّيبَة أَن الأتراك لم يخدموا الإسلامية بِغَيْر إِقَامَة بعض جَوَامِع لَوْلَا حَظّ نفوس مُلُوكهمْ بِذكر أسمائهم على منابرها لم تقم

وَأَنَّهُمْ أَتَوا الْإِسْلَام بِالطَّاعَةِ العمياء للكبراء، وبخشية الْفلك أبي المصائب، وباحترام مواقد النيرَان (أوجاقات) فزادوا بذلك بلات فِي طين الخرافات. ثمَّ قَالَ السَّيِّد الفراتي: أَرْجُو المعذرة من الْمولى الرُّومِي لِأَنَّهُ يعلم أَنِّي مَا أفرطت، وَلَوْلَا الضَّرُورَة الدِّينِيَّة الَّتِي يعلمهَا لما صرحت، والناصح الغيور من يبكيك لَا من يضحكك. قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: أَن أخانا السَّيِّد الفراتي خطيب قَوَّال وَفَارِس جوال، والأبحاث الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا ذَات ذيول طوال مَعَ أَن الْيَوْم قد قرب وَقت الزَّوَال، فموعدنا غَد إِن شَاءَ الْمولى المتعال.

فارغ

الاجتماع الثامن

الِاجْتِمَاع الثَّامِن يَوْم الْخَمِيس الْخَامِس وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة 1316 فِي صباح ذَلِك الْيَوْم انتظمت الجمعية، وَقَرَأَ البليغ الإسكندري ضبط الْيَوْم السَّابِق على الْعَادة المألوفة، وَأذن الْأُسْتَاذ الرئيس للسَّيِّد الفراتي بإتمام بَحثه. فَقَالَ السَّيِّد الفراتي: أَن من اعظم أَسبَاب الفتور فِي الْمُسلمين غرارتهم، أَي عدم معرفتهم كَيفَ يحصل انتظام الْمَعيشَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فيهم من يرشدهم إِلَى شَيْء من ذَلِك، بِخِلَاف الْأُمَم السائرة فَإِن من وظائف خدمَة الْأَدْيَان عِنْدهم رفع الغرارة، أَي الْإِرْشَاد إِلَى الْحِكْمَة فِي شؤون الْحَيَاة. وَأما الأقوام الَّذين لَيْسَ عِنْدهم خدمَة دين، اَوْ الشَّرّ أَذمّ الَّذين لَا ينتمون لخدمة دينهم، فمستغنون عَن ذَلِك بوسائل أُخْرَى من نَحْو: التربية المدرسية، وَالْأَخْذ من كتب الْأَخْلَاق، وَكتب تَدْبِير الْمنزل، ومفصلات فن الاقتصاد، والتواريخ المتقنة، والرومانات

الأخلاقية والتمثيلية، أَي كتب الحكايات الوضعية، وَنَحْو ذَلِك مِمَّا هُوَ مَفْقُود بِالْكُلِّيَّةِ عِنْد غير بعض خَاصَّة الْمُسلمين. على أَن الْخَاصَّة السالمين من الغرارة علما، لَا يقوون غَالِبا على الْعَمَل بِمَا يعلمُونَ لأسباب شَتَّى، مِنْهَا بل أعظمها جَهَالَة النِّسَاء الْمفْسدَة للنشأة الأولى وَقت الطفولة والصبوة وَمِنْهَا عدم التمرن والألفة، وَمِنْهَا عدم مساعدة الظروف المحيطة بهم للاستمرار على نظام مَخْصُوص فِي معيشتهم. ثمَّ قَالَ: لَا أرى لُزُوما للاستدلال على اسْتِيلَاء الغرارة علينا لِأَنَّهَا مدركة مسلمة عِنْد الكافة، وَهِي مَا ينطوي تَحت أجوبتنا عِنْد التساؤل عَن هَذِه الْحَال بقولنَا: أَن الْمُسلم مصاب، وَأَن الله إِذا أحب عبدا ابتلاه، وَإِن أَكثر أهل الْجنَّة البله، وَإِن حسب آدم ابْن آدم لقيمات يقمن صلبه، وَإِن غَيرنَا مستدرجون، وَأَنَّهُمْ كلاب الدُّنْيَا، وَأَنَّهُمْ أعْطوا ظَاهرا من الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَأَنَّهُمْ فِي غَفلَة من الْمَوْت، وغفلة عَن أَن الدُّنْيَا شاخت. ثمَّ قَالَ: فَمن الغرارة فِي طبقاتنا كَافَّة من الْمُلُوك إِلَى الصعاليك أننا لَا نرى ضَرُورَة للإتقان فِي الْأُمُور، وقاعدتنا أَن بعض الشَّيْء

يُغني عَن كُله. وَالْحق أَن الإتقان ضَرُورِيّ للنجاح فِي أَي أَمر كَانَ، بِحَيْثُ إِذا لم يكن مستطاعاً فِي أَمر، يلْزم ويتحتم ترك ذَلِك الْأَمر كليا والتحول عَنهُ إِلَى غَيره من المستطاع فِيهِ إِيفَاء حق الإتقان. وَمن (الغرارة) وهمنا أَن شؤون الْحَيَاة سهلة بسيطة، فنظن إِن الْعلم بالشَّيْء إِجْمَالا ونظرياً بِدُونِ تمرن عَلَيْهِ يَكْفِي للْعَمَل بِهِ، فَيقدم أَحَدنَا مثلا على الْإِمَارَة بِمُجَرَّد نظره فِي نَفسه أَنه عَاقل مُدبر قبل أَن يعرف مَا هِيَ الإدارة علما، ويتمرن عَلَيْهَا عملا، ويكتسب فِيهَا شهرة تعينه على الْقيام بهَا. وَيقدم الآخر منا على الاحتراف مثلا بِبيع المَاء للشُّرْب، بِمُجَرَّد ظَنّه أَن هَذِه الحرفة عبارَة عَن حَملَة قربَة وَقَدحًا وتعرضه للنَّاس فِي مجتمعاتهم، وَلَا يرى لُزُوما لتقلي وَسَائِل إتقان ذَلِك عَمَّن يرشده مثلا إِلَى ضَرُورَة النَّظَافَة لَهُ فِي قربته وقدحه وظواهر هَيئته ولباسه، وَكَيف يحفظ برودة مائَة وَكَيف يستبرقه ويوهم بصفائه ليشهى بِهِ، وَمَتى يغلب الْعَطش ليقصد المجتمعات، ويتحرى مِنْهَا الخالية لَهُ عَن المزاحمين، وَكَيف يتزلف للنَّاس ويوهم بِلِسَان حَالَة انه محترف بالاسقاء كفا لنَفسِهِ عَن السُّؤَال. إِلَى نَحْو هَذَا من دقائق إتقان

الصَّنْعَة المتوقف عَلَيْهَا نجاحه فِيهَا، وَإِن كَانَت صَنعته بسيطة حقيرة. وَمن (الغرارة) ظننا أَن الكياسة فِي " أَدْرِي وأقدر " جَوَابا للنَّفس فِي مَقَاصِد كَثِيرَة شَتَّى. والحقيقة أَن الكياسة لَا تتَحَقَّق فِي الْإِنْسَان إِلَّا فِي فن وَاحِد فَقَط يتولع فِيهِ فيتقنه حق الإتقان فِي كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جعل الله لرجل من قلبين فِي جَوْفه} . فالعاقل من يتخصص بِعَمَل وَاحِد ثمَّ يُجَاوب نَفسه عَن كل شَيْء غَيره " لَا أَدْرِي وَلَا أقدر "، لِأَن الأول يتَكَلَّف أعمالاً لَا يحسنها فتفسد عَلَيْهِ كلهَا، وَالثَّانِي يتحَرَّى لكل عمل لَازم لَهُ من يُحسنهُ فتنتظم أُمُوره ويهنأ عيشة. فالملك مثلا وظيفته النظارة الْعَامَّة وانتخاب وَزِير يَثِق بأخلاقه، ويعتمد على خبرته فِي انتخاب بَقِيَّة الوزراء والسيطرة عَلَيْهِم فِي الكليات. فالملك مهما كَانَ عَاقِلا حكيماً لَا يقدر على إتقان أَكثر من وظيفته الْمَذْكُورَة. فالملك إِذا تغرر وتنزل للتداخل فِي أُمُور السياسة أَو الإدارة الملكية أَو الْأُمُور الحربية أَو الْقَضَاء، فَلَا شكّ انه يكون كرب بَيت يداخل طباخه فِي مهنته ويشارك بستانية فِي صَنعته، فَيفْسد

طَعَامه ويبور بستانه، فيشتكي وَلَا يدْرِي أَن آفته من نَفسه. وَمن " الغرارة " اللوث فِي الْأُمُور، أَي تَركهَا بِلَا تَرْتِيب؛ وَالْحكمَة قاضية على كل إِنْسَان وَلَو كَانَ زاهداً مُنْفَردا فِي كَهْف جبل، فضلا عَن سائس رعية أَو صَاحب عائلة، أَن يتَّخذ لَهُ ترتيباً فِي شؤونه وَذَلِكَ بِأَن يرتب: أَولا: أوقاته حسب أشغاله، ويرتب أشغاله حسب أوقاته. والشغل الَّذِي لَا يجد لَهُ وقتا كَافِيا يهمله بِالْكُلِّيَّةِ أَو يفوضه لمن يَفِي حق الْقيام بِهِ عَنهُ. ثَانِيًا - يرتب نفقاته على نِسْبَة الْمَضْمُون من كَسبه، فَإِن ضَاقَ دخله عَن المبرم من خرجه يُغير طراز معيشته، وَلَو بالتحول مثلا من بَلَده الغالية الأسعار أَو الَّتِي مظهره فِيهَا يمنعهُ من الاقتصاد إِلَى حَيْثُ يُمكنهُ ترتيبها على نِسْبَة كَسبه. ثَالِثا - يرتب تقليل غائلة عائلته عِنْد أول فرْصَة؛ ملاحظاً إراحة نَفسه من الكد فِي دور الْعَجز من حَيَاته، فيربي أَوْلَاده ذُكُورا وإناثاً على صُورَة أَن كلا مِنْهُم مَتى بلغ أشده يُمكنهُ أَن يَسْتَغْنِي عَنهُ بِنَفسِهِ، مُعْتَمدًا على كَسبه الذاتي وَلَو فِي غير وَطنه. رَابِعا - يرتب أُمُوره الأدبية على نِسْبَة حَالَته المادية، أَعنِي

يرتب أُمُوره الدِّينِيَّة ولذاته الفكرية وشهواته الجسمية ترتيباً حسنا، لَا يحمل نَفسه مِنْهَا مَا لَا تطِيق الِاسْتِمْرَار عَلَيْهِ. خَامِسًا - يرتب ميله الطبيعي للمجد والتعالي على حسب استعداده الْحَقِيقِيّ. فَلَا يتْرك نَفسه تتطاول إِلَى مقامات لَيْسَ من شَأْن قوته المادية أَن يبلغهَا إِلَّا بمحض الْحَظ أَي الصدف. وخلاصة الْبَحْث أَن الغرارة من أقوى أَسبَاب الفتور، وَقد أطلت فِي وصفهَا وإيضاحها ليتأكد عِنْد السَّادة الإخوان أَن إِزَالَة أَسبَاب الفتور الشخصي لَيْسَ من عقيمات الْأُمُور. ثمَّ قَالَ: أَن لانحلال أَخْلَاقنَا سَببا مهما آخر أَيْضا يتَعَلَّق بِالنسَاء، وَهُوَ تركهن جاهلات على خلاف مَا كَانَ عَلَيْهِ أسلافنا، حَيْثُ كَانَ يُوجد فِي نسائنا كَأُمّ الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا الَّتِي أَخذنَا عَنْهَا نصف عُلُوم ديننَا؛ وكمئات من الصحابيات والتابعيات راويات الحَدِيث والمتفقهات، فضلا عَن أُلُوف من العالمات والشاعرات اللَّاتِي فِي وجودهن فِي الْعَهْد الأول بِدُونِ إِنْكَار، حجَّة دامغة ترغم أنف غيرَة الَّذين يَزْعمُونَ أَن جهل النِّسَاء أحفظ لعفتهن؛ فضلا عَن أَنه لَا يقوم لَهُم برهَان على مَا يتوهمون، حَتَّى يَصح الحكم

بِأَن الْعلم يَدْعُو للفجور وان الْجَهْل يَدْعُو للعفة؛ نعم رُبمَا كَانَت العالمة أقدر على الْفُجُور من الجاهلة، وَلَكِن الجاهلة أجسر عَلَيْهِ من العالمة. ثمَّ أَن ضَرَر جهل النِّسَاء وَسُوء تَأْثِيره فِي أَخْلَاق الْبَنِينَ وَالْبَنَات أَمر وَاضح غَنِي عَن الْبَيَان، إِنَّمَا سوء تَأْثِيره على أَخْلَاق الْأزْوَاج فِيهِ بعض خَفَاء يسْتَلْزم الْبَحْث، فَأَقُول: أَن الرِّجَال ميالون بالطبع إِلَى زوجاتهم، وَالْمَرْأَة أقدر مُطلقًا من الرجل فِي ميدان التجاذب للأخلاق، وَلَا يتَوَهَّم عكس ذَلِك إِلَّا من استحكم فِيهِ تغرير زَوجته لَهُ بِأَنَّهَا ضَعِيفَة مسكينة مسخرة لإرادته. حَال كَون حَقِيقَة الْأَمر أَنَّهَا قابضة على زمامه تسوقه كَيفَ شَاءَت، وبتعبير آخر يغره أَنه أمامها وَهِي تتبعه، فيظن أَنه قَائِد لَهَا، والحقيقة الَّتِي يَرَاهَا كل النَّاس من حولهما دونه أَنَّهَا إِنَّمَا تمشي وَرَاءه بِصفة سائق لَا تَابع. وَمَا قدر قدر دهاء النِّسَاء مثل الشَّرِيعَة الإسلامية، حَيْثُ أمرت بالحجب وَالْحجر الشرعيين حصراً لسلطتهن وتفرغهن لتدبير الْمنزل، فَأمرت باحتجابهن احتجاباً محدوداً بِعَدَمِ إبداء الزِّينَة للرِّجَال الْأَجَانِب، وَعدم الِاجْتِمَاع بهم فِي خلْوَة أَو لغير لُزُوم. وَأمرت

باستقرارهن فِي الْبيُوت إِلَّا لحَاجَة. وَلَا شكّ أَنه مَا وَرَاء هَذِه الْحُدُود إِلَّا فتح بَاب الْفُجُور، وَمَا هَذَا التَّحْدِيد إِلَّا مرحمة بِالرِّجَالِ وتوزيعاً لوظائف الْحَيَاة. والصينيون، وهم أقدم الْبشر مَدَنِيَّة، التزموا تَصْغِير أرجل الْبَنَات بالضغط عَلَيْهَا لأجل أَن يعسر عَلَيْهِنَّ الْمَشْي وَالسَّعْي فِي إِفْسَاد الْحَيَاة الشَّرِيفَة. ذَاك الشّرف الَّذِي هُوَ من أهم مَقَاصِد الشرقيين، بِخِلَاف الغربيين الَّذين لَا يهمهم غير التَّوَسُّع فِي الماديات والملذات. وَقد أمرت الشَّرِيعَة برعاية الْكَفَاءَة فِي الزَّوْج، وَذَلِكَ أَيْضا مرحمة بِالرِّجَالِ، وَأكْثر الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين أغفلوا لُزُوم تحري الْكَفَاءَة فِي جَانب الْمَرْأَة للرجل، وأوجبوا أَن يكون هُوَ فَقَط كُفؤًا لَهَا كي لَا تهلكه بفخارها وتحكمها. على أَن لرعاية الْكَفَاءَة فِي الْمَرْأَة للرجل أَيْضا مُوجبَات عائلية مهمة مِنْهَا: التخير للاستسلام والتخير لتربية النَّسْل، وللتساهل فِي ذَلِك دخل عَظِيم فِي انحلال الْأَخْلَاق فِي المدن. لِأَن التَّزَوُّج بمجهولات الْأُصُول أَو الْأَخْلَاق، أَو بسافلات الطباع والعادات، أَو بالغريبات جِنْسا أَو الرقيقات، مفاسد شَتَّى. لِأَن الرجل ينجر طَوْعًا أَو كرها لأخلاق زَوجته، فَإِن كَانَت سافلة يتسفل لامحالة، وَإِن كَانَت غَرِيبَة بغضته فِي أَهله وَقَومه، وجرته

إِلَى مُوالَاة قَومهَا والتخلق بأخلاقهم. وَلَا شكّ أَن هَذِه الْمفْسدَة تستحكم فِي الْأَوْلَاد أَكثر من الْأزْوَاج. وَرُبمَا كَانَ أكبر مسبب لانحلال أَخْلَاق الْأُمَرَاء من الْمُسلمين أَتَاهُم من جِهَة الْأُمَّهَات والزوجات السافلات، إِذْ كَيفَ يُرْجَى من امْرَأَة نشأت سافلة رقيقَة ذليلة أَن تتْرك بَعْلهَا، وَهُوَ فِي الْغَالِب أطوع لَهَا من خلْخَالهَا، أَن يُجيب دَاعِي شهامة أَو مُرُوءَة. أَو أَن تغرس فِي رُؤُوس صبيتها أميالاً سامية، أَو تحمسهم على أَعمال خطرة، كلا لَا تفعل ذَلِك أبدا. إِنَّمَا تَفْعَلهُ الشريفات اللَّاتِي تجدن فِي أَنْفسهنَّ عزة وشهامة وَهَذَا هُوَ سر أَن أعاظم الرِّجَال لَا يوجدون غَالِبا إِلَّا من أَبنَاء وبعول نسْوَة شريفات أَو بيُوت قروية. وَهَذَا هُوَ سَبَب حرص أُمَرَاء الْعَرَب والإفرنج على شرف الزَّوْجَات. ثمَّ قَالَ السَّيِّد الفراتي أَيْضا: وَإِنِّي أرى أَن هَذَا الفتور بَالغ فِي غَالب أهل الطَّبَقَة الْعليا من الْأمة وَلَا سِيمَا فِي الشُّيُوخ مرتبَة (الخور

فِي الطبيعة) لأننا نجدهم: ينتقصون أنفسهم فِي كل شَيْء، ويتقاصرون عَن كل عمل، ويحجمون عَن كل أَقْدَام، ويتوقعون الخيبة فِي كل أمل. وَمن اقبح آثَار هَذَا الخور نظرهم الْكَمَال فِي الْأَجَانِب كَمَا ينظر الصّبيان الْكَمَال فِي آبَائِهِم ومعلميهم، فيندفعون لتقليد الْأَجَانِب واتباعهم فِيمَا يَظُنُّونَهُ رقة وظرافة وتمدناً. وينخدعون لَهُم فِيمَا يغشونهم بِهِ: كاستحسان ترك التصلب فِي الدّين والافتخار بِهِ، فمنهن من يستحي من الصَّلَاة فِي غير الخلوات. وكإهمال التَّمَسُّك بالعادات القومية، فَمنهمْ من يستحي من عمَامَته. وكالبعد عَن الاعتزاز بالعشيرة كَانَ قَومهمْ من سقط الْبشر. وكنبذ التحزب للرأي كَأَنَّهُمْ خلقُوا قاصرين. وكالغفلة عَن إِيثَار الْأَقْرَبين فِي الْمَنَافِع. وكالقعود عَن التناصر والتزاحم بَينهم كي لَا يشم من ذَلِك رَائِحَة التعصب الديني وَإِن كَانَ على الْحق. إِلَى نَحْو ذَلِك من الْخِصَال الذميمة فِي أهل الخور من الْمُسلمين، الحميدة فِي الْأَجَانِب، لِأَن الْأَجَانِب يموهون عَلَيْهِم بِأَنَّهُم يحسنون التحلي بهَا دونهم. وَهَؤُلَاء الواهنة يحِق لَهُم أَن تشق عَلَيْهِم مُفَارقَة حالات ألفوها عمرهم، كَمَا قد يألف الْجِسْم السقم فَلَا تلذ لَهُ الْعَافِيَة، فَإِنَّهُم مُنْذُ

نعومة أظفارهم تعلمُوا الْأَدَب مَعَ الْكَبِير، يقبلُونَ يَده أَو ذيله أَو رجله، وألفوا الاحترام فَلَا يدوسون الْكَبِير وَلَو داس رقابهم. وألفوا الثَّبَات ثبات الْأَوْتَاد تَحت المطارق. وألفوا الانقياد وَلَو إِلَى المهالك. وألفوا أَن تكون وظيفتهم فِي الْحَيَاة دون النَّبَات، ذَاك يَتَطَاوَل وهم يتقاصرون، ذَاك يطْلب السَّمَاء وهم يطْلبُونَ الأَرْض كَأَنَّهُمْ للْمَوْت مشتاقون. وَهَكَذَا طول الألفة على هَذِه الْخِصَال قلب فِي فكرهم الْحَقَائِق، وَجعل عِنْدهم لمخازي مفاخر؛ فصاروا يسمون التصاغر أدباً، والتذلل لطفاً، والتملق فصاحة، واللكنة رزانة، وَترك الْحُقُوق سماحة، وَقبُول الإهانة تواضعاً، والرضاء بالظلم طَاعَة. كَمَا يسمون دَعْوَى الِاسْتِحْقَاق غرُورًا، وَالْخُرُوج عَن الشَّأْن الذاتي فضولاً، وَمد النّظر إِلَى الْغَد أملاً، والإقدام تهوراً، وَالْحمية حَمَاقَة، والشهامة شراسة، وحرية القَوْل وقاحة، وَحب الوطن جنونا. ثمَّ قَالَ: وليعلم أَن الناشئة الَّذين تعقد الْأمة آمالها بأحلامهم عَسى يصدق مِنْهَا شَيْء، وتتعلق الأوطان بحبال همتهم عساهم يأْتونَ فعلا مَذْكُورا، هم أُولَئِكَ الشَّبَاب وَمن فِي حكمهم المحمديون المهذبون، الَّذين يُقَال فيهم أَن شباب رَأْي الْقَوْم عِنْد شبابهم الَّذين يفتخرون

بدينهم فيحرصون على الْقيام بمبانيه الأساسية نَحْو الصَّلَاة وَالصَّوْم، ويتجنبون مناهيه الْأَصْلِيَّة نَحْو الميسر والمسكرات. الَّذين لَا يقصرون بِنَاء قُصُور الْفَخر على عِظَام نخرها الدَّهْر، وَلَا يرضون أَن يَكُونُوا حَلقَة سَاقِطَة بَين الأسلاف والإخلاف، الَّذين يعلمُونَ انهم خلقُوا أحراراً فيأبون الذل والأسار. الَّذين يودون أَن يموتوا كراماً وَلَا يحيون لِئَامًا، الَّذين يجهدون أَن ينالوا حَيَاة رضية، حَيَاة قوم كل فَرد مِنْهُم سُلْطَان مُسْتَقل فِي شؤونه لَا يحكمه غير الدّين، وَشريك أَمِين لِقَوْمِهِ يقاسمهم ويقاسمونه الشَّقَاء والهناء، وَولد بار بوطنه لَا يبخل عَلَيْهِ بِجُزْء طفيف من فكره وَوَقته وَمَاله. الَّذين يحبونَ وطنهم حب من يعلم أَنه خلق من ترابه. الَّذين يعشقون الإنسانية ويعلمون أَن البشرية هِيَ الْعلم والبهيمية هِيَ الْجَهَالَة. الَّذين يعتبرون أَن خير النَّاس أنفعهم للنَّاس. الَّذين يعْرفُونَ أَن الْقنُوط وباء الآمال والتردد وباء الْأَعْمَال. الَّذين يفقهُونَ أَن الْقَضَاء وَالْقدر هما السَّعْي وَالْعَمَل. الَّذين يوقنون أَن كل مَا على الأَرْض من أثر هُوَ من عمل أمثالهم الْبشر، فَلَا يتخيلون إِلَّا الْمقدرَة وَلَا يتوقعون من الأقدار إِلَّا خيرا. وَأما الناشئة المتفرنجة فَلَا خير فيهم لأَنْفُسِهِمْ فضلا عَن أَن

ينفعوا أقوامهم وأوطانهم شَيْئا وَذَلِكَ لأَنهم لَا خلاق لَهُم، تتجاذبهم الْأَهْوَاء كَيفَ شَاءَت، لَا يتبعُون مسلكاً وَلَا يَسِيرُونَ على ناموس مطرد، لأَنهم يحكمون الْحِكْمَة فيفتخرون بدينهم وَلَكِن لَا يعْملُونَ بِهِ تهاونا وكسلاً. ويرون غَيرهم من الْأُمَم يتباهون بأقوامهم ويستحسنون عاداتهم ومميزاتهم فيميلون لمناظرتهم، وَلَكِن لَا يقوون على ترك التفرنج كَأَنَّهُمْ خلقُوا اتبَاعا. ويجدون النَّاس يعشقون أوطانهم فيندفعون للتشبه بهم فِي التشبيب والإحساس فَقَط، دون التشبث بِالْأَعْمَالِ الَّتِي يستوجبها الْحبّ الصَّادِق. وَالْحَاصِل أَن شؤون الناشئة المتفرنجة أَيْضا لَا تخرج عَن تذبذب وتلون ونفاق، يجمعها وصف: " لَا خلاق لَهُم ". والواهنة خير مِنْهُم، متمسكون بِالدّينِ وَلَو رِيَاء. وبالطاعة وَلَو عمياء، على انه يُوجد

فِي المتفرنجة أَفْرَاد غيورون كالراسخين من أَحْرَار الأتراك، الملتهبين غَيره تَقْتَضِي احترام مزيتهم. ثمَّ قَالَ السَّيِّد الفراتي: أَن الخور المبحوث فِيهِ عِلّة معدية تسري من الشُّيُوخ إِلَى الشَّبَاب وَمن الطَّبَقَة الْعليا إِلَى الْعَامَّة. وليت الشُّيُوخ والكبراء يرضون بِمَا كتبه الله عَلَيْهِم من الذلة والمسكنة، والخمول وَسُقُوط الهمة، والدناءة والاستسلام، فَيتْركُوا أهل النشأة الجديدة وشأنهم، لَا يستهزؤن وَلَا يعطلون، وَلَا يسفهون وَلَا شبطون. وَمَا أظنهم بفاعلين ذَلِك أبدا إِلَّا أَن تتصدى لَهُم جرائد مَخْصُوصَة تقابلهم باللوم والتبكيت، وتسلط عَلَيْهِم أَقْلَام الأدباء وَالسّنة الشُّعَرَاء، بِوَضْع أهاجي وأناشيد بعبائر بسيطة محلاة بنكت مضحكة لكَي تَنْتَشِر حَتَّى على السّنة الْعَامَّة. وبمثل هَذَا التَّدْبِير تثور حَرْب أدبية بَين الناشئة والواهنة، لَا تلبث أَن تَنْتَهِي بانكسار الفئة الثَّانِيَة: أُولَئِكَ البائسين الفاشلين، المتواكلين، المتقاعسين، المتخاذلين، المتشاكسين، العاجزين عَن كل شَيْء إِلَّا التعطيل. وَمن رَاجع تواريخ الْأُمَم الَّتِي استرجعت نشأتها والدول الَّتِي جددت عصبيتها، يجد من حكمائها ونجبائها مثل حسان قُرَيْش وكميت العباسيين، ولوثر الألمانيين وفولتر الفرنساويين، قد تغلبُوا على

الْفِكر الواهن وأنصاره من الْأَشْرَاف والشيوخ وَأهل العناد وَالْفساد، بِحمْل لِوَاء الناشئة وإثارة حَرْب أدبية حماسية بَين الفئتين. على أننا نَحن تكفينا الضوضاء وَلَا يحْتَاج قطّ للفوضى، لِأَن واهنتنا أَضْعَف من أَن تحوجنا أَن نَنْتَظِر أم حسان تَلد حسانا، وَرب حِيلَة أَنْفَع من قَبيلَة. (19234174168242131124111849984774240433321 41776687539342334354293484722642554424248221307 5587532288935745190505334776624552438924244229 259441026111810149775) وَهَذَا أنجع دَوَاء وَالله ولي النيات. ثمَّ ختم السَّيِّد الفراتي كَلَامه بقوله: هَذَا مَا سنح لي فِي هَذَا المرام وَقَامَ وتبادل مَعَ الْفَاضِل الشَّامي والبليغ الإسكندري الْمقَام. قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: إِن مبَاحث الجمعية قد استوفت حَقّهَا، وكفانا السَّيِّد الفراتي تَلْخِيص أَسبَاب الفتور مِنْهَا، وَلَا أرى لُزُوما لتلخيص بَقِيَّة المباحث الدِّينِيَّة. وَقد أَعْطَانِي أخونا المدقق التركي رَئِيس لجنة القانون (السانحة) الَّتِي وَضَعتهَا اللجنة، مطبوعة فِي نسخ على عدد الإخوان لتوزع عَلَيْهِم، فيطالعها كل مِنْهُم ويدققها قبل وَضعهَا فِي اجتماعنا غَدا فِي موقع المذاكرات، حَيْثُ يبْحَث فِيهَا قَضِيَّة قَضِيَّة بِدُونِ جزاف،

وَأما الْيَوْم فقد حل أَوَان الِانْصِرَاف. بَادر السَّيِّد الفراتي، وَفرق على كل وَاحِد من أَعْضَاء الجمعية نُسْخَة من سانحة القانون فَأَخَذُوهَا وَتَفَرَّقُوا.

الاجتماع التاسع

الِاجْتِمَاع التَّاسِع ويتبعه الِاجْتِمَاع الْعَاشِر وَالْحَادِي عشر يَوْم السبت السَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة 1316 فِي صباح الْيَوْم الْمَذْكُور انْعَقَدت الجمعية وَقَرَأَ كاتبها السَّيِّد الفراتي ضبط مفاوضات الْيَوْم السَّابِق حسب الْأُصُول المرعية. قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: أننا نَقْرَأ الْيَوْم قانون الجمعية، وَقد علم الإخوان من مطالعة السانحة الَّتِي وَضَعتهَا اللجنة، إِن هَذَا القانون هُوَ الْآن فِي حكم قانون مُؤَقّت، إِلَى أَن تتشكل الجمعية الدائمة إِن شَاءَ الله وتزاول وظائفها. فَهِيَ تعيد النّظر فِيهِ وتعتني بتطبيقه على الموجبات والتجربات، ثمَّ تعرضه على الجمعية الْعَامَّة الَّتِي سَيَأْتِي ذكرهَا فِيهِ، فَإِذا أمضته صَار حِينَئِذٍ قانونا راسخاً. فلنقرأ الْآن قضايا القانون فقرة فقرة، حَتَّى إِذا كَانَ لأحد الإخوان مُلَاحظَة على بعض الفقرات مِنْهُ فليبدها عِنْد قرَاءَتهَا، وَبعد المناقشة أما تقبل أَو ترد أَو تعدل بالأكثرية. وعَلى كل حَال

تضبط المناقشة فِي سجل مَخْصُوص يكون كشرح للقضايا يرجع إِلَيْهِ عِنْد اللُّزُوم. ثمَّ أَمر الْأُسْتَاذ الرئيس بِقِرَاءَة سانحة القانون فقرئت، وَجَرت على بعض القضايا وَبَعض الفقرات مِنْهَا مناقشات، وَتَوَلَّى المدقق التركي رَئِيس اللجنة إِعْطَاء الإيضاحات اللَّازِمَة عَن الْمَقَاصِد الَّتِي لاحظتها اللجنة فِيهِ، فَقبل أَكثر قضاياه وَعدل بَعْضهَا، وضبطت المناقشات على حِدة. وَقد استغرقت مبَاحث القانون جلْسَة ذَلِك الْيَوْم، وَكَذَلِكَ جلْسَة الِاجْتِمَاع الْعَاشِر المنعقد يَوْم الْأَحَد الثَّامِن وَالْعِشْرين من الشَّهْر، وجلسة الِاجْتِمَاع الْحَادِي عشر المنعقد مسَاء الْأَحَد أَي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ.

الاجتماع الثاني عشر

الِاجْتِمَاع الثَّانِي عشر يَوْم الِاثْنَيْنِ التَّاسِع وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة 1316 فِي صباح الْيَوْم الْمَذْكُور انتظمت الجمعية حسب معتادها. أَمر الْأُسْتَاذ الرئيس بِقِرَاءَة القانون الَّذِي تقرر فِي الاجتماعات الثَّلَاثَة السَّابِقَة متْنا مُجَردا فقرئ وَهَذِه صورته: قانون جمعية تَعْلِيم الْمُوَحِّدين الْمُقدمَة قد تقرر فِي الجمعية المنعقدة فِي مَكَّة المكرمة فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتّ عشرَة وثلاثمأة وَألف، الْمُسَمَّاة (جمعية أم الْقرى) ، النتائج الْآتِيَة: 1 - الْمُسلمُونَ فِي حَالَة فتور مستحكم عَام. 2 - يجب تدارك هَذَا الفتور سَرِيعا، وَإِلَّا فتنحل عصبيتهم كلياً. 3 - سَبَب الفتور تهاون الْحُكَّام، ثمَّ الْعلمَاء، ثمَّ الْأُمَرَاء.

4 - جرثومة الدَّاء الْجَهْل الْمُطلق. 5 - أضرّ فروع الْجَهْل: الْجَهْل فِي الدّين. 6 - الدَّوَاء هُوَ: أَولا تنوير الأفكار بالتعليم، ثَانِيًا إِيجَاد شوق للترقي فِي رُؤُوس الناشئة. 7 - وَسِيلَة المداواة عقد الجمعيات التعليمية القانونية. 8 - المكلفون بِالتَّدْبِيرِ هم حكماء ونجباء الْأمة من السراة وَالْعُلَمَاء. 9 - الْكَفَاءَة لإِزَالَة الفتور بالتدريج مَوْجُودَة فِي الْعَرَب خَاصَّة 10 - يلْزم تشكيل جمعية ذَات مَكَانَهُ ونفوذ فِي دَائِرَة القانون الْآتِي الْبَيَان باسم: (جمعية تَعْلِيم الْمُوَحِّدين) .

الفصل الأول

الْفَصْل الأول فِي تشكيل الجمعية قَضِيَّة " 1 " تتشكل الجمعية من مائَة عُضْو. مِنْهُم عشرَة عاملون وَعشرَة مستشارون وَثَمَانُونَ فخريون، ويرتبط بالجمعية أَعْضَاء محتسبون لَا يتَعَيَّن عَددهمْ. قَضِيَّة " 2 " يجب أَن يكون الْأَعْضَاء كلهم متصفين بست صِفَات عَامَّة وَهِي: 1 - سَلامَة الْحَواس، وَكَون السن بَين الثَّلَاثِينَ وَالسِّتِّينَ ابْتِدَاء. 2 - الإسلامية، من أَي مَذْهَب كَانَ من مَذَاهِب أهل الْقبْلَة. 3 - الْعَدَالَة، بِحَيْثُ يكون غير متجاهر بِمَعْصِيَة شَرْعِيَّة إجماعية، وَلَا متلبس أَو مَعْرُوف بخلة مُنَافِيَة للمروءة. 4 - المزية بِعلم أَو جاه أَو ثروة. 5 - الْكِتَابَة بإتقان، فِي لُغَة مَا وَلَو عامية.

قضية

6 - النشاط، بِأَن يكون ذَا همة ونجدة وحمية. قَضِيَّة " 3 " يشْتَرط فِي الْأَعْضَاء العاملين والمستشارين زِيَادَة أَربع صِفَات على مَا سبق وَهِي: 1 - الْقُدْرَة على التَّكَلُّم وَالْكِتَابَة بِالْعَرَبِيَّةِ. 2 - إِمْكَان الْإِقَامَة ثَمَانِيَة أشهر فِي مَرْكَز الجمعية وَهِي مَا عدا ذَا الْحجَّة ومحرماً وصفراً أَو شهر ربيع الأول. 3 - تفرغ العاملين للحضور فِي نَادِي الجمعية أَربع سَاعَات فِي كل يَوْم مَا عدا الْجُمُعَة والأعياد. 4 - تفرغ المستشارين لحضور جلْسَة يَوْم وَاحِد فِي كل أُسْبُوع. قَضِيَّة " 4 " يشْتَرط فِي الْأَعْضَاء الفخريين زِيَادَة ثَلَاث صِفَات وَهِي: 1 - الْقُدْرَة على الْكِتَابَة فِي إِحْدَى اللُّغَات الْأَرْبَع وَهِي الْعَرَبيَّة والتركية والفارسية والأوردية. 2 - الاستعداد لمراسلة الجمعية بِإِحْدَى هَذِه اللُّغَات الْأَرْبَع فِي كل شهر مرّة بمقالة أَو رِسَالَة أَو فصل من تأليف يقترح مَوْضُوعه من قبل الجمعية أَو هُوَ يتخيره، والجمعية تستصوبه وتقرره.

قضية

3 - الأذعان لانتقادات وتنقيحات الجمعية وتصحيحها. قَضِيَّة " 5 " تتشكل جمعية عَامَّة فِي كل سنة مرّة فِي أَوَائِل ذِي الْقعدَة يدعى إِلَيْهَا جَمِيع الْأَعْضَاء حَتَّى المحتسبون، فيحضرها الْأَعْضَاء الْعَامِلُونَ مُطلقًا وَمن شَاءَ من البَاقِينَ. قَضِيَّة " 6 " الجمعية الْعَامَّة، بالمذاكرة والانتخاب الْخَفي والأكثرية الْمُطلقَة، تميز أَولا المترشحين للهيئة العاملة، ثمَّ المترشحين للهيئة المستشارة. قَضِيَّة " 7 " الهيئتان العاملة والمستشارة تجتمعان، وبالمذاكرة وأكثرية الثُّلثَيْنِ تميزان أَولا المترشحين مِنْهَا للرياسة، ولنيابة الرياسة، وللكتابة الأولى، وللكتابة الثَّانِيَة، ولأمانة المَال، ثمَّ تنتخبان من المترشحين رَئِيسا لأجل سنة، ونائب رَئِيس لأجل سنتَيْن، وكاتباً أَولا لأجل ثَلَاث سِنِين، وكاتباً ثَانِيًا، وَأمين مَال لأجل أَربع سِنِين.

قضية

قَضِيَّة " 8 " الهيئتان العاملة والمستشارة يدققون صِفَات الَّذين يُرَاد أَن يَكُونُوا من الْأَعْضَاء الفخريين أَو المحتسبين، ثمَّ بالانتخاب الْخَفي والأكثرية الْمُطلقَة يقبلُونَ أَو يردون. قَضِيَّة " 9 " للهيئتين العاملة والمستشارة أَن يرفعوا صفة العضوية عَمَّن يعلم وُقُوع حَالَة مِنْهُ تستوجب ذَلِك، وتتحقق خفِيا، وَتصدق بأكثرية الثُّلثَيْنِ. قَضِيَّة 10 " الجمعية الْعَامَّة تقوم بِأَرْبَع وظائف وَهِي: 1 - تدقيق إجمالي فِي جَمِيع الْأَعْمَال الَّتِي أجرتهَا الجمعية فِي السّنة الْمَاضِيَة. 2 - تدقيق حساباتها الْمَاضِيَة. 3 - تَقْرِير مَا يلْزم التشبث بِهِ من الْأَعْمَال الْكَبِيرَة فِي السّنة الْمُسْتَقْبلَة. 4 - تَقْرِير نفقات السّنة الْقَابِلَة. قَضِيَّة " 11 " المركز الرسمي للجمعية مَكَّة المكرمة، وَلها شعبات فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة ومصر وعدن وَحَائِل وَالشَّام وتفليس وطهران وخيوه وكابل وكلكته ودهلي وسنكابور وتونس ومراكش وَغَيرهَا من المواقع الْمُنَاسبَة.

قضية

قَضِيَّة " 12 " يكون تشكيل الشعبات على نمط تشكيل الجمعية المركزية مُصَغرًا. وَتَكون مرتبطة تَمامًا بالجمعية فِيمَا عدا ماليتها وجزئيات أمورها، فَإِن لَهَا الْخِيَار أَن تكون مُسْتَقلَّة الْمَالِيَّة والإدارة. قَضِيَّة " 13 " تتشكل الشعبات على التَّرَاخِي، وَيُعْطى للْبَعْض الْمُنَاسب الْموقع مِنْهَا هَيْئَة تصلح مَعهَا لِأَن تتَّخذ عِنْد مَسِيس الْحَاجة هِيَ المركز الْأَصْلِيّ.

فارغ

الفصل الثاني

الْفَصْل الثَّانِي فِي مباني الجمعية قَضِيَّة " 14 " الجمعية لَا تتداخل فِي الشؤون السياسية مُطلقًا فِيمَا عدا إرشادات وإخطارات بمسائل أصُول التَّعْلِيم وتعميمه. قَضِيَّة " 15 " لَيْسَ من شان الجمعية أَن تكون تَابِعَة أَو مرتبطة بحكومة مَخْصُوصَة، على أَنَّهَا تقبل المعاونة أَو المعاضدة من قبل السلاطين الْعِظَام والأمراء الفخام المستقلين وَالتَّابِعِينَ بِصفة حماة فخريين قَضِيَّة 16 " لَا تنتسب الجمعية إِلَى مَذْهَب أَو شيعَة مَخْصُوصَة من مَذَاهِب وشيع الْإِسْلَام مُطلقًا. قَضِيَّة " 17 " توفق الجمعية مسلكها الديني على المشرب السلَفِي المعتدل، وعَلى نبذ كل

قضية

زِيَادَة وبدعة فِي الدّين، وعَلى عدم الْجِدَال فِيهِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن. قَضِيَّة " 18 " يكون شعار الجمعية القولي: (لَا نعْبد إِلَّا الله) . وشعارها الْفعْلِيّ الْتِزَام (المصافحة) على وَجه السّنة. ووجهتها: (الْغيرَة على الدّين قبل الشَّفَقَة على الْمُسلمين) . وأهم أَعمالهَا (تَعْلِيم الْأَحْدَاث وتهذيبهم) تراجع قَضِيَّة 46 و 47 و 48 قَضِيَّة " 19 " أَعْضَاء الجمعية لَا يتكلفون التناصر والتعاون فِيمَا هُوَ لَيْسَ من مَقَاصِد الجمعية، أَي التعاون بِالْمَالِ أَو الجاه فِيمَا بَينهم إِلَّا لمن يصاب ويتضرر بِسَبَب الجمعية. قَضِيَّة " 20 " تتكفل الجمعية بإعاشة عدد مَخْصُوص من أَصْحَاب المزايا العلمية الْخَاصَّة، أَو العزائم الخارقة الْعَادة، بِشَرْط أَن يَكُونُوا مجردين لَا عِيَال لَهُم أَو شبيهين بالمجردين.

الفصل الثالث

الْفَصْل الثَّالِث فِي مَالِيَّة الجمعية قَضِيَّة " 21 " نفقات الجمعية تبنى على غابة البساطة والاقتصاد وَهِي تِسْعَة أَنْوَاع: 1 - إِكْمَال كِفَايَة الْهَيْئَة العاملة بِمَا لَا يزِيد على سِتِّينَ ذَهَبا انكليزياً لكل وَاحِد فِي السّنة. 2 - رواتب الْكتاب والمترجمين والخدم. 3 - أجره محلات المركز والشعب غير المستقلة مالياً. 4 - مصاريف الْبعُوث المتجولة. 5 - مصاريف المطبوعات. 6 - مصاريف التَّحْرِير والتأليف. 7 - مصاريف الْبَرِيد والمخابرات. 8 - كِفَايَة الْمَكْفُول أعاشتهم الْمَذْكُورين فِي الْقَضِيَّة (20) . 9 - المصاريف المتفرقة. قَضِيَّة " 22 " تعتمد الجمعية فِي الْحُصُول على نفقاتها على جِهَتَيْنِ فَقَط: النّصْف من ربح

قضية

مطبوعات الجمعية، أَي طبع المؤلفات الْآتِي ذكرهَا فِي الْفَصْل التَّالِي من نَحْو طبع الْمُصحف الشريف بِصُورَة متقنة للغاية تستوجب الِاخْتِصَاص بطبعه، وَالنّصف الآخر من إعانات أَصْحَاب الحمية والنجدة من أُمَرَاء وأغنياء الْأمة وَبَعض الْأَعْضَاء المحتسبين. قَضِيَّة " 23 " أَمِين المَال يكون من أَغْنِيَاء التُّجَّار الْمَشَاهِير المقيمين فِي مَرْكَز الجمعية وَيكون من جملَة الْأَعْضَاء المستشارين، وَيقوم بِهَذِهِ الْخدمَة حسبَة لرَبه وَدينه، وَيكون المَال فِي يَده بِوَجْه مَضْمُون. قَضِيَّة " 24 " أَمِين المَال يُعْطي وصولات بمقبوضاته تكون مطبوعة مرقوما عَلَيْهَا عدد متسلسل، ومرقما فِي جَانب مِنْهَا مَجْمُوع الْوَارِد ومجموع المصروف فِي تِلْكَ السّنة بِاعْتِبَار غَايَة الشَّهْر الْعَرَبِيّ المنصرم. قَضِيَّة " 25 " أَمِين المَال لَا يصرف شَيْئا إِلَّا بِوَرَقَة صرف مطبوعة مرقما عَلَيْهَا عدد متسلسل وموقعا عَلَيْهَا من الْقَابِض وَكَاتب الجمعية ورئيسها.

الفصل الرابع

الْفَصْل الرَّابِع فِي وظائف الجمعية قَضِيَّة " 26 " الهيئتان العاملة والمستشارة بالِاتِّفَاقِ أَو أكثرية الثُّلثَيْنِ تعيدان النّظر فِي قانون الجمعية مرّة ابْتِدَاء، ثمَّ كل ثَلَاث سِنِين مرّة، وتنظمان القوانين الَّتِي تلْزم؛ وَيجب مُطلقًا أَن يكون تَرْتِيب القوانين تَابعا لقواعد التروي والتدقيق والتأمين. وترتبط كل قَضِيَّة بشرح مفصل مسجل يرجع إِلَيْهِ. وَلَا يصير القانون دستوراً للْعَمَل إِلَّا بعد قِرَاءَته فِي الجمعية الْعَامَّة السنوية وقبوله. وَيجوز للهيئتين عِنْد الضَّرُورَة تَقْرِير إِجْرَاء الْبَعْض من أَحْكَام تِلْكَ القوانين مؤقتاً، ثمَّ تعرض على الجمعية الْعَامَّة الْأَسْبَاب الْمُجبرَة على التَّعْجِيل. قَضِيَّة " 27 " إيقاظ فكر عُلَمَاء الدّين إِلَى الْأُمُور الْخَمْسَة الْآتِيَة، وتنشيطهم للسعي فِي حُصُولهَا ومساعدتهم باراءة أسهل الْوَسَائِل وأقربها وَهِي: 1 - تَعْمِيم الْقِرَاءَة وَالْكِتَابَة مَعَ تسهيل تعليمها. 2 - التَّرْغِيب فِي الْعُلُوم والفنون النافعة الَّتِي هِيَ من قبيل الصَّنَائِع مَعَ تسهيل تعليمها وتلقيها.

قضية

3 - تَخْصِيص كل من الْمدَارِس والمدرسين لنَوْع وَاحِد أَو نَوْعَيْنِ من الْعُلُوم والفنون ليوجد فِي الْأمة أَفْرَاد نابغون متخصصون. 4 - إصْلَاح أصُول تَعْلِيم اللُّغَة الْعَرَبيَّة والعلوم الدِّينِيَّة وتسهيل تَحْصِيلهَا، بِحَيْثُ يبْقى فِي عمر الطَّالِب بَقِيَّة يصرفهَا فِي تَحْصِيل الْفُنُون النافعة. 5 - الْجد وَرَاء تَوْحِيد أصُول التَّعْلِيم وَكتب التدريس. قَضِيَّة " 28 " السَّعْي فِي تأليف متون مختصرة بسيطة وَاضِحَة على ثَلَاث مَرَاتِب: 1 - لتعليم المبتدئين أَو المكتفين بالمبادئ. 2 - لتعليم المنتهين الطالبين الإتقان. 3 - لتعليم النابغين الراغبين فِي الِاخْتِصَاص. قَضِيَّة " 29 " الاهتمام فِي جعل المتعلمين والمعلمين على أَربع مَرَاتِب: 1 - الْعَامَّة ومعلموهم أَئِمَّة الْمَسَاجِد والجوامع الصَّغِيرَة 2 - المهذبون ومعلموهم مدرسو الْمدَارِس العمومية والجوامع الْكَبِيرَة. 3 - الْعلمَاء ومعلموهم مدرسو الْمدَارِس المختصة بالعلوم الْعَالِيَة. 4 - النابغون ومعلموهم الأفاضل المتخصصون. قَضِيَّة " 30 " السَّعْي لَدَى أُمَرَاء الْأمة بمعاملة كَافَّة طَبَقَات الْعلمَاء مُعَاملَة الْأَطِبَّاء، أَي بِالْحجرِ رسماً على من يتصدر للتدريس والإفتاء والوعظ والإرشاد مَا لم يكن مجَازًا

قضية

من قبل هَيْئَة امتحانية رسمية موثوق بهَا تُقَام فِي العواصم. قَضِيَّة " 31 " التوسل لَدَى الْأُمَرَاء أَن يُعْطوا لأحد الْعلمَاء الغيورين فِي كل بَلْدَة صفة محتسب ديني على جمَاعَة الْمُسلمين فِي تِلْكَ الْبَلدة، ويجعلوا لَهُ مستشارين منتخبين من عقلاء الأهالي. وتكليف هَذِه الجمعية الاحتسابية بَان تقوم بِالنَّصِيحَةِ للْمُسلمين بِدُونِ عنف، وبتسهيل تَعْمِيم المعارف والمحافظة على الْأَخْلَاق الدِّينِيَّة. قَضِيَّة " 32 " التوسل لنيل الْعلمَاء مَا يسْتَحقُّونَ من رزق وَحُرْمَة، ومنعهم عَن كل مَا يخل بصفتهم وشرفهم. قَضِيَّة " 33 " التوسل لحمل أهل الطرائق على الرُّجُوع إِلَى الْأُصُول الملائمة للشَّرْع وَالْحكمَة فِي الْإِرْشَاد وتربية المريدين. وتكليف كل فرقة مِنْهُم بوظيفة مَخْصُوصَة يخدمون بهَا الْأمة الإسلامية من نَحْو اخْتِصَاص فرقة كالقادرية مثلا بإعاشة وَتَعْلِيم الْأَيْتَام، وَأُخْرَى بمواساة الْمَسَاكِين وَأَبْنَاء السَّبِيل، وَجَمَاعَة بتمريض الْفُقَرَاء والبائسين، وَفِئَة بالتشويق إِلَى الصَّلَاة، وَغَيرهَا بالتنفير عَن المسكرات. وَنَحْو ذَلِك من الْمَقَاصِد الْخَيْرِيَّة الشَّرْعِيَّة فَيكون عَمَلهم هَذَا عوضا عَن العطل والتعطيل.

قضية

قَضِيَّة " 34 " حمل الْعلمَاء والمرشدين وجمعيات الاحتساب على السَّعْي لإرشاد أَفْرَاد الْأمة، خُصُوصا إحداثها، إِلَى قَوَاعِد معاشية وأخلاقية متحدة الْأُصُول تلائم الإسلامية وَالْحريَّة الدِّينِيَّة، وتفيد تريض الْأَجْسَام وتقوية المدارك، وتثمر النشاط للسعي وَالْعَمَل، وتولد الحمية والأخلاق الشَّرِيفَة. قَضِيَّة " 35 " تعتني الجمعية بِصُورَة مَخْصُوصَة بِوَضْع مؤلفات أخلاقية ملائمة للدّين وللزمان، وَتَكون على مَرَاتِب من بسيطة ومتوسطة وعالية بِحَيْثُ تقوم هَذِه المؤلفات مقَام مطولات الصُّوفِيَّة. ونقوم بِوَضْع مؤلفات اللُّغَة، وسطى عَرَبِيَّة لَا مضرية وَلَا عامية، وَجعلهَا لُغَة لبَعض الجرائد ولمؤلفات الخلاق وَنَحْوهَا مِمَّا يهم نشره بَين الْعَوام فَقَط. قَضِيَّة " 36 " تعتني الجمعية فِي حمل الْعلمَاء وجمعيات الاحتساب على تَعْلِيم الْأمة مَا يجب عَلَيْهَا شرعا من المجاملة فِي الْمُعَامَلَة من غير الْمُسلمين، وَمَا تَقْتَضِيه الإنسانية والمزايا

قضية

الإسلامية من حسن معاشرتهم ومقابلة معروفهم بِخَير مِنْهُ، ورعاية الذِّمَّة والتأمين والمساواة فِي الْحُقُوق، وتجنب التعصب الديني أَو الجنسي بِغَيْر حق. قَضِيَّة " 37 " تنشر الجمعية رِسَالَة دينية عَرَبِيَّة فِي كل شهر يكون حجمها نَحْو مائَة صفحة بِحَيْثُ يتألف مِنْهَا كتاب فِي كل عَام، وَتَكون مباحثها ثَمَانِيَة أَنْوَاع يخصص لكل بحث قسم مِنْهَا وَهِي: 1 - مقرارات الجمعية وأعمالها وخلاصة المهم من مخابراتها مَعَ شعباتها. 2 - مبَاحث دينية فِي مَوْضُوع سماحة الدّين ومزاياه السامية، وَدفع مَا يرْمى بِهِ بِهِ من منافته للحكمة والمدنية 3 - قَوَاعِد أخلاقية ونصائح معاشية. 4 - فُصُول فِي الْعُلُوم والفنون النافعة وَالتَّرْغِيب فِيهَا وأراءة طرائق تقلينها وتلقيها 5 - المقالات المفيدة الَّتِي يحررها الْأَعْضَاء الفخريون وَغَيرهم من فضلاء الْأمة. 6 - الْأَخْبَار والإعلانات الْمُتَعَلّقَة بالنهضة العلمية الإسلامية. 7 - الأسئلة والأجوبة المهمة. 8 - مبَاحث وفوائد شَتَّى. قَضِيَّة " 38 " تكون الأبحاث والمقالات الدِّينِيَّة فِي الرسَالَة الشهرية ملاحظاً فِيهَا إِجْمَاع السّلف أَو الْمُوَافقَة لمذهبين فَأكْثر من الْمذَاهب الْمُدَوَّنَة المتبعة. وَيتَعَيَّن فِي الْمسَائِل المهمة الخلافية أَن يقرها بعض مشاهير عُلَمَاء الْهِدَايَة من الْمذَاهب الْمُخْتَلفَة.

قضية

قَضِيَّة " 39 " تكون قيمَة الرسَالَة معتدلة قريبَة من مَصْرُوف تحريرها وطبعها فَقَط، وَترسل لكافة الْمدَارِس ومشاهير الْعلمَاء بِدُونِ عوض على حِسَاب الْأُمَرَاء والمحتسبين. قَضِيَّة " 40 " تعتني الجمعية غَايَة الاعتناء فِي إِيصَال الرسَالَة إِلَى الْمُرْسلَة إِلَيْهِم بِصُورَة منتظمة، وَفِي إدخالها لكافة الْبِلَاد المأهولة بِالْمُسْلِمين رغماً عَن كل مَانع، فترسل وَلَو برا مَعَ رواد على نَجَائِب تخترق آسيا وإفريقيا إِلَى أقاصيهما، وَلَا تعدم الجمعية وَسَائِل كَثِيرَة للإيصال. قَضِيَّة " 41 " تخصص الجمعية لمنشوراتها وإعلاناتها أَربع جرائد من أشهر الجرائد الإسلامية السياسية. (1) عَرَبِيَّة فِي مصر (2) تركية فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة (3) فارسية فِي طهران (4) أوردية فِي كلكته. قَضِيَّة " 42 " تسْعَى الجمعية فِي تأسيس مدرسة جغرافية تاريخية دينية فِي مَرْكَز الجمعية لأجل تثقيف تلامذتها وتأهيلهم للسياحة والبعوث. قَضِيَّة " 43 " ترسل الجمعية بعوثا جغرافية وعلمية تتجول فِي الْبِلَاد الإسلامية الْقَرِيبَة

قضية

والبعيدة للإطلاع على أَحْوَال الْبِلَاد وَأَهْلهَا من حَيْثُ الدّين والمعارف، ولإرشادهم إِلَى لما يلْزم إرشادهم إِلَيْهِ فِي ذَلِك حَسْبَمَا تَقْتَضِيه الْأُخوة الدِّينِيَّة بِدُونِ تعرض للأحوال السياسية قَطْعِيا. قَضِيَّة " 44 " تسْعَى الجمعية بعد مُضِيّ ثَلَاث سِنِين من انْعِقَادهَا فِي إقناع مُلُوك الْمُسلمين وأمرائهم لعقد مؤتمر رسمي فِي مَكَّة المكرمة، يحضرهُ وُفُود من قبلهم، ويترأسهم مَنْدُوب أَصْغَر أُولَئِكَ الْأُمَرَاء، وَيكون مَوْضُوع المذاكرات فِي المؤتمر: السياسة الدِّينِيَّة. قَضِيَّة " 45 " إِذا صادفت الجمعية مُعَارضَة فِي بعض أَعمالهَا من حُكُومَة بعض الْبِلَاد، وَلَا سِيمَا الْبِلَاد الَّتِي هِيَ تَحت اسْتِيلَاء الْأَجَانِب، فالجمعية تتذرع أَولا بالوسائل اللَّازِمَة لمراجعة تِلْكَ الْحُكُومَة وإقناعها بِحسن نِيَّة الجمعية، فَإِذا وفقت لرفع التعنت فِيهَا، وَإِلَّا فلتلجأ الجمعية إِلَى الله الْقَادِر الَّذِي لَا يعجزه شَيْء

خاتمة

خَاتِمَة قَضِيَّة " 46 " سياسة الجمعية: جلب قُلُوب من تتخير جلبهم ببذل الْمَعْرُوف مُحَابَاة فتتحرى مواساة الْإِنْسَان عِنْد مصابه وتنقب عَن أهم حاجاته أَو غاياته فتعينه عَلَيْهَا. قَضِيَّة " 47 " مظهر الجمعية: الْعَجز والمسكنة، فَلَا تقاوم وَلَا تقَابل إِلَّا بأساليب النَّصِيحَة وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة، وتلاطف وتحامل جهدها من يعادي مقاصدها، وَلَا تلجأ إِلَى الإلجاء إِلَّا فِي الضروريات. قَضِيَّة " 48 " قُوَّة الجمعية: الْإِخْلَاص فِي النِّيَّة، وعمدتها الثَّبَات على الْعَمَل. ومسلكها تذليل العقبات وَاحِدَة فَوَاحِدَة. وحصنها الدّين الحنيف، وسلاحها الْعلم والتعليم. وجيشها الْأَحْدَاث والضعفاء. وقوادها حكماء الْعلمَاء والأمراء. ورايتها الْقدْوَة الْحَسَنَة، وغنيمتها بَث الْحَيَاة فِي الْمُوَحِّدين. وغايتها خدمَة المدنية والإنسانية. وَثَمَرَة أعضائها وأنصارها لَذَّة الْفِكر وَالْفَخْر ونيل الْأجر من الله - تمّ القانون. قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: هَا نَحن أولاء قد اسْتَوْفَيْنَا قِرَاءَة القانون للمرة الثَّانِيَة أَيْضا وَلم يسْتَدرك عَلَيْهِ أحد من الإخوان شَيْئا، فَهَل أَنْتُم

مقروه؟ فَأجَاب جَمِيع الْأَعْضَاء: نعم نقره. قَالَ الْعَلامَة الْمصْرِيّ: إِنِّي بالنيابة عَن هَيْئَة الجمعية أشكر لحضرة الْأُسْتَاذ الْمَكِّيّ براعته فِي حسن إدارة الجمعية، كَمَا أنني أقدر للمدقق التركي ورفقائه وأضعي سانحة القانون قدر فَضلهمْ وَحسن أحاطتهم. وَإِنِّي لأرى فِي هَذَا القانون أشعة نور بَين القضايا والسطور، نور يشرق على المنارات فيغشى ببدره الْأَهِلّة ويبهر النسور. نور مَعْقُود اللِّوَاء لنشأة جَدِيدَة وحياة حميدة وعاقبة سعيدة. نور يمزق ديجور الفتور وَيحيى ميت الشُّعُور وَمَا ذَلِك على الله بعزيز. قَالَ الْمُحَقق الْمدنِي: بمناسبة إِنِّي جَار للنَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أرى كَأَن رَسُول الله مسرور بكم أَيهَا الإخوان الْكِرَام، يتَضَرَّع إِلَى ربه أَن يوفقكم فِي مشروعكم خدمَة لدينِهِ وَأمته خدمَة تلحقكم بالمجاهدين الصديقين الْأَوَّلين. قَالَ الاستاذ الرئيس: حَيْثُ تقرر أَن يكون تأسيس الجمعية الدائمة ابْتِدَاء فِي بور سعيد أَو الكويت بِصُورَة غير علنية فِي الأول، فَأرى أَن نفوض تعَاطِي أَسبَاب هَذِه المهمة للعلامة الْمصْرِيّ وَالسَّيِّد الفراتي، فهما بعد سِتَّة اشهر يَجْتَمِعَانِ فِي مصر، وَبعد تهيئة

الْأَسْبَاب وترتيب مَا يلْزم ترتيبه يسعيان أَولا بطبع هَذِه المذاكرات مَعَ القانون، ثمَّ يهتمان بترجمة ذَلِك إِلَى بَقِيَّة أُمَّهَات اللُّغَات الإسلامية التركية والفارسية والأوردية فيطبعانها وينشرانها ذكرى وبشرى للْمُؤْمِنين. ثمَّ بعد استطلاعهما مَا يلْزم استطلاعه من آراء ذَوي الهمم السامية، يباشران تعَاطِي أَسبَاب تشكيل الجمعية مَعَ التروي والتأني اللازمين حِكْمَة. وَرُبمَا لَا يساعدهما الزَّمَان فيحتاجان لترقب الفرصة وَلَو تَأَخّر الْأَمر إِلَى اجتماعنا الثَّانِي. وأخونا السَّيِّد الفراتي يعدنا بِأَنَّهُ لَا يقطع عَنَّا رسائله وإعلامنا بسير الْمَسْأَلَة. والأمل بعنايته تَعَالَى أَن نجد فِي اجتماعنا الثَّانِي بعد ثَلَاث سِنِين الجمعية الدائمة متشكلة على أحسن نظام. ثمَّ قَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: وَإِنِّي على أمل أَن الجمعية الدائمة ستلحقنا بأعضائها الفخريين، فنخدم مقاصدها الجليلة الْمُتَعَلّقَة بإعزاز ديننَا وإخواننا وأنفسنا، فننال بذلك اجْرِ الْمُحْسِنِينَ وشرفاً عَظِيما نفتخر بِهِ نَحن وأحقابنا من بَعدنَا إِلَى يَوْم الدّين. ثمَّ قَالَ: وَإِن جمعيتنا هَذِه إِذا اخْتَارَتْ أَن تجْعَل مركزها الموقت فِي مصر دَار الْعلم وَالْحريَّة، فلهَا أمل قوي فِي أَن حَضْرَة

الْعَزِيز (عَبَّاس الثَّانِي) يكون عضداً للقائمين بإعزاز الدّين وحاميا فخريا للجمعية، وَلَا بدع فَإِنَّهُ خير أَمِير شَاب نَشأ على الْغيرَة الدِّينِيَّة وَالْحمية الْعَرَبيَّة. خُصُوصا جنابه السَّامِي من آل بَيت حازوا بَين سَائِر مُلُوك الْإِسْلَام وأمرائها قصب السَّبق فِي الإطلاع على أَحْوَال الدُّنْيَا، فاجتهدوا فِي الترقيات السياسية والعمرانية والعلمية والتنظيمية والمدنية. حَتَّى أَن النهضة العثمانية بِكُل فروعها مسبوقة فِي مصر ومقتبسة عَنْهَا. بل كَمَا يعلم العارفون إِنَّمَا تقدّمت الدولة الْعلية العثمانية بعض خطوَات فِي ميدان المدنية والعمران مدفوعة بأيدي المرحومين مُحَمَّد عَليّ وَإِبْرَاهِيم وفاضل وكامل وَغَيرهم من الْأُمَرَاء حَتَّى والأميرات المصريات، فَمَا كَانَ رشيد وعالي وفؤاد وَكَمَال ومدحت وعوني وَبَقِيَّة أَحْرَار الأتراك إِلَّا وَأَكْثَرهم آلَات أوجدها ومدها بِالْقُوَّةِ هَؤُلَاءِ الْعِظَام. وَلَا غرو فقد يحمل الابْن أَبَاهُ على الرشد وان أَبَاهُ. وَلَوْلَا تهاون سعيد وتطاول إِسْمَاعِيل، وَسُقُوط نُفُوذ الفرنسيس بِحَرب السّبْعين، وانفراد الإنكليز ويأسهم من قبُول الْمَرِيض التمريض، وتهاتر قوات الدول بتوازنها، لبقيت تِلْكَ الْحَرَكَة مستمرة وَلما رَجَعَ الشَّيْخ إِلَى دور الانحلال وَلَا وَقع الابْن فِي دور

الاحتلال. وَلِهَذَا لَا تفرط الجمعية إِذا عقدت الأمل فِي مؤازره هَذَا الْأَمر السهل الخطير بِذَاكَ الْعَزِيز الشَّاب الْكَبِير، إِجَابَة لداعي الحمية وسمو الْفِكر واغتناما للثَّواب وفخر الذّكر، وَالله الملهم الْمُوفق ونسأله حسن الختام. ثمَّ خَاطب السَّيِّد الفراتي هَيْئَة الجمعية فَقَالَ: أَيهَا السَّادة، لَا غرو أَن أكون أَكثر الإخوان سُرُورًا بإنتاج سعيي وسياحتي، هَذِه الخطوة الْكَبِيرَة فِي هَذَا السَّبِيل. وَإِنِّي مُسْتَبْشِرٍ من تسهيل الْمولى تَعَالَى الْبِدَايَة أَن يسهل السّير إِلَى النِّهَايَة، وَلَا يعز على الله شَيْء، والعزائم لَا شكّ تذلل العظائم. وَإِنِّي أَيهَا السَّادة سأراسلكم إِن شَاءَ الله بمهمات مَا يحصل وَيتم، وَلَا اسْتغنى أَن تردفوني بآرائكم وَلَو عَن بعد وتسعفوني بأدعيتكم بالتوفيق. هَذَا وَلَيْسَ الْيَوْم آخر عهد جمعيتنا، بل يلْزم أَن تَجْتَمِع أَيْضا فِي هَذَا المحفل رَابِع أَيَّام التَّشْرِيق فَتكون تِلْكَ جمعية الْوَدَاع، وفيهَا يكاشفكم حَضْرَة الْأُسْتَاذ الرئيس عَن بعض تدابير وبشائر يجب إسرارها فتوقر فِي الصُّدُور لَا تسجل وَلَا تذاع. وَإِلَى ذَاك الْيَوْم يتم بتسهيل الله طبع سجل مذاكرات جمعيتنا إِلَى هَذِه السَّاعَة (بمطبعة

الجلاتين. فيوزع عَلَيْكُم نسخ مِنْهَا كَمَا يعْطى لكم نسخ من ضبط المناقشات على القانون، وَنسخ جَدِيدَة من مِفْتَاح الْكِتَابَة الرمزية تبديلاً للمفتاح الْمُخْتَصر الأول، مذيلا بتراجم الإخوان بِصُورَة أَكثر تَفْصِيلًا من الأولى وعَلى الله التَّيْسِير. ثمَّ قَالَ السَّيِّد الفراتي: أخْبركُم أَيهَا السَّادة بِأَنِّي أخذت بالْأَمْس رِسَالَة من أخينا الأديب الْبَيْرُوتِي الَّذِي لم يُمكنهُ الْقدر من موافاة الجمعية كَمَا بيّنت ذَلِك قبلا، فَهُوَ يقرئكم السَّلَام وَيَدْعُو للجمعية بالتوفيق، وَيطْلب أَن أتلو عَلَيْكُم قصيدة لَهُ يُخَاطب بهَا الْمُسلمين. فَقَالَ الْأُسْتَاذ الرئيس: وَعَلِيهِ السَّلَام وَأمر بِقِرَاءَة القصيدة، فقرئت وَأثبت مِنْهَا بِإِشَارَة الْأُسْتَاذ الرئيس بعض أَبْيَات وَهِي: (غيرتمو يَا حيارى مَا بِأَنْفُسِكُمْ ... فَغير الله عَنْكُم سابغ النعم) (الله لَا يهْلك الْقرى إِذا كفرت ... وَأَهْلهَا مصلحون فِي شؤونهم) (ترك التآمر بِالْمَعْرُوفِ أورثكم ... مَا حاق من نذر يَا زلَّة الْقدَم) إِلَى أَن يَقُول: (يَا قَومنَا صححوا تَوْحِيد بارئكم ... بِدُونِ إشراك أَحيَاء وَلَا رمم) (ونقحوا الشَّرْع من حَشْو ومخترع ... رجعى إِلَى دين إسلاف ذَوي ذمم)

(خُذُوا بمحكم آيَات منزلَة ... وَسنة جَاءَنَا بأفصح الْكَلم) (دعوا الْبَدَائِع فِي الدّين وَإِن حسنت ... وَلَا يغرَّنكم تَأْوِيل محتكم) (سماحة الدّين فِي فكر وَفِي عمل ... خير من الأصرو والأغلال والسقم) (سماحة الدّين من الله خالقكم ... بهَا عَلَيْكُم، دعوا الكفران بِالنعَم) (وحافظوا مِلَّة بَيْضَاء ساطعة ... سمحاء جاءتكمو بِكُل مغتنم) (راقت فضائلها فِي كل فلسفة ... قوامها حِكْمَة تُفْضِي إِلَى شمم) حَتَّى يَقُول: (هذي وسيلتكم لَا غَيرهَا أبدا ... فَاسْعَوْا لنهضتكم يَا خيرة الْأُمَم) (فِي غير جَامِعَة التَّوْحِيد لن تَجدوا ... من جَامع لكمولستم ذَوي رحم) (سياسة الدّين أولى مَا تساس بِهِ ... شَتَّى الْخَلَائق من عرب وَمن عجم) (فِيهَا الْحَيَاة وفيهَا حفظ رايتكم ... خضراء سَوْدَاء حول الرُّكْن وَالْحرم) ذيل قررت الجمعية فِي اجْتِمَاع الْوَدَاع المنعقد فِي رَابِع أَيَّام الْعِيد بعض

قرار عدد

أُمُور يَنْبَغِي أَن تسر وَلَا تذاع. غير أَنَّهَا رَأَتْ أَن يلْحق مِنْهَا بِهَذَا السّجل مَا يَأْتِي فَقَط: قَرَار عدد (6) أَن الجمعية، بعد الْبَحْث الدَّقِيق وَالنَّظَر العميق فِي أَحْوَال وخصال جَمِيع الأقوام الْمُسلمين الْمَوْجُودين، وخصائص مواقعهم، والظروف المحيطة بهم، واستعدادتهم، وجدت أَن لجزيرة الْعَرَب ولأهلها بِالنّظرِ إِلَى السياسة الدِّينِيَّة مَجْمُوعَة خَصَائِص وخصال لم تتوفر فِي غَيرهم. بِنَاء عَلَيْهِ رَأَتْ الجمعية أَن حفظ الْحَيَاة الدِّينِيَّة متعينة عَلَيْهِم لَا يقوم فِيهَا مقامهم غَيرهم مُطلقًا، وَأَن انْتِظَار ذَلِك من غَيرهم عَبث مَحْض. على أَن لبَقيَّة الأقوام أَيْضا خَصَائِص ومزايا تجْعَل لكل مِنْهُم مقَاما مهما فِي بعض وظائف الجامعة الإسلامية، مثل: أَن معاناة حفظ الْحَيَاة السياسية وَلَا سِيمَا الخارجية متعينة على التّرْك العثمانيين. ومراقبة حفظ الْحَيَاة المدنية التنظيمية يَلِيق أَن تناط بالمصريين، وَالْقِيَام بمهام الْحَيَاة الجندية يُنَاسب أَن يتكفل بهَا الأفغان وتركستان والخزر

والقوقاس يَمِينا ومراكش وإمارات إفريقيا شمالاً. وتدبير حفظ الْحَيَاة العلمية والاقتصادية خير من يتولاها أهل إيران وأواسط آسيا والهند وَمَا يَليهَا. وَحَيْثُ كَانَت الجمعية لَا يعنيها غير أَمر النهضة الدِّينِيَّة، بِنَاء عَلَيْهِ رَأَتْ الجمعية من الضَّرُورِيّ أَن ترْبط آمالها بالجزيرة وَمَا يَليهَا وَأَهْلهَا وَمن يجاريهم. وَأَن تبسط لأنظار الْأمة مَا هِيَ خَصَائِص الجزيرة وَأَهْلهَا وَالْعرب عُمُوما؛ وَذَلِكَ لأجل رفع التعصب السياسي أَو الجنسي، وَلأَجل إِيضَاح أَسبَاب ميل الجمعية للْعَرَب فَنَقُول: 1 - الجزيرة هِيَ مشرق النُّور الإسلامي. 2 - الجزيرة فِيهَا الْكَعْبَة المعظمة. 3 - الجزيرة فِيهَا الْمَسْجِد النَّبَوِيّ وَفِيه الرَّوْضَة المطهرة. 4 - الجزيرة أنسب المواقع لِأَن تكون مركزاً للسياسة الدِّينِيَّة لتوسطها بَين أقْصَى آسيا شرقا وأقصى إفريقيا غربا. 5 - الجزيرة أسلم الأقاليم من الأخلاط جنسية واديانا ومذاهب. 6 - الجزيرة أبعد الأقاليم عَن مجاورة الْأَجَانِب. 7 - الجزيرة أفضل الْأَرَاضِي لِأَن تكون ديار أَحْرَار لبعدها عَن

الطامعين والمزاحمين نظرا لفقرها الطبيعي 8 - عرب الجزيرة هم مؤسسو الجامعة الإسلامية لظُهُور الدّين فيهم. 9 - عرب الجزيرة مستحكم فيهم التخلق بِالدّينِ لِأَنَّهُ مُنَاسِب لطبائعهم الْأَهْلِيَّة اكثر من مناسبته لغَيرهم. 10 - عرب الجزيرة أعلم الْمُسلمين بقواعد الدّين لأَنهم أعرقهم فِيهِ، ومشهود لَهُم بِأَحَادِيث كَثِيرَة بالمتانة فِي الْإِيمَان. 11 - عرب الجزيرة اكثر الْمُسلمين حرصا على حفظ الدّين وتأييده والفخار بِهِ، خُصُوصا والعصبية النَّبَوِيَّة لم تزل قَائِمَة بَين أظهرهم فِي الْحجاز واليمن وعمان وحضرموت وَالْعراق وإفريقيا. 12 - عرب الجزيرة لم يزل الدّين عِنْدهم حَنِيفا سلفيا بَعيدا عَن التَّشْدِيد والتشويش. 13 - عرب الجزيرة أقوى الْمُسلمين عصبية وأشدهم أَنَفَة لما فيهم من خَصَائِص البدوية. 14 - عرب الجزيرة أمراؤهم جامعون بَين شرف الْآبَاء والأمهات

والزوجات فَلم تختل عزتهم. 15 - عرب الجزيرة أقدم الْأُمَم مَدَنِيَّة مهذبة بدليلي: سَعَة لغتهم، وسمو حكمتهم وادبياتهم. 16 - عرب الجزيرة أقدر الْمُسلمين على تحمل قشف الْمَعيشَة فِي سَبِيل مقاصدهم، وأنشطهم على التغرب والسياحات وَذَلِكَ لبعدهم عَن الترف المذل أَهله. 17 - عرب الجزيرة أحفظ الأقوام على جنسيتهم وعاداتهم فهم يخالطون وَلَا يختلطون. 18 - عرب الجزيرة احرص الْأُمَم الإسلامية على الْحُرِّيَّة والاستقلال وأباء الضيم. 19 - الْعَرَب عُمُوما: لغتهم أغْنى لُغَات الْمُسلمين فِي المعارف ومصونة بِالْقُرْآنِ الْكَرِيم من أَن تَمُوت. 20 - الْعَرَب لغتهم هِيَ اللُّغَة العمومية بَين كَافَّة الْمُسلمين الْبَالِغ عَددهمْ 300 مليون. 21 - الْعَرَب لغتهم هِيَ اللُّغَة الخصوصية لمِائَة مليون من الْمُسلمين

وَغير الْمُسلمين. 22 - الْعَرَب أقدم الْأُمَم اتبَاعا لأصول تَسَاوِي الْحُقُوق وتقارب الْمَرَاتِب فِي الْهَيْئَة الاجتماعية. 23 - الْعَرَب أعرق الْأُمَم فِي أصُول الشورى فِي الشؤون العمومية. 24 - الْعَرَب أهْدى الْأُمَم لأصول الْمَعيشَة الاشتراكية. 25 - الْعَرَب من احرص الْأُمَم على احترام العهود عزة، واحترام الذِّمَّة إنسانية، واحترام الْجوَار شهامة، وبذل الْمَعْرُوف مُرُوءَة. 26 - الْعَرَب أنسب الأقوام لِأَن يَكُونُوا مرجعا فِي الدّين وقدوة

للْمُسلمين حَيْثُ كَانَ بَقِيَّة الأقوام قد اتبعُوا قد اتبعُوا هديهم ابْتِدَاء فَلَا يأنفون عَن اتباعهم أخيراً. فَهَذِهِ هِيَ الْأَسْبَاب الَّتِي جعلت جمعية أم الْقرى أَن تعْتَبر الْعَرَب هم الْوَسِيلَة الوحيدة لجمع الْكَلِمَة الدِّينِيَّة بل الْكَلِمَة الشرقية. والجمعية تسْأَل الله تَعَالَى أَن يوفق مُلُوك الْمُسلمين وأمراءهم للتصلب فِي الدّين وللحزم والعزم عساهم يحفظون عزهم وسلطانهم إِلَى أَن يَرث الله الأَرْض وَمن عَلَيْهَا، وان يحميهم من التعصب السيء للسياسات والجنسيات، وَمن الْكبر والأنفة، وَمن التخاذل والانقسام، وَمن الانقياد إِلَى وساوس الْأَجَانِب الأضداد، وَإِلَّا فينتابهم الْخطر الْقَرِيب المحدق بهم ويتخاطفهم النسور المحلقة فِي سمائهم وَالله الْمُوفق وَإِلَيْهِ ترجع الْأُمُور. وَهَكَذَا تمت الاجتماعات وختمت المذاكرات وانفض الْجمع على وعد التلاقي.

لاحقة

لاحقة يَقُول السَّيِّد الفراتي: انه بعد تفرق الجمعية بِنَحْوِ شَهْرَيْن، ورد إِلَيّ من الصاحب الْهِنْدِيّ كتاب يذكر فِيهِ أَنه بعد مُفَارقَته مَكَّة المكرمة اجْتمع بأمير جليل فَاضل من أعاظم نبلاء الْأمة وَرِجَال السياسة. فاستطلع رَأْي الْأَمِير فِي خُصُوص النهضة الإسلامية , بعد أَن دَار بَينهمَا حَدِيث طَوِيل تحقق من خلاله سمو فكر الْأَمِير والتهاب غيرته، ذكر لَهُ إطلاعه على سجل جمعية أم الْقرى وَأَشْيَاء من مذاكراتها ومقرراتها، فاظهر الْأَمِير سروره من الْخَبَر وشديد شوقه للإطلاع على السّجل الَّذِي ذكره لَهُ، فعندئذ وعده بإعارته نُسْخَة من السّجل ثمَّ أرسلها لَهُ. وَبعد أَيَّام تلاقيا فدارت بَينهمَا المحاورة الْآتِيَة: قَالَ الْأَمِير: أشكرك أَيهَا الْمولى الصاحب على هَذِه الْهَدِيَّة العزيزة، وَيَا لَذَّة لَيْلَة أحييتها فِي مطالعة تِلْكَ المذاكرات النفسية الَّتِي لم أتمالك أَن أتركها تِلْكَ اللَّيْلَة حَتَّى أتيت على آخرهَا، ثمَّ فِي الْأَيَّام التالية

أعدت النّظر فِيهَا بالتدقيق. قَالَ الصاحب: يظْهر من عبارَة مولَايَ الْأَمِير استحسانه كَيْفيَّة تشكيل الجمعية وامتنانه من مجْرى مذاكراتها. قَالَ الْأَمِير: كَيفَ لَا أعجب بذلك، ولطالما كنت أَتَمَنَّى انْعِقَاد جمعية يتضافر أعضاؤها على مثل هَذَا الْمَقْصد، وَتَكون فِيهِ المزية الَّتِي ظَهرت على رجال هَذِه الجمعية الَّذين حلوا المشكلة حلا سياسيا ودينياً مَعًا، وَكنت استبعد وجودا كفاء كهؤلاء! وَأعظم إعجابي هُوَ فِي هَذَا الرجل الملقب بالسيد الفراتي كَيفَ اهْتَدَى فِي رحْلَة قَصِيرَة، مَعَ إِقَامَته أَيَّامًا قَلَائِل فِي مَكَّة، لانتخاب هَؤُلَاءِ الْأَعْضَاء الإجلاء. قَالَ الصاحب: لَا بُد أَن يكون هَذَا الرجل مخلصا فِي قَصده فأعانه الله عَلَيْهِ، كَمَا ورد فِي الْخَبَر: إِذا أَرَادَ الله أمرا هيأ أَسبَابه. فَلَعَلَّ فِي الأقدار شَيْئا آن أَوَانه. قَالَ الْأَمِير: نعم للأقدار دَلَائِل ولنعم البشائر. قَالَ الصاحب: أود أَن اسْتُفِيدَ من مولَايَ الْأَمِير وُجُوه إعجابه بِهَذِهِ الجمعية ومذاكراتها لَا صحّح رَأْيِي فِي بعض انتقادات تختلج فِي فكري الْقَاصِر، فَإِن إِذن لي أعرضها عَلَيْهِ مَسْأَلَة مَسْأَلَة.

قَالَ الْأَمِير: قل، ولعلي أَقف على مَا لم انتبه إِلَيْهِ. قَالَ الصاحب: يظْهر أَن أَعْضَاء الجمعية لَيْسَ بَينهم بعض من السياسيين المحنكين، فَلَو وجد رُبمَا كَانَت تَأتي لمقررات أَكثر إحكاماً. قَالَ الْأَمِير: لَا أَظن أَن فِي الْأُمَرَاء والوزراء الْمُسلمين المعاصرين من هم أَعلَى كَعْبًا فِي السياسة من بعض هَؤُلَاءِ الْأَعْضَاء، الَّذين تشف آراؤهم عَن سَعَة إطلاع وسمو فكر وَبعد نظر، مَعَ ملاحظات السياسة الدِّينِيَّة وَالْحَالة العلمية والتدقيقات الأخلاقية. قَالَ الصاحب: أرى أَن الجمعية أَعْطَتْ لمباحث السياسة الدِّينِيَّة الْموقع الأول، وَقد أَصَابَت على أَن السياسة الإدارية أَيْضا جديرة بالاهتمام فَتركت بِدُونِ تَدْبِير كَاف. قَالَ الْأَمِير: لَا شكّ أَن السياسة الإدارية مهمة أَيْضا وَقد ابتدأت الجمعية بهَا، وَلَكِن رَأَتْ أفضل وَسِيلَة لحُصُول الْمَطْلُوب هِيَ رفع عِلّة الفتور حَيْثُ أنتجت مباحثاتها: أَن عِلّة الفتور هِيَ الْخلَل الديني. بِنَاء عَلَيْهِ حولت اهتمامها لجِهَة الْعلَّة حَتَّى إِذا زَالَت الْعلَّة زَالَ الْمَعْلُول. وَمَعَ ذَلِك لم يتْرك السَّيِّد الفراتي فِي فصل الْأَسْبَاب الإدارية شَيْئا من أُمَّهَات أصُول الإدارة إِلَّا وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِمَا يُغني عَن تَفْصِيله.

قَالَ الصاحب: أَلَيْسَ بعض الْأَعْضَاء كالعالم النجدي والمجتهد التبريزي قد أسهب كثيرا بِمَا كَانَ بعضه يَكْفِي عَن بَاقِيه؟ قَالَ الْأَمِير: أَن مَسْأَلَتي التَّوْحِيد والاستهداء ركنان مهمان فِي الدّين، وَقد تطرق إِلَيْهِمَا الْخلَل مُنْذُ قُرُون، كَثِيرَة، فَصَارَ إصلاحهما وردهما إِلَى أَصلهمَا من أصعب الْأُمُور. وَفِي مثل ذَلِك لَا بُد من الأسهاب فِي الْبَحْث والتعمق فِيهِ، أَو لَا يرى، وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى، كَيفَ جَاءَ الْقُرْآن الْكَرِيم بِأَلف أسلوب فِي تأييد التَّنْزِيه والتوحيد والحث على اتِّبَاع الْكتاب وَالنَّبِيّ دون التَّقْلِيد. قَالَ الصاحب: أَنِّي أرى أَيْضا بعض مكررات فِي المذاكرات خلافًا لما قله السَّيِّد الفراتي، وَلذَلِك أرى أَنه لَو اهتم ذُو غَيره فِي اختصارها يكون حسنا. قَالَ الْأَمِير: أَنِّي لَا أوافقك على هَذَا أَيْضا، لِأَنَّك إِذا دققت النّظر لَا تَجِد مكررات، إِنَّمَا هِيَ آراء فَلَا بُد أَن يُعَاد فِيهَا بعض مَا سبق، وعَلى كل حَال هَذَا سجل قد ضبط فِيهِ مَا وَقع فَلَا يجوز اختصاره وَالتَّصَرُّف فِيهِ. وَإِنِّي أرى من أكبر محَاسِن هَذِه المذاكرات أَن جَاءَت مباحثها متسلسلة مترقية، فَكل مَوْضُوع فِيهَا يتلوه مَا هُوَ أهم

مِنْهُ فَلَا يمل مِنْهَا سامع وَلَا مطالع. قَالَ الصاحب: مَا هُوَ رَأْي مَوْلَانَا الْأَمِير فِي القانون الْمَوْضُوع لأجل تشكيل جمعية تَعْلِيم الْمُوَحِّدين، هَل هُوَ قانون مُحكم التَّرْتِيب، وَهل هُوَ قَابل الإجراء والتطبيق على الْأَحْوَال الْحَاضِرَة والمنتظرة. قَالَ الْأَمِير: القانون هُوَ أهم مَا أثمرته الجمعية، وقابل الإجراء مَعَ الصعوبة. قَالَ الصاحب: لَا أَدْرِي هَل أَصَابَت الجمعية أم أَخْطَأت فِي تَعْلِيق أكبر أملهَا فِي إعزاز الدّين بالعرب دون دولة آل عُثْمَان وملوكها الْعِظَام. قَالَ الْأَمِير: لَا يفوتك أَن مطمح نظر الجمعية منحصر فِي النهضة الدِّينِيَّة فَقَط، وتؤمل أَن يَأْتِي الانتظام السياسي تبعا للدّين، وَلَا شكّ أَنه لَا يقوم بِالْهَدْي الديني ويغار على الدّين أمة مثل الْعَرَب. قَالَ الصاحب: أَلَيْسَ، دولة راسخة الْملك إدارة وعسكرية وسياسة، وافرة القوى مَالا وعدة ورجالا، تكون أقدر على تمحيص الدّين وإعزازه من الْعَرَب الضُّعَفَاء من كل وَجه؟ وَحَيْثُ قد ألفت الْأمة سَماع لقب خدمَة الْحَرَمَيْنِ قَدِيما ولقب الْخلَافَة

أخيراً فِي حَضْرَة السُّلْطَان العثماني، فَلَا تستنكف عَن الأذعان الديني لَهُ بسهولة؟ قَالَ الْأَمِير: أَن حَضْرَة السُّلْطَان الْمُعظم يصلح أَن يكون عضداً عَظِيما فِي الْأَمر، أما إِذا أَرَادَ أَن يكون هُوَ الْقَائِم بِهِ فَلَا يتم قَطْعِيا، لِأَن الدّين شَيْء وَالْملك شَيْء آخر، وَالسُّلْطَان غير الدولة. قَالَ الصاحب: مَا فهمت المُرَاد من أَن الدّين غير الْملك وان السُّلْطَان غير الدولة، فَهَل يتفضل مولَايَ الْأَمِير بإيضاح ذَلِك؟ قَالَ الْأَمِير: أُرِيد أَن احترام الشعائر الدِّينِيَّة فِي اكثر مُلُوك آل عُثْمَان هِيَ ظواهر مَحْضَة؛ وَلَيْسَ من غرضهم، بل وَلَا من شَأْنهمْ، أَن يقدموا الاهتمام بِالدّينِ على مصلحَة الْملك، وَهَذَا مرادي بِأَن الدّين غير الْملك , وعَلى فرض إرادتهم تَقْدِيم الدّين على الْملك، لَا يقدرُونَ على ذَلِك، وَلَا تساعدهم الظروف المحيطة بهم؛ حَيْثُ دولهم مؤلفة من لفيف أهل أَدْيَان وَنحل مُخْتَلفَة؛ كَمَا أَن الْهَيْئَة الَّتِي تتشكل مِنْهَا الدولة، اعني الوزراء، هم كَذَلِك لفيف مُخْتَلف الْأَدْيَان والجنسيات، وَهَذَا مرادي بِأَن السُّلْطَان غير الدولة. بِنَاء عَلَيْهِ، خدمَة الْحَرَمَيْنِ ولقب الْخلَافَة ورسوخ الْملك ووفرة القوى، كلهَا لَا تَكْفِي للمرجع فِي الدّين. نعم إِذا بذل آل عُثْمَان الْعِظَام قوتهم فِي تعضيد

وتأييد من يقوم بذلك يأْتونَ بِفضل عَظِيم. قَالَ الصاحب: قد وجد فِي هَذَا الْبَيْت الْكَرِيم بعض أعاظم خدموا إعزاز الدّين خدمات كَبِيرَة، كالسلطان مُحَمَّد الفاتح وَالسُّلْطَان ياوز سليم وَالسُّلْطَان سُلَيْمَان وَالسُّلْطَان مَحْمُود وَالسُّلْطَان الحالي الْمُعظم، فهم أولى واجدر بالخلافة من غَيرهم. قَالَ الْأَمِير: أرجوك أَن لَا تنظر للمسألة بِنَظَر الْعَوام، بل بِنَظَر حَكِيم سياسي. فابعد النّظر مَاضِيا مُسْتَقْبلا، وقلب صفحات التَّارِيخ بدقة تَجِد أَن إدارة الدّين وإدارة الْملك لم تتحدا فِي الْإِسْلَام تَمامًا إِلَّا فِي عهد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَعمر بن عبد الْعَزِيز فَقَط رَضِي الله عَنْهُم، واتخذتا نوعا فِي الأمويين والعباسيين، ثمَّ افْتَرَقت الْخلَافَة عَن الْملك. وَأما سلاطين آل عُثْمَان الفخام، فَإِنِّي أذكر لَك أنموذجاً من أَعمال لَهُم أتوها رِعَايَة للْملك، ون كَانَت مصادمة للدّين، فَأَقُول: هَذَا السُّلْطَان مُحَمَّد الفاتح وَهُوَ أفضل آل عُثْمَان قد قدم الْملك على الدّين، فاتفق سرا مَعَ (فرديناند) ملك (الأراغون) الاسبانيولي ثمَّ مَعَ زَوجته (إيزابيلا) على تمكينهما مَعَ إِزَالَة ملك بني الْأَحْمَر، آخر الدول الْعَرَبيَّة فِي الأندلس، وَرَضي بِالْقَتْلِ الْعَام وَالْإِكْرَاه على

التنصر بالإحراق، وضياع خَمْسَة عشر مليونا من الْمُسلمين، بإعانتهما بإشغاله أساطيل إفريقيا عَن نجده الْمُسلمين. وَقد فعل ذَلِك بِمُقَابلَة مَا قَامَت لَهُ بِهِ روما من خذلان الإمبراطورية الشرقية عِنْد مهاجمته مكدونيا ثمَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّة. وَهَذَا السُّلْطَان سليم غدر بآل الْعَبَّاس واستأصلهم، حَتَّى انه قتل الْأُمَّهَات لأجل الأجنة، وبينما كَانَ هُوَ يقتل الْعَرَب فِي الشرق كَانَ الاسبانيون يحرقون بَقِيَّتهمْ فِي الأندلس. وَهَذَا السُّلْطَان سُلَيْمَان ضايق إيران حَتَّى ألجأهم إِلَى إعلان الرَّفْض الْمُكَفّر. ثمَّ لم يقبل العثمانيون تَكْلِيف نَادِر شاه لرفع التَّفْرِقَة بِمُجَرَّد تَصْدِيق مَذْهَب الإِمَام جَعْفَر، كَمَا لم يقبلُوا من أشرف خَان الأفغاني اقتسام فَارس كي لَا يجاورهم ملك سني. وَقد سعوا فِي انْقِرَاض خَمْسَة عشر دولة وحكومة إسلامية. وَمِنْهَا انهم أغروا وأعانوا الروس على التاتار المسملين، وَهُوَ لَا ندة على الجاوة والهنديين. وتعاقبوا على تدويخ الْيمن، فأهلكوا إِلَى الْآن عشرات ملايين من الْمُسلمين يقتلُون بَعضهم بَعْضًا، لَا يحترمون فِيمَا بَينهم دينا وَلَا أخوة وَلَا مُرُوءَة وَلَا إنسانية، حَتَّى أَن الْعَسْكَر العثماني باغت الْمُسلمين مرّة فِي صنعاء والزبيد وهم فِي صَلَاة الْعِيد

وَهَذَا السُّلْطَان مَحْمُود اقتبس عَن الإفرنج كسوتهم، وألزم رجال دولته وحاشيته بلبسها حَتَّى عَمت أَو كَادَت، وَلم يَشَأْ الأتراك أَن يُغيرُوا مِنْهَا الأكمام رِعَايَة للدّين لِأَنَّهَا مَانِعَة من الْوضُوء أَو معسرة لَهُ. وَهَذَا السُّلْطَان عبد الْمجِيد رأى من مؤيدات إدارة ملكه إِبَاحَة الرِّبَا وَالْخُمُور وَإِبْطَال الْحُدُود. وَرَأى مصلحَة فِي قهر الإشراف وإذلال السادات بإلغاء نُفُوذ النقابات، فَفعل. وَفِي هَذَا الْمِقْدَار كِفَايَة إِيضَاح لقاعدة: أَن مؤيدات الْملك عِنْد السلاطين مُقَدّمَة على الدّين. أما صفة خدمَة الْحَرَمَيْنِ وألفة مسامع العثمانيين للقب الْخلَافَة، فَهَذَا كَذَلِك لَا يُفِيد الدّين وَاهِلَة شَيْئا، وَلَيْسَ لَهُ مَا يتَوَهَّم الْبَعْض من الإجلال عِنْد الْأَجَانِب وَلَو أَن حَضْرَة السُّلْطَان الْمُعظم أَخذ عَلَيْهِ تأييد الدّين بِمَا أمده الله بِهِ من الْقُوَّة المادية بِدُونِ استناد إِلَى صبغة معنوية، لتمكن من أَن يخْدم دينه وَملكه حَقًا خدمات مَقْبُولَة عِنْد الله وَرَسُوله مشكورة عِنْد الْمُؤمنِينَ كَافَّة. ولرفعت لَهُ راية الْحَمد فِي شَرق الأَرْض وغربها

واحترمه الْأَبْيَض والأحمر، وعظمه الْمُسلم وَالْكَافِر. وَأَظنهُ قد قرب الْيَوْم الَّذِي يتَنَبَّه فِيهِ، فيتروى فِي الْأَمر فيعدل عَن الِاعْتِمَاد على غير الماديات، وَيضْرب على فَم بعض الغشاشين المتملقين الخائنين، الَّذين ينسبون حَضرته إِلَى مَا لم ينتسب هُوَ إِلَيْهِ: ويشيعون عَنهُ دَعْوَى مَا ادَّعَاهَا قطّ أحد من أجداده الْعِظَام بِوَجْه رسمي. وَهَؤُلَاء الغشاشون يغرون حَضْرَة السُّلْطَان على هَذِه الدَّعْوَى بِمَا يهرفون بِهِ عَلَيْهِ، وَبِمَا يؤلفونه هم وأعوانهم من الْكتب والرسائل الَّتِي يعزون بَعْضهَا لأَنْفُسِهِمْ، وَبَعضهَا لغَيرهم من الْمُنَافِقين أَو لأسماء يسمونها أَو كتب يختلقونها، فيجعلون تَارَة آل عُثْمَان الْعِظَام يتصلون نسبا بعثمان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ؛ وَأُخْرَى يرفعون نسبهم إِلَى أعالي قُرَيْش ويعطونهم حق الْخلَافَة، مرّة بالتنازل من العباسيين، وَأُخْرَى بِالِاسْتِحْقَاقِ والوراثة، وآونة بالعهد، وَأُخْرَى بالبيعة الْعَامَّة، وحينا بِخِدْمَة الْحَرَمَيْنِ الشريفين. ووقتاً بِحِفْظ المخلفات النَّبَوِيَّة. وَكَأن هَؤُلَاءِ الغشاشين يُرِيدُونَ بِهَذِهِ الدسائس أَن يجْعَلُوا حَضْرَة السُّلْطَان نظيرهم: دعِي نسب كَاذِب كدعواهم لأَنْفُسِهِمْ السِّيَادَة، ومتسنم مقَام موهوم كدعواهم الْولَايَة والقطبانية فِي أنفسهم وآبائهم وأجدادهم؛ فيحشون فِي تِلْكَ المؤلفات انسابا انتحلوها

لأَنْفُسِهِمْ مقرونة بِنسَب حَضْرَة السُّلْطَان؛ ويستطردون لحكايات كرامات لأجدادهم ملفقة مخترعة لَا يعترفها لَهُم أحد من الْمُسلمين، يدسونها بَين حكايات ووقائع الْخُلَفَاء والسلاطين. وَمن الْمَعْلُوم عِنْد أهل الْوُقُوف، أَن التلقب بالخلافة والإمامة الْكُبْرَى أَو إِمَارَة الْمُؤمنِينَ فِي آل عُثْمَان الْعِظَام حدث فِي عهد المرحوم السُّلْطَان مَحْمُود، حَيْثُ صَار بعض وزرائه يخاطبونه بذلك أَحْيَانًا تفنناً فِي الإجلال وغلوا فِي التَّعْظِيم، ثمَّ توسع اسْتِعْمَال هَذِه الألقاب فِي عهد أبنية وحفيدية إِلَى أَن بلغ مَا بلغه الْيَوْم بسعي أُولَئِكَ الغشاشين، الَّذين يدْفَعُونَ ويقودون حَضْرَة السُّلْطَان الحالي لتنازل عَن حُقُوق راسخة سلطانية لأجل عنوان خلَافَة وهمية مُقَيّدَة فِي وَضعهَا بشرائط ثَقيلَة، لَا تلائم أَحْوَال الْملك، ومعرضة بطبعها للقلقلة والانتزاع والخطر الْعَظِيم. وَلذَلِك، حضرات السلاطين أنفسهم لم يزَالُوا إِلَى الْآن متحفظين عَن التلقب بالخلافة رسمياً فِي منشوراتهم ومسكوكاتهم، إِنَّمَا تمضغها أَفْوَاه الْبَعْض، فيلوكها التركي تَعْظِيمًا لِقَوْمِهِ، والعربي نفَاقًا لسلطانه، والمصري اتبَاعا للمرائين، والهندي اعتزازاً بالوهم، وَالْأَجْنَبِيّ هزؤاً ومكراً؛ بِخِلَاف حضرات سُلْطَان مراكش وأمير عمان وَإِمَام

الْيمن، المتنازعين فِي هَذَا الْمقَام رسما، المتقاطعين لأَجله، على أَنهم قد شعروا أَو كَادُوا يَشْعُرُونَ بضررهم السياسي فِي ذَلِك. وَلَا نعلم مَتى يخلق الله من يسْعَى فِي إقناعهم جَمِيعًا بترك هَذِه الدعْوَة الداعية للانفراد والتخاذل، ويرتب بَينهم قَوَاعِد مُحَافظَة الِاسْتِقْلَال السياسي، ومراسم التشريفات والمخاطبات، وروابط التعاون والاتحاد بِصفة سلاطين وامراء، كَمَا آل إِلَيْهِ الْأَمر على عهد الْخُلَفَاء العباسيين مَعَ السلاطين الخارزمية والديلم والأيوبيين وَغَيرهم. ثمَّ قَالَ الْأَمِير: وَقد حَملتنِي إشارات السَّيِّد الفراتي فِي كَلَامه على الجامعة الدِّينِيَّة تَحت لِوَاء وأمراء الْخلَافَة، أَن افتكر فِي الْقَوَاعِد الأساسية الَّتِي يَنْبَغِي أَن يبْنى عَلَيْهَا ذَلِك. فلاح لي مَا قيدته فِي هَذِه المفكرة، وَأخرج من جيبه ورقة قَرَأَهَا، وَعند ختام مَجْلِسنَا استنسختها مِنْهُ وَصورتهَا: 1 - إِقَامَة خَليفَة عَرَبِيّ قرشي مستجمع للشرائط فِي مَكَّة. 2 - يكون حكم الْخَلِيفَة سياسة مَقْصُورا على الخطة الحجازية، ومربوطاً بشورى خَاصَّة حجازية. 3 - الْخَلِيفَة ينيب عَنهُ من يترأس هَيْئَة شُورَى عَامَّة إسلامية. 4 - تتشكل هَيْئَة الشورى الْعَامَّة من نَحْو مائَة عُضْو منتخبين

مندوبين من قبل جَمِيع السلطنات والإمارات الإسلامية، وَتَكون وظائفها منحصرة فِي شؤون السياسة الْعَامَّة الدِّينِيَّة فَقَط. 5 - تَجْتَمِع الشورى الْعَامَّة مُدَّة شَهْرَيْن فِي كل سنة قبيل موسم الْحَج. 6 - مَرْكَز الشورى الْعَامَّة يكون مَكَّة عِنْدَمَا يُصَادف الْحَج موسم الشتَاء، والطائف فِي موسم الصَّيف. 7 - تقترع الشورى يَوْم افْتِتَاح كل اجْتِمَاع على انتخاب نَائِب الرئيس ويعينه الْخَلِيفَة. 8 - تتَعَيَّن وظائف الشورى الْعَامَّة بقانون مَخْصُوص تضعه هِيَ، وَيصدق عَلَيْهِ من قبل السلطنات والإمارات. 9 - ترتبط بيعَة الْخَلِيفَة بشرائط مَخْصُوصَة ملائمة للشَّرْع، بِنَاء على أَنه إِذا تعدى شرطا مِنْهَا ترْتَفع بيعَته، وَفِي كل ثَلَاث سِنِين يُعَاد تَجْدِيد الْبيعَة. 10 - انتخاب الْخَلِيفَة يكون مَنُوطًا بهيئة الشورى الْعَامَّة. 11 - الْخَلِيفَة يبلغ قرارات الشورى ويراقب تنفيذها.

12 - الْخَلِيفَة لَا يتداخل فِي شَيْء من الشؤون السياسية والإدارية فِي السلطنات والإمارات قَطْعِيا. 13 - الْخَلِيفَة يصدق على توليات السلاطين والأمراء الَّتِي تجْرِي احتراماً للشَّرْع على حسب أصولهم الْقَدِيمَة فِي وراثاتهم للولاية. 14 - الْخَلِيفَة لَا يكون تَحت أمره قُوَّة عسكرية مُطلقًا، وَيذكر اسْمه فِي الْخطْبَة قبل أَسمَاء السلاطين وَلَا يذكر فِي المسكوكات. 15 - يناط حفظ الْأَمْن فِي الخطة الحجازية بِقُوَّة عسكرية تتألف من أَلفَيْنِ إِلَى ثَلَاثَة الآف من جنود مختلطة ترسل من قبل جَمِيع السلطنات والإمارات. 16 - تكون القيادة الْعَامَّة للجنود الحجازية منوطة بقائد من قبل إِحْدَى الإمارات الصَّغِيرَة. 17 - يكون الْقَائِد تَحت أَمر هَيْئَة الشورى مُدَّة انْعِقَادهَا. 18 - هَيْئَة الشورى تكون تَحت حماية الْجنُود المختلطة. أما وظائف الشورى الْعَامَّة فَيَقْتَضِي أَن لَا تخرج عَن تمحيص أُمَّهَات الْمسَائِل الدِّينِيَّة الَّتِي لَهَا تعلق مُهِمّ فِي سياسة الْأمة، وتأثير قوي فِي أخلاقها ونشاطها. وَذَلِكَ: مثل فتح بَاب النّظر وَالِاجْتِهَاد

تمحيصاً للشريعة، وتيسيراً للدّين، وسد أَبْوَاب الحروب والغارات والاسترقاق اتبَاعا لمقتضيات الْحِكْمَة الزمانية. وكفتح أَبْوَاب حسن الطَّاعَة للحكومات العادلة والاستفادة من إرشاداتها وَإِن كَانَت غير مسلمة، وسد أَبْوَاب الانقياد الْمُطلق وَلَو لمثل عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ. وكفتح بَاب أَخذ الْعُلُوم والفنون النافعة وَلَو عَن الْمَجُوس، وسد بَاب إِضَاعَة الْأَوْقَات بالعبث، وَنَحْو ذَلِك من أُمَّهَات المنجيات والمهالك. ثمَّ قَالَ الْأَمِير: وبمثل هَذَا التَّرْتِيب تنْحَل مشكلة الْخلَافَة، ويتسهل عقد اتِّحَاد إسلامي تضامني تعاوني يقتبس ترتيبه من قَوَاعِد اتِّحَاد الألمانيين والأمريكانيين مَعَ الملاحظات الْخَاصَّة. وَبِذَلِك تأمن الحكومات الإسلامية الْمَوْجُودَة على حَيَاتهَا السياسية من الغوائل الداخلية والخارجية، فتتفرغ للترقي فِي المعارف والعمران والثروة وَالْقُوَّة، مِمَّا لَا بُد مِنْهُ للنجاة من الْمَمَات. وَمَا اجدر إمارات الجزيرة بِالسَّبقِ إِلَى مثل هَذَا الِاتِّحَاد. قَالَ الصاحب: يسْتَشف من ظَاهر فكر مولَايَ الْأَمِير، انه لَا يجوز الاتكال على الْمُلُوك العثمانيين الْعِظَام فِي أَمر الْخلَافَة، علاوة على السلطنة.

قَالَ الْأَمِير: أَنِّي احب العثمانيين للطف شمائلهم، وتعظيمهم الشعائر الدِّينِيَّة، وَلَكِن النَّصِيحَة للدّين تَسْتَلْزِم قَول الْحق. وَعِنْدِي أَن حضرات آل عُثْمَان الْعِظَام أنفسهم، إِذا تدبروا، لَا يَجدونَ وَسِيلَة لتجديد حياتهم السياسية أفضل من اجْتِمَاعهم مَعَ غَيرهم على خَليفَة قرشي. قَالَ الصاحب: أَخْبرنِي، أَيهَا الْأَمِير، أحد أَعْضَاء الجمعية أَنه لما رأى السَّيِّد الفراتي يمِيل للتنقيب عَن سياسة العثمانيين، واستمالة الجمعية عَلَيْهِم لَا لَهُم، ذكر لَهُ ذَلِك مرّة متلوما، وَقَالَ لَهُ: إِلَّا يَنْبَغِي ستر أَحْوَالهم والمدافعة عَنْهُم، لأَنهم أعظم دولة إسلامية مَوْجُودَة. فَأَجَابَهُ: بَان ذَلِك كَذَلِك لَوْلَا أَن فِيهِ تغرير الْمُسلمين، وتركهم متكلين على دولة مَا توفقت لنفع الإسلامية بِشَيْء فِي عز شبابها، بل أضرتها بمحو الْخلَافَة العباسية الْمجمع عَلَيْهَا، وتخريب مَا بناه الْعَرَب، وإفناء الْأمة بفتوحاتها شَرْقي أوربا ومدافعاتها، وَإنَّهُ لَا يقْصد بكشف الْحَقِيقَة وإظهارها غير إِزَالَة الْغرُور والاتكال المستوليين على جَمَاهِير الْمُسلمين بِسَبَب عدم التَّأَمُّل. ثمَّ قَالَ لَهُ: أَلَيْسَ التّرْك قد تركُوا الْأمة أَرْبَعَة قُرُون وَلَا خَليفَة، وَتركُوا

الدّين تعبث بِهِ الْأَهْوَاء وَلَا مرجع، وَتركُوا الْمُسلمين صمًّا بكماً عميا وَلَا مرشد؟ أَلَيْسَ التّرْك قد تركُوا الأندلس مُبَادلَة. وَتركُوا الْهِنْد مساهلة، وَتركُوا الممالك الجسيمة الآسيوية للروسيين، وَتركُوا قارة إفريقيا الإسلامية للطامعين، وَتركُوا المداخلة فِي الصين كَأَنَّهُمْ الأبعدون؟ أَلَيْسَ التّرْك قد تركُوا وُفُود الملتجئين يعودون خائبين، وَتركُوا المستنصرين بهم عرضة للمنتقمين، وَتركُوا ثُلثي ملكهم طعمه للمتغلبين؟ أفما آن لَهُم أَن يستيقظوا ويصبحوا من النادمين على مَا فرطوا فِي الْقُرُون الخالية، فيتركون الْخلَافَة لأَهْلهَا وَالدّين لحماته؛ وهم يحتفظون على بَقِيَّة سلطنتهم، ويكتفون بشرف خدمَة نفس الْحَرَمَيْنِ، وَبِذَلِك يَتَّقُونَ الله فِي الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين. وَقَالَ أَيْضا: انه غير متعصب للْعَرَب، وَإِنَّمَا يرى مَالا بُد أَن يرَاهُ كل حر مدقق يتفحص الْأَمر: من أَن الْغيرَة على الدّين وَأَهله والاستعداد لتجديد عز الْإِسْلَام، منحصران فِي أهل الْمَعيشَة البدوية من الْعَرَب. إِذْ يرى أَن الْمَشِيئَة الآلهية حفظهم من تِلْكَ الْأَمْرَاض

الأخلاقية الَّتِي لَا دَوَاء لَهَا: كفالج الْحُرِّيَّة فِي الحواضر، باعتقاد أَهلهَا أَنهم خلقُوا أنعاماً لِلْأُمَرَاءِ، وكجذام التربية فِي المدن بوضعهم النِّسَاء فِي مقَام ربائط للاستمتاع. وكطاعون الْحيَاء فِي بعض الأقوام بالفتهم اللواط المميت للأخلاق الشَّرِيفَة دفْعَة الَّذِي جزى الله أَهله بخسف الأَرْض بهم تَطْهِيرا لَهَا مِنْهُم , وكوباء النشاط فِي أهل الْأَرَاضِي الخصبة، حَيْثُ يسهل أَن يغنوا، فيبطروا، فتفسد أَخْلَاقهم فيخسرون الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. قَالَ الْأَمِير: نعم الرَّأْي وَنعم التدقيق قَالَ الصاحب: أَن مَا ذكر مولَايَ من حصر صفة الْخلَافَة فِي خَليفَة قرشي فِي مَكَّة، ترتبط بِهِ جَمِيع السلطنات والإمارات الإسلامية ارتباطاً دينياً؛ وَمَا وصف من تشكيل الشورى الْعَامَّة المؤيدة لهَذَا الارتباط الديني، لأمر عَظِيم جدا. وَالْغَالِب أَن الدول المسيحية الَّتِي لَهَا رعايا من الْمُسلمين، أَو الْمُجَاورَة للْمُسلمين، تتحذر من أَن يجر جمع الْكَلِمَة الدِّينِيَّة على رابطة سياسية تولد حروبا دينية، فتعمد هَذِه الدول إِلَى عمل الدسائس والوسائل لمنع حُصُول هَذَا الارتباط أساسا. فَمَا هُوَ التَّدْبِير الَّذِي يَقْتَضِي اتِّخَاذه أَمَام تحذر الدول من ذَلِك.

قَالَ الْأَمِير: لَا يفكر هَذَا الْفِكر غير الفاتيكان وأحزابه الجزويت وأمثالهم، أما رجال السياسة فِي إنكلترا وروسيا وفرانسا، وَهِي الدول الْعِظَام الَّتِي يهمها التفكير فِي هَذَا الشَّأْن، فقد عَلَّمْتهمْ التجارب النتائج الْآتِيَة وَهِي: 1 - أَن الْمُسلمين لَا ينتصرون أبدا، لَا سِيمَا فِي زمَان يبتعد فِيهِ النَّصَارَى عَن نَصْرَانِيَّتِهِمْ. 2 - أَن الْمُسلمين المتنورين أفراداً وجموعاً أبعد عَن الْفِتَن من الْجَاهِلين. 3 - أَن الْعَرَب من الْمُسلمين أقرب من غَيرهم للألفة وَحسن الْمُعَامَلَة والثبات على الْعَهْد. فَإِذا أرشد أُولَئِكَ السياسيون لِأَن يضموا إِلَى معرفتهم هَذِه، علمهمْ أَيْضا بِالْأَحْكَامِ الإسلامية فِي مَسْأَلَة الْجِهَاد الَّتِي يتهيبونها، علما يستخرجونه مِمَّا عِنْدهم من تراجم الْقُرْآن الْكَرِيم، لَا من مؤلفات متعصبي الطَّرفَيْنِ، حَيْثُ يَجدونَ نَحوا من خمسين آيَة بأساليب شَتَّى، كلهَا تنْهى عَن الإلحاح فِي الْهِدَايَة إِلَى الدّين، فضلا عَن التَّشْدِيد والإلزام بِالْقِتَالِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت} ،

{وجادلهم بِالَّتِي هِيَ احسن} و {لست عَلَيْهِم بمسيطر} ويجدون آيَتَيْنِ فِي التَّشْدِيد إِحْدَاهمَا {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمر} {والآخري} (وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله} ؛ وبمراجعة أَسبَاب نزُول هَاتين الْآيَتَيْنِ يعلمُونَ انهما نزلتا فِي حق الْمُشْركين والكتابيين من الْعَرَب، وَلَا يُوجد فِي الْقُرْآن مُلْزم لاعْتِبَار عمومية حكمهمَا. وَإِذا دققوا الْبَحْث، يَجدونَ أَن لَيْسَ فِي عُلَمَاء الْإِسْلَام مُطلقًا من يحصر معنى الْجِهَاد فِي سَبِيل الله فِي مُجَرّد محاربة غير الْمُسلمين، بل كل عمل شاق نَافِع للدّين وَالدُّنْيَا، حَتَّى الْكسْب لأجل الْعِيَال، يُسمى جهاداً. وَبِذَلِك يعلمُونَ أَن قصر معنى الْجِهَاد على الحروب كَانَ مَبْنِيا على إِرَادَة الفتوحات، والتوسل للتشجيع حِين كَانَ مجَال للفتوحات، كَمَا أعطي اسْم الْجِهَاد مُقَابلَة لاسم الحروب الصليبية الَّتِي أصلى نارها المسيحيون. ثمَّ بعطف نظرهم إِلَى التَّارِيخ، يَجدونَ أَن الْعَرَب مُنْذُ سَبْعَة قُرُون لم يَأْتُوا حَربًا باسم الْجِهَاد. وَمَا كَانَت تعديات أساطيل إمارات الغرب إِلَّا من قبيل (القرصان) الَّذِي كَانَ مألوفا عِنْد جَمِيع إمارات الأرخبيلين الصّقليّ واليوناني وَكلهمْ نَصَارَى. أما غارات التاتار

على شمَالي أوروبا غارات التّرْك على شرقها، فَكَذَلِك لَيست من نوع الْجِهَاد وَلَا من الحروب الدِّينِيَّة، وَإِنَّمَا هِيَ من ملحقات غارات البرابرة الشماليين على أوروبا. ويجدون انهم كَمَا أَغَارُوا على أوروبا أَغَارُوا على الْبِلَاد الإسلامية، ثمَّ اسْلَمْ التاتار وَحسنت أَخْلَاقهم. أما التّرْك، فَإِذا دقق الأوربيون سياستهم، يجدونهم لَا يقصدون بالاستناد للدّين غير التلاعب السياسي وقيادة النَّاس إِلَى سياستهم بسهولة، وإرهاب أوروبا باسم الْخلَافَة وَاسم الرَّأْي الْعَام. وَعدم اشْتِرَاك الْبِلَاد الْعَرَبيَّة فِي المذابح الأرمنية الْأَخِيرَة، برهَان كَاف على أَن الإسلامية بمعزل عَن المجافاة، لِأَن الْعَرَب يفهمون معنى الْقُرْآن فيدينون بِهِ. وَقد يندهش الأوربيون إِذا علمُوا أَن السياسة التركية لم يُوَافِقهَا أَن تترجم الْقُرْآن إِلَى اللُّغَة التركية إِلَى الْآن. ولدى رجال السياسة دَلِيل مُهِمّ آخر على أَن أصل الإسلامية لَا يسْتَلْزم الوحشة بَين الْمُسلمين وَغَيرهم، بل يسْتَلْزم الألفة؛ وَذَلِكَ أَن الْعَرَب أَيْنَمَا حلوا من الْبِلَاد، جذبوا أَهلهَا بِحسن الْقدْوَة والمثال لدينهم ولغتهم، كَمَا أَنهم لم ينفروا من الْأُمَم الَّتِي حلت بِلَادهمْ وحكمتهم، فَلم يهاجروا مِنْهَا كعدن وتونس ومصر بِخِلَاف الأتراك، بل يعتبرون دُخُولهمْ تَحت سلطة غَيرهم من حكم الله لأَنهم يذعنون لكلمة رَبهم

تَعَالَى شَأْنه: {وَتلك الْأَيَّام نداولها بَين النَّاس} . فَإِذا علم السياسيون هَذِه الْحَقَائِق وتوابعها لَا يحذرون من الْخلَافَة الْعَرَبيَّة، بل يرَوْنَ من صوالحهم الخصوصية، وصوالح النَّصْرَانِيَّة، وصوالح الإنسانية، أَن يؤيدوا قيام الْخلَافَة الْعَرَبيَّة بِصُورَة محدودة السطوة، مربوطة بالشورى على النسق الَّذِي قرأته عَلَيْك. ثمَّ على فرض أَن بعض الدول وَلَو الْمسلمَة أَرَادَت عرقلة هَذَا الْأَمر، فَهِيَ لَا تقوى عَلَيْهِ، لِأَن أفكار الْأُمَم لَا تقاوم وَلَا تصادم، على أَنِّي لَا أَظن بِمثل فرانسا أَن تنخدع لرأي أنصار الجزويت، لَا سِيمَا بعد أَن تعلمت من الإنكليز كَيفَ تسوس الْمُسلمين، فأبقت لتونس أميرها، فاستراحت مِمَّا عانته قبلا من الجزائر بِسَبَب السياسة التعصبية الخرقاء. قَالَ الصاحب: استشف من كَلَام مولَايَ الْأَمِير أَن أمله ضَعِيف فِي تشكيل جمعية تَعْلِيم الْمُوَحِّدين، مَعَ انه معجب بإتقان التَّدْبِير. قَالَ الْأَمِير: أَن دون تشكيل الجمعية بعض عوائق مَالِيَّة شَتَّى، وأرجوا اله تعال أَن يزيلها. قَالَ الصاحب: إِنَّنِي جَاهد فِي الْوُقُوف على خبر السَّيِّد الفراتي،

ولعلي اظفر بمعرفته فَاجْتمع بِهِ أَو أكاتبه، فَهَل لمولاي الْأَمِير رَأْي أَو أَمر أبلغه إِيَّاه إِذا ظَفرت بِهِ؟ قَالَ الْأَمِير: نعم إِذا ظَفرت بمعرفته فأقرئه مني السَّلَام، وبلغه عني هَذِه الْجمل: وَهِي أَنِّي أثني على صدق عزيمته، وعَلى حسن إنتخابه رفقاءه، وأوصيه بالثبات والإقدام وَلَو طَال المطال، وَأَن يحرص على إبْقَاء علاقته مَعَ أَعْضَاء جمعية أم الْقرى باستمراره على مكاتبتهم وَإِن لَا يقنط من مساعدة القسطنيطينية أَو مصر اَوْ مراكش أَو طهران أَو كابل أَو حَائِل أَو عمات، لَا سِيمَا بعد انْعِقَاد جمعية تَعْلِيم الْمُوَحِّدين ورسوخها. قَالَ الصاحب: إِذا ظَفرت بِهِ عَن شَاءَ الله أُبَشِّرهُ بِتَحِيَّة مولَايَ الْأَمِير، وأبلغه كل مَا أَمر بِهِ. (انْتَهَت المحاورة) يَقُول السَّيِّد الفراتي: قد ألحقت هَذِه المحاورة بسجل المذاكرات، وكتبت بهَا إِلَى بَاقِي الإخوان، وَذَلِكَ تنويها بشأن حَضْرَة الْأَمِير الْمشَار إِلَيْهِ، وشكراً على غيرته وتبصيراته، وافتخاراً بِحسن ظَنّه وَنَظره فِي هَذَا الْعَاجِز، وتبشيراً لجنابه وللمسلمين بِأَن جمعية أم الْقرى قد احكم تصورها وتأسيسها، فَهِيَ بعناية الْحَيّ القيوم الأبدي حَيَّة قَائِمَة أبدا.

§1/1