أمالي المرتضى غرر الفوائد ودرر القلائد (معتزلي)

الشريف المرتضى

مقدمة المحقق

الجزء الأول مقدمة [المحقق] بسم الله الرحمن الرحيم 1 - الشريف المرتضى (*) كانت بغداد فى القرن الرابع الهجرىّ موئل العلم، ومثابة العلماء، وملتقى الكتّاب والشعراء والأدباء، فيها غنيت ساحات الخلفاء والملوك والرؤساء بفنون المناظرة والمساجلة والجدل، وعمرت المكتبات بألوف الكتب المؤلفة والمترجمة، المطوّلة والمختصرة؛ وغصّت دور العلماء وحلقات الدروس بطلّاب الأدب، وروّاد العلم والمعرفة من شتى الجهات. وكان للكثير من ملوك بنى بويه من لطافة الحسّ، وركانة الطبع، ورهافة الذوق،

_ * مصادر الترجمة: أمل الآمل 486 - 487 إنباه الرواة 2: 249 - 250 بغية الوعاة 335 - 336 تاريخ ابن الأثير 8: 40 - 41 «الإسلام للذهبى (وفيات 436) «بغداد 11: 402 - 403 «أبى الفداء 2: 167 «ابن كثير 12: 53 تتمة اليتيمة 1: 53 - 56 جمهرة الأنساب لابن حزم 56 - 57 ابن خلكان 1: 336 - 338 دمية القصر 75 - 76 الرجال لأبى العباس النجاشى 192 - 193 روضات الجنات 374 - 378 سير النبلاء للذهبى ج 11 قسم 1 ص 131 شذرات الذهب 3: 256 - 258 الفهرست لأبى جعفر الطوسى 97 - 100 لسان الميزان 4: 223 - 224 مرآة الجنان 3: 55 - 57 معالم العلماء لابن شهرآشوب 60 - 63 معجم الأدباء 13 - 146 - 157 المنتظم (وفيات 436) النجوم الزاهرة 5: 39.

ورجاحة العقل ما هيّأ لهم أن يكونوا كتّابا أو شعراء؛ وما دفع بعضهم للمشاركة في العلوم، والأخذ بنصيب من أطراف الفنون؛ فحدبوا على العلماء، وأغدقوا على الشعراء؛ وعرفوا للأدباء أقدارهم؛ فولّوهم الوزارة والإمارة والقضاء فى كثير من الأحايين. وكانوا أيضا من شيعة عليّ، وعلى هوى أحفاده من أبناء الحسن والحسين، فخصّوهم بالتكرمة، ومنحوهم أرفع المناصب، وأدنوهم من نفوسهم، وقرّبوهم فى مجالسهم، وظاهروهم فى المناظرة، ودفعوهم إلى الجهر بالرأى والإدلاء بالحجة؛ وكانوا لهم ردءا حين يحتدم الجدل، ويشتد اللّداد بينهم وبين أهل السّنة؛ ومن يشدّ أزرهم من الأتراك وخلفاء بنى العباس. فى هذه الحقبة النادرة فى تاريخ العلوم، وفى هذا العصر الحالى بأزاهير الفنون والآداب، وفى تلك الدولة التى قام فى أكنافها العلماء والشعراء والأدباء؛ عاش الشريف المرتضى عليّ ابن الحسين، وأخوه الشريف الرّضىّ محمد بن الحسين، واتخذا مكانهما بين ذوى المثالة، وأعيان الشرف والفضل من الأعلام؛ فكان المرتضى عالما فقيها متكلّما، خبيرا بقرض الشعر، بصيرا بمذاهب الكلام، وكان الرّضىّ شاعرا مطبوعا متصرّفا، وكاتبا بارعا رائق الديباجة صافى الأسلوب، مشاركا فى التأليف والتصنيف؛ وقضيا حياتهما مرعيّى الجانب؛ رفيعى المنزلة؛ مرموقى المحلّ عظيمى الخطر والجاه عند خلفاء بنى العباس، والملوك من بنى بويه على السواء. *** وكانا ينزعان إلى أعرق المناصب، وأطيب النّجار، نجلهما أبو أحمد الحسين بن موسى ابن محمد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب؛ وأنجبتهما فاطمة بنت الحسين بن الحسن الناصر الأطروش، صاحب الديلم، وشيخ الطالبيّين وعالمهم وشاعرهم.

وكان أبو أحمد من ذوى النباهة والصيت عند بنى بويه، ولقّبه بهاء الدولة أبو نصر ابن بويه بالطاهر الأوحد؛ كما كان من ذوى القدر والجاه عند بنى العباس؛ وولّوه النظر فى المظالم ونقابة الطالبيّين مرات؛ كان يقوم بالسفارة بينهم وبين آل بويه أحيانا، وبين الحمدانيّين أحيانا، فمحض النصح، وبصّر بمناهج الرشد، وأبدى الرأى الأصيل؛ وظفر بالمكانة منهم جميعا. ومات فى سنة 400. وقد رثاه أبو العلاء المعرّى بقصيدته المشهورة: أودى فليت الحادثات كفاف … مال المسيف وعنبر المستاف (¬1) الطّاهر الآباء والأبناء والآ … راب والأثواب والألّاف رغت الرّعود وتلك هدّة واجب … جبل هوى من آل عبد مناف (¬2) بخلت فلما كان ليلة فقده … سمح الغمام بدمعه الذرّاف ويقال إن البحر غاض وإنها … ستعود سيفا لجّة الرّجّاف (¬3) ويحقّ فى رزء الحسين تغيّر الحرسين، بله الدرّ فى الأصداف (¬4) وفيها يذكر الشريفين ويعزيهما: ولقيت ربّك فاستردّ لك الهدى … ما نالت الأيام بالإتلاف وسقاك أمواه الحياة مخلّدا … وكساك شرخ شبابك الأفواف أبقيت فينا كوكبين سناهما … فى الصّبح والظّلماء ليس بخاف متأنّقين وفى المكارم ارتعا … متألّقين بسؤدد وعفاف قدرين فى الإرداء، بل مطرين فى الإجداء، بل قمرين فى الإسداف ¬

_ (¬1) سقط الزند 1264 - 1320. كفاف، أى ليت الحوادث كفت الأذى. والمسيف: من ذهب ماله. والمستاف: الشّام. (¬2) الهدة: صوت الشيء الساقط، والواجب: الساقط؛ ويقال إن المرثى مات فى ذات ليلة برق ورعد ومطر. (¬3) السيف: الساحل. والرجاف: من نعوت البحر. (¬4) الحرسان: اسم الليل والنهار.

رزقا العلاء فأهل نجد كلّما … نطقا الفصاحة مثل أهل دياف (¬1) ساوى الرّضىّ المرتضى وتقاسما … خطط العلى بتناصف وتصاف وفى آخرها يقول: يا مالكى سرح القريض أتتكما … منّى حمولة مسنتين عجاف (¬2) لا تعرف الورق اللّجين وإن تسل … تخبر عن القلّام والخذراف (¬3) وأنا الّذي أهدى أقلّ بهارة … حسنا لأحسن روضة مئناف (¬4) وبعد موته انتقلت وظائفه إلى الشريف الرضى، ولما مات آلت إلى الشريف المرتضى. *** وكان مولد الشريف المرتضى ببغداد فى رجب سنة خمس وخمسين وثلاثمائة (¬5)، وفيها تلقّى العلم وشغل به فى جميع أدوار حياته؛ وكان أول عهده بالمدارسة والتأدب على الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المعروف بالمفيد، ذهبت به أمه إليه مع أخيه الرضىّ؛ وهما فى سن الحداثة، وقبل أن يجاوزا حدّ الصغر؛ فأخذا عنه، وتخرّجا عليه. ثم صحب المرتضى غيره من العلماء، وورد شرعتهم، وحمل عنهم؛ مثل سهل بن أحمد الديباجىّ، وأبى عبيد الله المرزبانىّ، وأبى الحسن الجندى، وأحمد بن محمد بن عمران الكاتب، وغيرهم. ويبدو من تقصّى أخباره؛ ومطالعة ما وصل إلينا من كتبه ورسائله أن أعظم الشيوخ الذين تأدب بهم وأفاد منهم هما الشيخ المفيد وأبو عبد الله المرزبانىّ. ¬

_ (¬1) دياف: موضع فيه نبط لا فصاحة لهم. (¬2) السرح في الأصل: المال الراعى، والمسنت: الّذي أصابته السنة؛ أى القحط. والعجاف: المهازيل. (¬3) اللجين: ورق الشجر يخلط بالنوى المرضوض، ويلجن بعضه ببعض، وهو من علف أهل الأمصار. والقلام والحذراف: من الحمض؛ وهو علف أهل البادية. (¬4) الروضة المئناف: التى لم ترع بعد. (¬5) الفهرست لأبى جعفر الطوسى 100.

فأما الشيخ المفيد فقد كان رأسا من رءوس الشيعة؛ وعلما من أعلامهم؛ لا يدرك شأوه فيهم؛ وإليه انتهت رئاسة الإمامية فى عصره، وفى كتبه حفظت أقوالهم وآراؤهم وشروحهم وتأويلاتهم؛ وعنه تلقى السيد المرتضى الفقه والأصول والتفسير وعلم الكلام؛ ثم استقل بالرأى فيما بعد؛ ووضع فى ذلك الكثير من الكتب والرسائل والمقالات. وأما المرزبانىّ فقد كان إماما من أئمة الأدب؛ وشيخا من شيوخ المعتزلة، وعلما من أعلام الرواية؛ وكانت داره مقصد العلماء والمتأدبين؛ مهيّأة بالكتب والورق والمداد؛ معدّة للطعام والراحة والنوم؛ فكان يأخذ عمّن يزوره من العلماء؛ ويقرأ لمن يجلس إليه من الطلاب، وفيما بين ذلك يؤلف الكتب ويصنفها؛ ومعظم ما رواه السيد المرتضى فى كتاب الغرر من الشعر واللغة والأخبار ممّا تلقاه عليه، ورواه عنه. ولما علت به السنّ، وخلع عن منكبه رداء الشباب عكف فى منزله مخلدا إلى القراءة والدرس؛ واستنزف أيامه فى التحصيل والتأليف، مؤثرا مجالسة العلماء والمستفيدين على مخالطة الرؤساء وذوى السلطان؛ بل إنه زهد فيما ورّث أبوه من نقابة الطالبيين، والنظر فى المظالم، وآثر بها أخاه الرضىّ- وكان أصغر منه- ليرضى ما كانت تنزع إليه همة أخيه من الرغبة فى سنىّ المطالب وبلوغ الأقدار؛ ويقضى حاجة نفسه من الانقطاع إلى العلم، والخلوة إلى القراءة والدرس؛ ولم يتولّ شيئا من هذه المناصب إلا بعد وفاة أخيه. وأعانه على ما يبغى ما تهيأ له من مكتبة عريضة واسعة؛ تحوى ما عرف من الكتب فى حياته؛ ذكر الثعالبى أنها قوّمت بعد وفاته بثلاثين ألف دينار، وقدرت بثمانين ألف مجلد، بعد أن أهدى منها ما أهدى إلى الرؤساء والوزراء. وكان السيد المرتضى فى نعمة سابغة، وخير كثير، وثروة قلّ أن تتهيأ لمثله من العلماء؛ روى أنه كانت له ثمانون قرية بين بغداد وكربلاء، يشقها نهر ينتهى إلى الفرات؛ وكانت السفن تسير فيه غادية رائحة، تحمل السّفر والزوار؛ وخاصة فى موسم الحجيج؛ وكان لهم فيما يساقط

من ثمار الأشجار العاطفة على النهر؛ فاكهة موقوفة عليهم، ولغيرهم ممن تحمل السفن؛ وقدّروا ما تغلّه هذه الفرى بأربعة وعشرين ألف دينار فى العام. وقد تمكّن بفضل هذه الثروة من أن يعيش فى داره مكفول الرّزق، مقضىّ الحاجات، لا يشغله ما يشغل غيره من شئون الدنيا ومطالب الحياة؛ ولا يصرفه شيء عن القراءة والدرس والتصنيف والفتيا؛ بل إنه تمكن من أن يقضى حاجة قلبه من البرّ بالناس، ومواصلتهم، والعطف عليهم؛ وخاصة من كان يمت إلى العلم بصلة، أو يدلى إليه برحم ماسّة، فكان منزله دارا للضيافة، ومدرسة للتعلم والمدارسة، ينقطع فيه التلاميذ والطلاب والمريدون، ويستروح فى رحابه الوافدون من شتى الجهات، بعد أن يكون قد أدماهم السير وأكلّهم السّرى؛ بل إنه جعل للكثير من تلاميذه مرتبات منظمة؛ وحبوسا موقوفة عليهم؛ كان أبو جعفر الطوسى (¬1) من تلاميذه المنقطعين إليه، فأجرى عليه اثنى عشر دينارا فى كل شهر، فى ثلاثة وعشرين عاما قضاها فى صحبته إلى أن مات، وكذلك رتب للقاضى عبد العزيز بن البراج (¬2) ثمانية عشر دينارا فى الشهر؛ وغيرهما كثير. ووقف قرية كاملة؛ يجرى خيرها على كاغذ للفقهاء خاصة؛ رغبة فى النفع، وبثّ العلم فى الناس. وروى أنه أصاب الناس قحط شديد فاحتال رجل يهودىّ على تحصيل قوت يحفظ نفسه ففزع إليه؛ وشفاعته الرغبة فى العلم. واستأذنه أن يقرأ عليه شيئا من علم النجوم؛ فأذن له، وأمر بجائزة تجرى عليه فى كل يوم، فقرأ عليه برهة ثم أسلم. ومن هذه البابة أيضا ما حكاه ابن خلكان عن أبى زكريا التبريزىّ أن أبا الحسن على ابن أحمد بن سلك الفالى الأديب كانت له نسخة من كتاب الجمهرة لابن دريد فى غاية الجودة» ¬

_ (¬1) هو محمد بن على بن جعفر الطوسى، ولد سنة 385، ولزم الشيخ المفيد وتخرج عليه ولما مات سنة 413؛ لزم السيد المرتضى إلى أن مات، ثم استقل بالإمامة بعده، وتوفى سنة 406. (¬2) هو عبد العزيز بن نحرير بن البراج؛ ولد بمصر ونشأ بها؛ ورحل إلى طرابلس وولى قضاءها مدة، وتوفى سنة 481.

فدعته الحاجة إلى بيعها، فاشتراها الشريف المرتضى بستين دينارا، وتصفحها فوجد بها أبياتا بخط بائعها أبى الحسين الفالى؛ وهى: أنست بها عشرين حولا وبعتها … لقد طال وجدى بعدها وحنينى وما كان ظنى أننى سأبيعها … ولو خلّدتنى فى السجون ديونى ولكن لضعف وافتقار وصبية … صغار عليهم تستهلّ شئونى فقلت ولم أملك سوابق عبرة … مقالة مكوىّ الفؤاد حزين «وقد تخرج الحاجات يا أم مالك … كرائم من ربّ بهن ضنين» فأرجع إليه النسخة؛ وترك الدنانير؛ جريا على عادته من صلته أهل العلم، وبره بهم. *** وقد اجتمع إليه من فنون العلوم وضروب الآداب ما قلّ أن يجتمع لسواه؛ وضرب فيها جميعها بسهم وافر؛ فكان فقيها انتهت إليه رئاسة الإمامية فى عصره؛ بعد أن درس الأصول، ومحّض الحقائق، واستخرج المسائل، ونصب نفسه بعد ذلك للفتيا، فشدّت إليه الرحال، ووفدت إليه الناس من كل صقع، ووضع لكلّ كتابا؛ فهذه المسائل الديلمية، وتلك المسائل الطوسية، وهذه المسائل المصرية والموصلية وهكذا. وحذق علم الكلام وأصول الجدل، فحاجّ النظراء والمتكلمين، وناظر المخالفين؛ وكتابه الشافى حجة على طول باعه فى الجدل. وله فى تفسير القرآن وتأويل الكتاب ما كشف به عن بحر لا يسبر غوره؛ ولا ينال دركه؛ وقد حفظ من أخبار العرب وأشعارهم ولغتهم ما جعله فى الرعيل الأول من الرواة والحفاظ والأدباء؛ وبكل هذا كان إمام عصره غير مدافع؛ قال ابن بسام: «كان هذا الشريف إمام أئمة العراق، بين الاختلاف والاتفاق؛ إليه فزع علماؤها، وعنه أخذ عظماؤها، صاحب مدارسها، وجماع شاردها وآنسها؛ مما سارت أخباره، وعرفت أشعاره، وحمدت فى ذات الله مآثره؛ إلى تواليفه فى الدين، وتصانيفه فى أحكام المسلمين، ممن يشهد أنه قرع

تلك الأصول، ومن أهل ذلك البيت الجليل (¬1)». وكان بعد هذا شاعرا، وله ديوان شعر؛ قال ابن شهرآشوب: إنه يربى على عشرين ألف بيت، وذكر بروكلمان أن هناك نسخة منه من مكتبة مشهد. وقد أورد المرتضى طائفة منه فى كتاب الغرر، والشهاب، وطيف الخيال، وذكر الثّعالبىّ فى تتمة اليتيمة، والباخرزيّ فى دمية القصر قدرا منه، فمن قوله: أحبّ ثرى نجد، ونجد بعيدة … ألا حبذا نجد وإن لم تفد قربا! (¬2) يقولون: نجد لست من شعب أهلها … وقد صدقوا لكننى منهم حبا كأنى وقد فارقت نجدا شقاوة … فتى ضلّ عنه قلبه ينشد القلبا ومنه: يا خليلىّ من ذؤابة قيس … فى التصابى رياضة الأخلاق (¬3) عللانى بذكرهم تطربانى … واسقيانى دمعى بكأس دهاق وخذا النوم من جفونى فإنى … قد خلعت الكرى على العشاق (¬4) ومنه فى الرثاء: كأنى لماصك سمعى نعيّه … صككت بمسنون الغرارين قاضب طواه الردى طىّ الرداء وعطّلت … مغانى الحجا عنه وغر المناقب ولما بلوت الأصدقاء وودّهم … خلصت إليه من خلال التجارب وسئل إجازة بيت أبى دهبل الجمحىّ: وأبرزتها من بطن مكة عند ما … أصات المنادى بالصلاة فأعتما (¬5) ¬

_ (¬1) ابن خلكان: 336. (¬2) تتمة اليتيمة 1: 54. (¬3) تتمة اليتيمة 1: 55، وابن خلكان 1: 337. (¬4) روى ابن خلكان أنه لما وصلت هذه الأبيات إلى البصرى الشاعر قال: «المرتضى قد خلع ما لا يملك على من لا يقبل». (¬5) الغرر 1: 115.

فقال: فطيّب سراها المقام وضوّأت … بإشراقها بين الحطيم وزمزما فيا رب إن لقّيت وجها تحيّة … فحىّ وجوها بالمدينة سهّما تجافين عن مسّ الدهان وطالما … عصمن عن الحناء كفّا ومعصما وكم من جليد لا يخامره الهوى … شننّ عليه الوجد حتى تتيّما أهان لهن النّفس وهى كريمة … وألقى إليهنّ الحديث المكتّما تسفهت لما أن مررت بدارها … وعوجلت دون الحلم أن تتحلّما فعجت تقرّى دارسا متنكرا … وتسأل مصروفا عن النطق أعجما ويوم وقفنا للوداع وكلّنا … يعدّ مطيع الشوق من كان أحزما نصرت بقلب لا يعنّف فى الهوى … وعين متى استمطرتها قطرت دما وتوفى الشريف المرتضى فى ربيع الأول سنة 436، وصلى عليه ابنه، ودفن فى داره، ثم نقل إلى المشهد الحسينى بكربلاء.

2 - مؤلفاته

2 - مؤلفاته (¬1) 1 - «إبطال القياس»؛ ذكره الذهبى فى سير النبلاء. 2 - «الانتصار فى الفقه»، ذكره أبو جعفر الطوسى، وابن شهرآشوب، وسمياه «الانفرادات فى الفقه»، وطبع ضمن مجموعة الجوامع الفقهية لمحمد بن باقر بطهران سنة 1276، وطبع منفردا سنة 1315. 3 - «إنقاذ البشر من القضاء والقدر»، ذكره ابن شهرآشوب، وطبع فى النجف 1935، وطهران 1350. 4 - «البرق»، ذكره أبو جعفر الطوسى، وابن شهرآشوب، وسماه «المرموق فى أوصاف البروق». 5 - «تتبع الأبيات التى تكلم عنها ابن جنى فى إثبات المعانى للمتنبى». ذكره أبو جعفر الطوسى، وابن شهرآشوب. 6 - «تتمة أنواع الأعراض من جمع أبى رشيد النيسابورىّ» (1)، ذكره ابن شهرآشوب. 7 - «تفسير الخطبة الشقشقية»، نقله صاحب روضات الجنات عن كتاب رياض العلماء. 8 - «تفسير قصيدة السيد الحميرىّ» المعروفة بالقصيدة المذهبة، وهى القصيدة البائية في مدح أمير المؤمنين على بن أبى طالب، وتبلغ 17 بيتا، مطلعها: ¬

_ (¬1) اقتصرت فى سرد كتب المرتضى هنا على ما ذكر أبو العباس النجاشى فى كتاب الرجال، وأبو جعفر الطوسى فى كتاب الفهرست، وابن شهرآشوب فى كتاب معالم العلماء، وما لم يذكره واحد من هؤلاء ذكرته منسوبا إلى مصدره.

هلّا وقفت على المكان المعشب … بين الطويلع فاللّوى من كبكب ذكرها أبو جعفر الطوسىّ، والنجاشىّ، وابن شهرآشوب. وطبعت مع الشرح بمصر سنة 1313 بعنوان: «القصيدة الذهبية». 9 - «تفسير قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا»، ذكره النجاشىّ. 10 - «تفسير قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ»، ذكره النجاشى. 11 - «تفسير سورة الحمد، وقطعة من سورة للبقرة»، ذكره النجاشى. 12 - «تقريب الأصول»، ذكره النجاشى. 13 - «تكملة الغرر والدرر»، ذكره ابن شهرآشوب. 14 - «تنزيه الأنبياء»، ذكره أبو جعفر الطوسى وابن شهرآشوب. وطبع بالمطبعة الحيدرية فى النجف سنة 1352. 15 - «جمل العلم والعمل»، ذكره أبو جعفر الطوسى، والنجاشى، وابن شهرآشوب. 16 - «جواب الملحدة فى قدم العالم من أقوال المنجمين»، ذكره ابن شهرآشوب. 17 - «الحدود والحقائق» ذكره ابن شهرآشوب. 18 - «الخطبة المقمصة»، ذكره ابن شهرآشوب. 19 - «الخلاف فى أصول الفقه»، ذكره النجاشى، وابن شهرآشوب. 20 - «ديوان شعره»، ذكره أبو جعفر الطوسى، وابن شهرآشوب على ما ذكره بروكلمان أنه منه نسخة مخطوطة فى مكتبة مشهد. 21 - «الذخيرة فى الأصول»، ذكره أبو جعفر الطوسى، والنجاشى، وابن شهرآشوب. 22 - «الذريعة فى أصول الفقه»، ذكره أبو جعفر الطوسى، والنجاشى، وابن شهرآشوب.

23 - «الرد على يحيى بن عدى فى اعتراض دليل الموجد فى حدث الأجسام»، ذكره النجاشى، وابن شهرآشوب. 24 - «الرد على يحيى بن عدىّ فى مسألة سماها طبيعة المسلمين»؛ ذكره النجاشى. 25 - «الرسالة الباهرة فى العثرة الطاهرة» ذكره ابن شهرآشوب. 26 - «رسالة فى المحكم والمتشابه»، منقول من تفسير النعمانى؛ ذكره ابن شهرآشوب. 27 - «الشافى فى الإمامة والنقض على كتاب المغنى للقاضى عبد الجبار بن أحمد»، ذكره أبو جعفر الطوسى وقال: «إنه لم يؤلف مثله فى الإمامة»، وذكره أيضا النجاشى، وابن شهرآشوب. وقد اختصره أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسى المتوفى سنة 460، وطبع الكتاب والمختصر فى العجم سنة 1301 فى جزءين. 28 - «شرح مسائل الخلاف»، ذكره النجاشى. 29 - «الشهاب فى الشيب والشباب»، ذكره أبو جعفر الطوسى، وابن شهرآشوب، وطبع بمطبعة الجوائب سنة 1302. 30 - «طيف الخيال»، ذكره أبو جعفر الطوسى، وابن شهرآشوب، ومنه نسخة مصورة بدار الكتب المصرية رقم 10313 ز، عن النسخة المحفوظة بمكتبة الإسكوريال. 31 - «غرر الفوائد ودرر القلائد»، ذكره أبو جعفر الطوسى، والنجاشى، وابن شهرآشوب، وقد اختصره عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم العلائقى، وسماه «غرر الغرر، ودرر الدرر»، وأكمل هذا المختصر فى سنة 716، ومنه نسخة خطية فى مكتبة طهران؛ ذكره بروكلمان. 32 - «الفرائض فى نصر الرواية، وابطال القول بالعدد»، ذكره ابن شهرآشوب. 33 - «الفقه الملكى»، ذكره ابن شهرآشوب.

34 - «الكلام على من تعلق بقوله: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ»، ذكره النجاشى. 35 - «ما تفرد به الإمامية»، ذكره النجاشى، وابن شهرآشوب. 36 - «مسائل آيات»، ذكره أبو جعفر الطوسى، وابن شهرآشوب. 37 - «مسائل أهل مصر الأولى والأخيرة»، ذكره أبو جعفر الطوسى، والنجاشى. 38 - «مسائل البادريات» ذكره النجاشى. 39 - «المسائل التبانيات»، ذكره النجاشى، وابن شهرآشوب. 40 - «المسائل الجرجانية»، ذكره أبو جعفر الطوسى، وابن شهرآشوب. 41 - «المسائل الحلبية الأولى والأخيرة»، ذكره أبو جعفر الطوسى، وابن شهرآشوب. 42 - «مسائل الخلاف فى الفقه»، لم يتمه؛ ذكره أبو جعفر الطوسى، وابن شهرآشوب؛ وذكر بروكلمان أن منه نسخة فى مكتبة مشهد (ضمن مجموعة). 43 - «المسائل الرازية» 14 مسألة، ذكره ابن شهرآشوب. 44 - «المسائل الرمليات»، ذكره النجاشى. 45 - «المسائل السلارية»، ذكره ابن شهرآشوب؛ وذكر بروكلمان أن منه نسخة مخطوطة فى مكتبة مشهد (ضمن مجموعة). 46 - «المسائل الصيداوية»، ذكره أبو جعفر الطوسى، وابن شهرآشوب. 47 - «المسائل الطبرية»، ذكر بروكلمان أن منه نسخة فى مكتبة مشهد، وذكره أيضا الكنتورى فى كشف الحجب. 48 - «المسائل الطرابلسية الأولى والأخيرة»، ذكره أبو جعفر الطوسى، وابن شهرآشوب.

49 - «المسائل الطوسية»، لم يتم. ذكره أبو جعفر الطوسى، وابن شهرآشوب. 50 - «المسائل المحمديات»، ذكره النجاشى. 51 - «مسائل مفردات من أصول الفقه» ذكره أبو جعفر الطوسى، وابن شهرآشوب. 52 - «مسائل مفردات»، نحو مائة مسألة فى فنون شتى، ذكره أبو جعفر الطوسى، وابن شهرآشوب. 53 - «المسائل الموصلية الثلاثة»، ذكره أبو جعفر الطوسى، والنجاشى، وابن شهرآشوب. وذكر بروكلمان أن منها نسخة مخطوطة فى مكتبة مشهد (ضمن مجموعة). 54 - «مسائل ميافارقين»، ذكره ابن شهرآشوب، وذكر بروكلمان أن منه نسخة مخطوطة فى النجف، فى مكتبة خاصة، وأخرى فى مكتبة مشهد (ضمن مجموعة). 55 - «المسائل الناصرية فى الفقه»، ذكره أبو جعفر الطوسى، وابن شهرآشوب. وقد طبع هذا الكتاب مع كتاب» الجوامع الفقهية» لمحمد بن باقر فى طهران 1276. 56 - «مسألة فى الإرادة»، ذكره النجاشى. 57 - «مسألة فى دليل الخطاب»، ذكره النجاشى. 58 - «مسألة فى التأكيد»، ذكره النجاشى. 59 - «مسألة فى التوبة»، ذكره النجاشى. 60 - «مسألة فى قتل السلطان» ذكره النجاشى. 61 - «مسألة فى كونه تعالى عالما»، ذكره النجاشى. 62 - «مسألة فى المتعة»، ذكره النجاشى. 63 - «المصباح فى أصول الفقه»، لم يتمه ذكره أبو جعفر الطوسى والنجاشى، وابن شهرآشوب.

64 - «المقنع فى الغيبة»، ذكره أبو جعفر الطوسى، والنجاشى، وابن شهرآشوب. 65 - «الملخص فى الأصول»، ذكره أبو جعفر الطوسى، والنجاشى، وابن شهرآشوب. 66 - «المنع فى تفضيل الملائكة على الأنبياء»، ذكره ابن شهرآشوب. 67 - «الموضح عن وجه إعجاز القرآن»، ذكره أبو جعفر الطوسى، والنجاشى، وسمياه «كتاب الصرفة»، وذكره أيضا ابن شهرآشوب. 68 - «نقض الرواية، وإبطال القول بالعدد»، ذكره أبو جعفر الطوسى، وذكره أيضا ابن شهرآشوب، وسماه «مختصر الفرائض فى قصر الرواية وإبطال القول بالعدد» وذكر بروكلمان أن منه نسخة مخطوطة فى مكتبة مشهد (ضمن مجموعة). 69 - «النقض على ابن جنى فى الحكاية والمحكى»، ذكره أبو جعفر الطوسى، وابن شهرآشوب. 70 - «نكاح أمير المؤمنين ابنته من عمر»، ذكره ابن شهرآشوب. 71 - «الوعيد»، ذكره النجاشى.

3 - أمالى المرتضى

3 - أمالى المرتضى وحيثما يستعرض الباحث كتب العربية النفيسة التى حوت ألوان المعارف، وزخرت بأشتات الطرائف، وحفظت بين دفتيها نتاج القرائح، وحقائق السير والتاريخ والأخبار، ونصوص الشعر واللغة والغريب فإنه بلا مراء يعد منها كتاب أمالى المرتضى- أو كما يسميه مؤلفه غرر الفوائد ودرر القلائد- وينظمه فى العقد الّذي يضم كتاب الكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، وعيون الأخبار لابن قتيبة، والعقد لابن عبد ربه، والأغانى لأبى الفرج، وغيرها من الكتب التى حلّقت فى سماء الآداب العربية كالنجوم، وأرست قواعدها كالأطواد، وعمرت بها مجالس العلماء وسوامر الأدباء؛ وتدارسها المتأدبون جيلا بعد جيل؛ وتداولها النساخ، وعدّت فى مكتبات الدارسين من أكرم الذخائر وأنفس الأعلاق. وهى مجالس مختلفة، أملاها فى أزمان متعاقبة؛ تنقل فيها من موضوع إلى موضوع، ومن غرض إلى آخر؛ اختار بعض آي القرآن الكريم؛ مما يغمّ تأويله على الخاصة، بله العامة؛ ويدور حولها السؤال، ويثار الاستشكال؛ وعالج تأويلها وتوجيهها على طريقة أصحابه من المعتزلة، أو أصحاب العدل كما كان يسميهم؛ وحاول جهده أن يوفّق بين تأويل الآيات المتشابهة، وما دار على ألسنة العرب من نصوص الشعر واللغة؛ وفى هذا أبدى تفوقا عجيبا؛ وأبان عن ذهن وقّاد، وذكاء متلهب، وبصر نافذ؛ وأعانه فيما فسّر وأوّل ووجّه وفرة محفوظه من الشعر واللغة ومأثور الكلام. وكان الطابع الّذي يغلب عليه عرض الوجوه المختلفة؛ والآراء المحتملة، مجوّزا فى ذلك إمكان الأخذ بالآراء جميعا. وترجع قيمة ما عرض له الشريف فى هذه المجالس من تأويل الآيات إلى أنها تعدّ صورة لتفسير القرآن الكريم عند علماء المعتزلة؛ مما لم يصل إلينا من كتبهم إلا القليل النادر. واختار أيضا طائفة من الأحاديث التى يختلف العلماء فى تأويلها؛ ويبدو التعارض فيما

بينها وحاول تفسيرها وتأويلها؛ بالمنهج الّذي عالج به تأويل آي القرآن؛ مستعينا بشواهد الشعر واللغة؛ موضحا مذهب أصحابه من أهل العدل؛ مدليا بحجتهم على من خالف تأويلهم من جماعة أهل السنة، أو أهل الجبر كما كان يسميهم؛ وناقش ابن قتيبة وأبا عبيد القاسم بن سلام وابن الأنبارىّ فى ذلك على الخصوص. ثم عرض لمسائل فى علم الكلام مما اشتجر فيها الرأى، ودار حولها الجدل؛ واصطرعت الأقلام، وأقيمت المناظرات؛ مثل القول برؤية الله، وخلق أفعال العباد؛ وإرادة الله للقبائح، والقول بوجوب الأصلح، وقرر رأى أصحابه؛ وحاجّ عنهم، واحتج على خصومهم؛ وكان فيما جادل وناقش رفيقا فى الجدل عفيفا فى المقال. وأودع فى الكتاب بجانب ما بسط من تأويل الآيات والأحاديث وعرض المسائل مختارات من المصطفى المنخول من الشعر وحرّ الكلام؛ تناولها بالشرح والنقد والموازنة، وذكر صدرا من تراجم الشعراء والعلماء والأدباء وأصحاب الأهواء والآراء الخاصة؛ وأورد طائفة من أشعارهم وأقوالهم ونوادرهم، ثم استروح بذكر فيض من الطرائف النادرة، والأجوبة الحاضرة المسكتة، والأفاكيه الرفيعة؛ معتمدا فيما أورده على ما وصل إليه من كتب الجاحظ وابن قتيبة والمبرد وأبى حاتم والآمدىّ وغيرهم، أو ما رواه عن شيوخه، وأبى عبيد الله المرزبانىّ على الخصوص. واختار أيضا بعض الموضوعات التى كانت مقاصد شعراء العربية فى الجاهلية وصدر الإسلام؛ كالمدائح والأهاجى والمراثى والسير ووصف الشيب والطيف وغيرها، وأورد ما قاله الشعراء فيها؛ ووازن بين الكثير منها، وتناولها بالنقد فى كثير من الأحيان. وبهذه الفنون المتنوعة؛ والفصول المختلفة؛ والمباحث الجليلة اجتمع للكتاب ميزة كبرى بين الكتب العربية؛ وعدّ مصدرا ينقل عنه العلماء، ويحتج به الأدباء؛ ويرد شرعته القارءون على ممرّ الأجيال. ***

ويبدو أن هذه المجالس أملاها الشريف فى داره على تلاميذه ومريديه؛ فى أزمنة مختلفة متعاقبة؛ لم يصل العلم إلى التاريخ الّذي بدأها فيه؛ ولكن الثابت أنه فرغ من إملائها يوم الخميس الثامن والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة؛ كما ذكره الشريف أبو يعلى محمد بن الحسن بن حمزة الجعفرىّ فى آخر نسخته. أما الزيادات التى فى آخر الكتاب؛ وهى التى عرفت بتكملة الغرر فهى طائفة أخرى من المسائل التى اختارها فيما كان يعرض له فى مجالسه فيما بعد؛ وأشار بأن تضاف إلى الكتاب، للتشابه بينهما فى المنهج والمنحى؛ وبهذه التكملة يتم الكتاب.

4 - نسخ الكتاب

4 - نسخ الكتاب 1 - نسخة كتبت فى سنة 567، ووقعت فى ملك الحسين بن أبى عبد الله بن إبراهيم الخومجانىّ، وقرأها على فضل الله بن على بن عبيد الله بن محمد بن عبيد الله بن الحسين، وأجاز له روايتها بتاريخ 568 عنه، عن شيخه عبد الرحيم بن أحمد بن الإخوة البغدادىّ عن أبى غانم العصمىّ عن السيد المرتضى، وعنه أيضا عن النقيب حمزة بن أبى الأعز الحسينى عن أبى المعالى أحمد بن قدامة عن السيد المرتضى، وعنه أيضا عن السيد المرتضى بن الداعى الحسنى عن أبى عبد الله جعفر بن محمد الدوريستى. وعلى النسخة حواش كثيرة، هى مما أملاه فضل الله على تلميذه الحسين بن أبى عبد الله الخومجانى، أو مما نقله من نسخته، مقرونة برموز أصحابها، أو غير مقرونة وعلى الصفحة الأولى من هذه النسخة رموز النسخ التى قابل فضل الله بن على نسخته عليها، وأسماء أصحابها، كتبت على النحو الآتى: س: علامة نسخة مولانا الصدر الكبير العلامة ضياء الدين تاج الإسلام، سلطان العلماء، أبى الرضا فضل الله بن على الحسنى الراونديّ قدس الله روحه *** ص: علامة نسخة أبى الصلاح التقى نجم الدين الحلبى، رحمه الله، وكان سمع هذا الكتاب على السيد علم الهدى رضى الله عنه بقراءة غيره *** ش: علامة نسخة السيد أبى السعادات هبة الله بن على بن عبد الله بن حمزة العلوى الشجرىّ، وكانت نسخته بخطه رضى الله عنه ***

ج: علامة نسخة الشريف أبى يعلى محمد بن الحسن بن حمزة الجعفرىّ رحمه الله، وكان خليفة الشيخ المفيد أبى عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثىّ رضى الله عنه والجالس مكانه، وكتب بخطه فى آخر نسخته من هذا الكتاب: هذا آخر مجلس أملاه سيدنا أدام الله علوه ثم تشاغل عنة بأمور الحج، ووقع الفراغ منه يوم الخميس الثامن والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة *** وتبدأ هذه النسخة بصفحة فيها مقدمة الفهرست، وبها التعريفات والرموز الخاصة التى قابل عليها صاحب النسخة واستفاد منها، ثم يلى ذلك الفهرست، وفيه عنوانات المجالس وموضوعاتها، ثم صفحتان بهما نقول وأشعار ثم دعاء كتب فى سنة 761، ثم يلى ذلك صحيفة العنوان، وهو مكتوب بالخط الكوفى الجميل المزخرف بحلية على شكل زهور، تحتها اسم المؤلف، داخل إطار، بالخط النسخى الجميل، ثم تحته إطار أكبر، به نصّ إجازة فضل الله ابن على، وفى حواشى الصحيفة بعض التملكات وإثبات قراءة كمال الدين المرتضى المرعشىّ على الحسين بن أبى عبد الله الخومجانىّ من أول الكتاب إلى المجلس الحادى والثلاثين، وإجازته بتاريخ 584. ثم يلى ذلك أبواب الكتاب، وعنوانات المجالس فى وسط السطر بخط كبير واضح. وفى آخر النسخة: «وافق الفراغ من نسخه فى محرم سنة سبع وستين وخمسمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير». وهى مكتوبة بقلم معتاد واضح مضبوط أكثره بالشكل، وتقع فى 317 ورقة، وعدد سطور الصفحة عشرون سطرا، وأصلها المخطوط بمكتبة الإسكوريال برقم 145.

وإلى صديقى العلامة الأستاذ محمد بن تاويت الطنجىّ يرجع الفضل فى إعانتى على تصوير نسخة منها. وقد رمزت إلى هذه النسخة بكلمة «الأصل» وأثبت جميع ما فيها من الحواشى. *** (2) نسخة بخط محمد بن أبى طاهر بن أبى الحسين الوراق، فرغ من كتابتها فى منتصف رجب سنة 586 برسم مرشد الدين أبى الحسن على بن الحسين بن أبى الحسن الوارانى، وعليها قراءة للوارانى على شيخه الحسن بن الحسين بن على الدوريستى بتاريخ سنة 587، بروايته عن فضل الله بن على بن الحسين الراوندى عن الإمام عبد الرحيم بن الإخوة عن أبى غانم العصمى عن السيد المرتضى؛ وكتب ذلك الدوريستى بخطه. وفى آخر هذه النسخة الزيادات التى رأى السيد المرتضى إضافتها إلى الكتاب؛ مما لم يذكر فى نسخة الأصل؛ وهى أيضا بخط محمد بن أبى طاهر بن أبى الحسين الوراق، كتبها برسم مرشد الدين أبى الحسن الورانى المذكور فى شعبان من السنة نفسها وعلى هذه النسخة ما يثبت أن الحسن بن الحسن بن الحسين انتسخ منها ومن الزيادات نسخة له. وفيها حواش كثيرة؛ ومنها ما يوافق ما فى حواشى نسخة الأصل. وقد فقد منها صفحة العنوان الخارجىّ؛ ولعلّه يكون قد ألصقت بها ورقة بيضاء، وبظهرها فاتحة الكتاب، وبرأسها حلية بالألوان وعنوانات المجالس مميزة بخط كبير واضح، وفى آخرها اسم ناسخها وتاريخ النسخ؛ مرة بعد المجالس ومرة بعد الزيادات. وهى مكتوبة بقلم معتاد، مضبوطة بالشكل الكامل المتقن؛ وعدد أوراقها 245 ورقة وفى كل صفحة 22 سطرا. وأصل هذه النسخة مخطوط محفوظ بمكتبة فيض الله بإستانبول برقم 1485؛ وهى مما

صوّره معهد إحياء المخطوطات العربية بالقاهرة. وقد رمزت إليها بالحرف «ف». *** 3 - نسخة كتبت لحيدر بن محمد بن زيد بن محمد بن زيد بن عبد الله الحسينى، وعليها سماع لأبى البركات على بن نصر بن على بن الأعز الحسينى على حيدر المذكور مؤرخ سنة 619. والموجود منها مجلد واحد ينتهى بآخر المجلس الرابع والثلاثين، وليس بآخره اسم الناسخ أو تاريخ النسخ، ومن المؤكد أنها كتبت قبل سنة 619، وهو تاريخ السماع الموجود بالصفحة الأولى. وبآخر المجلد سماع لحيدر بن محمد صاحب النسخة المذكور، بقراءة على ابن الأعز وبحضور آخرين ذكرت أسماؤهم، بتاريخ سنة 624. وقد عورضت هذه النسخة بنسخ أخرى، أشير إلى خلافها فى الحاشية بهذا الرمز (خ). وبها حواش يوافق الكثير منها الحواشى التى ذكرت فى الأصل. ويلاحظ أن بعض هذه الحواشى نقلت عن نسخة ابن الشجرى، ويسبقها رمزها المعروف: «ش» أحيانا، وأحيانا بلفظ «ابن الشجرى». وقد كتبت بالخط النسخ الجلىّ الواضح، وضبطت بالشكل الكامل، وعدد أوراقها 285 ورقة وعدد سطور كل صفحة 13 سطرا، وهى محفوظة بدار الكتب المصرية برقم 183 أدب تيمور. وقد رمزت إليها بالحرف «ت». *** 4 - نسخة بخط هاشم بن الحسين الحسينى، فرغ من كتابتها فى العاشر من شعبان

سنة 1067، وذكر فى آخرها أنه قابلها على الأصل الّذي كتبت عنه، وانتهى من ذلك فى السادس عشر من شعبان المذكور. وهى أربعة أجزاء فى مجلد واحد. وتقع فى 182 ورقة، وفى كل صفحة 23 سطرا؛ كتبت بخط دقيق. وقد رمزت إليها بالحرف «د» *** 5 - نسخة طبعت فى طهران سنة 1273، ومعها التكملة، وعليها حواش، يوافق بعضها ما فى نسختى الأصل، وف. ولم يذكر فيها ما يشير إلى الأصل الّذي طبعت عليه؛ إلا أنه ذكر فى حاشية ص 200 عند آخر المجلس الرابع والعشرين: «هذا آخر المجلدة الأولى من أصل الجعفرى- رحمه الله». ويؤخذ من هذا أن لها علاقة بنسخة أبى يعلى محمد بن لحسن بن حمزة الجعفرىّ؛ وهى إحدى النسخ التى قوبلت بها نسخة «الأصل». وقد رمزت إلى هذه النسخة بالحرف «ط» 6 - نسخة طبعت فى مصر بمطبعة السعادة سنة 1325؛ على نفقة السيد أمين الخانجى وأحمد ناجى الجمالى، وعليها شروح وتعليقات للسيد محمد بدر الدين النعسانى الحلبى، ثم السيد أحمد أمين الشنقيطى. ولم يذكر فيها ما يشير إلى الأصل الّذي طبعت عليه. والعنوان الّذي وضع على هذه الطبعة: «أمالى السيد المرتضى»، وبه عرف الكتاب. وقد أشرت إلى هذه النسخة بالحرف «م» وقد اتخذت نسخة الإسكوريال أصلا للعمل، وأثبت نصها، ووضعت فروق النسخ

المخطوطة الأخرى، أما النسختان المطبوعتان، فإنى لم أذكر منهما إلا ما انفردا فيه برواية، وهو قليل. وقد أثبت جميع حواشى الأصل، وبعض حواشى نسختى ت، ف. ووضعت هذه الحواشى بين أقواس تمييزا لها عما وضعت من الشرح والتعليق. وقد بذلت ما وسع الجهد والطاقة؛ ومن الله ألتمس الجزاء فيما قصدت؛ وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. مصر الجديدة 8 شعبان سنة 1373 12 إبريل سنة 1954 محمد أبو الفضل إبراهيم

لوحة رقم (1) عنوان الكتاب من نسخة الأصل

لوحة رقم (2) الصفحة الأولى من فهرس الأصل

لوحة رقم (3) وجه الورقة الثانية من نسخة الأصل

أمالى المرتضى غرر الفوائد ودرر القلائد للشريف المرتضى على بن الحسين الموسوى العلوى 355 - 436 هـ

1

[1] المجلس [الأول] بسم الله الرّحمن الرّحيم تأويل آية [وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها] قال الشريف المرتضى قدّس الله روحه: إن [سأل سائل عن قول الله تعالى] (¬1): وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً. [الإسراء: 16]. فى هذه (¬2) الآية وجوه من التأويل؛ كلّ منها يبطل الشبهة الدّاخلة على المبطلين فيها؛ حتى عدلوا بتأويلها عن وجهه، وصرفوه عن بابه. أولها: أنّ الإهلاك قد يكون حسنا، وقد يكون قبيحا؛ فإذا كان مستحقّا أو على سبيل الامتحان كان حسنا، وإنما يكون قبيحا إذا كان ظلما؛ فتعلّق الإرادة به لا يقتضي تعلّقها به على الوجه القبيح، ولا ظاهر للآية (¬3) يقتضي ذلك؛ وإذا علمنا بالأدلّة تنزّه القديم تعالى عن القبائح علمنا أنّ الإرادة لم تتعلّق إلا بالإهلاك الحسن؛ وقوله تعالى: أَمَرْنا مُتْرَفِيها المأمور به محذوف؛ وليس يجب أن يكون المأمور به هو الفسق، وإن وقع بعده الفسق؛ ويجرى هذا مجرى (¬4) قول القائل: أمرته فعصى، ودعوته فأبى. والمراد أننى أمرته بالطّاعة، ودعوته إلى الإجابة والقبول. ويمكن أن يقال على هذا الوجه: ليس موضع الشبهة ما تكلّمتم عليه؛ وإنما موضعها أن يقال: أىّ معنى لتقدّم الإرادة؟ فإن كانت متعلّقة بإهلاك مستحقّ بغير الفسق المذكور فى الآية فلا معنى لقوله تعالى: وَإِذا أَرَدْنا ... أَمَرْنا؛ لأن أمره بما يأمر به لا يحسّن إرادته ¬

_ (¬1) ت، د، ف: «قال الله جل من قائل». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «لهذه». (¬3) ش: «ولا ظاهر الآية». (¬4) ت، د، حاشية الأصل (من نسخة): «وإنما يجرى»، وفى حاشية الأصل أيضا (من نسخة أخرى): «وإنما هذا يجرى».

للعقاب المستحقّ بما تقدّم من الأفعال، وإن كانت الإرادة متعلّقة بالإهلاك المستحقّ بمخالفة الأمر المذكور فى الآية فهذا الّذي تأبونه، لأنه يقتضي أنه تعالى مريد لإهلاك من لم يستحقّ العقاب. والجواب عن ذلك أنه تعالى لم يعلّق الإرادة إلّا بالإهلاك (¬1) المستحقّ بما تقدّم من الذنوب؛ والّذي حسّن قوله تعالى: وإذا أردنا أمرنا ... هو أنّ فى تكرار الأمر بالطاعة والإيمان إعذارا إلى العصاة، وإنذارا لهم، وإيجابا وإثباتا (¬2) للحجّة عليهم/؛ حتى يكونوا متى خالفوا وأقاموا على العصيان والطّغيان بعد تكرار (¬3) الوعيد والوعظ والإنذار ممّن يحقّ عليه القول، وتجب عليه (¬4) الحجّة؛ ويشهد بصحة (¬5) هذا التأويل قوله تعالى قبل هذه الآية: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا. [الإسراء: 15]. والوجه الثانى فى تأويل الآية أن يكون قوله تعالى: أَمَرْنا مُتْرَفِيها من صفة القرية وصلتها، ولا يكون جوابا لقوله تعالى: وَإِذا أَرَدْنا، ويكون تقدير الكلام: وإذا أردنا أن نهلك قرية من صفتها أنّا أمرنا مترفيها ففسقوا فيها (¬6)، وتكون «إذا» على هذا الجواب لم يأت لها جواب ظاهر فى الآية، للاستغناء عنه بما فى الكلام من الدّلالة عليه (¬7)؛ ونظير هذا قوله تعالى فى صفة الجنة: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ ¬

_ (¬1) ت، ف: «بإهلاك مستحق». (¬2) ساقطة من ت، د، ف. (¬3) ت، د: «تكرر». (¬4) ساقطة من ف. (¬5) ت، ف: «لصحة». (¬6) فى ت، وحاشية الأصل: «ويكون كأنه قال تعالى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً مأمورا مترفوها كررنا القول عليهم، وأعدنا الوعظ لهم، وأمرناهم ثانيا فَفَسَقُوا فِيها، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ. والله أعلم بالمراد». (¬7) فى ت، ق، حاشية الأصل، : «يمكن أن يتمحل «لإذا» فى الآية جواب، وهو أن تجعل الفاء فى قوله تعالى: فَدَمَّرْناها زائدة، وتجعل «دمرنا» جوابا لإذا، ولا خلاف فى مورد الفاء زائدة فى كلام العرب؛ حكى ابن جنى عن أبى على قال: حكى أبو الحسن عنهم: «أخوك فوجد» بمعنى أخوك وجد. ومن ذلك قولهم: زيدا فاضربه، وعمرا فأكرم، وعلى هذا قوله تعالى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، ويكون معنى الآية على هذا إخبارا عن عزة الله تعالى وقدرته على جميع ما أراد تعالى. وحجة الفاء زائدة، فى بيت الكتاب: لا تجزعى إن منفسا أهلكته … وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعى الفاء فى «فاجزعى» زائدة».

لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ. وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ. [الزمر: 73 - 74]، ولم يأت «لإذا» جواب فى طول الكلام للاستغناء عنه (¬1). ويشهد أيضا بصحة (¬2) هذا الجواب قول الهذلىّ: حتّى إذا أسلكوهم (¬3) فى قتائدة … شلّا كما تطرد الجمّالة الشّردا (¬4) فحذف جواب إذا، ولم يأت به، لأن هذا البيت آخر القصيدة (¬5). والوجه الثالث: أن يكون ذكر الإرادة فى الآية مجازا أو اتساعا وتنبيها على المعلوم من حال القوم وعاقبة أمرهم، وأنهم متى أمروا فسقوا وخالفوا؛ وذكر الإرادة يجرى هاهنا مجرى قولهم: إذا أراد التاجر أن يفتقر أتته النوائب من كل جهة، وجاءه الخسران من كل طريق، وقولهم: إذا أراد العليل أن يموت خلّط فى مآكله، وتسرّع إلى كل ما تتوق ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «كأن التقدير: إذا جاءوها حضروها وفتحت؛ أوهموا بدخولها، وما أشبه ذلك، والله أعلم». (¬2) كذا فى الأصل، حاشية ت (من نسخة)؛ وفى ت، ف: «لصحة». (¬3) د، ف، حاشية ت (من نسخة): «سلكوهم». وسلك لغة فى أسلك، وأورده صاحب الكشاف بهذه الرواية عند تفسير قوله تعالى: فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. (¬4) حواشى الأصل، ت، د، ف: «البيت لعبد مناف بن ربع الهذلى؛ فى آخر قصيدته التى أولها: ماذا يغير ابنتى ربع عويلهما … لا ترقدان ولا بوسى لمن رقدا قتائدة: موضع، والجمالة: أصحاب الجمال، كالبغالة والحمارة، وانتصاب «شلا» على المصدر، ودل على فعل مضمر يحصل بظهوره جواب «حتى إذا سلكوهم» المنتظر، وتلخيصه: حتى إذا أسلكوهم هذا الموضع شلوهم شلا، يشبه طرد الشرد من الجمال إذا تزاحمت على الماء؛ وهذا كما يقال: طردوهم طرد غرائب الإبل. ومعنى أسلكوهم جعلوا لهم مسلكا، والسلك: إدخال شيء فى شيء تسلكه فيه، ومنه ما سَلَكَكُمْ. وروى أبو عبيدة: «الشرد» (بفتح الشين والراء)، وقال: تقول: إبل شرد وجلب وطرد». وانظر الكلام على هذا البيت فى (ديوان الهذليين 2: 42، وأدب الكاتب 424، والاقتضاب 402). (¬5) حاشية الأصل: «جواب الشرط جزء لا يتم المشروط دونه؛ فإذا حذف كان أهول للكلام، كقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ... الآية، وكقول القائل: لو رأيت عليا بصفين، وكقولهم: لو ذات سوار لطمتنى».

إليه نفسه؛ ومعلوم أن التاجر لم يرد فى الحقيقة شيئا، ولا العليل (¬1) أيضا، لكن لمّا كان المعلوم من حال هذا الخسران، ومن حال هذا الهلاك حسن هذا الكلام، واستعمل ذكر الإرادة لهذا الوجه (¬2). وكلام العرب وحى وإشارات واستعارات ومجازات (¬3). ولهذه الحال كان كلامهم فى المرتبة العليا من الفصاحة؛ فإنّ الكلام متى خلا من الاستعارة (¬4)، وجرى كلّه على الحقيقة كان بعيدا من الفصاحة، بريّا من البلاغة، وكلام الله تعالى أفصح الكلام. / والوجه الرابع: أن تحمل الآية على التّقديم والتأخير؛ فيكون تلخيصها: إذا أمرنا مترفى قرية بالطاعة فعصوا واستحقوا العقاب أردنا إهلاكهم؛ والتقديم والتأخير فى الشعر وكلام العرب كثير. ومما يمكن أن يكون شاهدا لصحة هذا التأويل من القرآن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة: 6]، والطهارة إنّما تجب قبل القيام إلى الصلاة، وقوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء: 102]، وقيام الطائفة معه يجب أن يكون قبل إقامة الصلاة؛ لأن إقامتها هى (¬5) الإتيان بجميعها على الكمال. فأما قراءة من قرأ الآية بالتّشديد فقال: أَمْرِنا (¬6)، وقراءة من قرأها بالمدّ ¬

_ (¬1) كذا فى الأصل، د، وحاشية ت (من نسخة)، وفى ت، ف: «المريض». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ت: «تصوير المجاز فى الآية على أن التقدير: إذا قرب هلاك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا؛ وكذلك قولهم: إذ أراد المريض ... التقدير: إذا قرب موت المريض خلط، وكذلك التاجر إذا قرب افتقاره أتته النوائب؛ وهذا كقوله تعالى: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ؛ أى يقرب أن ينقض؛ وإنما كنى بالإرادة عن القرب فى هذه المواضع لأن المريد للشيء، المخلى بينه وبينه- ولا مانع هناك- ما أقرب ما يقع مراده، والله أعلم». (¬3) حاشية الأصل: «الإرادة قد تستعمل فى الجماد فضلا عن العقلاء؛ كقوله تعالى: جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ؛ وكقول الراعى النميرى: فى مهمه قلقت به هاماتها … قلق الفئوس إذا أردن نصولا. (¬4) كذا فى الأصل، وحاشية ت (من نسخة)، وفى ت: «وإن كان الكلام متى خلا من الاستعارة»، وفى ف: «فإن كان الكلام متى خلا من الاستعارات». (¬5) حاشية ت (من نسخة): «هو الإتيان». (¬6) هى قراءة شاذة، عن أبى عثمان النهدى، والليث عن أبى عمرو، وأبان عن عاصم. (وانظر القراءات الشاذة لابن خالويه 75)

تأويل خبر من تعلم القرآن ثم نسيه لقى الله تعالى وهو أجذم

والتخفيف فقال: أَمَرْنا (¬1) فلن يخرج معنى قراءتيهما عن الوجوه التى ذكرناها (¬2)؛ إلا الوجه الأول؛ فإنّ معناه لا يليق إلا بأن يكون ما تضمنته الآية هو الأمر الّذي يستدعى به الفعل (¬3). تأويل خبر [من تعلّم القرآن ثم نسيه لقى الله تعالى وهو أجذم] روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: «من تعلّم القرآن ثم نسيه لقى الله تعالى وهو أجذم». قال أبو عبيد القاسم بن سلّام (¬4) مفسّرا لهذا الحديث فى كتابه غريب الحديث: الأجذم: المقطوع اليد، واستشهد بقول المتلمّس (¬5): وما كنت إلا مثل قاطع كفّه … بكفّ له أخرى فأصبح أجذما وقد خطّأ عبد الله بن مسلم بن قتيبة (¬6) أبا عبيد فى تأويله هذا الخبر وقال: الأجذم وإن ¬

_ (¬1) هى قراءة شاذة أيضا، عن خارجة عن نافع؛ (وانظر المصدر السابق). (¬2) حاشية الأصل: «قوله أمرنا، بالتشديد: كثرنا، وآمرنا، بالتخفيف: جعلناهم أمراء؛ وإن شئت فالعكس من ذلك، والصحيح العكس». (¬3) ت، د، حاشية الأصل (من نسخة): «يستدعى به إلى الفعل». (¬4) هو أبو عبيد القاسم بن سلام، اللغوى الفقيه المحدث، ولد بهراة، ثم ذهب إلى بغداد، ودرس بها الأدب والحديث والفقه، وولى القضاء بطرسوس؛ وخرج منها إلى مكة، وسكنها حتى مات سنة 224. وكتابه غريب الحديث جمع فيه ما فى كتب أبى عبيدة وقطرب والأخفش والنضر بن شميل، وذكر أحاديث كل رجل من الصحابة على حدة. قال ابن الأثير: «جمع كتابه المشهور فى غريب الحديث والآثار، الّذي صار أولا؛ وإن كان أخيرا؛ لما حواه من الأحاديث والآثار الكثيرة والمعانى اللطيفة والفوائد الجمة؛ فصار فيه القدوة فى هذا الشأن، أفنى فيه عمره؛ حتى إنه قال فيما يروى: إنى جمعت كتابى هذا فى أربعين سنة، وهو كان خلاصة عمرى». ومنه نسخة مصورة بدار الكتب المصرية منقولة عن نسخة مخطوطة بمكتبة كبرى لى بالآستانة. (وانظر إنباه الرواة 3: 12 - 23، والنهاية لابن الأثير 1: 4 - 5. وكشف الظنون 1204). (¬5) هو جرير بن عبد المسيح الضبعى، والبيت من قصيدة له أولها: يعيّرنى أمّى رجال ولا أرى … أخا كرم إلّا بأن يتكرّما وهى فى (ديوانه 169، والأصمعيات 64 - 65، ومختارات ابن الشجرى 28 - 19)؛ وخبر القصيدة فى (الخزانة 4: 215 - 216). (¬6) هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينورى، ولد ببغداد ونشأ-

كان المقطوع اليد؛ فإنّ هذا المعنى لا يليق بهذا الموضع. قال: لأنّ العقوبات من الله تعالى لا تكون إلا وفقا للذّنوب وبحسبها، واليد لا مدخل لها فى نسيان القرآن، فكيف تعاقب فيه! واستشهد بقوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة: 275]، وزعم أن تأويل الآية أن الرّبا إذا أكلوه ثقل فى بطونهم، وربا فى أجوافهم؛ فجعل قيامهم مثل قيام (¬1) من يتخبّطه الشيطان تعتّرا وتخبّلا. واستشهد أيضا بما روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «رأيت ليلة أسرى بى قوما تقرض شفاههم، وكلّما قرضت وفت، فقال لى جبريل: هؤلاء خطباء أمّتك، تقرض (¬2) شفاههم؛ لأنهم يقولون ما لا يفعلون». قال: والأجذم فى الخبر إنما هو المجذوم؛ وإنما جاز أن يسمّى المجذوم أجذم؛ لأن الجذام يقطّع أعضاءه ويشذّ بها؛ والجذم هو القطع. قال الشريف المرتضى رضى الله عنه: قد أخطأ الرجلان جميعا، / وذهبا عن الصواب ذهابا بعيدا، وإن كان غلط ابن قتيبة أفحش وأقبح؛ لأنه علّل غلطه، فأخرجه إلى أغاليط كثيرة؛ ونحن نبيّن معنى الخبر ثم نتكلّم على ما أورداه. أما معنى الخبر فهو ظاهر لمن كان له أدنى معرفة بمذاهب العرب فى كلامها؛ وإنما أراد عليه السلام بقوله: يحشر أجذم؛ المبالغة فى وصفه بالنقصان عن الكمال، وفقد ما كان عليه بالقرآن من الزينة والجمال. والتشبيه له بالأجذم من حسن التشبيه وعجيبه؛ لأن اليد من الأعضاء الشريفة التى لا يتمّ كثير من التصرّف ولا يوصل إلى كثير من المنافع إلا بها؛ ففاقدها ¬

_ بها، وأقام بالدينور مدة فنسب إليها، وحدت ببغداد عن إسحاق بن راهويه وطبقته، وروى عنه ولده أحمد وابن درستويه؛ توفى سنة 276؛ وكتابه فى غريب الحديث ذكره ابن الأثير فقال: «فصنف كتابه المشهور فى غريب الحديث والآثار؛ حذا فيه حذو أبى عبيد، ولم يودعه شيئا من الأحاديث المودعة فى كتاب أبى عبيد؛ إلا ما دعت إليه حاجة من شرح وبيان واستدراك، فجاء كتابه مثل كتاب أبى عبيد أو أكبر». (وانظر إنباه الرواة 2: 143 - 147، والنهاية لابن الأثير 1 - 5، وكشف الظنون 1204). (¬1) ساقطة من ف. (¬2) كذا ضبطت بالقلم فى الأصل، وفى ت، ش: «تقرض» بضم التاء وفتح القاف وتشديد الراء المفتوحة.

يفقد ما كان عليه من الكمال، وتفوته المنافع والمرافق التى كان يجعل يده ذريعة إلى تناولها؛ وهذه حال ناسى القرآن ومضيّعه (¬1) بعد حفظه، لأنه يفقد ما كان لا بسا له من الجمال، ومستحقا له من الثواب، وهذه عادة للعرب فى كلامهم معروفة؛ يقولون فيمن فقد ناصره ومعينه (¬2): فلان بعد فلان أجدع، وقد بقى بعده أجذم؛ قال الفرزدق يرثى مالك بن مسمع (¬3): تضعضع طودا وائل بعد مالك … وأصبح منها معطس العزّ أجدعا (¬4) وإنما أراد المعنى الّذي ذكرناه. وللعرب ملاحن فى كلامها (¬5)، وإشارات إلى الأغراض، وتلويحات بالمعانى، متى لم يفهمها ويسرع إلى الفطنة بها من تعاطى تفسير كلامهم، وتأويل خطابهم كان ظالما نفسه، متعديا طوره. ونعود إلى الكلام على ما ذكره الرجلان؛ أما أبو عبيد فإن خطأه من حيث لم يفطن للغرض فى الخبر، وضلّ عن وجهه، وإلا فالأجذم هو الأقطع لا محالة كما قال؛ إلّا أنه لا يليق بهذا الموضع، وإذا حمل عليه لم يفد شيئا؛ وإن كانت (¬6) شبهته التى أوقعته فى هذا التأويل ظنّه أن ذلك يكون على سبيل العقوبة له على نسيان القرآن فليس كما ظن، لأنّ الجذم (¬7) أولا ليس بعقوبة؛ لأن الله تعالى قد يجذم (¬8) أولياءه والصالحين من عباده، ويقطّع أعضاءهم بالأمراض، وقد يبتدئ خلق من هو ناقص الأعضاء؛ فليس بلازم فى الجذم أن يكون عقوبة. ثم لو كان يستحقّ ناسى القرآن عقوبة على نسيانه لكان حفظ القرآن بأسره فرضا واجبا وحتما لازما (¬9)؛ لأن العقوبة لا تستحق بترك ما ليس بواجب، وليس ¬

_ (¬1) كذا ضبطت بالقلم فى الأصل، ت، وفى ش: «ومضيعه»، بكسر الضاد وبعدها ياء ساكنة. (¬2) فى نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «ومغيثه». (¬3) هو ملك بن مسمع الجحدرى؛ من بكر بن وائل، كان سيد ربيعة فى زمانه، وتوفى سنة 73. (المعارف: 184، وجمهرة الأنساب: 301، والإصابة 6: 164). (¬4) ديوانه: 414. (¬5) حاشية ف (من نسخة): «كلامهم». (¬6) ت: «وإن كان». (¬7) حاشية ت (من نسخة): «الجذام». (¬8) نسخة أبى السعادات الشجرى: «يجذّم» يضم الياء وفتح الجيم وتشديد الذال المكسورة؛ وضبطت فى ت بالوجهين معا، وفى حواشى الأصل، ت، ف: «الجذم القطع، وقد جذم (بكسر الذال) يجذم جذما فهو أجذم، أى مقطوع اليد». (¬9) حاشية الأصل: «الملازمة ممنوعة».

حفظ جميع القرآن كذلك. وأما ابن قتيبة فإنه غلط من حيث لم يفطن للوجه/ فى الخبر الّذي ذكرناه؛ من حيث ظنّ أن العقوبة لا تكون إلا فى محلّ الذّنب، وهذا القول يوجب عليه ألّا يجلد ظهر الزانى، وتختص العقوبة بفرجه، وكذلك القاذف كان يجب أن يعاقب فى لسانه دون سائر أعضائه؛ والخبر الّذي استشهد به حجّة عليه، لأنا نعلم أنّ اللسان أقوى خطأ فى باب الكلام من الشّفة، فلم لم يخصّ بالعقوبة (¬1) وحلّت بالشفاء دونه؟ ثم غلطه فى تأويل الآية التى أوردها أقبح من كل ما تقدّم؛ لأنه توهّم أنّ ما تضمنته الآية من تخبّط آكل الربا وتعثّره عند القيام إنما هو فى الدنيا من حيث يثقل ما أكله فى معدته فيمنعه من النّهوض؛ ونحن نعلم ضرورة خلاف ذلك، ونجد كثيرا من آكلى الربا أخفّ نهوضا، وأسرع قياما وتصرّفا من غيرهم؛ ممّن لم يأكل الربا قطّ؛ والمعنى فى الآية ما ذكره المفسّرون من أنّ ما وصفهم الله تعالى به يكون عند قيامهم من قبورهم، فيلحقهم العثار والزّلل والتّخبّل على سبيل العقوبة لهم، وليكون ذلك أيضا أمارة لمن يعاقبهم (¬2) من الملائكة والخزنة على الفرق بين الولىّ والعدوّ، ومستحقّ الجنة ومستحقّ النار. وليس بمعروف ولا ظاهر أن الأجذم هو المجذوم؛ وردّ ابن قتيبة معناه واشتقاقه إلى الجذم الّذي هو القطع يوجب عليه أن يكون كلّ داء يقطّع الجسد ويفرّق أوصاله؛ كالجدرىّ والأكلة (¬3) وغيرهما يسمّى جذاما، ويسمى من كان عليه أجذم، وهذا باطل. وأما قول الشاعر (¬4): حرّق قيس عليّ البلا … د حتّى إذا اضطرمت أجذما فليس من هذا الباب؛ بل هو من الإجذام الّذي هو الإسراع؛ فكأنه قال: لما اضطرمت ¬

_ (¬1) ف: «فلم لم تختص العقوبة به». (¬2) ف، وحاشية ت (من نسخة): «ويعاينهم». (¬3) فى نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «الأكلة، بالكسر: الحكة، والأكلة، بالضم: اللقمة». (¬4) هو الربيع بن زياد العبسى، من أبيات فى (الحماسة بشرح التبريزى 2: 61 - 63)، واللسان (جذم).

مسألة في القول بوجوب الأصلح عليه تعالى

أسرع عنى، وتباعد منى. والإجذام، بالذال المعجمة والدال غير المعجمة جميعا: الإسراع؛ فأما قول عنترة فى وصف الذّباب (¬1): هزجا يحكّ ذراعه بذراعه … قدح المكبّ على الزّناد الأجذم الأجذم من صفة المكبّ (¬2) لا من صفة الزّناد؛ فكأنه (¬3) قال: قدح المكبّ الأجذم على الزّناد، وهذا من حسن التشبيه وواقعه (¬4). مسألة [في القول بوجوب الأصلح عليه تعالى] قال الشريف المرتضى قدّس الله روحه: كان بعض الشّيوخ المتقدمين (¬5) يقول: ليس بممتنع أن يمكّن الله تعالى من الظّلم من/ يعلم من حاله أنه يرد القيامة غير مستحقّ لشيء من الأعواض، أو لما يوازى القدر المستحقّ عليه منها؛ فإذا أراد الانتصاف منه تفضّل عليه بما ينقله إلى مستحقّ العوض، ويقول: ليس هذا ببعيد ولا مستحيل، لأن العوض ليس يختص بصفة تمنع من التفضّل بمثله، ولا يجرى فى ذلك مجرى الثواب. ¬

_ (¬1) من المعلقة بشرح التبريزى ص 180، وقبله: وخلا الذّباب بها فليس ببارح … غردا كفعل الشّارب المترنّم. (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «هذا من باب إجراء الصفة على غير من هى له، كقولنا: مررت برجل حسن غلامه. (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «كأنه». (¬4) د، م: «من أحسن التشبيه وأوقعه»؛ وفى حواشى الأصل، ب، ف: «كثر القال والقيل فى هذا الحديث، فقال بعضهم: الأجذم: المقطوع اليد، وقال آخرون: هو المجذوم. وفى معنى هذا الحديث سر، ومعناه يتضح بالحديث الآخر الّذي روى عنه عليه السلام: إنى تارك فيكم الثقلين، أحدهما كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الأرض .. الحديث فلما شبه الكتاب بالحبل الّذي يتعلق به، ويجعل سببا للتوقى من الهلاك عبر عن تاركه والغافل عنه بالأجذم، وإنما عبر بكلمة الأجذم الشنعة، واللفظ المستكره لأنه إذا انقطع الحبل لم يمكن أن يمسك، وإذا كانت اليد جذماء أيضا لم يمكن الإمساك، فأراد بذلك أن الإمساك غير حاصل، لأمر يرجع إلى اليد الممسكة لا إلى الحبل لأن الحبل باق بحاله؛ فهذا أحسن، والله أعلم. ومعنى النسيان هو ترك أحكامه، والأخذ بمحارمه وحدوده؛ ولا يريد ذهاب الحفظ». (¬5) حاشية الأصل: «أبو القاسم البلخى». وهو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبى البلخى، أحد شيوخ المعتزلة، ورأس طائفة منهم يقال لهم: الكعبية، توفى سنة 317. (ابن خلكان 1: 252).

والمستقرّ من مذاهب الشّيوخ- وهو الصحيح- أن الانتصاف لا يجوز أن يكون موقوفا على ما يتفضّل به؛ لأنّ الانتصاف واجب على الله تعالى من حيث خلّى بين عباده وبين الظلم، فلا يجوز أن يتعلّق إلا بأمر واجب، والتفضّل لفاعله ألّا يفعله، فتئول الحال إلى تعذّر الانتصاف. وقالوا: من يعلم الله تعالى أنه يرد القيامة- ولا أعواض له- يمنعه من الظلم، ولا يمكّنه منه لهذه العلة. ويجيزون (¬1) أن يمكّن من الظلم من يكون فى الحال غير مستحقّ للعوض، أو غير مستحق للقدر الّذي يوازى الظلم من العوض، بعد أن يكون المعلوم من حاله أنه يرد القيامة وقد استحقّ من الأعواض ما يوازى ما عليه منها. قال المرتضى: وهذا القول- نعنى تجويز تمكين الظالم من الظلم، وهو فى الحال غير مستحق للعوض- يبطل بالعلّة التى أبطلنا بها قول من أجاز الانتصاف بالتفضّل؛ لأنّا نعلم أن تبقية المكلّف وغير المكلّف لا تجب، وللقديم تعالى ألّا يفعلها، فلو لم يفعلها واخترم هذا الظالم بعد حال ظلمه لكان الانتصاف منه غير ممكن. وقد تعلّق الانتصاف على هذا القول بما ليس بواجب؛ كما علّقه من قدمنا حكاية قوله بما ليس بواجب. وليس لهم أن يقولوا ذلك يحسن؛ لأن الله تعالى يعلم أنّه يبقيه فيستحقّ (¬2) أعواضا؛ لأن عليهم مثل ذلك إذا قيل لهم: فأجيزوا أيضا أن يرد القيامة وهو لا يستحقّ العوض؛ ويعلم الله تعالى أنه يتفضّل عليه بما يقع به الانتصاف. فإذا قالوا: علم الله تعالى بأنه يتفضّل، لا يخرج التفضّل من أن يكون غير واجب؛ وقيل لهم: وعلم الله تعالى بأنه يبقى من لا عوض له ليستحقّ العوض، لا يخرج التبقية من أن تكون غير واجبة، فاستوى الأمران. والصحيح أن يقال: إنّه تعالى لا يمكّن من الظلم من لا عوض له فى الحال؛ ليستقيم الكلام ويطّرد. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «أبو هاشم وأصحابه». وهو أبو هاشم عبد السلام بن أبى على الجبائى، كان هو وأبوه من كبار أئمة المعتزلة؛ ولهما مقالات على مذهب الاعتزال؛ وكتب الكلام مشحونة بمذاهبهما واعتقادهما، توفى سنة 321، (ابن خلكان 1: 292 - 293). (¬2) ت، وحاشية ف (من نسخة): «ليستحق».

2

[2] مجلس آخر «*» [المجلس الثاني] تأويل آية [وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ... ] قال الله تعالى (¬1): وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85]. وقد ظنّ قوم من غفلة الملحدين وجهّالهم أن الجواب عمّا سئل عنه فى هذه الآية لم يحصل، وأن الامتناع منه إنما هو لفقد العلم به، وأن قوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا تبكيت وتقريع لم يقعا موقعهما؛ وإنما هو (¬2) على سبيل المحاجزة والمدافعة عن الجواب. وفى هذه الآية وجوه من التّأويل تبطل ما ظنّوه، وتدلّ على ما جهلوه؛ أولها: أنّه تعالى إنما عدل عن جوابهم لعلمه بأنّ ذلك ادعى لهم إلى الصلاح فى الدّين، وأن الجواب لو صدر منه إليهم لازدادوا فسادا وعنادا؛ إذ كانوا بسؤالهم متعنّتين (¬3) لا مستفيدين؛ وليس هذا بمنكر؛ لأنّا نعلم فى كثير من الأحوال ممن (¬4) يسألنا عن الشّيء أنّ العدول عن جوابه أولى وأصلح فى تدبيره. وقد قيل إن اليهود قالت لكفار قريش: سلوا محمدا؛ عن الرّوح فإن أجابكم فليس بنبىّ؛ وإن لم يجبكم فهو نبىّ؛ فإنّا نجد فى كتبنا (¬5) ذلك؛ فأمره الله بالعدول عن ذلك ليكون علما له ودلالة على صدقه، وتكذيبا لليهود الرادّين عليه؛ وهذا جواب أبى عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبّائىّ (¬6). ¬

_ * ف: «مجلس ثان»، وفى حاشيتى الأصل، ف: «هذا المجلس مما افتتح به الكتاب، على ما وجد فى بعض النسخ». (¬1) ف: «إن سأل سائل عن قوله تعالى». (¬2) ف: «هما». (¬3) فى ت، حاشية الأصل (من نسخة): «معنتين»، وفى حاشية ف: «أعنت: أتى بالعنت». (¬4) فى ت، حاشية الأصل (من نسخة): «فيمن». (¬5) حاشية ت (من نسخة): «كتابنا». (¬6) حاشية ف: «أبو على من قرية يقال-

وثانيها أن القوم إنما سألوه عن الرّوح: هل هى محدثة مخلوقة أو ليست (¬1) كذلك؟ فأجابهم إنها من أمر ربى، وهو جوابهم عما سألوه (¬2) عنه بعينه؛ لأنّه لا فرق بين أن يقول فى الجواب: إنها محدثة مخلوقة، وبين قوله إنها من أمر ربّى؛ لأنه إنما أراد أنها من فعله وخلقه، وسواء على هذا الجواب أن تكون الرّوح التى سألوا عنها هى التى بها قوام الجسد أم عيسى عليه السلام، أم جبرئيل صلى الله عليه. وقد سمّى الله تعالى جبرئيل روحا، وعيسى أيضا مسمّى بذلك فى القرآن. وثالثها أنهم سألوا عن الرّوح الّذي هو القرآن، وقد سمّى الله القرآن روحا فى مواضع من الكتاب؛ وإذا كان السؤال عن القرآن فقد وقع الجواب موقعه، لأنه قال لهم: الروح (¬3) الّذي هو القرآن من أمر ربّى، ومما (¬4) أنزله على نبيه صلى الله عليه؛ ليجعله دلالة وعلما على صدقه، وليس من فعل المخلوقين، ولا ممّن يدخل فى إمكانهم؛ وهذا جواب الحسن البصرىّ. ويقويه قوله/ تعالى بعد هذه الآية: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا. [الإسراء: 86]. فكأنّه قال تعالى: إن القرآن من أمرى وفعلى (¬5) وممّا أنزلته علما على نبوّة رسولى، ولو شئت لرفعته وأزلته وتصرّفت فيه؛ كما يتصرّف الفاعل فيما يفعله. ¬

_ - لها جباء؛ وهى من رستاق كارور من ناحية الأهواز، ويقال لأهل هذه الناحية الربعيون؛ لأنهم كانوا استنفروا ليقاتلوا الحسين عليه السلام، فجاءوا وقد فرغ من أمره، فطلبوا الأجرة، فقال ابن زياد: إنكم لم تبلوا بلاء، وأعطى كل واحد منهم ربع دينار. قال دامت أيامه: أخبرنى بذلك العراقى العلوى البصرى». وكانت وفاة أبى على هذا فى سنة 306. (وانظر ترجمته فى ابن خلكان: 480 - 481). (¬1) ف، حاشية الأصل (من نسخة): «أم ليست». (¬2) ت، ف: «سألوا عنه». (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «إن الروح». (¬4) ش: «وما أنزله». (¬5) حاشية الأصل: «ليس فى الآية دليل على قوله: " وفعلى"؛ كتب هذا الشيخ عبد الرحيم البغدادى رحمه الله على حواشى نسخة السيد الإمام».

فصل تأويل قوله تعالى: والأرض مددناها ...

فصل [تأويل قوله تعالى: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ... ] قال الشّريف المرتضى رضى الله عنه: قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهانىّ (¬1) فى قوله تعالى: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ. [الحجر: 19]؛ قال: إنما خصّ الموزون دون المكيل بالذّكر لوجهين: أحدهما أن غاية المكيل تنتهى إلى الوزن لأن سائر المكيلات إذا صارت طعاما دخلت فى باب الوزن وخرجت عن باب الكيل؛ فكأنّ الوزن أعمّ من الكيل. والوجه الآخر أن فى الوزن معنى الكيل؛ لأن الوزن هو طلب مساواة الشيء بالشيء. ومقايسته إليه، وتعديله به؛ وهذا المعنى ثابت فى الكيل، فخصّ الوزن بالذّكر لاشتماله على معنى الكيل. هذا قول أبى مسلم، ووجه الآية وما يشهد له ظاهر لفظها غير ما سلكه أبو مسلم، وإنما أراد تعالى بالموزون المقدّر الواقع بحسب الحاجة؛ فلا يكون ناقصا عنها، ولا زائدا عليها زيادة مضرّة أو داخلة فى باب العبث. ونظير ذلك من كلامهم (¬2) قولهم: كلام فلان (¬3) موزون، وأفعاله مقدّرة موزونة؛ وإنما يراد ما أشرنا إليه، وعلى هذا المعنى تأوّل المفسرون ذكر الموازين فى القرآن على أحد التأويلين، وأنها التعديل والمساواة بين الثّواب والعقاب، قال الشاعر (¬4): لها بشر مثل الحرير ومنطق … رخيم الحواشى لا هراء ولا نزر والهراء: الكثير، والنزر: القليل؛ فكأنه قال: إن حديثها لا يقلّ عن الحاجة ¬

_ (¬1) كان أبو مسلم الأصبهانى على مذهب المعتزلة؛ وصنف التفسير على طريقتهم، وتوفى سنة 370. (لسان الميزان 5: 89). (¬2) ش: «فى كلامهم». (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «زيد». (¬4) فى م، وحاشيتى الأصل، ف: «وهو ذو الرمة»؛ والبيت فى ديوانه: 212.

ولا يزيد عليها؛ وهذا يجرى مجرى أن تقول: هو موزون. وقال مالك بن أسماء ابن خارجة الفزارىّ (¬1): وحديث ألذّه هو ممّا … ينعت الناعتون يوزن وزنا (¬2) منطق صائب وتلحن أحيا … نا وخير الحديث ما كان لحنا وهذا الوجه الّذي ذكرناه أشبه بمراد الله تعالى فى الآية، وأليق بفصاحة القرآن/ وبلاغته الموفيتين (¬3) على فصاحة سائر الفصحاء وبلاغتهم؛ فأمّا قول الشاعر الّذي استشهدنا بشعره: «وتلحن أحيانا» فلم يرد اللّحن فى الإعراب الّذي هو ضد الصواب (¬4)؛ وإنما أراد الكناية عن الشيء والتعريض بذكره والعدول عن الإفصاح عنه؛ على معنى قوله تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ. [محمد: 30]، وقول الشاعر (¬5): ولقد وحيت لكم لكيما تفطنوا … ولحنت لحنا ليس بالمرتاب (¬6) وقد قيل: إن اللحن الّذي عنى فى البيت هو الفطنة وسرعة الفهم؛ على ما روى عن ¬

_ (¬1) هو مالك بن أسماء بن خارجة بن حصن الفزارى؛ شاعر إسلامى غزل. (الشعر والشعراء 756 - 758). (¬2) حواشى الأصل، ت، ف: «حديث معطوف على كلام قبله؛ أى لها وجه، ولها حياء، ولها حديث، أو مثل ذلك. وقوله: «ألذه»، أى استلذه؛ يقال: لذذت به ولذذته، وقوله: «مما ينعت الناعتون»، أى مما ينعته الناعتون. وقوله: «مما يوزن وزنا»، أى موزونا، فهو فى موضع الحال». (¬3) حاشية الأصل: «الموفيتين: المشرفتين». (¬4) حواشى الأصل، ت، وف: «المسألة محتملة لأنه يريد باللحن ضد صواب الإعراب؛ لأن مقابل المنطق الصائب الملحون، واللحن من الغوانى والفتيات غير مستكره ولا منكر، بل قد يستحب ذلك منهن؛ لأنه بالتأنيث أشبه، وللشهوة ادعى، ومع الغزل أحرى؛ والإعراب جد، وليس الجد من التعشق والتغزل بشيء، ثم ما الموجب لأن يتمحل للبيت وجه يسلبه حسن الطباق؟ ولو أراد به الملاحنة التى هى الفطانة لكان ملغيا بذكر اللحن؛ لأن اللحن فى هذا المعنى صائب، فيذهب الاتساق بذهاب الطباق؛ فبان لك أن المعنى هو اللحن الّذي يضاد صواب الإعراب وإقامته؛ وإن كان كذلك المعنى الثانى محتملا». (¬5) هو القتال الكلابى؛ والبيت فى (الأمالى 1: 5، واللسان- لحن)، وقبله: هل من معاشر غيركم أدعوهم … فلقد سئمت دعاء يا لكلاب! . (¬6) حاشية الأصل: «الوحى: الإشارة والرسالة والكلام الخفى؛ يقال: وحيت إليه فى الكلام، -

تفسير معنى"اللحن" عند العرب

[تفسير معنى «اللحن» عند العرب: ] النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعلّ أحدكم أن يكون ألحن بحجّته» أى أفطن لها، وأغوص عليها. ومما يشهد بما ذكرناه ما أخبرنا به أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزبانىّ (¬1) قال حدّثنا أحمد بن عبد الله العسكرىّ قال حدثنا العنزىّ قال حدثنا على بن إسماعيل اليزيدىّ قال أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: تكلّمت هند بنت أسماء بن خارجة فلحنت، وهى عند الحجاج، فقال لها: أتلحنين وأنت شريفة فى بيت قيس؟ ! فقالت: أما سمعت قول أخى مالك لامرأته الأنصارية؟ قال: وما هو؟ قالت: قال (¬2): منطق صائب وتلحن أحيا … نا وخير الحديث ما كان لحنا فقال لها الحجاج: إنما عنى أخوك اللحن فى القول؛ إذا كنّى المحدّث عمّا يريد، ولم يعن اللحن فى العربية (¬3)، فأصلحى لسانك. وقد ظنّ عمرو بن بحر الجاحظ مثل هذا بعينه وقال: إن اللّحن مستحسن (¬4) فى النساء الغرائر (¬5)، وليس بمستحبّ منهن كلّ الصواب والتشبّه بفحول الرجال، واستشهد بأبيات مالك بعينها، وظن أنه أراد باللحن ما يخالف الصواب (¬6). وتبعه على هذا الغلط عبد الله ابن مسلم بن قتيبة الدينورىّ، فذكر فى كتابه المعروف بعيون الأخبار (¬7) أبيات الفزارىّ، واعتذر بها من لحن إن أصيب فى كتابه. قال الشريف المرتضى رضى الله عنه: وأخبرنا المرزبانىّ قال أخبرنى محمد بن يحيى ¬

_ - وأوحيت بمعنى؛ وقوله: المرتاب، يجوز أن يكون المرتاب مصدرا كالارتياب، ويجوز أن يكون مفعولا، والتقدير: ليس بالمرتاب فيه». (¬1) هو أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني الكاتب صاحب كتاب الموشح ومعجم الشعراء وغيرهما من المصنفات؛ روى عن ابن دريد وطبقته، وكان مائلا إلى التشيع، وهو أحد شيوخ الشريف المرتضى؛ توفى سنة 384. (ابن خلكان 1: 507 - 508). (¬2) حاشية ت (من نسخة): «قوله». (¬3) فى نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «الإعراب». (¬4) فى ت، ونسخة بحاشية الأصل: «من النساء». (¬5) حاشية الأصل: «جمع غريرة؛ وهى التى لم تجرب الأمور». (¬6) الخبر في (البيان والتبيين 1: 147). (¬7) عيون الأخبار 2: 161.

خبر أسير بنى العنبر فى بكر بن وائل ورسالته إلى قومه وشرح ما فيه من كنايات

الصّولىّ قال حدثنى يحيى بن على المنجّم قال حدثنى أبى قال: قلت للجاحظ: مثلك فى عقلك وعلمك بالأدب ينشد قول الفزارىّ ويفسّره على أنه أراد اللحن فى الإعراب! وإنما أراد وصفها بالظّرف والفطنة وأنها تورّى (¬1) بما قصدت له وتتنكّب التصريح به، فقال له: قد فطنت لذلك بعد، فقلت (¬2): فغيّره من كتابك، فقال: فكيف بما سارت به الركبان! قال الصّولىّ: فهو فى كتابه على خطئه. *** [خبر أسير بنى العنبر فى بكر بن وائل ورسالته إلى قومه وشرح ما فيه من كنايات] / ومن حسن اللحن الّذي هو التعريض والكناية ما أخبرنا به أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن دريد الأزدىّ أنّ رجلا من بنى العنبر حصل أسيرا فى بكر بن وائل، فسألهم رسولا إلى قومه فقالوا: لا ترسل إلا بحضرتنا؛ لأنهم كانوا عزموا على غزو قومه، فخافوا أن ينذرهم؛ فجئ بعبد أسود، فقال له: أتعقل؟ قال: نعم؛ إنى لعاقل، قال: ما أراك عاقلا، وأشار بيده إلى الليل فقال: ما هذا؟ فقال: هذا الليل، قال: أراك عاقلا، ثم ملأ كفّيه من الرّمل فقال: كم؟ فقال: لا أدرى وإنّه لكثير. فقال: أيّما أكثر؟ النجوم أم النيران (¬3)؟ فقال: كلّ كثير، فقال: أبلغ قومى التحية، وقل لهم: ليكرموا فلانا- يعنى أسيرا كان فى أيديهم من بكر- فإنّ قومه لى مكرمون، وقل لهم: إن العرفج قد أدبى (¬4)، وشكت النساء؛ وأمرهم (¬5) أن يعروا ناقتى الحمراء فقد أطالوا ركوبها، وأن يركبوا جملى الأصهب (¬6)، بآية ما أكلت معكم حيسا، واسألوا عن خبرى أخى الحارث. فلما أدّى العبد الرسالة إليهم قالوا: لقد جنّ الأعور، والله ما نعرف له ناقة حمراء ولا جملا أصهب، ثم سرّحوا العبد، ودعوا الحارث فقصّوا عليه القصّة، فقال: قد أنذركم، ¬

_ (¬1) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): «تورى عما قصدت». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «قلت». (¬3) م: «أم التراب». (¬4) فى حاشيتى الأصل، ف: «العرفج: جنس من الشوك، وأدبى الرمث إذا أشبه ما يخرج من ورقه الدبا، والدبا: صغار الجراد؛ وحينئذ يصلح أن يؤكل، والرمث: من مراعى الإبل؛ وهو من الحمض». (¬5) فى نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «ومرهم». (¬6) فى حاشيتى الأصل، ف: «الأصهب: ما اختلط البياض بحمرته».

تأويل خبر"من أحبنا أهل البيت؛ فليستعد للفقر جلبابا، أو تجفافا

أمّا قوله: «أدبى العرفج» يريد أن الرجال قد استلأموا ولبسوا السلاح، وقوله: «شكت النساء»؛ أى اتخذن الشّكاء (¬1) للسّفر، وقوله: «الناقة الحمراء»، أى ارتحلوا عن الدّهناء. واركبوا الصّمّان (¬2)؛ وهو الجمل الأصهب (¬3). وقوله: «أكلت معكم حيسا» يريد أخلاطا من الناس قد غزوكم، لأن الحيس يجمع التمر والسمن والأقط. فامتثلوا ما قال، وعرفوا لحن كلامه. تأويل خبر «*» [«من أحبّنا أهل البيت؛ فليستعدّ للفقر جلبابا، أو تجفافا] روى أبو عبيد القاسم بن سلام فى كتابه غريب الحديث، عن أمير المؤمنين عليه السلام (¬4) أنه قال: «من أحبّنا أهل البيت؛ فليستعدّ (¬5) للفقر جلبابا، أو تجفافا (¬6)». قال أبو عبيد: قد تأوّل بعض الناس هذا الخبر على أنه أراد به الفقر فى الدّنيا، قال: وليس ذلك كذلك؛ لأنّا نرى فيمن يحبّهم مثل ما نرى فى سائر الناس، من الغنى والفقر، ولا تمييز (¬7) بينهما، قال: والصّحيح أنه أراد الفقر فى يوم القيامة، وأخرج الكلام مخرج الموعظة والنصيحة والحثّ على الطاعات، فكأنه أراد: من أحبنا فليعدّ لفقره يوم القيامة ما يجبره (¬8) من الثّواب، والقرب إلى الله تعالى، والزّلف (¬9) عنده. ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «جمع شكوة، وهى السقاء الصغيرة». (¬2) حواشى الأصل، ت، ف: «الدهناء: هى أرض فى بلاد تميم، يمد ويقصر. والصمان: أصله الأرض الغليظة، والصمان: موضع إلى جنب رمل عالج؛ وقال: حتى أتى علم الدّهنا يواعسه … والله أعلم بالصّمّان ما جشموا قوله: «يواعسه»، من الوعساء، وهى الرمل، وهو فى موضع الحال، أى مواعسا آخذا فى اللين من الأرض، وقوله: «ما جشموا» يجوز أن تكون «ما» استفهامية، ويجوز أن تكون بمعنى الّذي؛ وفى كلا الوجهين يكون نصبا لما دل عليه «أعلم» من الفعل». (¬3) حاشية ف: «أراد بالصمان الأرض؛ وكنى عنها بالجمل الأصهب». * ف: قبل هذا العنوان: «مجلس آخر». (¬4) ت: «صلوات الله عليه». (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «فليعد». (¬6) التجفاف؛ بكسر الباء وفتحها: ما يجلل به الفرس من سلاح وآلة تقيه الجراح، وقد يلبسه الإنسان أيضا. (¬7) ت: «ولا نميز»، وفى ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «ولا تميز». (¬8) فى ف، ونسخة بحاشيتى الأصل، ت: «ما يجيره». (¬9) حاشية ت (من نسخة): «الزافى».

قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن/ قتيبة: وجه الحديث خلاف ما قاله أبو عبيد، ولم يرد إلا الفقر فى الدّنيا؛ ومعنى الخبر أن من أحبّنا فليصبر على التقلّل من الدنيا والتقنّع فيها، وليأخذ نفسه بالكفّ عن أحوال الدنيا وأعراضها؛ وشبّه الصبر على الفقر بالتّجفاف أو الجلباب؛ لأنه يستر الفقر كما يستر الجلباب أو التّجفاف البدن. قال: ويشهد لصحة هذا التأويل ما روى عنه عليه السلام أنه رأى قوما على بابه، فقال: يا قنبر، من هؤلاء؟ فقال له قنبر: هؤلاء شيعتك، فقال: ما لي لا أرى فيهم سيما (¬1) الشيعة؟ قال: وما سيما الشّيعة؟ قال: خمص البطون من الطّوى، يبس الشفاه من الظّما، عمش العيون من البكاء؛ هذا كله قول ابن قتيبة. والوجهان جميعا فى الخبر (¬2) حسنان؛ وإن كان الوجه الّذي ذكره ابن قتيبة أحسن وأنصع (¬3). ويمكن أن يكون فى الخبر وجه ثالث تشهد بصحته اللّغة؛ وهو أن أحد وجوه معنى لفظة الفقر أن يحزّ أنف البعير حتى يخلص إلى العظم أو قريب منه، ثم يلوى عليه حبل، يذلّل بذلك الصّعب، يقال: فقره يفقره فقرا إذا فعل ذلك به، وبعير مفقور وبه فقرة، وكلّ شيء حززته وأثّرت فيه فقد فقّرته تفقيرا؛ ومنه سمّيت الفاقرة (¬4)، وقيل سيف مفقّر (¬5)؛ فيحمل [القول على أنه عليه السلام أراد] (¬6): من أحبّنا فليزمّ نفسه وليخطمها وليقدها إلى الطاعات، ويصرفها عمّا تميل طباعها إليه من الشّهوات، وليذللها على الصّبر عما كره منها، ومشقة ما أريد منها (¬7)؛ كما يفعل ذلك بالبعير الصّعب؛ وهذا وجه فى الخبر ثالث لم يذكر، وليس يجب أن يستبعد حمل الكلام على بعض ما يحتمله إذا كان له شاهد ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «سيمياء»، وفى حاشية الأصل: «سيما وسيمياء بمعنى». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «فى هذا الخبر». (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف: «نصع الخضاب، أى لمع وصار سواده براقا ناصعا». (¬4) حاشية الأصل: «الفاقرة: الداهية؛ وإنما سميت بذلك لأنها كاسرة فقار الظهر، من قولهم فقره، إذا أصاب فقار ظهره». (¬5) فى حاشيتى الأصل، ف: «السيف المفقر: الّذي فى متنه حزوز أى خطوط منقورة». (¬6) ت: «فيحتمل القول أن يكون عليه السلام أراد». (¬7) ط، م: «بها».

فصل ذكر بعض أخبار الشعراء المتقدمين ممن كان على مذاهب أهل العدل

من اللغة وكلام العرب؛ لأن الواجب على من يتعاطى تفسير غريب الكلام والشّعر أن يذكر كلّ ما يحتمله الكلام من وجوه المعانى؛ فيجوز (¬1) أن يكون أراد المخاطب كلّ واحد منها منفردا، وليس عليه العلم بمراده بعينه؛ فإن مراده مغيّب عنه، وأكثر ما يلزمه ما ذكرناه من ذكر وجوه احتمال الكلام. فصل [ذكر بعض أخبار الشعراء المتقدمين ممن كان على مذاهب أهل العدل] قال الشريف المرتضى رضى الله عنه: وممّن كان من مشهورى الشعراء ومتقدّميهم على مذاهب أهل العدل ذو الرّمة؛ واسمه غيلان بن عقبة، وكنيته أبو الحارث، وذو الرّمة/ لقب لقّب به لبيت قاله، وهو قوله فى صفة الوتد: * أشعث (¬2) باقى رمّة التّقليد* والرّمة: القطعة البالية من الحبل؛ يقال: حبل أرمام؛ إذا كان ضعيفا باليا؛ وقيل إنه إنما لقّب بذى الرّمة لأنه كان- وهو غلام- يتفزّع، فجاءته أمّه بمن كتب له كتابا وعلّقته عليه برمّة من حبل؛ فسمّى ذا الرّمة. ويشهد بمذهبه فى العدل ما أخبرنا به أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزبانىّ قال حدّثنا ابن دريد قال حدثنا أبو عثمان الأشناندانىّ عن التّوزيّ عن أبى عبيدة قال: اختصم رؤبة وذو الرّمّة عند بلال بن أبى بردة، فقال رؤبة: والله ما فحص طائر أفحوصا، ولا تقرمص سبع قرموصا (¬3) إلّا بقضاء من الله وقدر؛ فقال له ذو الرّمة: والله ما قدّر الله على الذّئب أن يأكل حلوبة (¬4) عيائل (¬5) ضرائك؛ فقال رؤبة: أفبقدرته أكلها؟ هذا كذب ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «ويجوز». (¬2) حاشية الأصل: «بكسر الثاء؛ لأن قبله: * وغير مشجوج القفا موتود* … أشعث ... وفى حاشية ف: «رمة التقليد؛ أى الرمة التى يجيء منها تقليد الوتد بها»، والبيت فى ديوانه: 155. (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف «تقرمص؛ أى اتخذ قرموصا، وهو الموضع الّذي يأوى إليه». (¬4) فى حاشيتى الأصل، ف: «الحلوبة: التى بها لبن يحلب؛ وأكثر ذلك فى النوق، وقد تستعمل فى غيرها». (¬5) فى حاشيتى ت، ف: «عيال الرجل: من يعوله، وواحد العيال عيل، مثل جيد وجياد وجيائد. والضريك: الضرير البائس الفقير؛ ولا يصرف له فعل، ولا يقال: ضركه بمعنى ضره؛ والجمع ضرائك وضركاء».

على الذئب ثان (¬1)، فقال ذو الرّمّة: الكذب على الذّئب خير من الكذب على ربّ الذّئب. وهذا الخبر صريح فى قوله بالعدل واحتجاجه عليه، وبصيرته فيه؛ فأما العيائل فهو جمع عيّل، وهو ذو العيال. والضرائك: جمع ضريك وهو الفقير. قال الشريف المرتضى رضى الله عنه: وأخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدّثنا أحمد ابن محمد المكىّ عن أبى العيناء عن الأصمعىّ عن إسحاق بن سويد قال: أنشدنى ذو الرّمة: وعينان قال الله كونا فكانتا … فعولان بالألباب ما تفعل الخمر (¬2) فقلت له: «فعولين» خبر الكون، فقال لى: لو سبّحت ربحت، إنما قلت: «وعينان فعولان» وصفتهما بذلك. وإنما تحرّز ذو الرّمة بهذا الكلام من القول بخلاف العدل. وقد روى هذا الخبر على خلاف هذا الوجه (¬3)؛ أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدثنى أحمد بن خالد النحاس (¬4) قال حدّثني (¬5) محمد بن القاسم أبو العيناء قال حدّثنا الأصمعىّ قال: لما أنشد ذو الرّمة قوله: وعينان قال الله كونا فكانتا … فعولين بالألباب ما تفعل الخمر - وهو يريد: كونا فكانتا فعولين حيث كانتا (¬6) - قال له عمرو بن عبيد (¬7): ويحك! قلت عظيما، فقل: «فعولان بالألباب»، فقال له ذو الرّمة، ما أبالى: أقلت هذا أم سبّحت، فلما علم بما ذهب إليه عمرو قال: سبحان الله! لو عنيت ما ظننت كنت جاهلا. ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «قوله «ثان» لا يعنى أنه كذب على الذئب مرتين؛ وإنما المعنى: إنك كاذب على الخلق فى أن أفعالهم ليست بفضاء من الله وقدر؛ لأنه وإن ذكر الطائر والسبع؛ فإنه يعنى به الخلق؛ ثم لما ذكر ذو الرمة الذئب قال رؤبة: هذا كذب على الذئب ثان لذلك الكذب الأول الّذي استشهدت عليه بالطائر والسبع». (¬2) ديوانه: 213. (¬3) الخبر فى (الأغانى 16: 117)، وفيه: «لو قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ كان خيرا لك». (¬4) حاشية ت (من نسخة): «النخاس». (¬5) حاشية ت (من نسخة): «حدثنا». (¬6) ت «خبر كانتا»، ولعله تحريف. (¬7) حاشية الأصل: «كان معتزليا عدليا».

ذكر بعض أخبار الشعراء المتقدمين ممن كان على مذهب أهل الجبر

قال الشريف المرتضى رضى الله عنه: وممّن روى أنه كان على مذاهب أهل العدل من شعراء الطبقة الأولى أعشى (¬1) قيس بن ثعلبة، واستشهد بقوله: استأثر الله بالوفاء وبال … عدل وولى الملامة الرّجلا (¬2) [ذكر بعض أخبار الشعراء المتقدمين ممن كان على مذهب أهل الجبر] وممّن قيل إنه كان على مذاهب أهل الجبر من المشهورين أيضا لبيد بن ربيعة العامرىّ، واستدلّ بقوله: إنّ تقوى ربّنا خير نفل … وبإذن الله ريثى وعجل (¬3) من هداه سبل الخير اهتدى … ناعم البال ومن شاء أضلّ وإن كان لا طريق (¬4) إلى نسب الجبر إلى مذهب لبيد إلا هذان البيتان فليس فيهما دلالة على ذلك، أما قوله: * وبإذن الله ريثى وعجل* فيحتمل أن يريد: بعلمه؛ كما يتأول عليه قوله تعالى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة: 102]؛ أى بعلمه، وإن قيل فى هذه الآية، إنه أراد: بتخليته وتمكينه، وإن كان لا شاهد لذلك فى اللغة أمكن مثله فى قول لبيد؛ فأما قوله: «من هداه اهتدى ومن شاء أضل» فيحتمل أن يكون مصروفا إلى بعض الوجوه التى يتأول عليها الضّلال والهدى المذكوران فى القرآن؛ مما يليق بالعدل ولا يقتضي الإجبار؛ اللهم إلا أن يكون مذهب لبيد فى الإجبار معروفا بغير هذه الأبيات؛ فلا يتأوّل له هذا التأويل؛ بل يحمل مراده على موافقة المعروف من مذهبه. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «قبيلة الأعشى». (¬2) ديوانه 155؛ وفى حاشيتى الأصل، ف: «استأثر الله؛ تستعمل مع الباء؛ يقال: استأثر الله به». (¬3) ديوانه: 39. (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «لا سبيل».

مسألة فى الاستدلال على نفى الرؤية بالأبصار

مسألة [فى الاستدلال على نفى الرؤية بالأبصار] قال الشّريف المرتضى رضى الله عنه: اعلم أن أصحابنا لمّا استدلّوا على نفى الرؤية بالأبصار عن الله تعالى بقوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103]، وبينوا أنه تعالى تمدّح بنفى الإدراك (¬1) الّذي هو رؤية البصر عن نفسه على وجه يرجع إلى ذاته؛ فيجب أن يكون فى ثبوت الرؤية له فى وقت من الأوقات نقص وذمّ. قال لهم مخالفوهم: كيف يتمدّح بأنه لا يرى، وقد يشاركه فى نفى الرؤية ما ليس بممدوح؛ كالمعدومات والإرادات والاعتقادات؟ فقالوا لهم: لم يتمدّح تعالى بنفى الرؤية فقط، وإنما تمدّح بنفى الرؤية عنه وإثباتها له، فتمدّحه بمجموع (¬2) الأمرين؛ وليس يشاركه فى هاتين الصفتين مشارك؛ لأن الموجودات المحدثات على ضروب؛ منها ما لا يرى ولا يرى كالإرادات والاعتقادات، ومنها ما يرى ولا يرى كالألوان، ومنها ما يرى ويرى كالإنسان وضروب الأحياء؛ وليس فيها ما يرى ولا يرى؛ فثبتت المدحة لله تعالى بمتضمّن الآية. فقال لهم المخالفون: وكيف/ يجوز أن تكون صفة لا تقتضى المدحة بانفرادها، ثم تصير تقتضيها مع غيرها! ولئن جاز هذا ليجوزنّ أن يتمدّح متمدح بأنه شيء عالم، أو موجود قادر؛ فإذا كان لا مدحة فى وصف الذات بأنها شيء وموجودة (¬3)، وإن انضمّت إلى صفة مدح من حيث كانت بانفرادها لا تقتضى مدحا، فكذلك لا مدحة فى نفى الرؤية عمّن ثبتت (¬4) له، من حيث كانت بانفرادها لا تقتضى مدحا. فأجاب أصحابنا عن هذا الكلام بأن قالوا: ليس يمتنع فى الصّفة أن تكون لا تقتضى مدحا إذا انفردت، وتقتضيه إذا انضمت إلى غيرها، ومثّلوا ذلك بقوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: 255]. وإنّ نفى السّنة والنّوم هاهنا إنما يكون مدحا إذا انتفى عمّن هو بصفة الأحياء، وإن كان بانفراده لا يقتضي مدحا لمشاركة ذوات كثيرة غير ¬

_ (¬1) ت: «بنفى إدراك البصر». (¬2) ت: «جميع»؛ وفى حاشيتها (من نسخة): «فتمدح بمجموع الأمرين». (¬3) د، ونسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «بأنها شيء موجود». (¬4) ش: «تثبت».

ممدوحة فيه، وفصلوا بين الوصف بالشيء والوجود، وبين ما ذكروا من حيث لا تأثير لهاتينك (¬1) الصّفتين فى المدح. واعلم أنّ صفات المدح المتضمنة للإثبات ما تكاد (¬2) تفتقر إلى شرط فى كونها مدحا. وصفات النفى إذا كانت مدحا فلا بدّ فيها من شرط؛ وإنما افترق الأمران من حيث كان النّفى أعمّ من الإثبات؛ فيدخل تحته الممدوح وغير الممدوح، والإثبات أشدّ اختصاصا؛ ألا ترى أنّ ما ليس بعالم من الذّوات وليس بموجود أكثر مما ثبت له العلم والوجود منها؟ لأنّ الأول لا يكون إلا غير متناه، والثانى لا بدّ أن يكون متناهيا، فلما شملت صفات النفى الممدوح وغير الممدوح احتاجت إلى شرط يخصّصها. وأنت إذا اعتبرت سائر صفات النّفى التى يتمدّح بها وجدتها مفتقرة إلى الشروط؛ ألا ترى أنّ من ليس بجاهل إنما يكون ممدوحا بهذا النفى إذا كان حيّا ذاكرا، ومن ليس بعاجز إنما يكون ممدوحا إذا كان أيضا موجودا حيا، ومن ليس بظالم إنما يكون ممدوحا إذا كان قادرا على الظلم وله دواع إليه، ولا بدّ فى الشرط الّذي يحتاج إليه فى صفات النفى حتى تكون مدحا من أن يكون أيضا إثباتا أو جاريا مجرى الإثبات، ولا يكون نفيا لأنه إن (¬3) كان نفيا لم يتخصص، وساوى (¬4) فيه الممدوح ما ليس بممدوح؛ مثال ذلك أنا إذا مدحنا غيرنا بأنه لا يظلم، وشرطنا فى هذه المدحة أنه لم يدعه داع (¬5) إلى الظلم لم تحصل المدحة، لأنه قد يشاركه فى نفى الظلم ونفى الدواعى إليه ما ليس بممدوح، فلا بدّ من شرط يجرى مجرى الإثبات؛ وهو أن تقول: وهو ممّن تدعوه الدواعى إلى/ الأفعال ويتصرّف فيها بحسب حاجته ودواعيه. فإذا صحّت هذه الجملة فالوجه أن نقول: إن المدحة فى الآية إنما تتعلّق بنفى الإدراك عن القديم تعالى، لكن بشرط أن يكون مدركا، ولا نجعل (¬6) كلّ ¬

_ (¬1) فى نسخة بحاشيتى ت، ف: «لتينك»، وفى حاشية ت أيضا (من نسخة أخرى): «لهاتين». (¬2) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «لا تكاد». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «إذا». (¬4) حاشية ت (من نسخة): «وشارك». (¬5) ت: «لم يدعه الداعى». (¬6) فى الأصل: «ونجعل»، وصححت فى الحاشية، وفى حاشيتى الأصل، ف: «فى النسخة المقروءة على السيد رضى الله عنه: «ولا نجعل»؛ كذا كان بخط الشجرى، وفى نسخة ص أيضا».

واحدة من الصفتين تقتضى المدح مجتمعا؛ مع أنّ كل واحدة لا تقتضيه على سبيل الانفراد. وليس بمنكر أن يقتضي الشيء غيره بشرط متى وجد حصل المقتضى، وإذا لم يحصل (¬1) لم يحصل مقتضاه، ونفى السّنة والنوم والظلم عن الله تعالى إنما كان مدحا بشروط معروفة على نحو ما ذكرناه؛ وهذا التلخيص فى هذا الموضع أولى وأحسم للشّبه (¬2) مما تقدّم ذكره. ¬

_ (¬1) فى نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «لم يوجد». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «للشبهة».

3

[3] مجلس آخر «*» [المجلس الثالث: ] تأويل آية [فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ] إن سأل سائل فقال: ما تقولون فى قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الشعراء: 32]، وقال فى موضع آخر: وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ (¬1) [القصص: 31]. والثّعبان هو الحيّة العظيمة الخلقة، والجانّ الصغير من الحيّات، فكيف اختلف الوصفان والقصة واحدة؟ وكيف يجوز أن تكون العصا فى حالة واحدة من صفة ما عظم خلقه من الحيّات، وبصفة ما صغر منها؟ وبأىّ شيء تزيلون التناقض عن هذا الكلام؟ . الجواب: أول ما نقوله (¬2): إن الّذي ظنه السائل من كون الآيتين خبرا عن قصة واحدة باطل؛ بل الحالتان مختلفتان؛ فالحال [التى أخبر عن العصا فيها بصفة الجان] (¬3) كانت فى ابتداء النبوّة، وقبل مصير موسى عليه السلام إلى فرعون، والحال التى صارت العصا فيها ثعبانا كانت عند لقائه فرعون وإبلاغه الرسالة؛ والتلاوة تدلّ على ذلك؛ وإذا اختلفت القصّتان فلا مسألة. على أن قوما من المفسّرين قد تعاطوا الجواب عن هذا السؤال؛ إمّا لظنّهم أن القصة واحدة، أو لاعتقادهم أن العصا الواحدة لا يجوز أن تنقلب فى حالتين: تارة إلى صفة الجانّ، ¬

_ * كذا فى ت، وفى الأصل، ف: «مجلس آخر ثالث». (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «لم يعقب: لم يرجع؛ وقيل لم يلتفت، وقيل لم يعطف ولم ينتظر؛ يقال: كر على القوم وما عقب. ويرى أهل النظر أنه مأخوذ من العقب؛ وروى عن سفيان: لم يعقب: لم يمكث، ويقال: عقب فى الأمر إذا تردد فى طلبه مجدا؛ وقوله تعالى: لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ؛ أى لا يحكم بعد حكمه حاكم، والمعقب: الّذي بكر على الشيء، وقوله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، أى للإنسان ملائكة يعقب بعضهم بعضا. وقال الفراء: ملائكة الليل تعقب ملائكة النهار؛ يعنى أنهم يتعاقبون ليلا ونهارا». (¬2) ت، د: «أول ما نقوله فى هذا». (¬3) ت: «فالحال التى أخبر أن العصا صارت فيها بصفة الجان ... ».

وتارة إلى صفة الثعبان؛ أو على سبيل الاستظهار فى الحجة، وأن الحال لو كانت واحدة على ما ظنّ لم يكن بين الآيتين تناقض؛ وهذا الوجه أحسن ما تكلّفوا الجواب لأجله؛ لأن الأولين لا يكونان إلا عن غلط أو غفلة، وذكروا وجهين تزول بكل واحد منهما الشبهة فى تأويلها: أحدهما أنه تعالى إنما شبّهها بالثعبان فى إحدى الآيتين لعظم خلقها، وكبر جسمها، وهول منظرها؛ وشبّهها فى الآية الأخرى بالجانّ لسرعة حركتها ونشاطها وخفّتها؛ فاجتمع لها مع أنها فى جسم الثعبان وكبر خلقه نشاط الجان، وسرعة حركته؛ وهذا أبهر فى باب الإعجاز، وأبلغ فى خرق العادة؛ ولا (¬1) تناقض معه بين الآيتين؛ وليس يجب إذا شبّهها بالثعبان أن يكون لها جميع صفات الثعبان، ولا إذا شبّهها بالجان أن يكون لها جميع صفاته، وقد قال الله تعالى: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا. قوارير من فضّة [الدهر: 15، 16]. ولم يرد تعالى أنّ الفضّة قوارير على الحقيقة؛ وإنما وصفها بذلك لأنه اجتمع لها صفاء القوارير وشفوفها ورقّتها؛ مع أنها من فضة؛ وقد تشبّه العرب الشيء بغيره فى بعض وجوهه؛ فيشبّهون المرأة بالظّبية والبقرة (¬2) ونحن نعلم أن فى الظباء والبقر من الصّفات ما لا يستحسن أن يكون فى النساء، وإنما وقع التشبيه فى صفة دون صفة، ومن وجه دون وجه (¬3). والجواب الثانى أنه تعالى لم يرد بذكر الجانّ فى الآية الأخرى الحيّة؛ وإنما أراد أحد الجنّ؛ فكأنه تعالى خبّر (¬4) بأن العصا صارت ثعبانا فى الخلقة وعظم الجسم؛ وكانت مع ذلك كأحد الجن فى هول المنظر وإفزاعها لمن شاهدها؛ ولهذا قال تعالى: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «فلا». (¬2) ت: «وبالبقرة». (¬3) ت: «دون آخر». (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «أخبر».

ويمكن أن يكون فى الآية تأويل آخر استخرجناه؛ إن لم يزد على الوجهين الأوّلين لم ينقص عنهما؛ والوجه فى تكلّفنا له ما بيّناه من الاستظهار فى الحجّة، وأنّ التناقض الّذي توهّم زائل على كل وجه (¬1)؛ وهو أنّ العصا لمّا انقلبت حيّة صارت أولا بصفة الجانّ وعلى صورته؛ ثم صارت بصفة الثّعبان؛ على تدريج؛ ولم تصر كذلك ضربة واحدة؛ فتتّفق الآيتان على هذا التأويل، ولا يختلف حكمهما، وتكون الآية الأولى التى تتضمن ذكر الثعبان إخبارا عن غاية حال العصا، وتكون الآية الثانية تتضمّن ذكر الحال التى ولى موسى فيها هاربا؛ وهى حال انقلاب العصا إلى خلقة الجان؛ وإن كانت بعد ذلك الحال انتهت إلى صورة الثعبان. فإن قيل على هذا الوجه: كيف يصح ما ذكرتموه مع قوله تعالى: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ؛ وهذا يقتضي أنها صارت ثعبانا بعد الإلقاء بلا فصل؟ قلنا: تفيد (¬2) الآية ما ظنّ؛ وإنما فائدة قوله تعالى: فَإِذا هِيَ الإخبار عن قرب الحال التى صارت فيها بتلك الصّفة؛ وأنّه لم يطل الزّمان فى مصيرها كذلك، ويجرى هذا مجرى قوله تعالى/: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس: 77]؛ مع تباعد ما بين كونه نطفة وكونه خصيما مبينا، وقولهم: ركب فلان من منزله فإذا هو فى ضيعته، وسقط من أعلى الحائط فإذا هو فى الأرض؛ ونحن نعلم أنّ بين خروجه من منزله وبلوغه ضيعته زمانا، وأنّه لم يصل إليها إلا على تدريج؛ وكذلك الهابط من الحائط؛ وإنما فائدة الكلام الإخبار عن تقارب الزّمان؛ وأنه لم يطل ولم يمتدّ. ¬

_ (¬1) ت: «على كل حال». (¬2) ت (من نسخة): «تقدير».

تأويل آية أخرى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم

تأويل آية أخرى [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ] قال الشريف المرتضى رضى الله عنه: قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف: 172، 173]. وقد ظنّ بعض من لا بصيرة له، ولا فطنة عنده أن تأويل هذه الآية أنّ الله تعالى استخرج من ظهر آدم عليه السلام جميع ذريته، وهم فى خلق الذّرّ، فقرّرهم بمعرفته، وأشهدهم على أنفسهم. وهذا التأويل- مع أنّ العقل يبطله ويحيله- مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه؛ لأن الله تعالى قال: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ، ولم يقل: من آدم، وقال: مِنْ ظُهُورِهِمْ، ولم يقل: من ظهره، وقال: ذُرِّيَّتَهُمْ، ولم يقل: ذرّيته؛ ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة: إنهم كانوا عن ذلك غافلين، أو يعتذروا بشرك آبائهم، وأنّهم نشئوا على دينهم وسنّتهم؛ وهذا يقتضي أنّ الآية لم تتناول ولد آدم عليه السلام لصلبه؛ وأنها إنما (¬1) تناولت من كان له آباء مشركون؛ وهذا يدلّ على اختصاصها ببعض ذرّية (¬2) بنى آدم؛ فهذه شهادة الظّاهر ببطلان تأويلهم، فأما شهادة العقول (¬3) فمن حيث لا تخلو هذه الذّرّية التى استخرجت من ظهر آدم عليه السلام فخوطبت وقرّرت من أن تكون كاملة العقول، مستوفية لشروط التكليف؛ أو لا تكون كذلك (¬4). فإن كانت بالصفة الأولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم وإنشائهم، وإكمال عقولهم ما كانوا عليه فى تلك الحال، وما قرّروا به، واستشهدوا عليه؛ لأنّ العاقل لا ينسى ما جرى هذا المجرى، وإن بعد العهد وطال الزمان؛ ولهذا لا يجوز أن يتصرّف أحدنا فى بلد من البلدان وهو عاقل كامل فينسى مع بعد العهد جميع تصرّفه المتقدّم/ وسائر أحواله. ¬

_ (¬1) ساقطة من ت، ف. (¬2) ت: «ولد آدم». (¬3) ت: «العقل». (¬4) ت: «أو لا تكون كاملة العقول مستوفية لشروط التكليف».

وليس أيضا لتخلّل الموت بين الحالين تأثير؛ لأنه لو كان تخلّل الموت يزيل الذكر لكان تخلّل النوم والسّكر والجنون والإغماء بين أحوال العقلاء يزيل ذكرهم لما مضى من أحوالهم؛ لأنّ سائر ما عددناه مما ينفى العلوم يجرى مجرى الموت فى هذا الباب. وليس لهم أن يقولوا: إذا جاز فى العاقل الكامل أن ينسى ما كان عليه فى حال الطفوليّة جاز ما ذكرناه؛ وذلك أنّا إنما أوجبنا ذكر العقلاء لما ادّعوه إذا كملت عقولهم من حيث جرى لهم (¬1) وهم كاملو العقول، ولو كانوا بصفة الأطفال فى تلك الحال لم نوجب عليهم ما أوجبناه. على أن تجويز النّسيان عليهم ينقض الغرض فى الآية، وذلك أنّ الله تعالى أخبر بأنه إنما قرّرهم وأشهدهم لئلا يدّعوا يوم القيامة الغفلة عن ذلك، وسقوط الحجّة عنهم (¬2) فيه؛ فإذا جاز نسيانهم له عاد الأمر إلى سقوط الحجة وزوالها، وإن كانوا على الصّفة الثانية من فقد العقل وشرائط التكليف قبح خطابهم وتقريرهم وإشهادهم، وصار ذلك عبثا قبيحا؛ يتعالى الله عنه. فإن قيل: قد أبطلتم تأويل (¬3) مخالفيكم، فما تأويلها الصحيح عندكم؟ قلنا فى هذه الآية وجهان: أحدهما أن يكون تعالى إنما عنى جماعة من ذرّية بنى آدم خلقهم وبلّغهم وأكمل عقولهم، وقرّرهم على ألسن (¬4) رسله عليهم السلام بمعرفته وما يجب (¬5) من طاعته، فأقرّوا بذلك، وأشهدهم على أنفسهم به؛ لئلا يقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين، أو يعتذروا بشرك آبائهم. وإنما أتى من اشتبه عليه تأويل الآية من حيث ظنّ أنّ اسم الذرية لا يقع إلّا على من لم يكن كاملا عاقلا؛ وليس الأمر كما ظنّ؛ لأنّا نسمّى جميع البشر بأنهم ذرية آدم؛ وإن دخل فيهم العقلاء الكاملون، وقد قال الله تعالى: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة)، ت، ف: «عليهم». (¬2) ت، حاشية الأصل (من نسخة) «عليهم». (¬3) م: «قول». (¬4) ت، د، حاشية ف (من نسخة): «لسان». (¬5) د، ت: «وما يجب عليهم».

جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [غافر: 8]. ولفظ الصالح لا يطلق إلا على من كان كاملا عاقلا؛ فإن استبعدوا تأويلنا وحملنا الآية على البالغين المكلّفين؛ فهذا جوابهم. والجواب الثانى أنّه تعالى/ لمّا خلقهم وركّبهم تركيبا يدلّ على معرفته ويشهد بقدرته ووجوب عبادته، وأراهم العبر والآيات والدّلائل فى أنفسهم وفى غيرهم كان بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم، وكانوا فى مشاهدة ذلك ومعرفته وظهوره فيهم على الوجه الّذي أراده تعالى، وتعذّر امتناعهم منه، وانفكاكهم من دلالته بمنزلة المقرّ المعترف؛ وإن لم يكن هناك إشهاد ولا اعتراف على الحقيقة؛ ويجرى ذلك مجرى قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11]، وإن لم يكن منه تعالى قول على الحقيقة، ولا منهما جواب، ومثله قوله تعالى: شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة: 17]. ونحن نعلم أنّ الكفار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم؛ وإنما (¬1) لمّا ظهر منهم ظهورا لا يتمكّنون من دفعه كانوا بمنزلة المعترفين به؛ ومثل هذا قولهم: جوارحى تشهد بنعمتك، وحالى معترفة بإحسانك. وما روى عن بعض الخطباء (¬2) من قوله: سل (¬3) الأرض: من شقّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا. وهذا باب كبير، وله نظائر كثيرة فى النظم والنثر؛ يغنى عن ذكر جميعها القدر الّذي ذكرناه منها. ¬

_ (¬1) د، ونسخة بحاشيتى الأصل، ف: «وإنما ذلك». (¬2) فى نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «الحكماء». (¬3) فى نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «هذا من كلام الفضل بن عيسى بن أبان، ذكره فى قصصه».

تأويل خبر"ليس منا من لم يتغن بالقرآن"

تأويل خبر [«ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن»] قال أبو عبيد القاسم بن سلّام فيما يروى عن النبىّ صلى عليه وآله: «ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن». قال: أراد: يستغنى به، واحتجّ بقولهم: تغنّيت تغنيا، وتغانيت تغانيا، وأنشد بيت الأعشى: وكنت امرأ زمنا بالعراق … عفيف المناخ طويل التّغنّ (¬1) وقول الآخر: كلانا غنىّ عن أخيه حياته … ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا (¬2) واحتجّ أيضا بقول ابن مسعود: «من قرأ سورة آل عمران فهو غنىّ»، أى مستغن، وبالحديث الآخر: «نعم كنز الصّعلوك سورة آل عمران يقوم بها (¬3) فى آخر الليل»؛ والصّعلوك الفقير، واحتجّ بحديث آخر يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أنه قال: «لا ينبغى لحامل القرآن أن يظنّ أنّ أحدا أعطى أفضل مما أعطى، لأنّه لو ملك الدنيا بأسرها لكان القرآن أفضل ممّا ملكه». واحتجّ أيضا بخبر يرفعه (¬4) عن عبد الله بن نهيك أنه دخل على سعد (¬5) بيته (¬6)، فإذا مثال رثّ، ومتاع رثّ، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن». قال أبو عبيد: فذكره المتاع الرثّ، والمثال الرثّ يدلّ على أن التغنّى بالقرآن الاستغناء به ¬

_ (¬1) ديوانه: 22، واللسان (غنى). (¬2) نسبه صاحب اللسان فى (غنى) إلى المغيرة بن حبناء التميمى؛ وذكره المبرد فى (الكامل 3: 14 - بشرح المرصفى) ضمن أبيات لعبد الله ابن معاوية، أولها: رأيت فضيلا كان شيئا ملفّفا … فكشّفه التّمحيص حتّى بدا ليا وقبله: فعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة … ولكنّ عين السّخط تبدى المساويا. (¬3) حاشية الأصل: «بقراءتها». (¬4) فى نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «يرويه». (¬5) حاشية الأصل: «هو سعد بن أبى وقاص». (¬6) كذا فى الأصل، وحاشية ف؛ وفى د، ف، وحاشية ت (من نسخة): «فى بيته».

عن الكثير من المال والمثال هو الفراش، قال الشاعر (¬1): بكلّ طوال السّاعد بن كأنّما … يرى بسرى اللّيل المثال الممهّدا (¬2) - يعنى الفراش. قال أبو عبيد: ولو كان معناه الترجيع لعظمت المحنة علينا بذلك؛ إذ كان من لم يرجّع بالقرآن فليس (¬3) منه عليه السلام. وذكر غير (¬4) أبى عبيد جوابا آخر، وهو أنه عليه السلام أراد: من لم يحسّن صوته بالقرآن. ولم يرجّع (¬5) فيه. واحتجّ صاحب هذا الجواب بحديث عبد الرحمن بن السائب قال: أتيت سعدا- وقد كفّ بصره- فسلمت عليه، فقال: من أنت؟ فأخبرته. فقال: مرحبا يا ابن (¬6) أخى، بلغنى أنك حسن الصوت بالقرآن، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: «إن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فمن لم يتغنّ بالقرآن فليس منا». فقوله: «فابكوا أو تباكوا» دليل على أن التغنّى التحنين والترجيع. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «لا يأذن الله لشيء من أهل الأرض إلا لأصوات المؤذّنين، والصوت الحسن بالقرآن». ومعنى قوله: «يأذن» يستمع له؛ يقال: أذنت للشيء آذن أذنا إذا استمعت له؛ قال الشاعر (¬7): صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به … وإن ذكرت بسوء (¬8) عندهم أذنوا ¬

_ (¬1) نسبه صاحب اللسان فى (مثل) إلى الأعشى. (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «أى بدل سرى الليل؛ كقولك شربت بالخمر ماء، أى بدل الخمر». (¬3) فى نسخة بحاشيتى ت، ف: «ليس». (¬4) د، وحاشية الأصل (من نسخة): «وذكر عن غير أبى عبيد جواب». (¬5) ت، د، ف: «ويرجع». (¬6) فى نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «بابن». (¬7) هو قعنب بن ضمرة؛ أحد شعراء الدولة الأموية، من أبيات فى (الحماسة- بشرح التبريزى 4 - 124، والاقتضاب 292، وشواهد المغنى 326)، وقبله: إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا … عنّى وما سمعوا من صالح دفنوا. (¬8) ف: «بشر».

وقال عدىّ بن زيد العبادىّ (¬1): أيّها القلب تعلّل بددن … إنّ همّى فى سماع وأذن (¬2) والأذن هو السّماع، وإنما حسّن (¬3) تكرير المعنى اختلاف اللفظ. وللعرب فى هذا مذهب معروف، ومثله: * وهند أتى من دونها النّأى والبعد* فأما الدّدن فهو اللهو/ واللعب، وفيه لغات ثلاث: دد على مثال دم، وددا على مثال فتى، وددن على مثال حزن؛ ومنه قول النبي عليه السلام: «ما أنا من دد ولا الدّد منّي (¬4)». فإن قيل: كيف يحمل قوله: «لا يأذن الله لشيء كإذنه لكذا وكذا» على معنى الإسماع، وهو تعالى سامع لكلّ شيء مسموع، فأىّ معنى للاختصاص؟ قلنا: ليس المراد هاهنا بالإسماع مجرد الإدراك، وإنما المراد به القبول، فكأنّه عليه السلام قال: إنّ الله تعالى لا يتقبّل أو يثيب على شيء من أهل الأرض كتقبّله وثوابه على كذا وكذا، ومن هذا قولهم: هذا كلام لا أسمعه، وخاطبت فلانا بكلام فلم يسمعه (¬5)، وإنما يريد نفى القبول لا الإدراك، والبيت الّذي أنشدناه يشهد بذلك، لأنه قال: * وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا* ونحن نعلم أنّهم يستمعون الذّكر بالخير والشر معا من حيث الإدراك؛ فوجه الاختصاص ما ذكرناه. ¬

_ (¬1) حاشية ت: «العباد قوم كانوا يخدمون النعمان فسماهم العباد وكان عدى هذا منهم»؛ وحاشية ف: «قوم اقتطعهم النعمان بخدمته؛ فكان يقال لهم عباد النعمان، فنسب عدى إليهم، «وكان نصرانيا». (¬2) حاشية الأصل: «البعد أقرب من النأى». (¬3) ش، ف: «وإنما حسن تكرير المعنى لاختلاف اللفظ». (¬4) فى حاشيتى الأصل، ف: «قوله عليه السلام: «منيه» هذه الهاء للاستراحة، وهى تدل على تأكد امتناعه من اللهو». وفى ج، وحاشيتى ت، ف (من نسخة): «منى». (¬5) فى حاشيتى ت، ف: «ومن هذا الباب قوله: دعوت الله حتى خفت ألا يكون الله يسمع ما أقول؛ أى يجيب».

وقد ذكر أبو بكر محمد بن القاسم الأنبارىّ وجها ثالثا فى الخبر، قال: أراد عليه السلام: [من لم يتلذّذ بالقرآن، ويستحله، ويستعذب] (¬1) تلاوته كاستحلاء أصحاب الطّرب للغناء والتذاذهم به. وسمّى ذلك تغنّيا من حيث يفعل عنده ما يفعل عند التغنّى بالغناء، وذكر أنّ ذلك نظير قولهم: العمائم تيجان العرب، والحباء (¬2) حيطان العرب، والشمس حمّامات العرب (¬3)؛ وأنشد بيت النابغة: بكاء حمامة تدعو هديلا … مفجّعة على فنن تغنّى (¬4) فشبّه صوتها لمّا أطرب إطراب الغناء بالغناء، وجعلوا العمائم لمّا قامت مقام التّيجان تيجانا؛ وكذلك القول فى الحباء والشمس. وجواب أبى عبيد أحسن الأجوبة وأسلمها، وجواب أبى بكر أبعدها؛ لأن التلذّذ لا يكون إلا فى المشتهيات، وكذلك الاستحلاء والاستعذاب. وتلاوة القرآن وتفهّم معانيه من الأفعال الشاقة، فكيف يكون ملذّا مشتهى (¬5)؟ ! فإن عاد إلى أن يقول: قد تستحلى التّلاوة من الصوت الحزين (¬6)، قلنا: هذا رجوع إلى الجواب الثانى الّذي رغبت عنه، وانفردت عند نفسك بما يخالفه. ويمكن أن يكون فى الخبر وجه رابع خطر لنا، وهو أن يكون قوله عليه السلام: / «من لم يتغنّ» من غنى الرجل بالمكان إذا طال مقامه به، ومنه قيل: المغنى والمغانى، قال الله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا [الأعراف: 92]، أى لم يقيموا بها، وقال ¬

_ (¬1) ف: «من لم يتلذذ بالقرآن ولم يستحله ولم يستعذب». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «جمع حبوة (بكسر الحاء وضمها معا)، والأصل فيه الاحتباء بالسيف، والاحتباء: شد اليدين أمام الركبتين، والاسم الحبوة». (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف: «أى يتنزل منزلة هذه الأشياء». (¬4) فى حاشيتى الأصل، ف: «الهديل: صوت الحمام وفرخها، ويحتمل المعنيين؛ أى تدعو دعاء، صوتها»؛ والبيت فى ديوانه 79. (¬5) فى حاشيتى الأصل (من نسخة)، ف (عن ش): «شيء ملذ؛ أى يحمل على الالتذاذ به، ويقال: لذذت بالشيء، ولذذته، أو وجدته لذيذا، أو عددته كذلك». (¬6) تحت هذه الكلمة فى الأصل: «من نسخة الشجرى»، وفى نسخة بحاشيتى الأصل، ت «الحسن».

الأسود بن يعفر (¬1) الإيادىّ: ولقد غنوا فيها بأنعم غنية … فى ظلّ ملك ثابت الأوتاد (¬2) وقول (¬3) الأعشى الّذي أنشده أبو عبيد وهو: وكنت امرأ زمنا بالعراق … عفيف المناخ طويل التّغنّ بطول المقام أشبه منه بالاستغناء، لأن المقام يوصف بالطول ولا يوصف الاستغناء بذلك، فكأنّ الأعشى أراد: إنّنى كنت ملازما لوطنى، مقيما بين أهلى، لا أسافر للانتجاع والطّلب؛ ويجرى قوله هذا مجرى قول حسّان بن ثابت الأنصارىّ: أولاد جفنة حول قبر أبيهم … قبر ابن مارية الكريم المفضل (¬4) أراد بقوله: «حول قبر أبيهم» أنهم ملوك لا ينتجعون (¬5)، ولا يفارقون محالّهم وأوطانهم؛ فيكون معنى الخبر على هذا الوجه: من لم يقم على القرآن؛ فلا يتجاوزه (¬6) إلى غيره، ولا يتعدّاه إلى سواه، ويتخذه مغنى ومنزلا ومقاما فليس منا. فإن قيل: أليس قد يتعدّى القرآن إلى السّنّة والإجماع وسائر أدلّة الشرع؟ فكيف يحظر علينا تعدّيه؟ قلنا: ليس فى ذلك تعدّ للقرآن، لأنّ القرآن دالّ على وجوب اتّباع السنّة وغيرها من أدلّة الشرع، فمن اعتمد بعضها فى شيء من الأحكام لا يكون متجاوزا للقرآن، ولا متعديا؛ فأمّا قوله عليه السلام: «ليس منّا» فقد قيل فيه: إنه لا يكون على أخلاقنا، واستشهد ببيت النابغة: ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل: «ويعفر (بضم الياء والفاء)، ويعفر أيضا (بضم الياء وكسر الفاء). ويعفر (بضم الياء والفاء) ينصرف لزوال شبه الفعل عنه». (¬2) البيت من قصيدة فى المفضليات 217، وفى د، ف، وحاشية الأصل (من نسخة)، والمفضليات «عيشة». (¬3) ت: «وبيت». (¬4) ديوانه: 80، وأولاد جفنة: ملوك غسان. (¬5) فى حاشيتى الأصل، ف: أى لا يحتاجون إلى الانتجاع؛ فهم مقيمون فى مكانهم». (¬6) حاشية ف: «ويتجاوزه ويتخذه»، وفى حاشية الأصل: «قال السيد: فى هذا الكلام اضطراب، والصحيح: «فيتجاوزه ويتعداه»؛ إلا أن تكون «لا» زائدة؛ والمعنى: من لم يقم على القرآن بحيث لا يتجاوزه إلى غيره، ويتعداه إلى سواه؛ ولم يتخذه مغنى، ويكون قوله «يتخذ» معطوفا على «يقم».

مسألة: الكلام على قوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة

إذا حاولت فى أسد فجورا … فإنّى لست منك ولست منّى (¬1) وقيل إنه أراد: ليس على ديننا، وهذا الوجه لا يليق إلّا بجوابنا الّذي اخترناه، وهو بعده بجواب أبى عبيد أليق، لأنه محال أن يخرج عن دين النبي صلى الله عليه وملّته من لم يحسّن صوته بالقرآن، ويرجّع فيه، أو من لم يتلذّذ بتلاوته ويستحليها. مسألة: [الكلام على قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ] / اعلم أنّ أصحابنا قد اعتمدوا فى إبطال ما ظنّه أصحاب الرؤية فى قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة 22 - 23]، على وجوه معروفة، لأنهم بيّنوا أنّ النظر ليس يفيد الرؤية، ولا الرؤية من أحد محتملاته، ودلّوا على أنّ النظر ينقسم إلى أقسام كثيرة؛ منها تقليب الحدقة الصحيحة حيال (¬2) المرئىّ طلبا لرؤيته؛ ومنها النظر الّذي هو الانتظار؛ ومنها النّظر الّذي هو التعطّف والرّحمة؛ ومنها النظر الّذي هو الفكر والتأمّل، وقالوا: إذا لم يكن فى أقسام النظر الرّؤية لم يكن للقوم بظاهرها تعلّق (¬3)، واحتجنا (¬4) جميعا إلى طلب تأويل للآية من غير جهة الرؤية. وتأوّلها بعضهم على الانتظار للثواب، وإن كان المنتظر فى الحقيقة محذوفا، والمنتظر منه مذكورا على عادة للعرب معروفة. وسلّم بعضهم أن النظر يكون الرؤية بالبصر، وحمل الآية على رؤية أهل الجنة لنعم الله تعالى عليهم؛ على سبيل حذف المرئىّ فى الحقيقة. وهذا كلام (¬5) مشروح فى مواضعه، وقد بيّنا ما يورد عليه، وما يجاب به عن الشّبهة المعترضة فى مواضع كثيرة. وهاهنا وجه غريب فى الآية حكى عن بعض المتأخرين (¬6): لا يفتقر معتمده إلى العدول عن الظاهر، أو إلى تقدير محذوف، ولا يحتاج إلى منازعتهم فى أنّ النظر يحتمل الرؤية، ¬

_ (¬1) ديوانه: 79. (¬2) ت، حاشية ف (من نسخة): «فى جهة المرئى». (¬3) ف: «التعلق». (¬4) ت، حاشية الأصل (من نسخة): «واحتاج جميعنا». (¬5) ت، ف: «وهذا الكلام». (¬6) فى حاشيتى ت، ف: «يعنى به الصاحب بن عباد رحمه الله».

أو لا يحتملها؛ بل يصح الاعتماد عليه؛ سواء كان النظر المذكور فى الآية هو الانتظار بالقلب، أو (¬1) الرؤية بالعين، وهو أن يحمل قوله تعالى: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ على أنه أراد به نعمة ربّها، لأن الآلاء النّعم، وفى واحدها أربع لغات: ألّا مثل قفا، وألى مثل رمى، وإلى مثل معى، وإلى مثل حسى؛ قال أعشى بكر بن وائل: أبيض لا يرهب الهزال ولا … يقطع رحما ولا يخون إلا (¬2) أراد أنه لا يخون نعمة، فأراد «بإلى ربّها» نعمة ربّها، وأسقط التنوين للإضافة. فإن قيل: فأىّ فرق بين هذا الوجه وبين تأويل من حمل الآية على أنّه أريد بها (¬3) إلى ثواب ربها ناظرة، بمعنى رائية لنعمه وثوابه؟ قلنا: ذلك الوجه يفتقر إلى محذوف، لأنه إذا جعل «إلى» حرفا/ ولم يعلّقها بالربّ تعالى، فلا بد من تقدير محذوف، وفى الجواب الّذي ذكرناه لا يفتقر إلى تقدير محذوف، لأن «إلى» فيه اسم يتعلق به الرؤية ولا يحتاج إلى تقدير غيره (¬4). ¬

_ (¬1) ت. «أم». (¬2) ديوانه: 155، واللسان (إلى) وفى حاشيتى الأصل، ف: «أبيض: كريم، والهزال كناية عن قلة ذات اليد، وخيانة النعمة أن يبخل بها». (¬3) ف: «به». (¬4) فى حاشيتى الأصل، ف: «الوجه الأول أحسن، وبمجارى كلام العرب أشبه، وفى الفصاحة أعرق؛ وذلك أن وجه الصاحب وإن كان له محمل فى العربية؛ فإن إعمال اسم الفاعل فيما قبله على هذا الوجه مما يحوج الإنسان إليه مضايق الشعر؛ والقرآن موضع فساحة، ومحل فصاحة، فالأولى غير هذا الوجه؛ والله أعلم».

4

[4] مجلس آخر [المجلس الرابع: ] تأويل آية [وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ] إن قال قائل: ما تأويل قوله تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس: 100]. وظاهر هذا الكلام يدلّ على أن الإيمان إنما كان لهم فعله بإذنه وأمره، وليس هذا مذهبكم؛ وإن حمل الإذن هاهنا على الإرادة اقتضى أنّ من لم يقع منه الإيمان لم يرده الله منه، وهذا أيضا بخلاف قولكم. ثم جعل الرّجس الّذي هو العذاب على الذين لا يعقلون؛ ومن كان فاقدا عقله لا يكون مكلّفا، فكيف يستحقّ العذاب؟ وهذا بالضد من الخبر المروىّ عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «أكثر أهل الجنة البله». الجواب، يقال له فى قوله تعالى: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وجوه: منها أن يكون الإذن الأمر، ويكون معنى الكلام: إن الإيمان لا يقع إلا بعد أن يأذن الله فيه، ويأمر به، ولا يكون معناه ما ظنّه السائل من أنه لا يكون للفاعل فعله إلا بإذنه، ويجرى هذا مجرى قوله تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران: 145]. ومعلوم أنّ معنى قوله: ليس لها فى هذه الآية هو ما ذكرناه، وإن كان الأشبه فى هذه الآية التى فيها ذكر الموت أن يكون المراد بالإذن العلم. ومنها أن يكون الإذن هو التوفيق (¬1) والتيسير والتسهيل، ولا شبهة فى أن الله يوفق لفعل الإيمان ويلطف فيه، ويسهّل السبيل إليه. ومنها أن يكون الإذن العلم من قولهم: أذنت لكذا وكذا إذا سمعته وعلمته، وآذنت فلانا بكذا إذا أعلمته؛ فتكون فائدة الآية الإخبار عن علمه تعالى بسائر الكائنات، فإنه ممن ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «فى هذه».

لا يخفى عليه الخفيّات .. وقد أنكر بعض من لا بصيرة له أن يكون الإذن (بكسر الألف وتسكين الذال) عبارة عن العلم، وزعم أن الّذي هو العلم الأذن (بالتحريك)، واستشهد بقول الشاعر (¬1): * إنّ همّى فى سماع وأذن* وليس الأمر على ما توهّمه هذا المتوهّم، لأن الأذن هو المصدر، والإذن هو اسم الفعل (¬2)؛ فيجرى مجرى الحذر فى أنه مصدر؛ والحذر (بالتسكين) الاسم على أنه لو لم يكن مسموعا إلا الأذن (بالتحريك) لجاز التسكين، مثل مثل ومثل وشبه وشبه ونظائر ذلك كثيرة. ومنها: أن يكون الإذن العلم، ومعناه إعلام الله المكلّفين بفضل الإيمان وما يدعو إلى فعله، ويكون معنى الآية: وما كان لنفس أن تؤمن إلّا بإعلام الله لها بما يبعثها على الإيمان، وما يدعوها إلى فعله. فأمّا ظنّ السائل دخول الإرادة فى محتمل اللفظ فباطل؛ لأنّ الإذن لا يحتمل الإرادة فى اللّغة، ولو احتملها أيضا لم يجب ما توهّمه، لأنه إذا قال: إنّ الإيمان لا يقع (¬3) إلا وأنا مريد له لم ينف أن يكون مريدا لما لم يقع، وليس فى صريح الكلام ولا دلالته (¬4) شيء من ذلك. وأما قوله تعالى: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ فلم يعن بذلك الناقصى العقول، وإنما أراد الّذين لم يعقلوا ويعلموا (¬5) ما وجب عليهم علمه من معرفة الله خالقهم، والاعتراف بنبوّة رسله والانقياد إلى طاعتهم، ووصفهم تعالى بأنّهم لا يعقلون تشبيها؛ ¬

_ (¬1) هو عدى بن زيد العبادى؛ وقد تقدم البيت بتمامه منسوبا إليه فى ص 33. (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «ومن هذا الباب الصرم؛ فإنه مصدر صرم، والصرم؛ بالضم اسم ذلك الفعل الّذي هو القطع؛ لا المصدر». (¬3) د، ف، حاشية ت (من نسخة): «لم يقع». (¬4) ف، حاشية ت (من نسخة): «ولا فى دليله». (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «ولم يعلموا».

كما قال تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة: 18]، وكما يصف أحدنا من لم يفطن لبعض الأمور، أو لم يعلم ما هو مأمور بعلمه بالجنون وفقد العقل. فأما الحديث الّذي أورده السائل شاهدا له فقد قيل إنه عليه وآله السلام (¬1) لم يرد بالبله ذوى الغفلة والنقص والجنون، وإنما أراد البله عن الشرّ والقبيح، وسمّاهم بلها عن ذلك من حيث لا يستعملونه ولا يعتادونه، لا من حيث فقدوا العلم به. ووجه تشبيه من هذه حاله بالأبلة ظاهر، فإنّ الأبله عن الشيء هو الّذي لا يعرض له ولا يقصد إليه، فإذا كان المتنزّه عن الشر معرضا عنه، هاجرا لفعله جاز أن يوصف بالبله للفائدة التى ذكرناها؛ ويشهد بصحة هذا التأويل قول الشاعر: ولقد لهوت بطفلة ميّادة … بلهاء تطلعنى على أسرارها (¬2) أراد أنها بلهاء عن الشر والريبة؛ وإن كانت فطنة لغيرهما؛ وقال أبو النّجم العجلىّ: من كل عجزاء سقوط البرقع (¬3) … بلهاء لم تحفظ ولم تضيّع أراد بالبلهاء ما ذكرناه. فأما قوله: «سقوط البرقع» فأراد أنها تبرز وجهها ولا تستره، ثقة [بحسنه وإدلالا بجماله] (¬4)، وقوله: «لم تحفظ» أراد أن استقامة طرائقها تغنى عن حفظها، وأنها لعفافها (¬5) ونزاهتها غير محتاجة إلى مسدّد وموقّف؛ وقوله: «لم تضيّع» أراد أنّها لم تهمل فى أغذيتها (¬6) وتنعيمها وترفيهها فتشقى، ومثل قوله: «سقوط البرقع» قول الشاعر (¬7): ¬

_ (¬1) ت: «إن النبي صلى الله عليه وآله»، ف: «إنه صلى الله عليه وآله». (¬2) الأضداد ص 202، واللسان (بله) - بلا عزو. والطفلة: الناعمة؛ وفى ت، د، ف: «ميالة». (¬3) اللسان (بله). (¬4) حاشية ت (من نسخة): «بحسنها وإدلالا بجمالها». (¬5) ش: «لعفافتها»، وفى حواشى الأصل، ت، ف: «عف يعف عفا وعفة وعفافة». (¬6) فى حاشيتى الأصل، ف: «الأولى فى معنى لم تضيع أنها لا تخلو من خدم يختصون بها؛ ليكون هذا التضييع مطابقا لذلك الحفظ». وفى حاشية ت (من نسخة): «فى تغذيتها». (¬7) هو عمر بن أبى ربيعة، والبيت فى ديوانه 33.

فلمّا تواقفنا وسلّمت أقبلت … وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا (¬1) ومثله أيضا: بها شرق من زعفران وعنبر … أطارت من الحسن الرّداء المحبّرا (¬2) أى رمت به عنها ثقة بالجمال والكمال (¬3)، ومثله- وهو مليح (¬4): لهونا بمنجول البراقع حقبة … فما بال دهر لزّنا بالوصاوص (¬5) أراد بمنجول البراقع اللاتى يوسعن عيون براقعهنّ ثقة بحسنهن، ومنه الطعنة النّجلاء، والعين النّجلاء؛ ثم قال: ما بال دهر أحوجنا واضطرنا إلى القباح، اللواتى يضيّقن عيون براقعهن لقبحهنّ، والوصاوص: هى النّقب الصّغار للبراقع؛ ومما يشهد للمعنى الأول الّذي هو الوصف بالبله لا بمعنى الغفلة قول ابن الدّمينة: بمالى وأهلى من إذا عرضوا له … ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب (¬6) - ويروى بنفسى وأهلى- ولم يعتذر عذر البريّ ولم تزل … به ضعفة (¬7) حتّى يقال مريب (¬8) ومثله: أحبّ اللّواتى فى صباهنّ غرّة … وفيهنّ عن أزواجهنّ طماح (¬9) ¬

_ (¬1) فى الديوان: «أشرقت» وفى حاشية ت (من نسخة): «أسفرت»، وفى حاشية الأصل (من نسخة): «تتبرقعا». (¬2) البيت للشماخ، ديوانه: 29. وفى حواشي الأصل، ت، ف: «الشرق: أثر الطيب؛ يقال: يده من الطيب شرقة. وشرقت الشمس: اصفرت من الغروب؛ ومنه أحمر شرق: شديد الحمرة، وشرق الثوب بالصبغ، ولحم شرق: لا دسم فيه». والمحبر: المنقش. (¬3) حاشية ت (من نسخة): «ثقة بجمالها وكمالها». (¬4) فى نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «حسن». (¬5) حاشية الأصل: «لزنا: أحوجنا». (¬6) الشعر والشعراء 459. وفى ت: «بأهلى ومالى». (¬7) ف، حاشية الأصل (من نسخة): «سكنة». (¬8) مريب: أنى بريبة. وفى حاشية الأصل. «أصل العذر أن تتعقب ذنبا، والبريء: لا ذنب له؛ إلا أن تنصله قائم مقام العذر للمجرم؛ فكأنه عذر مجازا». (¬9) البيتان فى مصارع العشاق 347، وعزاهما إلى بعض الأعراب، ورواية البيت الأول فيه: أحبّ اللواتى هنّ من ورق الصّبا … ومنهنّ عن أزواجهنّ طماح ويقال: طمح ببصره؛ إذا رمى به، وفى حاشية الأصل: «طماح: شماس».

مسرّات حبّ مظهرات عداوة … تراهنّ كالمرضى وهنّ صحاح ومثله: يكتبين الينجوج فى كبد المش … تى وبله أحلامهنّ وسام (¬1) أما قوله: «يكتبين» فمأخوذ من لفظ الكباء، وهو العود، أراد يتبخّرن به، والينجوج هو/ العود، وفيه ست لغات: ينجوج، وأنجوج، ويلنجوج، وألنجوج، وألنجج، ويلنجج. فأما كبد المشتى، فهو ضيقته (¬2) وشدّته، ومنه قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ [البلد: 4]؛ وقد روى: «فى كبّة المشتى» والمعنى متقارب، لأن الكبّة هى الصدمة والحملة، مأخوذ من كبّة (¬3) الخيل؛ وأما الوسام فهنّ (¬4) الحسان من الوسامة، وهى الحسن. ويمكن أن يكون فى البله جواب آخر، وهو أن يحمل على معنى البله الّذي هو الغفلة والنقصان فى الحقيقة، ويكون معنى الخبر أنّ أكثر أهل الجنة الذين كانوا بلها فى الدنيا، فعندنا أن الله ينعّم الأطفال فى الجنة والمجانين والبهائم، وإنما لم نجعلهم بلها فى الجنة وإن كان ما يصل إليهم من النعيم على سبيل العوض أو التفضّل (¬5) لا يفتقر إلى كمال العقل، لأنّ الخبر ورد بأن الأطفال والبهائم إذا دخلوا الجنّة لم يدخلوها إلا وهم على أفضل الحالات وأكملها، ولهذا صرفنا البله عنهم فى الجنة، ورددناه إلى أحوال الدنيا، وإلّا فالعقل لا يمنع من ذلك كمنعه إياه فى باب الثواب والعقاب. ¬

_ (¬1) البيت لأبى دؤاد الإيادى، وهو فى الأصمعيات 68، وفى حاشية الأصل: «أى عقولهن بله، وهن وسام، وواحد الوسام وسيم». (¬2) ت: «ضيقة»، ش: «ضيقته»، بكسر الضاد وفى حاشيتى ت، ف: «الضيقة: الضر والبؤس؛ وهو الضيق أيضا». (¬3) فى نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «فهى». (¬4) حاشية الأصل: «وهو ازدحامهما». (¬5) فى نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «فإن التفضل». د: «والتفضل».

تأويل آية أخرى ذلك يوم مجموع له الناس ...

تأويل آية أخرى [ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ... : ] قال الله تعالى مخبرا عن يوم القيامة: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ، وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هود: 103 - 105]. وقال فى موضع آخر: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 35، 36]. وفى موضع آخر: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: 27، والطور: 25]. وظاهر هذه الآيات ظاهر الاختلاف، لأن بعضها ينبئ عن أنّ النطق لا يقع منهم فى ذلك اليوم، ولا يؤذن لهم فيه، وبعضها ينبئ عن خلافه. وقد قال قوم من المفسّرين فى تأويل (¬1) هذه الآيات: إن يوم القيامة يوم طويل ممتدّ، فقد يجوز أن يمنع النّطق فى بعضه، ويؤذن لهم فى بعض آخر (¬2)؛ وهذا الجواب يضعّف، لأن الإشارة إلى يوم القيامة بطوله، فكيف يجوز أن تجعل الحالات فيه مختلفة؛ وعلى هذا التأويل يجب أن يكون قوله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ فى بعضه، والظاهر بخلاف ذلك. والجواب السديد عن هذا أن يقال: إنما أراد الله تعالى/ نفى النّطق المسموع المقبول الّذي ينتفعون به، ويكون لهم فى مثله عذر أو حجّة، ولم ينف النطق الّذي ليست هذه حاله، ويجرى هذا مجرى قولهم: خرس فلان عن حجّته، وحضرنا فلانا يناظر فلانا فلم يقل شيئا، وإن كان الّذي وصف بالخرس عن الحجّة، والّذي نفى عنه القول قد تكلّم بكلام كثير غزير، إلّا أنّه من حيث لم يكن فيه حجّة، ولا به منفعة جاز إطلاق القول الّذي حكيناه عليه؛ ومثل هذا قول الشاعر (¬3): ¬

_ (¬1) ت: «تأويلات». (¬2) ف: «فى موضع آخر». (¬3) هو مسكين الدارمى؛ وهو ربيعة بن عامر بن أنيف؛ والبيتان فى (معجم الأدباء 11: 132). وفى حاشية الأصل: «قبلهما»: ما ضرّ جارا لى أجاوره … ألّا يكون لبابه ستر.

أعمى إذا ما جارتى خرجت … حتّى يوارى جارتى الخدر ويصمّ عمّا كان بينهما … سمعى وما بى غيره وقر (¬1) وقال الآخر: لقد طال كتمانيك (¬2) حتّى كأنّنى … بردّ جواب السّائلى عنك أعجم (¬3) وعلى هذا التأويل قد زال الاختلاف، لأنّ التساؤل والتلاؤم لا حجّة فيه .. وأما قوله تعالى: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، فقد قيل: إنهم غير مأمورين بالاعتذار، فكيف يعتذرون؟ ويجاب بحمل الإذن على الأمر؛ وإنّما لم يؤمروا به من حيث كانت تلك الحال لا تكليف فيها، والعباد ملجئون عند مشاهدة أحوالهم إلى الاعتراف والإقرار. وأحسن من هذا التأويل أن يحمل لِيُؤْذَنَ، على معنى أنه لا يستمع لهم، ولا يقبل عذرهم، والعلة فى امتناع قبول عذرهم هى التى ذكرناها (¬4). ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «يريد به؛ أى بقوله «بينهما» جاره وجارته؛ لأنه ذكر الجار قبل الجارة فى قوله: ما ضر جارا ... البيت»، وفى حاشية ف: «بينهما، أى بين الجار وبين من تخاطبه؛ والكلام يدل على متخاطبين». (¬2) حاشية الأصل: «كتمانى أمرك وعشقك». (¬3) فى حاشيتى ت، ف: «بعده: لأسلم من قول الوشاة وتسلمى … سلمت وهل حىّ على الناس يسلم. (¬4) حواشى الأصل، ت، ف: «قوله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ؛ التقدير: لا ينطقون بنطق ينفعهم، ولا يعتذرون بعذر ينفعهم، فيكون يعتذرون داخلا فى حيز النفى، ولا يمكن حمله على الإيجاب إلا إذا كان المعنى على أنهم ينطقون بنطق ينفعهم؛ لأنه إن حمل على الظاهر كان فى الكلام تناقض؛ لأن التقدير إذا: هذا يوم لا ينطقون فيعتذرون؛ وهذا تناقض، لأن الاعتذار نطق، وإن شئت كان التقدير: لا ينطقون بحال، ولا يعتذرون؛ لأن هناك مواقف؛ فيكون هذا فى موقف؛ ومثله قراءة الحسن والثقفي: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، فقوله: يَمُوتُونَ معطوف على لا يُقْضى أى لا يقضى عليهم فلا يموتون؛ كذلك لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون؛ أى فلا يعتذرون؛ وهذا أحسن، والله أعلم».

تأويل خبر: "لا تسبوا الدهر، فإن الدهر هو الله".

تأويل خبر [: «لا تسبّوا الدّهر، فإنّ الدّهر هو الله».] روى عن النبىّ صلى الله عليه وآله أنه قال: «لا تسبّوا الدّهر، فإنّ الدّهر (¬1) هو الله». وقد ذكر قوم فى تأويل هذا الخبر أنّ المراد به لا تسبّوا الدهر، فإنه لا فعل له، وإنّ الله مصرّفه ومدبّره، فحذف من الكلام ذكر المصرّف والمدبّر وقال: «هو الدهر». وفى هذا الخبر وجه هو أحسن من ذلك الّذي حكيناه، وهو أنّ الملحدين، ومن نفى الصانع من العرب كانوا ينسبون ما ينزل بهم من أفعال الله تعالى كالمرض والعافية، والجدب والخصب، والبقاء والفناء إلى الدّهر، جهلا منهم بالصّانع جلّت عظمته، ويذمّون الدهر ويسبّونه فى كثير من الأحوال، من حيث اعتقدوا أنه الفاعل بهم/ هذه الأفعال، فنهاهم النبىّ صلى الله عليه وآله عن ذلك وقال لهم: لا تسبّوا من فعل بكم هذه الأفعال ممّن تعتقدون أنه هو الدّهر، فإن الله تعالى هو الفاعل لها. وإنما قال: إنّ الله هو الدهر من حيث نسبوا إلى الدّهر أفعال الله؛ وقد حكى الله تعالى عنهم قولهم: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجائية: 24]. وقال لبيد: فى قروم سادة من قومه … نظر الدّهر إليهم فابتهل (¬2) أى دعا عليهم. وقال عمرو بن قمئة (¬3): كأنّى وقد جاوزت تسعين (¬4) حجّة … خلعت بها عنّى عذار لجامى (¬5) على الرّاحتين مرّة وعلى العصا … أنوء ثلاثا (¬6) بعدهنّ قيامى رمتنى بنات الدّهر (¬7) من حيث لا أرى … فكيف بمن يرمى وليس برامى ¬

_ (¬1) كذا فى الأصل، ج، د، ش. وفى ت، ف: «فإن الله هو الدهر». (¬2) ديوانه: 80. وفى حاشية الأصل: «قروم: جمع قرم؛ وهو سيد وشريف وكريم؛ وابتهل؛ من المباهلة، أى تضرع وذل». (¬3) الأبيات فى المعمرين 62، وحماسة البحترى 321. (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «سبعين». (¬5) فى حاشيتى الأصل، ف: يقول: «إن تسعين تركننى لا أضبط أمرا؛ فكأنى مخلوع العذار». والضمير فى بها يعود إلى تسعين. (¬6) فى حاشيتى الأصل، ف: «أى ثلاث دفعات». (¬7) فى حاشيتى الأصل، ف: «بنات الدهر: بلا ياء وحوادثه».

فلو أنّها نبل إذا لاتقيتها … ولكنّنى أرمى بغير سهام إذا ما رآنى النّاس قالوا ألم تكن … جليدا حديد الطّرف غير كهام وأفنى وما أفنى من الدّهر ليلة … ولم يغن ما أفنيت سلك نظام (¬1) وأهلكنى تأميل يوم وليلة … وتأميل عام بعد ذاك وعام وقال الأصمعىّ: ذمّ أعرابىّ رجلا فقال: هو أكثر ذنوبا من الدهر؛ وأنشد الفراء (¬2): حنتنى حانيات الدّهر حتّى … كأنّى خاتل أدنو لصيد (¬3) قصير الخطو يحسب من رآنى … ولست مقيّدا أنّى بقيد وقال كثيّر (¬4): وكنت كذى رجلين رجل صحيحة … ورجل (¬5) رمى فيها الزّمان فشلّت وقال آخر (¬6): فاستأثر الدّهر الغداة بهم … والدّهر يرمينى وما أرمى يا دهر قد أكثرت فجعتنا … بسراتنا (¬7) ووقرت فى العظم أما قوله: وقرت فى العظم، أراد به: اتّخذت فيه وقرا، أو وقيرة، والوقر هو الحفيرة/ العظيمة تكون فى الصّفا يستنقع فيها ماء المطر، والوقب أيضا كذلك، والوقيرة أيضا الحفيرة إلا أنّها دون الأوليين فى الكبر. وكل هؤلاء الذين روينا أشعارهم نسبوا أفعال الله التى لا يشاركه فيها غيره إلى الدهر، فحسن وجه التأويل الّذي ذكرناه. ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «أى لم يغن ما أفنيت من العمر بشيء حتى بخيط». (¬2) البيتان فى حماسة البحترى 323. (¬3) ت، ف: «حابل»: . (¬4) أمالى القالى 1: 109، من تائيته المشهورة. (¬5) ف، حاشية ت (من نسخة): «وأخرى». (¬6) هو الأعشى، والبيتان فى ملحقات ديوانه 258، وثانيهما فى اللسان (وقر) وفى حاشية الأصل: بعدهما: وسلبتنا ما لست تعقبنا … يا دهر ما أنصفت فى الحكم. (¬7) حاشية الأصل: «جمع السرى، ورجل سرى، والقوم سراة».

مسألة فى ذكر المنافع التى عرض الله الإحياء لها

مسألة [فى ذكر المنافع التى عرض الله الإحياء لها] اعلم أن المنافع التى عرّض الله تبارك وتعالى الأحياء لها ثلاث: منفعة تفضّل، ومنفعة عوض، ومنفعة ثواب، فأمّا المنفعة على سبيل التفضّل فهى الواقعة ابتداء من غير سبب استحقاق، ، ولفاعلها أن يفعلها، وله ألّا يفعلها، وأما منفعة العوض فهى المنفعة المستحقة من غير مقارنة شيء من التعظيم والتبجيل لها، وأمّا منفعة الثواب فهى المستحقة على وجه التعظيم والتبجيل فمنفعة العوض تبين من التفضل بالاستحقاق، والثواب يبين من العوض بالتعظيم والتبجيل، المصاحبين له؛ فكأنّ التفضل أصل لسائر المنافع من حيث يجب تقدمه وتأخر ما عداه؛ لأنه لا سبيل للمنتفع أن ينتفع بشيء دون أن يكون حيّا له شهوة (¬1)، والابتداء بخلق الحياة والشهوة تفضّل، فقد صحّ (¬2) أنه لا سبيل إلى النفع بمنفعة العوض والثواب إلا بعد تقدّم التفضّل. فأمّا المنفعة بالثواب فهى الأصل للمنفعة بالعوض؛ لأنّ الآلام وما جرى مجرى الآلام (¬3) مما يستحقّ به العوض متى لم يكن فيها اعتبار يفضى إلى الثواب، ويستحق به لم يحسن فعلها، وجرى عندنا مجرى العبث، ولهذا نقول: إن الله تعالى لو لم يكلّف أحدا من المكلّفين ما كان يحسن منه أن يبتدئ بالآلام (¬4)، وإن عوّض عليها. والأحياء على ضروب فمنهم من عرّض للمنافع الثلاث. ومنهم من عرّض لاثنتين، ومنهم من عرّض لواحدة، والمكلّف المعرّض للثواب لا بدّ أن يكون منفوعا بالتفضّل من الوجه الّذي قلنا؛ لأنه إذا خلق حيّا وفعل له القدرة والشهوة والعقل وضروب التمكين، فقد نفع بالتفضّل، وليس يجب فيمن هذه حاله أن يكون منفوعا بالعوض؛ لأنّه لا يمتنع أن يخلو المكلّف منّا من ألم يحدثه (¬5) الله به؛ فلا يكون معرّضا للعوض؛ فمتى عرّض له فقد تكاملت فيه المنافع؛ فصار/ المكلّف مقطوعا على تعريضه لاثنتين من المنافع؛ ومجوّزا تكامل الثلاث له؛ فأما من ليس بمكلّف فمقطوع فيه على إحدى المنافع، وهى التفضّل من حيث ¬

_ (¬1) ش، ومن نسخة بحاشية ت: «ذا شهوة». (¬2) ش، ومن نسخة بحاشية ت: «وضح». (¬3) فى حاشيتى ت، ف: «الجارى مجرى الآلام كنقص الأموال والأولاد». (¬4) فى حاشية ت (من نسخة): «بآلام». (¬5) ت «يبتدئه».

خلق حيا، ومسكّن من كثير من المنافع، ومشكوك فى تعريضه للعوض من الوجه الّذي بيّنا. وكما قطعنا على إحدى المنافع فيه، فنحن قاطعون أيضا على نفى التعريض للثواب عنه، لفقد ما يوصّل (¬1) إليه وهو التكليف، ولا بد فى كل حىّ محدث أن يكون معرّضا لإحدى هذه المنافع، أو لجميعها؛ وإنما أوجبنا (¬2) ذلك من جهة حكمة القديم تعالى؛ لا من جهة أنه يستحيل [فى نفسه، وإنما قلنا إنه ليس يستحيل] (¬3)؛ لأن كونه حيا وعاقلا وذا شهوة وقدرة ليس منفعة بنفسه، وإنما يكون منفعة ونعمة إذا فعل تعريضا للنفع؛ فأما إذا فعل تعريضا للضرر أو لأوجه من الوجوه، فإنه لا يكون نعمة ولا منفعة، وأوجبناه من جهة حكمة القديم تعالى، لأنه إذا جعل الحىّ بهذه الصفات، فلا يخلو من أن يكون أراد بها نفعه أو ضرّه، أو لم يرد بها شيئا، فإن كان الأول فهو الّذي أوجبناه، وإن كان الثانى أو الثالث فالقديم تعالى متنزه (¬4) عنهما، لأنّ الثانى يجرى مجرى الظلم، والثالث هو العبث بعينه، وقد يشارك القديم تعالى فى النفع بالتفضّل والعوض الفاعلون المحدثون، ولا يصح أن يشاركوه فى النفع بالثواب، لأن الصفة التى يستحق المكلّف لكونه عليها الثواب، وهى كون الفعل شاقّا عليه لا يكون إلّا من قبله تعالى، وليس لأحد أن يظن فيمن يهدى إلى الدين ويرشد إلى الإيمان، وما يستحقّ به الثواب أنه معرّض للثواب، وذلك أن (¬5) المكلّف قد يكون معرّضا للثواب، ويصح أن يستحقه من دون كل هداية وإرشاد يقع منّا، ولولا الصفة التى جعله الله تعالى عليها لم يصحّ (¬6) أن يستحقّه، فبان الفصل بين الأمرين؛ على أنّ أحدنا وإن نفع غيره بالتفضل وبالتعريض للعوض فهذه المنافع منسوبة إلى الله تعالى، ومضافة إليه من قبل أنه لولا نعمه ومنافعه لم تكن هذه منافع ولا نعما؛ ألا ترى أنه لو لم يخلق الحياة والشهوة/ لم يكن ما يوصل إليهما مما ذكرنا منفعة ولا نعمة، ولو لم يخلق المشتهى الملذوذ لم يكن سبيل لنا إلى النفع والإنعام؛ فبان بهذه الجملة ما قصدناه. ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «يوصله». (¬2) فى نسخة بحاشيتى ت، ف: «وجب». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «مستحيل»، وحاشية ف (من نسخة): «بمستحيل». (¬4) ت، وحاشية ف (من نسخة): «متنزه». (¬5) حاشية ت (من نسخة): «لأن». (¬6) ساقطة من ت.

5

[5] مجلس آخر [المجلس الخامس: ] تأويل آية: [كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ.] إن سأل سائل فقال: ما تأويل قوله تبارك وتعالى مخبرا عن مهلك قوم فرعون وتوريثه نعمهم: كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ. فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ؛ [الدخان: 28، 29]. وكيف يجوز أن يضيف البكاء إليهما، وهو لا يجوز فى الحقيقة عليهما؟ . الجواب، يقال له فى هذه الآية وجوه أربعة من التأويل: أوّلها أنه تعالى أراد أهل السماء والأرض فحذف كما حذف فى قوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ؛ [يوسف: 82]؛ وفى قوله تعالى حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها؛ [محمد: 4] وأراد أهل القرية، وأصحاب الحرب، ويجرى ذلك مجرى قولهم: السخاء حاتم، يريدون: السخاء سخاء حاتم؛ قال الحطيئة (¬1): وشرّ المنايا ميّت وسط أهله … كهلك الفتى قد أسلم الحىّ حاضره (¬2) أراد شر المنايا ميتة (¬3) ميّت؛ وقال الآخر: ¬

_ (¬1) البيت فى طبقات الشعراء لابن سلام ص 95؛ ضمن أبيات أربعة للحطيئة لم تذكر فى ديوانه. وفى حاشيتى الأصل، ف: «قال السيد الإمام عليه السلام: طلبت هذا البيت فى شعر الحطيئة فلم أجده فيه». (¬2) فى حواشى الأصل، ت، ف: «قوله: «شر المنايا» تقديره شر المنايا موت ميت فيما بين عشيرته؛ كهلك هذا الفتى فى حال أن أسلم الحى حاضر هذا الفتى؛ أي أن حضاره أسلموا الحى، ولم ينصروه، ولم يمنعوا ذمارهم». (¬3) ف، ونسخة بحاشيتى الأصل، ت: «منية».

قليل عيبه والعيب جمّ … ولكنّ الغنى ربّ غفور (¬1) أراد: غنى ربّ غفور؛ وقال ذو الرّمة: لهم مجلس صهب السّبال أذلّة … سواسية أحرارها وعبيدها (¬2) أراد أهل مجلس، وأما قوله: «صهب السّبال» فإنما أراد به الأعداء، والعرب تصف الأعداء بذلك، وإن لم يكونوا صهب الأسبلة، وقوله: «سواسية» يريد أنهم مستوون متشابهون؛ ولا يقال هذا إلا فى الذم. وثانيها أنه أراد تعالى المبالغة فى وصف القوم بصغر القدر، وسقوط المنزلة؛ لأنّ العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك (¬3) قالت: كسفت الشمس لفقده، وأظلم القمر، وبكاء ¬

_ (¬1) البيت لعروة بن الورد، وهو فى ملحقات ديوانه: 198، وهو فى شرح المقامات 2: 192، والبيان 1: 95، والعقد 1: 212، وفى حواشى الأصل، ت، ف: «قال مولانا الإمام: كان السيد رضى الله عنه وهم فى معنى هذا البيت. ومعنى البيت: أن الشاعر وصف إنسانا بكثرة العيوب؛ إلا أن ماله وغناه يستران عليه عيوبه، فكأنه قال: قليل عيبه، يعنى يقل ظهور عيبه مع كثرة عيوبه؛ إلا أن الغنى يسترها عليه؛ كأنه رب غفور ستار للعيوب. ومعنى البيت على ما يوافق استشهاد السيد رضى الله عنه أنه يمدح إنسانا ويقول: قليل عيب هذا الممدوح مع كثرة العيب فى الناس؛ ولكن الغنى عما يجر المعايب هو غنى الله تعالى. والأشبه بالبيت أن يكون هجوا؛ كأنه يهجو إنسانا ويقول: يرى عيبه قليلا مع كثرة العيوب فيه، والّذي يقلل عيبه غناه كأنه رب غفور، وأول القطعة: ذرينى للغنى أسعى فإنّى … رأيت النّاس شرّهم الفقير وأبعدهم وأهونهم عليهم … وإن أمسى له حسب وخير يباعده الندىّ وتزدريه … حليلته وينهره الصغير وتلقى ذا الغنى وله جلال … يكاد فؤاد صاحبه يطير قليل عيبه .... (¬2) ديوانه 157 وفى حاشيتى الأصل، ف: «العرب إنما تسمى الأعداء صهب السبال؛ لأن أعداءهم كانوا من الروم؛ والروم صهب الأسبلة، ثم اتسعوا فسموا كل عدو صهب السبال؛ وإن لم يكن من الروم، والقريب من هذا يصفون الأعداء بالزرق العيون». (¬3) ف، ت (من نسخة): «بالهلك».

الليل والنهار والسماء والأرض، يريدون بذلك المبالغة فى عظم الأمر وشمول ضرره؛ قال جرير يرثى عمر بن عبد العزيز (¬1): ¬

_ (¬1) حاشية ف: «حدث إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدىّ قال: حدثنا عبد الله ابن أخت أبى الوزير عن أبى محمد الشامى: كنت غلاما فى خلافة عمر بن عبد العزيز؛ فلما أخذ عمر فى رد المظالم غلظ ذلك على أهل بيته، وعلى جميع قريش، فكتب إليهم عبد الرحمن بن الحكم بن هشام: فقل لهشام والّذين تجمّعوا … بدابق موتوا لا سلمتم يد الدّهر فأنتم أخذتم حتفكم بأكفّكم … كباحثة عن مدية وهى لا ندرى عشيّة بايعتم إماما مخالفا … له شجن بين المدينة والحجر فأجابه بعض ولد مروان عن هشام بن عبد الملك: لئن كان ما تدعو إليه هو الرّدى … فما أنت فيه ذا غناء ولا وفر فأنت من الرّيش الذّنابى ولم تكن … من الجزلة الأولى ولا وسط الظّهر ونحن كفيناك الأمور كما كفى … أبونا أباك الأمر فى سالف الدّهر قال القاضى: قول عبد الرحمن بن عبد الحكم فى شعره هذا: «بدابق»، فلم يصرفه، وفى صرفه وترك صرفه وجهان معروفان فى كلام العرب، والعرب تذكره وتؤنثه؛ فمن ذكره صرفه؛ كما قال الشاعر: * بدابق وأين منّى دابق* ومن أنثه لم يصرف؛ كما قال الآخر: لقد خاب قوم قلّدوك أمورهم … بدابق إذ قيل العدوّ قريب وقوله: * كباحثة عن حتفها وهى لا تدرى* هذا مثل يضرب للذى يثير بجهله ما يؤديه إلى هلاكه، أو الإضرار به، وأصله أن ناسا أخذوا شاة ليست لهم، فأرادوا أكلها فلم يجدوا ما يذبحونها به؛ فهموا بتخليتها فاضطربت عليهم، ولم تزل تثير الأرض وتبعثرها بقوائمها؛ فظهر لهم فيما احتفرته مدية فذبحوها بها، وصارت هذه القصة مثلا سائرا. وقول المروانى: «وأنت من الريش الذنابى» يقال: ذنب الفرس وغيره، وذنابى الطائر، وذنابى الوادى وذنابته، ومذنب النهر».

/ الشّمس طالعة ليست بكاسفة … تبكى عليك نجوم الليل والقمرا (¬1) وقال يزيد بن مفرّغ الحميرىّ: الرّيح تبكى شجوها … والبرق يلمع (¬2) فى الغمامة (¬3) وهذا صنيعهم فى وصف كل أمر جلّ خطبه، وعظم موقعه؛ فيصفون النهار بالظلام، وأن الكواكب طلعت نهارا لفقد نور الشمس وضوئها؛ قال النابغة: تبدو كواكبه والشّمس طالعة … لا النّور نور ولا الإظلام إظلام (¬4) وقال طرفة: إن تنوّله فقد تمنعه … وتريه النجم يجرى بالظهر (¬5) ومن هذا قولهم: لأرينّك الكواكب بالنهار، ومعناه أورد عليك ما يظلم له فى عينك النهار، فتظنّه ليلا ذا كواكب. فأما بيت جرير فقد قيل فى انتصاب النجوم والقمر (¬6) وجوه ثلاثة: أحدهما أنه أراد أن الشمس طالعة وليست مع طلوعها كاسفة نجوم الليل والقمر، لأن عظم الرزء قد سلبها ضوأها؛ فلم يناف طلوعها ظهور الكواكب. والوجه الثانى أن يكون انتصاب ذلك كما ينتصب فى قولهم: لا أكلمك الأبد، والدهر، وطوال المسند (¬7)، وما جرى مجرى ذلك، فكأنه أخبر ¬

_ (¬1) ديوانه 304. (¬2) حاشية ت (من نسخة): «يضحك». (¬3) البيت من قصيدة له مطلعها: أصرمت حبلك من أمامه … من بعد أيام برامه قال ابن قتيبة: «وهى أجود شعره»؛ وهى فى الأغانى 17: 54 - 55، والخزانة 2: 213 - 214، 516، 520). (¬4) ديوانه: 72. (¬5) ديوانه: 65. وفى حواشى الأصل، ت، ف: «يقول: إن تنوله هذه المرأة مرة نوالا فقد تمنعه أحيانا، وتريه النجم ظهرا؛ وهذا مثل للأمر الصعب». (¬6) فى حاشيتى الأصل، ف: «عظم الشيء: معظمه، وعظمه: كبره». (¬7) حاشية الأصل: «المسند: الزمان؛ يقال: لا أكلمه أبد المسند».

بأنّ الشمس تبكيه ما طلعت النجوم وظهر القمر (¬1). والوجه الثالث أن يكون القمر ونجوم الليل باكين الشمس على هذا المرثىّ المفقود، فبكتهن؛ أى غلبتهنّ بالبكاء؛ كما تقول: باكاني عبد الله فبكيته، وكاثرنى فكثرته، أى غلبته وفضلت عليه. وثالثها أن يكون معنى الآية الأخبار عن أنه لا أحد أخذ بثأرهم ولا انتصر لهم، لأن العرب كانت لا تبكى على قتيل إلا بعد الأخذ بثأره، وقتل من كان بواء به من عشيرة القاتل، فكنّى تعالى بهذا اللفظ عن فقد الانتصار، والأخذ بالثأر؛ على مذهب القوم الذين خوطبوا بالقرآن. ورابعها أن يكون ذلك كناية عن أنه لم يكن لهم فى الأرض عمل صالح يرفع منها إلى السماء. ويطابق هذا التأويل ما روى عن ابن عباس رحمة الله عليه/ فى قوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ قيل له: أو تبكيان على أحد؟ فقال: نعم، مصلّاه فى الأرض، ومصعد عمله فى السماء. وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «ما من مؤمن إلّا وله باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه»، ومعنى البكاء هاهنا الإخبار عن الاختلال بعده كما يقال: بكى منزل فلان بعده، قال ابن مقبل: لعمر أبيك لقد شاقنى … مكان حزنت له أو حزن وقال مزاحم العقيلىّ: بكت دارهم من أجلهم وتهلّلت … دموعى فأىّ الجازعين ألوم (¬2) أمستعبرا يبكى من الهون والبلى … وآخر يبكى شجوه ويئيم (¬3) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «قال مولانا عليه السلام: أراد هذه الصورة: الشمس طالعة ليست بكاسفة؛ ولكنها مع ذلك تبكى عليك، وستبكى مدة طلوع النجوم والقمر». (¬2) ديوانه 15 - 16. (¬3) حاشية ف: «المستعبر: الّذي يأتى بالعبرة، وهى سين الطلب، و «مستعبرا»، بدل الجازعين. ويهيم، أى يصير هائما، قال الله تعالى: فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ.

فإذا لم يكن لهؤلاء القوم الذين أخبر الله عن بوارهم مقام صالح فى الأرض، ولا عمل كريم يرفع إلى السماء جاز أن يقال: فما بكت عليهم السماء والأرض. ويمكن فى الآية وجه خامس، وهو أن يكون البكاء فيها كناية عن المطر والسّقيا؛ لأن العرب تشبّه المطر بالبكاء، ويكون معنى الآية أنّ السماء لم تسق قبورهم، ولم تجد عليهم بالقطر؛ على مذهب العرب المعروف فى ذلك؛ لأنهم كانوا يستسقون السحائب لقبور من فقدوه من أعزّائهم، ويستنبتون لمواقع حفرهم الزّهر والرّياض؛ قال النابغة: فلا زال قبر بين تبنى وجاسم … عليه من الوسمىّ طلّ ووابل (¬1) فينبت حوذانا وعوفا منوّرا … سأتبعه من خير ما قال قائل (¬2) وكانوا يجرون هذا الدعاء مجرى الاسترحام (¬3)، ومسألة الله تعالى لهم الرضوان، والفعل الّذي أضيف إلى السماء- وإن كان لا يجوز إضافته إلى الأرض- فقد يصح عطف الأرض على السماء بأن يقدر لها فعل يصح نسبه إليها، والعرب تفعل مثل هذا؛ قال الشاعر: يا ليت زوجك فى الوغى … متقلّدا سيفا ورمحا (¬4) ¬

_ (¬1) ديوانه 62. والرواية فيه: سقى الغيث قبرا بين بصرى وجاسم … بغيث من الوسمىّ قطر ووابل وتبنى وجاسم: موضوعان بالشام. وفى حاشيتى الأصل، ف: «الوسمى: أول المطر، وهو الّذي يأتى فى الخريف، والخريف عند العرب ربيع، والربيع صيف، والصيف قيظ». (¬2) حاشية ف: «فينبت، النصب فى جواب التمنى، والحوذان: نبت، يقال له بالفارسية مشكك، وعوف: نبت أيضا، ومنورا: أخرج النور». وقال البطليوسى شارح الديوان: «الحوذان والعوف نباتان؛ إلا أن الحوذان أطيب رائحة؛ وأنشد سيبويه هذا البيت بالرفع؛ ولم يجعله جوابا؛ أراد: وذاك ينبت حوذانا، أى ينبت الحوذان على كل حال». (¬3) حاشية الأصل: «قال مولانا عليه السلام عن ابن الأعرابى: إن العرب إنما تستسقى القبور لأنها إذا سقيت وعم القطر أعشب المكان؛ فحضره القوم للرعى، وترحموا على الموتى». (¬4) حواشى الأصل، ت، ف: «روى: «قد غدا متقلدا»؛ وإذا روى «فى الوغى» كان «متقلدا» نصبا على الحال. وقوله: «فى الوغى» خبر ليت».

تأويل خبر عن النبي ص أنه قال: "إن أحب الأعمال إلى الله عز وجل أدومها وإن قل

فعطف الرمح على السيف، وإن كان التقلّد لا يجوز فيه، لكنه أراد حاملا رمحا، ومثل هذا يقدّر/ فى الآية، فيقال: إنه تعالى أراد أن السماء لم تسق قبورهم، وأن الأرض لم تعشب عليها (¬1)؛ وكلّ هذا كناية عن حرمانهم رحمة الله تعالى ورضوانه. تأويل خبر [عن النبي ص أنه قال: «إنّ أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجل أدومها وإن قلّ] روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «إنّ أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجل أدومها (¬2) وإن قلّ؛ فعليكم من الأعمال بما تطيقون؛ فإنّ الله لا يملّ حتّى تملوا». وفى وصفه (¬3) - عليه السلام- الله تعالى بالملل وجوه أربعة: أوّلها أنه أراد نفى الملل عنه، وأنه لا يملّ أبدا، فعلّقه بما لا يقع على سبيل التبعيد كما قال الله تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ؛ [الأعراف 40]. وقال الشاعر: فإنّك سوف تحكم أو تناهى (¬4) … إذا ما شبت أو شاب الغراب (¬5) ¬

_ (¬1) د، ف، وحاشية ت (من نسخة): «عليهم». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «كان فى الأصل المقروء على المصنف «أدومها» [بضم الواو] والمعروف أدومها [بفتح الواو]». (¬3) ف، وحاشية ت (من نسخة): «فى صفته». (¬4) حاشية الأصل: «تناهى: تبلغ الشيخوخة». (¬5) حواشى الأصل، ت، ف: «البيت للنابغة الذبيانى، وقبله: فإنّ يك عامر قد قال جهلا … فإنّ مطيّة الجهل الشّباب يهجو عامر بن الطفيل، يقول: هو معذور فإنه شاب، ثم قال: سوف تحكم إذا شخت؛ أو لعلك لا تحكم أبدا؛ حتى يشيب الغراب، وذلك لا يكون أبدا» وتحكم، أى تصير حكيما، وفعل، بضم العين: يجيء لما يدخل على الإنسان فيصير كالطبع؛ كقولك: سفه يسفه سفاهة، ولم يكن سفيها فسفه. وتحكم من حكم يحكم [بضم الكاف] حكمة؛ إذا صار حكيما». وانظر الديوان: 14 - 15.

أراد أنك لا تحكم أبدا. فإن قيل: ومن أين قلتم: إن ما علقه به لا يقع حتى حكمتم بأنه أراد نفى الملل على سبيل التأبيد؟ قلنا: معلوم أنّ الملل لا يشمل البشر فى جميع آرابهم (¬1) وأوطارهم، وأنهم لا يعرون من حرص ورغبة وأمل وطمع، فلهذا جاز أن يعلّق ما علم تعالى أنه لا يكون بمللهم. والوجه الثانى أن يكون المعنى أنه لا يغضب عليكم ويطرحكم حتى تتركوا العمل له، وتعرضوا عن سؤاله، والرغبة فى حاجتكم إلى جوده؛ فسمّى الفعلين مللا؛ وإن لم يكونا على الحقيقة كذلك؛ على مذهب العرب فى تسميتها الشيء باسم غيره إذا وافق معناه فى بعض الوجوه، قال عدىّ بن زيد العبادىّ: ثمّ أضحوا لعب الدّهر بهم … وكذاك الدّهر يؤدى بالرّجال (¬2) وقال عبيد بن الأبرص الأسدىّ: سائل بنا حجر ابن أمّ قطام إذ … ظلّت به السّمر الذّوابل تلعب (¬3) فنسبا اللّعب إلى الدهر والقنا تشبيها؛ وقال ذو الرّمة: وأبيض موشيّ القميص نصبته … على خصر مقلات سفيه جديلها (¬4) فسمّى اضطراب زمامها، وشدة تحركه سفها؛ لأن السفه فى الأصل هو الطيش وسرعة الاضطراب/ والحركة، وإنما وصف ناقته بالذكاء والنشاط. فأما قوله: «وأبيض موشيّ القميص» فإنما عنى به سيفه، وقميصه: جفنه، والمقلات: الناقة التى لا يعيش لها ولد. والوجه الثالث أن يكون المعنى أنه تعالى لا يقطع عنكم فضله وإحسانه حتى تملّوا من سؤاله، ففعلهم ملل على الحقيقة، وسمّى فعله تعالى مللا، وليس بملل على الحقيقة للازدواج ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «آرابهم: جمع أرب؛ وهو الحاجة». (¬2) البيت فى (الأغانى 2: 33)؛ وفى حاشية الأصل: «أودى، إذا هلك». (¬3) ديوانه: 6؛ والرواية فيه: «السمر النواهل». (¬4) ديوانه 553، وفى حاشيتى الأصل، ف: «الجديل: زمام من الأديم».

ومشاكلة اللفظين (¬1) فى الصورة، وإن اختلفا فى المعنى، ومثل هذا قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ؛ [البقرة: 194]، وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها؛ [الشورى: 40]. ومثله قول الشاعر- وهو عمرو بن كلثوم التغلبىّ. ألا لا يجهلن أحد علينا … فنجهل فوق جهل الجاهلينا (¬2) وإنما أراد المجازاة على الجهل، لأن العاقل لا يفخر بالجهل ولا يتمدّح به. والوجه الرابع أن يكون الراوى وهم وغلط من الضمّ (¬3) إلى الفتح: وأن يكون قوله «يملّ» بالضمّ لا بالفتح، وعلى هذا يكون له معنيان: أحدهما أنه لا يعاقبكم بالنار حتى تملوا عبادته (¬4) وتعرضوا عن طاعته، لأن الملّة هى مشتوى الخبز؛ يقال: ملّ الرجل الخبزة (¬5) وغيرها يملّها ملّا إذا اشتواها فى الملّة. وقيل: إنّ الجمر لا يقال له ملّة حتى يخالطه رماد؛ والمعنى الثانى أن يكون أراد أنّه لا يسرع إلى عقابكم (¬6)، بل يحلم عنكم ويتأنّى بكم حتى تملّوا حلمه، وتستعجلوا عذابه، بركوبكم المحارم وتتابعكم (¬7) فى المآثم (¬8). *** ¬

_ (¬1) ت، وحاشية ف (من نسخة): «اللفظتين». (¬2) من المعلقة ص 238 بشرح التبريزى. (¬3) فى الأصل: «فى الفتح إلى الضم»، وفى ت، د، ف: «من الفتح إلى الضم»، والتصويب من حواشى الأصل، ت، ف. (¬4) ت، د، ف: «من عبادته». (¬5) الخبزة: العجينة توضع فى الملة حتى تنضج، وفى حاشية الأصل (من نسخة): «الخبز». (¬6) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «رفقا بكم». (¬7) فى حاشيتى الأصل، ف: «التتابع: التمادى فى الشر؛ يقال: تتابع فى الخير، وتتابع فى الشر». (¬8) حاشية ف: «قيل فى هذا الخبر إن معناه أن الله لا يمل وإن تملوا؛ ومثله قول الراجز: نحن بنى ضبّة لا نفرّ … حتى نرى جماجما تخرّ يريد: لا نفر وإن خرت جماجمنا؛ أى لا نفر أصلا. وقول الشاعر فى بعض الروايات: ولم تشاركك عندى بعد غانية … لا والّذي أصبحت عندى له نعم حتى أمرّ على الشّقراء معتسفا … خلّ النقا بمروح لحمه زيم فسر ذلك على أنه لم يشاركك لا وهو حتى أمرّ على الشقراء، ولا يريد أنه إذا حل ذلك الموضع شاركتك غانية».

خبر حسد الفرزدق لليلى الأخيلية على أبيات قالتها

[خبر حسد الفرزدق لليلى الأخيلية على أبيات قالتها] [قال المرتضى رضى الله عنه]: روى أنه قيل للفرزدق: هل حسدت أحدا على شيء من الشعر؟ فقال: لا، لم أحسد على شيء منه إلّا ليلى الأخيلية فى قولها (¬1): ومخرّق عنه القميص تخاله … بين البيوت من الحياء سقيما (¬2) حتى إذا برز اللّواء رأيته … تحت اللّواء على الخميس زعيما (¬3) لا تقربنّ الدّهر آل مطرّف … لا ظالما أبدا ولا مظلوما (¬4) - ويروى: «إن ظالما أبدا وإن مظلوما» - على أننى قد قلت: وركب كأنّ الريح تطلب عندهم … لها ترة من جذبها بالعصائب (¬5) / سروا يخبطون اللّيل وهى تلفّهم … إلى شعب الأكوار من كلّ جانب (¬6) إذا أبصروا نارا يقولون ليتها … وقد خصرت أيديهم نار غالب (¬7) وليس أبيات الفرزدق بدون أبيات ليلى، بل هى أجزل ألفاظا، وأشدّ أسرا، إلا أن أبيات ليلى أطبع وأنصع؛ وقد كان الفرزدق مشهورا بالحسد على الشعر والاستكثار لقليله والإفراط فى استحسان مستحسنه. ¬

_ - والبيتان فى الحماسة بشرح التبريزى 3: 133، من قصيدة لزياد بن حمل؛ ويعنى بالشقراء فرسه. والاعتساف: الأخذ فى السير على غير هداية ولا دراية. والخل: الطريق فى الرمل، والنقا: الرمل. والمروح: النشيط، والزيم: المكتنز اللحم». (¬1) من أبيات فى (الحماسة- بشرح التبريزى 4: 155 - 157)؛ مطلعها: يا أيّها السّدم الملوّى رأسه … ليقود من أهل الحجاز بريما. (¬2) حاشية (من نسخة): «وسط البيوت»، وهى رواية الحماسة. (¬3) م: «رفع اللواء»، وهى رواية الحماسة. والخميس: الجيش، سمى بذلك لأنه يكون خمس كتائب، أو خمسة صفوف: المقدمة، والميمنة، والميسرة، والقلب، والساق. (¬4) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «لا تغزون الدهر»؛ وهى رواية الحماسة. وفى حاشية الأصل: «لا ظالما أبدا؛ لأنهم لا يحتملون ظلمك، ولا مظلوما لأنك لا تقدر أن تنتصر منهم». (¬5) ديوانه 1: 30، والترة: الثأر، والعصائب: جمع عصابة؛ وهى العمامة تعصب على الرأس. (¬6) حاشية الأصل: «الشعب: جمع شعبة، أى جوانب الأكوار، والأكوار: جمع كور؛ وهو الرحل». (¬7) حاشية ت (من نسخة): «آنسوا نارا». خصرت: بردت، وغالب أبو الفرزدق.

خبره مع الكميت حين عرض عليه أبياتا له من قصيدة

[خبره مع الكميت حين عرض عليه أبياتا له من قصيدة] وقد روى أن الكميت بن زيد الأسدىّ لما عرض على الفرزدق أبياتا من قصيدته التى أولها: أتصرم الحبل حبل البيض أم تصل … وكيف والشّيب فى فوديك مشتعل لما عبأت لقوس المجد أسهمها … حيث الجدود على الأحساب تنتضل (¬1) أحرزت من عشرها تسعا وواحدة … فلا العمى لك من رام ولا الشّلل (¬2) الشّمس أدّتك إلّا أنّها امرأة … والبدر أدّاك إلّا أنه رجل (¬3) حسده الفرزدق، فقال له: أنت خطيب، وإنما سلّم له الخطابة ليخرجه عن أسلوب الشعر. ولما بهره من حسن الأبيات وأفرط بها إعجابه، ولم يتمكن من دفع فضلها جملة عدل فى وصفها إلى معنى الخطابة (¬4). ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «عبأت: هيأت، والجدود، جمع الجد؛ وهو البخت، وتنتضل: تناضل وترامى». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «يقال للرامى المصيب: لا عمى ولا شلل». (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف: «يعنى أن أباك البدر وأمك الشمس، وإلا تقرير». (¬4) حاشية ف: «حدث إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدى عن عبد الله بن إسحاق بن سلام قال: أتى الكميت باب مجلس يزيد بن المهلب يمتدحه، فصادف على بابه أربعين شاعرا؛ فقال للآذن: استأذن لى على الأمير؛ فاستأذن له عليه، فأذن له، فقال: كم رأيت بالباب من شاعر؟ قال: أربعين شاعرا قال: فأنت جالب التمر إلى هجر، فقال: إنهم جلبوا دقلا، وجلبت أزاذا، فقال: هات أزاذك، فأنشده: هلّا سألت منازلا بالأبرق … درست وكيف سؤال من لم ينطق! لعبت بها ريحان: ريح عجاجة … بالسّافيات من التّراب المعنق والهيف رائحة لها ينتاحها … طفل العشىّ بذى حناتم شرّق تصل اللّقاح إلى النتاج مربّة … لخفوق كوكبها وإن لم يخفق غيّرن عهدك بالدّيار وما يكن … رهن الحوادث من جديد يخلق إلّا خوالد فى المحلّة بيتها … كالطّيلسان من الرّماد الأورق ومشجّجا ترك الولائد رأسه … مثل السّواك ودمنة كالمهرق -

خبره عند سليمان بن عبد الملك

وحسد الفرزدق على الشعر وإعجابه بجيده من أدلّ دليل على حسن نقده له وقوة بصيرته فيه، وأنّه كان يطرب للجيّد منه فضل طرب، ويعجب منه فضل عجب. ويدلّ أيضا على إنصافه فيه، وأنه مستقلّ للكثير الصادر من جهته، فإن كثيرا من الناس قد يبلغ بهم الهوى فى الإعجاب والاستحسان لما يظهر منهم فى شعر أو فضل إلى أن يعموا عن محاسن غيرهم فيستقلّوا منهم الكثير، ويستصغروا الكبير. [خبره عند سليمان بن عبد الملك] ولأبيات الفرزدق التى ذكرناها خبر مشهور متداول، أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم قال أخبرنا أبو عبيدة عن يونس قال: دخل الفرزدق على سليمان (¬1) بن عبد الملك وعنده نصيب الشاعر، فقال له سليمان أنشدنى، فأنشده الأبيات التى تقدم ذكرها، فاسودّ وجه سليمان وغاظه/ فعله، وكان يظن أنه ينشده مديحا له، فلمّا رأى نصيب ذلك قال: ألا أنشدك؟ فأنشده: ¬

_ - دار التى تركتك غير ملومة … دنفا فإن لم ترع قلبك فاشفق قد كنت قبل تتوق من هجرانها … فاليوم إذ شحط المزار بها تق والحبّ فيه حرارة ومرارة … سائل بذلك من تطعّم أو زقى ما ذاق بؤس معيشة ونعيمها … فيما مضى أحد إذا لم يعشق حتى بلغ إلى قوله: من قال بت أخا الهموم ومن يبت … غرض الهموم ونصبهنّ يؤرّق بشّرت نفسى إذ رأيتك بالغنى … ووثقت حين سمعت قولك لى ثق فأمر بالخلع عليه حتى استغاث؛ فقال: أتاك الغوث، ارفعوا عنه». (¬1) حاشية ف: «قيل: بينما سليمان بن عبد الملك فى المسجد الحرام إذ أتى بحجر منقوش، فطلب من يقرؤه، فأتى بوهب بن منبه؛ فقرأه فإذا فيه: ابن آدم إنك لو أبصرت قليل ما بقى من أجلك لزهدت فى طول أملك، ولرغبت فى الزيادة من عملك؛ ولقصرت عن حرصك وحيلك؛ وإنما يلقاك غدا ندمك، وقد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك؛ فبان منك الولد القريب، ورفضك الوالد والنسيب؛ فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا فى حياتك ذائد، فاعمل ليوم القيامة، يوم الحسرة والندامة فبكى سليمان».

أقول لركب قافلين لقيتهم … قفا ذات أوشال ومولاك قارب (¬1) قفوا خبّرونى عن سليمان إننى … لمعروفه من أهل ودّان طالب (¬2) فعاجوا فأثنوا بالذّي أنت أهله … ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب (¬3) فقال له سليمان: أنت أشعر أهل جلدتك (¬4)؛ وفى بعض الأخبار أنّ الفرزدق قال ذلك فى نصيب حين سأله عنه سليمان. وروى أيضا أنه لما أنشد نصيب أبياته قال له سليمان: أحسنت، ووصله (¬5) ولم يصل الفرزدق فخرج الفرزدق وهو يقول: ¬

_ (¬1) قفا ذات أوشال: خلف هذا الموضع؛ والأوشال: جمع وشل، بالتحريك؛ وهو الماء القليل يتخلف من جبل أو صخر. وفى حاشيتى الأصل، ف: «فى ديوانه: ذات أوشان؛ بالنون». وفى معجم ما استعجم للبكرى: 212: «ذات أوشال: موضع بين الحجاز والشام» وذكر البيت. وأراد بالمولى نفسه؛ والقارب: طالب الماء ليلا. (¬2) ودان، بفتح الواو: قرية بين مكة والمدينة، قريبة من الجحفة؛ وفى حاشيتى الأصل، ت: «يعنى أنا من أهل ودان، وهى أرض للعرب». (¬3) وبعده: فقالوا تركناه وفى كلّ ليلة … يطيف به من طالبى العرف راكب ولو كان فوق النّاس حىّ فعاله … كفعلك أو للفعل منك مقارب لقلنا له شبه ولكن تعذّرت … سواك عن المستشفعين المطالب هو البدر والنّاس الكواكب حوله … ولا يشبه البدر المنير الكواكب. (¬4) الخبر فى (الكامل- بشرح المرصفى 2: 217 - 218، والشعر والشعراء 372 - 373، واللآلى 291 - 292)، والأبيات فى (البيان والتبيين 1: 83، وأمالى القالى 1: 94، ومعجم البلدان 8: 405؛ ولكنه لم يذكر «ذات أوشال» فى موضعها). (¬5) حاشية ف: «حدث محمد بن أحمد عن محمد بن عبد الله عن معاذ صاحب الهروى قال: «دخلت مسجد الكوفة، فرأيت رجلا لم أر قط أنقى ثيابا منه، ولا أشد سوادا، فقلت له: من أنت؟ فقال: أنا نصيب، فقلت: أخبرنى عنك وعن أصحابك، فقال: جميل إمامنا، وعمر أوصفنا لربات الحجال، وكثير أبكانا على الأطلال والدمن، وقد قلت ما سمعت، قلت: فإن الناس يزعمون أنك لا تحسن أن تهجو، قال: فأقروا لى أنى أحسن المدح؟ قلت: بلى، قال: ولكنى رأيت الناس رجلين: رجلا لم أسأله فلا ينبغى أن أهجوه، ورجلا سألته فمنعنى، فكانت نفسى أحق بالهجا؛ إذ سولت لى أن أطلب منه».

وخير الشّعر أكرمه رجالا … وشرّ الشّعر ما قال العبيد (¬1) ولا شبهة فى أنّ أبيات الفرزدق مقدمة فى الجزالة والرّصانة على أبيات نصيب؛ وإن كان نصيب قد غرّب (¬2) وأبدع فى قوله: * ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب* إلّا أنّ أبيات نصيب وقعت موقعها، ووردت فى حال تليق بها، وأبيات الفرزدق جاءت فى غير وقتها وعلى غير وجهها؛ فلهذا قدّمت أبيات نصيب. والفرزدق مع تقدّمه فى الشعر وبلوغه فيه إلى الذّروة العليا، والغاية القصوى شريف الآباء، كريم البيت، له ولآبائه مآثر لا تدفع، ومفاخر لا تجحد. والفرزدق لقب لقّب به، وليس باسمه، وإنما لقّب بذلك لجهامة وجهه، وغلظه؛ لأنّ الفرزدقة هى القطعة الضخمة من العجين، وقيل: إنها الخبزة الغليظة التى يتّخذ منها النساء الفتوت (¬3)، واسمه همام بن غالب، وكنيته أبو فراس، وقيل إنّه كان يكنى فى شبابه بأبى مكّية (¬4) وهى أغرب كنيته (¬5). وكان شيعيّا (¬6) مائلا إلى بنى هاشم، ونزع فى آخر عمره عما كان عليه من القذف (¬7) ¬

_ (¬1) فى نسخة بحاشيتى ت، ف: «أشرفه فحولا»، وفى حاشيتى الأصل، ف: «يعنى أن نصيبا حديثى مملوك». (¬2) ل، ونسخة فى حاشيتى ت، ف: «أغرب». (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف: «الفتوت والفتيت بمعنى». (¬4) حواشى الأصل، ت، ف: «كان يكنى أبا مكية، ومكية بنته، وذكر ذلك فى شعر له فقال: شاهد إذا ما كنت ذا محميّه … بدارمىّ أمّه ضبّيّه صمحمح مثل أبى مكّيّه - الصمحمح: العظيم الرأس، وأبو مكية يعنى نفسه». (¬5) ش: «أعرف كنيته». (¬6) فى حاشيتى الأصل، ف: «النسبة إلى الشيعة شيعى، بكسرة صحيحة على الشين؛ كما تنسب إلى الجيزة جيزى، والجيزة محلة بمصر؛ منها أبو الربيع الجيزى». (¬7) حاشية ت (من نسخة): «من القرف»، والقرف: الرمى بالسوء.

خبر تنسكه فى آخر عمره وما قاله من شعر فى ذلك

والفسق، وراجع طريقة الدين، على أنه لم يكن فى خلال (¬1) فسقه منسلخا من الدّين جملة، ولا مهملا لأمره أصلا. [خبر تنسّكه فى آخر عمره وما قاله من شعر فى ذلك] ومما يشهد لذلك ما أخبرنا به عليّ بن محمد الكاتب عن أبى بكر محمد بن يحيى الصولىّ عن أبى حفص الفلّاس عن عبد الله بن سوّار/ عن معاوية بن عبد الكريم عن أبيه قال: دخلت على الفرزدق، فجعلت أحادثه، فسمعت صوت حديد يتقعقع، فتأملت الأمر، فإذا هو مقيّد الرّجل (¬2)، فسألته عن السبب فى ذلك، فقال: إنى آليت على نفسى ألّا أنزع القيد من رجلى، حتى أحفظ القرآن. وأخبرنا أبو عبيد الله المرزبانيّ قال أخبرنى أبو ذرّ القراطيسىّ قال حدثنا ابن أبى الدّنيا قال حدّثني الرّياشىّ عن الأصمعىّ عن سلام بن مسكين قال: قيل للفرزدق؛ علام تقذف المحصنات؟ فقال: والله، لله أحبّ إلى من عينىّ هاتين، أفتراه يعذّبنى بعدها (¬3)! . وروى أنّه تعلّق بأستار الكعبة، وعاهد الله على ترك الهجاء والقذف اللّذين كان ارتكبهما، وقال: ألم ترنى عاهدت ربّى وإنّنى … لبين وتاج قائما ومقام (¬4) ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «حال». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «الرجلين». (¬3) حاشية ف: «ذكر المبرد فى كتابه قال: دخل لبطة بن الفرزدق على أبيه وهو محبوس فى سجن مالك بن المنذر بن الجارود؛ ومالك عامل على البصرة لخالد بن عبد الله القسرى؛ فقال له: يا أبت؛ هذا عمر بن يزيد الأزدى ضرب آنفا ألف سوط ومات، فشد على حمار، فقال الفرزدق: كأنك والله بمثل هذا الحديث قد تحدثت به عن أبيك- والحسن إذ ذاك محبوس عنده- فقال له: يا أبا فراس، فما عندك إن كان ذلك؟ فقال: والله يا أبا سعيد، لله أحب إلى من سمعى وبصرى، ومن مالى وولدى، ومن أهلى وعشيرتى؛ أفتراه يخذلني! فقال الحسن: كلا والله يا أبا فراس». وانظر الخبر فى (الكامل- بشرح المرصفى 2: 76 - 77). (¬4) فى حاشيتى الأصل، ف: «الرتاج: الباب المغلق، والباب العظيم أيضا قائما، حال بما يدل عليه لبين» وفى ت، د: «قائم».

على حلفة لا أشتم الدّهر مسلما … ولا خارجا من فىّ زور كلام (¬1) أطعتك يا إبليس سبعين حجة … فلمّا انقضى عمرى وتمّ تمامى (¬2) فزعت إلى ربّى وأيقنت أنّنى … ملاق لأيّام الحتوف حمامى (¬3) وروى الصّولى عن الحسين بن الفيّاض عن إدريس بن عمران قال: جاءنى الفرزدق، فتذاكرنا رحمة الله وسعتها؛ فكان أوثقنا بالله، فقال له رجل: ألك هذا الرجاء والمذهب وأنت تقذف المحصنات، وتفعل ما تفعل! فقال: أترونني لو أذنبت إلى أبوىّ، أكانا يقذفانى ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «قال مولانا السيد: خارجا، تقديره: ولا يخرج خروجا؛ وذهب عيسى بن عمر إلى أنه فى موضع الحال؛ لأن قوله: لا أشتم نصب على الحال؛ كأنه قال: عاهدت لا شاتما ولا خارجا. وقال أبو سعيد: تقديره: عاهدت على أن أحلف لا شاتما ولا خارجا؛ وهو حال من التاء فى عاهدت، أو المحذوف من المصدر؛ وهو الفاعل. وسيبويه يجعل لا أشتم جواب القسم؛ ولا موضع له من الإعراب، والقسم عاهدت. فقوله: ولا خارجا، أى لا يخرج خروجا؛ وهو معطوف على لا أشتم». وفى حاشية ف أيضا: «ذكر المبرد فى كتابه الكامل فى قوله: * ولا خارجا من فىّ زور كلام* إنما وضع اسم الفاعل موضع المصدر، أراد: لا أشتم الدهر مسلما، ولا يخرج خروجا من فىّ زور كلام؛ لأنه على هذا أقسم، والمصدر يقع فى موضع اسم الفاعل؛ يقال: ماء غور، أى غائر؛ كما قال الله تعالى: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً؛ ويقال: رجل عدل، أى عادل، فعلى هذا جاء المصدر على فاعل؛ كما جاء اسم الفاعل على المصدر؛ يقال: قم قائما؛ فيوضع موضع قولك: قم قياما؛ قال: وكان عيسى بن عمر يقول: إنما قوله لا أشتم حال، فأراد: عاهدت ربى فى هذه الحال، وأنا غير شاتم ولا خارج من فىّ ... ولم يذكر الّذي عاهد عليه». وانظر (الكامل- بشرح المرصفى 2: 81 - 83). (¬2) د، ومن نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «تسعين»، وفى حاشية الأصل، ف: «أى بلغت غايتى؛ ونسبة التمام إلى التمام ترد على معنى التأكيد كما قال الشاعر: «فجن جنونها»، والجنون لا يجن، وإنما المرء يجن؛ وكما قال: جنونك مجنون ولست بواجد … طبيبا يداوى من جنون جنونى. (¬3) ش، ف: «فررت»، والأبيات فى (ديوانه 2: 770).

فى تنوّر، وتطيب أنفسهما بذلك؟ قلنا: لا، بل كانا يرحمانك، قال: فأنا والله برحمة ربّى أوثق منى برحمتهما. وأخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدثنا محمد بن إبراهيم (¬1) قال حدثنا عبد الله بن أبى سعد (¬2) الورّاق قال حدّثني محمد بن محمد بن سليمان الطّفاوىّ (¬3) قال: حدثنى أبى عن جدى قال: شهدت الحسن البصرىّ فى جنازة النّوار (امرأة الفرزدق) - وكان الفرزدق حاضرا- فقال له الحسن وهو عند القبر: يا أبا فراس، ما أعددت لهذا المضجع؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله مذ ثمانون سنة، فقال له الحسن: هذا العمود فأين الطّنب! . وفى رواية أخرى أنه قال له: نعم ما أعددت، ثم قال الفرزدق فى الحال: / أخاف وراء القبر- إن لم يعافنى- … أشدّ من الموت التهابا وأضيقا (¬4) إذا جاءنى يوم القيامة قائد … عنيف وسوّاق يسوق الفرزدقا لقد خاب من أولاد آدم من مشى … إلى النّار مغلول القلادة أزرقا (¬5) يقاد إلى نار الجحيم مسربلا … سرابيل قطران لباسا محرّقا قال: فرأيت الحسن يدخل بعضه فى بعض، ثم قال: حسبك. ويقال إن رجلا رأى الفرزدق بعد موته فى منامه، فقال له ما فعل بك ربّك؟ فقال: عفا عنى بتلك الأبيات (¬6). ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «محمد بن محمد بن إبراهيم». (¬2) د، ونسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «سعيد». (¬3) حاشية الأصل: «الطفاوى: منسوب إلى طفاوة؛ وهم قوم». (¬4) الأبيات فى ديوانه 2: 578، مع اختلاف فى الرواية وترتيب الأبيات؛ وفى نسخة بحواشى الأصل، ف، ت: «أشد من القبر»؛ وهى رواية الديوان. (¬5) ف: «مشدود الفلائد»، وهى رواية الديوان. (¬6) حاشية ف: «زعم بعض النميمية أن الفرزدق رئى فى النوم فقيل له: ما صنع ربك؟ فقال: غفر لي؛ قيل له: بأى شيء؟ قال: بالكلمة التى نازعنيها الحسن البصرى على شفير القبر». وفيها أيضا: «فى الكامل، كان الفرزدق يخرج من منزله فيرى بنى تميم والمصاحف فى حجورهم فيسر بذلك ويجذل له-

عود إلى خبره مع الكميت

[عود إلى خبره مع الكميت] وأما ما يدلّ على تشيّعه وميله إلى بنى هاشم ما أخبرنا به أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدثنى عمر بن داود العمانىّ قال حدثنا محمد بن زكريا (¬1) الغلابىّ قال حدثنا مهدىّ بن سابق قال حدثنا أبو لبيد قال: جاء الكميت إلى الفرزدق فقال: يا عمّ إنى قد قلت قصيدة أريد أن أعرضها عليك، فقال له: قل، فأنشده: * طربت وما شوقا إلى البيض أطرب* فقال له الفرزدق: إلى من طربت، ثكلتك أمّك! فقال: * ولا لعبا منّى وذو الشّيب يلعب* ولم تلهنى دار ولا رسم منزل … ولم يتطرّبنى بنان مخضّب ¬

_ - ويقول: إيه فدى لكم أبى وأمى! كذا والله كان آباؤكم، قال: ونظر أبو هريرة الدوسى إلى الفرزدق فقال: مهما فعلت فقنطك الناس عليه، فلا تقنط من رحمة الله، ثم نظر إلى قدميه فقال: إنى أرى لك قدمين لطيفين؛ فابتغ لهما موقفا صالحا يوم القيامة». و(انظر الكامل- بشرح المرصفى 2: 79). (¬1) حواشى الأصل، ف، ت: «الغلابى: منسوب إلى غلاب، اسم امرأة؛ وكان شيعيا». وفى حاشية ف أيضا: «حدث الغلابى عن محمد بن عبد الله عن على بن محمد قال: قال أنوشروان لبزرجمهر لما أراد قتله: إنى قاتلك؛ فتكلم بشيء تذكر به؛ فقال: أيها الملك، إن الدنيا حديث حسن وقبيح؛ فإذا استطعت أن تكون حديثا حسنا فكنه، قال ابن عبد الله: وذكر هذا الكلام لابن عائشة فقال: صدق، هو والله من قوله تعالى: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، وأنشد ابن عائشة: ألم تر أنّ النّاس تخلد بعدهم … أحاديثهم والمرء ليس بخالد وقال أيضا: وإذا الفتى لاقى الحمام رأيته … لولا الثّناء كأنّه لم يولد وروى محمد بن زكريا الغلابى: كان مريد يكنى أبا إسحاق، وكانت له نوادر؛ فبينا هو ذات يوم جالس إذ جاءه أصحابه فقالوا: يا أبا إسحاق، هل لك فى الخروج بنا إلى العقيق، وإلى قباء، وإلى أحد؛ ناحية قبور الشهداء؛ فإن هذا يوم كما ترى طيب؛ فقال: اليوم يوم الأربعاء، ولست أبرح من منزلى، فقالوا له: ما تكره من يوم الأربعاء وفيه ولد يونس بن متى؟ فقال: بأبى وأمى صلى الله عليه وآله! وفيه التقمه الحوت، فقالوا: يوم نصر فيه يوم الأحزاب، فقال: أجل! ، ولكن بعد إذ زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر».

خبر مديحه لعلي بن الحسين بن علي

فقال له: إلى من طربت؟ فقال: ولا أنا ممّن يزجر الطّير؛ همّه: … أصاح غراب أم تعرّض ثعلب (¬1) ولا السانحات البارحات عشيّة … أمرّ سليم القرن أم مرّ أعضب (¬2) ولكن إلى أهل الفضائل والنّهى … وخير بنى حوّاء، والخير يطلب فقال له الفرزدق: هؤلاء بنو دارم، فقال الكميت: إلى النّفر البيض الّذين بحبّهم … إلى الله فيما نابنى أتقرّب فقال الفرزدق: هؤلاء بنو هاشم، فقال الكميت: بنى هاشم رهط النبىّ فإنّنى … بهم ولهم أرضى مرارا وأغضب (¬3) فقال له الفرزدق: والله لو جزتهم إلى سواهم لذهب قولك باطلا. [خبر مديحه لعلي بن الحسين بن علي] ومما يشهد لذلك ما أخبرنا به أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدثنا الحسن بن محمد قال حدّثني جدّى يحيى بن الحسن العلوىّ قال حدّثنا الحسين بن محمد بن طالب قال: حدّثني غير واحد من أهل الأدب أن عليّ بن الحسين عليهما السلام حجّ فاستجهر (¬4) الناس جماله، وتشوّفوا له، وجعلوا يقولون: من هذا؟ فقال الفرزدق: ¬

_ (¬1) ت، د، حاشية الأصل (من نسخة): «فى المتن، قال المرتضى رضى الله عنه: يجب الوقوف على الطير»، ثم يبدأ «بهمه» ليعلم الغرض». والزجر هنا: التيمن أو التشاؤم بالطير وغيره. (¬2) السانح من الطير: ما مر من مياسرك إلى ميامنك، والبارح عكسه، وكان العرب يتيامنون بالسانح، ويتشاءمون بالبارح، والأعضب: مكسور القرن، وفى ت، ف بعد هذا البيت: «فقال: إلى من طربت لا أم لك! فقال الكميت ... ». (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف: «أعنى بنى هاشم، أو إلى بنى هاشم». (¬4) حواشى الأصل، ت، ف: «يقال: جهرت الرجل واستجهرته؛ إذا رأيته عظيم المرآة، وما أحسن جهر فلان! أى ما يجتهر من هيئته وحسن منظره؛ وقيل: اجتهر؛ أى حملهم بجماله على أن يجهروه عليه السلام، أى يدركوا جهره».

هذا ابن خير عباد الله كلّهم … هذا التّقىّ النّقيّ الطّاهر العلم هذا الّذي تعرف البطحاء وطأته … والبيت يعرفه والحلّ والحرم (¬1) إذا رأته قريش قال قائلها … إلى مكارم هذا ينتهى الكرم يكاد يمسكه عرفان راحته … ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم (¬2) يغضى حياء ويغضى من مهابته … فما يكلّم إلّا حين يبتسم (¬3) أىّ القبائل ليست فى رقابهم … لأوّليّة هذا أو له نعم من يعرف الله يعرف أوّليّة ذا … فالدّين من بيت هذا ناله الأمم (¬4) ¬

_ (¬1) البطحاء: أرض مكة المنبطحة، والحل، بالكسر: خارج المواقيت من البلاد، والحرم: ما بين المواقيت المعروفة؛ وأراد بهما أهل الحل والحرم. (¬2) الحطيم: الجدار الّذي عليه ميزاب الكعبة، وانتصب «عرفان» على أنه مفعول له، أى يكاد يمسكه ركن الحطيم؛ لأنه عرف راحته. ويستلم، بمعنى يلمس الحجر الأسود. (¬3) حواشى الأصل، ت، ف: روى أبو الفرج فى كتاب الأغانى الكبير هذا البيت: يغضى ... وبيتا آخر وهو: بكفّه خيزران ريحها عبق … من كفّ أروع فى عرنينه شمم للحزين الكنانى، قال: مدح بهما الحزين عبد الله بن عبد الملك، وقد حج، وكان أبوه عبد الملك قد وصاه بألا يحجب الحزين لخبث لسانه، ووصفه له بهيئته، فدخل عليه وأنشده البيتين. قال أبو الفرج: والناس يروون هذين البيتين فى أبيات الفرزدق التى مدح بها زين العابدين عليه السلام». وقد ذكر أبو تمام فى (الحماسة- بشرح التبريزى 4 - 167 - 169) الأبيات منسوبة إلى الحزين الليثى. وانظر تفصيل الخبر وتحقيق نسبة الأبيات فى (الأغانى 14: 74 - 77). (¬4) حاشية ف: «روى أنه كان عبد الملك بن مروان لما سمع هذا من الفرزدق قال له: «أورافضى أيضا أنت! فقال الفرزدق: إن كان حب آل محمد رفضا فأنا هذاك، فقال عبد الملك: قل فىّ مثل ما قلته فيه، وعليّ أن أضعف عطاءك، فقال الفرزدق: وتجيئنى بأب مثل أبيه وأم بمثل أمه؛ حتى أقول فيك مثل ما قلته فيه؛ أتقول هذا ولا تستحي من الله عز وجل! مر حتى تسقط اسمى من الديوان جملة، فأسقط عطاءه. فبلغ ذلك على بن الحسين عليهما السلام، فبعث إليه، فلما أتاه قال: يا أبا فراس؛ خذ منى جميع ما أملكه، ولك الفضل بعد ذلك؛ وما كافأتك بعد! فقال: يا ابن رسول الله، ما قلته فيك لرجاء مثوبة؛ وإن ثوابى على الله، وما أؤمله فيكم عند الله عز وجل أحب إلى من ملك عبد الملك؛ فقال: فكم كان عطاؤه الّذي حرمته؟ قال: ألف ومائتان فى السنة، فوزن له ثمانية وأربعين ألفا، عطاء أربعين سنة، فأخذها وانصرف».

وفى رواية الغلابىّ أن هشام بن عبد الملك حج فى خلافة عبد الملك- أو الوليد- وهو حديث (¬1) السن، فأراد أن يستلم الحجر، فلم يتمكن من ذلك لتزاحم الناس عليه، فجلس ينتظر خلوة؛ فأقبل على بن الحسين عليهما السلام، وعليه إزار ورداء، وهو من أحسن الناس وجها، وأطيبهم ريحا، بين عينيه سجّادة، كأنها ركبة عنز، فجعل يطوف بالبيت، فإذا بلغ الحجر تنحّى الناس له حتى يستلمه، هيبة له وإجلالا. فغاظ ذلك هشاما، فقال رجل من أهل الشام لهشام: من هذا الّذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه- لئلا يرغّب فيه أهل الشام. فقال الفرزدق- وكان هناك حاضرا-: لكنى أعرفه، وذكر الأبيات، وهى أكثر مما رويناه؛ وإنما تركناها (¬2) لأنها معروفة. قال: فغضب هشام، وأمر بحبس الفرزدق بعسفان، بين مكّة والمدينة، وبلغ ذلك عليّ بن الحسين عليهما السلام، فبعث إلى الفرزدق باثنى عشر ألف درهم وقال: اعذرنا/ يا أبا فراس، فلو كان عندنا فى هذا الوقت أكثر منها لوصلناك به، فردّها الفرزدق وقال: يا ابن رسول الله، ما قلت الّذي قلت إلا غضبا لله ورسوله، وما كنت لأرزأ (¬3) عليه شيئا؛ فردها إليه وأقسم عليه فى قبولها وقال له: قد رأى الله مكانك، وعلم نيّتك، وشكر لك، ونحن أهل بيت إذا أنفذنا شيئا لم نرجع فيه؛ فقبلها، وجعل الفرزدق يهجو هشاما وهو فى الحبس؛ فمما هجاه به قوله: تحبّسنى بين المدينة والّتي … إليها رقاب النّاس يهوى منيبها (¬4) يقلّب رأسا لم يكن رأس سيّد … وعينا له حولاء باد عيوبها ¬

_ (¬1) د، ف، حاشية ت (من نسخة): «حدث السن». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «تركنا أكثرها». (¬3) ت: «لأرزأك». وفى حاشية ف: «يقال: ما رزأته شيئا؛ أى لم آخذ منه شيئا». (¬4) ديوانه 1: 1 هـ، وفى حاشية الأصل (من نسخة): «يحبسنى»، وحاشية ف (من نسخة): «قلوب الناس يهوى»؛ وهى رواية الديوان.

6

[6] مجلس آخر [المجلس السادس: ] تأويل آية [وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً] إن سأل سائل فقال: ما عندكم فى تأويل قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ؛ [هود: 118، 119]. وظاهر هذه الآية يقتضي أنّه تعالى ما شاء أن يكونوا أمة واحدة وأن يجتمعوا على الإيمان والهدى؛ وهذا بخلاف ما تذهبون إليه؛ ثم قال: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ فلا يخلو من أن يكون عنى أنّه للاختلاف خلقهم، أو للرحمة؛ ولا يجوز أن يعنى الرحمة؛ لأن الكناية عن الرحمة لا تكون بلفظة «ذلك»؛ ولو أرادها لقال: ولتلك خلقهم، فلما قال وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ كان رجوعه إلى الاختلاف أولى. وليس يبطل حمل الآية على الاختلاف من حيث لم يكن مذكورا فيها؛ لأن الرحمة أيضا غير مذكورة فيها، وإذا جعلتم قوله تعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ دالّا على الرحمة فكذلك قوله: مُخْتَلِفِينَ دالّ على الاختلاف؛ على أن الرحمة هى رقة القلب والشفقة؛ وذلك لا يجوز على الله تعالى، ومتى تعدّى بها ما ذكرناه، لم يعن بها إلا العفو وإسقاط الضرر، وما جرى مجراه (¬1) عن مستحقّه، وهذا مما لا يجوز أن يكونوا مخلوقين له على مذهبكم، لأنه لو خلقهم للعفو لما حسن منه عقاب المذنبين ومؤاخذة المستحقين. الجواب، يقال له: أما قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ فإنما عنى به المشيئة التى ينضمّ إليها الإلجاء، ولم يعن/ المشيئة على سبيل الاختيار، وإنما أراد تعالى أن يخبرنا عن قدرته، وأنه ممّن لا يغالب، ولا يعصى مقهورا؛ من حيث كان قادرا على إلجاء العبيد، وإكراههم على ما أراد منهم. فأما لفظة «ذلك» فى الآية فحملها على الرحمة أولى من حملها على الاختلاف؛ لدليل ¬

_ (¬1) د، حاشية ت (من نسخة): «مجراهما».

العقل وشهادة اللفظ، فأما دليل العقل فمن حيث علمنا أنّه تعالى كره الاختلاف، والذّهاب عن الدين، ونهى عنه، وتوعّد عليه، فكيف يجوز أن يكون شائيا له، ومجريا (¬1) بخلق العباد إليه. وأما شهادة اللفظ فلأنّ الرحمة أقرب الى هذه الكناية من الاختلاف، وحمل اللفظ على أقرب المذكورين إليها أولى فى لسان العرب. فأما ما طعن به السائل، وتعلّق به من تذكير الكناية، وأنّ الكناية عن الرحمة لا تكون إلا مؤنثة فباطل، لأن تأنيث الرحمة غير حقيقى، وإذا كنى عنها بلفظ التذكير كانت الكناية على المعنى، لأن معناها هو الفضل والإنعام؛ كما قالوا: سرّنى كلمتك، يريدون سرّنى كلامك، وقال الله تعالى: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي؛ [الكهف: 98]؛ ولم يقل «هذه»، وإنما أراد هذا فضل من ربى؛ وقالت الخنساء: فذلك يا هند الرّزيّة فاعلمى … ونيران حرب حين شبّ وقودها (¬2) أرادت الرّزء؛ وقال امرؤ القيس: برهرهة رؤدة رخصة … كخرعوبة البانة المنفطر (¬3) فقال: «المنفطر» ولم يقل المنفطرة، لأنه ذهب إلى الغصن؛ وقال الآخر: هنيئا لسعد ما اقتضى بعد وقعتى (¬4) … بناقة سعد والعشيّة بارد فذكّر الوصف: لأنه ذهب إلى العشىّ؛ وقال الآخر: قامت تبكّيه على قبره … من لى من بعدك يا عامر (¬5) ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «الإجراء يستعمل فى المنكر المذموم؛ يقال: أجرى عليه فعله، ولا يقال إلا فى الشر». (¬2) ديوانها: 59. (¬3) ديوانه: 8. البرهرهة: الرقيقة الجلد، والرؤدة: الرخصة الناعمة، والخرعوبة: القضيب الغض، والمنفطر: المنشق. (¬4) حاشية ت (من نسخة): «وقفتى». (¬5) البيتان فى العقد 3: 259، و 5: 390؛ ونسبهما لأعرابية على قبر ابن لها يقال له عامر.

تركتنى فى الدّار ذا غربة (¬1) … قد ذلّ من ليس له ناصر فقال: «ذا غربة» ولم يقل ذات غربة، لأنه أراد شخصا ذا غربة؛ وقال زياد الأعجم: / إنّ الشّجاعة والسّماحة ضمّنا … قبرا بمرو على الطّريق الواضح (¬2) فقال: «ضمنّا» ولم يقل ضمّنتا؛ قال الفرّاء: لأنه ذهب إلى أنّ السماحة والشجاعة مصدران، والعرب تقول: قصارة الثوب يعجبنى؛ لأن تأنيث المصادر يرجع إلى الفعل، وهو مذكر. وقال الفرزدق: تجوب بنا الفلاة إلى سعيد … إذا ما الشّاة فى الأرطاة قالا (¬3) فذكّر الوصف، لأنه أراد التيس؛ فأما الأرطاة فهى واحدة الأرطى، وهى (¬4) شجر ينبت فى الرمل تستظل بظلاله الظباء من الحرّ، وتأوى إليه، قال الشماخ: إذا الأرطى توسّد أبرديه … خدود جوازى بالرّمل عين (¬5) ¬

_ (¬1) فى العقد: «لى وحشة». (¬2) اللآلي 921؛ وبعده: فإذا مررت بقبره فاعقر به … كوم الجلاد وكلّ طرف سابح وفى ت، ونسخة بحاشيتى الأصل، ف: «إن السماحة والشجاعة». (¬3) ديوانه 2: 617، وروايته: «فروحت القلوص إلى سعيد». (¬4) فى نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «وهو». (¬5) ديوانه 94، وفى حاشية ت (من نسخة): «توسط أبرديه»، وفى حواشى الأصل، ت، ف: «قبله: إليك بعثت راحلتى تشكّى … هزالا بعد مقحدها السّمين إذ بركت على شرف وألقت … عسيب جرانها كعصا الهجين إذا الأرطى ... المقحد: أصل السنام، والشرف: النجد من الأرض، وعسيب جرانها: صفحة العنق، والهجين: الراعى، والجوازئ: التى اكتفت بالرطب عن الماء، وأبردا الأرطى: الغداة والعشى؛ وقال خالد بن كلثوم: أبرداه: ظلاه؛ الظل بالغداة والفيء بالعشى؛ وقال ابن دريد: معناه أن البقرة تتوسد بالغداة الأرطى الّذي يلى المغرب، فإذا دارت الشمس دارت معها إلى ناحية المشرق تتوسد الغصون التى مالت عنها الشمس». والعين: جمع عيناء؛ وهى الواسعة العين.

وقوله: «قالا» من القيلولة لا من القول، على أن قوله تعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ كما يدلّ على الرحمة يدلّ أيضا على «أن يرحم»، فإذا جعلنا الكناية بلفظة «ذلك» عن أن يرحم كان التذكير فى موضعه؛ لأن الفعل مذكر، ويجوز أيضا أن يكون قوله تعالى وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ كناية عن اجتماعهم على الإيمان، وكونهم فيه أمة واحدة؛ ولا محالة أنّه لهذا خلقهم؛ ويطابق هذه الآية قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ؛ [الذاريات: 56]. وقد قال قوم فى قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً معناه أنه لو شاء أن يدخلهم أجمعين الجنة، فيكونوا فى وصول جميعهم إلى النعيم أمة واحدة، وأجرى هذه الآية مجرى قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها؛ [السجدة: 13]. فى أنه أراد: هداها إلى طريق الجنة، فعلى هذا التأويل أيضا يمكن أن ترجع لفظة «ذلك» إلى إدخالهم أجمعين إلى الجنة، لأنه إنما خلقهم للمصير إليها والوصول إلى نعيمها. فأما قوله تعالى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ فمعناه الاختلاف فى الدين والذهاب عن الحق فيه بالهوى والشبهات. وذكر أبو مسلم ابن بحر فى قوله: مُخْتَلِفِينَ وجها غريبا وهو أن يكون معناه أن خلف هؤلاء الكافرين يخلف سلفهم فى الكفر، / لأنه سواء قولك: خلف بعضهم بعضا، وقولك: اختلفوا (¬1)، وسواء قولك: قتل بعضهم بعضا، واقتتلوا؛ ومنه قولهم: لا أفعل كذا ما اختلف العصران والجديدان، أى جاء كلّ واحد منهما بعد الآخر. فأمّا الرحمة فليست رقة القلب كما ظنه السائل، لكنها فعل النّعم والإحسان، يدلّ على ذلك أنّ من أحسن إلى غيره، وأنعم عليه يوصف بأنه رحيم به، وإن لم يعلم منه رقة قلب عليه، بل وصفهم بالرحمة من لا يعهدون منه رقّة القلب أقوى من وصفهم الرقيق القلب بذلك؛ لأنّ مشقة النعمة والفضل والإحسان على من لا رقّة عنده أكبر منها على الرقيق القلب، وقد علمنا أنّ من رقّ قلبه لو امتنع من الإفضال والإحسان لم يوصف بالرحمة، وإذا أنعم ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «سمى الاختلاف اختلافا لأن الكلام يخلف بعضه بعضا».

وصف بذلك، فوجب أن يكون معناها ما ذكرناه؛ على أنه لا يمتنع أن يكون معنى الرحمة فى الأصل ما ذكرتم (¬1)، ثم انتقل بالتعارف إلى ما ذكرناه كنظائره. وقد وصف الله تعالى القرآن بأنه هدى ورحمة من حيث كان نعمة، ولا يتأتّى فى القرآن ما ظنوه (¬2)؛ وإنما وصفت رقة القلب بأنها رحمة؛ لأنّها ممّا تجاوره الرحمة التى هى النعمة فى الأكثر، وتوجد عنده، فحلّ محلّ وصف الشهوة بأنّها محبة لمّا كانت توجد عندها المحبة فى الأكثر؛ وليست الرحمة مختصة بالعفو؛ بل تستعمل فى ضروب النّعم، وصنوف الإحسان؛ ألا ترى أنّا نصف المنعم على غيره، المحسن إليه بالرحمة، وإن لم يسقط عنه ضررا، ولا تجاوز له عن زلّة؛ وإنما سمى العفو عن الضرر وما جرى مجراه رحمة من حيث كان نعمة؛ لأنّ النعمة بإسقاط الضرر تجرى مجرى النعمة بإيصال النفع، فقد بان بهذه الجملة معنى الآية، وبطلان ما ضمنه السائل سؤاله. فإن قيل: إذا كانت الرحمة هى النعمة، وعندكم أن نعم الله تعالى شاملة للخلق أجمعين، فأىّ معنى لاستثناء مَنْ رَحِمَ من جملة المختلفين إن كانت الرحمة هى النعمة؟ وكيف يصحّ اختصاصها بقوم دون قوم وهى عندكم شاملة عامّة؟ قلنا: لا شبهة فى أنّ نعم الله شاملة للخلق أجمعين؛ غير أنّ فى نعمه أيضا ما يختصّ بها بعض العباد (¬3)، إما لاستحقاق، أو لسبب يقتضي الاختصاص/ فإذا حملنا قوله تعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ على النعمة بالثواب، فالاختصاص ظاهر، لأن النعمة به لا تكون إلا مستحقّة، فمن استحقّ الثواب بأعماله وصل إلى هذه النعمة، ومن لم يستحقّه لم يصل إليها. وإن حملنا الرحمة فى الآية على النعمة بالتوفيق للايمان واللطف الّذي وقع بعده فعل الإيمان كانت هذه النعمة أيضا مختصّة، لأنّه تعالى إنما لم ينعم على سائر المكلّفين بها؛ من حيث ¬

_ (¬1) ت، حاشية الأصل (من نسخة): ما ذكر. (¬2) س: «قالوه». (¬3) ت: «الخلق».

تأويل خبر"مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحى فاصنع ما شئت".

لم يكن فى معلومه تعالى أنّ لهم توفيقا، وأنّ فى الأفعال ما يختارون عنده الإيمان؛ فاختصاص هذه النعم ببعض العباد لا يمنع من شمول نعم أخر لهم؛ كما أن شمول تلك النعم لا يمنع من اختصاص هذه. تأويل خبر [«ممّا أدرك الناس من كلام النبوّة الأولى إذا لم تستحى فاصنع ما شئت».] روى أبو مسعود البدرىّ عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «ممّا أدرك الناس من كلام النبوّة الأولى إذا لم تستحى فاصنع (¬1) ما شئت». وفى هذا الخبر وجوه من التأويل ثلاثة: أحدها أن يكون معناه: إذا عملت العمل لله جلّ وعزّ وأنت لا تستحيى من الناظرين إليك، ولا تتخوّفهم (¬2) أن ينسبوك فيه إلى الرياء صنعت ما شئت، لأن فكرك فيهم، ومراقبتك لهم يقطعانك عن استيفاء شروط عملك، ويمنعانك من القيام بحدوده وحقوقه؛ وإذا اطّرحت الفكر توفّرت على استيفاء عملك. والوجه الثانى أنّ من لم يستحى من المعاير والمخازى والفضائح صنع ما شاء، والظاهر (¬3) ظاهر أمر، والمعنى معنى تغليظ وإنكار؛ مثل قوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ؛ [فصلت: 40]، وقوله عز وجل: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ؛ [الكهف: 29]؛ وهذا نهاية التغليظ والزجر والإخبار عن كبر (¬4) الذنب فى اطّراح الحياء؛ ويجرى مجرى قولهم: بعد أن فعل فلان كذا فليفعل ما يشاء، وبعد أن أقدم على كذا فليقدم على ما شاء؛ والمعنى المبالغة فى عظم ما ارتكبه، وقبح (¬5) ما اقترفه. والوجه الثالث أن يكون معنى الخبر إذا لم تفعل ما تستحيى منه فافعل ما شئت؛ ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «فافعل». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «خاف وتخوف بمعنى». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «فالظاهر». (¬4) حاشية ت (من نسخة): «عظم الذنب». (¬5) ت، د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): «وقبيح».

فكأنّ معنى (¬1) الخبر إذا لم تفعل قبيحا فافعل ما شئت، لأنه لا قبيح (¬2) من ضروب القبائح إلا والحياء يصاحبه، ومن شأن فاعله إذا قرع به أن يستحيى منه، فمتى جانب/ الإنسان ما يستحى منه من أفعاله فقد جانب سائر القبائح، وما عدا القبيح من الأفعال فهو حسن. ويجرى هذا مجرى خبر يروى فيما أظن عن نبينا عليه السلام أنّ رجلا جاءه (¬3) فاسترشده إلى خصلة يكون فيها جماع الخير، فقال له عليه السلام: «أشترط عليك ألّا تكذبنى، ولن أسألك (¬4) ما وراء ذلك»، فهان على الرجل ترك الكذب خاصّة، والمعاهدة على اجتنابه دون سائر القبائح، وشرط على نفسه ذلك، فلمّا انصرف جعل كلّما همّ بقبيح يفكّر (¬5) ويقول: أرأيت لو سألنى عنه النبي صلى الله عليه وآله ما كنت قائلا له، لأننى إن صدقته افتضحت، وإن كذبته نقضت العهد بينى وبينه؛ فكان ذلك سببا لاجتنابه لسائر القبائح (¬6)، وهكذا معنى الخبر الّذي تأوّلناه؛ لأن فى اجتناب ما يستحى منه اجتنابا لسائر القبائح. ¬

_ (¬1) م: «المعنى». (¬2) م: «لا ضرب». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «أتاه». (¬4) حاشية ت (من نسخة): «عما». (¬5) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «يفكر»؛ بإسكان الفاء وكسر الكاف. (¬6) حاشية ف: «قال السيد الإمام ضياء الدين: وفى رواية أخرى أن رحلا أتى رسول الله صلى الله عليه وآله، فأسلم ثم قال: أنا أؤاخذ من الذنوب بما ظهر، وأنا أستسر بخلال أربع: الزنا والسرقة وشرب الخمر والكذب؛ فأيتهن أحببت تركت، قال: دع الكذب؛ فلما تولى من عند النبي صلى الله عليه وآله هم بالزنا؛ فقال: يسألنى رسول الله صلى الله عليه وآله، فإن جحدت تقضت ما جعلت، وإن أقررت حددت، ثم هم بالسرقة ثم يشرب الخمر؛ فتفكر فى مثل ذلك، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: يا رسول الله، تركتهن أجمع. قال السيد: إنما كتبت هذه الرواية هاهنا؛ لأن هذه مفصلة، وتلك مجملة، ولأنى رأيت السيد غير محقق فيما أورده».

تأويل خبر آخر خبر على بن أبى طالب ومارية القبطية، وتفسير ما ورد فيه من غريب

تأويل خبر آخر [خبر على بن أبى طالب ومارية القبطية، وتفسير ما ورد فيه من غريب] روى محمد بن الحنفيّة رحمة الله عليه عن أبيه أمير المؤمنين عليه السلام قال: كان قد كثّر على مارية القبطيّة أم إبراهيم فى ابن عم لها قبطىّ كان يزورها، ويختلف إليها، فقال لى النبي صلى الله عليه وآله: «خذ هذا السيف وانطلق، فإن وجدته عندها فاقتله». قلت: يا رسول الله، أكون فى أمرك إذا أرسلتنى كالسّكّة (¬1) المحمّاة، أمضى لما أمرتنى، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال لى النبي صلى الله عليه وآله: «بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب». فأقبلت متوشّحا (¬2) بالسيف، فوجدته عندها، فاخترطت السيف، فلما أقبلت نحوه عرف أنى أريده، فأتى نخلة فرقى إليها، ثم رمى بنفسه على قفاه، وشغر برجليه، فإذا إنه أجبّ أمسح، ماله ممّا للرجال قليل ولا كثير، قال: فغمدت السيف ورجعت إلى النبي صلى الله عليه وآله فأخبرته، فقال: «الحمد لله الّذي يصرف (¬3) عنّا أهل البيت». قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوّه: فى هذا الخبر أحكام وغريب، ونحن نبدأ بأحكامه، ثم نتلوها بغريبه. فأول ما فيه أن لقائل أن يقول: كيف يجوز أن يأمر الرسول عليه السلام بقتل رجل على التّهمة (¬4) بغير بينة ولا ما يجرى مجراها؟ والجواب عن ذلك أن القبطىّ جائز أن يكون من أهل/ العهد الذين أخذ عليهم أن تجرى فيهم (¬5) أحكام المسلمين، وأن يكون الرسول عليه السلام تقدم إليه بالانتهاء عن الدخول إلى مارية، فخالف وأقام على ذلك، وهذا نقض للعهد، وناقض ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «السكة: الحديدة التى تكون على طرف آلة الفدان، والفدان آلة الأكرة». (¬2) توشحت بالسيف؛ إذا تقلدته. (¬3) حاشية ت من نسخة: «صرف»، ود: «صرف عنا الرجس أهل البيت»، وط، م: «يصرف عنا الرجس أهل البيت». (¬4) فى حواشى الأصل، ت، ف: «التهمة؛ بالتحريك هو الصحيح». (¬5) حاشية ت (من نسخة): «عليهم».

العهد من أهل الكفر مؤذن بالمحاربة؛ والمؤذن بها مستحقّ للقتل. فأما قوله: «بل [الشاهد يرى ما لا يرى الغائب] (¬1)» فإنما عنى به رؤية العلم لا رؤية البصر لأنه لا معنى فى هذا الموضع لرؤية البصر، فكأنه عليه وآله السلام قال: بل الشاهد يعلم؛ ويصحّ له من وجه الرأى والتدبير ما لا يصحّ للغائب؛ ولو لم يقل ذلك لوجب قتل الرجل على كل حال، وإنما جاز منه عليه الصلاة والسلام أن يخيّر بين قتله والكفّ عنه، ويفوض الأمر فى ذلك إلى أمير المؤمنين عليه السلام من حيث لم يكن قتله من الحدود والحقوق، التى لا يجوز العفو عنها، ولا يسع إلا إقامتها، لأن ناقض العهد ممّن إلى الإمام القائم بأمر (¬2) المسلمين إذا قدر عليه قبل التوبة أن يقتله، أو أن يمنّ عليه. ومما فيه أيضا من الأحكام اقتضاؤه أن مجرد أمر الرسول صلى الله عليه وآله لا يقتضي الوجوب، لأنه لو اقتضى ذلك لما حسنت مراجعته ولا استفهامه؛ وفى حسنها ووقوعها موقعها دلالة (¬3) على أنها لا تقتضى ذلك. ومما فيه أيضا من الأحكام دلالته على أنه لا بأس بالنظر إلى عورة الرجل عند الأمر ينزل فلا يوجد من النظر إليها بدّ إمّا لحدّ يقام، أو لعقوبة تسقط، لأن العلم بأنه أمسح أجبّ لم يكن إلا عن تأمّل ونظر، وإنما جاز التأمل والنظر لتبيين: هل هو ممّن يكون منه ما قرف به أولا، والواجب على الإمام فيمن شهد عليه بالزنا، وادّعى أنه مجبوب أن يأمر بالنظر إليه، وتبيين أمره، وبمثله أمر النبي صلى الله عليه وآله فى قتل مقاتلة بنى قريظة، لأنه أمر أن ينظروا إلى مؤتزر، وكلّ من أشكل عليهم أمره، فمن وجدوه قد أنبت قتلوه، ولولا جواز النظر إلى العورة عند الضرورة لما قامت شهادة الزنا؛ لأن من رأى رجلا مع امرأة واقعا عليها متى لم يتأمل أمرهما حقّ التأمل لم تصحّ شهادته، ولهذا قال النبي ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «بل لا يرى الشاهد ما يرى الغائب». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «بأمور». (¬3) ط: «وفى حسنها ووقعها دلالة .. »، م: «وفى حسنها ووقعها موقعها».

صلى الله عليه وآله لسعد بن عبادة، وقد سأله عمّن وجد مع امرأته رجلا، أيقتله؟ / فقال صلى الله عليه وآله: لا، حتى يأتى بأربعة شهداء، ولو لم يكن للشهداء إذا حضروا تعمّد النظر إلى عورتيهما لإقامة الشهادة كان حضورهم كغيبتهم، ولم تقم شهادة الزّنا؛ لأن من شرطها مشاهدة العضو فى العضو كالميل فى المكحلة. فإن قيل: كيف جاز لأمير المؤمنين الكفّ عن القتل، ومن أى جهة آثره لما وجده أجبّ، وأىّ تأثير لكونه أجبّ فيما استحقّ به القتل وهو نقض العهد؟ قلنا: إنه عليه السلام لما فوّض إليه الأمر فى القتل والكفّ كان له أن يقتله على كلّ حال، وإن وجده أجبّ؛ لأنّ كونه بهذه الصفة لا يخرجه من نقض العهد، وإنما آثر الكفّ الّذي كان إليه، ومفوّضا إلى رأيه، لإزالة التهمة والشك الواقعين فى أمر مارية، ولأنه أشفق من أن يقتله، فيتحقّق الظنّ ويلحق بذلك العار، فرأى عليه السلام أن الكفّ أولى لما ذكرناه. فأمّا غريب الحديث (¬1) فقوله: «شغر [برجليه» يريد رفعهما] (¬2)، وأصله فى وصف الكلب إذا رفع رجله للبول، فأما نكاح الشّغار (¬3) - وقد قيل الشّغار بالفتح- فهو أن يزوّج الرجل من هو ولىّ لها من بنت أو أخت غيره، على أن يزوجه بنته أو أخته بغير مهر. وكان أحد العرب فى الجاهلية يقول للآخر: شاغرنى؛ أى زوّجنى حتى أزوّجك؛ وأظنه مأخوذا من الشّغر الّذي هو رفع الرجل، لأن النكاح فيه معنى الشّغر، فسمّى هذا العقد شغارا ومشاغرة، لإفضائه فى كل واحد من المزوّجين (¬4) إلى معنى الشّغر، وصار اسما لهذا النكاح كما قيل فى الزنا سفاح، لأن الزانيين يتسافحان الماء، أى يسكبانه، والماء هو النّطفة، ويمكن أن يكون أيضا الماء الّذي يغتسلان به، فكنّى بذلك عن الزناء (¬5) ثم صار اسما له وعلما عليه. ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «الخبر». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «برجليه يريد رفعهما». (¬3) ت، ف: «الشغار، بالكسر». (¬4) ت، ف: «المتزوجين». (¬5) حاشية ف: «الزنا والزناء كلاهما صحيح».

ومن الشّغر الّذي هو رفع الرجل قول زياد لابنة معاوية، وكانت عند ابنه، فافتخرت يوما عليه، وتطاولت، فشكاها إلى أبيه زياد، فدخل عليها بالدّرّة يضربها، ويقول لها أشغرا وفخرا! وأما قول الفرزدق: شغّارة تقذ الفصيل برجلها … فطّارة لقوادم الأبكار (¬1) / فإنه من غريب شعره، وفسره قال: معنى «شغارة» أنها ترفع رجلها للبول، وقوله: «تقذ الفصيل برجلها»، أى تركله وتدفعه عن الدنوّ إلى الرّضاع، ليتوفّر اللبن على الحلّب، وأراد «بتقذه» (¬2)، أى تبالغ فى إيلامه وضربه، ومنه الموقوذة (¬3)؛ فأما قوله: «فطّارة لقوادم الأبكار»، فالفطر هو الحلب بثلاث أصابع، والقوادم هى الأخلاف، وإنما خصّ الأبكار بذلك؛ لأنّ صغر أخلافها يمنع من حلبها ضبّا (¬4)، والضبّ هو الحلب بالأصابع الأربع (¬5)؛ فكأنه لا يمكن فيها لقصر أخلافها إلا الفطر؛ ومعنى البيت تعييره نساء جرير بأنهنّ راعيات، وذلك مما تعيّر به العرب النساء؛ ألا ترى إلى قوله قبل هذا البيت: كم عمّة لك يا جرير وخالة … فدعاء قد حلبت عليّ عشارى (¬6) كنا نحاذر أن تضيع لقاحنا … ولها إذا سمعت دعاء يسار (¬7) ثم تلا ذلك بقوله: شغارة ... قال سيدنا المرتضى أدام الله علوه: وعندى أن قوله «شغّارة» كناية عن رفع رجلها للزنا، وهو أشبه بأن يكون مراده فى هذا الموضع، ألا ترى أنه قد وصفها بالوله، وترك ¬

_ (¬1) ديوانه 2: 452. (¬2) ف حاشية ت (من نسخة): «تقذ». (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف: «الموقوذة: الشاة التى يرميها الراعى بالعصا فتموت». (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «ضفا؛ والضعف هو الحلب». (¬5) م: «الأربع كلها». (¬6) فى حاشيتى الأصل، ف. «الفدع: اعوجاج فى الزند، وعلى تتعلق بمحذوف، كأنه قال: متخففة عليّ، أو قائمة عليّ»، والعشار: جمع عشراء؛ وهى الناقة التى أتى عليها من وضعها عشرة أشهر». (¬7) فى حاشيتى الأصل، ف: «اللقاح: جمع لقحة؛ وهى الناقة الحديثة العهد بالنتاج».

ما قالته العرب فى أحوال القمر، وتفسير ما ورد فى ذلك من الغريب

حفظ اللّقاح عند سماعها دعاء يسار؛ ويسار اسم لراع؛ فكأنه قد وصفها بالوله إلى الزّنا والإسراع إليه، وترك حفظ ما استحفظته من اللّقاح؛ فالأشبه أن يكون قوله: «شغّارة» - مع كونه عقيب البيت الّذي ذكرناه- محمولا على ما أشرنا إليه. فأما قولهم: ذهبوا شغر بغر فليس من هذا فى شيء وإنما يراد به أنهم ذهبوا متفرّقين متشتتين، ومثله ذهبوا عباديد وعبابيد، وشعاليل وشعارير وأيادى (¬1) سبا؛ كلّ ذلك بمعنى واحد. وأما قوله: «فإذا أنه أجبّ»، فيعنى به المقطوع الذكر؛ لأن الجبّ هو القطع؛ ومنه بعير أجبّ إذا كان مقطوع السّنام: وقد ظن بعض من تأول هذا الخبر أن الأمسح هاهنا هو القليل لحم الألية، كالأرصع والأرسح والأزلّ (¬2)، وهذا غلط، لأن الوصف بذلك لا معنى له فى الخبر، وإنما أراد تأكيد الوصف له بأنه/ أجبّ، والمبالغة فيه، لأن قوله: «أمسح» يفيد أنه مصطلم (¬3) الذّكر، ويزيد على معنى أجبّ زيادة ظاهرة. *** [ما قالته العرب فى أحوال القمر، وتفسير ما ورد فى ذلك من الغريب] أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدثنى القاسم بن الحسين الورّاق قال حدثنا سليمان ابن داود الطّوسىّ قال حدّثنا سوّار بن عبد الله القاضى عن الأصمعىّ قال: دخلت على ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «أيادى، يجوز أن تكون نصبا على الحال، وعلى المصدر أيضا؛ فإذا كان حالا كان التقدير: تفرقوا أمثال أيادى سبا، وإذا كان مصدرا فالتقدير: تفرقوا تفرق أولاد سبا». وفى حواشى الأصل، ت، ف أيضا: «يقال تفرقوا أيادى سبا، وفى معناه قولان: أحدهما أنه سبأ بن يشجب، والأيادى: الأولاد، وفيه إنه من السبى، ووزنه فعل؛ وحينئذ ينصرف، وإنما صار الأولاد أيادى؛ لأنه يستعان بهم كما يستعان بالأيادى، والأيادى جمع الجمع، يد وأيد وأياد». (¬2) حاشية ف: «الأرصع والأرسح والأزل: قليل لحم الورك». (¬3) حاشية ف. «مصطلم: مقطوع الذكر».

الرشيد (¬1) فى الليل، فتذاكرنا أحوال القمر، فقلت: العرب تقول للقمر إذا كان ابن ليلة: ما أنت ابن ليلة (¬2)؟ قال: رضاع سخيلة، حلّ أهلها برميلة. قيل له: ما أنت (¬3) ابن ليلتين؟ قال: حديث أمتين، بكذب ومين. قيل له: ما أنت ابن ثلاث؟ قال: قليل اللّباث- وقيل أيضا: حديث فتيات، غير جدّ مؤتلفات- قيل له: فما أنت ابن أربع؟ قال: عتمة أمّ ربع- وقيل: عتمة أم الرّبع (¬4) - غير جائع ولا مرضع. قيل له: فما أنت (¬5) ابن خمس؟ قال: عشاء خلفات قعس- ويقال: حديث وأنس، ويقال: سر ومسّ (¬6) - قيل له: ما أنت (¬7) ابن ست؟ قال سر وبت- وقيل: تحدّث (¬8) وبت- قيل له: ما أنت (¬9) ابن ¬

_ (¬1) حاشية ف: «حدث عبيد الله بن محمد التيمى قال: أراد الرشيد سفرا؛ وأمر الناس أن يتأهبوا لذلك، وأعلمهم أنه خارج بعد الأسبوع؛ فمضى الأسبوع ولم يخرج، فاجتمعوا إلى المأمون يسألونه أن يستعلم ذلك؛ ولم يكن الرشيد يعلم أن المأمون يقول الشعر؛ فكتب إليه المأمون: يا خير من خبّت المطىّ به … ومن تقدّى بسرجه فرس هل غاية فى المسير نعرفها … أم أمرنا فى المسير ملتبس ما علم هذا إلّا إلى ملك … من نوره فى الظّلام يقتبس إن سرت سار الرّشاد متّبعا … وإن تقف بالرّشاد يحتبس فقرأها الرشيد وسرّ بها، ووقع فيها: يا بنيّ، ما أنت والشعر! أما علمت أن الشعر أرفع حالات الدنى، وأقل حالات السرى! والمسير إلى ثلاث إن شاء الله. - قول المأمون فى شعره: «ومن تقدى بسرجه فرس»، تقدى أى استمر؛ كما قال ابن قيس الرقيات: تقدّت بى الشّهباء نحو ابن جعفر … سواء عليها ليلها ونهارها أى استمرت وجرت قاصدة إليك». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «أى أستفهمك عن نفسك فى حال كونك ابن ليلة». (¬3) ط، م: «فما أنت». (¬4) د، حاشية ف (من نسخة): «أم ربع». (¬5) ت، د: «ما أنت». (¬6) فى حاشيتى ت، ف: «مس، أى ليكن سيرك مساء للضوء». (¬7) ط، م: «فما أنت». (¬8) ف، حاشية الأصل (من نسخة): «حدث». (¬9) د، ت، ف: «قيل: ما أنت». ط، م: «قيل فما أنت».

سبع؟ قال دلجة (¬1) ضبع (¬2) - وقيل هدى لأنس (¬3) ذى الجمع، وقيل: حديث جمع، وقيل: يضفر فىّ النّسع (¬4)، وقيل: يلتقط فىّ الجزع- قيل: ما أنت ابن ثمان؟ قال: قمر إضحيان (¬5). قيل: له: ما أنت ابن تسع؟ قال منقطع الشّسع- وقيل يلتقط فىّ الجزع، وقيل: الودع (¬6)، وقيل عشيّة أهل جمع- قيل له: ما أنت ابن عشر؟ قال: ثلث الشهر، - وقيل: مخنّق الفجر، وقيل: أؤدّيك إلى الفجر، وقيل: أبادر الفجر- قيل له: ما أنت ابن إحدى عشرة (¬7)؟ قال: أطلع عشاء، وأرى بكرة- وقيل: أغيب بسحرة- قيل: له ما أنت ابن اثنتى عشرة؟ قال: مؤنق للبشر (¬8)، بالبدو والحضر. قيل: ما أنت ابن ثلاث عشرة؟ قال: قمر باهر، يعشى له الناظر؛ قيل له: ما أنت ابن أربع عشرة؟ قال: مقتبل الشباب، أضيء مد جنات (¬9) السّحاب- وقيل مضئ (¬10) للسحاب- قيل له: ما أنت ابن خمس عشرة؟ قال: تمّ الشّباب، وانتصف الحساب. ¬

_ (¬1) س: «بضم الدال»، ت: «بضم الدال وفتحها معا». (¬2) فى نسخة بحاشيتى ت، ف: «الضبع». (¬3) ج، ص: «لأنس ذى الجمع»، بتنوين السين. (¬4) النسع: سير مضفور مثل الأعنة. (¬5) ت، ص: «قمر إضحيان»، بالإضافة؛ وفى حاشية الأصل (من نسخة): «قمر أضحيان»، بضم الهمزة. وفى حواشى الأصل، ت، ف: «قمر إضحيان وليلة ضحيانة، بالكسر؛ هو المعروف الصحيح». (¬6) الودع: خرز أبيض يخرج من البحر؛ معروف. (¬7) فى حاشيتى ت، ف: «يقال: إن ما بعد العشر موضوع لم يرو عن قدماء العرب». (¬8) فى نسخة بحاشيتى ت، ف: «موفق البشر». (¬9) حاشية ف: «أضيء مدجنات السحاب؛ التقدير: السحاب المدجنات؛ وهذا من باب ما يقال له إضافة الصفة إلى الموصوف فى الظاهر؛ كقول: مررت بحسان النساء، وجسام الرجال؛ أى النساء الحسان والرجال الجسام». (¬10) ت، ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «مضئ السحاب».

قيل له: ما أنت (¬1) ابن ست عشرة؟ قال: نقص (¬2) الخلق، بالغرب والشرق. قيل له: ما أنت ابن سبع عشرة؟ قال: أمكنت المقتفر القفرة (¬3). قيل له ما أنت ابن ثمانى عشرة (¬4)؟ قال: قليل البقاء، سريع الفناء. قيل له: ما أنت ابن تسع عشرة؟ قال: بطيء الطلوع/ بيّن الخشوع. قيل: ما أنت ابن عشرين؟ قال: أطلع بسحرة، وأضيء بالبهرة (¬5) - وقيل: ثم أهجّر (¬6) بالبهرة- قيل: ما أنت ابن إحدى وعشرين؟ قال: كالقبس؛ يرى بالغلس. قيل: ما أنت ابن اثنين وعشرين؟ قال: لا أطلع إلا ريثما أرى. قيل: ما أنت ابن ثلاث وعشرين، قال: أطلع فى قتمة، ولا أجلو الظّلمة. قيل له: ما أنت ابن أربع وعشرين؟ قال: لا قمر ولا هلال. قيل: ما أنت ابن خمس وعشرين؟ قال: دنا الأجل، وانقطع الأمل. قيل: ما أنت ابن ست وعشرين؟ قال: دنا ما دنا؛ فلا يرى منّى إلا شفا. قيل: ما أنت ابن سبع وعشرين؟ قال: أطلع بكرا، ولا أرى ظهرا. قيل: ما أنت ابن ثمان وعشرين؟ قال: أسبق شعاع الشمس. قيل: ما أنت ابن تسع وعشرين؟ قال: ضئيل صغير، فلا يرانى إلا البصير. قيل: ما أنت ابن ثلاثين؟ قال: هلال مستنير (¬7). قال الأصمعىّ: ثم قلت للرشيد: يقال إنه لا يحفظ هذا الحديث من الرجال إلا عاقل، ¬

_ (¬1) ت، ف: «قيل ما أنت». (¬2) م: «ناقص الخلق». (¬3) حاشية ف (من نسخة): «المقفرة». (¬4) فى نسخة حاشيتى الأصل، ف: «ثمان عشرة». (¬5) فى حاشيتى الأصل، ف «البهرة: نصف الليل؛ يقال ابهار الليل؛ إذا انتصف، وبهرة كل شيء وسطه». ص: «البهرة البهرة: الوسط من كل شيء، وكأنه إشارة إلى نصف النهار؛ ويدل عليه ذكر التهجير؛ والله أعلم». (¬6) فى حاشيتى الأصل، ف: «معنى قوله: «أهجر بالبهرة»، أى أطلع نصف الليل، واستعمل الهجير؛ وهو نصف النهار فى الليل استعارة». (¬7) ف، وحاشية ت (من نسخة): «مستسر»، وفى نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «مستسر»، وفى حاشية ف: «مستسر، من السرار؛ وهو آخر الشهر». وفى حاشية الأصل أيضا (من نسخة): «مستبين».

فقال: خذه عليّ، قلت: هات، فأعاده حتّى بلغ: «قيل له: ما أنت ابن ثمان؟ قال: قمر أضحيان». أما قوله: «رضاع سخيلة» أراد تصغير سخلة، والمعنى أنّ القمر يبقى بقدر ما ينزل قوم، فتضع شاتهم سخلة، ثم ترضعها ويرتحلون، فبقاؤه بالأفق بمقدار هذا الزمان. وقوله: «حلّ أهلها برميلة» أظنّ أنّ المعنى فيه الإخبار عن قلة اللّباث وسرعة الانتقال؛ لأن الرّمل ليس بمنزل مقام للقوم؛ لأنهم كانوا يختارون فى منازلهم جلد (¬1) الأرض وهضبها والأماكن التى لا تستولى السيول عليها، فخصّ الرّميلة لهذا المعنى. وقوله «حديث أمتين، بكذب ومين» يريد أن بقاءه قليل بمقدار ما تلقى الأمة الأمة، فتكذب لها حديثا ثم تفترقان. وقوله: «حديث فتيات، غير جدّ مؤتلفات»، أراد أنه يبقى بقاء فتيات اجتمعن على غير ميعاد، فتحادثن ساعة ثم انصرفن غير مؤتلفات. وقوله «عتمة أم ربع (¬2)»، يقال: عتّمت إبله إذا تأخرت عن العشاء، ومن هذا سميّت صلاة العتمة؛ لأنها آخر الوقت فى العشاء، وقوله «أم ربع» يعنى الناقة، وهو تأخير حلبها؛ يريد أن بقاءه بمقدار ما تحلب (¬3) ناقة لها ولد ولدته فى أول الربيع/؛ وهو أول النّتاج، والولد فى هذا الوقت يسمّى ربعا، إذا كان ذكرا، فإن كان أنثى قيل ربعة، فإن كان فى آخر النّتاج قيل هبع للذكر وللأنثى هبعة. وقوله: «عشاء خلفات قعس»؛ فالخلفات اللّواتى قد استبان حملهن، واحدتها خلفة، وهى المخاض؛ ولا واحد للمخاض من لفظها (¬4)، وإنما قال: «عشاء خلفات»؛ لأنها لا تعشّى إلى أن يغيب القمر فى هذه الليلة، والقعساء الداخلة الظّهر الخارجة البطن. وقوله: «سر وبت» يريد أنه لا يبقى إلا بقدر [ما يبيت الإنسان ثم يسير] (¬5)، يريد أنه يبقى بقدر ما يسير الإنسان ثم يبيت، ¬

_ (¬1) الجلد من الأرض: الصلب المستوى. (¬2) ط، م: «أم الربع». (¬3) فى نسخة بحاشيتى ت، ف: «حلب ناقة». (¬4) كذا فى ش، وفى ج: «لفظه». (¬5) من نسخة بحاشيتى الأصل، فى «ما يسير الإنسان ثم يبيت».

فقلب المعنى لأنه يسير فى الضوء. وقوله: «قمر إضحيان»؛ أى ضاح وبارز، ويقال: «قمر إضحيان» بالتنوين فيهما جميعا، و «قمر إضحيان» بالإضافة، ومنه قيل: ليلة إضحيانة، إذا كانت نقيّة البياض. وقوله: «منقطع الشّسع»، أراد أنه يبقى بقدر ما تبقّى شسع من قد يمشى به حتى ينقطع. وقوله: «يلتقط فىّ الجزع»، أى أنه مضئ أبلج، لو انقطعت مخنقة فتاة فيها شذور مفصّلة بجزع ما ضاع منها شيء لضيائه ونقائه. وقوله: «أضيء بالبهرة»، يعنى به وسط الليل، لأن بهرة الشيء وسطه. وقوله: «أمكنت المقتفر القفرة»؛ فالمقتفر الّذي يتبع الآثار، ومقتفراته مواضعه التى يقصدها (¬1). ¬

_ (¬1) فى نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «وقفرته: موضعه الّذي يقصده».

7

[7] مجلس آخر [المجلس السابع: ] تأويل آية [وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى ... ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا؛ [الإسراء: 72] فقال: كيف يجوز أن يكونوا فى الآخرة عميا، وقد تظاهر الخبر عن الرسول عليه وآله السلام بأنّ الخلق يحشرون كما بدئوا سالمين من الآفات والعاهات، قال الله تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ؛ [الأعراف: 29]، وقال عزّ وجل: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ؛ [الأنبياء: 104]، وقال جلّ وعلا: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ؛ [ق: 22]. الجواب، يقال فى هذه الآية أربعة أجوبة (¬1): أحدها أن يكون العمى الأول إنما هو عن تأمّل الآيات، والنظر فى الدّلالات والعبر التى أراها الله المكلّفين فى أنفسهم وفيما يشاهدون، ويكون العمى الثانى هو عن الإيمان بالآخرة، والإقرار/ بما يجازى به المكلّفون فيها من ثواب أو عقاب، وقد قال قوم: إن الآية متعلّقة بما قبلها من قوله تعالى: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ؛ [الإسراء: 66] إلى قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا؛ [الإسراء: 70]، ثم قال بعد ذلك: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا؛ يعنى (¬2) فى هذه النعم، وعن هذه العبر، فهو فى الآخرة أعمى؛ أى هو عمّا غيّب عنه من أمر الآخرة أعمى، ويكون قوله: فِي هذِهِ كناية عن النّعم لا عن الدنيا ويقال: إن ابن عباس رحمة الله عليه سأله سائل عن هذه الآية فقال له: اتل ما قبلها، ونبّهه على التأويل الّذي ذكرناه. ¬

_ (¬1) م: «أوجه». (¬2) د، ف، حاشية ت (من نسخة): «يعنى عن هذه النعم».

والجواب الثانى: مَنْ كانَ فِي هذِهِ يعنى الدنيا أَعْمى عن الإيمان بالله والمعرفة بما أوجب عليه المعرفة به؛ فهو فى الآخرة أعمى عن الجنة والثواب؛ بمعنى أنه لا يهتدى إلى طريقيهما (¬1)، ولا يوصل إليهما، أو عن الحجة (¬2) إذا سوئل (¬3) وووقف، ومعلوم أن من ضلّ عن معرفة الله تعالى والإيمان به يكون فى القيامة منقطع الحجة، مفقود المعاذير. والجواب الثالث: أن يكون العمى الأول عن المعرفة والإيمان، والثانى بمعنى المبالغة فى الإخبار عن عظم ما يناله (¬4) هؤلاء الكفار الجهال من الخوف والغم والحزن الّذي أزاله الله عن المؤمنين العارفين بقوله: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ؛ [يونس: 62]، ومن عادة العرب أن تسمّى من اشتد همّه وقوى حزنه أعمى سخين العين، ويصفون المسرور بأنّه قرير (¬5) العين، قال الله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ؛ [السجدة: 17]. والجواب الرابع: أن العمى الأول يكون (¬6) عن الإيمان، والثانى هو الآفة فى العين على سبيل العقوبة؛ كما قال الله تعالى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى. قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى؛ [طه: 124 - 126]. ومن يجيب بهذا الجواب يتأول قوله تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ على أن المعنى/ فيه الإخبار عن الاقتدار وعدم المشقّة فى الإعادة؛ كما أنها معدومة فى الابتداء، ويجعل ذلك نظيرا لقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ (¬7)؛ [الروم: 27]، ويتأول قوله تعالى فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ على أن معناه الإخبار عن قوة المعرفة، وأن الجاهل بالله فى الدنيا يكون عارفا به فى الآخرة؛ والعرب ¬

_ (¬1) ت، ف: «طريقهما». (¬2) ت، ف: «يفقد الحجة». حاشية الأصل من نسخة: «لفقد الحجة». (¬3) ت، حاشية ف (من نسخة): «سئل ووقف». (¬4) فى نسخة بحاشيتى ت، ف: «ما ينال». (¬5) ت، د، ف: «أنه». (¬6) ساقطة من ف. (¬7) حاشية ف: «أهون هاهنا بمعنى الهين، وإن حمل على المبالغة فهو على مجاز كلام العرب».

تقول: فلان بصير بهذا الأمر؛ وزيد أبصر بكذا من عمرو، ولا يريدون إبصار العين، بل العلم والمعرفة؛ ويشهد بهذا التأويل قوله تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ، أى: كنت غافلا عمّا أنت الآن عارف به، فلما أن كشفنا عنك الغطاء بأن أعلمناك وفعلنا فى قلبك المعرفة عرفت وعلمت. فأما الخبر الّذي تدّعى روايته فهو خبر واحد، ولا حجة (¬1) فى مثله؛ وإذا عرف لفظه ربما أمكن تأوله على ما يطابق هذا الجواب، ومن (¬2) ذهب إلى الأجوبة الأول يجعل العمى الأول والثانى معا غير الآفة فى العين، فإن عورض بقوله تعالى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (¬3) تأوّله على العمى عن الثواب أو عن الحجة، وقال فى قوله تعالى: لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً إن معناه: كنت بصيرا فى اعتقادى وظنّى، من حيث كنت أرجو الهداية إلى الثواب وطريق الجنة. والمحصّل من هذه الجملة أنه لا يجوز أن يراد بالعمى الأول والثانى جميعا الآفة فى العين؛ لأنه يؤدى إلى أن كلّ من كان مئوف (¬4) البصر فى الدنيا؛ من مؤمن وكافر وطائع وعاص يكون كذلك فى الآخرة، وهذا باطل وبمثله يبطل أن يراد بلفظة الْأَعْمى الثانية المبالغة بمعنى أفضل من فلان، ويبطله أيضا أن العمى الّذي هو الخلقة لا يتعجب منه بلفظة «أفعل» وإنما يقال: ما أشدّ عماه! ولا يجوز أن يراد بالعمى الأول العين (¬5) والثانى العمى عن الثواب والجنة أو الحجة، لأنا نعلم أنّ فيمن (¬6) عميت عينه فى الدنيا من يستحق الثواب، ويوصل إليه، ولا يجوز أن يراد بالأول والثانى العمى عن المعرفة والإيمان، لا على طريقة (¬7) المبالغة والتعجب/ ولا على غير ذلك؛ لأنا نعلم أنّ الجهال بالله تعالى، المعرضين فى الدنيا عن معرفته ¬

_ (¬1) ت، وحاشية ف (من نسخة): «واحد لا حجة». (¬2) فى نسخة بحاشيتى ت، ف: «يذهب». (¬3) فى حاشيتى ت، ف: «روى نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وآله: يحشر الناس يوم القيامة كما ولدتهم أمهاتهم حفاة عراة. وفى حديث آخر: غرلا؛ والأغرل: الأكلف؛ ورواه غيره: أن ناسى القرآن يحشر يوم القيامة أعمى». (¬4) المئوف: الّذي أصابته الآفة، وفى م: «مكفوف». (¬5) ف، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «عمى العين». (¬6) ت، حاشية ف (من نسخة): «ممن». (¬7) حاشية ت (من نسخة): «طريق».

لا يجوز أن يكونوا فى الآخرة كذلك؛ فضلا أن يكونوا على أبلغ من هذه الحالة لأن المعارف فى الآخرة ضرورية، يشترك فيها جميع الناس، فلم يبق بعد الّذي أبطلناه إلا ما دخل فى الأجوبة. وعلى الأجوبة الثلاثة الأول إذا أريد بأعمى الثانية المبالغة والتعجب كان فى موضعه؛ لأن عمى القلب وضلاله يتعجب منه بلفظة «أفعل» وإن لم يجز ذلك فى عمى الجارحة. ولمن أجاب بالجواب الرابع ألّا يجعل قوله تعالى: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى لفظة تعجب، بل يجعله إخبارا عن عماه من غير تعجّب، وإن عطف عليه بقوله تعالى: وَأَضَلُّ سَبِيلًا ويكون تقدير الكلام: ومن كان فى هذه أعمى فهو فى الآخرة أعمى وهو أضل سبيلا (¬1). فإن قيل: ولم أنكرتم التعجب من الخلق بلفظة «أفعل»؟ . قلنا: قد قال النحويون فى ذلك: إن الألوان والعيوب لا يتعجّب منها بلفظ التعجّب وإنما يعدل فيها إلى أشدّ وأظهر وما جرى مجراهما؛ قالوا: لأن العيوب والألوان قد ضارعت الأسماء، وصارت خلقة كاليد والرّجل ونحو ذلك؛ فلا يقال: ما أسوده وما أعوره، كما لا يقال: ما أيداه (¬2) وما أرجله؛ ويقال: ما أشدّ سواده! كما يقال: ما أشدّ يده ورجله! واعتلوا بعلة أخرى، قالوا: إن الفعل من الألوان والعيوب على «افعلّ» و «افعالّ»، نحو احمرّ واعورّ واحولّ واحوالّ، والتعجب لا يدخل فيما (¬3) زاد على ثلاثة أحرف من الأفعال؛ ألا ترى أنه لا يدخل فى انطلق واستخرج ودحرج لزيادته على ثلاثة أحرف (¬4)؟ ¬

_ (¬1) حاشية ت، ف: «لو ذكر رحمه الله المبالغة فى الموضعين لكان صوابا، لأن أفعل فى التعجيب فعل؛ وهو هاهنا اسم كالمبالغة؛ أولا ترى أنا نقول فى التعجب «ما أحسن» والتقدير: شيء أحسنه». (¬2) فى حاشيتى ت، ف: «إنما يبنى التعجب من الأفعال دون الأسماء واليد والرجل أسماء». (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «على ما زاد». (¬4) حاشية ف: «إنما امتنعت صورة التعجب فى الرباعي؛ لأن فعل التعجب يكون أبدا أربعة أحرف؛ أحدها الف النقل والثانى الفعل؛ فإذا أدخلت على الرباعي لم يكن بد من طرح أحد الحروف، ولا يمكن ذلك لأن كلها أصول فعلها؛ إذ التعجب يختص الثلاثى فحسب».

فإن قيل لهم فقد قالوا: عورت عينه وحولت، قالوا: هذا منقول من «افعلّ» وهو فى الحكم زائد على ثلاثة أحرف، يدلّ على ذلك صحة الواو فيه؛ كما صحت فى اسودّ وابيضّ ولولا أنه منقول منه لا عتلت الواو، فقلت: عارت وحالت، كما قيل: خاف وهاب. وحكى عن الفرّاء فى ذلك جوابان: أحدهما أنّ «أفعل» فى التعجب فيه زيادة على وصف قبله إذا قال القائل أفضل وأجمل، فهو أزيد فى الوصف من جميل وفاضل، فلم يقولوا: ما أبيض زيدا! لئلا يسقط/ التزيد (¬1)، ولا يكون قبل أبيض وصف يزيد أبيض عليه، يخالف لفظه لفظه؛ كما خالف أفضل وأجمل فاضلا وجميلا، فلما فاتهم فى أبيض وأحمر علم التزيد (¬2) أدخلوا عليه ما تبين الزيادة فيه، وقالوا: ما أظهر حمرة زيد: وما أشد سواد عمرو! لأن «أظهر» يزيد على ظاهر، و «أشد» يزيد على شديد (¬3). والجواب الآخر أنّ التعجب مبنىّ على زيادة فصلح أن يتقدّمها نقص وتقصير عن بلوغ التناهى، فقالوا: ما أعلم زيدا! ليدلّوا على زيادة علمه؛ لأنهم فى قولهم: عالم وعليم لم يبلغوا فى التناهى مبلغ «أعلم»، ولم يقولوا: ما أبيض زيدا! لأن البياض لا تأتى (¬4) منه زيادة بعد نقص، فعدلوا إلى التعجب بأشدّ وأبين وما جرى مجراهما، وهذا الجواب ليس بسديد؛ لأنّ الألوان قد تتأتّى فيها الزيادة بعد نقص، وقد تدخل فيها المفاضلة، ألا ترى أنّ ما حلّه قليل أجزاء البياض يكون أنقص حالا فى البياض مما حلّه الكثير من الأجزاء! والجواب الأول الّذي حكيناه عن الفراء أصوب، وإن كان ما قدمناه عن البصريين هو المعتمد (¬5) وقد أنشد بعضهم معترضا على ما ذكرناه قول الشاعر: ¬

_ (¬1) فى نسخة بحاشيتى ت، ف: «التزايد». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «المزيد». (¬3) فى حاشيتى ت، ف: «متقرر فى علم الأصول أن السواد لا يكون أزيد فى كونه سوادا من سواد آخر؛ وإنما تتكاثر الأجزاء، فيقال: هذا أشد سواد من ذلك». (¬4) فى نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «لا تتأتى». (¬5) حاشية ف: «قال ابن الشجرى: هذان الوجهان متقاربان، والسيد يفضل الأول، ولا أدرى ما بينهما، إلا أن الأول اعتبار باللفظ والثانى اعتبار بالمعنى»، وفى حاشية ت: «الجواب الأول مشتمل على نفى المبالغة فى أبيض، والعلة ألا يسقط التزيد، والجواب الثانى مشتمل على طرف من ذلك الجواب؛ إلا أنه يقول إنما لا يقال أبيض على طريق المبالغة؛ لأن التزايد فى البياض لا يتأتى».

يا ليتنى مثلك فى البياض … أبيض من أخت بنى إباض (¬1) وأنشدوا أيضا قول الشاعر (¬2): أمّا الملوك فأنت اليوم ألأمهم … لؤما وأبيضهم سربال طبّاخ فأما البيت الأول فإن أبا العباس المبرّد حمله على الشذوذ، وقال: إنّ الشاذّ النادر لا يطعن فى المعمول عليه، والمتفق على صحته، ويجوز أيضا أن يقال فى البيت الثانى مثل ذلك، وقد قيل فى البيت الثانى إنّ أبيض فيه ليس هو الّذي للمفاضلة، وإنما هو أفعل الّذي مؤنثه فعلاء، كقولك أبيض وبيضاء؛ ويجرى ذلك مجرى قولهم هو حسن [القوم وجها، وشريفهم] (¬3) خلقا؛ فكأنّ الشاعر قال: (¬4) ومبيضّهم، فلما أضافه انتصب ما بعده لتمام الاسم، وهذا أحسن من حمله على الشذوذ (¬5). ويمكن فيه وجه آخر وهو أنّ أبيض فى البيت وإن كان فى الظاهر عبارة عن اللون فهو فى المعنى/ كناية عن اللؤم والبخل، فحمل لفظ التعجب على المعنى دون اللفظ، ¬

_ (¬1) البيت فى اللسان (بيض)، وروايته فيه: جارية فى درعها الفضفاض … أبيض من أخت بنى إباض وفى حاشية ف: «أبيض، بالرفع على تقدير: أنت أبيض، وبالفتح على أنه حال من أنا أو أنت. وإباض: اسم رجل». (¬2) فى حاشيتى ت؛ «قال السيد المرتضى رضى الله عنه: هو لطرفة؛ وإنما أراد ذمه بقلة الفرى فى بيته» فطباخه نقى الثوب». والبيت فى ديوانه: 15، وروايته فيه: إن قلت نصر فنصر كان شرّ فتى … قدما وأبيضهم سربال طبّاخ وهو أيضا فى اللسان (بيض)، وروايته فيه: إذا الرجال استووا واشتدّ أكلهم … فأنت أبيضهم سربال طبّاخ. (¬3) حاشية ت (من نسخة): «هو أحسن القوم وجها وأشرفهم خلقا». (¬4) حاشية ف: «مبيضهم؛ أى أبيضهم، لا بمعنى المبالغة». (¬5) حاشية ف: «تحقيق ما قدره السيد أن يكون أبيضهم سربال طباخ» ليس معناه التعجب، والمعنى مبيضهم سربال طباخ، ويؤول المعنى إلى أن سربال طباخه أبيض فحسب ولا يعنى أنه أشد بياضا من سربال غيره».

ولو أراد بأبيضهم بياض الثوب ونقاءه على الحقيقة لما جاز أن يتعجب بلفظة «أفعل»، فالذى جوّز تعجّبه بهذه اللفظة ما ذكرناه. فأما قول المتنبى: ابعد بعدت بياضا لا بياض له … لأنت أسود فى عينى من الظّلم (¬1) فقد قيل فيه إن قوله: «لأنت أسود فى عينى» كلام تام، ثم قال: «من الظلم» أى من جملة الظّلم؛ كما يقال: حرّ من أحرار (¬2)، ولئيم من لئام؛ أى من جملتهم، وقال الشاعر (¬3): وأبيض من ماء الحديد كأنّه … شهاب بدا واللّيل داج عساكره كأنه قال: وأبيض كائن من ماء الحديد، وقوله: «من ماء الحديد» وصف لأبيض، وليس يتّصل به كاتصال «من» بأفضل فى قولك: هو أفضل من زيد، ولفظة «من» فى بيت المتنبى مرفوعة الموضع، لأنها وصف لأسود؛ وإذا أريد المفاضلة والتعجب كانت منصوبة الموضع بأسود (¬4) كما تقول زيد خير منك، فمنك فى موضع نصب بخير، كأنه قال: قد خارك يخيرك، أى فضلك فى الخير؛ وهذا التأويل المذكور فى بيت المتنبى يمكن أن يقال فى قول الشاعر: * أبيض من أخت بنى إباض* ويحمل على أنه أراد من جملتها ومن قومها، ولم يرد التعجب وتأوّله على هذا الوجه أولى من حمله على الشذوذ، فأما قول المتنبّي: * ابعد بعدت بياضا لا بياض له* ¬

_ (¬1) ديوانه 4: 35؛ وهو يخاطب الشيب، وقبله ضيف ألمّ برأسى غير محتشم … والسّيف أصدق فعلا منه باللّمم. (¬2) ش، ف، وحاشية ت (من نسخة): «حر من الأحرار ولئيم من اللئام». (¬3) البيت فى شرح العكبرى لبيت المتنبى، أورده من غير عزو. (¬4) حاشية ف: «إذا قلت زيد أضرب من عمرو كان الجار مع المجرور فى موضع النصب على المعهود من حال الجار والمجرور؛ لأنه على تقدير: غالب زيد عمرا فى الضرب فغلبه؛ فيكون إذا «من عمرو» فى موضع النصب؛ لأنه فى معنى المفعول على ما ذكرنا».

فالمعنى الظاهر للناس فيه أنه أراد: لا ضياء له ولا نور ولا إشراق، من حيث كان حلوله محزنا مؤذنا بتقضّي الأجل؛ وهذا لعمرى معنى ظاهر؛ إلا أنه يمكن فيه معنى آخر؛ وهو أنّه يريد إنك بياض لا لون بعده، لأن البياض آخر ألوان الشعر، فجعل قوله: «لا بياض له» بمنزلة قوله: لا لون بعده، وإنما سوّغ ذلك له أنّ البياض هو الآتى بعد السّواد، فلما نفى أن يكون للشيب بياض كان نفيا لأن يكون بعده لون. وقد اختلف القراء فى فتح الميم وكسرها من قوله تعالى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى، فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو بفتح الميمين معا، وقرأ عاصم فى رواية أبى بكر وحمزة والكسائىّ بكسر الميم فيهما معا (¬1)، وفى رواية حفص عن عاصم: لا يكسر هما، وكسر أبو عمرو الأولى وفتح الأخيرة: ولكل وجه، أما من ترك إمالة الجميع؛ فإن قوله حسن، لأن كثيرا من العرب لا يميلون هذه الفتحة، وأما من أمال الجميع فوجه قوله أن ينحو بالألف نحو الياء، ليعلم أنها تنقلب إلى الياء (¬2)، وأما قراءة أبى عمرو بإمالة الأولى وفتح الثانية فوجه قوله أنّه جعل الثانية أفعل من كذا مثل أفضل من فلان، وإذا جعلها كذلك لم تقع الألف فى آخر الكلمة؛ لأنّ آخرها إنما هو من كذا، وإنما تحسن الإمالة فى الأواخر، وقد حذف من «أفعل» الّذي هو للتفضيل الجارّ والمجرور جميعا، وهما مرادان فى المعنى مع الحذف، وذلك نحو قوله تعالى: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى؛ [طه: 7]؛ المعنى وأخفى من السر، فكذلك قوله تعالى: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى، أى أعمى منه فى الدنيا، أو أعمى من غيره، ويقوى هذه الطريقة ما عطف عليه من قوله تعالى: وَأَضَلُّ سَبِيلًا، فكما أن هذا لا يكون إلا على «أفعل من كذا» كذلك المعطوف عليه. ¬

_ (¬1) ت، ونسخة بحاشيتى ت، ف: «جميعا». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «على هذا الوجه لا تميل بحال؛ إلا إذا كانت الكلمة من بنات الياء؛ فأما إذا لم تكن من بنات الياء فلا تميل، والأعمى أصله عمى، فهو إذا من بنات الياء».

تأويل خبر تقيء الأرض أفلاذ كبدها مثل الأسطوان

تأويل خبر [تقيء الأرض أفلاذ كبدها مثل الأسطوان] روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «تقيء الأرض أفلاذ كبدها مثل الأسطوان من الذّهب والفضة، فيجئ القاتل فيقول فى مثل هذا: قتلت، ويجيء القاطع الرّحم (¬1) فيقول فى مثل هذا: قطعت رحمى، ويجيء السارق فيقول فى مثل هذا: قطعت يدى، ثم يتركونه ولا يأخذون منه شيئا». معنى «تقيء» أى تخرج ما فيها من الذهب والفضة، وذلك من علامات قرب الساعة، وقوله: «تقيء» تشبيه واستعارة من حيث كان إخراجا وإظهارا؛ وكذلك تسميته (¬2) ما فى الأرض من الكنوز «كبدا» تشبيها (¬3) بالكبد التى فى بطن البعير وغيره؛ وللعرب فى هذا مذهب معروف؛ قال مرّة بن محكان (¬4) السّعديّ يصف قدرا نصبها للأضياف: لها أزيز يزيل اللحم أزمله … عن العظام إذا ما استحمشت غضبا (¬5) / ترمى الصّلاة بنبل غير طائشة … وفقا إذا آنست من تحتها لهبا (¬6) فوصفها بالغضب تشبيها واستعارة، فأما الأزيز فهو الغليان، والعرب تقول: لجوفه أزيز مثل أزيز المرجل، والأزمل: الصوت، واستحمشت، أى غضبت؛ يقال: حمشه أى أغضبه، وقال النابغة الجعدىّ فى معنى الاستعارة: ¬

_ (¬1) ف، ونسخة بحاشيتى الأصل، ت: «للرحم». (¬2) د، وحاشية ت (من نسخة): «تسمية». (¬3) ش، ونسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «تشبيه». (¬4) ضبط بالقلم فى ت بفتح الميم، وفى ف بالفتح والكسر معا. (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «استحمشت»، بالبناء للمجهول وفى حاشيتى ت، ف «أحمشت الرجل وحمشته؛ أى أغضبته فاحتمش واستحمش، والحمشة الاسم كالحشمة؛ واحتمش الديكان: اقتتلا». وفى حواشى الأصل، ت، ف: «قبله: نصبت قدرى لهم والأرض قد لبست … من الصّقيع ملاء جدّة قشبا - ملاء: جمع ملاءة، قشبا: جمع قشيب؛ وهو الجديد». (¬6) فى حاشيتى الأصل، ف: «الصلاة: جمع صال. غير طائشة: غير مخطئة. وفقا، أى رميا وفقا؛ شبه ما ترمى به النار من نفيانها بالنبل؛ أى كلما اشتدت النار تحت القدر اشتد غليها بقدر اشتداد النار تحتها».

سألتنى عن أناس هلكوا … شرب الدّهر عليهم وأكل (¬1) فوصف الدهر بالأكل والشرب تشبيها واستعارة. وقال قوم: معنى البيت شرب أهل الدهر بعدهم وأكلوا. واختلف أهل اللغة فى الأفلاذ، فقال يعقوب بن السّكّيت: الفلذ لا يكون إلّا للبعير، وهو قطعة من كبده (¬2)، ولا يقال فلذ الشاة، ولا فلذ البقرة، ويقال: اعطنى فلذا من الكبد، وفلذة من الكبد، قال أعشى باهلة: تكفيه حزّة فلذ إن ألمّ بها … من الشّواء ويروى شربه الغمر (¬3) الغمر: القدح الصغير؛ وقال يعقوب: ولا يقال: اعطنى حزّة من سنام ولا من لحم، وإنما الحزّة فى الكبد خاصة؛ فإذا أرادوا ذلك من السّنام واللحم قالوا: اعطنى (¬4) حذية من لحم؛ وهى القطعة الصغيرة، وفلقة من سنام، وقال الطّوسىّ (¬5) عن أبى عبيد عن الأصمعىّ قال: يقال: اعطنى حذية (¬6) من لحم، وحزّة من لحم؛ إذا كانت مقطوعة طولا، فإذا كانت مجتمعة قلت: اعطنى بضعة من لحم، وهبرة من لحم، ووذرة من لحم. ومثل هذا الحديث قوله: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها؛ [الزلزال: 2]. معناه أخرجت ما فيها من الكنوز، وقال قوم: عنى به الموتى، وأنها أخرجت موتاها، فسمى ¬

_ (¬1) ت، د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): «بأناس». (¬2) حاشية الأصل: «ذكر ابن الشجرى: الفلذ كبد البعير خاصة؛ وليس بقطعة من الكبد؛ وكذا ذكره ابن السكيت». (¬3) من قصيدة له يرثى بها المنتشر بن وهب الوائلى، أولها: إنى أتيت بشيء لا أسرّ به … من علو لا عجب فيه ولا سخر وهى فى (أمالى اليزيدى 13 - 18، وجمهرة الشعر 280 - 283، والأصمعيات 32، 35، والكامل- بشرح المرصفى 8: 211 - 212) ويذكرها المؤلف فيما بعد. (¬4) ش، ص: «حذية»؛ بضم الحاء وكسرها. (¬5) حاشية ت: «أبو الحسن على بن عبد الله الطوسى». (¬6) كذا ضبط بالقلم فى الأصل، ت، ف، وفى الحواشى: «المعروف: الحذية، بالكسر؛ وهى القطعة من اللحم على الطول. والحذوة (مثلثة الحاء): العطية».

تعالى الموتى ثقلا (¬1) تشبيها بالحمل الّذي يكون فى البطن، لأن الحمل يسمى ثقلا، قال تعالى: فَلَمَّا أَثْقَلَتْ؛ [الأعراف: 189]. والعرب تقول: إن للسيد الشجاع ثقلا على الأرض، فإذا مات سقط عنها بموته ثقل، قالت الخنساء ترثى أخاها صخرا: أبعد ابن عمرو من آل الشري … د حلّت به الأرض أثقالها (¬2) معناه أنه لما مات حلّ عنها بموته ثقل لسؤدده (¬3) وشرفه، وقال قوم: معنى «حلّت» زينت موتاها به، وهو مأخوذ من الحلية؛ وقال الشّمردل اليربوعىّ يرثى أخاه: وحلّت به أثقالها الأرض وانتهى … لمثواه منها وهو عفّ شمائله (¬4) وروى هشام بن المنذر (¬5) قال: قال زهير بن أبى سلمى المزنىّ بيتا ثم أكدى، ومرّ به النابغة الذّبيانىّ فقال له: يا أبا أمامة، أجز، قال: ماذا؟ قال: تزال الأرض إمّا متّ خفّا … وتحيا ما حييت بها ثقيلا (¬6) نزلت بمستقرّ العزّ منها … .... فماذا قال؟ فأكدى والله النابغة أيضا، وأقبل كعب بن زهير وهو غلام، فقال له ¬

_ (¬1) فى نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «أثقالا». (¬2) ديوانها 201. (¬3) ت، ج، ف: «بسؤدده». (¬4) البيت من قصيدة مذكورة (فى أمالى اليزيدى 32 - 34، والأغانى 12: 113 - 114، وأبيات منها فى ابن أبى الحديد 4: 383، وحماسة ابن الشجرى 83) وفى حاشيتى الأصل، ف: شمائله: أخلاقه، والواحد شمال، بالكسر، قال الشاعر: * وما لومى أخى من شماليا*. (¬5) فى حاشيتى الأصل، ف: «نسخة ابن قدامة: وروى أبو المنذر همام بن محمد بن السائب قال قال زهير». والّذي فى الأصل يوافق ش، ص. وفى م: «أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب». (¬6) ت، د، ونسخة بحاشيتى الأصل، ت: «تراك»، وفى حاشيتى الأصل، ت: «يقول: إن مت صارت الأرض خفيفة بموتك، وإن تحيا بقيت ثقيلة».

أبيات للخنساء فى مدح أخيها، ثم استطراد لذكر أبيات تشبهها

أبوه: أجز يا بنيّ، فقال: ماذا؟ فأنشده البيت الأول، ومن الثانى قوله: «بمستقرّ العزّ منها»؛ فقال كعب: * فتمنع جانبيها أن يزولا* فقال زهير: أنت والله ابنى. وإنما خصّ الكبد من بين ما يشتمل عليه البطن، لأنه من أطائب الجزور، والعرب تقول: أطائب الجزور: السّنام، والملحاء (¬1)، والكبد. *** [أبيات للخنساء فى مدح أخيها، ثم استطراد لذكر أبيات تشبهها] قال سيدنا الشريف الأجلّ المرتضى، أدام الله علوّه: وإنى لأستحسن قول الخنساء (¬2)، وقد قيل لها: ما مدحت أخاك حتّى هجّنت (¬3) أباك، فقالت: جارى أباه فأقبلا وهما … يتعاوران ملاءة الحضر (¬4) حتّى إذا نزت القلوب وقد … لزّت هناك العذر بالعذر (¬5) وعلا هتاف الناس: أيّهما؟ … قال المجيب هناك: لا أدرى برزت صفيحة وجه والده … ومضى على غلوائه يجرى أولى فأولى أن يساويه … لولا جلال السّنّ والكبر وهما كأنّهما وقد برزا … صقران قد حطّا إلى وكر ¬

_ (¬1) الملحاء: وسط الظهر؛ ما بين الكاهل إلى العجز. (¬2) حواشى الأصل، ت، ف: «كانت الخنساء كثيرة المدح لأخيها، فقيل لها: قد فضلته على أبيك، فقالت هذه الأبيات». وهى فى (زهر الآداب، 4: 67 وحماسة ابن الشجرى 104، والبيت الأول فى خزانة الأدب 3: 277). (¬3) ف، ونسخة بحاشيتى ت، الأصل: «هجوت»، وفى حواشى الأصل، ت، ف: «وروى: ما أبنت أخاك حتى هجنت أباك». (¬4) فى حاشيتى الأصل، ف: «بارى أباه، تعنى أخاها، ويتعاوران: يتداولان، والحضر العدو». (¬5) فى حاشيتى الأصل، ف: «نزت: ارتفعت، ولزت: لصقت، يعنى؛ حتى تحرك قلوب النظارة، والعذر: جمع العذار؛ يعنى عذارى فرسيهما فى التسابق؛ وهو استعارة».

ويقال: إنه قيل لأبى عبيدة: ليس هذه الأبيات فى مجموع شعر الخنساء، فقال أبو عبيدة: العامّة أسقط من أن يجاد عليها بمثل ذلك. ولعمرى إنها قد بلغت فى مدح أخيها من غير إزراء على أبيها/ النهاية، لأنها جعلت تقدّم أبيه له عن قدرة منه على المساواة، وعن غير تقصير منه، وإنما (¬1) أفرج له عن السبق معرفة بحقه، وتسليما لكبره وسنه، وكأنّ الخنساء نظرت فى هذا المعنى إلى قول زهير يصف حمار وحش (¬2): فشجّ بها الأماعز فهى تهوى … هوىّ (¬3) الدّلو أسلمها الرّشاء (¬4) فليس لحاقه كلحاق إلف … ولا كنجائها منه نجاء (¬5) يقدّمه إذا احتفلت عليها … تمام السّنّ منه والذّكاء (¬6) ويشبه أن يكون الكميت أخذ من الخنساء قوله فى مخلد بن يزيد بن المهلّب: ما إن أرى كأبيك أدرك شأوه … أحد ومثلك طالبا لم يلحق تتجاذبان؛ له فضيلة سنّه … وتلوت بعد مصلّيا لم تسبق (¬7) ¬

_ (¬1) ت: «وإنه». (¬2) الأبيات فى ديوانه: 67 - 69. (¬3) ضبطت فى ت بضم الهاء وفتحها معا. (¬4) حواشى الأصل، ت، ف: «أى شج الحمار بالأتن الأماعز، أى علا الأماعز بهن، والأمعز: الأرض الصلبة، وكذلك المعزاء، والهوىّ: السقوط إلى أسفل، وكذلك الهوىّ فى السير. وبعد هوى من الليل؛ أى هزيع؛ وقيل: الهوى [بالضم] الارتفاع». (¬5) فى حاشيتى الأصل، ف: «يقول: ليس يلحق شيء فى السرعة كما يلحق الحمار فى سرعته، والمراد بالإلف صاحبه. ولا كنجائها؛ أى ليس شيء ينجو كنجائها، أى ليس شيء ينجو كنجاء الأتان؛ أى لا يهرب هارب كهربها، ولا يلحق لاحق كلحوقه». (¬6) احتفلت: اجتهدت وتأهبت؛ ورواية الديوان: يفضّله إذا اجتهدت عليه … تمام السّنّ منه والذّكاء. (¬7) د، ش، ونسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «تتجاريان»؛ وفى حاشيتى الأصل، ف: «قوله تتجاذبان، فى موضع الحال من قوله: «ما إن أرى كأبيك»، ومثلك، أى ما رأيت مثلك ومثل أبيك فى حال مجاذبتهما ومجاراتهما فى المجد والشرف. وقوله: «له فضيلة سنه» جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر؛ المعنى يقول: إن سبقك أبوك فلا غرو، فإنه لم يسبق قط، وإن سبقته فأنت جدير بالسبق».

إن تنزعا وله فضيلة سبقه … فبمثل شأو أبيك لم يتعلّق ولئن لحقت به على ما قد مضى … من بعد غايته فأحج وأخلق ويشبه هذا المعنى قول المؤمّل بن أميل الكوفىّ المحاربىّ يمدح المهدىّ فى حياة المنصور: لئن فتّ الملوك وقد توافوا … إليك من السّهولة والوعور (¬1) لقد فات الملوك أبوك حتّى … بقوا من بين كأب أو حسير (¬2) وجئت وراءه تجرى حثيثا … وما بك حيث تجرى من فتور ¬

_ (¬1) خبر هذه الأبيات فى أمالى الزجاجى: 60 - 62: «وفد المؤمل بن أميل على المهدى بالرى فامتدحه، فأمر له بعشرين ألف درهم؛ فاتصل الخبر بالمنصور؛ فكتب إليه يعذله ويقول: إنما كانت سبيلك أن تأمر للشاعر بعد أن يقوم ببابك سنة بأربعة آلاف درهم؛ وكتب إلى كاتبه بإنفاذ الشاعر إليه، فسأل عنه فقيل له: قد شخص إلى مدينة السلام، فكتب إلى المنصور بخبره، فأنفذ المنصور قائدا من قواده إلى النهروان يتصفح وجوه الناس؛ حتى وقع بيده المؤمل، فأتى به المنصور، فقال له: أتيت غلاما غرا فخدعته! قال: نعم يا أمير المؤمنين! أتيت غلاما غرا كريما فخدعته فانخدع لى؛ فكأن ذلك أعجبه، فقال له: أنشدنى ما قلت فيه؛ فأنشده: هو المهدىّ إلّا أنّ فيه … مشابه صورة القمر المنير تشابه ذا وذا فهما إذا ما … أنارا مشكلان على البصير فهذا فى الظّلام سراج نار … وهذا فى النّهار سراج نور ولكن فضّل الرّحمن هذا … على ذا بالمنابر والسّرير وبالملك العزيز فذا أمير … وماذا بالأمير ولا الوزير ونقص الشّهر يخمد ذا وهذا … منير عند نقصان الشّهور فيا ابن خليفة الله المصفّى … به تعلى مفاخرة الفخور لئن فت الملوك ... فقال: أحسنت، ولكن لا يساوى عشرين ألف درهم، ثم قال: أين المال؟ فقال: ها هو ذا، قال يا ربيع: أعطه منه أربعة آلاف درهم، وخذ الباقى، ففعل؛ فلما صارت الخلافة إلى المهدى رفع المؤمل إليه يذكر قصته، فضحك، وأمر برد المال إليه، فرد». (¬2) الكابى: المتغير اللون، والحسير: المعيي.

فقال النّاس ما من ذين إلّا … بمنزلة الخليق من الجدير (¬1) فإن سبق الكبير فأهل سبق … له فضل الكبير على الصّغير وإن بلغ الصّغير مدى كبير … فقد خلق الصّغير من الكبير ومن هذا المعنى قول الشاعر: جياد جرت فى حلبة فتفاضلت … على قدر الأسنان والعرق واحد (¬2) وممّا له بهذا المعنى بعض الشّبه، وإن لم يذكر فيه السّن وتفضيل الكبر قول زهير: / هو الجواد فإن يلحق بشأوهما … على تكاليفه فمثله لحقا (¬3) أو يسبقاه على ما كان من مهل … فمثل ما قدّما من صالح سبقا وروى أنه عرضت على جعفر (¬4) بن يحيى بن خالد البرمكيّ جارية شاعرة، فأراد أن يبلوها فقال لها: قولى فى معنى بيتى زهير اللذين ذكرناهما، فقالت: ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «أى لم يكن بينك وبين أبيك من الفرق والتفاوت إلا مثل ما بين الخليق والجدير، ومعناهما واحد». (¬2) حاشية الأصل: «أى على الكبر والطعن فى السن. والعرق: الأصل». (¬3) البيتان فى ديوانه: 51 - 52؛ وقبلهما: يطلب شأو امرأين قدّما حسنا … نالا الملوك وبذّا هذه السّوقا والشأو: الغاية، وأراد بالمرأين أباه وجده. (¬4) حاشية ف «قيل: لما قتل جعفر بن يحيى وصلب بباب الجسر، رأسه فى ناحية، وجسده فى ناحية مرت به امرأة على حمار فاره، فوقفت عليه ثم نظرت إلى الناس فقالت بلسان فصيح: والله لئن صرت اليوم آية؛ لقد كنت فى المكارم غاية؛ ثم أنشأت تقول: ولما رأيت السّيف خالط جعفرا … ونادى مناد للخليفة فى يحيى بكيت على يحيى وأيقنت أنّما … قصارى الفتى يوما مفارقة الدّنيا وما هى إلّا دولة بعد دولة … تخوّل ذا نعمى وتعقب ذا بلوى إذا أنزلت هذا منازل رفعة … من الملك حطّت ذا إلى غاية سفلى ثم حركت الحمار؛ فكأنها كانت ريحا لم تعرف».

بلغت- أو كدت- يحيى أو لحقت به … فنلتما خالدا فى شأو مستبق لكن مضى وتلا يحيى فأنت له … تال تعلّلت دون الرّكض بالعنق (¬1) ومن أحسن ما قيل فى المساواة والمقاربة- وهو داخل فى هذا المعنى، مناسب له- قول عبّاد ابن شبل: إذا اخترت من قوم خيار خيارهم … فكلّ بنى عبد المدان خيار جروا بعنان واحد فضل بينهم … بأن قيل قد فات العذار عذار (¬2) وقول الكميت بن زيد: مصلّ أباه له سابق … بأن قيل فات العذار العذارا (¬3) ومثله قول العتّابىّ- وهو مليح (¬4) جدا: كما تقاذف جرد فى أعنّتها … سبقا بآذانها مرّا وبالعذر (¬5) وأول من سبق إلى هذا المعنى زهير فى قوله يصف مطايرة البازى القطاة (¬6) ومقاربته لها: دون السّماء وفوق الأرض قدرهما … عند الذّنابى فلا فوت ولا درك (¬7) وقد لحظ أبو نواس هذا المعنى فى قوله يمدح الفضل بن الربيع، ويذكر مقاربته لأبيه فى الفضل (¬8) والسؤدد: ¬

_ (¬1) ش، وحاشية ت (من نسخة): «تعلل». وفى حاشيتى الأصل، ف: «العنق دون الركض، أى أنك تتعلل بالعنق إبقاء وحشمة لأبيك وجدك، ولو سرت ركضا لسبقتهما». (¬2) العذار من اللجام: ما سال على خد الفرس. (¬3) المصلى: الثانى من خيول السبق. (¬4) حاشية ت (من نسخة): «حسن». (¬5) ج، ونسخة بحاشيتى الأصل، ت: «تقاذف»، بفتح الفاء. وفى حاشيتى الأصل، ف: «تقاذف، أى تتسابق فى عنان واحد، على حد واحد؛ لا تسبق إحداها على الأخرى إلا بأذن أو بعنان». وفرس أجرد؛ قصير الشعر رقيقه. (¬6) د، حاشية ت (من نسخة): «للقطاة». (¬7) ديوانه: 174، الذنابى: الذنب، وفى حاشيتى ت، ف: «عند الذنابى مستأنف، أى الصقر عند ذنابى القطاة». (¬8) ف، ونسخة بحاشية ت: «المجد».

ثمّ جرى الفضل فانثنى قدما … دون مداه من غير ترهيق (¬1) فقيل رشا سهما يراد به ال … غاية والنّصل سابق الفوق (¬2) ويشاكل ذلك قول البحترىّ فى ابن أبى سعيد الثّغريّ: جدّ كجدّ أبى سعيد إنّه … ترك السّماك كأنه لم يشرف (¬3) قاسمته أخلاقه وهى الرّدى … للمعتدى، وهى النّدى للمعتفى / فإذا جرى من غاية وجريت من … أخرى التقى شأوا كما فى المنصف ويشبهه أيضا قوله: وإذا رأيت شمائل ابنى صاعد … أدّت إليك شمائل ابنى مخلد (¬4) كالفرقدين إذا تأمّل ناظر … لم يعل موضع فرقد عن فرقد فأما قول الخنساء: «يتعاوران ملاءة الحضر»، فهى تعنى بالملاءة الغبار، وإنّ عدىّ بن الرّقاع كأنه نظر إليها فى قوله يصف حمارا وأتانا: يتعاوران من الغبار ملاءة … بيضاء محدثة هما نسجاها (¬5) ¬

_ (¬1) ديوانه: 91، وفى حاشيتى الأصل، ت: «أى من غير مداناة أو لحوق». (¬2) راش السهم: وضع عليه الريش، والنصل: حديدة السهم، والفوق: موضع الوتر من السهم. (¬3) ديوانه 2: 122، وفى حاشيتى الأصل، ف: «أى جد كجد أبى سعيد مذكور، أى جعل السماك غير عال؛ كأنه قد علاه وفاقه». (¬4) فى حاشيتى الأصل، ف: «يسوى بين ابنى صاعد وابنى مخلد»، والبيتان فى ديوانه 1: 173، وروايته: « ... شمائل ابن محمد». (¬5) البيتان من قصيدته التى مطلعها: ما هاج شوقك من مغانى دمنة … ومنازل شغف الفؤاد بلاها وهى فى الطرائف الأدبية: 92 - 97، والبيتان فى (معانى العسكرى 2: 31، وحماسة ابن الشجرى: 276 - 277، ومعجم المرزباني 253، وشرح المختار من شعر بشار 317، وزهر الآداب 4: 68. ومجموعة المعانى: 203). ويتعاوران؛ أى تصير الغبرة للعير مرة، وللأتان مرة.

تطوى إذا وطئا مكانا جاسيا … وإذا السّنابك أسهلت نشراها (¬1) وهذا المعنى، وإن كان هو معنى الخنساء بعينه فقد زاد فى استيفائه عليها زيادة ظاهرة، صار من أجلها بالمعنى أحقّ منها. وقد ابتدأ بهذا المعنى رجل من بنى عقيل فقال من قصيدة (¬2): يثيران من نسج التّراب عليهما … قميصين أسمالا ويرتديان ¬

_ (¬1) الجاسى: الغليظ من الأرض، وأسهلت: صارت إلى سهولة الأرض. (¬2) أبيات منها فى الخزانة 3: 276، منسوبة إلى ابن مقبل، وفى زهر الآداب 4: 68 منسوبة لأعرابى من بنى عقيل. وقبله: قفار مروراة يحار بها القطا … ويضحى بها الجأبان يفترقان المروراة: المفازة التى لا شيء فيها، والجأبان: مثنى جأب؛ وهو الحمار الغليظ من حمر الوحش، وأراد بالجأبين الذكر والأنثى.

8

8 مجلس آخر [المجلس الثامن: ] تأويل آية «*» [وَجاءُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ] إن سأل سائل عن قوله تبارك وتعالى: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ؛ [يوسف 18]. فقال: كيف وصف الدم بأنه كذب، والكذب من صفات الأقوال لا من صفات الأجسام؟ وأىّ معنى لوصفه الصبر بأنّه جميل؟ ومعلوم أنّ صبر يعقوب عليه السلام على فقد ابنه يوسف لا يكون إلا جميلا؟ ولم ارتفع الصبر؟ وما المقتضى لرفعه؟ والجواب، يقال له: أمّا الْكَذِبَ فمعناه أنه مكذوب فيه وعليه، مثل قولهم: هذا ماء سكب وشراب صبّ؛ يريدون مصبوبا ومسكوبا؛ ومثله: ماء غور، ورجل صوم، وامرأة نوح (¬1)، قال الشاعر: تظلّ جيادهم نوحا عليهم … مقلّدة أعنّتها صفونا (¬2) أراد بقوله: «نوحا» أى نائحة عليهم، ومثله: ما لفلان معقول؛ يريدون عقلا، وما له على هذا الأمر مجلود، يريدون جلدا (¬3)، قال الشاعر: ¬

_ * ورد هذا العنوان فى ت، ف، ولم يرد فى سائر الأصول. (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «الوصف بالمصدر يفيد قوة ذلك الفعل؛ كقولهم: رجل صوم؛ يعنى أنه لكثرة صومه كأنه صار بكليته صوما، ومن ذلك: ماء سكب وصب». (¬2) صفونا: جمع صافن؛ والصافن من الخيل: القائم على ثلاث قوائم، وقد أقام الرابعة على طرف الحافر، والبيت لعمرو بن كلثوم، من المعلقة، وروايته فيها: تركنا الخيل عاكفة عليه … مقلّدة أعنّتها صفونا (وانظر المعلقات- بشرح التبريزى: 217). (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف: «بين السيد رضى الله عنه أنه كما يكون بمعنى المفعول؛ فقد يكون المفعول بمعنى المصدر؛ وهما متداخلان فى هذا المعنى؛ فإذا كان المفعول بلفظ المصدر فلأن المفعول الحقيقى هو المصدر، ألا ترى أنك إذا قلت: ضربت زيدا ففعلك على الحقيقة هو الضرب لا زيدا، وإذا جاء المصدر بمعنى الفاعل فلأنه سبب له؛ والفعل له طرفان: أحدهما إلى المفعول، والآخر إلى الفاعل».

/ حتّى إذا لم يتركوا لعظامه … لحما ولا لفؤاده معقولا وأنشد أبو العباس ثعلب: قد والّذي سمك السّماء بقدرة … بلغ العزاء وأدرك المجلود وقال الفرّاء وغيره: يجوز فى النحو: «بدم كذبا» بالنصب على المصدر؛ لأنّ جاؤُ فيه معنى كذبوا كذبا، كما قال تعالى: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً [العاديات: 1] فنصب ضبحا (¬1) على المصدر؛ لأن العاديات بمعنى الضابحات، وإنما كان دما مكذوبا فيه؛ لأن إخوة يوسف [ذبحوا سخلة، ولطخوا قميص يوسف بدمها، وجاءوا أباهم بالقميص، وادّعوا أكل الذئب له، فقال لهم يعقوب] (¬2): يا بنيّ، لقد كان هذا الذئب رفيقا حين أكل ابنى، ولم يخرّق قميصه؛ قالوا: بل قتله اللصوص، قال: فكيف قتلوه وتركوا قميصه، وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله! . وقد قيل: إنه كان فى قميص يوسف ثلاث آيات: حين قد قميصه من دبر، وحين ألقى على وجه أبيه فارتد بصيرا، وحين جاءوا عليه بدم كذب؛ فتنبه أبوه على أنّ الذئب لو أكله لخرّق قميصه (¬3). وو أما وصف الصبر بأنه جميل، فلأن الصبر قد يكون جميلا وغير جميل، وإنما يكون جميلا إذا قصد به وجه الله، وفعل للوجه الّذي وجب، فلما كان فى هذا الموضع واقعا على الوجه المحمود صحّ وصفه بذلك. وقد قيل إنه أراد صبرا لا شكوى فيه ولا جزع، ولو لم يصفه بذلك لظنّ مصاحبة الشكوى أو الجزع له. وأما ارتفاع قوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فقد قيل إن المعنى: فشأنى صبر جميل، أو الّذي أعتقده صبر جميل (¬4). وقال قطرب: معناه فصبرى صبر جميل؛ وأنشدوا: ¬

_ (¬1) الضبح: صوت يسمع من جوف الفرس حال العدو. (¬2) ت: «يوسف عليه السلام». (¬3) فى حاشيتى ت، ف: «قال السيد المرتضى رضى الله عنه: وقد قرئ: بِدَمٍ كَذِبٍ وهو الدم المسفوح». (¬4) فى حاشيتى ت، ف: «يجوز أن يكون «صبر» مبتدأ وخبره محذوف، ويحتمل أن يكون «صبر» مبتدأ و «جميل» خبره»، وفى حاشية ف أيضا: «وهو وإن كان نكرة يقوم مقام المعرفة؛ وذلك أن أى صبر كان فهو المراد».

تأويل خبر قيس بن عاصم حين وفد على الرسول عليه السلام وشرح ما ورد فى ذلك من الغريب

شكا إلى جملى طول السّرى … يا جملى ليس إلى المشتكى الدّرهمان كلّفانى ما ترى (¬1) … صبر جميل فكلانا مبتلى معناه: فليكن منك صبر جميل. وقد روى أن فى قراءة أبىّ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ بالنصب، وذلك يكون على الإغراء (¬2)، والمعنى فاصبرى يا نفس صبرا جميلا، قال ذو الرّمة: ألا إنما ميّ- فصبرا- بليّة … وقد يبتلى الحرّ الكريم فيصبر (¬3) وقال الآخر: أبى الله أن تبقى لحىّ بشاشة … فصبرا على ما شاءه الله لى صبرا تأويل خبر [قيس بن عاصم حين وفد على الرسول عليه السلام وشرح ما ورد فى ذلك من الغريب] / فى الحديث أن قيس بن عاصم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: «هذا سيّد أهل الوبر»؛ فقلت: يا رسول الله، ما المال الّذي ليست عليّ فيه تبعة من طالب ولا ضيف؟ فقال عليه السلام: «نعم المال أربعون، والكثر ستون، وويل لأصحاب المئين! إلا من أعطى الكريمة، ومنح الغزيرة (¬4)، ونحر السّمينة، فأكل وأطعم القانع والمعترّ» - وفى رواية أخرى: «إلا من أعطى من رسلها، وأطرق فحلها، وأفقر ظهرها، ومنح غزيرتها، وأطعم القانع والمعترّ»؛ قلت: يا رسول الله: ما أكرم هذه الأخلاق وأحسنها! إنه لا يحلّ بالوادى الّذي فيه إبلى من كثرتها. فقال: «فكيف (¬5) تصنع فى العظيمة» (¬6)؟ قلت: أعطى البكر، وأعطى الناب. قال: «فكيف تصنع فى المنحة؟ »، قلت: إنى لأمنح المائة. قال: «فكيف (5) تعطى الطّروقة؟ »، قلت: يغدو الناس بإبلهم فلا يورّع ¬

_ (¬1) هذا البيت ورد فى ت، وحاشية ف. (¬2) حاشية ف: «معنى الإغراء أن يغريه القائل بالتزام الّذي أشار إليه؛ كقولهم: عليك به». (¬3) ديوانه: 225. (¬4) الغزيرة كثيرة اللبن. (¬5) ت، د، حاشية ف (من نسخة): «كيف». (¬6) ف، حاشية الأصل (من نسخة) «العطية».

رجل عن جمل يخطمه (¬1) فيمسكه ما بدا له، حتى يكون هو الّذي يردّه. وفى الرواية الأخرى قال: «فكيف تصنع فى الإطراق؟ »، قلت: يغدو الناس فمن شاء أن يأخذ برأس بعير ذهب به. قال: «فكيف تصنع فى الإفقار؟ »، قلت: إنى لأفقر الناب المدبرة والضّرع (¬2) الصغيرة، قال: «فكيف تصنع فى المنيحة؟ » قلت: إنى لأمنح فى السنة المائة، قال: «فمالك أحبّ إليك أم مال مواليك؟ » (¬3)، قلت: لا، بل مالى، قال: «فإنّ مالك ما أكلت فأفنيت، وأعطيت فأمضيت». وفى الرواية الأخرى: «ولبست فأبليت، وسائره لمواليك»، قلت: لا جرم! والله لئن رجعت لأقلّنّ عددها. فلما حضره الموت جمع بنيه فقال: يا بنيّ خذوا عنى، فإنكم لن تأخذوا عن أحد هو أنصح لكم منى، لا تنوحوا عليّ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله لم ينح عليه، وقد سمعته ينهى عن النياحة، وكفّنونى فى ثيابى التى كنت أصلّي فيها، وسوّدوا أكابركم، فإنكم إذا سوّدتم أكابركم لم يزل لأبيكم فيكم خليفة، وإذا سوّدتم أصاغركم هان أكابركم على الناس، وزهدوا فيكم، وأصلحوا من (¬4) عيشكم؛ فإن فيه غنى عن طلب إلى الناس، وإياكم والمسألة؛ فإنها آخر (¬5) كسب المرء، وإذا دفنتمونى فأخفوا قبرى عن بكر بن وائل، فقد كانت بيننا خماشات فى الجاهلية، فلا آمن سفيها منهم أن يأتى/ أمرا يدخل عليكم عيبا (¬6) فى أبيكم (¬7). ¬

_ (¬1) ت، وحاشية ف (من نسخة): «يختطمه. (¬2) رواية ابن الأثير فى النهاية (ضرع): إنى لأفقر البكر الضرع، والناب المدبر، أى أعيرهما للركوب؛ يعنى الجمل الضعيف، والناقة الهرمة». (¬3) حاشية ف: «المولى من يليك؛ من ابن العم والمعتق؛ ويليك؛ أى يقريك، وأصل الولى القرى. (¬4) م: «وأصلحوا عيشكم»، وحاشية ف (من نسخة): «وأصلحوا من أمر عيشكم». (¬5) ف، ونسخة بحاشيتى الأصل، ت «أخس». (¬6) من نسخة بحاشيتى ت، ف: «عيثا». (¬7) الخبر بهذه الرواية فى (الفائق 3: 135)، وفى رواية أخرى فيه أيضا: «وإذا مت فغيبوا قبرى من بكر بن وائل، فإنى كنت أناوشهم فى الجاهلية- وروى: أهاوشهم- وروى أغاولهم».

فأما قوله: «الكثر ستّون» فمعناه الكثير، تقول العرب: نسأل الله الكثر، ونعوذ به من القلّ؛ أى نسأله الكثير، ونعوذ به من القليل؛ وقال الشاعر: فإنّ الكثر أعيانى قديما … ولم أقتر لدن أنّى غلام (¬1) وقال الآخر: وقد يقصر القلّ الفتى دون همّه … وقد كان لولا القلّ طلّاع أنجد (¬2) والكريمة، يعنى بها كرائم ماله. و «أمنح الغزيرة»، أى أعطيها من يحلبها ويردّها، ومن ذلك الحديث: «العارية مؤدّاة، والمنحة (¬3) مردودة، والزعيم [غارم، والدّين مقضىّ] (¬4)» فالمنحة الناقة أو الشاة يدفعها الرجل إلى من يحلبها وينتفع بلبنها ثم يردها عليه، والزعيم: الكفيل، ويقال له أيضا القبيل (¬5) والصّبير والحميل، ومنه قوله تعالى: وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ؛ [يوسف: 72]، قال الشاعر: فلست بآمر فيها بسلم … ولكنّى على نفسى زعيم (¬6) وقال آخر: قلت كفّى لك رهن بالرّضا … فازعمى يا هند قالت قد وجب (¬7) معناه اكفلى، ويروى: «فاقبلى»، من القبيل الّذي هو الكفيل أيضا. ¬

_ (¬1) البيت فى اللسان (كثر)، ونسبه إلى رجل من ربيعة، وفى حاشيتى ت، ف: «أى لم أكن قبل مكثرا ولا مقترا، يصف حاله بالتوسط، والإقتار: الفقر». (¬2) البيت فى اللسان (قلل، ونسبه إلى خالد بن علقمة الدارمىّ، وأنشد قبله: ويل أمّ لذّات الشّباب معيشه … مع الكثر يعطاه الفتى المتلف النّدى. (¬3) حاشية ت (من نسخة): «المنيحة»، وهى والمنحة بمعنى. (¬4) حاشية ت (من نسخة): «والدين مقضى، والزعيم غارم». (¬5) القبيل: الكفيل والعريف، وقد قبل يقبل قبالة؛ أى يكفل. (¬6) حاشية ف: «معناه لا أملك إلا نفسى». (¬7) البيت لعمر بن أبى ربيعة؛ وهو فى ديوانه 378، وفى حاشية ف: «أى ضمنت وحلفت على نفسى ألا أجاوز رضاك، فافعلى مثله».

وقال الفرّاء: القانع هو الّذي يأتيك فيسألك؛ فإن أعطيته قبل، والمعترّ: الّذي يجلس عند الذبيحة، ويمسك عن السؤال، كأنّه يعرّض فى المسألة ولا يصرّح بها، يقال قنع الرجل قناعة إذا رضى، وقنع قنوعا إذا سأل. فأما قوله: «لا جرم» فقال قوم: معنى جرم كسب، وقالوا فى قوله تعالى: لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ [النحل: 62]، أنّ «لا» ردّ على الكفار، ثم ابتدأ فقال: جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ بمعنى كسب قولهم أنّ لهم النار، وقال الشاعر: نصبنا رأسه فى رأس جذع … بما جرمت يداه وما اعتدينا (¬1) أى: بما كسبت. وقال آخرون: معنى «جرم» حقّ، وتأول الآية بمعنى حقّق قولهم أن لهم النار؛ وأنشدوا: ولقد طعنت أبا عيينة طعنة … جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا أراد: حقّقت فزارة، وروى الفرّاء «فزارة»، بالنصب على معنى كسبت (¬2) الطعنة فزارة الغضب/، وقال الفراء: لا جرم فى الأصل مثل لا بدّ، ولا محالة، ثم استعملته العرب فى معنى حقا، وجاءت فيه بجواب الأيمان، فقالوا: لا جرم لأقومنّ؛ كما قالوا: والله لأقومنّ، وفيها لغات، يقال: لا جرم، ولا جرم، بضم الجيم وتسكين الراء، ولا جر، بحذف الميم، ولا ذا جرم؛ قال الشاعر: إنّ كلابا والدى لا ذا جرم (¬3) … لأهدرنّ اليوم هدرا فى النّعم (¬4) * هدر المعنّى (¬5) ذى الشّقاشيق اللهم (¬6) * ¬

_ (¬1) البيت فى اللسان (جرم)، ونسبه إلى أبى أسماء بن الضريبة. (¬2) د: «أكسبت». (¬3) البيت فى اللسان (جرم) من غير عزو. (¬4) لأهدرن: لأصوتن؛ من الهدير، وهو تردد صوت البعير فى حنجرته. (¬5) حاشية ت (من نسخة): «المغنى». (¬6) حواشى الأصل، ت، ف: المعنى: الّذي يدخل العنة من الإبل؛ وهى الحظيرة؛ وذلك أن الفحل اللئيم إذا هاج حبس حتى لا يضرب فى النوق الكرام، ومنه قول الوليد بن عقبة: قطعت الدهر كالسّدم المعنّى … تهدّر فى دمشق فلا تريم -

والناب: الناقة الهرمة، وجمعها نيب، ومثلها الشارف، قال الشاعر: لا أفتأ الدّهر أبكيهم بأربعة … ما اجترّت النّيب أو حنّت إلى بلد (¬1) ويقال للبعير أيضا إذا كبر عوذ، وللأنثى عودة، قال الشاعر: عود على عود من القدم الأول … يموت بالتّرك ويحيا بالعمل (¬2) وهذا من أبيات المعانى، ومعناه بعير عود على طريق متقادم، وسمّى الطريق بأنه عود لتقادمه تشبيها بالبعير، وقوله: * يموت بالترك ويحيا بالعمل* أراد أنه إذ سلك وطرق ظهرت أعلامه، ووضحت طرقه، واهتدى سالكه لسلوكه، ولم يضلّ عن قصده، فكان هذا كالحياة له، وإذا لم يسلك طمست آثاره، وامّحت (¬3) معالمه، فلم يهتد فيه راكب لقصد، وكان ذلك كالموت له. فأما «الخماشات» فهى الجنايات والجراحات، : قال ذو الرّمة يذكر الحمار والأتن: رباع لها مذ أورق العود عنده … خماشات ذحل ما يراد امتثالها (¬4) ¬

_ وأصله «المعنن»؛ فقلبت إحدى النونات ياء، كقولك: تغنيت، وفى التنزيل: وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها، والشقاشق: جمع شقشقة؛ وهى كالرئة تخرج من فم البعير إذا هاج واغتلم، واللهم: الّذي يلتهم كل شيء؛ أى يبتلع، وفرس لهم: سريع؛ كأنه يلتهم الأرض. (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: لا أفتأ؛ أى لا أزال أبكيهم بأربعة؛ أى بأربعة شئون؛ وهى مجارى الدمع من الدماغ؛ ومثله قول الآخر: * جودى بأربعة على الجرّاح* وقيل بأربعة آماق من موق العين، واجترت: إذا أكلت الجرة». والجرة: ما يخرجه البعير من بطنه ليبتلعه. (¬2) البيتان فى اللسان (عود)، ونسبهما إلى بشير بن النكث. (¬3) من نسخة بحاشيتى ت، ف: «أنهجت»؛ أى بليت. (¬4) ديوانه: 533؛ وفى حاشيتى ت، ف: «الرباع من الغنم ما له أربع سنين، ومن الحافر ماله خمس سنين، ومن الخف ماله سبع سنين والجمع ربع، وقد أربع».

بعض أخبار قيس بن عاصم

يريد بقوله: «ما يراد امتثالها»، أى ما يراد اقتصاصها، يقال: أمثلنى من هذا الرجل، وأقدنى وأقصّنى بمعنى واحد. فأما قوله: «لا يورّع»، أى لا يحبس، ولا يمنع، يقال ورّعت الرجل توريعا إذا منعته وكففته، والورع هو المتحرج (¬1) المانع نفسه مما تدعوه إليه، يقال ورع ورعا ورعة؛ قال لبيد: أكلّ يوم هامتى مقزّعه (¬2) … لا يمنع الفتيان من حسن الرّعة (¬3) ويقال: ما ورّع أن فعل كذا وكذا، أى ما كذب (¬4)، فأما الورع بالفتح فهو الجبان. وأما الطّروقة/ فهى التى قد حان لها أن تطرق، وهى الحقّة. وقوله فى الرواية الأخرى «إلا من أعطى من رسلها» فالرّسل اللبن. والإفقار: هو أن يركبها الناس، ويحملهم على ظهورها، مأخوذ من فقر الظهر، والإطراق: للفحول هو أن يبذلها لمن ينزيها على إناث إبله. وذكر الإطراق فى هذه الرواية أحبّ إلى من الطّروقة لأنه قد تقدم من قوله: «إنه يعطى الناب والبكر والضرع والمائة» فلا معنى لإعادة ذكر الطّروقة. وقوله فى الجواب «يغدو الناس فلا يورّع رجل عن جمل يخطمه فيمسكه قائدا له (¬5) ثم يردّه» لا يحتمل غير الإطراق، ولا يليق بمعنى الطّروقة. *** [بعض أخبار قيس بن عاصم] وكان قيس بن عاصم شريفا فى قومه، حليما ويكنى أبا على، وكان الأحنف بن قيس يقول: ¬

_ (¬1) ت: «هو الرجل المنحرج». (¬2) من أرجوزة فى ديوانه 7 - 8، وفى حاشيتى الأصل، ف: «المعنى: أكل يوم أحارب وألبس المغفر حتى ذهب شعر مقدم رأسى، والأقزع: الأصلع؛ إلا أن الأقزع الّذي أدى صلعه إلى وسط رأسه». (¬3) حواشى الأصل، ت، ف: «يمكن أن يكون المعنى إن هامته المقزعة التى قزعتها أعداؤه تركت الفتيان من قبيلته على حسن الرعة والتحرج. وهذا الحديث خارج مخرج التذمم». (¬4) حواشى الأصل، ت، ف: «قوله: ما كذب [بالتخفيف] أى ما لبث أن فعل كذا، وما كذب [بالتشديد]، أى ما جبن، وحمل فلان فما كذب [بالتشديد] أيضا، أى صدق الحملة فى الحرب». (¬5) ت، د، ف، حاشية الأصل من نسخة: «ما بدا له».

إنما تعلمت الحلم من قيس بن عاصم؛ أتى بقاتل ابنه فقال: رعبتم الفتى، وأقبل عليه فقال: يا بنيّ لقد نقصت عددك، وأوهنت ركنك، وفتتّ فى عضدك، وأشمت عدوّك، وأسأت بقومك؛ خلّوا سبيله؛ وما حلّ حبوته، ولا تغيّر وجهه. وقال ابن الأعرابىّ: قيل القيس: بماذا سدت؟ فقال بثلاث: بذل الندى، وكفّ الأذى، ونصر المولى. وذكر المدائنىّ قال: كان قيس بن عاصم يقول لبنيه: إياكم والبغى، فما بغى (¬1) قوم قط إلّا قلّوا وذلوا. وكان الرجل من بنيه يظلمه بعض قومه فينهى إخوته أن ينصروه. وقيس بن عاصم هو الّذي حفز الحوفزان (¬2) بن شريك الشيبانىّ بطعنة فى يوم جدود (¬3)، فسمى الحارث الحوفزان؛ وقال سوّار بن حيّان (¬4) المنقرىّ (¬5): ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة … سقته نجيعا من دم الجوف أشكلا (¬6) وحمران قسرا أنزلته رماحنا … فعالج غلّا فى ذراعيه مثقلا (¬7) ¬

_ (¬1) ف، حاشية الأصل (من نسخة): «فإنه ما بغى». (¬2) حفزه، أى طعنه من خلفه، وفى اللسان عن التهذيب أن الحوفزان لقب لجرار من جرارى العرب؛ وكانت العرب تقول للرجل إذا قاد ألفا جرارا. (¬3) حواشى الأصل، ت، ف: «جدود: موضع فيه ماء يسمى بالكلاب، وكانت فيه وقعة مرتين؛ ويقال للكلاب الأول يوم جدود؛ وهو لتغلب على بكر بن وائل». (وانظر خبر يوم جدود فى العقد 5: 199 - 201، وابن الأثير 1: 372). (¬4) كذا ضبط بالقلم فى جميع الأصول، وضبطه ابن السيد فى الاقتضاب ص 139: «بحاء مكسورة غير معجمة وباء معجمة بواحدة»، والبيتان فى (الأغانى 12: 147، وابن الأثير 1: 372، واللآلي 256، واللسان- حفز، شكل). (¬5) م: « ... المنقرى فى ذلك». (¬6) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «كسته نجيعا»، والشكلة: حمرة يخالطها بياض؛ ويسمى الدم أشكل للحمرة والبياض المختلطين فيه. (¬7) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «مقفلا»؛ وهو حمران بن عمرو بن بشر بن عمرو؛ وكان على شيبان وذهل واللهازم؛ حينما خرجوا لقتال بنى يربوع.

وفى يوم جدود يقول قيس بن عاصم: جزى الله يربوعا بأسوإ سعيها … إذا ذكرت فى النّائبات أمورها (¬1) ويوم جدود قد فضحتم ذماركم … وسالمتم والخيل تدمى نحورها / ستحطم سعد والرّباب أنوفكم … كما حزّ فى أنف القضيب جريرها - القضيب: الناقة المقتضبة الصعبة؛ وفى قيس يقول عبدة بن الطبيب: عليك سلام الله قيس بن عاصم … ورحمته ما شاء أن يترحّما (¬2) سلام امرئ جلّلته منك نعمة (¬3) … إذا زار عن شحط بلادك سلّما فما كان قيس هلكه هلك واحد … ولكنّه بنيان قوم تهدّما (¬4) *** قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوّه: ذاكرنى بعض الأصدقاء بقول أبى دهبل الجمحىّ وهو يعنى ناقته: ¬

_ (¬1) الأبيات فى (الأغانى 12: 147). (¬2) الأبيات فى (الأغانى 12: 148، والحماسة- بشرح التبريزى 2: 285 - 286). (¬3) رواية التبريزى: * تحيّة من غادرته غرض الرّدى*. (¬4) قال التبريزى فى شرحه لهذا البيت: «يجوز أن يروى «هلك» بالنصب وبالرفع؛ فإذا نصبته كان هلكه فى موضع البدل من قيس، وهلك ينتصب على أنه خبر كان؛ كأنه قال: فما كان هلك قيس هلك واحد من الناس؛ بل مات لموته خلق كثير؛ وإذا رفعته كان هلكه فى موضع المبتدأ وهلك واحد فى موضع الخبر، والجملة فى موضع النصب على أنه خبر كان، ويشبه هذا البيت قول امرئ القيس: فلو أنّها نفس تموت سويّة … ولكنّها نفس تساقط أنفسا إذا رويت «تساقط» بضم التاء».

قصيدة للمؤلف أجاز بها بيت أبى دهبل: وأبرزتها من بطن مكة عند ما # أصات المنادى بالصلاة فأعتما

وأبرزتها من بطن مكّة عند ما … أصات المنادى بالصّلاة فأعتما (¬1) [قصيدة للمؤلف أجاز بها بيت أبى دهبل: وأبرزتها من بطن مكّة عند ما … أصات المنادى بالصلاة فأعتما ] وسألنى إجازة هذا البيت بأبيات تنضم إليه وأجعل الكناية فيه كأنها كناية عن امرأة لا عن ناقة، فقلت فى الحال: فطيّب مسراها المقام وضوّأت … بإشراقها بين الحطيم وزمزما (¬2) فيا ربّ إن لقّيت وجها تحيّة … فحىّ وجوها بالمدينة سهّما (¬3) تجافين عن مسّ الدّهان وطالما … عصمن عن الحنّاء كفّا ومعصما وكم من جليد لا يخامره الهوى … شننّ عليه الوجد حتّى تتيّما (¬4) أهان لهنّ النّفس وهى كريمة … وألقى إليهنّ الحديث المكتّما تسفّهت لمّا أن مررت بدارها … وعوجلت دون الحلم أن تتحلّما (¬5) ¬

_ (¬1) أصات: نادى، وأعتم: دخل فى العتمة؛ والبيت من قصيدة جيدة؛ ذكر منها أبو الفرج هذه الأبيات: ألا علق القلب المتيّم كلثما … لجاجا ولم يلزم من الحب ملزما خرجت بها من بطن مكة بعد ما … أصات المنادى بالصلاة فأعتما فما نام من راع ولا ارتدّ سامر … من الحىّ حتى جاوزت بى يلملما ومرت ببطن الليث تهوى كأنما … تبادر بالإدلاج نهبا مقسّما وجازت على البزواء والليل كاسر … جناحين بالبزواء وردا وأدهما فما ذرّ قرن الشمس حتى تبينت … بعليب نخلا مشرفا أو مخيّما ومرّت على أشطان رونق بالضّحا … فما خزّرت للماء عينا ولا فما وما شربت حتى ثنيت زمامها … وخفت عليها أن تخرّ وتكلما فقلت لها قد بنت غير ذميمة … وأصبح وادى البرك غيثا مديّما (وانظر الأغانى 6: 163، ومعجم البلدان 6: 212 - 213، والشعر والشعراء 597). (¬2) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «فطيب رياها». وضوأت: أضاءت. (¬3) سهما: جمع ساهم؛ وهو المتغير الوجه. (¬4) شنن: صببن. (¬5) م: «وقفت بدارها».

نسب أبى دهبل وذكر بعض أشعاره

فعجت تقرّى دارسا متنكرا … وتسأل مصروفا عن النّطق أعجما (¬1) ويوم وقفنا للوداع وكلّنا … يعدّ مطيع الشّوق من كان أحزما نصرت بقلب لا يعنّف فى الهوى … وعين متى استمطرتها قطرت دما (¬2) [نسب أبى دهبل وذكر بعض أشعاره] وكان أبو دهبل (¬3) من شعراء قريش، وممن جمع إلى الطبع التجويد، واسمه وهب بن زمعة بن أسيد (¬4) / بن أحيحة بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، واسمه تيم ابن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤىّ بن غالب، وكان اسم جمح تيما، واسم أخيه زيدا؛ وهما ابنا عمرو بن هصيص، فاستبقا إلى غاية، فمضى تيم عن الغاية، فقيل جمح تيم فسمى جمح، ووقف عليها زيد فقيل سهم (¬5) زيد، فسمى سهما (¬6)؛ فأما كنيته فهى مشتقة من الدّهبلة، وهى المشى الثقيل، يقال دهبل الرجل دهبلة إذا مشى ثقيلا. أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزبانىّ قال حدثنى محمد بن إبراهيم قال: حدثنا أحمد بن يحيى النحوىّ قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال: قيل لأبى عمرو بن العلاء ما يعجبك من شعر أبى دهبل الجمحىّ؟ فقال قوله: يا عمر حمّ فراقكم عمرا … وعزمت منّا النّأى والهجرا (¬7) يا عمر شيخك وهو ذو شرف … يرعى الذّمار ويكرم الصّهرا (¬8) والله ما أحببت حبّكم … لا ثيّبا خلقت ولا بكرا (¬9) ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: تقرى: «تتبع؛ أراد تقرى؛ وهو تتفعل من قولك: قروت الأرض والشيء؛ إذا تتبعته». (¬2) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «مطرت دما». (¬3) وانظر ترجمة أبى دهبل فى (الشعر والشعراء 596 - 599، والاشتقاق 81، والمؤتلف والمختلف للآمدى 117، والأغانى 6: 149 - 165). (¬4) فى ص: «أسيد»، بفتح الهمزة وكسر السين. (¬5) «سهم، بالفتح: تغير وجهه، وسهم، بالبناء للمجهول: غلب؛ وضبط فى ت: بهما معا. (¬6) حاشية ف: سهم: «قبيلة من باهلة، ومن قريش أيضا». (¬7) الأبيات فى (الأغانى 6: 153)، وفى حاشية الأصل (من نسخة) «وعزمت منى». (¬8) شيخك؛ يعنى أباها. (¬9) حاشية ف: «تقدير البيت: ما أحببت ثيبا ولا بكرا كحبي إياكم».

إن كان هذا السّحر منك فلا … ترعى عليّ وجدّدى السّحرا (¬1) إحدى بنى أود كلفت بها … حملت بلا ترة لنا وترا وترى لها دلّا إذا نطقت … تركت بنات فؤاده صعرا (¬2) كتساقط الرّطب الجنىّ من ال … أقناء لا نثرا ولا نزرا (¬3) ومقالة فيكم عركت لها … جنبى أريد بها لك العذرا ومريد سرّكم عدلت به … عمّا يحاول معدلا وعرا قالت يقيم لنا لنجزيه … يوما فخيّم عندها شهرا ما إن أقيم لحاجة عرضت … إلا لأبلى فيكم عذرا وإذا هممت برحلة جزعت … وإذا أقمنا لم تفد نقرا (¬4) إنى لأرضى ما رضيت به … وأرى لحسن حديثكم شكرا / وروى أبو عمرو الشيبانىّ لأبى دهبل: يا ليت من يمنع المعروف يمنعه … حتى يذوق رجال غبّ ما صنعوا (¬5) وليت رزق رجال مثل نائلهم … قوت كقوت ووسع كالذى وسعوا (¬6) - ويروى: «ضيق كضيق ووسع كالذى اتسعوا». وليت للنّاس خطّا فى وجوههم … تبين أخلاقهم فيه إذا اجتمعوا وليت ذا الفحش لاقى فاحشا أبدا … ووافق الحلم أهل الحلم فاتّدعوا (¬7) ¬

_ (¬1) الإرعاء: الإبقاء؛ كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت. (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «أى أسراره مائلة إليها». (¬3) الأقناء: جمع قنو؛ وهو غصن الخل. (¬4) حواشى الأصل، ت، ف: «نقرا؛ أى قليلا؛ وهو صويت يسمع من وقع الإبهام على الوسطى؛ يقال: ما أعطاه نقرا ونقرة؛ أى شيئا؛ ولا يستعمل إلا فى النفى». (¬5) الأبيات فى المؤتلف والمختلف 117. (¬6) حاشية ف: «يجوز أن يكون «قوت» خبر المبتدأ؛ أى هو قوت؛ ويجوز أن يكون بدلا من مثل نائلهم». (¬7) حاشية ف: «فاتّدعوا: فاستراحوا».

ولأبى دهبل فى قتل الحسين بن على صلوات الله عليهما: تبيت النّشاوى من أميّة نوّما … وبالطّفّ قتلى ما ينام حميمها (¬1) وما ضيّع الإسلام إلّا عصابة … تأمّر نوكاها ودام نعيمها (¬2) وصارت قناة الدّين فى كفّ ظالم … إذا مال منها جانب لا يقيمها وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن يحيى قال: روى أبو عمرو الشيبانىّ لأبى دهبل قال- ويقال إنها للمجنون: أأترك ليلى ليس بينى وبينها … سوى ليلة إنى إذا لصبور (¬3) هبونى امرأ منكم أضلّ بعيره … له ذمّة إنّ الذّمام كبير ولصاحب المتروك أعظم حرمة … على صاحب من أن يضلّ بعير (¬4) عفا الله عن ليلى الغداة فإنّها … إذا وليت حكما عليّ تجور وروى أبو عمرو الشيبانى لأبى دهبل- وقد رواه أبو تمام فى الحماسة له (¬5): أقول والرّكب قد مالت عمائمهم … وقد سقى القوم كأس النّشوة السّهر (¬6) يا ليت أنى بأثوابى وراحلتى … عبد لأهلك طول الدّهر مؤتجر (¬7) إن كان ذا قدر يعطيك نافلة … منّا ويحرمنا ما أنصف القدر! (¬8) ¬

_ (¬1) الأبيات فى (الأغانى 6: 162، ومعجم البلدان 6: 52)، والطف: أرض فى ضاحية الكوفة، كان فيها مقتل الحسين بن على رضى الله عنه، وحميمها: أقرباؤها. (¬2) فى الأغانى ومعجم البلدان: «وما أفسد الإسلام ... ». (¬3) الأبيات فى الأغانى (6: 164، وديوان الحماسة- بشرح التبريزى 3: 272 - 273). (¬4) حاشية ف: «أضللت بعيرى إذا شذ عنك وذهب، وضللت الطريق إذا شذذت عنه وذهبت». (¬5) الحماسة- بشرح التبريزى 3: 296 - 297. (¬6) الحماسة: «كأس النشوة». (¬7) حاشية الأصل (من نسخة): «هذا الشهر مؤتجر»، وهى رواية الحماسة. (¬8) وورد بعد هذا البيت فى الحماسة: جنّيّة أو لها جنّ يعلّمها … رمى القلوب بقوس ما لها وتر.

وأخبرنا المرزبانىّ قال أخبرنى محمد بن يحيى الصولىّ قال: مثل قول أبى دهبل: ولو تركونا لا هدى الله أمرهم … فلم يلحموا قولا من الشّرّ ينسج (¬1) لأوشك صرف الدّهر تفريق بيننا … وهل يستقيم الدّهر والدّهر أعوج! قول العجّاج لرؤبة ابنه يشكوه لما استطال عمره، وتمنى موته: لمّا رآنى أرعشت أطرافى (¬2) … استعجل الدهر وفيه كاف يخترم الإلف عن الألّاف قال ومثله: عدمت ابن عمّ لا يزال كأنّه … وإن لم أتره منطو لى على وتر يعين عليّ الدّهر والدّهر مكتف … وإن استعنه لا يعنّى على الدّهر قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوّه ومثل الجميع قول أبى أحمد عبيد الله بن عبد الله ابن طاهر: إلى كم يكون العتب فى كلّ ساعة … وكم لا تملّين القطيعة والهجرا رويدك إنّ الدهر فيه كفاية … لتفريق ذات البين فانتظرى الدّهرا ¬

_ (¬1) من قصيدة فى (الأغانى 6: 151 - 152، والشعر والشعراء 598 - 599)، مطلعها: تطاول هذا اللّيل ما يتبلّج … وأعيت غواشى الهمّ ما تتفرّج. (¬2) ديوانه: 39.

9

9 مجلس آخر [المجلس التاسع: ] تأويل آية «*» [فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ] إن سأل سائل فقال: ما وجه التّكرار فى سورة الكافرين، وما الّذي حسّن إعادة النفى لكونه عابدا ما يعبدون؛ وكونهم عابدين ما يعبد، وذكر ذلك مرة واحدة يغنى. وما وجه التكرار أيضا فى سورة الرحمن لقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؛ [سورة الرحمن]، الجواب، يقال له: قد ذكر ابن قتيبة فى معنى التّكرار فى سورة الكافرين وجها، وهو أن قال: القرآن لم ينزل دفعة واحدة؛ وإنما كان نزوله شيئا بعد شيء، والأمر فى ذلك ظاهر، فكأن المشركين أتوا النبي صلى الله عليه وآله فقالوا له: استلم (¬1) بعض أصنامنا حتى نؤمن بك؛ ونصدّق بنبوتك، فأمره الله تعالى بأن يقول لهم: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ، ثم غبروا مدة من الزمان وجاءوه/ فقالوا له: اعبد بعض آلهتنا، واستلم بعض أصنامنا يوما أو شهرا أو حولا، لنفعل مثل ذلك بإلهك، فأمره الله تعالى بأن يقول لهم: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ؛ أى إن كنتم لا تعبدون إلهى إلا بهذا الشرط فإنكم لا تعبدونه أبدا. وقد طعن بعض الناس على هذا التأويل بأن قال: إنه يقتضي شرطا وحذفا لا يدل عليه ظاهر الكلام، وهو شرطه فى قوله: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ؛ وإذا كان ما نفاه عن نفسه من عبادته ما يعبدون مطلقا غير مشروط، فكذلك ما عطفه عليه. وهذا الطعن غير صحيح، لأنه لا يمتنع إثبات شرط بدليل، وإن لم يكن فى ظاهر الكلام، ولا يمتنع عطف المشروط على المطلق بحسب قيام الدلالة. وعن هذا السؤال ثلاثة أجوبة؛ كلّ واحد منها أوضح مما ذكره ابن قتيبة. ¬

_ * لم يذكر فى الأصل، وأثبته عن ت. (¬1) حاشية ف: «من استلام الحجر، وهو التمسح، ويقال: استلأم الحجر، والأصل ترك الهمز» لأنه من السلمة؛ وهى الحجر؛ إلا أن استلأم الحجر جرى فى كلامهم مهموزا».

أولها ما حكى عن أبى العباس ثعلب أنه قال: إنما حسن التكرار؛ لأن تحت كلّ لفظة معنى ليس هو تحت الأخرى، وتلخيص الكلام: قل: يا أيها الكافرون: لا أعبد ما تعبدون الساعة وفى هذه الحال، ولا أنتم عابدون ما أعبد فى هذه الحال أيضا، فاختصّ الفعلان منه ومنهم بالحال، وقال من بعد: ولا أنا عابد ما عبدتم فى المستقبل، ولا أنتم عابدون ما أعبد فيما تستقبلون، فاختلف (¬1) المعانى وحسن التكرار لاختلافها، ويجب أن تكون السورة على هذا الجواب (¬2) مختصة بمن المعلوم من حاله (¬3) أنه لا يؤمن. وقد ذكر مقاتل وغيره أنها نزلت فى أبى جهل والمستهزئين، ولم يؤمن من الذين نزلت فيهم أحد؛ والمستهزءون هم: العاص ابن وائل السّهمىّ، والوليد بن المغيرة، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، وعدىّ ابن قيس. والجواب الثانى وهو جواب الفراء أن يكون التكرار للتأكيد؛ كقول المجيب مؤكدا: بلى بلى، والممتنع مؤكدا: لا لا؛ ومثله قول الله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ؛ [التكاثر: 2، 3]، وأنشد الفراء: وكائن وكم عندى لهم من صنيعة … أيادى ثنّوها عليّ وأوجبوا وأنشد أيضا: كم نعمة كانت لكم كم كم وكم وقال آخر: / نغق الغراب ببين لبنى غدوة … كم كم وكم بفراق لبنى ينغق [4] وقال آخر: ¬

_ (¬1) ط: «فاختلفت المعانى». (¬2) ساقطة من ط، م. (¬3) ساقطة من ت، م.

أردت لنفسى بعض الأمور … فأولى لنفسى أولى لها! (¬1) والجواب الثالث- وهو أغربها- أننى لا أعبد الأصنام التى تعبدونها، ولا أنتم عابدون ما أعبد؛ أى: أنتم غير عابدين الله الّذي أنا عابده إذ أشركتم به، واتخذتم الأصنام وغيرها معبودة من دونه أو معه، وإنما يكون يكون عابدا له من أخلص له العبادة دون غيره، وأفرده بها؛ وقوله: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ؛ أى لست أعبد عبادتكم، وما فى قوله: ما عَبَدْتُّمْ فى موضع المصدر كما قال تعالى: وَالْأَرْضِ وَما طَحاها: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها؛ [الشمس: 6، 7]، أراد: وطحيه إياها وتسويته لها، وقوله تعالى: ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ؛ [غافر: 75]، يريد: بفرحكم ومرحكم؛ قال الشاعر: يا ربع سلّامة بالمنحنى … بخيف سلع جادك الوابل (¬2) إن تمس وحشا فبما قد ترى … وأنت معمور بها آهل (¬3) أراد فبرؤيتك معمورا آهلا، ومعنى قوله: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ، أى لستم عابدين عبادتى على نحو ما ذكرناه، فلم يتكرر الكلام إلا لاختلاف المعانى. وتلخيص ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله قال للكفار لا أعبد آلهتكم، ومن تدعونه من دون الله، ولا أنتم عابدون إلهى، فإن زعمتم أنكم عابدون إلهى فأنتم كاذبون، إذ كنتم من غير الجهة التى أمركم بها تعبدونه، فأنا لا أعبد مثل عبادتكم، ولا أنتم ما دمتم على ما أنتم عليه تعبدون مثل عبادتى. ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «أولى لك: كلمة تحذير، قال الأصمعىّ: معناه قاربك ما تكره، والولى: القرب، وقد وليه يليه. وقال ثعلب: أصح ما ذكر فى «أولى» قول الأصمعىّ، وقد قيل فيه غير ذلك، وكان محمد بن الحنفية عليه السلام إذا مات جار له يقول: أولى لى! كدت أكون السواد المخترم». (¬2) المنحنى: حيث ينحنى السيل؛ أى يميل. والخيف: ما انحدر عن الجبل وارتفع عن المسيل، وبه سمى خيف متى. وسلع: يطلق على جملة مواضع فى ديار باهلة وأسد. (¬3) وحشا: خاليا، وبما ترى؛ أى بما كنت قد ترى، وآهل: ذو أهل؛ وفى حاشية ف: «وأنت معمور بها، يجوز أن يتعلق «بها» بمعمور وبآهل جميعا». وفى د، م: «به آهل».

إيراد طائفة من شعر العرب مما وقع فيه التكرار

فإن قيل: أما اختلاف المعبودين فلا شبهة فيه، فما الوجه فى اختلاف العبادة؟ قلنا: إنه صلى الله عليه وآله كان يعبد من يخلص له العبادة ولا يشرك به شيئا، وهم يشركون، فاختلفت عباداتهما (¬1)، ولأنه أيضا كان يتقرّب إلى معبوده بالأفعال الشرعية التى تقع على وجه العبادة، وهم لا يفعلون تلك الأفعال، ويتقربون بأفعال غيرها، يعتقدون جهلا أنها عبادة وقربة. / فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ، وظاهر هذا الكلام يقتضي إباحتهم المقام على أديانهم؟ قلنا فى هذا ثلاثة أجوبة: أولها أن ظاهر الكلام وإن كان ظاهره إباحة فهو وعيد ومبالغة فى النهى والزجر؛ كما قال تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ؛ [فصلت: 40]. وثانيها أنه أراد لكم جزاء دينكم، ولي جزاء دينى، فحذف الجزاء لدلالة الكلام عليه، وثالثها أنه أراد لكم جزاؤكم ولي جزائى؛ لأن نفس الدين هو الجزاء؛ قال الشاعر: إذا ما لقونا لقيناهم … ودنّاهم مثل ما يقرضونا فأما التكرار فى سورة الرحمن فإنما حسن للتقرير بالنّعم المختلفة المعدّدة، فكلما ذكر نعمة أنعم بها قرّر عليها (¬2)، ووبّخ على التكذيب بها؛ كما يقول الرجل لغيره: ألم أحسن إليك بأن خولتك الأموال! ألم أحسن إليك بأن خلّصتك من المكاره! ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا! فيحسن منه التكرير (¬3) لاختلاف ما يقرره به، وهذا كثير فى كلام العرب وأشعارهم [إيراد طائفة من شعر العرب مما وقع فيه التكرار] قال مهلهل بن ربيعة يرثى أخاه كليبا (¬4): ¬

_ (¬1) ف، حاشية ت (من نسخة): «عبادتاهما». (¬2) ت، ف: «بها. (¬3) حاشية ت (من نسخة): «التكرار». (¬4) من قصيدة مشهورة، مطلعها: أليلتنا بذى حسم أنيرى … إذا أنت انقضيت فلا تحورى وهى فى (أمالى القالى 2: 129 - 133) وفى حواشى الأصل، ت، ف: «قبل هذا البيت: وهمّام بن مرّة قد تركنا … عليه القشعمان من النّسور

على أن ليس عدلا من كليب … إذا طرد [اليتيم عن الجزور] (¬1) على أن ليس عدلا من كليب … إذا ما ضيم جيران المجير على أن ليس عدلا من كليب … إذا رجف العضاه من الدّبور (¬2) على أن ليس عدلا من كليب … إذا خرجت مخبّأة الخدور على أن ليس عدلا من كليب … إذا ما أعلنت نجوى الأمور على أن ليس عدلا من كليب … إذا خيف المخوف من الثّغور على أن ليس عدلا من كليب … غداة تلاتل الأمر الكبير (¬3) على أن ليس عدلا من كليب … إذا ما خام جار المستجير (¬4) وقالت ليلى الأخيليّة ترثى توبة بن الحميّر: / لنعم الفتى يا توب كنت إذا التقت … صدور الأعالى واستشال الأسافل (¬5) ونعم الفتى يا نوب كنت ولم تكن … لتسبق يوما كنت فيه تحاول (¬6) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «اللئيم». وفى حواشى الأصل، ت، ف: «قال مهلهل فى هذه القطعة قبل هذا البيت مرثية أخيه؛ وهو الّذي ثارت لأجله حرب البسوس؛ وكان سبب تلك الحرب أن كليبا رمى ضرع ناقة البسوس، فانتظم ضرعها، فقتل كليب، وبقيت الحرب فيهم أربعين سنة، وكان فى أواخر تلك الحروب يوم التحلاق، وعلى أن ليس عدلا؛ يعنى: ليس همام عدلا من كليب؛ ويقال: عندى غلام عدل غلامك [بكسر العين] وهذا المال عدل غلامك [بالفتح]؛ أى قيمته؛ قال الفراء: العدل [بالفتح]: ما عادل الشيء من غير جنسه، والعدل [بالكسر] المثل». (¬2) رجف: تحرك حركة شديدة، والعضاه: كل شجر له شوك؛ وفى حاشية الأصل: «أى كان الزمان شتاء». (¬3) التلاتل: الشدائد، وفى ت، ف: «بلابل»، وفى الأصل ذكر الوجهان معا، وفى الحاشية: «البلابل: الفتن، والتلاتل: الشدائد، وفى شعره بالتاء». (¬4) خام: جبن، وفى نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «خار». (¬5) حاشية ت (من نسخة): «فى ديوانها: «العوالى»، وهى رواية ف أيضا. (¬6) ف، ونسخة بحاشيتى الأصل، ت: «تجاول»، وفى حواشى الأصل، ت، ف: «فى نسخة شعرها: ونعم الفتى يا توب كنت قديمة … على الخيل تمريها ونعم المنازل وقديمة؛ أى مدة قديمة، ويجوز أن تكون قديمة بمعنى مقدامة. وتمريها، تحلبها الجرية.

ونعم الفتى يا توب كنت لخائف … أتاك لكى يحمى ونعم المجامل (¬1) ونعم الفتى يا توب جارا وصاحبا … ونعم الفتى يا توب حين تفاضل (¬2) لعمرى لأنت المرء أبكى لفقده … بجدّ ولو لامت عليه العواذل [لعمرى لأنت المرء أبكى لفقده … ويكثر تسهيدى له لا أوائل] (¬3) لعمرى لأنت المرء أبكى لفقده … ولو لام فيه ناقص الرائى جاهل (¬4) لعمرى لأنت المرء أبكى لفقده … إذا كثرت بالملحمين التلاتل (¬5) أبى لك ذمّ الناس يا توب كلما … ذكرت أمور محكمات كوامل أبى لك ذمّ الناس يا توب كلّما … ذكرت سماح حين تأوى الأرامل فلا يبعدنك الله يا توب إنّما … لقيت حمام الموت والموت عاجل ولا يبعدنك الله يا توب إنها … كذاك المنايا عاجلات وآجل ولا يبعدنك الله يا توب والتقت … عليك الغوادى المدجنات الهواطل (¬6) فخرجت فى هذه الأبيات من تكرار إلى تكرار لاختلاف المعانى التى عددناها على نحو ما ذكرناه (¬7). ¬

_ (¬1) كذا فى الأصل، ف؛ وفى ت: «المحامل»، وفى حاشيتها: «المحامل؛ من الحمالة؛ وهى الدية». (¬2) ف، وحاشية ت (من نسخة): «تناضل»، وحاشية الأصل (من نسخة): تقاتل». (¬3) زيادة من م وحاشيتى ط، ف. (¬4) م: «ناقص العقل». (¬5) ت: «البلابل»، وفى حاشية ف: «الملتحم: الّذي أشرف على القتل؛ فكأنه جعل لحما، والتلاتل: جمع تلتلة، وهى مضاعف من الرباعي، يقال: تلة وتلتلة؛ كما يقال: كبة وكبكبة؛ قال تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ، والتلاتل: الأمور العظام». (¬6) المدجنات: السحائب المظلمة، والهطلان: تتابع المطر والدمع. (¬7) حاشية ف: «فى الجليس والأنيس: من أعجب ما روى فى قصتهما أن ليلى الأخيلية بعد موت توبة تزوجت، ثم إن زوجها بعد ذلك مرّ بقبر توبة وليلى معه، فقال لها: يا ليلى؛ هل تعرفين هذا القبر؟ فقالت: لا، فقال: هذا قبر توبة فسلمى عليه، فقالت: امض لشأنك؛ فما تريد من توبة وقد بليت عظامه؟ -

وقال الحارث بن عباد-: قرّبا مربط النّعامة منّى … لقحت حرب وائل عن حيال (¬1) ثم كرر قوله: «قرّبا مربط النعامة» فى أبيات كثيرة من القصيدة للمعنى الّذي ذكرناه. وقالت ابنة عم للنعمان بن بشير ترثى زوجها: وحدّثني أصحابه أنّ مالكا … أقام ونادى صحبه برحيل وحدّثني أصحابه أنّ مالكا … ضروب بنصل السّيف غير نكول وحدّثني أصحابه أنّ مالكا … جواد بما فى الرّحل غير بخيل وحدّثني أصحابه أنّ مالكا … خفيف على الحدّاث غير ثقيل وحدّثني أصحابه أنّ مالكا … صروم كماضى الشّفرتين صقيل وهذا المعنى أكثر من أن نحصيه. وهذا هو الجواب عن التكرار فى سورة المرسلات بقوله تعالى: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. ¬

_ قال: أريد تكذيبه؛ أليس هو الّذي يقول: ولو أنّ ليلى الأخيليّة سلّمت … عليّ ودونى تربة وصفائح لسلّمت تسليم البشاشة أو زقا … إليها صدى من جانب القبر صائح فو الله، لابرحت أو تسلمى عليه؛ فقالت: «السلام عليك يا توبة ورحمك الله، وبارك لك فيما صرت إليه؛ فإذا طائر قد خرج من القبر حتى ضرب صدرها، فشهقت شهقة فماتت، فدفنت إلى جانب قبره، فنبتت على قبره شجرة، وعلى قبرها شجرة، فطالتا والتفتا». (¬1) مربط؛ ضبطت بالقلم فى الأصل، بالفتح والكسر معا، وفى حاشية ف: «ما كان على فعل يفعل، بالضم فالمصدر والموضع منه مفعل بالفتح، وما كان على فعل يفعل بالكسر فالمصدر مفعل، بالفتح، والموضع مفعل، بالكسر، وما كان على يفعل بالفتح فكلاهما فيه بالفتح». وفى حاشية الأصل: «الحيال: ألا تحمل الناقة أو الفرس؛ يعنى أن الحرب لقحت بعد أن كانت لا تحمل». وقد ورد هذا البيت فى (أمالى القالى 3: 26)، وبعده: لم أكن من جناتها علم اللّ … هـ وإنّى بحرّها اليوم صال قربا مربط النعامة منى … إن بيع الكرام بالشّسع غال.

فصل فى أخبار الدهريين والزنادقة المتهتكين ممن كانوا فى صدر الإسلام

فإن قيل: إذا كان الّذي حسّن التكرار فى سورة الرحمن ما عدّده من آلائه، ونعمه فقد عدّد فى جملة ذلك ما ليس بنعمة، وهو قوله: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ [آية: 35]، وقوله: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (¬1) [آية: 43، 44]. فكيف يحسن أن يقول بعقب هذا: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وليس هذا من الآلاء والنعم؟ قلنا: الوجه فى ذلك أن فعل العقاب وإن لم يكن نعمة فذكره ووصفه والإنذار به من أكبر النعم، لأن فى ذلك زجرا عمّا يستحقّ به العقاب وبعثا على ما يستحق به الثواب، فإنما أشار بقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، بعد ذكر جهنم والعذاب فيها إلى نعمته بوصفها والإنذار بعقابها، وهذا مما لا شبهة (¬2) فى كونه نعمة. فصل [فى أخبار الدهريين والزنادقة المتهتكين ممن كانوا فى صدر الإسلام] قال سيدنا الشريف الأجلّ المرتضى ذو المجدين أدام الله علوّه: وكما أنه كان فى الجاهلية وقبل الإسلام وفى ابتدائه قوم يقولون بالدهر، وينفون الصانع، وآخرون مشركون يعبدون غير خالقهم، ويستنزلون الرزق من غير رازقهم أخبر الله تعالى عنهم فى كتابه، وضرب لهم الأمثال، وكرّر عليهم البينات والأعلام، فقد نشأ بعد هؤلاء جماعة ممن يتستّر بإظهار الإسلام ويحقن بإظهار شعاره والدخول فى جملة أهله دمه وماله زنادقة ملحدون، وكفار مشركون؛ فمنعهم (¬3) عزّ الإسلام عن المظاهرة والمجاهرة، وألجأهم خوف القتل إلى المساترة؛ وبلية هؤلاء على الإسلام وأهله أعظم وأغلظ، لأنهم يدغلون فى الدين، ويموّهون على المستضعفين، بجأش رابط، ورأى جامع؛ فعل من قد أمن الوحشة، ووثق بالأنسة، بما يظهره (¬4) من لباس الدين، الّذي هو منه على الحقيقة عار، وبأثوابه غير متوار، كما يحكى أنّ عبد الكريم بن أبى العوجاء قال لما قبض عليه محمد بن سليمان، وهو والى الكوفة من قبل ¬

_ (¬1) حاشية ف: «الحميم: الماء الحار، والآنى: الّذي بلغ نهايته». (¬2) ش: «وهذا لا شبهة». (¬3) ش: «فقمعهم». (¬4) ش: «فيما يظهره».

أخبار الوليد بن يزيد بن عبد الملك

المنصور، وأحضره/ للقتل، وأيقن بمفارقة الحياة (¬1): لئن قتلتمونى لقد وضعت فى أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوبة مصنوعة (¬2). والمشهورون من هؤلاء الوليد بن يزيد بن عبد الملك، والحمادون: حمّاد الراوية، وحمّاد ابن الزّبرقان، وحمّاد عجرد؛ وعبد الله بن المقفع، وعبد الكريم بن أبى العوجاء، وبشار بن برد، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد الحارثىّ، وصالح بن عبد القدوس الأزدىّ، وعليّ بن خليل الشّيبانى، وغير هؤلاء ممن لم نذكره؛ وهم وإن كان عددهم كثيرا فقد أقلهم الله وأذلهم (¬3) بما شهدت به دلائله الواضحة، وحججه اللائحة على عقولهم من الضعف، وآرائهم من السّخف. ونحن نذكر من أخبار كلّ واحد ممن ذكرناه وتهمته فى دينه نبذة (¬4)، ونومئ فيها إلى جملة (¬5). والّذي دعانا إلى التشاغل بذلك- وإن كانت عنايتنا بغيره أقوى- مسئلة من نرى إجابته، ونؤثر موافقته، فتكلفناه له ومن أجله، مع أنه غير خال من فائدة ينفع علمها، ويتأدب بروايتها وحفظها. *** [أخبار الوليد بن يزيد بن عبد الملك] أما الوليد (¬6) فكان مشهورا بالإلحاد، متظاهرا بالعناد، غير محتشم فى اطّراح الدين أحدا، ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «الدنيا». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «موضوعة». (¬3) فى ت، د: «وأذلهم وأرذلهم». (¬4) نبذة، بفتح النون وضمها. (¬5) فى ت، د: «جملة كافية». (¬6) حواشى الأصل، ت، ف: «هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان؛ ويكنى أبا العباس، قتله يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكان المتولى لذلك عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، وكانت ولايته الملعونة سنة وشهرين ونيفا وعشرين ليلة، وقتل وقد بلغ من السن اثنتين وأربعين سنة، وقتل معه ولداه الحكم وعثمان، وكان يقال لهما الجملان». وانظر أخبار الوليد فى (الأغانى 6: 98 - 137، والعقد 4: 452 - 463).

ولا مراقب فيه بشرا؛ وفى الحديث أنه ولد لأخى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله غلام فسمّوه الوليد، فقال النبي صلى الله عليه وآله: «سمّيتموه بأسماء فراعنتكم! ليكوننّ فى هذه الأمة رجل يقال له الوليد، لهو شرّ على هذه الأمة من فرعون على قومه». قال الأوزاعىّ: فسألت الزّهرىّ عنه فقال: إن استخلف الوليد بن يزيد، وإلّا هو الوليد بن عبد الملك. أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال: حدّثني محمد بن إبراهيم قال: حدّثنا محمد بن يزيد النحوىّ قال: كان الوليد بن يزيد بن عبد الملك قد عزم على أن يبنى فوق البيت الحرام قبّة يشرب عليها الخمور، ويشرف على الطّواف، فقال بعض الحجبة (¬1): لقد رأيت المجوسىّ البنّاء فوق الكعبة؛ وهو يقدّر مواضع أركان القبة، فلم تمس (¬2) تلك الليلة حتى وافى الخبر بقتل الوليد. وأخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال أخبرنى عبد الله بن يحيى العسكرىّ/ عن أبى إسحاق الطّلحىّ قال أخبرنى أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل عن أبى العالية عن بعض أهل العلم قال: قال يزيد بن الوليد- وهو الملقّب بالناقص (¬3) لما ولى: نشدت الله رجلا سمع شيئا من الوليد إلا أخبر به! فقام ثور بن يزيد فقال: أشهد لسمعته (¬4) وهو يقول: اسقيانى وابن حرب … واسترانا بإزار واتركا من طلب الجنّة … يسعى فى خسار سأسوس النّاس حتى … يركبوا دين الحمار (¬5) وأخبرنا المرزبانىّ قال: أخبرنى أحمد بن خالد النخّاس قال: حدثنا محمد بن مكحول قال: ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «بعض الطواف». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «فلم تمض». (¬3) ش: «الملقب الناقص»، وفى حواشى الأصل، ت، ف: «قيل له الناقص لأنه كان نقص أعطياتهم». (¬4) ش: «لقد سمعته». (¬5) فى حاشيتى الأصل، ف: «أى حتى ينزو بعضهم على بعض كما تتنازى الحمير».

نشر الوليد بن يزيد يوما المصحف، وكان خطّه كأنّه أصابع، وجعل يرميه بالسهام وهو يقول (¬1): تذكّرنى الحساب ولست أدرى … أحقّا ما تقول من الحساب فقل لله يمنعنى طعامى … وقل لله يمنعنى شرابى قال سيدنا الشريف الأجلّ المرتضى أدام الله علوه: ويله من هذه الجرأة على الله ويلا طويلا! وما أقدر الله أن يمنعه طعامه وشرابه وحياته! وما أولاه اللعين بأليم العذاب وشديد العقاب! لولا ما تتمّ به المحنة، وينتظم به التكليف؛ من تأخير المستحق من الثواب والعقاب، وتبعيدهما من أحوال الطاعات والمعاصى. أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال: حدثنى أحمد بن كامل قال: كان الوليد بن يزيد زنديقا وإنه فتح (¬2) المصحف يوما فرأى فيه: وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ؛ [إبراهيم: 15]، فاتخذ المصحف غرضا ورماه بالنّبل حتى مزّقه؛ وهو يقول: أتوعد كلّ جبّار عنيد … فها أنا ذاك جبّار عنيد فإن لاقيت ربّك يوم حشر … فقل يا ربّ خرّقنى الوليد (¬3) *** ¬

_ (¬1) ت: «وهو يقول». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «افتتح». (¬3) حاشية ف: «أخبر أبو حاتم عن العتبىّ قال: كان الوليد بن يزيد قد نظر إلى جارية من أهيإ النساء يقال لها: سفرى، فجن بها، وجعل يراسلها وتأبى عليه؛ حتى بلغه أن عيدا للنصارى قد قرب، وأنها ستخرج فيه، وكان فى موضع العيد بستان حسن، وكان النساء يدخلنه، فصانع الوليد صاحب البستان أن يدخله فينظر إليها؛ فتابعه، وحضر الوليد وقد تقشف وغير حليته، ودخلت سفرى البستان، فجعلت تمشى حتى انتهت إليه، فقالت لصاحب البستان: من هذا؟ قال لها: رجل مصاب، فجعلت تمازحه وتضاحكه حتى اشتفى من النظر إليها ومن حديثها؛ فقيل لها: ويلك! أتدرين من ذلك الرجل؟ قالت: لا، -

أخبار حماد الراوية

[أخبار حماد الراوية] وأما حمّاد الرواية فكان منسلخا من الدين، زاريا على أهله، مدمنا لشرب الخمور وارتكاب الفجور. وقال عمرو بن بحر الجاحظ: كان منقذ بن زياد الهلالىّ، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد، وحفص بن أبى ودّة (¬1)، وقاسم بن زنقطة، وابن المقفّع، ويونس بن أبى فروة، وحمّاد عجرد/ وعليّ بن الخليل، وحمّاد بن أبى ليلى الرواية، وحمّاد بن الزّبرقان، ووالبة بن الحباب، وعمارة بن حمزة بن ميمون، ويزيد بن الفيض، وجميل بن محفوظ المهلّبىّ، وبشار ابن برد المرعّث، وأبان اللّاحقىّ؛ يجتمعون على الشّرب وقول الشعر، ويهجو بعضهم بعضا، وكلّ منهم متّهم فى دينه (¬2). ¬

_ فقيل لها: الوليد بن يزيد؛ وإنما تقشف حتى ينظر إليك؛ فجنت بعد ذلك، وكانت عليه أحر منه عليها، فقال الوليد فى ذلك: أضحى فؤادك يا وليد عميدا … صبّا قديما للحسان صيودا من حبّ واضحة العوارض طفلة … برزت لنا نحو الكنيسة عيدا ما زلت أرمقها بعينى وامق … حتى بصرت بها تقبّل عودا عود الصّليب، فويح نفسى من رأى … منكم صليبا مثله معبودا! فسألت ربّى أن أكون مكانه … وأكون فى لهب الجحيم وقودا قال القاضى: لم يبلغ مدرك الشيبانىّ هذا الحد من الخلاعة؛ إذ قال فى عمرو النصرانى: يا ليتنى كنت له صليبا … فكنت معه أبدا قريبا أبصر حسنا وأشمّ طيبا … لا واشيا أخشى ولا رقيبا فلما ظهر أمره وعلمه الناس قال: ألا حبّذا سفرى وإن قيل إنّنى … كلفت بنصرانيّة تشرب الخمرا يهون عليّ أن تظلّ نهارها … إلى اللّيل لا أولى نصلّى ولا عصرا. (¬1) ش: «ودة»، بفتح الواو، وضبط فى الأصل بالفتح والضم معا. (¬2) حاشية ف: «حدث أبو الحسن بن راهويه قال: صلى يحيى بن معلى الكاتب- وكان فى مجلس فيه أبو نواس، ووالبة بن الحباب، وعلى بن الخليل، والحسين بن الخليع- صلاة، فقرأ فيها-

أخبار حماد بن الزبرقان

وعمل يونس بن أبى فروة كتابا فى مثالب العرب وعيوب الإسلام بزعمه، وصار به إلى ملك الروم، فأخذ منه مالا. وقال أحمد بن يحيى النحوىّ قال رجل يهجو حمّاد الراوية: نعم الفتى لو كان يعرف ربّه … ويقيم وقت صلاته حمّاد بسطت مشافره الشّمول فأنفه … مثل القدوم يسنّها الحدّاد وابيضّ من شرب المدامة وجهه … فبياضه يوم الحساب سواد لا يعجبنّك بزّه ولسانه … إنّ المجوس يرى لها أسباد (¬1) وكان حمّاد مشهورا بالكذب فى الرواية وعمل الشعر، وإضافته إلى الشعراء المتقدمين ودسّه فى أشعارهم؛ حتى إن كثيرا من الرواة قالوا: قد أفسد حمّاد الشعر، لأنه كان رجلا يقدر على صنعته فيدس فى شعر كل رجل منهم (¬2) ما يشاكل طريقته، فاختلط لذلك الصحيح بالسقيم؛ وهذا الفعل منه، وإن لم يكن دالّا على الإلحاد فهو فسق وتهاون بالكذب فى الرواية (¬3). *** [أخبار حمّاد بن الزّبرقان] وأما حمّاد بن الزّبرقان فهذه طريقته فى التخرّم (¬4) والتهتك؛ أخبرنا أبو الحسن عليّ ¬

_ - قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فغلط، فلما سلم، فقال أبو نواس: أكثر يحيى غلطا … فى «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» فقال والبة: قام طويلا ساكتا … حتّى إذا أعيا سجد فقال على بن الخليل: يزحر فى محرابه … زحير حبلى للولد فقال الحسين بن الخليع: كأنّما لسانه … شدّ بحبل من مسد. (¬1) حاشية الأصل: «جمع سبد؛ وهو المال، وهاهنا كناية عن الثياب واللباس». (¬2) ساقطة من م. (¬3) توفى حماد الراوية سنة 155. (وانظر ترجمته فى ابن خلكان 1: 164 - 165). (¬4) حاشية ت (من نسخة): «الفجور»، وفى حواشى الأصل، ت، ف: «التخرم: التهتك، وهو أيضا التدين بدين الخرمية؛ وهم أهل التناسخ».

أخبار حماد عجرد

ابن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا الأشناندانىّ قال: دعا حمّاد بن الزبرقان (¬1) أبا الغول النّهشلىّ إلى منزله وكانا يتقارضان (¬2)، فانتهره أبو الغول، فلم يزل المفضّل به حتى أجابه، وانطلق معه، فلما رجع إلى المفضّل قال: ما صنعت أنت وحماد؟ قال: اصطلحنا على ألّا آمره بالصلاة، ولا يدعونى إلى شرب الخمر، وأنشد المفضّل قوله: * نعم الفتى لو كان يعرف ربّه* وذكر الأبيات التى تقدّمت فى الرواية الأخرى منسوبة إلى هجاء حماد الرواية. *** [أخبار حمّاد عجرد] فأما حمّاد عجرد فشهرته فى الضّلالة/ كشهرة الحمّادين، وكان يرمى مع ذلك بالتّثنية. أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدثنى عليّ بن عبد الله الفارسىّ قال أخبرنى أبى قال حدّثني ابن مهرويه (¬3) قال حدثنى عليّ بن عبد الله بن سعد قال حدّثني السّرىّ بن الصّباح الكوفىّ قال: دخلت على بشّار بالبصرة، فقال لى: يا أبا عليّ، أما إنّى قد أوجعت صاحبكم، وبلغت منه- يعنى حمّاد عجرد- فقلت: بماذا يا أبا معاذ؟ فقال: بقولى فيه: يا ابن نهيا رأس عليّ ثقيل … واحتمال الرّأسين خطب جليل فادع غيرى إلى عبادة ربّين … فإنى بواحد مشغول فقلت لم (¬4) أدعه فى عماه؟ ثم قلت له: قد بلغ حمادا هذا الشعر، وهو يرويه على خلاف هذا قال: فما يقول؟ قلت يقول: فادع غيرى إلى عبادة ربّين … فإنى عن واحد مشغول قال فلما سمعه أطرق وقال: أحسن والله ابن الفاعلة! ثم قال: إننى لا أحتشمك، فلا تنشد أحدا هذين البيتين؛ وكان إذا سئل عنهما بعد ذلك قال: ما هما لى! ¬

_ (¬1) انظر ترجمته ومراجعها فى (إنباه الرواة 1: 330 - 332). (¬2) حواشى الأصل، ت، ف: «يتقارضان: يتجازيان؛ ويقال ذلك فى الخير والشر جميعا، أى يقرض بعضهم بعضا الهجاء». (¬3) ص: «مهرويه»، بفتح الميم وسكون الهاء وضم الراء وبعدها واو ساكنة وياء مفتوحة». (¬4) م: «لن أدعه».

أخبار ابن المقفع، وإيراد بعض كلامه

وأخبرنا المرزبانىّ قال أخبرنى عليّ بن هارون عن عمه يحيى بن عليّ عن عمر بن شبّة قال حدّثني خلّاد الأرقط قال قال بشار: بلغنى أن رجلا كان يقرأ القرآن وحمّاد ينشد الشعر، فاجتمع الناس على القارئ فقال حمّاد: علام تجتمعون؟ فو الله ما أقول (¬1) أحسن مما يقول! فمقته الناس على هذا. وروى ابن شبّة عن أبى عبيدة قال: كان حمّاد عجرد يعيّر بشارا بالقبح؛ لأنه كان عظيم الجسم، مجدورا، طويلا، جاحظ العينين، قد تغشّاهما لحم أحمر؛ فلما قال حماد فيه: والله ما الخنزير فى نتنه … بربعه فى النّتن أو خمسه بل ريحه أطيب من ريحه … ومسّه ألين من مسّه ووجهه أحسن من وجهه … ونفسه أفضل من نفسه وعوده أكرم من عوده … وجنسه أكرم من جنسه / فقال بشار: ويلى على الزّنديق! لقد نفث بما فى صدره، قيل: وكيف ذاك؟ قال: ما أراد الزّنديق إلا قول الله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ؛ [التين: 4]، فأخرج الجحود بها مخرج هجائى، وهذا خبث من بشار وتغلغل شديد لطيف. وأول من جعل نفى الإلحاد تأكيدا للوصف به، وأخرج ذلك مخرج المبالغة مساور الوراق فى حمّاد عجرد فقال: لو أنّ مانى وديصانا وعصبتهم … جاءوا إليك لما قلناك زنديق أنت العبادة والتّوحيد مذ خلقا … وذا التّزندق نيرنج مخاريق (¬2) [أخبار ابن المقفع، وإيراد بعض كلامه] فأما ابن المقفع (¬3) فإنّ جعفر بن سليمان روى عن المهدىّ أنه قال: ما وجدت كتاب ¬

_ (¬1) ش: «لما أقول». (¬2) توفى حماد عجرد سنة 161؛ (وانظر ترجمته فى ابن خلكان 1: 165 - 166). (¬3) حاشية ف: «هو الّذي يقول: قد سلم السّاكت الصّموت … كلام راعى الكلام قوت لا تفش سرّا إلى جدار … فربّما نمّت البيوت وا عجبا لامرئ ضحوك! … مستيقن أنّه يموت.

زندقة قط إلّا وأصله ابن المقفع. روى ابن شبّة قال: حدّثني من سمع ابن المقفع وقد مر ببيت نار المجوس (¬1) بعد أن أسلم، فلمحه وتمثّل: يا بيت عاتكة الّذي أتعزّل … حذر العدا وبه الفؤاد موكّل (¬2) إنّى لأمنحك الصّدود وإننى … قسما إليك مع الصّدود لأميل (¬3) وروى أحمد بن يحيى ثعلب قال: قال ابن المقفع يرثى يحيى بن زياد- وقال الأخفش: والصحيح أنه يرثى بها ابن أبى العوجاء: رزئنا أبا عمرو ولا حىّ مثله … فلله ريب الحادثات بمن وقع! فإن تك قد فارقتنا وتركتنا … ذوى خلّة ما فى انسداد لها طمع لقد جرّ نفعا فقدنا لك أنّنا … أمنّا على كلّ الرّزايا من الجزع قال ثعلب: البيت الأخير يدلّ على مذهبهم فى أن الخير ممزوج بالشر، والشرّ ممزوج بالخير. وأخبرنى عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرنى محمد بن يحيى الصولىّ قال حدّثني المغيرة بن محمد المهلّبىّ من حفظه قال حدثنا خالد بن خداش قال: كان الخليل بن أحمد يحب أن يرى ¬

_ (¬1) ش: «نار» للمجوس. (¬2) حاشية الأصل: «هذان البيتان للأحوص بن محمد بن عاصم بن أبى الأفلح حمى الدبر، وكان حمى الدبر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبلى ذات يوم بلاء حسنا فاضطغن المشركون عليه، ولما قتل أراد المشركون أن يمثلوا بجثته، وكان قبل المحاربة، قد رفع يديه وقال: اللهم احفظ جثتي من المشركين، فلما قتل رحمه الله بعث الله جماعة من النحل، فلم تزل عنده تحميه حتى هجم عليه الليل، فجاء سيل فاحتمله، فلم ير المشركون جثته». والبيتان من قصيدة له يمدح فيهما عمر بن عبد العزيز؛ وهى فى (الأغاني 18: 196 - 197) وأبيات منها فى الخزانة (1: 248)؛ وهى عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية. وأنعزل: أتجنب وأكون بمعزل، والعدا: جمع عدو؛ يقال بالضم والكسر. (¬3) أمنحك: أعطيك؛ والبيت من شواهد الكافية، على أن «قسما» تأكيد للقسم المفهوم من قوله: «إنى لأمنحك الصدود».

عبد الله بن المقفّع، وكان ابن المقفّع يحب ذلك، فجمعهما عبّاد بن عبّاد المهلبىّ فتحادثا ثلاثة أيام ولياليهنّ، فقيل للخليل: كيف رأيت عبد الله؟ قال: ما رأيت مثله، وعلمه أكبر من عقله، / وقيل لابن المقفّع: كيف رأيت الخليل؟ قال: ما رأيت مثله، وعقله أكبر من علمه. قال المغيرة: فصدقا، أدّى [عقل الخليل الخليل إلى أن مات أزهد الناس] (¬1)، وجهل ابن المقفّع أدّاه إلى أن كتب أمانا لعبد الله بن عليّ فقال فيه: ومتى غدر أمير المؤمنين بعمّه عبد الله فنساؤه طوالق؛ ودوابّه حبس (¬2)، وعبيده أحرار، والمسلمون فى حلّ من بيعته. فاشتد ذلك على المنصور جدّا وخاصة أمر البيعة، وكتب إلى سفيان بن معاوية المهلّبىّ وهو أمير البصرة من قبله بقتله، فقتله. وكان ابن المقفع مع قلّة دينه جيّد الكلام، فصيح العبارة، له حكم وأمثال مستفادة؛ من ذلك ما روى من أن يحيى بن زياد الحارثىّ كتب إليه يلتمس معاقدة الإخاء والاجتماع على المودّة والصفاء، فأخّر جوابه، فكتب إليه كتابا آخر يسترثيه، فكتب إليه عبد الله: إنّ الإخاء رقّ؛ فكرهت أن أملّكك رقّى قبل أن أعرف حسن ملكتك. وكان يقول: «ذلّل نفسك بالصبر على الجار السوء، والعشير السوء، والجليس السوء، فإنّ ذلك لا يكاد يخطئك». وكان يقول: «إذا نزل بك أمر مهمّ فانظر؛ فإن كان ممّا له حيلة فلا تعجز، وإن كان مما لا حيلة فيه فلا تجزع». ودعاه عيسى بن عليّ إلى الغداء فقال: «أعزّ الله الأمير! لست يومى للكرام أكيلا»، قال: ولم؟ قال: «لأنّى مزكوم والزّكمة قبيحة الجوار، مانعة من عشرة الأحرار». وكتب إلى بعض إخوانه: «أمّا بعد، فتعلّم العلم ممّن هو أعلم به منك، وعلّمه من ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «فإن عقل الخليل أداه إلى أن مات أزهد الناس». (¬2) الحبس، بالضم: ما وقف؛ وهو جمع الحبيس؛ وفى الحديث: «ذلك حبيس فى سبيل الله»، أى موقوف على الغزاة، يركبونه فى الجهاد.

أخبار ابن أبى العوجاء

أنت أعلم به منه، فإنك إذا فعلت ذلك علمت ما جهلت، وحفظت ما علمت». وقال لبعض الكتّاب: «إياك والتتبّع لوحشىّ الكلام طمعا فى نيل البلاغة، فإن ذلك هو العىّ الأكبر». وقال لآخر: «عليك بما سهل من الألفاظ؛ مع التجنّب لألفاظ السّفلة». وقيل له: ما البلاغة؟ فقال: «التى إذا سمعها الجاهل ظنّ أنه يحسن مثلها». وقال: «لا تحدّث من تخاف تكذيبه، ولا تسأل من تخاف منعه، ولا تعد بما لا تقدر على (¬1) إنجازه، ولا تضمن ما لا تثق بالقدرة عليه، ولا ترج ما تعنّف برجائه، ولا تقدم (¬2) على ما تخاف العجز عنه». وقال لبعض إخوانه/: «إذا صاحبت ملكا فاعلم أنّهم قد ينسبون إلى قلة الوفاء، فلا تشعرنّ قلبك استبطاءه، فإنه لم يشعر أحد قلبه إلّا ظهر على لسانه إن كان سخيفا (¬3)، وعلى وجهه إن كان حليما». وكان يقول: «إنّ مما سخّى بنفس العالم عن الدنيا علمه بأن الأرزاق لم تقسم فيها على قدر الأخطار» (¬4). *** [أخبار ابن أبى العوجاء] فأما ابن أبى العوجاء فقد ذكرنا ما روى من اعترافه بدسّه فى أحاديث النبي صلى الله عليه وآله أحاديث مكذوبة. وروى أنه رأى عدلا قد كتب عليه آية الكرسىّ فقال لصاحبه: لم كتبت هذا عليه؟ فقال: لئلا يسرق، فقال: قد رأينا مصحفا سرق! . ولبشّار فيه: قل لعبد الكريم يا ابن أبى العو … جاء بعت الإسلام بالكفر موقا (¬5) ¬

_ (¬1) ش: «ولا تعد ما لا تقدر عليه». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «لا تتقدم». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «سفيها». (¬4) توفى ابن المقفع سنة 142، وانظر ترجمته وأخباره فى كتاب أمراء البيان (1: 99 - 129). (¬5) الأبيات فى الأغانى (3: 25)، والموق: الحمق فى غباوة.

أخبار بشار بن برد

لا تصلّى ولا تصوم فإن صم … ت فبعض النّهار صوما رقيقا (¬1) لا تبالى إذا أصبت من الخم … ر عتيقا ألّا تكون عتيقا ليت شعرى غداة حلّيت فى الجن … د حنيفا حلّيت أم زنديقا (¬2) *** [أخبار بشّار بن برد] فأمّا بشّار بن برد فروى المازنىّ قال: قال رجل لبشّار: أتأكل اللحم وهو مباين لديانتك؟ - يذهب إلى أنّه ثنوىّ (¬3) - فقال بشار: إنّ هذا اللحم يدفع عنّى شرّ هذه الظلمة. قال المبرّد: ويروى أنّ بشارا كان يتعصّب للنار على الأرض، ويصوّب رأى إبليس فى الامتناع عن السجود، وروى له: النّار مشرقة والأرض مظلمة … والنّار معبودة مذ كانت النّار وروى بعض أصحابه قال: كنا إذا حضرت الصلاة نقوم إليها، ويقعد بشار، فنجعل حول ثيابه (¬4) ترابا؛ لننظر: هل يصلّى، فنعود والتراب بحاله ولم يقم إلى الصّلاة. أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدّثني على بن عبد الله الفارسىّ قال: أخبرنى أبى قال: حدّثني ابن مهرويه عن أحمد بن خلّاد قال: حدثنى أبى قال: كنت أكلّم بشارا وأردّ عليه سوء مذهبه بميله إلى الإلحاد، فكان يقول: لا أعرف إلا ما عاينت أو عاينه معاين؛ وكان الكلام يطول بيننا، فقال لى: ما أظنّ الأمر (¬5) يا أبا مخلد إلا كما يقال: إنه خذلان؛ ولذلك أقول: ¬

_ (¬1): ت، وحاشية الأصل (من نسخة): «رفيقا». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «المحلى: العارض للجيش، أى أن العارض إذا كتب اسمه كتبه مسلما أو زنديقا». (¬3) الثنوية: فرقة من الكفرة تزعم باثنينية الإله؛ إله للخير وهو النور، وإله للشر وهو الظلمة، وانظر (الملل والنحل للشهرستانى 143، وكشاف اصطلاحات الفنون 1: 198 - 199). (¬4) ت، وحاشية الأصل (من نسخة) «حوالى ثوبه». (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «ما أظن ما الأمر ... ».

/ طبعت على ما فىّ غير مخيّر … هواى ولو خيّرت كنت المهذّبا أريد فلا أعطى وأعطى ولم أرد … وغيّب عنّى أن أنال المغيّبا وأصرف عن قصدى وعلمى مبصر … فأمسى وما أعقبت إلّا التّعجّبا قال الجاحظ: كان بشّار صديقا لواصل بن عطاء الغزّال قبل أن يظهر مذاهبه المكروهة، وكان بشّار مدح واصل بن عطاء، وذكر خطبته التى نزع منها الراء (¬1)، وكانت على البديهة فقال: تكلّف القول والأقوام قد حفلوا … وحبّروا خطبا ناهيك من خطب! فقام مرتجلا تغلى بداهته … كمرجل القين لمّا حفّ باللهب (¬2) وجانب الرّاء لم يشعر به أحد … قبل التّصفّح والإغراق فى الطّلب ومثل ذلك قول بعضهم فى واصل بن عطاء: ويجعل البرّ قمحا فى تكلّمه … وجانب الرّاء حتّى احتال للشّعر ولم يقل مطرا والقول يعجله … فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر فلما أظهر بشار مذاهبه هتف (¬3) به واصل، وقام بذكره وتكفيره وقعد، فقال بشار فيه: ما لي أشايع غزّالا له عنق … كنقنق الدّوّ إن ولى وإن مثلا (¬4) عنق الزّرافة ما بالى وبالكم … تكفّرون رجالا أكفروا رجلا (¬5) ¬

_ (¬1) نشرها الأستاذ عبد السلام هارون فى المجموعة الثانية من نوادر المخطوطات. (¬2) حاشية الأصل: (من نسخة): «فقال مرتجلا»؛ والقين فى الأصل: الحداد؛ ثم قيل لكل عامل بالنار: قين، وأراد بالقين هاهنا الصباغ». (¬3) هتف به: فضحه، والهتاف فى الأصل الصياح. (¬4) النقنق بكسر النونين: ذكر النعام، والدو والدوية والداوية: الفلاة. (¬5) حواشى الأصل، ت، ف: «عنق، نصب على الذم؛ شبه واصلا بالزرافة، والزرافة: الحيوان المعروف، وعنقه أصحابه؛ يقال: هم إليه عنق؛ أى متتابعون».

فلما تتابع على واصل ما يشهد بإلحاده قال عند ذلك: أما لهذا الأعمى الملحد! أما لهذا المشنّف المكتنى (¬1) بأبى معاذ من يقتله! أما والله لولا أنّ الغيلة سجية من سجايا الغالية لدسست إليه من يبعج بطنه فى جوف منزله على مضجعه، أو فى يوم حفله، ثم كان لا يتولّى ذلك إلّا عقيلىّ أو سدوسىّ، فعدل واصل بن عطاء من الضّرير إلى الأعمى، ومن الكافر إلى الملحد، ومن المرعّث إلى المشنّف، ومن بشّار إلى أبى معاذ، ومن الفراش إلى المضجع وزاد قوم فقالوا: ومن أرسلت إلى دسست، ومن يبقر إلى يبعج، ومن داره إلى منزله، ومن المغيريّة (¬2) إلى الغالية/، والأول أشبه بأن يكون مقصودا، وما ذكرت (¬3) ثانيا قد يتّفق استعماله من غير عدول عن استعمال الراء. فأما قوله: «لا يتولّى ذلك إلا عقيلىّ [أو سدوسىّ] (¬4)» فلأن بشارا كان مولى لهم، وذكره بنى سدوس لأن بشارا كان ينزل فيهم. فأما لقب بشّار بالمرعّث فقد قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه لقّب بذلك لبيت قاله وهو: قال ريم مرعّث … فاتر الطّرف والنّظر لست والله قاتلى (¬5) … قلت أو يغلب القدر والقول الثانى أنّه كان لبشّار ثوب له جيبان: أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، فكان إذا أراد لبسه يضمّه عليه ضمّا، من غير أن يدخل رأسه فيه، فشبّه استرسال الجيبين وتدلّيهما بالرّعاث، وهى القرطة، فقيل: المرعّث، وقال أبو عبيدة: إنّما سمّى المرعّث لأنه كان يلبس فى صباه رعاثا، وهذا هو القول الثالث. وكان بشّار مقدما فى الشعر جدا حتى إن كثيرا من الرّواة يلحقه بمن تقدّم عصره عليه ¬

_ (¬1) ت، د، حاشية الأصل (من نسخة): «المكنى». (¬2) المغيرية: فرقة من غلاة الشيعة، أصحاب المغيرة بن سعيد العجلى، وكان مولى لخالد بن عبد الله القسرى، وادعى النبوة لنفسه. (وانظر مفاتيح العلوم 20، والفرق بين الفرق 229). (¬3) حاشية ت (من نسخة): «وما ذكر». (¬4) ساقط من م. (¬5) ت، ج، ش: «نائلى».

من المجوّدين. وأخبرنا المرزبانىّ عن محمد بن يحيى الصولىّ قال حدثنا محمد بن الحسين اليشكريّ (¬1) قال: قيل لأبى حاتم: من أشعر الناس؟ قال الّذي يقول: ولها مبسم كغرّ الأقاحى … وحديث كالوشى وشى البرود نزلت فى السّواد من حبّة القل … ب ونالت زيادة المستزيد عندها الصّبر عن لقائى وعندى … زفرات يأكلن صبر الجليد - يعنى بشارا؛ قال: وكان يقدّمه على جميع الناس، ولما قال بشار: بنى أميّة هبّوا طال نومكم … إنّ الخليفة يعقوب بن داود (¬2) ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا … خليفة الله بين الزّقّ والعود (¬3) فبلغ ذلك المهدىّ فوجد عليه، وكان ذلك سبب قتله (¬4). ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى ت، ف: «محمد الحسن السكرى». (¬2) هو أبو عبد الله يعقوب بن داود وزير المهدى، (وانظر أخباره وتفصيل أسباب قتله، فى الفخرى 160 - 163). (¬3) ت، ج، د، ف: «الناى والعود». (¬4) حواشى الأصل، ت، ف: «كان حماد عجرد قال فى بشار: له مقلة عمياء واست بصيرة … إلى الأير من تحت الثّياب تشير فقال بشار: - وكتب بها إلى العباس بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس، وكان حماد يعلم ولده: يا أبا الفضل لا تنم … وقع الذّئب فى الغنم إنّ حمّاد عجرد … إن رأى سوأة هجم بين فخذيه حربة … فى غلاف من الأدم كلّما غبت ساعة … مجمج الميم بالقلم فقال العباس: ما لي ولبشار! اصرفوا حمادا عنى، فقال حماد: لقد فرق بينى وبين رزقى بشعره، وسوف أفرق بينه وبين حياته بشعر أقوله، فقال: بنى أميّة هبّوا طال نومكم … إنّ الخليفة يعقوب بن داود ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا … خليفة الله بين الزّقّ والعود ونسبهما إلى بشار، فبلغ ذلك المهدى فقتله «وكان مقتل بشار سنة 167. (وانظر ترجمته ومراجعها فى الشعر والشعراء: 733 - 736).

10

10 مجلس آخر [المجلس العاشر: ] [أخبار مطيع بن إياس: ] فأما مطيع بن إياس الكنانىّ (¬1) فأخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ عن عليّ بن هارون عن عمه يحيى بن/ عليّ عن أبى أيوب المدنىّ عن أحمد بن إبراهيم الكاتب قال أخبرنى أبى قال: رأيت بنتا لمطيع بن إياس قد أتى بها فى أول أيام الرشيد، فأقرّت بالزّندقة وقراءتها وتابت، وقالت: هذا شيء علمنيه أبى، فقبل الرشيد توبتها، وردها إلى أهلها. وقال محمد بن داود بن الجراح فى أخبار مطيع بن إياس أنه كان يرمى بالزّندقة، وروى أنه لما حضرته الوفاة أحاط به أهل بيته، فأقبلوا يقولون له: قل يا مطيع: لا إله إلا الله، فلا يقول حتى إذا صارت نفسه فى [ثغرته كرّ يتنفس] (¬2)، ثم أهوى إلى الكلام، فقالوا له: قل لا إله إلا الله، فتكلم كلاما ضعيفا فتسمّعوا له، فإذا هو يقول: لهف نفسى على الزّمان وفى … أىّ زمان دهتنى الأزمان حين جاء الرّبيع واستقبل الصّي … ف وطاب الطّلاء والريحان (¬3) قال المرزبانىّ: وهذا الحديث يرويه (¬4) الهيثم بن عدىّ ليحيى بن زياد. *** [أخبار يحيى بن زياد الحارثى: ] فأما يحيى بن زياد الحارثىّ (¬5) فهو يحيى بن زياد بن عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان ¬

_ (¬1) انظر مطيع بن إياس وأخباره فى (الأغانى 12 - 75 - 105). (¬2) ت، د، ف: «ثغرته تنفس»، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «فى ثغرة نحره تنفس». ط: «فى ثغراته تنفس». (¬3) الطلاء: الخمر. (¬4) حاشية ت (من نسخة): «رواه». (¬5) انظر يحيى بن زياد فى (معجم الشعراء للمرزبانى 497 - 498).

ابن الديان الحارثىّ الكوفىّ. وزياد بن عبيد الله هو خال أبى العباس السّفاح، ويكنى يحيى أبا الفضل، وكان يعرف بالزّنديق: وكانوا إذا وصفوا إنسانا بالظّرف قالوا: هو أظرف من الزّنديق- يعنون يحيى- لأنه كان ظريفا، وهذا المعنى قصد أبو نواس بقوله: * تيه مغنّ وظرف زنديق* (¬1) قال الصولىّ: وإنما قال ذلك لأن الزّنديق لا يرع عن شيء (¬2) ولا يمتنع ممّن يدعى (¬3) إليه، فنسبه إلى الظّرف لمساعدته على كل شيء، وقلة خلافه. وروى أنه قيل ليحيى بن زياد- وهو يجود بنفسه- قل: لا إله إلا الله، فقال: * لم يبق إلّا الغبط والجلاجل (¬4) * ثم أغمى عليه، فلما أفاق أعيد عليه القول فقال: * وبازل تغلى به المراجل* (¬5) وروى محمد بن يزيد قال: قال مطيع بن إياس يرثى يحيى بن زياد- وكانا جميعا مرميّين بالخروج عن الملة: يا أهل بكّوا لقلبى القرح … وللدّموع الهوامل السّفح (¬6) راحوا بيحيى إلى مغيّبة … فى القبر بين التّراب والصّفح (¬7) ¬

_ (¬1) ديوانه: 89، وصدره: * وصيف كأس محدّثه ملك*. (¬2) فى حاشيتى ت، ف: «يقال: ورع يرع ورعا، ورعة، فهو ورع؛ أى تقى». (¬3) م: «لا يدع شيئا». (¬4) ت، ش، ف: «والخلاخل»، د: «القرط والخلاخل». والغبيط: الرحل؛ وهو للنساء يشد على الهودج. وفى حاشيتى الأصل: «الغبيط: قنب يأخذ جميع ظهر البعير». (¬5) البازل: البعير إذا كان فى التاسعة؛ سمى بذلك لأنه يبزل نابه؛ أى ينشق. (¬6) ت، ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «السواكب». (¬7) الصفح: جمع صفيحة؛ وهى الحجارة العراض.

أخبار صالح بن عبد القدوس

/ راحوا بيحيى ولو تساعدنى ال … أقدار لم يبتكر ولم يرح (¬1) يا خير من يحسن البكاء له ال … يوم ومن كان أمس للمدح قد ظفر الحزن بالسّرور وقد … أديل مكروهنا من الفرح ولمطيع يرثيه: انظر إلى الموت كيف بادهه … والموت مقدامة على البهم (¬2) لو قد تدبّرت ما صنعت به … قرعت سنّا عليه من ندم فاذهب بمن شئت إذ ذهبت به … ما بعد يحيى للرّزء من ألم *** [أخبار صالح بن عبد القدّوس: ] وأمّا صالح بن عبد القدّوس فكان متظاهرا بمذاهب الثّنوية، ويقال إن أبا الهذيل العلّاف ناظره فقطعه، ثم قال له: على أىّ شيء تعزم يا صالح؟ فقال: أستخير الله وأقول بالاثنين، فقال أبو الهذيل: فأيهما استخرت لا أمّ لك! ! وروى أنّ أبا الهذيل ناظره فى مسألة مشهورة فى الامتزاج الّذي ادّعوه بين النور والظلمة فأقام عليه الحجة فانقطع، وأنشأ يقول: أبا الهذيل هداك الله يا رجل … فأنت حقّا لعمرى معضل جدل وروى أنّه رؤى يصلى صلاة تامة الرّكوع والسجود، فقيل له: ما هذا ومذهبك معروف! قال: سنّة البلد، وعادة الجسد، وسلامة الأهل والولد. ويقال إنّه لما أراد المهدىّ قتله على الزندقة دحا إليه بكتاب وقال له: اقرأ هذا، قال: وما هو؟ قال: كتاب الزّندقة، قال صالح: أو تعرفه أنت يا أمير المؤمنين إذا قرأته؟ قال: لا، قال: أفتقتلني على ما لا تعرف! قال: فإنى أعرفه، قال صالح: فقد عرفته ولست بزنديق؛ وكذلك أقرؤه ولست بزنديق ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «لم تبتكر ولم ترح». (¬2) البهم: جمع بهمة؛ وهو الشجاع.

وذكر محمد بن يزيد المبرّد قال: ذكر بعض الرواة أنّ صالحا لما نوظر فيما قذف به من الزندقة بحضرة المهدىّ قال له المهدىّ: ألست القائل فى حفظك ما أنت عليه: ربّ سرّ كتمته فكأنّى … أخرس أو ثنى لسانى خبل / ولو أنّى أبديت للنّاس علمى … لم يكن لى فى غير حبسى أكل قال صالح: فإنى أتوب وأرجع، فقال له المهدىّ: هيهات! ألست القائل: والشّيخ لا يترك أخلاقه … حتّى يوارى فى ثرى رمسه إذا ارعوى عاوده جهله (¬1) … كذى الضّنى عاد إلى نكسه (¬2) ثم قدّم فقتل، ويقال إنه صلبه على الجسر ببغداذ. ومن شعره (¬3) وهو فى الحبس: خرجنا من الدّنيا ونحن من أهلها … فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى إذا دخل السّجّان يوما لحاجة … عجبنا وقلنا جاء هذا من الدّنيا ونفرح بالرّؤيا فجلّ حديثنا … إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرّؤيا (¬4) ¬

_ (¬1) ف، حاشية ت (من نسخة): «عاد إلى جهله». (¬2) حاشية الأصل: «عاد إلى نكسه؛ أى عاد إلى غيه رجوع الناقة من المرض». (¬3) وردت هذه المقطوعة فى إنباه الرواة 1: 62، ومعجم الأدباء 3: 155، منسوبة إلى صالح ابن عبد القدوس، وفى المحاسن والأضداد 45 - 46 منسوبة إلى عبد الله بن معاوية، وفى عيون الأخبار 1: 81 - 82، من غير عزو، وورد منها البيت الأول والثانى فى رسالة الغفران 142 منسوبين لولد صالح، وفى مقدمة اللزوميات: 27 منسوبين لرجل كان فى السجن على عهد ملوك بنى العباس، يقال إنه من ولد صالح بن عبد القدوس، ومطلعها: إلى الله أشكو إنّه موضع الشّكوى … وفى يده كشف المضرّة والبلوى. (¬4) حواشى الأصل، ت، ف: «هذا المعنى للأحنف العكبرىّ وإن كان قريب اللفظ: وأعلم فى المنام بكلّ خير … فأصبح لا أراه ولا يرانى وإن أبصرت شرّا فى منامى … لقيت الشّرّ من قبل الأذان.

أخبار على بن الخليل

فإن حسنت لم تأت عجلى وأبطأت … وإن قبحت لم تحتبس وأتت عجلى طوى دوننا الأخبار سجن ممنّع … له حارس تهدا العيون ولا يهدا قبرنا ولم ندفن فنحن بمعزل … من النّاس لا نخشى، فنغشى ولا نغشى ألا أحد يأوى لأهل محلّة … مقيمين فى الدّنيا وقد فارقوا الدّنيا قال سيدنا الشريف المرتضى ذو المجدين أدام الله علوّه: وأظنّ أن ابن الجهم لحظ قول صالح: «فنغشى ولا نغشى (¬1)» فى قوله يصف الحبس: بيت يجدّد للكريم كرامة … ويزار فيه ولا يزور ويحفد (¬2) *** [أخبار على بن الخليل: ] وأما عليّ بن الخليل فذكر محمد بن داود قال: كان عليّ بن الخليل- وهو مولى يزيد بن مزيد الشّيبانىّ، ويكنى أبا الحسن، وهو كوفىّ- متّهما بالزّندقة، فطلبه الرشيد عند قتله الزنادقة، فاستتر طويلا، ثم قصد الرّقة (¬3) وبها الرشيد، فمدحه ومدح الفضل بن الربيع. وروى (¬4) أنّه لما قعد الرشيد للمظالم بالرّقة حضر شيخ حسن الهيئة، حسن الخضاب، معه قصيدة، فأشار بها، فأمر الرشيد بأخذها منه، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أحسن قراءة لها من غيرى، / فأذن لى فى قراءتها، ففعل، فقال: إنى شيخ كبير، ولا آمن ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «حمله السيد رضى الله عنه على أن قوله: «فغشى ... » كلام مستأنف، وأن الغشيان واقع، والبيت الّذي ذكر أنه نظر إليه يدل على ذلك؛ ومراد الشاعر غير هذا ... والله أعلم؛ وهو أن يكون «تغشى» منصوبا بإضمار أن بعد الفاء التى تجيء بعد النفى، ويكون غشيان الناس إياهم منفيا». (¬2) يحفد: يخدم، وفى م: «يحمد»، والبيت من قصيدة قالها فى الحبس حين حبسه المتوكل؛ وهى فى ديوانه ص 45، والمحاسن والأضداد 43، وأولها: قالت حبست فقلت ليس بضائرى … حبسى وأىّ مهنّد لا يغمد. (¬3) الرقة: مدينة مشهورة على الجانب الأيسر للفرات بولاية حلب؛ وهى وطن ربيعة الرقى الشاعر المشهور. (¬4) الخبر فى (الأغانى 13: 13 - 14).

الاضطراب إذا قمت، فإن رأيت أن تأذن لى فى الجلوس فعلت، فقال: اجلس، فجلس، ثم أنشأ يقول: يا خير من وخدت بأرحله … نجب الرّكاب بمهمه جلس (¬1) تطوى السّباسب فى أزمّتها … طىّ التّجار عمائم البرس (¬2) لمّا رأتك الشّمس طالعة … سجدت لوجهك طلعة الشّمس خير الخلائف (¬3) أنت كلّهم … فى يومك الماضى وفى أمس وكذاك لا تنفكّ خيرهم … تمسى وتصبح فوق ما تمسى من عصبة طابت أرومتها … أهل العفاف ومنتهى القدس فوق النّجوم فروع نبعتهم … ومع الحضيض منابت الغرس إنّى رحلت إليك من فزع … كان التّوكّل عنده ترسى ما ذاك إلّا أنّنى رجل … أصبو إلى بقر من الإنس بقر أوانس لا قرون لها … يقتلن بالتّطويل والحبس وأجاذب الفتيان بينهم … صهباء مثل مجاجة الورس للماء فى حافاتها حبب … نظم كطىّ صحائف الفرس (¬4) والله يعلم فى بنيّته … ما إن أضعت إقامة الخمس فقال له هارون: من أنت؟ قال: عليّ بن الخليل الّذي يقال إنه زنديق، قال: أنت آمن، وكتب إلى حمدويه ألّا يعرض له. ومن تركنا ذكره من هؤلاء أكثر ممن ذكرناه، وإنما اعتمدنا من كان بهذه البليّة ¬

_ (¬1) وخدت: أسرعت، ونجب: جمع نجيب، وهو وصف للناقة الخفيفة السريعة، والمهمّة: البلد الفقر، والجلس: الغليظ من الأرض. (¬2) السباسب: جمع سبسب؛ وهى الفلاة، والتجار: جمع تجر، وتجر: جمع تاجر؛ كقولهم: صاحب وصحب وصحاب، والبرس: القطن. (¬3) م: «الخلائق». (¬4) حاشية الأصل: «ذكر س: الحباب طرائق الماء، والحبب ما يعلو المائعات من النفاخات».

الكلام على أن أصول مذهب أهل العدل مأخوذة من كلام على بن أبى طالب

أشهر، وأمره فيها أظهر، وأوردنا مع ذلك قليلا من كثير، وجملة من تفصيل. *** [الكلام على أن أصول مذهب أهل العدل مأخوذة من كلام على بن أبى طالب: ] وإذ قد ذكرنا جملة من أخبار أهل الضلالة، والمنقادين للجهالة، حسب ما سئلنا، فنحن نتبعها بشيء من أخبار أهل التوحيد والعدل، وملح حكاياتهم، ومستحسن ألفاظهم، ليعلم الفرق بين من ربحت/ بيعته، وبين من خسرت صفقته، فقد سألنا أيضا ذلك. اعلم أن أصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين- صلوات الله عليه- وخطبه، فإنها تتضمّن من ذلك ما لا زيادة عليه، ولا غاية وراءه، ومن تأمل المأثور فى ذلك من كلامه علم أنّ جميع ما أسهب المتكلمون من بعد فى تصنيفه وجمعه، إنما هو تفصيل لتلك الجمل، وشرح لتلك الأصول، وروى عن الأئمة من أبنائه عليهم السلام من ذلك ما يكاد لا يحاط به كثرة، ومن أحب الوقوف عليه، وطلبه من مظانه أصاب منه الكثير الغزير، الّذي فى بعضه شفاء للصدور السقيمة، ونتاج للعقول العقيمة؛ ونحن نقدّم على ما نريد ذكره شيئا مما روى عنهم فى هذا الباب. [فقر من كلام على بن أبى طالب والأئمة من أبنائه] فمن ذلك ما روى عن أمير المؤمنين عليه السلام (¬1) وهو يصف الله تعالى: «بمضادّته (¬2) بين الأشياء علم أن لا ضدّ له، وبمقارنته بين الأمور علم أن لا قرين له، ضادّ النور بالظلمة، والخشونة باللين، واليبوسة بالبلل، والصّرد (¬3) بالحرور؛ مؤلّف بين متعادياتها (¬4)، مفرّق بين متدانياتها». ¬

_ (¬1) ت: « ... عليه السلام أنه قال وهو يصف ... ». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «أى بنصب المضادة بين الضدين يستدل على أن لا ضد له؛ لأن من يقدر على ذلك لا بد أن يكون متوحدا بصفات الجلال، التى تحيل أن يكون للموصوف بها ضد». (¬3) فى حاشيتى ت، ف: «الصرد: البرد؛ وهو فارسى معرب، يقال: يوم صرد وصرد [بسكون الراء وفتحها]، وصرد الرجل [بكسر الراء] يصرد صردا [بفتحها]». (¬4) ف، ونسخة بحاشيتى الأصل، ف: «متباعداتها».

وروى عنه عليه السلام أنه سئل: بم عرفت ربك؟ فقال: بما عرّفنى به، قيل: وكيف عرّفك؟ فقال: «لا تشبهه صورة، ولا يحسّ بالحواسّ الخمس، ولا يقاس بقياس الناس». وقيل له عليه السلام: كيف يحاسب الله الخلق؟ فقال: كما يرزقهم، فقيل: كيف يحاسبهم ولا يرونه؟ فقال؛ كما يرزقهم ولا يرونه. وسأله رجل فقال: أين كان ربّك قبل أن يخلق السماء والأرض؟ فقال عليه السلام: أين سؤال عن مكان، وكان الله ولا مكان. وروى عن أبى عبد الله الصّادق (¬1) عليه السلام أنه سأله محمد الحلبىّ فقال له: هل رأى رسول الله صلى الله عليه وآله ربّه؟ قال: نعم رآه بقلبه، فأما ربّنا جلّ جلاله فلا تدركه أبصار الناظرين، ولا تحيط به أسماع السامعين. وروى صفوان بن يحيى قال: دخل أبو قرّة المحدّث على أبى الحسن الرّضا (¬2) عليه السلام فسأله (¬3) عن أشياء من الحلال والحرام والأحكام والفرائض، حتى بلغ إلى التوحيد، فقال له أبو قرّة: إنا روّينا أن الله تعالى قسم الكلام والرؤية، فقسم لموسى الكلام، ولمحمد صلى الله عليه وآله الرؤية، فقال الرّضا عليه السلام: فمن المبلّغ عن الله تعالى إلى الثّقلين: الجنّ والإنس أنه لا تدركه الأبصار، ولا يحيطون به علما، وليس كمثله شيء؟ أليس محمد عليه السلام نبيا صادقا؟ قال: بلى، قال: فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله تعالى يدعوهم إليه بأمره، ويقول: لا تدركه الأبصار، ولا يحيطون به علما، وليس كمثله شيء، ثم يقول: ¬

_ (¬1) هو الإمام ابو عبد الله جعفر الصادق بن محمد الباقر بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب، وأمه فروة بنت القاسم بن محمد بن أبى بكر، ولد بالمدينة سنة 80، وروى عن أبيه وجده القاسم وطبقتهما، وقد ألف تلميذه جابر بن حيات الصوفى كتابا فى ألف ورقة يتضمن رسائله؛ وتوفى سنة 148، ودفن بالبقيع؛ (شذرات الذهب 1: 220). (¬2) هو الإمام أبو الحسن على الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، ثامن الأئمة الاثنى عشر، توفى بطوس سنة 204، وصلى عليه المأمون؛ ودفن بجانب الرشيد. (شذرات الذهب 2: 6). (¬3) حاشية ت (من نسخة): «فساء له».

سأراه بعينى وأحيط به علما؛ أما تستحيون ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتى عن الله تعالى بشيء، ثم يأتى بخلافه من وجه آخر! قال أبو قرّة: فإنه يقول: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى؛ [النجم: 13، 14]، فقال عليه السلام: ما بعد هذه الآية يدلّ على ما رأى؛ حيث يقول: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى؛ [النجم: 11]، يقول ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه، ثم أخبر بما رأى، فقال: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى؛ [النجم: 18]، وآيات الله غير الله، وقد قال الله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً؛ [طه: 110]، فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم. فقال أبو قرّة: فأكذّب بالرؤية؟ فقال الرضا عليه السلام: إذن القرآن كذّبها، وما أجمع عليه المسلمون أنه لا يحاط به علما، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شيء. وأتى أعرابىّ أبا جعفر محمد بن عليّ عليهما السلام (¬1) فقال له: هل رأيت ربّك حين (¬2) عبدته؟ فقال: لم أكن لأعبد شيئا لم أره، فقال: كيف رأيته؟ فقال: لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، بل رأته القلوب بحقائق الإيمان؛ لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالنّاس، معروف بالآيات، منعوت بالعلامات، لا يجور فى قضيّته؛ هو الله الّذي لا إله إلا هو. فقال الأعرابىّ: الله أعلم حيث يجعل رسالاته! وروى أنّ شيخا حضر صفّين مع أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام، أكان بقضاء من الله تعالى وقدر؟ قال له: / نعم يا أخا أهل الشام، والّذي فلق الحبّة، وبرأ النّسمة، ما وطئنا موطأنا، ولا هبطنا واديا، ولا علونا تلعة إلا بقضاء من الله وقدر، فقال الشامىّ: عند الله أحتسب عنائى يا أمير المؤمنين، وما أظنّ أن لى أجرا فى سعيى إذ كان الله قضاه عليّ وقدّره! فقال له عليه السلام: إن الله قد أعظم ¬

_ (¬1) هو الإمام أبو جعفر محمد الجواد بن على الرضا بن موسى الكاظم؛ أحد الأئمة الاثنى عشر؛ توفى ببغداد سنة 220؛ (شذرات الذهب 2: 48). (¬2) ش: «حتى».

لكم الأجر على مسيركم وأنتم سائرون، وعلى مقامكم وأنتم مقيمون، ولم تكونوا فى شيء من حالاتكم مكرهين، ولا إليها مضطرين، ولا عليها مجبرين. فقال الشامىّ: وكيف ذاك والقضاء والقدر ساقانا، وعنهما كان مسيرنا وانصرافنا؟ فقال له عليه السلام: يا أخا أهل الشام، لعلّك ظننت قضاء لازما، وقدرا حتما؛ لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، والأمر من الله والنهى، وما كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المسيء، والمسيء أولى بعقوبة الذنب من المحسن؛ تلك مقالة عبدة الأوثان، وحزب الشيطان، وخصماء الرحمن، وشهداء الزور، وقدريّة هذه الأمة ومجوسها؛ إنّ الله أمر عباده تخييرا، ونهاهم تحذيرا، وكلّف يسيرا، وأعطى على القليل كثيرا، ولم يطع مكرها، ولم يعص مغلوبا، ولم يكلّف عسيرا، ولم يرسل الأنبياء لعبا، ولم ينزّل الكتب إلى عباده عبثا، ولا خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا؛ ذلك ظنّ الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار! قال الشامىّ: فما القضاء والقدر الّذي كان مسيرنا بهما وعنهما؟ قال: الأمر من الله بذلك والحكم، ثم تلا: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً؛ [الأحزاب: 38]، فقام الشامىّ فرحا مسرورا لمّا سمع هذا المقال، وقال: فرّجت عنى فرّج الله عنك يا أمير المؤمنين، وأنشأ يقول: أنت الإمام الّذي نرجو بطاعته … يوم الحساب من الرّحمن غفرانا (¬1) أوضحت من أمرنا (¬2) ما كان ملتبسا … جزاك ربّك بالإحسان إحسانا (¬3) وروى أنّ أبا حنيفة النعمان بن ثابت قال: دخلت المدينة، فرأيت أبا عبد الله [جعفر ابن عليّ] (¬4) عليه السلام، فسلّمت عليه، وخرجت من عنده، فرأيت (¬5) ابنه موسى (¬6) عليه السلام ¬

_ (¬1) حاشية ف: «فى رواية* يوم النشور من الرحمن رضوانا*». (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «أوضحت من ديننا». (¬3) حاشية ف: «فى رواية: * جزاك ربك عنا فيه إحسانا*». (¬4) تكملة من ت. (¬5) ت، ش: «فأتيت». (¬6) هو المعروف بموسى الكاظم، أحد الأئمة الاثنى عشر؛ توفى سنة 183؛ (شذرات الذهب 1: 304).

أخبار الحسن بن أبى الحسن البصرى وشيء من كلامه

فى دهليزه، قاعدا فى مكتبه، / وهو صغير السن فقلت له: أين يحدث (¬1) الغريب إذا كان (¬2) عندكم وأراد ذلك؟ فنظر إلى ثم قال: يتجنّب شطوط الأنهار، ومساقط (¬3) الثمار، وأفنية الدور، والطرق النافذة، والمساجد، ويضع ويرفع بعد ذلك حيث شاء. قال: فلما سمعت هذا القول نبل فى عينى، وعظم فى قلبى. فقلت له: جعلت فداك! فممّن المعصية؟ فنظر إلى ثم قال: اجلس حتى أخبرك، فجلست، فقال: إنّ المعصية لا بدّ أن تكون من العبد أو من ربه، أو منهما جميعا؛ فإن كانت من الله تعالى فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده، ويأخذه بما لم يفعله، وإن كان منهما فهو شريكه؛ والقوىّ أولى بإنصاف عبده الضعيف، وإن كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر، وإليه توجّه النهى، وله حق الثواب والعقاب، ووجبت الجنة والنار، قال: فلما سمعت ذلك قلت: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ؛ [آل عمران: 34]، وقد نظم هذا المعنى شعرا فقيل: لم تخل أفعالنا اللّاتى نذمّ لها … إحدى ثلاث خلال حين نأتيها إمّا تفرّد بارينا بصنعتها … فيسقط اللّوم عنّا حين ننشيها أو كان يشركنا فيها فيلحقه … ما سوف يلحقنا من لائم فيها أو لم يكن لإلهى فى جنايتها … ذنب فما الذّنب إلّا ذنب جانيها (¬4) *** [أخبار الحسن بن أبى الحسن البصرىّ وشيء من كلامه: ] وأحد من تظاهر من المتقدمين بالقول بالعدل، الحسن بن أبى الحسن البصرىّ، واسم أبيه يسار، من أهل ميسان، مولى لبعض الأنصار، وكان اسم أمه خيرة، مملوكة لأمّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله، ويقال إن أمّ سلمة كانت تأخذ الحسن إذا بكى فتسكّته بثديها، ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «يضع». (¬2) م: «الرجل». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «ومسقط». (¬4) فى حواشى الأصل، ت، ف: «زيادة فى آخر هذه القطعة: سيعلمون إذا الميزان شال بهم … أهم جنوها أم الرّحمن جانيها - من الجنى-».

فكان يدرّ عليه، فيقال إنّ الحكمة التى أوتيها الحسن من ذلك، وبلغ الحسن من السن تسعا وثمانين سنة. فمن تصريحه بالعدل ما رواه عليّ بن الجعد (¬1) قال: سمعت الحسن يقول: من زعم أن المعاصى من الله عز وجلّ جاء يوم القيامة مسودّا وجهه، ثم قرأ: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ؛ [الزمر: 60]. وقال داود بن أبى هند: سمعت الحسن يقول: كلّ/ شيء بقضاء وقدر (¬2) إلا المعاصى. وكان الحسن بارع الفصاحة، بليغ المواعظ، كثير العلم. وجميع كلامه فى الوعظ وذم الدنيا أو جلّه مأخوذ لفظا ومعنى، أو معنى دون لفظ؛ من كلام أمير المؤمنين عليّ ابن أبى طالب عليه السلام، فهو القدوة والغاية (¬3). فمن ذلك قوله عليه السلام: «شيئان أحدهما مأخوذ من الآخر، أحدهما أكثر شيء فى الدنيا، والآخر أقلّ شيء فى الدنيا: العبر والاعتبار». وقوله عليه السلام: «مثل الدنيا والآخرة، مثل المشرق والمغرب، متى ازددت من أحدهما قربا، ازددت من الآخر بعدا». وقوله: «شتّان بين عملين: عمل تذهب لذّته، وتبقى تبعته، وعمل تذهب مئونته ويبقى أجره». وقوله فى وصف الدنيا: «ما أصف من دار أولها عناء، وآخرها فناء، فى حلالها حساب، وفى حرامها عقاب، من صحّ فيها أمن (¬4)، ومن فرّط فيها ندم، ومن استغنى ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «على بن الجعد لم يلق الحسن؛ فإن عليا مات سنة ثلاثين ومائتين، والحسن مات سنة عشر ومائة، وولد عليّ بن الجعد سنة أربع وثلاثين ومائة. قال القتيبى: على بن الجعد مولى أم سلمة المخزومية، امرأة أبى العباس أمير المؤمنين، وولد سنة ست وثلاثين ومائة، ومات ببغداد سنة ثلاثين ومائتين، وفيها مات عبد الله بن طاهر». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «بقضاء الله وقدره». (¬3) ت: «فهو فى ذلك القدوة والغاية». (¬4) حاشية ف: «قوله: من صح فيها أمن، يعنى أن الإنسان إذا صح جسمه أمن الأهوال الدنيوية والأخروية، وإذا مرض ندم على التقصير».

فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن». وقوله فى كلام له: «فيا أيها الذّامّ للدنيا، والمعتلّ (¬1) بغرورها، متى استذمّت (¬2) إليك؟ بل متى غرّتك؟ أبمضاجع آبائك من الثّرى؟ أم بمنازل أمّهاتك من البلى؟ كم مرّضت بكفّيك؟ وكم عالجت بيديك؟ تبتغى لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطبّاء؛ مثّلت لك بهم الدنيا نفسك، وبمصرعهم مصرعك». قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوّه: وهذا باب إن ولجناه اغترفنا من ثبج (¬3) بحر زاخر، أو شؤبوب (¬4) غمام ماطر؛ وكلّ قول فى هذا الباب لقائل إذا أضيف إليه، أو قويس به كان كإضافة القطرة إلى الغمرة (¬5)، أو الحصاة إلى الحرّة (¬6)، وإنما أشرنا إليه إشارة، وأومأنا إليه إيماء، ثم نعود إلى ما كنا فيه. روى أن أعرابيا سمع كلام الحسن البصرىّ فقال: المؤمن فصيح إذا لفظ، نصيح إذا وعظ. وروى أن الحسن تلا يوما: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ؛ [الأحزاب: 72]، ثم قال: «إنّ قوما غدوا فى المطارف (¬7) العتاق، والعمائم الرّقاق، يطلبون الإمارات، ويضيّعون الأمانات، يتعرّضون للبلاء وهم منه فى عافية؛ حتى إذا أخافوا من فوقهم من أهل العفّة، وظلموا من تحتهم من أهل الذمّة أهزلوا (¬8) دينهم، وأسمنوا براذينهم، ووسّعوا دورهم، وضيّقوا قبورهم؛ ألم ترهم قد جدّدوا/ الثياب، ¬

_ (¬1) ت، ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «المغتر». (¬2) حاشية الأصل: «قوله عليه السلام استذمت، أى فعلت ما تلام عليه». (¬3) ثبج البحر: وسطه أو معظمه. (¬4) الشؤبوب: الدفعة من المطر. (¬5) الغمرة: الماء الكثير الّذي يغمر من خاض فيه. (¬6) الحرة: أرض سوداء ذات حصى. (¬7) المطارف: جمع مطرف؛ وهو كساء من خز ذو أعلام. (¬8) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «هزلوا».

وأخلقوا الدين، يتّكئ أحدهم على شماله، فيأكل من غير ماله؛ طعامه غصب، وخدمه سخرة؛ يدعو بحلو بعد حامض، وبحارّ بعد بارد، ورطب (¬1) بعد يابس؛ حتى إذا أخذته الكظّة، تجشّأ من البشم، ثم قال: يا جارية، هاتى حاطوما (يعنى هاضوما) يهضم الطّعام؛ يا أحيمق! لا والله لن تهضم إلا دينك، أين جارك! أين يتيمك! أين مسكينك! أين ما أوصاك الله عزّ وجلّ به! ». وذكر يوما الحجاج فقال: «أتانا أعيمش أخيفش، له جميمة يرجّلها، وأخرج إلينا بنانا قصارا، والله ما عرق فيها عنان فى سبيل الله، فقال: بايعونى، فبايعناه، ثم رقى هذه الأعواد ينظر إلينا بالتصغير، وننظر إليه بالتعظيم؛ يأمرنا بالمعروف ويجتنبه، وينهانا عن المنكر ويرتكبه». وروى عيسى بن عمر قال: قال الحسن: «إنّ هذه القلوب طلعة (¬2) فاقدعوها، فإنّكم إن تطيعوها تنزع بكم إلى شرّ غاية، وحادثوا هذه النفوس، فإنها سريعة الدّثور». قال عيسى بن عمر: فحدثت بذلك أبا عمرو بن العلاء، فعجب من فصاحته. وكان يقول فى بعض كلامه: «ما يشاء أن ترى أحدهم أبيّض بضّا، يملخ فى الباطل ملخا، ينفض مذرويه ويقول: ها أنا ذا فاعرفونى». قال: فالبضّ، هو الرّخص اللّحم، وليس هو من البياض على ما يظنّه قوم؛ لأنه قد تكون الرّخاصة مع الأدمة. وأما قوله «يملخ» فإن الملخ هو التّثنّى والتكسّر، يقال ملخ الفرس إذا لعب (¬3)؛ قال رؤبة يصف الحمار: * معتزم التّجليح ملّاخ الملق (¬4) * ¬

_ (¬1) ف، ونسخة بحاشيتى ت، ف: «وبرطب». (¬2) الطلعة: الكثيرة التطلع إلى الشيء؛ أى أنها كثيرة الميل إلى هواها تشتهيه حتى تهلك صاحبها، قال فى اللسان: «وبعضهم يرويه بفتح الطاء وكسر اللام، وهو بمعناه، والمعروف الأول». (¬3) فى اللسان (ملخ) وحاشيتى ت، ف: «يملخ فى الباطل ملخا؛ أى يمر فيه مرا سريعا». (¬4) الاعتزام: المضى على جهة واحدة، والتجليح: شدة الإقدام، والملق: ما استوى من الأرض.-

والمذروان (¬1): فرعا الأليتين: قال عنترة: أحولي (¬2) تنفض استك مذرويها … لتقتلنى فها أنا ذا عمارا هذا قول أبى عبيد؛ وقال ابن قتيبة ردّا عليه: ليس المذروان فرعى الأليتين حسب؛ بل هما الجانبان من كل شيء؛ تقول العرب: جاء فلان يضرب أصدريه، ويضرب عطفيه، وينفض مذرويه، وهما منكباه. وذكر أنه سمع رجلا من فصحاء العرب يقول: قنّع الشيب مذرويه، يريد جانبى رأسه، وهما فوداه، وإنما سمّى بذلك، لأنّهما يذريان؛ أى ¬

_ وفى حواشى الأصل، ت، ف: وقبله: * إذا تتلّاهنّ صلصال الصّعق* - أى تلا الحمار الأتن، والصلصال: المصوت، والصعق: شدة الصوت؛ وحمار صعق: شديد الصوت» وبعده: * يرمى الجلاميد بجلمود مدق* والبيت من أرجوزته التى مطلعها: * وقاتم الأعماق خاوى المخترق* وهى فى (ديوانه 104 - 108)، وأبيات منها مشروحة فى (الخزانة 1: 38 - 44). (¬1) حاشية ف: «قوله المذروان؛ أى أطراف الأليتين، وليس بمثنى على واحد هو مذرى، خلافا لما يقوله أبو عبيد؛ إذ لو كان ذلك كذلك لكان مذريان؛ لأن الواو إذا وقعت رابعة فصاعدا قلبت ياء قياسا؟ ؟ ؟ ألا ترى إلى المذرى الّذي يميز به الطعام إذا ثنى يقال «مذريان»؛ فقوله: «مذروان؟ ؟ ؟ الأليتين، كذا ورد عنهم فى صورة التثنية، وإن لم يكن تثنية لواحد مذكور». (¬2) ت، د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): «أنحوى»، وهو يخاطب عمارة بن زياد العبسى وكان بلغه أنه يقول لقومه: قد أكثرتم ذكر هذا العبد؛ وددت أنى لقيته خاليا حتى يعلم أنه عبد؛ وبعده: متى ما تلقنى فردين ترجف … روانف أليتيك وتستطارا والروانف أعلى الأليتين؛ والبيتان من قطعة فى (حماسة ابن الشجرى: 8، واللآلئ 483، والخزانة 3: 362).

يشيبان، والذّرى والذّروة (¬1) الشيب، قال: وهذا أصل الحرف، ثم استعير للمنكبين، والأليتين، والطرفين من كل شيء، قال أمية بن أبى عائذ الهذلىّ يذكر قوسا: على عجس هتّافة المذروي … ن زوراء مضجعة فى الشّمال (¬2) أراد قوسا ينبض (¬3) طرفاها. قال: فلا معنى لوصف الرجل الّذي ذكره الحسن بأنه يحرك أليتيه؛ ولا من شأن من يبذخ (¬4) ويتيه على نفسه ويقول: ها أنا ذا فاعرفونى أن يحرّك أليتيه؛ وإنما أراد أنه يضرب عطفيه، وهذا مما يوصف به المرح المختال، وربما قالوا: جاءنا ينفض مذرويه، إذا تهدّد وتوعّد، لأنه إذ تكلم وحرّك رأسه نفض قرون فوديه، وهما مذ رواه. قال سيدنا الشريف الأجل المرتضى أدام الله علوّه: ليس الّذي ذكره أبو عبيد ببعيد، لأن من شأن المختال الّذي يزهى بنفسه أن يهتزّ ويتثنى، فتتحرك أعطافه وأعضاؤه؛ ومذ رواه من جملة ما يهتزّ ويتحرّك، لأنّهما بارزان من جسمه، فيظهر فيهما الاهتزاز، وإنما خصّ المذروان (¬5) بالذّكر مع أن غيرهما يتحرك أيضا، على طريق التقبيح على هذا المختال والتهجين لفعله. وقول ابن قتيبة ليس من شأن من يبذخ أن يحرّك أليتيه ليس بشيء، لأن الأغلب من شأن المختال البذّاخ الاهتزاز وتحريك الأعطاف؛ على أن هذا يلزمه فيما قاله، لأنه ليس ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: العجب من ابن قتيبة كيف خلط المهموز بالمعتل، وإنما هو الذرأ بالهمز شيب مقدم الرأس، وقد ذرئ يذرأ، ورجل أذرأ وامرأة ذرآء؛ وهى الذرءة، وأعجب من ذلك أنه ذكره فى إصلاح غلط أبى عبيد». وفى حاشية ف أيضا: «الذرأ: هو شيب مقدم الرأس؛ وهو مهموز لا غير، وأصل المذروين ينبغى أن يكون من ذرو الريح، وقد صح أنه إذا كان بمعنى الشيب كان ذرأ، مهموزا، فلو كان من الذرءة التى هى الشيب لكان مذرأين». (¬2) ديوان الهذليين 2: 185. والعجس: مقبض القوس، وهتافة المذروين؛ أى لطرفيها صوت نبض، وزوراء: معوجة. (¬3) الإنباض: التصويت. (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «يتبذخ». (¬5) ش: «خص المذروين».

من شأن كل متوعّد أن يحرّك رأسه، وينفض مذرويه؛ فإذا قال: إن ذلك فى الأكثر قيل له مثله. وكان الحسن يقول: «يا ابن آدم، جمعا جمعا، سرطا سرطا (¬1)، جمعا فى وعاء، وشدّا فى وكاء، وركوب الذّلول، ولبس اللّيّن؛ حتى قيل مات، فأفضى والله إلى الآخرة، فطال حسابه». وكان يقول: «مسكين (¬2) ابن آدم، مكتوم الأجل، مكنون العلل؛ أسير جوع، صريع شبع، إنّ من تؤلمه البقّة، وتقتله الشّرقة، لبادى الضّعف، فريسة الحتف». وكان يقول: «ما أطال أحد الأمل، إلا أساء العمل». وكتب إلى عمر بن عبد العزيز: «أما بعد، فإن طول البقاء إلى فناء، فخذ من فنائك الّذي لا يبقى، لبقائك الّذي لا يفنى، والسلام». وكان يقول: «إذا رأيت رجلا ينافس فى الدنيا فنافسه فى الآخرة». وسأله رجل: ما حالك؟ فقال: بأشدّ حال، ما حال من أصبح وأمسى ينتظر الموت، ولا يدرى ما يفعل الله به! ! . / وكان يقول: «يا ابن آدم، بسطت لك صحيفة، ووكّل بك ملكان كريمان، يكتبان عملك فأملل ما شئت، وأكثر وأقلل». وفى خبر آخر: «وكّل بك ملكان كريمان، ريقك مدادهما، ولسانك قلمهما». روى أبو بكر الهذلىّ قال: لما وفد (¬3) عمر بن هبيرة واليا على العراق نزل واسطا، فبعث ¬

_ (¬1) السرط: البلع. (¬2) حواشى الأصل، ت. ف: يجوز: «مسكين ابن آدم»، ويكون قد حذف التنوين لالتقاء الساكنين؛ من باب قوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ، وقول الشاعر: عمرو الّذي هشم الثّريد لقومه … ورجال مكّة مسنتون عجاف. (¬3) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «قدم».

إلى الشعبىّ وإلى الحسن البصرىّ، فقال لهما: إن يزيد بن عبد الملك عبد أخذ الله ميثاقه، وانتجبه لخلافته، وقد أخذ بنواصينا، وأعطيناه عهودنا ومواثيقنا وصفقة أيدينا، فوجب علينا السمع والطاعة، وإنه بعثنى إلى عراقكم غير سائل إياه، إلا أنه لا يزال يبعث إلينا فى القوم نقتلهم، وفى الضّياع نقبضها، أو فى الدور نهدمها، فنولّيه من ذلك ما ولّاه الله، فما تريان؟ فأما الشّعبىّ فقال قولا فيه بعض اللين؛ وأما الحسن فإنه قال له: يا عمر، إنى أنهاك عن الله أن تتعرض له، فإن الله مانعك من يزيد، ولا يمنعك يزيد من الله؛ إنه يوشك أن ينزل إليك (¬1) ملك من السماء، فيستنزلك من سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك؛ ثم لا يوسّعه عليك إلا عملك، إنّ هذا السلطان إنما جعل ناصرا لدين الله، فلا تركبوا دين الله وعباد الله بسلطان الله تذلّونهم به، فإنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق جل وعزّ. وذكر عن الشعبىّ أنه قال: كان والله الحسن أكرمنا عليه. وروى أبو بكر بن عياش قال: قال مسلمة بن عبد الملك للحسن: عظنى فقال: إذا نزلت عن المنبر فاعمل بما تكلمت به، فقال: عظنى، فقال: أولّيت قط؟ فقال: نعم، قال: فما كنت تحب أن يؤتى إليك فأته إلى من وليته. وعن ثابت البنانيّ قال: قال رجل للحسن: آخذ عطائى أم أدعه حتى آخذه من حسناتهم يوم القيامة؟ فقال له: قم ويحك خذ عطاءك! فإن القوم مفاليس من الحسنات يوم القيامة. وولد للحسن غلام، فهنأه بعض أصحابه، فقال الحسن: «نحمد الله على هبته، ونستزيده من نعمه، ولا مرحبا بمن إن كنت غنيا أذهلنى، وإن كنت فقيرا أتعبنى؛ لا أرضى بسعي له سعيا، ولا بكدّى له فى الحياة كدّا، أشفق عليه من الفاقة بعد وفاتى، وأنا فى حال لا يصل إلى/ من همّه حزن، ولا من فرحه سرور». وكان الحسن يقول: «لو لم يكن من شؤم الشّراب إلا أنه جاء إلى أحبّ خلق الله إلى الله فأفسده، لكان ينبغى للعاقل أن يتركه» - يعنى العقل. ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «أن يرسل عليك ملكا».

وعزّى جارا له يهوديا فقال: «جزاك الله عن مصيبتك بأعظم ما جازى به أحدا من أهل ملّتك». وهذا تخلّص منه مليح، لأنه لم يدع له بالثواب الّذي لا يستحقه الكفّار، وأراد بالجزاء العوض الّذي يستحقه الكافر مع استحقاق العقاب. وكان الحسن يقول: «ليس للفاسق المعلن بالفسق غيبة، ولا لأهل الأهواء والبدع غيبة، ولا للسلطان الجائر غيبة». وقال فى قوله تعالى رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً قال العلم، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً؛ [البقرة: 201] قال: الجنة. وخرج الحسن فى جنازة معها نوائح، فقال له رجل: أما ترى يا أبا سعيد هذا؟ وهمّ الرّجل بالرجوع، فقال له الحسن: إن كنت كلما رأيت قبيحا تركت له حسنا أسرع ذلك فى دينك. وذكرت عنده الدنيا فقال: أحلام نوم أو كظلّ زائل … إنّ اللّبيب بمثلها لا يخدع وكان يتمثّل: اليوم عندك دلّها وحديثها … وغدا لغيرك كفّها والمعصم (¬1) وعن أبى عبيدة قال: لما فرغ الحجّاج من خضراء (¬2) واسط نادى فى الناس أن يخرجوا فيدعوا له بالبركة، فخرج الناس، وخرج الحسن، فاجتمع عليه الناس، فخاف أهل الشام على نفسه أن يقتلوه، فرجع وهو يقول: قد نظرنا يا أخبث الأخبثين، وأفسق الفاسقين، ¬

_ (¬1) حاشية ف: «قبله: لا تأمنن أنثى حياتك واعلمن … أن النّساء وما لهنّ مقسّم وبعده: كالبيت يصبح خاليا من أهله … ويحلّ بعدك فيه من لا تعلم. (¬2) حاشية الأصل: «خضراء واسط: بنية كان ابتناها الحجاج»، وفى م: «قصر واسط».

فأما أهل السماء فمقتوك، وأما أهل الأرض فغرّوك، ثم قال: أبى الله تعالى للميثاق الّذي أخذه على أهل العلم ليبيّننّه للناس ولا يكتمونه. ثم انصرف وبلغ الحجاج ذلك فقال: يا أهل الشام- وهم حوله: آلله (¬1) ليقومنّ (¬2) عبيد من عبيد أهل البصرة، ويتكلم فىّ بما يتكلم، ولا يكون عند أحد منكم تغيير ولا نكير! قالوا: ومن ذاك أصلحك الله! اسقنا دمه، فقال: عليّ به، وأمر بالنّطع والسيف فأحضرا، ووجّه إليه، فلما دنا الحسن من الباب، حرّك شفتيه والحاجب ينظر إليه، فلما دخل قال له الحجاج: هاهنا، وأجلسه قريبا من فرشه، وقال له: ما تقول فى عليّ وعثمان؟ قال: أقول قول من هو خير منى عند من هو شرّ منك، قال موسى عليه السلام لفرعون إذ قال له: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى. قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى؛ [طه: 51 - 52]؛ علم عليّ وعثمان عند الله تعالى، فقال له الحجاج: أنت سيد العلماء يا أبا سعيد، ثم دعا بغالية فغلّل بها لحيته، فلما خرج الحسن اتّبعه الحاجب، فقال: يا أبا سعيد، لقد دعاك لغير ما فعل بك، ولقد أحضر السيف والنّطع، فلما أقبلت رأيتك قد حرّكت شفتيك بشيء، فما قلت؟ قال: قلت يا عدّتى عند كربتى، ويا صاحبى عند شدتى، ويا ولىّ نعمتى، ويا إلهى وإله آبائى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ارزقنى مودّته، واصرف عنى أذاه ومعرّته؛ ففعل ربى عز وجل ذلك. وكان الحسن يقول: ما زال النفاق مقموعا حتى عمّم هذا عمامة؛ وقلّد سيفا. - يعنى الحجاج. ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «هم كثيرا ما يتصرفون فى القسم؛ وذلك لكثرة تردده فى كلامهم فتارة يحذفون الفعل، كقولك بالله، وأخرى يحذفون خبر المبتدأ، كقولك لعمرى، وتارة يحذفون حرف القسم من غير عوض، كقولك: الله لأفعلن؛ بالنصب، والله لأفعلن بالجر، وتارة يحذف الحرف عن عوض، كقولك آلله، وهالله». (¬2) حواشى الأصل، ت، ف: «لا بد من النون فى صحبة اللام فى جواب القسم؛ وحذفها ضعيف؛ ومع ضعفه جائز؛ كقولك: والله ليقوم زيد، والفصيح بالنون؛ وإنما تحرى ذلك فيه لأن الغرض بالقسم التوكيد؛ فينبغى أن يكون مؤكدا».

وروى أبو بكر الهذلىّ أنّ رجلا قال للحسن: يا أبا سعيد، إن الشيعة تزعم أنّك تبغض عليّا عليه السلام، فأكبّ يبكى طويلا، ثم رفع رأسه فقال: لقد فارقكم بالأمس رجل كان سهما من مرامى ربّنا عز وجل على عدوّه، ربّانىّ هذه الأمة، ذو شرفها وفضلها، وذو قرابة من النبي صلى الله عليه وآله قريبة، لم يكن بالنومة عن أمر الله، ولا بالغافل عن حق الله، ولا بالسّروقة من مال الله، أعطى القرآن عزائمه فيما له وعليه، فأشرف منها على رياض مونقة، وأعلام بينة، ذلك ابن أبى طالب يا لكع! وكان الحسن إذا أراد أن يحدّث فى زمن بنى أمية عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال أبو زينب. وشهد الحسن جنازة فقال: إنّ أمرا هذا [آخره لينبغى أن يزهد فيه، وإن أمرا هذا أوّله لينبغى أن يحذر منه] (¬1). وعن حميد الطويل قال: خطب رجل إلى الحسن ابنته، وكنت السّفير بينهما- فرضيه، وأراد أن يزوجه فأثنيت عليه ذات يوم وقلت: وأزيدك يا أبا سعيد، إنّ له خمسين ألفا، قال: أقلت له خمسون ألفا! ما اجتمعت من حلال- قلت: يا أبا سعيد، إنه والله ما علمت لورع مسلم، فقال: إن كان جمعها من حلال، لقد ضنّ بها عن حقّ! لا يجرى بينى وبينه صهر أبدا. وقيل لعلىّ بن الحسين عليهما السلام: قال الحسن البصرىّ ليس العجب ممّن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا! فقال عليه السلام: أنا أقول: ليس العجب ممّن نجا كيف نجا؛ إنما العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله! وأتى عليه السلام يوما الحسن البصرى وهو يقصّ عند الحجر فقال: أترضى يا حسن نفسك للموت؟ قال: لا، قال: فعملك للحساب؟ قال: لا؛ قال: فثمّ دار للعمل غير هذه الدار؟ قال: لا، قال: فلله فى أرضه معاذ غير هذا البيت؟ قال: لا، قال: فلم تشغل الناس عن التّطواف (¬2). ¬

_ (¬1) م: «إن امرأ هذا أوله لينبغى أن يحذر منه، وإن امرأ هذا آخره لينبغي أن يزهد فيه». (¬2) كذا فى الأصل، ت، ج، ش، ف، وفى نسخة بحاشيتى ت، ف: «الطواف». وكانت وفاة الحسن البصرى سنة 110؛ (وانظر ترجمته فى ابن خلكان 1: 128 - 129).

11

11 مجلس آخر [المجلس الحادي عشر: ] [أخبار واصل بن عطاء: ] وممّن تظاهر بالعدل واشتهر به واصل بن عطاء الغزّال، ويكنى أبا حذيفة، وقيل: إنه مولى بنى ضبّة، وقيل: مولى بنى مخزوم، وقيل: مولى بنى هاشم. وروى أنه لم يكن غزّالا، وإنما لقّب بذلك، لأنه كان يكثر الجلوس فى الغزّالين، وقيل: إنه كان يجلس فى الغزالين عند رضيع له يعرف بأبى عبد الله الغزّال. وذكر المبرّد: أنّ (¬1) واصلا كان يلزم الغزالين، ليعرف المتعففات من النساء، فيصرف صدقته إليهن (¬2)، ولقّب بذلك كما لقّب أبو سلمة حفص بن سليمان بالخلّال، وهو وزير أبى العباس (¬3) السفّاح، ولم يكن خلّالا، وإنما كان منزله بالكوفة بقرب الخلّالين، وكان يجلس عندهم فسمى خلّالا، ومثله أبو عليّ الحرمازىّ (¬4)، وهو مولى لبنى هاشم، وإنما لقّب بذلك لأنه كان ينزل فى بنى الحرماز، وإبراهيم بن يزيد الخوزىّ، وليس بخوزىّ، ولكنه كان ينزل (¬5) بمكة بشعب الخوز، وأبو سعيد المقبرىّ، لأنه نزل (¬6) المقابر. وكان واصل ألثغ فى الراء، قبيح اللّثغة؛ [فكان يخلّص من كلامه الراء] (¬7)، يعدل عنها فى سائر محاوراته، وقد ذكرنا طرفا من ذلك فى أخبار بشار بن برد (¬8). ¬

_ (¬1) انظر الكامل بشرح المرصفى 7: 114. (¬2) فى الكامل: «فيجعل صدقه لهن». (¬3) حواشى الأصل، ت، ف: «أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال هو الّذي قيل فيه: إن الوزير وزير آل محمد … أودى فمن يشناك كان وزيرا إن السّلامة قد تبين وربما … كان السّرور بما كرهت جديرا وكان يميل إلى أهل البيت عليهم السلام». وانظر أخباره فى الفخرى: 133. (¬4) هو أبو على الحسن بن على الحرمازى؛ أعرابى راوية، وكان أيضا شاعرا، والحرماز: أبو حي من تمم؛ وهو الحارث بن مالك بن عمرو بن تميم؛ (وانظر الفهرست: 48). (¬5) حاشية ت (من نسخة): «منزله». (¬6) حاشية ت (من نسخة): «ينزل بالمقابر». (¬7) حاشية ت (من نسخة): «فكان يخلص كلامه من الراء». (¬8) انظر ص 139 - 140 من هذا الجزء.

وذكر أبو الحسن البرذعىّ المتكلم أن إنسانا سأل عمرو بن عبيد أو غيره عن شيء فى القدر بحضرة واصل بن عطاء، فتكلّم السائل بشيء أغضب عمرا، فأجابه عمرو بجواب لم يرضه واصل، فقال له واصل: إياك وأجوبة الغضب فإنها مندمة، والشيطان يكون معها، وله فى تضاعيفها همزة (¬1)، وقد أوجب الله جلّ وعز على نبيه/ عليه السلام أن يستعيذ من همزات الشيطان، وأن يكونوا معه بقوله: أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ؛ [المؤمنون: 97]؛ إلى خاتمة الآية، [وقلّما شاهدت أحدا أجاب فتثبت فى جوابه] (¬2)، [وما يطلق به لسانه] (¬3) فلحقه لوم. قال البرذعىّ: انظر إلى واصل كيف كلّم عمرا، فأخرج الرّاء من كلامه، فقال فى موضع «والشيطان يحضرها»: «يكون معها». وقال: «قد أوجب الله على نبيه»، ولم يقل: «أمره». وقال: «وأن يكونوا معه» بدلا من قوله. «ويحضروه» ثم قال: «إلى خاتمة الآية» ولم يقل: «إلى آخر الآية». قال سيدنا الشريف المرتضى أيّده الله: ومما لم يذكره البرذعىّ أنه عدل عن افتتاح الآية من أجل الراء أيضا، لأن أولها: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ؛ ولولا قصده إلى العدول لكان ذكرها واجبا من ابتدائها (¬4)؛ لا سيما وفى ابتدائها تعليم وتوقيف على كيفية دعائه والاستعاذة به. وقيل إن رجلا قال له: كيف تقول أسرج الفرس؟ قال: ألبد الجواد. وقال له آخر: كيف تقول: ركب فرسه، وجرّ رمحه، قال: استوى على جواده، وسحب عامله. وذكر أبو الحسين الخياط أن واصلا كان من أهل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وآله، ومولده سنة ثمانين ومات سنة إحدى وثلاثين ومائة. ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «همز الشيطان وسوسته وغلبته على العقل». (¬2) نسخة بحاشية ت: «وقلما شاهدت أحدا أجاب فتثبت فى جوابه». (¬3) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «وما ينطلق به لسانه». (¬4) ش: «من حيث ابتدأ بها».

مناظرة واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد فى القول بالمنزلة بين المنزلتين

وكان واصل ممّن لقى أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفيّة وصحبه، وأخذ عنه، وقال قوم: إنه لقى أباه محمدا عليه السلام، وذلك غلط؛ لأن محمدا توفى سنة ثمانين أو إحدى وثمانين، وواصل ولد فى سنة ثمانين. وواصل هو أول من أظهر المنزلة بين المنزلتين؛ لأن الناس كانوا فى أسماء أهل الكبائر من أهل الصلاة على أقوال؛ كانت الخوارج تسمّيهم بالكفر والشرك، والمرجئة تسمّيهم بالإيمان، وكان الحسن وأصحابه يسمّونهم بالنفاق، فأظهر واصل القول بأنّهم فسّاق غير مؤمنين، ولا كفار، ولا منافقين. [مناظرة واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد فى القول بالمنزلة بين المنزلتين] وكان عمرو بن عبيد من أصحاب الحسن وتلاميذه، فجمع بينه وبين واصل ليناظره فيما أظهر من القول بالمنزلة بين المنزلتين، فلما ووقفوا على الاجتماع ذكر أن واصلا أقبل ومعه جماعة من أصحابه إلى حلقة الحسن، وفيها عمرو بن عبيد جالس، فلما نظر إلى واصل، وكان/ فى عنقه طول واعوجاج قال: أرى عنقا لا يفلح صاحبها! فسمع ذلك واصل فلما سلّم عليه قال له: يا ابن أخى، إن من عاب الصنعة عاب الصانع، للتعلق الّذي بين الصانع والمصنوع (¬1)؛ فقال له عمرو بن عبيد: يا أبا حذيفة، قد وعظت فأحسنت، ولن أعود إلى مثل الّذي كان منى. وجلس واصل فى الحلقة، وسئل أن يكلّم عمرا فقال واصل لعمرو: لم قلت إنّ من أتى كبيرة من أهل الصلاة استحق اسم النفاق؟ فقال عمرو: لقول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ؛ [النور: 4]، ثم قال فى موضع آخر: إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ؛ [التوبة: 67]، فكان كلّ فاسق منافقا؛ إذ كانت ألف ولام المعرفة موجودتين فى الفاسق؛ فقال له واصل: أليس قد وجدت الله تعالى يقول: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ؛ [المائدة: 45]، وأجمع أهل العلم على أنّ صاحب ¬

_ (¬1) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): «بين الصنعة والصانع». ومن نسخة بحاشية ت أيضا: «بين الصنيعة والصانع».

الكبيرة يستحق اسم ظالم؛ كما يستحق اسم فاسق؛ فألّا كفّرت صاحب الكبيرة من أهل الصلاة بقول الله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ؛ [البقرة: 254]، فعرّف بألف ولام التعريف اللتين فى قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، كما قال فى القاذف: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ، فسمّيته منافقا لقوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ! فأمسك عمرو، ثم قال له واصل: يا أبا عثمان؛ أيّما أولى أن يستعمل فى أسماء المحدثين من أمّتنا؟ ما اتفق عليه أهل الفرق من أهل القبلة، أو ما اختلف فيه؟ فقال عمرو: بل ما اتفقوا عليه أولى، فقال له واصل: ألست تجد أهل الفرق على اختلافهم يسمّون صاحب الكبيرة فاسقا، ويختلفون فيما عدا ذلك من أسمائه؛ لأن الخوارج تسميه مشركا فاسقا، والشيعة تسميه كافر نعمة فاسقا! - قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوّه: يعنى بالشيعة الزّيدية (¬1) - والحسن يسميه منافقا فاسقا، والمرجئة (¬2) تسميه مؤمنا فاسقا؟ فاجتمعوا على تسميته بالفسق، واختلفوا فيما عدا ذلك من أسمائه، فالواجب أن يسمّى بالاسم الّذي اتّفق عليه وهو الفسق؛ لاتفاق المختلفين عليه، ولا يسمى بما عدا ذلك من الأسماء التى اختلف فيها، فيكون صاحب الكبيرة/ فاسقا، ولا يقال فيه إنه مؤمن ولا منافق، ولا مشرك ولا كافر نعمة (¬3)، فهذا أشبه بأهل الدين. فقال له عمرو بن عبيد: ما بينى وبين الحق عداوة، والقول قولك، فليشهد عليّ من حضر أنى تارك المذهب الّذي كنت أذهب إليه؛ من نفاق صاحب الكبيرة من أهل الصلاة، ¬

_ (¬1) الزيدية: ثلاث فرق؛ الجارودية والسليمانية، والأبترية؛ يجمعها القول بإمامة زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب؛ فى أيام خروجه فى زمان هشام بن عبد الملك؛ (وانظر الفرق بين الفرق: 16، والملل والنحل للشهرستانى 87، ومفاتيح العلوم 21). (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «المرجئة فى القديم غير الذين لا يؤيدون العقاب؛ بل هم الذين كان يؤخرون عليا عليه السلام عن غيره من الصحابة؛ والإرجاء: التأخير». وانظر (الفرق بين الفرق 19، والملل والنحل للشهرستانى 78، ومفاتيح العلوم 20، وكشاف اصطلاحات الفنون 578). (¬3) حاشية ت (من نسخة): «ولا كافر».

قائل يقول أبى حذيفة فى ذلك، وأنّى قد اعتزلت مذهب الحسن فى هذا الباب. فاستحسن الناس هذا من عمرو. وقيل إنّ اسم الاعتزال إنما اختصّت به (¬1) هذه الفرقة لاعتزالهم مذهب الحسن بن أبى الحسن فى تسمية مرتكب الكبيرة من أهل الصلاة بالنفاق؛ وحكى غير ذلك. وقيل إن قتادة بعد موت الحسن البصرى كان جلس مجلسه، وكان هو وعمرو بن عبيد جميعا رئيسين متقدّمين (¬2) فى أصحاب الحسن، فجرت بينهما نفرة، فاعتزل عمرو مجلس قتادة، واجتمع عليه جماعة من أصحاب الحسن، فكان قتادة إذا جلس مجلسه سأل عن عمرو وأصحابه فيقول: ما فعلت المعتزلة؟ فسمّوا بذلك. قال سيدنا الشريف المرتضى ذو المجدين أدام الله علوه: أما ما ألزمه واصل بن عطاء (¬3) لعمرو بن عبيد أولا فسديد لازم (¬4)، وأما ما كلّمه به ثانيا فغير واجب ولا لازم؛ لأن الإجماع وإن لم يوجد فى تسمية صاحب الكبيرة بالنفاق أو غيره من الأسماء كما وجد فى تسميته بالفسق فغير ممتنع أن يسمّى بذلك لدليل غير الإجماع، ووجود الإجماع فى الشيء وإن كان دليلا على صحته، فليس فقده دليلا على فساده؛ وواصل إنما ألزم عمرا أن يعدل عن التسمية بالنفاق للاختلاف فيه، ويقتصر على التسمية بالفسق للاتفاق عليه، وهذا باطل، ولو لزم ما ذكره للزمه أن يقال: قد انفق أهل الصلاة على استحقاق صاحب الكبيرة من أهل القبلة الذمّ والعقاب، ولم يتفقوا على استحقاقه التخليد فى العقاب، أو نقول إنهم اجمعوا على استحقاقه العقاب، ولم يجمعوا على فعل المستحق به، فيجب القول بما اتفقوا عليه، ونفى ما اختلفوا فيه. فإذا قيل استحقاقه (¬5) للخلود، أو فعل المستحق به من العقاب، وإن لم يجمعوا عليه، ¬

_ (¬1) ت: «إنما اختص». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «مقدمين». (¬3) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «عمرو بن عبيد». (¬4) حاشية ت (من نسخة): «واجب». (¬5) حاشية ت (من نسخة): «استحقاق الخلود».

فقد علم بدليل غير الإجماع؛ قيل له مثل ذلك فيما عوّل عليه، وبطل على/ كل حال أن يكون الاختلاف فى القول دليلا على وجوب الامتناع منه، وهذا ينتقض بمسائل كثيرة ذكرها يطول. على أنّ المقدمة التى قدمها لا تشبه ما ألزم عليها، لأن الإجماع أولى من الاختلاف فيما يتعارض ويتقابل، والإجماع والاختلاف فى الموضع الّذي كلم عليه واصل عمرا فى مكانين؛ لأن الإجماع هو على تسميته بالفسق، والاختلاف هو فى تسميته بما عداه من الأسماء، فلا تعارض بينهما؛ وله أن يأخذ بالإجماع فى موضعه، ويعوّل فيما الاختلاف فيه على دلالة غير الإجماع، لأن فقد الإجماع من القول لا يوجب بطلانه. وحكى أن واصلا كان يقول: أراد الله من العباد أن يعرفوه ثم يعملوا، ثم يعلّموا، قال الله تعالى: يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ، فعرّفه نفسه، ثم قال: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ؛ [طه: 12]، فبعد أن عرّفه نفسه أمره بالعمل. قال: والدليل على ذلك قوله تعالى: وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا- يعنى صدقوا- وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ. وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ. علموا وعملوا وعلّموا. وروى المبرّد قال: حدّثت أن واصل بن عطاء أقبل فى رفقة فأحسّوا بالخوارج، وكانوا قد أشرفوا على العطب، فقال واصل لأهل الرفقة: إنّ هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعونى وإياهم، فقالوا: شأنك، فقال الخوارج له: ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله، ويقيموا حدوده، فقالوا: قد أجرناكم؛ قال: فعلّمونا أحكامه، فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معى، قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا؛ قال لهم: ليس ذلك لكم؛ قال الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ؛ [التوبة: 6]، فأبلغونا مأمننا، فساروا بأجمعهم حتى بلغوا الأمن (¬1). ¬

_ (¬1) الكامل- بشرح المرصفى 7: 79.

أخبار عمرو بن عبيد

وحكى أنّ محمدا وإبراهيم ابنى عبد الله بن الحسن كانا ممّن دعاهما (¬1) واصل إلى القول بالعدل، فاستجابا له، وذلك لما حجّ واصل، ودعا الناس بمكة والمدينة (¬2). وحكى أبو القاسم البلخىّ أن عبد الله قال لابنه محمد: كلّ خصالك محمودة يا بنيّ إلا قولك بالقدر، قال: يا أبه، أفشيء أقدر على تركه/ [أولا أقدر على تركه] (¬3)؟ فورد الكلام على رجل عاقل فقال: لا عاتبتك عليه أبدا. قال أبو القاسم: يقول إن كنت أقدر على تركه فهو قولى، وإن كنت لا أقدر فلم تعاتبنى على شيء لا أقدر عليه. *** [أخبار عمرو بن عبيد: ] فأما عمرو بن عبيد فيكنى أبا عثمان، مولى لبنى العدوية، من بنى تميم، قال الجاحظ: هو عمرو بن عبيد بن باب. وباب نفسه من سبى كابل؛ من سبى عبد الرحمن بن سمرة، وكان باب مولى لبنى العدويّة قال: وكان أبوه عبيد شرطيا، وكان عمرو متزهدا، فكانا إذا اجتازا معا على الناس قالوا: هذا شرّ الناس أبو خير الناس، فيقول عبيد: صدقتم؛ هذا إبراهيم، وأنا تارخ. قال عليّ بن الجعد: وهو عبيد بن باب، وكان بوّابا للحكم بن أيوب، قال: وكان باب مكاريا، له دكّان معروف يقال له دكّان باب، وكان فارسيا، وللفرزدق معه خبر مشهور تركنا ذكره لشهرته وفحش فيه. وذكر أبو الحسين الخيّاط أن مولد عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء جميعا فى سنة ثمانين، قال: ومات عمرو بن عبيد فى سنة مائة وأربع وأربعين؛ وهو ابن أربع وستين سنة. روى أنّ عمرا استأذن على المنصور، فدخل عليه الربيع (¬4) فقال له: بالباب رجل ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «ممن دعاهم». (¬2) وانظر ترجمة واصل فى (معجم الأدباء 19: 246 - 247، وابن خلكان 2: 170، وفوات الوفيات 2: 395 - 396، ولسان الميزان 6: 214 - 215، وعيون التواريخ وشذرات الذهب- وفيات سنة 131). (¬3) ساقط من م. (¬4) هو الربيع بن يونس بن محمد، حاجب أبى جعفر المنصور، ووزيره بعد أبى أيوب المورياني. توفى سنة 170، (وانظر ترجمته وأخباره فى ابن خلكان 1: 185 - 186).

قال: إنى عمرو بن عبيد، وكانت على المنصور جبّة يمانية محقّقة (¬1)؛ فقال: ويلك يا ربيع! عمرو بالباب؟ قال: نعم، قال: هات لى قميصا أبيض، فأتاه به، فألقاه عليه، ثم قال: در من خلفى؛ فغط الجبة وازرر عليّ- قال الربيع: ولم أكن أرى أحدا يوقّره المنصور حتى رأيت عمرو بن عبيد- فدخل عليه رجل آدم مربوع الكدنة (¬2)، بين عينيه أثر السجود، حسن الأدب، حسن اللسان؛ كأنه لم يزل مع الملوك فى توقيره للخليفة، وإعظامه إياه، قال: فسلّم، فاجتذبه المنصور ليجلس معه فأبى، وطرح نفسه بين يديه، فساء له واحتفى (¬3) به، فلما أراد عمرو القيام قال له: عظنى يا أبا عثمان وأوجز، قال له: إنّ ما فى يدك لست بوارثه عن أحد، وإنما هو شيء صار إليك، وقد كان فى يد غيرك قبلك، ولو دام لك لبقى فى يد الأول، والسلام. وروى الأصمعىّ قال: قال مطر الوراق لعمرو بن عبيد: إنى لأرحمك مما يقول الناس فيك، فقال عمرو: أتسمعني (¬4) أقول فيهم شيئا؟ قال: لا، قال: فإياهم فارحم! / وقال خالد بن صفوان لعمرو بن عبيد: لم لا تأخذ منّى فتقضى دينا إن كان عليك، وتصل رحمك؟ فقال له عمرو: أما دين فليس عليّ، وأما صلة رحمى فلا يجب عليّ، وليس عندى. قال: فما يمنعك أن تأخذ منّى؟ قال: يمنعنى أنه لم يأخذ أحد من أحد شيئا إلّا ذلّ له، وأنا والله أكره أن أذلّ لك. ويقال إن ابن لهيعة أتى عمرو بن عبيد فى المسجد الحرام، فسلّم عليه، وجلس إليه، وقال له يا أبا عثمان ما تقول فى قوله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ؛ [النساء: 129]؟ فقال: ذلك فى محبّة القلوب التى لا يستطيعها العبد ولم يكلّفها (¬5)، فأما العدل بينهن فى القسمة من النفس والكسوة والنفقة فهو مطيق لذلك، وقد كلّفه بقوله ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «محققة، يعنى أن نسبتها إلى اليمن صحيحة». وفى م: «محققة». (¬2) الكدنة: غلظ اللحم على الجسم. (¬3) حاشية ت (من نسخة): «وأحفى به». (¬4) ت: «أفسمعتني». (¬5) ت: «ولا تكلفها».

تعالى: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فيما تطيقون فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ؛ بمنزلة من ليست أيّما، ولا ذات زوج. فقال ابن لهيعة: هذا والله هو الحق. ويقال إن عمرو بن عبيد أتى يونس بن عبيد يعزّيه عن ابن له، فقال له: إن أباك كان أصلك، وإن ابنك كان فرعك، وإن امرأ ذهب أصله وفرعه لحرىّ أن يقلّ بقاؤه. وقيل إن عبد الله بن عبد الأعلى أخذ هذا المعنى فقال: صحبتك قبل الرّوح إذ أنا نطفة … تصان فما يبدو لعين مصونها أرى المرء دينا للمنايا وما لها … مطال إذا حلّت بنفس ديونها فماذا بقاء الفرع من بعد أصله … ستلقى الّذي لاقى الأصول غصونها وأول من سبق إلى هذا المعنى امرؤ القيس فى قوله: فبعض اللّوم عاذلتى فإنى … ستغنينى التّجارب وانتسابى (¬1) إلى عرق الثّرى وشجت عروقى … وهذا الموت يسلبنى شبابى وأخذ ذلك لبيد فى قوله: فإن أنت لم تصدقك نفسك فانتسب … لعلّك تهديك القرون الأوائل (¬2) فإن لم تجد من دون عدنان والدا … ودون معدّ فلنزعك العواذل (¬3) / وأخذه أيضا فى قوله: تودّ ابنتاى أن يعيش أبوهما … وهل أنا إلّا من ربيعة أو مضر! (¬4) ونظر إليه محمود الوارق وإبراهيم بن العباس الصولىّ؛ أما محمود ففى قوله: إذا ما انتسبت إلى آدم … فلم يك بينكما من أب وجازت سنوك بك الأربعين … وصرت إلى الجانب الأجنب ¬

_ (¬1) ديوانه: 133. (¬2) ديوانه: 88. (¬3) حاشية الأصل: «وجد بخط ابن السكيت رحمه الله: فلتزعك، ولتزعك (بضم الزاى فى الثانية وفتحها فى الأولى)؛ وهو من زاع يزوع بمعنى وزع، وفلترعك من الروع، ووزع من الكف». (¬4) ديوانه: 1: 28.

ودبّ البياض خلال السّواد … فأصبحت فى شية الأشهب وكيف تؤمّل طول الحياة … إذا كان حلمك لم يعزب وأما إبراهيم ففى قوله: نعى نفسى إلى أبى … وخبّر أين منقلبى (¬1) لموعظة رآها فى … أبيه كما رأيت أبى وكأن أبا نواس لحظ هذا المعنى فى قوله: وما النّاس إلّا هالك وابن هالك … وذو نسب فى الهالكين عريق (¬2) إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشّفت … له عن عدوّ فى ثياب صديق ¬

_ (¬1) ديوانه 168 - 169. (¬2) ديوانه: 192.

12

12 مجلس آخر [المجلس الثاني عشر: ] قال: روى أنّ عمرو بن عبيد دخل على معاوية بن عمرو الغلابىّ وهو يجود بنفسه فقال له: إنّ الله تعبّدك فى حال الصحة بالعمل بجوارحك وقلبك، ووضع عنك فى هذه الحال عمل الجوارح، ولم يكلفك إلا العمل بقلبك، فأعطه بقلبك ما يجب له عليك. وروى أنّ قوما اجتمعوا إلى عمرو بن عبيد، فتذاكروا السّخاء فأكثروا فى وصفه، وعمرو ساكت، فسألوه عمّا عنده فقال: ما أصبتم صفته؛ إنّ السخىّ من جاد بماله تبرّعا، وكفّ عن أموال الناس تورّعا. [عمرو بن عبيد وأبو جعفر المنصور: ] وذكر إسحاق بن الفضل الهاشميّ قال: إنى لعلى باب المنصور يوما، وإلى جنبى عمارة (¬1) بن حمزة، إذ طلع عمرو بن عبيد على حمار، فنزل عن حماره، ثم دفع (¬2) البساط برجله وجلس دونه، فالتفت إلى عمارة فقال: لا تزال/ بصرتكم ترمينا منها بأحمق؛ فما فصل كلامه من فيه حتى خرج الربيع وهو يقول: أبو عثمان عمرو بن عبيد! قال: فو الله ما دلّ على نفسه حتى أرشد إليه، فأتكأه (¬3) يده، ثم قال له: أجب أمير المؤمنين جعلت فداك! فمرّ متوكّئا (¬4) عليه؛ فالتفت إلى عمارة فقلت: إنّ الرجل الّذي استحمقت (¬5) ¬

_ (¬1) هو عمارة بن حمزة بن ميمون، من ولد عكرمة مولى عبد الله بن العباس؛ أحد الكتاب البلغاء، وكان سخيا جوادا، وله أخبار مأثورة فى الكرم والجود والتيه، قلده أبو العباس السفاح ضياع آل مروان، وقلده أبو جعفر المنصور ديوان خراج البصرة ونواحيها. (وانظر ترجمته وأخباره فى كتاب الوزراء والكتاب للجهشيارى: 90، 110، 125، 133، 147، وتاريخ بغداد 12: 280 - 280). (¬2) ش، وحاشية ت (من نسخة): «رفع». (¬3) حواشى الأصل، ت، ف: «أتكأه يده؛ كأنه جعله متكئا عليها، وأصل التاء فى هذه الكلمة بالواو؛ يقال: أوكأت فلانا إذا جعلت له متكئا». (¬4) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «متكئا». (¬5) ف، وحاشية ت (من نسخة): «استحمقته».

قد أدخل وتركنا، فقال: كثيرا ما يكون ذلك، فأطال اللّبث، ثم خرج الربيع وهو متوكّئ عليه، والربيع يقول: يا غلام، حمار أبى عثمان، فما برح حتى أتى بالحمار، فأقرّه على سرجه؛ وضمّ إليه نشر (¬1) ثوبه، واستودعه الله. فأقبل عمارة على الربيع فقال: لقد فعلتم اليوم بهذا الرجل ما لو فعلتموه بوليّ عهدكم لقضيتم ذمامه. قال: فما غاب عنك ممّا فعل به أكثر وأعجب، قال عمارة: فإن اتّسع لك الحديث فحدّثنا. فقال الربيع: ما هو إلّا أن سمع الخليفة بمكانه، فما أمهل حتى أمر بمجلس ففرش لبودا، ثم انتقل إليه والمهدىّ معه عليه سواده وسيفه؛ ثم أذن له، فلما دخل عليه سلّم بالخلافة، فردّ عليه وما زال يدنيه حتى أتكأه فخذه وتحفّى به، ثم سأله عن نفسه وعن عياله، يسمّيهم رجلا رجلا، وامرأة امرأة، ثم قال: يا أبا عثمان، عظنا فقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم [بسم الله الرحمن الرحيم] (¬2): وَالْفَجْرِ. وَلَيالٍ عَشْرٍ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ؛ [الفجر: 1 - 3]، ومرّ فيها إلى آخرها، وقال: إنّ ربك يا أبا جعفر لبالمرصاد، قال: فبكى بكاء شديدا؛ كأنه لم يسمع تلك الآيات إلّا تلك الساعة، ثم قال: زدنى، فقال: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك منه يبعضها، واعلم أن هذا الأمر الّذي صار إليك إنما كان فى يد من كان قبلك، ثم أفضى إليك، وكذلك يخرج منك إلى من هو بعدك، وإنى أحذّرك ليلة تمخّض (¬3) صبيحتها عن يوم القيامة. قال: فبكى أشدّ من بكائه الأول حتى رجف جنباه. وفى رواية أخرى أنه لما انتهى إلى آخر السورة قال: إنّ ربّك لبالمرصاد لمن عمل مثل عملهم، أن ينزل به مثل ما نزل بهم، فاتّق الله، فإنّ من وراء بابك نيرانا تأجّج من الجور، ¬

_ (¬1) النشر، بالتحريك: المنتشر من كل شيء. (¬2) ساقط من ط، ف، م. (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «تتمخض».

ما يعمل فيها بكتاب الله ولا بسنّة رسول الله (¬1). فقال: يا أبا عثمان؛ إنا لنكتب إليهم فى الطّوامير (¬2)، / نأمرهم بالعمل بالكتاب والسنّة، فإن لم يفعلوا فما عسى أن نصنع! فقال له: مثل أذن الفأرة يجزيك من الطّوامير، آلله تكتب إليهم فى حاجة نفسك فينفذونها، وتكتب إليهم فى حاجة الله فلا ينفذونها؛ إنّك والله لو لم ترض من عمّالك إلا بالعدل إذا لتقرب إليك به من لانيّة له فيه. قال سيدنا أدام الله علوّه: رجعنا إلى نسق الحديث، فقال له سليمان بن مجالد: رفقا بأمير المؤمنين، فقد أتعبته منذ اليوم، فقال له: بمثلك ضاع الامر وانتشر، لا أبا لك! وماذا خفت على أمير المؤمنين أن بكى من خشية الله! . وفى رواية أخرى أنّ سليمان بن مجالد لما قال له ذلك رفع عمرو رأسه فقال له: من أنت؟ فقال أبو جعفر: أولا تعرفه يا أبا عثمان؟ قال: لا، ولا أبالى ألّا أعرفه! فقال: هذا أخوك سليمان بن مجالد، فقال: هذا أخو الشيطان، ويلك يا ابن أم مجالد! خزنت نصيحتك عن أمير المؤمنين، ثم أردت أن تحول بينه وبين من أراد نصيحته! يا أمير المؤمنين؛ إنّ هؤلاء اتخذوك سلّما لشهواتهم، فأنت كالآخذ بالقرنين وغيرك يحلب، فاتّق الله فإنك ميت وحدك، ومحاسب وحدك، ومبعوث وحدك، ولن يغنى عنك هؤلاء من ربك شيئا! فقال له المنصور: يا أبا عثمان؛ أعنّي بأصحابك أستعن بهم، فقال له: أظهر الحق يتّبعك أهله، قال: بلغنى أن محمد بن عبد الله ابن الحسن (¬3) كتب إليك كتابا، قال: قد جاءنى كتاب يشبه أن يكون كتابه، قال: فبماذا أجبته؟ قال: أولست قد عرفت رأيى فى السيف أيام كنت تختلف إلينا؟ وإنى لا أراه، قال: أجل! ولكن تحلف لى ليطمئن قلبى! قال: لئن كذبتك تقيّة لأحلفنّ لك تقيّة، قال له: أنت الصادق البارّ، وقد أمرت لك بعشرة آلاف درهم، تستعين بها على زمانك؛ ¬

_ (¬1) م: «رسوله». (¬2) الطوامير: جمع طومار؛ وهو الصحيفة. (¬3) هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب؛ الملقب بالنفس الزكية؛ وكان من أفضل أهل بيته؛ علما وفقها وشجاعة وجودا؛ قتله أبو جعفر المنصور سنة 145؛ (وانظر ترجمته وأخباره فى مقاتل الطالبيين 232 - 299).

عمرو بن عبيد وهشام بن الحكم

فقال: لا حاجة لى فيها، قال المنصور والله لتأخذنّها، قال: والله لا أخذتها، فقال له المهدى: يحلف أمير المؤمنين وتحلف! فترك المهدىّ وأقبل على المنصور وقال: من هذا الفتى؟ فقال: هذا ابنى محمد، وهو المهدىّ وهو ولى العهد، فقال: [والله لقد سميته أسماء ما استحقها بعمل] (¬1)، وألبسته لبوسا ما هو من لبوس الأبرار/ ولقد مهّدت له أمرا أمتع ما يكون به أشغل (¬2) ما تكون عنه! ثم التفت إلى المهدىّ فقال: نعم يا ابن أخى، إذا حلف أبوك حلف عمّك؛ لأن أباك أقدر على الكفّارة من عمك؛ قال المنصور: يا أبا عثمان، هل من حاجة؟ قال: نعم، قال ما هى؟ قال: ألا تبعث إلى حتى آتيك؛ قال: إذا (¬3) لا نلتقى، قال: عن حاجتى سألتنى، ثم ودّعه ونهض؛ فلما ولى أتبعه بصره وأنشأ يقول: كلّكم طالب صيد … كلّكم ماش رويد (¬4) غير عمرو بن عبيد [عمرو بن عبيد وهشام بن الحكم: ] وروى أن هشام بن الحكم قدم البصرة فأتى حلقة عمرو بن عبيد فجلس فيها وعمرو لا يعرفه، فقال لعمرو: أليس قد جعل الله لك عينين؟ قال: بلى، قال: ولم؟ قال: لأنظر بهما فى ملكوت السموات والأرض فأعتبر، قال: وجعل لك فما؟ قال: نعم، قال: ولم؟ قال: لأذوق الطعوم (¬5)، وأجيب الداعى؛ ثم عدّد عليه الحواس كلها، ثم قال: وجعل لك قلبا؟ قال: نعم: قال: ولم؟ قال: لتؤدى إليه الحواسّ ما أدركته، فيميز بينها، قال: ¬

_ (¬1) ت: «والله لقد سميته اسما ما استحقه بعمل». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ت: «قوله: «أمتع» مبتدأ، و «أشغل» نصب على الحال؛ وهو ساد مسد خبر المبتدأ كقولك: أخطب ما يكون الأمير قائما». (¬3) فى حاشيتى الأصل، ت: «إذا انتصب «إذا» لم يكن الفعل الّذي بعدها معتمدا على ما قبلها؛ يقول لك القائل: أنا أكرمك؛ فنقول: إذا أحبك؛ فإن قلت: أنا إذا أحبك رفعت؛ لاعتماده على الابتداء الّذي هو أنا؛ وكذلك: إن تكرمنى [بالجزم] إذا أكرمك، وإذا وقعت على فعل الحال ألغيت أيضا؛ تقول لمن يتحدث بحديث: إذا أظنك كاذبا؛ فنخبر عن حال الظن». (¬4) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): «يمشى رويد». (¬5) حاشية ت (من نسخة): «المطعوم».

عمرو بن عبيد وسليمان بن على

فأنت لم يرض لك ربّك تعالى إذ خلق لك خمس حواس حتى جعل لها إماما ترجع إليه؛ أترضى (¬1) لهذا الخلق الذين (¬2) جشأ بهم العالم ألّا يجعل لهم إماما يرجعون إليه؟ فقال له عمرو: ارتفع حتى ننظر فى مسألتك، وعرفه؛ ثم دار هشام فى حلق البصرة فما أمسى حتى اختلفوا. [عمرو بن عبيد وسليمان بن على: ] وروى أبو عبيدة قال: دخل عمرو بن عبيد على سليمان بن عليّ بن عبد الله بن العباس بالبصرة فقال له سليمان: أخبرنى عن صاحبك- يعنى الحسن- حين يزعم أن عليا عليه السلام قال: «إنى وددت أنى كنت آكل الحشف بالمدينة ولم أشهد مشهدى هذا» يعنى: يوم صفّين، فقال له عمرو بن عبيد: لم يقل هذا؛ لأنه ظنّ أن أمير المؤمنين عليه السلام شك، ولكنه يقول: ودّ أنه كان يأكل الحشف بالمدينة، ولم تكن هذه الفتنة؛ فقال: فقوله فى عبد الله بن العباس: «يفتينا فى القملة والقميلة، وطار بأموالنا فى ليلة»؟ فقال له: وكيف يقول هذا، وابن عباس رحمة الله عليهما لم يفارق عليا حتى قتل وشهد صلح الحسن؟ وأىّ مال يجتمع فى بيت المال بالبصرة مع حاجة عليّ عليه السلام إلى الأموال/ وهو يفرّغ بيت مال الكوفة فى كل خميس ويرشّه؟ قالوا: إنه كان يقيل فيه، فكيف يترك المال يجتمع بالبصرة؟ وهذا باطل. [كلام عمرو بن عبيد على القدر: ] قال الجاحظ: نازع رجل عمرو بن عبيد فى القدر فقال له عمرو: إن الله تعالى قال فى كتابه ما يزيل الشّكّ عن قلوب المؤمنين فى القضاء والقدر قال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ؛ [الحجر: 92 - 93]، ولم يقل: لنسألنهم عما قضيت عليهم أو قدرته فيهم، أو أردته منهم، أو شئته لهم؛ وليس بعد هذا الأمر إلّا الإقرار بالعدل أو السكوت عن الجور الّذي لا يجوز على الله تعالى. ¬

_ (¬1) ت: «فكيف يرضى ... ». (¬2) ت: «والّذي».

أخبار أبى الهذيل العلاف وأخباره

قال خلاد الأرقط: حدّثني زميل عمرو بن عبيد قال: سمعته فى الليلة التى مات (¬1) فيها يقول: اللهم إن كنت تعلم أنه لم يعرض لى أمران قطّ؛ أحدهما لك فيه رضا، والآخر لى فيه هوى إلّا قدمت رضاك على هواى فاغفر لي. ومرّ أبو جعفر المنصور على قبره بمرّان- وهو موضع على ليال من مكة على طريق البصرة- فأنشأ يقول: صلّى الإله عليك من متوسّد … قبرا مررت به على مرّان قبرا تضمّن مؤمنا متخشّعا … عبد الإله ودان بالفرقان (¬2) وإذا الرّجال تنازعوا فى شبهة … فصل الخطاب بحكمة وبيان فلو انّ هذا الدّهر أبقى صالحا … أبقى لنا عمرا أبا عثمان *** [أخبار أبى الهذيل العلاف وأخباره] فأما أبو الهذيل العلّاف فهو محمد بن الهذيل بن عبيد (¬3) الله بن مكحول العبدىّ وقال أبو القاسم البلخىّ: هو من موالى عبد القيس، وولد فى سنة أربع وثلاثين ومائة، وقال أبو الحسين الخياط: ولد سنة إحدى وثلاثين ومائة، وقيل: إنه توفى فى أول أيام المتوكل سنة خمس وثلاثين ومائتين وسنّه مائة سنة. قال البرذعىّ: لحق أبا الهذيل فى آخر عمره خرف؛ إلّا أنه لم يكن يذهب عليه معرفة المذهب والقيام (¬4) بحجته، وكفّ بصره قبل وفاته؛ وأخذ أبو الهذيل الكلام عن عثمان الطويل صاحب واصل بن عطاء. وقيل إنّ أبا الهذيل فى حداثته بلغه أن/ رجلا يهوديا قدم البصرة، وقطع جماعة من متكلميها، فقال لعمه: يا عمّ، امض بى إلى هذا اليهودىّ حتى أكلّمه، فقال له عمه: يا بنيّ، ¬

_ (¬1) توفى عمرو بن عبيد سنة 144، وانظر ترجمته أيضا فى (ابن خلكان 1: 384 - 385، والمعارف 212، وتاريخ بغداد 12: 166 - 188). (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «بالقرآن». (¬3) ت: «ابن عبد الله». (¬4) حاشية ت (من نسخة): «ولا القيام».

كيف تكلمه وقد عرفت خبره، وأنه قطع مشايخ المتكلمين! فقال: لا بدّ من أن تمضى بى إليه، فمضى به قال: فوجدته يقرّر الناس على نبوّة موسى عليه السلام، فإذا اعترفوا له بها قال: نحن على ما اتفقنا عليه إلى أن نجمع على ما تدّعونه؛ فتقدّمت إليه، فقلت: أسألك أم تسألنى؟ فقال: بل أسألك، فقلت: ذاك إليك، فقال لى: أتعترف بأنّ موسى نبىّ صادق، أم تنكر ذلك فتخالف صاحبك؟ فقلت له: إن كان موسى الّذي تسألنى عنه هو الّذي بشّر بنبيّ عليه السلام، وشهد بنبوّته، وصدّقه فهو نبىّ صادق، وإن كان غير من وصفت؛ فذلك شيطان لا أعترف بنبوّته؛ فورد عليه ما لم يكن فى حسابه. ثم قال لى: أنقول إن التوراة حق؟ فقلت: هذه المسألة تجرى مجرى الأولى، إن كانت هذه التوراة التى تسألنى عنها هى التى تتضمن البشارة بنبيّ عليه السلام فتلك حق، وإن لم تكن كذلك فليست بحقّ، ولا أقرّ بها. فبهت وأفحم ولم يدر ما يقول، ثم قال لى: أحتاج أن أقول لك شيئا بينى وبينك، فظننت أنه يقول شيئا من الخير، فتقدمت إليه فسارّنى فقال لى: أمّك كذا وكذا، وأمّ من علّمك- لا يكنى، وقدّر أنى أثب به، فيقول: وثبوا بى، وشغّبوا عليّ، فأقبلت على من كان فى المجلس فقلت: أعزكم الله! ألستم قد وقفتم على سؤاله (¬1) إياى، وعلى جوابى إياه؟ قالوا: بلى! قلت: أفليس عليه أن يردّ جوابى أيضا؟ قالوا: بلى، قلت لهم: فإنه لما سارّنى شتمنى بالشتم الّذي يوجب الحدّ، وشتم من علّمنى، وإنما قدّر أننى أثب عليه، فيدّعى أننا وأثبناه، وشغّبنا عليه، وقد عرّفتكم شأنه بعد الانقطاع، فانصرونى، فأخذته الأيدى من كل جهة، فخرج هاربا من البصرة. وعن أبى العيناء قال: قال لى أبو الهذيل: ما معنى الخسف؟ فقلت: أن تنقلب الأرض؛ أعلاها أسفلها، فقال: إلّا يكن هذا اليوم بالأرض فإنه لبالنّاس. وقال أبو الهذيل: قال لى المعذّل بن غيلان العبدىّ، وكان من سادات عبد القيس، وكان يجتمع إليه أهل النظر: يا أبا الهذيل، إنّ فى نفسى شيئا من قول القوم فى الاستطاعة، ¬

_ (¬1) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): «مسألته».

فبيّن لى/ ما يذهب بالرّيب عنى، فقال: خبّرنى عن قول الله تعالى: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ؛ [التوبة: 42]، هل يخلو من أن يكون أكذبهم لأنّهم مستطيعون الخروج (¬1) [وهم تاركون له، فاستطاعة الخروج فيهم وليس يخرجون، فقال: إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أى هم يستطيعون الخروج] (¬2) وهم يكذبون فيقولون: لسنا نستطيع، ولو استطعنا لخرجنا، فأكذبهم الله على هذا الوجه، أو يكون على وجه آخر: يقول: إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أى إن أعطيتهم الاستطاعة لم يخرجوا؛ فتكون معهم الاستطاعة على الخروج ولا يخرجون؛ وعلى كلّ حال؛ قد كانت الاستطاعة على الخروج ولا يكون الخروج، ولا يعقل للآية معنى ثالث غير الوجهين اللذين وصفنا (¬3). وحكى سليمان الرّقى أنّ أبا الهذيل لمّا ورد سرّ من رأى نزل فى غرفة إلى أن يطلب له دار تصلح له، قال: فمررت به فقلت له: يا أبا الهذيل، أتنزل فى مثل هذا المنزل! فأنشدنى: يقولون زين المرء يا مىّ رحله … ألا إنّ زين الرّحل يا مىّ راكبه وعن مجالد (¬4) قال: رأيت رجلا، وقد سأل أبا الهذيل وهو فى الورّاقين بقصر وضّاح فقال له: من جمع بين الزانيين؟ فقال له: يا ابن أخى، أمّا بالبصرة فإنهم يقولون: القوادون؛ ولا أحسب أهل بغداد يخالفونهم على هذا القول، فما تقول أنت! قال: فخجل الرجل وسكت. وقال أبو الهذيل: قلت لرجل ممّن ينفى الحركة- ولم يسمّه، وزعم قوم أنه الأصمّ-: خبّرني عن قول الله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ؛ [النور: 2]، وذكر القاذف فقال: فاجلدوه ثمانين جلدة (¬5)، فأيّهما أكثر؟ فقال: حدّ (¬6) ¬

_ (¬1) ت: «للخروج». (¬2) ساقط من م. (¬3) ت، ج، ش: «اللذين ذكرنا». (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «عن أبى مجالد». (¬5) يشير إلى قوله تعالى: «" وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً؛ [النور: 4]». (¬6) حاشية ت (من نسخة): «جلد الزانى».

الزّانى، قلت: بكم، قال: بعشرين، قلت: فحدّثنى (¬1) عن الجلد، أهو يد الجلّاد؟ قال: لا، قلت: أفهو السّوط؟ قال: لا، قلت: فهو ظهر المجلود؟ قال: لا، قلت: أفهو الانفراج الّذي بين السّوط وظهر المجلود؟ قال: لا، قلت: أفثمّ شيء غير هذا هو الجلد؟ قال: لا، قلت: فإنما تقول أنّ لا شيء أكثر من لا شيء بعشرين! فانقطع. وقال أبو الهذيل: قلت لمجوسىّ: ما تقول فى النار؟ قال: بنت الله، قلت: فالبقر؟ قال: ملائكة الله؛ قصّ أجنحتها، وحطّها/ إلى الأرض يحرث عليها، فقلت: فالماء، قال: نور الله، قلت: فما الجوع والعطش؟ قال: فقر الشيطان وفاقته، قلت: فمن يحمل الأرض؟ قال: بهمن الملك، قلت: فما فى الدنيا شرّ من المجوس، أخذوا ملائكة الله فذبحوها، ثم غسلوها بنور الله، ثم شووها ببنت الله، ثم دفعوها إلى فقر الشيطان وفاقته، ثم سلحوها على رأس بهمن الملك أعزّ ملائكة الله! فانقطع المجوسى، وخجل مما لزمه. ودخل أبو الهذيل يوما على الحسن بن سهل بفم الصّلح (¬2)، وعنده فتى قد رفع مجلسه، فقال أبو الهذيل: من هذا الفتى الّذي قد رفعه الأمير، لنوفّيه بمعرفته حقّه؟ قال: رجل من أهل النجوم، قال: من أهل صناعة الحساب أم الأحكام؟ قال: الأحكام، قال: ذلك عمل يبطل، أفأسأله؟ قال: سل فأخذ أبو الهذيل تفاحة من بين يديه وقال: آكل هذه التفاحة أم لا؟ قال: تأكلها، فوضعها أبو الهذيل وقال: لست آكلها، قال: فتعيدها إلى يدك وأعيد النظر، فوضعها وأخذ غيرها، فقال له الحسن: لم أخذت غيرها؟ قال: لئلا يقول لى: لا تأكلها فآكلها خلافا عليه فيقول لى: قد أصبت فى المسألة الأولى. وقال النعمان المناني يوما لأبى الهذيل: دلّ على حدوث العالم بغير الحركة والسكون، فقال له أبو الهذيل: مثلك مثل رجل قال لخصمه: احضر معى إلى القاضى ولا تحضر بيّنتك. ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «فخبرنى». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ت: «فم الصلح: موضع قريب من واسط».

وذكر محمد بن الجهم (¬1) صاحب الفرّاء قال: رأيت أبا الهذيل وقد جاء إلى الديوان فى أيام المأمون فسأل سهل بن هارون بن راهبون أن يكتب له كتابا فى حاجة له إلى حفصويه صاحب الجيش، ونهض أبو الهذيل؛ فأملى عليّ سهل بن هارون: إنّ الضّمير إذا سألتك حاجة … لأبى الهذيل خلاف ما أبدى فإذا أتاك لحاجة فامدد له … حبل الرّجاء بمخلف الوعد وألن له كنفا ليحسن ظنّه … فى غير منفعة ولا رفد حتى إذا طالت شقاوة جدّه … ورجا الغنى فاجبهه بالرّدّ وإن استطعت له المضرّة فاجتهد … فيما يضرّ بأبلغ الجهد / وانظر كلامى فيه فارم به … خلف الثّريّا منك فى البعد (¬2) وكذاك فافعل غير محتشم … إن جئت أسأل فى أبى الهندى (¬3) قال سيدنا المرتضى أدام الله تأييده: ويشبه هذا المعنى ما أخبرنا به أبو عبيد الله المرزبانىّ قال: حدثنى محمد بن أبى الأزهر قال: حدثنا أبو العيناء قال: كان لى صديق فجاءنى يوما فقال لى: أريد الخروج إلى فلان العامل، وأحببت أن تكون معى إليه وسيلة، وقد سألت من صديقه، فقيل لى: أبو عثمان الجاحظ، وهو صديقك، فأحب أن تأخذ لى كتابه إليه بالعناية، قال: فصرت إلى الجاحظ، فقال لى: فى أىّ شيء جاء أبو عبد الله؟ فقلت: مسلّما وقاضيا الحقّ، وفى حاجة لبعض أصدقائى وهى كذا وكذا، فقال: لا تشغلنا الساعة عن المحادثة، فإنى فى غد أوجّه إليك بالكتاب، فلما كان من الغد وجّه إلى بالكتاب مختوما فقلت لابنى: وجّه هذا الكتاب إلى فلان، ففيه حاجته، فقال لى: إنّ أبا عثمان بعيد الغور فينبغى أن تفضّه وتنظر ما فيه، ففعل فإذا فى الكتاب: «كتابى إليك مع من لا أعرفه، ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «محمد بن الجهم السمرى». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ت: «أى أخف كلامى هذا». (¬3) حاشية ت: «أبو الهندى اسم رجل كان خاصا به وملازما له».

خبر طرفة بن العبد والمتلمس الضبعى وحديث الصحيفة

وقد كلمنى فيه من لا أوجب حقّه، فإن قضيت حاجته لم أحمدك، وإن رددته لم أذممك». فلما قرأت الكتاب مضيت من فورى إلى الجاحظ، فقال: يا أبا عبد الله، قد علمت أنّك أنكرت ما فى الكتاب، فقلت: أوليس موضع نكرة! فقال: لا، هذه علامة بينى وبين الرجل فيمن اعتنى به، فقلت: لا والله، ما رأيت رجلا أعلم بطبعك وما جبلت عليه من هذا الرجل! - أعنى صاحب الحاجة- أعلمت أنّه لما قرأ الكتاب قال: أمّ الجاحظ عشرة آلاف، وأمّ من يسأله ... فقلت: يا هذا؟ أتشتم صديقنا؟ فقال: هذه علامتى فيمن أشكره! وفى رواية أخرى أنّ أبا العيناء سلّم الكتاب إلى صاحب الحاجة وقال له: فضّ الكتاب، فقال: إنه مختوم فقال: طينة أهون من ظنّة. *** [خبر طرفة بن العبد والمتلمس الضبعىّ وحديث الصحيفة: ] قال سيدنا المرتضى أدام الله علوّه: وأظن أن أبا العيناء تنبّه على فضّ الكتاب وقراءته بخبر طرفة بن العبد والمتلمّس الضّبعىّ (¬1)، وذاك أنهما وفدا على عمرو بن هند ونادماه، واحتظيا به، ثم أفضى الأمر إلى أن هجاه كلّ واحد منهما وعرض به بالشعر المشهور (¬2) فحنق عليهما، وهمّ بقتلهما، ثم أشفق من ذلك، وأراد قتلهما بيد غيره، وكان على طرفة أحنق، فعلم أنه إن قتله هجاه المتلمّس: فكتب لهما كتابا إلى البحرين، وقال لهما: إنى قد كتبت لكما بصلة، فاشخصا لقبضها؛ فخرجا من عنده، والكتابان فى أيديهما، فمرّا بشيخ جالس على ظهر الطريق، متكشّفا يتبرز، ومعه كسرة خبز يأكل منها، ويتناول القمل من ثيابه فيقصعه، فقال أحدهما لصاحبه: ما رأيت أعجب من هذا الشيخ! فسمع الشيخ مقالته فقال: وما ترى من عجبى (¬3)! أدخل طيّبا، وأخرج خبيثا، وأقتل عدوا، وإنّ أعجب منى لمن يحمل حتفه بيده، وهو لا يدرى! فأوجس المتلمّس فى ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ت: «هو من بنى ضبيعة بن ربيعة، واسمه جرير بن عبد العزى، وقيل ابن عبد المسيح». (¬2) انظر تفصيل الخبر وأبيات الهجاء فى (الأغانى 21: 127، والشعر والشعراء 131 - 132، و 137 - 138، ومعجم البلدان 7: 208، والخزانة 1: 412 - 417. 446، و 3: 73 ومجمع الأمثال 1: 350 - 352 وديوان طرفة: 5 - 6، وديوان المتلمس 172 - 176). (¬3) م: «عجب».

نفسه خيفة، وارتاب بكتابه، ولقيه غلام من أهل الحيرة، فقال له: أتقرأ يا غلام؟ قال: نعم، ففضّ خاتم كتابه، ودفعه إلى الغلام فقرأه، فإذا فيه: «إذا أتاك المتلمّس فاقطع يديه ورجليه، واصلبه حيا». فأقبل على طرفة فقال له: تعلّمن (¬1) والله لقد كتب فيك بمثل هذا، فادفع كتابك إلى الغلام يقرؤه عليك، فقال: كلّا، ما كان ليجسر على قومى بمثل هذا، ولم يلتفت إلى قول المتلمّس، فألقى المتلمّس كتابه فى نهر الحيرة، وقال: قذفت بها بالثّنى من جنب كافر … كذلك أقنو كلّ قطّ مضلّل (¬2) رضيت لها بالماء لمّا رأيتها … يجول بها التيار فى كلّ جدول كافر: نهر بالحيرة، وأقنو: اقتنى، والقطّ: الكتاب: والتيّار: معظم الماء وكثرته. وقال المتلمّس أيضا: من مبلغ الشّعراء عن أخويهم … نبأ فتصدقهم بذاك الأنفس (¬3) أودى الّذي علق الصّحيفة منهما … ونجا حذار حبائه المتلمّس ألقى صحيفته ونجّت كوره … وجناء مجمرة المناسم عرمس (¬4) عيرانة طبخ الهواجر لحمها … فكأنّ نقبتها أديم أملس (¬5) أطريفة بن العبد إنّك حائن … أبساحة الملك الهمام تمرّس! ألق الصّحيفة لا أبا لك إنّه … يخشى عليك من الحباء النّقرس ¬

_ (¬1) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «تعلم». (¬2) ديوانه: 176. (¬3) الأبيات فى ديوانه 191 - 192، والخزانة 3: 73 والأغانى 21: 127 وأخواهم: طرفة والملمس. (¬4) الوجناء: الناقة الصلبة؛ مشتقة من الوجين؛ وهى الأرض الصلبة، ومجمرة: مجتمعة، والمناسم: جمع منسم، ومنسما خف البعير كالظفرين فى مقدمه؛ بهما يستبان أثر البعير الضال. والعرمس فى الأصل: الصخرة؛ شبهت بها الناقة؛ ورواية الديوان: ألقى صحيفته ونجّت كوره … عنس مداخلة الفقارة عرمس. (¬5) العيرانة: الناقة الصلبة التى تشبه عير الوحش لقوتها، والنقبة هاهنا: اللون.

النقرس هاهنا: الداهية، ومضى طرفة بكتابه إلى البحرين، فأمر به المعلّى بن حنش (¬1) العبدىّ فقتل؛ فقال المتلمس (¬2): عصانا (¬3) فما لاقى رشادا وإنّما … تبيّن (¬4) فى أمر الغوىّ عواقبه فأصبح محمولا على ظهر آلة … تمجّ نجيع الجوف منه ترائبه فإلّا تجلّلها يعالوك فوقها … وكيف توقّى (¬5) ظهر ما أنت راكبه! ولحق المتلمّس ببلاد الشام، وهجا عمرا، وبلغه أن عمرا يقول: لئن وجده بالعراق ليقتلنّه، فقال: آليت حبّ العراق الدّهر أطعمه … والحبّ يأكله بالقرية السّوس (¬6) وجرى المثل بصحيفة المتلمّس، فقال الفرزدق يذكر الشعراء الذين أورثوه أشعارهم (¬7): وهب القصائد لى النّوابغ إذ (¬8) مضوا … وأبو يزيد وذو القروح وجرول وأخو بنى قيس وهنّ قتلنه … ومهلهل الشّعراء ذاك الأوّل يعنى بالنوابغ: النابغة الذّبيانى والجعدىّ، ونابغة بنى شيبان، ويعنى: بأبى يزيد المخبّل السعدىّ، وجرول هو الحطيئة، وذو القروح امرؤ القيس، وأخو بنى قيس هو طرفة. ومعنى قوله: «وهن قتلنه»، يعنى: القصائد التى هجا بها عمرو بن هند، ويقال إن صاحب المتلمس وطرفة فى هذه القصة هو النعمان بن المنذر، وذلك أشبه بقول طرفة: أبا منذر كانت غرورا صحيفتى … ولم أعطكم فى الطّوع مالى ولا عرضى (¬9) أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا … حنانيك (¬10) بعض الشّرّ أهون من بعض وأبو منذر هو النعمان بن المنذر، وكان النعمان بعد عمرو بن هند، وقد مدح طرفة النعمان فلا يجوز أن يكون عمرو قتله، فيشبه أن تكون القصّة مع النعمان. ¬

_ (¬1) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «حنيش. (¬2) ديوانه: 193 - 194. (¬3) حاشية ت (من نسخة): «عصانى». (¬4) حاشية ت (من نسخة): «يبين». (¬5) ش: «توقى»، بكسر القاف المشددة. (¬6) ديوانه: 180؛ و «حب»، منصوب على نزع الخافض؛ والبيت من شواهد (الكتاب 1: 17)، ومن نسخة بحاشيتى الأصل: «فى القرية». (¬7) ديوانه 2: 720. (¬8) حاشية الأصل: «من نسخة»: «كلهم». (¬9) ديوانه: 48. (¬10) حاشية الأصل: «حنانيك؛ أى تحننا بعد تحنن».

13

13 مجلس آخر [المجلس الثالث عشر: ] [أخبار بشر بن المعتمد وإيراد بعض أشعاره: ] وكان أبو سهل بشر (¬1) بن المعتمر من وجوه أهل الكلام، ويقال إن جميع معتزلة بغداد كانوا/ من مستجيبيه. وقال أبو القاسم البلخىّ: إنه من أهل بغداذ، وقيل: من أهل الكوفة، وذكر الجاحظ أنّه كان أبرص. وحكى أنّه كان يوما فى مجلسه، وعنده أصحابه ومعه مجبر يسألهم ويقول: أنتم تحمدون الله على إيمانكم؟ وهم يقولون: نعم، فيقول لهم: فكأنّه يحبّ أن يحمد على ما لم يفعل، وقد ذمّ ذلك فى كتابه، فيقولون له: إنما ذمّ من أحب أن يحمد على ما لم يفعل؛ ممّن لم يعن عليه، ولم يدع إليه؛ وهو يشغّب إذ أقبل ثمامة (¬2) بن أشرس، فقال بشر للمجبر: قد سألت القوم وأجابوك، وهذا أبو معن فاسأله عن المسألة فقال له: هل يجب عليك أن تحمد الله على الإيمان؟ قال: لا، بل هو يحمدنى عليه، لأنه أمرنى به ففعلته، وأنا أحمده على الأمر به، والتقوية عليه، والدعاء إليه؛ فانقطع المجبر. فقال بشر: شنعت فسهلت. قال الجاحظ: وكان بشر يقع فى أبى الهذيل، وينسبه إلى النفاق، فقال وهو يصفه: أبو الهذيل لأن يكون لا يعلم، وهو عند الناس يعلم أحب إليه من أن يعلم، ويكون عند الناس لا يعلم، ولأن يكون من السّفلة، وهو عند الناس من العلية أحبّ إليه من أن يكون من العلية، وهو عند الناس من السّفلة، ولأن يكون نبيل المنظر، سخيف المخبر أحبّ إليه من أن يكون نبيل المخبر، سخيف المنظر؛ وهو بالنفاق أشدّ عجبا منه بالإخلاص، ولباطل مقبول أحبّ إليه من حق مدفوع. ¬

_ (¬1) بشر بن المعتمر؛ انتهت إليه رئاسة المعتزلة ببغداد؛ وتوفى سنة 210. (لسان الميزان 2: 33). (¬2) ثمامة بن الأشرس النميرى؛ مولى بنى نمير؛ كان زعيم القدرية فى زمن المأمون والمعتصم والواثق، وهو الّذي دعا المأمون إلى الاعتزال؛ توفى سنة 213؛ (لسان الميزان 2: 83، والفرق بين الفرق 157).

أخبار إبراهيم بن إسحاق النظام وبعض أشعاره

ولبشر أشعار كثيرة، يحتج فيها على أهل المقالات. وذكر الجاحظ أنّه لم ير أحدا أقوى (¬1) على المخمّس والمزدوج (¬2) على ما قوى عليه بشر، وأنه كان أكثر فى ذلك وأقدر من أبان اللاحقىّ (¬3)، وهو القائل: إن كنت تعلم ما أقو … ل وما تقول فأنت عالم أو كنت تجهل ذا وذا … ك فكن لأهل العلم لازم أهل الرّئاسة من ين … ازعهم رياستهم فظالم سهرت عيونهم وأن … ت عن الّذي قاسوه حالم لا تطلبنّ رئاسة … بالجهل أنت لها مخاصم / لولا مقامهم رأي … ت الدّين مضطرب الدّعائم *** [أخبار إبراهيم بن إسحاق النظام وبعض أشعاره: ] فأما أبو إسحاق إبراهيم بن سيّار النظّام؛ فإنه كان مقدّما فى العلم بالكلام، حسن الخاطر، شديد التدقيق والغوص على المعانى؛ وإنما أدّاه إلى المذاهب الباطلة التى تفرّد بها واستشنعت منه تدقيقه وتغلغله. وقيل: إنه مولى الزياديين من ولد العبيد، وإن الرّقّ جرى على أحد آبائه. وقيل للنظّام (¬4): ما الاختصار؟ فقال: الّذي اختصاره فساد. وقال لرجل: أتعرف فلانا المجوسىّ؟ فقال: نعم، ذاك الّذي حلق وسط رأسه، كما يفعل اليهودىّ، فقال النظّام: لا مجوسىّ عرفت، ولا يهودىّ وصفت. قال الجاحظ وذكر عبد الوهاب الثقفىّ فقال: هو أحلى من أمن بعد خوف، وبرء بعد سقم، ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «من نسخة»: «قوى». (¬2) حاشية الأصل: «المخمس من الشعر: ما كان خمسة مصارع مقفاة، يخالفها الخامس أو يوافقها، والمزدوج: هو المثنوىّ». (¬3) هو أبان بن عبد الحميد بن لاحق؛ شاعر مكثر؛ وأكثر شعره مزدوج ومسمط؛ (وانظر الفهرست 163). (¬4) هو أبو إسحاق بن سيار النظام البصرى، شيخ الجاحظ، وأحد رءوس المعتزلة؛ وإليه تنسب الفرقة النظامية؛ (وانظر آراءه فى الفرق بين الفرق 113).

وخصب بعد جدب، وغنى بعد فقر، وطاعة المحبوب، وفرج المكروب، ومن الوصل (¬1) الدائم، مع الشباب الناعم؛ وللنظّام شعر كثير صالح، فمنه: يا تاركى جسدا بغير فؤاد … أسرفت فى الهجران والإبعاد إن كان يمنعك الزّيارة أعين … فادخل عليّ بعلّة العوّاد كيما أراك وتلك أعظم نعمة … ملكت يداك بها منيع قيادى إنّ العيون على القلوب إذا جنت … كانت بليّتها على الأجساد وله: توهّمه (¬2) طرفى فآلم خدّه … فكان (¬3) مكان الوهم من نظرى أثر وصافحه قلبى فآلم كفّه … فمن صفح قلبى فى أنامله عقر ومرّ بقلبى خاطرا فجرحته … ولم أر خلقا (¬4) قطّ يجرحه الفكر يمرّ فمن لين وحسن تعطّف … يقال به سكر وليس به سكر ويقال إن أبا العتاهية، قال: أنشدت النظام شعرا: إذا همّ النّديم له بلحظ … تمشّت فى محاسنه الكلوم فقال: ينبغى أن ينادم هذا أعمى. قال سيدنا المرتضى أدام الله علوّه: وأبيات النظام تتضمّن معنى بيت أبى العتاهية، ولسنا ندرى أيّهما أخذ من صاحبه، والنظّام يكرر هذا المعنى/ كثيرا فى شعره، فمن ذلك قوله: رقّ فلو بزّت سرابيله … علّقه الجوّ من اللّطف (¬5) يجرحه اللّحظ بتكراره … ويشتكى الإيماء بالطّرف ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «الوصال». (¬2) ف، ونسخة بحاشيتى الأصل، ت: «تأمله». (¬3) من نسخة بحاشية ت: «فصار». (¬4) من نسخة بحاشية الأصل: «جسما». (¬5) حاشية ت: «يعنى أن فى سرابيله ثفلا واعتمادا باقيا، فلو بزت لعلقه الجو».

اختبار لبيد بهجائه للبقلة وخبره مع الربيع بن زياد عند النعمان

وحكى أن أبا النظام (¬1) جاء به وهو حدث إلى الخليل بن أحمد، ليعلّمه، فقال له الخليل يوما يمتحنه، وفى يده قدح زجاج: يا بنيّ، صف لى هذه الزجاجة، فقال: أبمدح أم بذم؟ قال: بمدح، قال: نعم، تريك القذى، لا تقبل الأذى، ولا تستر ما وراء؛ قال: فذمّها، قال: سريع كسرها، بطيء (¬2) جبرها، قال: فصف هذه النخلة، وأومأ إلى نخلة فى داره، فقال: أبمدح أم بذم؟ قال: بمدح، قال: هى حلو مجتناها، باسق منتهاها، ناضر أعلاها؛ قال: فذمّها قال: هى صعبة المرتقى، بعيدة المجتنى، محفوفة بالأذى؛ فقال الخليل: يا بنيّ، نحن إلى التعلّم منك أحوج. قال سيدنا المرتضى أدام الله علوّه: وهذه بلاغة من النظّام حسنة، لأن البلاغة هى وصف الشيء ذمّا أو مدحا بأقصى ما يقال فيه. *** [اختبار لبيد بهجائه للبقلة وخبره مع الربيع بن زياد عند النعمان: ] وشيبه بهذا المعنى خبر لبيد (¬3) المشهور فى هجائه (¬4) البقلة، التى امتحن بهجائها، واختبر بذمها، فقال فيها أبلغ ما يقال فى مثلها، وذلك أن عمارة وأنسا وقيسا والربيع بنى زياد العبسيين وفدوا على النعمان بن المنذر، ووفد عليه العامريون بنو أم البنين (¬5)، وعليهم أبو البراء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب، وهو ملاعب الأسنّة، وكان العامريون ثلاثين رجلا، ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «كان النظام شاعرا فصار متكلما، وبالعكس منه أبو نواس». (¬2) من نسخة بحاشية ت: «بعيد». (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف: «كان لبيد صحابيا مخضرما، وبقى بعد رسول الله صلى الله عليه وآله زمانا، وكان مستبصرا حسن الطريقة، وكان لا يقول الشعر بعد إسلامه ويقول: عوضنى الله البقرة وآل عمران والمخضرم: الّذي أدرك الجاهلية والإسلام». وانظر الخبر ضمن ترجمة لبيد وذكر نسبه وأخباره فى (الأغانى 14 - 90 - 98، والخزانة 4: 117، ومجالس ثعلب 449 - 450، وشعراء النصرانية 790، والعمدة 1: 27، والحيوان 5: 173). (¬4) من نسخة بحاشية ت: «وهجائه». (¬5) هى فاطمة بنت الخرشب الأنمارية؛ إحدى المنجبات من العرب؛ وكان يقال لبنيها الكملة؛ روى أن عبد الله بن جدعان لقيها وهى تطوف بالكعبة؛ فقال لها: نشدتك الله برب هذه البنية! أى بنيك أفضل؟ قالت: الربيع؛ لا بل عمارة؛ لا بل أنس؛ ثكلتهم إن كنت أدرى أيهم أفضل»، (وانظر الأغانى 16: 19).

وفيهم لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب، وهو يومئذ غلام له ذؤابة، وكان الربيع ابن زياد العبسىّ ينادم النعمان، ويكثر عنده، ويتقدم على من سواه، وكان يدعى الكامل، لشطاطه (¬1) وبياضه وكماله. فضرب النعمان قبّة على أبى براء، وأجرى عليه وعلى من كان معه النّزل، فكانوا يحضرون النعمان لحاجتهم، فافتخروا يوما بحضرته، فكاد العبسيون يغلبون العامريين، وكان الربيع إذا خلا بالنعمان طعن فيهم، وذكر معايبهم؛ ففعل ذلك مرارا لعداوته لبنى جعفر؛ لأنهم كانوا أسروه، فصدّ النعمان عنهم حتى نزع القبة عن أبى براء، وقطع/ النّزل، ودخلوا عليه يوما فرأوا منه جفاء، وقد كان قبل ذلك يكرمهم، ويقدّم مجلسهم، فخرجوا من عنده غضابا، وهمّوا بالانصراف، ولبيد فى رحالهم يحفظ أمتعتهم، ويغدو بإبلهم فيرعاها، فإذا أمسى انصرف بها. فأتاهم تلك الليلة وهم يتذاكرون أمر الربيع، فقال لهم: ما كنتم (¬2) تتناجون؟ فكتموه، وقالوا له: إليك عنا، فقال: أخبرونى، فلعلّ لكم عندى فرجا، فزجروه، فقال: والله لا أحفظ لكم متاعا، ولا أسرح لكم بعيرا (¬3) أو تخبرونى؟ وكانت أم لبيد عبسية فى حجر الربيع، فقالوا له: خالك قد غلبنا على الملك، وصدّ (¬4) عنا وجهه، فقال: هل تقدرون أن تجمعوا بينى وبينه غدا حين يقعد الملك فأرجز به رجزا ممضّا مؤلما، لا يلتفت إليه النعمان بعده أبدا؟ قالوا له: وهل عندك ذلك؟ قال: نعم، قالوا: فإنّا نبلوك بشتم (¬5) هذه البقلة- وقدامهم بقلة دقيقة القضبان، قليلة الورق، لاصقة فروعها بالأرض، تدعى التّربة- فاقتلعها من الأرض وأخذها بيده، وقال: «هذه البقلة التّربة التّفلة الرذلة، التى لا تذكى نارا، ولا تؤهل دارا، ولا تستر جارا، عودها ضئيل، وفرعها ذليل، وخيرها قليل، بلدها شاسع ونبتها خاشع، وآكلها ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «الشطاط هو استواء القامة وحسنها، والشطط: الخلاف والجدل». (¬2) حاشية الأصل: «مالكم». (¬3) من نسخة بحاشيتى ت: «إبلا». (¬4) حاشية ت (من نسخة): «وأصدعنا». (¬5) حاشية ت (من نسخة): «فاشتم».

جائع، والمقيم عليها قانع؛ أقصر البقول فرعا، وأخبثها مرعى وأشدها قلعا، فحربا (¬1) لجارها وجدعا! ألقوا بي (¬2) أخا بنى عبس، أرجعه عنكم بتعس ونكس، وأتركه من أمره فى لبس». فقالوا له: نصبح ونرى فيك رأينا. فقال لهم عامر: انظروا إلى غلامكم هذا، فإن رأيتموه نائما فليس أمره بشيء، إنما تكلّم بما جرى على لسانه، وإن رأيتموه ساهرا فهو صاحبكم، فرمقوه بأبصارهم، فوجدوه قد ركب رحلا يكدم واسطته؛ حتى أصبح فلما أصبحوا، قالوا: أنت والله صاحبه، فحلقوا رأسه، وتركوا له ذؤابتين، وألبسوه حلّة، وغدوا به معهم، فدخلوا على النعمان فوجدوه يتغدّى ومعه الربيع، ليس معه غيره، والدار والمجالس مملوءة، بالوفد فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين فدخلوا عليه، والربيع إلى جانبه، فذكروا للنعمان حاجتهم، فاعترض الربيع فى كلامهم، فقام لبيد: وقد دهن أحد شقّى رأسه، وأرخى إزاره، وانتعل نعلا واحدة- وكذلك/ كانت الشعراء تفعل فى الجاهلية إذا أرادت الهجاء- فمثل بين يديه، ثم قال: يا ربّ هيجا هى خير من دعه (¬3) … إذ لا تزال هامتى مقزّعه نحن بنى أمّ البنين الأربعة … ونحن خير عامر بن صعصعه المطعمون الجفنة المدعدعة (¬4) … والضّاربون إلهام تحت الخيضعة ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «فحربا» [بفتح الراء]، وفى حاشية ت (من نسخة): «فخزيا». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «فألقوا». (¬3) الأرجوزة فى ديوانه 1: 7 - 8، وقبل هذا البيت فى رواية ثعلب: * لا تزجر الفتيان عن سوء الرّعة* والرعة: حالة الأحمق التى رضى بها. (¬4) كذا فى ت، وفى الأصل، د ف: «المذعذعة» بالذال المعجمة. وفى حاشية الأصل: «حقه «المدعدعة» بالدال غير المعجمة؛ وهى المملوءة، والدعدعة تحريك المكيال ونحوه ليسع الشيء، ودعدعت الشيء ملأته، وجفنة مدعدعة أى مملوءة، قال لبيد أيضا يصف ماءين ألقيا من السيل: فدعدعا سرّة الرّكاء كما … دعدع ساقى الأعاجم الغربا - والركاء: واد معروف، أما الذعدعة؛ فهو التفريق؛ ولم يسمع فى معنى الملء بالذال، والله أعلم».

مهلا أبيت اللّعن لا تأكل معه … إنّ استه من برص ملمّعه وإنه يدخل فيها إصبعه … يدخلها حتّى يوارى أشجعه كأنه يطلب شيئا ضيّعه فلما فرغ لبيد التفت النعمان إلى الربيع يرمقه شزرا، وقال: كذلك أنت؟ قال: كذب والله ابن الحمق اللئيم! فقال النعمان: أفّ لهذا الطعام، لقد خبّث عليّ طعامى! فقال الربيع: أبيت اللعن! أما إنى قد فعلت بأمه- لا يكنى، وكانت فى حجره- فقال لبيد: أنت لهذا الكلام أهل، أما إنها من نسوة غير فعل، وأنت المرء قال هذا فى يتيمته (¬1). قال سيدنا أدام الله علوّه: وجدت فى رواية أخرى: أما إنها من نسوة فعل، وإنما قال ذلك لأنها كانت من قوم الربيع، فنسبها إلى القبيح، وصدّقه عليه تهجينا له ولقومه. فأمر الملك بهم جميعا فأخرجوا، وأعاد على أبى براء القبة، وانصرف الربيع إلى منزله، فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه به، وأمره بالانصراف إلى أهله، فكتب إليه: وأنى قد تخوّفت أن يكون قد وقع فى صدرك ما قال لبيد، ولست برائم حتى تبعث إلى من يجردنى، ليعلم من حضرك من الناس إنى لست كما قال، فأرسل إليه: إنك لست صانعا بانتفائك مما قال لبيد شيئا، ولا قادرا على ردّ ما زلّت به الألسن، فالحق بأهلك؛ ثم كتب إليه النعمان فى جملة أبيات جوابا عن أبيات (¬2) كتبها إليه الربيع مشهورة: ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «ربيبته». (¬2) الأبيات برواية صاحب الأغانى: لئن رحلت جمالى إنّ لى سعة … ما مثلها سعة عرضا ولا طولا بحيث لو وزنت لخم بأجمعها … لم يعدلوا ريشة من ريش سمويلا ترعى الروائم أحرار البقول بها … لا مثل رعيكم ملحا وغسويلا فابرق بأرضك يا نعمان متّكئا … مع النّطاسىّ يوما وابن توفيلا.

قد قيل ذلك إن حقا وإن كذبا … فما اعتذارك من شيء إذا قيلا! (¬1) وأخبرنا بهذا الخبر أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدّثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا/ أبو حاتم عن أبى عبيدة، وأخبرنا به أيضا المرزبانىّ قال حدثنى محمد بن أحمد الكاتب قال: حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح النحوىّ قال: أخبرنا محمد بن زياد بن زبّان عن الكلبىّ عن عبد الله بن مسلم البكّاوىّ (¬2) - وكان قد أدرك الجاهلية.- وفى حديث كل واحد زيادة على الآخر، ولم نأت بجميع الخبر على وجهه، بل أسقطنا منه ما لم نحتج إليه، وأوردنا ما أوردنا منه بألفاظه. قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوّه: أما قوله: «نحن بنى أم البنين» فإنه نصب على المدح، والعرب تنصب على المدح والذم جميعا. وأم البنين هى بنت عمرو بن عامر بن ربيعة ابن صعصعة، وكانت تحت مالك بن جعفر بن كلاب، فولدت له منه عامر بن مالك ملاعب الأسنّة، وطفيل بن مالك فارس قرزل، وهو أبو عامر بن الطّفيل، وقرزل فرس كانت له، وربيعة بن مالك أبا لبيد، وهو ربيع المقترين، ومعاوية بن مالك معوّد الحكّام، وإنما سمى معوّد الحكام بقوله: أعوّد مثلها الحكّام بعدى … إذا ما الحقّ فى الأشياع نابا ¬

_ (¬1) البيت من مقطوعة ذكرها صاحب الأغانى؛ وهى: شرّد برحلك عنى حيث شئت ولا … تكثر عليّ ودع عنك الأباطيلا فقد ذكرت بشيء لست ناسيه … ما جاورت مصر أهل الشام والنيلا فما اتقاؤك منه بعد ما جزعت … هوج المطىّ به نحو ابن سمويلا قد قيل ذلك إن حقّا وإن كذبا … فما اعتذارك من قول إذا قيلا! فالحق بحيث رأيت الأرض واسعة … وانشر بها الطرف إن عرضا وإن طولا. (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «البكائى».

أخبار الجاحظ ونتف من كلامه

وولدت عبيدة الوضّاح؛ فهؤلاء خمسة، وقال لبيد: «أربعة»، لأن الشعر لم يمكّنه من ذلك (¬1). وأما الجفنة المدعدعة (¬2) فهى المملوءة. وأما الخيضعة، فإن الأصمعىّ يذكر أن لبيدا قال: «تحت الخضعة»؛ يعنى الجلبة، فسوّته الرواة. وقيل: إن الخيضعة أصوات وقع السيوف، والخيضعة أيضا البيضة التى تلبس على الرأس، والخيضعة الغبار، والقول يحتمل كلّ ذلك. وأما: «أبيت اللعن»، فإن أبا حاتم قال: سألت الأصمعىّ عنه فقال: معناه أبيت أن تأتى من الأمور ما تلعن عليه. وأما: «الأشاجع»؛ فهى العروق والعصب الّذي على ظهر الكفّ. وقد روى: * أكل يوم هامتى مقزّعة* والقزع: تساقط بعض الشعر والصوف وبقاء بعضه، يقال: كبش أقزع ونعجة قزعاء. *** [أخبار الجاحظ ونتف من كلامه: ] فأما الجاحظ فهو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب، مولى لأبى القلمّس عمرو بن قلع الكنانىّ ثم الفقيمىّ. وذكر المبرّد أنه ما رأى أحرص على العلم من ثلاثة: الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل بن إسحاق القاضى؛ فأما الجاحظ فإنه كان إذا وقع فى يده كتاب قرأه من أوله إلى آخره، أىّ كتاب كان. وأما الفتح/ بن خاقان (¬3) فإنه كان يحمل الكتاب فى خفّه، فإذا قام بين يدى المتوكل للبول أو للصلاة أخرج الكتاب فنظر فيه وهو يمشى حتى يبلغ الموضع الّذي يريده، ثم يصنع مثل ذلك فى رجوعه إلى أن يأخذ ¬

_ (¬1) قال صاحب الخزانة (4: 174): قول السيد المرتضى: إن لبيدا إنما قال أربعة وهم خمسة لضرورة الشعر؛ هذا قول الفراء؛ وهو قول فارغ؛ والصواب كما قال ابن عصفور فى الضرائر: لم يقل إلا أربعة وهم خمسة على جهة الغلط؛ وإنما قال ذلك لأن أباه كان قد مات وبقى أعمامه وهم أربعة». (¬2) فى الأصل: «المذعذعة»، وصوابه من ت؛ وانظر الحاشية رقم 2 ص 191، من هذا الجزء. (¬3) هو الفتح بن خاقان وزير المتوكل؛ قتل معه سنة 274؛ (النجوم الزاهرة 2: 325).

مجلسه. وأما إسماعيل بن (¬1) إسحاق فإنى ما دخلت عليه قطّ إلّا وفى يده كتاب ينظر فيه، أو يقلّب الكتب لطلب كتاب ينظر فيه. قال البلخىّ: تفرّد الجاحظ بالقول بأن المعرفة طباع، وهى مع ذلك فعل للعباد على الحقيقة، وكان يقول فى سائر الأفعال إنها تنسب إلى العباد على أنها وقعت منهم طباعا، وأنها وجبت بإرادتهم، وليس بجائز أن يبلغ أحد فلا يعرف الله تعالى؛ والكفار عنده بين معاند، وبين عارف قد استغرقه حبّه لمذهبه وشغفه به وإلفه وعصبيته؛ فهو لا يشعر بما عنده من المعرفة بخلافه. وكان الجاحظ ملازما لمحمد بن عبد الملك الزيات (¬2)، وكان منحرفا عن أحمد بن أبى دؤاد، للعداوة التى كانت بين أحمد ومحمّد، فلما قبض على محمد بن عبد الملك الزيات هرب الجاحظ، فقيل له: لم هربت؟ فقال: خفت أن أكون ثانى اثنين إذ هما فى التنّور! يريد: ما صنع بمحمد بن عبد الملك من إدخاله تنورا فيه مسامير، كان هو صنعه ليعذّب الناس فيه، فعذب به حتى مات. وروى انه أتى بالجاحظ بعد موت ابن الزيات وفى عنقه سلسلة، وهو مقيّد فى قميص سمل، فلما نظر إليه ابن أبى دؤاد قال: والله ما علمتك إلّا متناسيا للنعمة، كفورا للصنيعة، معدنا للمساوئ، وما فتّنى باستصلاحى (¬3) لك، ولكنّ الأيام لا تصلح منك لفساد طويّتك، ورداءة دخيلتك (¬4)، وسوء اختيارك، وغالب طبعك؛ فقال الجاحظ: خفّض عليك أيدك الله! فو الله لأن يكون لك الأمر عليّ خير من أن يكون لى عليك، ولأن أسيء وتحسن أحسن فى الأحدوثة عنك من أن أحسن فتسيء، ولأن تعفو عنى فى حال قدرتك ¬

_ (¬1) هو إسماعيل بن إسحاق القاضى البصرى الفقيه المالكى؛ صنف فى القراءات والفقه؛ وكان إماما فى العربية؛ قال المبرد: هو أعلم بالتصريف منى؛ وتوفى سنة 282؛ (شذرات الذهب 2: 178). (¬2) هو محمد بن عبد الملك بن أبان، المعروف بابن الزيات؛ كان وزير المعتصم، وله شعر سائر جيد، وديوان رسائل، وتوفى سنة 233؛ (ابن خلكان 2: 54). (¬3) حاشية الأصل: «أى ما فوتنى استصلاحك، والباء للتعدية». (¬4) ت: «داخلتك».

أجمل بك من الانتقام منى، فقال ابن أبى دؤاد: قبحك الله! فو الله ما علمتك إلّا كثير تزويق اللسان، وقد جعلت بيانك أمام قلبك، ثم اضطغنت فيه النفاق والكفر؛ يا غلام صر به إلى الحمام، وأمط عنه الأذى. فأخذت عند السلسلة/ والقيد، وأدخل الحمام، وأميط عنه الأذى، وحمل إليه تخت من ثياب وطويلة وخفّ، فلبس ذلك، ثم أتاه فصدّره فى مجلسه، ثم أقبل عليه، وقال: هات الآن حديثك يا أبا عثمان! وقال المبرّد: سمعت الجاحظ يقول: احذر من تأمن؛ فإنك على حذر ممن تخاف. وقال الجاحظ: قلت لأبى يعقوب الخريمىّ الشاعر: من خلق المعاصى؟ قال: الله، قلت: فمن عذّب عليها؟ قال: الله، قلت: فلم؟ قال: لا أدرى والله! وكان الجاحظ يقول: ينبغى للكاتب أن يكون رقيق حواشى الكلام، عذب ينابيعه، إذا حاور سدّد سهم الصواب إلى غرض المعنى. وقال: لا تكلّم العامة بكلام الخاصة، ولا الخاصة بكلام العامة. وقال سوّار بن أبى شراعة: كنت عند الجاحظ، فرآنى أكتب خطا رديئا فى ورق رديء متقارب السطور، فقال لى: ما أحسبك تحبّ ورثتك، فقلت: وكيف ذاك؟ قال: لأنى أراك تسيء بهم فيما تخلّفه! وذكر أبو العباس المبرّد قال: سمعت الجاحظ يقول لرجل آذاه: أنت والله أحوج إلى هوان من كريم إلى إكرام، ومن علم إلى عمل، ومن قدرة إلى عفو، ومن نعمة إلى شكر. وقال المبرّد قال لى الجاحظ يوما: أتعرف مثل قول إسماعيل بن القاسم. ولا خير فيمن لا يوطّن نفسه … على نائبات الدّهر حين تنوب فقلت: نعم، قول كثيّر، ومنه أخذ: فقلت لها يا عزّ كلّ مصيبة … إذا وطّنت يوما لها النّفس ذلّت

وروى يموت بن المزرّع لخاله عمرو بن بحر الجاحظ فى الجمّاز (¬1) يهجوه: نسب الجمّاز مقصور إليه منتهاه تنتهى الأحساب بالنّاس ولا تعدو قفاه يتحاجى من أبو الجمّاز فيه كاتباه ليس يدرى من أبو الجمّاز إلّا من يراه / أخبرنا المرزبانىّ قال: أخبرنا عليّ بن هارون قال أنشدنى وكيع قال أنشدنى أبو العيناء قال أنشدنى الجاحظ لنفسه فى الخضاب: زرت فتاة من بنى هلال … فاستعجلت إلى بالسّؤال ما لي أراك قانئ السّبال … كأنّما كرعت فى جريال (¬2) ما يبتغى مثلك من أمثالى … تنحّ قدّامى ومن حيالى قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوّه: قوله: «كأنما كرعت فى جريال» مليح قوىّ، ولا يشبه شعر الجاحظ للينه وضعف كلامه. وذكر أبو العيناء قال حدثنى إبراهيم بن رياح قال أنشدنى الجاحظ يمدحنى: بدا حين أثرى بإخوانه … ففلّل عنهم شباة العدم وذكّره الحزم ريب الزّمان … فبادر بالعرف قبل النّدم قال إبراهيم: فذاكرت بهما أحمد بن أبى دؤاد فقال: قد أنشدنيهما يمدحنى بهما، ثم لقيت محمد بن الجهم فقال: قد أنشدنيهما يمدحنى بهما، وقال يموت بن المزرّع: سمعت خالى الجاحظ يقول: لا أعرف شعرا يفضل قول أبى نواس: ¬

_ (¬1) الجماز؛ لقب له؛ ومعناه الوثاب؛ واسمه محمد بن عمرو بن عطاء؛ شاعر أديب بصرى؛ وكان ماجنا خبيث اللسان ذا نادرة؛ وكان أكبر سنا من أبى نواس؛ دخل بغداد فى أيام المتوكل؛ وقد أعجب به المتوكل يوما فأمر له بعشرة آلاف درهم؛ فأخذها وانحدر، فمات فرحا بها؛ (تاريخ بغداد 3: 125 - 126). (¬2) الكرع: أن يشرب الرجل بقية من النهر، والجريال: صفوة الخمر.

ودار ندامى عطّلوها وأدلجوا … بها أثر منهم جديد ودارس (¬1) مساحيب من جرّ الزّقاق على الثّرى … وأضغاث ريحان: جنىّ ويابس حبست بها صحبى فجدّدت عهدهم … وإنى على أمثال تلك لحابس ولم أدر من هم غير ما شهدت به … بشرقىّ ساباط الدّيار البسابس (¬2) أقمنا بها يوما ويوما وثالثا … ويوما له يوم التّرحّل خامس تدار علينا الرّاح فى عسجديّة … حبتها بأنواع التّصاوير فارس قرارتها كسرى وفى جنباتها … مها تدريها بالقسىّ الفوارس (¬3) / فللخمر ما زرّت عليه جيوبها … وللماء ما دارت عليه القلانس قال الجاحظ: فأنشدتها أبا شعيب القلّال (¬4) فقال: يا أبا عثمان، لو نقر هذا الشعر لطنّ! قلت: ويلك! ما تفارق الجرار والخزف حيث كنت! . قال سيدنا أيده الله: أخذ أبو نواس قوله: ولم أدر من هم غير ما شهدت به … بشرقى ساباط الدّيار البسابس من قول أبى خراش الهذلىّ: ولم أدر من ألقى عليه رداءه … سوى (¬5) أنّه قد سلّ عن ماجد محض (¬6) ويقال إن أبا خراش أوّل من مدح من لا يعرفه، وذاك أن خراش بن أبى خراش أسر هو وعروة بن مرة، فطرح رجل من القوم رداءه على خراش حين شغل القوم بقتل عروة ونجّاه. فلما تفرغوا له قال: أفلت منّى، ويقال: بل رآه فى الأسر رجل من بنى عمه، فألقى عليه رداءه ليجيره به، وقال له: النجاء ويلك! فقال أبو خراش فى ذلك: حمدت الإله (¬7) بعد عروة إذ نجا … خراش وبعض الشّرّ أهون من بعض ¬

_ (¬1) ديوانه: 295، والكامل- بشرح المرصفى 7: 54. (¬2) البسابس: الخوالى، وساباط: موضع ببلاد فارس. (¬3) تدريها: تختلها. (¬4) حاشية ت: «أبو شعيب هذا صقر بن عبد الرحمن الفلال». (¬5) ت: «ولكنه». (¬6) الأبيات من قصيدة فى (ديوان الهذليين 2: 157 - 158، وأمالى القالى 1: 271، ديوان الحماسة 2: 280 - 284، والشعر والشعراء 647 - 648). (¬7) من نسخة بحاشية ت: «إلهى».

فأقسمت لا أنسى قتيلا رزئته … بجانب قوسى (¬1) ما مشيت على الأرض على أنّها تعفو الكلوم وإنّما … نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضى ولم أدر من ألقى عليه رداءه … سوى أنّه قد سلّ عن ماجد محض وأخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزبانىّ قال حدثنى إبراهيم بن محمد بن شهاب قال حدثنا أبو الحسن أحمد بن عمر البرذعىّ المتكلم قال: صرت إلى منزل الجاحظ فى أول ما قدمت من بلدى، وقد اعتل علته التى فلج فيها، فاستأذنت عليه، فخرج إلى خارج من منزله، فقال لى: يقول لك: وما تصنع بشقّ مائل، ولعاب سائل! فانصرفت عنه. وذكر يموت بن المزرّع قال: وجّه المتوكل فى السنة التى قتل فيها أن يحمل إليه الجاحظ من البصرة، وسأله الفتح ذلك، فوجده لا فضل فيه (¬2)، فقال لمن أراد حمله: وما تصنع بامرئ ليس بطائل، ذى شقّ/ مائل، ولعاب سائل، وفرج بائل، وعقل زائل، ولون حائل! . وذكر المبرد قال: سمعت الجاحظ يقول: أنا من جانبى الأيسر مفلوج، فلو قرض بالمقاريض ما علمت، ومن جانبى الأيمن منقرس، فلو مرّ به الذباب لألمت، وبى حصاة لا ينسرح لى البول معها، وأشد ما عليّ ست وتسعون! وقال يوما لمتطبب يشكو إليه علته: قد اصطلحت الاضداد إلى جسدى، إن أكلت باردا أخذ برجلى، وإن أكلت حارا أخذ برأسى. وتوفى فى سنة خمس وخمسين ومائتين. ¬

_ (¬1) كذا ضبط فى ت؛ بضم القاف وفتح السين؛ وضبط فى معجم البلدان بفتح القاف وسكون الواو؛ وزان «سكرى»، وهى بلد بالسراة. (¬2) حاشية الأصل: «من نسخة»: «لا فضل عنده».

14

14 مجلس آخر [المجلس الرابع عشر: ] تأويل آية [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ... ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ، وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ، وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ؛ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ؛ [البقرة: 177]. فقال: كيف ينفى كون تولية الوجوه إلى الجهات من البرّ، وإنما يفعل ذلك فى الصلاة، وهى برّ لا محالة؟ وكيف خبّر عن البرّ «بمن» والبرّ كالمصدر، و «من» اسم محض؟ وعن أىّ شيء كنّى بالهاء فى قوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ؟ وما المخصوص بأنها كناية عنه وقد تقدمت أشياء كثيرة؟ وعلى أىّ شيء ارتفع الْمُوفُونَ؟ وكيف نصب الصَّابِرِينَ، وهم معطوفون على الموفين؟ وكيف وحّد الكناية فى مواضع وجمعها فى أخر؟ فقال: مَنْ آمَنَ وآتَى الْمالَ وأَقامَ الصَّلاةَ، ثم قال: وَالْمُوفُونَ، والصَّابِرِينَ؟ . يقال له: فيما ذكرته أوّلا جوابان: أحدهما أنّه أراد تعالى: ليس الصّلاة هى البرّ كلّه؛ لكنه ما عدّد فى الآية من ضروب الطاعات وصنوف الواجبات، فلا تظنوا أنكم إذا توجّهتم إلى الجهات بصلاتكم، فقد أحرزتم البرّ بأسره، وحزتموه بكماله، بل يبقى عليكم بعد ذلك معظمه وأكثره. والجواب الثانى أن النّصارى لما توجّهوا إلى المشرق، واليهود إلى بيت المقدس، واتخذوا

هاتين الجهتين قبلتين، واعتقدوا فى الصلاة إليهما أنهما/ برّ وطاعة خلافا على الرسول صلى الله عليه وآله أكذبهم الله تعالى فى ذلك، وبيّن أن ذلك ليس من البر، إذ كان منسوخا بشريعة النبي صلى الله عليه وآله؛ التى تلزم الأسود والأبيض، والعربى والعجمىّ، وأن البرّ هو ما تضمنته الآية. فأما إخباره «بمن» ففيه وجوه ثلاثة: أولها أن يكون معنى «البرّ» هاهنا البارّ وذا البرّ، وجعل أحدهما فى مكان الآخر؛ والتقدير: ولكنّ البارّ من آمن بالله؛ ويجرى ذلك مجرى قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً؛ [الملك: 30]، يريد غائرا، ومثل قول الشاعر: ترتع ما رتعت حتّى إذا ادّكرت … فإنما هى إقبال وإدبار (¬1) أراد أنها مقبلة مدبرة، ومثله: تظلّ جيادهم نوحا عليهم … مقلّدة أعنّتها صفونا (¬2) أراد نائحة عليهم، ومثله قول الشاعر: هريقى من دموعهما سجاما … ضباع (¬3) وجاوبى نوحا قياما والوجه الثانى أن العرب قد تخبر عن الاسم بالمصدر والفعل، وعن المصدر بالاسم، فأمّا إخبارهم عن المصدر بالاسم فقوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وقول العرب: إنما البرّ الّذي يصل الرحم ويفعل كذا وكذا، وأما إخبارهم عن الاسم بالمصدر والفعل فمثل قول الشاعر: لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللّحى … ولكنّما الفتيان كلّ فتى ند (¬4) ¬

_ (¬1) البيت الخنساء؛ ديوانها: 78، والكامل- بشرح المرصفى 8: 176، واللسان 19: 135، وتاج العروس 8: 73، وخزانة الأدب 1: 138، وهو فى وصف بقرة وحشية، وقبله: فما عجول على بو تطيف به … لها حنينان إصغار وإكبار. (¬2) البيت لعمرو بن كلثوم؛ من المعلقة- بشرح التبريزى: 217؛ وانظر ص 105 من هذا الجزء. (¬3) ضباع: اسم امرأة؛ وأصله: «ضباعة». (¬4) فى حاشيتى الأصل، ف: «مقرر-

فجعل «أن تنبت» وهو مصدر خبرا عن الفتيان. والوجه الثالث أن يكون المعنى: ولكن البرّ برّ من آمن؛ فحذف البرّ الثانى، وأقام «من» مقامه؛ كقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ؛ [البقرة: 93]، أراد: حبّ العجل، قال الشاعر: وكيف تواصل من أصبحت … خلالته كأبي مرحب (¬1) أراد: كخلالة أبى مرحب؛ وقال النابغة: / وقد خفت حتّى ما تزيد مخافتى … على وعل فى ذى المطارة عاقل (¬2) أراد على مخافة وعل. وتقول العرب: بنو فلان يطؤهم الطريق، أى أهل الطريق. وحكى عن بعضهم: أطيب النّاس الزّبد، أى أطيب ما يأكل (¬3) الناس الزّبد، وكذلك قولهم: حسبت صباحى زيدا، أى صباح زيد، وروى عن ابن عباس فى قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ؛ [النور: 61]، أى ليس على من أكل مع الأعمى حرج، وفى قوله تعالى: رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، [الكهف: 22]، وذكروا أنه كان راعيا تبعهم. فأما من كنى عنه بالهاء فى قوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى ففيه وجوه أربعة: ¬

_ - فى الصناعة أن يكون المبتدأ والخبر هو هو؛ أو ما يقوم مقام ذلك ويجرى مجراه؛ وهو احتراز من قولك مثلا: أبو يوسف أبو حنيفة؛ يعنى يقوم مقامه؛ فإذا كان كذلك فالواجب أن يكون الجزءان من المبتدأ والخبر جثتين أو حدثين؛ حتى لا ينخرم هذا الأصل الّذي أصلوه؛ فإذا وجدت شيئا من ذلك قد اختلف فإنما هو على ضرب من الاحتمال والمجاز؛ كقولك: الهلال الليلة؛ لأن التقدير حدوث الهلال الليلة؛ كأن التقدير: حدوث الهلال وقع الليلة؛ فالواقع هو الحدوث، والحدوث هو الواقع. والبيت المستشهد به، التقدير فيه: لعمرك ما فتوة الفتيان، فخذف المضاف وأقام المضاف مقامه، والتقدير: ما فتوة الفتيان نبتة اللحى». (¬1) خلالته: مودته، وأبو مرحب كناية عن الظل، والبيت للنابغة الجعدى، وقبله: وبعض الأخلّاء عند البلا … ء والرّزء أروغ من ثعلب وانظر اللسان (رحب). (¬2) ديوانه: 64، ومعجم البلدان 8: 84. وذو المطارة: اسم جبل؛ وعاقل: متحصن، وفى حواشى الأصل، ت، ف: «يمكن أن تجعل «ما» فى البيت زيادة، والتقدير: حتى تزيد: ويمكن أن يكون على القلب؛ أى ما تزيد مخافة وعل على مخافتى؛ وهو كثير، والوعل: الضأن الوحشى». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «ما أكل الناس».

أولها: أن تكون الهاء راجعة على المال الّذي تقدم ذكره، ويكون المعنى: وآتى المال على حبّ المال، وأضيف الحب إلى المفعول، ولم يذكر الفاعل: كما يقول للقائل: اشتريت طعامى كاشتراء طعامك، والمعنى كاشترائك طعامك. والوجه الثانى أن تكون الهاء راجعة إلى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل، ولم يذكر المفعول لظهور المعنى ووضوحه. والوجه الثالث أن ترجع الهاء إلى الإيتاء الّذي دلّ آتَى عليه، والمعنى: وأعطى المال على حبّ الإعطاء، ويجرى ذلك مجرى قول القطامىّ: هم الملوك وأبناء الملوك لهم (¬1) … والآخذون به والسّاسة الأول (¬2) فكنّى بالهاء عن الملك، لدلالة قوله: «الملوك» عليه، ومثله قول الشاعر: إذا نهى السّفيه جرى إليه … وخالف والسّفيه إلى خلاف (¬3) أراد: جرى إلى السّفه الّذي دلّ ذكر السفيه عليه. والوجه الرابع: أن تكون الهاء ترجع إلى الله تعالى؛ لأن ذكره تعالى قد تقدم، فيكون المعنى: وآتى المال على حبّ الله ذوى القربى واليتامى. فإن قيل: فأىّ فائدة فى ذلك، وقد علمنا الفائدة فى إيتاء المال مع محبته والضّنّ به، وأن العطية تكون أشرف وأمدح، فما الفائدة فيما ذكرتموه؟ وما معنى محبة الله، والمحبة عندكم هى الإرادة، والقديم تعالى لا يصح أن يراد؟ . قلنا: أما المحبة عندنا فهى الإرادة، إلّا أنهم يستعملونها كثيرا مع حذف متعلّقها مجازا وتوسعا، فيقولون: فلان يحب زيدا، إذا أراد منافعه، ولا يقولون: زيد/ يريد عمرا؛ بمعنى ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «هم». (¬2) جمهرة الأشعار: 316؛ وهو آخر قصيدته التى مطلعها: إنا محيّوك فاسلم أيّها الطّلل … وإن بليت وإن طالت بك الطّول. (¬3) حاشية ت (من نسخة): «الخلاف». وحاشية الأصل (من نسخة): «اختلاف».

أنه يريد منافعه، لأن التعارف جرى فى استعمال الحذف والاختصار فى المحبة دون الإرادة، وإن كان المعنى واحدا. وقد ذكر أن لقولهم: زيد يحب عمرا مزية على قولهم: يريد منافعه، لأن اللفظ الأول ينبئ عن أنه لا يريد إلا منافعه، وأنه لا يريد شيئا من مضاره، والثانى لا يدلّ على ذلك، فحصلت له مزية؛ وعلى هذا المعنى نصف الله تعالى بأنه يحب أولياءه والمؤمنين من عباده؛ والمعنى فيه أنه يريد لهم ضروب الخير، من التعظيم والإجلال والنعم؛ فأما وصف أحدنا بأنه يحب الله تعالى فالمعنى فيه أنه يريد تعظيمه وعبادته والقيام بطاعته، ولا يصحّ المعنى الّذي ذكرناه فى محبة العباد بعضهم بعضا؛ لاستحالة المنافع عليه. ومن جوّز عليه تعالى الانتفاع لا يصحّ أيضا أن يكون محبّا له على هذا المعنى، لأنه باعتقاده ذلك قد خرج من أن يكون عارفا به، فمحبته فى الحقيقة لا تتعلّق به ولا تتوجه إليه؛ كما تقول فى أصحاب التشبيه: إنّهم إذا عبدوا من اعتقدوه إلها فقد عبدوا غير الله تعالى. فأما الفائدة فى إعطاء المال مع محبة الله تعالى فهى ظاهرة؛ لأن إعطاء المال متى قارنته إرادة وجه الله وعبادته وطاعته استحقّ به الثواب، ومتى لم يقترن به ذلك لم يستحق الفاعل به ثوابا، وكان ضائعا. وتأثير ما ذكرناه أبلغ من تأثير حبّ المال والضّنّ به؛ لأن المحبّ للمال/ الضنين به متى بذله وأعطاه، ولم يقصد به الطاعة والعبادة والقربة لم يستحق به شيئا من الثواب؛ وإنما يؤثّر حبّه للمال فى زيادة الثواب؛ متى حصل ما ذكرناه من قصد القربة والعبادة، ولو تقرب بالعطية، وهو غير ضنين بالمال، ولا محبّ له لاستحقّ الثواب. وهذا الوجه لم نسبق (¬1) إليه فى هذه الآية، وهو أحسن ما قيل فيها. وقد ذكر وجه آخر؛ وهو أن تكون الهاء راجعة إلى مَنْ آمَنَ أيضا، وينتصب ذوى القربى بالحبّ، ولا يجعل «لآتى» منصوبا لوضوح المعنى، ويكون تقدير الكلام: وأعطى المال فى حال (¬2) حبه ذوى القربى واليتامى، على محبّته إياهم؛ وهذا الوجه ليس فيه ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «لم يسبق». (¬2) ت «على حبه»، وفى حاشية ت أيضا (من نسخة): «على حال حبه».

مزية فى باب رجوع الهاء التى وقع عنها (¬1) السؤال، وإنما يتبين مما تقدم بتقدير انتصاب ذوى القربى بالحب، وذلك غير ما وقع السؤال عنه؛ والأجوبة الأول أقوى وأولى. فأما قوله: وَالْمُوفُونَ، ففى رفعه وجهان: أحدهما أن يكون مرفوعا على المدح؛ لأنّ النعت إذا طال وكثر رفع بعضه، ونصب بعضه على المدح؛ ويكون المعنى: وهم الموفون بعهدهم، قال الزجّاج: وهذا أجود الوجهين. والوجه الآخر أن يكون معطوفا على مَنْ آمَنَ، ويكون المعنى: ولكنّ ذا البرّ وذوى البرّ المؤمنون والموفون بعهدهم. فأما نصب الصَّابِرِينَ ففيه وجهان: أحدهما المدح، لأن مذهبهم فى الصفات والنعوت إذا طالت أن يعترضوا بينها (¬2) بالمدح أو الذم، ليميّزوا الممدوح أو المذموم ويفردوه، فيكون غير متبع لأول الكلام؛ من ذلك قول الخرنق بنت بدر بن هفّان: لا يبعدن قومى الّذين هم … سمّ العداة وآفة الجزر (¬3) النّازلين بكلّ معترك … والطّيّبين معاقد الأزر فنصبت ذلك على المدح، وربما رفعوهما جميعا، على أن يتبع آخر الكلام أوله؛ ومنهم من ينصب «النازلين» ويرفع «الطيبين»، وآخرون يرفعون «النازلين» وينصبون «الطيبين»؛ والوجه فى النصب والرفع ما ذكرناه، ومن ذلك قول الشاعر، أنشده الفراء: إلى الملك القرم وابن الهمام … وليث الكتيبة فى المزدحم وذا الرّأى حين تغمّ الأمور … بذات الصّليل وذات اللّجم فنصب «ليث الكتيبة وذا الرأى» على المدح. وأنشد الفرّاء أيضا: ¬

_ (¬1) ت وحاشية الأصل (من نسخة): «عنها». (¬2) ش، حاشية ت (من نسخة): «فيها». (¬3) ديوانها: 12، واللآلئ 548، ونوادر أبى زيد 108، والكامل- بشرح المرصفى 6: 158.

فليت التى فيها النّجوم تواضعت … على كلّ غثّ منهم وسمين غيوث الحيا فى كلّ محل ولزبة … أسود الشّرى يحمين كلّ عربن (¬1) ومما نصب على الذم قوله: سقونى الخمر ثمّ تكنّفونى … عداة الله من كذب وزور (¬2) والوجه الآخر فى نصب: الصَّابِرِينَ أن يكون معطوفا على ذوى القربى، ويكون المعنى: وآتى المال على/ حبّه ذوى القربى والصابرين؛ قال الزجّاج: وهذا لا يصلح إلّا أن يكون وَالْمُوفُونَ رفع (¬3) على المدح للمضمرين، لأن ما فى الصلة لا يعطف عليه بعد العطف على الموصول، وكان يقوى الوجه الأول. وأما توحيد الذّكر فى موضع وجمعه فى آخر؛ فلأن مَنْ آمَنَ لفظه لفظ الوحدة، وإن كان فى المعنى للجميع (¬4) فالذّكر الّذي أتى بعده موحّدا أجرى على اللفظ، وما جاء من الوصف بعد ذلك على سبيل الجمع مثل قوله تعالى: وَالْمُوفُونَ، وَالصَّابِرِينَ فعلى المعنى. وقد اختلفت قراءة القرّاء (¬5) السبعة فى رفع الراء ونصبها من قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ، فقرأ حمزة وعاصم فى رواية حفص لَيْسَ الْبِرَّ بنصب الراء، وروى هبيرة عن حفص عن عاصم أنه كان يقرأ بالنصب والرفع، وقرأ الباقون بالرفع، والوجهان جميعا حسنان؛ لأنّ كلّ واحد من الاسمين: اسم ليس وخبرها معرفة، فإذا اجتمعا فى التعريف ¬

_ (¬1) اللزبة: الشدة، والشرى: مأسدة بناحية الفرات. (¬2) البيت لعروة بن الورد، ديوانه: 48؛ وهو فى (الكتاب 1: 252)؛ من أبيات يصف فيها ما كان من فعل قوم امرأته حين احتالوا عليه وسقوه الخمر؛ حتى أجابهم إلى مفاداتها؛ وكانت سبية عنده؛ (وانظر الخبر والأبيات فى الأغانى 3: 75 - 77 - طبعة دار الكتب المصرية). (¬3) ش، وحاشية ت (من نسخة): «رفعا». (¬4) من نسخة بحاشيتى ت، الأصل: «للجمع». (¬5) ت: «القراءة».

خبر قيس بن زهير العبسى مع النمر بن قاسط

تكافئا فى جواز كون أحدهما اسما والآخر خبرا؛ كما تتكافأ النكرات (¬1). وحجة من رفع «البرّ» أنه: لأن يكون «البرّ» (¬2) الفاعل أولى؛ لأنّه ليس يشبه الفعل، وكون الفاعل بعد الفعل أولى من كون المفعول بعده؛ ألا ترى أنّك إذا قلت: قام زيد، فإن الاسم يلى الفعل. وتقول: ضرب غلامه زيد، فيكون التقدير فى الغلام التأخير، فلولا أن الفاعل أخصّ بهذا الموضع لم يجز هذا؛ كما لم يجز فى الفاعل: ضرب غلامه زيدا، حيث لم يجز فى الفاعل تقدير التأخير؛ كما جاز فى المفعول به، لوقوع الفاعل موقعه المختص به. وحجة من نصب «البرّ» أن يقول: كون الاسم أن وصلتها أولى لشبهها بالمضمر فى أنها لا توصف، كما لا يوصف المضمر؛ فكأنه اجتمع مضمر ومظهر؛ والأولى إذا اجتمعا أن يكون المضمر الاسم من حيث كان أذهب فى الاختصاص من المظهر. *** [خبر قيس بن زهير العبسى مع النّمر بن قاسط: ] حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن عثمان بن يحيى بن جنيقا الدقاق قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحد الحكيمىّ الكاتب قراءة عليه قال أملى علينا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوىّ ثعلب قال أخبرنا ابن الأعرابىّ قال قال ابن الكلبىّ: لمّا كان بعد يوم الهباءة جاور قيس ابن زهير النّمر بن قاسط فقال لهم: إنى/ قد جاورتكم واخترتكم، فزوّجونى امرأة قد أدّبها الغنى، وأذلّها الفقر، فى حسب وجمال؛ فزوّجوه ظبية بنت الكيّس النّمرىّ. وقال لهم: إنّ فىّ خلالا ثلاثا؛ إنى غيور، وإنى فخور، وإنى أنف، ولست أفخر حتى أبدأ، ولا أغار حتى أرى، ولا آنف حتى أظلم. فأقام فيهم حتى ولد له، فلما أراد الرحيل عنهم قال: إنى موصيكم بخصال، وناهيكم عن خصال؛ عليكم بالأناة، فإن بها تنال الفرصة، وتسويد من لا تعابون بتسويده، وعليكم بالوفاء؛ فإنّ به يعيش الناس، وبإعطاء من تريدون إعطاءه قبل المسألة، ومنع من تريدون ¬

_ (¬1) حاشية ت: «لا يجوز أن يكون اسم ليس وخبرها نكرتين؛ فلا أدرى كيف يتكافئان! ولعله يريد التكافؤ فى غير هذا الموضع». (¬2) ت: «الاسم».

منعه قبل الإلحاح، وإجارة الجار على الدهر، وتنفيس المنازل عن بيوت الأيامى (¬1)، وخلط الضّيف بالعيال؛ وأنهاكم عن الرّهان؛ فإنّ (¬2) به ثكلت مالكا أخى، والبغى، فإنّه قتل زهيرا أبى، وعن الإعطاء فى الفضول فتعجزوا عن الحقوق، وعن الإسراف فى الدّماء، فإنّ يوم الهباءة ألزمنى العار حقّه، ومنع (¬3) الحرم إلّا من الأكفاء؛ فإن لم تصيبوا لها (¬4) الأكفاء فإن خير مناكحها القبور، أو خير منازلها؛ واعلموا أنى كنت ظالما مظلوما؛ ظلمنى بنو بدر بقتلهم مالكا أخى، وظلمتهم بأن قتلت من لا ذنب له. قال سيدنا المرتضى أدام الله علوّه: أما قوله: «أنهاكم عن الرّهان» فأراد المراهنة فى سباق الخيل، وذلك أنّ قيس بن زهير راهن حذيفة بن بدر الفزارىّ على فرسيه: داحس والغبراء، وفرسى حذيفة: الخطّار والحنفاء- وقال بعض بنى فزارة: بل قرزل والحنفاء- وكان قيس كارها لذلك؛ وإنما هاجه بينهما بعض بنى عبد الله بن غطفان- وقيل: بل رجل من بنى عبس- والخبر فى شرح ذلك مشهور (¬5)؛ ثم وقع الاتفاق على السّباق، وجعلوا الغاية من واردات (¬6) إلى ذات الإصاد (¬7)، وجعلوا القصبة (¬8) فى يد رجل من بنى ثعلبة بن سعد، يقال له حصين، وبيد رجل من بنى العشراء من بنى فزارة، وملئوا البركة ماء، وجعلوا السابق أوّل الخيل يكرع فيها. ثم إن حذيفة بن بدر وقيس بن زهير أتيا المدى الّذي أرسلت الخيل منه (¬9) ينظران إليها وإلى خروجها؛ فلما أرسلت عارضاها، فقال حذيفة: خدعتك ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «اليتامى». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «فإنى». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «وعليكم بمنع الحرم». (¬4) حاشية ت (من نسخة): «لهن». (¬5) هو خبر الحرب المعروفة بحرب داحس والغبراء؛ وهى تشمل يوم المريقب، ويوم ذى حسا، ويوم اليعمرية، ويوم الهباءة، ويوم الفروق، ويوم قطن، ويوم غدير قلهى، وانظر تفصيل الخبر وما قيل فيه من الشعر فى (العقد 5: 150 - 160، والأغانى 16: 23 - 32، وسيرة ابن هشام 1: 306 - 308، وشرح ديوان الحماسة للتبريزى 1 - 397 - 398، 3: 34 - 42، وابن الأثير 1: 343 - 355، ومجمع الأمثال 2: 51 - 61، وسرح العيون 89 - 91 ومعجم البلدان- إصاد، هباءة، وشرح النقائض 83 - 108). (¬6) واردات: موضع عن يسار طريق مكة. (¬7) ذات الإصاد: ردهة فى ديار عبس. (¬8) حاشية ت (من نسخة): «القضية» وهو تحريف. (¬9) حاشية الأصل (من نسخة): «فيه».

خير يوم داحس والغبراء وتفسير ما ورد فى ذلك من الأمثال

يا قيس، فقال قيس: «ترك الخداع من أجرى من مائة»؛ يعنى من مائة غلوة، فأرسلها مثلا، ثم/ ركضا ساعة، فجعلت خيل حذيفة تتقدّم خيل قيس، فقال حذيفة: سبقت يا قيس؛ فقال قيس: «جرى المذكّيات غلاب»، فأرسلها مثلا- والمذكّيات: المسانّ من الخيل (¬1) - وروى: «غلاء» كما يتغالى (¬2) بالنّبل. ثم ركضا ساعة، فقال حذيفة: إنّك لا تركض مركضا، سبقت خيلك؛ فقال قيس: «رويد يعلون الجدد»، فأرسلها مثلا وروى: «يعدون الجدد»، أى يتعدّين الجدد إلى الوعث (¬3). [خير يوم داحس والغبراء وتفسير ما ورد فى ذلك من الأمثال: ] وقد كان بنو فزارة أكمنوا بالثّنيّة كمينا لينظروا؛ فإن جاء داحس سابقا أمسكوه وصدّوه عن الغاية؛ فجاء داحس سابقا، فأمسكوه، ولم يعرفوا الغبراء وهى خلفه مصلّية حتى مضت الخيل، وأسهلت من الثّنيّة، ثم أرسلوه فتمطّر (¬4) فى آثارها، فجعل يبدرها (¬5) فرسا فرسا، حتى انتهى إلى الغاية مصلّيا (¬6)، وقد طرح الخيل غير الغبراء، ولو تباعدت الغاية سبقها (¬7). فاستقبلتها بنو فزارة فلطموها، ثم حلّئوها (¬8) عن البركة، ثم لطموا داحسا، وقد جاءا متواليين، ثم جاء حذيفة وقيس فى آخر الناس، وقد دفعتهم بنو فزارة عن سبقهم، ولطموا فرسيهم (¬9)، وجرى من الخلف فى أخذ السبق ما قد شرحته الرواة. وقد قيل فى بعض الروايات: إن الرهان والسّبق (¬10) كان بين حمل بن بدر وبين قيس، وفى ذلك يقول قيس: ¬

_ (¬1) أى أن المذكى يغالب مجاريه فيغلبه لقوته، وفى مجمع الأمثال (1: 144): «يجوز أن يراد أن ثانى جريه أبدا أكثر من باديه وثالثه أكثر من ثانيه؛ فكأنه يغالب بالثانى الأول وبالثالث الثانى؛ فجريه أيدا غلاب». (¬2) حاشية الأصل: «المعالاة: الرمى فى الهواء». (¬3) الجدد: الأرض الصلبة، والوعث: السهلة. (¬4) يقال: تمطرت الخيل إذا ذهبت مسرعة. (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «يندرها»، أى يسقطها. (¬6) المصلى من الخيل: التالى للسابق. (¬7) ت: «لسبقها». (¬8) حلئوها عن البركة؛ أى منعوها من ورد الماء. (¬9) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «فرسيهما». (¬10) ش، ونسخة بحاشية الأصل: «السباق».

كما لاقيت من حمل بن بدر … وإخوته على ذات الإصاد هم فخروا عليّ بغير فخر … وردّوا دون غايته جوادى وقد دلفوا إلى بفعل سوء … فألفونى لهم صعب القياد (¬1) وكنت إذا منيت بخصم سوء … دلفت له بداهية نآد (¬2) ثم إن قيسا أغار على عوف بن بدر فقتله وأخذ إبله، فبلغ ذلك بنى فزارة فهمّوا بالقتال، فحمل الربيع بن زياد العبسىّ دية عوف، مائة عشراء متلية (¬3). ويقال إن قيسا قتل ابنا لحذيفة، يقال له مالك، وأن حذيفة كان أرسله إليه يطلب منه السّبق (¬4)، فطعنه فدقّ صلبه، وإن الربيع بن زياد حمل ديته مائة عشراء، فسكن الناس عن القتال. ثم إن مالك بن زهير نزل موضعا يقال له اللّقّاطة (¬5) / قريبا من الحاجر، ونكح امرأة يقال لها مليكة بنت حارثة، من بنى غراب من فزارة، فبلغ ذلك حذيفة بن بدر، فدسّ إليه فرسانا فقتلوه، وكان الربيع بن زياد العبسىّ مجاورا لحذيفة بن بدر، وكانت تحت الربيع معاذة بنت بدر، فلما وقف على الخبر قال: نام الخلىّ وما أغمّض (¬6) حار … من سيّئ النّبإ الجليل السّارى من مثله تمسى النّساء حواسرا … وتقوم معولة مع الأسحار (¬7) ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «الدلوف: تقارب الخطو؛ مثل مشى الشيوخ؛ ولا يستعمل إلا فى الذم». (¬2) نآد: صعبة. (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف: «العشراء: الناقة التى يأتى على حملها عشرة أشهر؛ فتكون أقوى بولدها؛ وجمعها: عشار. ومتلية؛ أى تتلوها أولادها». (¬4) السبق: المال المخاطر عليه. (¬5) اللّقّاطة: موضع قريب من الحاجر؛ من منازل بنى فزارة ذكره ياقوت؛ وقال إنه قتل فيه مالك بن زهير. (¬6) رواية الحماسة: «لم أغمض»، والغماض: النوم بعينه. (¬7) م: «تمشى»؛ قال التبريزى: «وتمسى أجود؛ لأن طبقه: «وتقوم معولة مع الأسحار»، فكأنه قال: «تمسى حواسر وتصبح بواكى»، «وحواسرا»؛ أى يأتى عليهن المساء وقد طرحن خمرهن؛ فعل النساء يصبن بكبار قومهن.

مقتل زهير بن جذيمة العبسى

من كان مسرورا بمقتل مالك … فليأت نسوتنا بوجه نهار (¬1) يجد النّساء حواسرا يندبنه … يضربن أوجههنّ بالأحجار (¬2) قد كنّ يخبأن الوجوه تستّرا … فاليوم حين بدون للنّظّار (¬3) أفبعد مقتل مالك بن زهير … ترجو النّساء عواقب الأطهار (¬4) ما إن أرى فى قتله لذوى الحجى … إلّا المطىّ تشدّ بالأكوار (¬5) ومجنّبات ما يذقن عذوفة … يقذفن بالمهرات والأمهار (¬6) ومساعرا صدأ الحديد عليهم … فكأنّما طلى الوجوه بقار (¬7) *** [مقتل زهير بن جذيمة العبسىّ: ] فأما مقتل زهير بن جذيمة العبسىّ أبى قيس، فاختلفت الرواة فى سببه، فيقال إن هوازن ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «نقد عليه ذكر الإتيان مع النسوة»؛ ورواية المرزوقى فى الحماسة: «فليأت ساحتنا»، قال: وأكثر من رأيناه يروى: «فليأت نسوتنا»؛ ورأيت الأستاذ الرئيس أبا الفضل بن العميد يقول: إنى لأتعجب من أبى تمام مع تكلفه رم جوانب ما يختاره من الأبيات، وغسله من درن الألفاظ، كيف ترك تأمل قوله: «فليأت نسوتنا»؛ وهذه لفظة شنيعة»: ووجه النهار: صدره. (¬2) ت: «بالأسحار»، وهى رواية الحماسة، وفى ونسخة بحاشية الأصل: «بالأسيار». (¬3) ف، ونسخة بحاشيتى الأصل، ت: «برزن»؛ وهى رواية الحماسة. ت: «قد أبرزن». (¬4) المراد بعواقب الأطهار مراجعة الأزواج إلى أزواجهن بعقب أطهارهن؛ وفى حواشى الأصل، ت، ف، تعليقا على قوله: «زهير»، بإسكان الياء: «جعل عروض الضرب الثانى من الكامل مقطوعة، وردها من متفاعلن إلى فعلاتن»؛ وهذا الحذف يسميه المتأخرون القطع، وسماه الخليل الإقعاد؛ وسماه ابن قتيبة الإقواء؛ لأنه نقص من عروضه قوة، (وانظر العمدة 1: 94، والشعر والشعراء 43، وشروح سقط الزند 1146). (¬5) رواية الحماسة- بشرح التبريزى: «لذوى النهى». وتشد بالأكوار، أى تشد عليها الأكوار. (¬6) المجنبات هنا: الخيل تجنب إلى الإبل فى الغزو. والعذوف والعذوفة أدنى ما يؤكل، ورواية الحماسة: «عذوفا»، والمهرات: جمع مهرة؛ قال التبريزى فى معنى البيتين: «ما أرى فى قتل مالك بن زهير رأيا لذوى العقول؛ إلا أن تركب الإبل وتجنب الخيل، ويسار بها سيرا عنيفا؛ حتى ترمى أجنتها، فتبلغ بنا إلى عدونا، فنغير عليهم، ونسفك دماءهم». (¬7) المساعر: جمع مسعر، والمسعر: هو الشجاع؛ كأنه آلة فى إسعار الحرب وإيقادها؛ وصدأ الحديد آت من اتصالهم بالدروع ولبسها.

ابن منصور كانت تؤتى الإتاوة زهير بن جذيمة، ولم تكثر عامر بن صعصعة بعد، فهم أذلّ من يد فى رحم، فأتت عجوز من هوازن زهير بن جذيمة بسمن فى نحى، واعتذرت إليه، وشكت السنين اللّواتى تتابعت على الناس، فذاقه فلم يرض طعمه، فدعّها- أى دفعها- بقوس فى يده عطل (¬1)، فى صدرها، فسقطت فبدت عورتها، فغضبت من ذلك هوازن، وحقدته إلى ما كان فى صدرها (¬2) من الغيظ، وكانت يومئذ قد أمرت بنو عامر بن صعصعة- أى كثرت- فآلى جعفر بن كلاب فقال: والله لأجعلنّ ذراعى هذه وراء عنقه (¬3) حتى أقتل أو يقتل (¬4)؛ وفى ذلك يقول خالد بن جعفر: أريغونى إراغتكم فإنى … وحذفة كالشجى تحت الوريد (¬5) / مقرّبة أواسيها بنفسى … وألحفها ردائى فى الجليد لعلّ الله يمكننى عليها … جهارا من زهير أو أسيد فإمّا تثقفونى فاقتلونى … فمن أثقف فليس إلى خلود (¬6) ويقال بل كان السبب فى ذلك أن زهير بن جذيمة لما قتل فى غنىّ من قتل بابنه شأس وافى عكاظ، فلقيه خالد بن جعفر بن كلاب- وكان حدثا- فقال: يا زهير، أما آن لك أن تشتفى وتكف! - يعنى مما قتل بشاس- فأغلظ له زهير وحقره، فقال خالد: اللهم أمكن يدى هذه الشعراء القصيرة من عنق زهير بن جذيمة، ثم أعنّي عليه، فقال زهير: اللهم أمكن يدى هذه البيضاء (¬7) الطويلة من عنق خالد، ثم خلّ بيننا، فقالت قريش: هلكت ¬

_ (¬1) قوس عطل: لا وتر عليها. (¬2) حاشية ت (من نسخة): «صدورها». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «من وراء». (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «أو أقتله». (¬5) أريغونى؛ أى اطلبوا إلى، والشجا: ما اعترض فى الحلق من عظم وغيره وفى حاشيتى ت، ف: «حذفة: اسم فرس خالد؛ وذكره الجوهرى فى صحاح اللغة، ويتخبل للناظر فيه أن يكون معنى حذفة حذيفة بن بدر وقوله: «كالشجى تحت الوريد» شبه نفسه بالشجا، وجعل حذفة كالوريد؛ و «مقربة» فى البيت الثانى مفعول «اريغونى» فرسا مقربة، والله أعلم». (¬6) إما تثقفونى؛ أى إما تصادفونى؛ وفى اللسان: ثقفته ثقفا؛ أى صادفته؛ وأنشد: فإمّا تثقفونى فاقتلونى … فإن أثقف فسوف ترون بالى. (¬7) ت: «الشماء».

والله يا زهير، قال: أنتم والله الذين لا علم لهم. ثم أجمع خالد بن جعفر على قصد زهير وقتله. واتّفق نزول زهير بالقرب من أرض بنى عامر، وكانت تماضر بنت عمرو بن الشّريد امرأة زهير بن جذيمة وأم ولده، فمرّ به أخوها الحارث بن عمرو بن الشريد، فقال زهير لبنيه: إنّ هذا الحمار لطليعة عليكم فأوثقوه، فقالت أخته لبنيها: أيزوركم خالكم فتوثقونه؟ وقالت تماضر لأخيها الحارث بن عمرو بن الشريد: إنه (¬1) ليريبنى اكبئنانك وقروتك- والاكبئنان الغمّ، والقروت (¬2) السكوت- فلا يأخذنّ فيك ما قال زهير، فإنه رجل بيذارة غيذارة شنوءة. - قال الأثرم: البيذارة: الكثير الكلام، والعيذان: السّيئ الخلق- ثم حلبوا له وطبا، وأخذوا عليه يمينا ألّا يجير (¬3) عليهم، ولا ينذر بهم أحدا؛ فخرج الحارث حتى أتى بنى عامر، فقعد إلى شجرة يجتمع إليها بنو عامر، وألقى الوطب تحتها والقوم ينظرون، ثم قال: أيتها الشجرة الذليلة، اشربى من هذا اللبن، وانظرى ما طعمه. فقال قوم: هذا رجل مأخوذ عليه، وهو يخبركم خبرا، فذاقوا اللبن فإذا هو حلو لم يقرص بعد، فقالوا: إنه يخبرنا أن مطلبنا قريب، فركب خالد بن جعفر بن كلاب ومعه جماعة، وكان راكبا فرسه حذفة، فلقوا زهيرا، فاعتنق خالد زهيرا، وخرّا عن فرسيهما، ووقع خالد فوق زهير ونادى: يا بنى عامر، اقتلوني والرجل، واستغاث زهير ببنيه، فأقبل إليه ورقاء بن زهير يشدّ (¬4) بسيفه، فضرب خالدا ثلاث ضربات، فلم تغن شيئا، وكان على خالد درعان قد ظاهر بينهما، ثم ضرب حندج رأس زهير فقتله، ففى ذلك يقول ورقاء بن زهير: رأيت زهيرا تحت كلكل خالد … فأقبلت أسعى كالعجول أبادر (¬5) [إلى بطلين ينهضان كلاهما … يريدان نصل السّيف والسيف داثر] (¬6) ¬

_ (¬1) ت: «إنى». (¬2) حواشى الأصل، ت، ف: «قرت الدم يقرت قروتا إذا مات تحت الجلد؛ وقرت إذا تغير من حزن يصيبه، والقروت: السكون». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «ألا يخبر عنهم». (¬4) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): «يشدّ». (¬5) العجول من النساء والإبل: الواله التى فقدت ولدها. (¬6) تكملة من ت، والأغانى، والعقد.

خبر يوم الهباءة

فشلّت يمينى يوم أضرب خالدا … ويستره منّى الحديد المظاهر (¬1) فيا ليت أنى قبل (¬2) ضربة خالد … ويوم زهير لم تلدنى تماضر! *** [خبر يوم الهباءة: ] فأما خبر الهباءة فإن بنى عبس وبنى فزارة لما التقوا إلى جنب جفر الهباءة (¬3) فى يوم قائظ، فاقتتلوا- ولخبرهم شرح طويل معروف- استجار حذيفة ومن معه بجفر الهباءة ليتبرد (¬4) فيه، فهجم عليه القوم، فقال حذيفة يا بنى عبس، فأين العود (¬5)؟ وأين الأحلام؟ فضرب حمل بن بدر بين كنفيه وقال: «اتق مأثور القول بعد اليوم»، فأرسلها مثلا، وقتل قرواش ابن هىّ حذيفة بن بدر، وقتل الحارث بن زهير حملا، وأخذ منه ذا النون، سيف مالك بن زهير أخيه، وكان حمل بن بدر أخذه من مالك بن زهير يوم قتل، فقال قيس فى ذلك: تعلّم أنّ خير النّاس ميت … على جفر الهباءة لا بريم ولولا ظلمه ما زلت أبكى … عليه الدهر ما طلع النّجوم ولكنّ الفتى حمل بن بدر … بغى والبغى مرتعه وخيم (¬6) أظنّ الحلم دلّ عليّ قومى … وقد يستجهل الرّجل الحليم ومارست الرّجال ومارسونى … فمعوجّ عليّ ومستقيم وقال قيس أيضا: شفيت النفس من حمل بن بدر … وسيفى من حذيفة قد شفانى فإن أك قد بردت بهم غليلى … فلم أقطع بهم إلّا بنانى (¬7) ¬

_ (¬1) العقد، ونسخة بحواشى الأصل، ت، ف، : «ويمنعه». ويراد بالحديد هنا الدرع؛ ويقال: ظاهر الدرع؛ إذا لأم بعضها على بعض. (¬2) حاشية ت (من نسخة): «يوم ضربة خالد». (¬3) الهباءة: أرض فى بلاد عطفان؛ وجفر الهباءة: مستنقع فيها. (¬4) حاشية ت (من نسخة): «ليبترد». (¬5) حاشية الأصل: «يقال سودد عود، أى قديم». (¬6) حاشية الأصل (من نسخة): «مصرعه خيم». (¬7) حاشية ت من نسخة: «شفيت بهم»، وروى ياقوت بعد هذا البيت: فلا كانت الغبراء ولا كان داحس … ولا كان ذاك اليوم يوم دهانى.

15

15 مجلس آخر [المجلس الخامس عشر: ] تأويل آية [: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ ... ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً/ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ؛ [البقرة: 171]. فقال: أىّ وجه لتشبيه الذين كفروا بالصائح (¬1) بالغنم، والكلام يدلّ على ذمّهم ووصفهم بالغفلة وقلّة التأمل والتمييز، والنّاعق بالغنم قد يكون مميّزا متأمّلا محصّلا؟ يقال له فى هذه الآية خمسة أجوبة: أولها أن يكون المعنى: مثل واعظ الذين كفروا والداعى لهم إلى الإيمان والطاعة كمثل الراعى الّذي ينعق بالغنم وهى لا تعقل معنى دعائه، وإنما تسمع صوته ولا تفهم غرضه؛ والذين كفروا بهذه الصّفة لأنهم يسمعون وعظ النبي صلى الله عليه وآله ودعاءه وإنذاره فينصرفون (¬2) عن قبول ذلك، ويعرضون عن تأمّله، فيكونون بمنزلة من لم يعقله ولم يفهمه؛ لاشتراكهما فى عدم الانتفاع به. وجائز أن يقوم قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا مقام الواعظ والداعى لهم؛ كما تقول العرب: فلان يخافك خوف الأسد؛ والمعنى كخوفه (¬3) الأسد، فأضاف الخوف إلى الأسد وهو فى المعنى مضاف إلى الرجل، قال الشاعر: فلست مسلّما ما دمت حيّا … على زيد بتسليم الأمير أراد بتسليمى على الأمير، ونظائر ذلك كثيرة. والجواب الثانى أن يكون المعنى: ومثل الذين كفروا كمثل الغنم التى لا تفهم نداء الناعق، فأضاف الله تعالى المثل الثانى إلى الناعق؛ وهو فى المعنى مضاف إلى المنعوق به، ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «الناعق»، وفى ت: «الصائح: الناعق». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «فيضربون». (¬3) م: «كخوفه من الأسد».

على مذهب العرب فى قولها: طلعت الشّعرى، وانتصب العود على الحرباء (¬1)، والمعنى وانتصب الحرباء على العود؛ وجاز التقديم والتأخير لوضوح المعنى؛ وأنشد الفرّاء: إنّ سراجا لكريم مفخره … تحلى به العين إذا ما تجهره (¬2) معناه يحلى بالعين؛ فقدّم وأخّر. وأنشد الفراء أيضا: كانت فريضة ما تقول كما … كان الزّنا فريضة الرّجم المعنى كما كان الرّجم فريضة الزنا، وأنشد أيضا: وقد خفت حتّى ما تزيد مخافتى … على وعل فى ذى المطارة عاقل (¬3) / أراد ما تزيد مخافة وعل على مخافتى، ومثله: * كأنّ لون أرضه سماؤه (¬4) * أراد كأنّ لون سمائه أرضه، ومثله: ترى الثّور فيها مدخل الظّلّ رأسه … وسائره باد إلى الشّمس أجمع (¬5) أراد مدخل رأسه الظلّ، وقال الراعى: فصبّحته كلاب الغوث يؤسدها … مستوضحون يرون العين كالأثر (¬6) يريد أنهم يرون الأثر كالعين؛ وقال أبو النجم: ¬

_ (¬1) الحرباء: حيوان كالعضاءة؛ يدور مع الشمس. (¬2) يقال حلى فلان بعينى وفى عينى إذا أعجبك؛ والبيتان فى اللسان (حلا)، وفى م: «تجلى»، تصحيف. (¬3) البيت للنابغة، وقد مر ذكره ص 202، وانظر ما سبق فى تفسيره. (¬4) الرجز لرؤبة، وقبله: * ومهمه مغبرة أرجاؤه*. (¬5) البيت من شواهد (الكتاب 1: 92)؛ قال الأعلم: «الشاهد فيه إضافة مدخل إلى الظل، ونصب الرأس به على الاتساع والقلب، وكان الوجه أن يقول: مدخل رأسه الظل؛ لأن الرأس هو الداخل فى الظل، والظل المدخل فيه؛ وهو وصف هاجرة قد ألجأت النيران إلى كنسها، فترى الثور مدخلا لرأسه فى ظل كناسه لما يجد من شدة الحر، وسائره بارز للشمس». (¬6) يذكر ثورا، والغوث: قبيلة من طيئ، ويوسدها: يغريها؛ ومستوضحون: صيادون ينظرون: هل يرون شيئا؛ يقال استوضح الرجل، إذا نظر ليرى شبحا أو أثرا، يريد أن أثر الصيد عندهم إذا رآه يكون بمنزلة الصيد نفسه لا يخفى عليهم. (وانظر معانى الشعر لابن قتيبة 742، 1193).

* قبل دنوّ الأفق من جوزائه* فقلب، وقال العباس بن مرداس: فديت بنفسه نفسى ومالى … ولا آلوه إلّا ما يطيق أراد فديت بنفسى نفسه، وقال ابن مقبل: ولا تهيّبنى الموماة أركبها … إذا تجاوبت الأصداء بالسّحر (¬1) أراد لا أتهيّب الموماة؛ وهذا كثير جدّا (¬2). والجواب الثالث أن يكون المعنى: ومثل الذين كفروا ومثلنا، أو مثلهم ومثلك يا محمد كمثل الّذي ينعق؛ أى مثلهم فى الإعراض ومثلنا (¬3) فى الدعاء والتنبيه والإرشاد كمثل الناعق بالغنم، فحذف المثل الثانى اكتفاء بالأول؛ ومثله قوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ؛ [النحل: 81]، أراد الحر والبرد، فاكتفى بذكر الحر من البرد، وقال أبو ذؤيب: عصيت إليها القلب إنى لأمرها … مطيع فما أدرى أرشد طلابها (¬4) أراد أرشد أم غىّ، فاكتفى بذكر الرشد لوضوح الأمر. والجواب الرابع أن يكون المراد: ومثل الذين كفروا فى دعائهم للأصنام التى يعبدونها من دون الله وهى لا تعقل ولا تفهم، ولا تضرّ ولا تنفع كمثل الّذي ينعق دعاء ونداء بما ¬

_ (¬1) معانى ابن قتيبة 1264، واللسان- هيب؛ يقال: تهببنى الشيء بمعنى تهببته أنا؛ كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت. والموماة: المفازة؛ والأصداء: جمع صدى؛ وهو البوم. (¬2) حاشية ت: «ومن المقلوب قوله تعالى: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ، وإنما هو: تنوء العصبة بها، وقوله سبحانه: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ؛ يريد مخلف رسله وعده؛ وإنما جرى القلب فى كلام العرب اتساعا فى الظاهر؛ لأن المعنى فيه لا يشكل». (¬3) د، حاشية ت (من نسخة): «ومثلك». (¬4) ديوان الهذليين 1: 71؛ والرواية فيه: عصانى إليها القلب إنّى لأمره … سميع فما أدرى أرشد طلابها.

لا يسمع صوته جملة، والدعاء والنداء على هذا الجواب ينتصبان بينعق، وإلّا توكيد للكلام؛ ومعناها الإلغاء؛ قال الفرزدق: / هم القوم إلّا حيث سلّوا سيوفهم … وضحّوا بلحم من محلّ ومحرم (¬1) والمعنى: هم القوم حيث سلّوا سيوفهم. والجواب الخامس أن يكون المعنى: ومثل الذين كفروا فى دعائهم الأصنام (¬2) وعبادتهم لها واسترزاقهم إياها كمثل الرّاعى الّذي ينعق بالغنم ويناديها؛ فهى تسمع دعاءه ونداءه ولا تفهم معنى كلامه، فشبّه من يدعوه الكفار من المعبودات دون الله جلّ اسمه بالغنم، من حيث لا تعقل الخطاب ولا تفهمه، ولا نفع عندها فيه ولا مضرّة. وهذا الجواب يقارب الّذي قبله، وإن كانت بينهما مزيّة ظاهرة؛ لأن الأول يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع الدعاء ولا النداء جملة، ويجب أن يكون مصروفا إلى غير الغنم وما أشبهها مما يسمع وإن لم يفهم. وهذا الجواب يقتضي ضرب المثل بما يسمع الدعاء والنداء وإن لم يفهمهما، والأصنام من حيث كانت لا تسمع النداء (¬3) جملة يجب أن يكون داعيها ومناديها أسوأ حالا من منادى الغنم. ويصحّ أن يصرف إلى الغنم وما أشبهها مما يشارك فى السماع، ويخالف فى الفهم والتمييز. وقد اختلف الناس فى يَنْعِقُ فقال أكثرهم: لا يقال نعق ينعق إلّا فى الصيّاح بالغنم وحدها؛ وقال بعضهم نعق ينعق بالغنم والإبل والبقر؛ والأول أظهر فى كلام العرب؛ قال الأخطل: فانعق بضأنك يا جرير فإنّما … منّتك نفسك فى الخلاء ضلالا (¬4) ¬

_ (¬1) ديوانه 2: 760، وفى ت، ونسخة بحاشيتى الأصل، ف: «حين»، وفى حاشية الأصل أيضا: «نظير هذا فى مورد «إلا» للتوكيد دون الاستثناء قولهم: «أسألك إلا غفرت لى». (¬2) م: «للأصنام». (¬3) ت: «الدعاء والداء»، ف: «الدعاء». (¬4) ديوانه: 50.

تأويل خبر خبر النبي عليه السلام حين دعى إلى مأدبة ومعه الحسين وهو صبى، وتأويل ما ورد من الغريب فى ذلك

ويقال أيضا: نعق الغراب ونغق؛ بالغين المعجمة؛ إذا صلح من غير أن يمدّ عنقه ويحركها؛ فإذا مدها وحرّكها ثم صاح قيل: نعب، ويقال أيضا: نعب الفرس ينعب وينعب نعبا ونعيبا ونعبانا، وهو صوته؛ ويقال: فرس منعب، أى جواد، وناقة نعّابة؛ إذا كانت سريعة. تأويل خبر [خبر النبي عليه السلام حين دعى إلى مأدبة ومعه الحسين وهو صبى، وتأويل ما ورد من الغريب فى ذلك: ] روى أن النبي صلى الله عليه وآله خرج مع أصحابه إلى طعام دعوا إليه (¬1)؛ فإذا (¬2) بالحسين عليه السلام، وهو صبىّ يلعب مع صبية فى السّكّة، فاستنتل رسول الله صلى الله عليه وآله أمام القوم، فطفق الصبىّ يفرّ مرّة هاهنا، ومرّة هاهنا، ورسول الله صلى الله عليه وآله يضاحكه، [ثم أخذه] (¬3)، فجعل إحدى يديه تحت ذقنه، والأخرى/ تحت فأس رأسه، وأقنعه فقبّله، وقال: «أنا من حسين وحسين منّى، أحبّ الله من أحبّ حسينا، حسين سبط من الأسباط». قال الشريف أدام الله علوّه: معنى استنتل تقدّم، يقال: استنتل الرجل استنتالا، وابرنتى ابرنتاء (¬4)، وابرنذع ابرنذاعا؛ إذا تقدم، هكذا ذكره ابن الأنبارىّ. ووجدت بعض المتقدمين فى علم اللغة يحكى فى كتاب له قال: تقول: استنتلت الأمر استنتالا إذا استعددت له، واستنتل الرجل تفرّد من القوم، ويقال: استنتل أشرف. والمعانى تتقارب، والخبر يليق بكل واحد منها. وحكى هذا الرجل الّذي ذكرناه فى كتابه فى ابرنثأ وابرنذع أيضا أنه من الاستعداد. فأما السّكة، فهى المنازل المصطفّة، والنخل المصطف. ¬

_ (¬1) ت، د: «له». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «تقول خرجت فإذا زيد على الطريق؛ إذا بمعنى الوقت؛ والتقدير: خرجت والوقت وقت حضور زيد على الطريق؛ وكذلك أكرمك إذ أنت صديقى؛ ليست إذ لما مضى من الزمان؛ بل هى تعليلية، والتقدير: أكرمك لأنك صديقى». (¬3) ساقط من م. (¬4) ص: «ابرنثأ».

من كلام ابنة الخس وتأويل ما ورد فى ذلك من الغريب

ومعنى طفق ما زال، قال الشاعر: طفقت تبكى وأسعدها … فكلانا ظاهر الكمد (¬1) وفأس الرأس: طرف القمحدوة (¬2) المشرف على القفا. ومعنى «أقنعه» رفعه، هكذا ذكر ابن الأنبارىّ. وقال غيره: يقال أقنع ظهره إقناعا إذا طأطأه ثم رفعه برفق. فأما الأسباط فأصلها فى ولد إسحاق عليه السلام كالقبائل فى بنى إسماعيل عليه السلام؛ وقال ابن الأنبارىّ: هم الصّبية والصّبوة، بالياء والواو معا. *** [من كلام ابنة الخسّ وتأويل ما ورد فى ذلك من الغريب: ] حدثنا أبو القاسم عبد الله بن عثمان بن يحيى بن جنيقا قال أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن أحمد الحكيمىّ قراءة عليه قال أملى علينا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال أخبرنا ابن الأعرابىّ أنه قيل لابنة الخسّ: ما مائة من المعز؟ قالت: «مويل يشفّ الفقر من ورائه، مال الضعيف، وحرفة العاجز». قيل لها: فما مائة من الضأن؟ قالت: «قرية لا حمى بها». قيل: فما مائة من الإبل؟ قالت: «بخّ (¬3)! جمال ومال، ومنى الرجال»، قيل لها: فما مائة من الخيل؟ قالت: «طغى عند من كانت، ولا توجد». قيل: فما مائة من الحمر؟ قالت: «عازبة الليل، وخزي المجلس، لا لبن فيحلب، ولا صوف فيجزّ (¬4)، إن ربط عير هادلّى (¬5)، وإن أرسل ولى (¬6)». وبهذا الإسناد عن ابن الأعرابىّ قال: قيل لابنة الخسّ- والخصّ والخسف، قال: كل ذلك يقال-: ما أحسن شيء؟ قالت: «غادية، فى أثر سارية، فى نبخاء قاوية» - قال: / نبخاء: أرض مرتفعة، لأن النبات فى موضع مشرف أحسن- وقالوا أيضا: «نفخاء»، أى رابية، ¬

_ (¬1) ت: «الجلد». (¬2) القمحدوة: الهنة الناشرة فوق القفا وأعلى القذال خلف الأذنين. (¬3) «ت، ج: «بخ بخ»، بتنوين الخاء. (¬4) د: «فيجز». (¬5) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «أدلى». (¬6) ت: «وإن أرسلته»، والخبر فى المزهر 2: 545.

ليس بها رمل ولا حجارة، قال: والجمع النّفاخى (¬1)، ونبت الرابية أحسن من نبت الأودية، لأن السيل يصرع الشجر فيقذفه فى الأودية، ثم يلقى عليه الدّمن (¬2). قال الشريف أدام الله علوّه: ومما يدل أن نبت الرابية أحسن قول الأعشى: ما روضة من رياض الحزن معشبة … خضراء جاد عليها مسبل هطل (¬3) وقال كثيّر: فما روضة بالحزن طيّبة الثرى … يمجّ النّدى جثجاثها وعرارها (¬4) ¬

_ (¬1) فى حاشيتى ت، ف: «قال الجوهرى: النبخاء: الأكمة، والنفخاء من الأرض مثل النبخاء، وأقوت الدار وقويت؛ أى خلت». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «الدمن: جمع دمنة؛ وهو ما يتلبد من التراب والقش وكسار العيدان؛ والخبر فى (مجالس ثعلب 343، والمخصص 10: 143، واللسان- نبخ، نفخ). (¬3) حواشى الأصل، ت، ف: «بعده: يضاحك الشمس منها كوكب شرق … مؤزّر بعميم النّبت مكتهل يوما بأطيب منها نشر رائحة … ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل - كوكب الشيء: معظمه، والنبت إذا عم وكثر قيل اكتهل، وقوله: «إذا دنا الأصل»، يعنى أن الزهر إذا كان فى الأصيل كان أحسن للبعد عن برد الغداة». والأبيات فى ديوانه: 43. (¬4) حواشى الأصل، ت، ف: «الجثجاث والعرار: نبتان، وبعده: بأطيب من أردان عزّة موهنا … وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها وللبيتين قصة؛ وهى أن كثيرا أقبل ذات وم راكبا، فاعترضت له فى الطريق عجوز قد أوقدت فى روثة، فتضجر عليها كثير، وتأفف فى وجهها؛ فقالت: أنت القائل: فما روضة بالحزن طيّبة الثّرى … يمجّ النّدى جثجاثها وعرارها بأطيب من أردان عزّة موهنا … وقد أوقدت بالمندل الرّطب نارها قال: نعم؛ قالت: والله لو أوقد بالمندل على هذه الروثة لطابت! هلا قلت كما قال سيدك ومولاك امرؤ القيس: ألم تريانى كلّما جئت طارقا … وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب! فانكسر كثير وخجل. وقيل إنه أعطاها مطرفا كان معه وقال: «استريه على»؛ (وانظر ديوان امرئ القيس 73، وديوان كثير 1: 93).

تأويل قول العرب: "جاءنا بطعام لا ينادى وليده"

فخصّا الحزن للمعنى الّذي ذكرنا. *** [تأويل قول العرب: «جاءنا بطعام لا ينادى وليده»: ] وبهذا الإسناد عن ابن الأعرابىّ قال: العرب تقول جاءنا بطعام لا ينادى وليده؛ إذا جاء بطعام كثير لا يراد فيه زيادة، ووقع فى أمر لا ينادى وليده؛ يقول لا يدعى إليه الصبيان، ولا يستعان إلا بكبار الرجال فيه. قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوه: وفى ذلك قولان آخران؛ أحدهما عن الأصمعىّ قال: أصله من الشدة تصيب القوم حتى تذهل المرأة عن ولدها فلا تناديه لما هى فيه، ثم صار مثلا لكل شدة، ولكل أمر عظيم. والقول الآخر عن الكلابىّ قال: أصله من الكثرة والسّعة، فإذا أهوى الوليد إلى شيء لم يزجر عنه حذر الإفساد، لسعة ما هم فيه، ثم صار مثلا لكل كثرة؛ قال الفرّاء: وهذا القول يستعان به فى كل موضع يراد به الغاية، وأنشد: لقد شرعت كفّا يزيد بن مزيد … شرائع جود لا ينادى وليدها *** [أخبار معن بن زائدة: ] وبالإسناد الّذي تقدم عن ابن الأعرابىّ قال: دخل ودفة (¬1) الأسدىّ على معن بن زائدة الشّيبانىّ فقال: إن رأيت أكرمك الله أن تضعنى من نفسك بحيث وضعت نفسى من رجائك؛ فإنك قد بلغت حالا لو أعتقنى الله فيها بكرمك من تنصّف (¬2) الرجال بعدك لم يكن كثيرا، وإنّى قد قدّمت الرجاء، وأحسنت الثناء، ولزمت الحفاظ، ثم أنشأ يقول: يا معن إنك لم تنعم على أحد … فشاب نعماك تنغيص ولا كدر / فانظر إلى بطرف غير ذى مرض … فربّما صحّ لى من طرفك النّظر أيّام وجهك لى طلق يخبّرنى … إذا سكتّ بما تخفى وتضطمر ومن هواك شفيع ليس يغفلنى … وإن نأيت وإن قلّت بى الذّكر ¬

_ (¬1) ودفة؛ بالفاء، وضبط فى الأصل، ت بفتح الدال وإسكانها معا. (¬2) حاشية ت، ف: «التنصف: الخدمة؛ يقال تنصفه إذا خدمه، والنصيف: الخادم».

قد كنت أثّرت عندى مرّة أثرا … فقد تقارب يعفو ذلك الأثر فاجبر بفضلك عظما كنت تجبره … واجمع بفعلك ما قد كاد ينتشر (¬1) ما نازع العسر فىّ اليسر مذ علقت … كفّى بحبلك إلّا ظفّر اليسر وقد خشيت وهذا الدّهر ذو غير … بأن يدال لطول الجفوة العسر (¬2) وأيّما (¬3) كان من عسر وميسرة … فإنّ حظّك فيه الحمد والشّكر فقال معن: أوما كنّا أعطيناك شيئا؟ قال: لا، قال: أمّا الذهب والفضّة فليسا عندنا، ولكن هات تختا (¬4) من ثيابى يا غلام؛ فدفعه إليه، وقد كان تحمّل عليه (¬5) بابن عيّاش وحبيب بن بديل، فأعطاهما معه تختين، وقال: غرّمتنى يا ودفة تختى ثياب! . قال سيدنا الشريف أدام الله علوّه: وكان معن بن زائدة جوادا شجاعا شاعرا، ويكنّى أبا الوليد، وهو معن بن زائدة بن عبد الله بن زائدة بن مطر بن شريك بن عمرو بن مطر، وهو أخو الحوفزان بن شريك، وكان معن من أصحاب ابن هبيرة (¬6)، فلما قتل رثاه معن فقال: ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط … عليك بجارى دمعها لجمود (¬7) عشيّة قام النائحات وشقّقت … جيوب بأيدى مأتم وخدود (¬8) فإن تمس [مهجور الفناء فطالما] (¬9) … أقام به بعد الوفود وفود فإنك لم تبعد على متعهّد … بلى كلّ من تحت التّراب بعيد (¬10) ¬

_ (¬1) ت: «بفضلك». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «بطول الجفوة». (¬3) م: «وإن ما». (¬4) التخت: وعاء تصان فيه الثياب: . (¬5) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «إليه»، وتحمل إليه؛ أى تشفع. (¬6) حواشى الأصل، ت ف: «قتل ابن هبيرة السفاح». (¬7) حواشى الأصل، ت، ف: «روى أبو تمام هذه القطعة فى الحماسة لأبى عطاء السندى». (وانظر ديوان الحماسة- بشرح التبريزى 2: 295 - 296). (¬8) حاشية الأصل: «المأتم: جماعة النساء للعزاء». (¬9) م: «مهجور الجناب فطالما»، ورواية الحماسة: «مهجور الجناب فربما»؛ قال التبريزى: والرواية المختارة: «وربما» بالواو؛ وذلك أن جواب الشرط من قوله: «فإن تمس مهجور الفناء» «فإنك لم تبعد على متعهد»، ويصبر: «ربما أقام» بيان الحال فيما تقدم من رئاسته». (¬10) أى على متعهد يتعهدك بالذكر والبكاء.

أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال أخبرنى يوسف بن يحيى المنجّم عن أبيه قال حدثنى محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنى أبو زيد بن الحكم بن موسى قال حدثنى أبى قال: كان معن بن زائدة/ من أصحاب يزيد بن عمر بن هبيرة، وكان مستترا، حتى كان يوم الهاشمية (¬1)، فإنه حضر وهو معتمّ متلثّم، فلما نظر إلى القوم وقد وثبوا على المنصور تقدّم فأخذ بلجام بغلته، ثم جعل يضربهم بالسيف قدّامه، فلما أفرجوا له وتفرّقوا عنه قال له: من أنت ويحك! قال: أنا طلبتك معن بن زائدة. فلما انصرف المنصور حباه وكساه ورتّبه، ثم قلّده اليمن، فلما قدم عليه من اليمن قال له: هيه يا معن! تعطى مروان بن أبى حفصة مائة ألف درهم على أن قال لك: معن بن زائدة الّذي زيدت به … شرفا على شرف بنو شيبان إن عدّ أيّام الفعال فإنما … يوماه: يوم ندى ويوم طعان فقال: كلّا يا أمير المؤمنين، ولكن أعطيته على قوله: ما زلت يوم الهاشمية معلنا … بالسّيف دون خليفة الرّحمن فمنعت حوزته، وكنت وقاءه … من وقع كلّ مهنّد وسنان فقال له: أحسنت يا معن! وفى خبر آخر أنّه دخل على المنصور، فقال له: ويلك (¬2)! ما أظنّ ما يقال فيك من ظلمك لأهل اليمن واعتسافك إياهم إلّا حقّا! قال: وكيف ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: بلغنى أنك أعطيت شاعرا كان يلزمك ألفى دينار، وهذا من السرف الّذي لا شيء مثله، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما أعطيته من فضول مالى وغلّات ضياعى وفضلات (¬3) رزقى، وكففته عن عرضى، وقضيت الواجب من حقّه عليّ وقصده إلى وملازمته لى، قال: فجعل أبو جعفر ينكت بقضيب فى يده الأرض ولم يعاوده القول. ¬

_ (¬1) الهاشمية: مدينة بناها السفاح بالقرب من الكوفة، والخبر فى (ابن خلكان 2: 109). (¬2) ت: «ويلك يا معن! ». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «وفضالات».

وأخبرنا المرزبانىّ قال أخبرنى عليّ بن يحيى عن عبد الله بن أبى سعد الورّاق عن خالد ابن يزيد بن وهب بن جرير عن عبد الله (¬1) بن محمد المعروف بمنقار من أهل خراسان- وكان من ولاة الرشيد- قال: حدّثني معن بن زائدة قال: كنا فى الصّحابة سبعمائة رجل، فكنا ندخل على المنصور فى كلّ يوم، قال: فقلت للربيع: اجعلنى فى آخر من يدخل عليه، فقال لى: لست بأشرفهم فتكون فى أولهم، ولا بأخسّهم نسبا فتكون/ فى آخرهم، وإن مرتبتك لتشبه (¬2) نسبك. قال: فدخلت على المنصور ذات يوم، وعليّ درّاعة فضفاضة، وسيف حنفىّ (¬3) أقرع بنعله الأرض، وعمامة قد أسدلتها من قدامى وخلفى، فسلّمت عليه وخرجت، فلما صرت عند السّتر صاح بى: يا معن! صيحة أنكرتها، فلبيته فقال: إلى، فدنوت منه، فإذا به قد نزل عن فراشه إلى الأرض، وجثا على ركبتيه، واستلّ عمودا من بين فراشين، واستحال لونه، ودرّت أوداجه، وقال: إنك لصاحبى يوم واسط، لا نجوت إن نجوت منى! قال: قلت: يا أمير المؤمنين، تلك نصرتى لباطلهم، فكيف نصرتى لحقك؟ قال: فقال لى: كيف قلت؟ فأعدت عليه القول، فما زال يستعيدنى حتى ردّ العمود إلى مستقره، واستوى متربعا، وأسفر لونه وقال: يا معن، إن باليمن هنات، قلت: يا أمير المؤمنين، «ليس لمكتوم رأى» - وهو أول من أرسلها مثلا- فقال: أنت صاحبى، فاجلس، قال: فجلست، وأمر الربيع بإخراج كل من كان فى الدار، وخرج الربيع، فقال لى: إنّ صاحب اليمن قد همّ بالمعصية، وإنى أريد أن آخذه أسيرا، ولا يفوتنى شيء من ماله، قلت: ولّنى اليمن وأظهر أنك قد ضممتنى إليه، ومر الربيع أن يزيح علّتى فى كل ما أحتاج إليه، ويخرجنى فى يومى هذا لئلا ينتشر الخبر، قال: فاستلّ عهدا من بين فراشين، فوقّع فيه اسمى وناولنيه، ثم دعا الربيع فقال: يا ربيع، إنا قد ضممنا معنا إلى صاحب اليمن، فأزح علّته فيما يحتاج إليه من السلاح ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «عبيد الله». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «كنسبة نسبك». (¬3) السيوف الحنفية: نوع منها ينسب إلى الأحنف بن قيس؛ لأنه أول من أمر باتخاذها، والقياس أحنفية؛ (القاموس).

والكراع، ولا يمسى إلّا وهو راحل، قال: ثم ودّعنى فودعته، وخرجت إلى الدّهليز، فلقينى أبو الوالى فقال: يا معن؛ أعزز عليّ أن تضمّ إلى ابن أخيك! قال: فقلت له: إنّه لا غضاضة على الرجل يضمّه سلطانه إلى ابن أخيه. وخرجت إلى اليمن، فأتيت الرجل، فأخذته أسيرا، وقرأت عليه العهد، وقعدت فى مجلسه. وروى عمر بن شبّة قال: اجتمع عند معن بن زائدة ابن أبى عاصية وابن أبى حفصة والضّمرىّ، فقال: لينشدنى كلّ واحد منكم أمدح بيت قاله فىّ، فأنشده ابن أبى حفصة: مسحت ربيعة وجه معن سابقا … لمّا جرى وجرى ذوو الأحساب / فقال له معن: الجواد يعثر فيمسح وجهه من العثار والغبار وغيرهما. وأنشده الضّمرىّ: أنت امرؤ همّك المعالى … ودلو معروفك الرّبيع - ويروى: «ودون معروفك الربيع» - وشأنك الحمد تشتريه … يشيعه عنك ما يشيع (¬1) فقال له: ما أحسن ما قلت! إلّا أنك لم تسمّنى ولم تذكرنى، فمن شاء انتحله، وأنشده ابن أبى عاصية: إن زال معن بنى زياد (¬2) لم يزل … لندى إلى بلد بعير مسافر (¬3) ففضّله عليهم. وروى أنّه أتى معن بن زائدة بثلاثمائة أسير، فأمر بضرب أعناقهم، فقال له شاب منهم: يا أخا شيبان (¬4)، نناشدك الله أن تقتلنا عطاشا! فقال: اسقوهم ماء، فلما ¬

_ (¬1) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «من يشيع». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «شريك». (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف: «التقدير: إن زال معن بنى زياد لم يزل لندى بعير مسافر إليه؛ يعنى أن عفاته بعد زواله يتودعون ولا يسافرون لعدم من يقصد». (¬4) حاشية ت (من نسخة): «يا أخا بنى شيبان».

شربوا قال: يا أخا شيبان، نناشدك الله أن تقتل أضيافك! فقال: أطلقوهم. وذكر أحمد بن كامل أن الخوارج قتلت معن بن زائدة بسجستان فى سنة إحدى وخمسين ومائة (¬1). وروى أن عبد الله بن طاهر كان يوما عند المأمون، فقال له: يا أبا العباس، من أشعر من قال الشعر فى خلافة بنى هاشم؟ قال: أمير المؤمنين أعرف بهذا منى، قال: قل على كلّ حال، قال عبد الله: أشعرهم الّذي يقول فى معن بن زائدة: أيا قبر معن كنت أوّل حفرة … من الأرض خطّت للسّماحة مضجعا (¬2) أيا قبر معن كيف واريت جوده … وقد كان منه البرّ والبحر مترعا بلى قد وسعت الجود والجود ميّت … ولو كان حيّا ضقت حتّى تصدّعا والأبيات للحسين بن مطير الأسدىّ، وهى تزيد على هذا المقدار، وأولها: ألمّا بمعن (¬3) ثمّ قولا لقبره … سقتك الغوادى مربعا ثمّ مربعا وفيها: فتى عيش فى معروفه بعد موته … كما كان بعد السّيل مجراه مرتعا ولمّا مضى معن مضى الجود وانقضى … وأصبح عرنين المكارم أجدعا ¬

_ (¬1) وانظر ترجمة معن وأخباره فى (تاريخ بغداد 13: 235 - 244، وابن خلكان 2: 108 - 112). (¬2) الأبيات فى (ديوان الحماسة- بشرح التبريزى 2: 390 - 392)، وهى أيضا فى تاريخ بغداد وابن خلكان. (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «ألما على معن».

16

16 مجلس آخر [المجلس السادس عشر: ] تأويل آية [: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ] قال سيدنا الشريف الأجلّ ذو المجدين/ أطال الله بقاءه: إن سأل سائل فقال: ما الوجه فى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ [آل عمران: 21]، وفى موضع آخر: وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ [النساء: 155]؛ وظاهر هذا القول يقتضي أنّ قتلهم قد يكون بحقّ. وقوله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ؛ [المؤمنون: 117]. وقوله: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها؛ [الرعد: 2]، وقوله: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا؛ [البقرة: 41]، وقوله تعالى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً؛ [البقرة: 273]؛ والسؤال عن هذه الآيات كلّها من وجه واحد وهو الّذي تقدم. الجواب، أنّ للعرب فيما جرى هذا المجرى من الكلام عادة معروفة، ومذهبا مشهورا، عند من تصفّح كلامهم وفهم عنهم. ومرادهم بذلك المبالغة فى النفى وتأكيده؛ فمن ذلك قولهم: فلان لا يرجى خيره؛ ليس يريدون أنّ فيه خيرا لا يرجى، وإنما غرضهم أنّه لا خير عنده على وجه من الوجوه؛ ومثله: قلّما رأيت مثل هذا الرجل، وإنما يريدون أنّ مثله لم ير لا قليلا ولا كثيرا؛ وقال امرؤ القيس: على لاحب لا يهتدى بمناره (¬1) … إذا سافه العود الدّيافىّ جرجرا (¬2) يصف طريقا؛ وأراد بقوله: «لا يهتدى بمناره» أنه لا منار له فيهتدى بها. ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشية الأصل: «بمنارة». (¬2) ديوانه: 101، واللاحب: الطريق المنقاد الّذي لا ينقطع. والمنار: جمع منارة؛ وهى العلامة التى تجعل بين الحدين؛ ورواية الديوان: «النباطى».

والعود: المسنّ من الإبل، والدّيافىّ: منسوب إلى دياف، قرية بالشام معروفة (¬1). وسافه: شمّه (¬2)، والجرجرة مثل الهدير؛ وإنّما أراد أنّ العود إذا شمّه عرفه فاستبعده، وذكر ما يلحقه فيه من المشقّة، فجرجر لذلك؛ وقال ابن أحمر: لا تفزع الأرنب أهوالها … ولا ترى الضّبّ بها ينجحر أراد: ليست بها أهوال فتفزع الأرنب؛ وقال النّابغة: يحفّه جانبا نيق وتتبعه … مثل الزّجاجة لم تكحل من الرّمد (¬3) أراد: ليس بها رمد فتكحل له؛ وقال امرؤ القيس أيضا (¬4): وصمّ حوام ما يقين من الوجى … كأنّ مكان الرّدف منه على رال / يصف حوافر فرسه. وقوله: «ما يقين من الوجى» فالوجى هو الحفا، و «يقين»؛ أى يتوقّين، يقال: وقى الفرس إذا هاب المشى، فأراد أنه لا وجى بحوافره فيتهيبن الأرض من أجله، والرأل: فرخ النعام، وشبّه إشراف عجزه بعجز الرّأل؛ وقال الآخر (¬5): ¬

_ (¬1) ت: «وهى قرية»، وفى معجم البلدان: «وقيل من قرى الجزيرة، وأهلها نبط الشام». (¬2) م: «شمه وعرفه». (¬3) حاشية ت: «الهاء فى يحفه للحمام، والنيق: أرفع موضع فى الجبل، ومثل الزجاجة عين المرأة التى وصفها»، وفى حاشية الأصل: «وقبله: واحكم كحكم فتاة الحىّ إذ نظرت … إلى حمام سراع وارد الثّمد قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا … إلى حمامتنا ونصفه فقد - والثمد: الماء القليل». وفتاة الحى: هى بنت الخس، عن الأصمعى، وعن أبى عبيدة: زرقاء اليمامة. وذكر أبو حاتم أنه كان لها قطاة، ومر بها سرب من القطا بين جبلين؛ فقالت: ليت هذا الحمام لى، ونصفه إلى حمامتى فيتم لى مائة؛ فنظروا فإذا هى كما قالت، وأرادت بالحمام القطا، وكانت جملة الحمام ستا وستين». وانظر الأبيات وشرحها فى ديوان النابغة- بشرح البطليوسى 23، 24. (¬4) ت، وحاشيتى الأصل، ف «يصف فرسا، وقبله: سليم الشّظا عبل الشّوى شنج النّسا … له حجبات مشرفات على الفالى - الشظا: عظم مستدق لاصق بعظم الذراع. والحجبة على الورك، وهما حجبتان مشرفتان على الخاصرتين فجمعهما بما حواليهما. والفالى يعنى به القائل؛ فقلبه، والقائل: لحم على خربة الورك؛ وانظر الديوان: 65. (¬5) هو أعشى باهلة؛ من قصيدة يرثى بها المنتشر بن وهب.

لا يغمز السّاق من أين ولا وصب … ولا يعضّ على شرسوفه الصّفر (¬1) أراد: ليس بساقه أين ولا وصب فيغمزهما من أجلهما؛ وقال سويد بن أبى كاهل: من أناس ليس من أخلاقهم … عاجل الفحش ولا سوء الجزع (¬2) ولم يرد أنّ فى أخلاقهم فحشا آجلا (¬3) ولا جزعا (¬4)؛ وإنما أراد نفى الفحش والجزع عن أخلاقهم. ومثل ذلك قولهم: فلان غير سريع إلى الخنا، وهم يريدون أنّه لا يقرب الخنا، لا نفى الإسراع حسب. وقال الفرزدق وهو يهجو ابنى جعفر بن كلاب، ويعيّرهم بقتلى منهم أصيبوا فى حروبهم، فحملت النساء هؤلاء القتلى حتى أتين بهم الحىّ (¬5): ولم تأت عير أهلها بالذّي (¬6) أتت … به جعفرا يوم الهضيبات عيرها (¬7) أتتهم بعير لم تكن هجرية … ولا حنطة الشام المزيت خميرها يعنى أنّ العير إنما تحمل التمر أو الطعام إلى الحى، فحملت عير هؤلاء القوم القتلى، وقوله: «لم تكن هجرية»؛ أى لم تحمل التمر، وذلك لكثرة التمر بهجر، ثم قال: «ولا حنطة الشام المزيت خميرها»، ولم يرد أن هناك حنطة ليس فى خميرها زيت؛ لكنه أراد أنها لم لم تحمل تمرا ولا حنطة، ثم وصف الحنطة وما يجعل فى خميرها من الزيت. ¬

_ (¬1) كذا فى جميع الأصول؛ وهو يوافق ما فى اللآلئ: 75، والكامل- بشرح المرصفى 8: 212؛ ورواية جمهرة الأشعار 282؛ وفى ملحقات ديوان الأعشى 268: لا يتأرّى لما فى القدر يرقبه … ولا يعضّ على شرسوفه الصّفر لا يغمز السّاق من أين ولا وصب … ولا يزال أمام القوم يقتفر وهى توافق رواية المؤلف فيما بعد. والتأرى: التحبس والمكث، والصفر: حية فى البطن تعض الشرسوف إذا جاع صاحبه. ولا يغمز الساق: لا يحنيها والاقتفار: أن يؤكل الخبز قفارا. (¬2) المفضليات: 195. (¬3) ت، د: «فحشا عاجلا ولا آجلا». (¬4) ت، د، ف: «ولا جزعا غير سيئ». (¬5) ديوانه 2: 459. (¬6) ت، د، ونسخة بحاشيتى الأصل، ف: «كالذى». (¬7) الهضيبات: موضع كان فيه يوم من أيام العرب؛ هو يوم طخفة؛ ذكره البكرى فى معجم ما استعجم: 1354، وأورد البيت.

وعلى هذا يقع تأويل (¬1) الآيات التى وقع السؤال عنها، لأنه تعالى لما قال: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ دلّ على أن قتلهم لا يكون إلّا بغير حق، ثم وصف (¬2) القتل بما لا بد أن يكون عليه من الصفة، وهى وقوعه على خلاف الحقّ؛ وكذلك: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ، إنما [هو وصف لهذا الدعاء، وأنه لا يكون إلا عن غير برهان] (¬3). وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وجهه أيضا أنه لو كان هناك عمد لرأيتموه، فإذا نفى رؤية العمد نفى وجود العمد؛ كما قال: «لا يهتدى بمناره»، أى لا منار له من حيث علم أنه لو كان له منار لاهتدى به، فصار نفى الاهتداء بالمنار نفيا لوجود المنار. وقوله تعالى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ تغليظ وتأكيد فى تحذيرهم الكفر، وهو أبلغ من أن يقول: «ولا تكفروا به»، ويجرى مجرى قولهم: فلان لا يسرع إلى الخنا؛ وقلّما رأيت مثله إذا أرادوا به تأكيد نفى الخنا ونفى رؤية مثل المذكور. وكذلك قوله: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً، معناه لا مسألة تقع منهم، ومثل الأول: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا؛ والفائدة أن كل ثمن لها لا يكون إلا قليلا، فصار نفى الثمن القليل نفيا لكل ثمن، وهذا واضح بحمد الله ومنّه. ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «تأول». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «وإنما وصف». (¬3) ساقط من م.

باب فى ذكر شيء من أخبار المعمرين وأشعارهم ومستحسن كلامهم

باب فى ذكر شيء من أخبار المعمّرين وأشعارهم ومستحسن كلامهم [أخبار الحارث بن كعب المذحجىّ ووصيته حين الموت وشرح ما ورد فى ذلك: ] أحد المعمّرين الحارث بن كعب بن عمرو بن وعلة بن خالد (¬1) بن مالك بن أدد (¬2) المذحجىّ، ومذحج (¬3) هى أم مالك بن أدد، نسب ولد مالك إليها، وإنما سمّيت مذحجا (¬4) لأنها ولدت على أكمة تسمى مذحجا، واسمها مدلّة بنت ذى منجشان (¬5). قال أبو حاتم السجستانىّ: جمع الحارث (¬6) بن كعب بنيه لما حضرته الوفاة فقال: «يا بنى، قد أتى عليّ ستون ومائة سنة، ما صافحت بيمينى (¬7) يمين غادر، ولا قنّعت (¬8) نفسى بخلّة فاجر، ولا صبوت بابنة عمّ ولا كنّة، ولا طرحت عندى مومسة قناعها، ولا بحت لصديقى بسرّ، وإنى لعلى دين شعيب النبي عليه السلام، وما عليه أحد من العرب غيرى، وغير أسد بن خزيمة، وتميم بن مرّة، فاحفظوا وصيّتى، وموتوا على شريعتى: إلهكم فاتقوه يكفكم المهمّ من أموركم، ويصلح لكم أعمالكم؛ وإياكم ومعصيته (¬9)، لا يحلّ بكم الدّمار، ويوحش منكم الدّيار. يا بنيّ، كونوا جميعا ولا تفرقوا فتكونوا شيعا، وإنّ موتا فى عزّ خير من حياة فى ذلّ وعجز، وكلّ ما هو كائن كائن، وكلّ جميع إلى تباين. الدهر [صرفان: فصرف رخاء، وصرف بلاء] (¬10)، واليوم يومان: فيوم حبرة، ويوم ¬

_ (¬1) كذا فى جميع الأصول، وفى حاشية الأصل: «ذكر س: هذا سهو، وهو كعب بن عمرو ابن علبة بن جلد بن مالك. وو علة وخالد تصحيف وغلط». (¬2) فى حاشية الأصل، ت: «صرفت العرب «أددا»، ولم يجعلوه من باب عمر وزفر». (¬3) حاشية الأصل: «ذكر س: قال أبو جعفر محمد بن حبيب: مذحج هى أخت مدلة، واسمها مدلة بنت منجشان بن كلة بن زدمان، من حمير». (¬4) حاشية ت: «بخط ش: الصواب ألا تصرف مذحج للتأنيث والتعريف». (¬5) س: «مهجشان»، ت: «همنجشان». (¬6) لم يذكر فيما طبع من أخبار المعمرين لأبى حاتم. (¬7) حاشية ت (من نسخة): «ما صافحت يمينى». (¬8) حاشية ت (من نسخة): «قعت»، بإسكان التاء. (¬9) ت: «ومعصية الله». (¬10) ش: «والدهر ضربان: فضرب رخاء، وضرب بلاء».

عبرة، والناس رجلان: فرجل معك ورجل عليك، وتزوّجوا الأكفاء، وليستعملن فى فى طيبهن الماء، وتجنّبوا/ الحمقاء؛ فإن ولدها إلى أفن ما يكون، إلا أنه لا راحة لقاطع القرابة، وإذا اختلف القوم أمكنوا عدوّهم منهم، وآفة العدد اختلاف الكلمة؛ والتفضّل بالحسنة يقى السيئة، والمكافأة بالسيئة الدخول فيها. العمل السوء يزيل النّعماء، وقطيعة الرّحم تورث الهمّ، وانتهاك الحرمة يزيل النعمة، وعقوق الوالدين يعقب النّكد، ويمحق العدد، ويخرب البلد، والنصيحة تجر الفضيحة، والحقد يمنع الرّفد، ولزوم الخطيئة يعقب البلية، وسوء الرّعة يقطع أسباب المنفعة، والضغائن تدعو إلى التباين»؛ ثم أنشأ يقول: أكلت شبابى فأفنيته … وأفنيت بعد دهور دهورا ثلاثة أهلين صاحبتهم … فبادوا وأصبحت شيخا كبيرا قليل الطّعام عسير القيام … قد ترك الدّهر خطوى قصيرا أبيت أراعى نجوم السّماء … أقلّب أمرى بطونا ظهورا قوله: «ولا صبوت بابنة عم ولا كنّة»، الصّبوة هى رقّة الحبّ، [والكنّة. امرأة أخى الرجل وامرأة ابن أخيه] (¬1). فأما المومسة، فهى الفاجرة البغىّ، وأراد بقوله: «إنها لم تطرح عنده قناعها» أى لم تتبذّل (¬2) عنده وتتبسّط، كما تفعل مع من يريد الفجور بها. وقوله: «فيوم حبرة ويوم عبرة»، فالحبرة: الفرح والسرور، والعبرة تكون من ضدّ ذلك؛ لأنّ العبرة لا تكون إلّا من أمر محزن مؤلم. وأما الأفن، فهو الحمق؛ يقال: رجل أفين؛ إذا كان أحمق؛ ومثل من أمثالهم: «وجدان الرقين؛ يغطّى على أفن الأفين»، أى وجدان المال يغطّى على حمق الاحمق، وواحد الرّقين رقة، وهى الفضة. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة) «والكنة هى امرأة ابن الرجل وامرأة أخيه». (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «لم تبتذل».

أخبار عمرو بن ربيعة المستوغر وإيراد بعض أشعاره

فأما قوله: «النصيحة تجر الفضيحة»، فيشبه أن يكون معناه أنّ النّصيح إذا نصح لمن لا يقبل نصيحته، ولا يصغى إلى موعظته فقد افتضح عنده؛ لأنه أفضى إليه بسرّه، وباح بمكنون صدره. فأما «سوء الرّعة»، فإنه يقال: فلان حسن الرّعة والتورّع، أى حسن الطريقة. *** [أخبار عمرو بن ربيعة المستوغر وإيراد بعض أشعاره: ] ومن المعمّرين المستوغر، وهو عمرو بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ابن مرّ بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر. وإنما سمّى المستوغر ببيت قاله، وهو: / ينشّ الماء فى الرّبلات منها … نشيش الرّضف فى اللّبن الوغير (¬1) الرّبلات: واحدتها، ربلة، وربلة، بفتح الباء وإسكانها، وهى كلّ لحمة غليظة؛ هكذا ذكر ابن دريد. والرّضف: الحجارة المحماة، وفى الحديث: «كأنه على الرّضف»؛ واللبن الوغير: لبن تلقى فيه حجارة محماة ثم يشرب، أخذ من وغرة الظهيرة، وهى أشدّ ما يكون من الحرّ؛ ومنه: وغير صدر فلان يوغر وغرا، إذا التهب من غضب أو حقد. وقال أصحاب الأنساب: عاش المستوغر ثلاثمائة سنة وعشرين، وأدرك الإسلام أو كاد يدرك أوّله. وقال ابن سلام: كان (¬2) المستوغر قديما، وبقى بقاء طويلا حتى قال: ولقد سئمت من الحياة وطولها … وعمرت (¬3) من عدد السّنين مئينا مائة أتت من بعدها مائتان لى … وازددت من عدد الشّهور سنينا هل ما بقى (¬4) إلّا كما قد فاتنا … يوم يكرّ وليلة تحدونا ¬

_ (¬1) ت: «ذى الربلات»، د: «بالربلات» والبيت فى اللسان (وغر)، والمعمرين 9 - 10. (¬2) طبقات الشعراء: 290 - 30. (¬3) فى الطبقات: «وازددت». (¬4) بقى؛ بالألف، يريد بقى، بالياء: لغة طائية.

وهو القائل: إذا (¬1) ما المرء صمّ فلم يكلّم (¬2) … وأودى سمعه إلّا ندايا (¬3) ولاعب بالعشىّ بنى بنيه … كفعل الهرّ يحترش العظايا يلاعبهم وودّوا لو سقوه … من الذّيفان مترعة ملايا [4] فلا ذاق النّعيم ولا شرابا … ولا يشفى من المرض الشّفايا أراد بقوله: «صمّ فلم يكلم»، أى لم يسمع ما يكلّم به، فاختصر؛ ويجوز أن يريد أنّه لم يكلّم لليأس من استماعه فأعرض عن خطابه لذلك. وقوله: «وأودى سمعه إلّا ندايا» أراد أنّ سمعه هلك؛ إلّا أنه يسمع الصوت العالى الّذي ينادى به. وأما قوله: «ولاعب بالعشىّ بنى بنيه»، فإنّه مبالغة فى وصفه بالهرم والخرف، وأنه قد تناهى إلى ملاعبة الصبيان وأنسهم به. ويشبه أن يكون خصّ العشىّ بذلك لأنّه وقت رواح الصبيان إلى بيوتهم واستقرارهم فيها. وقوله: «يحترش العظايا» / أى يصيدها، والاحتراش أن يقصد الرجل إلى جحر الضّب فيضربه بكفّه ليحسبه الضب أفعى، فيخرج إليه فيأخذه، يقال: حرشت الضّبّ، واحترشته؛ ومن أمثالهم: «هذا أجلّ من الحرش»، يضرب عند الأمر يستعظم، ويتكلم بذلك على لسان الضب. قال ابن دريد: قال الضب لابنه: اتّق الحرش، قال: وما الحرش؟ قال: إذا سمعت حركة بباب الجحر فلا تخرج؛ فسمع يوما وقع المحفار فقال: يا أبه، أهذا الحرش؟ فقال: «هذا أجلّ من الحرش»؛ فجعل مثلا للرجل إذا سمع الشيء الّذي هو أشدّ مما كان يتوقّعه. ¬

_ (¬1) الأبيات فى طبقات الشعراء: 30، وحماسة البحترى 324 (ورواها همزية)، ومعجم الشعراء: 213، وفى حاشية الأصل: «ذكر سر قال: «قرأت س قال: قرأت بخط عبد السلام البصرى رحمه الله أن هذه القطعة: إذا ما المرء ... لعثكلان بن ذى كواهن الحميرى». (¬2) فى الطبقات ومعجم الشعراء «فلم يناجى». (¬3) فى حاشية الأصل، ت: «إنما قلب الهمزة فى ندايا وشفايا وغيرهما ياء لأنه لو قال: شفاء لكانت تحصل همزة يكتنفها ألفان، والألف قريب من الهمزة، فإذا اجتمع ألفان مع همزة صار كأنه قد حصل قريب من الهمزتين؛ فلما كان كذلك أبدل من الهمزة ياء».

أخبار دريد بن زيد بن نهد وشرح ما أورده من كلامه

والذّيفان: السّم. والعظايا: جمع عظاية، وهى دويبّة صغيرة معروفة (¬1). *** [أخبار دريد بن زيد بن نهد وشرح ما أورده من كلامه: ] وأحد المعمّرين دويد بن زيد بن نهد بن زيد بن ليث بن سود (¬2) بن أسلم (¬3) بن ألحاف (¬4) ابن قضاعة بن مالك بن مرة بن مالك بن حمير. قال أبو حاتم: عاش دويد بن زيد أربعمائة سنة وستا وخمسين سنة قال ابن دريد: لما حضرت دويد بن زيد الوفاة- وكان من المعمّرين، قال: ولا تعدّ العرب معمّرا إلا من عاش مائة وعشرين (¬5) سنة فصاعدا- قال لبنيه: «أوصيكم بالناس شرا، لا ترحموا لهم عبرة، ولا تقيلوهم (¬6) عثرة، قصّروا الأعنّة، وطوّلوا (¬7) الأسنّة، واطعنوا (¬8) شزرا، واضربوا هبرا؛ وإذا أردتم المحاجزة، فقبل المناجزة، والمرء يعجز لا المحالة، بالجدّ لا بالكدّ. التجلّد ولا التبلّد، والمنية ولا الدّنية. لا تأسوا على فائت وإن عزّ فقده، ولا تحنّوا إلى ظاعن وإن ألف قربه، ولا تطمعوا فتطبعوا، ولا تهنوا فتخرعوا، ولا يكون (¬9) لكم المثل السوء؛ إنّ الموصّين بنو سهوان. إذا متّ فارحبوا (¬10) خطّ مضجعى، ولا تضنّوا عليّ برحب الأرض، وما ذلك بمؤدّ إلى روحا (¬11)؛ ولكن راحة نفس (¬12) خامرها الإشفاق». ثم مات. قال أبو بكر بن دريد فى حديث آخر إنه قال: ¬

_ (¬1) وانظر أخبار المستوغر فى المعمرين: 9، وطبقات الشعراء: 29 - 30، ومعجم الشعراء: 213 - 214. (¬2) حاشية ت (من نسخة): «سويد». (¬3) حاشية الأصل: «بضم اللام». (¬4) حاشية الأصل: «ألحاف، يقطع الألف كأنه جمع لحف؛ كذا وجدته مضبوطا فى النسخة المقروءة على ابن خرزاذ النجيرمى؛ وهو الصحيح، والحاف موصولا أيضا يقال». (¬5) حاشية ت (من نسخة): «مائة وستا وعشرين». (¬6) ت: «ولا تقبلوا لهم». (¬7) ت: «وأطولوا». (¬8) حاشية ت: طعن بالرمح يطعن [بضم العين]، وباللسان يطعن [بفتح العين]. (¬9) ش: «ولا يكن». (¬10) حاشية ت: «بخط ش: «فأرحبوا»، بالقطع وكسر الحاء. (¬11) حاشية ت (من نسخة): «نفعا». (¬12) حاشية الأصل (من نسخة): «حاجة نفس».

اليوم يبنى (¬1) لدويد بيته … يا ربّ نهب (¬2) صالح حويته وربّ قرن (¬3) بطل أرديته … وربّ غيل حسن لويته ومعصم مخضّب ثنيته … لو كان للدّهر بلى أبليته أو كان قرنى واحدا كفيته ومن قوله أيضا: / ألقى عليّ الدهر رجلا ويدا … والدّهر ما أصلح يوما أفسدا يفسد ما أصلحه اليوم غدا قوله: «اطعنوا شزرا، واضربوا هبرا»، معنى الشّزر أن يطعنه من إحدى ناحيتيه، يقال: فتل الحبل شزرا إذا فتله على الشمال، والنظر الشّزر: نظر بمؤخر العين؛ وقال الأصمعىّ: نظر إلى شزرا إذا نظر إليه من عن يمينه وشماله، وطعنه شزرا كذلك. وقوله: «هبرا»، قال ابن دريد: يقال هبرت اللحم أهبره هبرا إذا قطعته قطعا كبارا، والاسم الهبرة والهبرة، وسيف هبّار وهابر، واللحم هبير ومهبور. والمحالة: الحيلة (¬4). وقوله: «بالجدلا بالكدّ»؛ أى يدرك الرجل حاجته وطلبته بالجدّ، وهو الحظ والبخت، ومنه رجل مجدود، فإذا كسرت الجيم فهو الانكماش فى الأمر والمبالغة فيه. وقوله: «التجلد ولا التبلد»؛ أى تجلّدوا ولا تتبلّدوا. وقوله: «فتطبعوا»، أى تدنسوا، والطّبع الدنس، ويقال طبع السيف يطبع طبعا، إذا ركبه الصّدأ؛ قال ثابت قطنة (¬5) العتكىّ: لا خير فى طمع يدنى إلى طبع … وغفّة من قوام العيش تكفينى (¬6) ¬

_ (¬1) حاشية ف (من نسخة): «يدنى». (¬2) النهب: الغنيمة تنتهب. (¬3) القرن: الّذي يلقاك ليقاومك. (¬4) فى حاشيتى الأصل، ت: «قد قيل إن المحالة يعنى بها الآلة التى يستقى عليها، وهى مثل البكرة». (¬5) حاشية ت: «ويقال: قطبة». (¬6) الغفة: البلغة من العيش؛ كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت.

أخبار زهير بن جناب وإيراد بعض أشعاره

وقوله: «ولا تهنوا فتخرعوا»؛ فالوهن الضّعف، والخرع والخراعة: اللين، ومنه سميت الشجرة الخروع للينها، وقوله: «إنّ الموصّين بنو سهوان»؛ فالموصون جمع موصّى، وبنو سهوان ضربه مثلا، أى لا تكونوا ممن تقدّم إليهم فسهوا وأعرضوا عن الوصية، وقالوا: إنه يضرب هذا المثل للرجل الموثوق به ذمة؛ ومعناه أن الذين يحتاجون أن يوصّوا بحوائج إخوانهم هم الذين يسهون عنه لقلة عنايتهم؛ وأنت غير غافل ولا ساه عن حاجتى. وقوله: «فارحبوا»؛ أى أوسعوا، والرّحب السعة، والرّوح: الراحة. وقوله فى الشعر: «ورب غيل»؛ فالغيل الساعد الممتلئ. والمعصم: موضع السّوار من اليد (¬1). *** [أخبار زهير بن جناب وإيراد بعض أشعاره: ] ومن المعمّرين زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن ألحاف بن قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير. / قال أبو حاتم: عاش زهير بن جناب مائتى سنة وعشرين سنة، وأوقع مائتى وقعة، وكان سيدا مطاعا شريفا فى قومه، ويقال: كانت فيه عشر خصال لم يجتمعن فى غيره من أهل زمانه، كان سيد قومه، وشريفهم، وخطيبهم، وشاعرهم، ووافدهم إلى الملوك، وطبيبهم- والطّبّ فى ذلك الزمان شرف- وحازى قومه- والحزاة الكهّان- وكان فارس قومه، وله البيت فيهم، والعدد منهم. وأوصى بنيه فقال: «يا بنى، قد كبرت سنّى، وبلغت حرسا من دهرى، فأحكمتنى التجارب، والأمور تجربة واحتيال؛ فاحفظوا عنى ما أقول وعوه، إياكم والخور عند المصائب، والتواكل عند النوائب، فإنّ ذلك داعية للغمّ، وشماتة للعدو، وسوء ظن بالرّب. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمة دويد وأشعاره فى (طبقات الشعراء 27 - 28، والمعمرين 20 - 21، والمختلف والمؤتلف من الشعراء 114 - 115، والاشتقاق 321، والشعر والشعراء لابن قتيبة 51، والقاموس- دود).

وإياكم أن تكونوا بالأحداث مغترين، ولها آمنين، ومنها ساخرين، فإنه ما سخر قوم قطّ إلّا ابتلوا، ولكن توقّعوها، فإنما الإنسان فى الدنيا غرض تعاوره الرّماة، فمقصّر دونه ومجاوز لموضعه، وواقع عن يمينه وشماله؛ ثم لا بدّ أنّه مصيبه». قوله: «حرسا من دهرى»، يريد طويلا منه، والحرس من الدّهر: الطويل، قال الراجز: * فى سنبة عشنا بذاك حرسا* السّنبة: المدة من الدهر. والتواكل: أن يكل القوم أمرهم إلى غيرهم، من قولهم: رجل وكل، إذا كان لا يكفى نفسه، ويكل أمره إلى غيره؛ ويقال: رجل وكلة تكلة. والغرض: كلّ ما نصبته للرمى. وتعاوره، أى تداوله. قال سيدنا الشريف أدام الله علوّه: وقد ضمّن ابن الرومىّ (¬1) معنى قول زهير بن جناب: «الإنسان فى الدهر غرض تعاوره الرماة، فمقصّر دونه ومجاوز له، وواقع عن يمينه وشماله، ولا بدّ أن يصيبه» أبياتا، فأحسن كلّ الإحسان؛ والأبيات: كفى بسراج الشّيب فى الرّأس هاديا … لمن قد أضلّته (¬2) المنايا لياليا أمن بعد إبداء المشيب مقاتلى … لرامى المنايا تحسبينى ناجيا غدا الدّهر يرمينى فتدنو سهامه … لشخصى (¬3) أخلق أن يصبن سواديا وكان كرامى اللّيل يرمى ولا يرى … فلمّا أضاء الشّيب شخصى رمانيا أما البيت الأخير، فإنه أبدع فيه وغرّب (¬4)، وما علمت أنّه سبق إلى معناه؛ لأنّه جعل الشباب كالليل الساتر على الإنسان، الحاجز بينه وبين من أراد رميه لظلمته ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «كان ابن الرومى متشيعا، وكان مغلقا فى الشعر واللغة؛ بحيث يقول لتلامذته: اعرضوا شعرى، ثعلب، فما أنكر من نحوه فخذوه، وما أنكر من لغته فلا تلفتوا إليه؛ فإنى أعلم منه باللغة». (¬2) ش: «إلى من أضلته». حاشية ت (من نسخة): «له من أضلته». (¬3) ت، ونسخة بحاشية الأصل: «لشخصى وأخلق». (¬4) ت: «وأغرب».

والشيب مبدئا لمقاتله، هاديا إلى إصابته لضوئه وبياضه، وهذا فى نهاية حسن المعنى. وأراد بقوله: «رمانى» أى أصابنى؛ ومثله قول الشاعر: فلمّا رمى شخصى رميت سواده … ولا بدّ أن يرمى سواد الّذي يرمى وكان زهير بن جناب على عهد كليب وائل، ولم يكن فى العرب أنطق من زهير ولا أوجه عند الملوك، وكان لسداد رأيه يسمى كاهنا، ولم تجمع قضاعة إلّا عليه وعلى رزاح ابن ربيعة. وسمع زهير بعض نسائه تتكلّم بما لا ينبغى لمرأة تتكلم (¬1) به عند زوجها، فنهاها فقالت له: اسكت عنى وإلّا ضربتك بهذا العمود، فو الله ما كنت أراك تسمع شيئا ولا تعقله، فقال عند ذلك: ألا لقوم لا أرى النّجم طالعا … ولا الشّمس إلّا حاجتى بيمينى معزّبتى عند القفا بعمودها … يكون نكيرى أن أقول ذرينى أمينا على سرّ النّساء وربّما … أكون على الأسرار غير أمين فللموت خير من حداج (¬2) موطّأ … مع الظّعن لا يأتى المحلّ لحينى وهو القائل: أبنيّ إن أهلك فقد … أورثتكم مجدا بنيّة وتركتكم أرباب سا … دات زنادكم وريّه من كلّ ما نال الفتى … قد نلته إلّا التّحيّة ولقد رحلت البازل ال … كوماء ليس لها وليّه وخطبت خطبة حازم … غير الضّعيف (¬3) ولا العييّة ¬

_ (¬1) ت: «أن تتكلمه». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ت: «الحدج: مركب من مراكب النساء؛ كالمحفة؛ وجمعه أحداج وحدوج؛ والحداجة لغة فيه؛ عن يعقوب، والجمع الحدائج». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «لا بالضعيف».

فالموت خير للفتى … فليهلكن وبه بقيّه من أن يرى الشّيخ البجا … ل وقد يهادى بالعشيّه / وهو القائل: ليت شعرى والدهر ذو حدثان … أىّ حين منيّتى تلقانى! أسبات على الفراش خفات … أم بكفّى مفجّع حرّان (¬1)! وقال حين مضت له مائتا سنة من عمره: لقد عمّرت حتى ما أبالى … أحتفى فى صباحى أم مسائى! وحقّ لمن أتت مائتان عاما … عليه أن يملّ من الثّواء قوله: «معزبتى» يعنى امرأته، يقال: معزّبة الرجل وطلّته وحنّته؛ كل ذلك امرأته. وقوله: «أمينا على سرّ النساء»، السرّ: خلاف العلانية، والسرّ أيضا: النكاح، قال الحطيئة: ويحرم سرّ جارهم عليهم … ويأكل جارهم أنف القصاع (¬2) وقال امرؤ القيس: ألا زعمت بسباسة اليوم أننى … كبرت وألّا يحسن السّرّ أمثالى (¬3) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «السبات، أصله النوم، ويريد به الموت، وقد قيل: النوم موت خفيف، والموت نوم ثقيل؛ يقول: ليت شعرى: ألموت حتف أنفى على فراشى، أم يقتلنى متأثر عطشان إلى دمى! ». (¬2) ديوانه: 93؛ وفى حاشية الأصل: «أنف القصاع أول ما يعرف من القدر فيكون أدسم»، وفى شرح الديوان: «يقول: يؤثرون جارهم بالطعام على أنفسهم، فيأكل صفوة طعامهم قبلهم، وأنف كل شيء أوله. (¬3) ديوانه: 53، وقد ضبط قوله: «لا يحسن»، بالضمة والفتحة معا، فى الأصل، ت، وفى حاشيتيهما: «الرفع على إضمار الهاء، والنصب على اللفظ»، وفى حاشية الأصل (من نسخة): «وألا يشهد».

وكلاء زهير يحتمل الوجهين جميعا، لأنه إذا كبر وهرم لم تهيّبه النساء أن [يتحدّثن بحضرته بأسرارهن] (¬1)، تهاونا به، أو تعويلا على ثقل سمعه، وكذلك هرمه وكبره يوجبان كونه أمينا على نكاح النساء لعجزه عنه. وقوله: «حداج موطّأ»، الحداج (¬2): مركب من مراكب النساء، والجمع أحداج وحدوج. والظعن والأظعان: الهوادج، والظعينة المرأة فى الهودج؛ ولا تسمّى ظعينة حتى تكون فى هودج، والجمع ظعائن؛ وإنما خبّر عن هرمه، وأن موته خير من كونه مع الظّعن فى جملة النساء. وقوله: «زنادكم وريّه»؛ الزّناد: جمع زند وزندة، وهما عودان يقدح بهما النار، وفى أحدهما فروض، وهى ثقب؛ فالتى فيها الفروض هى الأنثى، والّذي يقدح بطرفه هو الذّكر، ويسمى الزّند الأب، والزّندة الأم. وكنّى «بزنادكم وريّه» عن بلوغهم مأربهم؛ تقول العرب: وريت بك زنادى؛ أى نلت بك ما أحب من النّجح والنجاة، ويقال للرجل الكريم: وارى الزّناد. / فأما التحية، فهى الملك، فكأنه قال: من كلّ ما نال الفتى قد نلته إلا الملك؛ وقيل التحية هاهنا: الخلود والبقاء. والبازل: النّاقة التى بلغت تسع سنين، فهى أشدّ ما تكون، ولفظ البازل فى الناقة والجمل سواء. والكوماء: العظيمة السّنام. والوليّة: برذعة تطرح على ظهر البعير تلى جلده. والبجال: الّذي يبجّله قومه ويعظّمونه. وقوله: «يهادى بالعشية»، أى يماشيه الرجال فيسندونه لضعفه. والتهادى: المشى الضعيف. ¬

_ (¬1) ت: «تتحدث بحضرته بأسرارها». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ت: «القياس حدج [بضمتين] فى جمع حداج؛ إلا أن يكون نادرا؛ كظروف فى جمع ظريف».

وقوله: «أسبات»، فالسّبات: سكون الحركة، ورجل مسبوت، والخفات: الضعف أيضا، يقال: خفت (¬1) الرجل إذا أصابه ضعف من مرض أو جوع. والمفجّع: الّذي فجع بولد له أو قرابة. والحرّان: العطشان الملتهب (¬2)، وهو هاهنا المحزون على قتلاه. ومما يروى لزهير بن جناب: إذا ما شئت أن تسلى حبيبا … فأكثر دونه عدد اللّيالى فما سلّى حبيبك مثل نأى … وما أبلى جديدك كابتذال (¬3) ¬

_ (¬1) ش: «خفت»؛ بالبناء للمجهول. (¬2) ش: «المحترق». (¬3) وانظر ترجمة زهير بن جناب وأشعاره وأخباره فى (أخبار المعمرين 24 - 29، والمؤتلف والمختلف من أسماء الشعراء 130، وطبقات الشعراء: 30، والأغانى 21: 63 - 68، والشعر والشعراء 339 - 342، وتاريخ ابن الاثير 1: 299 - 301).

17

17 مجلس آخر [المجلس السابع عشر: ] [أخبار ذى الإصبع العدوانى وحديثه مع بناته الأربع: ] ومن المعمّرين ذو الإصبع العدوانىّ، واسمه حرثان بن محرّث بن الحارث بن ربيعة ابن وهب بن ثعلبة بن ظرب بن عمرو بن عياذ (¬1) بن يشكر بن عدوان. وهو الحارث بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر (¬2). وإنما سمى الحارث عدوان، لأنه عدا على أخيه؛ فهمّ (¬3) بقتله، وقيل: بل فقأ عينه، وقيل: إن اسم ذو الإصبع محرّث بن حرثان، وقيل: حرثان بن حويرث، وقيل: حرثان ابن حارثة، ويكنّى أبا عدوان. وسبب لقبه بذى الإصبع أنّ حية نهشته على إصبعه فشلّت، فسمى بذلك. ويقال: إنه عاش مائة وسبعين سنة. وقال أبو حاتم: إنه عاش ثلاثمائة سنة. وهو أحد حكّام العرب فى الجاهلية. وذكر الجاحظ أنه كان أثرم (¬4) وروى عنه: لا يبعدن عهد الشباب ولا … لذّاته ونباته النضر (¬5) لولا أولئك ما حفلت متى … عوليت فى حرج (¬6) إلى قبرى ¬

_ (¬1) ش: «عباد بن يشكر». (¬2) حاشية الأصل: «قال ش: هو قيس عيلان؛ وليس بقيس بن عيلان، وهو لقب للناس بن مضر، والياس أخو إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وقيل: عيلان اسم فرسه فنسب إليه، وقيل: بل عيلان لقب مضر بن نزار، لأنه يقال قيس بن عيلان؛ قال زفر بن الحارث: ألا إنّما قيس بن عيلان بقّة … إذا وجدت ريح العصير تغنّت. (¬3) ش: «فهم فقتله». (¬4) حاشية الأصل: «الأثرم: الّذي سقطت مقاديم أسنانه». (¬5) فى حاشية الأصل، ت: «إن جررت النضر بدلا من الهاء فى «نباته» تخلصت من الإقواء؛ ولك أن تقول: «النضرى» منسوبا كقوله: «والدهر بالإنسان دوارىّ»، ويجوز أن يعطف على الشباب». (¬6) حاشية ت (من نسخة): «حرجى» والحرج: سرير الموتى.

/ هزئت أثيلة أن رأت هرمى … وأن انحنى لتقادم ظهرى وكان (¬1) لذى الإصبع بنات أربع، فعرض عليهنّ أن يزوّجهنّ فأبين وقلن: خدمتك وقربك أحبّ إلينا. ثم أشرف عليهنّ يوما من حيث لا يرينه، فقلن: لتقل كلّ واحدة منّا ما فى نفسها، فقالت الكبرى: ألا هل أراها مرّة وضجيعها … أشمّ كنصل السّيف عين مهنّد (¬2) عليم بأدواء النّساء وأصله … إذا ما انتمى من سرّ أهلى ومحتدى (¬3) ويروى «من أهل سرّى، ومن أصل سرّى ومحتدى». فقلن لها: أنت تريدين ذا قرابة قد عرفته. ثم قالت الثانية: ألا ليت زوجي من أناس أولى عدى (¬4) … حديث الشّباب طيّب الثّوب (¬5) والعطر ويروى: «أولى غنى». لصوق بأكباد النّساء كأنّه … خليفة جان لا ينام على وتر (¬6) ويروى: «لا ينام على هجرى». فقلن لها: أنت تريدين فتى ليس من أهلك. ثم قالت الثالثة: ¬

_ (¬1) الخبر فى الأغانى 3: 94 - 96 (طبع دار الكتب المصرية)، ومع شرحه فى الكامل- بشرح المرصفى 5: 94 - 111، مع اختلاف فى الرواية ونسبة الأبيات. (¬2) حاشية ت (من نسخة): ألا هل أراها ليلة وضجيعها … أغرّ كنصل السّيف غير المهنّد ورواية الأغانى: ألا هل أراها ليلة وضجيعها … أشمّ كنصل السّيف غير مبلّد. (¬3) رواية الأغانى: «طبيب بأدواء النساء»، ورواية الكامل: «بأدواء النساء كأنّه». (¬4) حاشية ت (من نسخة): «ذوى غنى»، وهى رواية الأغانى والكامل. (¬5) رواية الكامل: «طيب النشر»، ورواية الأغانى: «طيب الريح». (¬6) حاشية ت (من نسخة): «خليفة جان».

ألا ليته يكسى الجمال نديّه (¬1) … له جفنة تشقى بها المعز (¬2) والجزر له حكمات الدّهر من غير كبرة … تشين؛ فلا فان ولا ضرع غمر فقلن لها: أنت تريدين سيدا شريفا. وقلن للرابعة: قولى، فقالت: لا أقول شيئا، فقلن لها: يا عدوة الله، علمت ما فى أنفسنا ولا تعلميننا ما فى نفسك! فقالت: «زوج من عود خير من قعود»؛ فمضت مثلا. فزوجهنّ أربعهن، وتركهن حولا، ثم أتى الكبرى فقال: يا بنيّة، كيف ترين زوجك؟ قالت: خير زوج، يكرم الحليلة، ويعطى الوسيلة. قال: فما مالكم؟ قالت: خير مال، الإبل نشرب ألبانها جزعا- ويروى: «جرعا»، بالراء غير المعجمة- ونأكل لحمانها مزعا، وتحملنا وضعيفنا (¬3) معا؛ فقال: يا بنيّة، زوج كريم، ومال عميم. ثم أتى الثانية فقال: يا بنيّة، كيف زوجك؟ قالت: خير زوج؛ يكرم أهله، وينسى فضله، قال: وما مالكم؟ قالت: البقر تألف الفناء، وتملأ الإناء، وتودك (¬4) السقاء، ونساء مع النساء (¬5)، فقال لها: حظيت وبظيت (¬6). ثم أتى الثالثة فقال: يا بنية، كيف زوجك؟ قالت: لا سمح بذر (¬7)، ولا بخيل حكر (¬8) ¬

_ (¬1) رواية الأغانى: * ألا ليته يملأ الجفان لضيفه* ورواية الكامل: * ألا ليته يعطى الجمال بديئة* (¬2) فى الأغانى: «النيب». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «وضعفتنا». (¬4) حاشية ت (من نسخة): «تودك»، بتشديد الدال مكسورة؛ وكذا ضبطت بالقلم فى الكامل. (¬5) ش: «مع نساء»، وهى رواية الأغانى والكامل. (¬6) حاشية ت (من نسخة): «رضيت». (¬7) بذر: يبسط ماله بالبذر؛ وهو وصف للمبالغة. (¬8) حكر: هو الّذي لا يزال يحبس سلعته حتى يبيع بالكثير من شدة حكره.

قال: فما مالكم؟ قلت: المعزى، قال: وما هى؟ قلت: لو كنّا نولّدها فطما، ونسلخها أدما- ويروى: «أدما» بالفتح- لم نبغ بها نعما. فقال لها: جذوة (¬1) مغنية- ويروى: جدوى (¬2) مغنية. ثم أنى الصغرى فقال: كيف زوجك؟ قالت: شرّ زوج؛ يكرم نفسه، ويهين عرسه؛ قال: فما مالكم؟ قالت: شرّ مال، قال: وما هو؟ قالت: الضأن، جوف لا يشبعن، وهيم لا ينقعن، وصمّ لا يسمعن، وأمر مغويتهن يتبعن. فقال أبوها: «أشبه امرؤ (¬3) بعض بزّه»، فمضت مثلا. أمّا قول إحدى بناته فى الشعر: «أشمّ»، فالشمم هو ارتفاع أرنبة الأنف وورودها؛ يقال: رجل أشمّ، ، وامرأة شماء، وقوم شمّ، قال حسان بن ثابت: بيض الوجوه كريمة أحسابهم … شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل (¬4) والشّمم: الارتفاع فى كلّ شيء؛ فيحتمل أن يكون حسّان أراد بشمّ الأنوف ما ذكرناه من ورود الأرنبة؛ لأن ذلك عندهم دليل العتق والنجابة. ويجوز أن يريد بذلك الكناية عن نزاهتهم وتباعدهم عن دنايا الأمور ورذائلها؛ وخصّ الأنوف بذلك؛ لأن الحميّة والغضب والأنف (¬5) فيها؛ ولم يرد طول أنفهم؛ وهذا أشبه بأن يكون مراده؛ لأنه قال: «بيض الوجوه» ولم يرد بياض اللون فى الحقيقة، وإنما كنى بذلك عن نقاء أعراضهم، وجميل أخلاقهم وأفعالهم؛ كما يقول القائل: جاءنى فلان بوجه أبيض، وقد بيّض فلان وجهه بكذا وكذا، وإنما يعنى ما ذكرناه. وقول المرأة: «أشمّ كنصل السيف» يحتمل الوجهين أيضا. وقول حسان «من الطراز الأول»، أى أفعالهم أفعال آبائهم وسلفهم، وأنّهم لم يحدثوا أخلاقا مذمومة لا تشبه نجارهم وأصولهم. وقولها: «عين مهنّد»؛ أى هو المهنّد بعينه، كما يقال: هذا هو بعينه، وعين ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «حذوة». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «حذوى». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «أشبه امرأ بعض بزه»، والبز فى الأصل: مناع البيت من الثياب خاصة؛ كنى به عن الضأن؛ وهى متاع؛ والمثل يضرب للمتشابهين أخلاقا. (¬4) ديوانه: 80. (¬5) حاشية ت (من نسخة): «والأنعة».

الشيء نفسه. وعلى الرواية الأخرى: «غير مهنّد» أى ليس هو السيف المنسوب إلى الهند فى الحقيقة، وإنما هو يشبهه فى مضائه. وقولها: «من سرّ أهلى»، أى من أكرمهم وأخلصهم، يقال: فلان فى سرّ قومه، أى فى صميمهم وشرفهم، وسرّ الوادى: أطيبه ترابا. والمحتد: الأصل. وقول الثانية: «أولى عدى» / فإنّما معناه أن يكون لهم أعداء، لأنّ من لا عدوّ له هو الفسل الرذل الّذي لا خير عنده، والكريم الفاضل من الناس هو المحسّد المعادى (¬1). وقولها: «لصوق بأكباد النساء» تعنى فى المضاجعة، ويحتمل أن تكون أرادت فى المحبة والمودّة، وكنّت بذلك عن شدّة محبتهن له، وميلهن إليه، وهو أشبه. وقولها: «كأنه خليفة جان» أى كأنه حيّة للصوقه، والجان: جنس من الحيات (¬2)، فخفّفت لضرورة الشعر. وقول الثالثة: «يكسى الجمال نديّه» فالندىّ هو المجلس. وقولها: «له حكمات الدهر» تقول: قد أحكمته التجارب، وجعلته حكيما. فأما الضّرع فهو الضعيف. والغمر: الّذي لم يجرب الأمور. وقول الكبرى: «ويكرم الحليلة، ويعطى الوسيلة»، فالحليلة هى امرأة الرجل، والوسيلة الحاجة. وقولها: «نشرب ألبانها جزعا» فالجزع جمع جزعة، وهو الماء القليل يبقى فى الإناء، وقولها: «مزعا»، المزعة: البقية من دسم، ويقال: ما له جزعة ولا مزعة، هكذا ذكر ابن دريد، الضمّ فى جزعة، ووجدت غيره يكسرها فيقول جزعة، وإذا كسرت فينبغى ¬

_ (¬1) حاشية ت: «الأولى أن يكون العدى هاهنا الغرباء؛ لما تقدم من: استدلالهن؛ وهو قولهن «فتى ليس من أهلك». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ت: «لأن يكون من الجناية أحسن وأقرب إلى الصواب، ويكون من باب قوله: * إذا لم أجن كنت مجنّ جان*.

خبر عبد الملك بن مروان مع سعيد بن خالد الجدلى

أن يكون «نشرب ألبانها جزعا» وتكسر المزعة أيضا ليزدوج الكلام، فتقول: «ونأكل لحمانها مزعا»، قال: المزعة، بالكسر: هى القطعة من الشحم، والمزعة بالكسر أيضا من الرّيش والقطن وغير ذلك، كالمزقة من الخرق، والتّمزيع: التقطيع والتشقيق؛ يقال إنه ليكاد يتمزّع من الغيظ، ومزع الظّبى فى عدوه يمزع مزعا؛ إذا أسرع، وقوله: «مال عميم»: ، أى كثير. وقول الثانية: «تودك السّقاء»، من الودك الّذي هو (¬1) الدّسم. وقول الثالثة: «نولّدها فطما»، الفطم: جمع فطيم، وهو المقطوع من الرّضاع. وقولها: «نسلخها أدما»، فالأدم: جمع إدام، وهو الّذي يؤكل؛ تقول: لو أنا فطمناها عند الولادة وسلخناها للأدم من الحاجة لم نبغ بها نعما. وعلى الرواية الأخرى: أدما، من الأديم. وقوله: «جذوة مغنية»، فالجذوة: القطعة. وقول الصغرى: «جوف لا يشبعن»، الجوف: جمع جوفاء، وهى العظيمة الجوف. والهيم: العطاش، ولا ينقعن؛ أى لا يروين، ومعنى قولها: «وأمر مغويتهنّ يتبعن»، لأنّ القطيع من الضأن يمر على قنطرة فتزلّ واحدة فتقع فى الماء، فيقعن كلّهنّ اتباعا لها، والضأن يوصف/ بالبلادة. [خبر عبد الملك بن مروان مع سعيد بن خالد الجدلىّ: ] أخبرنا أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبى عبيدة عن يونس. قال ابن دريد وأخبرنا به العكلىّ عن أبى خالد (¬2) عن الهيثم بن عدىّ عن مسعر بن كدام قال حدثنى سعيد بن خالد الجدلىّ قال: لما (¬3) قدم عبد الملك ابن مروان الكوفة بعد قتل مصعب، دعا الناس على فرائضهم (¬4)، فأتيناه فقال: ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «بخط ابن الشجرى على الحاشية: وجدت فى بعض الروايات: «تودل السقاء» باللام مأخوذ من الأدل؛ وهو اللبن الحامض». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «عن أبى خالد». (¬3) الخبر فى الأغانى 3 - 91 - 92؛ (طبع دار الكتب المصرية). (¬4) ت: «إلى فرائضهم»، والفرائض: العطايا.

[من القوم؟ فقلنا: جديلة] (¬1)، فقال: جديلة عدوان؟ قلنا: نعم، فتمثّل عبد الملك: عذير الحىّ من عدوا … ن كانوا حيّة الأرض (¬2) بغى بعضهم بعضا … فلم يرعوا على بعض ومنهم كانت السادا … ت والموفون بالقرض ومنهم حكم يقضى … فلا ينقض ما يقضى ومنهم من يجيز النا … س فى السّنّة والفرض (¬3) ثم أقبل على رجل كنّا قدّمناه أمامنا جسيم وسيم، فقال: أيّكم يقول هذا الشعر؟ فقال: لا أدرى، فقلت أنا من خلفه: يقوله ذو الإصبع، فتركنى وأقبل على ذاك الجسيم فقال: وما كان اسم ذى الإصبع؟ فقال: لا أدرى، فقلت أنا من خلفه: حرثان، فأقبل عليه وتركنى، فقال: لم سمّى ذا الإصبع؟ فقال: لا أدرى، فقلت: أنا من خلفه نهشته حيّة فى إصبعه، فأقبل عليه وتركنى فقال: من أيّكم كان؟ فقال: لا أدرى، فقلت أنا من خلفه من بنى ناج، فأقبل على الجسيم فقال: كم عطاؤك؟ قال: سبعمائة (¬4)، ثم أقبل عليّ فقال: كم عطاؤك؟ قلت: أربعمائة (¬5) فقال: يا ابن الزّعيزعة، حطّ من عطاء هذا ثلاثمائة، وزدها فى عطاء هذا، فرحت وعطائى سبعمائة وعطاؤه أربعمائة. وفى رواية أخرى أنه قال له: من أيّكم كان؟ فقال: لا أدرى، فقلت أنا من خلفه: من بنى ناج، الّذي يقول فيهم الشاعر: وأما بنو ناج فلا تذكرنّهم … ولا تتبعن عينيك من كان هالكا [إذا قلت معروفا لتصلح بينهم] (¬6) … يقول وهيب لا أسالم (¬7) ذلكا ¬

_ (¬1) ت: «ممن القوم؟ فقلنا: من جديلة». (¬2) حاشية الأصل: «عذير: مصدر يقوم مقام الاستفهام؛ والتقدير: من يعذرهم؟ ». (¬3) قال أبو الفرج: «قوله «ومنهم من يجيز الناس»؛ فإن إجازة الحج كانت لخزاعة، فأخذتها منهم عدوان»، وانظر القصيدة فى الأغاني مع اختلاف الرواية وعدد الأبيات. (¬4) حاشية ت (من نسخة): «سبعمائة درهم». (¬5) حاشية ت (من نسخة) «أربعمائة درهم». (¬6) حاشية ت: «إذا قلت معروفا لأصلح بينهم»، وهى توافق رواية الأغانى. (¬7) م: «لا أسلم».

إيراد شعر لذى الإصبع وشرج ما ورد فى ذلك من الغريب

ويروى «لا أحاول ذلكا». / فأضحى كظهر العود (¬1) جبّ سنامه … تحوم عليه الطير أحدب باركا [إيراد شعر لذى الإصبع وشرج ما ورد فى ذلك من الغريب: ] وقد رويت هذه الأبيات لذى الإصبع أيضا: ومن أبيات ذى الإصبع السائرة قوله: أكاشر ذا الضّغن المبيّن منهم … وأضحك حتّى يبدو النّاب أجمع (¬2) وأهدنه بالقول هدنا ولو يرى … سريرة ما أخفى لبات يفزّع ومعنى «أهدنه» أسكّنه. ومن قوله أيضا: إذا ما الدّهر جرّ على أناس … شراشره أناخ بآخرينا (¬3) فقل للشّامتين بنا أفيقوا … سيلقى الشّامتون كما لقينا ومعنى «الشراشر» هاهنا الثّقل، يقال ألقى عليه شراشره وجراميزه، أى ثقله. ومن قوله: ذهب الّذين إذا رأونى مقبلا … هشّوا إلى ورحّبوا بالمقبل وهم الّذين إذا حملت حمالة (¬4) … ولقيتهم فكأنّنى لم أحمل ومن قوله وهى مشهورة (¬5): ¬

_ (¬1) العود هنا: المسن من الإبل، ورواية للأغانى: «الفحل». ورواية أخرى: «فأضحوا كظهر العود»، وبعده: فإن تك عدوان بن عمرو تفرّقت … فقد غنيت دهرا ملوكا هنالكا. (¬2) البيتان فى حماسة البحترى 140، ونسبهما إلى معن بن أوس. (¬3) نسب البيتان فى الشعر والشعراء: 450، والحماسة 3: 191، وعيون الأخبار 3: 114، للفرزدق؛ وفى حماسة البحترى: 149 نسبا إلى مالك بن عمرو الأسدى. (¬4) الحمالة: الدية. (¬5) القصيدة فى المفضليات- بشرح ابن الأنبارى 321 - 327، والأمالى 1: 254 - 257، والخزانة 3: 226 - 228، وشرح شواهد المغنى: 147 - 148، وأبيات منها فى الشعر والشعراء 689؛ مع اختلاف فى الرواية وعدد الأبيات.

لى ابن عمّ على ما كان من خلق … مختلفان فأقليه ويقلينى (¬1) أزرى بنا أنّنا شالت نعامتنا … فخالنى دونه بل خلته (¬2) دونى لاه ابن عمّك لا أفضلت فى حسب … عنّى ولا أنت ديانى فتخزونى (¬3) إنى لعمرك ما بابى بذى غلق … عن الضيوف ولا خيرى بممنون (¬4) ولا لسانى على الأدنى بمنطلق … بالفاحشات ولا أغضى على الهون ماذا عليّ وإن كنتم ذوى رحمى (¬5) … ألّا أحبّكم إذ (¬6) لم تحبّونى يا عمرو إلّا تدع (¬7) شتمى ومنقصتى … أضربك حيث (¬8) تقول الهامة اسقونى وأنتم معشر زيد (¬9) على مائة … فأجمعوا أمركم طرّا فكيدونى لا يخرج القسر منى غير مأبية … ولا ألين لمن لا يبتغى لينى (¬10) / قوله «شالت نعامتنا»، معناه تنافرنا [، فضرب النعام مثلا؛ أى لا أطمئن إليه] (¬11)، ولا يطمئن إلى، يقال: شالت نعامة القوم إذا جلوا (¬12) عن الموضع. وقوله: «لاه ابن عمك»؛ قال قوم: أراد لله ابن عمك. وقال ابن دريد: أقسم وأراد الله ابن عمك. وقوله: «عنّى» أى عليّ (¬13)، والدّيّان: الّذي يلى أمره. ومعنى: «فتخزونى» أى تسوسونى. والهون: الهوان. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «أى نحن مختلفان». (¬2) ت، حاشية الأصل (من نسخة): «وخلته»؛ وهى رواية الأمالى وأزرى بنا: قصر بنا. (¬3) لا أفضلت؛ أى ما جئت بفضل. (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «عن الصديق»، وممنون: منقطع؛ أى لا أقطع عنه فضلى. (¬5) حاشية ت (من نسخة): «رحم». (¬6) ش: «إن». (¬7) حاشية الأصل (من نسخة): «إن لم تدع». (¬8) م: «حتى». (¬9) زيد: زيادة. (¬10) حاشية الأصل (من نسخة) بعد هذا البيت: كلّ امرئ صائر يوما لشيمته … وإن تخلّق أخلاقا إلى حين. (¬11) ت: «فصرت لا أطمئن إليه». (¬12) حاشية ت (من نسخة): «أجلوا». (¬13) فى حاشيتى الأصل، ت: «الأحسن أن يقدر هاهنا قبل يتعلق «عن» به؛ هكذا هو عند المحققين».

ذكر معديكرب الحميرى وبعض شعره

وقوله: «أضربك حيث تقول الهامة اسقونى»، قال الأصمعىّ: العطش فى الهامة، فأراد أضربك فى ذلك الموضع، أى على الهامة حتى تعطش. وقال آخرون: العرب تقول: إن الرجل إذا قتل خرجت من رأسه هامة تدور حول قبره، وتقول: اسقونى، اسقونى! فلا تزال كذلك حتى يؤخذ بثأره؛ وهذا باطل؛ ويجوز أن يعنيه ذو الإصبع على مذاهب العرب. وقوله: «لا يخرج القسر منّى غير مأبية»، فالقمر: القهر، أى إن أخذت قسرا لم أزدد إلّا إباء (¬1). *** [ذكر معديكرب الحميرى وبعض شعره: ] ومن المعمّرين معديكرب الحميرىّ؛ من آل ذى رعين «قال ابن سلّام: وقال معديكرب (¬2) الجميرىّ- وقد طال عمره: أرانى كلّما أفنيت يوما … أتانى بعده يوم جديد يعود بياضه (¬3) فى كلّ فجر … ويأبى لى شبابى ما يعود *** [أخبار الربيع بن ضبع الفزارىّ: ] ومن المعمّرين الربيع بن ضبع (¬4) الفزارىّ، ويقال إنه بقى إلى أيام بنى أمية. وروى أنّه دخل على عبد الملك بن مروان فقال له: يا ربيع، أخبرنى عمّا أدركت من العمر والمدى، ورأيت من الخطوب الماضية، قال: أنا الّذي أقول: ها أنا ذا آمل الخلود وقد … أدرك عقلى ومولدى حجرا (¬5) فقال عبد الملك: قد رويت هذا من شعرك وأنا صبى، قال: وأنا القائل: ¬

_ (¬1) وانظر ترجمة ذى الإصبع وأخباره وأشعاره فى (الاشتقاق 163، والمعمرين 90، والأغانى 3: 2 - 11، واللآلئ 289 - 290، والخزانة 2: 406 - 409 والشعر والشعراء 688 - 690). (¬2) حاشية الأصل: «معديكرب، بالفتح، ويكون معدى مضافا إلى كرب». (¬3) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): «ضياؤه». (¬4) ت: «ضبع، بالتنوين، وفى حاشية الأصل: «فى نسخة مقروءة من كتاب سيبويه- وقد قرئ على أبى على الفارسى رحمه الله- وفى أخرى مقروءة على ابن أخنه أبى الحسين: الربيع بن ضبع، منونا بآخره». (¬5) حاشية الأصل: «حجر أبو امرئ القيس».

إذا عاش الفتى مائتين عاما … فقد ذهب اللّذاذة والفتاء (¬1) قال: قد رويت هذا من شعرك وأنا غلام، وأبيك يا ربيع، لقد طلبك (¬2) جدّ غير عاثر، ففصّل لى عمرك، قال: عشت مائتى سنة فى فترة عيسى عليه السلام، وعشرين ومائة فى الجاهلية، وستين سنة/ فى الإسلام. قال: أخبرنى عن فتية من قريش متواطئى الأسماء، قال: سل عن أيّهم شئت، قال: أخبرنى عن عبد الله بن العباس، قال: فهم وعلم، وعطاء جذم (¬3)، ومقرى ضخم. قال: فأخبرنى عن عبد الله بن عمر قال: حلم وعلم، وطول كظم، وبعد من الظّلم. قال: فأخبرنى عن عبد الله بن جعفر، قال: ريحانة طيّب ريحها، ليّن مسّها، قليل على المسلمين ضرّها. قال: فأخبرنى عن عبد الله بن الزّبير، قال: جبل وعر، ينحدر (¬4) منه الصّخر. قال: لله درّك يا ربيع! ما أعرفك بهم! قال: قرب جوارى، وكثر استخبارى. قال سيدنا الشريف الأجلّ المرتضى أدام الله علوّه: إن كان هذا الخبر صحيحا فيشبه أن يكون سؤال عبد الملك له إنما كان فى أيام معاوية، لا فى أيام ولايته، لأن الربيع يقول فى الخبر: «عشت فى الإسلام ستين سنة» (¬5)، وعبد الملك ولى فى سنة خمس وستين من الهجرة، فإن كان صحيحا فلا بد مما ذكرناه؛ فقد روى أن الرّبيع أدرك أيام معاوية؛ ويقال: إن الربيع لما بلغ مائتى سنة قال: ¬

_ (¬1) البيت من شواهد الرضى على الكافية، وهو فى (الخزانة 3: 306)، أورده شاهدا على أنه قد يفرد مميز المائة وينصب؛ وأورده سيبويه فى موضعين: الأول فى باب الصفة المشبهة بالفاعل وذكر أسماء العدد وعملها فى الأسماء؛ (الكتاب 1: 106)، والثانى فى باب كم (1: 306). وأورده ابن قتيبة فى (أدب الكاتب: 295)، فى باب «أسماء يتفق لفظها وتخلف معانيها»، قال: «والفتاء من السن ممدود، وروى البيت، وذكره البطليوسى فى الاقتضاب: 369، وأورد بيتين بعده. (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «لقد طار بك». (¬3) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «حذم»، بالحاء، وأصل الحذم الإسراع. (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «يتحدر منه»، وفى حاشية ت (من نسخة): «ينحدر عنه. (¬5) ت: «حجة».

ألا أبلغ بنيّ بنى ربيع … فأشرار البنين لكم فداء (¬1) بأنّى قد كبرت ودقّ عظمى … فلا تشغلكم عنّى النّساء وإنّ كنائنى لنساء صدق … وما آلى بنيّ ولا أساءوا (¬2) إذا كان (¬3) الشّتاء فأدفئونى … فإنّ الشيخ يهدمه الشّتاء وأمّا حين يذهب كلّ قرّ … فسربال خفيف أو رداء إذا عاش الفتى مائتين عاما … فقد ذهب اللّذاذة (¬4) والفتاء وقال حين بلغ مائتين وأربعين سنة: أصبح منّى الشّباب قد حسرا (¬5) … إن ينا (¬6) عنّى فقد ثوى عصرا ودّعنا قبل أن نودّعه … لمّا قضى من جماعنا وطرا ها أنا ذا آمل الخلود وقد … أدرك عقلى (¬7) ومولدى حجرا أبا امرئ القيس هل سمعت به! … هيهات هيهات طال ذا عمرا / أصبحت لا أحمل السّلاح ولا … أملك رأس البعير إن نفرا ¬

_ (¬1) المقطوعة فى (شرح أدب الكاتب للجواليقى 266، والمعمرين 6 - 7، وذيل الأمالى: 214، والخزانة 3: 306). قال الجواليقى: «قوله: «فأشرار البنين لكم فداء»، وصفهم بالبر»، وفى الخزانة: «أنذال البنين». (¬2) الكائن: جمع كنة؛ بالفتح والتشديد؛ وهى امرأة الابن والأخ؛ يريد أنهن نعم النساء، وفى حاشية ت (من نسخة): «ألى»، بتشديد اللام قال: «وهو الصحيح؛ ومعنى «ألى»، قصر فى قول بعضهم، واللغة الأخرى «ألا»، مخففا؛ يقال: ألا الرجل يألو؛ إذا قصر وفتر؛ فأما «آلى» فى البيت فلا وجه له؛ لأنه بمعنى حلف، ولا معنى له هاهنا». وفى المعمرين لأبى حاتم: «ويروى: «وما ألى»، والتألية: التقصير، ومن قال: «وما آلى» فالمعنى ما أقسموا ألا يبرونى»، وروى عن أبى عمرو الشيبانى قال: سألنى القاسم بن معن عن قوله: * وما ألّى بنيّ وما أساءوا* قلت: أبطئوا، قال: ما تدع شيئا! وانظر اللسان (ألا). (¬3) كان هاهنا تامة، لا اسم لها ولا خبر، وفى المعمرين: «جاء». (¬4) فى الاقتضاب: «النخيل»، وقال فى شرحه: النخيل: الخيلاء، ويروى: «المسرة»، ويروى: «المروءة»، . (¬5) فى حاشيتى الأصل، ت: «يقال: حسر البعير يحسر إذا أعبا، وتحسر واستحسر كذلك، وحسرته أنا، يتعدى ولا يتعدى». (¬6) ت: «بان عنى». (¬7) ش: «سنى»، وفى م: «عقلى».

والذّئب أخشاه إن مررت به … وحدى وأحشى الرّياح والمطرا من بعد ما قوّة أسرّ (¬1) بها … أصبحت شيخا أعالج الكبرا (¬2) قوله: «عطاء جذم» أى سريع، وكلّ شيء تسرّعت فيه فقد جذمته، وفى الحديث: «إذا أذّنت فترسّل، وإذا أقمت فاجذم»، أى أسرع. والمقرى: الإناء الّذي يقرى فيه. وقوله: «فما آلى بنيّ ولا أساءوا»، أى لم يقصّروا، والآلى: المقصّر (¬3). ¬

_ (¬1) حاشية ت من نسخة: «أنوء». (¬2) وردت هذه الأبيات فى حماسة البحترى: 322، ونوادر أبى زيد 158؛ ونقل صاحب الخزانة (3: 309) عن ابن السيد فى شرح الجمل قال: «روى الرواة أن الربيع بن ضبع عاش حتى أدرك الإسلام، وأنه قدم الشام على معاوية بن أبى سفيان ومعه حفدته، ودخل حفيده على معاوية فقال له: اقعد يا شيخ؛ فقال له: وكيف يقعد من جده بالباب؟ فقال له معاوية: لعلك من ولد الربيع بن ضبع، فقال: أجل؛ فأمره بالدخول، فلما دخل سأله معاوية عن سنه فقال: أقفر من ميّة الجريب إلى الزّ … جين إلّا الظباء والبقرا كأنّها درّة منعّمة … من نسوة كنّ قبلها دررا أصبح منّى الشباب مبتكرا … إن ينأ عنى فقد ثوى عصرا إلى آخر الأبيات المتقدمة؛ فقرأ معاوية، وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ. (¬3) وانظر ترجمة الربيع بن ضبع وأخباره وأشعاره فى (المعمرين 6 - 7، واللآلئ 802، والخزانة 3: 306 - 309، والإصابة، 2: 209).

18

18 مجلس آخر [المجلس الثامن عشر: ] [أخبار أبى الطمحان القينىّ وإيراد طائفة من شعره: ] ومن المعمّرين أبو الطّمحان القينىّ، واسمه حنظلة بن الشّرقىّ، من بنى (¬1) كنانة ابن القين؛ قال أبو حاتم: عاش مائتى سنة، فقال فى ذلك: حنتنى حانيات الدّهر حتّى … كأنى خاتل (¬2) أدنو لصيد قصير الخطو يحسب من رآنى … - ولست مقيّدا- أنّى بقيد ويروى: «قريب الخطو». قال أبو حاتم: حدثنى عدّة من أصحابنا أنهم سمعوا يونس بن حبيب ينشد هذين البيتين، وينشد أيضا: تقارب خطو رجلك يا سويد (¬3) … وقيّدك الزّمان بشرّ قيد وهو القائل: وإنّى من القوم الذين هم هم … إذا مات منهم ميّت قام صاحبه (¬4) نجوم سماء كلّما غاب كوكب … بدا كوكب تأوى إليه كواكبه أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم … دجى اللّيل حتّى نظّم الجزع ثاقبه وما زال منهم حيث كان مسوّد (¬5) … تسير المنايا حيث سارت كتائبه (¬6) ومعنى البيتين الأوّلين يشبه قول أوس بن حجر: ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «من كنانة». (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «حابل». (¬3) ت، ش: «يادويد». (¬4) ش: «منهم سيد». (¬5) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «حيث كانوا متوج». (¬6) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «ركائبه».

إذا مقرم منّا ذرا حدّ نابه … تخمّط فينا ناب آخر مقرم (¬1) / ولطفيل الغنوىّ مثل هذا، وهو: كواكب دجن كلّما انقضّ كوكب … بدا وانجلت عنه الدّجنّة كوكب (¬2) وقد أخذ الخريمىّ هذا المعنى فقال: إذا قمر منّا تغوّر أو خبا … بدا قمر فى جانب الأفق يلمع ومثل ذلك: خلافة أهل الأرض فينا وراثة … إذا مات منا سيّد قام صاحبه ومثله: إذا سيّد منا مضى لسبيله … أقام عمود الملك (¬3) آخر سيّد وكأنّ مزاحما العقيلىّ نظر إلى قول أبى الطمحان: * أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم* فى قوله: وجوه لو أنّ المدلجين اعتشوا بها … صدعن الدّجى حتّى ترى الليل ينجلى (¬4) ويقارب ذلك قول حجيّة بن المضرّب الكندىّ: أضاءت لهم أحسابهم فتضاءلت … لنورهم الشّمس المضيئة والبدر (¬5) وأنشد محمد بن يحيى الصولىّ فى معنى بيتى أبى الطّمحان: ¬

_ (¬1) ديوانه: 27، واللسان (خمط) وفى حاشيتى الأصل، ت: «ذرا الشيء: سقط، وذروته: طيرته. وتخمط الفحل؛ إذا انتفخ عند الهيام». (¬2) ديوانه: 19. (¬3) حاشية ت (من نسخة) «الدين». (¬4) ديوانه: 6، مجالس ثعلب: 277. (¬5) من أبيات ذكرها القالى فى (الأمالى 1: 53 - 54)، وقال: «يمدح فيها يعفر بن زرعة، أحد الأملوك أملوك ردمان»؛ وأولها: إذا كنت سائلا عن المجد والعلى … وأين العطاء الجزل والنّائل الغمر فنقّب عن الأملوك واهتف لحمير … وعش جار ظلّ لا يغالبه الدّهر والأملوك: قبيلة من حمير، وردمان: مدينة باليمن».

من البيض الوجوه بنى سنان … لو أنّك تستضيء بهم أضاءوا (¬1) هم حلّوا من الشّرف المعلّى … ومن كرم العشيرة حيث شاءوا (¬2) فلو أنّ السّماء دنت لمجد … ومكرمة دنت لهم السّماء (¬3) وأبو الطمحان القائل: إذا كان فى صدر ابن عمّك إحنة … فلا تستثرها سوف يبدو دفينها (¬4) وهو القائل: إذا شاء راعيها استقى من وقيعة … كعين الغراب صفوها لم يكدّر (¬5) ويروى: «صفيّه لم يكدّر»، والوقيعة: المستنقع فى الصخرة للماء، ويقال للماء إذا زل (¬6) من صخرة فوقع/ فى بطن أخرى ماء الوقائع، وأنشدوا لذى الرّمة: ونلنا سقاطا من حديث كأنه … جنى النّحل ممزوجا بماء الوقائع (¬7) ويقال للماء الّذي يجرى على الصخر ماء الحشرج، وللماء الّذي يجرى بين الحصى والرمل ماء المفاصل، وأنشدوا لأبى ذؤيب: ¬

_ (¬1) من أبيات ثمانية، نسبها أبو تمام إلى أبى البرج القاسم بن حنبل المرىّ؛ يقولها فى زفر بن أبى هاشم ابن مسعود بن سنان؛ وأولها: أرى الخلّان بعد أبى حبيب … وحجر فى جنابهم جفاء وهى فى الحماسة- بشرح التبريزى 1: 197 - 198، وأبيات منها فى الحيوان 2: 1 - 2، والمؤتلف والمختلف 62، ومعجم المرزباني 323. (¬2) فى الحماسة: «حسب العشيرة». (¬3) فى الحماسة: «لكم السماء». (¬4) البيت فى اللسان (أحن)، نسبه إلى الأقيبل القينى؛ وذكر قبله: متى ما يسؤ ظنّ امرئ بصديقه … يصدّق بلاغات يجئه يقينها وهو أيضا بهذه النسبة فى المؤتلف والمختلف: 23؛ وفى الفائق 1: 16؛ من غير عزو. (¬5) ت: «كعين العذاب»، قال: وذكر فوقها: «وهو اسم موضع» وعين الغراب يضرب بها المثل فى الصفاء. (¬6) ت: «عن صخرة». (¬7) ديوانه: 358.

أخبار عبد المسيح بن بقيلة الغسانى

مطافيل أبكار حديث نتاجها … يشاب بماء مثل ماء المفاصل (¬1) وأنشد أبو محلّم السعدىّ لأبى الطّمحان: بنيّ إذا ما سامك الذّلّ قاهر … عزيز فبعض الذّلّ أبقى وأحرز (¬2) ولا تحم (¬3) من بعض الأمور تعزّزا … فقد يورث الذّلّ الطويل التّعزّز وهذان البيتان يرويان لعبد الله بن معاوية الجعفرىّ. وروى لأبى الطّمحان أيضا فى مثل هذا المعنى: يا ربّ مظلمة (¬4) يوما لطيت لها … تمضى عليّ إذا ما غاب نصّارى (¬5) حتّى إذا ما انجلت عنّى غيابتها … وثبت فيها وثوب المخدر الضّارى (¬6) *** [أخبار عبد المسيح بن بقيلة الغسانىّ: ] ومن المعمّرين عبد المسيح بن بقيلة الغسّانىّ، وهو عبد المسيح بن عمرو بن قيس ابن حيان بن بقيلة، وبقيلة اسمه ثعلبة، وقيل الحارث؛ وإنما سمّى بقيلة لانه خرج فى بردين أخضرين على قومه، فقالوا له: ما أنت إلا بقيلة، فسمى لذلك. وذكر الكلبىّ وأبو مخنف وغيرهما أنه عاش ثلاثمائة سنة وخمسين سنة، وأدرك الإسلام فلم يسلم، وكان نصرانيّا. وروى أن خالد بن الوليد لما نزل على الحيرة، وتحصّن منه أهلها أرسل إليهم: ابعثوا إلى رجلا من عقلائكم، وذوى أسنانكم (¬7). فبعثوا إليه بعبد المسيح بن بقيلة، فأقبل يمشى ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «قبله: وإنّ حديثا منك لو تبذلينه … جنى النّحل فى ألبان عوذ مطافل «مطافيل أبكار»، بدل من قوله: «عوذ مطافل»، ومطافل: جمع مطفل؛ وهى التى معها ولدها». وانظر ديوان الهذليين 1: 140. (¬2) حاشية ت (من نسخة): «أتقى وأحرز». (¬3) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «ولا تجن». (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «مظلمة»، بضم الميم. (¬5) ش: «أنصارى». (¬6) الغياية: كل ما أظل الإنسان فوق رأسه. وانظر ترجمة أبى الطمحان وأخباره وأشعاره فى (الشعر والشعراء 348 - 349، والمعمرين 57، والاشتقاق 317، والمؤتلف والمختلف 149 - 150، والأغانى 11: 125 - 128، واللآلى 332، والإصابة 2: 66، والخزانة 3: 426). (¬7) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «أنسابكم».

حتى دنا من خالد، فقال له: انعم صباحا أيها الملك! قال: قد أغنانا الله عن تحيّتك هذه، فمن أين أقصى أثرك أيها الشيخ؟ قال: من ظهر أبى، قال: فمن أين خرجت؟ قال من بطن أمى، قال: فعلام أنت؟ قال: على الأرض، قال: ففيم أنت؟ قال: فى ثيابى، قال: أتعقل- لا عقلت؟ قال: إي والله/ وأقيّد، قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد، قال خالد: ما رأيت كاليوم قطّ، إنى أسأله عن الشيء [وينحو فى غيره] (¬1)، قال: ما أجبتك إلّا عما سألت، فسل عمّا بدا لك. قال: أعرب أنتم أم نبيط (¬2)؟ قال: عرب استنبطنا، ونبيط استعربنا، قال: أفحرب أنتم أم سلم؟ قال: بل سلم، قال: فما هذى الحصون؟ قال: بنيناها للسّفيه (¬3) نحذر منه حتّى يجيء الحليم فينهاه، قال: كم أنى لك؟ قال: ستون وثلاثمائة سنة، قال: فما أدركت؟ قال: أدركت سفن البحر ترفأ (¬4) فى هذا الجرف، ورأيت المرأة تخرج من الحيرة، وتضع مكتلها على رأسها، لا تزوّد إلّا رغيفا واحدا حتى تأتى الشام، ثم قد أصبحت خرابا يبابا، وذلك دأب الله فى البلاد والعباد. قال- ومعه سمّ ساعة يقلّبه فى كفّه-: فقال له خالد: ما هذا فى كفّك؟ قال: هذا السّم، قال: ما تصنع به؟ قال: إن كان عندك ما يوافق قومى وأهل بلدى حمدت الله وقبلته، وإن كانت الأخرى لم أكن أول من ساق إليهم ذلّا وبلاء، أشربه فأستريح من الدنيا، فإنما بقى من عمرى اليسير، قال خالد: هاته، فأخذه ثم قال: بسم الله وبالله رب الأرض والسماء، الّذي لا يضر مع اسمه شيء، ثم أكله، فتجللته غشية، ثم ضرب بذقنه فى صدره طويلا، ثم عرق فأفاق، كأنما أنشط من عقال. فرجع ابن بقيلة إلى قومه فقال: جئتكم من عند شيطان، أكل سمّ ساعة فلم يضرّه، ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «وينحو بى إلى غيره». (¬2) ش: «نبط»، وهو بمعنى النبيط: «وفى حاشية الأصل: «أصل النبط قوم كانوا يستنبطون الماء ويحتفرون الآبار للعرب؛ فقيل لأهل السواد النبيط». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «لسفيه». (¬4) فى حاشية الأصل، ت: «أرفأت السفينة: قربتها من الشط، وذلك الموضع مرفأ».

صانعوا القوم وأخرجوهم عنكم، فإن هذا أمر مصنوع (¬1) لهم، فصالحوهم (¬2) على مائة ألف درهم، وأنشأ ابن بقيلة يقول: أبعد المنذرين أرى سواما … تروّح بالخورنق والسّدير! (¬3) [أبعد فوارس النّعمان أرعى … مراعى نهر مرّه فالحفير! ] (¬4) تحاماه فوارس كلّ قوم … مخافة ضيغم عالى الزّئير وصرنا بعد هلك أبى قبيس … كمثل الشّاء فى اليوم المطير - يريد أبا قابوس، فصغر، ويروى «كمثل المعز» - تقسّمنا القبائل من معدّ … علانية كأيسار الجزور (¬5) نؤدّى الخرج بعد خراج كسرى … وخرج من قريظة والنّضير كذاك الدّهر دولته سجال … فيوم من مساة (¬6) أو سرور / ويقال إن عبد المسيح لما بنى بالحيرة قصره المعروف بقصر بنى بقيلة قال: لقد بنيت للحدثان حصنا … لو أنّ المرء تنفعه الحصون طويل الرّأس أقعس مشمخرّا … لأنواع الرّياح به حنين (¬7) ومما يروى لعبد المسيح بن بقيلة: والنّاس أبناء علّات فمن علموا … أن قد أقلّ فمجفوّ ومهجور (¬8) وهم بنون لأمّ إن رأوا نشبا … فذاك بالغيب محفوظ ومخفور وهذا يشبه قول أوس بن حجر: ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «أى كأن الله صنعه لهم». (¬2) ت، د: «فصانعوهم». (¬3) الأبيات فى معجم البلدان: 3: 485، وفى حاشية ت (من نسخة) «تروح»، بفتح الحاء، والخورنق والسدير: موضعان بالحيرة. (¬4) تكملة من ت. (¬5) معجم البلدان: «كأنا بعض أجزاء الجزور». (¬6) حاشية الأصل (من نسخة): «من مساءة أو سرور». (¬7) م: «أنين». (¬8) قال فى اللسان (علل): «أبناء علات، يستعمل فى الجماعة المختلفين»، واستشهد بالبيتين؛ وأصله فى الأولاد تختلف أمهاتهن. وفى حاشية الأصل: «بنو العلات: بنو الضرائر»، وفى م: «فمجفوّ ومحقور»؛ وهى رواية اللسان.

أخبار النابغة الجعدى وإيراد طائفة من أشعاره

بنى أمّ ذى المال الكثير يرونه … - وإن كان عبدا- سيّد الأمر جحفلا (¬1) وهم لمقلّ المال أولاد علّة … وإن كان محضا فى العمومة مخولا وذكر أنّ بعض مشايخ أهل الحيرة خرج إلى ظهرها يختط ديرا (¬2)، فلما احتفر موضع الأساس، وأمعن فى الاحتفار أصاب كهيئة البيت (¬3)، فدخله فإذا رجل على سرير من رخام (¬4)، وعند رأسه كتابة: «أنا عبد المسيح بن بقيلة. حلبت الدهر أشطره حياتى … ونلت من المنى بلغ المزيد (¬5) وكافحت الأمور وكافحتنى … فلم أحفل بمعضلة كئود وكدت أنال فى الشّرف الثّريّا … ولكن لا سبيل إلى الخلود (¬6) *** [أخبار النابغة الجعدى وإيراد طائفة من أشعاره: ] ومن المعمّرين النابغة الجعدىّ، واسمه قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، ويكنى أبا ليلى. وروى أبو حاتم السجستانىّ قال: كان النابغة الجعدىّ أسنّ من النابغة الذّبيانىّ، والدليل على ذلك قوله: تذكّرت والذّكرى نهيج على الهوى … ومن حاجة المحزون أن يتذكّرا (¬7) نداماى عند المنذر بن محرّق … أرى اليوم منهم ظاهر الأرض أقفرا / كهول وفتيان كأنّ وجوههم … دنانير ممّا شيف فى أرض قيصرا ¬

_ (¬1) ديوانه: 22، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «سيد الملك». ويقال: رجل جحفل؛ أى سيد عظيم القدر؛ ذكره صاحب اللسان، واستشهد بالبيت. وفى حاشيتى الأصل، ت: «قبله: وإنى وجدت الناس إلّا أقلّهم … خفاف العهود يكثرون التنقّلا. (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «دارا». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «الكهف». (¬4) ش: «زجاج». (¬5) حاشية الأصل: «أى البلغ من المزيد». (¬6) وانظر ترجمة عبد المسيح بن بقيلة أيضا فى المعمرين 37 - 38. (¬7) من قصيدة طويلة، 76 بيتا، ذكرها صاحب جمهرة الأشعار فى 301 - 307.

فهذا يدلّ على أنه كان مع المنذر بن محرّق، والنابغة الذّبيانىّ كان مع النعمان بن المنذر ابن محرق. قوله: «شيف» يعنى جليّ، والمشوف المجلوّ. ويقال: إن النابغة غبر ثلاثين سنة لا يتكلّم (¬1)، ثم تكلم بالشعر ومات وهو ابن عشرين ومائة سنة بأصبهان، وكان ديوانه بها، وهو الّذي يقول: فمن يك سائلا عنّى فإنى … من الفتيان أيام الخنان - وأيام الخنان: أيام كانت للعرب قديمة، هاج بها فيهم مرض فى أنوفهم وحلوقهم- مضت مائة لعام ولدت فيه … وعشر بعد ذاك وحجّتان (¬2) فأبقى الدّهر والأيام منّى … كما أبقى من السّيف اليمانى تفلّل وهو مأثور جراز … إذا جمعت بقائمه اليدان (¬3) وقال أيضا فى طول عمره: لبست أناسا فأفنيتهم … وأفنيت بعد أناس أناسا ثلاثة أهلين أفنيتهم … وكان الإله هو المستآسا ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «أى لا يتكلم بالشعر، وسميت القصيدة كلمة». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ت: «ذكر المبرد فى قول النابغة: على حين عاتبت المشيب على الصّبا … وقلت ألمّا أصح والشيب وازع أنه يجوز فى «حين» النصب والجر. وذكر بعض المتأخرين أنه إذا أضيف الظرف إلى المبنى لم يجز فيه إلا النصب، وإنما يجوز الجر إذا أضيف إلى المعرب؛ كقوله تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ، وهذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وقول النابغة: «لعام ولدت فيه» لا يحتاج إلى «فيه» بل هو كالزيادة المستغنى عنها؛ لأنه إذا أضيف «العام» إلى «ولدت» كان المضاف إليه مع المضاف فى حكم الشيء الواحد؛ فلا يحتاج إلى العائد؛ بخلاف أن تكون الجملة صفة؛ كقوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ؛ وكأنه للبيان والتحقيق، على تقدير: «لعام ولدت»، ثم أضمر: «ولدت»، أخرى، والجار والمجرور يتعلق بولدت المضمر». وانظر الكامل- بشرح المرصفى 2: 220. (¬3) مأثور: باق أثره. والجراز: الماضى النافذ فى الضريبة، وانظر طبقات الشعراء: 104.

معنى المستآس: المعتاض (¬1). وروى عن هشام بن محمد الكلبىّ أنه عاش مائة وثمانين سنة. وروى ابن دريد عن أبى حاتم فى موضع آخر أن النابغة الجعدىّ عاش مائتى سنة، وأدرك الإسلام، وروى له: قالت أمامة كم عمرت زمانة … وذبحت من عتر على الأوثان! - العتيرة (¬2): شاة تذبح لأصنامهم فى رجب فى الجاهلية- ولقد شهدت عكاظ قبل محلّها … عنها وكنت أعدّ مل فتيان (¬3) والمنذر بن محرّق فى ملكه … وشهدت يوم هجائن النّعمان (¬4) ¬

_ (¬1) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): «المستعاض»، وهو من العوض. (¬2) حاشية الأصل: «العتر والعتيرة كالذبح والذبيحة». (¬3) ش: «فيها»، وفى حاشية الأصل: «محلها فيها؛ أى نزولها فى عكاظ، ومحلها عنها، أى نزولها فيما عدا عكاظ، و «عن» لما عدا الشيء وجاوزه». (¬4) حواشى الأصل، ت، ف: «هو المنذر بن امرئ القيس بن عمرو ابن عدى بن ربيعة بن نصر اللخمى. وعمرو بن عدى هو ابن أخت جذيمة بن مالك الأبرش؛ وقيل له الأبرش والوضاح لبرص به؛ وكان يقال لامرئ القيس أبى المنذر محرق؛ وفيهم يقول الأسود بن يعفر: ماذا أؤمل بعد آل محرّق … - تركوا منازلهم- وبعد إياد والنعمان بن امرئ القيس هو النعمان الأكبر؛ ويقال إن أنوشروان بن قباذ هو الّذي ملكه؛ وقيل ملكه قباذ. والنعمان هذا هو الّذي بنى الخورنق؛ وهو الّذي لبس المسوح وتزهد وساح فى الأرض، ثم ملك أخوه المنذر بن امرئ القيس؛ ملكه أنوشروان، وأمه من النمر بن قاسط؛ ويقال لها ماء السماء لجمالها، وأبوها عوف بن جشم. ومن الأزد رجل يقال له ماء السماء أيضا؛ وهو عامر أبو عمرو بن عامر، وعمرو هو الّذي يقال له مزيقياء ثم ملك المنذر بن المنذر بن امرئ القيس، ثم ملك عمرو بن هند مضرط الحجارة؛ وهو محرق أيضا لأنه أحرق من بنى دارم ثمانية وتسعين رجلا، وكملهم مائة برجل من البراجم وبامرأة نهشلية؛ ولذلك قيل: «إن الشقى وافد البراجم». ثم ملك بعده النعمان بن المنذر بن المنذر ابن امرئ القيس؛ وكان يكنى أبا قابوس؛ وهو صاحب النابغة الذبيانى؛ وكان له يومان: يوم نعيم ويوم بؤس، ومحرق أيضا لقب الحارث بن عمرو، ملك الشام من آل جفنة؛ وهو أول من حرق العرب فى ديارهم. وامرأة هجان؛ أى حرة كريمة لم يعرفها الإماء، من نسوة هجان؛ قال أبو زيد: والهجان من الإبل: البيض؛ يوصف به الواحد والجمع؛ فإذا كان واحدا فهو مثل كتاب، وإذا كان جمعا فهو مثل كلاب؛ ويقال ناقة هجان وبعير هجان، والجمع على هجائن أيضا. وهجائن النعمان معروفة؛ وهى نجائبه؛ -

وعمرت حتى جاء أحمد بالهدى … وقوارع تتلى من القرآن (¬1) / ولبست مل إسلام ثوبا واسعا … من سيب لا حرم ولا منّان (¬2) وله أيضا فى طول عمره: المرء يهوى أن يعيش وطول عيش ما يضرّه (¬3) تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مرّه وتتابع الأيام حتّى لا يرى شيئا يسرّه كم شامت بى إن هلكت وقائل لله درّه! ويروى أن النابغة الجعدىّ كان يفتخر ويقول: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنشدته: بلغنا السّماء مجدنا وجدودنا … وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أين المظهر يا أبا ليلى؟ » قلت: الجنة يا رسول الله، فقال: «أجل إن شاء الله»، ثم أنشدته: فلا خير فى حلم إذا لم تكن له … بوادر تحمى صفوه أن يكدّرا ولا خير فى جهل إذا لم يكن له … حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا فقال صلى الله عليه وآله: «لا يفضض الله فاك! »، وفى رواية أخرى: «لا يفضض فوك! » فيقال: إن النابغة عاش عشرين ومائة سنة، لم تسقط له سنّ ولا ضرس. وفى رواية أخرى عن بعضهم قال: فرأيته وقد بلغ الثمانين ترفّ غروبه، وكان كلّما سقطت له ثنيّة نبتت له أخرى مكانها، وهو أحسن الناس ثغرا. معنى ترفّ تبرق، وكأن الماء يقطر منها. ¬

_ - وكان يقال لها عصافير النعمان لحقتها فى سيرها. وفى كلام حسان بن ثابت: فما حسدت أحدا حسدى النابغة حين أمر له النعمان بن المنذر بمائة ناقة بريشها من نوق عصافيره، وجام وآنية من فضة، وكانوا إذا حبا الملك بعضهم بنوق يغمزون فى أسنمتها ريش النعام؛ ليعلم أنها حباء الملك». (¬1) القوارع من القرآن: آيات الوعد والوعيد. (¬2) الرجل الحرم: المانع. (¬3) ش: «قد يضره».

قال المرتضى أدام الله علوّه: ومما يشاكل قوله: «إلى الجنة» فى جواب قول النبي صلى الله عليه وآله: «أين المظهر يا أبا ليلى» - وإن كان يتضمّن العكس من معناه- ما روى من دخول الأخطل على عبد الملك بن مروان، مستغيثا من فعل الجحّاف السّلمىّ، وأنه أنشده: لقد أوقع الجحّاف بالبشر وقعة … إلى الله منها المشتكى والمعوّل (¬1) / فإن لم تغيّرها قريش بملكها … يكن عن قريش مستماز ومزحل (¬2) فقال عبد الملك له: إلى أين يا ابن اللّخناء؟ فقال: إلى النار، قال: لو قلت غيرها لقطعت لسانك. فقوله: «النار» تخلّص مليح على البديهة، كما تخلّص الجعدىّ بقوله: «إلى الجنة». وأول قصيدة الجعدىّ الّذي ذكرنا منها الأبيات: خليلىّ غضّا ساعة وتهجّرا (¬3) … ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا ولا تسألا، إنّ الحياة قصيرة … فطيرا لروعات الحوادث أوقرا وإن كان أمر لا تطيقان دفعه … فلا تجزعا مما قضى الله واصبرا ألم تعلما أنّ الملامة نفعها … قليل إذا ما الشّيء ولى فأدبرا (¬4) لوى الله علم الغيب عمّن سواءه … ويعلم منه ما مضى وتأخّرا وفيها يقول: وجاهدت حتّى ما أحسّ ومن معى … سهيلا إذا ما لاح ثمّ تغوّرا - يريد: إنى كنت بالشام، وسهيل لا يكاد يرى هناك، وهذا بيت معنى- وفيها يقول: ونحن أناس لا نعوّد خيلنا … إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا ¬

_ (¬1) ديوانه: 10 والطبقات: 412، والبشر: جبل بالجريرة، يمتد من عرض الفرات إلى أرض الشام، وهو الجحاف بن حكيم السلمى، وانظر خبره وقصة يوم البشر فى الأغانى 11: 55 - 60. (¬2) يقال: امتاز القوم إذا تنحى عصابة منهم ناحية، وكذلك استماز؛ ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت. والمزحل: الموضع: الّذي ينزحل إليه؛ أى يتنحى ويتباعد. وانظر اللسان (ميز- زحل). (¬3) التهجر: السير فى الهاجرة. (¬4) حاشية ت: «بعده: يهيج اللحاء والملامة ثم ما … يقرّب منّا غير ما كان قدّرا.

وننكر (¬1) يوم الرّوع ألوان خيلنا … من الطّعن حتّى تحسب (¬2) الجون أشقرا وليس بمعروف لنا أن نردّها … صحاحا ولا مستنكر (¬3) أن تعقّرا وأخبرنا المرزبانىّ قال أنشدنا عليّ بن سليمان الأخفش قال أنشدنا أحمد بن يحيى قال: أنشدنا محمد بن سلّام وغيره للنابغة الجعدىّ: تلوم على هلك البعير ظعينتى … وكنت على لوم العواذل زاريا (¬4) ألم تعلمى أنى رزئت محاربا (¬5) … فمالك منه اليوم شيء ولا ليا ومن قبله ما قد رزئت بوحوح (¬6) … وكان ابن أمّى والخليل المصافيا فتى كملت أخلاقه غير أنه … جواد فما يبقى من المال باقيا (¬7) فتى تمّ فيه ما يسرّ صديقه … على أنّ فيه ما يسوء الأعاديا - ويروى: «فتى كان فيه ما يسرّ» - أشمّ طويل (¬8) السّاعدين سميدع … إذا لم يرح للمجد أصبح غاديا السميدع: السيد. ومما يروى للنابغة الجعدىّ: عقيليّة أو من هلال بن عامر … بذى الرّمث من وادى المنار خيامها (¬9) إذا ابتسمت فى اللّيل واللّيل دونها … أضاء دجى الليل البهيم ابتسامها ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «وتنكر»، بالبناء للمجهول. (¬2) حاشية ت (من نسخة) «ويحسب الجون»، بالبناء للمجهول. (¬3) حاشية ت (من نسخة): «ولا مستنكرا» بالعطف على المعنى. (¬4) من أبيات يرثى فيها أخاه لأمه، وقد ذكرت متفرقة فى ديوان الحماسة 3: 19، والخزانة 2: 12 - 13، وشرح شواهد المغنى: 209 والأمالى 2: 2، واللآلئ: 637). (¬5) هو محارب بن قيس بن عدس؛ كان من أشراف قومه. (¬6) هو وحوح بن عبد الله؛ قال أبو عبيد البكرى: «هو أخو النابغة لأمه». (¬7) رواية البيت فى ت: فتى كملت أخلاقه غير أنّه … جواد فما بقي من المال باقيا. (¬8) حاشية ت (من نسخة): «طوال الساعدين». (¬9) ش: «وادى المياه».

وذكر الأصمعىّ عن أبى عمرو بن العلاء قال: سئل الفرزدق بن غالب عن الجعدىّ فقال: صاحب خلقان؛ يكون عنده مطرف بألف دينار، وخمار بواف (¬1). قال الأصمعىّ: وصدق الفرزدق، بينا (¬2) النابغة فى كلام أسهل من الزلال وأشد من الصخر إذ لان فذهب، ثم أنشد له: سما لك همّ ولم تطرب … وبتّ ببثّ ولم تنصب وقالت سليمى أرى رأسه … كناصية الفرس الأشهب وذلك من وقعات المنون … ففيئى إليك ولا تعجبى أتين على إخوتى سبعة (¬3) … وعدن على ربعى الأقرب ثم يقول فيها بعدها (¬4): فأدخلك الله برد الجنا … ن جذلان فى مدخل طيّب فلان كلامه؛ حتى لو كان أبو الشمقمق قال هذا البيت كان رديئا ضعيفا. قال الأصمعىّ: وطريق الشعر إذا أدخلته فى باب الخير لان، ألا ترى أنّ حسان بن ثابت كان علا فى الجاهلية والإسلام، فلما أدخل شعره فى باب الخير من مراثى النبي صلى الله عليه وآله وحمزة وجعفر (¬5) عليهما السلام/ وغيرهما لان شعره! ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «من كلامهم: مطرف بآلاف، وخمار بواف؛ أى بدرهم واف». (¬2) حاشية ت: «بينا وبينما يتلقيان بالفعل؛ ولا يتلقيان بإذا؛ هذا هو الفصيح العالى، كقوله: * فبيناه يشرى رحله قال قائل* وكقوله: بينما نحن بالبلاكث فالقا … ع سراعا والعيس تهوى هويّا خطرت خطرة على القلب من ذكراك … وهنا فما استطعت مضيا. (¬3) ش: «إخوة سبعة»، بالجر والتنوين فيهما. (¬4) ش: «فيها». (¬5) وانظر ترجمة النابغة الجعدى وأخباره وأشعاره فى (الشعر والشعراء 247 - 255، والاستيعاب 320 - 325، وأسد الغابة 5: - 2 - 4، والإصابة 6: 218 - 221، والمعمرين 64 - 66، والأغانى 4: 127 - 139، والخزانة 1: 59 - 515، والمؤتلف والمختلف: 191، ومعجم الشعراء: 321، واللآلئ: 247).

19

19 مجلس آخر [المجلس التاسع عشر: ] مسألة [تتضمن الرد على منكرى تطاول الأعمار وامتدادها: ] تتعلق بما ذكرناه. إن سأل سائل فقال: كيف يصحّ ما أوردتموه، من تطاول الأعمار وامتدادها، وقد علمتم أنّ كثيرا من الناس ينكر ذلك ويحيله ويقول: إنه لا قدرة عليه، ولا سبيل إليه؛ وفيهم (¬1) من ينزل فى إنكاره درجة فيقول: إنه- وإن كان جائزا من طريق القدرة والإمكان- فإنه مما يقطع على انتفائه؛ لكونه خارقا للعادات؛ وإنّ العادات (¬2) إذا وثّق الدليل بأنّها لا تنخرق إلّا على سبيل الآية (¬3) والدّلالة على صدق نبى من الأنبياء عليهم السلام علم أن ما روى من زيادة الأعمار على العادة باطل مصنوع لا يلتفت إلى مثله. الجواب، قيل له: أما من أبطل تطاول الأعمار من حيث الإحالة، أو أخرجه عن (¬4) باب الإمكان فقوله ظاهر الفساد، لأنه لو علم ما العمر فى الحقيقة، وما المقتضى لدوامه إذا دام، وانقطاعه إذا (¬5) انقطع لعلم من جواز امتداده ما علمناه. والعمر هو استمرار كون من يجوز أن يكون حيّا وغير حىّ حيا. وإن شئت أن تقول: هو استمرار كون الحىّ الّذي لكونه على هذه الصفة (¬6) ابتداء حيا. وإنما شرطنا الاستمرار؛ لأنه يبعد أن يوصف من كان حالة واحدة حيّا بأنّ له عمرا؛ بل لا بدّ من أن يراعوا فى ذلك ضربا من الامتداد والاستمرار، وإن قلّ. وشرطنا أن يكون ممّن يجوز أن يكون غير حىّ، أو يكون لكونه حيا ابتداء لئلا (¬7) يلزم عليه القديم (¬8) تعالى؛ لأنه تعالى جلّت عظمته ممن لا يوصف بالعمر؛ وإن استمر كونه ¬

_ (¬1) ت: «منهم». (¬2) ت: «ولأن العادات». (¬3) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): «الإبانة»، . (¬4) ت: «جميع ما روى». (¬5) م: «من باب الإمكان». (¬6) ت: «متى انقطع». (¬7) م: «الصفات». (¬8) حاشية ت (من نسخة): «احترازا من أن يلزم عليه القديم تعالى».

حيّا؛ وقد علمنا أن المختصّ بفعل الحياة هو القديم تعالى، وفيما تحتاج إليه الحياة من البنية والمعانى ما يختص به عز وجل، ولا يدخل إلّا تحت مقدوره؛ كالرّطوبة وما يجرى مجراها؛ فمتى فعل القديم تعالى الحياة وما تحتاج إليه من البنية- وهى مما يجوز عليه البقاء- وكذلك ما تحتاج إليه فليست (¬1) تنتفى إلا بضد يطرأ عليها، أو بضدّ ينفى ما تحتاج إليه؛ والأقوى أنه لا ضدّ لها فى الحقيقة (¬2)؛ وإنما ادّعى قوم أنّه ما يحتاج إليه، ولو كان للحياة ضدّ على الحقيقة لم يخلّ بما نقصده/ فى هذا الباب. فمهما لم يفعل القديم تعالى ضدّها، أو ضدّ ما تحتاج إليه، ولا نقض ناقض بنية الحى استمرّ كون الحى حيا. ولو كانت الحياة لا تبقى على مذهب من رأى ذلك لكان ما قصدناه صحيحا، لأنه تعالى قادر على أن يفعلها حالا فحالا، ويوالى بين فعلها وفعل ما تحتاج إليه، فيستمرّ كون الحىّ حيا. فأما ما يعرض من الهرم بامتداد الزمان وعلوّ السن وتناقص بنية الإنسان، فليس مما لا بدّ منه، وإنما أجرى الله تعالى العادة بأن يفعل ذلك عند تطاول الزمان ولا إيجاب هناك، ولا تأثير للزمان على وجه من الوجوه، وهو تعالى قادر على أن يفعل ما أجرى العادة بفعله، وإذا ثبتت هذه الجملة ثبت أنّ تطاول العمر ممكن غير مستحيل، وإنما أتى من أحال ذلك من حيث اعتقد أنّ استمرار كون الحى حيّا موجب عن طبيعة وقوّة لهما مبلغ من المادة، متى انتهتا إليه [انقطعتا، واستحال أن تدوما] (¬3). ولو أضافوا ذلك إلى فاعل مختار متصرّف لخرج عندهم من باب الإحالة. فأما الكلام فى (¬4) دخول ذلك فى العادة أو خروجه عنها، فلا شكّ فى أن العادة قد جرت فى الأعمار بأقدار متقاربة يعدّ الزائد عليها خارقا للعادة؛ إلّا أنّه قد ثبت أنّ العادة قد تختلف فى الأوقات وفى الأماكن أيضا، ويجب أن يراعى فى العادة إضافتها إلى من هى عادة له فى المكان والوقت. ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «فليس ينتقى». (¬2) ت: «وربما». (¬3) ت: «بطل واستحال أن تدوما». (¬4) حاشية ت (من نسخة): «على ذلك».

وليس يمتنع أن يقلّ ما كانت العادة جارية به على تدريج؛ حتى يصير حدوثه خارقا للعادة بغير خلاف، ولا يكثر (¬1) الخارق للعادة، حتى يصير حدوثه غير خارق لها على خلاف فيه. وإذا صح ذلك لم يمتنع أن تكون العادات فى الزمان الغابر كانت جارية بتطاول الأعمار وامتدادها، ثم تناقص ذلك على تدريج، حتى صارت عادتنا الآن جارية بخلافه، وصار ما بلغ مبلغ تلك الأعمار خارقا للعادة؛ وهذه جملة فيما أردناه كافية. ¬

_ (¬1) ش: «وأن يكثر».

باب فى الجوابات الحاضرة المستحسنة التى يسميها قوم المسكتة

باب فى الجوابات الحاضرة المستحسنة التى يسمّيها قوم المسكتة / اعلم أنّ أجوبة المحاورة والمناظرة إنّما تستحسن وتؤثر إذا جمعت مع الصواب سرعة الحضور؛ فكم من جواب أتى بعد لأى، وورد بعد تقاعس، فلم يكن له فى النفوس وقع، ولا حلّ من القلوب محل الحاضر السريع؛ وإن كان المتثاقل أعرق فى نسب الإصابة، وآخذ بأطراف الحجّة، ولهذا قيل: أحسن النّاس جوابا وأحضرهم قريش، ثم العرب، وإنّ الموالى تأتى أجوبتها بعد فكرة ورويّة. وقد مدح الجواب الحاضر بكل لسان، فقال صحار العبدىّ لمعاوية بن أبى سفيان- وقد سأله عن البلاغة- فقال: أن تصيب فلا تخطئ، وتسرع ولا تبطئ، ثم اختصر ذلك فقال: لا تخطئ ولا تبطئ. ولطول الفكرة والإغراق فى الرويّة مذهب وأوان لا يحمد فيهما (¬1) التسرّع والتعجل، كما لا يحمد فى أوان السرعة التثاقل والتأيّد؛ وإنما تحمد السرعة فى أجوبة المحاورة والمناظرة، وتراد الفكرة والرويّة للآراء المستخرجة والأمور المستنبطة؛ التى على الإنسان فيها مهلة، وله فى تأملها فسحة، ولا عيب عليه معها فى إطالة التأمل، وإعادة التصفّح؛ ولهذا قال الأحنف ابن قيس بصفّين: أغبّوا الرأى، فإن ذلك يكشف لكم عن محضه. وقال عبد الله بن وهب الراسبىّ لما أراده الخوارج على الكلام حين عقدوا له: لا خير فى الرأى الفطير، والكلام القضيب. وشوور ابن التوأم الرّقاشىّ (¬2) فأمسك عن الجواب وقال: ما أحبّ الخبز إلّا بائتا. ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «فيه». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «الرؤاسىّ».

فأما قولهم: ثلاث يعرفن فى الأحمق: سرعة الجواب، وكثرة الالتفات، والثّقة بكل أحد؛ فمحمول على إسراعه بالجواب عند الرأى والمشاورة، والأحوال التى يستحب فيها التأيّد والتثبّت، أو على الإسراع من غير تحصيل ولا ضبط؛ وذلك مذموم لا إشكال فيه. ثم نعود إلى ما قصدناه. روى أنّ بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله سألته: متى يعرف الإنسان ربّه فقال: «إذا عرف نفسه». وقال له صلى الله عليه وآله رجل: إنى أكره الموت، فقال: «ألك مال؟ »، قال: نعم، قال: «قدّم مالك؛ فإن قلب كلّ امرئ عند ماله». وقال يهودىّ لأمير المؤمنين عليه السلام: ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم فيه، فقال عليه السلام: إنا اختلفنا عنه، لا فيه (¬1)؛ ولكنكم ما جفّت أقدامكم من البحر حتى قلتم لنبيكم: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون. وروى أنه لما فرغ عليه السلام من دفن الرسول صلوات الله عليه وآله، سأل عن خبر السّقيفة فقيل له: إنّ الأنصار قالت: منّا أمير ومنكم أمير، فقال عليه السلام: فهلّا ذكرت الأنصار قول النبي صلى الله عليه وآله: «نقبل من محسنهم، ونتجاوز عن مسيئهم»! فكيف يكون الأمر فيهم والوصاة بهم! وقال له عليه السلام ابن الكوّاء: يا أمير المؤمنين، كم بين السماء والأرض؟ فقال: دعوة مستجابة. وقيل له: ما طعم الماء؟ فقال: طعم الحياة. وقيل له: كم بين المشرق والمغرب؟ فقال: مسيرة يوم للشمس. وأثنى عليه رجل- وكان له متّهما- فقال: أنا دون ما تقول، وفوق ما فى نفسك. وكان عليه السلام إذا أطراه رجل قال: اللهم إنك أعلم بى منه، وأنا أعلم منه بنفسى، فاغفر لي ما لا يعلم. أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال: حدّثني عبد الواحد بن محمد الخصيبىّ قال: حدّثني ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة) «ولم تختلف فيه».

أبو عليّ أحمد بن إسماعيل قال: حدثنى أيوب بن الحسين الهاشميّ قال: قدم على الرشيد رجل من الأنصار، يقال له نفيع- وكان عرّيضا- قال: فحضر باب الرشيد، ومعه عبد العزيز ابن عمر بن عبد العزيز، وحضر موسى بن جعفر عليهما السلام على حمار له، فتلقّاه الحاجب بالبرّ (¬1) والإكرام، وأعظمه من كان هناك، وعجّل له الإذن، فقال نفيع لعبد العزيز: من هذا الشيخ؟ قال: أوما تعرفه؟ قال: لا، قال: هذا شيخ آل أبى طالب، هذا موسى بن جعفر، قال: ما رأيت أعجز من هؤلاء القوم! يفعلون هذا برجل [يقدّر أن يزيلهم] (¬2) عن السّرير! أما لئن خرج لأسوءنّه، فقال له عبد العزيز: لا تفعل، فإن هؤلاء أهل بيت قلّما تعرّض لهم أحد فى خطاب إلّا وسموه بالجواب [سمة يبقى عارها] (¬3) عليه مدى الدهر. قال: وخرج موسى بن جعفر عليهما السلام، فقام إليه نفيع الأنصارىّ، فأخذ بلجام حماره ثم قال له: من أنت؟ فقال له: يا هذا، إن كنت تريد النّسب فأنا ابن محمد حبيب الله ابن إسماعيل ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله، وإن كنت تريد البلد، فهو الّذي فرض الله على المسلمين وعليك- إن كنت منهم- الحج إليه، وإن كنت تريد المفاخرة، فو الله ما رضى مشركو قومى (¬4) / مسلمى قومك أكفاء لهم حتى قالوا: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قريش (¬5)؛ خلّ عن الحمار، قال: فخلّى عنه ويده ترعد، وانصرف بخزى، فقال له عبد العزيز: ألم أقل لك! . ويقال إن معاوية استشار الأحنف بن قيس فى عقد البيعة لابنه يزيد، فقال له: أنت أعلم بليله ونهاره. وقال أحمد بن يوسف لأبى يعقوب الخريمىّ: مدحك لمحمد بن منصور أجود من مراثيك ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «بالبشر». (¬2) حاشية ت (من نسخة): يقدر أن يزيلهم». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «وسما يبقى عاره». (¬4) حاشية ط: «يعنى يقوله: «مشركو قومى» شيبة وعتبة وعمرو بن عبد ود. (¬5) ورد بعد هذه العبارة فى م، ومن نسخة بحاشيتى ت، ف: «وإن كنت تريد الصيت والاسم فنحن الذين أمر الله تعالى بالصلاة علينا فى الصلوات المفروضة بقوله: اللهم صل على محمد وآل محمد، فنحن آل محمد».

فيه، فقال: كنّا نعمل للرّجاء، واليوم للوفاء، وبينهما بون. ودخل مطيع بن إياس على الهادى فى حياة المهدىّ فدهش وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقيل له: مه! فقال: بعد أمير المؤمنين. وقال معاوية لعقيل بن أبى طالب- وكان جيّد الجواب حاضره-: أنا خير لك من أخيك، فقال عقيل: إن أخى آثر دينه على دنياه، وأنت آثرت دنياك على دينك؛ فأخى خير لنفسه منك، وأنت خير لى منه. وقال له يوما: إنّ فيكم لشبقا يا بنى هاشم، فقال: هو منّا فى الرّجال، ومنكم فى النساء. وقال له يوما وقد دخل عليه: هذا عقيل، عمّه أبو لهب، فقال عقيل: هذا معاوية، عمّته حمّالة الحطب. وعمة معاوية أمّ جميل (¬1) بنت حرب بن أميّة، وكانت امرأة أبى لهب. وقال له يوما: يا أبا يزيد، أين ترى عمّك أبا لهب؟ فقال له عقيل: إذا دخلت النار فانظر عن يسارك تجده مفترشا عمّتك، فانظر أيّهما أسوأ حالا، الناكح أم المنكوح! وقال له ليلة الهرير بصفّين: يا أبا يزيد، أنت معنا الليلة، قال: ويوم بدر كنت معكم. وقيل لسعيد بن المسيّب- وقد كفّ بصره: ألا تقدح (¬2) عينك؟ قال: حتى أفتحها على من! ودخل معن بن زائدة على المنصور فقال له: كبرت يا معن، قال: فى طاعتك، قال: وإنك لتتجلّد، قال: على أعدائك، قال: وإنّ فيك لبقية، قال: هى لك. وقال عبيد الله بن زياد لمسلم بن عقيل: والله لأقتلنك قتلة يتحدّث بها بعدك، فقال مسلم: أشهد أنّك لا تدع سوء القتلة ولؤم القدرة لأحد أولى بهما منك. وقال رجل لعمرو بن العاص: لأتفرّغنّ لك، قال: إذا وقعت (¬3) فى الشّغل. ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «أم جميل هى ابنة حرب، أخت أبى سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «ألا تفتح عينك؟ ». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «إذا تقع».

وقال معاوية لعمرو بن سعيد بن العاص الملقّب بالأشدق: إلى من أوصى بك أبوك؟ فقال: إنّ أبى أوصى إلى ولم يوص بى. وقال عبيد الله بن زياد بن ظبيان لابنه وقد حضرته/ الوفاة: قد أوصيت بك فلانا فالقه بعدى، فقال: يا أبه، إذا لم يكن للحىّ إلا وصية الميت، فالحىّ هو الميت. وقال الوليد بن يزيد لابن الرّقاع العاملىّ: أنشدنى بعض قولك فى الخمر، فأنشده: كميت إذا شجّت وفى الكأس وردة … لها فى عظام الشّاربين دبيب فقال له: شربتها وربّ الكعبة! فقال ابن الرّقاع: لئن كان نعتى لها بذلك رابك، لقد رابنى معرفتك بها. ولما أتى معاوية نعى الحسن بن عليّ عليهما السلام بعث إلى ابن عبّاس رضى الله عنه- وهو لا يعلم الخبر- فقال له: هل عندك خبر من المدينة (¬1)؟ قال: لا، قال: أتانا (¬2) نعى الحسن- وأظهر سرورا- فقال ابن عباس: إذا لا ينسأ (¬3) فى أجلك، ولا تسدّ حفرتك، قال: أحسبه قد ترك صبية صغارا، قال: كلّنا كان صغيرا وكبر، قال: وأحسبه قد كان بلغ سنّا، قال: مثل مولده لا يجهل، قال معاوية: وقال قائل إنك أصبحت سيّد قومك، قال: أما وأبو عبد الله الحسين بن عليّ حىّ فلا؛ فلما كان من غد أتى يزيد بن معاوية ابن عباس، وهو فى المسجد يعزّى (¬4)، فجلس بين يديه جلسة المعزّى، وأظهر حزنا (¬5) وغمّا، فلما انصرف أتبعه ابن عباس بصره وقال: إذا ذهب آل حرب ذهب حلم قريش. وروى أنّ وفودا دخلت على عمر بن عبد العزيز، فأراد فتى منهم الكلام، فقال عمر: ليتكلم أكبركم، فقال الفتى: إنّ قريشا لترى فيها من هو أسنّ منك، فقال له: تكلّم يا فتى. ¬

_ (¬1) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): «ما جاءك من المدينة خبر؟ ». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «أتى ناعى الحسن». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «إذا لا ينسئ أجلك». (¬4) حواشى الأصل، ت، ف: «كان ذلك بالشام؛ وروى أن ابن عباس رضى الله عنه عقد بالشام عزاء على الحسن صلوات الله عليه». (¬5) ت: «تحزنا».

وروى محمد بن سلّام الجمحىّ قال: أنشد (¬1) كثيّر عبد الملك بن مروان شعرا: على ابن أبى العاصى دلاص حصينة … أجاد المسدّى نسجها فأذالها (¬2) فقال له: هلّا قلت كما قال الأعشى: وإذا تكون كتيبة ملمومة … شهباء يخشى الذّائدون نهالها (¬3) كنت المقدّم غير لابس جنّة … بالسّيف تضرب معلما أبطالها (¬4) فقال له: إنّه وصفه بالخرق ووصفتك بالحزم (¬5). ويشبه ذلك ما روى (¬6) عن أبى عمرو بن العلاء أنه لقى ذا الرّمة، فقال له: أنشدنى قصيدتك: * ما بال عينك منها الماء ينسكب (¬7) * ¬

_ (¬1) طبقات الشعراء 458 - 459؛ ورواه المرزبانىّ فى الموشح: 145؛ مع اختلاف فى الرواية. (¬2) ابن أبى العاصى هو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبى العاصى بن أمية، ودلاص: وصف للدرع اللينة. والحصينة: المحكمة المتدانية الحلق؛ يكون صاحبها فى حصن مما يصيبه. وسدى الدرع: نسجها. ويقال أذال الدرع؛ إذا أطال ذيلها وأطرافها. (¬3) ديوانه: 27. الكتيبة: القطعة العظيمة من الجيش، وكتيبة ملمومة: مجتمعة مضموم بعضها إلى بعض: وشهباء: بيضاء صافية الحديد. والذائد: الّذي يحمى الحرم ويذود عنها، والنهال: العطاش. (¬4) المقدم: شديد الإقدام على العدو. والجنة هنا: الدرع تستر لابسها. والمعلم: من يعلم مكانه فى الحرب بعلامة أعلم بها نفسه. (¬5) رواية المرزباني: «فقال: يا أمير المؤمنين؛ وصف الأعشى صاحبه بالطيش والخرق والتغرير؛ ووصفتك بالحزم والعزم، فأرضاه»؛ وقد فاضل المرزباني بين هذين الشعرين فقال: «رأيت أهل العلم بالشعر يفضلون قول الأعشى فى هذا المعنى على قول كثير؛ لأن المبالغة أحسن عندهم من الاقتصار على الأمر الأوسط؛ والأعشى بالغ فى وصف الشجاعة حتى جعل الشجاع شديد الإقدام بغير جنة؛ على أنه وإن كان لبس الجنة أولى بالحزم وأحق بالصواب؛ ففى وصف الأعشى دليل قوى على شدة شجاعة صاحبه». (¬6) الخبر فى الموشح 174 - 175، والشعر والشعراء 517 - 518، والأغانى 16: 118؛ واللآلئ: 898؛ مع اختلاف فى الرواية والشعر. (¬7) بقيته: * كأنّه من كلى مفريّة سرب* والكلى: جمع كلية؛ وهى رقعة تكون فى أصل عروة المزادة ومفرية: مقطوعة. وسرب: سائل؛ والقصيدة فى ديوانه 1 - 35.

قصيدة لأبى نواس وشرح ما ورد فيها من الغريب

/ فأنشده إياها، فلما بلغ إلى قوله: تصغى إذا شدّها بالكور جانحة … حتّى إذا ما استوى فى غرزها تثب فقال له أبو عمرو بن العلاء: قول الراعى أحسن مما قلت تراها إذا قام فى غرزها … كمثل السّفينة أو أوقر ولا تعجل المرء عند الورو … ك وهى بركبته أبصر (¬1) فقال ذو الرّمة: إنّ الراعى وصف ناقة ملك، وأنا وصفت ناقة سوقة. وحكى الصّولىّ أنه سمع أعرابيا ينشد بيته الّذي حكيناه، فقال: سقط والله الرجل. فأما الغرز فهو للناقة مثل الرّكاب للدابة، وهو نسع مضفور. وقوله: «تصغى» يريد تميل رأسها، كأنها تسمع، لأنها ليست بنفور، بل مؤدّبة مقوّمة. والكور: الرحل. وقد أخذ هذا المعنى أبو نواس فأحسن نهاية الإحسان، فقال يصف الناقة فى مدحه الخصيب بن عبد الحميد: فكأنّها مصغ لتسمعه … بعض الحديث، بأذنه وقر فلم يرض بأن وصفها بالإصغاء حتى وصفها بالوقر، وهو الثّقل فى الأذن، لأن الثّقيل السمع يكون إصغاؤه وميله إلى جهة الحديث أشدّ وأكدّ (¬2). *** [قصيدة لأبى نواس وشرح ما ورد فيها من الغريب: ] قال سيدنا الشريف أدام الله علوّه: وإنى لأستحسن القصيدة التى من جملتها البيت الّذي أوردناه لأبى نواس؛ لأنها دون العشرين بيتا، وقد نسب فى أولها، ثم وصف النّاقة بأحسن وصف، ثم مدح الرجل الّذي قصد مدحه واقتضاه حاجته؛ كلّ ذلك بطبع يتدفّق، ورونق يترقرق، وسهولة مع جزالة؛ والقصيدة (¬3): ¬

_ (¬1) البيتان فى اللآلئ: 898. الوروك: أن يثنى الرجل إحدى وركيه لينزل من فوق السرج، والبيت الثانى فى اللسان (ورك)، وفى ت: «الركوب»، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «النزول». (¬2) من نسخة بحاشية ت: «وأوكد». (¬3) ديوانه: 101.

يا منّة امتنّها السّكر … ما ينقضى منّى لها الشّكر أعطتك فوق مناك من قبل … قد كنّ قبل، مرامها وعر يثنى إليك بها سوالفه … رشأ صناعة عينه السّحر ظلّت حميّا الكأس تبسطنا (¬1) … حتّى تهتّك بيننا السّتر / فى مجلس ضحك السّرور به … عن ناجذيه وحلّت الخمر أما قوله: «حلّت الخمر» فيحتمل أن يريد به أنّ ما وصفه من طيب الموضع وتكامل السرور به وحضور (¬2) المأمول فيه صار مقتضيا لشرب الخمر، وملجئا إلى تناولها، ورافعا للحرج فيها؛ على مذهب الشعراء فى المبالغة؛ وتكون فائدة وصفها بأنها «حلّت» المبالغة فى وصف الحال بالحسن والطّيب. ويحتمل أن يكون عقد على نفسه، وآلى ألّا يتناول الخمر إلّا بعد الاجتماع مع محبوبه، وكان الاجتماع معه مخرجا له عن يمينه، على مذهب العرب فى تحريم الخمر على نفوسهم، إلى أن يأخذوا بثأرهم؛ ويجرى ذلك مجرى قول الشّنفرى: حلّت الخمر وكانت حراما … وبلأى ما ألمّت تحلّ (¬3) ويحتمل أن يريد «بحلّت» نزلت وأقامت؛ من الحلول الّذي هو المقام؛ لا من الحلال؛ فكأنه وصف بلوغ جميع آرابه وحضور فنون لذّاته، وأنها تكاملت بحلول الخمر؛ التى فيها جميع اللذات؛ وهذا الوجه وإن لم يشر إليه أحد ممّن تقدم فى تفسير هذا البيت؛ فالقول يحتمله، ولا مانع من أن يكون مرادا. وقد قيل إنه أراد استحللنا الخمر لسكرنا، وفقدنا العقول التى كنا نمتنع لها من الحرام؛ والوجوه المتقدمة أشبه وأقرب إلى الصواب. ¬

_ (¬1) د: «تنشطنا». (¬2) د، ف: «وحصول». (¬3) من قصيدة مطلعها: إنّ بالشّعب الّذي دون سلع … لقتيلا دمه ما يطلّ وفى نسبتها خلاف كبير؛ نسبها أبو تمام فى الحماسة 2: 313 - 319 إلى تأبط شرا، وقال التبريزى: «إنها لخلف الأحمر؛ وقيل إنها لابن أخت تأبط شرا»؛ ونسبها ابن قتيبة فى الشعر والشعراء إلى خلف؛ وقال: «إنه نحلها ابن أخت تأبط شرا؛ وكان يقول الشعر وينحله المتقدمين»، وممن نسبها إلى الشنفرى صاحب الأغانى (5: 162).

ولقد تجوب بى الفلاة إذا … صام النّهار وقالت العفر أراد «بصام»، وقف، وذلك وصف له بالامتداد والطول. والعفر: الظّباء اللواتى (¬1) فى ألوانهنّ حمرة يخالطها كدرة (¬2). و «قالت» من القائلة، وهى وقت نصف النهار؛ لا من القول. شدنيّة رعت الحمى فأتت … ملء الحبال كأنّها قصر شدنيّة: منسوبة إلى شدن، وهو موضع باليمن؛ يقال لملكه: ذو شدن. تثنى على الحاذين ذا خصل … تعماله الشّذران والخطر الحاذ: مؤخّر الفخذ. والشّذران: رفع الناقة ذنبها من المرح (¬3). والخطران، معروف من خطر يخطر/. وتعماله، أى عمله. أمّا إذا رفعته شامذة … فتقول رنّق فوقها نسر يعنى بشامذة، أى مبالغة فى رفع ذنبها. ويقال، رنّق الطائر؛ إذا نشر جناحه (¬4) طائرا من غير تحريك. أمّا إذا وضعته خافضة … فتقول أرخى خلفها ستر وتسفّ أحيانا فتحسبها … مترسّما يقتاده أثر (¬5) معنى «تسفّ»، أى تدنى رأسها من الأرض. والمترسّم: الّذي يتتبع الرّسم ويتأمّله؛ ومعنى «يقتاده أثر»، أى هو معنى بطلب الأثر وموكّل بتتبّعه. ويقال: أثر وأثر وإثر؛ ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «التى». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «كدورة». (¬3) فى حواشى الأصل، ت، ف: «فى كتاب ابن فارس: تشذرت الناقة إذا رفعت رأسها من النشاط». (¬4) ت، ش، ف: «جناحيه». (¬5) فى حاشيتى الأصل، ت: «الأثر [بضم الهمزة والثاء]، والأثر [بفتح الهمزة والثاء] سواء؛ قال امرؤ القيس: وإن أدبرت قلت أثفيّة … ململمة ليس فيها أثر.

ثلاث لغات؛ وقد وهم الصّولىّ فى تفسير هذا البيت؛ لأنّه قال: إن أبا نواس جمع الأثر آثارا، ثم جمع الآثار أثرا، ثم خفّف فقال: «أثر». وليس يحتاج إلى ما ذكره مع ما أوردناه؛ وإنما ذهب عليه أنه يقال فى الأثر: أثر. فإذا قصرت لها الزّمام سما … فوق المقادم ملطم حرّ (¬1) فكأنّها مصغ لتسمعه … بعض الحديث، بأذنه وقر تبرى لأنقاض أضرّ بها … جذب البرى فخدودها صعر معنى تبرى، تنبرى، أى تعرض لهذه الأنقاض، والأنقاض: جمع نقض؛ وهو البعير الّذي قد هزله السفر والكدّ. والبرى: جمع برة؛ وهى الحلقة التى تكون فى أنف البعير يذلّل بها. يرمى إليك بها بنو أمل … عتبوا فأعتبهم (¬2) بك الدّهر أنت الخصيب وهذه مصر … فتدفّقا فكلاكما بحر لا تقعدا بى عن مدى أملى … شيئا فما لكما به عذر ويحقّ لى إذ صرت بينكما … ألّا يحلّ بساحتى فقر (¬3) ¬

_ (¬1) الملطم: صفحة العنق. (¬2) أعتبهم: أرضاهم. (¬3) حاشية ت (من نسخة): «الفقر».

20

20 مجلس آخر [المجلس العشرون: ] [عود إلى ذكر الجوابات المستحسنة: ] قال سيدنا أدام الله علوّه: ثم نعود إلى ما كنّا آخذين فيه من ذكر مستحسن الجوابات. روى أن رجلا نظر إلى كثيّر الشاعر راكبا/ وأبو جعفر محمد بن عليّ عليهما السلام يمشى، فقيل له: أتركب وأبو جعفر يمشى! فقال: هو أمرنى بذلك، وأنا بطاعته فى الركوب أفضل منى فى عصيانى إياه بالمشي (¬1). وروى أن دعاة خراسان صاروا إلى أبى عبد الله الصادق عليه (¬2) السلام فقالوا له: أردنا ولد محمد بن عليّ (¬3)، فقال: أولئك بالسّراة ولست بصاحبكم، فقالوا له: لو أراد الله بنا خيرا كنت صاحبنا، فقال المنصور بعد ذلك لأبى عبد الله: أردت الخروج علينا، فقال: نحن ندلّ عليكم فى دولة غيركم، فكيف نخرج عليكم فى دولتكم! وقال عبد الملك بن مروان لنصيب: هل لك فى الشراب؟ فقال له نصيب: الشعر مفلفل، واللون مرمّد (¬4)، وإنما قرّبنى إليك عقلى، فهبه لى. وقال مروان الملقّب بالحمار لحاجبه- وقد ولى منهزما-: كرّ عليهم بالسيف، فقال: لا طاقة لى بذلك، فقال: والله لئن لم تفعل لأسوءنّك، فقال: وددت أنك تقدر على ذلك. وقال يحيى بن خالد لشريك: علّمنا مما علّمك الله يا أبا عبد الله، فقال له شريك: إذا عملتم بما تعلمون، علّمناكم ما تجهلون. ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «فى المشى». (¬2) ت: «أبى عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام». (¬3) هو محمد بن على بن عبد الله بن العباس؛ جد الخلفاء العباسيين؛ وهو الّذي ابتدأت الدعوة على يديه؛ وكان ذلك فى حياة أبيه؛ (وانظر تاريخ ابن الأثير حوادث سنة 118). (¬4) الرمدة: لون إلى الغبرة؛ ومن نسخة بحاشيتى ت، ف: «مربد».

وقال المأمون لمحمد بن عمران: بلغنى أنك بخيل، فقال: ما أجمد فى حقّ، ولا أذوب فى باطل (¬1). وقيل لأبى دؤاد الإيادىّ- ونظر إلى بنته تسوس فرسه: أهنتها يا أبا دؤاد! فقال: أهنتها بكرامتى، كما أكرمتها بهوانى؛ ومثل ذلك قول أعرابىّ لحقه ذلّ على باب السلطان: أهين لهم نفسى لأكرمها بهم … ولن تكرم النّفس التى لا تهينها ودخل عمارة بن حمزة على المنصور، فجلس مجلسه الّذي كان يجلس فيه، فقام رجل إلى المنصور فقال: مظلوم يا أمير المؤمنين، فقال: من ظلمك؟ فقال: عمارة غصبنى ضيعتى، فقال المنصور: قم يا عمارة، فاقعد مع خصمك، فقال عمارة: ما هو لى بخصم؛ فقال له: كيف؟ قال: إن كانت الضيعة له فلست أنازعه فيها؛ وإن كانت لى فهى له، ولا أقوم من مجلس شرّفنى به أمير المؤمنين لأقعد فى أدنى منه بسبب ضيعة. وقال هشام بن عبد الملك لرجل فى الكعبة: سلنى حاجتك، فقال: لا أسأل فى بيت الله غير الله. وهرب سليمان بن عبد الملك من الطّاعون فقيل له: إن الله تعالى/ يقول: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا؛ [الأحزاب: 16]، فقال: ذلك القليل نطلب. وقيل إنّ الجعد بن درهم جعل فى قارورة ترابا وماء، فاستحال دودا وهوامّ، فقال لأصحابه: أنا خلقت ذلك، لأنى كنت سبب كونه. فبلغ ذلك جعفر بن محمد عليهما السلام، فقال: إن كان خلقه فليقل: كم هو؟ وكم الذّكران منه والإناث؟ وكم وزن كل واحدة منهن؟ وليأمر الّذي يسعى إلى هذا الوجه أن يرجع إلى غيره. فانقطع وهرب. ¬

_ (¬1) حاشية ف: «فى كتاب آخر: «ولا أتدفق فى باطل».

وقال المأمون للفضل بن سهل: إنى أخاف عليك أقواما يعادونك، فلا تركب إلى إلّا فى جيش، فقال الفضل: ما أخاف غيرك، فإن أمّنتنى من (¬1) نفسك لم يضرّنى إنسان. وقيل لأبى ثور: ما تقول فى حمّاد بن زيد بن درهم، وحمّاد بن سلمة بن دينار؟ فقال: بينهما فى العلم كقيمة ما بين أبويهما فى الصرف. وأراد المأمون تقبيل السّواد (¬2)، وجلس يناظر العمّال على ذلك، فقام إليه رجل من الدّهاقين فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الله عز وجل ولّاك علينا بالأمانة، فلا تقبّلنا، فأضرب عن ذلك. وقال رجل لابن عبّاس: زوّجنى من فلانة (¬3) - وكانت يتيمة فى حجره- فقال: لا أرضاها لك، لأنها تتشرّف، فقال الرجل: قد رضيت أنا، فقال ابن عباس: الآن لا أرضاك لها. [ويشبه هذا الخبر من وجه ما رواه] (¬4) المدائنىّ قال: أرسل عمر بن عبد العزيز رجلا من أهل الشام وأمره أن يجمع بين إياس بن معاوية المزنيّ (¬5) وبين القاسم بن ربيعة الحوشىّ (¬6) من بنى عبد الله بن غطفان، فيولّى القضاء أقدمهما (¬7)، فقدم الرجل البصرة، فجمع بينهما، فقال إياس للشامىّ: أيّها الرجل، سل عنّى وعن القاسم فقيهى المصر: الحسن وابن سيرين، فمن أشارا عليك ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى ت، ف: «فإن أمنتنى نفسك». (¬2) السواد؛ يراد به رستاق العراق وضياعها مما افتتحه المسلمون؛ سمى بذلك لسواده بالزروع والنخيل والأشجار والتقبيل؛ من القبالة؛ وهى الكفالة، قال فى اللسان: «يقال قبلت العامل تقبيلا؛ والاسم القبالة؛ وفى حديث ابن عباس: «إياكم والقبالات؛ فإنها صغار وفضلها ربا؛ وهو أن يتقبل بخراج أو جباية أكثر مما أعطى؛ فذلك الفضل ربا؛ فإن تقبل وزرع فلا بأس». (¬3) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): «زوجنى فلانة». (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «ويشبه هذا الخبر من وجه بخبر رواه». (¬5) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «المزنىّ» وفى حاشية الأصل أيضا: «وهم، هو إياس بن معاوية بن قرة المزنى». (¬6) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «الجوشنى». (¬7) حاشية ت (من نسخة): «أنفذهما».

بتوليته فولّه؛ وكان القاسم يأتى الحسن وابن سيرين، ولم يكن إياس يأتيهما، فعلم القاسم أنه إن سألهما أشارا به، فقال للشامىّ: لا تسل عنّى ولا عنه، فو الّذي لا إله إلا هو إن إياسا أفضل منى وأفقه، وأعلم بالقضاء، فإن كنت عندك ممّن يصدّق إنه لينبغى أن تقبل منى، وإن كنت كاذبا فما يحلّ لك أن تولّينى وأنا كاذب؛ فقال إياس للشامىّ: إنك جئت برجل فأقمته على شفير جهنّم، فافتدى نفسه من النار (¬1) أن تقذفه فيها بيمين حلفها كذب فيها، يستغفر الله منها، وينجو مما يخاف/. فقال الشامىّ: أما إذ فطنت لهذا، فإنى أولّيك، فاستقضاه. ولما أمضى معاوية بيعة يزيد جعل الناس يقرّظونه، فقال يزيد لأبيه: ما ندرى أنخدع الناس أم يخدعوننا؟ فقال معاوية: يا بنيّ، من خدعته فتخادع لك ليخدعك فقد خدعته. وسمع عبد الملك بن مروان ليلة قبض وهو يجود بنفسه- وقد سمع صوت قصّار- يقول: ليتنى كنت غسالا أعيش بما أكسب يوما بيوم، فبلغ ذلك أبا حازم فقال: الحمد لله الّذي جعلهم عند الموت يتمنون ما نحن فيه، ولا نتمنّى فى الحياة ما هم فيه. وقال الواثق للجاحظ: يا منّانىّ (¬2)، فقال: لو كان الّذي أضفتنى إليه عبدك ما قدرت على بيعه لكثرة عيوبه؛ فكيف أكون على دينه (¬3)! . وقال ابن عباس رضى الله عنه للخوارج- وقد أرسله أمير المؤمنين عليه السلام إليهم: نشدتكم الله، أيّما أعلم بالتنزيل والتأويل: عليّ أم أنتم؟ قالوا: عليّ، قال: أليس تدرون، لعلّ الّذي حكم به فيكم بفضل علمه على ما تعلمون! فرجع أكثرهم. ¬

_ (¬1) حاشية ف: «بدل اشتمال من «نفسه»، أى افتدى قذف نفسه». (¬2) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «يا مانىّ»؛ ومانىّ: منسوب إلى مانى؛ وهو مانى ابن فاتك الحكيم؛ وأتباعه يعرفون بالمانوية؛ وهم يزعمون أن العالم مركب من أصلين قديمين: نور وظلمة؛ وهما أزليان، (وانظر تفصيل مذهبهم فى الملل والنحل للشهرستانى 143 - 146). (¬3) ت: «على ذلك».

خبر قتيبة بن مسلم مع الحصين بن المنذر الرقاشى

وقال عتبة بن أبى سفيان لعبد الله بن عباس: ما منع عليّ بن أبى طالب أن يجعلك أحد الحكمين؟ فقال: أما والله لو بعثنى لاعترضت مدارج (¬1) أنفاسه، أطير إذا أسفّ وأسفّ (¬2) إذا طار، ولعقدت له عقدا لا تنتقض مريرته، ولا يدرك طرفاه؛ ولكنه سبق قدر، ومضى أجل، والآخرة خير لأمير المؤمنين من الدنيا. وقال أبو جعفر محمد بن عليّ عليهما السلام لكثيّر: امتدحت عبد الملك بن مروان؟ فقال: لم أقل له يا إمام الهدى، إنما قلت: يا شجاع، والشجاع حيّة، ويا أسد، والأسد كلب، ويا غيث، والغيث موات! فتبسم أبو جعفر عليه السلام. وقالت بنت عبد الله بن مطيع لزوجها يحيى بن طلحة: ما رأيت ألأم من أصحابك، إذا أيسرت لزموك، وإذا أعسرت تركوك! فقال: هذا من كرمهم؛ يأتوننا فى حال القوة منّا عليهم، ويفارقوننا فى حال الضعف منّا عنهم. وقيل لإبراهيم النّخعىّ: متى كنت؟ قال: حيث احتيج إلى. ورئى رجل يصلى صلاة خفيفة، فقيل له: ما هذه الصلاة؟ فقال: صلاة ليس فيها رياء. [خبر قتيبة بن مسلم مع الحصين بن المنذر الرقاشىّ: ] وأخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدّثني محمد بن أبى الأزهر قال حدثنا محمد بن يزيد النحوىّ قال: تزعم الرواة أن قتيبة بن مسلم لما فتح سمرقند (¬3) أفضى إلى أثاث لم ير مثله، وآلات لم يسمع بمثلها، فأراد أن يرى الناس عظيم ما فتح، ويعرّفهم أقدار (¬4) القوم الذين ظهر عليهم، فأمر بدار ففرشت، وفى صحنها قدور يرتقى إليها بسلاليم، وإذا الحصين بن المنذر بن الحارث (¬5) بن وعلة الرّقاشىّ قد أقبل، والناس جلوس على مراتبهم، والحصين شيخ كبير، فلما رآه عبد الله بن مسلم أخو قتيبة قال لقتيبة: أتأذن لى فى معاتبته؟ ¬

_ (¬1) المدارج هنا: جمع مدرجة؛ وهى ممر النفس. (¬2) يقال: أسف الطائر؛ إذا دنا من الأرض فى طيرانه. (¬3) سمرقند: من أكبر مدن ما وراء النهر وحاضرة الصغد؛ فتحها قتيبة بن مسلم الباهلىّ سنة 93. (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل؛ ف: «مقدار». (¬5) ت: «المنذر بن الحباب».

قال: لا تردّه، فإنه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلّا أن يأذن له- وكان عبد الله يضعّف- وكان قد تسوّر حائطا إلى امرأة قبل ذلك- فأقبل على الحصين وقال: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان؟ فقال: أجل، أسنّ عمّك عن تسوّر الحيطان، قال: رأيت هذه القدور؟ قال: هى أعظم من ألّا ترى، قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها، قال: أجل، ولا عيلان (¬1)، ولو رآها سمّى شبعان، ولم يسمّ عيلان، فقال له: يا أبا ساسان، أتعرف الّذي يقول (¬2): عزلنا وأمّرنا وبكر بن وائل … تجرّ خصاها تبتغى من تحالف قال: أعرفه وأعرف الّذي يقول: وخيبة من يخيب على غنىّ … وباهلة بن يعصر والرّباب قال: أتعرف الّذي يقول (2): كأنّ فقاح الأزد حول ابن مسمع … وقد عرقت أفواه بكر بن وائل (¬3) قال: أعرفه، وأعرف الّذي يقول: قوم قتيبة أمّهم وأبوهم … لولا قتيبة أصبحوا فى مجهل قال: أمّا الشعر، فأراك ترويه، ولكن هل تقرأ من القرآن شيئا؟ قال: نعم، أقرأ منه الكثير الطيب: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ؛ [الإنسان: 41]، فأغضبه فقال: والله لقد بلغنى أن امرأة الحصين حملت إليه وهى حبلى من غيره، قال: فما تحرّك الشيخ من هيئته الأولى. ثم قال على رسله: وما يكون؟ تلد غلاما على فراشى فيقال: ابن الحصين، كما يقال عبد الله بن مسلم/؛ فأقبل قتيبة على عبد الله فقال. لا يبعد الله غيرك. ¬

_ (¬1) حاشية ف: «عيلان، بالرفع على أن يكون مبتدأ؛ أى ولا عيلان أدركها؛ والنصب على أن يكون عطفا على بكر بن وائل». وفى حاشية الأصل: «عيلان: قبيلة عبد الله بن مسلم». (¬2) ف: «من الّذي يقول؟ ». (¬3) حاشية ف: «قوله: «وقد عرفت»، الواو للحال؛ شبه أدبار الأزد فى حال ما عرقت بأفواه بكر بن وائل».

ولقى شريك (¬1) النّميرىّ رجلا من بنى تميم، فقال له التّميمىّ: يعجبنى من الجوارح البازى، فقال له شريك: وخاصّة إذا صاد القطا؛ أراد التميمىّ بقول البازى قول جرير: أنا البازى المطلّ على نمير … أتيح من السّماء لها انصبابا (¬2) وأراد شريك بقوله: «إذا صاد القطا» قول الطّرمّاح: تميم بطرق اللّؤم أهدى من القطا … ولو سلكت سبل المكارم ضلّت (¬3) وساير (¬4) شريك النّميرىّ عمر بن هبيرة الفزارىّ على بغلة، فجاوزت بغلته برذون عمر، فقال له عمر: اغضض من لجامها، فقال شريك: إنها مكتوبة، فقال عمر: ما أردت ذاك، قال شريك ولا أنا أردته؛ ظن شريك أنّ عمر أراد بقوله: «اغضض من لجامها» قول جرير: فغضّ الطّرف إنّك من نمير … فلا كعبا بلغت ولا كلابا (¬5) وعنى شريك بقوله: «مكتوبة» قوله (¬6): لا تأمننّ فزاريّا خلوت به … على قلوصك واكتبها (¬7) بأسيار يعنى: ب «اكتبها» شدّها. وأنشد أبو تمام الطائىّ أحمد بن المعتصم قصيدته (¬8) السينية التى يمدحه فيها، فلما بلغ إلى قوله: ¬

_ (¬1) الخبر فى اللآلئ 862 - 863؛ مع اختلاف فى الرواية. (¬2) ديوانه: 72، وروايته: «المدل على نمير». (¬3) ديوانه: 132، وفى حاشية ت (من نسخة): «طرق المكارم». (¬4) الخبر فى الفاضل والمفضول: 50، واللآلئ: 861 - 862، والاقتضاب: 50، وكنايات الجرجانى: 74. (¬5) ديوانه: 75. (¬6) هو سالم بن دارة، من قصيدة هجا بها زميل ابن أبير الفزارى، وأبيات منها فى الخزانة 1: 557. (¬7) ت: «معنى اكتبها: اشددها». (¬8) القصيدة فى ديوانه 173 - 175، ومطلعها: ما فى وقوفك ساعة من بأس … نقضى ذمام الأربع الأدراس.

فى حلم أحنف فى شجاعة عامر … فى جود حاتم فى ذكاء إياس (¬1) فقال له الكندىّ- وكان حاضرا-: ما صنعت شيئا، قال: وكيف؟ قال: لأنّ شعراء دهرنا قد تجاوزوا بالممدوح من كان قبله، ألا ترى إلى قول أبى العكوّك (¬2) فى أبى دلف: رجل أبرّ على شجاعة عامر … بأسا وغبّر فى محيّا حاتم فأطرق الطائىّ ثم رفع رأسه وأنشد: لا تنكروا ضربى له من دونه … مثلا شرودا فى النّدى والباس فالله قد ضرب الأقلّ لنوره … مثلا من المشكاة والنّبراس وقال ابن هبيرة لأبى دلامة- وكان مولى لبنى أمية لما ظهرت المسوّدة (¬3): لأتخذنّ لك منهم عبدا صالحا يخدمك، فلما علت كلمتهم، وفشت دعوتهم قال أبو دلامة: ليت الله قيّض لى/ منهم مولى صالحا أخدمه. وقال يحيى بن خالد لعبد الملك بن صالح الهاشميّ: إنّ خصالك كاملة سوى حقد فيك، فقال: أنا خزانة تحفظ الخير والشر. وقد نظر ابن الرومى إلى هذا المعنى فى قوله: وما الحقد إلّا توأم الشّكر فى الفتى … وبعض السّجايا ينتسبن إلى بعض (¬4) فحيث ترى حقدا على ذى إساءة … فثمّ ترى شكرا على حسن القرض إذا الأرض أدّت ريع ما أنت زارع … من البذر فيها فهى ناهيك من أرض وقال الحجاج للحطيط الخارجىّ: ما تقول فى عبد الملك بن مروان؟ قال: ما أقول فى رجل أنت خطيئة من خطاياه! قال: فهل هممت بي قطّ! قال: نعم، ولكن حال بيننا ¬

_ (¬1) رواية الديوان: إقدام عمرو فى سماحة حاتم … فى حلم أحنف فى ذكاء إياس. (¬2) كذا فى الأصول؛ وفى الأغانى ونكت الهميان وابن خلكان: «العكوك»؛ وفى حاشيتى الأصل، ت: «العكوك فى الأصل: القصير السمين مع صلابة»، وهو على بن جبلة الضرير، توفى سنة 213. (¬3) حاشية الأصل: «المسودة؛ يعنى بنى العباس أصحاب الرايات السود». (¬4) ديوانه: الورقة 154.

بين وقدر، وقد أعطيت الله عهدا إن سألتنى لأصدقنّك، ولئن خلّيت عنى لأطلبنّك، ولئن عذبتنى لأصبرن لك؛ فأمر بقتله. وأما «البين» فهى الأرض الواسعة، قال ابن مقبل (¬1): بسرو حمير أبوال البغال به … أنّى تسدّيت وهنا ذلك البينا (¬2) وقيل لأبى العتاهية لما قال: عتب (¬3) ما للخيال … خبّرينى وما لى خرجت من العروض، فقال: أنا أكبر من العروض (¬4). وقال عبد الملك بن مروان للهيثم بن الأسود: ما مالك؟ قال: قوام من العيش، وغنى من الناس. فقيل له: لم لم تخبر به؟ فقال: إن كان كثيرا حسدنى، وإن كان قليلا ازدرانى. واغتاب الأعمش رجلا من أصحابه، فطلع الرجل على هيئة ذلك، فقال له رجل من أصحابه: قل له ما قلته حتى لا يكون غيبة؛ فقال له: قل له أنت حتى لا تكون نميمة. وقال معاوية لعمرو بن العاص: هل غششتنى مذ نصحتنى؟ قال: لا، قال: بلى يوم أشرت عليّ بمبارزة عليّ، وأنت تعلم من هو! فقال عمرو: دعاك رجل عظيم الخطر إلى المبارزة، فكنت من مبارزته على إحدى الحسنيين؛ إمّا إن قتلته فقد قتلت قتّال الأقران، وازددت شرفا إلى شرفك، وخلوت بملكك، وإمّا إن قتلك فتتعجّل مرافقة الشهداء والصديقين ¬

_ (¬1) من قصيدة فى جمهرة الأشعار: 331 - 335، مطلعها: طاف الخيال بنا ركبا يمانينا … ودون ليلى عواد لو تعدّينا. (¬2) سرو حمير؛ من منازلهم باليمن. وأبوال البغال يريدون به السراب؛ قال الأصمعىّ: يقال لنطف البغال أبوال البغال؛ ومنه قيل للسراب أبوال البغال على التشبيه؛ وإنما شبه بأبوال البغال؛ لأن بول البغال كاذب لا يلقح، والسراب كذلك. وتسديت؛ يخاطب الطيف، ويجوز أن يقرأ: «تسديت» بكسر التاء يخاطب الحبيبة (وانظر المقاييس 1: 1، 3، واللسان- يبن). (¬3) على الترخيم. (¬4) حاشية ت: «يريد أن عمل الشعر قبل عمل الخليل للعروض».

بعض ما يروى من أجوبة أبى الأسود الدؤلى الحاضرة

والصالحين؛ قال معاوية: لهذه أشد عليّ من الأولى، فقال عمرو: أفكنت من جهادك فى شك فتكون منه الساعة! / قال: دعنى منك الآن. وقيل للأحنف بن قيس- وقد رأى مسيلمة الكذّاب: كيف هو؟ فقال: ما هو بنبىّ صادق، ولا بمتنبئ حاذق. [بعض ما يروى من أجوبة أبى الأسود الدؤلى الحاضرة: ] وروى المبرّد قال: قال زياد لأبى الأسود الدّؤليّ: لولا أنّك قد كبرت لاستعنّا بك فى بعض أمورنا، قال: إن كنت تريدنى للصّراع فليس عندى، وإن كنت تريد عقلى ورأيى فهما أوفر ما كانا. وكان أبو الأسود حاضر الجواب جيّد الكلام مليح النادرة. وروى عن الشّعبىّ أنّه قال: قاتل الله أبا الأسود! ما كان أعفّ أطرافه، وأحضر جوابه! دخل على معاوية بالنّخيلة، فقال له معاوية: أكنت ذكرت للحكومة؟ قال: نعم، قال: فماذا كنت صانعا؟ قال: كنت أجمع ألفا من المهاجرين وأبنائهم، وألفا من الأنصار وأبنائهم، ثم أقول: يا معشر من حضر؛ أرجل من المهاجرين أحقّ أم رجل من الطلقاء؟ فلعنه معاوية، وقال: الحمد لله الّذي كفاناك. وقد روى أنّ أبا الأسود طلب بأن يكون فى الحكومة، وقال لأمير المؤمنين عليه السلام فى وقت الحكمين: يا أمير المؤمنين، لا ترض بأبى موسى، فإنى قد عجمت الرجل وبلوته، فحلبت أشطره؛ فوجدته قريب القعر، مع أنه يمان، وما أدرى ما يبلغ نصحه! فابعثنى فإنه لا يحلّ عقدة إلّا عقدت له أشدّ منها، وإنهم قد رموك بحجر الأرض، فإن قيل: إنه لا صحبة لى، فاجعلنى ثانى اثنين، فليس صاحبهم إلّا من تقرّب، وكان فى الخلاف عليهم كالنّجم؛ فأبى عليه السلام. وروى محمد بن يزيد النحوىّ أنّ أبا الأسود كان [نازلا فى بنى قشير؛ وكانوا يخالفونه فى المذهب لأن أبا الأسود كان] (¬1) شيعيا، فكانوا يرمونه بالليل، فإذا أصبح شكا ذلك، ¬

_ (¬1) ساقط من م.

فشكا مرة، فقالوا: ما نحن نرميك؛ ولكنّ الله يرميك، فقال: كذبتم، لو كان الله يرمينى ما أخطأنى. وقال لهم يوما: يا بنى (¬1) قشير، ما فى العرب أحد أحبّ إلى طول بقاء منكم، قالوا: ولم ذاك؟ قال: لأنكم إذا ركبتم أمرا علمت أنه غىّ فأجتنبه، وإذا اجتنبتم أمرا علمت أنه رشد، فاتبعته فنازعوه الكلام، فأنشأ يقول: يقول الأرذلون بنو قشير … طوال الدّهر لا تنسى عليّا أحبّ محمّدا حبّا شديدا … وعبّاسا وحمزة والوصيّا / أحبّهم لحبّ الله حتّى … أجئ إذا بعثت على هويّا فإن يك حبّهم رشدا أصبه … ولست بمخطئ إن كان غيّا فقالوا له: أشككت يا أبا الأسود، فقال: ألم تسمعوا الله تعالى يقول: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، أفترون الله شكّ! أما قوله: «هويّا» فإنه لغة هذيل؛ يقولون ذلك فى كل مقصور (¬2)؛ مثل الهوى والعصا والتقى والقفا. قال أبو ذؤيب الهذلى: سبقوا هوىّ وأعنقوا لسبيلهم … فتخرّموا ولكلّ جنب مصرع (¬3) وروى أن أبا الأسود دخل على معاوية فقال له: أصبحت جميلا يا أبا الأسود؛ فلو علّقت تميمة تدفع العين عنك! فقال أبو الأسود: أفنى الشّباب الّذي ولى وبهجته (¬4) … كرّ الجديدين من آت ومنطلق لم يتركا لى فى طول اختلافهما … شيئا أخاف عليه لذعة الحدق ¬

_ (¬1) الخبر مع الأبيات ورد فى الأغانى 11: 113، ونزهة الألباء 6 - 7، وأخبار النحوين للسيرافى 14 - 215، وإنباه الرواة 1: 17، يزيد وينقص فى بعض الروايات، ويختلف فى بعض الألفاظ وترتيب الأبيات. (¬2) وذلك إذا أضيف إلى ياء المتكلم؛ فيقولون: هوىّ؛ أى هواى، وعصىّ؛ أى عصاى؛ وهكذا. (¬3) ديوان الهذليين 1: 2، والرواية فيه: «لهواهم». (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «فارقت بهجته».

وروى أنه دخل يوما السوق يشترى ثوبا فقال له رجل: هلمّ أقاربك فى هذا الثوب؛ فقال: إن لم تقاربنى باعدتك، ثم قال له: بكم هو؟ قال: قد أعطيت به كذا كذا، قال: إنما تخبّرنى عما فاتك. وروى أنّه كان ماشيا فى طريق، فقال له راكب: الطريق الطريق، فقال له: عن الطريق تعدلنى! ومرض أبو الأسود فقيل له: هو أمر الله، فقال: ذاك أشدّ له! وقيل إن امرأة أبى الأسود خاصمته إلى زياد فى ولدها، فقالت: أيها الأمير، إن هذا يغلبنى على ولدى، وقد كان بطنى له وعاء، وثديى له سقاء، وحجرى له فناء، فقال أبو الأسود: [أبهذا تريدين أن تغلبينى على ابنى] (¬1)! فو الله لقد حملته قبل أن تحمليه، ووضعته قبل أن تضعيه، فقالت: ولا سواء، إنك حملته خفّا، وحملته ثقلا، ووضعته شهوة، ووضعته كرها، فقال له زياد: إنها امرأة عاقلة يا أبا الأسود، فادفع ابنها إليها، فأخلق أن تحسن أدبه. وقال رجل لأبى الأسود: أنت والله ظريف لفظ، وظرف (¬2) علم، ووعاء حلم، غير أنّك بخيل؛ فقال: وما خير ظرف لا يمسك ما فيه! وسلم عليه أعرابىّ يوما، فقال أبو الأسود: كلمة مقولة، فقال: أتأذن فى الدخول؟ قال: / وراءك أوسع لك! قال: فهل عندك شيء؟ قال: نعم، قال: أطعمنى، قال: عيالى أحقّ منك، قال: ما رأيت ألأم منك، قال: نسيت نفسك. وسأله رجل شيئا فمنعه قال: ما أصبحت حاتميّا (¬3) قال: بلى، قد أصبحت حاتمكم من حيث لا تدرى، أليس حاتم الّذي يقول: أماوىّ إمّا مانع فمبيّن … وإمّا عطاء لا ينهنهه الزّجر (¬4) ¬

_ (¬1) ت: «إنها لتريد أن تغلبنى على ابنى». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «ظريف»، بالبناء للمجهول. (¬3) ت: «حاتمنا». (¬4) ديوانه: 118.

21

21 مجلس آخر [المجلس الحادي والعشرون: ] [خبر سليمان بن عبد الملك مع يزيد بن أبى مسلم: ] أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزبانىّ قال: أخبرنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوىّ قال: لما ولى سليمان بن عبد الملك أتى بيزيد بن أبى مسلم مولى الحجّاج فى جامعة- وكان رجلا دميما تقتحمه (¬1) العين- فلما رآه سليمان قال: لعن الله من أجرّك رسنك، وولى مثلك! فقال: يا أمير المؤمنين، رأيتنى والأمر عنى مدبر، ولو رأيتنى وهو عليّ مقبل لاستعظمت ما استصغرت، ولاستجللت ما استحقرت، فقال له سليمان: أين ترى الحجاج؟ أيهوى فى النار؛ أم قد استقرّ! فقال: يا أمير المؤمنين، لا تقل كذا، فإن الحجاج قمع لكم الأعداء، ووطّأ لكم المنابر، وزرع لكم الهيبة فى قلوب الناس، وبعد، فإنه يأتى يوم القيامة عن يمين أبيك عبد الملك، وشمال أخيك الوليد، فضعه حيث شئت. [خبر صفوان بن الأهتم مع رجل من بنى عبد الدار: ] وروى أن خالد بن صفوان فاخر رجلا من بنى عبد الدار، الذين يسكنون اليمامة، فقال له العبدرىّ: من أنت؟ فقال: أنا خالد بن صفوان بن الأهتم، فقال له العبدرىّ: أنت خالد كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ؛ [محمد: 15]، وأنت ابن صفوان، وقال الله عزّ وجل كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ؛ [البقرة: 264]، وأنت ابن الأهتم، والصحيح خير من الأهتم. فقال له خالد بن صفوان يا أخا بنى عبد الدار، أتتكلم وقد هشمتك هاشم، وأمّتك بنو أميّة، وخزمتك بنو مخزوم، وجمحتك (¬2) بنو جمح، فأنت عبد دارهم؛ تفتح إذا دخلوا، وتغلق إذا خرجوا؛ فقام العبدرىّ محموما. وتقدم الأشعث بن قيس إلى شريح فقال له الأشعث: أتعلمني بك يا ابن أمّ شريح! لقد ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «تزدريه». (¬2) حواشى الأصل، ت، ف: «يجوز أن يكون أصله: «جمحت بك»؛ فحذف حرف الجر، وأوصل الفعل؛ ذكره ابن دريد فى كتاب الاشتقاق، ويجوز أن يكون من جامحته فجمحته».

ما دار بين الفرزدق والحطيئة عند سعيد بن العاص

عهدتك وإنّ شأنك لشؤين، فقال له شريح: انت امرؤ تعرف النعمة فى غيرك، وتنساها فى نفسك. [ما دار بين الفرزدق والحطيئة عند سعيد بن العاص: ] وروى أبو العيناء عن العتبىّ قال: دخل الفرزدق إلى سعيد بن العاص، وعنده الحطيئة، فلما مثل بين يديه قال: / إليك فررت منك ومن زياد … ولم أحسب دمى لكما حلالا (¬1) فإن يكن الهجاء أحلّ قتلى … فقد قلنا لشاعركم وقالا (¬2) ترى الغرّ الجحاجح من قريش … إذا ما الأمر فى الحدثان عالا (¬3) قياما ينظرون إلى سعيد … كأنّهم يرون به هلالا (¬4) فقال له الحطيئة: هذا والله أيها الأمير الشّعر، لا ما كنّا نعلّل (¬5) به منذ اليوم، يا غلام أقدمت أمك الحجاز؟ فقال: لا، ولكن قدمه أبى. أراد الحطيئة بقوله: إن كانت قدمت أمّك الحجاز، فقد وقعت بها (¬6)، وكنت منّى، وأراد الفرزدق بقوله: «ولكن قدمه أبى» أى وقع بأمك فكنت أنت (¬7). ويشبه ذلك ما روى أنّ الفرزدق كان ينشد شعره يوما، والناس حوله، إذ مرّ به الكميت بن زيد، فقال له الفرزدق: كيف ترى شعرى؟ فقال الكميت: حسن بسن، فقال له الفرزدق: أيسرّك أنى أبوك، قال: أمّا أبى فلا أريد به بدلا (¬8)، ولكن يسرّنى أن لو كنت أمى! فقال له ¬

_ (¬1) ديوانه: 617، وبعده: ولكنّى هجوت وقد هجتنى … معاشر قد رضخت لهم سجالا. (¬2) بعده: وإن تك فى الهجاء تريد قتلى … فلم تدرك لمنتصر مقالا. (¬3) عال: فدح وأثقل؛ وبعده: بنى عمّ الرسول ورهط عمرو … وعثمان الذين علوا فعالا. (¬4) حاشية ت (من نسخة): «الهلالا». (¬5) حاشية ت (من نسخة): «ما كنت تعلل». (¬6) حاشية ت (من نسخة): «وقعت عليها». (¬7) ابن الشجرى: «فكنت أنت أخى». (¬8) حاشية ت (من نسخة): «بديلا».

الفرزدق: اكتم هذه على عمك يا ابن أخى فما مرّ بى مثلها. وقيل إنّ عبد الملك بن مروان ظفر برجل من بنى مخزوم زبيرى الرأى، فقال له لما حضر مجلسه: أليس قد ردّك الله على عقبيك! فقال الرجل: أو من ردّ عليك يا أمير المؤمنين فقد ردّ على عقبيه! فوجم عبد الملك، وقال موسى بن عيسى بن موسى لشريك: يا أبا عبد الله، عزلوك عن القضاء، وما رأينا قاضيا عزل! فقال شريك: هم الملوك يعزلون ويخلعون- يعرّض أن أباه خلع من ولاية العهد. وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى أن المفضّل الضبىّ الرواية وهب لبعض جبرانه أيام الأضحى أضحيّة، فلما لقيه قال: كيف وجدت أضحيّتك؟ قال: ما وجدت لها دما، يعرّض بقول الشاعر: ولو ذبح الضبّىّ بالسّيف لم تجد … من اللّؤم للضّبّىّ لحما ولا دما وروى عن المأمون أنه قال: ما أعيانى جواب أحد قطّ مثل جواب ثلاثة: أحدهم أمّ الفضل بن سهل، فإنى عزّيتها عن ابنها وقلت: لئن جزعت على الفضل لأنه ولدك، فها أنا ذا ابنك مكانه/، فقالت: وكيف لا أجزع على من جعل مثلك لى ولدا. والثانى رجل أحضرته يزعم أنّه نبى الله موسى عليه السلام، فقلت له: إن الله تعالى أخبرنا عن موسى أنّه يدخل يده فى جيبه فيخرجها بيضاء من غير سوء، فقال: متى فعل ذلك موسى؟ أليس بعد أن لقى فرعون! فاعمل كما عمل فرعون، حتى أعمل كما عمل موسى. والثالث أن جماعة من أهل الكوفة اجتمعوا إلى يشكون عاملها، فقلت: ارضوا بواحد أسمع منه، فرضوا برجل منهم، فقال فى العامل وأكثر؛ فقلت له: كذبت! بل هو العفيف الورع العدل؛ فذهب أصحابه يتكلمون فسكّتهم ثم قال: صدقت يا أمير المؤمنين، هو كما ذكرت، فواس بين رعيتك فى العدل، فصرفته عنهم. ودخل عدىّ بن حاتم بن عبد الله الطائىّ على معاوية، فقال له معاوية: ما فعل الطّرفات؟

يعنى طريفا (¬1) وطرافا وطرفة، قال: قتلوا مع عليّ بن أبى طالب عليه السلام، فقال له: ما أنصفك ابن أبى طالب، قدّم بنيك، وأخّر بنيه، فقال عدىّ: ما أنصفته (¬2) أنا، أن قتل (¬3) وبقيت. وكتب رجل إلى صديق له يقترض منه شيئا، فأجابه يشكو ضيق حاله، فكتب إليه: «إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا، وإن كنت صادقا فجعلك الله كاذبا، وإن كنت معذورا فجعلك الله ملوما، وإن كنت ملوما فجعلك الله معذورا». وسمع الأحنف رجلا يقول: ما أحلم معاوية! فقال: لو كان حليما ما سفه الحقّ. ووصفه رجل عند الشعبىّ بالحلم، فقال الشّعبىّ: ويحك! وهل أغمد سيفه وفى قلبه على أحد شيء! وقال زياد لرجل حضره: أين منزلك؟ فقال: وسط البصرة، قال: فما لك من الولد؟ قال: تسعة، فقيل لزياد إن داره أقصى البصرة عند المقابر، وله ابن واحد، فقال الرجل: دارى بين أهل الدنيا والآخرة، فهى وسط البصرة، وكان لى عشر بنين فقدّمت تسعة، فهم لى، وبقى واحد لا أدرى؛ أهو لى أم أنا له! وقال رجل لابن سيرين: إنّى وقعت فيك فاجعلنى فى حلّ، فقال: ما أحبّ أن أحلّك ممّا حرّم الله عليك. وخطب الحجاج يوم جمعة فأطال، فقال له رجل: إنّ الصلاة لا تنتظرك، وإن الله لا يعذرك، فأمر به فحبس، فجاءه أهله فشهدوا أنّه مجنون، فقال: إن أقرّ بالجنون أطلقته، فقيل له: اعترف بذلك وتخلّص، فقال: والله لا أقول/ إنّه ابتلانى وقد عافانى. وحدّث الحسن البصرىّ بحديث فقال له رجل: يا أبا سعيد، عمّن؟ فقال: وما تصنع ب «عمّن»؟ أما أنت فقد نالتك عظته، وقامت عليك حجته. ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «طريفا»، بفتح أوله وكسر ثانيه. (¬2) حاشية ت (من نسخة): «بل ما أنصفته». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «إذ قتل».

من أجوبة أبى العيناء المسكتة

وقيل لعبد الله بن جعفر- ونظر إليه يماكس فى درهم- فقيل له: أتماكس فى درهم وأنت تجود بما تجود به! فقال: ذاك مالى جدت به، وهذا عقلى بخلت به. [من أجوبة أبى العيناء المسكتة: ] وروى أنّ أبا العيناء محمد بن القاسم اليمامىّ حدّث بعض الزبيريين (¬1) بفضائل أهله (¬2) فقال له: الزّبيرىّ (¬3): أتجلب التمر إلى هجر (¬4)! فقال له أبو العيناء: نعم، إذا أجدبت أرضها، وعاوم (¬5) نخلها؛ وكان أبو العيناء من أحضر الناس جوابا، وأجودهم بديهة، وأملحهم نادرة. وروى (¬6) الصولىّ عن أبى العيناء قال: لما دخلت (¬7) على المتوكل دعوت له، وكلّمته، فاستحسن خطابى، وقال لى: يا محمد، بلغنى أنّ فيك شرّا، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن يكن الشرّ ذكر المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فقد زكّى الله تعالى وذم، فقال فى التزكية: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ؛ [ص: 30، 44]، وقال فى الذم: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ؛ [القلم: 11 - 13]، فذمّه الله تعالى حتى قذفه (¬8)، وقد قال الشاعر: إذا أنا بالمعروف لم أثن دائبا … ولم أذمم الجبس اللّئيم المذمّما (¬9) ففيم عرفت الخير والشّرّ باسمه … وشقّ لى الله المسامع والفما! وإن كان الشرّ كفعل العقرب يلسع النبىّ والذّمى بطبع لا يتميز؛ فقد صان الله عبدك عن ذلك. ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «الزهريين». (¬2) ت: «بحديث فى فضائل أهله. (¬3) حاشية ت (من نسخة): «الزهرى». (¬4) هجر: مدينة واقعة على جبال العارض ببلاد العرب؛ وكانت قاعدة البحرين. (¬5) المعاومة: أن تحمل النخلة سنة ولا تحمل أخرى. (¬6) ت: «فحكى عن الصولى». (¬7) حاشية (من نسخة): «أدخلت». (¬8) ت: «قرفه»، والقذف والقرف: ذكر المرء بالسوء. (¬9) البيتان فى أمالى القالى 2: 159؛ رواهما عن أبى العالية الرياحى.

[وروى أنه قال له يوما: إلى كم تمدح الناس وتذمّهم؟ فقال: ما أحسنوا وأساءوا] (¬1). وروى أن المتوكّل قال له يوما: إنّى لأفرق من لسانك، فقال له: إنّ الشريف فروقة ذو إحجام، وإن اللئيم ذو أمنة وإقدام. وقال له يوما- وقد دخل عليه: اشتقتك والله يا أبا العيناء، فقال له يا سيّدى؛ إنّما يشتد الشوق على العبد لأنه لا يصل إلى مولاه، فأمّا السّيّد فمتى أراد عبده دعاه. وروى أنه قال له يوما: ما بقى أحد فى مجلسى إلا اغتابك وذمّك- عند ما جرى من (¬2) ذكرك- غيرى، فقال أبو العيناء: / إذا رضيت عنّى كرام عشيرتى … فلا زال غضبانا عليّ لئامها وذكر أبو العيناء قال: قال لى المتوكل: كيف ترى دارى هذه؟ فقلت: رأيت الناس بنوا دورهم فى الدنيا، وأمير المؤمنين جعل الدّنيا فى داره. وقال أبو العيناء: قال لى المتوكل: من أسخى من رأيت؟ ومن أبخل من رأيت؟ فقلت: ما رأيت أسخى من أحمد بن أبى دؤاد، ولا أبخل من موسى بن عبد الملك؛ قال: وكيف وقفت على بخله؟ فقلت: رأيته يحرم القريب كما يحرم البعيد، ويعتذر من الإحسان (¬3)؛ كما يعتذر من الإساءة؛ فقال: أجئت إلى من اطّرحته فسخيته، وإلى من أمسكته فبخّلته! فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ الصدق ما هو فى موضع من المواضع أنفق منه بحضرتك، والناس يغلطون فيمن ينسبونه إلى السخاء؛ فإذا نسب الناس السخاء إلى البرامكة، فإنما ذاك من سخاء أمير المؤمنين الرشيد، وإذا نسب الناس الحسن ابن سهل، والفضل بن سهل إلى السخاء، فإنما ذاك سخاء أمير المؤمنين المأمون، وإذا نسبوا أحمد بن أبى دؤاد إلى السخاء فذاك سخاء أمير المؤمنين المعتصم، وإذا نسبوا الفتح بن خاقان ¬

_ (¬1) ساقط من م. (¬2) ف: «عند ما جرى ذكرك». (¬3) حاشية ت: «يعنى أن إحسانه يكون ساقطا يحتاج إلى العذر».

وعبيد الله بن يحيى إلى السخاء فإنما هو سخاؤك؛ وإلّا فما بال هؤلاء القوم لم ينسبوا إلى السخاء قبل صحبتهم الخلفاء (¬1)! فقال لى: صدقت، وسرّى (¬2) عنه. وقال له المتوكل: ما أشدّ عليك من ذهاب البصر؟ فقال له: فقد رؤيتك؛ مع إجماع الناس على جمالك. وقال له يوما: أريدك لمجالستى، قال: لا أطيق ذاك، وما أقول هذا جهلا بما لى فى هذا المجلس من الشرف، ولكن أنا رجل محجوب، والمحجوب تختلف إشارته، ويخفى عليه إيماؤه، ويجوز عليّ أن أتكلّم بكلام غضبان ووجهك راض، وبكلام راض ووجهك غضبان، ومتى لم أميّز بين هاتين (¬3) هلكت؛ فقال: صدقت. وروى أنه قال له: لولا أنّك ضرير لنادمتك، فقال: إن أعفيتنى من رؤية الأهلّة، وقراءة نقش الخواتيم فإنى أصلح. وقال المتوكل: ما تقول فى ابن مكرم والعباس بن رستم؟ فقال: هما الخمر والميسر، وإثمهما أكبر من نفعهما، فقال: بلغنى أنك تودّهما، فقال: لقد ابتعت الضّلال بالهدى، والعذاب بالمغفرة. وقال له يوما: بلغنى أن سعيد بن عبد الملك يضحك منك، فقال: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ؛ [المطففين: 29] وقال أبو العيناء: قال لى المنصور: ما أحسن (¬4) الجواب؟ فقلت: ما أسكت المبطل، وحيّر المحق. / وقيل لأبى العيناء: إبراهيم بن نوح النصرانىّ عليك عاتب، فقال: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ؛ [البقرة: 120]. ورآه زرقان وهو يضاحك ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «للخلفاء». (¬2) حاشية ف: «قوله: سرى عنه؛ من قولهم: سروت عنى الدرع، أى كشفتها، وسرى عنه الثوب: كشفه، وانسرى عنه الهم، وسرى عنه الهم». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «هذين». (¬4) حاشية ت (من نسخة): «خير الجواب».

نصرانيا فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ؛ [المائدة: 51]، فقال أبو العيناء لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ؛ [الممتحنة: 8]. وأخبرنا أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرنى محمد بن يحيى الصولىّ قال أخبرنا أبو العيناء قال: كان سبب اتصالى بأحمد بن أبى دؤاد أنّ قوما من أهل البصرة عادونى وادّعوا عليّ دعاوى كثيرة؛ منها أنّى رافضىّ، فاحتجت إلى أن خرجت عن البصرة إلى سرّ من رأى، وألقيت نفسى على ابن أبى دؤاد- وكنت نازلا فى داره، أجالسه كلّ يوم- وبلغ القوم خبرى، فشخصوا نحوى إلى سرّ من رأى، فقلت له: إنّ القوم قد قدموا من البصرة يدا عليّ، فقال: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فقلت: إنّ لهم مكرا، فقال: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ؛ [الأنفال: 30]، فقلت: هم كثيرون قال: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ؛ [البقرة: 249]، فقلت: لله درّ القاضى! هو والله كما قال الصّموت الكلابىّ: لله درّك أىّ جنّة خائف … ومتاع دنيا أنت للحدثان (¬1) متخمّط تطأ الرّجال غلبة … وطء الفنيق دوارج القردان (¬2) وتركتهم حتّى كأنّ رءوسهم … مأمومة تنحطّ للغربان (¬3) وتفرّج الباب الشّديد رتاجه … حتّى يصير كأنّه بابان وقال لابنه الوليد: اكتب هذه الأبيات، فكتبها بين يديه. - قال الصولىّ: حفظى من أبى العيناء الصّموت الكلابىّ على أنه رجل، وقال وكيع؛ حفظى أنها للصّموت الكلابية على أنها امرأة- ودخل أبو العيناء على الحسن بن سهل، فأثنى عليه، فأمر له بعشرة آلاف درهم، وقال: ¬

_ (¬1) ديوان المعانى 1: 68. (¬2) التخمط: الأخذ والقهر بغلبة؛ وغلبة مصدر غلب كثير الغلبة، والفنيق الجمل الفحل، ودوارج: جمع دارج. (¬3) د، ف حاشية ت (من نسخة): «وتكبهم» والمأمومة: المشجوجة.

والله ما أستكثر كثيرك أيها الأمير، ولا أستقلّ قليلك، قال: وكيف ذاك؟ قال: لا أستكثر كثيرك لأنك أكثر منه، ولا أستقل قليلك لأنه أكثر من كثير غيرك (¬1). وقال له عبيد الله بن يحيى بن خاقان يوما: اعذرنى فإنى مشغول (¬2)، فقال: إذا فرغت لم أحتج إليك. وقال له يوما: قد تبينت/ فيك الغضب يا أبا عبد الله، فقال له: قد أجلّ الله قدرك من غضبى، إنما يغضب الرجل على من دونه؛ فأما من فوقه فلا، ولكن أحزننى تقصيرك؛ فسمّيت حزنى غضبا. ويقال إن صاعد بن مخلد كان من أحسن من أسلم دينا، وأكثرهم صلاة وصدقة، فصار إلى بابه أبو العيناء مرات كثيرة بعقب إسلامه فحجب وقيل له: هو مشغول فى صلاته، فقال أبو العيناء: لكل جديد لذة. ودخل يوما إلى أبى الصقر إسماعيل بن بلبل فى وزارته، فقال له: يا أبا عبد الله، [ما أخّرك عنّا] (¬3)؟ فقال: سرق حمارى، فقال: وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع الّذي سرقه فأخبر بما كان، قال له: هلّا اكتريت أو استعرت أو اشتريت؟ قال: قعد بى عن الشراء نشبى (¬4)، وكرهت منّة العوارى، وذلّة المكارى، فوهب له حمارا ووصله. وأدناه أبو الصّقر يوما ورفعه فقال: تدنينى حتّى كأنى بعضك، وتبعدنى حتى كأنى ضدّك. وقال يوما لعبيد الله بن سليمان أيضا- وقد رفعه: إلى كم ترفعنى ولا ترفع بى رأسا! وقال له يوما- وقد سأله عن حاله: أنا معك (¬5) مغبوط الظاهر، محروم الباطن. ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «نظم البحترى هذا المعنى فقال كثير نوالك فى جنب ما … جبلت عليه من الجود نزر ونزر نوالك فى جنب ما … يجود به سائر النّاس غمر. (¬2) ت: «فإنى عنك مشغول». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «يا أبا عيناء ما أخرك بالله؟ ». (¬4) حاشية ت (من نسخة): «عدمى». (¬5) ت: «أنابك».

ويقال: إن أبا عليّ البصير قال لأبى العيناء- وكانت بينهما ملاحاة معروفة: فى أىّ وقت ولدت؟ فقال له: قبل طلوع الشمس، فقال أبو عليّ: لذلك خرجت شحاذا سائلا، لأنه الوقت الّذي ينتشر فيه السؤال. وأخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال أخبرنى محمد بن يحيى الصولىّ قال حدثنى أبو العيناء قال: ما رأيت قطّ أحسن شاهدا عند حاجة من ابن عائشة! قلت له: يوما كان أبو عمرو المخزومىّ يقصدك ثم جفاك، فقال: فإن تنأ عنّا لا تضرنا وإن تعد … تجدنا على العهد الّذي كنت تعلم وقال: والله لا أدرى لمن هذا البيت، فقلت: إنّ ابن سلّام روى عن يونس أن الفرزدق لما قال: تصرّم منى ودّ بكر بن وائل … وما خلت دهرى ودّهم يتصرّم (¬1) قوارص تأتينى فيحتقرونها … وقد يملأ القطر الإناء فيفعم (¬2) وكان قد نزل عليهم حين هرب من زياد، فقال جرير بن خرقاء العجلىّ (¬3) يحييه: / لقد بوّأتك الدّار بكر بن وائل … وردّت لك الأحشاء إذ أنت مجرم (¬4) ¬

_ (¬1) ديوانه: 756، وطبقات الشعراء 302، والكامل- بشرح المرصفى، 1: 127، والمؤتلف والمختلف: 71 وتصرم الشيء: تقطع. (¬2) قوارص: جمع قارصة؛ وهى الكلمة المؤذية. فعم الإناء يفعمه فعما: ملأه وبالغ فى ملئه. (¬3) ذكره ابن سلام فى ص 259 بنسبة «البكرى»، وفى ص 303 بكنية «أبى العطاف». (¬4) فى الطبقات: «لقد وسطتك»، وقبله: لعمرى لئن كان الفرزدق عاتبا … وأحدث صرما، للفرزدق أظلم وفى حاشية الأصل: «يعنى كنت خائفا غاية الخوف فأمنوك»، ورواية الطبقات: لقد وسّطتك الدّار بكر بن وائل … وضمتك للأحشاء إذ أنت مجرم

موازنة بين شعر لإبراهيم بن العباس الصولى وأوس بن حجر

ليال تمنّى أن تكون حمامة … بمكّة يغشاها السّتار المحرّم (¬1) فإن تنأ عنّا لا تضرنا وإن تعد … تجدنا على العهد الّذي كنت تعلم فقال ابن عائشة: أنت والله يا بنيّ ممن ستصدق فى العلم مخائله، وتكثر عليه دلائله. وقال أبو العيناء يوما لأبى الصقر بن بلبل وهو زائر: أنت والله تقرب منا إذا احتجنا إليك، وتبعد منا إذا احتجت إلينا. [موازنة بين شعر لإبراهيم بن العباس الصولى وأوس بن حجر: ] قال سيدنا الشريف أدام الله علوّه: وهذا يشبه قول إبراهيم بن العباس الصولىّ: ولكنّ الجواد أبا هشام … وفى العهد مأمون المغيب (¬2) بطيء عنك ما استغنيت عنه … وطلّاع عليك مع الخطوب ولعلّه مأخوذ منه، فليس ينكر ذلك، لأنّهما وإن اجتمعا فى زمان واحد فى بعض الأوقات؛ فإن أبا العيناء بقى بعد إبراهيم زمانا طويلا؛ لأن إبراهيم توفّى فى سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وأبا العيناء سنة اثنتين أو ثلاث وثمانين ومائتين، وما حكيناه عنه من الكلام قاله لأبى الصقر فى وزارته، وكانت بعد وفاة إبراهيم بن العباس الصولىّ بزمان طويل. ويوشك بيتا إبراهيم أن يكونا مأخوذين من قول أوس بن حجر: وليس أخوك الدّائم العهد بالذى … يذمّك إن ولى ويرضيك مقبلا (¬3) ولكنّه النّائى إذا كنت آمنا … وصاحبك الأدنى إذا الخطب أعضلا ولإبراهيم بن العباس ما يقارب هذا المعنى أيضا، وهو: أسد ضار إذا هيّجته … وأب برّ إذا ما قدرا (¬4) يعلم الأبعد إن أثرى ولا … يعلم الأدنى إذا ما اقترا (¬5) ¬

_ (¬1) الستار المحرم: هو ستار الكعبة. (¬2) ديوانه: 129 (ضمن مجموعة الطرائف). (¬3) ديوانه: 22. (¬4) ديوانه: 133؛ (ضمن مجموعة الطرائف). (¬5) ت: «افتقرا»؛ وهى رواية الديوان.

أبيات للمتنخل الهذلى وشرح ما ورد فيها من الغريب

ويشبه أن يكون هذا مأخوذا من قول المرّار الفقعسيّ: / إذا افتقر المرّار لم ير فقره … وإن أيسر المرّار أيسر صاحبه (¬1) ومما يشبه قول المرّار بعينه قول إبراهيم بن العباس أيضا: فتى غير محجوب عن العين عرضه … ولا مظهر البلوى إذا النّعل زلّت (¬2) رأى خلّة من حيث يخفى مكانها … فكانت قذى عينيه حتّى تجلّت [أبيات للمتنخل الهذلى وشرح ما ورد فيها من الغريب: ] أو من قول المتنخّل الهذلىّ: أبو مالك قاصر فقره … على نفسه ومشيع غناه (¬3) وهذا البيت الّذي رويناه للهذلىّ من جملة أبيات يرثى بها المتنخّل أباه- وقيل يرثى أخاه، وأولها: لعمرك ما إن أبو مالك … بوان ولا بضعيف قواه (¬4) ولا بألدّ له نازع … يغارى أخاه إذا ما نهاه (¬5) - فمعنى «له نازع» أى خلق سوء ينزعه. ويغارى، أى يلاحى ويشارّ- ولكنّه هيّن ليّن … كعالية الرّمح عرد نساه - العرد: الشديد؛ يقال: وتر عردّ وعرند، وعرندد بالنون، أى شديد. والنّسا: عرق معروف- إذا سدته سدت مطواعة … ومهما وكلت إليه كفاه معنى «سدته» من المساودة، التى هى المسارّة، والسّواد هو السّرار أيضا، كأنه قال: ¬

_ (¬1) معجم الشعراء: 408. (¬2) ديوانه: 130؛ وانظر تخريج البيتين فى الحواشى. (¬3) ديوان الهذليين 2: 29 - 39. (¬4) شرح ديوان الهذليين: «ويروى: بواه ولا بضعيف»، وهو الأجود عند أبى العباس. (¬5) ألد: شديد الخصومة، وفى حواشى الأصل، ت، ف: «غاريت بين الشيئين؛ إذا واليت بينهما، قال كثير: إذا قلت أسلو فاضت العين بالبكا … غراء ومدّتها مدامع حفّل قال أبو عبيد: هو من غرى بالشيء يغرى به».

إذا ساررته طاوعك وساعدك. وقال قوم: إنّه من السيادة، وكأنه أراد: إذا كنت فوقه سيدا له أطاعك ولم يحسدك، وإن وكلت إليه شيئا كفاك، وقوم ينشدونه: * إذا سسته سست مطواعة* - ولم أجد ذلك فى رواية- ألا من ينادى أبا مالك … أفي أمرنا هو أم فى سواه؟ أبو مالك قاصر فقره … على نفسه ومشيع غناه

22

22 مجلس آخر [المجلس الثاني والعشرون: ] تأويل آية [: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ] / إن سأل سائل عن قوله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا؛ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ؛ [الأعراف: 146]. فقال: ما تأويل هذه الآية على ما يطابق العدل؟ فإنّ ظاهرها كأنه مخالف له. الجواب، قيل له: فى هذه الآية وجوه؛ منها ما ابتدأناه فيها، ومنها ما سبقنا به فحرّرناه، واحترزنا فيه من المطاعن، وأجبنا عمّا لعله يعترض (¬1) فيه من الشّبه. أولها أن يكون تعالى عنى بذلك صرفهم عن ثواب النظر فى الآيات، وعن العزّ والكرامة اللذين يستحقّهما من أدّى الواجب عليه فى آيات الله تعالى وأدلّته، وتمسّك بها. والآيات على هذا التأويل يحتمل أن تكون سائر الأدلة، ويحتمل أن تكون معجزات الأنبياء عليهم السلام خاصة؛ وهذا التأويل يطابقه الظاهر؛ لأنه تعالى قال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ؛ فبيّن أنّ صرفهم عن الآيات مستحقّ (¬2) بتكذيبهم، ولا يليق ذلك إلّا بما ذكرناه. وثانيها أن يصرفهم (¬3) تعالى عن زيادة المعجزات التى يظهرها (¬4) الأنبياء عليهم السلام ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة) «يعرض». (¬2) ف: «يستحق». (¬3) ت: «أنه أراد صرفهم». (¬4) ت، ف، حاشية الأصل (من نسخة): «يظهرها على الأنبياء».

بعد قيام الحجة بما تقدّم من آياتهم ومعجزاتهم؛ لأنّه تعالى إنما يظهر هذا الضرب من المعجزات إذا علم أنّه يؤمن عنده من لم يؤمن بما تقدم من الآيات، فإذا علم خلاف ذلك لم يظهرها، وصرف الذين علم من حالهم أنهم لا يؤمنون عنها، ويكون الصّرف على أحد وجهين: إمّا بألّا يظهرها جملة، أو بأن يصرفهم عن مشاهدتها، ويظهرها بحيث ينتفع بها غيرهم. فإذا قيل: وما الفرق فيما ذكرتموه بين ابتداء المعجزات، وبين زيادتها؟ قلنا: الفرق بينهما أن المعجز الأوّل يجب إظهاره لإزاحة العلّة فى التكليف؛ ولأنّا به نعلم صدق الرسول المؤدّى إلينا ما فيه لطفنا ومصلحتنا. فإذا كان التكليف يوجب تعريف (¬1) المصالح والألطاف لتنزاح العلّة، وكان لا سبيل إلى معرفتها على الوجه الّذي تكون عليه لطفا إلّا من قبل الرسول، وكان لا سبيل إلى العلم بكونه رسولا إلّا من جهة/ المعجز وجبت بعثة الرسول وتحميله ما فيه مصلحتنا من الشرائع، وإظهار المعجز على يده لتعلّق هذه الأمور بعضها ببعض، ولا فرق فى هذا الموضع بين أن يعلم أنّ المبعوث إليهم الرسول، أو بعضهم يطيعون ويؤمنون، وبين ألّا يعلم ذلك فى وجوب البعثة، وما يجب بوجوبها، لأنّ تعريف المصالح مما يقتضيه التكليف العقلىّ الّذي لا فرق فى حسنه بين أن يقع عنده الإيمان أو لا يقع؛ وليس هذه سبيل ما يظهر من المعجزات بعد قيام الحجة بما تقدم منها؛ لأنّه متى لم ينتفع بها منتفع، ويؤمن عندها من لم يؤمن لم يكن فى إظهارها فائدة، وكانت عبثا؛ فافترق الأمران. فإن قيل: كيف يطابق هذا التأويل قوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ، ومن المعلوم أنّ صرفهم عن الآيات لا يكون مستحقا بذلك؟ قلنا: يمكن أن يكون قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا لم يرد به تعليل قوله: سَأَصْرِفُ، بل يكون كالتعليل لما هو أقرب إليه فى ترتيب الكلام، وهو قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَ ¬

_ (¬1) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «تعريفنا».

آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، لأنّ من كذب بآيات الله جل وعزّ؛ وغفل عن تأمّلها والاهتداء بنورها ركب الغىّ، واتخذه سبيلا، وحاد عن الرشد وضل ضلالا بعيدا. ورجوع لفظة ذلِكَ إلى ما ذكرناه أشبه بالظاهر من رجوعها إلى قوله: سَأَصْرِفُ؛ لأنّ رجوع اللفظ (¬1) فى اللغة إلى أقرب المذكورين إليه أولى. ويمكن أن يكون قوله تعالى: كَذَّبُوا وإن كان بلفظ الماضى المراد به الاستقبال، ويكون وجهه أن التكذيب لما كان معلوما منهم لو أظهرت لهم الآيات جعل ذلك كأنه [واقع، فبنى الخطاب عليه؛ ولهذا نظائر فى اللغة كثيرة. أو يكون جوابا لمحذوف؛ كأنه] (¬2) قال: ذلك بأنه متى ما أظهرنا لهم آياتنا كذبوا بها. ويجرى ما ذكرناه (¬3) أولا مجرى قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ فى أنه بلفظ الماضى والمعنى الاستقبال. وثالثها أن يكون معنى سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ، أى لا أوتيها (¬4) من هذه صفته، وإذا [صرفهم عنها فقد صرفها عنهم] (¬5)، وكلا اللّفظين (¬6) يفيد معنى واحدا. وليس لأحد أن يقول هلّا قال: «سأصرف آياتى عن الذين يتكبرون»؛ والآيات هاهنا هى المعجزات التى تختص بها الأنبياء. / فإن قيل: فأىّ فائدة فى قوله على سبيل التعليل (¬7): ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وأىّ معنى لتخصيصه الذين يتكبرون فى الأرض بغير الحق، وهو لا يؤتى الآيات والمعجزات إلّا الأنبياء دون غيرهم، وإن كان ممن لا يتكبر؟ قلنا: لخروج الكلام مخرج التعليل على هذا التأويل وجه صحيح؛ لأن من كذّب بآيات الله لا يؤتى معجزاته (¬8) لتكذيبه وكفره، ¬

_ (¬1) ت، وحاشية ف (من نسخة): «اللفظة». (¬2) ساقط من م. (¬3) ت: «ويجرى ذلك». (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «لا أريها». (¬5) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «وإذا صرفتهم عنها فقد صرفتها عنهم». (¬6) من نسخة بحواشى الأصل، ت. ف: «كلتا اللفظتين». (¬7) حاشية الأصل (من نسخة): «التحصيص». (¬8) ت، ف «لا يؤتى آياته ومعجزاته».

وإن كان قد يكون غير مكذّب، ويمنع من إتيانه الآيات علّة أخرى (¬1)؛ فالتكبر والبغى بغير الحق مانع من إيتاء الآيات، وإن منع غيره. ويجرى هذا مجرى قول القائل: أنا لا أودّ فلانا لغدره، ولا يلزم إذا لم يكن غادرا أن يودّه، لأنه ربما خلا من الغدر وحصل على صفة أخرى تمنع من مودته. ويجوز أيضا أن تكون الآية خرجت على ما يجرى مجرى السبب، وأن يكون بعض الجهال فى ذلك العصر اعتقد جواز ظهور المعجزات على يد الكفار المتكبرين (¬2)، فأكذبهم الله تعالى بذلك. ورابعها أن يكون المراد بالآيات العلامات التى يجعلها الله تعالى فى قلوب المؤمنين؛ ليدلّ بها الملائكة على الفرق بين المؤمن والكافر، فيفعلوا بكل واحد منهما ما يستحقه من التعظيم أو الاستخفاف، كما تأول أهل الحق الطبع والختم اللذين ورد بهما القرآن على أن المراد بهما العلامة المميّزة بين الكافر والمؤمن؛ فيكون معنى سأصرفهم عنها، أى أعدل بها عنهم (¬3)، وأخصّ بها المؤمنين المصدقين بآياتى وأنبيائى (¬4). وهذا التأويل يشهد له أيضا قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ؛ لأنّ صرفهم عن هذه الآيات كالمستحقّ لتكذيبهم وإعراضهم عن آياته تعالى. وخامسها أن يريد تعالى: أنى أصرف من رام المنع من أداء آياتى وتبليغها؛ لأنّ من الواجب على الله تعالى أن يحول من بين رام ذلك وبينه؛ ولا يمكّن منه؛ لأنه ينقض الغرض فى البعثة. ويجرى ذلك مجرى قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ؛ فتكون الآيات هاهنا القرآن وما جرى مجراه من كتب الله تعالى التى تحمّلتها (¬5) الرسل. والصرف وإن كان متعلقا فى الآية بنفس الآيات فقد يجوز أن يكون المعنى متعلّقا [فى الآية/ بنفس الآيات، فقد يجوز أن يكون المعنى متعلقا بغيرها] (¬6) مما هو متعلق بها. فإذا ساغ ¬

_ (¬1) فى حاشيتى ت، ف: «يعنى وإن كان غير التكذيب أيضا مانعا». (¬2) ت: «المذكورين»، ومن نسخة بحاشية ت: «المكذبين». (¬3) ف، ونسخة بحاشية ت: «أى أعدل بهم عنها». (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «وبيناتى». (¬5) ت، وحاشية ف (من نسخة): «تحملها». (¬6) ساقط من م.

أن نعلقه بالثواب والكرامة المستحقين على التمسك بالآيات ساغ أن نعلّقه بما يمنع من تبليغها وأدائها وإقامة الحجة بها. وعلى هذا التأويل لا نجعل قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا راجعا إلى سَأَصْرِفُ بل نردّه إلى ما هو قبله بلا فصل؛ من قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا على ما بينّاه فى الوجه الثانى، من تأويل هذه الآية. وسادسها أن يكون الصرف هاهنا الحكم والتسمية والشهادة، ومعلوم أن من شهد على غيره بالانصراف عن شيء جائز (¬1) أن يقال: صرفه عنه، كما يقال: [أكفره وكذّبه وفسّقه] (¬2)؛ وكما قال جلّ من قائل: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ؛ أى شهد عليها بالانصراف عن الحق والهدى، وكقوله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ؛ وهذا التأويل طابقه قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ؛ لأنّ الحكم عليهم [بما ذكرنا من التسمية موجب تكذيبهم وغفلتهم] (¬3) عن آيات الله وإعراضهم عنها. وسابعها أنه تعالى لمّا علم أن الذين يتكبرون فى الأرض بغير الحق سينصرفون عن النظر فى آياته، والإيمان بها إذا أظهرها على أيدى رسله عليهم السلام جاز أن يقول: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ فيريد سأظهر ما ينصرفون بسوء اختيارهم عنه. ويجرى ذلك مجرى قولهم: سأبخّل فلانا وأخطّئه، أى أسأله ما يبخل، ببذله وأمتحنه بما يخطئ فيه، ولا يكون المعنى: سأفعل (¬4) فيه البخل والخطأ. والآيات على هذا الوجه جائز أن تكون المعجزات دون سائر الأدلة الدالة على الله تعالى، وجائز أن تكون جميع الأدلة؛ ويجب على هذا الوجه أن يكون قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا غير راجع إلى قوله تعالى: سَأَصْرِفُ؛ بل إلى ما قدمنا ذكره لتصح الفائدة. ¬

_ (¬1) ف: «جاز». (¬2) ت: «كفره وكذبه وفسقه»؛ بالتشديد. (¬3) ت، ف: «والتسمية من موجب تكذيبهم وغفلتهم». (¬4) ت، وحاشية ف (من نسخة): «أنى أفعل فيه».

وثامنها أن يكون الصّرف هاهنا معناه المنع من إبطال الآيات والحجج، والقدح فيها بما يخرجها عن أن تكون أدلّة وحججا، فيكون تقدير الكلام: إنى بما أؤيّده من حججى، وأحكمه من آياتى وبيناتى؛ صارف للمبطلين والمكذبين عن القدح فى الآيات والدّلالات، ومانع لهم ممّا كانوا لولا/ هذا الإحكام والتأييد يفترضونه ويغتنمونه من تمويههم الحق ولبسه بالباطل. ويجرى هذا مجرى قول أحدنا (¬1): قد منع فلان أعداءه بأفعاله الكريمة، [وطرائقه المهذّبة، وصرفهم عن ذمّه] (¬2)، وأخرس ألسنتهم عن الطعن عليه؛ وإنما يريد المعنى الّذي ذكرناه. فإن قيل: أليس فى المبطلين من طعن على آيات الله تعالى وأورد الشبهة فيها مع ذلك؟ قلنا: لم يرد الله تعالى الصرف عن الطعن الّذي لا يؤثر ولا يشتبه على من أحسن النظر، وإنما أراد ما قدمناه، وقد يكون الشيء فى نفسه مطعونا عليه، وإن لم يطعن عليه طاعن؛ كما قد يكون بريئا من الطعن، وإن طعن فيه بما لم يؤثر؛ ألا ترى أن قولهم: فلان قد أخرس أعداءه عن ذمّه ليس يراد به أنه منعهم عن التلفظ بالذم، وإنما المعنى فيه أنه لم يجعل للذم عليه طريقا ومجالا؛ ويجب على هذا الوجه (¬3) أن يكون قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا يرجع إلى ما قبله بلا فصل، ولا يرجع إلى قوله: سَأَصْرِفُ (¬4). وتاسعها أن الله تعالى لما وعد موسى عليه السلام وأمّته إهلاك عدوهم قال: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وأراد جل وعزّ أنه يهلكهم ويصطلمهم ويجتاحهم على طريق العقوبة لهم؛ بما كان منهم من التكذيب بآيات الله تعالى، والردّ لحججه، والمروق عن طاعته، وبشّر من وعده بهذه الحال من المؤمنين بالوفاء ¬

_ (¬1) ت: «القائل». (¬2) ت، ش: «وطرائقه الممدوحة، وأخلاقه المهذبة من عيبه، وصرفهم عن ذمه». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «التأويل». (¬4) حواشى الأصل، ت، ف: «قريب منه قوله تعالى: وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ؛ ويعترض الآية بأن الحسين عليه السلام جند الله ومع ذلك فقد غلبوا؛ والجواب: إنهم وإن غلبوا فى صورة فإنهم الغالبون حقيقة».

بها، وهو تعالى إذا أهلك هؤلاء الجبّارين المتكبرين، واصطلمهم فقد صرفهم عن آياته، من حيث اقتطعهم عن مشاهدتها، والنظر فيها بانقطاع التكليف عنهم، وخروجهم عن صفات أهله. وهذا الوجه يمكن أن يقال فيه: إن العقوبة لا تكون إلّا مضادّة للاستخفاف والإهانة، كما أن الثواب لا بدّ أن يكون مقترنا بالتعظيم والتبجيل والإجلال (¬1)؛ وإماتة الله تعالى الأمم وما يفعله من بوار وإهلاك لا يقترن إليه ما لا بدّ أن يكون مقترنا إلى العقاب من الاستخفاف، ولا يخالف ما يفعله تعالى بأوليائه على سبيل الامتحان والاختبار؛ فكيف يصح ما ذكرتموه! . ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن يقال: لا يمتنع أن يضمّ الله تعالى إلى ما يفعله بهؤلاء الكفار المكذّبين [من الإهلاك والبوار اللعن والذم والاستخفاف] (¬2)، ويأمرنا [أن نفعل ذلك بهم، فيكون/ ما يقع بهم من الإيلام على وجه العقوبة وبشروطها، ولا يمتنع أن يكون الله تعالى يتعبّد ويأمر بإهلاكهم] (¬3)، وقتلهم على وجه الاستخفاف والنّكال، ويضيف الله تعالى ذلك إليه من حيث وقع بأمره وعن أذنه. فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ؛ كأنّ فى التكبّر ما يكون بالحق! قلنا فى هذا وجهان: أحدهما أن يكون ذلك على سبيل التأكيد والتغليظ والبيان عن أنّ التّكبر لا يكون إلا بغير الحق، وأن هذه صفة له لازمة غير مفارقة؛ ويجرى ذلك مجرى قوله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ؛ [المؤمنون: 117]، وقوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ [النساء: 155]، ولم يرد تعالى إلا المعنى الّذي ذكرناه. ومثله قوله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا؛ [البقرة: 41]، ولم يرد النهى عن الثمن القليل دون الكثير، بل ¬

_ (¬1) ساقطة من ت. (¬2) ت، حاشيتى الأصل، ف: «المكذبين المستحقين للبوار اللعن والذم». (¬3) ساقط من م.

أراد تأكيد القول بأن كلّ ثمن يؤخذ عنها يكون قليلا بالإضافة إليها، ويكون المتعوّض به عنها مغبونا مبخوسا خاسر الصفقة. والوجه الآخر أنّ فى التكبر ما يكون ممدوحا لأنّ من تكبر وتنزّه عن الفواحش والدنايا وتباعد من فعلها، وتجنب أهلها يكون مستحقا للمدح، سالكا لطريق الحقّ؛ وإنما التكبّر المذموم هو الواقع على وجه النّخوة والبغى والاستطالة على ذوى الضّعف والفخر عليهم، والمباهاة لهم، ومن كان بهذه الصفة فهو مجانب للتواضع الّذي ندب الله تعالى إليه، وأرشد إلى الثواب المستحقّ عليه، ويستحق بذلك الذمّ والمقت، فلهذا شرط تعالى أن يكون التكبر بغير الحق. وقوله تعالى فى هذه السورة: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ؛ [الأعراف: 33]، يحتمل أيضا هذين الوجهين اللّذين ذكرناهما. فإن أريد به البغى المكروه الّذي هو الظلم وما أشبهه، كان قوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ تأكيدا وإخبارا عن أن هذه صفته، وإن أريد بالبغى الطلب- وذلك هو أصله فى اللغة- كان الشرط فى موضعه؛ لأنّ الطلب قد يكون بالحقّ وبغير الحقّ. فإن قيل فما معنى قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا/ وهل الرؤية هاهنا العلم والإدراك بالبصر؟ وهب أنها يمكن أن تكون فى قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها محمولة على رؤية البصر، لأن الآيات والأدلة مما يشاهد كيف تحمل الرؤية الثانية على العلم، وسبيل الرشد إنما هى طريقه، ولا يصحّ أن يرجع بها إلى المذاهب والاعتقادات التى لا تجوز عليها رؤية البصر، فلا بد إذا من أن يكون المراد به رؤية العلم؛ ومن علم طريق الرّشد لا يجوز أن ينصرف عنه إلى طريق الغىّ؛ لأن العقلاء لا يختارون مثل ذلك. قلنا: الجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون المراد بالرؤية الثانية رؤية البصر، ويكون السبيل المذكورة فى الآية هى الأدلة؛ لأنها مما يدرك بالبصر، وتسمّى بأنها سبيل إلى

الرشد، من حيث كانت وصلة إلى الرّشد، وذريعة إلى حصوله، ويكون سبيل الغىّ هى الشبهات والمخاريق التى ينصبها المبطلون والمدغلون فى الدين؛ ليوقعوا بها الشبهة على أهل الإيمان، وتسمّى سبيل الغىّ، وإن كان النظر فيها لا يوجب حصول الغىّ من حيث كان المعلوم ممّن تشاغل بها، واغترّ بأهلها أنه يصير إلى الغىّ. والوجه الثانى أن يكون المراد بالرؤية العلم؛ إلا أن العلم لم يتناول كونها سبيلا للرّشد، وكونها سبيلا للغىّ؛ بل يتناولها لا من هذا الوجه؛ ألا ترى أن كثيرا من المبطلين يعلمون مذاهب أهل الحق واعتقاداتهم وحججهم؛ إلا أنهم يجهلون كونها صحيحة مفضية إلى الحق، فيجتنبونها؛ وكذلك يعلمون مذاهب المبطلين واعتقاداتهم الباطلة الفاسدة، إلا أنهم يجهلون كونها باطلة، ويعتقدون صحتها بالشبهة فيصيرون إليها؟ وعلى هذا الوجه لا يجب أن يكون تعالى وصفهم بالعناد وترك الحق مع العلم به. والوجه الثالث أن يكونوا عالمين بسبيل الرشد والغىّ، ومميزين بينهما؛ إلا أنهم للميل إلى أعراض الدنيا، والذّهاب مع الهوى والشهوات يعدلون عن الرشد إلى الغىّ، ويجحدون ما يعلمون، كما أخبر بها عن كثير من أهل الكتاب بأنهم يجحدون الحقّ وهم يعلمونه ويستيقنونه. فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ، / والتكذيب لا يكون فى الحقيقة إلا فى الأخبار دون غيرها؟ قلنا: التكذيب قد يطلق فى الأخبار وغيرها؛ ألا ترى أنهم يقولون: فلان يكذّب بكذا إذا كان يعتقد بطلانه، كما يقولون: يصدّق بكذا إذا كان يعتقد صحته؟ ولو صرفنا التكذيب هاهنا إلى أخبار الله تعالى التى تضمنتها كتبه الواردة على أيدى رسله عليهم السلام جاز؛ وتكون الآيات هاهنا هى الكتب المنزلة دون سائر المعجزات. فإن قيل: فما معنى ذمّه تعالى لهم بأنهم كانوا عن الآيات غافلين، والغفلة على مذاهبكم

من فعله، لأنها السهو أو ما جرى مجراه مما ينافى العلوم الضرورية، ولا تكليف على الساهى فكيف يذمّ بذلك؟ . قلنا: المراد هاهنا بالغفلة التشبيه لا الحقيقة، ووجه التشبيه أنهم لما أعرضوا عن تأمّل آيات الله تعالى، والانتفاع بها أشبهت حالهم حال من كان ساهيا غافلا عنها، فأطلق عليهم هذا القول كما قال تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ؛ [البقرة: 18]، على هذا المعنى، وكما يقول أحدنا لمن يستبطئه ويصفه بالإعراض عن التأمل والتبيّن: أنت ميّت وراقد، ولا تسمع، ولا تبصر، وما أشبه ذلك، وكل هذا واضح بحمد الله.

تأويل خبر: "إن قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن

تأويل خبر [: «إنّ قلوب بنى آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرّحمن] إن سأل سائل عن الخبر المروىّ عن عبد الله بن عمر أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: «إنّ قلوب بنى آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرّحمن، يصرّفها كيف شاء» (¬1) ثم يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله عند ذلك: «اللهم مصرّف القلوب، صرّف (¬2) قلوبنا إلى طاعتك». وعما يرويه أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «ما من قلب آدميّ إلّا وهو بين إصبعين من أصابع الله تعالى، فإذا شاء أن يثبّته ثبّته، وإن شاء أن يقلّبه قلّبه». وعمّا يرويه ابن حوشب قال: قيل (¬3) لأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله: ما كان أكثر دعاء النبىّ صلى الله عليه وآله؟ قالت: كان أكثر دعائه: «يا مقلّب القلوب، ثبّت قلبى على دينك»، قالت: قلت: يا رسول الله، ما أكثر دعاءك (¬4): «يا مقلّب القلوب، ثبّت قلبى على دينك»! فقال: «يا أمّ سلمة، ليس من آدميّ إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله، ما شاء أقام، وما شاء أزاغ». فقال: ما تأويل/ هذه الأخبار على ما يطابق التوحيد وينفى التشبيه؟ أوليس من مذهبكم أنّ الأخبار التى يخالف ظاهرها الأصول، ولا تطابق العقول لا يجب ردّها، والقطع على كذب رواتها (¬5) إلّا بعد ألّا يكون لها فى اللغة مخرج ولا تأويل؟ وإن كان لها ذلك فباستكراه أو تعسّف، ولستم ممّن يقول ذلك فى مثل هذه الأخبار، فما تأويلها؟ . الجواب، إنّ الّذي يعوّل عليه من تكلّم فى تأويل هذه الأخبار هو أن يقول: إن الإصبع فى كلام العرب وإن كانت الجارحة المخصوصة فهى أيضا الأثر الحسن؛ يقال: لفلان على ماله وإبله إصبع حسنة؛ أى قيام وأثر حسن؛ قال الراعى يصف راعيا حسن القيام على إبله: ¬

_ (¬1) ف، حاشية ت (من نسخة): «يشاء». (¬2) ت، ف، حاشية الأصل (من نسخة) «اصرف». (¬3) ت، ف: «قلت لأم سلمة». (¬4) ت، د، ف: «أكثر دعائك». (¬5) ج، ش: «كذب راويها»، ت، ف «كذبها».

ضعيف العصا بادى العروق ترى له … عليها إذا ما أجدب النّاس إصبعا (¬1) وقال طفيل الغنوىّ يصف فحلا: كميت كركن الباب أحيا بناته … مقاليتها واستحمشتهنّ إصبع (¬2) وقال لبيد بن ربيعة: من يبسط الله عليه إصبعا (¬3) … بالخير والشّرّ بأىّ أولعا يملأ له منه ذنوبا مترعا وقال حميد بن ثور: أغرّ كلون البدر فى كلّ منكب … من النّاس نعمى يحتذيها وإصبع وقال آخر: وأرزنات ليس فيهنّ أبن … ذو إصبع فى مسّها وذو فطن وقال آخر: أكرم نزارا واسقه المشعشعا … فإنّ فيه خصلات أربعا حدّا وجودا وندى وإصبعا (¬4) والإصبع فى كلّ ما أوردناه المراد بها الأثر الحسن والنّعمة، فيكون المعنى: ما من آدميّ إلا وقلبه بين نعمتين لله جليلتين حسنتين. فإن قيل: هذا قد ذكر كما حكيتم؛ إلّا أنه لم يفصّل: ما النعمتان؟ وما وجه التثنية هاهنا ونعم الله تعالى على عباده كثيرة لا تحصى؟ ¬

_ (¬1) البيت فى اللآلئ 50، 764، واللسان (عصا)؛ وضعيف العصا كناية عن الرفق بما يرعاه، والعرب تعيب الرعاء بضرب الإبل؛ لأن ذلك عنف بها وقلة رفق. (¬2) ديوانه: 52، وفى حاشية ت (من نسخة): «واستحشمتهن»، وفى حواشى الأصل، ت، ف أيضا: «الحمش: الجمع، وقد حمش [بفتحتين]؛ فيمكن أن يكون «استحمش» فى البيت من هذا، واستحمش، أى غضب، غير متعد» وفى حاشية الأصل أيضا: «استحمشتهن: أصلحتهن؛ من قولهم: حمشت الدابة إذا صلحت؛ عن النضر بن شميل». (¬3) ديوانه 2: 8. (¬4) حاشية ف: «قوله: «حدا»، قيل به أراد البأس، وقيل: المنع»، وفى حاشية الأصل (من نسخة): «جدا».

/ قلنا: يحتمل أن يكون الوجه فى ذلك نعم الدنيا ونعم الآخرة، وثناهما لأنهما كالجنسين أو كالنوعين، وإن كان كل قبيل منهما فى نفسه ذا عدد كثير؛ لأن الله تعالى قد أنعم على عباده بأن عرّفهم بأدلته وبراهينه ما أنعم به عليهم، من نعم الدنيا والآخرة، وعرّفهم ما لهم فى الاعتراف بذلك والشكر عليه والثناء به من الثواب الجزيل، والبقاء فى النعيم الطويل. ويمكن أن يكون الوجه فى تسميتهم للأثر الحسن بالإصبع هو من حيث يشار إليه بالإصبع إعجابا به، وتنبيها عليه؛ وهذه عادتهم فى تسمية الشيء بما يقع عنده، وبما له به علقة، وقد قال قوم فى بيتى طفيل والراعى: إنهما أرادا أن يقولا «يدا» فى مكان «إصبع»؛ لأن اليد النعمة، فلم يمكنهما، فعدلا عن اليد إلى الإصبع، لأنها من اليد. وفى الإصبع الجارحة ثمان لغات: إصبع بفتح الألف والباء، وإصبع، بفتح الألف وكسر الباء، وإصبع بضم الألف والباء، وإصبع بضم الألف وفتح الباء، وأصبوع، بضم الألف مع الواو، وإصبع، بكسر الألف والباء، وإصبع، بكسر الألف وفتح الباء، وإصبع بكسر الألف وضم الباء. وفى هذه الأخبار وجه آخر؛ هو أوضح مما ذكر، وأشبه بمذاهب العرب فى ملاحن كلامها، وتصرّف كناياتها؛ وهو أن يكون المعنى فى ذكر الأصابع الإخبار عن تيسّر تصريف القلوب وتقليبها، والفعل فيها عليه جلّت عظمته، ودخول ذلك تحت قدرته. ألا ترى أنهم يقولون: هذا الشيء فى خنصرى وإصبعى، وفى يدى وقبضتى؛ كلّ ذلك إذا أرادوا تسهّله وتيسّره وارتفاع المشقة فيه، والمئونة (¬1). وعلى هذا المعنى يتأوّل المحققون قوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، [الزمر: 68]؛ فكأنه صلى الله عليه وآله لما أراد المبالغة ¬

_ (¬1) ت: «المئونة».

فى وصفه بالقدرة على تقليب القلوب وتصريفها بغير مشقّة ولا كلفة- وإن كان غيره تعالى يعجز عن ذلك، ولا يتمكّن منه- قال: إنها بين أصابعه؛ كناية عن هذا المعنى، واختصارا للّفظ الطويل، وجريا على مذهب العرب فى إخبارهم عن مثل هذا المعنى بمثل هذا اللفظ؛ وهذا الوجه يجب أن يكون مقدّما على الوجه الأول ومعتمدا؛ لأنه واضح جلىّ. ويمكن أن يكون فى الخبر وجه آخر على تسليم ما يقترحه المخالفون، / من أنّ الإصبعين هما المخلوقتان من اللّحم والدم؛ استظهارا فى الحجّة، وإقامة لها على كل وجه: وهو أنه لا ينكر أن يكون القلب يشتمل عليه جسمان على شكل الإصبعين، يحرّكه الله تعالى بهما، ويقلّبه بالفعل فيهما؛ ويكون وجه تسميتهما بالأصابع من حيث كانا (¬1) على شكلهما. والوجه فى إضافتهما إلى الله تعالى- وإن كانت جميع أفعاله تضاف إليه بمعنى الملك والقدرة- أنّه (¬2) لا يقدر على الفعل فيهما وتحريكهما منفردين عما (¬3) جاورهما غيره تعالى؛ فقيل إنهما إصبعان له؛ من حيث اختصّ بالفعل فيهما على هذا الوجه؛ لأنّ غيره إنما يقدر على تحريك القلب، وما هو مجاور للقلب من الأعضاء بتحريك جملة الجسم، ولا يقدر على تحريكه وتصريفه منفردا ممّا يجاوره غيره تعالى؛ فمن أين للمبطلين المتأوّلين هذه الأخبار بأهوائهم وضعف آرائهم أنّ الأصابع هاهنا إذا كانت لحما ودما فهى جوارح لله تعالى! وما هذا الوجه الّذي ذكرناه ببعيد؛ وعلى المتأوّل أن يورد كلّ ما يحتمله الكلام؛ ممّا لا تدفعه حجّة، وإن ترتّب بعضه على بعض فى القوة والوضوح. ونحن نعود إلى تفسير ما لعلّه أن يشتبه من الأبيات التى استشهدنا بها. أما قوله: * حدّا (¬4) وجودا وندى وإصبعا* فمعنى الحدّ: المضاء والنّفاذ. ¬

_ (¬1) ت: «من حيث كانتا». (¬2) ت: «فإنه». (¬3) ف، حاشية (من نسخة): «مما». (¬4) حاشية ت (من نسخة): «جدا».

وقول الآخر: * وأرزنات ليس فيهنّ أبن* فالأرزنات العصىّ، والابن العقد. فأما قول حميد بن ثور: «فى كل منكب من الناس»، فالمنكب: الجماعة، والمنكب: الناحية. وأما معنى أبيات (¬1) لبيد، فإنه أراد: من يسق الله إليه خيرا، أو يصرف عنه شرّا أيّهما فعل ذلك به أسبغ له حتى ينتهى منتهاه. فأما بيت طفيل الغنوىّ، فمعناه أنّ هذا الفحل الّذي وصفه بأنه كميت، وأنه كركن الباب لتمامه وشدّته لمّا ضرب فى الإبل التى وصفها عاشت أولادها التى هى بناته بعد أن كنّ مقاليت، والمقاليت: التى لا يعيش لهنّ ولد، فكان هذا منه أثرا جميلا عليها. فأما بيت الراعى فمعنى قوله: «ضعيف العصا» يريد أنّه قليل الضّرب لها؛ إما لأنّهن لا يحوجنه سدادا وتأدبا، أو لشفقته عليهن؛ وهذه كناية فى نهاية الحسن، واختصار شديد؛ لأنّه قد يجوز أن يكون ضعيف العصا على الحقيقة من حيث لا يحتاج إلى استعمالها/ فى الضرب، فيختارها قوية، ويجوز أن يكون حذف، وأراد ضعيف فعل العصا. وقوله: «بادى العروق» يعنى عروق رجله لفسادها من السعى فى أثر هذه الإبل. وأراد «بالإصبع» أنّ له عليها فى جدب الناس أثرا جميلا لحسن قيامه وتعهده. وقد قيل إنه إنما سمّى الراعى لبيت قاله فى هذه القصيدة بعد بيتين من البيت الّذي أنشدناه، وهو: لها أمرها حتّى إذا ما تبوّأت … بأخفافها مأوى تبوّأ مضجعا (¬2) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «بيت لبيد». (¬2) اللآلئ: 764؛ والرواية هناك: «لأخفافها».

وهذا قول الأصمعىّ. وقال السّكّريّ: سمّى بذلك لقوله فى هذه القصيدة أيضا: هدان أخو وطب وصاحب علبة … يرى المجد أن يلقى خلاء ومرتعا (¬1) وروى عن بعض بنى نمير أنه قال: إنما سمّى بذلك لقوله: بنيت مرافقهنّ فوق مزلّة … لا يستطيع بها القراد مقيلا (¬2) فقال بعض بنى نمير لمّا سمع هذا البيت: والله ما هو إلّا راعى إبل، فبقيت عليه. وقال محمد بن سلّام: إنما (¬3) سمّى الراعى لكثرة وصفه الإبل وحسن نعته لها؛ واسمه عبيد ابن حصين بن جندل، وكنيته أبو جندل، وقيل أبو نوح. ¬

_ (¬1) الهدان: الأحمق الثقيل، والعلبة: محلب من جلد. (¬2) جمهرة الأشعار: 353، واللسان (زلل)، والمزلة: موضع الزلل والانزلاق. (¬3) طبقات الشعراء: 250.

23

23 مجلس آخر [المجلس الثالث والعشرون: ] تأويل آية [: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ؛ [المائدة: 116]. فقال: ما المراد بالنفس فى هذه الآية؟ وهل المعنى فيها كالمعنى فى قوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ؛ [آل عمران: 28] أو يخالفه؟ وهل يطابق معنى الآيتين والمراد بالنفس فيهما ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه قال: قال الله تعالى: «إذا أحبّ العبد لقائى أحببت لقاءه، وإذا ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى، وإذا ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منه، وإذا تقرّب إلى شبرا تقرّبت إليه ذراعا، وإذا تقرّب إلى ذراعا تقربت إليه باعا»، أو لا يطابقه؟ الجواب، قلنا: النفس فى اللغة لها معان مختلفة، ووجوه فى التصرّف متباينة؛ فالنفس نفس الإنسان وغيره من الحيوان، وهى التى إذا فقدها خرج عن كونه حيّا، ومنه قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ؛ [آل عمران: 185]. والنّفس ذات الشيء الّذي يخبر/ عنه كقولهم: فعل ذلك فلان نفسه؛ إذا تولّى فعله. والنفس: الأنفة، من قولهم ليس لفلان نفس، أى لا أنفة له. والنفس الإرادة، من قولهم نفس فلان فى كذا، أى إرادته؛ قال الشاعر: فنفساى نفس قالت ايت ابن بحدل … تجد فرجا من كلّ غمّى تهابها (¬1) ونفس تقول اجهد نجاءك لا تكن … كخاضبة لم يغن شيئا خضابها (¬2) ¬

_ (¬1) البيتان فى اللسان (نفس). (¬2) ت: «عنها خضابها»، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «لم يغن يوما».

ومنه أن رجلا قال للحسن: يا أبا سعيد، لم أحجج قطّ، فنفس تقول لى: حجّ، ونفس تقول لى: تزوّج، فقال الحسن: إنّما النفس واحدة، ولكن لك همّ يقول حجّ، وهمّ يقول: تزوّج، وأمره بالحج. وقال الممزّق (¬1) العبدىّ- وتروى لمعقّر بن حمار البارقىّ: ألا من لعين قد نآها حميمها … وأرّقنى بعد المنام همومها فباتت لها نفسان شتّى همومها … فنفس تعزّيها ونفس تلومها وقال النّمر بن تولب العكلىّ: أمّا خليلى فإنى لست معجله … حتى يؤامر نفسيه كما زعما نفس له من نفوس القوم صالحة … تعطى الجزيل ونفس ترضع الغنما (¬2) أراد أنّه بين نفسين: نفس تأمره بالجود، وأخرى تأمره بالبخل، وكنّى برضاع الغنم عن البخل، لأنّ اللّئيم يرضع اللبن من الشّاة ولا يحلبها؛ لئلا يسمع الضيف صوت الشّخب فيهتدى إليه، ومنه قيل: لئيم راضع؛ وقال كثيّر: فأصبحت ذا نفسين نفس مريضة … من اليأس ما ينفكّ همّ يعودها (¬3) ونفس ترجّى وصلها بعد صرمها … تجمّل كى يزداد غيظا حسودها والنفس العين التى تصيب الإنسان، يقال: أصابت فلانا نفس، أى عين. وروى ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «الممزّق، بكسر الزاى وفتحها، كلاهما جائز؛ الكسر لأنه أتى بذكر التمزيق فى شعره، والممزق بالفتح؛ لأنه قال: «لما أمزق»، وقال أبو القاسم الآمدي: الممزق، بفتح الزاى هو شأس بن نهار العبدى، الّذي قال: «ولما أمزق»، والممزق، بكسرها هو الممزق الحضرمىّ، متأخر، وولده الممزّق بن الممزق، ذكره فى المختلف والمؤتلف. وانظر ص 185 - 186؛ والبيت الّذي يشير إليه هو بتمامه: فإن كنت مأكولا فكن خير آكل … وإلّا فأدركنى ولمّا أمزّق من قصيدة يخاطب فيها عمرو بن المنذر بن عمرو بن النعمان، وكان هم بغزو عبد القيس. (¬2) البيتان فى الأغانى 19: 161. (¬3) ديوانه: 1: 75.

أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يرقى فيقول: «بسم الله أرقيك، والله يشفيك، من كلّ داء هو فيك؛ من عين عائن، ونفس نافس، وحسد حاسد». وقال ابن الأعرابىّ: النّفوس الّذي يصيب الناس بالعين/. وذكر رجلا فقال: كان والله حسودا نفوسا كذوبا. وقال عبيد الله بن قيس الرّقيّات (¬1): يتّقى أهلها النّفوس عليها … فعلى نحرها الرّقى والتّميم وقال مضرّس بن ربعىّ الفقعسيّ: وإذا نموا صعدا فليس عليهم … منّا الخبال ولا نفوس الحسّد (¬2) وقال ابن هرمة يمدح عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك: فاسلم سلمت من المكاره والرّدى … وعثارها ووقيت نفس الحسّد والنفس أيضا من الدّباغ بمقدار الدّبغة؛ تقول: اعطنى نفسا من دباغ، أى قدر ما أدبغ به مرة. والنفس الغيب، يقول القائل: إنّى لأعلم نفس فلان، أى غيبه؛ وعلى هذا تأويل قوله تعالى: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ، أى تعلم غيبى وما عندى، ولا أعلم غيبك. وقيل: إنّ النفس أيضا العقوبة، من قولهم: أحذّرك نفسى؛ أى عقوبتى؛ وبعض المفسّرين حمل قوله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ على هذا المعنى؛ كأنه يحذّركم عقوبته. وروى ذلك عن ابن عباس والحسن وآخرون؛ قالوا: معنى الآية ويحذركم الله إياه. وقد روى عن الحسن ومجاهد فى قوله تعالى: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ما ذكرناه من التأويل بعينه. ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «قيل له ابن قيس الرقيات؛ لأنه كان يشبب بجماعة كل واحدة منهن اسمها رقية؛ وقيل: كانت له جدات؛ اسم كل واحدة منهن رقية». (¬2) حواشى الأصل، ت، ف: «يقال هذا نبات ينمى صعدا؛ أى يزداد طولا».

فإن قيل: ما وجه تسمية الغيب بأنه نفس؟ قلنا: لا يمتنع أن يكون الوجه فى ذلك أنّ نفس الإنسان لما كانت خفيّة الموضع نزّل ما يكتمه ويجتهد فى ستره منزلتها، وسمّى باسمها، فقيل فيه إنه نفسه، مبالغة فى وصفه بالكتمان والخفاء؛ وإنما حسن أن يقول تعالى مخبرا عن نبيه: وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ من حيث تقدم قوله: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي؛ ليزدوج الكلام، ولهذا لا يحسن ابتداء أن يقول: أنا لا أعلم ما فى نفس الله تعالى، وإن حسن على الوجه الأول؛ ولهذا نظائر فى الاستعمال مشهورة مذكورة. فأما الخبر الّذي ذكره السائل فتأويله ظاهر، وهو خارج على مذهب للعرب فى مثل هذا الباب معروف؛ ومعناه أنّ من ذكرنى فى نفسه جازيته على ذكره لى، وإذا تقرّب إلى شبرا جازيته على تقرّبه إلى؛ وكذلك الخبر إلى آخره، / فسمّى المجازاة على الشيء باسمه اتساعا، كما قال تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها، [الشورى: 40]؛ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ؛ [الأنفال: 40]، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، [البقرة: 15]؛ وكما قال الشاعر (¬1): ألا لا يجهلن أحد علينا … فنجهل فوق جهل الجاهلينا ونظائر هذا كثيرة فى كلام العرب. ولما أراد تعالى المبالغة فى وصف ما يفعله به من الثواب والمجازاة على تقرّبه بالكثرة والزيادة؛ كنّى عن ذلك بذكر المسافة المتضاعفة فقال: «باعا وذراعا»، إشارة إلى المعنى من أبلغ الوجوه وأحسنها. ¬

_ (¬1) هو عمرو بن كلثوم؛ والبيت من المعلقة ص 238 - بشرح التبريزى.

24

24 مجلس آخر [المجلس الرابع والعشرون: ] تأويل آية [: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ... ] إن سأل سائل فقال: ما تأويل قوله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا؛ [الأحزاب: 10]. وكيف يجوز أن تبلغ القلوب الحناجر مع كونهم أحياء، ومعلوم أنّ القلب إذا زال عن موضعه المخلوق فيه مات صاحبه؟ وعن أىّ شيء زاغت الأبصار؟ وبأىّ شيء تعلّقت ظنونهم بالله تعالى؟ . الجواب، قيل له فى هذه الآية وجوه: منها أن يكون المراد بذلك أنهم جبنوا وفزع أكثرهم لمّا أشرف المشركون عليهم، وخافوا من بوائقهم وبوادرهم، ومن شأن الجبان عند العرب إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته، ولهذا يقولون للجبان: انتفخ سحره، أى رئته، وليس يمتنع أن تكون الرئة إذا انتفخت رفعت القلب، ونهضت به إلى نحو الحنجرة. وهذا التأويل قد ذكره الفرّاء وغيره، ورواه الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس. ومنها أنّ القلوب توصف بالوجيب والاضطراب فى أحوال الجزع والهلع؛ قال الشاعر: كأنّ قلوب أدلّائها … معلقة بقرون الظّباء (¬1) ¬

_ (¬1) الأدلاء: جمع دليل؛ والبيت فى وصف فلاة مخيفة، ذكره ابن قتيبة فى تأويل مختلف الحديث ص 488، ونسبه إلى المرار، وقال فى شرحه: «يريد أن القلوب تنزو وتجب؛ فكأنها معلقة بقرون الظباء؛ لأن الظباء لا تستقر؛ وما كان على قرونها فهو كذلك».

وقال امرؤ القيس: ولا مثل يوم فى قداران ظلته … كأنى وأصحابى على قرن أعفرا (¬1) ويروى: «فى قدار ظللته»؛ أراد المبالغة فى وصف نفسه وأصحابه بالقلق والاضطراب ومفارقة/ السّكون والاستقرار؛ وإنما خصّ الظّبى؛ لأن قرنه أكثر تحركا واضطرابا؛ لنشاطه ومرحه وسرعته. وقد قال بعض الناس: إن امرأ القيس لم يصف شدّة أصابته فى هذا البيت فيليق قوله: «على قرن أعفرا» بالتأويل المذكور؛ بل وصف أماكن كان فيها مسرورا متنعما؛ ألا ترى إلى قوله قبل هذا البيت بلا فصل: ألا ربّ يوم صالح قد شهدته … بتاذف ذات التلّ من فوق طرطرا (¬2) فيكون معنى قوله: «على قرن اعفرا» على هذا الوجه أنه كان على مكان عال مشرف؛ شبّهه لارتفاعه وطوله بقرن الظبى؛ وهذا القول لابن الأعرابىّ والأول (¬3) للأصمعىّ؛ فأما قول الآخر: ألا قلّ خير الشّام (¬4) كيف تغيّرا … فأصبح يرمى النّاس عن قرن أعفرا فلا يحتمل إلّا الشدة والحال المذمومة، ويجوز أن يريد أن الناس فيه غير مطمئنين بل هم منزعجون قلقون؛ كأنهم على قرن ظبى، ويحتمل أنه يريد أن يطعنهم بقرن ظبى، كقولك: رماه بداهية، ويكون معنى «عن» هاهنا معنى الباء، فقال: «عن قرن أعفرا» وهو يريد بقرن أعفرا، وقد ذكر فى هذا البيت الوجهان معا، فيكون معنى الآية على هذا التأويل أن القلوب لما اتصل وجيبها واضطرابها بلغت الحناجر لشدة القلق. ¬

_ (¬1) ديوانه: 106. قداران: قرية بالشام؛ وأعفر؛ أراد قرن ظبى أعفر. وفى حواشى الأصل، ت، ف: «فى نسخة الوزير الكامل أبى القاسم المغربى رحمه الله: «قذاران»، بالذال المعجمة وفتح القاف، وضب عليه». (¬2) فى حاشية ت: «طرطر: قرية بالشام بمنبج، ولها نهر يقال له نهر طرطر». وفى شرح الديوان: تاذف وطرطر: موضعان فيهما أوقع بعدوه». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «والآخر». (¬4) ت، ف: «الشأن».

ومنها أن يكون المعنى: كادت القلوب من شدة الرّعب والخوف تبلغ الحناجر، وإن لم تبلغ فى الحقيقة، فألغى ذكر «كادت» لوضوح الأمر فيها، ولفظة «كادت» هاهنا للمقاربة؛ مثل قول قيس بن الخطيم: أتعرف رسما كاطّراد المذاهب … لعمرة وحشا غير موقف راكب (¬1) ديار الّتي كادت ونحن على منى … تحلّ بنا لولا نجاء الرّكائب معناه: قاربت أن تحلّ بنا، وإن لم تحلل فى الحقيقة. وقوله: «غير موقف راكب» فيه وجهان: أحدهما أنه ليس بموضع يقف فيه راكب لخلوّه من الناس ووحشته، والآخر أن يكون أراد أنّه وحش؛ إلّا أن راكبا واقف به؛ يعنى نفسه. وقال نصيب: / وقد كدت يوم الحزن لما ترنّمت … هتوف الضّحى محزونة بالترنّم أموت لمبكاها أسى إنّ لوعتى (¬2) … ووجدى بسعدى شجوه غير منجم (¬3) معنى المنجم: المقلع. وقال ذو الرّمة: وقفت على ربع لميّة ناقتى … فما زلت أبكى عنده وأخاطبه (¬4) وأسقيه حتى كاد ممّا أبثّه (¬5) … تكلّمنى أحجاره وملاعبه ¬

_ (¬1) ديوانه: 100، والرسم: ما شخص من آثار الديار بعد البلى، والمذاهب: جمع مذهب؛ وهى جلود تجعل فيها خطوط فيرى بعضها فى إثر بعض، واطرادها: تتابعها. (¬2) ف، حاشية ت (من نسخة): «لوعتى». (¬3) فى حواشى الأصل، ت، ف: «فى ديوانه: * ووجدى بسعدى قاتل لى فاعلمى* وبعده: ولو قبل مبكاها بكيت صبابة … بسعدى شفيت النّفس قبل التّندّم ولكن بكت قبلى فهيّج لى البكا … بكاها، فقلت: الفضل للمتقدّم. (¬4) ديوانه: 35. (¬5) فى حواشى الأصل، ت، ف: «يقال بثثته السر وأبثثته».

وكل هذا معنى «كاد» فيه المقاربة. ومتى أدخلت العرب على «كاد» جحدا، فقالوا: ما كاد عبد الله يقوم، ولم يكد عبد الله يقوم؛ كان فيه وجهان: أجودهما: قام عبد الله بعد إبطاء ولأى، ومثله قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ؛ [البقرة: 71]، أى ذبحوها بعد إبطاء وتأخير، لأنّ وجدان البقرة عسر عليهم. وروى أنهم أصابوها ليتيم لا مال له غيرها، فاشتروها من وليّه بملء جلدها ذهبا، فقال تعالى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ، إما لأنهم لم يقفوا عليها، أو لغلائها وكثرة ثمنها. والوجه الآخر فى قولهم: ما يكاد عبد الله يقوم، أى ما يقوم عبد الله، وتكون لفظة يكاد على هذا المعنى مطّرحة لا حكم لها، وعلى هذا يحمل أكثر المفسرين قوله تعالى: إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها، أى لم يرها أصلا؛ لأنه جل وعز لما قال: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ؛ [النور: 40]، كأنّ بعض هذه الظلمات يحول بين العين وبين النظر إلى اليد وسائر المناظر؛ ف يَكَدْ على هذا التأويل زيدت للتوكيد، والمعنى: إذا أخرج يده لم يرها. وقال قوم: معنى الآية: إذا أخرج يده رآها بعد إبطاء وعسر؛ لتكاثف الظلمة (¬1)، وترادف الموانع من الرؤية؛ ف يَكَدْ على هذا الجواب ليست بزائدة. وقال آخرون: معنى الآية إذا أخرج يده لم يرد أن يراها، لأن الّذي شاهده من تكاثف الظلمات أيأسه (¬2) من تأمل يده، وقرّر فى نفسه أنه لا يدركها ببصره. وحكى عن العرب: أولئك أصحابى الذين أكاد أنزل عليهم، أى أريد أن أنزل عليهم؛ قال الشاعر: كادت وكدت وتلك خير إرادة … لو عاد من لهو الصّبابة ما مضى (¬3) / أى أرادت وأردت، وقال الأفوه الأودىّ (¬4): ¬

_ (¬1) ف: «الظلمات»، حاشية ت (من نسخة): «الظلم». (¬2) ت، حاشية ف (من نسخة): «آيه». (¬3) البيت فى اللسان (كيد). (¬4) ديوانه: 10 (ضمن مجموعة الطرائف).

فإن تجمّع أوتاد وأعمدة … وساكن بلغوا الأمر الّذي كادوا أى أرادوا. وقال بعضهم: معنى قوله تعالى: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ؛ [يوسف: 76]، أى أردنا ليوسف. وقال الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس: معناه كذلك صنعنا ليوسف. ومما يشهد لمن جعل لفظة يَكَدْ زائدة فى الآية قول الشاعر: سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه … فما إن يكاد قرنه يتنفّس أى فما إن يتنفس قرنه، و «يكاد» مزيدة للتوكيد، وقال حسان: وتكاد تكسل أن تجئ فراشها … فى جسم خرعبة وحسن قوام معناه وتكسل أن تجئ فراشها، وقال الآخر: وألّا ألوم النّفس فيما أصابنى … وألّا أكاد بالذى نلت أنجح أى لا أنجح بالذى نلت؛ ولو لم يكن الأمر على هذا لم يكن البيت مدحا. وروى عبد الصمد بن المعذّل بن غيلان عن أبيه عن جدّه غيلان (¬1) قال: قدم علينا ذو الرّمة الكوفة، فأنشدنا بالكناسة- وهو على راحلته- قصيدته الحائية؛ التى يقول فيها: إذا غيّر النّأى المحبّين لم يكد … رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح (¬2) فقال له عبد الله بن شبرمة (¬3): قد برح يا ذا الرّمة، ففكّر ساعة ثم قال: إذ غيّر النّأى المحبّين لم أجد … رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح قال: فأخبرت أبى بما كان من قول ذى الرّمة واعتراض ابن شبرمة عليه، فقال: ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «عيلان»، وفيها: «وفى نسختين صحيحتين من ديوانه: غيلان». (¬2) ديوانه: 78. (¬3) حواشى الأصل، ت، ف: «هو شبرمة بن الطفيل» بكسر الطاء وسكون الفاء، الّذي يقول: ويوم كظلّ الرّمح قصّر طوله … دم الزّقّ عنّا واصطفاق المزاهر والبيت من أبيات ثلاثة، ذكرها أبو تمام فى الحماسة- بشرح التبريزى 3: 236.

أخطأ ذو الرّمة فى رجوعه عن قوله الأوّل، وأخطأ ابن شبرمة فى اعتراضه عليه؛ هذا كقوله عز وجل: إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها، أى لم يرها. فأما قوله عز وجل: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها؛ [طه: - 15]، فيحتمل أن يكون المعنى: أريد أخفيها لكى تجزى كلّ نفس بما تسعى. ويجوز أن تكون زائدة ويكون/ المعنى إنّ الساعة آتية أخفيها لتجزى كلّ نفس. وقد قيل فيه وجه آخر؛ وهو أن يتم الكلام عند قوله تعالى: آتِيَةٌ أَكادُ، ويكون المعنى: أكاد آتى بها، ويقع الابتداء بقوله أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ؛ ومما يشهد لهذا الوجه قول ضابئ البرجمىّ: هممت ولم أفعل وكدت وليتنى … تركت على عثمان تبكى حلائله (¬1) أراد: وكدت أقتله، فحذف الفعل لبيان معناه. وروى عن سعيد بن جبير أنّه كان يقرأ: أَكادُ أُخْفِيها، فمعنى أخفيها على هذا الوجه أظهرها؛ قال عبدة بن الطبيب يصف ثورا: يخفى التّراب بأظلاف ثمانية … فى أربع مسّهنّ الأرض تحليل (¬2) أراد أنه يظهر التراب ويستخرجه بأظلافه، وقال امرؤ القيس: فإن تدفنوا الدّاء لا نخفه … وإن تبعثوا الحرب لا نقعد (¬3) أى لا نظهره؛ وقال النابغة: تخفى بأظلافها حتّى إذا بلغت … يبس الكثيب تداعى التّرب فانهدما (¬4) ¬

_ (¬1) الشعر والشعراء: 310. (¬2) من قصيدة مفضلية 268 - 293 بشرح ابن الأنبارى. وفى حاشية الأصل: «يصف شدة عدو الثور، وأنه يثير الغبار بأظلاف ثمانية وأربع قوائم؛ مقدار مسهن الأرض تحليل، أى قول الرجل فى يمينه إن شاء الله». وفى حواشى، ت، ف أيضا: «التحليل ضد التحريم؛ يقال: حللته تحليلا وتحلة؛ وتقول: لم أفعل ذلك إلا تحلة القسم؛ أى القدر الّذي لا أحنث معه، ولم أبالغ فيه؛ ثم توسع فيه؛ فقيل لكل شيء لم يبالغ فيه تحليل؛ يقال: ضربته تحليلا». (¬3) مختار الشعر الجاهلى: 131. (¬4) البيت ليس فى ديوانه، وفى حاشية ت: «ولامرئ القيس يصف فرسا أخرج اليرابيع من حجرتها بعدوه: خفاهنّ من أنفاقهنّ كأنّما … خفاهنّ ودق من سحاب مركّب وانظر ديوانه 86.

وقد روى أهل العربية: أخفيت الشيء يعنى (¬1) سترته، وأخفيته بمعنى أظهرته، وكأنّ القراءة بالضم تحتمل الأمرين: الإظهار والستر، والقراءة بالفتح لا تحتمل غير الإظهار؛ وإذا كانت بمعنى الإظهار كان الكلام فى «كاد» واحتمالها للوجوه الثلاثة التى ذكرناها كالكلام فيها إذا كانت بمعنى الستر والتغطية. فإن قيل: فأىّ معنى لقوله: إنى أسترها لتجزى كلّ نفس بما تسعى، أو أظهرها على الوجهين جميعا؟ وأى فائدة فى ذلك؟ قلنا: الوجه فى هذا ظاهر، لأنه تعالى إذا ستر عنّا وقت الساعة كانت دواعينا إلى فعل الحسن والقبيح مترددة، وإذا عرّفنا وقتها بعينه كنا ملجئين إلى التوبة، بعد مقارفة الذنوب ونقض ذلك الغرض بالتكليف واستحقاق الثواب به، فصار ما أريد من المجازاة للمكلّفين بسعيهم، وإيصال ثواب أعمالهم يمنع من اطلاعهم على وقت انقطاع التكليف عنهم. فأما إذا كانت لفظة أُخْفِيها بمعنى الإظهار فوجهه أيضا واضح؛ لأنه تعالى إنما يقيم القيامة، ويقطع التكليف ليجازى كلّا باستحقاقه، ويوفّى مستحقّ الثواب ثوابه، ويعاقب المسيء باستحقاقه، فوضح وجه قوله تعالى: أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى على المعنيين جميعا. قال سيدنا الشريف الأجل المرتضى أطال الله بقاءه: وجدت أبا بكر محمد بن القاسم الأنبارىّ يطعن على جواب من أجاب فى قوله: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ بأنّ معناه كادت تبلغ الحناجر، ويقول: «كاد» لا تضمر، ولا بدّ من أن يكون منطوقا بها، ولو جاز ضميرها لجاز: قام عبد الله بمعنى كاد عبد الله يقوم، فيكون تأويل قام عبد الله لم يقم عبد الله؛ لأن معنى كاد عبد الله يقوم لم يقم، وهذا الّذي ذكره غير صحيح. ونظنّ أن الّذي حمله على الطّعن فى هذا الوجه حكايته له عن ابن قتيبة، لأنّ من شأنه أن يردّ كل ما يأتى به ابن ¬

_ (¬1) حاشية ت: «أخفيته إذا كان بمعنى أظهرته كانت الألف للسلب، والمعنى: سلبته الخفاء؛ مثل شكانى فأشكيته».

قتيبة، وإن تعسّف فى الطعن عليه. والّذي استبعده غير بعيد؛ لأنّ «كاد» قد تضمر فى مواضع يقتضيها بعض الكلام وإن لم تكن فى صريحه؛ ألا ترى أنهم يقولون: أوردت على فلان من العتاب والتوبيخ والتقريع ما مات عنده، وخرجت نفسه، ولما رأى فلان فلانا لم يبق فيه روح، وما أشبه ذلك. ومعنى جميع ما ذكرناه المقاربة، ولا بد من إضمار «كاد» فيه، وقال جرير: إنّ العيون التى فى طرفها مرض … قتلنا ثمّ لم يحيين قتلانا (¬1) وإنما المعنى أنهن كدن يقتلننا؛ وهذا أكثر فى الشعر والكلام من أن نذكره. فأما قوله: «يحيين قتلانا» فالأظهر فى معناه أنهن لم يزلن ما قاربنا عنده الموت والقتل من الصدود والهجر وما أشبه ذلك، وسمّى هذه الأمور حياة كما سمى أضدادها قتلا، وقد قيل إن معنى «يحيين قتلانا» أنهن لم يدين قتلانا، من الدّية، لأنّ دية القتيل عند العرب كالحياة له، وقد روى: «ثم لم يجنن قتلانا»، وهذه رواية شاذة لم تسمع من عالم ولا محصّل ومعناها ركيك ضعيف؛ وإذا كان الأمر على ما ذكرناه لم يمتنع أن يقال: قام فلان بمعنى كاد يقوم، إذا دلّت الحال على ذلك؛ كما يقال: مات بمعنى كاد يموت. فأما قوله: «فيكون تأويل قوله: قام عبد الله، لم يقم عبد الله» فخطأ؛ لأنه ليس معنى كاد يقوم إنه لم يقم/ كما ظنّ بل معنا. أنه قارب القيام ودنا منه، فمن قال: قام عبد الله وأراد كاد يقوم؛ فقد أفاد ما لا يفيده لم يقم. ¬

_ (¬1) ديوانه: 595؛ وفى حواشى الأصل، ت، ف: «روى أنه وقع الخلاف بين هارون الرشيد وزبيدة فى هذا البيت؛ فكان هارون يقول: «يحيين»، وزبيدة تقول: هو: «يجنن»، بالجيم والنون؛ فتخاطرا على ذلك بألفى دينار، ودعوا مسرورا الخادم، وأعطياه على أن يخرج فيسأل أفضل من ببغداد من أهل العلم؛ فإن صوب قول هارون أعطاه ألفا، وإن صوب قول زبيدة فألفها، فخرج مسرور بالشموع يطلب من يفتيه فى ذلك؛ فدل على الكسائى؛ وكان قريب عهد القدوم من الكوفة إلى بغداد؛ وكان يأوى إلى مسجد؛ فدخل مسرور عليه بخيله وحشمه؛ فتحفز له الكسائى؛ فقال: لا بأس؛ إنه بيت قد أشكل علينا، واستفتاه فى الكلمتين فصوبهما جميعا؛ فأعطاه الألفين؛ فأصبح وقد استفاد بكلمة أوضحها ما أغناه؛ وهذا دليل على حسن تأتيه ولطافة أدبه».

وأما قوله تعالى: زاغَتِ الْأَبْصارُ فمعناه زاغت عن النظر إلى كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها، ويجوز أن يكون المراد ب زاغَتِ، أى جارت (¬1) ومالت عن القصد فى النظر دهشا وتحيرا. فأما قوله تعالى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، معناه أنكم تظنون مرة أنكم تنصرون وتظهرون على عدوّكم، ومرة أنكم تبتلون وتمتحنون بالتخلية بينكم وبينهم. ويجوز أيضا أن يريد الله تعالى أن ظنونكم اختلفت، فظنّ المنافقون منكم خلاف ما وعدكم الله تعالى به من النصر، وشكّوا فى خبره عز وجل كما قال تعالى حكاية عنهم: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً، فظنّ المؤمنون ما طابق وعد الله تعالى لهم كما حكى عز وجل عنهم فى قوله: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وكل ما ذكرناه واضح فى تأويل الآية وما تعلّق بها. ¬

_ (¬1) ت وحاشية الأصل (من نسخة): «حادت»، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «حارت».

25

25 مجلس آخر [المجلس الخامس والعشرون: ] تأويل آية [: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً؛ [النبأ: 9]. فقال: إذا كان السّبات هو النوم؛ فكأنه قال: وجعلنا نومكم نوما، وهذا مما لا فائدة فيه. الجواب، قيل له فى هذه الآية وجوه: منها أن يكون المراد بالسّبات الراحة والدّعة، وقد قال قوم: إنّ اجتماع الخلق كان فى يوم الجمعة، والفراغ منه فى يوم السبت، فسمّى اليوم بالسبت للفراغ الّذي كان فيه؛ ولأن الله تعالى أمر بنى إسرائيل فيه بالاستراحة من الأعمال؛ قيل: وأصل السّبات التمدّد؛ يقال: سبتت المرأة شعرها إذا حلّته من العقص وأرسلته، قال الشاعر: وإن سبتته مال جثلا كأنّه … سدى واهلات من نواسج خثعما (¬1) أراد: إن أرسلته. ومنها أن يكون المراد بذلك القطع؛ لأن السبت القطع، والسبت أيضا الحلق؛ يقال: سبت شعره سبتا إذا حلقه، وهو يرجع إلى معنى القطع، والنعال السّبتيّة التى لا شعر عليها؛ قال عنترة: بطل كأنّ ثيابه فى سرحة، … يحذى نعال السّبت، ليس بتوأم (¬2) ¬

_ (¬1) الجثل من الشعر: ما كشف واسود، وفى حواشى الأصل، ت، ف: «شبه شعرها فى وقت الإرسال بسدى ثياب مسترخيات مرسلات. والنواسج: جمع ناسجة، وخثعم: قبيلة». (¬2) المعلقة: 199 - بشرح التبريزى، وفى حاشيتى الأصل، ف: «السرحة: شجرة طويلة، يصفه بالطول. وأراد بقوله: «يحذى تعال السبت» أنه من الملوك؛ لأن نعال السبت نعال الملوك. والسبت: شيء يشبه القرظ، تدبغ به النعال؛ ووصفه بالشدة والقوة فى قوله: «ليس بتوأم»، لأنه إذا لم يكن معه توأم كان أقوى وأتم لخلقه».

/ ويقال لكل أرض مرتفعة منقطعة ممّا حولها: سبتاء، وجمعها سباتى، فيكون المعنى على هذا الجواب: جعلنا نومكم سباتا، أى قطعا لأعمالكم وتصرّفكم. ومن أجاب بهذا الجواب يقول: إنما سمّى يوم السبت بذلك لأنّ بدء الخلق كان يوم الأحد؛ وجمع يوم الجمعة، وقطع يوم السبت، فترجع التسمية إلى معنى القطع. وقد اختلف الناس فى ابتداء الخلق فقال أهل التوراة: إنّ الله تعالى ابتدأه فى يوم الأحد، فكان الخلق فى يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، ثم فرغ فى يوم السبت؛ وهذا قول أهل التوراة. وقال آخرون: إن الابتداء كان فى يوم الاثنين إلى السبت، وفرغ فى يوم الأحد؛ وهذا قول أهل الإنجيل. فأما قول أهل الإسلام فهو أن ابتداء الخلق كان فى يوم السبت، واتصل إلى الخميس، وجعلت الجمعة عيدا؛ فعلى هذا القول الأخير يمكن أن يسمّى اليوم بالسبت، من حيث قطع فيه بعض خلق الأرض، فقد روى أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال: «إن الله تعالى خلق التّربة (¬1) فى يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد». ومنها أن يكون المراد بذلك أنّا جعلنا نومكم سباتا ليس بموت؛ لأن النائم قد يفقد من علومه وقصوده وأحواله أشياء كثيرة يفقدها الميت؛ فأراد تعالى أن يمتنّ علينا بأن جعل نومنا الّذي تضاهى فيه بعض أحوالنا أحوال الميت ليس بموت على الحقيقة، ولا بمخرج لنا عن الحياة والإدراك؛ فجعل التأكيد بذكر المصدر قائما مقام نفى الموت، وسادّا مسدّ قوله: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ ليس بموت. ويمكن أن يكون فى الآية وجه آخر لم يذكر فيها، وهو أن السّبات ليس هو كلّ نوم، وإنما هو من صفات النوم إذا وقع على بعض الوجوه، والسّبات هو النوم الممتد الطويل ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى ت، ف: «البرية».

السكون (¬1)، ولهذا يقال فيمن وصف بكثرة النوم إنه مسبوت، وبه سبات؛ ولا يقال ذلك فى كلّ نائم، وإذا كان الأمر على هذا لم يجر قوله: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً مجرى أن يقول: وجعلنا نومكم نوما. والوجه فى الامتنان علينا بأن جعل نومنا ممتدا طويلا- ظاهر، وهو لما فى ذلك لنا من المنفعة والراحة؛ لأن التهويم والنوم الغرار لا يكسبان (¬2) شيئا من الراحة؛ بل يصحبهما فى الأكثر القلق والانزعاج، والهموم/ هى التى تقلّل النوم وتنزّره، وفراغ القلب ورخاء البال يكون معهما غزارة النوم وامتداده؛ وهذا واضح. قال سيدنا الشريف الأجل المرتضى أدام الله علوّه: وجدت أبا بكر محمد بن القاسم الأنبارىّ يطعن على الجواب الّذي ذكرناه أوّلا، ويقول: إن ابن قتيبة أخطأ فى اعتماده؛ لأنّ الراحة لا يقال لها: سبات، ولا يقال: سبت (¬3) الرجل بمعنى استراح وأراح، ويعتمد على الجواب الّذي ثنّينا بذكره، ويقول فيما استشهد به ابن قتيبة من قولهم سبتت المرأة شعرها: إن معناه أيضا القطع، لأن ذلك إنما يكون بإزالة الشّداد الّذي كان مجموعا به وقطعه. والمقدار الّذي ذكره ابن الأنبارىّ لا يقدح فى جواب ابن قتيبة؛ لأنه لا ينكر أن يكون السبات هو الراحة والدّعة إذا كانتا عن نوم، وإن لم توصف كل راحة بأنها سبات، ويكون هذا الاسم يخصّ (¬4) الراحة إذا كانت على هذا الوجه؛ ولهذا نظائر كثيرة فى الأسماء، وإذا أمكن ذلك لم يكن فى امتناع قولهم: سبت الرجل بمعنى استراح فى كل موضع دلالة على أنّ السّبات لا يكون اسما للراحة عند النوم؛ والّذي يبقى على ابن قتيبة أن يبيّن أن السبات هو الراحة والدّعة، ويستشهد على ذلك بشعر أو لغة، فإن البيت الّذي ذكره يمكن أن يكون المراد به القطع دون التمدّد والاسترسال. ¬

_ (¬1) حاشية ف (من نسخة): «السكوت». (¬2) ت، ف: «لا يكسبان»، بضم الياء. (¬3) حاشية ت (من نسخة): «سبت»، بالبناء للمجهول. (¬4) من نسخة بحاشيتى ت، ف: «يختص بالراحة».

تأويل خبر"إن الميت ليعذب ببكاء الحى عليه"

فإن قيل: فما الفرق بين جواب ابن قتيبة وجوابكم الّذي ذكرتموه أخيرا؟ قلنا: الفرق بينهما بيّن، لأنّ ابن قتيبة جعل السّبات نفسه راحة، وجعله عبارة عنها، وأخذ يستشهد على ذلك بالتمدّد وغيره، ونحن جعلنا السّبات من صفات النوم، والراحة واقعة عنده للامتداد وطول السكون فيه؛ فلا يلزمنا أن يقال: سبت الرجل بمعنى استراح؛ لأنّ الشيء لا يسمّى بما يقع عنده حقيقة، والاستراحة تقع على جوابنا عند السّبات (¬1)، وليس السبات إياها بعينها؛ على أن فى الجواب الّذي اختاره ابن الأنبارىّ ضربا من الكلام؛ لأن السّبت وإن كان القطع على ذكره فلم يسمع فيه البناء الّذي ذكره وهو السّبات، ويحتاج فى إثبات مثل هذا البناء إلى سمع (¬2) عن أهل اللغة، وقد كان يجب أن يورد من أى وجه؛ إذا كان السبت هو القطع جاز أن يقال سبات على هذا المعنى؛ ولم نره فعل/ ذلك. تأويل خبر [«إنّ الميت ليعذّب ببكاء الحىّ عليه»: ] إن قال قائل: ما تأويل الخبر الّذي روى عن النبي صلى الله عليه وآله: «إنّ الميت ليعذّب ببكاء الحىّ عليه»، وفى رواية أخرى: «إن الميت يعذّب فى قبره بالنّياحة عليه»، وقد روى هذا المعنى المغيرة بن شعبة أيضا فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: «من نيح عليه فإنّه يعذّب بما نيح عليه». الجواب، إنّا إذا كنا قد علمنا بأدلة العقل التى لا يدخلها الاحتمال ولا الاتساع والمجاز قبح مؤاخذة أحد يذنب غيره، وعلمنا أيضا ذلك بأدلة السمع مثل قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى؛ [الأنعام: 164]، فلا بدّ أن نصرف ما ظاهره بخلاف هذه الأدلة إلى ما يطابقها. والمعنى فى الأخبار التى سئلنا عنها- إن صحّت روايتها- أنه إذا أوصى موص بأن يناح ¬

_ (¬1) فى حواشى الأصل، ت، ف: «قال ابن دريد: السبات: السكون؛ والرجل مسبوت؛ وقال الجوهرى: السبت والسبات: السكون والراحة؛ وقد سبت يسبت، بالضم». (¬2) ت، د، حاشية ف (من نسخة): «سماع».

عليه ففعل ذلك بأمره وعن إذنه فإنّه يعذّب بالنياحة عليه؛ وليس معنى يعذّب بها أنه يؤاخذ بفعل النّواح، وإنما معناه أن يؤاخذ بأمره بها ووصيته بفعلها، وإنما قال صلى الله عليه وآله ذلك لأنّ الجاهلية كانوا يرون البكاء عليهم والنوح فيأمرون به، ويؤكدون الوصية بفعله وهذا مشهور عنهم؛ قال طرفة بن العبد: فإن متّ فانعينى بما أنا أهله … وشقّى عليّ الجيب يا أمّ معبد (¬1) وقال بشر بن أبى خازم لابنته عميرة (¬2): فمن يك سائلا عن بيت بشر … فإنّ له بجنب الرّدة بابا (¬3) ثوى فى ملحد لا بدّ منه … كفى بالموت نأيا واغترابا (¬4) رهين بلى وكلّ فتى سيبلى … فأذرى الدّمع وانتجى انتحابا وقد روى عن ابن عباس فى هذا الخبر أنه قال: وهل (¬5) ابن عمر، إنما مرّ رسول الله صلى الله عليه وآله على يهودىّ فقال: «إنّكم لتبكون عليه، وإنه ليعذّب فى قبره». وقد روى إنكار هذا الخبر أيضا عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله، وأنها قالت لما أخبرت بروايته: وهل أبو عبد الرحمن كما وهل يوم قليب بدر، إنما قال عليه السلام: «إن أهل الميت ليبكون عليه، وإنه ليعذب بجرمه» / ¬

_ (¬1) المعلقة 96 - بشرح التبريزى. والرواية فيها: * وشقّى عليّ الجيب يا ابنة معبد*. (¬2) مختارات ابن الشجرى 2: 32؛ من قصيدة قالها وهو يجود بنفسه بعد أن طعنه غلام من بنى وائلة بسهم فأثخنه، ومطلعها: أسائلة عميرة عن أبيها … خلال الجيش تعترف الرّكابا. (¬3) الرده: جمع ردهة؛ وهى نقرة فى صخرة يستنقع فيها الماء. (¬4) فى مختارات ابن الشجرى: «هوى فى ملحد». (¬5) فى حواشى الأصل، ت، ف: «قال أبو زيد: وهلت [بكسر الهاء] فى الشيء وعنه أوهل وهلا [بفتحتين] إذا غلطت فيه، ووهلت [بفتح الهاء] إلى الشيء أهل وهلا [بسكون الهاء] إذا ذهب وهمك إليه، ووهلت [بكسر الهاء] أوهل وهلا [بفتحتين]: فزعت».

قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوّه: معنى «وهل» أى ذهب وهمه إلى غير الصواب، يقال وهلت إلى الشيء فأنا أهل وهلا إذا ذهب وهمك إليه، ووهلت عنه أهل وهلا، أى نسيته وغلطت فيه، ووهل الرجل يوهل وهلا إذا فزع، والوهل: الفزع. فأما «القليب» فهى البئر، والجمع القلب، قال حسان بن ثابت يذكر قتلى بدر من المشركين: يناديهم رسول الله لما … قذفناهم كباكب فى القليب (¬1) ألم تجدوا حديثى كان حقّا … وأمر الله يأخذ بالقلوب وقال آخر يبكى على قتلى بدر من المشركين: فماذا بالقليب قليب بدر … من القينات والشّرب الكرام (¬2) وماذا بالقليب قليب بدر … من الشّيزى يكلّل بالسّنام (¬3) ومعنى وهله فى ذكر القليب أنه روى أن النبي صلى الله عليه وآله وقف على قليب بدر فقال: «هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا»؟ ثم قال: «إنهم ليسمعون ما أقول»، فأنكر ذلك عليه؛ وقيل إنما قال عليه السلام: «إنهم الآن ليعلمون أنّ الّذي كنت أقول لهم هو الحق»، واستشهد بقول الله تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى؛ [النمل: 80]. وأهل القليب جماعة من قريش؛ منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وغيرهم. وروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم قائما يصلّى بمكة وأناس من قريش فى حلقة، فيهم أبو جهل بن هشام، فقال: ما يمنع أحدكم أن يأتى الجزور التى نحرها آل فلان، فيأخذ سلاها ثم يأتى به حتى إذا سجد وضعه على ظهره؟ قال عبد الله: فانبعث أشقى القوم- وأنا أنظر إليه- فجاوبه حتى وضعه على ظهره، قال عبد الله: فلو كانت لى يومئذ منعة لمنعته. وجاءت فاطمة عليها السلام عليه، وهى يومئذ صبية حتى أماطته عن ظهر أبيها ثم جاءت حتى قامت على رءوسهم فأوسعتهم شتما، قال: فو الله لقد رأيت بعضهم يضحك، حتى إنّه ليطرح نفسه على صاحبه من الضحك، فلما ¬

_ (¬1) ديوانه: 11 - 12. الكباكب: الجماعات. (¬2) ت، د، حاشية ف (من نسخة): «من الفتيان». (¬3) الشيزى: شجر عظيم يتخذ منه الجفان، وهو الآبنوس.

سلّم النبي صلى الله عليه وآله أقبل على القوم فقال: «اللهمّ عليك بفلان وفلان» /، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وآله قد دعا عليهم أسقط فى أيديهم، فو الله الّذي لا إله غيره ما سمّى النبي صلى الله عليه وآله يومئذ أحدا إلّا وقد رأيته يوم بدر، وقد أخذ برجله يجرّ إلى القليب مقتولا. وقوله: «فيأخذ سلاها» أى جلدتها التى فيها ولدها ما دام فى بطنها، والجميع (¬1) الأسلاء؛ وقال ابن حبيب (¬2): الأسلاء التى فيها الأولاد، قال الأخطل: ويطرحن بالثّغر السّخال كأنّما … يشقّقن بالأسلاء أردية العصب (¬3) وقال الشّماخ: والعيس ذامية المناسم ضمّر … يقذفن بالأسلاء تحت الأركب (¬4) قال الفرّاء. سقط فى أيديهم من الندامة، وأسقط لغتان، وهى بغير ألف أكثر وأجود. ويمكن أن يكون فى قوله: «يعذّب ببكاء أهله عليه» وجه آخر؛ وهو أن يكون المعنى أن الله تعالى إذا أعلمه ببكاء أهله وأعزّائه عليه وما لحقهم بعده من الحزن والهمّ تألم بذلك؛ فكان عذابا له؛ والعذاب ليس بجار مجرى العقاب الّذي لا يكون إلّا على ذنب متقدّم؛ بل قد يستعمل كثيرا بحيث يستعمل الألم والضرر؛ ألا ترى أنّ القائل قد يقول لمن ابتدأه بالضرر والألم: قد عذّبتنى بكذا وكذا؛ كما يقول: أضررت بى وآلمتني؛ وإنما لم يستعمل العقاب حقيقة فى الآلام المبتدأة من حيث كان اشتقاق لفظه من المعاقبة، التى لا بد من تقدم سبب لها، وليس هذا فى العذاب. ¬

_ (¬1) ف: «الجمع». (¬2) حواشى الأصل، ت، ف: «محمد بن حبيب اللغوىّ، وحبيب أمه؛ وكان ولد ملاعنة فلا ينسب إلى أبيه». (¬3) ديوانه: 20، وفى حاشيتى الأصل، ف: الثغر: موضع المخافة؛ ويمكن أن يريد به هاهنا موضعا بعينه؛ يصف الإبل بالكد والجهد؛ حتى طرحت أولادها وأسلاءها مشقوقة؛ وشبه الأسلاء فى حال انشقاقها عن السخال بأردية من برود اليمن». (¬4) لم يرد البيت فى ديوانه وفى حاشيتى الأصل، ف: «العيس: الإبل البيض. والمناسم: مقدمة الخف. والأركب: جمع ركب، والركب: جمع ركبة؛ ويمكن أن تكون الأركب بمعنى الركبان».

تأويل خبر آخر: "ما من أحد يدخله عمله الجنة، وينجيه من النار"

تأويل خبر آخر [: «ما من أحد يدخله عمله الجنة، وينجيه من النار»] إن سأل سائل عن الخبر الّذي يرويه أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال: «ما من أحد يدخله عمله الجنة، وينجيه من النار»، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا؛ إلّا أن يتغمّدنى الله برحمة منه وفضل»، يقولها ثلاثا. فقال: أوليس فى هذا دلالة على أنّ الله تعالى يتفضّل بالثواب، وأنه غير مستحق عليه؟ ومذهبكم بخلاف ذلك. الجواب، قلنا: فائدة الخبر ومعناه بيان فقر المكلّفين إلى الله تعالى، وحاجتهم إلى ألطافه وتوفيقاته ومعوناته، وأنّ العبد لو أخرج إلى نفسه، وقطع الله تعالى موادّ المعونة واللطف عنه لم يدخل/ بعمله الجنة، ولا نجا من النار؛ فكأنه عليه السلام أراد أنّ أحدا لا يدخل الجنة بعمله الّذي لم يعنه الله تعالى عليه، ولا لطف له فيه، ولا أرشده إليه؛ وهذا هو الحق الّذي لا شبهة فيه؛ فأما الثواب فما نأبى القول بأنه تفضّل؛ بمعنى أنّ الله تعالى تفضّل بسببه الّذي هو التكليف، ولهذا نقول: إنه لا يجب على الله تعالى شيء ابتداء، وإنما يجب عليه ما أوجبه على نفسه، فالثواب مما كان أوجبه على نفسه بالتكليف؛ وكذلك التمكين والإلطاف، وكل ما يجلبه ويوجبه التكليف، ولولا إيجابه له على نفسه بالتكليف لما وجب. فإن قيل: فقد سمى الرسول ما يفعل به فضلا فقال: «إلّا أن يتغمّدنى الله برحمة منه وفضل»، قلنا هذا يطابق ما ذكرناه، لأنّ الرحمة النعمة والثواب نعمة، وهو يفضّل من الوجه الّذي ذكرناه، وإن حملنا قوله عليه السلام: «برحمة منه وفضل» على ما يفعل به من الألطاف والمعونات فهى أيضا فضل وتفضّل لأنّ سببها غير واجب. فأما قوله عليه الصلاة والسلام: «يتغمدنى» فمعناه يسترنى، يقال غمدت السيف فى غمده إذا سترته، قال الشاعر: نصبنا رماحا فوقها جدّ عامر … كظلّ السّماء، كلّ أرض تغمّدا

فالجدّ هاهنا: الحظ، وشبّه ما قسم لعامر من الغلبة والظفر بظلّ السماء الّذي يستر كلّ شيء، ويظهر عليه. *** أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن عثمان بن يحيى بن جنيقا قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الحكيمىّ قراءة عليه قال أملى علينا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب النحوىّ قال أخبرنا ابن الأعرابى قال: يقال للقوم إذا دعوت عليهم: بهرهم الله، والمبهور هو المكروب، وأنشدنا: أبرزوها مثل المهاة تهادى … بين خمس كواعب أتراب (¬1) ثمّ قالوا: تحبّها؟ قلت: بهرا … عدد الرّمل والحصى والتّراب (¬2) قال سيدنا أدام الله أيامه: وقد قيل فى معنى قوله: «بهرا» غير هذا الوجه. أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزبانىّ قال أخبرنى محمد بن يحيى الصولىّ قال حدثنا القاسم بن إسماعيل/ قال حدثنا التّوزىّ عن أبى عمرو الأسدىّ قال سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: عمر ابن أبي ربيعة حجّة فى العربية، وما أخذ عليه شيء إلا قوله: * ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهرا* وله فيه عذر إن أراد الخبر لا الاستفهام، كأنهم قالوا: أنت تحبها؛ على وجه الإخبار منهم لا الاستفهام، فوكّد هو إخبارهم بجوابه، فهذا حسن. و «بهرا» يجوز أن يكون أراد: نعم حبّا بهرنى بهرا، ويكون أيضا بمعنى «عقرا وتعسا»، دعاء عليهم إذ جهلوا من حبّه لها ما لا يجهل مثله، وأنشد أبو عمرو: ¬

_ (¬1) من قصيدة فى الديوان، مطلعها: قال لى صاحبى ليعلم ما بى: … أتحب القتول أخت الرباب؟ . (¬2) ف، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «عدد القطر»، وفى الديوان: «عدد النجم». و «بهرا»: مصدر بمعنى الغلبة؛ وكأنه قال: غلبنى حبها واستولى عليّ.

أبيات لعمر بن أبى ربيعة يقولها فى الثريا بنت عبد الله

لحا الله قومى إذ يبيعون مهجتى … بجارية، بهرا لهم بعدها بهرا (¬1) قال أبو عمرو: ويكون «بهرا» بمعنى «ظاهرا»؛ يريد حبّا ظاهرا، من قولهم: قمر باهر، وقد روى بعض الرواة أنه قال: * قيل لى: هل تحبها؟ قلت: بهرا* والرواية الأولى هى المشهورة، ولعلّ من روى ذلك فرّ بهذه الرواية من اللّحن. [أبيات لعمر بن أبى ربيعة يقولها فى الثريا بنت عبد الله: ] وهذان البيتان لعمر بن أبى ربيعة المخزومىّ، من جملة أبيات منها: من رسولى إلى الثّريّا بأنى … ضقت ذرعا بهجرها والكتاب (¬2) وهى مكنونة تحيّر منها … فى أديم الخدّين ماء الشّباب سلبتنى مجاجة المسك عقلى … فسلوها بما يحلّ اغتصابى أرهقت (¬3) أمّ نوفل إذ دعتها … مهجتى، ما لقاتلى من متاب حين قالت لها: أجيبى، فقالت: … من دعانى؟ قالت: أبو الخطّاب أبرزوها مثل المهاة تهادى … بين خمس كواعب أتراب ثمّ قالوا: تحبّها؟ قلت: بهرا … عدد القطر والحصى والتّراب والثريّا هى التى عناها عمر أمويّة، وقد اختلف فى نسبها، فقيل: إنها الثريّا بنت عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر. أبو عبد شمس، وقيل: إنها الثريّا بنت عليّ بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر. وذكر الزبير بن بكّار أن الثريا هى بنت عبد الله بن محمد ¬

_ (¬1) البيت لابن ميادة، وهو فى اللسان (بهر)، والرواية فيه: * تفاقد قومى إذ يبيعون مهجتى* وفى حواشى الأصل، ت، ف: «قوله: «بهرا لهم بعدها بهرا» يجوز أن يكون الضمير فى «بعدها» للجارية؛ ويكون قد كرر «بهرا»، ويجوز أن يكون الضمير «لبهرا» الأولى؛ أى بهرا لهم بعدها بهرا؛ وإنما أنت لأنها كلمة، وتكون الجملة التى هى «بعدها بهرا» فى موضع الصفة لبهرا الأولى، ويجوز أن يكون الضمير للفعلة؛ أى البيعة». (¬2) فى حاشيتى ت، ف: «أى امتناعها من الكتاب إلى، وقيل: هو يحلف بالمصحف». (¬3) ت، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «أزهقت».

خبر عمر بن أبى ربيعة وابن أبى عتيق والثريا بنت عبد الله

ابن عبد الله بن الحارث بن أميّة الأصغر، وأنها أخت محمد بن عبد الله المعروف بأبى جراب العبلىّ (¬1) الّذي قتله داود بن عليّ. [خبر عمر بن أبى ربيعة وابن أبى عتيق والثريا بنت عبد الله: ] وأخبرنا أبو عبيد الله/ قال حدثنى محمد بن عبد الله (¬2) قال حدثنا أحمد بن يحيى عن الزّبير بن بكّار قال حدثنى موسى بن عمر بن الأفلح قال: أخبرنى بلال، مولى ابن أبى عتيق فى حديث طويل لعمر بن أبى ربيعة مع الثريّا اختصرناه وأوردنا بعضه قال: لما سمع ابن أبى عتيق قول عمر: * من رسولى إلى الثريّا بأنّى* قال: إياى أراد: وبى نوّه، لا جرم! والله لا أذوق أكالا حتى أشخص إليه لأصلح بينهما، فنهض ونهضت معه، فجاء قوما من بنى الدّيل بن بكر، لم تكن النجائب تفارقهم يكرونها فاكترى منهم راحلتين، وأعلى لهم بهما، فقلت له: استوضعهم شيئا، أو دعنى أماكسهم فقد اشتطّوا، فقال لى: ويحك! أما علمت أن المكاس ليس من خلق الكرام! وركب إحداهما، وركبت الأخرى، فسار سيرا شديدا، فقلت له. ارفق على نفسك، فإنّ ما تريد لا يفوتك، فقال: ويحك! * أبادر حبل الود أن يتقضّبا* وما ملح الدنيا إن يتمّ الصّدع بين عمر والثّريا! فقدمنا مكة ليلا غير محرمين، فدق على عمر بابه، فخرج إليه فسلّم عليه، فما نزل ابن أبى عتيق عن راحلته، وقال لعمر: اركب أصلح بينك وبين الثريّا، فأنا رسولك الّذي سألت عنه، فركب معه، فقدمنا الطائف، فقال ابن أبى عتيق للثريّا: هذا عمر، قد جشّمنى إليك سفر المدينة، فجئتك به، معترفا بذنب لم يجنه، معتذرا من إساءتك إليه، فدعينى من التّعداد والتّرداد، فإنه من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون؛ فصالحته أحسن صلح، وكررنا راجعين إلى المدينة، ولم يقم ابن أبى عتيق بمكة ساعة واحدة. ¬

_ (¬1) فى حاشيتى ت، ف: «عبلة: اسم جارية؛ وأمية الصغرى، وهم حي من قريش؛ يقال لهم: العبلات؛ بالتحريك، والنسبة إليهم عبلى [بسكون الباء] ردا إلى الواحد لأن أمهم عبلة». (¬2) ت: «محمد بن إبراهيم»؛ وهو من رواة المرزباني أيضا، وانظر الموشح: 45.

وفى الثريا يقول عمر أيضا لما تزوّجها سهيل بن عبد الرحمن بن عوف؛ المكتنى بأبى الأبيض، وقيل بل تزوّجها سهيل بن عبد العزيز بن مروان: أيّها المنكح الثّريّا سهيلا … عمرك الله كيف يلتقيان! (¬1) هى شاميّة إذا ما استقلّت … وسهيل إذا استقلّ يمانى ¬

_ (¬1) ديوانه: 495.

26

26 مجلس آخر [المجلس السادس والعشرون: ] تأويل آية [: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ؛ [طه: 78]. فقال: ما الفائدة فى قوله: ما غَشِيَهُمْ، وقوله: غَشِيَهُمْ يدل عليه، ويستغنى به عنه، لأن غَشِيَهُمْ لا يكون إلّا الّذي غشيهم، وما الوجه فى ذلك؟ قلنا: قد ذكر/ فى هذا أجوبة: أحدها أن يكون المعنى: فغشيهم من اليمّ البعض الّذي غشيهم، لأنه لم يغشهم جميع مائه، بل غشيهم بعضه، فقال تعالى: ما غَشِيَهُمْ؛ ليدل على أنّ الّذي غرّقهم بعض الماء، وأنّهم لم يغرقوا بجميعه؛ وهذا الوجه حكى عن الفرّاء، وذكره أبو بكر الأنبارىّ، واعتمده، وغيره أوضح منه. واليم هو البحر، قال الشاعر: وبنى تبّع على اليمّ قصرا … عاليا مشرفا على البنيان وثانيها أن يكون المعنى: فغشيهم من اليم ما غشى موسى وأصحابه؛ وذلك أن موسى عليه السلام وأصحابه، وفرعون وأصحابه سلكوا جميعا البحر، وغشيهم كلّهم؛ إلّا أنّ فرعون وقومه لمّا غشيهم غرّقهم، وموسى عليه السلام وقومه جعل لهم فى البحر طريق يبس، فقال تعالى: فغشى فرعون وقومه من ماء اليم ما غشى موسى وقومه، فنجا هؤلاء، وهلك هؤلاء. وعلى هذا الوجه والتأويل تكون الهاء فى قوله: ما غَشِيَهُمْ كناية عن غير من كنّى عنه بقوله: فَغَشِيَهُمْ؛ لأن الأولى كناية عن فرعون وقومه، والثانية كناية عن موسى وقومه. وثالثها أنه غشيهم من عذاب اليمّ وإهلاكه لهم ما غشى الأمم السالفة من العذاب

والهلاك عند تكذيبهم أنبياءهم، وإقامتهم على ردّ أقوالهم والعدول عن إرشادهم، والأمم السالفة؛ وإن لم يغشهم العذاب والإهلاك من قبل البحر، فقد غشيهم عذاب وإهلاك استحقوهما بكفرهم وتكذيبهم أنبياءهم، فشبّه بينه وبين هؤلاء من حيث اشتمال العذاب على جميعهم عقوبة على التكذيب. ورابعها أن يكون المعنى: فغشيهم من قبل اليم ما غشيهم من العطب والهلاك؛ فتكون لفظة غَشِيَهُمْ الأولى للبحر والثانية للهلاك والعطب اللذين لحقاهم من قبل البحر. ويمكن فى الآية وجه آخر لم يذكر فيها، يليق بمذاهب العرب فى استعمال مثل هذا اللفظ، وهو أن تكون الفائدة فى قوله تعالى: ما غَشِيَهُمْ تعظيم الأمر وتفخيمه؛ كما يقول القائل: فعل فلان ما فعل، وأقدم على ما أقدم، إذا أراد التفخيم وكما قال تعالى: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ؛ [الشعراء: 19]، وما يجرى/ هذا المجرى؛ ويدخل فى هذا الباب قولهم للرجل: هذا هذا، وأنت أنت. وفى القوم: هم هم؛ قال الهذلىّ (¬1): رفونى وقالوا: يا خويلد لا ترع … فقلت، وأنكرت الوجوه: هم هم (¬2) وقال أبو النجم: * أنا أبو النّجم، وشعرى شعرى (¬3) * كل ذلك أرادوا تعظيم الأمر وتكبيره: ¬

_ (¬1) هو أبو خراش الهذلى. (¬2) ديوان الهذليين 2: 144. ورفونى: سكنونى، وأصلها: «رفئونى»، بالهمز. (¬3) معاهد التنصيص، وبعده: * لله درّى ما يجنّ صدرى*.

تأويل آية أخرى: فخر عليهم السقف من فوقهم

تأويل آية أخرى [: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ؛ [النحل: 26] فقال: ما الفائدة فى قوله: مِنْ فَوْقِهِمْ؛ وهو لا يفيد إلا ما يفيده قوله: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ؛ لأنّ مع الاقتصار على القول الأول لا يذهب وهم أحد إلى أن السقف يخرّ من تحتهم؟ الجواب، قيل له فى ذلك أجوبة: أولها: أن يكون «على» بمعنى «عن»، فيكون المعنى: فخرّ عنهم السقف من فوقهم؛ أى خرّ عن كفرهم وجحودهم بالله تعالى وآياته، كما يقول القائل: اشتكى فلان عن دواء شربه، وعلى دواء شربه، فيكون «على» و «عن» بمعنى من أجل الدّواء؛ كذلك يكون معنى الآية فخرّ من أجل كفرهم السّقف من فوقهم؛ قال الشاعر: أرمى عليها وهى فرع أجمع … وهى ثلاث أذرع وإصبع أراد: أرمى عنها؛ لأن كلام العرب: رميت عن القوس، فأقام «على» مقام «عن»، ولو أنه قال تعالى على هذا المعنى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ، ولم يقل مِنْ فَوْقِهِمْ جاز أن يتوهم متوهم أن السقف خرّ وليس هم تحته. وثانيها: أن يكون «على» بمعنى اللام؛ والمراد: فخر لهم السقف؛ فإن «على» قد تقام مقام اللام؛ وحكى عن العرب: ما أغيظك عليّ! وما أغمّك عليّ! يريدون: ما أغيظك، وما أغمّك لى! ، قال الطّرمّاح يصف ناقة: كأنّ مخوّاها على ثفناتها … معرّس خمس وقّعت للجناجن (¬1) ¬

_ (¬1) ديوانه: 168. يقال: خوى البعير؛ إذا تجافى فى بروكه ومكن لثفناته، والثفنات: جمع ثفنة؛ وهو من البعير ركبته، وما مس الأرض من كركرته وأصول أفخاذه، والمعرس: محل التعريس، وهو النزول-

أراد: وقّعت على الجناجن؛ وهى عظام الصدر، فأقام اللام مقام «على». وقد يقول القائل أيضا: تداعت على فلان داره، واستهدم عليه حائطه، ولا يريد أنه كان تحته؛ فأخبر تعالى بقوله: مِنْ فَوْقِهِمْ عن فائدة؛ لولاه ما فهمت. ولا جاز أن يتوهّم متوهّم فى قوله تعالى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ ما يتوهمه من قوله: خرب عليه ربعه، ووقفت عليه دابته، وأشباه ذلك. وللعرب فى هذا مذهب ظريف لطيف؛ / لأنهم لا يستعملون لفظة «على» فى مثل هذا الموضع إلا فى الشرّ والأمر المكروه الضارّ، ويستعملون اللام وغيرها فى خلاف ذلك؛ ألا ترى أنهم لا يقولون: عمرت على فلان ضيعته، بدلا من قولهم: خربت عليه ضيعته، ولا ولدت عليه جاريته؛ بل يقولون: عمرت له ضيعته، وولدت له جاريته؛ وهكذا من شأنهم إذا قالوا: «قال عليّ»؛ و «روى عليّ»؛ فإنه يقال فى الشرّ والكذب، وفى الخير والحق؛ يقولون: «قال عنّى» و «روى عنّى»؛ ومثل ذلك قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ؛ [البقرة: 102]، لأنهم لما أضافوا الشّرّ والكفر إلى ملك سليمان حسن أن يقال: «يتلون عليه»، ولو كان خيرا لقيل عنه، ومثله وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ؛ [آل عمران: 75]، وقوله: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ، [يونس: 68]؛ وقال الشاعر (¬1): عرضت نصيحة منّى ليحيى … فقال: غششتنى، والنّصح (¬2) مرّ وما بى أن أكون أعيب يحيى … ويحيى طاهر الأخلاق برّ ¬

_ - آخر الليل. وفى حاشية الأصل: «يعنى كأن تجاوف أعضائها المتجافية عند البروك معرس لخمس أنوق»؛ والبيت برواية القالى (الأمالى 3: 165): لها تفرات تحتها وقصارها … على مشرة لم تعتلق بالمحاجن. (¬1) فى حواشى الأصل، ت، ف: «كان رجل من بنى حنيفة يقال له يحيى، يجيء إلى امرأة يقال لها بقعاء فى قرية من قرى اليمامة، فنهاه ابن أرطاة الأعرجى عنها، فلم يقبل إلى أن رصد فجرح، فقال الأعرجى: عرضت ... الأبيات». (¬2) الأبيات فى الكامل 1: 158 - بشرح المرصفى.

ولكن قد أتانى أنّ يحيى … يقال عليه فى بقعاء شرّ (¬1) فقلت له: تجنّب كلّ شيء … يعاب عليك، إنّ الحرّ حرّ ومثله قول الفرزدق فى عنبسة بن معدان المعروف بعنبسة الفيل- وقد كان يتتبّع شعره ويخطّئه ويلحّنه: لقد كان فى معدان والفيل زاجر … لعنبسة الراوى عليّ القصائدا فقال: «عليّ» ولم يقل: «عنّى» للمعنى الّذي ذكرناه. وثالث الوجوه أن يكون مِنْ فَوْقِهِمْ تأكيدا للكلام وزيادة فى البيان، كما قال تعالى: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ؛ [الحج: 46]، والقلب لا يكون إلّا فى الصدر؛ ونظائر ذلك فى الكتاب وكلام العرب كثيرة (¬2). ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «بقعاء فى البيت: اسم امرأة. وبقعاء: ماء بالبادية، قالت امرأة من العرب: ومن يهد لى من ماء بقعاء شربة … فإنّ له من ماء لينة أربعا لقد زادنى حبّا لبقعاء أنّنى … رأيت مطايانا بلينة ظلّعا فمن مبلغ أختىّ بالرّمل أنّنى … بكيت فلم أترك بعينىّ مدمعا! - بقعاء ماؤها زعاق، وماء لينة عذب، وإنما تشكو لينة؛ لأن زوجها حملها إليها وهو عنين، فذلك قولها: * رأيت مطايانا بلينة ظلّعا* ومثله: تظلّ المطايا حائدات عن الهدى … إذا ما المطايا لم تجد من يقيمها. (¬2) حواشى الأصل، ت، ف: «من ذلك قوله تعالى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ، وقوله عز من قائل: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ، تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ.

تأويل خبر: "إن هذا القرآن مأدبة الله ...

تأويل خبر [: «إنّ هذا القرآن مأدبة الله ... ] إن سأل سائل عن الخبر الّذي يرويه نافع عن أبى إسحاق الهجرىّ عن أبى الأحوص، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه قال: «إنّ هذا القرآن مأدبة الله، فتعلّموا مأدبته ما استطعتم؛ وإنّ أصفر البيوت لجوف (¬1) أصفر من كتاب الله تعالى» فقال: ما تأويله؟ وكيف بيان غريبه؟ . الجواب؛ قلنا: المأدبة فى كلام العرب هى الطعام، يصنعه (¬2) الرجل ويدعو/ الناس إليه؛ فشبه النبىّ صلى الله عليه وآله ما يكتسبه الإنسان من خير القرآن ونفعه وعائدته عليه إذا قرأه وحفظه؛ بما يناله المدعوّ من طعام الداعى وانتفاعه به؛ يقال: قد أدب الرجل يأدب فهو آدب؛ إذا دعا الناس إلى طعامه. ويقال للمأدبة المدعاة؛ وذكر الأحمر أنه يقال فيها أيضا: مأدبة، بفتح الدال؛ قال طرفة: نحن فى المشتاة ندعو الجفلى … لا ترى الآدب فينا ينتقر (¬3) ومعنى «الجفلى» أنه عمّ بدعوته ولم يخصّ بها قوما دون قوم، والنّقرى إذا خصّ بها بعضا دون بعض، ومعنى «ينتقر» من النّقرى؛ قال بعض هذيل: وليلة يصطلى بالفرث جازرها … يختصّ بالنّقرى المثرين داعيها (¬4) لا ينبح الكلب فيها غير واحدة … عند الصّباح ولا تسرى أفاعيها معنى «يصطلى بالفرث جازرها» أن الجازر إذا شقّ فيها الكرش أدخل يده لشدّة البرد فى الفرث مستدفئا به. ومعنى: «يختصّ بالنّقرى المثرين داعيها»؛ أنه يخصّ بدعائه إلى طعامه الأغنياء الذين يطمع من جهتهم فى المكافأة، وقال الآخر: ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «لبيت». (¬2) ت: «يضعه». (¬3) ديوانه: 68. (¬4) البيتان من مقطوعة فى (ديوان الهذليين 3: 126)، منسوبة إلى جنوب فى رثاء أخيها عمرو ذى الكلب.

ذكر أنواع المآدب وأسمائها وما ورد فى ذلك من الشعر

قالوا ثلاثاؤه خصب ومأدبة … فكلّ أيّامه يوم الثّلاثاء وقال الهذلىّ (¬1) يصف عقابا: كأنّ قلوب الطّير فى جوف وكرها … نوى القسب يلقى عند بعض المآدب (¬2) أراد جمع مأدبة. وقد روى هذا الحديث بفتح الدال «مأدبة»، وقال الأحمر: المراد بهذه اللفظة مع الفتح هو المراد بها مع الضمّ. وقال غيره: المأدبة، بفتح الدال «مفعلة» من الأدب؛ معناه أنّ الله تعالى أنزل القرآن أدبا للخلق، وتقويما لهم، وإنما دخلت الهاء فى مأدبة ومأدبة، والقرآن مذكّر، لمعنى المبالغة؛ كما قالوا: هذا شراب مطيبة للنفس؛ وكما قال عنترة: * والكفر مخبثة لنفس المنعم (¬3) * وجرى ذلك مجرى قولهم: رجل علّامة ونسّابة/ فى باب المدح على جهة التشبيه بالداهية، ورجل هلباجة (¬4) فى باب الذم على جهة التشبيه بالبهيمة. [ذكر أنواع المآدب وأسمائها وما ورد فى ذلك من الشعر: ] ويقال لطعام الإملاك: وليمة، ولطعام الختان: العذيرة، ولطعام الزّفاف: العرس، ولطعام بناء الدار: الوكيرة، ولطعام حلق (¬5) الشعر: العقيقة، ولطعام القادم من السفر: النّقيعة، ولطعام النّفاس: الخرس، والّذي تطعمه النّفساء: الخرسة، قال الشاعر: إذا النّفساء لم تخرّس ببكرها … غلاما ولم يسكت بحتر فطيمها (¬6) الحتر: الشيء القليل، وقال آخر: ¬

_ (¬1) هو صخر الغى. (¬2) ديوان الهذليين 2: 55، والقسب: التمر اليابس يتفتت فى الفم. (¬3) من المعلقة، ص 201 - بشرح التبريزى؛ وصدره: * نبّئت عمرا غير شاكر نعمتى*. (¬4) الهلباجة: الفدم الضخم الأكول. (¬5) حاشية ت (من نسخة): «حلق الرأس». (¬6) ت: «بختر» والبيت للأعلم الهذلى؛ كما فى اللسان (خرس- حتر)، وهو أيضا فى المقاييس 2: 167، وفى حواشى الأصل، ت، ف: «كأنه يصف سنة، وأن النفساء المنفوسة بالبكر الغلام لا تخرس، ولا يسكت فطيمها بأدنى شيء».

كلّ الطّعام تشتهى ربيعة … الخرس والإعذار والنّقيعه (¬1) ويروى: «العرس». وينشد أيضا فى النقيعة قول الشاعر: إنّا لنضرب بالسّيوف رءوسهم … ضرب القدار نقيعة القدّام (¬2) والقدار: الجزّار. والقدّام: جمع قادم. وقال أبو زيد: يقال لطعام الإملاك: النّقيعة، ولطعام بناء الدار: الوكيرة، ولطعام الختان: الإعذار والعذيرة. وقال الفرّاء: الشّندخىّ (¬3): طعام الإملاك، والوليمة: طعام العرس. وقال أبو زيد: يقال من النّقيعة نقعت. وقال الفراء: منها أنقعت. وقال ابن السّكّيت: يقال للطعام الّذي يتعلّل به قدّام الغداء؛ السّلفة واللهنة؛ يقال: الأصمعىّ: فلان لهنوا ضيفكم، أى أطعموه اللهنة، قال الشاعر: عجيّز عارضها منفلّ … طعامها اللهنة أو أقلّ (¬4) وقال ابن السّكّيت: يقال فلان يأكل الوزمة إذا كان يأكل أكلة فى اليوم. وقال يأكل الوجبة، إذا كان يأكل فى اليوم والليلة أكلة، قال بشار: فاستغن بالوجبات عن ذهب … لم يبق فيه لامرئ ذهبه وقال ابن السّكّيت: قال الأصمعىّ لرجل أسرع فى سيره: كيف كان سيرك؟ فقال: ¬

_ (¬1) البيتان فى اللسان (خرس). (¬2) البيت فى اللسان (قدر)، ونسبه إلى المهلهل، وفى حاشية الأصل: «هذا من باب تسمية الشيء بما يئول إليه؛ أى اللحم الّذي يصير نقيعا؛ كقوله تعالى: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً. (¬3) ت: «الشندخى»، بضم الشين وفتح الدال، وفى د، وحاشية ت (من نسخة): «الشندخى»، بضم الشين مع الألف المقصورة، وفى ج، ش: الشندخى»، بفتح الشين وضم الدال. وفى حواشى الأصل، ت، ف: «رواه الأزهرى الهروى عن الفراء «الشنداخى»، وهو الصحيح، وقال: هو طعام البناء». (¬4) البيتان فى اللسان (فلل)؛ والثانى فى اللسان أيضا (لهن)، ونسبه إلى عطية الديبرى. العارض: السن التى فى عرض الفم، وانفل: تكسر.

كنت آكل الوجبة، وأنجو الوقعة، وأعرّس إذا أفجرت، وأرتحل إذا أسفرت، وأسير الوضع، وأجتنب/ الملع، فجئتكم لمسى سبع. قوله: «أنجو الوقعة»، معناه أقضى حاجتى مرة فى اليوم، وهو من النّجو. وقوله: «أسير الوضع»، فالوضع: سير فيه بعض الإسراع، والملع: سير أشدّ منه، فأراد أنه يجتنب الشديد من السير؛ كراهة أن يقف ظهره قبل أن يبلغ الأرض التى يقصد لها؛ ويقال: شرّ السّير الحقحقة، أى السير الحديد (¬1) الّذي يقطع صاحبه عن بلوغ بغيته، قال الشاعر: إذ ما أردت الأرض ثمّ تباعدت … عليك فضع رحل المطيّة وانزل أى استرح حتى تقوى على السير، فإن جهدت نفسك لم تقطع أرضا، ولم تبق ظهرا؛ وهذا من أبيات المعانى التى يسأل عنها، والّذي قيل فيه ما ذكرناه. ويمكن أن يكون معنى البيت: إذا بعدت عليك أرض فدعها واسل عنها؛ كما يقال: دواء ما عزّ مطلبه الصّبر؛ وما جرى مجرى ذلك من ألفاظ التسلية؛ والأمر بالعدول عن تتبّع ما صعب من الأمور (¬2). وقال الآخر فى معنى البيت الأول: نقطّع بالنّزول الأرض عنّا … وبعد الأرض يقطعه النّزول وقوله: «لمسى سبع»، معناه لمساء سبع ليال. ويقال للذى يحضر طعام القوم من غير أن يدعوه إليه: الوارش والوروش. وقول العامة: طفيلىّ مولّد لا يوجد فى العتيق من كلام العرب، وأصل ذلك أن رجلا يقال له طفيل، كان بالكوفة لا يفقد من وليمة من غير أن يدعى إليها، فقيل للوارش: طفيلىّ؛ تشبيها بطفيل هذا فى وقته. ¬

_ (¬1) ت، د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): «الشديد». (¬2) حواشى الأصل، ت، ف: «مثله: أرخص ما يكون النفط إذا غلا؛ يعنى أنه لا يشرى فيكون رخيصا».

أخبار متفرقة عن الأصمعى وحضور ذهنه عند إنشاء الشعر

ويقال للذى يحضر شراب القوم من غير أن يدعى إليه واغل؛ قال امرؤ القيس: فاليوم فاشرب غير مستحقب … إثما من الله ولا واغل (¬1) ويقال لما يشربه الواغل: الوغل، قال الشاعر: إن أك مسكرا فلا أشرب ال … وغل ولا يسلم منّى البعير (¬2) وقوله صلى الله عليه وآله: «إنّ أصفر البيوت لجوف أصفر من كتاب الله»، معناه: أخلى البيوت/؛ والصّفر عند العرب: الخالى؛ من الآنية وغيرها. ويمكن فى قوله: «مأدبة» وجه آخر؛ وهو أن يكون وجه التشبيه للقرآن بالمأدبة وتسميته بها من حيث دعا الخلق إليه، وأمرهم بالاجتماع عليه، فسماه عليه السلام «مأدبة» لهذا الوجه، لأن المأدبة هى التى يدعى الناس إليها، ويجتمعون عليها؛ وهذا الوجه يخالف الأول، لأن الأول تضمّن أنّ وجه التشبيه من حيث النفع العائد على الحافظ للقرآن كما ينتفع المدعوّ إلى المأدبة بما يصيبه من الطّعام. وهذا الوجه الآخر تضمّن أن التشبيه وقع لاجتماع الناس فى الدعاء إليه، والإرشاد إلى إصابته. وليس يبعد أن يريد عليه السلام بالخبر المعنيين معا، فلا تنافى بينهما (¬3). *** [أخبار متفرقة عن الأصمعىّ وحضور ذهنه عند إنشاء الشعر: ] أخبرنا أبو الحسن على بن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم قال: ¬

_ (¬1) ديوانه: 150، والرواية فيه: * فاليوم أسقى غير مستحقب* وفى حاشية ت (من نسخة): * فاليوم أشرب غير مستحقب*. (¬2) اللسان (وغل)، ونسبه لعمرو بن قميئة. (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف: «ويمكن أن يكون فى معنى الخبر وجه آخر، وهو أنه عليه السلام إنما شبه القرآن بالمأدبة لما اشتملت عليه المأدبة من أنواع الأطعمة، من الحلو والحامض والمالح وغير ذلك مما لا يكون فى غير المآدب، فكذلك القرآن يشتمل على أنواع من العلوم لا توجد فى غيره، كما قال تعالى: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ، وهذا وجه عن الشيخ الإمام جمال الدين أبى الفتوح الرازى رحمه الله فى أثناء الدرس، وهو أقرب وأشبه من الوجهين المذكورين».

كنّا فى مجلس الأصمعىّ إذ أقبل أعرابىّ فقال: أين عميدكم؟ فأشرنا إلى الأصمعىّ، فقال له: ما معنى قول الشاعر: لا مال إلّا العطاف تؤزره … أمّ ثلاثين وابنة الجبل (¬1) لا يرتقى النزّ فى ذلاذله … ولا يعدّى نعليه من بلل (¬2) فقال الأصمعىّ: عصرته نطفة تضمّنها … لصب تلقّى مواضع السّبل أو وجبة من جناة أشكلة … إن لم يرغها بالقوس لم تنل (¬3) قال: فأدبر الأعرابىّ وهو يقول: لم أر كاليوم عضلة (¬4). قال ابن دريد: إنما وصف رجلا خائفا فى رأس جبل؛ يقول: لا مال له إلّا العطاف- وهو السّيف- تؤزره أمّ ثلاثين؛ يعنى كنانة فيها ثلاثون سهما. وابنة الجبل؛ يعنى القوس، لأنها تعمل من شجر الجبال مثل النّبع وغيره. وقوله: «لا يرتقى النّزّ فى ذلاذله»، لأنه فى رأس جبل؛ فلا نزّ هناك يتعلق بما يفضل من ثيابه، ولا بلل يعدّى نعليه عنهما. والعصرة: الملجأ. والنّطفة: الماء المجتمع فى صخر أو غيره من بقيّة ماء المطر. واللّصب: الشّق فى الجبل أضيق من اللهب (¬5) وأوسع من الشّعب. والسّبل: المطر. والوجبة: أن يأكل كلّ يوم مرة. والأشكل: السّدر الجبلىّ، واحده أشكلة؛ يقول: ¬

_ (¬1) الأبيات فى اللسان (عطف)، وروى عن ثعلب أنها فى وصف صعلوك. وفى حواشى الأصل، ت، ف: «أصل العطاف الرداء؛ فشبه به السيف»، وتؤزره: تعينه. (¬2) النز: الماء الّذي يتحلب من الأرض والذلاذل: أسافل القميص الطويل. (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «يرغها» بفتح الياء وضم الراء، وفيها: «أراغ معناه طلب، وراغ: مال؛ يقال: راغ إليه؛ فحذف حرف الجر، وأوصل الفعل؛ ومن ذلك قوله تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ». (¬4) العضلة: الداهية؛ يقال: فلان عضلة وعضل، أى شديد داهية. (¬5) اللهب: الطريق بين الجبلين.

فهذه النطفة والوجبة من الأشكلة/ عصرتاه. وقوله: «إن لم يرغها بالقوس»؛ يعنى أنها لا تنال باليد حتى تحرّك بالقوس. قال سيدنا أدام الله علوّه: وإنما جعل الأصمعىّ إنشاد باقى الأبيات دلالة على معرفة معناها؛ لأنه يبعد أن يعرفها ولا يعرف معناها، والأعرابىّ إنما سأل عن المعنى، فأقام إنشاده لها مقام تفسيرها، واستغنى الأعرابى بذلك وعلم بإتمامه للأبيات معرفته بمعانيها. وكان الأصمعى كثيرا إذا أنشد شيئا من الشعر ينشد فى معناه فى الحال، فمن ذلك أن إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ أنشده يوما لنفسه: إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبى … وقام بنصرى خازم وابن خازم عطست بأنف شامخ وتناولت … يداى الثّريّا قاعدا غير قائم قال: فلما فرغت من إنشادهما أنشد بعقب ذلك: ألا أيّها السائلى جاهلا … ليعرفنى، أنا أنف الكرم نمت فى الكرام بنى عامر (¬1) … فروعى وأصلي قريش العجم (¬2) قال: فجاء والله بالشّعر الّذي نحوته وعملت بيتىّ عليه. وأخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدثنا محمد بن يحيى الصولىّ قال حدثنا عون بن محمد قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: ما أنشدت الأصمعىّ شيئا قط إلا أنشدنى مثله؛ كأنه أعدّه لى، فأنشدته يوما للأعشى: علّقتها عرضا وعلّقت رجلا … غيرى وعلّق أخرى غيرها الرّجل (¬3) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): * نمت فى الكرام بنو عامر*. (¬2) حاشية الأصل: «يقول: أصلي قريش الذين يسكنون بلاد العجم وفرعى بنو عامر؛ كأن أباه قرشى وأمه عامرية». (¬3) ديوانه: 43، وفى حاشية الأصل: «أى عشقتها اعتراضا لا قصدا واعتزاما، ومثله: جننت بليلى وهى جنّت بغيرنا … وأخرى بنا مجنونة لا نريدها.

فأنشدنى من وقته: قتلتك أخت بنى لؤى إذ رمت … وأصاب نبلك إذ رميت سواها (¬1) وأعارها الحدثان منك مودّة … وأعار غيرك ودّها وهواها وذكر أبو العيناء قال: كان الأصمعىّ إذا سمع إنسانا ينشد شعرا فى معنى أنشد فى ذلك المعنى من غير أن يريه أنه أراده، فأنشده رجل قول القطامىّ: / والناس من يلق خيرا قائلون له … ما يشتهى، ولأمّ المخطئ الهبل (¬2) فأنشد هو قول قعنب الفزارىّ: فمن يلق خيرا يحمد النّاس أمره … ومن يغو لا يعدم على الغىّ لائما (¬3) وروى ميمون بن هارون قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: أنشدت الأصمعىّ قول الأعشى، طلبا أن ينشدنى مثله- وكان مع بخله بالعلم لا يضنّ بمثل هذا: إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا … أو تنزلون فإنّا معشر نزل (¬4) فأنشدنى لربيعة بن مقروم الضبىّ. ولقد شهدت الخيل يوم طرادها … بسليم أو ظفة القوائم هيكل (¬5) فدعوا نزال، فكنت أوّل نازل … وعلام أركبه إذا لم أنزل! وروى عن إسحاق بن إبراهيم أيضا أنه قال: دخل يوما إلى الأصمعىّ، وعندى أخ ¬

_ (¬1) البيتان لعدى بن الرقاع؛ وهما فى مجموعة الطرائف 92، ومعجم البلدان 8: 204. (¬2) جمهرة الأشعار: 303؛ وفى حاشية الأصل: «يقول: من أصاب مالا قيل له ما يشتهى ولا يخالف، ومن تجاوزه المال خولف فى كل شيء ولعن». (¬3) كذا ذكره المؤلف؛ ونسبه المفضل الضبى إلى المرقش الأصغر، وانظر المفضليات: 247 (طبعة المعارف). (¬4) ديوانه: 48، وروايته: * قالوا الرّكوب فقلنا تلك عادتنا*. (¬5) خزانة الأدب 3: 565. الأوظفة: جمع وظيف، وهو مستدق الذراع والساق من الخيل. والهيكل: الضخم المشرف.

للعمانىّ الراجز، حافظ رواية، فلما دخل عبث به أخو العمانى [، فقال له: من هذا؟ قال: هو الباهلىّ الّذي يقول] (¬1): فما صحفة مأدومة بإهالة … بأطيب من فيها ولا أقط رطب (¬2) فقال له قبل أن يستتم كلامه: هو على كلّ حال أصلح من قول أخيك العمانىّ: يا ربّ جارية حوراء ناعمة … كأنّها عومة فى جوف راقود (¬3) قال إسحاق: فقلت له: أكنت أعددت هذا الجواب؟ قال: لا، ولكن ما مرّ بى شيء إلا وأنا أعرف منه طرفا. ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «فقال: من هذا الباهلى الّذي يقول». (¬2) الصحفة: قصعة دون الجفنة والإهالة: الشحم المذاب. والأقط: شيء يتخذ من المخيض الغنمى. (¬3) حواشى الأصل، ت، ف: «العومة: دويبة تسبح فى الماء، كأنها فص أسود مدملك. والعومة: ضرب من السمك معروف». والراقود: دن كبير.

27

27 مجلس آخر [المجلس السابع والعشرون: ] تأويل آية [: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ... ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ؛ [التوبة: 30]. فقال: أىّ معنى لقوله: بِأَفْواهِهِمْ ومعلوم أنّ القول لا يكون إلا بالأفواه؟ . الجواب، قلنا: المقول يحتمل معنيين فى لغة العرب: أحدهما القول باللّسان، والآخر بالقلب، فالقول الّذي يضاف إلى القلب هو الظّنّ والاعتقاد، ولهذا المعنى ذهبت العرب بالقول مذهب الظّن/ فقالوا: أتقول عبد الله خارجا؟ ومتى تقول محمدا منطلقا؟ يريدون: متى تظن؟ قال الشاعر: أما الرّحيل فدون بعد غد … فمتى تقول الدّار تجمعنا! (¬1) أراد: فمتى تظن الدار! وقال الآخر: أجهّالا تقول بنى لؤىّ … لعمر أبيك أم متجاهلينا! (¬2) أراد: تظن بنى لؤىّ، وقال توبة بن الحميّر: ألا يا صفىّ النّفس كيف تقولها … لو أنّ طريدا خائفا يستجيرها (¬3) ¬

_ (¬1) البيت لعمر بن أبى ربيعة، ديوانه: 394. (¬2) البيت للكميت بن زيد الأسدى؛ وهو من (شواهد ابن عقيل على الألفية 1: 397)، وفى حاشية الأصل: «لا يجوز أن تنصب جهالا بتقول إذا جعلته على معنى القول، لأن القول لا يتعدى إلى ما كان مما لا يندرج تحت السمع، والجهال جثت، فلا يتأنى ذلك فيها، فلا بد أن يكون قال بمعنى ظن، ولهذا يصح أن تقول: سمعت زيدا يقرأ ويقول ويتكلم ويشعر، ولا تقول: سمعت زيدا يضرب؛ لأن السمع يقع على ما يسمع». (¬3) البيتان من قصيدة طويلة؛ ذكرت بتمامها فى تزيين الأسواق 96 - 98.

تخبّر إن شطّت بها غربة النّوى … ستنعم ليلى أو يفكّ أسيرها (¬1) أراد: كيف تظنها؟ فلما كان القول يستعمل فى الأمرين معا أفاد قوله تعالى: بِأَفْواهِهِمْ قصر المعنى على ما يكون باللسان دون القلب، ولو أطلق القول، ولم يأت بذكر الأفواه لجاز أن يتوهّم المعنى الآخر: ومما يشهد لذلك قوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ؛ [المنافقون: 1]، فلم يكذّب الله تعالى قول ألسنتهم: لأنهم لم يخبروا بأفواههم إلّا بالحق، بل كذّب ما يرجع إلى قلوبهم من الاعتقادات. ووجه آخر وهو أن تكون الفائدة فى قوله تعالى: بِأَفْواهِهِمْ أنّ القول لا برهان عليه، وأنه باطل كذب لا يرجع فيه إلّا إلى مجرّد القول باللسان؛ لأن الإنسان قد يقول بلسانه الحقّ والباطل، وإنما يكون قوله حقّا إذا كان راجعا إلى قلبه، فتكون إضافة القول إلى اللسان تقتضى ما ذكرناه من الفائدة، وهذا كما يقول القائل لمن يشكّ فى قوله أو يكذبه: هكذا تقول بلسانك، وليس الشأن فيما تقوله وتتفوّه به وتقلّب به لسانك؛ فكأنّهم أرادوا أن يقولوا: هذا قول لا برهان عليه، فأقاموا قولهم: هكذا تقول بلسانك، وإنما يقولون كذا بأفواههم مقام ذلك؛ والمعنى أنه قول لا تعضده حجّة ولا برهان، ولا يرجع فيه إلا إلى اللسان. ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «فى ديوانه: «تجير وإن شطت»، يخاطب الشاعر صديقا له فيقول: يا صفىّ نفسى، كيف تظن ليلى الأخيلية لو استجار بها مستجير! ثم استأنف فقال: هى تجير وإن كانت قد عذبتنا بالفراق، ثم قال: ستنعم ليلى أو يفادى أسيرها، ويعنى بالأسير نفسه، أى ستجود يوما أو أفتدي نفسى منها، هذا إذا روى: «تجير وإن شطت»، وكذلك هو فى ديوانه، وأما وجه ما رواه السيد: «تخبر»، فمعناه: تخبرنى أنت يا صفىّ نفسى إن تناءت أنها ستنعم، وإن رويت: «أن شطت» بالفتح كان المعنى: لأن تناءت. وعلى ما ذكره السيد رضى الله عنه يمكن أن يذكر للبيت وجه آخر؛ وهو أنه يقول ويخاطب صديقا له: كيف تظنها لو أنى استجرت بها! كنى عن نفسه بالخائف المستجير ثم يقول: تخبر يا خليلى، يعنى أنى أعلم أنك تقول: هى إما أن تنعم بالوصال أو أنا أسلو؛ وهذا معنى: «يفك أسيرها»، لأنه إذا سلا فقد فك أسره؛ وهذا الوجه الأخير مستفاد من ملك النحاة».

تأويل آية أخرى: ألم يأتكم نبؤا الذين من قبلكم ...

ووجه آخر، وهو/ أن تكون الفائدة فى ذلك التأكيد، فقد جرت به عادة العرب فى كلامها، وما تقدم من الوجهين أولى؛ لأنّ حمل كلامه تعالى على الفائدة أولى من حمله على ما تسقط معه الفائدة. تأويل آية أخرى [: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ... ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ؛ [إبراهيم: 9]. فقال: أىّ معنى لردّ الأيدى فى الأفواه؟ وأىّ مدخل لذلك فى التكذيب بالرسل عليهم السلام؟ الجواب، قلنا فى ذلك وجوه: أولها أن يكون إخبارا عن القوم بأنّهم ردّوا أيديهم فى أفواههم، عاضّين عليها غيظا وحنقا على الأنبياء، كما يفعل المتوعّد لغيره، المبالغ فى معاندته ومكايدته؛ وهذه عادة معروفة فى المغيظ المحنق أنّه يعضّ على أصابعه، ويفرك أنامله، ويضرب بإحدى يديه على الأخرى؛ وما شاكل ذلك من الأفعال. وثانيها أن تكون الهاء فى الأيدى للكفار المكذّبين، والهاء التى فى الأفواه للرسل عليهم السلام؛ فكأنّهم لمّا سمعوا وعظ الرسل ودعاءهم وإنذارهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل، مانعين لهم عن الكلام كما يفعل المسكّت منّا لصاحبه، الرّادّ لقوله. وثالثها أن تكون الهاء فى الأيدى والتى فى الأفواه معا للرسل؛ والمعنى أنهم كانوا يأخذون أيدى الرسل فيضعونها على أفواههم ليسكتوهم، ويقطعوا كلامهم.

ورابعها أن تكون الهاءان جميعا يرجعان إلى الكفار (¬1) لا إلى الرسل؛ فيكون المعنى أنّهم إذا سمعوا وعظهم وإنذارهم وضعوا أيدى أنفسهم على أفواههم؛ مشيرين لهم بذلك إلى الكفّ عن الكلام والإمساك عنه؛ كما يفعل من يريد منّا أن يسكّت غيره، ومنعه من الكلام، من وضع إصبعه على فى نفسه. وخامسها أن يكون المعنى: فردّوا القول بأيدى أنفسهم إلى أفواه الرّسل، أى أنّهم كذّبوهم، ولم يصغوا إلى أقوالهم، فالهاء الأولى للقوم، والثانية للرسل؛ والأيدى إنما ذكرت مثلا وتأكيدا؛ كما يقول القائل: أهلك فلان نفسه بيده، أى وقع الهلاك به من جهته، لا من جهة غيره. وسادسها أن المراد بالأيدى النعم وفِي محمولة على الباء، والهاء الثانية للقوم المكذبين والتى قبلها للرّسل، والتقدير: فردّوا بأفواههم نعم الرّسل؛ أى ردّوا وعظهم وإنذارهم وتنبيههم على مصالحهم الّذي لو قبلوه لكان نعما عليهم. ويجوز أيضا أن تكون الهاء التى فى الأيدى للقوم الكفار، لأنها نعم من الله تعالى عليهم، فيجوز إضافتها إليهم وحمل لفظة فِي على معنى الباء جائز لقيام بعض الصّفات مقام بعض؛ يقولون: رضيت عنك، ورضيت عليك وحكى فى لغة طيئ: أدخلك الله بالجنة، يريدون فى الجنة، فيعبرون بالباء عن معنى «فى»؛ كذلك أيضا يصح أن يعبروا بقى عن الباء؛ قال الشاعر: وأرغب فيها عن لقيط ورهطه … ولكنّنى عن سنبس لست أرغب أراد: وأرغب بها فحمل «فى» على الباء. ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «يمكن أن يجعل الضميران جميعا للرسل عليهم السلام، على معنى أنهم لما لم يقبلوا وعظهم وإنذارهم رد الرسل بأيديهم إلى أفواه أنفسهم، إشارة إلى أنا قد سكتنا، فافعلوا ما شئتم تهديدا وتهويلا».

وسابعها- وهو جواب اختاره أبو مسلم بن بحر، وزعم أنّه أولى من غيره- قال المضمرون فى قوله: أَيْدِيهِمْ الرسل، وكذلك المضمرون فى أَفْواهِهِمْ، والمراد باليد هاهنا ما نطق به الرسل من الحجج والبيّنات التى ذكر الله تعالى أنهم جاءوا بها قومهم؛ واليد فى كلام العرب قد تقع على النعمة وعلى السلطان أيضا، وعلى الملك، وعلى العهد والعقد؛ ولكل ذلك شاهد من كلامهم؛ والّذي أتى به الأنبياء قومهم هو الحجة والسلطان، وهو النعمة، وهو العهد، وكلّ ذلك يقع عليه اسم اليد. ولمّا كان ما يعظ به الأنبياء قومهم وينذرونهم به إنما يخرج من أفواههم، فردوه وكذبوه قيل: إنهم ردّوا أيديهم فى أفواههم، أى أنهم ردّوا القول من حيث جاء قال: ولا يجوز أن يكون الضمير فى ذلك للمرسل إليهم كما تأوله بعض المفسرين، وذكر أن معناه أنهم عضّوا عليهم أناملهم غيظا؛ لأن رافع يده إلى فيه، والعاضّ عليها لا يسمّى رادّا ليده إلى فيه، إلا إذا كانت يده فى فيه فيخرجها ثم يردّها. قال سيدنا الشريف أدام الله علوّه: وليس ما استنكره أبو مسلم من رد الأيدى إلى الأفواه بمستنكر ولا بعيد، لأنه قد يقال: ردّ يده إلى فيه، وإلى وجهه، وعاد فلان يقول كذا، ورجع يفعل كذا؛ وإن لم يتقدم ذلك الفعل منه. ولو لم يسغ هذا القول تحقيقا؛ لساغ تجوّزا واتساعا؛ وليس يجب أن تؤخذ العرب بالتحقيق فى كلامها؛ فإن تجوّزها/ واستعاراتها أكثر، على أنه يمكن أن يكون المراد بذلك أنهم فعلوا ذلك الفعل شيئا بعد شيء، وتكرّر منهم، فلهذا جاز أن يقول: ردّوا أيديهم فى أفواههم، لأنه قد تقدم منهم مثل هذا الفعل، فلما تكرّر جازت العبارة عنه بالرّد، وهذا يبطل استضعافه للجواب إذا صرنا إلى مراده.

تأويل خبر: خبر النبي عليه السلام حين سمع رجلا ينشد شعرا لسويد بن عامر وتأويل ما ورد فيه الغريب

تأويل خبر [: خبر النبي عليه السلام حين سمع رجلا ينشد شعرا لسويد بن عامر وتأويل ما ورد فيه الغريب] روى أن مسلما الخزاعىّ ثم المصطلقىّ قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله- وقد أنشده منشد قول سويد بن عامر المصطلقى (¬1): لا تأمننّ وإن أمسيت فى حرم … إنّ المنايا بكفّى كلّ إنسان (¬2) واسلك طريقك تمشى غير مختشع (¬3) … حتّى تبيّن ما يمنى لك المانى فكلّ ذى صاحب يوما يفارقه (¬4) … وكلّ زاد وإن أبقيته فان والخير والشّرّ مقرونان فى قرن (¬5) … بكلّ ذلك يأتيك الجديدان فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: «لو أدركته لأسلم»، فبكى مسلم، فقال له ابنه: يا أبه، ما يبكيك من مشرك مات فى الجاهلية! فقال: يا بنيّ، لا تفعل فما رأيت مشركة تلقّفت من مشرك خيرا من سويد. قوله: «ما يمنى لك المانى» معناه ما يقدّر لك القادر؛ قال الفرّاء: يقال: منى الله عليه الموت؛ أى قدّر الله عليه الموت. وقال يعقوب: مناك الله بما يسرّك، أى قدّر الله لك ما يسرّك، وأنشد: ¬

_ (¬1) نسب البيت الأول والثانى والرابع إلى أبى قلادة الهذلى، من قصيدة أولها: يا دار أعرفها وحشا منازلها … بين القوائم من رهط فألبان مع اختلاف فى روايتها وترتيبها، وانظر ديوان الهذليين 3: 36 - 39، واللسان (منى). (¬2) حواشى الأصل، ت، ف: «المعروف «بجنبى»، هذا هو الصحيح»، وهى أيضا رواية ديوان الهذليين؛ يقول: لا تأمنن أن تأتيك منيتك وإن كنت بالحرم حيث يأمن الطير». (¬3) رواية اللسان: * واسلك طريقك فيها غير محتشم* ورواية ديوان الهذليين: * ولا تقولن لشيء سوف أفعله*. (¬4) حاشية ت (من نسخة): «مفارقه». (¬5) رواية ديوان الهذليين: * إنّ الرّشاد وإنّ الغىّ فى قرن*.

لعمر أبى عمرو لقد ساقه المنى … إلى جدث يوزى له بالأهاضب (¬1) وقال ابن الأعرابىّ: ساقه المنى، أى ساقه القدر؛ وأنشد ابن الأعرابىّ: منت لك أن تلاقينى المنايا … أحاد أحاد فى الشّهر الحلال (¬2) معناه قدّرت لك. وقال أبو عبيدة فى قوله تعالى: مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى؛ [النجم: 46]، معناه إذا تخلق وتقدّر. وقال بعض أهل اللغة: إنّما سمى «منّى» لما يمنى فيه من ثواب الله تعالى؛ أى يقدّر فيه؛ وقيل أيضا بما يمنى فيه من الدّم (¬3)؛ وقيل: إنما سمى بذلك لأن إبراهيم عليه السلام لما انتهى إليه قال له الملك: تمنّ، قال: أتمنّى الجنة، فسمى منى لذلك. ومنى يذكر ويؤنث، والتذكير أجود، قال الشاعر فى التذكير: / سقى منى ثم روّاه وساكنه … ومن ثوى فيه واهى الودق منبعق (¬4) وقال آخر فى التأنيث: ليومنا بمنى إذ نحن ننزلها … أسرّ من يومنا بالعرج أو ملل (¬5) ¬

_ (¬1) البيت مطلع قصيدة لصخر الغى، يرثى أخاه أبا عمرو بن عبد الله، وقد نهشته حية فمات؛ (ديوان الهذليين 2: 51 - 57). وفى حواشى الأصل، ت، ف: «يؤزى، من الإزاء، والإزاء: مصب الماء فى الحوض، يقال: أزيت الحوض [بالتضعيف]، وآزيته، والإزاء للقبر فى الحقيقة؛ إلا أنه على الاستعارة. ويجوز أن يكون الضمير فى «له» للمرثى؛ أى يهيأ له؛ هذا إذا همزت «يؤزى»؛ وهو قول الأصمعىّ، فأما إذا لم تهمزه فمعنى يؤزى ينصب ويشخص؛ يقال: أوزى ظهره إلى الحائط؛ أى أسنده ويقال: هضبة وهضبات وهضاب وأهضاب وأهاضب وأهاضيب». (¬2) اللسان (منى)، وفى حاشية الأصل: «أى قدرت المنايا ملاقاتها إياى لأجلك». (¬3) المراد بيمنى هاهنا: يراق. (¬4) الودق: المطر، والواهى: المندفع بالماء، وكذلك المنبعق، وفى حاشيتى الأصل، ف: «جعل للسحاب سقاء، ثم جعله واهى العقد، فهو أشد إرسالا، وهذا مثل». (¬5) العرج: موضع قريب من الطائف، وإليه ينسب العرجىّ الشاعر، وهو عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان. وملل: موضع فى طريق مكة.

أبيات لرفيع الوالبى

فأما قوله: * والخير والشّرّ مقرونان فى قرن* فالقرن الحبل؛ وأراد أنهما مجموعان لا يفترقان؛ من حيث لا يكاد يصيب الإنسان فى الدنيا خير صرف لا شرّ فيه؛ فلهذا قال إنهما مقرونان. ويجوز أيضا أن يريد أنّ لسرعة تقلّب الدنيا وإبدالها الخير بالشر كأن الخير والشرّ مقرونان مجموعان معا، لتقارب ما بينهما. فأما الجديدان، فهما اللّيل والنهار، وهما أيضا الأجدّان، والملوان، والفتيان، والرّدفان، والعصران؛ قال الشاعر: إنّ الجديدين فى طول اختلافهما … لا يفسدان ولكن يفسد النّاس (¬1) وقال آخر: وأمطله العصرين حتّى يملّنى … ويرضى بنصف الدّين والأنف راغم (¬2) وقال أبو عبيدة: ويقال الليل والنهار ابنا سبات، وأنشد ابن الأعرابىّ: وكنّا وهم كابنى سبات تفرّقا … سوى ثمّ كانا منجدا وتهاميا (¬3) ويقال للغداة والعشىّ: القرّتان (¬4)، والبردان، والصّرعان (¬5). *** [أبيات لرفيع الوالبىّ: ] أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن عثمان بن يحيى قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الحكيمىّ قال: أملى علينا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب النحوىّ قال: أنشدنا ابن الأعرابى لرفيع الوالبىّ: كذبتك ما وعدتك أمس صلاح … وعسى يكون لما وعدت نجاح (¬6) ¬

_ (¬1) البيت للخنساء، ديوانها: 155. (¬2) الحيوان 3: 249، وإصلاح المنطق: 437، من غير عزو. (¬3) اللسان (سبت)، ونسبه إلى ابن أحمر، وفيه عن ابن حبيب: «أن ابنى سبات رجلان، رأى أحدهما صاحبه فى المنام ثم انتبه، وأحدهما بنجد والآخر بتهامة». (¬4) ت: «القرنان». (¬5) حاشية الأصل: «أصل الصرع الّذي يصارعك». (¬6) صلاح: اسم امرأة، وفى حاشية الأصل: «كأنها وعدته بالوصال الّذي يبرئ سقمه».

أخبار عقيل بن علفة وإيراد طائفة من شعره

برء من السّقم الطّويل ضمانه … لا يستوى سقم بكم وصحاح إصلاح إنّك قد رميت نوافذا … وجوائفا ليست لهنّ جراح (¬1) ولقد رأيتك بالقوادم لمحة … وعليّ من سدف العشىّ رياح (¬2) - معنى رياح هاهنا، أى عليّ وقت من العشىّ، ومثله رواح؛ وقوم يروونه بالكسر وليس بشيء- / ما كان أبصرنى بغرّات الصّبا … فاليوم قد شفعت لى الأشباح (¬3) ومشى بجنب الشّخص شخص مثله … والأرض نائية الشّخوص براح (¬4) حلق الحوادث لمّتى فتركن لى … رأسا يصلّ كأنّه جماح وذكا بأصداغي وقرن ذؤابتى … قبس المشيب كأنّه مصباح قال: كأنّه جماح من امّلاسه، وجماح: سهم أو قصبة يجعل عليه طين، ثم يرمى به الطير. وبهذا الإسناد لبعضهم: أرى النّاس للصّعلوك حربا ولا أرى … لذى نشب إلّا خليلا مصافيا أرى المال يغشى ذا الوصوم فلا ترى … ويدعى من الأشراف من كان غانيا (¬5) الصعلوك: الفقير، وهو أيضا القرضوب، والسّبروت. والوصوم: العيوب. [أخبار عقيل بن علّفة وإيراد طائفة من شعره: ] وبهذا الإسناد لعقيل بن علّفة: إنى ليحمدنى الخليل إذا اجتدى … مالى ويكرهنى ذوو الأضغان وأبيت تخلجنى الهموم كأنّنى … دلو السّقاة تمدّ بالأشطان (¬6) ¬

وأعيش بالبلل القليل وقد أرى … أنّ الرّموس مصارع الفتيان (¬1) وأخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال: حدثنى عليّ بن منصور قال: أخبرنى محمد بن موسى عن دعبل بن عليّ قال قال عقيل بن علّفة: - وذكر الأبيات الثلاثة، وزاد فيها: ولقد علمت لئن هلكت ليذكرن … قومى إذا علن النّجي مكانى (¬2) *** قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله تأييده: وكان عقيل بن علّفة مع قوّة شعره جيّد الكلام حكيم الألفاظ. وروى المدائنى قال: قال عبد الملك بن مروان لعقيل بن علّفة المرّيّ: ما أحسن (¬3) أموالكم؟ فقال: ما ناله أحدنا عن أصحابه تفضّلا، قال: ثم أيّها؟ قال: مواريثنا، قال: فأيّها أشرف؟ قال: ما استفدناه بوقعة خوّلت نعما، وأفادت عزّا، قال: فما مبلغ عزّكم؟ قال: ما لم يطمع فينا، ولم/ نؤمن، قال: فما مبلغ جودكم؟ قال: ما عقدنا به مننا، وأبقينا به ذكرا، قال: فما مبلغ حفاظكم؟ قال: يدفع كل رجل منّا عن المستجير به كدفاعه عن نفسه؛ قال عبد الملك: هكذا فليصف الرجل قومه. وروى أنه قيل لعقيل بن علّفة: قد عنّست (¬4) بناتك، أفما تخشى عليهنّ الفساد؟ قال: كلّا، إنى خلّفت عندهن الحافظين، قيل: وما هما؟ قال: الجوع والعرى، أجيعهن فلا يأشرن، وأعرّيهنّ (¬5) فلا يظهرن. وقال له عبد الله يوما: ما لك تهجو قومك؟ قال: لأنهم أشباه الغنم، إذا صيح بها رفعت، وإذا سكت عنها رتعت، قال: إنّما تقول البيت والبيتين، قال: حسبى من القلادة ما أحاط بالعنق. ¬

فأما معنى «علّفة» اسم أبيه، فإن ابن الأعرابىّ قال: العلّفة مثل الباقلّاء الرّطبة تكون تحت الزهرة من البقل وغيره. وقال أبو سعيد السّكّريّ: العلّفة ضرب من أوعية بزر بعض النبات مثل قشرة الباقلّاء. واللّوبيا؛ وهو الغلاف الّذي يجمع عدّة حبّ. وقيل: إن عقيلا كان يكنى بأبى الوليد، وكان رجلا غيورا موصوفا بشدة الغيرة، وروى أبو عمرو بن العلاء أنّه حمل يوما ابنة له وأنشأ يقول: إنى وإن سيق إلى المهر … ألف وعبدان وذود عشر (¬1) أحبّ أصهارى إلى القبر وذكر الأصمعىّ أن عقيلا كان لغيرته إذا رأى الرجل يتحدث إلى النساء أخذه، ودهن أرفاغه (¬2) ومغابنه بزبد وربطه وطرحه فى قرية النمل، فلا يعود إلى محادثتهنّ. وروى الأصمعىّ قال: كان (¬3) عقيل بن علّفة فى بعض سفره، ومعه ابنه العملّس وابنته الجرباء، فأنشأ يقول: قضت وطرا من دير سعد وربّما … على عجل ناطحنه بالجماجم (¬4) ثم أقبل على ابنه فقال: أجزيا عملّس، فقال: وأصبحن بالموماة يحملن فتية … نشاوى من الإدلاج ميل العمائم (¬5) ¬

_ (¬1) الذود: القطيع من الإبل. (¬2) الأرفاغ: جمع رفع؛ وهو أصل الفخذ، والمغابن: جمع مغبن، كمنزل وهو الإبط. (¬3) الخبر فى الأغانى 12: 256 - 257 (طبع دار الكتب المصرية). (¬4) دير سعد: بين بلاد غطفان والشام، وبعده فى رواية الأغانى: إذا هبطت أرضا يموت غرابها … بها عطشا أعطينهم بالخزائم والخزائم: جمع خزامة، وهى حلقة من شعر تجعل فى أحد جانى منخرى البعير لينقاد بها. (¬5) الموماة: المفازة الواسعة. نشاوى: سكارى. الإدلاج: السير من أول الليل، وبعده فى رواية الأغانى: إذا علم غادرنه بتنوفة … تذارعن بالأيدى لآخر طاسم - والعلم: شيء ينصب فى الفلوات تهتدى به الضالة. التنوفة: المفازة. تذارعن: سرن، وأصله أن يذرع البعير بيديه فى سيره ذرعا إذا سار على قدر سعة خطوه. رسم طاسم: دارس.

ثم أقبل على ابنته، فقال: أجيزى يا جرباء، فقالت: كأنّ الكرى سقّاهم صرخديّة … عقارا تمشّت فى المطا والقوائم (¬1) قال: / فأقبل على ابنته يضربها ويقول: والله ما وصفتها بهذه الصفة حتى شربتها، فوثب عليه إخوتها فقاتلوه دونها، ثم رماه أحدهم بسهم فانتظم فخذيه، فقال عقيل: إنّ بنيّ زمّلونى بالدّم (¬2) … من يلق أبطال الرّجال يكلم (¬3) ومن يكن ذا أود يقوّم … شنشنة أعرفها من أخزم الشنشنة: الطبيعة والسجية. وقيل الشبه، وهذا مثل اجتلبه عقيل (¬4)، وقد قيل قبله؛ ولعقيل: وللدّهر أثواب فكن فى لباسه … كلبسته يوما أجدّ وأخلقا (¬5) وكن أكيس الكيسى إذا كنت فيهم … وإن كنت فى الحمقى فكن أنت أحمقا ¬

_ (¬1) الصرخدية: منسوبة إلى صرخد، وهو بلد ملاصق لبلاد حوران من أعمال دمشق. العقار: الخمر. المطا: الظهر. (¬2) رواية الأغانى: «سربلونى»، . (¬3) رواية اللسان (شنن): «آساد الرجال». (¬4) حاشية الأصل: «قال س: قرأت فى أمالى ابن الجبان الأصبهانى: شنشنة [بالفتح]، وشنشنة [بالكسر]، ونشنشة [بالفتح]، ونشنشة [بالكسر]، قال: قد فسروها بالطبيعة وبالمضغة من اللحم وبالمجامعة. ضارب هذا المثل حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن أخزم الطائى حين نشأ حاتم، وتقيل أخلاق جده أخزم فى الجود فقال: «شنشنة أعرفها من أخزم»، وتمثل به عقيل ابن علفة» وفى اللسان عن ابن برى: «كان أخزم عاقا لأبيه، فمات وترك بنين عقوا جدهم وضربوه وأدموه، فقال ذلك». وانظر ترجمة عقيل وأخباره وأشعاره فى (الأغانى 11: 81 - 89). (¬5) حاشية ف: «المعنى: فالبس مع الدهر لبوسه؛ إن لبس الجديد فالبس أيضا أنت الجديد، وبالعكس».

28

28 مجلس آخر [المجلس الثامن والعشرون: ] تأويل آية [: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ؛ [البقرة: 210] فقال: كيف يصحّ القول بأنّها رجعت عليه وهى لم تخرج عن يده؟ . الجواب، قلنا قد ذكر فى ذلك وجوه: أولها أنّ الناس فى دار المحنة والتكليف قد يغترّ بعضهم ببعض، ويعتقدون فيهم أنهم يملكون جرّ المنافع إليهم وصرف المضارّ عنهم، وقد تدخل عليهم الشّبه لتقصيرهم فى النظر، وعدولهم عن وجهه وطريقه، فيعبد قوم الأصنام وغيرها من المعبودات الجامدة الهامدة التى لا تسمع ولا تبصر، ويعبد آخرون البشر، ويجعلونهم شركاء لله تعالى فى استحقاق العبادة؛ ويضيف كلّ هؤلاء أفعال الله عز وجل فيهم إلى غيره، فإذا جاءت الآخرة، وانكشف الغطاء واضطرّوا إلى المعارف زال ما كانوا عليه فى الدنيا من الضلال واعتقاد الباطل، وأيقن الكلّ أنّه لا خالق ولا رازق ولا ضارّ ولا نافع غير الله تعالى فردوا إليه أمورهم، وانقطعت آمالهم من غيره، وعلموا أنّ الّذي كانوا عليه من عبادة غيره، وتأميله للضّرّ والنفع غرور وزور، فقال الله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ لهذا المعنى. والوجه الثانى أن يكون معنى الآية فى الأمور أنّ الأمور كلّها لله تعالى، وفى يده وقبضته من غير خروج ورجوع حقيقىّ؛ وقد تقول العرب: قد رجع عليّ من فلان مكروه، بمعنى صار إلى منه؛ ولم يكن سبق إلى قبل هذا الوقت، وكذلك يقولون: قد/ عاد عليّ من زيد كذا وكذا وإن وقع منه على سبيل الابتداء قال الشاعر: وإن تكن الأيّام أحسن مرّة … إلى فقد عادت لهنّ ذنوب

تأويل آية أخرى: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ...

أى صارت لها ذنوب لم تكن من قبل؛ بل كان قبلها إحسان فحمل الآية على هذا المعنى شائع جائز تشهد له اللغة. والوجه الثالث أنّا قد علمنا أنّ الله تعالى قد ملّك العباد فى دار التكليف أمورا تنقطع بانقطاع التكليف، وإفضاء الأمر إلى الدار الآخرة، مثل ما ملّكه الموالى من العبيد، وما ملّكه الحكام من الحكم وعير ذلك؛ فيجوز أن يريد تعالى برجوع الأمر إليه انتهاء ما ذكرناه من الأمور التى يملكها غيره بتمليكه إلى أن يكون هو وحده مالكها ومدبّرها. ويمكن فى الآية وجه آخر؛ وهو أن يكون المراد بها أنّ الأمر ينتهى إلى ألّا يكون موجود قادر غيره، ويفضى الأمر فى الانتهاء إلى ما كان عليه فى الابتداء، لأن قبل إنشاء الخلق هكذا كانت الصورة، وبعد إفنائهم هكذا تصير وتكون الكناية برجوع الأمر إليه عن هذا المعنى، وهو رجوع حقيقىّ، لأنه عاد إلى ما كان عليه متقدما. ويحتمل أيضا أنّ المراد بذلك أنّ إلى قدرته تعود المقدورات، لأن ما أفناه من مقدوراته الباقية كالجواهر والأعراض ترجع إلى قدرته، ويصحّ منه تعالى إيجاده لعوده إلى ما كان عليه، وإن كان ذلك لا يصحّ فى مقدورات البشر، وإن كانت باقية لما دلّ عليه الدليل، من اختصاص مقدور القدر باستحالة العود إليها، من حيث لم يجز فيها التقديم والتأخير، وهذا أيضا حكم، هو تعالى المتفرد به دون غيره من سائر القادرين، والله أعلم بما أراد. تأويل آية أخرى [: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها ... ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها، [البقرة: 189]. فقال: أىّ معنى لذكر البيوت وظهورها وأبوابها؟ وهل المراد بذلك البيوت المسكونة

على الحقيقة، أو كنّى بهذه اللفظة عن غيرها؟ فإن كان الأول فما الفائدة فى إتيانها من أبوابها دون ظهورها؟ وإن كانت كناية فبيّنوا وجهها ومعناها. الجواب قيل له فى الآية وجوه. أولها ما ذكر من أنّ الرجل من العرب كان إذا قصد حاجة فلم تقض له، ولم ينجح فيها رجع فدخل من مؤخّر البيت، ولم يدخل من بابه تطيّرا، فدلّهم الله تعالى على أنّ هذا من فعلهم لا برّ فيه، وأمرهم من التّقى بما ينفعهم ويقرّبهم إليه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن التطيّر وقال: «/ لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر»؛ أى لا يعدى شيء شيئا. وقال عليه السلام: «لا يورد ذو عاهة على مصحّ»؛ ومعنى هذا الكلام أنّ من لحقت إبله آفة أو مرض فلا ينبغى أن يوردها على إبل لغيره صحاح، لأنّه متى لحق الصّحاح مثل هذه العاهة اتفاقا، لا لأجل العدوى لم يؤمن من صاحب الصّحاح أن يقول إنما لحق إبلى هذه الآفة من تلك الإبل، وهى أعدت إبلى، فنهى النبي صلى الله عليه وآله عن هذا، ليزول المأثم بين الفريقين والظّنّ القبيح. وثانيها أن العرب إلّا قريشا ومن ولدته قريش كانوا إذا أحرموا فى غير الأشهر الحرم لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها، ودخلوها من ظهورها إذا كانوا من أهل الوبر، وإذا كانوا من أهل المدر نقبوا فى بيوتهم ما يدخلون ويخرجون منه، ولم يدخلوا ولم يخرجوا من أبواب البيوت؛ فنهاهم الله تعالى عن ذلك، وأعلمهم أنه لا معنى له، وأنه ليس من البرّ وأن البرّ غيره. وثالثها- وهو جواب أبى عبيدة معمر بن المثنى- أن المعنى ليس البرّ بأن تطلبوا الخير من غير أهله، وتلتمسوه من غير بابه، وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها، معناه: واطلبوا الخير من وجهه، ومن عند أهله. ورابعها- وهو جواب أبى عليّ الجبّائىّ- أن تكون الفائدة فى هذا الكلام ضرب المثل،

وأراد: ليس البرّ أن يأتى الرجل الشيء من خلاف جهته؛ لأن إتيانه من خلاف جهته يخرج الفعل عن حد الصواب والبرّ إلى الإثم والخطأ، وبيّن البرّ والتقوى، وأمر بإتيان الأمور من وجوهها، وأن تفعل على الوجوه التى لها وجبت وحسنت، وجعل تعالى ذكر البيوت وظهورها وأبوابها مثلا؛ لأن العادل فى الأمر عن وجهه كالعادل فى البيت عن بابه. وخامسها أن تكون البيوت كناية عن النساء، ويكون المعنى: وأتوا النساء من حيث أمركم الله، والعرب تسمّى المرأة بيتا؛ قال الشاعر: ما لي إذا أنزعها صأيت … أكبر غيّرنى أم بيت (¬1) أراد بالبيت: المرأة. ومما يمكن أن يكون شاهدا للجواب الّذي حكيناه عن أبى عليّ الجبّائىّ، والجواب عن أبى عبيدة أيضا ما أخبرنا به أبو القاسم عبيد الله عثمان بن يحيى قال: أخبرنا/ أبو عبد الله محمد بن أحمد الحكيمىّ قال: أملى علينا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوىّ قال: أنشدنا ابن الأعرابىّ (¬2): إنى عجبت لأمّ العمر إذ هزئت … من شيب رأسى وما بالشّيب من عار (¬3) ما شقوة المرء بالإقتار يقتره … ولا سعادته يوما بإكثار إنّ الشّقىّ الّذي فى النّار منزله … والفوز فوز الّذي ينجو من النّار أعوذ بالله من أمر يزبّن لى … شتم العشيرة أو يدنى من العار وخير دنيا ينسّى أمر آخرة … وسوف يبدى لى الجبّار أسرارى (¬4) ¬

_ (¬1) البيان فى اللسان (صأى) وفى حاشية الأصل: «هذا مستق يستقى الماء من البئر وينزع الدلو. والهاء فى قوله: «أنزعها» راجعة إلى الدلو؛ وقيل الضمير للقوس؛ يقال: «صأى يصأى، مثل صعى يصعى؛ إذا صوت». (¬2) أبيات منها فى الكامل 2: 51 - 52 - بشرح المرصفى؛ عن ابن الأعرابىّ، ونسبها إلى أحد ابنى حبناء، قال: «وأحسبه صخرا». (¬3) حاشية الأصل: «ويروى: «لأم الغمر- بالغين المعجمة»، ورواية الكامل: إنّى هزئت من أمّ الغمر إذ هزئت … بشيب رأسى، وما بالشّيب من عار. (¬4) د: * وسوف تبدو إلى الجبّار أسرارى*.

أبيات لهلال بن خثعم وشرح ما ورد فيها من الغريب

لا أدخل البيت أحبو من مؤخّره … ولا أكسّر فى ابن العمّ أظفارى فقوله: * لا أدخل البيت أحبو من مؤخّره* يحتمل أن يريد به: إننى لا آتى الأمور من غير وجهها، على أحد الأجوبة فى الآية، ويحتمل أيضا أنى لا أطلب الخير إلا من أهله على جواب أبى عبيدة، ويحتمل وجها آخر (¬1)؛ وهو أن يريد أننى لا أقصد البيت للرّيبة والفساد، لأنّ من شأن من يسعى إلى إفساد الحرم، ويقصد البيوت للريبة أن يعدل عن أبوابها طلبا لإخفاء أمره، فكأنه نفى عن نفسه بهذا القول القبيح، وتنزّه عنه؛ كما تنزه بقوله: * ولا أكسّر فى ابن العمّ أظفارى* عن مثله، وأراد أنه لا يندى (¬2) ابن العمّ منى السوء، ولا يتألم بشيء من جهتى، فأكون كأننى قد جرحته بأظفارى، وكسرتها فى لحمه؛ وهذه كنايات بليغة مشهورة للعرب. *** [أبيات لهلال بن خثعم وشرح ما ورد فيها من الغريب: ] ويجرى مجرى هذه الأبيات ويقاربها فى المعنى وحسن الكناية قول هلال بن خثعم: وإنى لعفّ عن زيارة جارتى … وإنى لمشنوء إلى اغتيابها إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها … زءورا ولم تنبح عليّ كلابها (¬3) وما أنا بالدّارى أحاديث بيتها … ولا عالم من أىّ حوك ثيابها وإنّ قراب البطن يكفيك ملؤه … ويكفيك عورات الأمور اجتنابها (¬4) ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «ووجه آخر». (¬2) حواشى الأصل، ت، ف: «من حر كلامهم: ما ينداك منى سوء، أى ما يصيبك، ويقال: ما نديت بهذا الأمر ولا نطقت به، ولا بللت به، أى ما علمته ولا أصبته، قال النابغة: ولا نديت بشيء أنت تكرهه … إذا فلا رفعت سوطى إلى يدى. (¬3) يقال رجل زوار وزءور، كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت. (¬4) حاشية الأصل: «القراب: ما دون الملء أو قريب منه».

إيراد مقطعات مختلفة لحارثة بن بدر الغدانى

قال سيدنا أدام الله علوّه: وقد جمعت هذه الأبيات فقرا عجيبة، وكنايات بليغة، لأنه نفى عن نفسه زيارة جارته عند غيبة بعلها، وخصّ حال الغيبة لأنها أدنى إلى الرّيبة وأخصّ بالتهمة فقال/: «ولم تنبح عليّ كلابها»، أراد: إنى لا أطرقها ليلا مستخفيا متنكّرا فتنكرنى كلابها، وتنبحنى، وهذه الكناية تجرى مجرى قول الشاعر المتقدم: * لا أدخل البيت أحبو من مؤخّره* وقد روى: «ولم تأنس إلى كلابها» وهذا معنى آخر، كأنه أراد أنه ليس يكثر الطروق لها والغشيان لمنزلها، فتأنس به كلابها لأن الأنس لا يكون إلّا مع المواصلة والمواترة. وقوله: * وما أنا بالدّارى أحاديث بيتها* أراد به أيضا التأكيد فى نفى زيارتها وطروقها عن نفسه؛ لأنه إذا أدمن الزيارة عرف أحاديث بيتها، فإذا لم يزرها وصارمها لم يعرف، ويحتمل أن يريد: إننى لا أسأل عن أحوالها وأحاديثها كما يفعل أهل الفضول؛ فنزّه نفسه عن ذلك. وقوله: * ولا عالم من أىّ حوك ثيابها* كناية مليحة عن أنّه لا يجتمع معها، ولا يقرب منها؛ فيعرف صفة ثيابها. *** [إيراد مقطعات مختلفة لحارثة بن بدر الغدانىّ: ] وبالإسناد المتقدّم لحارثة بن بدر الغدانىّ (¬1). إذا الهمّ أمسى وهو داء فأمضه … ولست بممضيه وأنت تعادله ولا تنزلن أمر الشّديدة بامرئ … إذا همّ أمرا عوّقته عواذله (¬2) ¬

_ (¬1) هو حارثة بن بدر بن حصين بن قطن بن غدانة؛ من بنى يربوع. كان من فرسان بنى تميم ووجوهها وسادتها، ولم يكن معدودا فى فحول الشعراء، ولكنه كان يعارض نظراءه فى الشعر. (وانظر أخباره وأشعاره فى الأغانى 21: 13 - 31). (¬2) حواشى الأصل، ت، ف: «سوفته عواذله».

فما كلّ ما حاولته الموت دونه، … ولا دونه أرصاده وحبائله وما الفتك ما آمرت فيه ولا الّذي … تحدّث من لاقيت أنّك فاعله (¬1) وما الفتك إلّا لامرئ ذى حفيظة … إذا صال لم ترعد إليه خصائله (¬2) ولا تجعلن سرّا إلى غير أهله … فتقعد إن أفشى عليك تجادله ولا تسأل المال البخيل ترى له … غنى بعد ضرّ أورثته أوائله (¬3) أرى المال أفياء الظّلال فتارة … يئوب، وأخرى يختل المال خاتله معنى «آمرت» شاورت. والخصائل: كل لحم مجتمع. وقد روينا فى هذه الأبيات زيادة على القدر الّذي ذكرناه: أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدثنى الحسن بن عليّ قال حدثنا محمد بن العباس قال حدّثني الفضل بن محمد عن أبى المنهال المهلّبىّ قال: من الأبيات السائرة قول حارثة ابن بدر الغدانىّ: لعمرك ما أبقى لى الدّهر من أخ … حفىّ ولا ذى خلّة لى أواصله (¬4) / ولا من خليل ليس فيه غوائل … فشرّ الأخلّاء الكثير غوائله وقل لفؤاد إن نزا بك نزوة … من الرّوع أفرخ، أكثر الرّوع باطله (¬5) معنى «أفرخ» أى اسكن، يقال: أفرخ روعه إذا سكن. وما كلّ ما حاولته، الموت دونه … ... ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «ولا الفتك». وآمرت: شاورت. (¬2) من نسخة بحاشية الأصل: «لم ترعد إليه» وفيها: «الخصائل: جمع خصلة، وهى كل لحم مجتمع، مثل الساقين والفخذين». (¬3) حواشى الأصل، ت، ف: «يجوز أن يكون ضمير المال أو البخل». (¬4) الحفىّ: الّذي يكرم خليله ويبالغ فى إكرامه، مع إظهار المسرة والفرح. (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «إنما نكر الفؤاد على اعتبار أن له فؤادين، أحدهما يشجعه والآخر يجبنه، فقال: لا تطع المجبن؛ وإنما جعل لنفسه فؤادين ينقسمان للخوف والأمن، لكيلا يكون فى حال من الأحوال جبانا مطلقا، بل يكون مترنحا بينهما». وفى حاشية ت (من نسخة): «للفؤاد».

وذكر البيتين اللذين بعده، وزاد: وكن أنت ترعى سرّ نفسك واعلمن … بأنّ أقلّ النّاس للنّاس حامله (¬1) إذا ما قتلت الشّيء علما فبح به (¬2) … ولا تقل الشّيء الّذي أنت جاهله ومما يستحسن لحارثة بن بدر قوله: لنا نبعة كانت تقينا فروعها … وقد بلغت إلّا قليلا عروقها (¬3) وإنّا لتستحلى المنايا نفوسنا … ونترك أخرى مرّة لا تذوقها (¬4) وشيّب رأسى قبل حين مشيبه … رعود المنايا بيننا وبروقها قوله: * لنا نبعة كانت تقينا فروعها* مثل ضربه، وإنما أراد عشيرته وأهل بيته. وقد روى هذه الأبيات عليّ بن سليمان الأخفش عن أبى العباس ثعلب، وزاد فيها: رأيت المنايا باديات وعوّدا … إلى دارنا سهلا إلينا طريقها وقد قسمت نفسى فريقين منهما: … فريق مع الموتى، وعندى فريقها وبينا نرجّى النّفس ما هو نازح … من الأمر لاقت دونها ما يعوقها وروى أبو العيناء قال: أنشد الشعبىّ عبد الله بن جعفر الأبيات الثلاثة الأول، ¬

_ (¬1) د: «للسر»، وفى حاشية ت: «نسخة الشجرى: «أقل الناس للسر حامله»، كأنه أقلهم لحمله. (¬2) قلت الشيء علما، أى علمته علما تاما، ومن نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «فقل به. (¬3) النبع: شجر ينبت فى قلة الجبل، تتخذ منه العسى. (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «مرة لا نذوقها»، وفى حاشية ف: مثله «قول السموأل ابن عاديا اليهودى: يقرّب حبّ الموت آجالنا … وتكرهه آجالهم فتطول أى حبنا الموت؛ ويجوز أن يكون أضاف الحبّ من قوله: «حبّ الموت» إلى الفاعل؛ فيكون المعنى: يقرب حب الموت لنا آجالنا؛ ويكون هذا كقول طرفة: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى … عقيلة مال الفاحش المتشدّد.

طرف من أخبار حارثة بن بدر وبعض نوادره

فقال عبد الله: لمن هذا يا شعبىّ؟ فقال: لحارثة بن بدر، فقال: نحن أحقّ بهذا، ثم أمر للشّعبىّ بأربعمائة دينار. [طرف من أخبار حارثة بن بدر وبعض نوادره: ] ومن مستحسن قول حارثة: ولقد وليت إمارة فرجعتها … فى المال سالمة ولم أتموّل (¬1) ولقد منعت النّصح من متقبّل … ولقد رفدت النّصح من لم يقبل / فبأىّ لمسة لامس لم ألتمس … وبأىّ حيلة حائل لم أحتل (¬2) يا طالب الحاجات يرجو نجحها … ليس النجاح مع الأخفّ الأعجل فاصدق إذا حدّثت تكتب صادقا … وإذا حلفت مماريا فتحلّل (¬3) - معنى «تكتب صادقا»، أى تكون عند الله صادقا. وقوله: «فتحلّل» أى استثن- وإذا رأيت الباهشين إلى العلى … غبرا أكفّهم بريث فاعجل - معنى الباهشين: المادّين أيديهم إلى الشيء المهتشّين (¬4) له- واحذر مكان السّوء لا تحلل به (¬5) … وإذا نبا بك منزل فتحوّل وإذا ابن عمّك لجّ بعض لجاجة … فانظر به عدة ولا تستعجل وإذا افتقرت فلا تكن متخشّعا … ترجو الفواضل عند غير المفضل واستغن ما أغناك ربّك بالغنى … وإذا تكون خصاصة فتجمّل وأخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدّثنا محمد بن أبى الأزهر قال حدثنا محمد بن يزيد ¬

_ (¬1) عجز البيت الخامس والبيت 6، 7، 8، 9، 10 نسبت إلى عبد قيس بن خفاف البرجمى فى قصيدة مفضلية. 75 - 753 مطلعها: أجبيل إنّ أباك كارب يومه … فإذا دعيت إلى العظائم فاعجل. (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل ف: «ختلة خاتل لم أختل». (¬3) مماريا: مجادلا. (¬4) ف، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «المشتهين». (¬5) حاشية ت (من نسخة): «لا تنزل به».

النحوىّ قال: كان (¬1) حارثة بن بدر الغدانىّ رجل تميم فى وقته، وكان قد غلب على زياد، وكان الشراب قد غلب عليه، فقيل لزياد: إن هذا قد غلب عليك، وهو مستهتر (¬2) بالشراب؛ فقال زياد: كيف باطّراح رجل هو يسايرنى مذ دخلت العراق، لم يصكك ركابى ركاباه (¬3)، ولا تقدمنى فنظرت إلى قفاه، ولا تأخّر عنى فلويت عنقى إليه، ولا أخذ عليّ الشمس فى شتاء قط، ولا الرّوح (¬4) فى صيف قطّ، ولا سألته عن علم إلا ظننته لا يحسن غيره! فلما مات زياد جفاه ابنه عبيد الله، فقال له حارثة: أيها الأمير، ما هذا الجفاء مع معرفتك بالحال عند أبى المغيرة (¬5)! فقال له عبيد الله: إن أبا المغيرة قد كان برع بروعا لا يلحقه معه عيب، وأنا حدث، وإنما أنسب إلى من يغلب عليّ، وأنت رجل تديم الشّراب، فمتى قرّبتك وظهرت منك رائحة الشراب لم آمن أن يظنّ بى، فدع الشراب، وكن أول داخل عليّ، وآخر خارج، فقال له حارثة: أنا لا أدعه لمن يملك ضرّى ونفعى، أفدعه للحال عندك! قال: فاختر من عملى ما شئت. قال: تولينى/ رامهرمز (¬6)، فإنها أرض عذاة (¬7)، وسرّق (¬8)؛ فإن بها شرابا وصف لى. فولّاه إياها، فلما شيّعه الناس قال أنس بن أبى أنيس (¬9) - وقيل: ابن أبى إياس الدّيلىّ: أحار بن بدر قد وليت إمارة … فكن جرذا فيها تخون وتسرق (¬10) ولا تحقرن يا حار شيئا وجدته … فحظّك من ملك العراقين سرّق ¬

_ (¬1) الخبر فى الكامل- بشرح المرصفى 3 - 191 - 192. (¬2) مستهتر بالشراب: مولع به؛ من استهتر بكذا، مبنيا لما لم يسم فاعله: أولع به لا يفعل غيره، ولا يتحدث إلا به. (¬3) من نسخة بحاشيتى ف، ت: «يصطك ركابى ركابه». (¬4) الروح: برد النسيم. (¬5) أبو المغيرة: كنية زياد. (¬6) رامهرمز: مدينة مشهورة بنواحى خوزستان من بلاد الفرس. (¬7) الأرض العذاة: الطيبة التربة، البعيدة من الأنهار والنجود والسباخ. (¬8) سرق: إحدى كور الأهواز. (¬9) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «ابن أبى أنس». وفى الشعر والشعراء: 714: «أنس بن أبى أناس»، من كنانة، من الدؤل، رهط أبى الأسود الدئلىّ. (¬10) الأبيات فى الشعر والشعراء: 715.

وباه تميما بالغنى إنّ للغنى … لسانا به العىّ الهيوبة ينطق (¬1) فإنّ جميع النّاس؛ إمّا مكذّب … يقول بما يهوى، وإما مصدّق (¬2) يقولون أقوالا ولا يعلمونها … فإن قيل هاتوا حقّقوا لم يحقّقوا وهذه الأبيات تروى لأبى الأسود الدّؤليّ، وأنه كتب بها إلى حارثة لما ردّت إليه سرّق، ويزاد فيها: وكن حازما فى اليوم إنّ الّذي به … يجئ غد يوم على الناس مطبق (¬3) ولا تعجزن فالعجز أوطأ مركب … وما كلّ من يدعو إلى الخير يرزق إذا ما دعاك القوم عدوّك آكلا … وكل حار أوجع؛ لست ممّن يحمّق ويقال إن حارثة بن بدر أجاب عن هذه الأبيات بقوله: جزاك إله الناس خير جزائه … فقد قلت معروفا وأوصيت كافيا أشرت بأمر لو أشرت بغيره … لألفيتنى فيه لرأيك عاصيا (¬4) ويقال إن حارثة بن بدر والأحنف بن قيس دخلا على ابن زياد، فقال لحارثة: أىّ الشراب أطيب؟ وكان يتّهم (¬5)، فقال: برّة طاسارية، وأقطة غنويّة، وسمنة عنبريّة، وسكّرة سوسية، ونطفة مسرقانيّة (¬6). فقال للأحنف: يا أبا بحر، ما أطيب الشراب؟ قال: ¬

_ (¬1) الهيوية: الّذي يهاب الناس؛ والهاء فيه لتأكيد المبالغة. (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «تهوى». (¬3) حاشية الأصل: «يقال غمام مطبق؛ أى ذو طبق؛ وقد أطبقت السماء». (¬4) البيتان فى الأغانى 21: 23، وبعدهما: ستلقى أخا يصفيك بالودّ حاضرا … ويوليك حفظ الغيب إن كنت نائيا. (¬5) ت، ومن نسخة بحاشية الأصل: «وكان بينهم». (¬6) حواشى الأصل، ت، ف: «ذكره يزيد بن مفرغ الحميرىّ: سقى هزم الأوساط منبجس العرا … منازلها من مسرقان فسرّقا - هزم الأسواط؛ أى مجلجل بالرعد، وهزيم الرعد: صوته، وأوساطه؛ أى أوساط السحاب».

الخمر، قال: وما يدريك ولست من أهلها؟ قال: رأيت فيها خصلتين عرفت أنها أطيب الشراب بهما، قال: وما هما؟ قال: رأيت من أحلّت له لا يتعدّاها إلى غيرها، ومن حرّمت عليه يتناولها، فعرفت أنها أطيب الشراب. ولحارثة بن بدر يخاطب عبيد الله بن زياد لما تغيّر عليه بعد اختصاصه كان بأبيه (¬1): / أهان وأقصى ثمّ تنتصحوننى … وأىّ امرئ يعطى نصيحته قسرا! رأيت الأكفّ المصلتين عليكم … ملاء، وكفّى من عطاياكم صفرا وإنى مع السّاعى إليكم بسيفه … إذا أحدث الأيّام فى عظمكم كسرا متى تسألونى ما عليّ وتمنعوا ال … لذى لى لا أسطع على ذلكم صبرا وقال يعاتبه: وكم من أمير قد تجبّر بعد ما … مريت له الدّنيا بسيفى فدرّت إذا زبنته عن فواق أتت به … دعانى ولا ادعى إذا ما أقرّت إذا ما هى احلولت محا حقّ مقسمى … ويقسم لى منها إذا ما أمرّت زبنته: أى دفعته عن أن يحلبها. والفواق: اجتماع اللّبن فى الضّرع بين الحلبتين. ومعنى أقرت: تركته يحلبها. ويشبه أبيات حارثة هذه قول عبد الله بن الزّبير الأسدىّ يعاتب معاوية ومروان وأهل بيته؛ من جملة قصيدة، وهى أبيات قوية جدّا: عطاؤكم للضّاربين رقابكم … وندعى إذا ما كان حزّ الكراكر (¬2) أنحن أخوكم فى المضيق وسهمنا … إذا ما قسمتم فى الحظاء الأصاغر - الحظاء: سهام صغار- ¬

_ (¬1) الخبر مبسوط فى (الأغانى 21: 15)، والأبيات فيه منسوبة إلى أنس بن زنيم الليثيّ. (¬2) الكراكر: جمع كركرة؛ وهى صدر البعير. وفى حاشية الأصل: «مثله: وإذا تكون كريهة ادعى لها … وإذا يحاس الحيس يدعى جندب.

وثديكم الأدنى إذا ما سألتم … ونلقى بثدى حين نسأل باسر (¬1) وإن كان فينا الذّنب فى الناس مثله … أخذنا به من قبل ناه وآمر (¬2) - معنى «من قبل ناه وآمر»، أى من قبل أن ننهى عنه أو نؤمر به، أى باجتنابه- وإن جاءكم منّا غريب بأرضكم … لويتم له يوما جنوب المناخر فهل يفعل الأعداء إلّا كفعلكم … هوان السّراة وابتغاء العواثر (¬3) وغيّر نفسى عنكم ما فعلتم … وذكر هوان منكم متظاهر جفاؤكم من عالج الحرب عنكم … وأعداؤكم من بين جاب وعاشر (¬4) فلا تسألونى عن هواى وودّكم … وقل فى فؤاد قد توجّه نافر (¬5) ولحارثة يرثى زيادا: لهفى عليك للهفة من خائف … يبغى جوارك حين ليس مجير أمّا القبور فإنّهنّ أوانس … بجوار قبرك والدّيار قبور عمّت فواضله فعمّ مصابه … فالنّاس فيه كلّهم مأجور ردّت صنائعه إليه حياته … فكأنّه من نشرها منشور قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوّه: وأظن أبا تمام الطائىّ نظر إلى قول حارثة ابن بدر «ردت صنائعه إليه حياته» فى قوله: ألم تمت يا شقيق النّفس مذ زمن؟ … فقال لى: لم يمت من لم يمت كرمه (¬6) وأخبرنا عليّ بن محمد الكاتب قال: أخبرنا ابن دريد قال: أخبرنا عبد الرحمن- يعنى ابن أخى الأصمعىّ عن عمه قال: مرّ حارثة بن بدر الغدانىّ، ومعه كعب مولاه، فجعل لا يمرّ ¬

_ (¬1) باسر: قليل اللبن. (¬2) حاشية ت: «أى إن أذنبنا الذنب الّذي يذنب الناس مثله أخذنا به من قبل أن ننهى عنه أو نؤمر بالانكفاف عنه». (¬3) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «هوان» بضم النون. (¬4) الجابى: الّذي يأخذ الجباية، والعاشر الّذي يأخذ العشر. (¬5) حاشية الأصل: «أى توجه إلى غيركم ونفر عنكم». وفى ت وحاشية الأصل (من نسخة): «قد توجد». (¬6) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «يا شقيق الجود».

بمجلس من مجالس تميم إلّا قالوا: مرحبا بسيدنا. فقال كعب: ما سمعت كلاما قطّ هو أقرّ لعينى، وألذّ فى سمعى مما سمعته اليوم! فقال حارثة: ولكنّى ما سمعت كلاما قطّ هو أكره إلى منه، ثم قال: ذهب الرّجال فسدت غير مدافع … ومن الشّقاء تفرّدى بالسّؤدد (¬1) وهذا البيت يقال إنه لحارثة، لا أنه تمثّل به. وأخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدثنى عبد الله بن جعفر قال حدثنا محمد بن يزيد قال قال الكنانىّ: مرّ حارثة بن بدر بالأحنف بن قيس فقال: لولا أنّك مستعجل لشاورتك، قال له: أجل، كانوا يكرهون أن يشاور الجائع حتى يشبع، والظمآن حتى ينقع، والمضلّ (¬2) حتى يجد، والغضبان حتى يرضى، والمحزون حتى يفيق. ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «غير مسود». (¬2) المضل: الّذي ذهب بعيره.

29

29 مجلس آخر [المجلس التاسع والعشرون: ] تأويل آية [: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ... ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا/ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ؛ [البقرة: 202]. فقال: أىّ تمدّح فى سرعة الحساب، وليس بظاهر وجه المدحة فيه؟ . الجواب، قلنا فى ذلك وجوه: أولها أن يكون المعنى أنّه سريع المجازاة (¬1) للعباد على أعمالهم، وأنّ وقت الجزاء قريب وإن تأخر، ويجرى مجرى قوله تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ؛ [النحل: 77]. وإنما جاز أن يعبّر عن المجازاة أو الجزاء بالحساب؛ لأنّ ما يجازى به العبد هو كفء لفعله ولمقداره، فهو حساب له إذا كان مماثلا مكافئا. وممّا يشهد بأنّ فى الحساب معنى الكفاية والمكافأة قوله تعالى: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً؛ [النبأ: 36]، أى عطاء كافيا، ويقال: أحسبنى الطعام يحسبنى إحسابا إذا كفانى، قال الشاعر: وإذ لا ترى فى النّاس حسنا يفوتها … وفى النّاس حسن لو تأمّلت محسب (¬2) معناه كاف. ¬

_ (¬1) ت: «الحساب». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «يصف امرأة بالحسن ويبالغ فى وصفها؛ يقول: ما رأينا حسنا فات هذه المرأة وتعداها مع أن ما فى الناس كفاية حسن».

وثانيها أن يكون المراد أنّه عزّ وجل يحاسب الخلق جميعا فى أوقات يسيرة، ويقال: إنّ مقدار ذلك مقدار حلب شاة؛ لأنه تعالى لا يشغله محاسبة بعضهم عن محاسبة غيره (¬1)؛ بل يكلّمهم جميعا ويحاسبهم كلّهم على أعمالهم فى وقت واحد؛ وهذا أحد ما يدلّ على أنّه تعالى ليس بجسم، وأنّه لا يحتاج فى فعل الكلام إلى آلة؛ لأنه لو كان بهذه الصفات- تعالى عنها- لما جاز أن يخاطب اثنين فى وقت واحد بمخاطبتين مختلفتين؛ ولكان خطاب بعض الناس يشغله عن خطاب غيره، ولكانت مدة محاسبته للخلق على أعمالهم طويلة غير قصيرة؛ كما أنّ جميع ذلك واجب فى المحدثين الذين يفتقرون فى الكلام إلى الآلات. وثالثها ما ذكره بعضهم من أنّ المراد بالآية أنه سريع العلم بكل محسوب، وأنّه لما كانت عادة بنى الدنيا أن يستعملوا الحساب والإحصاء فى أكثر أمورهم؛ أعلمهم الله تعالى أنّه يعلم ما يحسبون بغير حساب؛ وإنما سمّى العلم حسابا لأنّ الحساب إنما يراد به العلم؛ وهذا جواب ضعيف؛ لأن العلم بالحساب أو المحسوب لا يسمّى حسابا، ولو سمّى بذلك لما جاز أيضا أن يقال إنه سريع العلم بكذا؛ لأنّ علمه بالأشياء مما لا يتجدّد فيوصف بالسرعة. ورابعها أنّ الله تعالى سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم؛ وذلك أنّه يسأل فى وقت واحد سؤالات مختلفة/ من أمور الدنيا والآخرة، فيجزى كلّ عبد بمقدار استحقاقه ومصلحته، فيوصل إليه عند دعائه ومسألته ما يستوجبه بحد ومقدار؛ فلو كان الأمر على ما يتعارفه الناس لطال العدد واتصل الحساب، فأعلمنا تعالى أنّه سريع الحساب، أى سريع القبول للدعاء بغير إحساس وبحث عن المقدار الّذي يستحقّه الداعى؛ كما يبحث المخلوقون للحساب والإحصاء؛ وهذا الجواب مبنىّ أيضا على دعوى أنّ قبول الدعاء لا يسمّى حسابا فى لغة ولا عرف ولا شرع. وقد كان يجب على من أجاب بهذا الجواب أن يستشهد على ذلك بما يكون حجة فيه، وإلّا فلا طائل فيما ذكره. ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «بعض».

ويمكن فى الآية وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالحساب محاسبة الخلق على أعمالهم يوم القيامة وموافقتهم عليها، وتكون الفائدة فى الإخبار بسرعته الإخبار عن قرب الساعة؛ كما قال تعالى: سَرِيعُ الْعِقابِ. وليس لأحد أن يقول: فهذا هو الجواب الأول الّذي حكيتموه؛ وذلك أن بينهما فرقا؛ لأن الأول مبنىّ على أن الحساب فى الآية هو الجزاء والمكافأة على الأعمال، وفى هذا الجواب لم يخرج الحساب عن بابه وعن معنى المحاسبة، والمقابلة بالأعمال وترجيحها، وذلك غير الجزاء الّذي يفضى الحساب إليه. وقد طعن بعضهم فى الجواب الثانى معترضا على أبى عليّ الجبّائىّ فى اعتماده إياه [بأن قال] (¬1): مخرج الكلام فى الآية على وجه الوعيد، وليس فى خفّة الحساب وسرعة زمانه ما يقتضي زجرا، ولا هو مما يتوعد بمثله؛ فيجب أن يكون المراد الإخبار عن قرب أمر الآخرة والمجازاة على الأعمال. وهذا الجواب ليس أبو عليّ هو المبتدئ به، بل قد حكى عن الحسن البصرىّ، واعتمده أيضا قطرب بن المستنير النحوىّ: وذكره المفضّل بن سلمة، وليس الطّعن الّذي حكيناه عن هذا الطاعن بمبطل له، لأنه اعتمد على أنّ مخرج الآية مخرج الوعيد، وليس كذلك، لأنه تعالى قال: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ. أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ؛ [البقرة: 200 - 202]، فالأشبه بالظاهر أن يكون الكلام وعدا بالثواب، وراجعا إلى الذين يقولون: رَبَّنا آتِنا/ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ، أو يكون راجعا إلى الجميع، فيكون المعنى: إن للجميع نصيبا مما كسبوا؛ فلا يكون وعيدا خالصا؛ بل إما أن يكون وعدا خالصا أو وعدا ووعيدا، على أنه لو كان وعيدا خالصا على ما ذكر الطاعن لكان لقوله تعالى: وَاللَّهُ ¬

_ (¬1) ت: «فقال».

تأويل آية أخرى: والله يرزق من يشاء بغير حساب

سَرِيعُ الْحِسابِ، على تأويل من أراد قصر الزمان، وسرعة الموافقة وجه وتعلّق بالوعد والوعيد؛ لأن الكلام على كل حال متضمّن لوقوع المحاسبة على أعمال العباد، والإحاطة بخيرها وشرّها؛ وإن وصف الحساب مع ذلك بالسرعة؛ وفى هذا ترغيب وترهيب لا محالة، لأن من علم أنه يحاسب بأعماله، ويواقف (¬1) على جميلها وقبيحها انزجر عن القبيح ورغب فى فعل الواجب. فبهذا ينصر الجواب، وإن كنا لا ندفع أن فى حمل الحساب على قرب المجازاة، أو قرب المحاسبة على الأعمال ترغيبا فى الطاعات وزجرا عن المقبّحات؛ فالتأويل الأول أشبه بالظاهر ونسق الآية، إلا أن التأويل الآخر غير مدفوع أيضا ولا مرذول (¬2). تأويل آية أخرى [: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ؛ [البقرة: 212]. فقال: أىّ تمدّح فى الإعطاء بغير حساب، وقد يكون المعطى بحساب أجزل عطية من المعطى بغير حساب؟ . الجواب، قلنا فى هذه الآية وجوه: أولها أن تكون الفائدة أنه تعالى يرزق من يشاء بغير تقدير من المرزوق ولا احتساب منه، فالحساب هاهنا راجع إلى المرزوق لا إليه تعالى؛ كما يقول القائل: ما كان كذا وكذا فى حسابى، أى لم أؤمله، ولم أقدّر أنه يكون؛ وهذا وصف للرزق بأحسن الأوصاف؛ لأن الرزق إذا لم يكن محتسبا كان أهنأ له وأحلى؛ وقد روى عن ابن عباس رضى الله عنه فى تفسير هذه الآية أنه قال: عنى بها أموال بنى قريظة والنّضير، وأنّها تصير إليكم بغير حساب ولا قتال، على أسهل الأمور وأقربها وأيسرها. ¬

_ (¬1) ط: «ويوقف». (¬2) د: «مردود».

وثانيها أن الله تعالى يرزق من يشاء رزقا غير مضيّق ولا مقتّر؛ بل يزيد فى السّعة والكثرة على كل عطاء المخلوقين (¬1)، فيكون نفى الحساب فيه نفيا (¬2) للتّضييق، ومبالغة فى وصفه بالسّعة، والعرب تسمّى العطاء القليل/ محسوبا، قال قيس بن الخطيم: أنّى سربت وكنت غير سروب! … وتقرّب الأحلام غير قريب (¬3) ما تمنعى يقظى فقد تؤتينه … فى النّوم غير مصرّد محسوب (¬4) وثالثها أن يكون المعنى أنه يرزق من يشاء، أى من غير طلب للمكافأة أو إراغة لفائدة تعود إليه، أو منفعة ترجع عليه، لأنّ من شأن أهل الدنيا أن يعطوا ليكافئوا ولينتفعوا، ولهذا يقال فيمن يقصد بالعطية إلى هذه الأمور: فلان يحاسب الناس فيما يعطيهم، ويناقشهم فيما يوصّله إليهم، وما أشبه ذلك، فلما انتفت هذه الأمور من عطاياه سبحانه جاز أن يقول إنه يرزق بغير حساب. ورابعها ما أجاب به قطرب، قال: معنى الآية يعطى العدد الكثير لا ممّا (¬5) يضبطه الحساب، أو يأتى (¬6) عليه العدد، لأن مقدوره تعالى لا يتناهى، وما فى خزائنه لا ينحصر، ولا يصحّ عليه النفاد؛ وليس كالمعطى منّا الألف من الألفين، والعشرة من المائة؛ لأن مقدار ما يتّبع له ويتمكّن منه محدود متناه، ولا تناهى ولا انقطاع لما يقدّر سبحانه عليه. وخامسها أنه يعطى عباده فى الجنة من النعيم واللذات أكثر مما استحقوا، وأزيد مما وجب لهم، بمحاسبته إياهم على طاعتهم كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً ¬

_ (¬1) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): «عطاء للمخلوقين». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة) «نقيضا». (¬3) ديوانه: 5، وأمالى العالى 2: 273، وحماسة ابن الشجرى: 189، واللآلئ: 524. وفى حاشية الأصل: «يخاطب خيال امرأة رآها فى المنام؛ يتعجب من سير خيالها إليه وكانت غير معتادة للسير، والسروب: السارى، وقيل: السرب سير النهار». وفى حاشية ت: «أنى سريت ... ». (¬4) المصرّد: المقطع؛ وفى حاشية ت: «وبعده: كان المنى بلقائها فلقيتها … فلهوت من لهو امرئ مكذوب. (¬5) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «مما لا يضبطه الحساب». (¬6) ت: «إذ يأتى عليه العدد».

حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً؛ [البقرة: 245] وكما قال عز وجل: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ؛ [التغابن: 17]، وكما قال تعالى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ؛ [فاطر: 30]. وسادسها أن يكون المعطى منّا غيره شيئا والرازق سواه رزقا قد يكون له ذلك، فيكون فعله حسنا لا يسأل عنه، ولا يؤاخذ به، ولا يحاسب عليه؛ وربما لم يكن له ذلك، فيكون فعله قبيحا يؤاخذ به، ويحاسب عليه، فنفى الله تعالى عن نفسه أن يفعل من الرزق القبيح، وما ليس له أن يفعله بنفى الحساب عنه، وأنبأ أنه لا يرزق ولا يعطى إلا على أفضل الوجوه وأحسنها وأبعدها من الذمّ؛ وتجرى الآية مجرى قوله تعالى: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ؛ [الأنبياء: 23]، وإنما أراد أنه تعالى من حيث وقعت أفعاله كلّها حسنة غير قبيحة لم يجز أن يسأل عنها/ وإن سئل العباد عن أفعالهم، لأنهم يفعلون الحسن والقبيح معا. وسابعها أنّ الله تعالى إذا رزق العبد وأعطاه من فضله كان الحساب عن العبد ساقطا من جهة الناس، فليس لأحد أن يقول له: لم رزقت؟ ولا يقول لربه: لم رزقته؟ ولا يسأله ربّه عن الرزق، وإنما يسأله عن إنفاقه فى الوجوه التى ينفقه فيها، فيسقط (¬1) الحساب من هذه الوجوه عمّا يرزقه الله تعالى، ولذلك قال تعالى: بِغَيْرِ حِسابٍ. وثامنها أن يكون المراد ب مَنْ يَشاءُ أن يرزقه من أهل الجنة، لأنه يرزقهم رزقا لا يصحّ أن يتناول جميعه الحساب، ولا العدد والإحصاء من حيث لا نهاية له ولا انقطاع للمستحقّ منه؛ ويطابق هذه الآية قوله تعالى فى موضع آخر: فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ؛ [غافر: 40]. ¬

_ (¬1) ت: «فسقط».

تأويل خبر"توضئوا مما غيرت النار"

تأويل خبر [«توضّئوا ممّا غيّرت النار»] إن سأل سائل عن الخبر الّذي يروى عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «توضّئوا ممّا غيّرت النار»، فقال: ما المراد بالوضوء هاهنا ومذهبكم أن مسّ ما غيّرته النار لا يوجب وضوءا؟ الجواب، إن معنى «توضئوا» أى نظّفوا أيديكم من الزّهومة، لأنه روى أنّ جماعة من الأعراب كانوا لا يغسلون أيديهم من الزّهومة ويقولون: فقدها أشدّ علينا من ريحها، فأمر عليه السلام بتنظيف الأيدى لذلك (¬1). فإن قيل: كيف يصحّ أن تحملوا الخبر على اللفظ اللغوىّ، مع انتقاله بالعرف الشرعىّ إلى الأفعال المخصوصة، بدلالة أنّ من غسل يده أو وجهه لا يقول بالإطلاق: «توضأت»، ومتى سلم لكم أن الوضوء أصله من النظافة لم ينفعكم مع الانتقال الّذي ذكرناه، وكلامه عليه السلام أخصّ بالعرف الشرعىّ، وحمله عليه أولى من حمله على اللغة. قلنا: ليس ينكر (¬2) أن يكون إطلاق الوضوء هو المنتقل من اللغة إلى عرف الشرع، والمختصّ بالأفعال المعيّنة، وكذلك المضاف منه إلى الحدث أو الصلاة وما أشبههما (¬3). فأما المضاف إلى الطعام وما جرى مجراه فباق على أصله؛ ألا ترى أنّهم لو قالوا: توضأت من الطعام، ومن الغمر (¬4)، أو توضأت للطعام لم يفهم منه إلّا الغسل والتنظيف، وإذا قالوا: توضأت إطلاقا، أو توضأت من الحدث أو للصلاة فهم منه/ الأفعال الشرعية؛ فليس ينكر ما ذكرناه من اختصاص النّقل، لأنه كما يجوز انتقال اللفظة من فائدة فى اللغة إلى فائدة فى الشرع على كلّ وجه، كذلك يجوز أن تنتقل على وجه دون وجه، وتبقى من الوجه الّذي لم تنتقل منه على ما كان عليه فى اللغة. وقد ذهب كثير من الناس إلى أنّ إطلاق لفظة «مؤمن» منتقل من اللغة إلى عرف ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «عن ذلك». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «ليس ننكر». (¬3) فى حاشيتى ت (من نسخة): «وما أشبهها». (¬4) الغمر، بالتحريك: زنخ اللحم.

الدين ومختصّ باستحقاق الثواب، وإن كان مقيّدها باقيا على ما كان عليه فى اللغة. ويبيّن ذلك أيضا ما روى عن الحسن أنه قال: «الوضوء قبل الطعام ينفى الفقر، وبعده ينفى اللّمم»؛ وإنما أراد غسل اليدين بغير شك. وروى عن قتادة أنه قال: «غسل اليد وضوء» وروى عكراش (¬1) أن رسول الله صلى الله عليه وآله أكل [وغسل يده ومسح ببلل يده وجهه] (¬2) وذراعيه ورأسه (¬3)، وقال: «هكذا الوضوء ممّا مست النار»، على أنه لو كانت هذه اللفظة منتقلة على كلّ حال إلى الأفعال الشرعية المخصوصة لصحّ أن نحمله (¬4) فى الخبر على خلاف ذلك، ونردّها إلى أصلها بالأدلّة، وإن كان الأولى لولا الأدلة أن تحمل على مقتضى الشرع (¬5). فمن الأدلة على ما ذكرناه ما رواه ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله أكل كتف شاة، وقام فصلّى ولم يتوضأ. وروى عطاء عن أمّ سلمة قالت: قرّبت جنبا مشويا إلى النبي صلى الله عليه وآله، فأكل منه، وصلّى ولم يتوضأ. وروى محمد بن المنكدر عن جابر أنه قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وآله ترك الوضوء ممّا مسّت النار (¬6). وكلّ هذه الأخبار توجب العدول عن ظاهر الخبر الأول لو كان له ظاهر، فكيف وقد بيّنا أنّه لا ظاهر له! فأما اشتقاق الوضوء فهو من الوضاءة التى هى الحسن، فلما كان من غسل يده ونظفها قد حسّنها قيل وضّأها؛ ويقال: فلان وضيء الوجه وقوم وضاء، قال الشاعر: ¬

_ (¬1) هو عكراش بن ذؤيب بن حرقوس، وفى ت، ف: «عكرمة عن أنس». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «وغسل يديه، ومسح ببلل يديه». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «وببلل ذراعيه رأسه». (¬4) ت، د، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «نحملها». (¬5) حواشى الأصل، ت، ف: «إنما نحمل اللفظة على العرف الشرعى فيما يتعلق بالأحكام الشرعية فحسب». (¬6) فى حاشيتى الأصل، ف: «كان فى الأول يتوضأ مما مسته النار ثم ترك».

بعض أخبار عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وطائفة من شعره

مساميح الفعال ذوو أناة … مراجيح وأوجههم وضاء (¬1) والوضوء، بضم الواو: المصدر، وكذلك أيضا التّوضؤ والوضوء، بفتح الواو: اسم ما يتوضأ به، وكذلك/ الوقود اسم لما توقد به النار: والوقود، بالضم: المصدر، ومثله التوقّد، وقد يجوز أن يكون الوقود، بفتح الواو: المصدر، وكذلك الوضوء بفتح الواو؛ كما قالوا: حسن القبول، فجعلوا القبول مصدرا، وهو مفتوح الأول، ولا يجوز فى الوقود والوضوء بالضم إلا معنى المصدر وحده، قال جرير. أهوى أراك برامتين وقودا … أم بالجنينة من مدافع أودا (¬2) وقال آخر: إذا سهيل لاح كالوقود … فردا كشاة البقر المطرود وقال آخر: وأجّجنا بكلّ يفاع أرض … وقود النّار للمتنوّرينا (¬3) *** [بعض أخبار عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وطائفة من شعره: ] أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدّثني محمد بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن يحيى قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنى إبراهيم بن محمد عن عبد العزيز ابن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن ابن شهاب قال: أتيت عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود (¬4) يوما فى منزله، فإذا هو مغيظ (¬5) ينفخ، فقلت له: ما لي أراك هكذا! قال: دخل عليّ (¬6) عاملكم هذا- يعنى عمر بن عبد العزيز- ومعه عبد الله بن عمرو بن عثمان ¬

_ (¬1) حاشية ف: «السمح: الجواد والجمع سمحاء؛ ومساميح؛ كأنه جمع مسماح. والمراجيح: الحلماء». (¬2) ديوانه 169. ورامة والجنينة وأود: مواضع. والمدافع: جمع مدفع؛ وهو مسيل الماء إلى الوادى وفى حاشيتى الأصل، ف: «يقول: الّذي يريك وقود النار بهذه المواضع عشق هذا». (¬3) اليفاع: المرتفع من الأرض؛ والمتنور: من ينظر إلى النار من بعيد؛ قال امرؤ القيس: تنوّرتها من أذرعات وأهلها … بيثرب أدنى دارها نظر عال (¬4) أحد الفقهاء السبعة بالمدينة توفى سنة 98؛ وكان ضريرا؛ ذكره الصفدى فى نكت الهميان: 197 - 198، وانظر ترجمته وأشعاره فى الأغانى 8: 88 - 95. (¬5) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «متغيظ». (¬6) ت: «دخلت على عاملكم.

فسلّمت، فلم يردّا عليّ السلام، فقلت (¬1): ألا أبلغا عنّى عراك بن مالك … فإن أنت لم تفعل فأبلغ أبا بكر (¬2) فقد جعلت تبدو شواكل منكما … فإنّكما بى موقران من الصّخر (¬3) وطاوعتما بى غادرا ذا معاكة … لعمرى لقد أورى وما مثله يورى (¬4) - يقال: معك به وسدل به [إذا تعرّض له بشرّ] (¬5) - فلولا اتّقاء الله اتّقائى فيكما … للمتكما لوما أحرّ من الجمر (¬6) فمسّا تراب الأرض، منها خلقتما … وفيها المعاد والمقام إلى الحشر ولا تأنفا أن تغشيا فتكلّما … فما حشى الأقوام شرّا من الكبر (¬7) ولو شئت أدلى فيكما غير واحد … علانية أو قال عندى فى السّرّ (¬8) /- معناه: لو شئت اغتابكما عندى غير واحد- فإن أنا لم آمر ولم أنه عنكما … ضحكت له حتّى يلجّ ويستشرى (¬9) وكيف تريدان ابن سبعين حجّة … على ما أنى وهو ابن عشرين أو عشر (¬10) ¬

_ (¬1) الخبر بروايته عن ابن شهاب فى (الأغانى 8: 91 - 92)، وفيه رواية أخرى أيضا ص 91 عن ابن إدريس: «كان عراك بن مالك وأبو بكر بن حزم وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة يتجالسون بالمدينة زمانا؛ ثم إن ابن حزم ولى إمرتها، وولى عراك القضاء، وكانا يمران بعبيد الله فلا يسلمان عليه ولا يقفان- وكان ضريرا- فأخبر بذلك فأنشأ يقول ... »، وأورد الأبيات. (¬2) حاشية ت (من نسخة): «ألا أبلغن». (¬3) الشواكل: جمع شاكلة؛ وهى الخاصرة، وأراد بها هاهنا أمورا ينكرها. وبى؛ أى بمكانى. (¬4) فى حاشيتى الأصل، ف: «قوله: «وطاوعتمانى» فى حيز التشبيه؛ يقول: كأنكما موقران، وكأنكما إذ طاوعتمانى طاوعتما غادرا عريضا. ثم قال: لعمرى لقد أورى هذا الفعل منكما؛ أى فسد؛ من ورى جوفه؛ أو أوقد- يعنى شرا، أى أثر وكنت لا أتأثر بمثل ذلك». (¬5) ت: «إذا تعرض به لشر». (¬6) حاشية ف: «أى لولا اتقائى بتقى الله للمتكما؛ وهو مثل؛ ويجوز أن يكون قوله: «اتقائى» مفعولا له؛ أى للاتقاء. (¬7) ت، حاشية الأصل (من نسخة): «تكلما»، بكسر اللام المشددة وفى حاشية الأصل أيضا (من نسخة): «أن ترجعا فتسلما». (¬8) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «عندى فى سر». يقال: أدلى فلان فى فلان إذا قال فيه قولا قبيحا. (¬9) الضمير فى «له» يعود إلى المغتاب، واستشرى فى الأمر: لج فيه؛ أى يجترئ ويظهر؛ وأصل الكلمة الاستخراج. (¬10) يريد أن يقول: كيف تريد اثنى على ما امتنعت عنه وأنا صبى! .

لقد علقت دلوا كما دلو حوّل … من القوم لا رخو المراس ولا نزر (¬1) قال ابن شهاب: فقلت له: مثلك يرحمك الله مع نسكك وفضلك وفهمك (¬2) يقول الشعر! فقال: إن المصدور إذا نفث برئ. وإنما ذكر عراك بن مالك وأبا بكر بن عمرو بن حزم- وكانا صديقيه- كناية بذكرهما عن ذكر غيرهما. وقد جاءت رواية أخرى أن أبا بكر بن عمر (¬3) بن حزم وعراك بن مالك كانا يجتازان على عبيد الله فلا يسلّمان عليه، فقال الأبيات يخاطبهما بها. وروى محمد بن سلّام لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة: إذا كان لى سرّ فحدّثته العدى … وضاق به صدرى، فللنّاس أعذر (¬4) هو السّرّ ما استودعته وكتمته … وليس بسرّ حين يفشو ويظهر (¬5) وانشد مصعب الزبيرىّ لعبيد الله بن عتبة بن مسعود: أواخى رجالا لست مطلع بعضهم … على سرّ بعض إنّ صدرى واسعه إذا هى حلّت وسط عوذ ابن غالب … فذلك ودّ نازح لا أطالعه (¬6) تلاقت حيازيمي على قلب حازم … كتوم لما ضمّت عليه أضالعه (¬7) بنى لى عبد الله فى سورة العلى … وعتبة مجدا لا تنال مصانعه (¬8) والبيت الأول يشبه قول مسكين الدارمىّ: وفتيان صدق لست مطلع بعضهم … على سرّ بعض غير أنى جماعها (¬9) ¬

_ (¬1) حول: شديد الاحتيال؛ أى أنكما، وقعتما على من لا تطيقان دفعه عن أنفسكما. (¬2) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «وفقهك». (¬3) حاشية (من نسخة): «عمرو». (¬4) العدى بالكسر: الأجانب، وبالضم الأعداء. (¬5) حاشية ت (من نسخة): «وحفظته». (¬6) الضمير يعود على المودة، وعوذ: جمع عائذ، وهى الحديثة النتاج من الإبل وغيرها. (¬7) فى الأغانى: «شددت حيازيمى». والحيزوم: وسط الصدر. ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «ضمت»، بالبناء للمعلوم. (¬8) المصانع: الأبنية. (¬9) الحماسة- بشرح التبريزى 3: 126.

ومما يستحسن لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة قوله: تغلغل حبّ عثمة فى فؤادى … فباديه مع الخافى يسير (¬1) تغلغل حيث لم يبلغ شراب … ولا حزن ولم يبلغ سرور / شققت القلب ثمّ ذررت فيه … هواك فليم فالتأم الفطور (¬2) أكاد إذا ذكرت العهد منها … أطير لو أنّ إنسانا يطير غنىّ النّفس أن أزداد حبّا … ولكنّى إلى وصل فقير (¬3) وأخذ هذا المعنى أبو نواس فقال: أحللت فى قلبى هواك محلّة … ما حلّها المشروب والمأكول (¬4) وأخذه المتنبى فى قوله: وللسّرّ منى موضع لا يناله … نديم ولا يفضى إليه شراب (¬5) وكأنّ العباس بن الأحنف ألمّ به فى قوله: لو شقّ عن قلبى قرى وسطه … اسمك والتوحيد فى سطر وقال الصاحب اسماعيل بن عباد: لو شقّ قلبى لرأوا وسطه … سطر بن قد خطّا بلا كاتب العدل والتّوحيد فى جانب … وحبّ أهل البيت فى جانب وقول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أحسن من الجميع وبعده بيت المتنبى. ولعبيد الله بن عبد الله بن عتبة: لعمر أبى المحصين أيّام نلتقى … لما لا نلاقيها من الدّهر أكثر ¬

_ (¬1) الأبيات فى أمالى القالى 3: 217، وذكر صاحب الأغانى أن عثمة زوجه. (¬2) الفطور: الشقوق. (¬3) حاشية ت: «يعنى أنه يستغنى عن ازدياد حب إلى حبه، لأنه قد تناهى. وأن أزداد، يعنى: عن أن ازداد». (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «المأكول المشروب». (¬5) ديوانه: 192.

يعدّون يوما واحدا إن أتيتها … وينسون ما كانت على الدّهر تهجر فإن يكن الواشون أغروا بهجرنا (¬1) … فإنّا بتجديد المودّة أجدر ومن مستحسن قوله: لعمرى لئن شطّت بعثمة دارها … لقد كنت فى وشك الفراق أليح (¬2) أروح بهمّ ثمّ أغدو بمثله … ويحسب أنّى فى الثّياب صحيح أخذ هذا المعنى بشار، فقصّر عنه فى قوله: يصبح محزونا ويمسى به … وليس يدرى ماله عندك ¬

_ (¬1) م: «بهجرها». (¬2) ت، وحاشية الأصل من نسخة: «من وشك الفراق». وأليح: أشفق.

30

30 مجلس آخر [المجلس الثلاثون: ] تأويل آية [: قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ ... ] إن سأل سائل عن قوله تعالى حاكيا عن شعيب عليه السلام: قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا؛ [الأعراف: 89]. فقال: أليس هذا تصريحا منه بأنّ الله تعالى يجوز أن يشاء الكفر والقبيح؛ لأن ملّة/ قومه كانت كفرا وضلالا، وقد أخبر أنّه لا يعود فيها إلّا أن يشاء الله؟ الجواب، قيل له فى هذه الآية وجوه: أولها أن تكون الملّة التى عناها الله إنما هى العبادات الشرعيات؛ التى كان قوم شعيب متمسكين بها؛ وهى منسوخة عنهم، ولم يعن بها ما يرجع إلى الاعتقادات فى الله وصفاته؛ مما لا يجوز أن تختلف (¬1) العبادة فيه، والشرعيات يجوز فيها اختلاف العبادة؛ من حيث تبعت (¬2) المصالح والألطاف والمعلوم من أحوال المكلّفين؛ فكأنّه قال: إنّ ملتكم لا نعود فيها؛ مع علمنا بأنّ الله تعالى قد نسخها وأزال حكمها، إلّا أن يشاء الله أن يتعبّدنا بمثلها فنعود إليها؛ وتلك الأفعال التى كانوا متمسّكين بها؛ مع نسخها عنهم ونهيهم عنها- وإن كانت ضلالا وكفرا- فقد كان يجوز فيما هو مثلها أن يكون إيمانا وهدى؛ بل فيها أنفسها قد كان يجوز ذلك؛ وليس تجرى هذه الأفعال مجرى الجهل بالله تعالى، الّذي لا يجوز أن يكون إلّا قبيحا. وقد طعن بعضهم على هذا الجواب فقال: كيف يجوز أن يتعبّدهم الله تعالى بتلك الملّة مع قوله: قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها؟ ¬

_ (¬1) ت: «اختلاف العبادة. (¬2) حاشية ت (من نسخة): «تتبع».

فيقال له: لم ينف عودهم إليها على كل وجه؛ وإنما نفى العود إليها مع كونها منسوخة منهيّا عنها؛ والّذي علّقه بمشيئة الله تعالى من العود إليها هو بشرط أن يأمر بها، ويتعبّد بمثلها، والجواب مستقيم لا خلل فيه. وثانيها أنّه أراد أنّ ذلك لا يكون أبدا من حيث علّقه بمشيئة الله تعالى لمّا كان معلوما أنّه لا يشاؤه؛ وكلّ أمر علّق بما لا يكون فقد نفى كونه على أبعد الوجوه؛ وتجرى الآية مجرى قوله تعالى: لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ؛ [الأعراف: 40] وكما يقول القائل: أنا لا أفعل كذا حتى يبيضّ القار؛ أو يشيب الغراب؛ وكما قال الشاعر: وحتّى يئوب القارظان كلاهما … وينشر فى القتلى كليب لوائل (¬1) والقارظان لا يئوبان أبدا، وكليب لا ينشر أبدا؛ فكأنه قال: إنّ هذا لا يكون أبدا. وثالثها/ ما ذكره قطرب بن المستنير من أنّ فى الكلام تقديما وتأخيرا، وأنّ الاستثناء من الكفار وقع لا من شعيب؛ فكأنه تعالى قال حاكيا عن الكفار: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا؛ [الأعراف: 88]، إلّا أن يشاء الله أن تعود فى ملّتنا؛ ثم قال تعالى حاكيا عن شعيب: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها على كل حال. ورابعها أن تعود الهاء التى فى قوله: فِيها إلى القرية لا إلى الملّة؛ لأن ذكر القرية قد تقدّم كما تقدم ذكر الملّة؛ ويكون تلخيص الكلام: إنّا سنخرج من قريتكم، ولا نعود فيها إلّا أن يشاء الله بما ينجزه لنا من الوعد فى الإظهار عليكم، والظّفر بكم، فنعود إليها. وخامسها أن يكون المعنى: إلّا أن يشاء الله أن يردّكم إلى الحق، فنكون جميعا على ¬

_ (¬1) البيت لأبى ذؤيب الهذلىّ، ديوان الهذليين 1: 145. والقارظان هما رجلان من عنزة؛ خرجا ينتحيان القرظ ويجتنيانه، فلم يرجعا؛ فضرب بهما المثل؛ وانظر اللسان (قرظ)، وشرح ديوان الهذليين.

ملة واحدة غير مختلفة؛ لأنّه لما قال تعالى حاكيا عنهم: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا كان معناه: أو لنكوننّ على ملة واحدة غير مختلفة، فحسن أن يقول من بعد: إلّا أن يشاء الله أن يجمعكم معنا على ملة واحدة. فإن قيل: الاستثناء بالمشيئة إنما كان بعد قوله: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها؛ فكأنه قال: ليس نعود فيها إلّا أن يشاء الله، فكيف يصحّ هذا الجواب؟ قلنا: هو كذلك؛ إلّا أنه لمّا كان معنى أَنْ نَعُودَ فِيها، هو أن تصير ملتنا واحدة غير مختلفة جاز أن يوقع الاستثناء على المعنى فيقول: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أن نتّفق فى الملة بأن ترجعوا أنتم إلى الحق. فإن قيل: فكأنّ الله تعالى ما شاء أن يرجع الكفار إلى الحق! قلنا: بلى قد شاء ذلك، إلّا أنه ما شاءه على كل حال، بل من وجه دون وجه، وهو أن يؤمنوا ويصيروا إلى الحق مختارين؛ ليستحقّوا الثواب الّذي أجرى (¬1) بالتكليف إليه، ولو شاءه على كل حال لما جاز ألّا يقع منهم؛ فكأن شعيبا عليه السلام قال: إن ملّتنا لا تكون واحدة أبدا؛ إلا أن يشاء الله أن يلجئكم إلى الاجتماع معنا على ديننا وموافقتنا فى ملتنا؛ والفائدة فى ذلك واضحة؛ لأنه لو أطلق أنّا لا نتفق أبدا، ولا تصير ملتنا واحدة لتوهّم متوهّم أنّ ذلك مما لا يمكن على حال من الأحوال؛ فأفاد بتعليقه (¬2) له بالمشيئة هذا الوجه؛ ويجرى قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مجرى قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً؛ [يونس: 99]. وسادسها أن يكون المعنى: إلّا أن يشاء الله أن يمكّنكم من إكراهنا، / ويخلّى بينكم وبينه، فنعود إلى (¬3) إظهارها مكرهين؛ ويقوّى هذا الوجه قوله تعالى: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؛ [الأعراف: 88]. ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «الّذي أجرى» بالألف. (¬2) حاشية ت (من نسخة): «فأفاد تعليقه». (¬3) حاشية ت (من نسخة): «فنعود فى إظهارها».

تأويل خبر: "خير الصدقة ما أبقت غنى"

وسابعها أن يكون المعنى إلّا أن يشاء الله أن يتعبّدنا بإظهار ملّتكم مع الإكراه؛ لأنّ إظهار كلمة الكفر قد تحسن فى بعض الأحوال إذا تعبّد الله تعالى بإظهارها؛ وقوله: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ يقوّى هذا الوجه أيضا. فإن قيل: فكيف يجوز من نبىّ من أنبياء الله تعالى أن يتعبّد بإظهار الكفر وخلاف ما جاء به من الشّرع؟ قلنا: يجوز أن يكون لم يرد بالاستثناء نفسه بل قومه؛ فكأنه قال: وما يكون لى ولا لأمّتى أن نعود فيها إلّا أن يشاء الله أن يتعبّد أمتى بإظهار ملّتكم على سبيل الإكراه؛ وهذا جائز غير ممتنع. تأويل خبر [: «خير الصّدقة ما أبقت غنى»] روى أبو هريرة عن النبىّ صلى الله عليه وآله أنه قال: «خير الصّدقة ما أبقت غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول». وقد قيل فى قوله: «خير الصّدقة ما أبقت غنى»: قولان: أحدهما أنّ خير ما تصدّقت به ما فضل عن (¬1) قوت عيالك وكفايتهم، فإذا خرجت صدقتك عنك إلى من أعطيت خرجت عن استغناء منك ومن عيالك عنها؛ ومثله فى الحديث الآخر: «إنما الصّدقة عن ظهر غنى». وقال ابن عباس رحمة الله عليه فى قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ؛ [البقرة: 219]؛ قال: ما فضل عن أهلك. والجواب الآخر، أن يكون أراد: خير الصّدقة ما أغنيت به من أعطيت عن المسألة، أى تجزل له فى العطيّة، فيستغنى بها ويكفّ عن المسألة؛ وذلك مثل أن يريد الرجل أن يتصدق بمائة درهم، فيدفعها إلى رجل واحد محتاج، فيستغنى بها ويكفّ عن المسألة، فذلك أفضل من أن يدفعها إلى مائة رجل لا تبين عليهم. ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «ما فضل من قوت عيالك».

والتأويل الأوّل يشهد له آخر الخبر وهو قوله: «وابدأ بمن تعول»، ويشهد له الحديث الآخر أيضا: «إنّما الصدقة عن ظهر غنى». وقوله: «اليد العليا خير من اليد السّفلى»، قال قوم: يريد أنّ اليد المعطية خير من الآخذة، وقال آخرون: إنّ العليا هى الآخذة، والسفلى هى المعطية. وقال ابن قتيبة: ولا أرى هؤلاء إلّا قوما استطابوا السؤال؛ فهم يحتجّون للدناءة؛ ولو كان هذا يجوز لقيل: إن المولى من فوق هو الّذي أعتق، والمولى من أسفل هو الّذي أعتق، والناس إنّما يعلون بالعطايا لا بالسؤال. قال سيدنا أدام الله علوّه: وعندى أن معنى قوله عليه السلام: «اليد العليا خير من اليد السّفلى» غير ما ذكر من الوجهين جميعا؛ وهو أن تكون اليد هاهنا هى العطية والنعمة؛ لأنّ النعمة قد تسمّى يدا فى مذهب أهل اللسان بغير شكّ؛ فكأنه صلى الله عليه وآله أراد أنّ العطية الجزيلة خير من العطية القليلة. وهذا حث منه صلى الله عليه وآله على المكارم، وتحضيض على اصطناع المعروف بأوجز الكلام وأحسنه مخرجا. ويشهد لهذا التأويل أحد التأويلين (¬1) المتقدمين فى قوله: «ما أبقت غنى»، وهذا أشبه وأولى من أن تحمل اليد على الجارحة؛ لأنّ من ذهب إلى ذلك وجعل المعطية خيرا من الآخذة لا يستمرّ قوله؛ لأنّ فيمن يأخذ من هو خير عند الله تعالى ممّن يعطى؛ ولفظة «خير» لا تحمل إلّا على الفضل فى الدين واستحقاق الثواب؛ فأمّا من جعل الآخذة خيرا من المعطية فيدخل عليه هذا الطعن أيضا؛ مع أنّه قد قال قولا شنعا (¬2)، وعكس الأمر على ما ذكر (¬3) ابن قتيبة. فإن قيل: كيف يصحّ تأويلكم مع قوله عليه السلام: «خير الصّدقة ما أبقت غنى» وهى (¬4) لا تبقى غنى إلّا بعد أن تنقص من غيرها؟ وإذا كانت العطية التى هى أجزل ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «أحد الخبرين». (¬2) م: «شنيعا». (¬3) م: «ما قال». (¬4) ت: «فهى».

ذكر أبيات تروى لثابت قطنة وعروة بن أذينة

أفضل فتلك لا تبقى غنى، والتى تبقى غنى ليست الجزيلة، وهذا تناقض. قلنا: أما تأويلنا فمطابق (¬1) للوجهين المذكورين فى قوله: «ما بقّت (¬2) غنى»؛ لأنّ من تأوّل ذلك على أنّ المراد بها المعطى، وأنّ خير العطية ما أغنته عن المسألة فالمطابقة ظاهرة، ومن تأوّله على الوجه الآخر، وحمل ما أبقى الغنى على المعطى وأهله وأقاربه؛ فتأويلنا أيضا مطابق له، لأنه قد يكون فى العطايا التى يبقى بعدها الغنى على الأهل والأقارب جزيل وغير جزيل، فقال عليه السلام: «خير الصدقة ما بقّت (2) غنى» بعد إخراجها؛ والعطية الجزيلة التى تبقى بعدها غنى خير من القليلة، فمدح عليه السلام بعد إبقاء الغنى جزيل العطية، وحثّ على الكرم والفضل. *** [ذكر أبيات تروى لثابت قطنة وعروة بن أذينة: ] أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن عثمان بن يحيى بن جنيقا قال أخبرنا أبو عبد الله الحكيمىّ قال أملى علينا أبو العباس/ أحمد بن يحيى النحوىّ قال: أنشدنا ابن الأعرابىّ لثابت قطنة العتكىّ (¬3): يا هند كيف بنصب بات يبكينى … وعائر فى سواد العين يؤذينى (¬4) كأنّ ليلى والأصداء هاجدة … ليل السّليم وأعيا من يداوينى لمّا حنى الدّهر من قوسى وعذّرنى … شيبى وقاسيت أمر الغلظ واللّين (¬5) ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «فيطابق الوجهين». (¬2) ت: «ما أبقت». (¬3) هو أبو العلاء ثابت بن كعب، شاعر فارس؛ من شعراء الدولة الأموية، وكان فى صحابة يزيد بن المهلب، ولقب قطنة؛ لأن سهما أصابه فى عينه فى بعض حروب الترك. وانظر ترجمته وأخباره وأشعاره فى (الأغانى 13: 47 - 54، والخزانة 4: 185 - 187، والشعر والشعراء 612 - 613). (¬4) القصيدة فى رثاء المفضل بن المهلب؛ وهند هى بنت المفضل؛ دخل عليها ثابت، والناس حولها جلوس يعزونها؛ فلما أنشدها هذه القصيدة قالت: ليست المصيبة فى قتل من استشهد ذابا عن دينه، مطيعا لربه؛ وإنما المصيبة فيمن قلت بصيرته، وخمل ذكره بعد موته؛ وأرجو ألا يكون المفضل عند الله خاملا». والقصيدة فى (أمالى الزجاجى 130 - 131، وأبيات منها فى الأغانى 13: 51 - 52). النصب: البلاء والعذاب. والعائر: القذى والرمد، وكذلك العوّار. (¬5) عذرنى شيبى؛ أى شيبنى من جانبى وجهى؛ من العذارين.

إذا ذكرت أبا غسّان أرّقنى … همّ إذا عرض السّارون يشجينى (¬1) كان المفضّل عزّا فى ذوى يمن … وعصمة وثمالا للمساكين (¬2) غيثا لدى أزمة غبراء شاتية … من السّنين ومأوى كلّ مسكين (¬3) إنى تذكّرت قتلى لو شهدتهم … فى حومة الحرب لم يصلوا بها دونى لا خير فى العيش إذ لم نجن بعدهم … حربا تنيئ بهم قتلى فتشفينى لا خير فى طمع يدنى إلى طبع، … وغفّة من قوام العيش تكفينى (¬4) [أنظر فى الأمر يعنينى الجواب به … ولست أنظر فيما ليس يعنينى] (¬5) لا أركب الأمر تزرى بى عواقبه … ولا يعاب به عرضى ولا دينى لا يغلب الجهل حلمى عند مقدرة … ولا العضيهة من ذى الضّغن تكبينى (¬6) كم من عدوّ رمانى لو قصدت له … لم يأخذ النّصف منّى حين يرمينى (¬7) قال سيدنا أدام الله علوّه: وهذه الأبيات يروى بعضها لعروة بن أذينة (¬8) وتداخل أبياتا على هذا الوزن؛ وهى التى يقول فيها: لقد علمت وما الإشراف من خلقى … أنّ الّذي هو رزقى سوف يأتينى أسعى له فيعنّينى تطلّبه … ولو قعدت أتانى لا يعنّينى ¬

_ (¬1) ت: «إذا غرض»، م: «إذا عرّس. (¬2) فى ذوى يمن، أى فى اليمانين، وفى حاشية الأصل (من نسخة): «فى ذرى يمن»، جمع ذروة. وثمال المساكين: غياث لهم، من ثملهم ثملا إذا أطعمهم وسقاهم وقام بأمرهم. (¬3) من نسخة بحواشى الاصل، ت، ف: «لذى أزمة». والأزمة: القحط. ويقال: شتا القوم إذا أجدبوا فى الشتاء خاصة، وقال الأزهرى: العرب تسمى القحط شتاء، لأن المجاعات أكثر ما تصيبهم فى الشتاء البارد. (¬4) الغفة: البلغة من العيش. وفى أمالى الزجاجى: «من قليل العيش». (¬5) تكملة من ت، ف، د، وأمالى الزجاجى ومن نسخة بحاشيتى ت، ف: «وانظر الأمر». (¬6) العضيهة: الإفك والبهتان، أى لا أكبر إذا عضهنى ذو الضغن. (¬7) النصف: الانتصاف. (¬8) هو عروة بن أذينة بن مالك، من بنى الليث. شاعر غزل مقدم من شعراء أهل المدينة، وهو معدود أيضا فى الفقهاء والمحدثين. وانظر ترجمته وأشعاره وأخباره فى (الأغانى 21: 105 - 111، والشعر والشعراء 560 - 562).

كم قد أفدت وكم أتلفت من نشب … ومن معاريض رزق غير ممنون فما أشرت على يسر وما ضرعت … نفسى لخلّة عسر جاء يبلونى (¬1) خيمى كريم ونفسى لا تحدّثنى … أنّ الإله بلا رزق يخلّينى / ولا اشتريت بمالى قطّ مكرمة … إلّا تيقّنت أنّى غير مغبون ولا دعيت إلى مجد ومحمدة (¬2) … إلّا أجبت إليه من ينادينى لا أبتغى وصل من يبغى مفارقتى (¬3) … ولا ألين لمن لا يبتغى لينى إنى سيعرفنى من لست أعرفه … ولو كرهت، وأبدو حين يخفينى فغطّنى جاهدا واجهد عليّ إذا … لاقيت قومك فانظر هل تغطّينى (¬4) - وقوم يخطئون (¬5) فيروون قوله: * لقد علمت وما الإسراف من خلقى* ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «يقال: ضرع يضرع [بالفتح] ضراعة، وضرع [بالكسر] يضرع ضرعا [بالفتح]، فهو ضارع. (¬2) ت: «مكرمة»، وفى حواشى الأصل ت، ف: «يقال: محمدة، بفتح الميم، مثل مذمة، والفصيح: المحمدة، بكسر الميم، وهو المسموع». (¬3) حاشية الأصل: (من نسخة): «مصارمتى». (¬4) حواشى الأصل، ت، ف: «روى أن عروة هذا وفد على هشام بن عبد الملك فى جماعة من الشعراء، فلما دخلوا عليه عرف عروة فقال له: ألست القائل: لقد علمت وما الإشراف من خلقى … أنّ الّذي هو رزقى سوف يأتينى أسعى له فيعنّينى تطلّبه … ولو قعدت أتانى لا يعنينى وأراك قد جئت تضرب من الحجاز إلى الشام فى طلب الرزق! فقال له: لقد وعظت يا أمير المؤمنين وبالغت فى الوعظ، وأذكرت بما أنسانيه الدهر. وخرج من فوره إلى راحلته فركبها، ثم سار راجعا نحو الحجاز؛ فمكث هشام يومه غافلا عنه، فلما كان فى الليل تعارّ على فراشه فذكره وقال فى نفسه: رجل من قريش قال حكمة، ووفد إلى فجبهته ورددته عن حاجته، وهو مع هذا شاعر لا آمن ما يقول! فلما أصبح سأل عنه فأخبر بانصرافه، فقال: لا جرم! ليعلمن أن الرزق سيأتيه، ودعا مولى له وأعطاه ألفى دينار، وقال له: الحق ابن أذينة، فأعطه إياها، قال: فلم أدركه إلا قد دخل بيته، فقرعت الباب عليه، فخرج فأعطيته المال، فقال: أبلغ أمير المؤمنين السلام؛ وقل له: كيف رأيت قولى! سعيت فأكديت، ورجعت إلى بيتى فأتانى فيه الرزق». (¬5) د، ومن نسخة بحواشى الأصل، ت، ف «يخبطون».

أبيات للسيد المرتضى فى معنى أبيات ثابت قطنة وعروة بن أذينة المذكورة

بالسين غير معجمة (¬1)، وذلك خطأ، وإنما أراد بالإشراف أنى لا أستشرف وأتطلّع (¬2) إلى ما فاتني من أمور الدنيا ومكاسبها، ولا تتبعها نفسى (¬3). *** [أبيات للسيد المرتضى فى معنى أبيات ثابت قطنة وعروة بن أذينة المذكورة: ] قال سيدنا أدام الله تأييده: ولي أبيات فى معنى بعض أبيات ثابت قطنة، وعروة بن أذينة التى تقدمت، وهى من جملة قصيدة طويلة خرجت عنّى منذ اثنتى عشرة سنة؛ والأبيات: تعاقبنى بؤس الزّمان وخفضه … وأدّبنى حرب الزّمان وسلمه وقد علم المغرور بالدّهر أنّه … وراء سرور المرء فى الدّهر غمّه وما المرء إلّا نهب يوم وليلة … تخبّ به شهب الفناء ودهمه (¬4) يعلّله برد الحياة يمسّه … ويغترّه روح النّسيم يشمّه (¬5) وكان بعيدا عن منازعة الرّدى … فألقته فى كفّ المنيّة أمّه (¬6) ألا إنّ خير الزّاد ما سدّ فاقة … وخير تلادىّ الّذي لا أجمّه (¬7) وإنّ الطّوى بالعزّ أحسن بالفتى … إذا كان من كسب المذلّة طعمه (¬8) وإنى لأنهى النّفس عن كلّ لذّة … إذا ما ارتقى منها إلى العرض وصمه وأعرض عن نيل الثّريّا إذا بدا … وفى نيله سوء المقال وذمّه أعفّ وما الفحشاء عنّى بعيدة … وحسبى فى صدّ عن الأمر إثمه (¬9) ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «المعجمة». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «وأطلع». (¬3) حواشى الأصل، ت، ف: «العجب من تخطئة السيد رضى الله عنه رواية من روى بالسين المهملة؛ وهو أكثر الروايات، ومعناه واضح». (¬4) حاشية الأصل: «دهمه؛ جمع أدهم؛ وهو كناية عن الليل والنهار». (¬5) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «برد النسيم». (¬6) ت، حاشية الأصل (من نسخة) «من منازعة الردى». (¬7) حواشى الأصل، ت، ف: «أى لا أتركه يجم ويكثر، من جم الماء يجم جموما؛ إذا كثر واجتمع، ولا يبعد أن يكون من أجممت الفرس، أى أرحته». (¬8) ت: «كسب المنية». (¬9) حاشية الاصل: «ذكر الفحشاء دليل على شبابه، وكناية عنه».

خبر عروة بن عبيد الله عن عروة بن أذينة وروايته أبياتا له

وما العفّ من ولى عن الضّرب سيفه … ولكنّ من ولى عن السّوء حزمه / ولى فى معنى قوله: «وما الإشراف من خلقى»: ما خامر الرّزق قلبى قبل فجأته … ولا بسطت له فى النّائبات يدى كم قد ترادف لم أحفل زيادته … ولو تجاوزنى ما فتّ من عضدى إن أسخط الأمر أدرك عنه مضطربا … وإن أرد بدلا من مذهب أجد (¬1) ومعنى «ما خامر الرّزق قلبى» أى لم أتمنّه، ولا تطلّعت إلى حضوره، ولا خطر لى ببال تنزّها وتقنعا؛ والوجه فى تخصيص نفى بسط اليد بالنوائب، لأن النوائب (¬2) يضرع عندها فى الأكثر المتنزّه، ويطلب المتعفّف؛ فمن لزم النزاهة مع الحاجة وشدّة الضرورة فهو الكامل المروءة. ومعنى البيت الثانى ظاهر. فأما الثالث فالمراد به أننى ممّن إذا كره شيئا تمكّن من مفارقته والنزوع عنه، ولست ممّن تضيق حيلته، وتقصر قدرته عن استدراك ما يحب بما يكره. وفيه فائدة أخرى، وهى أننى ممن لا تملكه العادات، وتقتاده الأهواء؛ بل متى أردت مفارقة خلق إلى غيره، وعادة إلى سواها لم يكن ذلك عليّ متعذّرا؛ من حيث كان لرأيى على هواى السلطان والرجحان. *** [خبر عروة بن عبيد الله عن عروة بن أذينة وروايته أبياتا له: ] أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدثنى محمد بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن يحيى النحوىّ قال أخبرنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عروة بن عبيد الله بن عروة بن الزبير قال: كان عروة ابن أذينة نازلا مع أبى فى قصر عروة بالعقيق، فسمعته ينشد لنفسه: إنّ الّتي زعمت فؤادك ملّها … خلقت هواك كما خلقت هوى لها (¬3) ¬

_ (¬1) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): «إن أسخط الرزق». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «أن النوائب». (¬3) الأبيات فى زهر الآداب: 166 (طبعة الحلبى)، وبعضها فى أمالى القالى 1: 156، والموشح: 230، وحماسة أبى تمام- بشرح التبريزى 3: 21 - 213. ونسب ابن قتيبة فى الشعراء: 554 أبياتا منها للمجنون. والهوى، بمعنى المهوىّ.

فبك الّذي زعمت لها، وكلاكما … أبدى لصاحبه الصّبابة كلّها ولعمرها لو كان حبّك فوقها … يوما وقد ضحيت إذا لأظلّها وإذا وجدت لها وساوس سلوة … شفع الضّمير إلى الفؤاد فسلّها بيضاء باكرها النّعيم فصاغها … بلباقة فأدقّها وأجلّها (¬1) لمّا عرضت مسلّما لى حاجة … أخشى صعوبتها، وأرجو ذلّها (¬2) / منعت تحيّنها، فقلت لصاحبى: … ما كان أكثرها لنا وأقلّها! فدنا، فقال: لعلّها معذورة … فى بعض رقبتنا، فقلت: لعلّها! قال عروة بن عبيد الله: فجاءنى أبو السائب المخزومىّ يوما فسلّم وجلس إلى، فقلت له بعد الرّحب به: ألك حاجة يا أبا السائب؟ فقال: أو كما تكون الحاجة! أبيات لعروة ابن أذينة؛ بلغنى أنك سمعتها منه، قلت: أىّ أبيات؟ قال: وهل يخفى القمر! . * إنّ الّتي زعمت فؤادك ملّها* فأنشدته فقال: ما يروى هذا إلّا أهل المعرفة والفضل، هذا والله الصادق الودّ، الدائم العهد، لا الهذلىّ الّذي يقول: إن كان أهلك يمنعونك رغبة … عنّى فأهلى بى أضنّ وأرغب لقد عدا الأعرابىّ طوره! وإنى لأرجو أن يغفر الله لابن أذينة فى حسن الظّنّ بها، وطلب العذر لها. فدعوت له بطعام، فقال: لا والله حتى أروى هذه الأبيات، فلمّا رواها وثب، فقلت له: كما أنت يغفر الله لك، حتى تأكل، فقال: والله ما كنت لأخلط بمحبتى لها وأخذى إياها غيرها (¬3). ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «أى أدق منها ما ينبغى أن يكون دقيقا، وأجل منها ما ينبغى أن يكون جليلا» وقال ابن الأعرابى: ومعنى قوله: «فأدقها وأجلها» دق منها حاجباها وأنفها وخصرها، وجل عضداها وساقاها وبوصها؛ وهذا كما قال آخر: فدقّت وجلّت واسبكرّت وأكملت … فلو جنّ إنسان من الحسن جنّت. (¬2) الذل هنا، بالضم ويكسر: ضد الصعوبة. (¬3) وانظر الخبر أيضا فى زهر الآداب (طبعة الحلبى): 167، والموشح: 230.

عروة بن أذينة وسكينة بنت الحسين

قال سيدنا أدام الله علوّه: والهذلىّ الّذي عابه وأنشد له هذا البيت هو عبد الله بن مسلم ابن جندب الهذلىّ. وقول عروة: «باكرها النعيم» أراد أنها لم تعش إلّا فى النعيم، ولم تعرف إلا الخفض، وأنها لم تلاق بؤسا فتخشع وتضرع، فيؤثّر ذلك فى جمالها وتمامها، والبكور هو التقدّم فى كل وقت. [عروة بن أذينة وسكينة بنت الحسين: ] وكان عروة بن أذينة مع تغزّله يوصف بالعفاف والنزاهة، (¬1) وروى أن سكينة بنت الحسين عليهما السلام مرّت به فقالت: يا أبا عامر، أنت الّذي تقول: إذا وجدت أوار الحبّ فى كبدى … أقبلت نحو سقاء القوم أبترد هبنى بردت ببرد الماء ظاهره … فمن لنار على الأحشاء تتّقد! وأنت القائل: قالت وأبثثتها وجدى فبحت به … قد كنت عندى تحب السّتر، فاستتر / ألست تبصر من حولى؟ فقلت لها: … غطّى هواك وما ألقى على بصرى (¬2) قال: نعم، قالت: هنّ حرائر- وأشارت إلى جواريها- إن كان هذا خرج من قلب سليم! [أبيات لعروة بن أذينة فى الغزل: ] وأنشد أبو الحسن أحمد بن يحيى (¬3) لعروة: كأنّ خزامى طلّة صابها النّدى … وفأرة مسك ضمّنتها ثيابها (¬4) وكدت لذكراها أطير صبابة … وغالبت نفسا زاد شوقا غلابها ¬

_ (¬1) الخبر فى مصارع العشاق: 313 - 314، وابن خلكان 1: 211. (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «بما ألقى على بصرى». (¬3) كذا فى الأصول، وفى حاشيتى الأصل، ت (من نسخة): «أبو الحسن على بن أحمد»، ومن نسخة أخرى: «أبو الحسن عن أحمد بن يحيى». (¬4) حاشية ت (من نسخة): «ضافها الندى»؛ الخزامى: نبت زهره أطيب الأزهار رائحة، والطلة: الروضة بالها الطل؛ وهو المطر الخفيف. وفأرة المسك: وعاؤه؛ ويريد به هنا المسك.

موازنة بين ما قاله الكميت بن زيد وعروة بن أذينة ونصر بن سيار فى الحسد

إذا اقتربت سعدى لهجت بهجرها … وإن تغترب يوما يرعك اغترابها ففى أىّ هذا راحة لك عندها! … سواء لعمرى نأيها واقترابها وعاد الهوى فيها كظلّ سحابة … ألاحت ببرق ثمّ مرّ سحابها (¬1) قال سيدنا أدام الله علوّه: وهيهات هذا البيت الأخير من قول كثيّر: وإنى وتهيامى بعزّة بعد ما … تخلّيت ممّا بيننا وتخلّت (¬2) لكالمرتجى ظلّ الغمامة كلّما … تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت كأنّى وإيّاها سحابة ممحل … رجاها فلمّا جاوزته استهلّت [موازنة بين ما قاله الكميت بن زيد وعروة بن أذينة ونصر بن سيار فى الحسد: ] وروى يحيى بن عليّ قال حدثنا أبو هفّان قال: أشعر أبيات قيلت فى الحسدة والدعاء لهم بالكثرة أربعة، فأولها قول الكميت بن زيد (¬3): إن يحسدونى فإنى لا ألومهم … قبلى من النّاس أهل الفضل قد حسدوا (¬4) فدام بى وبهم ما لي وما لهم … ومات أكثرنا غيظا بما يجد أنا الّذي يجدونى فى حلوقهم … لا أرتقى صدرا منها ولا أرد لا ينقص الله حسّادى فإنّهم … أسرّ عندى من اللّائى له الودد (¬5) وقال عروة بن أذينة: لا يبعد الله حسادى وزادهم … حتّى يموتوا بداء فىّ مكنون / إنّى رأيتهم فى كلّ منزلة … أجلّ قدرا من اللّائى يحبّونى وقال نصر بن سيّار: إن يحسدونى على ما بى وما بهم … فمثل ما بى لعمرى جرّ لى الحسدا ¬

_ (¬1) ألاحت: لوحت. (¬2) أمالى القالى 2: 109. (¬3) فى حاشيتى الأصل، ت: «الكميت بن معروف الأسدى». (¬4) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «غير لائمهم»، والأبيات الثلاثة الأول وردت فى معجم الشعراء: 347، منسوبة إلى الكميت بن معروف، ووردت فى عيون الأخبار 2: 10 - 11، وأمالى القالى 2: 198 من غير عزو. (¬5) ت: «هم الودد»، ومن نسخة بحاشية الأصل: «لهم ودد».

وقال معن بن زائدة: إنى حسدت فزاد الله فى حسدى … لا عاش من عاش يوما غير محسود ما يحسد المرء إلّا من فضائله … بالعلم والظرف أو بالبأس والجود قال سيدنا أدام الله علوّه: وقد لحظ البحترىّ بهذا (¬1) المعنى فى قوله: محسّد بخلال فيه فاضلة … وليس تفترق النّعماء والحسد (¬2) وأظن أبا العتاهية أخذ قوله: كم عائب لك لم أسمع مقالته … ولم يزدك لدينا غير تزيين كأنّ عائبكم يبدى محاسنكم … وصفا فيمدحكم عندى ويغرينى ما فوق حبّك حبّا لست أعلمه … فلا يضرّك ألّا تستزيدينى من قول عروة بن أذينة: لا بعد سعدى مريحى من جوى سقم … يوما ولا قربها إن حمّ يشفينى إذا الوشاة لحوا فيها عصيتهم … وخلت أنّ بسعدى اليوم يغرينى وقد أخذ أبو نواس هذا المعنى فى قوله: ما حطّك الواشون من رتبة … عندى ولا ضرّك مغتاب كأنّهم أثنوا ولم يعلموا … عليك عندى بالذى عابوا ولعروة بن أذينة: تروّعنا الجنائز مقبلات … ونلهو حين تخفى ذاهبات (¬3) كروعة ثلّة لمغار ذئب … فلما غاب عادت راتعات الثّلّة: القطعة من الضأن؛ وهذا المعنى قد سبق إليه بعض الأعراب فقال: ونحدث روعات لدى كلّ فزعة … ونسرع نسيانا وما جاءنا أمن ¬

_ (¬1) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): «هذا». (¬2) ديوانه 1: 140، وفى ت، من نسخة: «فيه ظاهرة». (¬3) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «ونسهو». والشعر فى الحيوان 6: 507 وعيون الأخبار 3: 62، والبيان 3: 201.

وإنا- ولا كفران لله ربّنا- … لكالبدن، لا تدرى متى يومها البدن! أخذه أبو العتاهية فى قوله: إذا ما رأيتم ميّتين جزعتم … وإن غيّبوا ملتم إلى صبواتها وأخذ عروة قوله: إنّ الفتى مثل الهلال له … نور ليالى ثمّ يمتحق (¬1) يبلى وتفنيه الدّهور كما … يبلى وينضوا لجدّة الخلق (¬2) من قول لبعض شعراء طيئ: مهما يكن ريب الزّمان فإننى … أرى قمر اللّيل المعذّب كالفتى (¬3) يهلّ صغيرا، ثمّ يعظم ضوأه … وصورته حتّى إذا ما هوى استوى تقارب يخبو ضوأه وشعاعه … ويمصح حتّى يستسرّ فلا يرى (¬4) كذلك زيد المرء ثمّ انتقاصه … يعود إلى مثل الّذي كان قد بدا (¬5) أخذه محمد بن يزيد الكاتب فقال: المرء مثل هلال عند مطلعه … يبدو ضئيلا ضعيفا ثمّ يتّسق يزداد حتّى إذا ما ثمّ أعقبه … كرّ الجديدين نقصانا فيمتحق (¬6) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «امحق»، وفيها: «يمحق وامتحق وامحق بمعنى». (¬2) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «وينضى الحبرة». وفى حاشية الأصل أيضا: «أنضيت الثوب: أبليته وكذلك انتضيته، ونضوته: خلعته». (¬3) معجم البلدان 4: 134؛ من أبيات نسبها إلى حنظلة بن أبى عفراء الطائى؛ وكان قد نسك فى الجاهلية وتنصر، وبنى ديرا عرف باسمه. (¬4) حاشية الأصل: «يقال: مصح النبات إذا ولى لون زهره». (¬5) رواية عجز البيت فى معجم البلدان: * وتكراره فى إثره بعد ما مضى*. (¬6) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «فيمحق».

31

31 مجلس آخر [المجلس الحادى والثلاثون: ] تأويل آية وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ... إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ؛ [البقرة: 102]. فقال: كيف ينزل الله السّحر على الملائكة؟ أم كيف تعلّم الملائكة الناس السّحر والتفريق بين المرء وزوجه؟ وكيف نسب الضرر الواقع عند ذلك إلى أنّه بإذنه، وهو تعالى قد نهى عنه، وحذّر من فعله؟ وكيف أثبت العلم لهم ونفاه عنهم، بقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ، ثم قوله: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ؟ . الجواب، قلنا: فى الآية وجوه؛ كلّ منها يزيل الشبهة الداخلة على من لا ينعم النّظر فيها: أوّلها أن يكون ما فى قوله: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بمعنى الّذي، فكأنه تعالى أخبر عن طائفة من أهل الكتاب، بأنهم اتّبعوا ما تكذب فيه الشياطين على ملك سليمان، وتضيفه إليه من السّحر؛ فبرأه الله تعالى من قرفهم، وأكذبهم فى قولهم، فقال: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا باستعمال السّحر والتمويه على الناس، ثم قال: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وأراد أنهم يعلّمونهم السّحر

والّذي أنزل على الملكين، وإنّما أنزل على الملكين وصف السحر وماهيّته وكيفية الاحتيال فيه؛ ليعرفا ذلك ويعرّفاه للناس فيجتنبوه ويحذروا منه، كما أنّه تعالى قد أعلمنا ضروب المعاصى، ووصف لنا أحوال القبائح لنجتنبها لا لنوقعها؛ لأنّ الشياطين كانوا إذا علموا ذلك وعرفوه استعملوه، وأقدموا على فعله؛ وإن كان غيرهم من المؤمنين لمّا عرفه اجتنبه وحاذره وانتفع باطّلاعه على كيفيته، ثم قال: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ يعنى الملكين، ومعنى يُعَلِّمانِ يعلمان، والعرب تستعمل لفظة علّمه بمعنى أعلمه، قال القطامىّ: تعلّم أنّ بعد الغىّ رشدا … وأنّ لتانك الغبر انقشاعا (¬1) وقال كعب بن زهير: تعلّم رسول الله أنّك مدركى … وأنّ وعيدا منك كالأخذ باليد (¬2) ومعنى «تعلّم» فى البيتين/ معنى «اعلم» (¬3)؛ والّذي يدلّ على أنّ المراد هاهنا الإعلام لا التعليم قوله: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ، أى أنهما لا يعرّفان صفات السحر وكيفيته إلّا بعد أن يقولا إنما نحن محنة، لأن الفتنة بمعنى المحنة؛ وإنما كانا محنة، من حيث ألقيا إلى المكلّفين أمرا لينزجروا عنه، وليمتنعوا من مواقعته، وهم إذا عرفوه أمكن أن يستعملوه ويرتكبوه، فقالا لمن يطلعانه على ذلك: لا تكفر باستعماله، ولا تعدل عن الغرض فى إلقاء هذا إليك، فإنه إنّما ألقى إليك، وأطلعت عليه لتجتنبه؛ لا لتفعله، ثم قال: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، أى فيعرفون من جهتهما ما يستعلمونه فى هذا الباب؛ وإن كان الملكان ما ألقياه إليهم لذلك؛ ولهذا قال: وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ؛ لأنّهم ¬

_ (¬1) ديوانه: 40؛ ومن نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «لهذه الغمر»، وهى رواية الديوان والغمر: جمع غمرة، وهى الشدة. (¬2) ملحقات ديوانه: 258 (عن الغرر). (¬3) حواشى الأصل، ت، ف: «قال ابن السكيت رحمه الله: يقال: تعلمت أن فلانا خارج يعنى علمت، وإذا قال لك: اعلم أن زيدا خارج قلت: قد علمت، وإذا قال: تعلم أن زيدا خارج لم تقل: قد تعلمت؛ يعنى أنه يقتصر على ما ورد عنهم، ولا يتجاوز إلى غيره».

لمّا قصدوا بتعلّمه أن يفعلوه ويرتكبوه، لا أن يجتنبوه صار ذلك لسوء اختيارهم ضررا عليهم. وثانيها أن يكون ما أُنْزِلَ موضعه موضع جرّ؛ فيكون معطوفا بالواو على مُلْكِ سُلَيْمانَ؛ والمعنى: واتبعوا ما كذب به الشياطين على ملك سليمان، وعلى ما أنزل على الملكين؛ ومعنى ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ أى معهما، وعلى ألسنتهما؛ كما قال تعالى: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ؛ [آل عمران: 194]، أى على ألسنتهم ومعهم. وليس بمنكر أن يكون ما أُنْزِلَ معطوفا على مُلْكِ سُلَيْمانَ وإن اعترض بينهما من الكلام ما اعترض؛ لأن ردّ الشيء إلى نظيره، وعطفه على ما هو أولى هو الواجب، وإن اعترض بينهما ما ليس منهما؛ ولهذا نظائر فى القرآن وكلام العرب كثيرة، قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً؛ [الكهف: 1، 2] و «قيّم» من صفات الكتاب حال منه، لا من صفة «عوج»، وإن تباعد ما بينهما، ومثله قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ؛ [البقرة: 217]، فالمسجد هاهنا معطوف به على الشهر الحرام، أى يسألونك عن القتال فى الشهر الحرام وعن المسجد الحرام. وحكى عن بعض علماء أهل اللغة أنه قال: العرب تلفّ الخبرين المختلفين، ثم ترمى بتفسيرهما جملة؛ ثقة بأنّ السامع يردّ إلى كلّ خبره؛ كقوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ؛ [يونس: 67]، وهذا واضح فى مذهب العرب، كثير النظائر. ثم قال: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ، والمعنى أنهما لا يعلّمان أحدا، بل ينهيان عنه، ويبلغ من نهيهما عنه وصدّهما عن فعله واستعماله أن يقولا: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ باستعمال السحر والإقدام على فعله، وهذا كما يقول الرجل: ما أمرت فلانا بكذا، ولقد بالغت فى نهيه حتى قلت له: إنك إن فعلته أصابك كذا وكذا؛ وهذا

هو نهاية البلاغة فى الكلام؛ والاختصار الدال مع اللفظ القليل على المعانى الكثيرة؛ لأنه استغنى بقوله تعالى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ عن بسط الكلام الّذي ذكرناه؛ ولذلك نظائر فى القرآن، قال الله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ؛ [المؤمنون: 91]، فلولا الاختصار لكان مع شرح الكلام يقول: ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله، ولو كان معه إله إذا لذهب كل إله بما خلق؛ ومثله قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ؛ [آل عمران: 106]، أى: فيقال للذين اسودت وجوههم: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؛ وأمثاله أكثر من أن تورد. ثم قال تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وليس يجوز أن يرجع الضمير على هذا الجواب إلى الملكين؛ وكيف يرجع إليهما وقد نفى عنهما التعليم! بل يرجع إلى الكفر والسحر، وقد تقدم ذكر السحر، وتقدم أيضا ذكر ما يدلّ على الكفر ويقتضيه فى قوله: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا؛ فدل كَفَرُوا على الكفر، والعطف عليه مع السحر جائز، وإن كان التصريح قد وقع بذكر السحر دونه؛ ومثل ذلك قوله تعالى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى. وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى؛ [الأعلى: 10 - 11، أى يتجنّب الذكرى الأشقى، ولم يتقدم تصريح بالذّكرى، لكن دلّ عليها قوله: سَيَذَّكَّرُ. ويجوز أيضا أن يكون معنى فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما، أى بدلا مما علّمهم الملكان، ويكون المعنى أنهم يعدلون عمّا علّمهم ووقفهم عليه الملكان من النهى عن السحر إلى تعلمه واستعماله؛ كما يقول القائل: ليت لنا من كذا وكذا كذا (¬1)! أى بدلا منه، وكما قال الشاعر: ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «من هذا الباب قوله: فليت لنا من ماء زمزم شربة … مبرّدة باتت على الطّهيان - الطهيان: اسم جبل».

/ جمعت من الخيرات وطبا وغلبة … وصرّ الأخلاف المزمّمة البزل (¬1) ومن كلّ أخلاق الكرام نميمة … وسعيا على الجار المجاور بالمحل (¬2) يريد جمعت مكان الخيرات، ومكان أخلاق الكرام هذه الخصال الذميمة. وقوله: «ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ فيه وجهان: أحدهما أن يكونوا يغوون أحد الزوجين، ويحملونه على الكفر والشرك بالله تعالى، فيكون بذلك قد فارق زوجه الآخر المؤمن المقيم على دينه، فيفرّق بينهما اختلاف النّحلة والملّة. والوجه الآخر أن يسعوا بين الزّوجين بالنميمة والوشاية والإغراء والتمويه بالباطل؛ حتى يئول أمرهما إلى الفرقة والمباينة. وثالث الوجوه فى الآية أن يحمل ما فى قوله: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ على الجحد والنفى، فكأنه تعالى قال: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ، ولا أنزل الله السّحر على الملكين، وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ ويكون قوله: بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ من المؤخّر الّذي معناه التقديم، ويكون- على هذا التأويل- هاروت وماروت رجلين من جملة الناس، هذان اسماهما؛ وإنما ذكرا بعد ذكر الناس تمييزا وتبيينا، ويكون الملكان المذكوران اللذان ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «الوطب: زق اللبن، والعلبة: ما يحلب فيه. والصر: شد الضرع. والأخلاف: جمع خلف؛ وهو للناقة كالثدي للمرأة والمزممة: النوق التى علقت الأزمة عليها، والبزل: جمع بازل؛ وهى التامة السن». وفى د، م: «المزهمة»، وهى السمان الكثيرة الشحم. (¬2) المحل: الكذب والخداع.

نفى عنهما السحر جبرائيل وميكائيل عليهما السلام؛ [لأن سحرة اليهود- فيما ذكر- كانت تدّعى أن الله تعالى أنزل السحر على لسان جبرائيل وميكائيل] (¬1) إلى سليمان بن داود عليهما السلام، فأكذبهما الله تعالى بذلك. ويجوز أن يكون هاروت وماروت يرجعان إلى الشياطين، كأنه قال: ولكن الشياطين: هاروت وماروت كفروا؛ ويسوغ ذلك كما ساغ فى قوله تعالى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ؛ [الأنبياء: 78]، يعنى حكم داود وسليمان عليهما السلام. ويكون قوله تعالى على هذا التأويل: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ راجعا إلى هاروت وماروت اللذين هما من الشياطين، أو من الإنس المتعلمين للسحر من الشياطين والعاملين به. ومعنى قولهما: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ يكون على طريق الاستهزاء والتماجن والتخالع، كما يقول الماجن من الناس إذا فعل قبيحا أو قال باطلا: هذا فعل من لا يفلح، وقول من لا ينجب، والله ما حصلت/ إلا على الخسران؛ وليس ذلك منه على سبيل النّصح للناس وتحذيرهم من مثل فعله، بل على وجه المجون والتهالك. ويجوز أيضا على هذا التأويل الّذي يتضمّن النفى والجحد أن يكون هاروت وماروت اسمين لملكين، ونفى عنهما إنزال السحر بقوله: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ ويكون قوله: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ يرجع إلى قبيلتين من الجنّ أو إلى شياطين الجنّ والإنس، فتحسن التثنية لهذا. وقد روى هذا التأويل الأخير فى حمل ما على النفى عن ابن عباس وغيره من المفسرين. وروى عنه أيضا أنه كان يقرأ: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بكسر اللام، ويقول: متى كان العلجان ملكين! إنما كانا ملكين؛ (1) وعلى هذه القراءة لا ينكر أن يرجع قوله: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ إليهما (1). ¬

_ (¬1) ساقط من م.

وعلى (¬1) هذه القراءة فى الآية وجه آخر وإن لم يحمل قوله: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ على الجحد والنفى، وهو أن يكون هؤلاء الذين أخبر عنهم اتّبعوا ما تتلوا الشياطين وتدّعيه على ملك سليمان، واتبعوا ما أنزل على هذين الملكين من السحر، ولا يكون الإنزال مضافا إلى الله تعالى، وإن أطلق؛ لأنه جلّ وعز لا ينزل السحر؛ بل يكون منزله إليهما بعض الضّلّال العصاة، ويكون معنى أُنْزِلَ- وإن كان من الأرض- حمل إليهما لا من السماء أنه أتى به به من نجود الأرض وأعاليها؛ فإنّ من هبط من نجد البلاد إلى غورها يقال: نزل وهبط، وما جرى هذا المجرى. فأما قوله تعالى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فيحتمل وجوها: منها أن يريد بالإذن العلم، من قولهم: آذنت فلانا بكذا إذا أعلمته، وأذنت لكذا إذا استمعته وعلمته، قال الشاعر: فى سماع يأذن الشّيخ له … وحديث مثل ماذىّ مشار (¬2) ومنها أن تكون إِلَّا زائدة، فيكون المعنى: وما هم بضارين به من أحد بإذن الله، ويجرى مجرى قول أحدنا: لقيت زيدا إلا أنى أكرمته، أى لقيت زيدا فأكرمته. ومنها أن يكون أراد بالإذن التخلية وترك المنع، فكأنه أفاد بذلك أنّ العباد لن يعجزوه، وما هم بضارين أحدا إلا بأن يخلّى الله تعالى بينهم وبينه، ولو شاء لمنعهم بالقهر والقسر، زائدا على منعهم بالزجر والنهى. / ومنها أن يكون الضرر الّذي عنى أنه لا يكون إلا بإذنه، وأضافه إليه هو ما يلحق المسحور من الأدوية والأغذية التى يطعمه إياها السّحرة ويدّعون أنها موجبة لما يقصدونه فيه من الأمور؛ ومعلوم أن الضرر الحاصل عن ذلك من فعل الله تعالى بالعادة؛ لأنّ الأغذية لا توجب ضرّا ولا نفعا، وإن كان المعرّض للضرر من حيث كان كالفاعل له هو المستحق للذم، وعليه يجب العوض. ¬

_ (¬1) ت: «ويمكن على هذه القراءة ... ». (¬2) البيت فى اللسان (أذن)، ونسبه إلى عدى ابن زيد الماذى: العسل الأبيض. والمشار: المجنى، ويقال: شرت العسل واشترته وأشرته، إذا جنيته.

ومنها أن يكون الضرر المذكور إنما هو ما يحصل عن التفريق بين الأزواج؛ لأنه أقرب إليه فى ترتيب الكلام؛ والمعنى أنهم إذا أغووا أحد الزوجين، وكفر فبانت منه زوجته، فاستضرّ بذلك كانوا ضارّين له بما حسّنوه له من الكفر، إلّا أنّ الفرقة لم تكن إلّا بإذن الله وحكمه؛ لأنه تعالى هو الّذي حكم وأمر بالتفريق بين المختلفى الأديان؛ فلهذا قال: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ؛ والمعنى أنه لولا حكم الله وإذنه فى الفرقة بين هذين الزوجين باختلاف الملّة لم يكونوا ضارين له هذا الضّرب من الضرر الحاصل عند الفرقة؛ ويقوّى هذا الوجه ما روى أنه كان من دين سليمان؛ أنه من (¬1) سحر بانت منه امرأته. فأما قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ، ثم قال: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ففيه وجوه: أوّلها أن يكون الذين علموا غير الذين لم يعلموا، ويكون الذين علموا الشياطين أو الذين خبّر عنهم بأنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، والذين لم يعلموا هم الذين تعلّموا السحر، وشروا به أنفسهم. وثانيها أن يكون الذين علموا هم الذين لم يعلموا؛ إلا أنهم علموا شيئا ولم يعلموا غيره، فكأنه تعالى وصفهم بأنهم عالمون بأنه لا نصيب لمن اشترى ذلك ورضيه لنفسه على الجملة، ولم يعلموا كنه ما يصير إليه من عقاب الله الّذي لا نفاد له ولا انقطاع. وثالثها أن تكون الفائدة فى نفى العلم بعد إثباته أنهم لم يعملوا بما علموا، فكأنهم لم يعلموا، وهذا كما يقول أحدنا لغيره: ما أدعوك إليه خير لك وأعود عليك؛ لو كنت تعقل وتنظر فى العواقب، وهو يعقل وينظر فى العواقب، إلا أنه لا يعمل بموجب علمه، فحسن أن يقال له/ مثل هذا القول؛ قال كعب بن زهير يصف ذئبا وغرابا تبعاه؛ ليصيبا من زاده: إذا حضرانى قلت: لو تعلمانه … ألم تعلما أنى من الزاد مرمل (¬2) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «أن من». (¬2) ديوانه: 51. المرمل: الّذي نفد زاده.

فنفى عنهما العلم، ثم أثبته بقوله: «ألم تعلما»، وإنما المعنى فى نفيه العلم عنهما أنهما لم يعملا بما علماه فكأنهما لم يعلماه. ورابعها أن يكون المعنى أنّ هؤلاء القوم الذين قد علموا أن الآخرة لا حظّ لهم فيها مع عملهم القبيح، إلا أنهم ارتكبوه طمعا فى حطام الدنيا وزخرفها فقال تعالى: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أن الّذي آثروه وجعلوه عوضا من الآخرة لا يتمّ لهم، ولا يبقى عليهم، وأنه منقطع زائل، ومضمحلّ باطل، وأن المال إلى المستحق فى الآخرة؛ وكل ذلك واضح بحمد الله.

32

32 مجلس آخر [المجلس الثانى والثلاثون: ] تأويل خبر [لو كان القرآن فى إهاب ما مسّته النار.: ] روى عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «لو كان القرآن فى إهاب ما مسّته النار». وقد ذكر متأوّلو حديث النبي صلى الله عليه وآله فى هذا الخبر وجوها كثيرة، كلّها غير صحيح ولا شاف، وأنا أذكر ما اعتمدوه (¬1)، وأبيّن ما فيه، ثم أذكر الوجه الصحيح. قال ابن قتيبة: ذهب الأصمعىّ إلى أنّ من تعلّم القرآن من المسلمين لو ألقى فى النار لم تحرقه، فكنّى بالإهاب- وهو الجلد- عن الشخص والجسم؛ واحتجّ على تأويله هذا [الحديث بما روى عن سليمان] (¬2) بن محمد قال: سمعت أبا أمامة يقول: اقرءوا القرآن ولا تغرّنكم هذه المصاحف المعلّقة (¬3)؛ فإن الله لا يعذّب قلبا وعى القرآن. قال ابن قتيبة: وفى الحديث تأويل آخر، وهو أنّ القرآن لو كتب فى جلد، ثم ألقى فى النار على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله لم تحرقه النار؛ على وجه الدّلالة على صحة أمر النبي عليه وآله السلام، ثم انقطع ذلك بعده، قال: وجرى هذا مجرى كلام الذئب وشكاية البعير وغير ذلك من آياته عليه السلام. قال: وفيه تأويل ثالث؛ وهو أن يكون الإحراق (¬4) إنما نفى عن القرآن لا عن الإهاب؛ ويكون معنى الحديث: لو جعل القرآن فى إهاب ثم ألقى فى النار ما احترق القرآن؛ ¬

_ (¬1) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «ما ذكروه». (¬2) ت: «بالحديث عن سليمان». (¬3) حواشى الأصل، ت، ف: «المعلقة؛ يجوز أن يكون معناها الكتب؛ لأن التعليق الكتب». (¬4) حاشية ف (من نسخة): «الاحتراق».

فكأن النار تحرق الجلد والمداد ولا تحرق القرآن؛ لأنّ الله تعالى ينسخه ويرفعه من الجلد، صيانة له عن الإحراق. وقال أبو بكر/ محمد بن القاسم الأنبارىّ ردا على ابن قتيبة، ومعترضا عليه: اعتبرت ما قاله ابن قتيبة من ذلك كلّه، فما وجدت فيه شيئا صحيحا. أما قوله الأول فيردّه ما روى عنه عليه السلام من قوله: يخرج من النار قوم بعد ما يحرقون (¬1) فيها فيقال: هؤلاء الجهنّميون طلقاء الله عز وجل». قال: وقد روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «إذ دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار قال الله عز وجل: انظروا من كان فى قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان (¬2) فأخرجوه منها»؛ قال أبو بكر: وكيف يصحّ قول ابن قتيبة فى زعمه أن النار لا تحرق من قرأ القرآن؛ ولا خلاف بين المسلمين أنّ الخوارج وغيرهم ممّن يلحد فى دين الله تعالى ويقرأ القرآن أن تحرقهم النار بغير شكّ؛ واحتجاجه بخبر أبى أمامة: «إنّ الله لا يعذّب قلبا وعى القرآن» معناه: قرأ القرآن وعمل به؛ فأما من حفظ ألفاظه وضيّع حدوده؛ فإنه غير واع له. قال: فأما قوله إنه من دلائل النبوّة التى انقطعت بعده، فما روى هذا الحديث أحد أنه كان فى دلائله عليه السلام؛ ولو أراد ذلك دليلا لكان صلى الله عليه وآله يجعل القرآن فى إهاب ثم يلقيه فى النار فلا يحترق قال: وقول ابن قتيبة الثالث: «لاحترق الجلد والمداد، ولم يحترق القرآن» غير صحيح؛ لأن الّذي يصحّح هذا القول يوجب أنّ القرآن غير المكتوب؛ وهذا محال؛ لأن المكتوب فى المصحف هو القرآن. والدليل على هذا قوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ؛ [الواقعة: 77 - 79]، ومنه الحديث: «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو»؛ وإنما يريد المصحف. قال أبو بكر: والقول عندنا فى تأويل هذا الحديث أنه أراد: لو كان القرآن فى جلد ¬

_ (¬1) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «يحترقون». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «إيمانا».

ثم ألقى فى النار ما أبطلته؛ لأنها وإن أحرقته فإنها لا تدرسه؛ إذ كان الله قد ضمّنه قلوب الأخيار من عباده؛ والدليل على هذا قول الله تعالى للنبى صلى الله عليه وآله فيما روى عنه: إنى منزّل عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرأه نائما ويقظان؛ فلم يرد تعالى أن القرآن لو كتب فى شيء ثم غسل بالماء لم ينغسل؛ وإنما أراد أنّ الماء لا يبطله ولا يدرسه إذا كانت القلوب تعيه وتحفظه. قال: ومثل هذا كثير فى كتاب الله تعالى وفى لغة العرب؛ قال الله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا/ وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً؛ [النساء: 42]، فهم قد كتموا الله تعالى لمّا قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23]، وإنما أراد تعالى؛ ولا يكتمون الله حديثا فى حقيقة الأمر؛ لأنهم وإن كتموه فى الظاهر فالذى كتموه غير مستتر عنه. قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوّه: والوجه الصحيح فى تأويل الخبر غير ما توهّمه ابن قتيبة وابن الأنبارىّ جميعا، وهو أن هذا من كلام النبىّ صلى الله عليه وآله على طريق المثل والمبالغة فى تعظيم شأن القرآن والإخبار عن جلالة قدره وعظم خطره، والمعنى أنه لو كتب فى إهاب، وألقى فى النار وكانت النار مما لا تحرق شيئا لعلوّ شأنه وجلالة قدره لم تحرقه النار. ولهذا نظائر فى القرآن وكلام العرب وأمثالهم كثيرة ظاهرة على من له أدنى أنس بمذاهبهم، وتصرّف كلامهم. فمن ذلك قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ؛ [الحشر: 21]. ومعنى الكلام: إنّنا لو أنزلنا القرآن على جبل، وكان الجبل مما يتصدّع إشفاقا من شيء؛ أو خشية لأمر لتصدّع مع صلابته وقوّته؛ فكيف بكم يا معاشر المكلّفين، مع ضعفكم وقلّتكم! وأنتم أولى بالخشية والإشفاق؛ وقد صرح الله تعالى بأنّ الكلام خرج مخرج

المثل بقوله: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ؛ ومثله قوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا؛ [مريم: 90]. ومثله قول الشاعر: أما وجلال الله لو تذكريننى … كذكراك ما نهنهت للعين مدمعا فقالت: بلى والله ذكرا لو انّه … تضمّنه صمّ الصّفا لتصدّعا (¬1) ومثله: فلو أنّ ما بى بالحصى فلق الحصى … وبالرّيح لم يسمع لهنّ هبوب (¬2) ومثله: وقفت على ربع لميّة ناقتى … فما زلت أبكى عنده وأخاطبه (¬3) وأسقيه حتى كاد ممّا أبثّه … تكلّمنى أحجاره وملاعبه (¬4) وهذه طريقة للعرب مشهورة فى المبالغة؛ يقولون: هذا كلام يفلّق الصّخر، ويهدّ الجبال/ ويصرع الطير، ويستنزل الوعول؛ وليس ذلك بكذب منهم؛ بل المعنى أنّه لحسنه وحلاوته وبلاغته يفعل مثل هذه الأمور لو تأتت؛ ولو كانت مما يسهل (¬5) ويتيسر لشيء من الأشياء لتسهّلت به من أجله. فأما الجواب الأوّل المحكىّ عن ابن قتيبة فالذى يفسده (¬6) زائدا على ما ردّه ابن الأنبارىّ أنه لو كان الامر على ما ذكره ابن قتيبة وحكاه عن الأصمعىّ لكان النبي صلى الله عليه وآله قد أغرانا بالذّنوب؛ لأنه إذا أمن حافظ القرآن ومتعلّمه من النار والعذاب فيها ركن (¬7) ¬

_ (¬1) الصفا: جمع الصفاة؛ وهو الحجر الصلد الضخم لا ينبت. (¬2) ت: قلق الحصى. (¬3) ديوانه: 38. (¬4) أسقيه: أدعو له بالسقيا. (¬5) من نسخة بحاشيتى ت، الأصل: «يتسهل». (¬6) ت: «يبطله». (¬7) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: يقال: ركن [بفتح الكاف] يركن، [بكسرها]. وركن [بكسر الكاف] يركن [بفتح الكاف]؛ لغتان إلا أنهم أخذوا الماضى من هذا والمضارع من ذاك، فقالوا: «ركن يركن» بالفتح فيهما.

المكلّفون إلى تعلّم القرآن والإقدام على القبائح آمنين غير خائفين؛ وهذا لا يجوز عليه صلى الله عليه وآله والمعنى فى قول أبى أمامة أن الله لا يعذّب قلبا وعى القرآن على نحو ما ذكره ابن الأنبارىّ. فأما جواب ابن قتيبة الثانى، فمن أين له أن ذلك مختص بزمانه صلى الله عليه وآله، وليس فى اللفظ ولا فى غيره دلالة عليه! وأقوى ما يبطله أنّه لو كان كما ذكر لما جاز أن يخفى على جماعة المسلمين الذين رووا جميع معجزاته عليه وآله السلام وضبطوها. وفى وجداننا من روى ذلك وجمعه وعنى به غير عارف بهذه الدّلالة والآية إبطال لما توهمه. فأما جوابه الثالث فباطل؛ لأنّ القرآن فى الحقيقة ليس يحلّ الجلد، ولا يكون فيه حتى ينسب الاحتراق إلى الجلد دونه؛ وإذا كان الأمر على هذا لم يكن فى قوله: إن الإهاب هو المحترق دون القرآن فائدة؛ لأنّ هذه سبيل كلّ كلام كتب فى إهاب أو غيره إذا احترق الإهاب لم يضف الاحتراق إلى الكلام لاستحالة هذه القضيّة (¬1) عليه. ومن عجيب الأمور قول ابن الأنبارىّ: «وهذا يوجب أنّ القرآن غير المكتوب»؛ لأنّ كلام ابن قتيبة ليس يوجب ما ظنّه؛ بل يوجب ضده من أن المكتوب هو القرآن؛ ولهذا علّق الإحراق (¬2) بالكتابة والجلد دون المكتوب؛ الّذي هو القرآن؛ وإذا كان المكتوب فى المصحف هو القرآن على ما اقترح ابن الأنبارىّ، فما المانع من قول ابن قتيبة أنّ الجلد يحترق دونه؟ لأن أحدا لا يقول إن الجلد هو القرآن؛ وإنما يقول قوم إنه مكتوب فيه؛ وإذا كان غيره لم يمتنع إضافة الاحتراق إلى أحدهما/ دون الآخر؛ وهذا كله تخليط من الرجلين؛ لأن القرآن غير حالّ فى الجلد على الحقيقة؛ وليست الكتابة غير المكتوب؛ وإنما الكتابة أمارة للحروف؛ فأمّا أن تكون هى الكلام على الحقيقة أو يوجد معها الكلام مكتوبا فمحال. فأما استشهاده على ذلك بالآية وبقوله: «لا تسافروا بالقرآن» فذلك تجوّز وتوسّع، ¬

_ (¬1) ت، ف: «القصة». (¬2) ت: «الاحتراق».

من شعر الحسين بن مطير الأسدى

وليس يجب أن يجعل إطلاق الألفاظ المحتملة دليلا على إثبات الأحكام والمعانى، ومعترضة على أدلّة العقول؛ وقد تجوّز القوم بأكثر من هذا فقالوا: فى هذا الكتاب شعر امرئ القيس وعلم الشافعىّ وفقه فلان، ولم يقتض ذلك أن يكون العلم والكلام على الحقيقة موجودين فى الدفتر. وقد بيّن الكلام، فى هذا الباب فى مواضع هى أولى به. فأما جواب ابن الأنبارىّ الّذي ارتضاه لنفسه، فلا طائل أيضا فيه، لأنه لا مزيّة للقرآن فيما ذكره على كل كلام وشعر فى العالم، لأنّا نعلم أنّ الشعر والكلام المحفوظ فى صدور الرجال إذا كتب فى جلد ثم أحرق أو غسل لم يذهب ما فى الصدور. منه؛ بل يكون ثابتا بحاله، فأىّ مزيّة للقرآن فى هذا على غيره؟ وأىّ فضيلة؟ فإن قال: وجه المزيّة أنّ غير القرآن من الشعر وغيره يمكن أن يندرس ويبطل بإحراق النار؛ والقرآن إذا كان هو تعالى هو المتولّى لإيداعه الصدور لا يتم ذلك فيه؟ قلنا: الكل سواء لأن غير القرآن إنما يبطل باحتراق الإهاب المكتوب فيه متى لم يكن محفوظا مودعا للصدور، ومتى كان بهذا الصفة لم يبطل باحتراق الجلد؛ وهكذا القرآن لو لم يحفظ فى الصدور لبطل بالاحتراق؛ ولكنه لا يبطل بهذا الشرط؛ فصار الشرط فى بطلان غير القرآن وثباته كالشّرط فى بطلان القرآن وإثباته، فلا مزيّة على هذا الجواب للقرآن فيما خصّ به من أنّ النار لا تمسّه، وهذا يبيّن أنه لا وجه غير ما ذكرناه فى الخبر؛ وهو أشبه بمذاهب العرب وأولى بتفضيل القرآن وتعظيمه. *** [من شعر الحسين بن مطير الأسدىّ: ] أخبرنا أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أنشدنا أبو حاتم قال ابن دريد وأنشدنا عبد الرحمن- يعنى ابن أخى الأصمعىّ- عن عمه للحسين بن مطير الأسدىّ (¬1) - وقال عبد الرحمن قال عمّى: لو كان شعر العرب هكذا ما أثم منشده-: ¬

_ (¬1) هو الحسين بن مطير بن مكمل؛ مولى لبنى سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد؛ شاعر متقدم من شعراء الدولتين؛ ومذهبه فى الشعر يشبه كلام الأعراب ومذاهبهم؛ (وانظر ترجمته وأخباره وأشعاره فى الأغانى 14: 110 - 114، والخزانة 2: 485 - 488).

ألا حبّ (¬1) بالبيت الّذي أنت هاجره … وأنت بتلماح من الطّرف ناظره (¬2) لأنّك من بيت لعينى معجب (¬3) … وأملح فى عينى من البيت عامره أصدّ حياء أن يلجّ بى الهوى … وفيك المنى لولا عدوّ أحاذره (¬4) وفيك حبيب النّفس لو تستطيعه (¬5) … لمات الهوى والشّوق حين تجاوره (¬6) فإن آته لم أنج إلا بظنّة … وإن يأته غيرى تنط بى جرائره وكان حبيب النّفس للقلب واترا … وكيف يحبّ القلب من هو واتره! وإن تكن الأعداء أحموا كلامه … علينا فلن تحمى علينا مناظره أحبّك يا سلمى على غير ريبة … ولا بأس فى حبّ تعفّ سرائره ويا عاذلى لولا نفاسة حبّها … عليك لما باليت أنك خابره بنفسى من لا بدّ أنّى هاجره … ومن أنا فى الميسور والعسر ذاكره ومن قد لحاه النّاس حتّى اتّقاهم … ببغضى إلّا ما تجنّ ضمائره أحبك حبّا لن أعنّف بعده … محبّا ولكنّى إذا ليم عاذره لقد مات قبلى أوّل الحبّ فانقضى … ولو متّ أضحى الحبّ قد مات آخره (¬7) كلامك يا سلمى وإن قلّ نافعى … ولا تحسبى أنّى وإن قلّ حاقره (¬8) ألا لا أبالى أىّ حىّ تحمّلوا … إذا ثمد البرقاء لم يجل حاضره (¬9) ¬

_ (¬1) وردت هذه المقطوعة فى أمالى القالى 1: 78، وأمالى ابن الشجرى: 150 مع اختلاف فى الرواية وعدد الأبيات. (¬2) ت: «زائره». (¬3) ف: «إلى لمعجب». (¬4) م: «أن يلجّ بى الهوى». (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «نستطيعه». (¬6) ت: «نجاوره»، وحاشية الأصل (من نسخة): «تحاوره». (¬7) فى حاشيتى الأصل، ت: «بهذا يدعى أنه أحيا الحب، وأن الحب كان قبله ميتا، وسيموت بعده». (¬8) الحقر: التحقير. (¬9) تحملوا: ارتحلوا؛ والثمد: الماء القليل. والبرقاء: موضع بالجزيرة. ولم يجل؛ من جلاء القوم عن منازلهم.

أبيات للسيد المرتضى فى معنى بيت للحسين بن مطير الأسدى

وأنشد ابن الأعرابىّ لابن مطير: لعمرك للبيت الّذي لا نطوره … أحبّ إلينا من بلاد نطورها (¬1) تقلّبت فى الإخوان حتى عرفتهم … ولا يعرف الإخوان إلّا خبيرها فلا أصرم الخلّان حتى يصارموا … وحتى يسيروا سيرة لا أسيرها فإنك بعد الشّرّ ما أنت واجد … خليلا مديما شيمة لا يديرها /- معنى يديرها، يقلّبها مرة هاهنا، ومرة هاهنا- وإنك فى غير الأخلّاء عالم … بأنّ الّذي يخفى عليك ضميرها (¬2) فلا تك مغرورا بمسحة صاحب … من الودّ لا تدرى علام مصيرها (¬3) وما الجود عن فقر الرّجال ولا الغنى … ولكنّه خيم الرّجال وخيرها وقد تغدر الدّنيا فيضحى غنيّها … فقيرا ويغنى بعد بؤس فقيرها وكائن ترى من حال دنيا تغيّرت … وحال صفا بعد اكدرار غديرها ومن طامع فى حاجة لن ينالها … ومن يائس منها أتاه بشيرها ومن يتّبع ما يعجب النفس لا يزل … مطيعا لها فى فعل شيء يضيرها (¬4) فنفسك أكرم عن أمور كثيرة … فمالك نفس بعدها تستعيرها [أبيات للسيد المرتضى فى معنى بيت للحسين بن مطير الأسدى: ] قال سيدنا أدام الله علوّه: ولي فى معنى قول ابن مطير: «وقد تغدر الدنيا»، والبيت الّذي بعده من جملة قصيدة: وكيف آنس بالدّنيا ولست أرى … إلّا امرأ قد تعرّى من عواريها (¬5) ¬

_ (¬1) حماسة ابن الشجرى: 163. ونطورها: نقربها. (¬2) ف، حاشية ت (من نسخة) «فى عين الأخلاء». (¬3) المسحة: الأثر الظاهر؛ ونقل صاحب اللسان عن شمر: أن العرب تقول: هذا رجل عليه مسحة جمال، ومسحة عتق وكرم؛ ولا يقال ذلك إلا فى المدح. وفى ت: «مسحة»، بكسر الميم. (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «فى كل شيء». (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «وكيف أنفس بالدنيا».

نصبو إليها بآمال مخيّبة … كأنّنا ما نرى عقبى أمانيها فى وحشة الدّار ممّن كان يسكنها … كلّ اعتبار لمن قد ظلّ يأويها لا تكذبنّ فما قلبى لها وطنا … وقد رأيت طلولا من مغانيها وأخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال أنشدنا عليّ بن سليمان الأخفش قال أنشدنا أحمد بن يحيى ثعلب للحسين بن مطير: لقد كنت جلدا قبل أن يوقد الهوى … على كبدى نارا بطيئا خمودها (¬1) ولو تركت نار الهوى لتضرّمت … ولكنّ شوقا كلّ يوم يزيدها (¬2) وقد كنت أرجو أن تموت صبابتى … إذا قدمت أحزانها وعهودها (¬3) / فقد جعلت فى حبّة القلب والحشا … عهاد الهوى تولى بشوق يعيدها (¬4) بمرتجّة الأرداف هيف خصورها … عذاب ثناياها عجاف قيودها (¬5) - يعنى أنها عجاف اللّثات وأصول الأسنان، وهى قيودها. قال أبو العباس ثعلب: «عجاف»، بالخفض لحن، لأنه ليس من صفة النساء، وسبيله أن يكون نصبا؛ لأنه حال من الثنايا (¬6) - ¬

_ (¬1) أبيات منها فى أمالى الزجاجى: 124 - 125، وأمالى القالى 1: 165، والحماسة بشرح التبريزى 3: 206 - 207 وفى م: «توقد النوى». (¬2) حواشى الأصل، ت، ف: «أى لو تركت نار الهوى ولم يزد فيها الشوق لكانت كافية؛ فكيف والشوق كل يوم يزيدها ويذكيها! ». (¬3) ت، د، ف: «أيامها وعهودها». (¬4) العهاد: جمع عهدة؛ وهو المطر الأول، والولى: المطر الثانى، شبه أول الشوق بالعهاد، وما وليه بالولى؛ فأول المطر إذا لحقه المطر الثانى كثر الربيع والخصب. (¬5) هيف: جمع هيفاء؛ وهو الدقيقة الخصر، الضامرة البطن وفى حاشية الأصل (من نسخة): «عجافا». (¬6) حواشى الأصل، ت، ف: «إنما قال ثعلب ذلك لأن الضمير فى «قيودها» للثنايا». وفيها أيضا: «هذا الّذي ذكره أحمد بن يحيى عجب، وباب جريان الصفة على غير من هوله واسع. وقوله: «مرتجة الأرداف»، وإن كان لا يحتمل أن يريد به جماعة النساء فإنه يحتمل أن يريد به واحدة، وتكون «خصورها» جمعا بما يقارب الخصر، ويكون قوله: «هيف» دون «هيفاء» من باب قوله: فيا ليلة خرس الدّجاج طويلة … ببغداد ما كادت عن الصّبح تنجلى وإنما جمع الخرس، لأنها فى الحقيقة صفة الدجاج، لا الليل، فكذلك هاهنا».

عود إلى شعر الحسين بن مطير الأسدى

مخصّرة الأوساط زانت عقودها … بأحسن ممّا زيّنتها عقودها وصفر تراقيها وحمر أكفّها … وسود نواصيها وبيض خدودها - وصف التّراقى بالصّفرة (¬1) من الطّيب، وحمرة أكفها من الخضاب- يمنّيننا حتّى ترفّ قلوبنا … رفيف الخزامى بات طلّ يجودها (¬2) أخذ قوله: «مخصّرة الأوساط زانت ... »، البيت من قول مالك بن أسماء بن خارجة: وتزيدين أطيب الطّيب طيبا … - إن تمسّيه- أين مثلك أينا! وإذا الدّرّ زان حسن وجوه … كان للدّرّ حسن وجهك زينا [عود إلى شعر الحسين بن مطير الأسدى: ] وروى أبو تمام الطائىّ فى الحماسة بعض الأبيات الّذي ذكرناها للحسين بن مطير. وروى له أيضا (¬3) - ويشبه أن يكون الجميع من قصيدة واحدة: وكنت أذود العين أن ترد البكا … فقد وردت ما كنت عنه أذودها خليلىّ ما بالعيش عيب لو أنّنا … وجدنا لأيّام الصّبا من يعيدها وروى أبو تمام أيضا لغيره (¬4)، وبعض الرواة يرويها لابن مطير: ولي نظرة بعد الصدود من الجوى … كنظرة ثكلى قد أصيب وليدها هل الله عاف عن ذنوب تسلّفت! … أم الله إن لم يعف عنها معيدها! (¬5) وأنشد أبو محلّم لابن مطير: قضى الله يا أسماء أن لست بارحا … أحبّك حتّى يغمض العين مغمض (¬6) ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «قد ذكر فى صفرة التراقى أنها من الحلى». (¬2) حاشية الأصل: «يقال: رف النبت إذا مطر فاهتز بالندى». (¬3) الحماسة بشرح التبريزى 3: 302 - 303. (¬4) الّذي فى ديوان الحماسة بشرح التبريزى أن الأبيات الأربعة منسوبة للحسين بن مطير. (¬5) حاشية الأصل: «الضمير للمرأة التى يجوى لها». (¬6) الزهرة: 24؛ وفى حاشية الأصل: «أغمض وغمض [بالتضعيف] بمعنى واحد، أى يغمض عينه وليه بعد الموت».

/ وحبّك بلوى غير ألّا يسرّنى … وإن كان بلوى أننى لك مبغض (¬1) إذا أنا رضت النّفس فى حبّ غيرها … أتى حبّها من دونها يتعرّض فيا ليتني أقرضت جلدا (¬2) صبابتى … وأقرضنى صبرا على الشّوق مقرض ويشبه أن يكون أخذ قوله: * إذا أنا رضت النفس فى حبّ غيرها* من قول رجل من فزارة: وأعرض حتّى يحسب النّاس أنما … بى الهجر لاها لله ما بى لك الهجر ولكن أروض النّفس أنظر هل لها … - إذا فارقت يوما أحبّتها- صبر! أو من قول نصيب: وإنّى لأستحيى كثيرا وأتّقى … عيونا (¬3) واستبقى المودّة بالهجر وأنذر بالهجران نفسى أروضها … لتعلم عند الهجر هل لى من صبر! ويشبه أن يكون أخذ قوله: * فيا ليتني أقرضت جلدا صبابتى ... * البيت من قول بعض العرب: رمى قلبه البرق الملألئ رمية … بجنب الحمى وهنا فكاد يهيم (¬4) فهل من معير طرف عين خليّة … فإنسان عين العامرىّ كليم وللحسين فى هذا المعنى ما رواه المبرّد: ولي كبد مقروحة من يبيعنى … بها كبدا ليست بذات قروح (¬5) ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «وإن كان دائى». (¬2) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «غيرى». (¬3) ف: «غيورا»، م: «عدوا». (¬4) حاشية ت (من نسخة): «البرق الملالى رمية». (¬5) حواشى الأصل، ت، ف: «رواهما غير المبرد لابن الدمينة، وقبلهما: ألا يا حمى وادى المياه قتلتنى … أباحك لى قبل الممات مبيح -

أبى النّاس، ويب الناس! لا يشترونها … ومن يشترى ذا عرّة بصحيح! (¬1) وأخذ العباس بن الأحنف هذا المعنى فقال: من ذا يعيرك عينه تبكى بها! … أرأيت عينا للبكاء تعار! (¬2) *** وأخبرنا المرزبانىّ قال حدثنا أبو عبد الله الحكيمىّ قال حدثنى يموت بن المزرّع قال حدثنا محمد بن حميد قال: كنا عند الأصمعىّ؛ فأنشده رجل أبيات دعبل: أين الشّباب وأيّة سلكا! … لا، أين يطلب ضلّ بل هلكا! (¬3) / لا تعجبى يا سلم من رجل … ضحك المشيب برأسه فبكى يا سلم ما بالشّيب منقصة … لا سوقة يبقى ولا ملكا قصر الغواية عن هوى قمر … وجد السّبيل إليه مشتركا يا ليت شعرى كيف نومكما … يا صاحبىّ إذا دمى سفكا! لا تأخذا بظلامتى أحدا … قلبى وطرفى فى دمى اشتركا قال: فاستحسنها كلّ من فى المجلس، وأكثروا التعجب من قوله: * ضحك المشيب برأسه فبكى* ¬

_ - وبعدهما: أئنّ من الشّوق الّذي فى جوانحى … أنين عضيض بالسّلاح جريح» وفى معجم البلدان 8: 377 أبيات خمسة نسبها إلى ابن الدمينة، يتفق البيت الأول والرابع والخامس مع هذه الأبيات، والبيت الثانى والثالث هناك: رأيتك غضّ النّبت مرتبط الثّرى … يحوطك شجاع عليك شحيح كأنّ مدوف الزّعفران بجنبه … دم من ظباء الواديين ذبيح. (¬1) حاشية ت (من نسخة): «ذا علة». (¬2) حاشية الأصل: قبله: نزف البكاء دموع عينك فاستعر … عينا لغيرك دمعها مدرار والبيتان فى ديوانه: 68. (¬3) الأبيات فى العقد 5: 375 والخزانة 3: 487.

فقال الأصمعىّ: إنما أخذ قوله هذا من ابن مطير الأسدىّ فى قوله: أين أهل القباب بالدّهناء! … أين جيراننا على الأحساء! (¬1) جاورونا والأرض ملبسة … نور الأقاحى تجاد بالأنواء كلّ يوم عن أقحوان جديد … تضحك الأرض من بكاء السّماء (¬2) وقد أخذه مسلم صريع الغوانى فى قوله: مستعبر يبكى على دمنة … ورأسه يضحك فيه المشيب (¬3) قال سيدنا أدام الله علوّه: ولأبى الحجناء نصيب الأصغر مثل هذا المعنى، وهو قوله: يبكى الغمام به فأصبح روضه … جذلان يضحك بالجميم ويزهر (¬4) ولابن المعتز مثله: ألحّت عليه كلّ طخياء ديمة … إذا ما بكت أجفانها ضحك الزّهر (¬5) ولابن دريد مثله: تبسّم المزن وانهلّت مدامعه … فأضحك الرّوض جفن الضّاحك الباكي (¬6) وغازل الشّمس نور ظلّ يلحقها (¬7) … بعين مستعبر بالدّمع ضحّاك وروى عن أبى العباس المبرد أنه قال: أخذ ابن مطير قوله: * تضحك الأرض من بكاء السّماء* / من قول دكين الراجز: جنّ النّبات فى ذراها وزكا (¬8) … وضحك المزن به حتّى بكى ¬

_ (¬1) الخزانة 2: 487، عن الغرر. وفى حاشية الأصل: «الأحساء: جمع حسى، وهو الموضع الّذي استنقع فيه الماء». والدهناء: أرض من منازل تميم بنجد. (¬2) ت حاشية الأصل (من نسخة): «بأقحوان». (¬3) ديوانه: 367، الوساطة: 44. (¬4) ت: «يبكى الغمام». الجميم: الكلأ الكثير. (¬5) ديوانه: 1: 33. (¬6) ديوانه: 98، والخزانة 2: 487 - 488 وكلاهما عن الغرر. وفى حاشية ت (من نسخة) «دمع الضاحك الباكي». (¬7) ت: «يلحظها». (¬8) الخزانة 2: 488، عن الغرر.

33

33 مجلس آخر [المجلس الثالث والثلاثون: ] تأويل آية [: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ... ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ؛ [آل عمران: 7]. الجواب، قلنا: ذكر فى هذه الآية وجهان مطابقان للحقّ: أحدهما أن يكون الراسخون فى العلم معطوفين على اسم الله تعالى؛ فكأنه قال: وما يعلم تأويله إلا الله وإلّا الراسخون فى العلم، وإنهم مع علمهم به يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ؛ فوقع قوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ فى موقع الحال؛ والمعنى أنهم يعلمونه قائلين: آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وهذا غاية المدحة لهم؛ لأنهم إذا علموا ذلك بقلوبهم، وأظهروا التصديق به على ألسنتهم فقد تكاملت مدحتهم ووصفهم بأداء الواجب عليهم. والحجة- لمن ذهب إلى ما بيّناه، والردّ على من استبعد عطفه على الأول وتقديره أن يكون قوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ على هذا التأويل لا ابتداء له، - قوله: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى؛ إلى قوله: شَدِيدُ الْعِقابِ؛ [الحشر: 7]، فذكر جملة، ثم تلاها بالتفصيل، وتسمية من يستحق هذا الفيء فقال: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، إلى قوله: الصَّادِقُونَ؛ [الحشر: 8]. وقال فى الذين تبوء والدار والإيمان- وهم الأنصار: يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ؛ [الحشر: 9]. وقال فيمن جاء بعدهم: يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا

وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ؛ [الحشر: 10]، فهذه الآيات تدلّ على أنه لا ينكر فى آية «الراسخين فى العلم» أن يكون قوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حالا لهم؛ مع العلم بتأويل المتشابه؛ ولو أشكل شيء من ذلك لما أشكل قوله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا فى أنه موافق لقوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وأن الصورتين واحدة. ومما يستشهد به/ على ذلك من الشعر قول يزيد بن (¬1) مفرّغ فى عبد له كان يسمّى بردا باعه ثم ندم عليه: وشربت بردا ليتنى … من بعد برد كنت هامه (¬2) هامة تدعو صدى … بين المشقّر فاليمامة (¬3) الرّيح تبكى شجوه … والبرق يلمع فى الغمامة (¬4) فعطف البرق على الريح، ثم أتبعه بقوله: «يلمع»؛ كأنه قال: والبرق أيضا يبكيه لامعا فى غمامه؛ أى فى حال لمعانه؛ ولو لم يكن البرق معطوفا على الريح فى البكاء لم يكن للكلام معنى ولا فائدة. ويمكن أيضا على هذا الوجه مع عطف «الراسخين» على ما تقدّم، وإثبات العلم بالمتشابه لهم أن يكون قوله: يَقُولُونَ آمَنَّا استئناف جملة، واستغنى فيه عن حرف العطف؛ كما استغنى فى قوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ؛ [الكهف: 22]، ونحو ذلك مما للجملة الثانية فيه التباس بالجملة الأولى، فيستغنى به عن حرف العطف، ولو عطف بحرف العطف كان حسنا، ينزّل المتلبّس منزلة غير المتلبّس. والوجه الثانى فى الآية أن يكون قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مستأنفا غير معطوف ¬

_ (¬1) هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ؛ وخبر بيعه بردا، مع الأبيات فى الأغانى 17: 53 - 55. (¬2) شريت: بعت، والهامة والصدى، كلاهما كناية عما تزعم العرب أنه يطير من رأس الميت. (¬3) المشقر: حصن بين البحرين ونجران. (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «فى غمامة».

على ما تقدّم، ثم أخبر عنهم بأنهم: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، ويكون المراد بالتأويل على هذا الجواب المتأوّل، لأنه قد يسمّى تأويلا، قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ، [الأعراف: 53] والمراد بذلك لا محالة المتأوّل، والمتأوّل الّذي لا يعلمه العلماء؛ وإن كان الله عز وجلّ عالما به، كنحو وقت قيام الساعة، ومقادير الثواب والعقاب، وصفة الحساب، وتعيين الصغائر؛ إلى غير ذلك؛ فكأنه قال: وما يعلم تأويل جميعه. على المعنى الّذي ذكرناه إلا الله؛ والعلماء يقولون آمنّا به. وقد اختار أبو عليّ الجبائىّ هذا الوجه، وقوّاه، وضعّف الأول بأن قال: قول الراسخين فى العلم آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا دلالة على استسلامهم؛ لأنهم لا يعرفون تأويل المتشابه، كما يعرفون تأويل المحكم، ولأن ما ذكرناه من وقت القيامة، ومن التمييز بين الصغائر والكبائر هو من تأويل القرآن؛ إذا كان داخلا فى خبر الله؛ والراسخون فى العلم/ لا يعلمون ذلك. وليس الّذي ذكره بشيء؛ لأنه لا يمتنع أن يقول العلماء مع علمهم بالمتشابه: آمَنَّا بِهِ على الوجه الّذي قدمنا ذكره؛ فكيف يظنّ أنهم لا يقولون ذلك إلا مع فقد العلم به! وما المنكر من أن يظهر الإنسان بلسانه الإيمان بما يعلمه ويتحققه! فأما قوله: «ولأن ما ذكرناه من تأويل القرآن» فذلك إنما يكون تأويلا للقرآن إذا حملت هذه اللفظة على المتأوّل، لا على الفائدة والمعنى. وأما إذا حملت على أنه: وما يعلم معنى المتشابه وفائدته إلّا الله، فلا بدّ من دخول العلماء فيه. وليس يمكنه أن يقول: إنّ حمل التأويل على المتأوّل أظهر من حمله على المعنى والفائدة؛ لأن الأمر بالعكس من ذلك؛ بل حمله على المعنى أظهر وأكثر فى الاستعمال، وأشبه بالحقيقة؛ على أنه لو قيل: إنّ الجواب الأول أقوى من الثانى لكان أولى من قوله من قبل: إنه لو كان المراد بالتأويل المتأوّل لا الفائدة والمعنى لم يكن لتخصيص المتشابه بذلك دون المحكم معنى؛ لأن فى متأوّل المحكم؛ كإخباره عن الثواب والعقاب والحساب؛ ممّا لا شبهة فى كونه

إيراد طائفة من محاسن شعر أبى حية النميرى وتفسير ما فيها من الغريب

محكما ما لا يعرف تفصيله وكنهه إلا الله تعالى؛ فأىّ معنى لتخصيص المتشابه بذلك والكلام يقتضي توجّهه نحو المتشابه! ألا ترى إلى قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ! فخصّ المتشابه بالذكر. والأولى أيضا أن يكون المراد بلفظة تَأْوِيلِهِ الثانية هو المراد بلفظة تَأْوِيلِهِ الأولى، وقد علمنا أن الذين فى قلوبهم زيغ إنما اتّبعوا تأويله على خلاف معناه ولم يطلبوا تأويله الّذي هو متأوّله؛ فالوجه الأول أقوى وأرجح. ويمكن فى الآية وجه ثالث لم نجدهم ذكروه، على أن يكون قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مستأنفا غير معطوف، ويكون المعنى: وما يعلم تأويل المتشابه بعينه وعلى سبيل التفصيل إلا الله؛ وهذا صحيح لأنّ أكثر المتشابه قد يحتمل الوجوه الكثيرة المطابقة للحق، الموافقة لأدلة العقول؛ فيذكر المتأوّل جميعها، ولا يقطع على مراد الله منها بعينه، لأنّ الّذي يلزم مثل ذلك أن يعلم فى الجملة أنه لم يرد من المعنى ما يخالف الأدلة؛ وأنه قد أراد بعض الوجوه المذكورة المتساوية فى الجواز، والموافقة للحق. وليس من تكليفنا أن نعلم المراد/ بعينه؛ وهذا مثل الضلال والهدى اللّذين نبين احتمالهما لوجوه كثيرة؛ منها ما يخالف الحقّ فيقطع على أنه تعالى لم يرده، ومنها وجوه تطابق الحق، فيعلم فى الجملة أنه قد أراد أحدها، ولا يعلم المراد منها بعينه وغير هذا من الآى المتشابهة؛ فإن أكثرها يحتمل وجوها، والقليل منها يختص بوجه واحد صحيح لا يحتمل سواه؛ ويكون قوله تعالى من بعد: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، أى صدّقنا بما نعلمه مفصّلا ومجملا من المحكم والمتشابه؛ وأنّ الكلّ من عند ربنا؛ وهذا وجه واضح. *** [إيراد طائفة من محاسن شعر أبى حية النميرىّ وتفسير ما فيها من الغريب: ] أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال أخبرنا محمد بن أبى الأزهر قال أنشدنا محمد بن يزيد لأبى حيّة (¬1) النّميرىّ- وهى أبيات مختارة: ¬

_ (¬1) هو أبو حية الهيثم بن الربيع بن زرارة، ينتهى نسبه إلى مضر بن نزار. من مخضرمى الدولتين، -

وخبّرك الواشون ألّا أحبّكم … بلى وستور الله (¬1) ذات المحارم (¬2) أصدّ، وما الصّدّ الّذي تعرفينه … عزاء بنا إلّا اجتراع العلاقم (¬3) حياء وبقيا أن تشيع نميمة … بنا وبكم؛ أفّ لأهل النّمائم! (¬4) وإنّ دما لو تعلمين جنيته … على الحىّ، جانى مثله غير سالم (¬5) أما إنّه لو كان غيرك أرقلت … صعاد القنا بالرّاعفات اللهازم (¬6) ولكنه والله ما طلّ مسلما … كبيض الثّنايا واضحات الملاغم - قال ثعلب: الملاغم، ما حول الفم، وقال المبرّد: «واضحات الملاغم»، يريد العوارض، وقوله: «ما طلّ مسلما»، أى أبطل دمه- إذا هنّ ساقطن الحديث حسبته (¬7) … سقوط حصى المرجان من سلك ناظم - ويروى: «ساقطن الأحاديث للفتى». ويروى أيضا: «ساقطن الحديث كأنّه» - رمين فأقصدن القلوب فلا ترى … دما مائرا إلّا جوى فى الحيازم (¬8) ¬

_ - من ساكنى البصرة، وكان شاعرا راجزا مقصدا، (وانظر ترجمته وأخباره فى الأغانى 15: 61 - 62 والشعر والشعراء 749 - 750، والخزانة 4: 283 - 285). (¬1) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «ستور البيت». (¬2) الكامل- بشرح المرصفى 1: 231 - 235، وأمالى القالى 2: 280، ومختارات ابن الشجرى 153. (¬3) اجتراع: مصدر اجترع الماء إذا ابتلعه. والعلاقم: واحدها العلقم، جمع العلقمة، وهى القطعة من كل شيء مر. (¬4) حاشية ت (من نسخة): «لهذى التمائم». (¬5) حاشية ت (من نسخة): «غير نادم». (¬6) فى حاشيتى الأصل، ف: «الإرقال: ضرب من السير السريع؛ وهو هنا استعارة، والصعاد: جمع صعدة، والراعفات: الأسنة التى يرعفن، واللهازم: جمع لهذم؛ وهن القواطع». (¬7) ت، حاشية الأصل (من نسخة): «كأنه»؛ وهى رواية الكامل، وفى حاشية ت (من نسخة): «ساقطن الأحاديث بيننا». (¬8) أقصدن القلوب: رمينها؛ من قولهم؛ قصدت الرجل إذا طعنته أو رميته؛ فلم تخطئ مقاتله. والدم المائر: السائل. والحيازم: الحيازيم؛ وهى ضلع الفؤاد وما اكتنف الحلقوم من جانب الصدر. وفى حاشية الأصل (من نسخة): «فأصمن القلوب».

قال سيدنا أدام الله تمكينه: ومن مستحسن ما مضى فى هذه القصيدة قوله: كأن لم أبرّح بالغيور وأقتتل … بتفتير أبصار الصّحاح السّقائم (¬1) / ولم أله بالحدث الألفّ الّذي له … غدائر لم يحرمن فار اللّطائم (¬2) إذا اللهو يطبينى وإذ أستميله … بمحلولك الفودين وحف المقادم (¬3) وإذ أنا منقاد لكلّ مقوّد … إلى اللهو حلّاف البطالات آثم - وروى ابن حبيب: «مقوّد». ومعنى «حلّاف البطالات»، أى حلّاف فى البطالات- مهين المطايا متلف غير أنّنى … على هلك ما أتلفته غير نادم (¬4) أرى خير يومىّ الخسيس وإن غلا … بى اللّوم لم أحفل ملامة لائم - معنى «خير يومىّ الخسيس»، أى أحبّ يومىّ إلى الّذي هو أخسّ عند أهل الرأى والعقل. وأنشد أبو إسحاق إبراهيم بن سيف بن الزّيادىّ لأبى حيّة- واسمه هيثم بن الربيع: ترحّل بالشّباب الشّيب عنّا … فليت الشّيب كان به الرّحيل وقد كان الشّباب لنا خليلا … فقد قضى مآربه الخليل لعمر أبى، الشّباب لقد تولّى … حميدا ما يراد به بديل ¬

_ (¬1) حواشى الأصل، ت، ف: «أى كأن لم أعذب بعذاب شديد؛ ويعنى بالغيور زوجها أو أخاها. ومعنى أقتتل أقتل. والأعرف فى الحب أن يقال: اقتتله الحب؛ قال ذو الرمة: إذا ما امرؤ حاولن أن يقتتلنه … بلا إحنة بين النّفوس ولا زحل. (¬2) الحدث: المحادث. والألف: عظيم الفخذ؛ ويقال: امرأة لفاء؛ إذا كانت ضخمة الفخذين مكتنزة باللحم. والفار: نافجة المسك. واللطائم: جمع لطيمة؛ وهى القافلة التى يكون فيها المسك. (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «إذا أستميله». طباه: دعاه. والمحلولك: الحالك الأسود. والفودان: مثنى فود؛ وهو معظم شعر الرأس مما يلى الأذن وناحية الرأس. والوحف: الشعر الكثير الأسود. والمقادم: مقدمات الرأس. (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «على ردما أتلفنه» «أى على اكتساب؛ والتقدير: غير أنى غير نادم؛ مع أنى قادر على رد ما أتلفت واكتساب مثله».

إذ الأيّام مقبلة علينا … وظلّ أراكة الدّنيا ظليل وأنشد المبرّد، قال أنشدنا أبو عثمان المازنىّ لأبى حيّة: زمان الصّبا ليت أيّامنا … رجعن لنا الصّالحات القصارا (¬1) زمان عليّ غراب غداف … فطيّره الدهر عنى فطارا فلا يبعد الله ذاك الغراب … وإن هو لم يبق إلّا ادّكارا كأنّ الشّباب ولذّاته … وريق الصّبا كان يوما معارا (¬2) - ريّق الصبا وريقه ورونقه: أوّله- وهازئة أن رأت لمّتى … تلفّع شيب بها فاستدارا (¬3) وقلّدنى منه بعد الخطام … عذارا فما أستطيع اعتذارا (¬4) / أجارتنا إنّ ريب الزّمان … قبلى نال الرّجال الخيارا (¬5) فإمّا ترى لمّتى هكذا … فأسرعت فيها لشيبى النّفارا (¬6) فقد ارتدى وحفة طلّة … وقد أبرز الفتيات الخفارا أما قوله: «عليّ غراب غداف» فأراد به الشّباب والشّعر الأسود، ويشبه أن يكون مأخوذا من قول الأعشى: وما طلابك شيئا لست تدركه … إن كان عنك غراب الجهل قد وقعا! (¬7) ولأبى حيّة من قصيدة أولها: * ألا يا اسلمى أطلال خنساء وانعمى (¬8) * ¬

_ (¬1) حاشية ت: «يحتمل أن تكون «الصالحات» مفعول «رجعن، ويحتمل أن يكون نصبا على المدح. (¬2) ت، حاشية الأصل (من نسخة): «ثوبا معارا. (¬3) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «أهازئة». وتلفع الشيب به، أى شمله. (¬4) حاشية ت: «جعل ظهور الشيب فى شاربه وعنفقته خطاما، وشيب ما على لحييه من الشعر عذارا؛ وهذا من حسن التشبيه». (¬5) حاشية ت (من نسخة): «غال الرجال». (¬6) حاشية الأصل (من نسخة): «منها لشيبى». ومن نسخة أخرى: «فأسرعت منى». وفى حاشية ت (من نسخة): «لشيب نفارا». (¬7) ديوانه: 73. (¬8) أبيات منها فى زهر الآداب: 190 (طبعه الحلبى) والحماسة- بشرح التبريزى 3: 308 - 310.

وخنساء مخماص الوشاحين مشيها … إلى الرّوح أفنان خطا المتجشّم (¬1) ألمّا بسلمى قبل أن ترمى النّوى … بنافذة نبض الفؤاد المتيّم يقف عاشقا لم يبق من روح نفسه … ولا عقله المسلوب غير التّوهّم فقلن لها سرّا: فديناك! لا يرح … صحيحا، فإن لم تقتليه فألممى (¬2) فألقت قناعا دونه الشّمس واتّقت … بأحسن موصولين: كفّ ومعصم وهذا البيت الأخير مأخوذ من قول النابغة: سقط النّصيف ولم ترد إسقاطه … فتناولته واتّقتنا باليد (¬3) ولقوله: «وقلن لها سرّا فديناك لا يرح» خبر، وهو ما أخبرنا به أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال حدّثني محمد بن يحيى الصولىّ قال حدثنى الباقطانىّ قال: اتصل بعبيد الله بن سليمان بن وهب أمر عليّ بن العباس الرومىّ وكثرة مجالسته لأبى الحسين القاسم ابنه، وسمع شيئا من أهاجيه، فقال لأبى الحسين: قد أحببت أن أرى ابن روميّك هذا؛ فدخل يوما عبيد الله إلى أبى الحسين وابن الرومىّ عنده، فاستنشده من شعره فأنشده، وخاطبه، فرآه مضطرب العقل جاهلا، فقال لأبى الحسين- بينه وبينه-: إنّ لسان هذا أطول من عقله، ومن هذه صورته لا تؤمن عقاربه عند أول عتب، ولا يفكّر فى عاقبة، فأخرجه عنك، فقال: أخاف حينئذ أن يعلن ما يكتمه فى دولتنا، ويذيعه فى تمكّننا، فقال: يا بنيّ/ لم أرد بإخراجك له طرده، فاستعمل فيه بيت أبى حيّه النّميرىّ: فقلنا: لها سرّا فديناك! لا يرح … صحيحا، فإن لم تقتليه فألممى ¬

_ (¬1) مخماس الوشاحين، كناية عن أنها هيفاء. والوشاح: أديم عريض ترصعه المرأة بالجواهر وتشده على عاتقيها. ومشيها إلى الروح؛ أى حين تخرج من خبائها تطلب الروح. وأفنان: جمع فن؛ أى أنواع؛ وفى ت: «إقتار خطا المتجشم». (¬2) ألممى: اشرعى فى مبادئ قتله. (¬3) ديوانه: 30؛ والنصيف: الخمار، أو نصفه.

فحدّث القاسم بن فراس بما جرى، وكان أعدى النّاس لابن الرومىّ؛ وقد هجاه بأهاج (¬1) قبيحة، فقال له الوزير أعزّه الله: أشار بأن يغتال حتى يستراح منه وأنا أكفيك ذلك قال: فسمّه فى الخشكنانج، فمات. قال الباقطانىّ: والناس يقولون ما قتله ابن فراس، وإنما قتله عبيد الله (¬2). وذكر محمد بن يزيد المبرّد قال: مما يفضّل لتخلّصه من التكلّف، وسلامته من التزيد وبعده من الاستعانة قول أبى حيّة: رمتنى- وستر الله بينى وبينها- … عشيّة آرام الكناس رميم (¬3) ألا ربّ يوم لو رمتنى رميتها، … ولكنّ عهدى بالنّضال قديم (¬4) قال سيدنا أدام الله علوّه: وقد روى هذان البيتان لنصيب فى غير رواية المبرّد. قال المبرّد يقول: رمتنى وأصابتنى بمحاسنها، ولو كنت شابا لرميت كما رميت، وفتنت كما فتنت؛ ولكن عهدى قد تطاول بالشباب، وهذا كلام واضح؛ وأما الاستعانة فهى أن يدخل فى الكلام ما لا حاجة بالمستمع إليه ليصحّح نظما أو وزنا (¬5). ومما يختار من قول أبى حيّة أيضا: ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «يقال بينهم أهجوة وأهجية، والجمع الأهاجى، وقد يخفف كالأثافى». (¬2) فى ت: «قال ابن الرومى لما رجع، وقد دب السم فى أعضائه: أشرب الماء إذا ما التهبت … نار أحشائى لإطفاء اللهب فأراه زائدا فى حرقتى … فكأن الماء للنّار حطب. (¬3) الكامل- بشرح المرصفى 1: 129 - 130، وهما أيضا فى الحماسة- بشرح التبريزى 3: 269 - 270 وآرام: جمع إرم، مثل عنب؛ وهى الحجارة تنصب علما فى المفازة يهتدى بها. رميم: اسم امرأة. وستر الله: الإسلام، وقيل الشيب؛ وقيل ما حرم الله عليهما. (¬4) ومن زيادات الكامل بعد هذا البيت: يرى الناس أنّى قد سلوت وإننى … لمرمىّ أحناء الضلوع سقيم. (¬5) بقية عبارة المبرد: « .. ، إن كان فى شعر، أو ليتذكر به ما بعده إن كان فى كلام منثور».

ألا حىّ من أجل الحبيب المغانيا … لبسن البلى ممّا لبسن اللّياليا (¬1) إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة … تقاضاه شيء لا يملّ التّقاضيا ويقال: إن أحسن ما وصف به المسواك قول أبى حيّة: لقد طالما عنّيت راحلة الصّبا … وعلّلت شيطان الغوىّ المشوّق (¬2) وداويت قرح القلب منهنّ بالمنى … وباللحظ- لو يبذلنه- المتسرّق وساقيننى كأس الهوى وسقيتها … رقاق الثّنايا عذبة المتريّق (¬3) وخمصانة تفترّ عن متنضّد … كنور الأقاحى طيّب المتذوّق /- ويروى: «عن متنسّق»، يعنى ثغرا على نسق واحد لا اختلاف فيه- إذا مضغت بعد امتناع من الضّحى … أنابيب من عود الأراك المخلّق - الامتتاع: الارتفاع، يقال متع النهار وأمتع إذا طال- والمخلّق: الّذي علق به الخلوق والطيب من يدها؛ وقال بعضهم: عنى بالمخلّق المملّس- سقت شعث المسواك ماء غمامة … فضيضا بخرطوم المدام المروّق (¬4) - والفضيض: الّذي حين سال من الغمامة، أى كما فضّ (¬5)، والخرطوم: سلاف الخمر، وهو أول ما يخرج من غير عصر ولا دوس- وإن ذقت فاها بعد ما سقط النّدى … بعطفى بخنداة رداح المنطّق - البنخنداة: الضخمة. والرّداح: العظيمة الأرداف. شممت العرار الطّلّ غبّ هميمة … ونور الخزامى فى النّدى المترقرق (¬6) ¬

_ (¬1) الكامل- بشرح المرصفى 3: 25. (¬2) زهر الآداب: 227 (طبعة الحلى)، شرح المختار من شعر بشار: 238. (¬3) حاشية ت: «راق السراب يريق ريقا، وتريق، إذا لمع؛ كأنه قال: عذبة موضع التريق. ويجوز أن يكون مشتقا من الريق الّذي هو الرضاب؛ أى عذبة مترشف الريق». (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «بخرطوم المدام المروق». (¬5) كما فض؛ أى كما تفرق من السحابة؛ ولم تصل إليه غبرة. (¬6) حاشية الأصل (من نسخة): «ونور الأقاحى».

- العرار: بهار البرّ، والطّل: الغضّ الطرىّ، والهميمة: مطر ليّن (¬1): وأخبرنا المرزبانىّ قال حدثنى عليّ بن هارون بن عليّ قال: سمعت أبى- وقد ذكر قول أبى حيّة: نظرت كأنّى من وراء زجاجة … إلى الدّار من فرط الصّبابة أنظر (¬2) بعينين طورا تغرقان من البكا … فأعشى، وطورا تحسران فأبصر (¬3) فقال: لو اعترضنى مملّك تجب طاعته، ويلزم الانقياد لأمره فقال: أىّ شعر أجود وأولى بأن يستحسن؟ ولم يفسح لى فى أن أميّز المدح من الفخر، والهجاء من التشبيب، وسائر أصناف الشعر ومذاهب الشعراء فيه لما عدلت عن هذين البيتين. ويقال إن أبا أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر أجاز بيتى أبى حية هذين بقوله: فلا مقلتى من غامر الماء تنجلى … ولا دمعتى من مكمد الوجد تقطر (¬4) ولأبى حية: من المبكيات الجلد حتّى كأنما … تسحّ بعينيه الدّموع شعيب - الشّعيب: مزادة من أديمين، يشعب (¬5) أحدهما بالآخر- ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «فى نسخة س: أخبرنا البارع أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الوهاب البغدادى رحمه الله قال: أخبرنى الرئيس الحسن بن على بن محمد بن بارى الواسطى رحمه الله قال: كنا عند الملك العزيز فى مجلس أنسه، وأنشد منشد بيتى أبى حية: «إذا مضغت ... »، والّذي يليه، فسألنى الملك العزيز أن أجيزهما فقلت: هنيئا على رغمى لعود أراكة … تسوك به الذّلفاء مبسمها العذبا لئن شفيت منه لقد زان ثغرها … أراكا يبيسا، وانثنى مندلا رطبا. (¬2) أمالى القالى 1: 208 بلا عزو. وفى ت: «من ماء الصبابة». (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «فعيناى طورا». وتحسران، أى تنقشعان وتنكشفان. (¬4) حاشية ت من نسخة): «من مكمد الشوق تقطر»، وفى حاشيتى الأصل، ف: «فى الأصل: بين البيت والبيتين بعيد». (¬5) يشعب: يخاط. ويسح: يصب.

/ ليالى أهلانا جميعا وحولنا (¬1) … سوائم منها رائح وغريب وإذ يتجنّين الذّنوب وما لنا … إليهنّ [إلّا ودّهنّ ذنوب] (¬2) ولأبى حيّة: أصدّ عن البيت الحبيب وإنّنى … لأصغى إلى البيت الّذي أتجنّب أزور بيوتا غيره ولأهله … على ما عدا عنهم أعزّ وأقرب وقطّع أسباب المودّة معشر … غضابى، وهل فى أحسن القول مغضب (¬3)! وألّا تنى يا أمّ عمرو نميمة (¬4) … تدبّ بها بينى وبينك عقرب وما بيننا لو أنّه كان عالما … بذاك الألى يولون ما يترتّب (¬5) حديث إذا لم تخش عينا كأنّه … إذا ساقطته الشّهد، بل هو أطيب لو انّك تستشفى به بعد سكرة … من الموت كانت سكرة الموت تذهب (¬6) وقلت لها: ما تأمرين؟ فإنّنى … أرى البين أدنى روعة تترقب (¬7) قال محمد بن يحيى الصولىّ: ولا أحسبه فى قوله: * لو انّك تستشفى به بعد سكرة* إلّا تبع قول توبة بن الحميّر: ولو أنّ ليلى الأخيليّة سلّمت … عليّ، ودونى جندل وصفائح (¬8) لسلّمت تسليم البشاشة، أو زقا … إليها صدى من جانب القبر صائح ¬

_ (¬1) حاشية ت (من نسخة): «أهلانا جميع»، . (¬2) من نسخة بحواشى الأصل، ت، ف: «لولا ودهن ذنوب». (¬3) من نسخة بحاشيتى ت، الأصل: «يقطع أسباب المودة»، وفى د «غضاب». (¬4) حاشية ت: «قوله: «وأ لا تنى: عطف على معشر». (¬5) حاشية ت: «يولون: يحلقون علينا» ومن نسخة بحاشية الأصل: «يؤذون». (¬6) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «كادت سكرة الموت». (¬7) فى حاشيتى الأصل، ت (من نسخة): «ما تأمرينى». (¬8) ديوان الحماسة- بشرح التبريزى 3: 217. الصفائح: الحجارة العراض تكون على القبور.

قال سيدنا أدام الله علوّه: وأوّل من سبق إلى هذا المعنى فأحسن الأعشى فى قوله: عهدى بها فى الحىّ قد درّعت … صفراء مثل المهرة الضّامر (¬1) لو أسندت ميتا إلى نحرها … عاش ولم ينقل إلى قابر حتّى يقول النّاس ممّا رأوا … يا عجبا للميّت النّاشر! ومعنى الناشر: المنشور، يقال: نشر الله الميت فنشر، وهو ناشر بمعنى منشور؛ مثل ماء دافق فهو مدفوق. وقال بعض أصحاب المعانى: إنّ الجارية التى وصفها أيضا هى ميتة بمعنى أنها ستموت، فيكون المعنى: إن الناس عجبوا من أن يكون من يموت ينشر الموتى، ومن قال هذا أجاز: نشر الله الموتى/ بمعنى أنشر؛ والقول الأول أظهر، وما نظن الأعشى عنى غيره. ¬

_ (¬1) ديوانه 104 - 105، وفى حاشية الأصل: (من نسخة): «قد روعت»، وفى حاشية ت (من نسخة): «قد أبرزت»، وفى الديوان: «قد سربلت».

34

34 مجلس آخر «*» [المجلس الرابع والثلاثون: ] تأويل [قوله تعالى: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ... : ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ؛ [يوسف: 92]، حاكيا عن يوسف عليه السلام. فقال: لم خصّ «اليوم» بالقول، وإنما أراد العفو عنهم فى جميع مستقبل أوقاتهم؟ الجواب، قلنا: فى هذه الآية وجوه أربعة: أولها أنه لما كان هذا الوقت الّذي أشار إليه (¬1) هو أوّل أوقاته التى كشف فيها نفسه، وأطلعهم على ما كان يستره (¬2) عنهم من أمره؛ أشار إلى الوقت الّذي لو أراد الانتقام لابتدأ به فيه؛ والّذي متى عفا فيه عنهم (¬3) لم يراجع الانتقام. وثانيها أنّ يوسف عليه السلام لما قدّم توبيخهم، وعدّد عليهم قبيح ما فعلوه، وعظيم ما ارتكبوه؛ وهو مع ذلك يستر عليهم (¬4) نفسه، ولا يفصح لهم بحاله قال لهم عند تبين أمرهم: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ؛ أى قد انقطع عنكم توبيخى، ومضى عذلى ولائمتى عند اعترافكم بالذنب، وكان ذكر «اليوم» دلالة على انقطاع المعاقبة والتوبيخ؛ وعلى أنّ الأوقات المتصلة باليوم تجرى مجراه فى زوال الغضب، وتمام العفو، وسقوط المواقفة لهم على ما سلف منهم. وثالثها أنّ ذكر «اليوم» المراد به الزمان والحين، فوضع «اليوم» موضع الزّمان كلّه، المشتمل على الليالى والأيام والشهور والسنين؛ كما يقول العربى لغيره: قد كنت تستحسن شرب الخمر فاليوم قد وفّقت لتركها ومقتها؛ يريد فى هذا الزمان، ولا يريد يوما واحدا بعينه؛ ومثله: ¬

_ * فى الأصل: «هذا المجلس نصف الكتاب». (¬1) ت: «أشار الله إليه». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «ستره». (¬3) ساقطة من ت. (¬4) ت: «عنهم».

قد كنت تقصّر فى الجواب عن فنون العلم فاليوم ما تعجزك مسألة، ولا تتوقّف عن مشكلة؛ يريد باليوم باقى الزمان كله، وقال امرؤ القيس: حلّت لى الخمر وكنت امرأ … عن شربها فى شغل شاغل (¬1) فاليوم فاشرب غير مستحقب … إثما من الله ولا واغل (¬2) لم يقصد يوما بعينه؛ ومثله: / اليوم يرحمنا من كان يغبطنا … واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا وقال لبيد: وما النّاس إلّا كالدّيار وأهلها … بها يوم حلّوها، وغدوا بلاقع (¬3) كل ذلك لا يراد بذكر اليوم أو الغد فيه إلا جميع الأوقات المستقبلة. ورابعها أن يكون المراد: لا تثريب عليكم البتّة، ثم قال: الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ؛ فتعلّق «اليوم» بالغفران، وكان المعنى غفر الله لكم اليوم (¬4). وقد ضعّف قوم هذا الجواب من جهة أن الدعاء لا ينصب ما قبله. فأما التثريب فإن أبا عبيدة قال: معناه لا شغب ولا معاقبة ولا إفساد (¬5). وقال الشاعر: فعفوت عنهم عفو غير مثرّب … وتركتهم لعقاب يوم سرمد ¬

_ (¬1) ديوانه: 150. وفى شرح الديوان: «كان حلف ألا يشرب خمرا، ولا يأكل لحما، ولا يغسل رأسا؛ حتى يدرك بثأر أبيه؛ وكذلك كانت العرب تفعل؛ فلما أخذ بثأر أبيه شربها فبرت يمينه». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «أشرب» بسكون الباء؛ ورواية الديوان: * فاليوم أسقى غير مستحقب* المستحقب: المكتسب للإثم الحامل له. والواغل: الّذي يدخل على القوم وهم يشربون فيشرب معهم من غير دعوة. (¬3) ديوانه 2: 22. (¬4) حواشى الأصل، ت، ف: «لم لا يكون إخبارا محضا بالغفران حتى لا يعترض بذلك! وله وجه آخر وهو أن المعنى: اليوم أقول لكم هذا القول الّذي هو يغفر الله لكم فاختصر». (¬5) حاشية ت (من نسخة): «فساد».

تأويل خبر: تأويل ما ورد فى حديث نهى النبي عليه السلام عن كسب الزمارة

وقال أبو العباس ثعلب: يقال: ثرّب فلان على فلان إذا عدّد عليه ذنوبه. وقال بعضهم (¬1): التثريب مأخوذ من لفظ الثّرب، وهو شحم الجوف، فكأنّه موضوع للمبالغة فى اللوم والتعنيف والتقصّى إلى أبعد غايتهما (¬2). تأويل خبر [: تأويل ما ورد فى حديث نهى النبي عليه السلام عن كسب الزمارة] روى أبو عبيد القاسم بن سلّام عن حجّاج عن حماد بن سلمة عن هشام بن حسان، وحبيب بن الشّهيد عن ابن سيرين عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله نهى عن كسب الزّمّارة. وقال أبو عبيد: قال حجّاج: الزّمّارة الزانية، وقال: هذا مثل حديثه الآخر أنه نهى عن كسب البغىّ. وقال أبو عبيد: وقال غير حجّاج: هى الرّمازة، بتقديم الراء، قال: وقول حجّاج أثبت عندنا؛ لأنهم كانوا يكرهون إماءهم على البغاء، فأنزل الله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً؛ لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا [النور: 33]، قال: فالعرض هو كسب البغىّ الّذي نهى النبي صلى الله عليه وآله عنه. قال أبو عبيد: ولا أعلم ممّ أخذت «الزّمارة»؛ غير أنى وجدتها مفسّرة فى الحديث. وقال ابن قتيبة: الأمر على ما ذكر أبو عبيد، إلا ما أنكره على من زعم أنها الرّمازة؛ لأن الرّمازة هى الفاجرة، سميّت بذلك لأنها ترمز، أى تومئ بعينيها وحاجبيها وشفتيها. قال الفرّاء: وأكثر الرّمز بالشّفتين، ومنه قوله تعالى: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً [آل عمران: 41]، فالرّمازة صفة من صفات الفاجرة، / ثم صار اسما لها أو كالاسم؛ ولذلك قيل لها: هلوك؛ لأنها تتهالك على الفراش، أو على الرجل، ثم صار اسما لها دون غيرها من النساء، وإن تهالكت على زوجها، وقيل لها خريع، ¬

_ (¬1) م: «وهو ابن مسلم». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «غاياتها».

للينها وتثنّيها، ثم صار ذلك اسما لها دون غيرها من النساء؛ وإن لانت وتثنّت؛ ونحوه قولهم للبعير: أعلم؛ للشّقّ فى مشفره الأعلى ثم صار كالاسم له؛ وكذلك قولهم للذئب: أزلّ أرسح (¬1)، ثم صار كالاسم له، والمريبة لا تكاد تعلن بالكلام، إنما تومض (¬2) أو ترمز أو تصفر، قال الشاعر: رمزت إلى مخافة من بعلها … من غير أن يبدو هناك كلامها وقال الأخطل: أحاديث سدّاها ابن حدراء فرقد … ورمّازة مالت لمن يستميلها (¬3) وقال الراجز: يومئن بالأعين والحواجب … إيماض برق فى عماء ناضب (¬4) - والعماء: السحاب، والناضب: البعيد- وقال بعضهم: إنما قيل للفاجرة قحبة، من القحاب وهو السّعال؛ قال: وأحسبه أراد أنها تتنحنح أو تسعل ترمز بذلك. قال: وبلغنى عن المفضّل أنه كان يقول فى قول الناس: «أجبن من صافر» (¬5) أنه الرجل يصفر للفاجرة، فهو يخاف كل شيء. وأما الأصمعىّ فإنه كان يقول: الصافر ما يصفر من الطير، وإنما وصف بالجبن لأنه ليس من الجوارح. قال ابن قتيبة: ولا أرى القول إلا قول المفضّل، والدليل على ذلك قول الكميت بن زيد الأسدىّ: ¬

_ (¬1) الأزل: الحفيف الوركين. والأرسح: القليل لحم العجز. (¬2) تومض، أى تعرض نفسها. (¬3) ديوانه: 241، واللسان (رمز) والحدراء: الممتلئة الفخذ والعجز. (¬4) البيتان فى اللسان (زمر)، والرواية فيه: «يومضن بالأعين ... ». (¬5) المثل فى مجمع الأمثال للميدانى 1: 168؛ وروى عن ابن حبيب أن الصافر طائر يتعلق من الشجر برجليه، وينكس رأسه، خوفا من أن ينام فيؤخذ فيصفر منكوسا طول ليلته.

أرجو لكم أن تكونوا فى إخائكم … كلبا كورهاء تقلى كلّ صفّار (¬1) لمّا أجابت صفيرا كان آيتها … من قابس شيّط الوجعاء بالنّار (¬2) وهذه امرأة كان يصفر لها رجل فتجيبه، فتمثّل زوجها به وصفر لها، فأتته فشيّطها بميسم، فلما أعاد الصّفر (¬3) قالت: «قد قلينا كلّ صفّار (¬4)»، تريد أنا قد عففنا (¬5) واطّرحنا كلّ فاجر. قال أبو بكر محمد بن القاسم الأنبارىّ: والاختيار عندى: «الزّمارة» معجمة الزاى على ما قال أبو عبيد، لحجج ثلاث: / إحداهنّ إجماع أهل الحديث على الزّمارة. والحجة الثانية أن الفاجرة سميت زمارة، لأنها تحسّن نفسها وكلامها، والزمر عند العرب الحسن، قال عمرو بن أحمر الباهلىّ يصف شرابا وغناء: دنّان حنّانان بينهما … رجل أجشّ غناؤه زمر (¬6) قال الأصمعىّ: معناه غناؤه حسن؛ كأنه من مزامير داود. والحجة الثالثة أنهم سمّوا الفاجرة زمّارة، لمهانتها وقلة ما فيها من الخير؛ من قول العرب (¬7): نعجة زمرة؛ إذا كانت قليلة الصوف، ويقال: رجل زمر المروءة، إذا كان قليلها، قال ابن أحمر: مطلنفئا لون الحصى لونه … يحجز عنه الذّرّ ريش زمر (¬8) ¬

_ (¬1) البيتان فى مجمع الأمثال 2: 40، والثانى فى اللسان (شيط). الورهاء: الحمفاء. (¬2) شيط: أحرق. والوجعاء: الدبر. (¬3) ت: «الصفير». (¬4) المثل فى مجمع الأمثال 2: 40، والرواية فيه: «قد قلينا صفيركم». (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «عققنا». (¬6) البيت فى اللسان (زمر)، وفى ت، ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «زجل». والزجل: عود أو معزفة. (¬7) م: «من قولهم». (¬8) حواشى الأصل، ت، ف: «يصف فرخ القطاة؛ وقبله: تروى لقى ألقى فى مهمه … تصهره الشّمس فما ينصهر.

أبيات للمضرب بن كعب بن زهير

المطلنفئ: اللاصق بالأرض، والذرّ: النمل، والزّمر: القليل، فسمّى البغىّ (¬1) زمّارة، على وجه الذم لها والتصغير لشأنها؛ كما قيل لها: فاجرة لميلها عن القصد، يقال: فجر الرجل إذا مال، قال لبيد: فإن تتقدّم تغش منها مقدّما … غليظا، وإن أخّرت فالكفل فاجر (¬2) أى مائل، والكفل: كساء يوضع على ظهر البعير يوقّى من العرق. قال سيدنا أدام الله علوّه: ولا أرى لإحدى الروايتين على الأخرى رجحانا؛ لأنّ كلّ واحدة منهما قد أتت من جهة من يسكن إلى قوله، ولكلّ منهما مخرج فى اللغة، وتأويل يرجع إلى معنى واحد؛ لأن الرّمازة، بالراء غير معجمة يرجع معناها على ما ذكر ابن قتيبة إلى معنى الفجور، ومن رواها بالزاى المعجمة فالمرجع فى معناها إلى ذلك أيضا على الوجهين اللذين ذكرهما ابن الأنبارىّ، والأولى أن يثبتا (¬3) متساويين، ويكون الراوى مخيّرا فيهما. *** [أبيات للمضرّب بن كعب بن زهير: ] أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزبانىّ قال أنشدنى محمد بن أحمد الكاتب قال أنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابىّ للمضرّب (¬4)؛ وهو عقبة بن كعب بن زهير بن أبى سلمى: ¬

_ (¬1) ف، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «فسميت البغى». (¬2) ديوانه 1: 5، ومن نسخة فى حواشى الأصل، ت، ف: «أخرت»: بالبناء للمجهول. وفيها أيضا: «قبله: فأصبحت أنّى تأتها تبتئس بها … كلا مركبيها تحت رحلك شاجر تأتها، أى تأت هذه الخصلة والحالة، وقال الجوهرى: «الكفل هو ما اكتفل به الراكب، وهو أن يدار الكساء حول سنام البعير ثم يركب؛ ومنه قول إبراهيم: لا تشربوا من ثلمة الإناء ولا من عروته؛ فإنه كفل الشيطان؛ وإبراهيم هو التيمى». (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «أن يكونا». (¬4) ذكره المرزباني فى المؤتلف والمختلف: 281؛ وضبطه صاحب تاج العروس فى مستدرك-

وما زلت أرجو نفع سلمى وودّها … وتبعد؛ حتّى ابيضّ منى المسائح (¬1) وحتّى رأيت الشّخص يزداد مثله (¬2) … إليه؛ وحتّى نصف رأسى واضح / علا حاجبىّ الشّيب حتى كأنّه … ظباء جرت منها سنيح وبارح (¬3) وهزّة أظعان عليهنّ بهجة … طلبت، وريعان الصّبا بي جامح (¬4) فلمّا قضينا من منى كلّ حاجة … ومسّح بالأركان من هو ماسح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا … وسالت بأعناق المطىّ الأباطح (¬5) وشدّت على حدب المهارى رحالها … ولا ينظر الغادى الّذي هو رائح (¬6) قفلنا على الخوص المراسيل، وارتمت … بهنّ الصّحارى والصّفاح الصّحاصح (¬7) *** ¬

_ - (ضرب) أنه بوزن «محدث»، «معظم»، وضبط فى اللسان بالكسر فقط، وفى الأصل: بالفتح؛ وهو الأولى لما رواه ابن قتيبة فى الشعراء: 92 أنه «كان لكعب ابن يقال له عقبة بن كعب، شاعر، ولقبه المضرب؛ وذلك أنه شبب بامرأة من بنى أسد فقال: ولا عيب فيها غير أنّك واجد … ملاقيها قد ديّثت بركوب فضربه أخوها مائة ضربة بالسيف، فلم يمت، وأخذ الدية، فسمى المضرب». (¬1) ورد البيت الخامس والسادس والسابع من هذه الأبيات فى معاهد التنصيص 2: 134؛ وقال: «وقيل الأبيات لابن الطثرية، وهى مع بيتين تاليين فى زهر الآداب 2: 56 ووردت أيضا فى الشعر والشعراء 11، والصناعتين 59، وأسرار البلاغة 15، وورد الخامس والسادس فى الخصائص 1: 28، 218، وأمالى القالى 3: 166؛ وفيها جميعا من غير عزو مع اختلاف فى الترتيب. ونقلها أيضا صاحب المعاهد بنسبتها وروايتها عن الغرر؛ وهى ضمن 18 بيتا فى ديوان كثير: 77 - 84 والمسامح: شعر جوانب الرأس. (¬2) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): «مثله»، بفتح اللام. (¬3) السنيح والسانح: ما أتاك عن يمينك من ظبى أو طائر أو غير ذلك، والبارح: ما أتاك من ذلك عن يسارك. والسانح: أحسن حالا عندهم فى التيمن من البارح. (¬4) يعنى: ورب ظعائن طلبت اهتزازهن وارتياحهن للهو معهن. (¬5) أطراف الأحاديث: ما يستطرف منها ويؤثر. والأباطح: جمع أبطح؛ وهو المسيل الواسع، فيه دقاق الحصى. (¬6) المهارى: جمع مهرية؛ وهى المنسوبة إلى مهرة من حيوان؛ وهى قبيلة تكثر فيها النجائب. ولا ينظر: لا ينتظر. (¬7) الخوص: الإبل الغائرة العيون. والمراسيل: المسرعات. والصفاح: جمع صفح؛ وهو مضطجع الجبل، والصحاصح: جمع صحح، وهو المكان المستوى الواسع.

موازنة بين قول الرشيد: "قلب العاشق عليه مع معشوقه"، وقول طائفة من الشعراء

وأنشد ابن الأعرابىّ: فصدّت بعينى شادن وتبسّمت … بحمّاء عن غرّ لهنّ غروب (¬1) جرى الإسحل الأحوى عليهنّ أو جرى … عليهنّ من فرع الأراك قضيب (¬2) *** [موازنة بين قول الرشيد: «قلب العاشق عليه مع معشوقه»، وقول طائفة من الشعراء] أخبرنا أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرنى محمد بن يحيى الصولىّ قال حدثنا محمد بن الحسن البلغيّ قال حدثنا أبو حاتم قال: سمعت الأصمعىّ يقول: سمعت الرشيد يقول: قلب العاشق عليه مع معشوقه، فقلت له: هذا والله يا أمير المؤمنين أحسن من قول عروة بن حزام العذرىّ لعفراء: أرانى تعرونى لذكراك روعة … لها بين جلدى والعظام دبيب (¬3) وما هو إلّا أن أراها فجاءة … فأبهت حتى لا أكاد أجيب (¬4) وأصرف عن دارى الّذي كنت أرتئى (¬5) … ويعزب عنّى علمه ويغيب ويضمر قلبى غدرها ويعينها … عليّ، فما لى فى الفؤاد نصيب فقال الرشيد: من قال هذا وهما فإنى أقوله علما، ولله درّك يا أصمعيّ! فإنى أجد عندك ما تضلّ عنه العلماء. قال الصولىّ: فأخذه العباس بن الأحنف فقال: يهيم بحرّان الجزيرة قلبه … وفيها غزال فاتر الطّرف ساحره (¬6) يؤازره قلبى عليّ وليس لى … يدان بمن قلبى عليّ يؤازره ¬

_ (¬1) ف، ومن نسخة بحاشية ت: «تصدت». (¬2) الإسحل: شجر تتخذ منه أعواد السواك. والأحوى: الأسمر. (¬3) ديوانه: 43 (مخطوطة الشنقيطى بدار الكتب المصرية، والشعر والشعراء 60، وخزانة الأدب 1: 534، و 3: 615 - 617 وفى م: «وإنى لتعرونى». (¬4) البيت من (شواهد سيبويه 1: 430)، على جواز الرفع والنصب فى «أبهت»، فالنصب محمول على «أن»، والرفع على القطع والاستئناف. (¬5) م: «عارفا». (¬6) حران: قصبة ديار مضر بالجزيرة، بين الرها والرقة. ومن نسخة بحاشية الأصل: «ساحر الطرف فاتره».

أحسن ما قيل من الشعر فى صفة امرأة عجزاء خميصة، عن الأصمعى

/ وأشار إليه أيضا فى قوله: قلبى إلى ما ضرّنى داعى … يكثر أحزانى وأوجاعى (¬1) كيف احتراسى من عدوّى إذا … كان عدوّى بين أضلاعى (¬2) وأخذه سهل بن هارون الكاتب فقال: أعان طرفى على جسمى وأعضائى … بنظرة وقفت جسمى على دائى وكنت غرّا بما تجنى عليّ يدى … لا علم لى أنّ بعضى بعض أعدائى وقال البحترىّ: ولست أعجب من عصيان قلبك لى … يوما إذا كان قلبى فيك يعصينى (¬3) *** [أحسن ما قيل من الشعر فى صفة امرأة عجزاء خميصة، عن الأصمعىّ: ] وروى أبو عكرمة الضّبىّ عن مسعود بن بشر المازنىّ قال: قال لنا الأصمعىّ يوما: ما أحسن ما قيل فى صفة امرأة عجزاء خميصة (¬4) فأنشد قول الأعشى: صفر الوشاحين ملء الدّرع بهكنة … إذا تأتّى يكاد الخصر ينخزل (¬5) وأنشد قول علقمة بن عبدة: صفر الوشاحين ملء الدّرع خرعبة … كأنها رشأ فى البيت ملزوم (¬6) ¬

_ (¬1) ديوانه: 101، وبعده: وقلّما أبقى على ما أرى … يوشك أن ينعى بى الناعى أسلمنى للوجد أشياعى … لما سعى به عندهم الساعى. (¬2) بعده؛ كما فى الديوان: ما أقتل اليأس لأهل الهوى … لا سيّما من بعد أطماع. (¬3) ديوانه: 2: 295، وفى حواشى الأصل، ت، ف: «مثله»: أتطمع أن يطيعك قلب سعدى … وتزعم أن قلبك قد عصاكا. (¬4) م: «خمصانة»، والخميصة والخمصانة: الضامرة البطن. (¬5) ديوانه: 42. والمعلقات- بشرح التبريزى: 274. صفر الوشاحين؛ يعنى أنها خميصة البطن دقيقة الخصر، فوشاحها يعلن عنها والبهكنة: الكبيرة الخلق، وتأتى: ترفق فى المشى. (¬6) ديوانه: 130. الخرعبة: الناعمة. الرشأ: الظبى الصغير. ملزوم: مربى فى البيوت؛ وهو أحسن له.

خبر جعفر بن سليمان وحزنه على موت أخيه محمد، واسترواحه لشعر ابن أراكة الثقفى

وأنشد قول ذى الرّمة: ترى خلفها نصفا قناة قويمة … ونصفا نقا يرتجّ أو يتمرمر (¬1) فقال: أحسن ما قيل فيه قول أبى وجزة السّعديّ: أدماء فى وضح يكاد إزارها (¬2) … يقوى (¬3) ويشبع ما أحبّ إزارها (¬4) قال أبو عكرمة: ومثله قول الحارث بن خالد المخزومىّ: غرثان، سمط وشاحها قلق … ريّان من أردافها المرط *** [خبر جعفر بن سليمان وحزنه على موت أخيه محمد، واسترواحه لشعر ابن أراكة الثقفى: ] وأخبرنا المرزبانىّ قال حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا أبو العيناء قال حدثنى الأصمعىّ قال: لما مات/ محمد بن سلمان بن عليّ الهاشميّ دخلت على أخيه جعفر بن سليمان، وقد حزن عليه حزنا شديدا ولم يطعم ثلاثا، فأنشدته لابن أراكة الثّقفىّ (¬5): لعمرى لئن أتبعت عينك (¬6) ما مضى … من (¬7) الدّهر أو ساق الحمام إلى القبر لتستنفدن ماء الشّئون بأسره … ولو كنت تمريهنّ من ثبج البحر فقلت لعبد الله إذ خنّ (¬8) باكيا … تعزّ، وماء العين منهمر يجرى تبيّن فإن كان البكا ردّ هالكا … على أحد فاجهد بكاك على عمرو ولا تبك ميتا بعد ميت أحبه (¬9) … عليّ وعبّاس وآل أبى بكر ¬

_ (¬1) ديوانه: 226 يتمرمر: يتحرك وهو تحرك دون الارتجاج. وفى د، م: «يترمرم». (¬2) ت، ش: «رداؤها» والأدمة هنا: لون أشرب بياضا. والوضح: البياض. وفى م: «أدماء عيطلة». (¬3) الإقواء فى الأصل: نفاد الزاد؛ ويريد هنا دقة خصرها وفى س: «لعله: يقوى وشاحها»: . (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل، ت: «ما أجن إزارها»، وفيهما أيضا: «أحب، فعل الإزار؛ أى يشبع إزارها ما أحب، أى ما شاء». (¬5) الخبر والأبيات فى حماسة ابن الشجرى: 138 - 139، بروايته عن ابن قدامة عن المرتضى؛ مع اختلاف فى ترتيب الأبيات؛ وهى أيضا فى أمالى الزجاجى: 7. (¬6) حاشية ت (من نسخة) «عينك»؛ وهى رواية ابن الشجرى. (¬7) ت: «به الدهر»؛ وهى رواية ابن الشجرى. (¬8) ت: «حن»، ومن نسخة بحاشيتها: «خر». (¬9) ت: «أجنه».

لطف الأصمعى بإنشاده شعر ابن هرمة عند إسماعيل بن جعفر، وقضاء حاجته عنده بسبب ذلك

قال: فأمر فجئ بالطعام فأكل من ساعته. قوله: «خن باكيا» معناه رفع صوته بالبكاء، وقال قوم: الخنين، بالخاء معجمة من الأنف، والحنين من الصّدر، وهو صوت يخرج من كلّ واحد منهما. *** [لطف الأصمعىّ بإنشاده شعر ابن هرمة عند إسماعيل بن جعفر، وقضاء حاجته عنده بسبب ذلك: ] وأخبرنا المرزبانىّ قال حدثنا محمد بن العباس قال حدثنا محمد بن يزيد النحوىّ قال: سمعت التّوزيّ يقول: دخلنا مع الأصمعىّ إلى إسماعيل بن جعفر ليلة فى حاجة، فأنشده الأصمعىّ أبيات ابن هرمة: أتيناك نزجى حاجة ووسيلة … إليك، وقد تحظى لديك الوسائل (¬1) ونذكر ودّا شدّه الله بيننا … على الدّهر لم تدبب إليه الغوائل (¬2) فأقسم ما أكبى زنادك قادح … ولا أكذبت فيك الرّجاء القوابل (¬3) ولا رجعت ذا حاجة عنك علّة … ولا عاق خيرا عاجلا منك آجل (¬4) ولا لام فيك الباذل الوجه نفسه … ولا احتكمت فى الجود منك المباخل (¬5) لم يزد على هذه الأبيات، فقضى حاجته وأجاب مسألته. قال سيدنا أدام الله علوّه: ويشبه أن يكون ابن هرمة أخذ قوله: * ولا كذبت فيك الرّجاء القوابل* من قول الحزين الكنانىّ فى زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام: فلما (¬6) تردّى بالحمائل وانثنى … يصول بأطراف القنىّ الذّوابل (¬7) / تبيّنت الأعداء أنّ سنانه … يطيل حنين الأمّهات الثّواكل ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «نرجو حاجة». (¬2) حاشية ت (من نسخة): «العواذل». (¬3) ما أكبى زنادك، أى ما وجد كابيا. (¬4) حاشية ت (من نسخة: «عنك آجل». (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «عنك المباخل». (¬6) حاشية ت (من نسخة): «إذا ما تردى». (¬7) وفى م: «القنا والذوابل».

أبيات لبشر بن خازم فى الاعتذار، رواها الأصمعى للرشيد

تبيّن فيه ميسم العزّ والتّقى … وليدا يفدّى بين أيدى القوابل *** [أبيات لبشر بن خازم فى الاعتذار، رواها الأصمعىّ للرشيد: ] وأخبرنا عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرنى محمد بن يحيى الصولىّ قال حدثنى محمد بن الحسن البلغيّ قال حدثنى أبو حاتم عن الأصمعىّ قال: قال الرشيد يوما: يا أصمعيّ، أتعرف للعرب اعتذارا وندما؟ ودع النابغة فإنه يحتج ويعتذر، فقلت: ما أعرف ذلك إلّا لبشر بن أبى خازم الأسدىّ؛ فإنه هجا أوس بن حارثة بن لأم، فأسره بعد ذلك وأراد قتله، فقالت له أمه- وكانت ذات رأى-: والله لا محا هجاءه لك إلّا مدحه إياك، فعفا عنه، فقال بشر (¬1): إنى على ما كان مني لنادم … وإنى إلى أوس بن لأم لتائب وإنى إلى أوس ليقبل توبتى … ويعرف ودّى ما حييت لراغب فهب لى حياتى فالحياة لقائم … يسرّك فيها خير ما أنت واهب سأمحو بمدحى (¬2) فيك إذ أنا صادق … كتاب هجاء سار إذ أنا كاذب فقال الرشيد للأصمعىّ: إن دولتى لتحسن ببقائك فيها. *** وأخبرنا عليّ بن محمد الكاتب قال حدثنا ابن دريد قال حدثنا عبد الرحمن- يعنى ابن أخى الأصمعىّ- عن عمه قال: سمعت بيتين لم أحفل بهما، ثم قال: قلت: هما على كلّ حال خير من موضعهما من الكتاب، قال: فإنى عند الرشيد يوما وعنده عيسى بن جعفر، فأقبل عليّ مسرور الكبير، فقال: يا مسرور، كم فى بيت مال السرور؟ فقال: ما فيه شيء، قال عيسى: هذا بيت مال الحزن، فاغتمّ لذلك الرشيد، وأقبل على عيسى فقال: والله لتعطينّ الأصمعىّ سلفا على بيت مال السرور ألف دينار، فوجم عيسى وانكسر، فقلت فى نفسى: جاء موقع (¬3) البيتين، وأنشدت الرشيد: ¬

_ (¬1) تنسب إلى الأعشى؛ وهى فى ملحقات ديوانه: 236. (¬2) ت، ف، ونسخة بحاشية الأصل: «بمدح». (¬3) ف، ونسخة بحاشيتى الأصل: ت: «موضع».

إذا شئت أن تلقى أخاك معبّسا … وجدّاه فى الماضين كعب وحاتم فكشّفه عمّا فى يديه فإنما … تكشّف أخبار الرّجال الدّراهم (¬1) قال: فتجلّى عن الرشيد وقال لمسرور: أعطه على بيت مال السرور ألفى دينار، فأخذت بالبيتين ألفى دينار، وما كانا يساويان عندى درهمين (¬2)! ¬

_ (¬1) من نسخة بحواشى الاصل، ت، ف: «احوال الرجال». (¬2) بهذا المجلس ينتهى الجزء الأول- وهو ما لدينا من نسخة ت- وجاء فى آخره: «تم نصف الكتاب بحمد الله ومنه وفضله وحوله وطوله، ويتلوه فى الجزء الثانى أوله: مجلس آخر، تأويل آية؛ إن سأل سائل عن قوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ، إن شاء الله والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله والطاهرين وسلم».

35

35 مجلس آخر [المجلس الخامس والثلاثون: ] تأويل آية [خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ: ] إن سأل سائل عن تأويل قوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ؛ [الأنبياء: 27]. الجواب، قيل له: قد ذكر فى هذه الآية وجوه من التأويل نحن نذكرها، ونرجّح الأرجح منها: أوّلها أن يكون معنى القول المبالغة فى وصف الإنسان بكثرة العجلة، وأنه شديد الاستعجال لما يؤثره من الأمور، لهج باستدناء ما يحلب (¬1) إليه نفعا، أو يدفع عنه ضررا؛ ولهم عادة فى استعمال مثل هذه اللفظة عند المبالغة؛ كقولهم لمن يصفونه بكثرة النوم: ما خلقت إلّا من نوم، وما خلق فلان إلّا من شر؛ إذا أرادوا كثرة وقوع الشرّ منه؛ وربما قالوا: ما أنت إلّا أكل وشرب، وما أشبه ذلك، قالت الخنساء تصف بقرة (¬2): ترتع ما غفلت حتّى إذا ادّكرت … فإنما هى إقبال وإدبار (¬3) وإنما أرادت ما ذكرناه من كثرة وقوع الإقبال والإدبار منها. ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى فى موضع آخر: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا، [الإسراء: 11]، ويطابقه أيضا قوله تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ؛ لأنه وصفهم بكثرة العجلة وأنّ من شأنهم فعلها، توبيخا لهم وتقريعا، ثم نهاهم عن الاستعجال باستدعاء الآيات من ¬

_ (¬1) حاشية ف (من نسخة): «ماجر». (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «نافة». (¬3) ديوانها: 38، واللسان (سوا)؛ وفى ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «ما رتعت»؛ وهى رواية الديوان.

حيث كانوا متمكّنين من مفارقة طريقتهم فى الاستعجال، وقادرين على التثبّت والتأيّد. وثانيها ما أجاب به أبو عبيدة وقطرب بن المستنير وغيرهما من أنّ فى الكلام قلبا، والمعنى: خلق العجل من الإنسان، واستشهد على ذلك بقوله تعالى: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ؛ [آل عمران: 40]، أى قد بلغت الكبر، وبقوله تعالى: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ؛ [القصص: 76]، والمعنى: إن العصبة تنوء بها، وتقول العرب: عرضت الناقة على الحوض، وإنما هو عرضت الحوض على الناقة، وقولهم: إذا طلعت الشّعرى استوى العود على الحرباء؛ يريدون استوى الحرباء على العود؛ وبقول الأعشى: / لمحقوقة أن تستجيبى لصوته … وأن تعلمى أنّ المعان موفّق (¬1) يريد أن الموفّق معان. وبقول الآخر: على العيارات هدّاجون قد بلغت … نجران، أو بلغت سوءاتهم هجر (¬2) والمعنى: أنّ السوءات هى التى بلغت هجر. وبقول خداش بن زهير: ونركب خيلا لا هوادة بينها … وتشقى الرّماح بالضياطرة الحمر (¬3) ¬

_ (¬1) ديوانه: 149، وفى حاشيتى الأصل، ف: «قبله: وإن امرأ أهداك بينى وبينه … فياف: تنوفات ويهماء خيفق لمحقوقة ... البيت؛ يخاطب ناقة أهديت له، فيقول لها: أنت محقوقة بأن تستجيبى لصوته. تنوفات: جمع تنوفة؛ وهى المفازة، وخيفق، يخفق فيها الآل». (¬2) البيت للأخطل، ديوانه 10، والهدج: مشى فى ارتعاش. (¬3) جمهرة الأشعار: 193، واللسان (ضطر). والضياطرة: الضخام الذين لا غناء عندهم؛ وفى اللسان: «قال ابن سيده: يجوز أن يكون عنى أن الرماح تشقى بهم؛ أى أنهم لا يحسنون حملها ولا الطعن بها، ويجوز أن يكون على القلب، أى تشقى الضياطرة الحمر بالرماح؛ يعنى أنهم يقتلون بها والهوادة: المصالحة والموادعة».

يريد تشقى الضّياطرة بالرماح. وبقول الآخر: تمشى به عوذ النّعاج كأنّها … عذارى ملوك فى بياض ثياب (¬1) يريد فى ثياب بيض. وبقول الآخر: حسرت كفّى عن السّربال آخذه (¬2) … فردا يحزّ على أيدى المفيضينا (¬3) يريد حسرت السّربال عن كفّى. وبقول ابن أحمر: وجرد طار باطلها نسيلا … وأحدث قمؤها شعرا قصارا (¬4) أراد طار نسيلها باطلا. وبقول الآخر: وقسورة أكتافهم فى قسّيهم … إذا ما مشوا لا يغمزون من النّسا (¬5) أى قسيّهم فى أكتافهم. وبقول الآخر: * وهنّ من الإخلاف والولعان (¬6) * أى الإخلاف والولعان منهن. ¬

_ (¬1) العوذ: جمع عائذ؛ وهى الحديثة التاج؛ والنعجة هنا: البقرة الوحشية. (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «آخذة». (¬3) حاشية الأصل: «فردا، يعنى القدح». يقال أفاض بالقداح: ضرب بها والبيت لابن مقبل فى الميسر والقداح 141. (¬4) اللسان (قمأ). النسيل: ما ينسل من شعرها وقمؤها: سمنها. (¬5) القسورة: الرماة من الصيادين والغمز: الظلع. (¬6) البيت فى اللسان (ولع)، وصدره: * لخلّابة العينين كذّابة المنى* قال فى اللسان: «أى من أهل الخلف والكذب، وجعلهن من الأخلاف لملازمتهن له».

ويبقى على صاحب هذا الجواب مع التغاضى له عن حمل كلامه تعالى على القلب أن يقال له: وما المعنى والفائدة فى قوله تعالى: «خلق العجل من الإنسان» أتريدون (¬1) بذلك أنّ الله تعالى خلق فى إنسان العجلة؟ وهذا لا يجوز؛ لأن العجلة فعل من أفعال الإنسان، فكيف تكون مخلوقة فيه لغيره! ولو كان كذلك لما جاز أن ينهاهم عن الاستعجال فى الآية فيقول: سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ، لأنه لا ينهاهم عمّا خلقه فيهم. فإن قالوا: لم يرد أنه تعالى خلقها؛ لكنه أراد كثرة فعل الإنسان لها؛ وأنه لا يزال/ يستعملها. قيل لهم: هذا هو الجواب الّذي قدّمناه من غير حاجة إلى القلب والتقديم والتأخير؛ وإذا كان هذا المعنى يتمّ وينتظم على ما ذكرناه من غير قلب فلا حاجة بنا إليه. وقد ذكر أبو القاسم البلخىّ هذا الجواب فى تفسيره، واختاره وقوّاه، وسأل نفسه عليه فقال: كيف جاز أن يقول: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ، وهو خلق العجلة فيهم! وأجاب بأنه قد أعطاهم قدرة على مغالبة طباعهم وكفّها، وقد يكون الإنسان مطبوعا عليها وهو مع ذلك مأمور بالتثبت، قادر على أن يجانب العجلة، وذلك كخلقه فى البشر شهوة النكاح، وأمره فى كثير من الأوقات بالامتناع منه. وهذا الّذي ذكره البلخىّ تصريح بأن المراد بالعجل غيره، وهو الطبع الداعى إليه، والشهوة المتناولة له، ويجب أيضا أن يكون المراد ب «من» هاهنا «فى»؛ لأن شهوة العجل لا تكون مخلوقة من الإنسان، وإنما تكون فيه. وهذا تجوّز على تجوّز، وتوسّع على توسّع، لأن القلب أوّلا مجاز، ثم هو من بعيد المجاز؛ وذكر العجل والمراد به غيره مجاز آخر، وإقامة «من» مقام «فى» كذلك؛ على أنه تعالى إذا نهاهم عن العجلة بقوله: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أىّ معنى لتقديم قوله: إنى خلقت شهوة العجلة فيهم، أو الطبع الداعى إليها؛ على ما عبّر به البلخىّ. وهذا إلى أن يكون عذرا لهم أقرب منه إلى أن يكون حجة عليهم؛ وأيسر ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «أيريد».

الأحوال ألّا يكون عذرا ولا احتجاجا، فلا يكون لتقديمه معنى. وفى الجواب الأول حسن تقديم ذلك على طريق الذّم والتوبيخ والتقريع من غير إضافة له إليه عز وجل؛ فالجواب الأول أوضح وأصحّ. وثالثها جواب روى عن الحسن، قال: يعنى بقوله: مِنْ عَجَلٍ، أى من ضعف، وهى النّطفة المهينة الضّعيفة، وهذا قريب إن كان فى اللغة شاهد على أن العجل يكون عبارة عن الضّعف أو معناه. ورابعها ما حكى أنّ أبا الحسن الأخفش أجاب به، وهو: أن يكون المراد أنّ الإنسان خلق من تعجيل من الأمر؛ لأنه تعالى قال: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، [النحل: 40]. فإن قيل: كيف يطابق هذا الجواب قوله من بعد: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ؟ قلنا: يمكن أن يكون وجه/ المطابقة أنهم لما استعجلوا بالآيات واستبطئوها أعلمهم تعالى أنه ممن لا يعجزه شيء إذا أراده، ولا يمتنع عليه؛ وأنّ من خلق الإنسان بلا كلفة ولا مئونة بأن قال له: كن فكان، مع ما فيه من بدائع الصنعة، وعجائب الحكمة التى يعجز عنها كلّ قادر، ويحار فيها كل ناظر، لا يعجزه إظهار ما استعجلوه من الآيات. وخامسها ما أجاب به بعضهم من أن العجل الطين، فكأنه تعالى قال: خلق الإنسان من طين، كما قال تعالى فى موضع آخر: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ؛ [السجدة: 7]، واستشهد بقول الشاعر: والنّبع ينبت بين الصّخر ضاحية … والنخل ينبت بين الماء والعجل (¬1) ووجدنا قوما يطعنون فى هذا الجواب، ويقولون: ليس بمعروف أن العجل هو الطين، وقد حكى صاحب كتاب العين عن بعضهم أن العجل الحمأة، ولم يستشهد عليه، إلّا أن ¬

_ (¬1) البيت فى اللسان (عجل).

البيت الّذي حكيناه يمكن أن يكون شاهدا له، وقد رواه ثعلب عن ابن الأعرابىّ، وخالف فى شيء من ألفاظه فرواه: والنّبع فى الصّخرة الصّماء منبته … والنّخل ينبت بين الماء والعجل وإذا صحّ هذا الجواب فوجه المطابقة بين ذلك وبين قوله تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ على نحو ما ذكرناه، وهو أنّ من خلق الإنسان- مع الحكم الظاهرة فيه- من الطين، لا يعجزه إظهار ما استعجلوه من الآيات؛ أو يكون المعنى أنه لا يجب لمن خلق من الطين المهين، وكان أصله هذا الأصل الحقير الضعيف أن يهزأ برسل الله وآياته وشرائعه؛ لأنه تعالى قال قبل هذه الآية: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً، أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ؛ [الأنبياء: 36]. وسادسها أن يكون المراد بالإنسان آدم عليه السلام، ومعنى مِنْ عَجَلٍ أى فى سرعة (¬1) من خلقه، لأنه لم يخلقه من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة كما خلق غيره، وإنما ابتدأه الله تعالى ابتداء، وأنشأه إنشاء، فكأنّه تعالى نبّه بذلك على الآية العجيبة فى خلقه له، وأنه عزّ وجل يرى عباده من آياته وبيناته أوّلا أولا ما تقتضيه مصالحهم وتستدعيه أحوالهم. / وسابعها ما روى عن مجاهد وغيره أنّ الله تعالى خلق آدم بعد خلق كل شيء آخر، نهار يوم الجمعة على سرعة، معاجلا به غروب الشمس. وروى أن آدم عليه السلام لما نفخت فيه الروح وبلغت إلى أعالى جسده، ولم تبلغ أسافله قال: يا رب استعجل بخلقى قبل غروب الشمس. وثامنها ما روى عن ابن عباس والسّدّيّ أن آدم عليه السلام لما خلق وجعلت الروح فى أكثر جسده وثب عجلان مبادرا إلى أثمار الجنة- وقال قوم بل همّ بالوثوب- فهذا معنى قوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة: «من سرعة».

طائفة من شعر مسكين الدارمى وذكر بعض أخباره

وهذه الأجوبة المتأخّرة مبنية على أنّ المراد بالإنسان فيها آدم عليه السلام دون غيره. *** [طائفة من شعر مسكين الدارمىّ وذكر بعض أخباره: ] قال سيدنا أدام الله تمكينه: وإنى لأستحسن لمسكين الدارمىّ قوله (¬1): ربّ أمور قد بريت لحاءها … وقوّمت من أصلابها ثمّ زعتها (¬2) أقيم بدار الحرب (¬3) ما لم أهن بها … فإن خفت من دار هوانا تركتها وأصلح جلّ المال حتى تخالنى (¬4) … شحيحا وإن حقّ عرانى أهنتها ولست بولّاج البيوت لفاقة … ولكن إذا استغنيت عنها ولجتها أبيت عن الإدلاج فى الحىّ نائما … وأرض بإدلاج وهمّ (¬5) قطعتها ألا أيّها الجارى سنيحا وبارحا … تعرّض نفسا لو أشاء قتلتها تعارض فخر الفاخرين بعصبة … ولو وضعت لى فى إناء أكلتها وإنّ لنا ربعيّة المجد كلّها … موارث آباء كرام ورثتها (¬6) إذا قصرت أيدى الرّجال عن العلى … مددت يدى باعا عليهم فنلتها وداع دعانى للعلى فأجبته … ودعوة داع فى الصّديق خذلتها ومكرمة كانت رعاية والدى … فعلّمنيها والدى ففعلتها (¬7) ¬

_ (¬1) هو ربيعة بن عامر بن أنيف، ينتهى نسبه إلى مالك بن زيد مناة بن تميم، شاعر شريف من سادات قومه (وانظر ترجمته وأخباره وأشعاره فى الأغانى 18: 68 - 72، ومعجم الأدباء 11: 126 - 132، والشعر والشعراء 529 - 530، والخزانة 1: 465 - 470، واللآلئ 186 - 187). (¬2) ديوان المعانى 1: 79. ف، حاشية الأصل (من نسخة)، ديوان المعانى: «رشتها» وفى حاشية الأصل (من نسخة أخرى): «رعتها». وفى حاشيتى الأصل، ف: «فى الصحاح: زاع بعيره أى حركه إلى قدام يستزيد سيره؛ قال ذو الرمة: وخافق الرّأس فوق الرّحل قلت له … زع بالزّمام وجوز اللّيل مركوم ومن رواه «زع»، [بفتح الزاى] فقد أخطأ؛ لأنه لا يأمره بالكف». (¬3) د؛ «الحزن»، ف، وديوان المعانى: «الحزم». (¬4) ديوان المعانى: «حسبتنى». (¬5) هم؛ أى همة. (¬6) حاشية الأصل: «ربعية المجد: أوله وأجوده؛ كربعية النتاج خيره» ومن نسخة بحاشية الأصل: «مواريث آباء». (¬7) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «فعملتها».

وعوراء من قيل امرئ ذى قرابة … تصاممت عنها بعد ما قد سمعتها (¬1) / رجاة غد (¬2) أن يعطف الرّحم بيننا … ومظلمة منه بجنبى عركتها إذا ما أمور الناس رثّت وضيّعت … وجدت أمورى كلّها قد رممتها (¬3) وإنى سألقى الله لم أرم حرّة … ولم تتمنّى (¬4) يوم سرّ فخنتها ولا قاذف نفسى ونفسى بريئة … وكيف اعتذارى بعد ما قد قذفتها *** أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال أخبرنا أبو ذرّ القراطيسىّ قال حدثنا عبيد الله بن محمد ابن أبى الدنيا قال حدثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدىّ أنّ رجلا من الأنصار حدثه قال قال مسكين الدّارمىّ: ولست إذا ما سرّنى الدّهر ضاحكا … ولا خاشعا ما عشت من حادث الدّهر (¬5) ولا جاعلا عرضى لمالى وقاية … ولكن أقي عرضى فيحرزه وفرى أعفّ لدى عسرى وأبدى تجمّلا … ولا خير فيمن لا يعفّ لدى العسر وإنى لأستحيى إذا كنت معسرا … صديقى وإخوانى بأن يعلموا فقرى وأقطع إخوانى وما حال عهدهم … حياء وإعراضا، وما بي من كبر فإن يك عارا ما أتيت فربما … أتى المرء يوم السّوء من حيث لا يدرى ومن يفتقر يعلم مكان صديقه … ومن يحيى لا يعدم بلاء من الدّهر (¬6) ومن مستحسن قوله: إن أدع مسكينا فما قصرت … قدرى بيوت الحىّ والجدر ¬

_ (¬1) العوراء هنا: الكلمة القبيحة. (¬2) د، ف، وحاشية الأصل، وديوان المعانى: «رجاء غد». (¬3) رممتها: أصلحتها. (¬4) د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): «لم تأتمنى». (¬5) أبيات منها فى معجم الأدباء 11: 129، واللآلئ: 186، وكنايات الجرجانى: 10، 57. (¬6) حاشية الأصل: (من نسخة): «ومن يغن».

وقيل: إن مسكينا ليس باسمه، وإنما اسمه ربيعة، وإنما سمّى بذلك لقوله: وسمّيت مسكينا وكانت لجاجة … وإنى لمسكين إلى الله راغب (¬1) - ومعنى: قصرت قدرى، أى: سترت، يريد أنها بارزة لا تحجبها السواتر والحيطان- ما مسّ رحلى العنكبوت ولا … جدياته من وضعه غبر وهذه كناية مليحة عن مواصلة السير وهجر الوطن، لأن العنكبوت إنما تنسج على ما لا تناله/ الأيدى ولا يكثر استعماله، والجديات: جمع جدية، وهى باطن دفّة الرحل. لا آخذ الصّبيان ألثمهم … والأمر قد يغرى (¬2) به الأمر - يقول: لا أقبّل الصبىّ؛ وأنا أريد التعريض بأمه. ومثله لغيره: ولا ألقى لذى الودعات سوطى (¬3) … ألاعبه (¬4) وريبته (¬5) أريد وأنشد ابن الأعرابى مثله: إذا رأيت صبىّ القوم يلثمه … ضخم المناكب لا عمّ ولا خال فاحفظ صبيّك منه أن يدنّسه … ولا يغرّنك يوما قلّة المال (¬6) - رجع إلى تمام القصيدة- ولربّ يوم قد تركت وما … بينى وبين لقائه ستر ومخاصم (¬7) قاومت فى كبد … مثل الدّهان فكان لى العذر (¬8) ¬

_ (¬1) الشعر والشعراء: 529. (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «يعزى». (¬3) م: «صوتى». (¬4) د: «لألثمه»، ومن نسخة بحاشية ف: «لألهيه». (¬5) د، ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «وربته»، أى أمه التى تربه. والودعات: الخرزات. (¬6) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «كثرة المال». (¬7) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «ومقادم». (¬8) فى حاشيتى الأصل، ف: «إنما يكون العذر إذا كان ثم ظلم، فيقول: إنما أقاوم وأخاصم مظلوما متعدى عليه، وإذا كان كذلك، فيجب الاعتذار على الظالم؛ ويكون العذر لى، كقوله: فإن كان سحرا فاعذرينى على الهوى … وإن كان داء غيره فلك العذر

- ويروى: «القمر»، والكبد: المنزلة التى لا تثبت فيها الأرجل، والدهان: الأديم الأحمر- ما علّتى (¬1)! قومى بنو عدس … وهم الملوك وخالى البشر (¬2) عمّى زرارة غير منتحل … وأبى الّذي حدّثته عمرو فى المجد غرّتنا مبيّنة … للنّاظرين كأنّها البدر لا يرهب الجيران غدرتنا … حتّى يوارى ذكرنا القبر لسنا كأقوام إذا كلحت … إحدى السّنين فجارهم تمر - أى يستحلى الغدر به كما يستحلى التمر- مولاهم لحم على وضم … تنتابه العقبان والنّسر نارى ونار الجار واحدة … وإليه قبلى تنزل القدر يقال: إنه كان له امرأة تماظّه، فلما قال ذلك قالت له: أجل؛ إنما ناره ونارك واحدة، لأنه/ أوقد ولم توقد، والقدر تنزل إليه قبلك؛ لأنه طبخ ولم تطبخ، وأنت تستطعمه. ما ضرّ جارى إذ أجاوره … أن لا يكون لبيته ستر - قال: ويقال إنها قالت له فى هذا البيت أيضا: أجل إن كان له ستر هتكته- أعمى إذا ما جارتى خرجت … حتّى يوارى جارتى الخدر ويصمّ عمّا كان بينهما … سمعى وما بى غيره وقر وأنشد عمر بن شبّة لمسكين أيضا: لا تجعلني كأقوام علمتهم (¬3) … لم يظلموا لبّة يوما ولا ودجا (¬4) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «ما عابنى». (¬2) من نسخة فى حاشيتى الأصل، ف: «هو مسكين بن عامر بن أنيف بن شريح بن عمرو بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم؛ فهذا عدس وعدس أبو زرارة، مثل قثم؛ وقال ابن دريد: يقال عدس وعدس»، بضم الدال وفتحها. (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «لا تجعلينى كأقوام علمتهم». (¬4) حاشية الأصل: «أى لم ينحروا للأضياف فيطعنوا فى لبة أو ودج».

إنى لأغلاهم باللّحم قد علموا … نيئا، وأرخصهم باللّحم إذ نضجا أنا ابن قاتل جوع القوم قد علموا … إذا السّماء كست آفاقها رهجا (¬1) يا ربّ أمرين قد فرّجت بينهما … إذا هما نشبا فى الصّدر واعتلجا (¬2) أديم خلقى لمن دامت خليقته … وأمزج الحلو أحيانا لمن مزجا وأقطع الخرق بالخرقاء لاهية … إذا الكواكب كانت فى الدّجى سرجا (¬3) ما أنزل الله من أمر فأكرهه … إلّا سيجعل لى من بعده فرجا ما مدّ قوم بأيديهم إلى شرف … إلّا رأونا قياما فوقهم درجا وأنشد أبو العباس ثعلب له: أضاحك ضيفى قبل إنزال رحله … ولم يلهنى عنه غزال مقنّع أحدّثه إن الحديث من القرى … وتعلم نفسى أنه سوف يهجع ومثله لغيره: أضاحك ضيفى قبل إنزال رحله … ويخصب عندى والمكان جديب وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى … ولكنّما وجه الكريم خصيب ومعنى: * أحدّثه إنّ الحديث من القرى* أى أصبر على حديثه، وأعلم أنه سوف ينام، ولا أعرّض بمحادثته/ فأكون قد محقت قراى؛ والحديث الحسن من تمام القرى. وقال الأصمعىّ: أحسن ما قيل فى الغيرة قول مسكين الدارمىّ: ألا أيّها الغائر المستشيط … علام تغار إذا لم تغر ¬

_ (¬1) الرهج: الغبار. (¬2) اعتلج. اضطرب. (¬3) الحزن: المفازة الواسعة، والخرقاء: الناقة السريعة.

فما خير عرس إذا خفتها … وما خير بيت إذا لم يزر (¬1) تغار على النّاس أن ينظروا … وهل يفتن الصّالحات النّظر فإنى سأخلى لها بيتها … فتحفظ لى نفسها أو تذر إذا الله لم يعطه ودّها … فلن يعطى الودّ سوط ممرّ ومن ذا يراعى له عرسه … إذا ضمّه والمطىّ السّفر! قال المرتضى رضى الله عنه: وكان مسكين كثير اللهج بالقول فى هذا المعنى، فمن ذلك قوله: وإنى امرؤ لا آلف البيت قاعدا … إلى جنب عرسى لا أفرّطها شبرا ولا مقسم لا أبرح الدّهر بيتها … لأجعله قبل الممات لها قبرا إذا هى لم تحصن أمام فنائها … فليس بمنجيها بنائى لها قصرا ولا حاملى ظنّى ولا قيل قائل (¬2) … على غيرة حتّى أحيط بها خبرا فهبنى امرأ راعيت ما دمت شاهدا … فكيف إذا ما سرت من بيتها شهرا وأنشد أبو العبّاس (¬3) عن أبى العالية لمسكين: ما أحسن الغيرة فى حينها … وأقبح الغيرة فى كلّ حين (¬4) من لم يزل متّهما عرسه … مناصبا فيها لوهم الظّنون يوشك أن يغريها بالذى … يخاف، أو ينصبها للعيون حسبك من تحصينها ضمّها … منك إلى خلق كريم ودين لا تظهرن منك على عورة … فيتبع المقرون حبل القرين (¬5) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «للسؤال». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «وإن قال قائل». (¬3) ف: «أبو العيناء». (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «غير حين». (¬5) حاشية الأصل: «أى إياك أن تطلع المرأة منك على زنا وريبة؛ فإنها أيضا تزنى أو تفعل كما فعلت».

36

36 مجلس آخر [المجلس السادس والثلاثون: ] تأويل آية: [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها ... ] / إن سأل سائل عن قوله تعالى فى قصة يوسف عليه السلام: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ؛ [يوسف: 24]. فقال: هل يسوغ ما تأوّل بعضهم هذه الآية عليه من أن يوسف عليه السلام عزم على المعصية وأرادها، وأنه جلس مجلس الرجل من المرأة، ثم انصرف عن ذلك بأن رأى صورة أبيه يعقوب عليه السلام عاضّا على إصبعه، متوعّدا له على مواقعة المعصية، أو بأن نودى له بالنهى والزّجر فى الحال على ما ورد به الحديث؟ الجواب، قلنا: إذا ثبت بأدلّة العقول التى لا يدخلها الاحتمال والمجاز ووجوه التأويلات أنّ المعاصى لا تجوز على الأنبياء عليهم السلام صرفنا كل ما ورد ظاهره بخلاف ذلك من كتاب أو سنة إلى ما يطابق الأدلة ويوافقها، كما نفعل مثل ذلك فيما يرد ظاهره مخالفا لما تدل عليه العقول من صفاته تعالى، وما يجوز عليه أو لا يجوز. ولهذه الآية وجوه من التأويل؛ كلّ واحد منها يقتضي نزاهة نبى الله تعالى من العزم على الفاحشة وإرادة المعصية. أوّلها أنّ الهمّ فى ظاهر الآية متعلّق بما لا يصح أن يعلّق به العزم أو الإرادة على الحقيقة؛ لأنه تعالى قال: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها، فعلّق الهمّ بهما، وذاتاهما لا يجوز أن يراد أو يعزم عليهما؛ لأنّ الموجود الباقى لا يصحّ ذلك فيه، فلا بدّ من تقدير محذوف يتعلّق العزم به؛ وقد يمكن أن يكون ما تعلّق به همّه إنما هو ضربها أو دفعها عن نفسه، كما

يقول القائل: كنت هممت بفلان، وقد همّ فلان بفلان؛ أى بأن يوقع به ضربا أو مكروها. فإن قيل: فأىّ معنى لقوله تعالى: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ والدفع لها عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها؟ قلنا: يمكن أن يكون الوجه فى ذلك أنه لما همّ بدفعها وضربها أراه الله برهانا على أنه إن أقدم على ما همّ به أهلكه أهلها وقتلوه، أو أنها تدّعى عليه المراودة على القبيح وتقذفه بأنه دعاها إليه، وأنّ ضربه؟ ؟ ؟ ؟ ؟ لامتناعها، فيظنّ به ذلك من لا تأمّل له، ولا علم بأنّ مثله لا يجوز عليه، فأخبر الله تعالى بأنه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء، ويعنى بذلك القتل والمكروه اللّذين كانا يوقعان به، لأنهما يستحقان الوصف بذلك من حيث القبح، أو يعنى بالسوء والفحشاء ظنّهم به ذلك. فإن قيل: هذا الجواب يقتضي أنّ جواب فَلَوْلا يتقدّمها، ويكون التقدير: لولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بضربها ودفعها، وتقدّم جواب فَلَوْلا قبيح غير مستعمل، أو يقتضي أن تكون فَلَوْلا بغير جواب. قلنا: أما تقدّم جواب فَلَوْلا فجائز، وسنذكر ما فيه عند الجواب المختص بذلك، غير أنّا لا نحتاج إليه فى هذا الجواب، لأنّ الهمّ بالضرب قد وقع، إلا أنه انصرف عنه بالبرهان؛ والتقدير: ولقد همت به وهمّ بدفعها لولا أن رأى برهان ربه لفعل ذلك، فالجواب فى الحقيقة محذوف، والكلام يقتضيه، كما حذف الجواب فى قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ؛ [النور: 20]، معناه: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لهلكتم، ومثله: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ؛ [التكاثر: 5، 6]، معناه: لو تعلمون علم اليقين لم تتنافسوا فى الدنيا، وتفاخروا بها؛ وقال امرؤ القيس:

فلو أنّها نفس تموت سويّة … ولكنها نفس تساقط أنفسا (¬1) أراد: فلو أنّها نفس تموت سويّة لانقضت وفنيت، فحذف الجواب؛ على أنّ من تأوّل هذه الآية على الوجه الّذي لا يليق بنبىّ الله تعالى، وأضاف العزم على المعصية إليه لا بد له من تقدير جواب محذوف، ويكون التقدير عنده: ولقد همّت بالزّنا وهمّ به؛ لولا أن رأى برهان ربه لفعله. فإن قيل قوله: هَمَّ بِها كقوله: هَمَّتْ بِهِ فلم جعلتم همّها به متعلّقا بالقبيح وهمّه بها متعلقا بما ذكرتم من الضرب وغيره؟ قلنا: أما الظاهر فلا يدلّ على ما تعلق به الهم والعزم فيهما جميعا، وإنما أثبتنا همّها به متعلّقا بالقبيح، لشهادة الكتاب والآثار؛ وهى ممن يجوز عليه فعل القبيح، ولم يؤمن دليل من امتناعه عليها؛ كما أمن ذلك فيه عليه السلام. والموضع الّذي يشهد بذلك من الكتاب قوله تعالى: وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ/ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ إلى قوله: إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، [يوسف: 30]، وقوله تعالى: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ [يوسف: 23]، وقوله تعالى: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ (¬2) وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف: 51]، وفى موضع آخر: قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ [يوسف: 32]. ¬

_ (¬1) ديوانه: 140، وروايته: «تموت جميعة». وفى حاشية الأصل: «ويروى: «تساقط» [بضم التاء]، وساقط بوزن فاعل متعد؛ ويكون «أنفسا» مفعولا؛ وإذا روى: «تساقط» [بفتح التاء] جاز أن يكون «تفاعل» متعديا؛ والمعنى: أسقط. ويجوز أن يكون غير متعد أيضا؛ و «أنفسا» نصبت على الحال، كقوله تعالى: تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا، أى تساقط عليك ثمر النخلة رطبا، وقال الفراء: هو تمييز، وكلاهما حسن. ويجوز إذا كان حالا أن يفيد كثرة الرطب على الجذع فكأنها إذا تساقط رطبا». (¬2) حاشية الأصل: «معنى راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ؛ أى طلبت منه أن ينزل عن نفسه فيسلمها منى؛ هذا هو هو حقيقة هذه الكلمة؛ فاختصر».

والآثار واردة بإطباق مفسّرى القرآن ومتأوّليه على أنها همت بالفاحشة والمعصية. والوجه الثانى فى تأويل الآية أن يحمل الكلام على التقديم والتأخير، ويكون تلخيصه: ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها؛ ويجرى ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت لولا أنى تداركتك، وقتلت لولا أنى خلّصتك، والمعنى: لولا تداركى لهلكت، ولولا تخليصى لقتلت، وإن لم يكن وقع هلاك ولا قتل؛ قال الشاعر: فلا يدعنى قومى صريحا لحرّة … لئن كنت مقتولا، ويسلم عامر (¬1) وقال آخر: فلا يدعنى قومى صريحا لحرة … لئن لم أعجّل طعنة أو أعجّل (¬2) فقدم جواب فَلَوْلا فى البيتين جميعا، وقد استشهد عليه أيضا بقوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ، والهمّ لم يقع لمكان فضل الله ورحمته. ومما يشهد لهذا التأويل أنّ فى الكلام شرطا، وهو قوله تعالى: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ؛ فكيف يحمل على الإطلاق، مع حصول الشرط؟ وليس لهم أن يجعلوا جواب لَوْلا محذوفا مقدّرا لأن جعل جوابها موجودا أولى. وقد استبعد قوم تقديم جواب لَوْلا عليها، قالوا: ولو جاز ذلك لجاز: «قام زيد لولا عمرو»، و «قصدتك لولا بكر» وقد بيّنّا بما أوردناه من الأمثلة والشواهد جواز تقديم جواب لَوْلا، والّذي ذكروه لا يشبه ما أجزناه. وقد يجوز أن يقول القائل: «قد كان زيد قام لولا كذا وكذا»، و «قد كنت قصدتك لولا أن صدّنى فلان»، وإن لم يقع قيام ولا قصد؛ وهذا/ هو الّذي يشبه الآية؛ وليس تقديم ¬

_ (¬1) صريحا: خالص النسب. (¬2) م: فلا يدعنى قومى ليوم كريهة … لئن لم أعجّل ضربة أو أعجل وفى حاشية الأصل: «فى نسخة س البيت الثانى مقدم على الأول».

جواب لَوْلا بأبعد من حذف جواب لَوْلا جملة من الكلام. وإذا جاز عندهم الحذف- لئلا يلزمهم تقديم الجواب- جاز لغيرهم تقديم الجواب حتى لا يلزم الحذف. والجواب الثالث ما اختاره أبو عليّ الجبّائىّ- وإن كان غيره قد تقدمه إلى معناه- وهو أن يكون معنى هَمَّ بِها اشتهاها، ومال طبعه إلى ما دعته إليه. وقد يجوز أن تسمّى الشهوة فى مجاز اللغة همّا؛ كما يقول القائل فيما لا يشتهيه: ليس هذا من همّى، وهذا أهمّ الأشياء إلى؛ ولا قبح فى الشهوة لأنها من فعل الله تعالى فيه؛ وإنما يتعلق القبح بتناول المشتهى. وقد روى هذا التأويل عن الحسن البصرىّ قال: أما همّها فكان أخبث الهم، وأما همّه فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء، ويجب على هذا الوجه أن يكون قوله تعالى: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ، متعلق بمحذوف؛ كأنه قال: لولا أن رأى برهان ربه لعزم أو فعل. والجواب الرابع، أنّ من عادة العرب أن يسمّوا الشيء باسم ما يقع عنده فى الأكثر، وعلى هذا لا ينكر أن يكون المراد ب هَمَّ بِها خطر بباله أمرها (¬1)، ووسوس إليه الشيطان بالدعاء إليها؛ من غير أن يكون هناك همّ أو عزم، فسمّى الخطور بالبال همّا من حيث كان الهمّ يقع فى الأكثر عنده، والعزم فى الأغلب يتبعه. وإنما أنكرنا ما ادّعاه جهلة المفسرين ومحرّفو القصّاص، وقرفوا به نبى الله عليه السلام، لما فى العقول من الأدلة على أن مثل ذلك لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام؛ من حيث كان منفّرا عنهم، وقادحا فى الغرض المجرى إليه بإرسالهم؛ والقصّة تشهد بذلك؛ لأنه تعالى قال: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ؛ ومن أكبر السوء والفحشاء العزم على الزنا، ثم الأخذ فيه، والشروع فى مقدماته؛ وقوله تعالى أيضا: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ يقتضي تنزيهه ¬

_ (¬1) س: «ما أخطر بباله أمرها».

أخبار متفرقة لإبراهيم بن العباس الصولى وذكر طائفة من شعره

عن الهمّ بالزّنا، والعزم عليه. وحكايته عن النسوة قولهن: حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ؛ [يوسف: 51]، تدل أيضا على براءته من القبيح. فأما البرهان الّذي رآه فيحتمل أن يكون لطفا لطف الله له به فى تلك الحال أو قبلها، اختار عنده الانصراف عن المعاصى، والتنزه عنها. ويحتمل أيضا/ ما ذكره أبو عليّ، وهو أن يكون البرهان دلالة الله تعالى له على تحريم ذلك عليه، وعلى أنّ من فعله يستحق العقاب. وليس يجوز أن يكون البرهان ما ظنّه الجهّال من رؤية صورة أبيه يعقوب عليه السلام متوعّدا له، أو النداء له بالزجر والتخويف، لأنّ ذلك ينافى المحنة، وينقض الغرض بالتكليف، ويقتضي ألّا يستحق على امتناعه وانزجاره مدحا ولا ثوابا؛ وهذا سوء ثناء على الأنبياء، وإقدام على قرفهم بما لم يكن منهم، ونحمد الله على حسن التوفيق. *** [أخبار متفرقة لإبراهيم بن العباس الصولى وذكر طائفة من شعره: ] روى أحمد بن عبد الله بن العباس الصولىّ الملقب بطماس قال: كنت يوما عند عمّى إبراهيم بن العباس (¬1)، فدخل عليه رجل فرفعه حتى جلس إلى جانبه، أو قريبا من ذلك، ثم حادثه إلى أن قال عمى: يا أبا تمام؛ ومن بقى ممن يعتصم به ويلجأ إليه؟ قال: أنت لا عدمت- وكان إبراهيم طويلا- أنت والله كما قيل: يمدّ نجاد السّيف حتّى كأنّه … بأعلى سنامى فالج يتطوّح ويدلج فى حاجات من هو نائم … ويورى كريمات النّدى حين يقدح إذا اعتمّ بالبرد اليمانىّ خلته … هلالا بدا فى جانب الأفق يلمح يزيد على فضل الرّجال فضيلة … ويقصر عنه مدح من يتمدّح ¬

_ (¬1) هو أبو إسحاق إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول، شاعر مجيد؛ توفى سنة 243، وله ديوان شعر، نشره الأستاذ عبد العزيز الميمنى؛ ضمن مجموعة الطرائف سنة 1937 م (وانظر ترجمته فى الأغانى (209 - 33، وابن خلكان 1: 9 - 11، ومعجم الأدباء، 1: 164 - 198، وتاريخ بغداد 6: 117).

فقال له إبراهيم: أنت تحسن قائلا، وراويا، ومتمثلا؛ فلما خرج تبعته وقلت له: اكتبني الأبيات، فقال: هى لأبى الجويرية العبدىّ (¬1) فخذها من شعره. *** وروى عن يحيى بن البحترىّ قال: رأيت أبى يذاكر جماعة من أمراء أهل الشام بمعان من الشعر، فمرّ فيها ذكر قلة نوم العاشق وما قيل فيه، فأنشدوا إنشادات كثيرة، فقال لهم أبى: قد فرغ من هذا كاتب كان بالعراق فقال: أحسب النوم حكاكا … إذ رأى منك جفاكا (¬2) منّى الصّبر ومنك ال … هجر فابلغ بى مداكا بعدت همّة عين … طمعت فى أن تراكا أو ما خطّ لعينى … أن ترى من قد رآكا ليت حظّى منك أن تع … لم ما بى من هواكا قال أبى: / إنه تصرّف فى معان من الشعر فى هذه الأبيات، قال: وكتبها عنه جماعة من حضر؛ والأبيات لإبراهيم بن العباس الصولىّ. *** وأخبرنا عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرنا محمد بن يحيى الصولىّ قال: لما بايع المأمون لعلىّ ابن موسى الرّضا عليهما السلام بالعهد، وأمر الناس بلبس الخضرة صار إليه دعبل (¬3) بن على ¬

_ (¬1) اسمه عيسى بن أوس بن عصبة؛ أبو جويرية العبدى؛ شاعر محسن متمكن؛ ذكره الآمدي فى المؤتلف والمختلف: 79، والمرزباني فى المعجم: 258. (¬2) ديوان إبراهيم بن العباس: 148. (¬3) هو دعبل بن على الخزاعى، شاعر مطبوع؛ كان هجاء خبيث اللسان؛ ولم يسلم من لسانه أحد ممن عاصره من الخلفاء والوزراء ولا من أولادهم وأولاد أولادهم؛ ولا ذو نباهة؛ أحسن إليه أو لم يحسن، وكان من مشاهير الشيعة؛ قال ياقوت «وقصيدته التائية فى أهل البيت من أحسن الشعر وأسنى المدائح، قصد بها على بن موسى الرضا بخراسان، فأعطاه عشرة آلاف درهم، وخلع عليه بردة من ثيابه، فأعطاه بها أهل قمّ ثلاثين ألف درهم فلم يبعها؛ فقطعوا عليه الطريق ليأخذوها فقال لهم: إنها تراد لله-

وإبراهيم بن العباس الصولى- وكانا صديقين لا يفترقان، فأنشده دعبل: مدارس آيات خلت من تلاوة … ومنزل وحى مقفر العرصات (¬1) وأنشده إبراهيم بن العباس على مذهبها قصيدة، أولها: أزالت عزاء القلب بعد التّجلّد … مصارع أولاد النّبيّ محمّد قال: فوهب لهما عشرين ألف درهم من الدراهم التى عليها اسمه، وكان المأمون أمر بضربها فى ذلك الوقت؛ فأما دعبل بن عليّ فصار بالشّطر منها إلى قمّ، فاشترى أهلها منه كلّ درهم بعشرة، فباع حصته بمائة ألف درهم. ¬

_ - عز وجل؛ وهى محرمة عليكم؛ فدفعوا له ثلاثين ألف درهم، فحلف ألا يبيعها أو يعطوه بعضها ليكون فى كفنه، فأعطوه كما واحدا؛ فكان فى أكفانه؛ ويقال: إنه كتب القصيدة فى ثوب وأحرم فيه؛ وأوصى بأن يكون فى أكفانه، ونسخ هذه القصيدة مختلفة، فى بعضها زيادات؛ يظن أنها مصنوعة»، وتوفى دعبل سنة 246. (وانظر ترجمته فى معجم الأدباء 11: 19: 112، وابن خلكان 1: 179 - 180، والأغانى 18: 29 - 32، وتاريخ بغداد 8: 382). (¬1) القصيدة فى معجم الأدباء، وتنوير الأبصار: 141، 142؛ ومطلعها فيه: ذكرت محلّ الرّبع من عرفات … وأجريت دمع العين بالعبرات وفكّ عرى صبرى وهاجت صبابتى … رسوم ديار أقفرت وعرات مدارس آيات ... وفيها يقول: ألم تر أنى من ثلاثين حجة … أروح وأغدو دائم الحسرات أرى فيئهم فى غيرهم متقسّما … وأيديهم من فيئهم صفرات فآل رسول الله نحف جسومهم … وآل زياد حفّل القصرات بنات زياد فى القصور مصونة … وآل رسول الله فى الفلوات إذا وتروا مدّوا إلى أهل وترهم … أكفّا عن الأوتار منقبضات فلولا الّذي أرجوه فى اليوم أو غد … لقطّع قلبى إثرهم حسرات.

وأما إبراهيم بن العباس فلم يزل عنده بعضها حتى مات؛ قال الصولىّ: ولم أقف من قصيدة إبراهيم على غير هذا البيت. قال: وكان السبب فى ذهاب هذا الفن من شعره ما حدّثني به أبو العباس أحمد بن محمد بن الفرات والحسين بن عليّ الباقطانىّ (¬1) قالا: كان إبراهيم بن العباس صديقا لإسحاق بن إبراهيم أخى زيدان الكاتب المعروف بالزّمن، فأنسخه شعره فى عليّ بن موسى الرّضا عليهما السلام، وقد انصرف من خراسان، ودفع إليه شيئا بخطّه منه، وكانت النّسخة عنده إلى أن ولى المتوكل، وولى إبراهيم بن العباس ديوان الضّياع، وقد كان تباعد ما بينه وبين أخى زيدان، فعزله عن ضياع كانت فى يده بحلوان وغيرها وطالبه بمال وألحّ عليه، وأساء مطالبته، فدعا إسحاق بعض من يثق به من إخوانه، وقال له: امض إلى إبراهيم بن العباس، فأعلمه أنّ شعره فى عليّ بن موسى بخطّه عندى، وبغير خطّه، والله لئن استمرّ على ظلمى (¬2)، ولم يزل عنّى المطالبة لأوصلنّ الشعر إلى المتوكل؛ قال: فصار الرجل إلى إبراهيم بن العباس، فأخبره بذلك، فاضطرب اضطرابا شديدا، وجعل الأمر/ فى ذلك إلى الواسطة فى ذلك حتى أسقط جميع ما كان طالبه به، وأخذ الشعر منه، وأحلفه أنه لم يبق عنده منه شيء، فلما حصل عنده أحرقه بحضرته. وذكر أبو أحمد يحيى بن عليّ المنجم أنّ أباه عليّ بن يحيى كان الواسطة بينهما. قال الصولىّ: وما عرفت من شعر إبراهيم فى هذا المعنى شيئا إلّا أبياتا؛ وجدتها بخط أبى قال: أنشدنى أخى لعمه فى عليّ بن موسى من قصيدة: كفى بفعال امرئ عالم … على أهله عادلا شاهدا (¬3) أرى لهم طارفا مونقا … ولا يشبه الطّارف التالدا يمنّ عليكم بأموالكم … وتعطون من مائة واحدا ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: الباقطان: قرية بالعراق، والنسبة إليها باقطانى؛ وثم أيضا قرية يقال لها باقطينا؛ والنسبة إليها باقطينى. (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «ظلمه». (¬3) ديوانه: 172، ومن نسخة بحاشية الأصل: «على قومه عادلا».

فلا حمد الله مستنصرا (¬1) … يكون لأعدائكم حامدا فضلت قسيمك فى قعدد (¬2) … كما فضل الوالد الوالدا قال الصولىّ: فنظرت فى قوله: * فضلت قسيمك فى قعدد* فوجدت عليّ بن موسى عليهما السلام والمأمون متساويين فى قعدد النسب، وهاشم التاسع من آبائهما جميعا. وروى الصولىّ أنّ منشدا أنشد إبراهيم بن العباس وهو فى مجلسه فى ديوان الضّياع: ربّما تكره النفوس من الأم … ر له فرجة كحلّ العقال (¬3) قال: فنكت بقلمه ساعة ثم قال: ولربّ نازلة يضيق بها الفتى … ذرعا وعند الله منها مخرج (¬4) كملت فلما استحكمت حلقاتها … فرجت وكان يظنّها لا تفرج فعجب من جودة بديهته. وأخبرنا أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرنى محمد بن يحيى الصولىّ قال حدثنى القاسم بن إسماعيل أبو ذكوان الراوية قال: كنت بالأهواز أيام الواثق، وإبراهيم بن العباس يلى معونتها وخراجها، فوصفت له بالأدب فأمر بإحضارى، فلما دخلت عليه قرّب مجلسى وقال: تسلّف (¬5) أنس المطاولة؛ فإن الاستمتاع لا يتمّ إلّا به، فانبسطت وتساءلنا/ عن الأشعار، فما رأيت أحدا قطّ أعلم بالشعر منه، فقال لى: ما عندك فى قول النابغة: ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): * فلا حمد الله مستبصر*. (¬2) حاشية الأصل: «فى قعدد» تتعلق بقسيمك، والقعدد: الأقرب إلى الأب الأكبر، وفلان أقعد من فلان نسبا إذا كان أقرب إلى الأب الأكبر. (¬3) البيت لأمية بن أبى الصلت؛ وهو فى شعراء النصرانية: 203، واللسان (فرج). والفرجة؛ بالفتح مصدر؛ وبالضم اسم، والرواية بالفتح. (¬4) ديوانه: 171. (¬5) حاشية الأصل: تسلف؛ أى خذه سلفا؛ يعنى أنك ستنبسط إلى بعد المطاولة؛ فخذ ذلك سلفا وانبسط».

ألم تر أنّ الله أعطاك سورة … ترى كلّ ملك دونها يتذبذب (¬1) فإنك شمس والملوك كواكب … إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب فقلت: أراد تفضيله على الملوك، فقال: صدقت، ولكن فى الشعر خبء (¬2)، وهو أنه اعتذر إلى النعمان من ذهابه إلى آل جفنة إلى الشام، ومدحه لهم، وقال: إنما فعلت هذا لجفائك بى، فإذا صلحت لى لم أرد غيرك، كما أنّ من أضاءت له الشمس لم يحتج إلى ضوء الكواكب؛ فأتى بمعنيين: بهذا، وبتفضيله، قال: فاستحسنت ذلك منه. وكان إبراهيم بن العباس من أصدق الناس لأحمد بن أبى دؤاد، فعتب على ابنه أبى الوليد من شيء قدّمه، ومدح أباه وأحسن فى التخلّص كلّ الإحسان فقال: عفّت مساو تبدّت منك واضحة … على محاسن بقّاها أبوك لكا (¬3) لئن تقدّم أبناء الكرام به … لقد تقدّم أبناء اللّئام بكا ولإبراهيم: تمرّ الصّبا صفحا بساكن ذى الغضا … ويصدع قلبى أن يهبّ هبوبها (¬4) قريبة عهد بالحبيب وإنما … هوى كلّ نفس حيث كان حبيبها تطلّع من نفسى إليك نوازع … عوارف أنّ اليأس منك نصيبها وأخذ هذا من قول ذى الرّمة: إذا هبّت الأرواح من نحو جانب … به آل ميّ هاج شوقى هبوبها (¬5) هوى تذرف العينان منه، وإنما … هوى كلّ نفس حيث كان حبيبها ولإبراهيم: دنت بأناس عن تناء زيارة … وشطّ بليلى عن دنوّ مزارها (¬6) وإنّ مقيمات بمنقطع اللّوى … لأقرب من ليلى وهاتيك دارها ¬

_ (¬1) ديوانه: 13. (¬2) الخبء: ما خبئ واستتر، كالخبئ. (¬3) ديوانه: 162. (¬4) ديوانه: 139. (¬5) ديوانه: 65 - 66. (¬6) ديوانه: 145، وفى حاشية الأصل: «يروى البيتان لمحمد بن عبد الملك الزيات».

/ وأخذ ذلك من قول النظار الفقعسيّ: يقولون هذى أم عمرو قريبة … دنت بك أرض نحوها وسماء ألا إنّما بعد الحبيب وقربه … إذا هو لم يوصل إليه سواء ووجدت بعض أهل الأدب يظنّ أن إبراهيم بن العباس سبق إلى هذا المعنى فى قوله: كن كيف شئت وأنّى تشا … وأبرق يمينا وأرعد شمالا (¬1) نجا بك لؤمك منجى الذّباب … حمته مقاذيره أن ينالا (¬2) حتى رأيت مسلم بن الوليد قد سبق إلى هذا المعنى، فأحسن غاية الإحسان فقال: أمّا الهجاء فدقّ عرضك دونه … والمدح عنك كما علمت جليل (¬3) فاذهب فأنت طليق عرضك إنّه … عرض عززت به وأنت ذليل ¬

_ (¬1) ديوانه: 163. (¬2) من نسخة بحاشية الأصل: «مقاذره». (¬3) ملحقات ديوانه: 242.

37

37 مجلس آخر [المجلس السابع والثلاثون: ] تأويل آية [: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ... ] إن سأل سائل عن قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ، [يوسف: 33]. فقال: إذا كانت المحبة عندكم هى الإرادة، فهذا تصريح من يوسف عليه السلام بإرادة المعصية؛ لأن حبسه فى السجن، وقطعه عن التصرف معصية من فاعله؛ وقبيح من المقدم عليه؛ وهو فى القبح يجرى مجرى ما دعى إليه من الزنا. وقوله من بعد: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ يدل على أنّ امتناعه من القبيح [مشروط بمنعهنّ وصرفهنّ] (¬1) عن كيده؛ وهذا بخلاف مذهبكم، لأنكم تذهبون إلى أنّ ذلك لا يقع منه؛ صرف النّسوة عن كيده، أو لم يصرفهنّ. الجواب، قلنا: أما قوله: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ففيه وجهان من التأويل: أولهما أنّ المحبّة متعلقة فى ظاهر الكلام بما لا يصحّ فى الحقيقة أن يكون محبوبا مرادا؛ لأنّ السجن إنما هو الجسم، والأجسام لا يجوز أن يريدها؛ وإنما يريد الفعل فيها، أو المتعلّق بها؛ والسجن نفسه (¬2) ليس/ بطاعة ولا معصية، وإنما الأفعال فيه قد تكون طاعات ومعاصى بحسب الوجوه التى يقع عليها؛ وإدخال القوم يوسف عليه السلام الحبس، أو إكراههم له على دخوله معصية منهم؛ وكونه فيه وصبره على ملازمته، والمشاقّ التى تناله باستيطانه طاعة منه وقربة، وقد علمنا أنّ ظالما لو أكره مؤمنا على ملازمة بعض المواضع، وترك ¬

_ (¬1) د، ف: «مشروط بمنعهم وصرفهم». (¬2) حاشية ف (من نسخة): «وحده».

التصرّف فى غيره لكان فعل المكره حسنا، وإن كان فعل المكره قبيحا. وهذه الجملة تبيّن ألّا ظاهر فى الآية (¬1) يقتضي ما عنده؛ وأنه لا بدّ من تقدير محذوف يتعلق بالسّجن؛ وليس لهم أن يقدّروا ما يرجع إلى الحابس من الأفعال؛ إلّا ولنا أن نقدّر ما يرجع إلى المحبوس؛ وإذا احتمل الكلام الأمرين، ودلّ الدليل على أنّ النبىّ عليه السلام لا يجوز أن يريد المعاصى والقبائح اختصّ المحذوف المقدّر بما يرجع إليه مما ذكرناه، وذلك طاعة لا لوم على مريده ومحبّه. فإن قيل: كيف يجوز أن يقول: السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، وهو لا يحبّ ما دعوه جملة؛ ومن شأن هذه اللفظة أن تدخل بين ما وقع (¬2) فيه اشتراك فى معناها؛ وإن فضّل البعض على البعض؟ قلنا: قد تستعمل هذه اللفظة فى مثل هذا الموضع؛ وإن لم يكن فى معناها اشتراك على الحقيقة، ألا ترى أنّ من خيّر بين ما يحبه وما يكرهه جائز أن يقول: هذا أحبّ إلى من هذا، وإن لم يجز مبتدئا أن يقول من غير أن يخيّر: هذا أحبّ إلى من هذا، إذا كان لا يحبّ أحدهما جملة! وإنما يسوغ ذلك على أحد الوجهين دون الآخر؛ من حيث كان المخيّر بين الشيئين لا يخيّر بينهما إلّا وهما مرادان له، أو مما يصحّ أن يريدهما، فموضوع التخيير يقتضي ذلك، وإن حصل فيما ليس هذه صفته، والمجيب على (¬3) هذا متى قال: كذا أحبّ إلى من كذا كان مجيبا على ما يقتضيه موضوع التخيير، وإن لم يكن الأمران يشتركان فى تناول محبته. وما يقارب ذلك قوله تعالى: قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ؛ [الفرقان: 15]، ونحن نعلم ألّا خير فى العقاب؛ وإنما حسن ذلك لوقوعه موقع التوبيخ والتقريع على اختيار ¬

_ (¬1) حاشية ف (من نسخة): «للآية». (¬2) حاشية ف (من نسخة): «يقع». (¬3) حاشية ف (من نسخة): «عن هذا».

المعاصى على الطاعات، وأنهم ما ركبوا المعاصى وآثروها على الطاعات إلّا لاعتقادهم (¬1) أنّ فيها خيرا/ ونفعا، فقيل: أذلك خير على ما تظنونه وتعتقدونه، أم كذا وكذا؟ وقد قال قوم فى قوله تعالى: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ إنما حسن ذلك لاشتراك الحالين فى باب المنزلة، وإن لم يشتركا فى الخير والنفع، كما قال تعالى: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا؛ [الفرقان: 24]، ومثل هذا يتأتّى فى قوله تعالى: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ لأنّ الأمرين- يعنى المعصية ودخول السجن- مشتركان فى أنّ لكل منهما داعيا، وعليه باعثا، وإن لم يشتركا فى تناول المحبة، فجعل اشتراكهما فى داعى المحبة اشتراكا فى المحبة نفسها وأجرى اللّفظ على ذلك. ومن قرأ هذه الآية بفتح السين فالتأويل أيضا ما ذكرناه؛ لأن «السّجن» المصدر، فيحتمل أن يريد: أنّ سجنى لهم نفسى، وصبرى على حبسهم أحبّ إلى من مواقعة المعصية؛ ولا يرجع بالسجن إلى فعلهم بل إلى فعله. والوجه الثانى أن يكون معنى أَحَبُّ إِلى أى أهون عندى وأسهل عليّ؛ وهذا كما يقال لأحدنا فى الأمرين يكرههما معا: إن فعلت كذا وإلا فعل بك كذا وكذا؛ فيقول: بل كذا أحبّ إلى، أى بمعنى أسهل وأخفّ، وإن كان لا يريد واحدا منهما؛ وعلى هذا الجواب لا يمتنع أن يكون إنما عنى فعلهم به دون فعله، لأنه لم يخبر عن نفسه بالمحبة التى هى الإرادة؛ وإنما وضع أَحَبُّ موضع أخف، والمعصية قد تكون أهون وأخفّ من أخرى. وأما قوله: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ فليس المعنى فيه على ما ظنّه السائل؛ بل المراد: متى لم تلطف لى ممّا يدعونى إلى مجانبة المعصية، ويثنينى إلى تركها ومفارقتها صبوت؛ وهذا منه عليه السلام على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى، والتسليم لأمره، وأنه لولا معونته ولطفه ما نجا من كيدهنّ؛ ولا شبهة فى أن النبىّ عليه السلام إنما يكون ¬

_ (¬1) حاشية ف (من نسخة): «لاعتقادتهم».

تأويل خبر: "من يتبع المشمعة يشمع الله به"

معصوما من القبائح بعصمة الله تعالى له وبلطفه وتوفيقه. فإن قيل: الظاهر خلاف ذلك لأنه قال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ فيجب أن يكون المراد ما يمنعهم من الكيد ويرفعه؛ والّذي ذكرتموه من انصرافه عن المعصية لا يقتضي ارتفاع الكيد والانصراف عنه. قلنا: معنى الكلام: وإلا تصرف/ عنى ضرر كيدهنّ والغرض به؛ لأنهنّ إنما أجرين بكيدهنّ إلى مساعدته لهنّ على المعصية، فإذا عصم منها ولطف له فى الانصراف عنها؛ فكأنّ الكيد قد انصرف عنه ولم يقع به، من حيث لم يقع ضرره وما أجرى به إليه، ولهذا يقال لمن أجرى بكلامه إلى غرض لم يقع: ما قلت شيئا، ولمن فعل ما لا تأثير له: ما فعلت شيئا، وهذا بيّن بحمد الله ومنّه. تأويل خبر [: «من يتّبع المشمعة يشمّع الله به»] إن سأل سائل عن تأويل الخبر الّذي يرويه عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال فى خطبة طويلة خطبها: «من يتّبع المشمعة يشمّع الله به». والجواب، إن المشمعة هى الضّحك والمزاح واللعب، يقال: شمع الرّجل يشمع شموعا، وامرأة شموع إذا كانت كثيرة المزاح والضّحك: قال أبو ذؤيب يصف الحمير: بقرار قيعان سقاها وابل … واه فأثجم برهة لا يقلع (¬1) فلبثن حينا يعتلجن بروضة … فيجدّ حينا فى العلاج ويشمع (¬2) أراد أنّ هذا الحمار الّذي وصف حاله مع الأتن، وأنه معهنّ فى بعض القيعان يعارك هذه الأتن. ¬

_ (¬1) ديوان الهذليين 1: 5 القرار: مستقر الماء. والقيعان: مناقع الماء فى حر الطين؛ وفى حاشيتى الأصل، ف: «سقاها، أى سقى القيعان واه؛ أى سحاب كثير المطر؛ وهذه استعارة؛ أى كأن هذا السحاب ضعيف فينهل عنه الماء انهلالا. وأثجم: أقام برهة؛ أى مدة من الزمان لا يقلع ولا يذهب». (¬2) حاشية الأصل: «يروى، «بروضه»، والضمير للعير الّذي يصفه، أو للقرار، أو للوابل».

ومعنى «يعتلجن» يعاضّ بعضها بعضا، ويترامحن من النشاط فيجدّ الفحل معهنّ مرّة، وأخرى يأخذ معهنّ فى اللعب فيشمع، وفى يجدّ لغتان: يجد ويجدّ، والمفتوح لغة هذيل؛ ويقال فلان جادّ مجدّ على اللغتين معا. وقيل إن معنى يشمع الحمار أنه يتشمّع، ثم يرفع رأسه فيكشّر عن أسنانه، فجعل ذلك بمنزلة الضحك، قال الشّماخ: ولو أنّى أشاء كننت نفسى … إلى لبّات بهكنة شموع (¬1) وقال المتنخل الهذلىّ: ولا والله نادى الحىّ ضيفى … هدوءا بالمساءة والعلاط (¬2) سأبدؤهم بمشمعة وأثنى … بجهدى من طعام أو بساط أراد بقوله «نادى الحىّ ضيفى» أى لا ينادونه، من النداء بالسوء والمكروه ولا يتلقونه بما لا يؤثر/. والعلاط: من أعلطه واعتلط به؛ إذا خاصمه وشاغبه ووسمه بالشر؛ وأصله من علاط البعير، وهو وسم فى عنقه. وقيل إن معنى «نادى الحىّ» من النادى؛ أى لا يجالسونه بالمكروه والسوء. ومعنى «سأبدؤهم بمشمعة» أى بلعب وضحك، لأن ذلك من علامات الكرم والسرور بالضيف، والقصد إلى إيناسه وبسطه، ومنه قول الآخر: وربّ ضيف طرق الحىّ سرى … صادف زادا وحديثا ما اشتهى إنّ الحديث جانب من القرى (¬3) وروى الأصمعىّ عن خلف الأحمر قال: سنّة الأعراب أنهم إذا حدّثوا الرجل الغريب ¬

_ (¬1) ديوانه: 17؛ وروايته: «هيكلة»؛ وهى الضخمة. وكننت نفسى: سترتها. ولبات: جمع لبة؛ هى موضع القلادة؛ والبهكنة: الغضة الحسنة الخلق. (¬2) ديوان الهذليين 2: 21. (¬3) الأبيات للشماخ يقولها فى عبد الله بن جعفر، وقبلها: إنّك يا ابن جعفر نعم الفتى … ونعم مأوى طارق إذا أتى وانظر الأغانى 9: 168 (طبع دار الكتب المصرية).

خبر الأصمعى مع عجوز فى سوق ضرية حينما أنشدها شعر بشر بن عبد الرحمن

وهشّوا إليه ومازحوه أيقن بالقرى، وإذا أعرضوا عنه عرف الحرمان. ومعنى: «أثنى* بجهدى من طعام أو بساط»، أى أتبع ذلك بهذا. ومعنى الخبر على هذا أنّ من كان من شأنه العبث بالناس والاستهزاء بهم، والضحك منهم أصاره الله تعالى إلى حالة يعبث به فيها، ويستهزئ أمنه. ويقارب هذا الحديث من وجه حديث آخر؛ وهو ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله: «من يسمّع الناس بعمله يسمّع الله به»؛ والمعنى: من يرائى (¬1) بأعماله ويظهرها تقربا إلى الناس واتخاذا للمنازل عندهم؛ يشهره (¬2) الله بالرياء ويفضحه ويهتكه. ويمكن أيضا فى الخبر الأول وجه آخر لم يذكر فيه؛ وهو أن من عادة العرب أن يسمّوا الجزاء على الشيء باسمه؛ ولذلك نظائر فى القرآن وأشعار العرب كثيرة مشهورة، فلا ينكر أن يكون المعنى: من يتّبع اللهو بالناس، والاستهزاء بهم يعاقبه الله تعالى على ذلك ويجازيه؛ فسمى الجزاء على الفعل باسمه؛ وهذا الوجه أيضا ممكن فى الخبر الثانى. *** [خبر الأصمعىّ مع عجوز فى سوق ضريّة حينما أنشدها شعر بشر بن عبد الرحمن: ] أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا عبد الرحمن بن أخى الأصمعى عن عمه قال: إنى لفى سوق ضريّة (¬3)، وقد نزلت على رجل من بنى كلاب كان متزوجا بالبصرة، وكان له ابن بضريّة، إذ أقبلت عجوز على ناقة لها، حسنة البزّة، فيها بقايا جمال، فأناخت/ وعقلت ناقتها، وأقبلت تتوكّأ على محجن (¬4) لها فجلست قريبا منّا، وقالت: هل من منشد؟ فقلت للكلابىّ: أيحضرك شيء؟ قال: لا، قال: فأنشدتها شعر البشر بن عبد الرحمن الأنصارىّ: وقصيرة الأيام ودّ جليسها … لو باع مجلسها بفقد حميم (¬5) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «من يراء». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «يشهره»، بالجزم. (¬3) ضرية: قرية بنجد فى طريق مكة من البصرة. (¬4) المحجن: عصا معوجة معقفة الرأس؛ فى رأسها حديدة كالمعلاق. (¬5) الأبيات فى الحماسة- بشرح التبريزى 3: 301، وأمالى القالى. 1: 203، من غير عزو مع اختلاف فى الترتيب. والبيت الأول منها فى اللسان (ردع) منسوب إلى قيس بن معاذ مجنون بنى عامر. وفى الحماسة: «لو نال مجلسها»، وفى أمالى القالى: «لو دام مجلسها».

[من محذيات أخى الهوى غصص الجوى] (¬1) … بدلال غانية ومقلة ريم صفراء من بقر الجواء كأنما … خفر الحياء بها رداع سقيم (¬2) قال: فجثت على ركبتيها وأقبلت تحرش (¬3) الأرض بمحجنها، وأنشأت تقول (¬4): قفى يا أميم القلب (¬5) نقرأ تحيّة … ونشك الهوى، ثم افعلى ما بدا لك (¬6) فلو قلت: طأ في النار أعلم أنّه (¬7) … هوى لك، أو مدن لنا من وصالك لقدّمت رجلى نحوها فوطئتها [هدى منك لى، أو ضلّة من ضلالك] (¬8) [سلى البانة العليا من الأجرع] (¬9) الّذي … به البان: [هل حيّيت أطلال دارك] (¬10) وهل قمت فى أطلالهنّ عشيّة [مقام سقيم القلب] (¬11)، واخترت ذلك ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: * من محذيات أخى الأسى غصص الهوى*. (¬2) الجواء: موضع بعمان. (¬3) تحرش: تضرب عليها؛ من حرش الضب، والحرش كالخرش وهو الخدش. (¬4) الأبيات لابن الدمينة؛ ديوانه: 15، وأمالى الزجاجى 110 عن ابن الأعرابى، وأمالى القالى 2: 33 عن ابن دريد، ومعاهد التنصيص 1: 159؛ وهى أيضا فى الحماسة- بشرح التبريزى 3: 263، من غير عزو. (¬5) حاشية الأصل: «أضافها إلى القلب كرامة لها وإعجابا بها». (¬6) فى حاشيتى الأصل ف: «الأحسن أن يقال: «بدا لك» بكسر اللام لتتوازن القوافى، والعلة فيه مجاورة كسرة الكاف كقراءة من قرأ: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ، وكقوله تعالى: عِتِيًّا، وصِلِيًّا. (¬7) حاشية الأصل (من نسخة): «أنها». (¬8) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: * سرورا لأنى قد خطرت ببالك*. (¬9) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «سلى البانة الغيناء بالأجرع»، وهى رواية الحماسة. والغيناء: الشجرة العظيمة الواسعة الظل. والأجرع: السهل المختلط بالرمل. (¬10) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «هل حييت أظلال ضالك»، والضال: شجر. (¬11) من نسخة بحاشية الأصل، ف: «قيام سقيم البال».

ليهنئك (¬1) إمساكى بكفّى على الحشا … ورقراق عينى (¬2) رهبة من زيالك (¬3) قال الأصمعىّ: فأظلمت والله عليّ الدنيا بحلاوة منطقها، وفصاحة لهجتها؛ فدنوت منها فقلت: نشدتك الله لما زوّدتنى (¬4) من هذا! فرأيت الضحك فى عينها، وأنشدت: ومستخفيات ليس يخفين زرننا … يسحّبن (¬5) أذيال الصّبابة والشّكل (¬6) جمعن (¬7) الهوى حتّى إذا ما ملكنه … نزعن، وقد أكثرن فينا من القتل مريضات رجع القول (¬8) خرس عن الخنا تألّفن أهواء القلوب بلا بذل موارق من ختل المحبّ، عواطف … بختل ذوى الألباب بالجدّ والهزل (¬9) يعنّفنى العذّال فيهنّ، والهوى … يحذّرنى من أن أطيع ذوى العذل أما قول الأنصارى «وقصيرة الأيام» فأراد بذلك أنّ السرور يتكامل بحضورها لحسنها/ وطيب حديثها فتقصر أيام جليسها، لأن أيام السرور وموصوفة بالقصر. ويمكن أن يريد بقصيرة الأيام أيضا حداثة سنّها وقرب عهد مولدها؛ وإن كان الأول أشبه بما أتى فى آخر البيت. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «ليهنك»؛ وهى رواية الحماسة. (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «ورقراق دمع». (¬3) بعد هذا البيت فى ف: لئن ساءنى أن نلتنى بمساءة … لقد سرنى أنّى خطرت ببالك وهو أيضا فى حاشية الأصل. (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «زودتينى» ومن نسخة أخرى. «زدتنى». (¬5) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «ويسحبن». (¬6) الأبيات فى أمالى القالى 2: 287 غير منسوبة. (¬7) من نسخة بحاشيتى. الأصل: «بلغن». (¬8) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «الطرف». (¬9) فى حاشيتى الأصل، ف: «أى لا يختلهن المحب، بل يختلن ذوى الألباب».

ومعنى: * لو باع مجلسها بفقد حميم* أى ابتاعه، وهذا اللفظ من الأضداد؛ لأنه يستعمل فى البائع والمشترى معا، قال الفراء: سمعت أعرابيا يقول: بع لى تمرا بدرهم، أى اشتر لي تمرا بدرهم، وقال الشاعر: فيا عزّ ليت النأى إذ حال بيننا … وبينك باع الودّ لى منك تاجر (¬1) أى ابتاع. وقوله: «من محذيات أخى الهوى» أى من معطيات، يقال: أحذيت الرجل من العطية (¬2) والغنيمة أحذيه إذا أعطيته، والاسم الحذيّة والحذوة والحذيا؛ كل ذلك العطية. وقوله: * كأنما خفر الحياء بها رداع سقيم* فالرّداع هو الوجع فى الجسد؛ فكأنه أراد أنها منقبضة منكسرة من الحياء كالسقيم، أو يريد تغيّر لونها وصفرتها (¬3) كما يتغير لون السقيم؛ ويجرى ذلك مجرى قول ليلى الأخيلية: ومخرّق عنه القميص تخاله … بين البيوت من الحياء سقيما (¬4) *** أخبرنا المرزبانىّ قال حدّثنا أبو عبد الله الحكيمىّ قال حدثنى ميمون بن هارون الكاتب قال: حدثنا ابن أخى الأصمعىّ عن عمه قال: لقيت أعرابيا بالبادية فاسترشدته إلى مكان، فأرشدنى وأنشدنى: ¬

_ (¬1) البيت لكثير؛ وهى ق ديوانه 1: 91. (¬2) ساقطة من م. (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «صفرته». (¬4) من أبيات فى الحماسة- يشرح التبريزى 4: 155؛ والعينى 2: 47، وأمالى القالى 1: 248 وفى م بعد هذا البيت: حتّى إذا خفق اللواء رأيته … تحت اللواء على الخميس زعيما.

ليس العمى طول السّؤال وإنما … تمام العمى طول السّكوت على الجهل ثم رجعت إلى البصرة فمكثت بها حينا، ثم قدمت البادية، فإذا بالأعرابىّ جالسا بين ظهرانى قوم؛ وهو يقضى بينهم، فما رأيت قضية أخطأت قضية الصالحين من قضيّته؛ فجلست إليه، فقلت: يرحمك! الله أما من رشوة؟ أما من هدية؟ أما من صلة؟ فقال: لا إذا جاء هذا ذهب التوفيق؛ فشكوت إليه ما ألقى من عذل حليلة لى إياى فى طلب المعيشة، فقال: لست فيها بأوحد، وإنى لشريكك، ولقد قلت فى ذلك شعرا، فقلت: أنشدنيه، فأنشدنى: / باتت تعيّرنى الإقتار والعدما … لمّا رأت لأخيها المال والخدما عنف لرأيك! ما الأرزاق من جلد، … ولا من العجز؛ بل مقسومة قسما يا أمة الله إنّى لم أدع طلبا … للرّزق- قد تعلمين- الشّرق والشأما وكلّ (¬1) ذلك بالإجمال فى طلب … لم أرد عرضا، ولم أسفك لذاك دما لو كان من جلد ذا المال أو أدب … لكنت أكثر من نمل القرى نعما ارضى من العيش ما لم تحوجى معه … أن تفتحى لسؤال الأغنياء فما واستشعرى الصّبر علّ الله خالقنا … يوما سيكشف عنّا الفقر والعدما (¬2) لا تحوجينى (¬3) إلى ما لو بذلت له … نفسى لأعقبك التّهمام والنّدما بالله سرّك أنّ الله خوّلنى … ما كان خوّله الأعراب والعجما ما سرّنى أنّنى خوّلت ذاك ولا … ألّا أقول لباغى حاجة نعما وأننى لم أحز (¬4) عقلا ولا أدبا … ولم أرث والدى مجدا ولا كرما فعسرة المرء (¬5) أحرى فى معاشك من … أمر يجرّ عليك الهمّ والألما ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «فكل». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «الضر والعدما». (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «لا تحوجنى» مع نون التوكيد. (¬4) حاشيتى الأصل (من نسخة): «لم أفد عقلا». (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «فعسرة المال».

خبر الأصمعى مع شاب بدوى فصيح من بنى عامر واستنشاده الشعر

قال: فو الله ما أنشدتها حتى حلفت ألّا تعذلنى أبدا. *** [خبر الأصمعىّ مع شاب بدوى فصيح من بنى عامر واستنشاده الشعر: ] حدثنا عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا عبد الرحمن بن أخى الأصمعى عن عمه قال: رأيت بقباء شابا من بنى عامر؛ فما رأيت بدويا أفصح منه، ولا أظرف؛ فو الله لكأنه شواظ يتلظّى، فاستنشدته فأنشدنى: فلم أنسكم يوم اللّوى إذ تعرّضت … لنا أمّ طفل خاذلا قد تخلّت (¬1) وقالت سأنسيك العشيّة ما مضى … وأصرف منك النّفس عمّا أجنّت (¬2) فما (¬3) فعلت- لا والّذي أنا عبده- … على ما بدا من حسنها إذ أدلّت أبت سابقات الحبّ إلّا مقرّها … إليك، وما تثنى إذا ما استقرّت هواك الّذي فى النّفس أمسى دخيلها … عليه انطوت أحشاؤها واستمرّت وأنشدنى أيضا: ديار للّتى طرقتك وهنا … بريّا روضة وذكاء رند (¬4) تسائلنى وأصحابى هجود … وتثنى عطفها من غير صدّ فلمّا أن شكوت الحبّ قالت: … فإنّى فوق وجدك كان وجدى ولكن حال دونك ذو شذاة … أسرّ بفقده ويهرّ فقدى (¬5) *** [خبر الأصمعىّ مع إسماعيل بن عمار الأعرابىّ: ] وبهذا الإسناد عن الأصمعىّ قال: قعدت إلى أعرابىّ يقال له إسماعيل بن عمار، وإذا هو يفتل أصابعه ويتلهف، فقلت له: علام تتلهف؟ فأنشأ يقول: عيناى مشئومتان ويحهما! … والقلب حيران (¬6) مبتلى بهما ¬

_ (¬1) الخاذل من الظباء: التى تتخلف عن صواحبها. (¬2) حاشية الأصل: «أى أصرف نفسى عنك عما أجنته». (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «فلا فعلت». (¬4) الدهن: الليل ساعة يدبر. والرند: شجر طيب الرائحة. (¬5) الشذاة: الحدة، ويهر: يكره. (¬6) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «حران».

خبر الأصمعى حين سافر إلى البصرة؛ وسماعه لشعر استحسنه ورواه

عرّفتاه الهوى بظلمهما … يا ليتنى قبلها عدمتهما هما إلى الحين قادتا وهما … دلّ على ما أجنّ دمعهما سأعذر القلب فى هواه فما … سبّب هذا البلاء غيرهما *** [خبر الأصمعىّ حين سافر إلى البصرة؛ وسماعه لشعر استحسنه ورواه: ] وبهذا (¬1) الإسناد عن الأصمعىّ قال: نزلت ذات ليلة فى وادى بنى العنبر، وهو إذ ذاك معان (¬2) بأهله- أى آهل- فإذا فتية يريدون البصرة؛ فأحببت صحبتهم، فأقمت ليلتى تلك عليهم؛ وإنّى لوصب محموم؛ أخاف ألّا أستمسك على راحلتى؛ فلمّا أقاموا ليرحلوا أيقظونى؛ فلما رأوا حالى رحلوا وحملونى؛ وركب أحدهم ورائى يمسكنى؛ فلما أمعن السير تنادوا ألا فتى يحدو بنا أو ينشدنا! فإذا منشد فى سواد الليل بصوت ند حزين ينشد: لعمرك إنّى يوم بانوا فلم أمت … خفاتا على آثارهم لصبور غداة المنقّى إذ رميت بنظرة … ونحن على متن الطّريق نسير (¬3) فقلت لقلبى حين خفّ به الهوى … وكاد من الوجد المُئنّ يطير (¬4) فهذا ولمّا تمض للبين ليلة … فكيف إذا مرّت عليه شهور / وأصبح أعلام الأحبة دونها … من الأرض غول نازح ومسير وأصبحت نجديّ الهوى متهم الثوى … أزيد اشتياقا أن يحنّ بعير عسى الله بعد النأى أن يسعف النّوى … ويجمع شمل بعدها وسرور قال: فسكنت والله الحمّى عنّى، حتى ما أحسّ بها، فقلت لرفيقى: انزل رحمك الله إلى راحلتك، فإنى متماسك؛ وجزاك الله عن حسن الصّحبة خيرا. *** ¬

_ (¬1) الخبر والأبيات فى حماسة ابن الشجرى 161 - 162 بروايته عن ابن قدامة عن المرتضى، وهو أيضا فى أمالى القالى 2: 267 بروايته عن ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه. (¬2) فى ابن الشجرى: «مغان آهلة». (¬3) المنقى: موضع بين أحد والمدينة. (¬4) المُئنّ: اللازم المقيم، وفى س: «المبر».

خبر الأصمعى مع أحد الطفيليين وما ورد فى ذلك من الشعر

[خبر الأصمعىّ مع أحد الطفيليين وما ورد فى ذلك من الشعر: ] أخبرنا المرزبانىّ قال حدثنا محمد بن العباس قال حدثنا محمد بن يزيد النحوىّ قال حدّثني بعض أصحابنا عن الأصمعىّ قال: كان (¬1) بالبصرة أعرابىّ من بنى تميم؛ يتطفّل على الناس، فعاتبته على ذلك فقال: والله ما بنيت المنازل إلّا لتدخل، ولا وضع الطعام إلّا ليؤكل؛ وما قدّمت هدية فأتوقّع رسولا؛ وما أكره أن أكون ثقلا ثقيلا على من أراه شحيحا بخيلا؛ أتقحم عليه مستأنسا، فأضحك إن رأيته عابسا، فآكل برغمه، وأدعه بغمّه؛ وما اخترق اللهوات طعام أطيب من طعام لا ينفق فيه درهم، ولا يعنّى إليه خادم، ثمّ أنشد: كلّ يوم أدور فى عرصة الح … ىّ أشمّ القتار شمّ الذّئاب (¬2) فإذا ما رأيت آثار عرس … أو ختان أو مجمع الأصحاب (¬3) لم أروّع دون التّقحّم لا أر … هب دفعا ولكزة البوّاب (¬4) مستهينا بما هجمت عليه … غير مستأذن، ولا هيّاب فترانى ألفّ بالرغم منهم … كلّ ما قدموه لفّ العقاب (¬5) ذاك أدنى من التّكلّف والغر … م وغيظ البقّال والقصّاب (¬6) ¬

_ (¬1) الخبر فى التطفيل للخطيب البغدادى 73 - 74 يرويه عن الحسن بن أبى القاسم عن أبى الفرج عن جعفر بن قدامة عن أبى هفان. (¬2) فى التطفيل: «عرصة الباب»، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «شم الذباب». (¬3) فى التطفيل: «أو دعوة لصحاب». (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «لم أورع»، ورواية الخطيب فى هذا البيت وتاليه: لم أعرّج دون التقحّم فيها … غير مستأذن ولا هيّاب مستخفّا بمن دخلت عليه … لست أخشى تجهّم البواب. (¬5) رواية البيت فى حاشيتى الأصل (من نسخة): فترانى ألفّ ما قدّم القو … م على رغمهم كلف العقاب. (¬6) زاد الخطيب بعد هذا البيت: قابل إن جرى عليّ امتهان … فى سبيل الحلواء والجوذاب

38

38 مجلس آخر [المجلس الثامن والثلاثون: ] تأويل آية [: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ ... ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ. قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ؛ [هود: 45، 46]. فقال: ظاهر قوله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ يقتضي تكذيب/ قوله: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي والنبىّ لا يجوز عليه الكذب، فما الوجه فى ذلك؟ وكيف يصحّ أن يخبر عن ابنه بأنه عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ؟ وما المراد به؟ الجواب، قلنا: فى هذه الآية وجوه: أولها أن نفيه لأن يكون من أهله لم يتناول نفى النّسب، وإنما نفى أن يكون من أهله الذين وعده الله بنجاتهم؛ لأنه عزّ وجل كان وعد نوحا عليه السلام بأن ينجّى أهله، ألا ترى إلى قوله: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ [هود: 40]، فاستثنى تعالى من أهله من أراد إهلاكه بالغرق! ويدل عليه أيضا قول نوح: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ، وعلى هذا الوجه يتطابق الأمران (¬1) ولا يتنافيان؛ وقد روى هذا التأويل بعينه عن ابن عباس وجماعة من المفسرين. والجواب الثانى، أن يكون المراد بقوله تعالى: لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أى أنه ليس على دينك؛ وأراد تعالى أنه كان كافرا مخالفا لأبيه؛ فكأنّ كفره أخرجه عن أن يكون له أحكام ¬

_ (¬1) حاشية ف (من نسخة): «الخبران».

أهله؛ ويشهد لهذا التأويل قوله عزّ وجل على طريق التعليل: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، فبيّن أنه إنما خرج عن أحكام أهله لكفره وسيّئ عمله، وقد روى هذا التأويل أيضا عن جماعة من المفسرين؛ وحكى عن ابن جريج أنه سئل عن ابن نوح فسبّح طويلا ثم قال لا إله إلا الله! يقول الله: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ؛ وتقول: ليس منه! ولكنه خالفه فى العمل فليس منه من لم يؤمن. وروى عن عكرمة أنه قال: كان ابنه ولكن كان مخالفا له فى النية والعمل؛ فمن ثمّ قيل: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ. والوجه الثالث أنه لم يكن ابنه على الحقيقة؛ وإنما ولد على فراشه، فقال عليه السلام: إنه ابنى على ظاهر الأمر؛ فأعلمه الله أن الأمر بخلاف الظاهر، ونبهه على خيانة امرأته؛ وليس فى ذلك تكذيب لخبره، لأنه إنما أخبر عن ظنه، وعمّا يقتضيه الحكم الشرعىّ، فأخبره الله تعالى بالغيب الّذي لا يعلمه غيره؛ وقد روى هذا الوجه عن الحسن وغيره. وروى قتادة عن الحسن قال: كنت عنده؛ فقال: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ لعمر الله ما هو ابنه، قال: فقلت: يا أبا سعيد؛ يقول الله: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وتقول: ليس بابنه! قال: أفرأيت قوله: لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ؟ قال: قلت معناه: / ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك، ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه، فقال: أهل الكتاب يكذبون؛ وروى عن مجاهد وابن جريج مثل ذلك. وهذا الوجه يبعد إذ فيه منافاة للقرآن؛ لأنه تعالى قال: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ، فأطلق عليه اسم البنوّة؛ ولأنه أيضا استثناه من جملة أهله بقوله تعالى: وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ؛ ولأنّ الأنبياء عليهم السلام يجب أن ينزّهوا عن مثل هذه الحال؛ لأنّها تعرّ وتشين وتغضّ من القدر؛ وقد جنّب الله تعالى أنبياءه عليهم السلام ما هو دون ذلك؛ تعظيما لهم وتوقيرا، ونفيا لكل ما ينفّر عن القبول منهم؛ وقد حمل ابن عباس ظهور ما ذكرناه من الدّلالة على أنّ تأوّل قوله تعالى فى امرأة نوح وامرأة لوط: فَخانَتاهُما على أن الخيانة

لم تكن منهما بالزّنا، بل كانت إحداهما تخبر الناس بأنه مجنون؛ والأخرى تدل على الأضياف؛ والمعتمد فى تأويل الآية هو الوجهان المتقدمان. فأما قوله تعالى: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فالقراءة المشهورة بالرفع، وقد روى عن جماعة من المتقدمين أنهم قرءوا: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ بنصب اللام وكسر الميم ونصب «غير»؛ ولكل وجه. فأما الوجه فى الرفع فيكون على تقدير أن ابنك ذو عمل غير صالح؛ وصاحب عمل غير صالح؛ فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه؛ وقد استشهد على ذلك بقول الخنساء: ما أمّ سقب على بوّ تطيف به … قد ساعدتها على التّحنان أظآر (¬1) ترتع ما رتعت حتى إذا ذكرت … فإنما هى إقبال وإدبار (¬2) أرادت إنما هى ذات إقبال وإدبار. وقال قوم: إن المعنى أصل ابنك هذا الّذي ولد على فراشك وليس بابنك فى الحقيقة [عمل غير صالح، يعنى الخيانة من امرأته، وهذا جواب من ذهب إلى أنه لم يكن ابنه على الحقيقة] (¬3) والّذي اخترناه خلاف ذلك. وقال آخرون إن الهاء فى قوله: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ راجعة إلى السؤال؛ والمعنى: ¬

_ (¬1) ديوانها: 78؛ وروايته: فما عجول على برّ تطيف به … لها حنينان: إصغار وإكبار والسقب: الذكر من ولد الناقة. والبو: أن ينحر ولد الناقة ويؤخذ جلده فيحشى ويدنى من أمه فتر أمه والتحنان: الحنين. والأظئار: جمع ظئر؛ وهى التى تعطف على ولد غيرها. (¬2) بعدهما: لا تسمن الدّهر فى أرض وإن ربعت … فإنما هى تحنان وتسجار يوما بأوجد منّى يوم فارقنى … صخر، وللدّهر إحلاء وإمرار. (¬3) ساقط من م.

إن سؤالك إياى ما ليس لك به علم عمل غير صالح لأنه قد وقع من نوح دليل (¬1) السؤال والرغبة فى قوله: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ/ ومعنى ذلك أى نجّه كما نجيتهم، ومن يجيب بهذا الجواب يقول: إن ذلك صغيرة من النبي؛ لأن الصغائر تجوز عليهم، ومن يمنع أن يقع (¬2) من الأنبياء شيء من القبائح يدفع هذا الجواب؛ ولا يجعل الهاء راجعة إلى السؤال بل إلى الابن، ويكون تقدير الكلام ما تقدم. فإذا قيل له: فلم قال: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ؟ وكيف قال نوح عليه السلام من بعد: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ ؟ . قال: لا يمتنع أن يكون نهى عن سؤال ما ليس له به علم؛ وإن لم يقع منه وأن يكون تعوّد من ذلك وإن لم يوافقه؛ ألا ترى أن الله قد نهى نبيه عن الشّرك والكفر؛ وإن لم يكن ذلك قد وقع منه؛ فقال: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ؛ [الزمر: 56]، وكذلك لا يمتنع أن يكون نهاه فى هذا الموضع عمّا لم يقع منه، ويكون عليه السلام إنما سأله نجاة ابنه باشتراط المصلحة لا على سبيل القطع؛ وهكذا يجب فى مثل هذا الدعاء. فأما القراءة بنصب اللام فقد ضعّفها قوم وقالوا: كان يجب أن يقال: إنه عمل عملا غير صالح؛ لأن العرب لا تكاد تقول هو يعمل غير حسن، حتى يقولوا: عملا غير حسن، وليس وجهها بضعيف فى العربية؛ لأنّ من مذهبهم الظاهر إقامة الصفة مقام الموصوف عند انكشاف المعنى وزوال اللبس؛ فيقول القائل: قد فعلت صوابا، وقلت حسنا، بمعنى فعلت فعلا صوابا وقلت قولا حسنا؛ وقال عمر بن أبى ربيعة المخزومىّ: أيّها القائل غير الصواب … أخّر النّصح وأقلل عتابى (¬3) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «دليل فى السؤال»، وحاشية ف من نسخة: «دليل على السؤال». (¬2) ف: «على الأنبياء». (¬3) ديوانه: 425.

من أفاكيه الأصمعى

وقال أيضا: وكم من قتيل ما يباء به دم … ومن غلق رهن إذا لفّه منى (¬1) ومن مالئ عينيه من شيء غيره … إذا راح نحو الجمرة البيض كالدّمى (¬2) أراد: وكم إنسان قتيل! وأنشد أبو عبيدة لرجل من بجيلة: كم من ضعيف العقل منتكث القوى … ما إن له نقض ولا إبرام / مالت له الدّنيا عليه بأسرها … فعليه من رزق الإله ركام ومشيّع جلد أمين حازم … مرس له فيما يروم مرام أعمى عليه سبيله (¬3) فكأنّه … فيما يحاوله عليه حرام أراد: كم من إنسان ضعيف القوى. *** [من أفاكيه الأصمعىّ: ] أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال أخبرنى محمد بن العباس اليزيدىّ قال حدثنا ميمون بن هارون قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ قال: كان محمد بن منصور بن زياد الملقّب بفتى العسكر يميل إلى الأصمعىّ ويفضّله، ويقوم بأمره قال: فجئته يوما بعد موت محمد، وعنده عبد كان لمحمد أسود، وقد ترك الناس، وأقبل عليه وساءله وتحفّى به وحادثه، فلما خرج لمته على ذلك وقلت: من هذا حتى أفنيت عمر يومك به؟ فقال: هذا غلام ابن منصور، ثم أنشدنى: وقالوا يا جميل أتى أخوها … فقلت: أتى الحبيب أخو الحبيب (¬4) ¬

_ (¬1) ديوانه: 451 لا يباء به دم، أى ليس من يكافئه فيقتل به. وغلق الرهن إذا صار لا سبيل إلى فكاكه، وفى حاشية ف (من نسخة): «ومن غلق رهنا إذا ضمه». (¬2) حاشية ف (من نسخة): * إذا راح نحو الحيرة البيض كالدّمى*. (¬3) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «سبيله» بضم اللام. (¬4) حاشية ف: «صفة الحبيب»، أى الّذي هو أخو الحبيب.

تأويل الأصمعى لبيت من شعر امرئ القيس

أحبّك والقريب بنا بعيد … لأن ناسبت بثنة من قريب فقلت له- وكنت أفعل هذا كثيرا به لأستجرّ كلامه وعلمه-: يا أبا سعيد، ذاك أخوها، وهذا غلامها (¬1) فضحك، وقال: أنشد أبو عمرو- أو قال غيره: أرى كلّ أرض (¬2) أوطنتها وإن خلت … لها حجج تندى بمسك ترابها وأقسم لو أنّى أرى تبعا لها (¬3) … ذئاب الغضى حبّت إلى ذئابها قال: فجعلت أعجب من قرب لسانه من قلبه وإجادة حفظه له متى أراده. *** [تأويل الأصمعىّ لبيت من شعر امرئ القيس: ] وبهذا الإسناد عن إسحاق الموصلىّ قال قرأت على الأصمعىّ شعر امرئ القيس، فلما بلغت إلى هذا البيت: أمن أجل أعرابية حلّ أهلها … بروض الشّرى عيناك تبتدران! (¬4) فقال لى أتعرف فى هذا البيت خبئا باطنا غير ظاهر؟ قلت: لا، فسكت عنّى، فقلت: إن كان فيه شيء فأفدنيه، فقال: نعم، أما يدلّك البيت على أنه لفظ ملك مستهين ذى قدرة على ما يريد؟ / قال إسحاق: وما رأيت قطّ مثل الأصمعىّ بالعلم بالشعر. ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشية الأصل: «غلامة». (¬2) ف: «كل دار». (¬3) حاشية الأصل من نسخة: «حلفت لو أنى»، ومن نسخة أخرى: «حلفت إلهى»، ومن نسخة أخرى: * حلفت بأنى لو أرى تبعا لها*. (¬4) ديوانه: 124؛ وروايته: أمن ذكر نبهانيّة حلّ أهلها … بجزع الملا عيناك تبتدران! قال شارحه: «نبهانية: امرأة من نبهان، ونبهان من طيئ، وكان امرؤ القيس نازلا فيهم ثم ارتحل عنهم، والجزع: منعطف الوادى، والملا: ما استوى من الأرض؛ ومعنى تبتدران تستبقان بالدمع؛ أى أنه لما أبدع به الشوق وغلبه البكاء لام نفسه على ذلك. وفى حاشية الأصل: «قبله: فدمعهما سحّ وسكب وديمة … ورشّ وتوكاف وتنهملان.

نقد الأصمعى لرواية ابن الأعرابى أبياتا رواها ولد سعيد بن سلم

وروى عن إسحاق أيضا أنه قال: قال لى الأصمعىّ: ما يعنى امرؤ القيس بقوله: فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع … فألهيتها عن ذى تمائم محول (¬1) فقلت: تخبرنى، فقال: كان مفرّكا (¬2) فيقول: ألهيت هؤلاء عن كراهتهنّ للرجال، فكيف أنا عند المحبات لهم. *** [نقد الأصمعىّ لرواية ابن الأعرابىّ أبياتا روّاها ولد سعيد بن سلم: ] وروى أنّ السبب الّذي هاج التنافر بين الأصمعىّ وابن الأعرابىّ أنّ الأصمعىّ دخل ذات يوم على سعيد بن سلم وابن الأعرابىّ حينئذ يؤدب ولده- فقال لبعضهم: أنشد أبا سعيد، فأنشد الغلام أبياتا لرجل من بنى كلاب، روّاه إياها ابن الأعرابىّ، وهى: رأت نضو أسفار أميمة قاعدا … على نضو أسفار فجنّ جنونها (¬3) فقالت: من اىّ الناس أنت ومن تكن؟ … فإنّك راعى صرمة لا يزينها (¬4) فقلت لها: ليس الشّحوب على الفتى … بعار، ولا خير الرّجال سمينها عليك براعى ثلّة مسلحبّة … يروح عليها محضها وحقينها (¬5) ¬

_ (¬1) ديوانه: 24. وفى حاشية الأصل. «روى أن النبي صلى الله عليه وآله استنشد هذه القصيدة، فلما سمع البيت الّذي قبله هذا قال: لا تنشد البيت الّذي بعده، وهذا دليل على أنه عليه السلام كان يعرف الشعر. ولما سمع قوله: * قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل* قال: وقف واستوقف، وبكى وأبكى، وذكر الحبيب والمنزل فى نصف بيت؛ فقالوا: يا رسول الله؛ فديناك! أنت فى هذا النقد أشعر منه». (¬2) المفرك: الّذي تبغضه النساء. (¬3) الخبر بتمامه فى اللسان (ضحا)، والمزهر 2: 379، والمجالس المذكورة للعلماء 9، وإنباه الرواة 3: 133 - 134؛ والأبيات وردت متفرقة فى اللسان (ضحا، جنن، حقن، نعم). النضو: الدابة التى أهزلتها الأسفار وأذهبت لحمها. وفى اللسان: «أميمة شاحبا». (¬4) الصرمة: القطعة من الإبل؛ ما بين العشرين إلى الثلاثين. ورواية اللسان: * فإنّك مولى أسرة لا يدينها*. (¬5) الثلة، بالفتح: جماعة الغنم. والمسلحبّة: الممتدة؛ وأصله فى الطريق. والمحض: اللبن الخالص، والحقين: اللبن الحبيس فى الوطب؛ وقد ورد البيت فى اللسان (حقن) ونسبه للمخبل، والرواية فيه: وفى إبل ستّين حسب ظعينة … يروح عليها محضها وحقينها وفى حاشية الأصل: «أى لست بالراعى فاطلبى غيرى لو كنت تطلبين راعيا».

حديث الأصمعى عن بشار بن برد

سمين الضّواحى لم تؤرّقه ليلة … وأنعم أبكار الهموم وعونها ورفع «ليلة» فقال الأصمعىّ: من روّاك هذا؟ فقال مؤدبى؛ فأحضره فاستنشده فأنشده، ورفع «ليلة»، فأخذ ذلك عليه؛ وفسر البيت فقال: إنما أراد: لم تؤرّقه ليلة أبكار الهموم وعونها، وأنعم، أى زاد على هذه الصفة. وقوله: «سمين الضواحى» أى ما ظهر منه وبدا سمين، ثم قال الأصمعى لابن سلم: من لم يحسن هذا المقدار فليس موضعا لتأديب ولد الملوك. *** [حديث الأصمعىّ عن بشار بن برد: ] وأخبرنا المرزبانىّ قال: حدثنا أحمد بن المكىّ قال حدثنا أبو العيناء قال حدثنا الأصمعىّ قال: ولد بشّار بن برد أكمه لم ينظر إلى الدنيا قطّ- وكان ذا فطنة- فقلت له يوما: من أين لك هذا الذكاء؟ قال: من قدم العمى؛ وعدم النواظر يمنع من كثير من الخواطر المذهلة فيكسب فراغ الذهن؛ وصحة الذكاء، وأنشد لنفسه يفخر بالعمى: / عميت جنينا والذكاء من العمى … فجئت عجيب الظّنّ للعلم موئلا (¬1) وغاض ضياء العين للعقل رافدا … بقلب إذا ما ضيّع الناس حصّلا وشعر كنور الرّوض لا أمت بينه … بقول إذا ما أحزن الشّعر أسهلا *** [نقد بشار لشعر سمعه: ] وأخبرنا المرزبانىّ قال أخبرنا محمد بن العباس اليزيدىّ قال حدثنا أبو العيناء قال حدثنا الأصمعىّ قال: أنشد رجل وأنا حاضر بشارا قول الشاعر: وقد جعل الأعداء ينتقصوننا … وتطمع فينا ألسن وعيون (¬2) ألا إنما ليلى عصا خيزرانة … إذا غمزوها بالأكفّ تلين فقال بشار: والله لو جعلها عصا مخ أو زبد لما كان إلّا مخطئا مع ذكر العصا! ألا قال كما قلت: ¬

_ (¬1) الأغانى 3: 23. (¬2) الخبر والأبيات فى أمالى الزجاجى: 136.

أبيات لبشار يمدح فيها سليمان بن هشام بن عبد الملك

وحوراء المدامع من معدّ … كأنّ حديثها قطع الجنان إذا قامت لسبحتها تثنّت … كأنّ قوامها من خيزران ينسّيك المنى نظر إليها … ويصرف وجهها وجه الزمان *** [أبيات لبشار يمدح فيها سليمان بن هشام بن عبد الملك: ] وأخبرنا المرزبانىّ قال حدثنا عليّ بن أبى عبد الله الفارسىّ قال حدثنى أبى عن عمر بن شبة قال قال لى أبو عبيدة: رحل بشار إلى الشام، فمدح سليمان بن هشام بن عبد الملك، وكان مقيما بحرّان، ؛ فقال قصيدة طويلة أوّلها: نأتك على طول التّجاور زينب … وما علمت أنّ النّوى سوف يشعب (¬1) وكان سليمان بخيلا فأعطاه خمسة آلاف درهم، ولم يصب غيرها بعد أن طال مقامه، فقال: إن أمس منشنج اليدين عن النّدى … وعن العدوّ محبّس الشّيطان (¬2) فلقد أروح على اللّئام مسلّطا … ثلج المقيل (¬3) منعّم النّدمان فى ظلّ عيش عشيرة محمودة … تندى يدى، ويخاف فرط لسانى أزمان سربال الشّباب مذيّل … وإذ الأمير عليّ من جيرانى / رئم بأحوية العراق إذا بدا … برقت عليه أكلة المرجان (¬4) فاكحل بعبدة مقلتيك من القذى … وبوشك رؤيتها من الهملان فلقرب من تهوى وأنت متيّم … أشفى لدائك من بنى مروان فلما رجع إلى العراق برّه ابن هبيرة ووصله، وكان ابن هبيرة يقدّمه ويؤثره لمدحه قيسا وافتخاره بها، فلما جاءت دولة خراسان عظم شأنه. ¬

_ (¬1) الأغانى 3: 56؛ ويشعب: يفرق، وبعده: يرى الناس ما تلقى بزينب إذ نأت … عجيبا، وما تخفى بزينب أعجب. (¬2) الخبر والشعر فى الأغانى 3: 56. ومن نسخة بحاشية الأصل: «مخيس الشيطان». (¬3) م: «ثلج المقام». (¬4) أحوية جمع حواء؛ والحواء: جماعة البيوت المتدانية. والأكلة: جمع إكليل؛ وهو التاج؛ أو شبه عصابة تزين بالجواهر.

أبيات مختلفة فى وصف الثغر واللون والعيون والنجيب والظليم والاعتذار، رواها الأصمعى

[أبيات مختلفة فى وصف الثغر واللون والعيون والنجيب والظليم والاعتذار، رواها الأصمعىّ: ] وأخبرنى المرزبانىّ قال حدثنا محمد بن أحمد الكاتب قال حدثنا أحمد بن يحيى النحوىّ قال قال الأصمعى: ما وصف أحد الثّغر إلّا احتاج إلى قول بشر بن أبى خازم: يفلّجن الشّفاه عن اقحوان … جلاه غبّ سارية قطار ولا وصف أحد اللون بأحسن من قول عمر بن أبى ربيعة: وهى مكنونة تحيّر منها … فى أديم الخدّين ماء الشّباب (¬1) شفّ منها محقّق جندىّ … فهى كالشّمس من خلال السّحاب (¬2) ولا وصف أحد عينى امرأة إلا احتاج إلى قول عدى بن الرّقاع: لولا الحياء وأنّ رأسى قد بدا … فيه المشيب لزرت أمّ القاسم (¬3) وكأنّها وسط النّساء أعارها … عينيه أحور من جآذر جاسم (¬4) وسنان أفصده النّعاس فرتّقت … فى عينه سنة وليس بنائم (¬5) ولا وصف أحد نجيبا إلا احتاج إلى قول حميد بن ثور: محلّى بأطواق عتاق يبينها … على الضّرّ راعى الضّأن لو يتقوّف (¬6) ولا وصف أحد ظليما إلا احتاج إلى قول علقمة بن عبدة: ¬

_ (¬1) ديوانه: 423. (¬2) ثوب محقق محكم النسج، وجند: بلد باليمن. (¬3) الشعر والشعراء 602، واللآلئ 521، وفى حاشية الأصل (من نسخة): «قد فشا»، ومن نسخة أخرى: «قد غشا». (¬4) الجئاذر: جمع جؤذر، بضم الذل وفتحها، وهو ولد البقرة الوحشى. جاسم قرية بينها وبين دمشق ثمانية فراسخ. (¬5) أقصده: صرعه. رنقت: خالطت، والبيت أيضا فى اللسان (رنق). (¬6) ديوانه 111؛ وفى حاشيتى الأصل، ف: «يصف بعيرا ومحلى؛ أى عليه نجار العتق، وإذا رآه صاحب الضأن الّذي لا بصيرة له عرف عتقه ونجابته على ما مسه من الضر. لم يتقوف، من القيافة، ويروى: «لو يتعيف». شبه ما يبين من عتقه بأطوق تظهر لمن رآها ويروى: «يبينه» أى البعير، وقبل هذا البيت: فطرت إلى عارى العظام كأنّه … شقا ابن ثلاث ظهره متحرّف طوته الفلا حتى كأنّ عظامه … مآسير عيدان تموج وترجف فثار وما يمسى فويق عظامه … برمّ ولكن عارف متكلّف -

هيق كأنّ جناحيه وجؤجؤه … بيت أطافت به خرقاء مهجوم (¬1) ولا اعتذر أحد إلا احتاج إلى قول النابغة: / فإنّك كاللّيل الّذي هو مدركى … وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع (¬2) قال سيدنا أدام الله علوّه: أما قول حميد بن ثور: «محلّى بأطواق عتاق» فإنه يريد أن عليه نجار الكرم والعتق، فصارت دلالتهما وسماتهما حلية له من حيث كان موسوما بهما. ومعنى: «يبينها على الضراء» يتبينها ويعرفها هذا الراعى فيعلم أنه كريم، والتقوّف: من القيافة. فأما قول علقمة «هيق ... » فالهيق: ذكر النعام. ومعنى: «أطافت به خرقاء»، أى عملته وابتنته، وقيل: إن خرقاء هاهنا هى الحاذقة، وأن هذه اللفظة تستعمل على طريق الأضداد فى الحاذقة وغير الحاذقة، ومعنى «مهجوم»: أى مهدوم، وقال الأصمعىّ: معنى «أطافت به»، أى عملته فخرقت فى عمله، يقول: قد أرسل جناحيه كأنه خباء امرأة خرقاء، كلما رفعت ناحية استرخت أخرى؛ والوجه الثانى أشبه وأملح. فأما قول بشر فى وصف الثغر فأحسن منه وأكشف وأشد استيفاء قول النابغة: ¬

_ - قوله: «عارى العظام» أى بعير مهزول، وشقا ابن ثلاث أى هلال ابن ثلاث. وماء أسير عيدان ويروى «ماء آسر عيدان»، أى عيدان مأسورة مشدودة. والرم. المخ، يريد أنه ليس يمسى برم، أى ليس فى عظامه مخ؛ ولكنه عارف؛ أى معترف بالسير، ذليل متكلف يتكلف السير على جهد». (¬1) حاشية الأصل: «هيق، أى ظليم، وهو اسم له، والجؤجؤ: الصدر؛ وأراد بالبيت بيتان الشعر أو الوبر. الخرقاء: المرأة التى ليست بصناع. ومهجوم: مصروع ساقط، يقول: أتت البيت هذه الخرقاء لتصلحه فلم تحسن، واستخرجت عيدانه وأطنابه، فشبه الظليم به، لاسترخاء جناحيه ونشره إياهما. وقال المازنى: إذا بنت الخرقاء بيتا انهدم سريعا. وقال غيره: خرقاء هنا: ريح لا تدوم على جهة واحدة» والبيت فى ديوانه 130، والمفضليات: 400، (طبعة المعارف) وروايته فيهما: . (¬2) ديوانه: * صعل كأنّ جناحيه وجؤجؤه*.

كالأقحوان غداة غبّ سمائه … جفّت أعاليه وأسفله ند (¬1) فإنما وصف أعاليه بالجفوف؛ ليكون متفرقا متنضّدا غير متلبّد ولا مجتمع؛ فيشبه حينئذ الثغور، ثم قال: «وأسفله ند» حتى لا يكون قحلا يابسا، بل يكون فيه الغضاضة والصّقالة، فيشبه غروب الأسنان التى تلمع وتبرق. وروى الرياشىّ قال: سمعت الأصمعىّ يقول: أحسن ما قيل فى وصف الثّغر قول ذى الرّمة: وتجلو بفرع من أراك كأنّه … من العنبر الهندىّ والمسك يصبح (¬2) ذرا أقحوان واجه الليل وارتقى … إليه النّدى من رامة المتروّح (¬3) هجان الثّنايا مغربا لو تبسّمت … لأخرس عنه كاد بالقول يفصح (¬4) ¬

_ (¬1) ديوانه: 31. الأقحوان: نبت له نوار أصفر، حواليه ورق أبيض وفى حاشيتى الأصل، ف: «ضمن اللجام الحرانى هذا البيت فى هجو فجعله آبدة من الأوابد فقال: يا سائلى عن جعفر، علمى به … رطب العجان وكفّه كالجلمد كالأقحوان غداة غب سمائه … جفّت أعاليه وأسفله ند والبيتان فى خاص الخاص: 144. (¬2) ديوانه: 83. يصبح: يسقى وقت الصباح. (¬3) فى الديوان: «راحة الليل»، بالرفع. رامة: رملة بعينها. المتروح: الّذي جاء رواحا. وبعد هذا البيت فى رواية الديوان: تحفّ بترب الرّوض من كلّ جانب … نسيم كفأر المسك حين يفتّح. (¬4) المغرب: الأبيض من كل شيء.

39

39 مجلس آخر [المجلس التاسع والثلاثون: ] تأويل آية [: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ... ] إن سأل سائل عن تأويل قوله تعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ/ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ؛ [التوبة: 55]. فقال: كيف يعذبهم بالأموال والأولاد، ومعلوم أن لهم فيها مسرورا ولذة؟ وما تأويل قوله تعالى: وَهُمْ كافِرُونَ وظاهره يقتضي أنه أراد كفرهم من حيث أراد أن تزهق أنفسهم فى حال كفرهم، لأن القائل إذا قال: أريد أن يلقانى فلان وهو لابس أو على صفة كذا وكذا، فالظاهر أنه أراد كونه على تلك الصفة؟ الجواب، قلنا: أما التعذيب بالأموال والأولاد ففيه وجوه: أولها ما روى عن ابن عباس وقتادة، وهو أن يكون فى الكلام تقديم وتأخير، ويكون التقدير: فلا تعجبك يا محمد ولا تعجب المؤمنين معك أموال هؤلاء الكفار والمنافقين ولا أولادهم فى الحياة الدنيا؛ إنما يريد الله ليعذبهم بها فى الآخرة عقوبة لهم على منعهم حقوقها؛ واستشهد على ذلك بقوله تعالى: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ؛ [النمل: 28]، والمعنى: فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم؛ وأنشد فى ذلك قول الشاعر: عشيّة أبدت جيد أدماء مغزل … وطرفا يريك الإثمد الجون أحورا (¬1) يريد: وطرفا أحور يريك الإثمد الجون؛ وقد اعتمد هذا الوجه أيضا أبو عليّ قطرب، وذكره أبو القاسم البلخىّ والزّجاج. ¬

_ (¬1) مغزل: معها غزالها.

وثانيها أن يكون معنى التعذيب بالأموال والأولاد فى الدّنيا هو ما جعله للمؤمنين من قتالهم وغنيمة أموالهم وسبى أولادهم واسترقاقهم؛ وفى ذلك لا محالة إيلام لهم، واستخفاف بهم، وإنما أراد تعالى بذلك إعلام نبيه عليه السلام والمؤمنين أنه لم يرزق الكفار الأموال والأولاد؛ ولم يبقها فى أيديهم كرامة لهم، ورضا عنهم؛ بل للمصلحة الداعية إلى ذلك، وأنهم مع هذه الحالة معذبون بهذه النعم من الوجه الّذي ذكرناه، فلا يجب أن يغبطوا، ويحسدوا عليها؛ إذ كانت هذه عاجلتهم، والعقاب الأليم فى النار آجلتهم؛ وهذا جواب أبى عليّ الجبائىّ. وقد طعن عليه بعض من لا تأمّل له فقال: كيف يصح هذا التأويل، مع أنا نجد كثيرا من الكفّار لا تنالهم أيدى/ المسلمين، ولا يقدرون على غنيمة أموالهم، ونجد أهل الكتاب أيضا خارجين عن هذه الجملة لمكان الذّمة والعهد؟ وليس هذا الاعتراض بشيء، لأنه لا يمتنع أن تختص الآية بالكفار الذين لا ذمة لهم ولا عهد؛ ممن أوجب الله تعالى محاربته؛ فأما الذين لا تنالهم الأيدى، أو هم من القوة على حدّ لا يتم معه غنيمة أموالهم؛ فلا يقدح الاعتراض بهم فى هذا الجواب لأنهم ممن أراد الله تعالى أن يسبى ويغنم، ويجاهد ويغلب؛ وإن لم يقع ذلك؛ وليس فى ارتفاعه بالتعذّر دلالة على أنه غير مراد. وثالثها أن يكون المراد بتعذيبهم بذلك كلّ ما يدخله فى الدنيا عليهم من الغموم والمصائب بأموالهم وأولادهم التى لهؤلاء الكفار المنافقين عقاب وجزاء، وللمؤمنين محنة وجالبة للعوض وللنفع. ويجوز أيضا أن يراد به ما ينذر به الكافر قبل موته، وعند احتضاره، وانقطاع التكليف عنه مع أنه حىّ، من العذاب الدائم الّذي قد أعدّ له، وإعلامه أنه صائر إليه، ومنتقل إلى قراره؛ وهذا الجواب قد روى معنى أكثره عن قوم من متقدمى المفسرين (¬1)، وذكره أبو عليّ الجبائىّ أيضا. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «نسخة الشجرى: أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى».

ورابعها [جواب] (¬1) يحكى عن الحسن البصرىّ، واختاره الطبرىّ وقدّمه على غيره، وهو أن يكون المراد بذلك ما ألزمه هؤلاء الكفار من الفرائض والحقوق فى أموالهم؛ لأن ذلك يؤخذ منهم على كره، وهم إذا أنفقوا فيه أنفقوا بغير نيّة ولا عزيمة؛ فتصير نفقتهم غرامة وعذابا من حيث لا يستحقون عليها أجرا. [قال السيد قدس الله روحه: وهذا وجه غير صحيح؛ لأن الوجه فى تكليف الكافر إخراج الحقوق من ماله كالوجه فى تكليف المؤمن ذلك؛ ومحال أن يكون إنما كلّف إخراج هذه الحقوق على سبيل العقاب والجزاء؛ لأن ذلك لا يقتضي وجوبه عليه] (¬2)؛ والوجه فى تكليف الجميع هذه الأمور هو المصلحة واللطف فى التكليف. ولا يجرى ذلك مجرى ما قلناه فى الجواب الّذي قبل هذا؛ من أن المصائب والغموم قد تكون للمؤمنين محنة، وللكافرين عقوبة؛ لأن تلك الأمور مما يجوز أن يكون وجه حسنها العقوبة والمحنة جميعا؛ ولا يجوز فى هذه الفرائض أن يكون لوجوبها على المكلّف إلا وجه واحد، وهو المصلحة فى الدّين، فافترق الأمران. وليس لهم أن يقولوا: / ليس التعذيب فى إيجاب الفرائض عليهم؛ [وإنما هو لإخراجهم أموالهم على وجه التكرّه والاستثقال] (¬3)؛ وذلك أنه إذا كان الأمر على ما ذكروه خرج من أن يكون مرادا لله تعالى؛ لأنه جلّ وعز ما أراد منهم إخراج المال على هذا الوجه، بل على الوجه الّذي هو طاعة وقربة؛ فإذا أخرجوها متكرّهين مستثقلين لم يرد ذلك؛ فكيف يقول: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها! ويجب أن يكون ما يعذبون به شيئا يصحّ أن يريده الله تعالى. وجميع هذه الوجوه التى حكيناها فى الآية- إلا جواب التقديم والتأخير- مبنيّة على أنّ ¬

الحياة الدنيا ظرف للعذاب؛ فتحمّل (¬1) كل متأوّل من القوم ضربا من التأويل؛ طابق (¬2) ذلك. وما يحتاج عندنا إلى جميع ما تكلّفوه، ولا إلى التقديم والتأخير إذا لم تجعل (¬3) الحياة ظرفا للعقاب، بل جعلناها ظرفا للفعل الواقع بالأموال والأولاد؛ والمتعلّق بهما؛ لأنا قد علمنا أولا أنّ قوله: لِيُعَذِّبَهُمْ بِها لا بد من الانصراف عن ظاهره؛ لأن الأموال والأولاد أنفسها لا تكون عذابا؛ والمراد على سائر وجوه التأويل الفعل المتعلّق بها والمضاف إليها؛ سواء كان إنفاقها والمصيبة بها والغمّ عليها، أو إباحة غنيمتها وإخراجها عن أيدى مالكيها؛ فكأنّ تقدير (¬4) الآية: إنما يريد الله ليعذّبهم بكذا وكذا؛ مما يتعلق بأموالهم وأولادهم، ويتّصل بها؛ وإذا صحّ هذا جاز أن تكون الحياة الدنيا ظرفا لأفعالهم القبيحة فى أموالهم وأولادهم التى تغضب الله تعالى وتسخطه؛ كإنفاقهم الأموال فى وجوه المعاصى، وحملهم الأولاد على الكفر، وإلزامهم الموافقة لهم فى النّحلة، ويكون تقدير الكلام: إنما يريد الله ليعذّبهم بفعلهم فى أموالهم وأولادهم؛ الواقع ذلك منهم فى الحياة الدنيا؛ وهذا وجه ظاهر يغنى عن التقديم والتأخير؛ وسائر ما ذكروه من الوجوه. فأما قوله تعالى: وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ فمعناه تبطل وتخرج؛ أى أنّهم يموتون على الكفر؛ وليس يجب إذا كان مريدا لأن تزهق أنفسهم وهم على هذه الحال أن يكون مريدا للحال نفسها على ما ظنّوه؛ لأنّ الواحد منّا قد يأمر/ غيره ويريد منه أن يقاتل أهل البغى وهم محاربون، ولا يقاتلهم وهم منهزمون، ولا يكون مريدا لحرب أهل البغى للمؤمنين؛ وإن أراد قتالهم على هذه الحالة، وكذلك قد يقول لغلامه: أريد أن تواظب على المصير إلى فى السّجن وأنا محبوس، وللطبيب: صر إلى ولازمنى وأنا مريض، وهو لا يريد المرض ولا ¬

رأى الشريف المرتضى فى شعر مروان بن أبى حفصة ومختارات من محاسن شعره

الحبس؛ وإن كان قد أراد ما هو متعلق بهاتين الحالتين. وقد ذكر فى ذلك وجه آخر على ألّا يكون قوله: وَهُمْ كافِرُونَ حالا لزهوق أنفسهم؛ بل يكون كأنه كلام مستأنف، والتقدير فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم؛ إنما يريد الله ليعذّبهم بها فى الحياة الدنيا؛ وتزهق أنفسهم وهم مع ذلك كافرون صائرون إلى النار؛ وتكون الفائدة أنهم مع عذاب الدنيا قد اجتمع عليهم عذاب الآخرة؛ ويكون معنى تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ على هذا الجواب غير الموت وخروج النفس على الحقيقة، بل المشقة الشديدة والكلف (¬1) الصّعبة، كما يقال: ضربت فلانا حتى مات وتلفت نفسه، وخرجت روحه، وما أشبه ذلك. *** [رأى الشريف المرتضى فى شعر مروان بن أبى حفصة ومختارات من محاسن شعره: ] قال سيدنا أدام الله تمكينه: ذاكرنى قوم من أهل الأدب بأشعار المحدثين وطبقاتهم وانتهوا إلى مروان بن يحيى بن أبى حفصة (¬2)؛ فأفرط بعضهم فى وصفه وتقريظه، وآخرون فى ذمه وتهجينه والإزراء على شعره وطريقته؛ واستخبروا عما أعتقده فيه، فقلت لهم: كان مروان متساوى الكلام، متشابه الألفاظ، غير متصرّف فى المعانى ولا غواص عليها ولا مدقّق لها؛ فلذلك قلّت النّظائر فى شعره، ومدائحه مكرّرة الألفاظ والمعانى، وهو غزير الشعر قليل المعنى؛ إلا أنه مع ذلك شاعر له تجويد وحذق، وهو أشعر من كثير من أهل زمانه وطبقته، وأشعر شعراء أهله؛ ويجب أن يكون دون مسلم بن الوليد فى تنقيح الألفاظ وتدقيق المعانى، وحسن الألفاظ، ووقوع التشبيهات، ودون بشّار بن برد فى الأبيات النادرة السائرة، فكأنه طبقة بينهما؛ وليس بمقصّر دونهما شديدا، ولا منحط عنهما بعيدا. وكان إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ يقدّمه على بشار ومسلم، وكذلك أبو عمرو الشيبانىّ ¬

_ (¬1) ف: «والكلفة». (¬2) هو أبو السمط- وقيل أبو الهندام مروان بن أبى حفصة؛ ولد سنة 105، وهلك فى أيام الرشيد سنة 182. (وانظر ترجمته وأشعاره فى الشعر والشعراء. 739 - 741، وابن خلكان 2: 79 - 81).

وكان الأصمعى يقول: مروان/ مولّد (¬1)، وليس له علم باللغة. واختلاف الناس فى اختيار الشعر بحسب اختلافهم فى التنبيه على معانيه؛ وبحسب ما يشترطونه من مذاهبه وطرائقه. فسئلت عند ذلك أن أذكر مختار ما وقع إلى من شعره وأنبه على سرقاته ونظائر شعره، وأن أملى ذلك فى خلال المجالس وأثنائها. فمما يختار من شعره قوله من قصيدة يمدح بها المهدىّ أولها: أعادك من ذكر الأحبّة عائد! … أجل، واستخفّتك الرسوم البوائد يقول فيها: تذكّرت من تهوى فأبكاك ذكره … فلا الذّكر منسىّ ولا الدّمع جامد تحنّ ويأبى أن يساعدك الهوى … وللموت خير من هوى لا يساعد ألا طالما أنهيت دمعك طائعا … وجارت عليك الآنسات النّواهد تذكّرنا أبصارها مقل المها … واعناقها أدم الظّباء العواقد (¬2) تساقط منهنّ الأحاديث غضّة … تساقط درّ أسلمته المعاقد إليك أمير المؤمنين تجاذبت … بنا اللّيل خوص كالقسىّ شوارد يمانية ينأى القريب محلّة … بهنّ، ويدنو الشاحط المتباعد النّظائر فى شعره، ومدائحه مكرّرة الألفاظ والمعانى، وهو غزير الشعر قليل المعنى؛ إلا أنه مع ذلك شاعر له تجويد وحذق، وهو أشعر من كثير من أهل زمانه وطبقته، وأشعر شعراء أهله؛ ويجب أن يكون دون مسلم بن الوليد فى تنقيح الألفاظ وتدقيق المعانى، وحسن الألفاظ، ووقوع التشبيهات، ودون بشّار بن برد فى الأبيات النادرة السائرة، فكأنه طبقة بينهما؛ وليس بمقصّر دونهما شديدا، ولا منحط عنهما بعيدا. وكان إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ يقدّمه على بشار ومسلم، وكذلك أبو عمرو الشيبانىّ ¬

_ (¬1) ف: «والكلفة». (¬2) هو أبو السمط- وقيل أبو الهندام مروان بن أبى حفصة؛ ولد سنة 105، وهلك فى أيام الرشيد سنة 182. (وانظر ترجمته وأشعاره فى الشعر والشعراء. 739 - 741، وابن خلكان 2: 79 - 81).

وكان الأصمعى يقول: مروان/ مولّد (¬1)، وليس له علم باللغة. واختلاف الناس فى اختيار الشعر بحسب اختلافهم فى التنبيه على معانيه؛ وبحسب ما يشترطونه من مذاهبه وطرائقه. فسئلت عند ذلك أن أذكر مختار ما وقع إلى من شعره وأنبه على سرقاته ونظائر شعره، وأن أملى ذلك فى خلال المجالس وأثنائها. فمما يختار من شعره قوله من قصيدة يمدح بها المهدىّ أولها: أعادك من ذكر الأحبّة عائد! … أجل، واستخفّتك الرسوم البوائد يقول فيها: تذكّرت من تهوى فأبكاك ذكره … فلا الذّكر منسىّ ولا الدّمع جامد تحنّ ويأبى أن يساعدك الهوى … وللموت خير من هوى لا يساعد ألا طالما أنهيت دمعك طائعا … وجارت عليك الآنسات النّواهد تذكّرنا أبصارها مقل المها … واعناقها أدم الظّباء العواقد (¬2) تساقط منهنّ الأحاديث غضّة … تساقط درّ أسلمته المعاقد إليك أمير المؤمنين تجاذبت … بنا اللّيل خوص كالقسىّ شوارد يمانية ينأى القريب محلّة … بهنّ، ويدنو الشاحط المتباعد تجلّى السّرى عنها، وللعيس أعين … سوام وأعناق إليك قواصد إلى ملك تندى إذا يبس الثّرى … بنائل كفّيه الأكفّ الجوامد ¬

_ (¬1) ف: «المولدون الذين بعد المخضرين» وفى حاشية الأصل (من نسخة): «مولد» بكسر اللام؛ أى يولد الكلام. (¬2) العاقد: هو الظبى الّذي عطف عنقه إلى ناحية عجزه؛ وقيل إن الصغائر تفعل ذلك كثيرا؛ قال ساعدة: وكأنّما وافاك يوم لقيتها … من وحش وجرة عاقد متربّب ولا يبعد أن يكون العواقد اللائى يأوين إلى عقدات الرمل، أو يكون معناه أنها عقدت أعناقها ملتفة إلى أذنابها، وذلك معهود من عادتها.

له فوق مجد النّاس مجدان منهما … طريف وعادىّ الجراثيم تالد وأحواض عزّ حومة الموت دونها … وأحواض عرف ليس عنهنّ ذائد أيادى بنى العبّاس بيض سوابغ … على كلّ قوم باديات عوائد هم يعدلون السّمك من قبّة الهدى … كما تعدل البيت الحرام القواعد سواعد عزّ المسلمين، وإنما … تنوء بصولات الأكفّ السّواعد / يكون غرارا نومه من حذاره … على قبّة الإسلام والخلق راقد كأنّ أمير المؤمنين محمّدا … لرأفته بالنّاس للنّاس والد أما قوله: تساقط منهنّ الأحاديث غضّة … تساقط درّ أسلمته المعاقد فكثير فى الشعر، وأظن أن الأصل فيه أبو حيّة النميرى فى قوله: إذا هنّ ساقطن الأحاديث للفتى … سقوط حصى المرجان من كفّ ناظم وإنما عنى بالمرجان صغار اللؤلؤ، وعلى هذا يتأول قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ؛ [الرحمن: 22]. ومثله قول الآخر: هى الدّرّ منثورا إذا ما تكلّمت … وكالدّرّ منظوما إذا لم تكلّم ومثله: من ثغرها الدّرّ النّظي … م ولفظها الدّرّ النثير ونظيره قول البحترىّ- وأحسن غاية الإحسان: ولمّا التقينا والنّقا موعد لنا … تعجّب رائى الدّرّ حسنا ولاقطه فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها … ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه

ومثله قول الأخيطل (¬1). خلوت بها وسجف الليل ملقى … وقد أصغت إلى الغرب النّجوم كأنّ كلامها درّ نثير … ورونق ثغرها درّ نظيم ولغيره: تبسّمت فرأيت الدّرّ منتظما … وحدّثت فرأيت الدّرّ منتثرا ولآخر: وتحفظ لا من ريبة يحذرونها … ولكنها من أعين النّاس تحفظ وتلفظ درّا فى الحديث إذا جرى … ولم نر درّا قبل ذلك يلفظ ولبعض من تأخر زمانه من الشعراء وقرب من عصرنا هذا: أظهرن وصلا إذ رحمن متيّما … وأرين هجرا إذ خشين مراقبا / فنظمن من درّ المباسم جامدا … ونثرن من درّ المدامع ذائبا قال قدس الله روحه: وليس قول أبى دهبل فى صفة الحديث (¬2): كتساقط الرّطب الجنىّ من ال … أقناء لا نثرا ولا نزرا من هذا الباب فى شيء، لأن جميع ما تقدم هو فى وصف الثّغر؛ وهذا فى وصف حسن الحديث وأنه متوسّط فى القلة والكثرة، لازم للقصد كانتثار الرّطب من الأقناء؛ ويشبه أن يكون أراد أيضا مع ذلك وصفه بالحلاوة والغضاضة لتشبيهه له بالرطب، ثم إنه غضّ طرىّ غير مكرّر ولا معاد؛ لقوله: «الرطب الجنىّ» فتجتمع له أغراض: الوصف بالاقتصاد فى القلة والكثرة، ثم وصفه بالحلاوة، ثم الفصاحة، ثم الغضاضة. ¬

_ (¬1) فى م: «الأخطل» خطأ؛ وفى حاشية الأصل: «الأهوازى، يقال له برقوقا»؛ وهو محمد بن عبد الله، شاعر مجيد من أهل الأهواز. (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «فى وصف حسن الحديث والثغر».

ونظير قول أبى دهبل قول ذى الرمّة: لها بشر مثل الحرير ومنطق … رخيم الحواشى لا هراء ولا نزر (¬1) فأما قول مروان: إلى ملك تندى إذا يبس الثّرى … بنائل كفّيه الأكفّ الجوامد فمثل قول أبى حنش النميرىّ فى يحيى بن خالد البرمكيّ: لا ترانى مصافحا كفّ يحيى … إنّنى إن فعلت أتلفت (¬2) مالى لو يمسّ البخيل راحة يحيى … لسخت نفسه ببذل النّوال ومثله قول ابن الخياط (¬3) المدنىّ فى المهدىّ: لمست بكفّى كفّه أبتغى الغنى … ولم أدر أنّ الجود من كفّه يعدى (¬4) فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى … أفدت، وأعدانى فأتلفت ما عندى وقد قيل إن هذا الشاعر كأنه مصرّح بالهجاء؛ لأنه زعم أنّ الّذي لمس كفّه لم يفده شيئا بل أعداه جوده، فأتلف ماله، ولم يرد الشاعر إلا المدح؛ ولقوله وجه، وهو أنّ ذوى الغنى هم الذين تستقر الأموال فى أيديهم وتلبث تحت أيمانهم؛ ومن أخرج ما يملكه حالا بحال لا يوصف بأنه ذو غنى، فأراد الشاعر أننى لم أفد منه ما بقى فى يدى واستقرّ تحت ملكى؛ فلهذا قال: لم أفد ما أفاد ذرو الغنى. ومن هذا المعنى قول مسلم: / إلى ملك لو صافح النّاس كلّهم … لما كان حىّ فى البريّة يبخل ومثله قول العكوّك: لو لمس النّاس راحتيه … ما بخل النّاس بالعطاء ¬

_ (¬1) ديوانه 212. (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «أتلف». (¬3) حاشية الأصل: «ابن الخياط، هو عبد الله بن محمد، ويعرف بابن الخياط؛ ذكر ذلك أبو الفرج الأصبهانى رحمه الله» وترجمته فى الأغانى 18: 94 - 100. (¬4) الأغانى 18: 94.

وأحسن من هذا كلّه وأشبه بالمدح، وأدخل فى طريقته قول البحترىّ: من شاكر عنّى الخليفة بالذّي … أولاه من طول ومن إحسان (¬1) ملأت يداه يدى وشرّد جوده … بخلى، فأفقرنى كما أغنانى حتى لقد أفضلت من إفضاله … ورأيت نهج الجود حيث أرانى ووثقت بالخلف الجميل معجّلا … منه، فأعطيت الّذي أعطانى ومن هذا قول الآخر: رأيت الندى فى آل عوف خليقة … إذا كان فى قوم سواهم تخلّقا ولو جزت فى أبياتهم (¬2) لتعلّمت … يداك النّدى منهم فأصبحت مملقا ولابن الرومىّ: يجود البخيل إذا ما رآك … ويسطو الجبان إذا عاينك فأما قوله: وأحواض عزّ حومة الموت دونها … وأحواض عرف ليس عنهنّ ذائد فيشبه أن يكون إبراهيم بن العباس الصولىّ أخذه فى قوله: لنا إبل كوم يضيق بها الفضا … وتفترّ عنها أرضها وسماؤها (¬3) فمن دونها أن تستباح دماؤنا … ومن دوننا أن تستباح دماؤها حمى وقرى فالموت دون مرامها … وأيسر خطب عند حقّ فناؤها وقد أحسن إبراهيم بن العباس فى أبياته كل الإحسان. فأما قوله: يكون غرارا نومه من حذاره … على قبّة الإسلام والخلق راقد / فكثير متداول، ومن حسنه قول محمد بن عبد الملك الزيات: ¬

_ (¬1) ديوانه 2: 272. (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «فى أثنائهم». (¬3) ديوانه: 153، والأغانى 10: 59 (طبع دار الكتب المصرية). الكوم: الإبل الضخمة العظيمة السنام؛ الواحد أكوم والأنثى كوماء.

نعم الخليفة للرّعيّة من إذا … رقدت وطاب لها الكرى لم يرقد ومثله: ويظلّ يحفظنا ونحن بغفلة … ويبيت يكلؤنا ونحن نيام ومثله للبحترىّ: أربيعة الفرس اشكرى يد منعم … وهب الإساءة للمسيء الجانى (¬1) روّعتموا جاراته فبعثتمو … منه حميّة آنف غيران لم تكر عن قاصى الرّعية عينه … فتنام عن وتر القريب الدّانى فأما قوله: كأن أمير المؤمنين محمدا … لرأفته بالناس للناس والد فنظير قول بعض الشعراء فى يحيى بن خالد البرمكي: أحيا لنا يحيى فعال خالد … فأصبح اليوم كثير الحامد يسخو بكلّ طارف وتالد … على بعيد غائب وشاهد الناس فى إحسانه كواحد … وهو لهم أجمعهم كالوالد ومن جيد قول مروان من قصيدة أوّلها: خلت بعدنا من آل ليلى المصانع … وهاجت لنا الشّوق الدّيار البلاقع يقول فيها: ومالى إلى المهدىّ لو كنت مذنبا … سوى حلمه الضّافى على النّاس شافع ولا هو عند السّخط منه ولا الرّضا … بغير التى يرضى بها الله واقع (¬2) تغضّ له الطّرف العيون وطرفه … على غيره من خشية الله خاشع ¬

_ (¬1) ديوانه 2: 272. وفى حاشية الأصل: «ربيعة رجل ورث أباه دوابه، فقيل له ربيعة الفرس؛ وسميت القبيلة باسم ربيعة وهى التى تذكر مع مضر». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «ولا هو» وفيها (من نسخة): «قانع».

أما قوله: * ولا هو عند السخط منه ولا الرّضا* ... البيت فمثل قول أشجع: ولست بخائف لأبى عليّ … ومن خاف الإله فلن يخافا / ومثله: أمّننى منه ومن خوفه … خيفته من خشية البارى ولأبى نواس: قد كنت خفتك ثمّ أمّننى … من أن أخافك خوفك الله (¬1) ويشبه هذا المعنى ما روى عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله أنه دعا غلاما مرارا فلم يجبه، فخرج فوجده على الباب (¬2) فقال له: ما حملك على ترك إجابتى؟ قال: كسلت عن إجابتك، وأمنت عقوبتك، فقال: عليه السلام: الحمد لله الّذي جعلنى ممن يأمنه خلقه. فأما قوله: «تغضّ له الطرف العيون» فيشبه أن يكون مأخوذا من قول الفرزدق، أو ممّن تنسب إليه هذه الأبيات: يغضى حياء ويغضى من مهابته … فما يكلّم إلّا حين يبتسم (¬3) ¬

_ (¬1) ديوانه 109؛ من أبيات بعث بها إلى الفضل بن الربيع. (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «على باب البيت». (¬3) ينسب هذا البيت مع غيره أيضا للحزين الكنانى؛ وانظر ما مر من حواشى ص 68.

40

40 مجلس آخر [المجلس الأربعون: ] تأويل آية [: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا ... ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ؛ [الأنفال: 24]. فقال: ما معنى الحول بين المرء وقلبه؟ وهل يصحّ ما تأوّله قوم من أنّه يحول بين الكافر وبين الإيمان؟ وما معنى قوله: لِما يُحْيِيكُمْ؟ وكيف تكون الحياة فى إجابته؟ الجواب، قلنا: أما قوله تعالى: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ففيه وجوه: أوّلها أن يريد بذلك أنّه تعالى يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بالموت، وهذا حثّ من الله عز وجل على الطاعات والمبادرة بها قبل الفوت وانقطاع التّكليف، وتعذّر ما يسوّف به المكلّف نفسه من التوبة والإقلاع؛ فكأنه تعالى قال: بادروا إلى الاستجابة لله وللرسول من قبل أن يأتيكم الموت فيحول بينكم وبين الانتفاع بنفوسكم وقلوبكم، ويتعذر عليكم ما تسوّفون به (¬1) نفوسكم من التوبة بقلوبكم. ويقوّى ذلك قوله تعالى: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (¬2). وثانيها أن يحول بين المرء وقلبه بإزالة عقله وإبطال تمييزه، وإن كان حيّا، وقد يقال لمن فقد عقله وسلب تمييزه: إنّه بغير عقل (¬3)؛ قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ؛ [ق: 37]. وقال الشاعر: / ولي ألف وجه قد عرفت مكانه … ولكن بلا قلب إلى أين أذهب! وهذا الوجه يقرب من الأوّل؛ لأنه تعالى أخرج هذا الكلام مخرج الإنذار لهم، ¬

والحث لهم (¬1) على الطاعات قبل فوتها، لأنه لا فرق بين تعذّر التوبة وانقطاع التكليف بالموت وبين تعذّرها بإزالة العقل. وثالثها أن يكون المعنى المبالغة فى الإخبار عن قربه من عباده وعلمه بما يبطنون ويخفون؛ وأنّ الضمائر المكنونة (¬2) له ظاهرة، والخفايا المستورة لعلمه بادية؛ ويجرى ذلك مجرى قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ؛ [ق: 16]، ونحن نعلم أنه لم تعالى يرد بذلك قرب المسافة، بل المعنى الّذي ذكرناه. وإذا كان عزّ وجل هو أعلم بما فى قلوبنا منّا، وكان ما نعلمه أيضا يجوز أن ننساه، ونسهو عنه، ونضلّ عن علمه- وكل ذلك لا يجوز عليه- جاز أن يقول: إنه يحول بيننا وبين قلوبنا؛ لأنه معلوم فى الشاهد أن كل شيء يحول بين شيئين فهو أقرب إليهما. ولما أراد تعالى المبالغة فى وصف القرب خاطبنا بما نعرف ونألف؛ وإن كان القرب الّذي عناه جلّت عظمته لم يرد به المسافة، والعرب تضع كثيرا لفظة القرب على غير معنى المسافة؛ فيقولون: فلان أقرب إلى قلبى من فلان، وزيد منى قريب، وعمرو منّى بعيد؛ ولا يريدون المسافة. ورابعها- ما أجاب به بعضهم- من أنّ المؤمنين كانوا يفكّرون فى كثرة عدوّهم، وقلة عددهم، فيدخل قلوبهم الخوف، فأعلمهم تعالى أنه يحول بين المرء وقلبه، بأن يبدّله بالخوف الأمن؛ ويبدّل عدوّهم- بظنهم أنهم قادرون عليهم وغالبون لهم- الجبن والخور. ويمكن فى الآية وجه خامس؛ وهو أن يكون المراد أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يدعوه إليه قلبه من القبائح؛ بالأمر والنهى والوعد والوعيد؛ لأنا نعلم أنه تعالى لو لم يكلف العاقل مع ما فيه من الشهوات والنفار لم يكن له عن القبيح مانع؛ ولا عن مواقعته رادع؛ فكأنّ التكليف حائل بينه وبينه؛ من حيث زجر عن فعله، وصرف عن مواقعته؛ ¬

وليس يجب فى الحائل/ أن يكون فى كل موضع مما يمتنع معه الفعل؛ لأنا نعلم أن المشير منّا على غيره فى أمر كان قد همّ به وعزم على فعله أن يجتنبه. والمنبّه له على أنّ الحظ فى الانصراف عنه يصح أن يقال: منعه (¬1)، وحال بينه وبين فعله، قال عبيد الله بن قيس الرقيات (¬2): حال دون الهوى ودو … ن سرى اللّيل مصعب وسياط على أك … فّ رجال تقلّب ونحن نعلم أنه لم يحل إلّا بالتخويف والترهيب دون غيرهما. فإن قيل: كيف يطابق هذا الوجه صدر الآية؟ قلنا: وجه المطابقة ظاهر، لأنه تعالى أمرهم بالاستجابة لله تعالى ولرسوله فيما يدعوان إليه من فعل الطاعات، والامتناع من المقبّحات، وأعلمهم أنه بهذا الدعاء والإنذار وما يجرى (¬3) مجراهما يحول بين المرء وبين ما تدعوه إليه نفسه من المعاصى؛ ثم إن المآب بعد هذا كلّه إليه والمنقلب إلى ما عنده؛ فيجازى كلّا باستحقاقه. فأما قوله تعالى: إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ففيه وجوه: أوّلها أن يريد بذلك الحياة فى النعيم (¬4) والثواب، لأنّ تلك هى الحياة الطيبة الدائمة التى يؤمن من تغيّرها، ولا يخاف انتقالها، فكأنه تعالى حث على إجابته التى تكسب هذه الحال. وثانيها أنّه يختص (¬5) ذلك بالدعاء إلى الجهاد وقتال العدوّ، فكأنه تعالى أمرهم بالاستجابة للرسول عليه السلام فيما يأمرهم به من قتال عدوّهم (¬6)؛ ودفعهم عن حوزة الإسلام ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «منعه منه». (¬2) حاشية الأصل: «كان جده شاعرا يشبب بجماعة من النساء، اسم كل واحدة منهن رقية؛ فأضيف إليهن». (¬3) حاشية ف (من نسخة): «وما جرى». (¬4) حاشية ف (من نسخة): «النعم». (¬5) ش: «أن يختص». (¬6) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف «الأعداء».

وأعلمهم أنّ ذلك يحييهم من حيث كان فيه قهر للمشركين، وتقليل لعددهم، وفلّ لحدّهم؛ وحسم لأطماعهم، لأنهم متى كثروا وقووا استلانوا جانب المؤمنين؛ وأقدموا عليهم بالقتل وصنوف المكاره؛ فمن هاهنا كانت الاستجابة له عليه السلام فى القتال تقتضى الحياة والبقاء؛ ويجرى ذلك مجرى قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ؛ [البقرة: 179]. وثالثها ما قاله قوم من أنّ كلّ طاعة حياة، ويوصف فاعلها بأنه حىّ، كما أن المعاصى يوصف فاعلها بأنه ميت، والوجه فى ذلك/ أنّ الطائع لما كان (¬1) منتفعا بحياته، وكانت تؤديه إلى الثواب الدائم قيل: إن الطاعة حياة؛ ولما كان الكافر العاصى لا ينتفع بحياته؛ من حيث كان مصيره إلى العقاب الدائم كان فى حكم الميّت؛ ولهذا يقال لمن كان منغّص (¬2) الحياة، غير منتفع بها: فلان بلا عيش ولا حياة، وما جرى مجرى ذلك من حيث لم ينتفع بحياته. ويمكن فى الآية وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالكلام الحياة بالحكم لا فى الفعل؛ لأنا قد علمنا أنه عليه السلام كان مكلّفا مأمورا بجهاد جميع المشركين المخالفين لملته وقتلهم، وإن كان فيما بعد كلّف ذلك فيمن عدا أهل الذمة على شرطها؛ فكأنه تعالى قال: استجيبوا للرسول ولا تخالفوه، فإنكم إذا خالفتم كنتم فى الحكم غير أحياء، من حيث تعبّد عليه السلام بقتالكم وقتلكم، فإذا أطعتم كنتم فى الحكم أحياء؛ ويجرى ذلك مجرى قوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً؛ [آل عمران: 97]؛ وإنما أراد تعالى أنه يجب أن يكون آمنا؛ وهذا (¬3) حكمه، ولم يخبر بأن ذلك لا محالة واقع. فأما المجبرة فلا شبهة لهم فى الآية، ولا متعلّق بها؛ لأنه تعالى لم يقل: إنه يحول بين المرء وبين الإيمان، بل ظاهر الآية يقتضي أنّه يحول بينه وبين أفعاله، وإنما يقتضي ظاهرها أنه يحول بينه وبين قلبه؛ وليس للإيمان ولا للكفر ذكر، ولو كان للآية ظاهر يقتضي ¬

_ (¬1) ش: «إذا كان». (¬2) حاشية ف (من نسخة): «متكدر». (¬3) حاشية ف (من نسخة): «وهكذا حكمه».

خبر حصن بن حذيفة مع أولاده حين طعنه كرز بن عامر

ما ظنوه- وليس لها ذلك- لانصرفنا عنه بأدلة العقل الموجبة أنه تعالى لا يحول بين المرء وبين ما أمره به، وأراده منه، وكلّفه فعله؛ لأن ذلك قبيح، والقبائح عنه منفيّة. *** [خبر حصن بن حذيفة مع أولاده حين طعنه كرز بن عامر: ] أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزبانىّ قال حدثنى أحمد بن محمد الجوهرىّ قال حدثنا الحسن بن عليل العنزىّ قال حدثنا أحمد بن عمرو بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن عوف قال حدثنى محمد بن خالد (¬1) بن عبد الله عن الحجاج السّلمىّ قال: لما اشتد بحصن ابن حذيفة بن بدر وجعه من طعنة كرز (¬2) بن عامر إياه يوم بنى عقيل دعا ولده فقال: إن الموت أهون مما أجد، فأيّكم يطيعنى؟ قالوا: كلنا نطيعك؛ فبدأ بأكبرهم فقال: قم فخذ سيفى واطعن به حيث آمرك، ولا تعجّل؛ قال: يا أبتاه: أيقتل المرء (¬3) أباه! فأتى على القوم كلّهم/، فأجابوه جواب (¬4) الأول؛ حتى انتهى إلى عيينة فقال: يا أبتاه، أليس لك فيما تأمرنى به راحة، ولي بذلك طاعة؛ وهو هواك؟ قال: بلى، قال: فمرنى كيف أصنع، قال: قم فخذ سيفى فضعه حيث آمرك (¬5)، ولا تعجّل، فقام فأخذ سيفه، ووضعه على قلبه، ثم قال: يا أبتاه، كيف أصنع؟ قال: ألق السيف؛ إنما أردت أن أعلم: أيّكم أمضى لما آمر به؛ فأنت خليفتى ورئيس قومك من بعدى، فقال القوم: إنه [سيقول فيما كان بيتا، فاحضروه] (¬6) فلما أمسى قال: ولّوا عيينة من بعدى أموركم … واستيقنوا أنه بعدى لكم حام إما هلكت فإنى قد بنيت لكم … عزّ الحياة بما قدّمت قدّامى واستوسقوا للتى فيها مروءتكم … قود الجياد، وضرب القوم فى إلهام (¬7) ¬

_ (¬1) ش: «عمر بن خالد». (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «كريز». (¬3) ش: «الرجل». (¬4) ف: «بجواب الأول». حاشية الأصل (من نسخة): «الجواب الأول». (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «كما أمرت به». (¬6) م: «إنه سيقول فى ذلك شيئا فيما بيننا، فأحضروه». (¬7) استوسقوا: انضموا واجتمعوا، وفى حاشية الأصل: «نصب «قود الجياد»، على تقدير فعل مضمر؛ كأنه قال: أعنى قود الجياد».

والقرب من قومكم- والقرب ينفعكم- … والبعد إن باعدوا، والرّمى للرّامي ولى حذيفة إذ ولى وخلّفنى … يوم الهباة يتيما وسط أيتام لا أرفع الطّرف ذلّا عند مهلكة … ألقى العدوّ بوجه خدّه دامى حتّى اعتقدت لوا قومي فقمت به … ثمّ ارتحلت إلى الجفنىّ بالشام لما قضى ما قضى من حقّ زائره … عجت المطىّ إلى النّعمان من عامى أسمو لما كانت الآباء تطلبه … عند الملوك فطرفى عندهم سامى والدّهر آخره شبه لأوّله … قوم كقوم وأيّام كأيّام فابنوا ولا تهدموا فالنّاس كلّهم … من بين بان إلى العليا وهدّام قال: ثم أصبح ودعا بنى بدر، فقال: لوائى ورئاستي لعيينة؛ واسمعوا منى ما أوصيكم به: لا يتكل آخركم على أولكم؛ فإنما يدرك الآخر «1» ما أدركه الأول؛ وأنكحوا الكفء «2» الغريب؛ فإنه عزّ حادث؛ وإذا حضركم أمران فخذوا بخيرهما صدرا؛ فإن كلّ مورد معروف؛ واصحبوا قومكم بأجمل أخلاقكم؛ ولا تخالفوا فيما اجتمعوا عليه؛ فإن الخلاف يزرى بالرئيس المطاع؛ وإذا حاربتم فأوقعوا ثم قولوا صدقا؛ فإنه لا خير فى الكذب، وصونوا الخيول، فإنها حصون الرجال؛ وأطيلوا الرماح؛ فإنها قرون الخيل؛ وأعزوا «3» الكبير بالكبير؛ فإنى بذلك كنت أغلب الناس، ولا تغزوا إلّا بالعيون؛ ولا تسرحوا حتى تأمنوا الصباح؛ وأعطوا على حسب المال، وأعجلوا الضيف بالقرى؛ فإن خيره أعجله، واتقوا فضحات البغى، وفلتات المزاح، ولا تجترءوا على الملوك؛ فإن أيديهم أطول من أيديكم؛ واقتلوا كرز بن عامر. (1) ش: «عمر بن خالد». (2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «كريز». (3) ش: «الرجل». (4) ف: «بجواب الأول». حاشية الأصل (من نسخة): «الجواب الأول». (5) حاشية الأصل (من نسخة): «كما أمرت به». (6) م: «إنه سيقول فى ذلك شيئا فيما بيننا، فأحضروه». (7) استوسقوا: انضموا واجتمعوا، وفى حاشية الأصل: «نصب «قود الجياد»، على تقدير فعل مضمر؛ كأنه قال: أعنى قود الجياد».

والقرب من قومكم- والقرب ينفعكم- … والبعد إن باعدوا، والرّمى للرّامي ولى حذيفة إذ ولى وخلّفنى … يوم الهباة يتيما وسط أيتام لا أرفع الطّرف ذلّا عند مهلكة … ألقى العدوّ بوجه خدّه دامى حتّى اعتقدت لوا قومي فقمت به … ثمّ ارتحلت إلى الجفنىّ بالشام لما قضى ما قضى من حقّ زائره … عجت المطىّ إلى النّعمان من عامى أسمو لما كانت الآباء تطلبه … عند الملوك فطرفى عندهم سامى والدّهر آخره شبه لأوّله … قوم كقوم وأيّام كأيّام فابنوا ولا تهدموا فالنّاس كلّهم … من بين بان إلى العليا وهدّام قال: ثم أصبح ودعا بنى بدر، فقال: لوائى ورئاستي لعيينة؛ واسمعوا منى ما أوصيكم به: لا يتكل آخركم على أولكم؛ فإنما يدرك الآخر (¬1) ما أدركه الأول؛ وأنكحوا الكفء (¬2) الغريب؛ فإنه عزّ حادث؛ وإذا حضركم أمران فخذوا بخيرهما صدرا؛ فإن كلّ مورد معروف؛ واصحبوا قومكم بأجمل أخلاقكم؛ ولا تخالفوا فيما اجتمعوا عليه؛ فإن الخلاف يزرى بالرئيس المطاع؛ وإذا حاربتم فأوقعوا ثم قولوا صدقا؛ فإنه لا خير فى الكذب، وصونوا الخيول، فإنها حصون الرجال؛ وأطيلوا الرماح؛ فإنها قرون الخيل؛ وأعزوا (¬3) الكبير بالكبير؛ فإنى بذلك كنت أغلب الناس، ولا تغزوا إلّا بالعيون؛ ولا تسرحوا حتى تأمنوا الصباح؛ وأعطوا على حسب المال، وأعجلوا الضيف بالقرى؛ فإن خيره أعجله، واتقوا فضحات البغى، وفلتات المزاح، ولا تجترءوا على الملوك؛ فإن أيديهم أطول من أيديكم؛ واقتلوا كرز بن عامر. ومات حصن فأخذ عيينة الرّئاسة، وقال: أطعت أبا عيينة فى هواه … فلم تخلج صريمتى الظّنون (¬4) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «الأخير». (¬2) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «الكفى». (¬3) س: «واغزو». (¬4) الصريمة: العزيمة والرأى. وفى حاشية الأصل: «يقال: اختلجته الظنون وتخالجته وخلجته، أى ظن، والشاعر يقول: لم تأخذنى الظنون مآخذها إلى طعنه، ولم أظن ظنا».

عود إلى المختار من شعر مروان بن أبى حفصة

وقد عرض الرّئيس على بنيه … فقال القوم: هذا لا يكون ستحيا أو تموت، فطاولوه (¬1) … وقتل المرء والده جنون فلم أقتل بحمد الله حصنا … وكلّ فتى ستدركه المنون ولم أنكل عليه، وكلّ أمر … إذا هوّنته يوما يهون فإن يك بدء هذا الأمر غثّا … فآخره بنى بدر سمين وحكى عمرو بن بحر الجاحظ أن اسم عيينة بن حصن حذيفة، وإنما أصابته اللّقوة (¬2) فجحظت عينه؛ وزال فكّه، فسمى لذلك عيينة؛ وإذا عظمت عين الإنسان لقّبوه أبا عيينة، وأبا عيناء. وروى قيس بن أبى حازم أن عيينة بن حصن دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: «هذا أحمق مطاع». وروى أيضا أنه كان يدلع (¬3) لسانه للحسين بن عليّ عليهما السلام وهو صبىّ، فيرى [الصبىّ] (¬4) لسانه، فيهشّ له، فقال له عيينة: ألا أراك (¬5) تصنع هذا بهذا، فو الله إنه ليكون لى الابن رجلا قد خرج وجهه، ما قبّلته قطّ، فقال رسول رسول الله صلى الله عليه وآله: «[إنه من لم يرحم لا يرحم] (¬6)». *** [عود إلى المختار من شعر مروان بن أبى حفصة: ] ونعود إلى ما كنا وعدنا به من الكلام على شعر مروان؛ فمما يختار من شعره قوله من قصيدة أوّلها: صحا بعد جهل فاستراحت عواذله … وأقصرن عنه حين أقصر باطله / ومن مدّ فى أيامه فتأخّرت … منيّته، فالشّيب لا شكّ شامله ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): * سيحيا أو يموت فطاولوه*. (¬2) اللقوة: داء فى الوجه يعوج منه الشدق. (¬3) يقال دلع لسانه وأدلعه إذا أخرجه. (¬4) تكملة من ش. (¬5) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «لا أراك». (¬6) حاشية الأصل (من نسخة): «من لم يرحم لا يرحم».

يقول فى المديح فيها: هو المرء؛ أما دينه فهو مانع … صئون (¬1)، وأما ماله فهو باذله أمرّ وأحلى ما بلى النّاس طعمه … عقاب أمير المؤمنين ونائله أبىّ لما يأبى ذوو الحزم والتّقى … فعول إذا ما جدّ بالأمر فاعله تروك الهوى، لا السّخط منه ولا الرّضا … لدى موطن إلّا على الحقّ حامله (¬2) يرى أنّ مرّ الحقّ أحلى مغبّة … وأنجى ولو كانت زعافا مناهله فإنّ طليق الله من هو مطلق … وإنّ قتيل الله من هو قاتله وإنّك بعد الله للحكم الّذي … تصاب به من كلّ حقّ مفاصله أما قوله: ومن مدّ فى أيامه فتأخّرت … منيّته، فالشّيب لا شكّ شامله فمأخوذ من قول طريح بن إسماعيل الثقفىّ: والشّيب غاية من تأخّر حينه … لا يستطيع دفاعه من يجزع والأصل فى هذا قول أميّة بن أبى الصّلت: من لم يمت عبطة يمت هرما … وللموت كأس، والمرء ذائقها (¬3) ويشبه ذلك قول الآخر: قل لعرسى ليس شيبى بعجب … من يعش يا أمّ عمار يشب ومثله قول أبى العتاهية: من يعش يهرم، ومن يكبر يمت … والمنايا لا تبالى من أتت (¬4) ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «مصون». (¬2) حاشية الأصل: «أى لا يحمد السخط ولا الرضا إلا على الحق». (¬3) عبطة؛ أى شابا صحيحا؛ كذا ذكره صاحب اللسان (فى عبط)، واستشهد بالبيت. وفى نسخة ش: «فالمرء ذائقها». (¬4) ديوانه: 39.

يشبهه قول البحترىّ: ولا بدّ من ترك إحدى اثنتين … فإمّا الشّباب وإما العمر (¬1) / ويقاربه أيضا قوله: والشّيب مهرب من جارى منيّته … ولا نجاء له من ذلك الهرب (¬2) وقريب منه قول ابن المعتز: وقالت كبرت وانتضيت من الصّبا … فقلت لها: ما عشت إلّا لأكبرا (¬3) ولبعضهم: ولا بدّ من موت؛ فإما شبيبة … وإمّا مشيب، والشبيبة أصلح معنى قوله: «والشبيبة أصلح» أنّ الإنسان إذا مات شابا كان أكثر للحزن عليه والأسف على مفارقته، فإذا أسنّ برم به أهله، وهان عليهم فقده. فأما قوله: هو المرء، أما دينه فهو مانع … صئون، وأما ماله فهو باذله فمعناه متكرر فى الشعر كثير جدا. وأحسن شعر جمع بين وصف الممدوح؛ بمنع ما يجب منعه، وبذل ما يجب بذله قول مسلم بن الوليد: يذكّر نيك الجود والبخل والنّهى … وقول الخنا والحلم والعلم والجهل [4] فألقاك عن مذمومها متنزّها … وألقاك فى محمودها ولك الفضل وأحمد من أخلاقك البخل إنه … بعرضك- لا بالمال حاشا لك- البخل ¬

_ (¬1) ديوانه: 1: 219. (¬2) ديوانه 1: 30. (¬3) ديوانه: 1: 31، وانتضيت من الصبا، أى خلع عنك صباك.

وقد أحسن البحترىّ فى قوله: بلونا ضرائب من قد نرى … فما إن وجدنا لفتح ضريبا (¬1) تنقّل فى سلفى (¬2) سؤدد … سماحا مرجّى وبأسا مهيبا فكالسّيف إن جئته صارخا … وكالبحر إن جئته مستثيبا فأما قوله: تروك الهوى، لا السخط منه ولا الرّضا … لدى موطن إلّا على الحقّ حامله فمعنى متداول (¬3) مطروق فى الشعر، وقد كرّره هو فى قوله: إذا هنّ ألقين الرّحال ببابه … حططن به ثقلا، وأدركن مغنما (¬4) / إلى طاهر الأخلاق، ما نال فى رضا … ولا غضب مالا حراما ولا دما (¬5) وأحسن من هذا قول أبى تمّام فى محمد بن عبد الملك: ثبت الخطاب إذا اصطكّت بمظلمة … فى رحله ألسن الأقوام والرّكب (¬6) لا المنطق اللّغو يزكو فى مقاومه … يوما، ولا حجّة الملهوف تستلب كأنّما هو فى نادى قبيلته … لا القلب يهفو ولا الأحشاء تضطرب وتحت ذاك قضاء حزّ شفرته … كما يعضّ بظهر الغارب القتب (¬7) لا سورة تتّقى منه ولا بله … ولا يخاف (¬8) رضا منه ولا غضب ¬

_ (¬1) ديوانه 1: 51، من قصيدة يمدح فيها الفتح بن خاقان وزير المتوكل وبعاتبه، ومطلعها: لوت بالسلام بنانا خضيبا … ولحظا يشوق الفؤاد الطروبا ومن نسخة بحاشية الأصل: «فما إن رأينا لفتح ضريبا». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «خلقى سؤدد»؛ وهى رواية الديوان. (¬3) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «فمبذول». (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «وأدين مغنما»، . (¬5) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «طاهر الأثواب». (¬6) ديوانه: 48 - 49. وفى م: «ثبت الجنان». (¬7) الغارب: الكاهل. القتب: ما يوضع على ظهر الرحل. (¬8) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «ولا يخيف».

أبيات أبى تمام فى وصف القلم

ومثله قول البحترى فى ابن الزّيات أيضا: وجّه الحقّ بين أخذ وإعطا … وقصد فى الجمع والتّبديد (¬1) واستوى النّاس فالقريب قريب … عنده، والبعيد غير بعيد لا يميل الهوى به حين يمضى ال … أمر بين المقلىّ والمودود وسواء لديه أبناء إبرا … هيم فى حكمه وأبناء هود (¬2) مستريح الأحشاء من كلّ ضغن … بارد الصّدر من غليل الحقود فأما قوله: * وإنّ قتيل الله من هو قاتله* فيشبه أن يكون مأخوذا من قول يزيد بن مفرّغ فى عبيد الله بن زياد: إنّ الّذي عاش ختّارا بذمّته … ومات عبدا قتيل الله بالزّاب (¬3) أما قوله: وإنك بعد الله للحكم الّذي … تصاب به من كل حقّ مفاصله [أبيات أبى تمام فى وصف القلم: ] فيشبه قول أبى تمام يصف القلم، من قصيدة يمدح بها ابن الزيات، وأجمع العلماء أنّ هذه الأبيات أحسن وأفخم من جميع ما قيل فى القلم: لك القلم الأعلى الّذي بشباته … تصاب من الأمر الكلى والمفاصل (¬4) / له الخلوات اللّائي لولا نجيّها … لما احتفلت للملك تلك المحافل ¬

_ (¬1) ديوانه 1: 205. (¬2) أبناء إبراهيم: العدنانيون، وأبناء هود: القحطانيون. (¬3) الزاب: موضع قريب من أذربيجان؛ وقتيل الزاب هو عبيد الله بن زياد ابن أبيه؛ قتله أصحاب المختار بن أبى عبيد؛ ويقال: إن إبراهيم بن الأشتر حمل على كتيبته فانهزموا، ولقى عبيد الله فضربه فقتله؛ والبيت فى الأغانى 17: 68، وبعده: العبد للعبد، لا أصل ولا طرف … ألوت به ذات أظفار وأنياب. (¬4) ديوانه: 257. الشباة هنا: حد القلم، والكلى: جمع كلية أو كلوة.

لعاب الأفاعى القاتلات لعابه … وأرى الجنى اشتارته أيد عواسل (¬1) له ريقة طلّ، ولكنّ وقعها … بآثاره فى الشّرق والغرب وابل (¬2) فصيح إذا استنطقته وهو راكب، … وأعجم إن خاطبته وهو راجل إذا ما امتطى الخمس اللّطاف وأفرغت … عليه شعاب الفكر وهى حوافل (¬3) أطاعته أطراف القنا، وتقوّضت … لنجواه تقويض الخيام الجحافل إذا استغزر الذّهن الذّكىّ وأقبلت … أعاليه فى القرطاس وهى أسافل وقد رفدته الخنصران وسدّدت (¬4) … ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل رأيت جليلا شأنه وهو مرهف … ضنى، وسمينا خطبه وهو ناحل ¬

_ (¬1) الأري: العسل. اشتارته: استخرجته. عواسل: جمع عاسلة؛ والعاسل: مستخرج العسل. (¬2) الطل فى الأصل: المطر القليل. والوابل: المطر الكثير. (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف: «جعل القلم ممتطيا الأنامل؛ لأنهن يحملنه وإن علونه؛ ولو جعل القلم مطية للأنامل لأنها تعلوه لجاز وحسن. وقوله: «أفرغت عليه شعاب الفكر» دلالة قوية على أن للفكر مطية؛ وبعد فهو منقول من قول أحمد بن يوسف وعمرو بن مسعدة: «الأقلام مطايا الفطن». (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «شددت».

41

41 مجلس آخر [المجلس الحادى والأربعون: ] تأويل آية [: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ... ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ. وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ؛ [التكوير: 26 - 29]. فقال: ما تأويل هذه الآية؟ أوليس ظاهرها يقتضي أنّا لا نشاء شيئا إلا والله تعالى شاء له، ولم يخصّ إيمانا من كفر، ولا طاعة من معصية؟ الجواب، قلنا: الوجه المذكور فى هذه الآية، أنّ الكلام متعلّق بما تقدّمه من ذكر الاستقامة؛ لأنه تعالى قال: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ؟ ثم قال: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ؛ أى لا تشاءون الاستقامة إلّا والله تعالى مريد لها؛ ونحن لا ننكر أن يريد الله تعالى الطاعات؛ وإنما أنكرنا إرادته المعاصى؛ وليس لهم أن يقولوا: تقدّم ذكر الاستقامة لا يوجب قصر الكلام عليها؛ ولا يمنع من عمومه؛ كما أن السبب لا يوجب قصر ما يخرج من الكلام عليه حتى لا يتعدّاه؛ وذلك أن الّذي ذكروه إنما يجب فيم يستقل بنفسه من الكلام دون ما لا يستقل. وقوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ لا ذكر للمراد فيه؛ فهو غير مستقل بنفسه؛ وإذا علّق بما تقدم من/ ذكر الاستقامة استقلّ؛ على أنه لو كان للآية ظاهر يقتضي ما ظنوه- وليس لها ذلك- لوجب الانصراف عنه بالأدلة الثابتة؛ على أن الله تعالى لا يريد المعاصى ولا القبائح؛ على أن مخالفينا فى هذه المسألة لا يمكنهم حمل الآية على العموم؛ لأن العباد قد يشاءون عندهم ما لا يشاؤه الله تعالى؛ بأن يريدوا الشيء ويعزموا عليه، فلا يقع لمنع أو غيره؛ وكذلك قد يريد النبي عليه السلام من الكفار الإيمان، وتعبّدنا بأن نريد من المقدم على القبيح تركه؛ وإن كان تعالى عندهم لا يريد ذلك إذا كان المعلوم أنه لا يقع؛ فلا بد لهم

من تخصيص الآية؛ فإذا جاز لهم ذلك بالشّبهة جاز لنا مثله بالحجة؛ وتجرى هذه الآية مجرى قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا؛ [المزمل: 19]، وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، [الإنسان: 30]، وقوله تعالى: وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، [المدثر: 56]، فى تعلّق الكلام بما قبله. فإن قالوا: فالآية تدل على مذهبنا وبطلان مذهبكم (¬1) من وجه آخر؛ وهو أنه عز وجل قال: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ؛ وذلك يقتضي أنه يشاء الاستقامة فى حال مشيئتنا لها؛ لأن «أن» الخفيفة إذا دخلت على الفعل المضارع اقتضت الاستقبال؛ وهذا يوجب أنه يشاء أفعال العباد فى كل حال، ويبطل ما تذهبون إليه من أنه إنما يريد الطاعات فى حال الأمر. قلنا: ليس فى ظاهر الآية ألّا نشاء إلّا ما شاءه الله تعالى فى حال مشيئتنا كما ظننتم؛ وإنما يقتضي حصول مشيئته لما نشاؤه من الاستقامة من غير ذكر لتقدم ولا تأخر؛ ويجرى ذلك مجرى قول القائل: ما يدخل زيد هذه الدار إلا أن يدخلها عمرو؛ ونحن نعلم أنه غير واجب بهذا الكلام أن يكون دخولهما فى حال واحدة؛ بل لا يمتنع أن يتقدّم دخول عمرو، ويتلوه دخول زيد، و «أن» الخفيفة وإن كانت للاستقبال على ما ذكروه، فلم يبطل على تأويلنا معنى الاستقبال فيها؛ لأن تقدير الكلام: وما تشاءون الطاعات إلا بعد أن يشاء الله تعالى، ومشيئته تعالى قد كانت لها حال الاستقبال (¬2). وقد ذهب أبو عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبائىّ إلى أنه لا يمتنع أن يريد تعالى الطاعات حالا بعد حال؛ وإن كان قد أرادها فى حال الأمر؛ كما يصحّ أن يأمر بها أمرا بعد أمر؛ قال: / لأنه قد يصحّ أن يتعلّق بإرادته ذلك منا بعد الأمر وفى حال الفعل مصلحة؛ ويعلم تعالى أنّا نكون متى علمنا ذلك كنا إلى فعل الطاعات أقرب، وعلى هذا المذهب لا يعترض بما ذكروه. ¬

_ (¬1) حاشية ف (من نسخة): «مذاهبكم». (¬2) حاشية ف (من نسخة): «حال استقبال».

عود إلى المختار من شعر مروان بن أبى حفصة

والجواب الأول واضح إذا لم نذهب إلى مذهب أبى عليّ فى هذا الباب؛ على أنّ اقتضاء الآية للاستقبال من أوضح دليل على فساد قولهم؛ لأن الكلام إذا اقتضى حدوث المشيئة واستقبالها بطل قول من قال منهم: إنه مريد لنفسه، أو مريد بإرادة قديمة، وصحّ ما تقوله من إنّ إرادته متجدّدة محدثة. ويمكن فى تأويل الآية وجه آخر مع حملنا إياها على العموم؛ من غير أن نخصها بما تقدّم ذكره من الاستقامة؛ ويكون المعنى: وما تشاءون شيئا من فعالكم إلا أن يشاء الله تمكينكم من مشيئته، وإقداركم عليها والتخلية بينكم وبينها؛ وتكون الفائدة فى ذلك الإخبار عن الافتقار إلى الله تعالى؛ وأنه لا قدرة للعبد على ما لم يقدّره الله تعالى عزّ وجل، وليس يجب عليه أن يستبعد هذا الوجه؛ لأن ما تتعلّق به المشيئة فى الآية محذوف غير مذكور؛ وليس لهم أن يعلقوا قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ بالأفعال دون تعلقه بالقدرة؛ لأن كل واحد من الأمرين غير مذكور، وكل هذا واضح بحمد الله. *** [عود إلى المختار من شعر مروان بن أبى حفصة: ] ونعود إلى ما كنا وعدنا به من الكلام على شعر مروان؛ فمما يختار قوله من قصيدة أوّلها: طرقتك زائرة، فحىّ خيالها … بيضاء تخلط بالحياء دلالها يقول فيها: مالت (¬1) بقلبك فاستقاد ومثلها … قاد القلوب إلى الصّبا فأمالها وكأنّما طرقت بنفحة روضة … سحّت بها ديم الرّبيع ظلالها باتت تسائل فى المنام معرّسا (¬2) … بالبيد أشعث لا يملّ سؤالها فى فتية هجعوا غرارا بعد ما … سئموا مراعشة السّرى ومطالها ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «ملكت». (¬2) التعريس: النزول فى آخر الليل.

فكأنّ حشو ثيابهم هنديّة … نحلت وأغفلت العيون صقالها / المراعشة (¬1): تحريك الرأس فى السّير من النوم. أما ذكره فى أول القصيدة طروق الطيف؛ فإنه لم يأت فيه بمعنى غريب؛ ولا لفظ مستعذب؛ وقد قال الناس فى الطّيف والخيال فأكثروا، وقد سبق فى ذلك قيس بن الخطيم إلى معنى؛ كلّ الناس فيه عيال عليه، وهو قوله: أنّى سربت وكنت غير سروب! … وتقرّب الأحلام غير قريب (¬2) ما تمنعى يقظى فقد تؤتينه … فى النّوم غير مصرّد محسوب كان المنى بلقائها فلقيتها … فلهوت من لهو امرئ مكذوب وقد أحسن جرير فى قوله: أننسى إذ تودّعنا سليمى … بفرع بشامة، سقى البشام (¬3) بنفسى من تجنّيه (¬4) عزيز … عليّ، ومن زيارته لمام ومن أمسى وأصبح لا أراه … ويطرقنى إذا هجع النّيام وهذه الأبيات وإن خلت من معنى فى ذكر الطيف غريب، فلم تخل من لفظ مستعذب. ولأبى عبادة البحترىّ فى وصف الخيال الفضل على كل متقدّم ومتأخّر؛ فإنه تغلغل فى ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «فى نسخة الشجرى: قال السيد المرتضى رضى الله عنه: المراعشة فى الأصل: تحريك الرأس فى السير من النوم» وفيها أيضا: «الرعش: المشى الضعيف، من الإعياء وغيره». (¬2) ديوانه: 5، وحماسة ابن الشجرى 189، واللآلئ: 524. وانظر ص 393 من هذا الجزء. (¬3) ديوانه: 512، مع اختلاف فى ترتيب الأبيات. والبشامة: واحدة البشام؛ وهو شجر ذو أفنان وورق صغير؛ إذا قصفت غصونه سال منها سائل أبيض كاللبن؛ يتخذ منه سواك؛ يريد أنها أشارت بسواكها تودعه؛ ولم تتكلم مخافة الرقباء. (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «تجنبه» وهى رواية الديوان. ولمام: قليل.

أوصافه، واهتدى من معانيه إلى ما لا يوجد لغيره، وكان مشغولا بتكرار القول فيه لهجا بإبدائه وإعادته؛ وإن كان لأبى تمام فى ذلك مواضع لا يجهل فضلها، ومحاسن لا يبلغ شأوها؛ فمما لأبى تمام قوله: زار الخيال لها، لا بل أزاركه … فكر إذا نام فكر الخلق لم ينم (¬1) ظبى تقنّصته لمّا نصبت له … من آخر اللّيل أشراكا من الحلم ثمّ اغتدى، وبنا من ذكره سقم … باق، وإن كان مشغولا (¬2) من السّقم وقوله: عادك الزّور ليلة الرّمل من رم … لة بين الحمى وبين المطالى (¬3) ثم ما زارك الخيال ولك … نّك بالفكر زرت طيف الخيال وقوله: اللّيالى أحفى بقلبى إذا ما … جرحته النّوى من الأيام / يا لها لذّة تنزّهت الأر … واح فيها سرّا من الأجسام مجلس لم يكن لنا فيه عيب … غير أنّا فى دعوة الأحلام فأما البحترىّ فقوله فى هذا المعنى أكثر من أن يذكر جميعه هاهنا؛ غير أنا نشير إلى نادره، فمن ذلك قوله: فلا وصل إلّا أن يطيف خيالها … بنا تحت جؤشوش من اللّيل أسفع (¬4) ألمّت بنا بعد الهدوّ فسامحت … بوصل متى تطلبه فى الجدّ تمنع وما برحت حتّى مضى الليل وانقضى … وأعجلها داعى الصّباح الملمّع فولّت كأنّ البين يخلج شخصها … أوان تولّت من حشاى وأضلعى (¬5) ¬

_ (¬1) ديوانه: 268. (¬2) د؛ ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «معسولا؛ أى وإن كان ذلك السقم حلوا كالعسل». (¬3) المطالى: موضع. (¬4) ديوانه: 2: 78. وفى حاشية الأصل: «الجؤشوش: الصدر؛ وكذلك الجوش والجوشن. أسفع: أسود». (¬5) حاشية الأصل: «الخلج: الجذب؛ يقول: كأن البين يخلجها من حشاى وأضلعى».

وربّ لقاء لم يؤمّل وفرقة … لأسماء لم تحذر ولم تتوقّع أرانى لا أنفك فى كلّ ليلة … تعاود فيها المالكيّة مضجعى أسرّ بقرب من ملمّ مسلّم … وأشجى ببين من حبيب مودّع فكائن لنا بعد النّوى من تفرّق … ترجّيه أحلام الكرى، وتجمّع وكقوله: وإنّى وإن ضنّت عليّ بودّها … لأرتاح منها للخيال المؤرّق (¬1) يعزّ على الواشين لو يعلمونها … ليال لنا نزدار فيها ونلتقى فكم غلّة للشّوق أطفأت حرّها … بطيف متى يطرق دجى الليل يطرق أضمّ عليه جفن عينى تعلّقا … به عند إجلاء النّعاس المرنّق وقوله: بلى وخيال من أثيلة كلّما … تأوّهت من وجد تعرّض يطمع (¬2) إذا زورة منه تقضّت مع الكرى … تنبّهت من وجد له أتفزّع ترى مقلتى ما لا ترى فى لقائه … وتسمع أذنى رجع ما ليس تسمع ويكفيك من حقّ تخيّل باطل … تردّ به نفس اللهيف فترجع وقوله: / إذا ما الكرى أهدى إلى خياله … شفى قربه التبريح أو نقع الصّدى (¬3) إذا انتزعته من يدىّ انتباهة … عددت حبيبا راح منّى أو غدا ولم أر مثلينا ولا مثل شأننا … نعذّب أيقاظا وننعم هجّدا وقوله: فما نلتقى إلّا على حلم هاجد … يحلّ لنا جدواك وهى حرام (¬4) ¬

_ (¬1) ديوانه: 2: 122. (¬2) ديوانه 2: 87؛ وفيه: «وخيال من قتيلة». (¬3) ديوانه 1: 174. (¬4) ديوانه 2: 249.

إذا ما تباذلنا النّفائس خلتنا … من الجدّ أيقاظا ونحن نيام (¬1) وقوله: وليلة هوّمنا على العيس أرسلت … بطيف خيال يشبه الحقّ باطله (¬2) فلولا بياض الصّبح طال تشبّثى … بعطفى غزال بتّ وهنا أغازله وقوله: أمنك تأوّب الطّيف الطّروب … حبيب جاء يهدى من حبيب (¬3) تخطّى رقبة الواشين كرها (¬4) … وبعد مسافة الخرق المجوب يكاذبنى وأصدقه ودادا … ومن كلف مصادقة الكذوب وقوله: ما تقضّى لبانة عند لبنى … والمعنّى بالغانيات معنى (¬5) هجرتنا يقظى وكادت على مذ … هبها (¬6) فى الصّدود تهجر وسنى بعد لأى وقد تعرّض منها … طائف عرّجت على الرّكب وهنا قال المرتضى رضى الله عنه: ووجدت أبا القاسم الحسن بن بشر الآمدىّ مع ميله إلى البحترىّ وانحطاطه فى شعبه، واجتهاده فى تأويل ما أخذ عليه من خطأ وزلل يزعم أن البحترىّ أخطأ فى قوله: هجرتنا يقظى وكادت على مذ … هبها فى الصّدود تهجر وسنى قال: لأن (¬7) خيالها يتمثل له فى كل أحوالها؛ يقظى كانت أو وسنى. قال: ولكنّ الجيد فى هذا المعنى قوله: ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «فى نسخة س: قرأت فى ديوانه على شيخى: «خلتنا»، بضم التاء. (¬2) ديوانه 2: 162. (¬3) ديوانه 1: 84. (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «وهنا»؛ وهى رواية الديوان. (¬5) ديوانه 2: 290. (¬6) فى الديوان: «عادتها»: . (¬7) الموازنة بين أبى تمام والبحترى: 188.

أردّ دونك يقظانا ويأذن لى … عليك سكر الكرى إن جئت وسنانا قال: والّذي أوقع البحترىّ فى هذا الغلط قول قيس بن الخطيم: / ما تمنعى يقظى فقد تؤتينه … فى النّوم غير مصرّد محسوب وكان الأجود أن يقول: ما تمنعى فى اليقظة فقد تؤتينه فى النوم، أى ما تمنعينه فى يقظتى فقد تؤتينه فى حال نومى؛ حتى يكون النوم واليقظة منسوبين إليه؛ لأن خيال المحبوب يتمثّل فى حال نومه ويقظته جميعا، قال: إلّا أنه يتّسع من التأويل فى هذا لقيس ما لا يتّسع للبحترىّ لأن قيسا قال: «فقد تؤتينه فى النوم» ولم يقل نائمة؛ وقد يجوز أن يحمل على أنه أراد: ما تمنعى يقظى وأنا يقظان؛ فقد تؤتينه فى النوم، أى فى نومى؛ ولا يسوغ مثل هذا فى بيت البحترىّ لأنه قال: «وسنى» ولم يقل فى الوسن. قال سيّدنا أدام الله علوّه: وقد يمكن من التأويل للبحترىّ ما أمكن مثله لقيس؛ لكنّ الآمدىّ قد ذهب عن ذلك؛ لأن البحترىّ لما قال: «وسنى» دلّ على حال الوسن؛ والحال المعهودة للوسن حال يشترك الناس فيها فى النوم بالعادة، كما أنّ الحال المعهودة لليقظة حال مشتركة بالعادة؛ فقوله: «وسنى» ينبئ عن كونه هو أيضا نائما؛ وإنما أراد المقابلة فى زنة اللفظ بين يقظى ووسنى. وقوله: «يقظى» متى لم يحمل أيضا على هذا المعنى لم يصحّ؛ لأنه لا بدّ أن يريد بذلك: هجرتنا فى أحوال اليقظة؛ ويكون معنى «يقظى» يتعدّى إليه؛ ألا ترى أن الآمدىّ حمل قول قيس: «يقظى» على معنى: «وأنا يقظان» وإن لم يبيّن الوجه! ؛ فكيف ذهب عليه مثل ذلك فى قول البحترىّ! وقوله: «وسنى» و «يقظى» مثل قول قيس: «يقظى»، ولو مكّن قيسا وزن الشعر من أن يقول؛ «وسنى» فى مقابلة: «يقظى» لقاله وما عدل عنه إلى النوم؛ لأنه لم يكن عليه فى «وسنى» إلا ما عليه فى «يقظى»، وما يتأوّل له فى أحد الأمرين يتأوّل له فى الآخر.

قال سيدنا أدام الله تمكينه: ولي فى الخيال وطروقه معنى ما علمت أنه سبق إليه، من جملة قصيدة: وزور تخطّى جنوب الملا … فناديت أهلا بذا الزّائر أتانى هدوّا وعين الرّقي … ب مطروفة بالكرى الغامر فأعجب به يسعف الهاجعين … وتحرمه مقلة السّاهر / وعهدى بتمويه عين المحبّ … ينمّ على قلبه الطّائر فلمّا التقينا برغم الرّقا … د موّه قلبى على ناظرى ومعنى البيت الآخر أن الأحلام إنما هى اعتقادات تحصل فى القلب لا حقيقة لأكثرها؛ لأن الإنسان يعتقد أنه راء لما لا يراه على الحقيقة، ومدرك لما ليس بمدركه على الحقيقة؛ فالقلب يخيّل فى النوم للعين ما لا حقيقة له؛ كما أنّ العين تخيّل فى كثير من الأحوال للقلب ما لا حقيقة له. فأما قول مروان: * فكأنّما طرقت بنفحة روضة* ... البيت فيشبه أن يكون مأخوذا من قول نهشل بن حرّىّ (¬1): طرقت أسيماء الرّحال ودونها … ثنيان من ليل التّمام الأسود (¬2) ومفاوز وصل الفلاة جنوبها … بجنوب أخرى، غير أن لم تعقد ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «منسوب إلى الحرة؛ موضع فيه حجارة سود». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «الثنى: واحد أثناء الشيء أى تضاعيفه، وثنى الوادى والجبل: منعطفه». ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «بينان»؛ وهو مثنى بين؛ والبين: القطعة من الأرض على مد البصر. ومن نسخة أيضا: * نقيان من رمل الثّمام الأسود* وفى حاشيتى الأصل، ف: «يقال: ولد المولود لتمام، وقمر تمام [بفتح التاء وكسرها]، وليل التمام، بالكسر لا غير؛ وهى أطول ليلة فى السنة».

رمل إذا أيدى الرّكاب قطعنه … قرعت مناسمها بقفّ قردد (¬1) وكأنّ ريح لطيمة هنديّة … وذكىّ جادىّ بنصع مجسد (¬2) وندى خزامى الجوّ، جوّ سويقة … طرق الخيال به بعيد المرقد (¬3) أو من قول الآخر: طرقتك زينب والمزار بعيد … بمنى ونحن معرّسون هجود (¬4) فكأنّما طرقت بريّا روضة … أنف يسحسح مزنها ويجود (¬5) وهذا المعنى كثير فى الشعر المتقدم والمتأخر جدّا. فأما قوله: * باتت تسائل فى المنام معرّسا* البيت، والبيتان اللذان بعده؛ فقد قال الناس فى وصف قلة النوم، ومواصلة السّرى، والإدلاج، وشعث السارين فأكثروا، فمن أحسن ما قيل فى ذلك قول لبيد: ومجود من صبابات الكرى … عاطف النّمرق صدق المبتذل (¬6) ¬

_ (¬1) الركاب: الإبل؛ والمناسم: جمع منسم كمجلس: خف البعير. والقف: ما ارتفع من الأرض وغلظ. والقردد: الغليظ المرتفع. (¬2) اللطيمة: العير التى تحمل الطيب والمسك. والجادىّ: الزعفران. والنصع: الثوب الأبيض. والمجسد: المصبوغ بالزعفران. (¬3) الخزامى: نبت طيب الريح. وجوّ سويقة: موضع بالصمان. (¬4) يقال: عرس القوم بالمكان وأعرسوا؛ إذا نزلوا فى آخر الليل للاستراحة. (¬5) روضة أنف: لم ترع. ويسحسح: يسيل. والجود: المطر الغزير. (¬6) ديوانه 2: 13. المجود: الّذي يجهد من النعاس؛ كذا ذكره صاحب اللسان، واستشهد بالبيت. وفى حاشية الأصل: «المجود الّذي سقى الجود؛ وهو المطر؛ والمعنى هنا على التشبيه؛ كأن النوم جاده؛ أى مطره. والصبابات: جمع صبابة؛ وهى البقية. والنمرقة، مثلثة: الطنفسة فوق الرحل. وصدق المبتذل: جلد قوى لا يتغير عند ابتذله نفسه ولا يسقط؛ والمبتذل: مصدر بمعنى الابتذال؛ وهو ضد الصيانة».

/ قال هجّدنا فقد طال السّرى … وقدرنا إن خنى الدّهر غفل (¬1) قلّما عرّس حتّى هجته … بالتّباشير من الصّبح الأول (¬2) يلمس الأحلاس فى منزله … بيديه كاليهودىّ المصلّ (¬3) يتمارى فى الّذي قلت له … ولقد يسمع قولى حيّهل (¬4) ومن ذلك قول ذى الرمة: وليل كأثناء الرّويزىّ جبته … بأربعة، والشّخص فى العين واحد (¬5) - والرّويزىّ، هو الطيلسان. وقد روى أيضا: «كجلباب العروس ادّرعته»؛ وكل ذلك وصف له بالسواد؛ لأن الطيلسان أسود، وجلباب العروس أخضر، والعرب تجمع بين الخضرة والسواد- أحمّ علافىّ، وأبيض صارم، … وأعيس مهريّ، وأشعث ماجد (¬6) ¬

_ (¬1) هجدنا؛ من التهجيد؛ وهو هنا بمعنى النوم؛ أى دعنا ننام. والسرى: سير عامة الليل وقدرنا، أى وقدرنا على ورود الماء، أو قدرنا على التهجيد، أو على السير. وخنى الدهر: آفته وفساده؛ أى إن غفل عنا فساد الدهر فلم يعقنا. (¬2) قلما؛ ما المتصلة بقل كافة لها عن طلب الفاعل؛ وتجعلها بمنزلة ما النافية فى الأغلب؛ وهنا لإثبات القلة. والتعريس: النزول فى آخر الليل للاستراحة: وهجته: أيقظته من النوم، وهاج يهيج: يجئ لازما ومتعديا. وبالتباشير، أى بظهورها. والتباشير: أوائل الصبح، جمع تبشير. والأول: صفة التباشير؛ وهو جمع أولى مؤنث الأول. (¬3) يلمس الأحلاس؛ يطلبها، والأحلاس: جمع حلس؛ وهو كساء رقيق يكون على ظهر البعير تحت رحله. وقوله: «كاليهودىّ المصل»؛ قال فى حاشية الأصل: «شبهه باليهودىّ لأنه يسجد على شق وجهه، وأصل ذلك أنهم لما نتق الجبل فوقهم قيل لهم: إما أن تسجدوا وإما أن يلقى عليكم، فسجدوا على شق واحد مخافة أن يسقط عليهم الجبل؛ فصار عندهم سنة إلى اليوم». وكذا جاء فى شرح الطوسى. (¬4) التمارى: المجادلة. وحيهل: اسم فعل بمعنى أسرع وعجل؛ وهذه الأبيات أوردها صاحب الخزانة (2: 28) نقلا عن الغرر. (¬5) ديوانه: 129. أى لا تتفاوت الشخوص والألوان فيه لظلمته. (¬6) يقول: جبت الليل بأربعة؛ ثم فسر الأربعة فقال: أحم أسود؛ ويعنى به الرحل، وعلافىّ: منسوب إلى علاف؛ وهو رجل من قضاعة. والأبيض الصارم: السيف القاطع. والأعيس: الأبيض، يعنى بعيره. والماجد: الكثير المفاخر؛ وفى حاشية الأصل: «الإبل المهرية: منسوبة إلى مهرة بن حيدان، -

أخو شقّة جاب الفلاة بنفسه … على الهول حتّى طوّحته المطارد (¬1) وأشعث مثل السّيف قد لاح جسمه … وجيف المهارى والهموم الأباعد (¬2) سقاه الكرى كأس النّعاس فرأسه … لدين الكرى من آخر الليل ساجد أقمت له صدر المطىّ فما درى … أجائرة أعناقها أم قواصد! ترى النّاشئ الغرّيد يضحى كأنه … على الرّحل ممّا منّه السّير عاصد (¬3) ومن ذلك قول أبى حيّة النميرىّ: وأغيد من طول السّرى برّحت به … أفانين نهّاض على الأين مرجم (¬4) سريت به حتّى إذا ما تمزّقت … توالى الدّجى عن واضح اللّون معلم أنخنا فلمّا أن جرت فى دماغه … وعينيه كأس النّوم قلت له: قم فما قام إلّا بين أيد تقيمه … كما عطفت ريح الصّبا خوط ساسم (¬5) خطا الكره مغلوبا كأنّ لسانه … لما ردّ من رجع لسان المبلسم وودّ بوسطى الخمس منه لو أنّنا … رحلنا وقلنا فى المناخ له: نم (¬6) ¬

_ - والجمع المهارىّ، ثم تخفف فيقال: مهارى، وتفتح الراء فيقال: مهارى، تشبيها بصحارى وعذارى، وأصله صحارىّ وعذارىّ، فمنهم من يحذف الياء فيقول صحارى [بالكسر]، ومنهم من يحذف الأولى ويجعل الثانية ألفا فيقول صحارى [بالفتح] لتسلم الألف من الحذف عند التنوين، ومن يحذف الثانية يقول: صحار كجوار». (¬1) جاب الفلاة: قطعها. وطوحته: أبعدته. وفى الديوان: «لوحته». وفى حاشية الأصل: «المطارد: المواضع التى يطرد فيها. ويجوز أن يكون جمع مطرد». وفى الديوان: «المطاود». وفى شرحه: «المطاود: الذهاب فى الأسفار». (¬2) أشعث، يعنى صاحبه، يشبهه بالسيف فى ضموره ودقته؛ والوجيف: نوع من السير. (¬3) الناشئ: الشاب. والغريد: ذو الصوت الحسن. وفى حاشية الأصل. «العاصد من الإبل: الّذي يلوى عنقه إلى حاركه عند الموت. والعصد: اللىّ». (¬4) المرجم: الرجل الشديد، كأنه يرمى به معاديه. (¬5) الساسم: نوع من الشجر؛ قيل هو الآبنوس. (¬6) بوسطى الخمس؛ أى بدل قطع الوسطى؛ وفى حاشية الأصل: «يروى «بجدع الأنف»، ويروى: «بقطع الخمس».

42

42 مجلس آخر [المجلس الثانى والأربعون: ] تأويل آية [: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ... ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ؛ [هود: 20]. فقال: أى معنى الاختصاص «الأرض» بالذكر وهم لا يفوتون الله تعالى ولا يعجزونه، ولا يخرجون عن قبضته على كل حال، وفى كل مكان؟ ولم نفى الأولياء عنهم، وقد نجد أهل الكفر يتولّى بعضهم بعضا وينصرونهم ويحمونهم من المكاره؟ وكيف نفى استطاعتهم للسمع والإبصار، وأكثرهم قد كان يسمع بأذنه ويرى بعينه؟ الجواب، قلنا: أمّا الوجه فى اختصاص الذكر بالأرض، فلأنّ عادة العرب جارية بقولهم للمتوعّد: لا مهرب لك منى، ولا وزر، ولا نفق، والوزر: الجبل، والنّفق: السّرب، وكلّ ذلك مما يلجأ إليه الخائف المطلوب، فكأنه تعالى نفى أن يكون لهؤلاء الكفار عاصم منه، ومانع من عذابه؛ وأن جبال الأرض وسهولها لا تحجز بينهم وبين ما يريد إيقاعه بهم؛ كما أنها تحجز عن كثير من أفعال البشر؛ لأنّ معاقل الأرض هى التى يهرب إليها البشر من المكاره؛ ويلجئون إلى الاعتصام بها عند المخاوف؛ فإذا نفى تعالى أن يكون لهم فى الأرض معقل فقد نفى المعقل من كل وجه. فأما قوله تعالى: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ فمعناه أنه لا ولىّ لهم، ولا ناصر من عذاب الله تعالى وعقابه لهم فى الآخرة؛ ولا مما يريد أيضا إيقاعه بهم فى الدنيا، وإن كان لهم من يحميهم من مكروه البشر وينصرهم ممن أرادهم بسوء؛ وقد يجوز أن يكون ذلك أيضا بمعنى الأمر، وإن كان مخرجه محرج الخبر؛ ويكون التقدير: وليس لهم أن يتخذوا أولياء

من دون الله، بل الواجب أن يرجعوا إليه فى معونتهم ونصرهم، ولا يعوّلوا على غيره. فأما قوله عز وجل: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ ففيه وجوه: أحدها أن يكون المعنى: يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون؛ وبما كانوا يستطيعون الإبصار فلا يبصرون؛ عنادا للحق، وذهابا عن سبيله؛ فأسقط الباء من الكلام، وذلك جائز كما جاز فى قولهم: لأجزينّك بما عملت، ولأجزينّك ما عملت؛ ولأحدثنّك بما عملت، ولأحدثنك ما عملت؛ وكما قال الشاعر: نغالى اللّحم للأضياف نيئا … ونبذله إذا نضج القدير (¬1) فأراد: نغالى باللحم. والوجه الثانى أنهم لاستثقالهم استماع آيات الله تعالى، وكراهيتهم (¬2) تذكّرها وتفهمها جروا مجرى من لا يستطيع السمع، كما يقول القائل: ما يستطيع فلان أن ينظر لشدّة عداوته إلى فلان، وما يقدر على أن يكلمه؛ وكما نقول لمن عهدنا منه العناد والاستثقال لاستماع الحجج والبينات: ما تستطيع أن تسمع الحق؛ وما تطيق أن يذكر لك؛ وكما قال الأعشى: ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل … وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل [3]! ونحن نعلم أنه قادر على الوداع؛ وإنما نفى قدرته عليه من حيث الكراهة والاستثقال. ومعنى: وَما كانُوا يُبْصِرُونَ أى أن إبصارهم لم يكن نافعا لهم؛ ولا مجديا عليهم؛ مع الإعراض عن تأمل آيات الله تعالى وتدبرها؛ فلما انتفت عنهم منفعة الإبصار جاز أن ينفى عنهم الإبصار نفسه؛ كما يقال للمعرض عن الحق، العادل عن تأمله: ما لك لا تبصر، ولا تسمع؛ ولا تعقل؟ وما أشبه ذلك. ¬

_ (¬1) البيت فى اللسان (غلا): قال فى شرحه: «نغالى اللحم، نشتريه غاليا، ثم نبذله ونطعمه إذا نضج فى قدورنا». والقدير: ما طبخ من اللحم بتوابل. (¬2) ديوانه: 41.

والوجه الثالث [أن يكون معنى نفى السمع والبصر] (¬1) راجعا إلى آلهتهم لا إليهم؛ وتقدير الكلام: أولئك وآلهتهم لم يكونوا معجزين فى الأرض، يضاعف لهم العذاب؛ ثم قال مخبرا عن الآلهة: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ، وهذا الوجه يروى (¬2) عن ابن عباس رحمة الله عليه، وفيه أدنى بعد. ويمكن فى الآية وجه رابع، وهو أن يكون ما فى قوله تعالى: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ليست للنفى؛ بل تجرى مجرى قولهم: لأواصلنّك ما لاح نجم؛ ولأقيمنّ على مودتك ما طلعت شمس؛ ويكون المعنى أن العذاب يضاعف لهم فى الآخرة؛ ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون؛ أى أنهم معذبون ما كانوا أحياء. فإن قيل: كيف يعبّر عن كونهم أحياء باستطاعة السمع والإبصار؛ وقد يكون حيا من لا يكون كذلك؟ قلنا: للعرب فى مثل هذا/ عادة؛ لأنهم يقولون: والله لا كلّمت فلانا ما نظرت عينى، ومشت قدمى؛ وهم، يريدون: ما بقيت وحييت؛ لأن الأغلب من أحوال الحىّ أن تنظر عينه، وتمشى قدمه؛ فجعلوا الأغلب كالواجب؛ ومن ذلك قول الشاعر: وما أنس من شيء تقادم عهده … فلست بناس ما هدت قدمى نعلى عشيّة قالت والدّموع تعينها: (¬3) … هنيئا لقلب عنك لم يسله مسلى (¬4) وإنما أراد: أنّى لا أنسى ذلك ما حييت؛ وكذلك لا يمتنع أن يعلّق على هذا المذهب دوام العذاب بكونهم مستطيعين للسمع والإبصار؛ ويعود المعنى إلى تعلّقه ببقائهم، وبكونهم أحياء؛ والمرجع فى ذلك إلى التأييد؛ لأنه إذا علّق العذاب ببقائهم وإحيائهم وعلمنا أنّ الآخرة لا موت فيها، ولا خروج عن الحياة، علمنا تأييد العذاب. *** ¬

_ (¬1) حاشية ف (من نسخة): «أن يكون نفى السمع والبصر». (¬2) م: «مروى». (¬3) د، ف: «بعينها». (¬4) د، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «مسل».

عود إلى المختار من شعر مروان بن أبى حفصة

[عود إلى المختار من شعر مروان بن أبى حفصة: ] ونعود إلى ما كنا شرعنا فيه من الكلام على شعر مروان؛ فمما يختار له من القصيدة التى مضى أوّلها وتكلمنا عليها: وضعوا الخدود لدى سواهم جنّح … تشكو كلوم صفاحها وكلالها طلبت أمير المؤمنين فواصلت … بعد السّرى بغدوّها آصالها نزعت إليك صواديا فتقاذفت … تطوى الفلاة حزونها ورمالها (¬1) يتبعن ناجية يهزّ مراحها … بعد النّحول تليلها وقذالها (¬2) هوجاء تدرّع الرّبا وتشقّها … شقّ الشّموس إذا تراع جلالها (¬3) تنجو إذا رفع القطيع كما نجت … خرجاء بادرت الظلام رئالها (¬4) كالقوس ساهمة أتتك وقد ترى … كالبرج تملأ رحلها وحبالها هذه الأبيات فى وصف الرّواحل بالسرعة والنّحول، جيّدة الألفاظ، مطردة النسج، وقد سبق الناس فى هذا المعنى إلى ضروب من الإحسان؛ فمن ذلك قول الأخطل: بخوص كأعطال القسىّ تقلقلت … أجنّتها من شقّة ودءوب (¬5) ¬

_ (¬1) نزعت: اشتاقت. صواديا: عطاشا. تقاذفت: تسارعت. (¬2) التليل: العنق. (¬3) الشموس: الفور. (¬4) الخرج، بالتحريك: لونان؛ سواد وبياض؛ يقال: نعجة خرجاء وظليم أخرج والرئال: جمع رأل؛ وهو ولد النعام، وبادرت الظلام رئالها؛ أى بدرت الظلام إلى رئالها. (¬5) ديوانه 179 - 180 وفى حاشية الأصل: «هذه الأبيات من قصيدة يمدح الأخطل فيها عياد بن زياد بن أبيه: أولها: خليلىّ قوما للرّحيل فإنّنى … وجدت بنى الصمعاء غير قريب - يعنى عمير بن الحباب ورهطه-: وأ سفهت إذ منيت نفسى ابن واسع … منى ذهبت لم تسقنى بذنوب فإن تنزلا بابن المحلّق تنزلا … بذى عذرة يبدأ كما بلغوب - المحلق: عبد العزيز بن حنتم- لحا الله أرماكا بدجلة لا تقى … أذاة امرئ عضب اللسان شعوب - يعنى نفسه-

/ إذا معجل غادرنه عند مبرك (¬1) … أتيح لجوّاب الفلاة كسوب - المعجل: الملقى من الأجنّة لغير تمام، وجوّاب الفلاة: الذئب- وهنّ بنا عوج كأنّ عيونها … بقايا قلات قلّصت لنضوب (¬2) مسانيف يطويها مع القيظ والسّرى … تكاليف طلّاع النّجاد ركوب (¬3) قديم ترى الأصواء فيه كأنّها … رجال قيام عصّبوا بسبوب (¬4) يعمن بنا عوم السّفين إذا انجلت … سحابة وضّاح السّراب جنوب (¬5) وقال مسلم بن الوليد الأنصارىّ: إلى الإمام تهادانا بأرحلنا … خلق من الرّيح فى أشباح ظلمان (¬6) كأنّ إفلاتها والفجر يأخذها … إفلات صادرة عن قوس حسبان (¬7) وقال بشار: وإذا المطىّ سبحن فى أعطافه … فات المطىّ بكاهل وتليل (¬8) ¬

_ - إذا نحن ودّعنا بلادا هم بها … فبعدا لحرّات لها وشهوب! نسير إلى من لا يغبّ نواله … ولا مسلم أعراضه لسبوب بخوص ... أعطال: جمع عطل؛ وهو القوس الّذي لا وتر له. وتقلقلت أجنتها: تحركت فى بطونها من سرعة السير. (¬1) فى الديوان: «منزل». (¬2) بنا، أى بحملنا؛ أو حمل أعبائنا. والعوج: جمع أعوج وعوجاء. والفلات: جمع قلت؛ وهو النقرة فى الجبل: والتقليص: الانزواء، والنضوب: غئور الماء. (¬3) المسانيف هنا: الإبل المتقدمات والنجاد: جمع نجد؛ وهو المرتفع من الأرض. والركوب. المذلل. (¬4) قديم؛ أى طريق قديم. والأصواء: الأعلام. والسبوب: جمع سب؛ وهو الثوب الأبيض الرقيق؛ وقيل هو العمامة. (¬5) ف: «تعوم». «خبوب». وهى رواية الديوان. (¬6) ديوانه: 103. والتهادى: المشى الضعيف يتكئ صاحبه على اثنين يمينا وشمالا. والظلمان: جمع ظليم؛ وهو الذكر من النعام. ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «خلق من الزنج». (¬7) إفلاتها؛ أى سرعتها. صادرة، أى إفلات سهام صادرة. والحسبان: سهام يرمى بها الرجل فى جوف قصبة، ينزع فى القوس ثم يرمى بعشرين منها فلا تمر بشيء إلا عقرته؛ والواحد حسبانة. (¬8) حاشية الأصل (من نسخة) «سنحن» أى ظهرن. وأعطافه: جوانبه. وفات: سبق؛ والتليل: العنق؛ يقول: «إذا بدا يسير مع المطايا جاوزهن بكاهل وعنق».

فكأنّه والناعجات (¬1) يردنه … قدح تطلّع من قداح مجيل ولبعض الحارثيين: تهش الهجائر والظّهائر لحمها … حتى تخدّد لحمها المتضابر (¬2) حرف تناهبها النّجاء قلائص … ممّا تنخّل (¬3) شدقم أو داعر (¬4) صبر إذا عطفت سوالفها البرى … سمعت لهنّ كشاكش وجراجر (¬5) ويخلن من عزّ النفوس وجدّها (¬6) … جنّا، وهنّ إذا اختبرن أباعر أمّا إذا ما أقبلت فكأنّها … ذعر تهادتها الفلاة نوافر (¬7) أما إذا ما أعرضت فكأنّها … كدر توردن النّطاف صوادر (¬8) أما إذا ما أبركت فكأنّها … صرح مشيّدة وهنّ ضوامر (¬9) ***/ وإنى لأستحسن قول بشامة بن الغدير فى وصف الناقة بالسرعة (¬10): ¬

_ (¬1) الناعجات هنا: الخفاف من الإبل؛ ومنه قوله: * والناعجات المسرعات للنجا*. (¬2) اللحم المتضابر: المتراكم المكتنز، وفى حاشية الأصل (من نسخة): «المتظاهر». ومن نسخة أخرى «المتطاير». (¬3) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «منجل». (¬4) الحرف: الناقة الضامر: الصلبة. وتناهبها: تباريها فى الجرى. والنجاء: السير السريع. والقلائص: جمع قلوص؛ وهى الفتية من الإبل. وشدقم وداعر: اسمان لفحلين منجبين من فحول الإبل، تنسب إليهما الإبل الشدقميات والإبل الداعرية. (¬5) السوالف: جمع سالفة؛ وهى أعلى العنق، والبرى: جمع برة، وهى الحلقة فى الزمام. والكشاكش والجراجر: أصوات تخرج من جوف الإبل. (¬6) حاشية الأصل (من نسخة): «وحدها». (¬7) ذعر؛ أى وحش مذعورة؛ ويجوز أن يريد بالذعر النعام؛ وهى توصف بذلك. (¬8) الكدر: قطا ألوانها كلون الرماد. والنطاف: جمع نطفة؛ وهى الماء القليل. (¬9) فى حاشيتى الأصل، ف: «صرح: جمع صرح؛ وهو القصر، وأصله صروح فقصره؛ وقد قيل فى أسد، جمع أسد أنه أسود، فقصر ثم خفف بتسكين السين». (¬10) الأبيات من قصيدة فى المفضليات 79 - 91، ومختارات ابن الشجرى 14 - 16، وأبيات منها فى حماسته 205 - 206، ومجموعة المعانى 52، وأبيات منها أيضا فى الأغانى 11: 87، ونسبها لعقيل بن علفة.

كأنّ يديها إذا أرقلت … وقد جرن ثمّ اهتدين السّبيلا (¬1) يدا سابح خرّ فى غمرة … وقد شارف الموت إلا قليلا (¬2) إذا أقبلت قلت مشحونة … أطاعت لها الرّيح قلعا جفولا (¬3) وإن أدبرت قلت مذعورة … من الرّبد تتبع هيقا ذمولا (¬4) ومعنى قوله: * وقد جرن ثم اهتدين السبيلا* يعنى المطايا؛ يقول: كن نشيطات يمرحن فلا يلزمن لقم (¬5) الطّريق؛ بل يأخذن يمينا وشمالا؛ فلما عضّهن الكلال استقمن على المحجة، فكأنه وصف ناقته ببقاء النشاط مع كلال المطىّ؛ وكنى عن الكلال بلزوم جادة الطريق بعد تنكّبها وهذه كناية فصيحة مليحة. ومثله قول الآخر: كأنّ يديها حين جدّ نجاؤها … يدا سابح فى غمرة يتذرّع (¬6) ومما يشاكل هذا المعنى ويقاربه قول الشماخ: كأنّ ذراعيها ذراعا مدلّة … بعيد السّباب حاولت أن تعذّرا (¬7) ممجّدة الأعراق قال ابن ضرّة … عليها كلاما جار فيه وأهجرا ¬

_ (¬1) أرقلت: أسرعت. وجرن: عدلن عن محجة الطريق. (¬2) الغمرة: الماء الكثير؛ ورواية ابن الشجرى: يدا عائم خرّ فى غمرة … فأدركه الموت إلّا قليلا. (¬3) المشحونة: المملوءة، وهو من وصف السفينة. والجفول: الّذي تستخفه الريح ثم تحركه. (¬4) الربد: جمع ربداء؛ وهى فى السوداء المنقطة بحمرة؛ من وصف النعام. والهيق: ذكر النعام والذمول: وصف لسير الظليم، ورواية المفضل: إذا أقبلت قلت مذعورة … من الرّمد تلحق هيقا ذمولا. (¬5) لقم الطريق معظمه؛ وقال الليث: لقم الطريق منفرجه، تقول: عليك بلقم الطريق فالزمه. (¬6) يقال: ذرع السابح، إذا حرك يديه للسبح. (¬7) من قصيدة طويلة فى ديوانه: 26 - 34، وأولها: أتعرف رسما دارسا قد تعيرا … بذروة أقوى بعد ليلى وأقفرا.

شبّه ذراعيها وهى تتذرع فى مشيها (¬1) بذراعى امرأة مدلّة على أهلها ببراءة ساحتها، وقد حكى عنها ابن ضرتها كلاما أهجر فيه؛ أى أفحش، فهى ترفع يديها وتضعهما تعتذر وتحلف وتنضح عن نفسها. وقد قيل إن معنى قوله: «مدلّة» أنها تدلّ بحسن ذراعيها، فهى تدمن إظهارهما لترى (¬2) حسنهما. وقوله: «بعيد السّباب» أى فى عقيب المسابّة قامت تعتذر إلى الناس؛ وقوم يروونه «بعيد الشباب»؛ ومعنى هذه الرواية أنها نصف من النساء، فهى أقوم بحجتها من الحدثة الغرّة؛ ويشهد لهذه الرّواية الأخيرة قول الآخر: كأنّ يديها حين يقلق ضفرها … يدا نصف غيرى تعذّر من جرم (¬3) و/ قوله: «حين يقلق ضفرها» فيه سرّ وفائدة؛ لأنّ الضّفر هو الأنساع (¬4)؛ وإنما تقلق إذا جهدها السير فضمرت، فكأنه وصفها بالتذرّع والنشاط مع الجهد والكلال؛ ومثله: كأنّ ذراعيها ذراعا بذيّة … مفجّعة لاقت ضرائر عن عفر (¬5) سمعن لها واستعجلت فى كلامها … فلا شيء يفرى باليدين كما تفرى (¬6) ويقاربه قول الآخر: ألا هل تبلغنّيهم … على اللّأواء والظّنّه وآة لحصى المعزا … ء فى أخفافها رنّه (¬7) إذا ما عسفت قلت … حماة فاضحت كنّه (¬8) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «فى سيرها». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «ليرى حسنهما» بالبناء للمجهول. (¬3) النصف: المرأة التى ذهب نصف عمرها، ويقال للرجل أيضا. (¬4) الأنساع: جمع نسع، وهو السير المضفور يجعل زماما للبعير وغيره. (¬5) عن عفر، أى بعد حين. وفى حاشيتى الأصل، ف: ويروى «عن عقر». أى بعد كونها عاقرا. (¬6) يفرى، أى يأتى بالعجب. (¬7) الوآة: النجيبة من الإبل. والمعزاء: المكان الصلب الكثير الحصى: . (¬8) الحماة: أم الزوجة. والكنة: امرأة الولد: .

وممن شبه سرعة أيدى الإبل بأيدى النوائح كعب بن زهير فقال (¬1): كأنّ أوب ذراعيها إذا عرقت … وقد تلفّع بالقور العساقيل (¬2) وقال للقوم حاديهم وقد جعلت … أرق الجنادب يركضن الحصى: قيلوا (¬3) شدّ النهار ذراعا عيطل نصف … قامت فجاوبها نكد مثاكيل (¬4) نوّاحة رخوة الضّبعين ليس لها … لمّا نعى بكرها النّاعون معقول (¬5) العساقيل: أوائل السّراب؛ ولا واحد لها من لفظها. وأخبر أنّ ناقته فى شدّة الحر واتقاد الظهيرة تمرح فى سيرها وتتذرع بيديها؛ وشبه ذراعيها بذراعى امرأة نصف تنوح على ابنها، وقد نعى إليها؛ فهى تشير بيديها وتوالى تحريكهما. والعيطل: الطويلة العنق، وجعلها نصفا لأنها قد كادت تيأس من الولد فهى أشد لحزنها على ابنها وتفجّعها عليه، والقور: جمع قارة وهى ما ارتفع واستدار من الرمل؛ وأراد أن يقول: كما تلفعت القور بالعساقيل، فلم يمكنه فقلب. ¬

_ (¬1) ديوانه: 16 - 18، من قصيدته المشهورة: «بانت سعاد». (¬2) رواية الديوان: «وقد عرقت». وأوب: رجع. وتلفع: تلحف، وفى حاشية الأصل: «قريب منه قول المرار الفقعسى يصف ناقته: كأنما أوب يديها إلى … حيزومها فوق حصى الجدجد نوح ابنة الجون على هالك … تندبه رافعة المجلد - الجدجد: الأرض الصلبة. ابنة الجون: نواحة معروفة. والمجلد: قطعة جلد تضرب بها النائحة على صدرها». (¬3) حاشية ف (من نسخة): «ورق»، والورق والأرق: جمع أورق؛ وهو الأخضر المائل إلى السواد. أو ما كان على لون الرماد وقيلوا؛ من القائلة. (¬4) شد النهار: ارتفاع النهار؛ وهو ظرف، أى وقت ارتفاع النهار. والعيطل: الطويلة، ونكد: قليلات الأولاد. والنصف، هى التى قامت تنوح، شبه يدى ناقته بيدى هذه المرأة. والنكد: جمع نكداء، وهى التى لا يصيبها خير. (¬5) نواحة، يعنى هذه النصف، وقوله: «رخوة الضبعين» يريد أنها شديدة الحركة والالتدام. والضبعان هما العضدان، والواحد ضبع. وبكرها: أول ولدها. والمعقول: العقل، يقال: ما لفلان معقول، وماله مجلود.

ومثله: وكأنّما رفعت يدى نوّاحة … شمطاء قامت غير ذات خمار / وإنما خص الشّمطاء لما ذكرناه من اليأس من الولد، كما قال عمرو بن كلثوم: ولا شمطاء لم يترك شقاها … لها من تسعة إلّا جنينا (¬1) وقد قيل فى بيت عمرو: بل شبّه الناقة بشمطاء، لما على رأسها من اللّغام (¬2). ومثل ما تقدم من المعانى قول الشاعر: يا ليت شعرى والمنى لا تنفع! … هل أغدون يوما وأمرى مجمع! وتحت رحلى زفيان ميلع … كأنّها نائحة تفجّع تبكى لميت وسواها الموجع - الزّفيان: الناقة الخفيفة، والمليع: السريعة؛ وشبّه رجع يديها فى السير لنشاطها بيدى نائحة تنوح لقوم على ميّتهم بأجرة، فهى تزيد فى الإشارة بيديها ليرى مكانها. ومثله بعينه قول ذى الرمة: مجانيق تضحى وهى عوج كأنها … بجوز الفلا مستأجرات نوائح (¬3) ¬

_ (¬1) من المعلقة: 215 - بشرح التبريزى؛ وقبله: فما وجدت كوجدى أم سقب … أضلّته فرجّعت الحنينا والسقب: ولد الناقة الذكر. (¬2) اللّغام: الزيد الّذي يعلو شفاه الإبل إذا اهتاجت. (¬3) ديوانه: 104. والعوج: جمع عوجاء، وهى الناقة الضامرة، كأنها عجفت فاعوج ظهرها. وقبل هذا البيت: وسيرى وأعراء المتان كأنّها … إضاء أحسّت نفح ريح ضحاضح على حميريّات كأن عيونها … ذمام الركايا أنكرتها المواتح - الأعراء: الخالية من النبات. والمتان: ما ارتفع من الأرض. والإضاء: جمع أضاة، وهو الغدير. والضحاضح: قليلة الماء. والحميريات: إبل منسوبة إلى حمير. وركية ذمة: قليلة الماء. ونكرت الركية: قل ماؤها، وأنكرتها أنا.

المجانيق: التى ضمرن بعد سمن؛ وخصّ المستأجرات من النوائح للمعنى الّذي ذكرناه. وقال الشماخ فيما يقارب هذا المعنى: كأنّ أوب يديها حين أعجلها … أوب المراح وقد نادوا بترحال مقط الكرين على مكنوسة زلق … فى ظهر حنّانة النّيرين مغوال - معنى: «أوب ذراعيها» أى رجعهما- وأوب المراح، إذا أراح القوم عازب أموالهم ليرحلوا، وقد روى: «أوب المراح» بالكسر؛ ومعناه رجع المراح والنشاط. والمقط: اللعب بالكرة. والكرين: جمع كرة. والمنكوسة: الأرض البراح التى لا شيء فيها. والزّلق: المستوية من الأرض. والحنانة: الريح. والنيران: جانبا هذه الأرض. ومغوال، قيل: إنه من صفات الريح؛ وقيل: من صفات الأرض؛ وإن كان من صفات الريح فمعناه أنّ الريح تغول الأرض بأسرها؛ أى تملؤها، وإذا كان للأرض فالمعنى أنها تغول من سلكها أى تهلكه؛ وتلخيص معنى البيت أنه شبه يدى ناقته بيدى ضارب/ بكرة فى أرض واسعة فى يوم ريح عاصف؛ وهذا من دقيق المعانى وحسن التشبيه والمبالغة. ومثل بيتى الشماخ قول المسيّب بن علس (¬1): مرحت يداها للنّجاء كأنّما … تكرو بكفّى ماقط فى قاع (¬2) فعل السّريعة بادرت جدّادها … قبل المساء تهمّ بالإسراع ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: قال س: «وجدت بخط القاضى أبى عبد الله محمد بن سلامة القضاعى رحمه الله: «علس» بفتح العين مضبوطا كأنه يجعله فعلا ماضيا، والعلس: حب كالعدس». (¬2) من قصيدة فى المفضليات 60 - 63 (طبعة المعارف) أولها: أرحلت من سلمى بغير متاع … قبل العطاس ورعتها بوداع والماقط: الضارب، ورواية المفضليات: * تكرو بكفّى لاعب فى صاع*.

معنى: «تكرو» أى كأنها تلاعب بكرة. والسريعة، يعنى نسّاجة. والجدّاد: الغزل الضعيف، فأراد أنها تسرع الضرب بالحفّ (¬1) والنسج قبل المساء؛ وما دامت تبصر؛ فشبّه يدى ناقته فى تذرّ عنها بيدى هذه النساجة. وقال الأصمعىّ الجدّاد: هدب الثوب؛ فيعنى أن هذه النساجة قد قاربت الفراغ من الثوب، وبلغت إلى هدبه؛ فهى تبادر لتفرغ منه قبل المساء. وقريب منه قول الآخر: كأنّ أيديهنّ بالقاع القرق (¬2) … أيدى جوار (¬3) يتعاطين الورق فالقرق الخشن الّذي فيه الحصى؛ وشبّه خذف (¬4) مناسمهنّ (¬5) له بخذف جوار يلعبن بدراهم، وخصّ الجوارى لأنهن أخفّ يدا من النساء. وقال آخرون: القرق هاهنا: المستوى من الأرض، الواسع؛ وإنما خصّ بالوصف لأن أيدى الإبل إذا أسرعت فى المستوى فهو أحمد لها؛ وإذا أبطأت فى غيره فهو أحمد لها. ومن أحسن ما قيل فى الإسراع قول المرّار بن سعيد: فتناولوا شعب الرّحال فقلّصت … سود البطون كفضلة المتنمّس ذكر قوما سفرا هبّوا من رقدتهم إلى رحالهم ليسيروا؛ ويعنى بسود البطون الإبل؛ والمتنمّس: الصائد الذق اتخذ ناموسا، وهو ما يستتر به ليختل الصيد، فشبه المطايا فى سرعتها يقطا قد صاد الصائد بعضها، وأفلت بعضها؛ فهنّ يطرن طيرانا شديدا. ومثل هذا- وإن كان فى صفة الخيل- قول النابغة: ¬

_ (¬1) الحف: المنسج. (¬2) البيتان فى اللسان (قرق). (¬3) اللسان: «أيدى نساء». (¬4) الخذف: الرمى بالحصى الصغار. (¬5) م «مناسمها».

* كالطّير تنجو من الشّؤبوب ذى البرد* (¬1) وأما قول مروان: ... يهزّ مراحها … بعد النّحول تليلها وقذالها فقد مضى من وصف المطايا بالنشاط بعد السآمة والجهد ما مضى. وأحسن من قول مروان/ وأشدّ إفصاحا بالمعنى وإعرابا عنه قول الهذلىّ: ومن سيرها العنق المسبط … رّ والعجرفيّة بعد الكلال (¬2) وإنما كان هذا أحسن لأنه صريح بنشاطها بعد كلالها. وقول مروان: «بعد النحول» لا يجرى هذا المجرى؛ لأن النحول قد يكون عن جهد السفر والتعب، ويكون عن غيره. وأما قوله: * كالقوس ساهمة أتتك وقد ترى* فقد أكثرت العرب فى وصف المطايا بالنحول وتشبيهها بالقسىّ وغيرها؛ وقد أحسن كثيّر فى قوله: نفى السير عنها كلّ داء إقامة … فهنّ رذايا بالطّريق ترائك (¬3) وحمّلت الحاجات خوصا كأنّها … - وقد ضمرت- صفر القسىّ العواتك (¬4) وقال سلم بن عمرو الخاسر (¬5): وكأنّهنّ من الكلال أهلّة … أو مثلهنّ عطائف الأقواس (¬6) ¬

_ (¬1) ديوانه: 23، وصدره: * والخيل تمزع غربا فى أعنّتها*. (¬2) ديوان الهذليين 2: 175، والبيت لأمية بن عائذ العنق: السير المنبسط. والمسبطر: المسترسل السهل. والعجر فيه: الشديد. (¬3) ديوانه: 2: 136؛ الرذايا: جمع رذية؛ وهى الناقة المهزولة من السير. والترائك: المتروكة لضعفها. (¬4) العواتك: جمع عاتكة؛ وهى القوس إذا قدمت واحمرت. (¬5) فى حاشيتى الأصل، ف: «قيل إنما سمى عمرو خاسرا لأنه ورث عن أبيه مصحف قرآن، فاشترى به عودا». (¬6) القوس العطيفة: المعطوفة؛ وهى المنحنية.

قود طواها ما طوت من مهمه … نائى الصّوى ومناهج أدراس (¬1) وقال أبو تمام يصف ناقة: أتينا القادسيّة وهى ترنو … إلى بعين شيطان رجيم (¬2) فما بلغت بنا عسفان حتّى … رنت بلحاظ لقمان الحكيم وبدّلها السّرى بالجهل حلما … وقد أديمها قد الأديم أذاب سنامها قطع الفيافى … ومزّق جلدها نضح العصيم (¬3) بدت كالبدر وافى ليل سعد … وآبت مثل عرجون قديم وقال البحترىّ: وخدان القلاص حولا إذا قا … بلن حولا من أنجم الأسحار (¬4) يترقرقن كالسّراب وقد خض … ن غمارا من السّراب الجارى / كالقسىّ المعطّلات، بل الأس … هم مبريّة، بل الأوتار ¬

_ (¬1) قود: جمع أقود؛ وهو من الإبل الطويل العنق. الصوى: جمع صوة؛ وهى الأعلام فى الطريق. وفى حاشية الأصل: «ومثله بعينه للمتنبى: فتبيت تسئد مسئدا فى نيّها … إسئادها فى المهمّة الإنضاء الإسئاد: إسراع السير فى الليل. والنى: الشحم. والمهمّة: الأرض الواسعة البعيدة. والإنضاء: مصدر أنضاه ينضيه إذا هزله. قال العكبرى: «والمعنى أن المهمّة ينضيها كما تنضيه». (¬2) ديوانه: 423؛ من قصيدة يصف حجة حجها؛ وأولها: لعلّك ذاكر الطّلل القديم … وموف بالعهود على الرّسوم وواصف ناقة تذر المهارى … موكّلة بوخد أو رسيم وقد أممت بيت الله نضوا … على عيرانة حرف سعوم أتيت القادسية ... (¬3) النضح: الرشح. والعصيم: العرق. (¬4) ديوانه: 2: 24؛ من قصيدة يمدح فيها أبا جعفر بن حميد. وخدان القلاص: إسراعها وحول: جمع حائل، وحول الثانية جمع أحول.

وله أيضا: وهى العيس، دهرها فى ارتحال … من حلول، أو فرقة من جميع (¬1) ربّ مرت مرّت تجاذب قطري … هـ سرابا كالمنهل المشروع (¬2) وسرى تنتحيه بالوخد حتّى … تصدع اللّيل عن بياض الصّديع (¬3) كالبرى فى البرى ويحسبن أحيا … نا نسوعا مجدولة فى نسوع (¬4) ¬

_ (¬1) ديوانه 2: 91؛ من قصيدة يمدح فيها محمد بن محمد الواثقى. (¬2) المرت: الأرض القفر. (¬3) الصديع: الفجر. (¬4) البرى: جمع برة؛ وهى الحلقة. والنسوع: الحبال.

43

43 مجلس آخر [المجلس الثالث والأربعون: ] تأويل آية [: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ... ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ [ص: 75]. فقال: كيف أضاف إلى نفسه اليد؛ وهو ممن يتعالى عن الجوارح؟ الجواب، قلنا فى هذه الآية وجوه: أوّلها أن يكون قوله تعالى: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ جاريا مجرى قوله: «لما خلقت أنا»، وذلك مشهور فى لغة العرب، يقول أحدهم: هذا ما كسبت يداك؛ وما جرّت عليك يداك؛ وإذا أرادوا نفى الفعل عن الفاعل استعملوا فيه هذا الضّرب من الكلام فيقولون: فلان لا تمشى قدمه، ولا ينطق لسانه، ولا تكتب يده؛ وكذلك فى الإثبات، ولا يكون للفعل رجوع إلى الجوارح فى الحقيقة؛ بل الفائدة فيه النفى عن الفاعل. وثانيها أن يكون معنى اليد هاهنا النعمة، ولا إشكال فى أن أحد محتملات لفظة اليد النعمة. فأما الوجه فى تثنيتها فقد قيل فيه إن المراد نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، فكأنه تعالى قال: ما منعك أن تسجد لما خلقت لنعمتى؛ وأراد بالباء اللام. وثالثها أن يكون معنى اليد هاهنا القدرة؛ وذلك أيضا من محتملات اللفظة؛ يقول القائل: ما لي بهذا الأمر يد ولا يدان، وما يجرى مجرى ذلك؛ والمعنى: أننى لا أقدر عليه ولا أطيقه؛ وليس المراد بذلك إثبات قدرة على الحقيقة؛ بل إثبات كون القادر قادرا، ونفى

عود إلى المختار من شعر مروان بن أبى حفصة

كونه قادرا، فكأنه تعالى قال: ما منعك أن تسجد لما خلقت وأنا قادر على خلقه؛ فعبّر عن كونه قادرا بلفظ اليد الّذي هو عبارة عن القدرة؛ وكلّ ذلك واضح فى تأويل الآية. *** [عود إلى المختار من شعر مروان بن أبى حفصة: ] ونعود إلى ما كنا ابتدأناه من/ الكلام على شعر مروان. فمن قصيدته التى تقدم بعضها ووقع الكلام عليه مما يختار قوله: أحيا أمير المؤمنين محمّد … سنن النبىّ حرامها وحلالها ملك تفرّع نبعة من هاشم … مدّ الإله على الأنام ظلالها جبل لأمّته تلوذ بركنه … رادى جبال عدوّها فأزالها (¬1) لم تغشها ممّا تخاف عظيمة … إلّا أجال لها الأمور مجالها حتى يفرّجها أغرّ مبارك (¬2) … ألفى أباه مفرّجا أمثالها ثبت على زلل الحوادث راكب … من صرفهنّ لكلّ حال حالها (¬3) كلتا يديك جعلت فضل نوالها … للمسلمين، وفى العدوّ وبالها (¬4) وقعت مواقعها بعفوك أنفس … أذهبت بعد مخافة أوجالها أمّنت غير معاقب طرّادها … وفككت من أسرائها أغلالها ونصبت نفسك خير نفس دونها … وجعلت مالك واقيا أموالها (¬5) أما قوله: أحيا أمير المؤمنين محمد … سنن النبىّ حرامها وحلالها فقد عابه عليه بعض من لا معرفة له بنقد الشعر فقال: كيف يكون فى سنن النبىّ عليه ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل؛ ف «رادى «فاعل» من المراداة؛ وهى مراماة الحجر؛ أصله من المردى وهو الحجر الّذي يكسر به الحجارة، يستعمل فى المفاخرة والمناجزة». (¬2) م: «مهذب». (¬3) أى راكب من الصروف لكل حال حالها. (¬4) ش: «وللعدو وبالها». (¬5) حاشية ف: «بخط عبد السلام بن الحسين البصرى رحمه الله: صيالها».

السلام حرام! وما ذلك بمعيب؛ لأنه أراد بقوله: «حلالها وحرامها» التحليل والتحريم؛ ومن سنته تحريم الحرام، وتحليل الحلال؛ وإنما المعيب من هذا قول ابن الرّقاع العاملىّ: ولقد أراد الله إذ ولّاكها … من أمّة إصلاحها وفسادها (¬1) ومثل قول مروان قول سلم الخاسر: ولما وليت ذكرت النبىّ … بتحليله وبتحريمه فأما قوله: * حتى يفرّجها أغرّ مبارك* ... البيت فكثير جدا للمتقدمين والمحدثين؛ والأصل فيه قول زهير: وما كان من خير أتوه فإنما … توارثه آباء آبائهم قبل (¬2) وهل ينبت الخطّىّ إلّا وشيجه … وتغرس إلّا فى منابتها النّخل! (¬3) ومثله قول الآخر: / وحمزة والعبّاس منهم ومنهم … عقيل، وماء العود من حيث يعصر (¬4) ومثله للرّبيع بن أبى الحقيق اليهودىّ: إذ مات منّا سيّد قام بعده … له خلف يكفى السّيادة بارع ¬

_ (¬1) الطرائف الأدبية: 90؛ والرواية هناك: «إصلاحها ورشادها»، وهى أيضا رواية المؤلف فى المجلس التاسع والأربعين. وفى الحاشية: «عدىّ قال: «فسادها»، والأصمعىّ أنشد: «رشادها»؛ والبيت من قصيدته التى أولها: عرف الديار توهما فاعتادها … من بعد ما درس البلى أبلادها وانظر روايتها وتخريج أبياتها فى الطرائف الأدبية 87 - 91. (¬2) ديوانه: 115؛ وتوارثه؛ أى ورثوه كابرا عن كابرا؛ كناية عن مجدهم القديم. (¬3) الخطىّ: الرماح؛ منسوبة إلى الخط؛ وهى جزيرة بالبحرين ترفأ إليها سفن الرماح. والوشيج: القنا الملتف فى منبته، واحدها وشيجة. (¬4) حاشية الأصل: «ومثله للمتنبى: فإن كان سيار بن مكرم انقضى … فإنك ماء الورد إن ذهب الورد.

من أبنائه والعرق ينصر فرعه … على أصله، والعرق للعرق نازع (¬1) ومثله له: ترجو الغلام وقد أعياك والده … وفى أرومته ما ينبت العود وأخذ هذا المعنى وبعض اللفظ الكميت فقال: تجرى أصاغرهم مجرى أكابرهم … وفى أرومته ما ينبت الشّجر ومن هذا المعنى قول عبيد الله بن قيس الرّقيات: يخلفك البيض من بنيك كما … يخلف عود النّضار فى شعبه (¬2) ومنه قول نهشل بن حرّىّ: أرى كلّ عود نابتا فى أرومة … أبى نسب العيدان أن يتغيّرا (¬3) بنو الصّالحين الصالحون ومن يكن … لوالد سوء يلقه حيث سيّرا (¬4) ومثله لمسلم بن الوليد الأنصارىّ: ألحّ على الأيّام يفرى خطوبها … على منهج ألفى أباه به قبل (¬5) ولبشار: * على أعراقها تجرى الجياد* ¬

_ (¬1) نازع؛ أى ينزع إليه فى الشبه. (¬2) النضار: شجر الأثل؛ وقيل: النضار: كل شجرة ناضرة. (¬3) ف: «ناميا فى أرومة». (¬4) نسب هذا البيت فى حماسة أبى تمام- بشرح التبريزى 1: 300 إلى جميل بن عبد الله بن معمر؛ ضمن أبيات ثلاثة؛ وهى: أبوك حباب سارق الضيف برده … وجدّى يا حجاج فارس شمّرا بنو الصالحين الصالحون ومن يكن … لآباء صدق يلقهم حيث سيّرا فإن تغضبوا من قسمة الله حظّكم … فلله إذ لم يرضكم كان أبصرا وهى فى الحماسة- بشرح المرزوقى 315 - 316 من غير نسبة. (¬5) ديوانه: 203.

ومثله: وما فىّ من خير وشرّ فإنها … سجيّة آبائى وفعل جدودى هم القوم فرعى منهم متفرّع … وعودهم عند الحوادث عودى وللبحترىّ: وإذا أبو الفضل استعار سجيّة … للمكرمات فمن أبى يعقوب (¬1) شرف تتابع كابرا عن كابر … كالرّمح أنبوبا على أنبوب وأرى النّجابة لا يكون تمامها … لنجيب قوم ليس بابن نجيب / وله أيضا: ما سعوا يخلفون غير أبيهم … كلّ ساع منّا يريد نصابه (¬2) وله أيضا: وما تابع فى المجد نهج عدوّه … كمتّبع فى المجد نهج أبيه (¬3) وفى هذه القصيدة يقول مروان: هل تعلمون خليفة من قبله … أجرى لغايته التى أجرى لها طلع الدّروب مشمّرا عن ساقه … بالخيل منصلتا يجدّ نعالها (¬4) قودا تريع إلى أغرّ لوجهه … نور يضيء أمامها وخلالها (¬5) قصرت حمائله عليه فقلّصت … ولقد تحفّظ قينها فأطالها حتّى إذا وردت أوائل خيله … جيحان بثّ على العدوّ رعالها (¬6) ¬

_ (¬1) ديوانه 1: 57؛ من قصيدة يمدح فيها يعقوب بن إسحاق النوبختى. (¬2) ديوانه 1: 90؛ من قصيدة يمدح فيها أبا ثوابة. (¬3) ديوانه 2: 328؛ من قصيدة يمدح بها أحمد بن المدبر. (¬4) الدروب، بريد بها دروب الروم. والمنصلت: الماضى فى الأمر. (¬5) قود: جمع أقود، وهو الذلول من الخيل. وتربع: ترجع. (¬6) جيحان: اسم نهر. والرعال: جمع رعيل؛ وهو القطعة من الخيل تتقدم العسكر.

أحمى بلاد المسلمين عليهم … وأباح سهل بلادهم وجبالها أدمت دوابر خيله وشكيمها … غاراتهنّ وألحقت آطالها (¬1) لم تبق بعد (¬2) مقادها وطرادها … إلّا نحائزها وإلّا آلها (¬3) رفع الخليفة ناظريّ وراشنى … بيد مباركة شكرت نوالها وحسدت حتى قيل أصبح باغيا … فى المشى مترف شيمة مختالها (¬4) ولقد حذوت لمن أطاع ومن عصى … نعلا ورثت عن النبىّ مثالها (¬5) أما قوله: «قصرت حمائله» فالأصل فيه قول عنترة: بطل كأنّ ثيابه فى سرحة … يحذى نعال السّبت ليس بتوأم (¬6) أو قول الأعشى: إلى ماجد كهلال السّما … ء أزكى وفاء ومجدا وخيرا (¬7) طويل النّجاد، رفيع العمى … د، يحمى المضاف، ويغنى الفقيرا (¬8) / ومثله: طويل نجاد السّيف عار جبينه … كنصل اليمانى أخلصته صياقله إذا همّ بالمعروف لم تجر طيره … نحوسا، ولم تسبق نداه عواذله ¬

_ (¬1) الدوابر: جمع دابرة، وهى الموضع الّذي يقع عليه مؤخر السرج. والحقت: ضمرت. والآطال: جمع إطال؛ وهى الخاصرة. (¬2) ش: «لم يبق بعد». (¬3) نحائزها: طباعها. وآلها: يريد شخصها. (¬4) المترف: المبقى فى الملك والنعمة. (¬5) حاشية الأصل: «يعنى أنه اقتدى عن النبي عليه السلام فى أفعاله حذو النعل بالنعل». (¬6) المعلقة- بشرح التبريزى: 199؛ أى هو بطل. والسرحة: الشجرة الكبيرة الطويلة؛ يستظل بها. ونعال السبت: المدبوغة بالقرظ، وكانت الملوك تلبسها وليس بتوأم: لم يولد معه آخر فيكون ضعيفا. (¬7) ديوانه: 70. والرواية فيه: «إلى ملك». (¬8) رواية الديوان: «ويعطى الفقيرا». والمضاف: الملجأ، من قولهم: أضاف: ظهره إلى الحائط أى استند إليها.

ومثله قول طريح بن إسماعيل الثّقفىّ: وأشعث طلّاع الثنايا مبارك … يغول نجاد السّيف وهو طويل (¬1) ولأبى جويرية العبدىّ: يمدّ نجاد السّيف حتّى كأنّه … بأعلى سنامى فالج يتطوّح إذا اهتزّ فى البرد اليمانىّ خلته … هلالا بدا فى جانب الأفق يلمح ولأبى عطاء السّندىّ: وأزهر من بنى عمرو بن عمرو … حمائله وإن طالت قصار ولبعضهم فى آل المهلب: رأيتكم أعزّ الناس جارا … وأمنعهم إذا عدّوا ذمارا (¬2) حمائلكم وإن كانت طوالا … نراها عن شمائلكم قصارا ولبعض بنى العنبر فى معنى الطول: فجاءت به عبل العظام كأنّما … عمامته بين الرّجال لواء (¬3) ولآخر: أشمّ طويل السّاعدين كأنّما … تناط إلى جذع طويل حمائله (¬4) ولابن هرمة: تناط حمائل الهندىّ منه … بعاتق، لا ألفّ ولا ضئيل ولكن تستقلّ به قواه … على ماض بقائمه نبيل ¬

_ (¬1) د، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «يطول». (¬2) الذمار: الذمة والعهد. (¬3) عبل العظام: ضخمها، والبيت من أبيات ثلاثة فى الحماسة- بشرح المرزوقى 269 - 270، والرواية هناك: «سبط العظام». (¬4) حاشية ف (من نسخة): «طوال الساعدين».

ولسلم الخاسر: يقوم مع الرّمح الرّدينىّ قائما … ويقصر عنه طول كلّ نجاد وللخثعمىّ: يوازى الرّدينىّ فى طوله … ويقصر عنه نجاد الحسام وللوالبىّ: طول وطول فترى كفّه … ينهلّ بالطّول انهلال الغمام وطوله يغتال يوم الوغى … وغيره فضل نجاد الحسام فأما قوله: ولقد حذوت لمن أطاع ومن عصى … نعلا ورثت عن النبىّ مثالها فقد ردّد مروان معناه فى مواضع من شعره فقال: شبيه أبيه منظرا وخليقة … كما حذيت يوما على أختها النّعل وقال فى موضع آخر: أحيا لنا سنن النبىّ سميّه (¬1) … قد الشّراك به قرنت شراكا (¬2) وقال أيضا: صحيح الضّمير، سرّه مثل جهره … قياس الشّراك بالشّراك تقابله وقال أيضا: تشابهتما حلما وعدلا ونائلا … وحزما إذا أمر أقام وأقعدا تنازعتما نفسين؛ هذى كهذه … على أصل عرق كان أفخر متلدا كما قاس نعلا حضرمىّ فقدّها … على أختها لم يأل أن يتجوّدا ¬

_ (¬1) م: «محمد». (¬2) حاشية ف: «قد الشراك: مصدر فى موضع الحال، أى قادا».

وأخذ هذا المعنى أبو نواس فقال: تنازع الأحمدان الشّبه فاتّفقا … خلقا وخلقا كما قد الشّراكان (¬1) والأصل فى هذا قول ابن أبى ربيعة: فلما تواقفنا عرفت الّذي بها … كمثل الّذي بى، حذوك النّعل بالنّعل (¬2) ومثله للسّيد بن محمد الحميرىّ رحمه الله تعالى: يتلون أخلاق النبىّ وفعله … فالنّعل تشبه فى المثال طراقها (¬3) وقد تقدّم إلى هذا المعنى يزيد بن المكسّر بن ثعلبة بن سيّار العجلىّ بقوله فى يوم ذى قار، يحرض قومه على القتال: من فرّ منكم فرّ عن حريمه (¬4) … وجاره، وفرّ عن نديمه / أنا ابن سيّار على شكيمه (¬5) … مثل الشّراك قد من أديمه * وكلّهم يجرى على قديمه* فأما قوله: * وحسدت حتى قيل أصبح باغيا* ... البيت ففى معناه قول البحترىّ: ألنت لى الأيام من بعد قسوة … وعاتبت لى دهرى المسيء فأعتبا (¬6) وألبستنى النّعمى التى غيّرت أخى … عليّ فأمسى نازح الودّ أجنبا *** ومما يختار لمروان قوله: ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «أى ينزعان فى الشبه، كل منهما إلى صاحبه فى الشبه، ويجوز أن يكون تنازع، من النزع الّذي هو السلب». (¬2) ديوانه: 326. (¬3) طراق النعل: ما أطبقت عليه فخرزت به. (¬4) الأبيات فى تاريخ الطبرى 2: 154. وفى حاشية الأصل: من نسخة «منكم». (¬5) شكيمه: طبعه وعادته. (¬6) ديوانه 1: 56.

موفّق لسبيل الرّشد متّبع … يزينه كلّ ما يأتى ويجتنب تسمو العيون إليه كلّما انفرجت … للناس عن وجهه الأبواب والحجب له خلائق بيض لا يغيّرها … صرف الزّمان كما لا يصدأ الذّهب ووجدت بعض من ينتقد (¬1) الشعر يقول: ليس فى شعر مروان بيت يتمثل به غير هذا البيت الأخير من الثلاثة الأبيات. وكأن ابن مناذر (¬2) إياه أراد بقوله، وقد سأل وهو مجاور بمكة: عمن ببغداذ من الشعراء؟ فقيل له: العباس بن الأحنف؛ فقال: أنشدونى له، فأنشدوه: لو كنت عاتبة لسكّن عبرتى … أملى رضاك، وزرت غير مراقب (¬3) لكن مللت فلم تكن لى حيلة، … صدّ الملول خلاف صدّ العاتب (¬4) فقال ابن مناذر: أخلق بمن أدام بحث التراب أن يصيب خرزة. قال سيدنا أدام الله تمكينه: ولا شك فى قلة الأمثال فى شعر مروان؛ ولكن ليس إلى هذا الحد؛ وهذا المعنى الّذي قد تضمنه البيت قد سبق إليه أيضا، قال طريح بن إسماعيل: جواد إذا جئته راجيا … كفاك السؤال وإن عدت عادا خلائقه كسبيك النّضا … ر لا يعمل الدّهر فيها فسادا ومثله قول الخريمىّ: / رأيتك يا زيد زيد النّدى … وزيد الفخار وزيد الكرم تزيد على نائبات الخطو … ب بذلا وفى سابغات النّعم كذا الخمر والذّهب المعدنىّ … يجوّد هذا وذاك القدم وفى قوله: «الذّهب المعدنىّ» فائدة؛ لأنه إذا خلص الذهب وصفا لم يفسد؛ وإذا امتزج ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «ينقد». (¬2) حاشية الأصل: «ابن مناذر، بضم الميم، ومنهم من يفتح الميم، ذهابا إلى أن له آباء اسم كل منهم المنذر، وليس هذا بشيء. وقيل له: يا ابن مناذر، فقال: مناذر الصغرى أم الكبرى؟ وهما ناحيتان بالأهواز، بل أنا ابن مناذر، بضم الميم». (¬3) ديوانه: 2: 22. (¬4) رواية الديوان: «لكن مللت».

بغيره لم يكن هذا حكمه؛ ومثله للأموىّ (¬1): يأوى إلى خلق لم يصده طبع … كأنّ جوهره من جوهر الذّهب ولبعضهم: ملك له خلق خليق بالعلا … كسبيكة الذّهب التى لا تكلف (¬2) وقد أخذ الخبز أرزىّ هذا المعنى فى قوله: فلا تعنّ لتحذيف تكلّفه … لصورة حسنها الأصليّ تكفيها إنّ الدّنانير لا تجلى وإن عتقت … ولا تزاد على النّقش الّذي فيها ولجحظة مثله: صديق لى له أدب … صداقة مثله حسب رعى لى فوق ما يرعى … وأوجب فوق ما يجب ولو نقدت خلائقه … لبهرج عندها الذّهب ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «الأسدى». (¬2) لا تكلف: لا تصدأ؛ من الكلف؛ وهو لون يخالف لون الوجه.

44

44 مجلس آخر [المجلس الرابع والأربعون: ] تأويل آية [: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ ... ] إن سائل سائل عن قوله تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً؛ [الإسراء: 47]. فقال: لم وحّد نَجْوى وهو خبر عن جمع؟ وما معنى مَسْحُوراً وما جرت عادة مشركى العرب بوصف رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك، بل عادتهم جارية بقرفه بأنه ساحر؟ الجواب، قلنا: أما قوله تعالى: وَإِذْ هُمْ نَجْوى فإن «نجوى» مصدر يوصف به الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث، وهو مقرّ على لفظه. وبجرى ذلك مجرى/ قولهم: الرجال صوم، والمنازل حمد، يعنى بصوم صائمون، وبحمد محمودون. وقد قال قوم: إن معناه: وإذ هم أصحاب نجوى، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ويقال: القوم نجىّ والقوم أنجية، فمن وحّد بنى على مذهب المصدر، ومن جمع جعله منقولا عن المصادر، ملحقا برغيف وأرغفة، وما أشبه ذلك. وقد قال الشاعر (¬1): أتانى نجيّى بعد هدء ورقدة … ولم أك فيما قد بلوت بكاذب (¬2) ¬

_ (¬1) ف: «وقال الشاعر فى التوحيد»؛ وهو سواد بن قارب السدوسى؛ صحابىّ ذكره ابن حجر فى الإصابة 3: 148 - 149. (¬2) من أبيات أنشدها عند الرسول عليه السلام، ذكرت مع خبر له فى مقدمة جمهرة الأشعار 24 - 26. والرواية هناك: * ولم يك فيما قد عهدت بكاذب*.

وأنشد الفراء فى الجمع: ظلّت نساؤهم والقوم أنجية … يعدى إليها كما يعدى على الغنم (¬1) فأما قوله تعالى: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً ففيه وجوه: أوّلها أن يكون المراد: إن تتبعون إلا رجلا متغيّر العقل؛ لأن المشركين كان من مذهبهم عيب النبي صلى الله عليه وآله، وتضعيف أمره وتوهين رأيه، وكانوا فى وقت ينسبونه إلى أنه ساحر، وفى آخر يرمونه بالجنون، وأنه مسحور مغيّر العقل (¬2)، وربما قذفوه بأنه شاعر حوشىّ من ذلك كلّه. وقد جرت عادة الناس أن يصفوا من يضيفونه إلى البله والغفلة وقلة التحصيل بأنه مسحور. وثانيها أن يريدوا بالمسحور المخدوع المعلّل؛ لأن ذلك أحد ما يستعمل فيه هذه اللفظة، قال امرؤ القيس: أرانا موضعين لحتم غيب … ونسحر بالطّعام وبالشّراب (¬3) وقال أمية بن أبى الصلت: فإن تسألينا فيم نحن فإنّنا … عصافير من هذا الأنام المسحّر (¬4) ¬

_ (¬1) البيت فى اللسان (نجا)، ونسبه لسحيم، ولم يذكر فى ديوانه. وفى ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «يعدى عليها». (¬2) د، ف، حاشية الأصل من نسخة: «متغير العقل». (¬3) ديوانه: 132. موضعين: مسرعين، والإيضاع: نوع من السير. والحتم: الإيجاب؛ وبعده: عصافير وذبّان ودود … وأجرأ من مجلّحة الذئاب فبعض اللوم عاذلتى فإنّى … ستكفينى التجارب وانتسابى إلى عرق الثرى وشجت عروقى … وهذا الموت يسلبنى شبابى. (¬4) البيت فى اللسان (سحر)، ونسبه إلى لبيد؛ وهو أيضا فى ديوانه 1: 81.

عود إلى المختار من شعر مروان بن أبى حفصة

وثالثها أن السّحر فى لغة العرب الرّئة وما تعلق بها، فيها ثلاث لغات: سحر وسحر وسحر، وقيل السّحر ما لصق بالحلقوم والمريء من أعلى الجوف؛ وقيل إنه الكبد؛ فكأنّ المعنى على هذا: إن تتبعون إلا رجلا ذا سحر؛ خلقه الله بشرا كخلقكم. ورابعها أن يكون معنى مسحور أى ساحر، وقد جاء لفظ مفعول بمعنى فاعل؛ قال الله تعالى: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ/ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً؛ [الإسراء: 45]، أى ساترا، والعرب تقول للمعسر: ملفج، ومعناه ملفج؛ لأن ماضيه ألفج (¬1)، فجاءوا بلفظ المفعول وهو الفاعل؛ ومن ذلك قولهم: فلان مشئوم على فلان وميمون؛ وهم يريدون شائم له ويأمن؛ لأنه من شأمهم (¬2) ويمنهم. ورأيت بعض العلماء يطعن على هذا الاستشهاد الأخير فيقول: العرب لا تعرف «فلان مشئوم على فلان»؛ وإنما هذا من كلام أهل الأمصار؛ وإنما تسمى العرب من لحقه الشؤم مشئوما؛ قال علقمة بن عبدة: ومن تعرّض للغربان يزجرها … على سلامته لا بدّ مشئوم (¬3) والوجوه الثلاثة الأول أوضح وأشبه. *** [عود إلى المختار من شعر مروان بن أبى حفصة: ] ومما يختار لمروان بن أبى حفصة قوله من قصيدة يمدح بها معن بن زائدة الشيبانىّ، أولها: أرى القلب أمسى بالأوانس مولعا … وإن كان من عهد الصّبا قد تمتّعا (¬4) يقول فيها: ولمّا سرى الهمّ الغريب قريته … قرى من أزال الشكّ عنه وأزمعا ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «يقال: ألفج؛ فهو ملفج، وأسهب إذا ذهب عقله فهو مسهب، وأحصن فهو محصن». (¬2) شأمهم: أصابهم بشؤم. (¬3) ديوانه: 131، المفضليات: 120 (طبعة المعارف). (¬4) الأوانس: جمع آنسة؛ وهى الفتاة الطيبة الحديث والنفس.

عزمت فعجّلت الرّحيل ولم أكن … كذى لوثة لا يطلع الهمّ مطلعا فأمّت ركابى أرض معن ولم تزل … إلى أرض معن حيثما كان نزّعا (¬1) نجائب لولا أنها سخّرت لنا … أبت عزّة من جهلها أن توزّعا كسونا رحال الميس منها غواربا … تدارك فيها النّىّ صيفا ومربعا (¬2) فما بلغت صنعاء حتى تواضعت … ذراها وزال الجهل عنها وأقلعا (¬3) وما الغيث إذ عمّ البلاد بصوبه … على الناس من معروف معن بأوسعا يقول فيها: تدارك معن قبّة الدّين بعد ما … خشينا على أوتادها أن تنزّعا أقام على الثّغر المخوف، وهاشم … تساقى سماما بالأسنّة منقعا مقام امرئ يأبى سوى الخطّة التى … تكون لدى غبّ الأحاديث أرفعا وما أحجم الأعداء عنك بقيّة … عليك؛ ولكن لم يروا فيك مطمعا رأوا مخدرا قد جرّبوه وعاينوا … لدى غيله منهم مجرّا ومصرعا (¬4) / وليس بثانيه إذا شدّ أن يرى … لدى نحره زرق الأسنّة شرّعا له راحتان: الحتف والغيث فيهما … أبى الله إلّا أن تضرّا وتنفعا لقد دوّخ الأعداء معن فأصبحوا … وأمنعهم لا يدفع الذّلّ مدفعا نجيب مناجيب وسيّد سادة … ذرا المجد من فرعى نزار تفرّعا لبانت خصال الخير فيه وأكملت … وما كملت خمس سنوه وأربعا (¬5) ¬

_ (¬1) نزعا، أى مشتاقين. (¬2) الميس: خشبة الرحل، والغوارب: أعلى السنام. والنىّ: الشحم. (¬3) ذراها: جمع ذروة؛ وهى الأعالى؛ ويعنى هنا الأسنمة. (¬4) المخدر: الأسد فى خدره وهو غيله؛ ويعنى بالخدر الأجمة. (¬5) فى حاشيتى الأصل، ف: ومثله لآخر: لئن فرحت بى معقل عند شيبتى … لقد فرحت بى بين أيدى القوابل.

لقد أصبحت فى كلّ شرق ومغرب … بسيفك أعناق المريبين خضّعا وطئت خدود الحضرميّين وطأة … لها هدّ ركنا عزّهم (¬1) فتضعضعا فأقعوا على الأذناب إقعاء معشر … يرون لزوم السّلم أبقى وأودعا فلو مدّت الأيدى إلى الحرب كلها … لكفّوا وما مدّوا إلى الحرب إصبعا أما قوله: فما بلغت صنعاء حتى تواضعت … ذراها، فزال الجهل عنها فأقلعا فقد ردّده فى موضع آخر فقال: فما بلغت حتّى حماها كلالها … إذا عرّيت أصلابها أن تقيّدا وهذا المعنى [كثير فى الشعر القديم والمحدث] (¬2)، فمنه قول جرير: إذا بلغوا المنازل لم تقيّد … وفى طول الكلال لها قيود (¬3) وروى أنه قيل لنصيب: لك بيت نازعك فيه جرير؛ أيّكما فيه أشعر؟ فقال: ما هو؟ فقيل قولك: أضرّ بها التّهجير حتّى كأنّها … بقايا سلال لم يدعها سلالها (¬4) وأنشد بيت جرير الّذي تقدّم، فقال: قاتل الله ابن الخطفى! فقيل له: قد فضلته عليك، فقال: هو ذاك. وأخذ هذا المعنى المؤمل بن أميل المحاربىّ فقال: كانت تقيّد حين تنزل منزلا … فاليوم صار لها الكلال قيودا ولأبى نخيلة: / قيّدها الجهد ولم تقيّد … فهى سوام كالقنا المسنّد ¬

_ (¬1) حاشية ف (من نسخة): «عزمهم». (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «كثير فى شعر القدماء والمحدثين». (¬3) ديوانه: 148. (¬4) السلال: السل.

وما لها معلّل (¬1) من مزود … منها (¬2) ولا من شاحط مستبعد ومعنى قوله: «سوام» أى هى رافعة رءوسها، وشبهها بالقنا، لأن القنا إذا ركز مال قليلا مع الريح (¬3)، فيقول: فى أعناقها ميل من الضعف، كما قال الشماخ: فأضحت تفالى بالسّتار كأنّها … رماح نحاها وجهة الرّيح راكز (¬4) وكما قال حميد بن ثور الهلالىّ: بمثوى حرام والمطىّ كأنه … قنا مسند هبّت لهنّ خريق (¬5) ¬

_ (¬1) ش «معلل»، بكسر اللام المشددة. وهو على هذا كناية عن العلف الّذي تجتره من جوفها. (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «منها، متعلق بالمزود؛ أى من مزود منها، أى من نفسها، يعنى كرشها». (¬3) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «من الريح». (¬4) فى حاشيتى الأصل، ف: «وهذا البيت آخر زائيته؛ وقبله: فأصبح فوق الحقف حقف تبالة … له مركد فى مستوى الحبل بارز فأضحت تفالى بالستار كأنها ... يصف حميرا وصائدا، والحقف: ما اعوج من الرمل، والمركد: المقام والحبل: الممتد من الرمل. وقوله: «تفالى» أى تدخل رءوسها بعضها فى بعض. والستار: موضع؛ وشبهها فى دفتها وطولها بالرماح ونحاها: جعلها فى ناحية الريح؛ شبهها منحرفة إلى ناحية الريح تستنشى؛ فإن حملت الريح ريح الصائد إليها تركت ذلك المورد وأتت غيره؛ وإلا تقدمت بالرماح والقصيدة فى ديوانه: 43 - 53؛ ورواية البيتين فيه: وأصبح فوق النّشز نشز حمامة … له مركض فى مستوى الأرض بارز وظلّت تفالى باليفاع كأنها … رماح نحاها وجهة الريح راكز. (¬5) ديوانه: 34، من قصيدة طويلة؛ أولها: نأت أمّ عمرو فالفؤاد مشوق … يحنّ إليها والها ويتوق وهو أيضا فى الكامل- بشرح المرصفى 6: 193، واللسان (خرق)، وفى حاشيتى الأصل، ف: نسخة س: «مثوى حرام: منى»، وقبل هذا البيت: فأعرضت عنها فى الزيارة أتّقى … وذو اللّب بالتقوى هناك حقيق وهذا البيت لم يرد فى ديوانه؛ والّذي ورد قبل البيت المذكور: ألا طرقت صحبى عميرة إنّها … لنا بالمروراة المطلّ طروق والمروراة هنا: الأرض أو المفازة لا شيء فيها.

فالخريق ريح شديدة تنخرق من كل جهة. ومعنى قول أبى نخيلة: «من مزود» أى من ثميلة (¬1) تجترّها، من الاجترار، وأراد أنه لا شيء فى أجوافها تتعلّل (¬2) به. والمستبعد: ما بعد من المرعى. وأنشد أبو العباس ثعلب: إذا بلغوا المنازل لم تقيّد … ركائبهم ولم تشدد بعقل فهنّ مقيّدات مطلقات … تقضّم ما تشذّر فى المحلّ (¬3) والأصل فى هذا قول امرئ القيس: مطوت بهم حتّى تكلّ مطيّهم … وحتّى الجياد ما يقدن بأرسان (¬4) ولعباد بن أنف الكلب الصيداوىّ: فتمسى لا أقيّدها بحبل … بها طول الضّراوة والكلال ومن جيد هذا المعنى قول الفرزدق يصف الإبل: بدأنا بها من سيف رمل كهيلة … وفيها نشاط من مراح وعجرف (¬5) ¬

_ (¬1) الثميلة: بقية العلف. (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «فتتعلل به». (¬3) تشذر: تفرق؛ وفى د، ف: «تشذب»، وهى بمعنى تفرق أيضا. (¬4) ديوانه: 129. مطوت بهم؛ أى مددت بهم فى السير، ما يقدن بأرسان؛ أى أعيت فلا تحتاج إلى أرسان. وفى حاشيتى الأصل، ف: «قبله: ومجر كغلّان الأنيعم بالغ … ديار العدوّ ذى زهاء وأركان المجر: الجيش الكبير الثقيل. والغلان: الأودية؛ واحدها غال، وهو الوادى الكثير الشجر. وذو زهاء؛ أى لا يحصون لكثرتهم. (¬5) ديوانه 2: 551 - 558؛ من نقائضه المشهورة، وأولها: عزفت بأعشاش وما كدت تعزف … وأنكرت من حدراء ما كنت تعرف وأصل السيف شاطئ البحر، وكهيلة: موضع. والعجرف: سير فيه نشاط. وفى حاشيتى الأصل، ف: «قبل هذا البيت: -

فما بلغت حتّى تقارب خطوها … وبادت ذراها والمناسم رعّف (¬1) وحتّى قتلنا الجهل عنها وغودرت … إذا ما أنيخت والمدامع ذرّف (¬2) / وحتّى مشى الحادى البطيء يسوقها … لها بخص دام ودأى مجلّف - البخص: لحم الخفّ الّذي تطأ عليه. والدّأي: فقار الظهر. والمجلّف: المقشور- وحتّى بعثناها وما فى يد لها … إذا حلّ عنها رمّة وهى رسّف - الرّمة: الحبل؛ وأراد أنها ترسف كما يرسف المقيد، وإن لم يكن فى يدها قيد- إذا ما نزلنا قاتلت عن ظهورها … حراجيج أمثال الأهلّة شسّف - الحراجيج: الطّوال من الإبل، والشّسف: اليابسة من الجهد والكلال. ومعنى قتالها للغربان أنها إذا عرّيت ظهورها تقع الغربان عليها لتأكل دبرها؛ فالإبل تدافع الغربان بأفواهها عن ظهورها وذلك قتالها- ¬

_ - إليك أمير المؤمنين رمت بنا … هموم المنى والهوجل المتعسّف وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع … من المال إلا مسحتا أو مجرّف ومائرة الأعضاد صهب كأنما … عليها من الأين الجساد المدوّف بدأنا بها من سيف رمل كهيلة … ... - الهوجل: البطن الواسع فى الأرض. المتعسف: الطريق المسلوك من غير علم. ويروى: «إلا مسحت»، بالرفع؛ ومعنى: لم يدع»، من الدعة؛ أى «لم يتدع» مع هذا الزمان إلا مسحت مستأصل. قال سويد: أرّق العين خيال لم يدع … من سليمى ففؤادى منتزع والمجرف: الّذي أخذ ما دون الجميع؛ وقال ثعلب: «مسحتا» نصب بوقوع الفعل عليه، وقد وليه الفعل، ولم يل الفعل «مجرف» فاستؤنف به فرفع، قال: التقدير: «هو مجرف». ومائرة الأعضاد: التى تمور بيديها دون رجليها، وذلك مما يستحب فى الإبل. والجساد: العرق؛ وهو ما اصفر، يضرب إلى الحمرة. (¬1) باءت: هلكت أسنمتها والمناسم: أظفار الإبل. ورعف: دامية من الحفاء. (¬2) نسخة الشجرى: «قتلنا جهلها؛ وهو مرحها ونشاطها بالكلال». ويروى: «وغورت، من التغوير، وهو نزول الغائرة؛ والغائرة نصف النهار».

إذا ما أريناها الأزمّة أقبلت … إلينا بحرّات الخدود تصدّف فأفنى مراح الدّاعرية خوضها … بنا اللّيل إذ نام الدّثور الملفّف (¬1) ومن أحسن ما قيل فى وصف الإبل بالنحول من الكلال والجهد بعد السّمن قول الشاعر: وذات ماءين قد غيّضت جمّتها … بحيث تستمسك الأرواح بالحجر ردّت عوارى غيطان الفلا ونجت … بمثل إيبالة من حائل العشر (¬2) قوله: «ذات ماءين» يعنى سمنا على سمن؛ وقيل: بل عنى أنها رعت كلأ عامين. وقوله «قد غيّضت جمّتها» يعنى أنه أتعبها بالسير حتى ردّها هزيلا بعد سمن؛ فكأنه غيّض بذلك ماءها. ومعنى: * بحيث تستمسك الأرواح بالحجر* يعنى الفلاة؛ حيث لا يكون فيها الماء، فيقتسم الركب الماء الّذي يكون معهم بالحجر الّذي يقال له المقلة (¬3) فتمسك أرماقهم. وقوله: * ردت عوارى غيطان الفلا ونجت* أى ما رعت من كلأ هذه الأماكن وسمنت عنه كان كعارية عندها، فردّته حيث جهدها السير وأهزلها (¬4). والإيبالة: الحزمة من الحطب اليابس. ¬

_ (¬1) الداعرية: إبل منسوبة إلى فحل يقال له: داعر، معروفة بالنجابة والكرم. وخوضها: سيرها بالليل. والدثور: الرجل المثقل البدن، الّذي لا يبرح مكانه. الملفف، أى فى ثيابه. (¬2) العشر: شجر له صمغ، وفى حاشيتى الأصل ف: «يعنى بحائل العشر ما يبس من هذا الشجر، وأصل الحائل فى الإبل إذا لم تحمل». (¬3) المقلة، بالفتح: حصاة القسم؛ توضع فى الإناء ليعرف قدر ما يسقى كل واحد منهم؛ وذلك عند قلة الماء فى المفاوز. (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «هزلها».

وأخذ هذا المعنى بعينه أبو تمام فقال: رعته الفيافى بعد ما كان حقبة … رعاها، وماء المزن ينهلّ ساكبه (¬1) فكم جزع واد جبّ ذروة غارب … ومن قبل كانت أتمكته مذانبه (¬2) فأما قوله/: فما أحجم الأعداء عنك بقيّة … عليك، ولكن لم يروا فيك مطمعا فمأخوذ من قول الأول (¬3): فما بقيا عليّ تركتمانى … ولكن خفتما صرد النّبال (¬4) وقريب منه قول الآخر: لعمرك ما النّاس أثنوا عليك … ولا قرّظوك ولا عظّموا ولو أنّهم وجدوا مطعنا … إلى أن يعيبوك ما أحجموا فأنت بفضلك ألجأتهم … إلى أن يجلّوا وأن يعظموا ¬

_ (¬1) ديوانه: 44 من قصيدته التى يمدح فيها عبد الله بن طاهر؛ وأولها: أهنّ عوادى يوسف وصواحبه … فعزما فقد ما أدرك السّؤل طالبه وفى الديوان: «وماء الروض ينهل ساكبه». وبعده: فأضحى الفلا قد جدّ فى برى نحضه … وكان زمانا قبل ذاك يلاعبه النحض: اللحم المكتنز. (¬2) جب: قطع. أتمكته: أسمنته. المذانب: مجارى الماء. ورواية الديوان: * وبالأمس كانت أتمكته مذانبه*. (¬3) هو اللعين المقرى؛ وكان قد تعرض لجرير والفرزدق فقال: سأقضى بين كلب بنى كليب … وبين القين قين بنى عقال بأن الكلب مرتعه وخيم … وأن القين يعمل فى سفال فلم يجبه أحد منهما؛ فقال: فما بقيا عليّ تركتمانى، … ولكن خفتما صرد النبال. (¬4) البقيا: الرحمة والشفقة. وصرد السهم: نفذ أو نكل؛ وهو من الأضداد؛ والمعنى على الأول: أنكما خفتما أن تنفذ سهامى فيكما، أى هجائى، وعلى الثانى: أنكما خفتما ألا تنفذ سهامكما، فعجزتما عن الرد عليّ.

ومثله وقريب منه: أما لو رأى فيك العدوّ نقيصة … لخبّ بتصريف العيوب وأوضعا ولكنّه لما رآك مبرّأ … من العيب غطّى رأسه وتقبّعا ومثله: قد طلب العاذل عيبا فما … أصاب عيبا فانثنى عاذرا وللبحترىّ فى معنى قول مروان: * فما أحجم الأعداء عنك بقيّة* من قصيدة يمدح بها الفتح بن خاقان ويصف لقاءه الأسد: غداة لقيت اللّيث واللّيث خادر … يحدّد نابا للّقاء ومخلبا (¬1) شهدت، لقد أنصفته يوم تنبرى … له مصلتا عضبا من البيض مقضبا (¬2) فلم أر ضرغامين أصدق منكما … عراكا إذا الهيابة النّكس كذّبا (¬3) هزبر مشى يبغى هزبرا، وأغلب … من القوم يغشى باسل الوجه أغلبا (¬4) أدلّ بشغب ثمّ هالته صولة … رآك لها أمضى جنانا وأشغبا فأحجم لمّا لم يجد فيك مطمعا … وأقدم لمّا لم يجد عنك مهربا فلم يغنه أن كرّ نحوك مقبلا، … ولم ينجه أن حاد عنك منكبا حملت عليه السّيف لا عزمك انثنى، … ولا يدك ارتدّت، ولا حدّه نبا / وكنت متى تجمع يمينيك (¬5) تهتك الضّ … ريبة، أولا تبق للسّيف مضربا ومن صافى كلام مروان ورائقه، ومما اجتمع له فيه جودة المعنى واللفظ واطّراد النسج قوله: ¬

_ (¬1) ديوانه 1: 56. (¬2) بقال: أصلت السيف إذا جردته. والعضب: السيف القاطع. والقضيب: القطع أيضا. (¬3) أى كذب الظن فيه؛ ومن نسخة بحاشية الأصل: «نكبا». (¬4) الأغلب: الأسد إذا كان غليظ الرقبة. (¬5) جعل كلتا يديه يمينا.

بنو مطر يوم اللّقاء كأنّهم … أسود لها فى غيل خفّان أشبل (¬1) هم يمنعون الجار حتى كأنّما … لجارهم بين السّماكين منزل لهاميم فى الإسلام سادوا ولم يكن … كأوّلهم فى الجاهليّة أوّل هم القوم إن قالوا أصابوا، وإن دعوا … أجابوا، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا وما يستطيع الفاعلون فعالهم … وإن أحسنوا فى النّائبات وأجملوا ثلاث بأمثال الجبال حباهم … وأحلامهم منها لدى الوزن أثقل ومن جيد قوله من قصيدة يمدح بها معنا: ما من عدوّ يرى معنا بساحته … إلّا يظنّ المنايا تسبق القدرا يلفى إذا الخيل لم تقدم فوارسها … كاللّيث يزداد إقداما إذا زجرا أغرّ يحسب يوم الرّوع ذا لبد … وردا ويحسب فوق المنبر القمرا (¬2) وله من قصيدة يصف يوما حارّا: ويوم عسول الآل حام كأنّما … لظى شمسه مشبوب نار تلهّب (¬3) نصبنا له منّا الوجوه وكنّها … عصائب أسمال بها نتعصّب ويشبه أن يكون أخذ ذلك من قول الشّنفرى: ويوم من الشّعرى يذوب لعابه … أفاعيه فى رمضائه تتململ (¬4) نصبت له وجهى ولكنّ دونه … - ولا ستر- إلا الأتحمىّ المرعبل (¬5) ¬

_ (¬1) حماسة ابن الشجرى: 109 - 110، وأبيات منها فى لباب الآداب 265، 266. (¬2) لبد: جمع لبدة؛ وهو ما اجتمع من الشعر على قفا الأسد فتلبد. (¬3) عسول: جار؛ وأصله فى الذئب والثعلب. وحام: حار. (¬4) لامية العرب- بشرح الزمخشرى: 128 - 129. الشعرى: من الكواكب القيظية. (¬5) الأتحمى: نوع من البرود. والمرعبل: المقطع.

ولمروان من أبيات يصف فيها حديقة وهبها له المهدىّ، ويذكر نخلها وشجرها أجاد فيها: نواضر غلبا قد تدانت رءوسها … من النّبت حتّى ما يطير غرابها (¬1) ترى الباسقات العمّ فيها كأنها … ظعائن مضروب عليها قبابها / ترى بابها سهلا لكلّ مدفّع … إذا أينعت نخل فأغلق بابها (¬2) يكون لنا ما نجتني من ثمارها … ربيعا إذا الآفاق قلّ سحابها حظائر لم يخلط بأثمانها الرّبا … ولم يك من أخذ الدّيات اكتسابها ولكن عطاء الله من كلّ مدحة … جزيل من المستخلفين ثوابها ومن ركضنا بالخيل فى كلّ غارة … حلال بأرض المشركين نهابها (¬3) حوت غنمها آباؤنا وجدودنا … بصمّ العوالى والدّماء خضابها أمّا قوله: حظائر لم يخلط بأثمانها الرّبا … ولم يك من أخذ الدّيات اكتسابها فكأن ابن المعتز نظر إليه فى قوله: لنا إبل ما وفّرتها دماؤنا … ولا ذعرتها فى الصباح الصّوابح (¬4) وفى ضد هذا قول أبى تمام: ¬

_ (¬1) ف: «نواضر عليا». (¬2) يريد أنه إذا أغلق الآخرون الأبواب على نخيلهم؛ فإن نخل هذه الروضة لا يغلق بابه. (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «للخيل». (¬4) ديوانه: 22؛ والرواية فيه: * لنا وفرة ما وفّرتها دماؤنا* وفى نسخة ش: «الصوائح»؛ والمعنى أنه لم نأخذ عوضا عن دمائنا.

كثرت فيهم المسارح إلّا … أنّها من مناكح وديات (¬1) ومثل الأول قول حسان يهجو قوما من قريش: ومالكم لا من طراد فوارس … ولكن من التّرقيح يا آل مالك (¬2) ¬

_ (¬1) ف، حاشية الأصل من نسخة: «المواشى»؛ وفى حاشيتيهما أيضا: إذا سكنت الياء من «المواشى»؛ كان البيت مشعث العروض؛ والتشعيث فى العروض غير مألوف وإنما هو فى الضرب الأول من الخفيف. والتشعيث: أن تقطع وتد فاعلاتن فتحذف ألفه وتسكن لامه فتصير: «فاعلتن»، فتصير: «مفولن». (¬2) الترقيح: إصلاح المال.

45

45 مجلس آخر [المجلس الخامس والأربعون: ] تأويل آية [: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ] إن سأل سائل عن معنى قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 78]. وقوله تعالى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ؛ [الإنسان: 9]. وقوله تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ؛ [الرحمن: 27]. وما شاكل ذلك من آي القرآن المتضمنة لذكر الوجه. الجواب، قلنا: الوجه فى اللغة العربية ينقسم إلى أقسام: فالوجه المعروف المركب فيه العينان من كل حيوان. والوجه أيضا أول الشيء وصدره؛ ومن ذلك قوله تعالى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمران: 72] أى أوّل النهار؛ ومنه قول الربيع بن زياد: / من كان مسرورا بمقتل مالك … فليأت نسوتنا بوجه نهار (¬1) أى غداة كلّ يوم. وقال قوم: وجه نهار: موضع. والوجه القصد بالفعل؛ من ذلك قوله تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ؛ [لقمان: 22]؛ معناه: من قصد بأمره وفعله إلى الله سبحانه، وأراده بهما. وكذلك قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، [النساء: 125]؛ وقال الفرزدق: ¬

_ (¬1) الحماسة- بشرح المرزوقى 995؛ وفى نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «فليأت ساحتنا»؛ وهى رواية الحماسة؛ وهو مالك بن زهير العبسى قتل فى بنى فزارة؛ فرثاه الربيع بأبيات من هذا البيت.

وأسلمت وجهى حين شدّت ركائبى … إلى آل مروان بناة المكارم أى جعلت قصدى وإرادتى لهم، وأنشد الفراء: أستغفر الله ذنبا لست محصيه … ربّ العباد إليه الوجه والعمل أى القصد؛ ومنه قولهم فى الصلاة: وجّهت وجهى للذى فطر السموات والأرض؛ أى قصدت قصدى بصلاتى وعملى؛ وكذلك قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ [الروم: 43]. والوجه الاحتيال للأمرين؛ من قولهم كيف الوجه لهذا الأمر؟ وما الوجه فيه؟ أى ما الحيلة؟ والوجه المذهب والجهة والناحية، قال حمزة بن بيض الحنفىّ: أىّ الوجوه انتجعت؟ قلت لهم: … لأىّ وجه إلّا إلى الحكم (¬1)! متى يقل صاحبا سرادقه: … هذا ابن بيض بالباب يبتسم والوجه: القدر والمنزلة؛ ومنه قولهم: لفلان وجه عريض، وفلان أوجه من فلان، أى أعظم قدرا وجاها، ويقال: أوجهه السلطان إذا جعل له جاها؛ قال امرؤ القيس: ونادمت قيصر فى ملكه … فأوجهنى وركبت البريدا (¬2) والوجه الرئيس المنظور إليه؛ يقال: فلان وجه القوم، وهو وجه عشيرته؛ ووجه الشيء نفسه وذاته؛ قال أحمد بن جندل السّعديّ: ¬

_ (¬1) الأغانى 15: 14. (¬2) اللسان (وجه)؛ وهو من أبيات أربعة فى الأغانى 8: 196 (طبعة دار الكتب المصرية)، وفى حاشية ف: «يقال: حمل فلان على البريد إذا هيئ له فى كل مرحلة مركوب ليركبه؛ فإذا وصل إلى المرحلة الأخرى نزل عن المعيى وركب المرفه؛ وهكذا إلى أن يصل إلى مقصده».

ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة … فأفلت منها وجهه عتد نهد (¬1) أراد أفلته ونجّاه ومنه قولهم: إنما أفعل ذلك لوجهك، ويدل أيضا على أن الوجه يعبّر به/ عن الذات قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ؛ [القيامة: 22 - 25]، وقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ؛ [الغاشية: 8، 9]، لأن جميع ما أضيف إلى الوجوه فى ظاهر الآى؛ من النظر، والظن، والرّضا لا يصحّ إضافته فى الحقيقة إليها وإنما يضاف إلى الجملة، فمعنى قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ؛ أى كل شيء هالك إلا هو؛ وكذلك قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ؛ لما كان المراد بالوجه نفسه لم يقل «ذى الجلال» كما قال: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ؛ [الرحمن: 78]: لما كان اسمه غيره. ويمكن فى قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وجه آخر؛ وقد روى عن بعض المتقدمين، وهو أن يكون المراد بالوجه ما يقصد به إلى الله تعالى ويوجّه؛ نحو القربة إليه جلت عظمته؛ فيقول: لا تشرك بالله، ولا تدع إلها غيره؛ فإن كل فعل يتقرب به إلى غيره، ويقصد به سواه فهو هالك باطل؛ وكيف يسوغ للمشبّهة أن يحملوا هذه الآية والتى قبلها على الظاهر! أوليس ذلك يوجب أنه تعالى يفنى ويبقى وجهه: وهذا كفر وجهل من قائله. فأما قوله تعالى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ، [الإنسان: 9]، وقوله: إِلَّا ¬

_ (¬1) حفزنا: طعنا. ويقال فرس عتد، بفتح التاء وكسرها: إذا كان شديدا تام الخلق سريع الوثبة؛ ليس فيه اضطراب ولا رخاوة والنهد من نعت الخيل: الجسيم المشرف. والحوفزان هو الحارث بن شريك طعنه قيس بن عاصم يوم جدود؛ والمشهور فى ذلك قول سوار بن حيان المنقرىّ: ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة … سقته نجيعا من دم الجوف أشكلا وحمران قسرا أنزلته رماحنا … فعالج غلّا فى ذراعيه مقفلا وانظر شرح المفضليات 470.

قصة سفرة للمكتفى بالله فى حراقة؛ مع جماعة من الأدباء

ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى؛ [الليل: 20]، وقوله: وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، [الروم: 39]؛ فمعلوم أن هذه الأفعال مفعولة له؛ ومقصود بها ثوابه، والقربة إليه، والزلفة عنده. فأما قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ؛ [البقرة: 115]، فيحتمل أن يراد به: فثمّ الله، لا على معنى الحلول، ولكن على معنى التدبير والعلم، ويحتمل أن يراد به: فثمّ رضا الله وثوابه والقربة إليه. ويحتمل أن يراد بالوجه الجهة، وتكون الإضافة بمعنى الملك والخلق والإنشاء والإحداث؛ لأنه عزّ وجل قال: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ؛ أى أن الجهات كلّها لله تعالى وتحت ملكه؛ وهذا واضح بيّن بحمد الله. *** [قصة سفرة للمكتفى بالله فى حرّاقة؛ مع جماعة من الأدباء: ] أخبرنى أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال حدّثني محمد بن يحيى الصولىّ قال: انحدرنا مع المكتفى بالله فى آخر سفرة سافرها للصيد من الموضع المعروف بحنّة إلى تكريت فى حرّاقة (¬1) فكانت تجنح كثيرا، فيشتد فزع من معه من الجلساء/ لذلك؛ وكنت أشدّهم فزعا، وكان فى الحرّاقة سواى من الجلساء يحيى بن عليّ المنجم، ومتوّج بن محمود بن مروان، والقاسم المعروف بابن حبابة، وكان يضحك لفزعنا ويقول: لقد قسم الله لكم حظّا من الشجاعة جزيلا، فقلت له: إن البحترىّ يقول شعرا يصف فيه مثل حالنا، ويمدح به أحمد بن دينار بن عبد الله- وقد غزا الروم فى مراكب- أوله: ألم تر تغليس الرّبيع المبكّر … وما حاك من وشى الرّياض المنشّر (¬2) ¬

_ (¬1) الحراقة: اسم لسفينة؛ وأصل الحراقات: سفن كانت بالبصرة، فيها مرامى نيران يرمى بها العدو. (¬2) ديوانه 2: 22 - 24.

فقال له: أنشدنى الموضع الّذي ذكر هذا فيه منها- وكان جيّد العلم بالأشعار، حافظا للأخبار- فأنشده: غدوت على الميمون صبحا، وإنما … غدا المركب الميمون تحت المظفّر (¬1) إذا زمجر النّوتىّ فوق علاته … رأيت خطيبا فى ذؤابة منبر (¬2) يغضّون دون الاشتيام عيونهم … وفوق السّماط للعظيم المؤمّر (¬3) إذا ما علت فيه الجنوب اعتلى له … جناحا عقاب فى السماء مهجّر (¬4) إذا ما انكفأ فى هبوة النّار خلته … تلفّع فى أثناء برد محبّر (¬5) وحولك ركّابون للهول عاقروا … كئوس الرّدى؛ من دار عين وحسّر (¬6) تميل المنايا حيث مالت أكفّهم … إذا أصلتوا حدّ الحديد المذكّر إذا أرشقوا بالنّار لم يك رشقهم … ليقلع إلّا عن شواء مفتّر (¬7) ¬

_ (¬1) قبله: ولمّا تولى البحر والجود صنوه … غدا البحر من أغلاقه بين أبحر أضاف إلى التّدبير فضل شجاعة … ولا عزم إلا للشجاع المدبّر إذا شجروه بالرماح تكسّرت … عواملها فى صدر ليث غضنفر والميمون، يريد به السفنة؛ وفى حاشية الأصل: «هو اسم خراقة». (¬2) حاشية الأصل: «العلاة: الموضع الّذي يركب فيه الملاح من السفينة». (¬3) حاشية الأصل: «يقال وقفوا دونه سماطا؛ أى اصطفوا؛ وفى شعره: «وقوف السماط»؛ قال س: «وهو الصواب؛ وكذا قرأت على مشايخى. والاشتيام: رئيس المركب؛ كلمة نبطية». (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «إذا عصفت فيه»؛ وهى رواية الديوان ومهجر؛ أى يحلق فى الهاجرة. (¬5) فى حاشيتى الأصل، ف: «انكفأ الميمون؛ أى تمايل؛ وأراد بهوة النار ما كانوا يرمون به من النار إلى العدو من الحراقة التى اسمها ميمون، وشبه مواد الحراقة وحمرة النار وبياض الماء بلون البرد. وانكفأ، أصله الهمز فخفف؛ يقال: انكفأت المرأة وتكفأت؛ إذا تمايلت فى سيرها» وفى م: والديوان: «هبوة الماء» تصحيف. (¬6) المعاقرة: الملازمة. (¬7) الرشق: الرمى من جهة واحدة. والشواء المفتر: الّذي يصعد منه الفتار؛ والفتار عند العرب: ريح الشواء إذا ضهب على الجمر.

أبيات لابن الرومى وموازنتها بشعر غيره من الشعراء

صدمت بهم صهب العثانين دونهم … ضراب كإيقاد اللّظى المتسعّر يسوقون أسطولا كأنّ سفينه … سحائب صيف؛ من جهام وممطر (¬1) كأنّ ضجيج البحر بين رماحهم … إذا اختلفت ترجيع عود مجرجر (¬2) تقارب من زحفيهم فكأنّما … تؤلّف من أعناق وحش منفّر فما رمت حتى أجلت الحرب عن طلى … مقصّصة فيهم، وهام مطيّر (¬3) على حين لا نقع تطوّحه الصّبا … ولا أرض تلقى للصّريع المقطّر (¬4) وكنت ابن كسرى قبل ذاك وبعده … مليّا بأن توهى صفاة ابن قيصر / جدحت له الموت الذّعاف فعافه … وطار على ألواح شطب مسمّر (¬5) مضى وهو مولى الرّيح يشكر فضلها … عليه، ومن يولى الصّنيعة يشكر قال: فاستجاد المكتفى قوله: * على حين لا نقع تطوّحه الصّبا* [أبيات لابن الرومى وموازنتها بشعر غيره من الشعراء: ] فقال له يحيى بن على: أنشدنى ابن الرومى شعرا له فى هذا المعنى: ولم أتعلّم قطّ من ذى سباحة … سوى الغوص، والمضعوف غير مغالب (¬6) ولم لا؟ ولو ألقيت فيها وصخرة … لوافيت منها القعر أوّل راسب وأيسر إشفاقى من الماء أنّنى … أمرّ به فى الكوز مرّ المجانب وأخشى الرّدى منه على كلّ شارب … فكيف بأمنيه على كلّ راكب! ¬

_ (¬1) الأسطول: جماعات السفن. وفى حاشيتى الأصل، ف: «قال ش: ذكر لى أستاذى عند قراءة شعر البحترى عليه بأصبهان أن الأسطول لغة مصرية؛ وهى عندهم عبارة عن جماعة العسكر الذين يتوجهون إلى البحر بحوائجهم؛ فهم بمجموع مراكبهم وحراقاتهم وشباراتهم وتجارهم أسطول؛ ويشتكى أهل مصر فيقولون: ما جاءنا العام أسطول». وفى حاشية الأصل أيضا: «الشبارات: نوع من المراكب البحرية». (¬2) العود: المسن من الإبل. (¬3) الطلى: جمع طلية؛ وهى صفحة العنق؛ ومقصصة: مقطعة. ورواية الديوان: «طلى مقطعة». (¬4) يقال: طعنه فقطره؛ أى ألقاه على قطره، أى جانبه، فنقطر. (¬5) جدحت: خلطت؛ والشطب فى الأصل: الفرس الطويل؛ وجعل المركب شطبا على التشبيه لما ركبه ونجا. (¬6) ديوانه الورقة 23؛ مع اختلاف فى ترتيب الأبيات.

فقلت له: إنما أخذ ابن الرومىّ بيته الثالث من قول أبى نواس؛ فقال المكتفى بالله: فما قال؟ قلت: حدثنى عليّ بن سراج المصرىّ قال حدثنى أبو وائل اللخمىّ قال حدثنى إبراهيم بن الخصيب قال: وقف أبو نواس بمصر على النيل؛ فرأى رجلا قد أخذه التمساح فقال: أضمرت للنّيل هجرانا ومقلية … مذ قيل لى: إنّما التمساح فى النّيل فمن رأى النّيل رأى العين من كثب … فما أرى النّيل إلّا فى البواقيل قال الصولىّ: والبواقيل سفن صغار. ثم أجرى المكتفى بعد ذلك ذكر الشيب، فقال: العرب تقول أظلم من شيب، وقد شبت، وظلمنى المشيب؛ وشبت يا صولىّ، فقلت: جواب عبدك فى هذا جواب معن بن زائدة الشيبانىّ لجدّك المنصور وقد قال له: كبرت يا معن، فقال: فى طاعتك يا أمير المؤمنين، قال: وإنّك لتتجلّد، قال: على أعدائك، قال: وفيك بحمد الله بقيّة، قال: لخدمتك. فنزع المكتفى عمامته، فإذا شيبتان فى مقدّم رأسه، فقال: لقد غمّنى طلوع هاتين الشيبتين، فقلت له: إنما يعيش الناس فى الشيب؛ فأما السواد فلا يصحب الناس خالصا أكثر من أربعين سنة إلى الخمسين/، وقد يعاش فى البياض الّذي لا سواد فيه ثمانون سنة. وأنشده يحيى ابن عليّ فى معنى طول العمر مع المشيب قول امرئ القيس: ألا إنّ بعد العدم للمرء قنوة … وبعد المشيب طول عمر وملبسا (¬1) وأنشدته أنا أيضا أبياتا أنشدها إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ لبعض القيسيين: لم ينتقص منى المشيب قلامة … الآن حين بدا ألبّ وأكيس والشّيب إن يظهر فإنّ وراءه … عمرا يكون خلاله متنفّس قال سيدنا أدام الله تمكينه: أما قول البحترىّ: «مضى وهو مولى الريح» فقد كرر معناه فى قوله من قصيدة يمدح بها أبا سعيد الثّغريّ: ¬

_ (¬1) ديوانه: 142؛ والقنوة: المال.

أشلى على منويل أطراف القنا … فنجا عتيق عتيقة جرداء (¬1) ولو أنّه أبطأ لهنّ هنيهة … لصدرن عنه، وهنّ غير ظماء فلئن تبقّاه القضاء لوقته … فلقد عممت جنوده بفناء وأظنه أخذ هذا المعنى من قول أبى تمام فى قصيدة يمدح بها المعتصم، ويذكر فتح الخرميّة (¬2). لولا الظّلام وقلّة علقوا بها … باتت رقابهم بغير قلال (¬3) فليشكروا جنح الظّلام ودروزا … فهم لدروز والظلام موالى (¬4) وقد أخطأ الصولىّ فى تفسير بيت أبى نواس بأن البواقيل سفن صغار؛ لأن البواقيل جمع بوقال؛ وهو آلة على هيئة الكوز معروفة؛ تعمل من الزجاج وغيره؛ وهذا مثل قول ابن الرومىّ: * أمرّ به فى الكوز مرّ المجانب* وإنما أراد أننى لا أمرّ بماء النيل إلا إذا أردت شربه فى كوز أو بوقال. وأظن الصولىّ استمر عليه الوهم من جهة قوله: «فما أرى النيل» وصرف ذلك إلى أنه أراد النيل على الحقيقة؛ وإنما أراد ماء النيل؛ وما علمت أن السفن الصغار يقال لها بواقيل إلا من قول الصولىّ، هذا ولو كان ما ذكره صحيحا من أنّ ذلك اسم لصغار السفن لكان بيت أبي نواس بما ذكرناه أشبه/ وأليق وأدخل فى معنى الشعر؛ وكيف تدخل الشّبهة فى ذلك مع قوله: ¬

_ (¬1) ديوانه 1: 5؛ أشلى: أغرى. ومنويل: اسم قلعة والعتيقة هنا: الفرس. (¬2) الخرمية: فرق تنسب إلى بابك الخرمى؛ خرج من كورة بفارس تدعى البذ، وأثار فتنة على الخليفة سنة 210؛ وامتدت زمن المأمون والمعتصم؛ إلى أن قتل بعد حوادث دامية فى أزمان متطاولة؛ على يد الأفشين قائد المعتصم سنة 223. (¬3) ديوانه: 262. (¬4) دروز: موضع فى ثغر أذربيجان؛ كذا ذكره ياقوت وأورد بيتى أبى تمام.

طائفة من أقوال الشعراء فى مدح الشيب وتفضيله

* فمن رأى النيل رأى العين من كثب* ومن رأى النيل فى السفن فقد رآه من كثب، ومن رأى ماءه فى الآنية على بعد لا يكون رائيا له من كثب. *** [طائفة من أقوال الشعراء فى مدح الشيب وتفضيله: ] فأما مدح الشيب وتفضيله على الشباب فقد قال فيه الناس فأكثروا؛ فمما تقدم من ذلك قول رؤبة بن العجّاج؛ ويقال إن رؤبة لم يقل من القصيدة إلا هذين البيتين: أيّها الشّامت المعيّر بالشّي … ب أقلّنّ بالشّباب افتخارا قد لبست الشّباب غضّا جديدا … فوجدت الشّباب ثوبا معارا ولعلىّ بن جبلة: جفا طرب الفتيان وهو طروب … وأعقبه قرب الشّباب مشيب تجافت عيون البيض عنه، وربّما … مددن إليه الوصل وهو حبيب لعمرى لنعم الصّاحب الشّيب واعظا … وإن كان منه للعيون نكوب خليط نهى، منتاب حلم؛ وإنّه … على ذاك مكروه الخلاط مريب ولآخر: وتنكّرت شيبى فقلت لها: … ليس المشيب بناقص عمرى سيّان شيبى والشّباب إذا … ما كنت من عمرى على قدر ولآخر: إن أكن قد رزئت أسود كالفح … م وأعقبت مثل لون الثّغامة (¬1) فلقد أسعف الكريم وأحبو … أهله بالنّدى وآبى الظّلامه ¬

_ (¬1) الثغامة: نبت أبيض يشبه به الشيب.

غير أنّ الشّباب كان رداء … خاننا فيؤه كفئ الغمامة ولآخر: إنّ المشيب رداء الحلم والأدب … كما الشّباب رداء اللهو واللّعب تعجّبت إذ رأت شيبى فقلت لها: … لا تعجبى، من يطل عمر به يشب (¬1) ولابن الجهم: حسرت عنّى القناع ظلوم … وتولّت ودمعها مسجوم (¬2) / أنكرت ما رأت برأسى فقالت: … أمشيب أم لؤلؤ منظوم! قلت: شيب وليس عيبا، فأنّت … أنّة يستثيرها المهموم شدّ ما أنكرت تصرّم عهد … لم يدم لى، وأىّ شيء يدوم! ولأبى هفّان: تعجّبت درّ من شيبى فقلت لها: … لا تعجبى فطلوع الشّيب فى السّدف (¬3) وزادها عجبا لما رأت سملى … وما درت درّ أنّ الدّر فى الصّدف (¬4) وقد أحسن أبو تمام غاية الإحسان فى قوله: أبدت أسى أن رأتنى (¬5) مخلس القصب (¬6) … وآل ما كان من عجب إلى عجب (¬7) ¬

_ (¬1) د، ف، حاشية الأصل من نسخة: «تعجبت أن رأت شيبى». (¬2) ديوانه: 176 - 177؛ وظلوم: اسم امرأة. (¬3) حماسة ابن الشجرى: 245؛ والسدف: الظلمات. (¬4) السمل، محركة: الثوب الخلق البالى، ومن نسخة بحاشية الأصل: «أن رحت فى سمل»؛ وهى رواية الحماسة. (¬5) ديوانه: 15، والشهاب 10، وفى حاشية الأصل (من نسخة): «إذ رأتنى»، وهى رواية الشهاب والديوان. (¬6) يقال: أخلس النبت؛ إذا جف أعلاه وابيض، وفى حاشية الأصل: «القصب: الذوائب المقصبة؛ الواحدة قصبة وتجمع قصائب، يقال: قصب، فيسكن». وبخط الشجرى: «القصب»، بضم ففتح. (¬7) حاشية الأصل: «أى كانت تعجب بى فصارت تعجب من شيبى». وفى الشهاب: «أما قوله: «من عجب إلى عجب» فمن البلاغة الحسنة والاختصار السديد البارع».

ستّ وعشرون تدعونى فأتبعها … إلى المشيب ولم تظلم ولم تحب (¬1) فلا يؤرّقك إيماض القتير به … فإنّ ذاك ابتسام الرّأى والأدب (¬2) وللبحترىّ: عيّرتني بالشيب وهى رمته … فى عذارى بالصّدّ والاجتناب (¬3) لا تريه عارا فما هو بالشّي … ب ولكنّه جلاء الشّباب (¬4) وبياض البازىّ أصدق حسنا … إن تأمّلت من سواد الغراب وله: ها هو الشّيب لائما فأفيقى … واتركيه إن كان غير مفيق (¬5) فلقد كفّ من عناء المعنّى (¬6) … وتلافى من اشتياق المشوق ¬

_ (¬1) لم تحب: لم تأثم؛ والحوب: الإثم، وبعده فى الديوان: يومى من الدهر مثل الدّهر مشتهر … عزما وحزما وساعى منه كالحقب فأصغرى أنّ شيبا لاح بى حدثا … وأكبرى أننى فى المهد لم أشب. (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «فلا يغرنك». والقتير: الشيب، أو أوله. وفى الشهاب للمرتضى: «وقوله: * فإن ذاك ابتسام الرأى والأدب* يريد أن الرأى والأدب والحلم إنما يجتمع ويتكامل فى أوان الكبر والشيب دون زمان الشباب، وقد تصف الشعراء أبدا الشيب بأنه تبسم فى الشعر لبياضه؛ إلا أن هذه من أبى تمام تسلية عن الشيب وتنبيه على منفعته». (¬3) ديوانه 1: 7، والشهاب: 25. وفى حاشية الأصل: * عيّرتنى المشيب وهى بدته* وهى رواية الديوان؛ وبدته، مخفف من بدأته بالهمز. وفى حاشية الأصل أيضا (من نسخة): «جنته». (¬4) لا تريه: لا تظنه. وفى حاشية الأصل: «جعل سواد الشباب وسخا وصدأ على الشخص والشيب جلاء له». (¬5) ديوانه 2: 125، والشهاب: 25، وحماسة ابن الشجرى: 243 - 244، وفى حاشيتى الأصل، ف: «يقول: أيتها العاذلة، أفبقي من عذله وملامته، فقد أقبل الشيب يلومه وبعذله، ولا حاجة إلى عذلك وإن لم يفق فاتركيه». (¬6) د، والحماسة والشهاب. «عن عناء المعنى».

عذلتنا فى عشقها أمّ عمرو … هل سمعتم بالعاذل المعشوق (¬1) ورأت لمّة ألمّ بها الشّ … يب فريعت من ظلمة فى شروق ولعمرى لولا الأقاحى لأبصر … ت أنيق الرّياض غير أنيق وسواد العيون لو لم يكمّل … ببياض ما كان بالموموق (¬2) / ومزاج الصّهباء بالماء أملى (¬3) … بصبوح مستحسن وغبوق أىّ ليل يبهى بغير نجوم … أو سماء تندى بغير بروق! ويشبه أن يكون أخذ قوله: * أىّ ليل يبهى بغير نجوم* من قول الشاعر: أشيب ولم أقض الشّباب حقوقه … ولم يمض من عهد الشّباب قديم (¬4) رأت وضحا فى مفرق الرّأس راعها … وشتّان مبيضّ به وبهيم تفاريق شيب فى الشّباب لوامع … وما حسن ليل ليس فيه نجوم! ولمحمود الوراق فى مثل هذا المعنى وهو قوله: ما الدّرّ منظوما بأحسن من … شيب يجلّل هامة الكهل وكأنّه فيها النّجوم إذا … جدّ المسير بها على مهل لا تبكينّ على الشّباب إذا … يبكى الجهول عليه للجهل واشكر لشيبك حسن صحبته … فلقد كساك جلالة الفضل ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «إنما عذلته لأنه شاخ والعشق مع الشيخوخة لا يستحسن». (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «بالمرموق»؛ . (¬3) فى حاشيتى الأصل: «أملى، مخفف من أملأ؛ أى أوثق؛ يقال: ملؤ فلان بذلك؛ إذا كان ثقة به، وفلان أملأ بكذا من فلان». (¬4) البيت الأول والثالث فى حماسة ابن الشجرى: 244، من غير نسبة.

ولآخر فى مدح الشيب: لا يرعك المشيب يا ابنة عبد ال … لمّه فالشّيب حلية ووقار (¬1) إنما تحسن الرّياض إذا ما … ضحكت فى خلالها الأنوار ولي فى هذا المعنى من قصيدة: جزعت لو خطات المشيب وإنما … بلغ الشّباب مدى الكمال فنوّرا والشّيب إن فكّرت فيه مورد … لا بدّ يورده الفتى إن عمّرا يبيضّ بعد سواده الشّعر الّذي … إن لم يزره الشّيب واراه الثّرى وممن عدل بين الشيب والشباب، ومدح كل واحد منهما طريح بن إسماعيل الثقفى فقال: والشّيب للحكماء من سفه الصّبا … بدل يكون الّذي الفضيلة مقنع / والشّيب غاية من تأخّر حينه … لا يستطيع دفاعه من يجزع إنّ الشّباب له لذاذة جدّة … والشّيب منه فى المغبّة أنفع لا يبعد الله الشّباب فمرحبا … بالشيب حين أوى إليه المرجع ومثله لآخر: وكان الشباب الغضّ لى فيه لذّة … فوقّرنى عنه المشيب وأدّبا فسقيا ورعيا للشباب الّذي مضى … وأهلا وسهلا بالمشيب ومرحبا ¬

_ (¬1) حماسة ابن الشجرى: ونسبهما إلى على بن الجهم.

46

[46] مجلس آخر [المجلس السادس والأربعون: ] تأويل آية [: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ... ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ؛ [البقرة: 186] فقال: كيف ضمن الإجابة وتكفّل بها، وقد نرى من يدعو فلا يجاب؟ . الجواب، قلنا فى ذلك وجوه. أوّلها أن يكون المراد بقوله تعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ أى أسمع دعوته؛ ولهذا يقال للرجل: دعوت من لا يجيب أى دعوت من لا يسمع. وقد يكون أيضا يسمع بمعنى يجيب؛ كما كان يجيب بمعنى يسمع؛ يقال: سمع الله لمن حمده؛ يراد به: أجاب الله من حمده وأنشد ابن الأعرابىّ: دعوت الله حتى خفت ألّا … يكون الله يسمع ما أقول أراد يجيب ما أقول. وثانيها أنّه تعالى لم يرد بقوله: قَرِيبٌ من قرب المسافة؛ بل أراد أننى قريب بإجابتى ومعونتى ونعمتى، أو بعلمى بما يأتى العبد ويذر، وما يسرّ ويجهر، تشبيها بقرب المسافة؛ لأن من قرب من غيره عرف أحواله ولم تخف عليه؛ ويكون قوله: أُجِيبُ على هذا تأكيدا للقرب؛ فكأنه أراد: إننى قريب قربا شديدا، وإننى بحيث لا يخفى عليّ أحوال العباد؛ كما يقول القائل إذا وصف نفسه بالقرب من صاحبه والعلم بحاله: أنا بحيث أسمع كلامك، وأجيب نداءك، وما جرى هذا المجرى. وقد روى أن قوما سألوا الرسول صلى الله عليه وآله فقالوا/ له: أربّنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وثالثها أن يكون معنى هذه الآية أننى أجيب دعوة الداعى إذا دعانى على الوجه الصحيح، وبالشرط الّذي يجب أن يقارن الدعاء؛ وهو أن يدعو باشتراط المصلحة؛ ولا يطلب وقوع ما يدعو به على كل حال؛ ومن دعا بهذا الشرط فهو مجاب على كل حال؛ لأنه إن كان صلاحا فعل ما دعا به؛ وإن لم يكن صلاحا لم يفعل لفقد شرط دعائه، فهو أيضا مجاب إلى دعائه. ورابعها أن يكون معنى دَعانِ أى عبدنى، وتكون الإجابة هى الثواب والجزاء على ذلك؛ فكأنه قال: إننى أثيب العباد على دعائهم لى؛ وهذا مما لا اختصاص فيه. وخامسها ما قاله قوم من أنّ معنى الآية أنّ العبد إذا سأل الله تعالى شيئا فى إعطائه صلاح فعله به وأجابه إليه، وإن لم يكن فى إعطائه إياه فى الدنيا صلاح وخيرة لم يعطه ذلك فى الدنيا، وأعطاه إياه فى الآخرة، فهو مجيب لدعائه على كل حال. وسادسها أنّه إذا دعاه العبد لم يخل من أحد أمرين: إمّا أن يجاب دعاؤه، وإمّا أن يخار له بصرفه عما سأل ودعا، فحسن اختيار الله له يقوم مقام الإجابة، فكأنه يجاب على كل حال. وهذا الجواب يضعّف لأنّ العبد ربما سأل ما فيه صلاح ومنفعة له فى الدنيا، وإن كان فيه فساد فى الدين لغيره فلا يعطى ذلك، لأمر يرجع إليه، لكن لما فيه [من فساد غيره، فكيف يكون مجابا مع المنع الّذي] (¬1) لا يرجع إليه منه شيء من الصلاح! اللهم إلّا أن يقال: إنه دعا؛ مشروط بأن يكون صلاحا، ولا يكون فسادا، وهذا مما تقدم. ومعنى قوله تعالى فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، أى فليجيبونى وليصدّقوا رسلى، قال الشاعر: وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى … فلم يستجبه عند ذاك مجيب (¬2) ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل، وتكملته من د، ف. (¬2) مطلع قصيدة كعب بن سعد الغنوى؛ وهى فى أمالى القالى 2: 148 - 151.

طائفة من أقوال الشعراء فى ذم الشيب والتألم به

أى لم يجبه. *** [طائفة من أقوال الشعراء فى ذم الشيب والتألم به: ] قال سيدنا أدام الله علوّه: وإذ كنا قد ذكرنا فى المجالس المتقدمة لهذا المجلس طرفا من الشعر فى تفضيل الشيب وتقديمه، والتعزّى عنه، والتسلّى عن نزوله؛ فنحن متبعوه بطرف مما قيل فى ذمّه والتألم به والجزع منه. فمن ذلك قول أبى حيّة النميرىّ: / ترحّل بالشّباب الشّيب عنّا … فليت الشّيب كان به الرّحيل (¬1) وقد كان الشباب لنا خليلا … فقد قضى مآربه الخليل لعمر أبى الشباب لقد تولّى … حميدا ما يراد به بديل (¬2) إذ الأيام مقبلة علينا … وظلّ أراكة الدّنيا ظليل وقال الفرزدق: أرى الدّهر، أيام المشيب أمره … علينا، وأيام الشباب أطايبه (¬3) وفى الشيب لذّات وقرّة أعين … ومن قبله عيش تعلّل جاد به (¬4) إذا نازل الشّيب الشباب فأصلتا … بسيفيهما، فالشّيب لا بدّ غالبه فيا خير مهزوم، ويا شرّ هازم … إذا الشّيب وافت للشّباب كتائبه وليس شباب بعد شيب براجع … مدى الدّهر حتى يرجع الدّرّ حالبه وما المرء منفوعا بتجريب واعظ … إذا لم تعظه نفسه وتجاربه وأنشد إسحاق الموصلىّ: ¬

_ (¬1) حماسة ابن الشجرى: 239، مع اختلاف فى ترتيب الأبيات. (¬2) الحماسة: «لا يراد به بديل». (¬3) ديوانه: 1: 52. (¬4) فى حاشيتى الأصل، ف. جاد به: عائبه، أى لم يجد عيبا فتعلل وجها يتمحل به باطلا ومنه قول ذى الرمة: فيا لك من خد أسيل، ومنطق … رخيم، ومن خلق تعلل جاد به.

لعمرى لئن حلّئت عن منهل الصّبا … لقد كنت ورّادا لمشربه العذب (¬1) ليالى أمشى بين بردىّ لاهيا … أميس كغصن البانة النّاعم الرّطب سلام على سير القلاص مع الرّكب … ووصل الغوانى والمدامة والشّرب سلام امرئ لم تبق منه بقيّة … سوى منظر العينين أو شهوة القلب (¬2) ولمنصور النّمرىّ: ما تنقضى حسرة منى ولا جزع … إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع (¬3) بان الشباب ففاتتنى بشرّته … صروف دهر وأيام لها خدع ما كنت أو فى شبابى كنه عزّته … حتّى مضى فإذا الدّنيا له تبع (¬4) ولمحمد بن أبى حازم: عهد الشباب، لقد أبقيت لى حزنا … ما جدّ ذكرك إلّا جدّ لى ثكل (¬5) سقيا ورعيا لأيّام الشّباب وإن … لم يبق منك له رسم ولا طلل جرّ الزّمان ذيولا فى مفارقه … وللزّمان على إحسانه علل (¬6) وربّما جرّ أذيال الصّبا مرحا … وبين برديه غصن ناعم خضل لا تكذبنّ فما الدّنيا بأجمعها … من الشباب بيوم واحد بدل كفاك بالشّيب عيبا عند غانية … وبالشّباب شفيعا أيها الرّجل ¬

_ (¬1) حلئت: طردت ومنعت. (¬2)؛ ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «نظر العينين». (¬3) حماسة ابن الشجرى: 239. (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): ما كدت أوفى شبابى كنه شرّته … حتى مضى فإذا الدّنيا لها تبع. (¬5) من أبيات فى الأغانى 12: 152 - 153 مجموعها ثلاثة عشرة بيتا؛ وأبيات منها فى الورقة: 110، وحماسة ابن الشجرى: 239. (¬6) فى حاشيتى الأصل، ف: «أى للزمان علل على تركه الإحسان؛ ويجوز أن يكون المعنى: له مع إحسانه علل».

ولأبى نواس: كان الشباب مطيّة الجهل … ومحسّن الضّحكات والهزل (¬1) كان الجميل إذا ارتديت به (¬2) … ومشيت أخطر صيّت النّعل كان البليغ إذا نطقت به … وأصاخت الآذان للمملى كان المشفّع فى مآربه … عند الحسان ومدرك التّبل والباغي والناس قد هجعوا … حتّى أبيت خليفة البعل والآمرى حتّى إذا عزمت … نفسى أعان عليّ بالفعل فالآن صرت إلى مقاربة … وحططت عن ظهر الصّبا رحلى قال سيدنا رضى الله عنه: وعلى هذا الكلام طلاوة ومسحة من أعرابية ليستا لغيره. ولبشار: الشّيب كره، وكره أن يفارقنى … أعجب بشيء على البغضاء مودود (¬3) يمضى الشّباب ويأتى بعده خلف … والشّيب يذهب مفقودا بمفقود وهذا البيت الأخير يروى لمسلم بن الوليد الأنصارى. ومما أحسن فيه مسلم فى هذا المعنى قوله: طرفت عيون الغانيات وربما … أملن إلى الطّرف كلّ مميل (¬4) / وما الشّيب إلا شعرة، غير أنّه (¬5) … قليل قذاة العين غير قليل ¬

_ (¬1) ديوانه: 311. (¬2) ديوانه: «كان الجمال». (¬3) البيتان فى حماسة ابن الشجرى: 245، ونسبهما إلى مسلم. (¬4) البيتان فى حماسة ابن الشجرى: 242، ونسبهما لابن الرومى؛ وفى حاشيتى الأصل، ف: «يقال: فلان مطروف العين بفلان؛ أى يحبه. والمعنى أنه وقع فى عينه، يقال: طرفت عينه بشوكة وبحاشية ثوب؛ وأصله من طرفته إذا أصبت طرفه، ورأسته إذا أصبت رأسه». (¬5) الحماسة: * وما شبت إلّا شيبة غير أنّه*.

وله: أهلا بوافدة للشّيب واحدة … وإن تراءت بشخص غير مودود لا أجمع الحلم والصّهباء قد سكنت … نفسى إلى الماء عن ماء العناقيد لم ينهنى كبر عنها ولا فند … لكن صحوت وغصنى غير مخضود أوفى بى الحلم وافتاد النّهى طلقا … شأوى وعفت الصّبا من غير تفنيد (¬1) وقد أحسن دعبل فى قوله يصف الشباب والشيب: كان كحلا لمآقيها فقد … صار بالشّيب لعينيها قذى ولغيره: رأت طالعا للشيب أغفلت أمره … فلم تتعاهده أكفّ الخواضب (¬2) فقالت: أشيب ما أرى؟ قلت: شامة … فقالت: لقد شانتك بين الحبائب (¬3) ولمحمود الورّاق- ويروى لمحمد بن حازم (¬4): أليس عجيبا بأنّ الفتى … يصاب ببعض الّذي فى يديه فمن بين باك له موجع … وبين معزّ مغذّ إليه ويسلبه الشيب شرخ الشباب … فليس يعزّيه خلق عليه (¬5) ولأبى دلف: فى كلّ يوم أرى بيضاء طالعة … كأنّما طلعت فى أسود البصر لئن قصصتك بالمقراض عن بصرى … لما قصصتك عن همّى وعن فكرى ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «يقال عدا طلقا وشأوا إذا عدا عدوا شديدا إلى غاية». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «تتعهده». (¬3) حاشية الأصل (من نسخة) «شامتك». (¬4) فى الأصل: «محمد بن أبى حازم»، وصوابه من ف. (¬5) حاشية الأصل: «يقول: عجبت من الناس يعزى بعضهم بعضا على فوت المال، ولا يعزون على فوت الشباب».

وليحيى بن خالد بن برمك (¬1) - ويروى لغيره: اللّيل شيّب والنهار كلاهما … رأسى بكثرة ما تدور رحاهما يتناهبان نفوسنا ودماءنا … ولحومنا عمدا ونحن نراهما والشّيب إحدى الميتتين تقدّمت … أولاهما وتأخّرت أخراهما / وقد أتى الفحلان المبرّزان أبو تمام وأبو عبادة فى هذا المعنى بكل غريب عجيب. فمن ذلك قول أبى تمام: غدا الهمّ مختطا بفودىّ خطّة … طريق الرّدى منها إلى الموت مهيع (¬2) هو الزّور يجفى، والمعاشر يجتوى … وذو الإلف يقلى، والجديد يرقّع له منظر فى العين أبيض ناصع … ولكنّه فى القلب أسود أسفع ونحن نرجّيه على الكره والرّضا … وأنف الفتى من وجهه وهو أجدع (¬3) وله: شعلة فى المفارق استودعتنى … فى صميم الفؤاد ثكلا صميما (¬4) تستثير الهموم ما اكتنّ منها … صعدا وهى تستثير الهموما غرّة (¬5) مرّة ألا إنما كن … ت أغرّا أيّام كنت بهيما ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «البرمكي». (¬2) ديوانه: 190، والشهاب: 6؛ وحماسة ابن الشجرى: 241 - 242. وفى م قبل هذا البيت: لئن جزع الوحشىّ منها لرؤيتى … لإنسيّها من شيب رأسى أجزع وفى حماسة ابن الشجرى: «غدا الشيب»، وفى م: «غدا العمر». وفى حاشية الأصل (من نسخة): «إلى النفس مهيع»، وهى رواية الديوان؛ ومهيع: واسع. (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «يجدع». (¬4) ديوانه: 291، وحماسة ابن الشجرى: 241، والشهاب: 7. (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «عرة» أى عيب.

دقّة فى الحياة تدعى جلالا … مثل ما سمّى اللّديغ سليما (¬1) حلّمتنى- زعمتم- وأرانى … قبل هذا التّحليم كنت حليما وله: لعب الشّيب بالمفارق بل جدّ … فأبكى تماضرا ولعوبا (¬2) خضبت خدّها إلى لؤلؤ العق … د دما أن رأت شواتى خضيبا كلّ داء يرجى الدّواء له إ … لا الفظيعين: ميتة ومشيبا يا نسيب الثّغام ذنبك أبقى … حسناتى عند الحسان ذنوبا ولئن عبن ما رأين لقد أن … كرن مستنكرا وعبن معيبا أو تصدّعن عن قلى لكفى بال … شيب بينى وبينهنّ حسيبا لو رأى الله أنّ فى الشّيب فضلا … جاورته الأبرار فى الخلد شيبا قال سيدنا أدام الله علوّه: وجدت الآمدىّ يذكر أن قوما ادّعوا المناقضة على أبى تمام فى هذه الأبيات بقوله: لعب الشّيب بالمفارق بل جدّ … فأبكى تماضرا ولعوبا* وقوله: خضبت خدّها إلى لؤلؤ العق … د دما أن رأت شواتى خضيبا يا نسيب الثّغام ذنبك أبقى … حسناتى عند الحسان ذنوبا / وقوله: ولئن عبن ما رأين لقد أن … كرن مستنكرا وعبن معيبا ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «مثل، بنى لإضافته إلى «ما»، ويجوز أن يكون صفة لمحذوف، أى تدعى جلالا دعوة مثل تسمية اللديغ سليما». (¬2) ديوانه: 25، 26، والشهاب: 9.

قالوا: كيف يبكين دما على شيبه ثم يعبنه! قال الآمدىّ: وليس هذا بتناقض؛ لأن الشيب إنما أبكى تماضر ولعوب أسفا على شبابه، والحسان اللواتى عبنه غير هاتين المرأتين، فيكون من أشفق عليه من الشيب منهن وأسف على شبابه بكى؛ كما قال الأخطل: لمّا رأت بدل الشباب بكت له … إنّ المشيب لأرذل الأبدال (¬1) ولم يكن هذه حال من عابه. قال: وهذا مستقيم صحيح. قال سيدنا أدام الله علوّه: وليس يحتاج فى الاعتذار لأبى تمام إلى ما تكلفه الآمدىّ؛ بل المناقضة زائلة عنه على كل حال، وإن كان من قد بكى شبابه، وتلهف عليه من النساء هنّ اللواتى أنكرن شيبه، وعبنه به، وما المنكر من ذلك! وكيف يتناقض أن يبكى على شبابه ونزول شيبه منهن من رأين الشيب ذنبا وعيبا منكرا! وفى هذا غاية المطابقة؛ لأنه لا يبكى الشيب، ويجزع من حلوله وفراق الشباب إلّا من رآه منكرا ومعيبا. وقال أبو تمام: راحت غوانى الحىّ عنك غوانيا … يلبسن نأيا تارة وصدودا (¬2) من كلّ سابغة الشباب إذا بدت … تركت عميد القريتين عميدا أرببن بالمرد الغطارف بدّنا … غيدا ألفهم لدانا غيدا أحلى الرّجال من النّساء مواقعا … من كان أشبههم بهنّ خدودا وقوله: «أرببن بالمرد» من أربّ بالشيء إذا لزمه، وأقام عليه، يقال: أربّ وألبّ بالمكان إذا لزمه: يريد أنهن لزمن هوى المرد وأقمن عليهم. ورواه قوم «أربين بالمرد» من الرّبا الّذي معناه الزيادة، يقال: قد أربى الرجل إذا ازداد؛ فيقول: أربين بالمرد، أى زدن علينا بهم، وجعلن للمرد زيادة اخترنها علينا (¬3). ¬

_ (¬1) ديوانه 158. (¬2) ديوانه: 87 - 88. (¬3) انظر الشهاب: 10.

ويقال (¬1): إنه أخذ قوله: * أحلى الرجال من النساء مواقعا* ... البيت من قول الأعشى: وأرى الغوانى لا يواصلن امرأ … فقد الشّباب وقد يصلن الأمردا (¬2) / ولمنصور النّمرىّ مثله: كرهن من الشّيب الّذي لو رأينه … بهنّ رأين الطّرف عنهنّ أزورا ونحوه قول الآخر: أرى شيب الرّجال من الغوانى … كوقع مشيبهنّ من الرّجال وقال أبو تمام: شاب رأسى وما رأيت مشيب ال … رّأس إلّا من فضل شيب الفؤاد (¬3) وكذاك القلوب فى كلّ بؤس … ونعيم طلائع الأجساد طال إنكارى البياض وإن عمّ … رت شيبا أنكرت لون السّواد (¬4) زادنى شخصه بطلعة ضيم … عمّرت مجلسى من العوّاد نال رأسى من ثغرة الهمّ لمّا … لم ينله من ثغرة الميلاد (¬5) ومعنى هذا البيت الأخير أن «الثغر» هى الفرجة والثّلمة تكون فى الشيء؛ ولذلك سمّى كل بلد جاور عدوا ثغرا؛ كأن معناه مكشوف للعدو. ويجوز أن يكون أصله من ثغر الإنسان، لأنه أول ما يقابلك من أسنانه، وأول ما يظهر عند الكلام، وأول ما يسقط فيرى مثلوما، فيشبّه الثّغر الّذي هو البلد؛ يقال اثّغر الصبىّ واتّغر؛ وتسمى تلك الفرجة فى موضع ¬

_ (¬1) الموازنة: 30. (¬2) ديوانه: 151؛ والرواية: «وأرى الغوانى». (¬3) ديوانه: 75. (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «ولو عمرت شيئا» أى تعميرا، وهى رواية الديوان. (¬5) حاشية الأصل: يروى: «من ثغرة الهم ما لم* تشتمله».

السن ثغرة وفى كل موضع منفرج؛ ومنه ثغرة النّحر. وأراد بقوله: * نال رأسى من ثغرة الهم لمّا* أى وجد الشيب من الهم فرجة دخل على رأسى منها؛ لأن الهمّ يشيب لا محالة. وقوله: * ما لم ينله من ثغرة الميلاد* أراد بثغرة الميلاد الوقت الّذي يهجم عليه فيه الشّيب من عمره؛ لأنه يجد السبيل فى ذلك الوقت إلى الحلول برأسه؛ فجعله ثغرة من هذا الوجه؛ فأراد أن الشيب حلّ برأسه من جهة همومه وأحزانه لمّا لم يبلغ السن التى توجب حلوله به من حيث كبره. ورأيت الآمدىّ يطعن على قوله: * عمرت مجلسى من العوّاد* ويقول: لا حقيقة لذلك ولا معنى، لأنا ما رأينا ولا سمعنا أحدا/ جاءه عواد يعودونه من المشيب؛ ولا أن أحدا أمرضه الشّيب، ولا عزّاه المعزون عن الشباب؛ وهذا من الآمدىّ قلة نقد للشّعر وضعف بصيرة بدقيق معانيه التى يغوص عليها حذاق الشعراء؛ ولم يرد أبو تمام بقوله: * عمرت مجلسى من العوّاد* العيادة الحقيقية التى يغشى فيها العوّاد مجالس المرضى وذوى الأوجاع، وإنما هذه استعارة وتشبيه وإشارة إلى الغرض خفيّة؛ فكأنه أراد أنّ شخص الشيب لما زارني كثر المتوجعون لى، والمتأسفون على شبابى، والمتوحشون (¬1) من مفارقته؛ فكأنهم فى مجلسى عوّاد لى، لأن من شأن العائد للمريض أن يتوجّع ويتفجع. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «والمتفجعون».

وكنى بقوله: * عمرت مجلسى من العوّاد* عن كثرة من تفجع له وتوجّع من مشيبه؛ وهذا من أبى تمام كلام فى نهاية البلاغة والحسن؛ وما المعيب إلا من عابه وطعن عليه؛ ونحن نذكر فى المجلس الآتى بمشيئة الله ما للبحترىّ فى هذا المعنى إن شاء الله.

47

[47] مجلس آخر [المجلس السابع والأربعون: ] تأويل آية [: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ... ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ؛ [النحل: 10]. فقال: إذا كان الشجر ليس ببعض للماء كما كان الشراب بعضا له؛ فكيف جاز أن يقول: وَمِنْهُ شَجَرٌ بعد قوله: مِنْهُ شَرابٌ؟ وما معنى تُسِيمُونَ؟ وهل الفائدة فى هذه اللفظة هى الفائدة فى قوله: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ؛ [آل عمران: 14]، وقوله: وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ [هود: 82، 83]؟ . الجواب، قلنا فى قوله تعالى: وَمِنْهُ شَجَرٌ وجهان: أحدهما أن يكون المراد منه سقى شجر، وشرب شجر؛ فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه؛ وذلك كثير فى لغة العرب، ومثله قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93]، أى حبّ العجل. والوجه الآخر أن يكون المراد: ومن جهة الماء شجر، ومن سقيه وإنباته شجر؛ فخذف الأول وخلفه الثانى؛ كما قال عوف بن الخرع: أمن آل ليلى عرفت الدّيارا … بجنب الشّقيق خلاء قفارا (¬1) أراد: من ناحية آل ليلى. ¬

_ (¬1) المفضليات 412 (طبعة المعارف)، والرواية هناك: أمن آل ميّ عرفت الدّيارا … بحيث الشقيق خلاء قفارا والشقيق: ماء لبنى أسيد بن عمرو بن تميم.

وقال زهير: / أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلّم … بحومانة الدّرّاج فالمتثلّم (¬1) أراد: من ناحية أم أوفى. وقال أبو ذؤيب: أمنك البرق أرقبه فهاجا … فبتّ إخاله دهما خلاجا (¬2) وقال أيضا: أمنك برق أبيت اللّيل أرقبه … كأنّه فى عراض الشّام مصباح (¬3) وقال الجعدىّ: لمن الدّيار عفون بالتّهطال … بقيت على حجج خلون طوال أراد بقيت على مرّ حجج، وتكرار حجج. فأما قوله تعالى: فِيهِ تُسِيمُونَ فمعناه ترعون، وترسلون أنعامكم؛ يقال: أسام الإبل يسيمنا أسامة؛ إذا أرعاها وأطلقها فرعت منصرفة حيث شاءت؛ وسوّمها أيضا يسوّمها من ذلك؛ وسامت هى إذا رعت؛ فهى تسوم، وهى إبل سائمة؛ ويقال: سمتها إذا قصرتها على مرعى بعينه؛ وسمتها الخسف؛ إذا تركتها على غير مرعى؛ ومنه قيل لمن أذلّ واهتضم: سيم فلان الخسف؛ وسيم خطّة الضّيم؛ قال الكميت بن زيد فى الإسامة التى هى الإطلاق فى الرّعى (¬4): ¬

_ (¬1) أول المعلقة، ديوانه: 4. الدمنة آثار الناس وما سودوا من الرماد وغيره. ولم تبين: لم تكلم. وحومانة الدراج والمتثلم: موضعان. (¬2) ديوان الهذليين 1: 164؛ وفى حاشيتى الأصل، ف: «شبه السحاب بإبل سود، وصوت الرعد بحنينها؛ ولم يذكر السحاب إلا أن البرق دل عليه، وخلاج: جمع خلوج؛ وهى الناقة التى خلج ولدها؛ وهو فعول فى معنى مفعول، كالركوب والحلوب». (¬3) ديوان الهذليين 1: 47، واللسان (عرض)؛ وعراض الشام نواحيه؛ الواحد عرض. (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «المرعى».

راعيا كان مسجحا ففقدنا … هـ وفقد المسيم هلك السّوام (¬1) وقال آخر: وأسكن ما سكنت ببطن واد … وأظعن إن ظعنت فلا أسيم (¬2) وذهب قوم إلى أنّ السّوم فى البيع من هذا؛ لأن كل واحد من المتبايعين يذهب فيما يبيعه من زيادة ثمن أو نقصانه إلى ما يهواه، كما تذهب سوائم المواشى حيث شاءت. وقد جاء فى الحديث: «لا سوم قبل طلوع الشّمس» فحمله قوم على أن الإبل وغيرها لا تسام قبل طلوع الشّمس؛ لئلا تنتشر وتفوت الراعى ويخفى عليه مقاصدها. وحمله آخرون على أنّ السوم قبل طلوع الشّمس فى البيوع مكروه، لأن السّلعة المبيعة تستتر عيوبها أو بعضها، فيدخل ذلك/ فى بيوع الغرر المنهىّ عنها. فأما الخيل المسوّمة، فقد قيل: إنها المعلمة بعلامات؛ مأخوذ من السّيماء وهى العلامة. وروى عن الحسن البصرىّ فى قوله تعالى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ قال: سوّم نواصيها وأذنابها بالصوف. وقيل أيضا: إن المسوّمة هى الحسان. وروى عن مجاهد فى قوله تعالى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ قال: هى المطهّمة الحسان. وقال آخرون: بل هى الراعية؛ روى ذلك عن سعيد بن جبير؛ وكلّ يرجع إلى أصل واحد، وهو معنى العلامة، لأن تحسين الخيل يجرى مجرى العلامة فيها؛ التى تعرف بها وتتميز لمكانها؛ وقد قيل: إن السّوم من الرّعى يرجع إلى هذا المعنى أيضا، لأن الراعى يجعل فى المواضع التى يرعاها علامات أو كالعلامات بما يزيله من نباتها، ويمحوه من آثارها؛ فكأن الأصل فى الكلّ متفق غير مختلف. ¬

_ (¬1) مسجحا: رفيقا سهلا، وفى م: «مسيما». (¬2) د، ونسخة بحاشيتى الأصل، ف: «ما ظعنت».

طائفة من أشعار البحترى فى ذم الشيب والتألم من فقد الشباب

وقال لبيد فى التسويم الّذي هو التعليم: وغداة قاع القرنتين أتينهم … رهوا يلوح خلالها التسويم (¬1) أراد التعليم. وأما قوله فى الملائكة: مُسَوِّمِينَ؛ فالمراد به المعلمين، وكذلك قوله تعالى: حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً أى معلمة؛ وقيل: إنه كان عليها كأمثال الخواتيم. *** [طائفة من أشعار البحترىّ فى ذم الشيب والتألم من فقد الشباب] قال سيدنا أدام الله علوّه: ونعود إلى ما كنا وعدنا به من ذكر ما للبحترىّ فى ذمّ الشيب والتألم من فقد الشباب؛ فمن ذلك قوله (¬2): وكنت أرجّى فى الشّباب شفاعة … فكيف لباغى حاجة بشفيعه (¬3) مشيب كنثّ السّرّ عىّ بحمله … محدّثه، أو ضاق صدر مذيعه (¬4) تلاحق حتّى كاد يأتى بطيئه … لحثّ اللّيالى قبل أتى سريعه وما أحسن هذا من كلام! وأبلغه وأطبعه (¬5)! ¬

_ (¬1) ديوانه: 1: 104 وفى حاشية الأصل: «بعد هذا البيت: بكتائب رجح تعوّد كبشها … نطح الكباش كأنهنّ نجوم والقرنتان: موضع، ورها فى السير رهوا أى رفق، قال القطامىّ: يمشين رهوا، فلا الأعجاز خاذلة … ولا الصّدور على الأعجاز تتّكل. (¬2) ديوانه 2: 90، والشهاب: 13، وفى حاشيتى الأصل، ف: «يقول: كنت أرجى أن يكون الشباب شفيعى. ويجوز أن يكون المعنى: كنت أرجى فى شبابى شفاعة إلى الحسان من طراوتى وحسنى». (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف: «يعنى أنه جد محتاج إلى الشفيع؛ ولكنه ولى وذهب». (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «كبث السر». وفيهما أيضا: «أى أنه كان كالسر تبرم به صاحبه فأفشاه». (¬5) ذكر المرتضى فى الشهاب تعليقا على هذه الأبيات: «وهذا والله أبلغ كلام وأحسنه وأحلاه وأسلمه وأجمعه لحسن اللفظ وجودة المعنى؛ وما أحسن ما شبه تكاثر الشيب وتلاحقه بيت السر عن ضيق صدر صاحبه وإعيائه بجمله وعجزه عن طيه! ويشبه بعض الشبه قوله: * تلاحق حتى كاد يأتى بطيئه* -

وقال أيضا: ردّى عليّ الصّبا إن كنت فاعلة … إنّ الصّبا ليس من شأنى ولا أربى (¬1) جاوزت حدّ الشّباب النّضر ملتفتا … إلى بنات الصّبا يركضن فى طلبى (¬2) / والشّيب مهرب من جارى منيّته … ولا نجاء له من ذلك الهرب والمرء لو كانت الشّعرى له وطنا … صبّت عليه صروف الدّهر من كثب (¬3) وقال أيضا: لابس من شبيبة أم ناض … ومليح من شيبة أم راضى (¬4) وإذا ما امتعضت من ولع الشّ … يب برأسى لم يثن ذاك امتعاضى (¬5) ليس يرضى عن الزّمان مروّ … فيه إلّا عن غفلة أو تغاض (¬6) والبواقى من اللّيالى وإن خا … لفن شيئا فمشبهات المواضى (¬7) ناكرت لمّتى وناكرت منها … سوء هذى الأبدال والأعواض ¬

_ - قولى من أبيات: سبق احتراسى من أذاه بطيئه … حتى تجلّلنى، فكيف عجوله! وفى البيت لمحة بعيدة من بيت البحترى وليس بنظير له على التحقيق؛ ومعنى البيت الّذي يخصنى أدخل فى الصحة والتحقيق؛ لأننى خبرت بأن بطيء الشيب سبق وغلب احتراسى وحذرى؛ فكيف عجوله! ومن سبقه البطيء كيف لا يسبقه السريع! والبحترى قال: إن البطيء كاد أن يسبق السريع؛ وهذا على ظاهره لا يصح؛ لأنه يجعل البطيء هو السريع؛ بل أسرع منه؛ لكن المعنى: أنه متداول متواتر فيكاد البطيء له يسبق السريع؛ وهذا فى غاية الملاحة». (¬1) ديوانه 1: 29، 30، والشهاب: 14. (¬2) حاشية الأصل: «فى نسخة س: قرأت فى شعره على شيخى: إلى بنات الردى». (¬3) د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): «من صبب» أى حدور؛ وهو الموضع الّذي ينحدر فيه». وفى م: «ويروى: حطت عليه صروف الدهر من كثب». (¬4) ناض: خالع، ومليح: مشفق؛ يخاطب نفسه فيقول: ألابس أنت برد الشباب أم خالعه؟ . (¬5) فى م: «لم يغن ذاك» وفى الديوان: «لم يعد». (¬6) مروّ: مفكر. (¬7) د؛ ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «مشبهات»؛ وفى حاشية الأصل: «ويروى: شبيه بالمواضى وهو أحسن. قال س: فمشبهات، لا بأس به، والّذي حسن الفاء طول الكلام وإن الشرطية فيه».

شعرات أقصّهنّ ويرجع … ن رجوع السّهام فى الأغراض (¬1) وأبت تركى الغديّات والآ … صال حتّى خضبت بالمقراض (¬2) غير نفع إلّا التّعلّل من شخ … ص عدوّ لم يعده إبغاضى ورواء المشيب كالبخص فى عي … نى فقل فيه فى العيون المراض (¬3) طبت نفسا عن الشّباب وما سوّ … د من صبغ برده الفضفاض فهل الحادثات يا ابن عويف … تاركاتى ولبس هذا البياض! وقال أيضا: تعيب الغانيات عليّ شيبى … ومن لى أن أمتّع بالمعيب! (¬4) ووجدى بالشّباب وإن تولّى … حميدا دون وجدى بالمشيب وقال أيضا: أرأيته من بعد جثل فاحم … جون المفارق بالنّهار خضيبا (¬5) فعجبت من حالين خالف فيهما … صرف الزّمان وما رأيت عجيبا ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «من شأن الغرض أن تنزع السهام منه ثم تعود إليه فى الحال». (¬2) قال المرتضى فى الشهاب تعليقا على هذا البيت والّذي قبله: «قوله: خضبت بالمقراض فى غاية الملاحة والرشاقة. ومعنى قوله: رجوع السهام فى الأغراض أنه لا يملك ردا لطلوع الشيب فى شعره ولا تلافيا لحلوله، فيجرى فى ذلك مجرى رجوع السهام إلى الغرض فى أنه لا يملك مرسل السهم صده عنه ولا رده عن إصابته. ويمكن فى ذلك وجه آخر؛ وإن كان الأول أشف؛ وهو أن يريد بالأغراض المقاتل والمواضع الشريفة من الأعضاء؛ فكأنه يشبه رجوع الشيب بعد قصه له وطلوعه فى شدة إيلامه وإيجاعه بإصابة السهام للمقاتل والفرائص. ويحتمل وجها آخر؛ وهو أن السهام تنزع من الأغراض، ثم ترجع بالرمى إليها أبدا، فأشبهت فى ذلك الشيب فى قصه ثم طلوعه ورجوعه إلى موضعه». (¬3) حاشية الأصل: الرؤاء يهمز ولا يهمز؛ فإذا لم يهمز كان من الرى وإذا همز كان من الرؤية». والبخص: لحم ناتئ فوق العينين أو تحتهما كهيئة النفخة. وفى حاشية الأصل أيضا: «مثله لابن الرومى: إذا شنئت عين الفتى عيب نفسه … فعين سواه بالشناءة أجدر. (¬4) ديوانه: 2: 84. (¬5) ديوانه: 1: 75. الجثل من الشعر: الكثير. والجون هنا: الأسود؛ وهو من الأضداد، يطلق على الأسود والأبيض. وفى حاشية الأصل: «جعل النهار خضابا لأنه شيء قد شاع وتمرن عليه».

/ إنّ الزّمان إذا تتابع خطوه … سبق الطّلوب وأدرك المطلوبا وقال أيضا: رأت فلتات الشّيب فابتسمت لها … وقالت: نجوم لو طلعن بأسعد (¬1) أعاتك ما كان الشّباب مقرّبى … إليك، فألحى الشّيب إذ كان مبعدى وقال أيضا: عنت كبدى قسوة منك ما إن … تزال تجدّد فيها ندوبا (¬2) وحمّلت عندك (¬3) ذنب المشي … ب حتى كأنى ابتدعت المشيبا ومن يطّلع شرف الأربعين … يحى من الشّيب شخصا (¬4) غريبا قال المرتضى رضى الله عنه: ولي فى هذا المعنى: قلن لمّا رأين وخطا من الشّي … ب برأسى أعيا على مجهودى كسنا بارق تعرّض وهنا … فى حواشى بعض اللّيالى السّود أبياض مجدّد من سواد … كان قدما! لا مرحبا بالجديد يا لحاكنّ من رماكنّ بالحس … ن لتقهرننا بغير جنود ليس بيضى منى فأجزى عليه … نّ صدودا أو ليس فيكنّ سودى قلّ ما ضرّ كنّ من شعرات … كنّ يوما على الوقار شهودى وقال البحتري أيضا: خلّياه وجدّة اللهو مادا … م رداء الشّباب غضّا جديدا ¬

_ (¬1) الشهاب: 17. (¬2) ديوانه 1: 51، والشهاب: 18 عنت: قصدت والندوب: آثار الجراحات. وفى حاشية الأصل: «نسخة ج: ما تزال هو حسن؛ لتكون عروض البيت محذوفة؛ والقصيدة بأسرها محذوفة العروض إلا البيت المصرع فى أولها؛ وإذا روعيت: «ما إن تزال» فالعروض سالمة، فعولن». (¬3) حاشية الأصل: «س: روى «حملت عبدك»؛ كأنه تصحيف، ولكنه حسن». (¬4) فى حاشيتى الأصل، ف: «يروى: زورا». (1) ديوانه 1: 182، الشهاب: 19.

إنّ أيّامه من البيض بيض … ما رأين المفارق السّود سودا وقال أيضا: ترك السّواد للابسيه وبيّضا … ونضا من السّتين عنه ما نضا (¬1) وشآه أغيد فى تصرّف لحظه … مرض أعلّ به القلوب وأمرضا (¬2) وكأنّه وجد الصّبا وجديده … دينا دنا ميقاته أن يقتضي أسيان أثرى من جوى وصبابة … وأساف من وصل الحسان وأنفضا (¬3) وقال أيضا: هل أنت صارف شيبة إن غلّست … فى الوقت أو عجلت عن الميعاد (¬4) جاءت مقدّمة أمام طوالع … هذى تراوحنى وتلك تغادى وأخو الغبينة تاجر فى لمّة … يشرى جديد بياضها بسواد (¬5) لا تكذبنّ فما الصبا بمخلّف … لهوا ولا زمن الصّبا بمعاد ¬

_ (¬1) ديوانه 2: 70، الشهاب: 19. وفى حاشية الأصل: «أى خلع إتيان الستين عليه المسرة والنشاط». (¬2) شآه: غلبه، وفى م: «سباه». (¬3) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «أسوان»، وهو الحزين، وأساف الرجل: ذهب ماله، وكذلك أنفض، والمراد هنا أنه ذهب من يده وصل الحسان وميلهن إليه. (¬4) ديوانه 1: 144، الشهاب 20 - 21. (¬5) قال المرتضى فى الشهاب تعليقا على هذا البيت: ووجدت الآمدي قد نزل فى معنى قوله: * يشرى جديد بياضها بسواد* لأنه قال: معنى يشرى يبيع؛ وأراد: أن الغبين من باع جديد بياضه بالسواد، وأراد بالسواد الخضاب؛ فكأنه ذم الخضاب. والأمر بخلاف ما ذكره، وما جرى للخضاب ذكر، ولاها هنا موضع للكناية عنه؛ ومعنى: «يشرى» هاهنا يبتاع؛ لأن قولهم: شريت يستعمل فى البائع والمبتاع جميعا؛ وهذا من الأضداد، نص أهل اللغة على هذا فى كتبهم؛ فكأنه شهد بالغبن لمن يبتاع الشيب بالشباب ويتعوض عنه به؛ وإنما ذهب على الآمدي أن لفظة «يشرى» تقع على الأمرين المضادين؛ فتمحل ذكر الخضاب الّذي لا معنى له هاهنا».

وأرى الشّباب على غضارة حسنه … وكماله عددا من الأعداد (¬1) / وقال أيضا: أيثنّى الشّباب أم ما تولّى … منه فى الدّهر دولة ما تعود (¬2) لا أرى العيش والمفارق بيض … أسوة العيش والمفارق سود وأعدّ الشّقىّ جدّا ولو أع … طى غنما حتى يقال سعيد من عدته العيون وانصرفت عن … هـ التفاتا إلى سواه الخدود وقال أيضا: قدك منى فما جرى السّقم إلّا … فى ضلوع على جوى الحبّ تحنى (¬3) لو رأت حادث الخضاب لأنّت … وأرنّت من احمرار اليرنّا (¬4) كلف البيض بالمعمّر قدرا … حين يكلفن والمصغّر سنّا (¬5) يتشاغفن بالغرير المسمّى … من تصاب دون الجليل المكنّى (¬6) ¬

_ (¬1) قال المرتضى فى الشهاب أيضا: «وقال الآمدي فى قوله: عددا من الأعداد» أنه أراد: عددا قليلا؛ وقد أصاب فى ذلك؛ إلا أنه ما ذكر ساعده ووجهه؛ والعرب تقول فى الشيء القليل إنه معدود؛ إذا أرادوا الإخبار عن قلته؛ قال الله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وقال جل اسمه فى موضع آخر: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ وأظنهم ذهبوا فى وصف القليل بأنه معدود من حيث كان العد والحصر لا يقع إلا على القليل والكثير؛ ولكثرته لا ينضبط ولا ينحصر». (¬2) ديوانه 1: 208، الشهاب: 18؛ وبرده: جمع برد؛ وهو كساء مربع مخطط. (¬3) ديوانه 2: 290، الشهاب: 19. (¬4) اليرنا، بضم الياء وفتحها، مقصورة مشددة النون، واليرناء، بالضم والمد: الحناء؛ ويرنأ صبغ به، كحناء؛ وهو من غريب الأفعال. (¬5) فى حاشية الأصل ف: الكلف: المحبة؛ وهذا كما قال أبو الشيص: شيئان لا تصبو النساء إليهما … حلل المشيب وحلة الإنفاض. (¬6) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «الكبير».

وقال أيضا: أخىّ إنّ الصّبا استمرّ به … سير الليالى فأنهجت برده (¬1) تصدّعنى الحسان مبعدة … إذ أنا لا قربه ولا صدده شيب على المفرقين بارضه … يكثرنى أن أبينه هدده (¬2) تطلب منى الشّباب ظالمة … بعيد خمسين حين لا تجده لا عجب إن مللت خلّتنا … فافتقد الوصل منك مفتقده من يتطاول على مطاولة ال … عيش تقعقع من ملّة عمده قال سيدنا أدام الله تمكينه: ورأيت الآمدىّ قد أخطأ فى معنى البيت الأخير، لأنه قال: معنى «تقعقع من ملّة عمده» أى عظامه، يجيء لها صوت إذا قام وقعد من كبره وضعفه قال: وقوله: «من ملّة» أى من تملّى العيش؛ يريد طوله ودوامه؛ ومنه تملّيت حبيبك والأمر بخلاف ما توهمه، ومعنى «تقعقع من ملّة عمده» أنّ من تطاول عمره تعجّل ترحّله وانتقاله عن الدنيا؛ وكنى عن ذلك/ بتقعقع العمد؛ وهذا مثل معروف للعرب، يقولون: «من يتجمّع يتقعقع عمده»؛ يريدون أنّ التجمّع داعى التفرق؛ وأنّ الاجتماع يعقب ويورث ما يدعو إلى الانتقال الّذي يتقعقع معه العمد. والآمدىّ على كثرة ما يدعيه من التنقيب والتنقير على علوم العرب إن كان لم يعرف هذا المثل ومعناه فهو طريف، وإن كان قد سمعه وجهل أنّ معنى بيت البحترىّ يطابقه فهو أطرف. فأما قوله: «من ملّة» فإنما أراد به من ملل؛ وملّة «فعلة» من الملل، وكيف يكون ¬

_ (¬1) ديوانه: 1: 145، الشهاب: 20. (¬2) حاشية الأصل: «البارض: النبت أول ما يبدو من البهمى، وهو شوك. أبينه: أزيله. يكثرنى: يغلبنى بالكثرة».

من تملّى العيش، ولم يسمع فى تملّيت «ملّة»! وهذا خطأ على خطأ (¬1). وقال البحترىّ: ما كان شوقى ببدع يوم ذاك ولا … دمعى بأوّل دمع فى الهوى سفحا (¬2) ولمّة كنت مشغوفا بجدّتها … فما عفا الشّيب لى عنها ولا صفحا وقال أيضا: وما أنس لا أنس عهد الشّباب … وعلوة إذ عيّرتنى الكبر (¬3) كواكب شيب علقن الصّبا … فقلّلن من حسنه ما كثر وإنى وجدت ولا تكذبنّ … سواد الهوى فى بياض الشّعر ولا بدّ من ترك إحدى اثنت … ين إمّا الشّباب وإما العمر قال الآمدي: وعليه فى قوله: ولا بدّ من ترك إحدى اثنت … ين إمّا الشّباب وإما العمر معارضة، وهو أن يقال له: إنّ من مات شابا فقد فارق الشباب وفاته العمر أيضا، فهو تارك لهما معا، ومن شاب فارق الشباب، وهو مفارق للعمر لا محالة؛ فهو أيضا تارك لهما جميعا. ¬

_ (¬1) وعاد المرتضى فبسط هذا النقد مرة ثانية فى كتابه الشهاب فقال: وقد نبهنا فى كتاب الغرر على هفوة الآمدي فى قول البحترىّ: «تقعقع من ملّة عمده»؛ لأنه ظن أن معناه أن عظام الكبير المسن يجيء لها صوت إذا قام وقعد، وتسمع لها قعقعة؛ وما سمعنا بهذا الّذي ظنه فى وصف ذوى الأسنان والكبر؛ والمعنى أظهر من أن يخفى على أحد؛ لأنه أراد: من عمر وأسن وطاول العيش تعجل رحيله وانتقاله عن الدنيا؛ وكنى عن ذلك بتقعقع العمد؛ لأن ذوى الأطناب والخيام إذا انتقلوا من محل إلى غيره وقوضوا عمد خيامهم، وسارت بها الإبل سمعت لها قعقعة، ومن أمثال العرب المعروفة: «من يتجمع يتقعقع عمده»، يريدون أن التجمع يعقب التفرق والرحيل الّذي تتقعقع معه العمد. ومعنى قوله: «من ملة» يريد من السأم والملال دون ما ظنه الآمدي من أنه تملى العيش. (¬2) ديوانه 1: 114. (¬3) ديوانه 1: 219.

وقوله: «إما وإمّا» لا نوجب إلا إحداهما قال: والعذر للبحترىّ أن يقال: إنّ من مات شابا فقد فارق الشباب وحده لأنّه لم يعمّر، فيكون مفارقا للعمر ألا ترى أنهم يقولون: عمّر فلان إذا أسنّ، وفلان لم يعمّر إذا مات شابا، ومن شاب وعمّر ثم مات لم يكن مفارقا للشباب فى حال موته؛ لأنه قد قطع أيام الشباب، وتقدمت مفارقته له، وإنما يكون فى حال موته مفارقا للعمر وحده، فإلى هذا ذهب البحترىّ، وهو صحيح/ ولم يرد بالعمر المدّة القصيرة التى يعمّرها الإنسان، وإنما أراد بالعمر هاهنا الكبر، كما قال زهير: رأيت المنايا خبط عشواء من تصب … تمته، ومن تخطئ يعمّر فيهرم (¬1) قال رضى الله عنه: وما رأيت أشدّ تهافتا فى الخطأ منه فيما يفسّره ويتكلم عليه من شعر هذين الرجلين! ومعنى البيت غير ما توهّمه؛ وهو أظهر من أن يخفى؛ حتى يحتاج فيه إلى هذا التّغلغل والتعسّف؛ وإنما أراد البحترىّ أن الإنسان بين حالين: إما أن يفارق الشباب بالشّيب، أو العمر بالموت؛ فمن مات شابا- وإن كان قد خرج من العمر، وخرج بخروجه عن سائر أحوال الحياة من شباب وشيب وغيرهما- فإنه لم يفارق الشباب وحده؛ وإنما فارق العمر الّذي فارق بمفارقته الشباب وغيره. وقسمة الرجل تناولت أحد الأمرين: إمّا مفارقة الشباب وحده بلا واسطة- ولن يكون ذلك إلّا بالشّيب- أو مفارقة العمر بالموت. وتلخيص كلامه: أنه لا بدّ للحي من شيب أو موت، فكأن الشيب والموت متعاقبان؛ والبحترىّ إنما جعل قوله: «العمر» مقام الحياة والبقاء، وإنما قال: «العمر» لأجل القافية؛ مع أنه منبئ عن مراده؛ ولو أنّه قال: ولا بدّ من ترك الحياة أو ترك الشباب لقام مقام قوله: «العمر». *** أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدثنى عليّ بن محمد الكاتب قال حدثنا أحمد بن عبيد الله قال: من معانى ابن الرومىّ التى فتقها قوله يذمّ من جعل مصيبة غيره منسية له مصيبته، وعاب ¬

_ (¬1) من المعلقة، ديوانه: 29؛ خبط عشواء؛ أى تسير على غير قصد؛ يقال: عشا يعشو عشا إذا أصابه العشا؛ وهو السير على غير بصر.

من تعلّل بالتأسّى بما نال غيره، وهو يرثى شبابه، وأحسن: يا شبابى وأين منّى شبابى! … آذنتنى أيّامه بانقضاب (¬1) لهف نفسى على نعيمى ولهوى! … تحت أفنانه اللّدان الرّطاب ومعزّ عن الشباب مؤسّ … بمشيب اللّدات والأصحاب قلت لمّا انتحى يعدّ أساه (¬2) … من مصاب شبابه كمصاب ليس تأسو كلوم غيرى كلومى … ما به ما به، وما بي ما بي ولابن الرومىّ: / لهفى على الدّنيا وهل لهفة … تنصف منها إن تلهّفتها! (¬3) قبحا لها قبحا على أنها … أقبح شيء حين كشّفتها وقد يعزّينى شباب مضى … ومدّة للعيش أسلفتها فكّرت فى خمسين عاما مضت … كانت أمامى ثم خلّفتها أجهلتها إذ هى موفورة … ثم مضت عنّى فعرّفتها ففرحة الموهوب أعدمتها … وترحة المسلوب ألحفتها لو أنّ عمرى مائة هدّنى … تذكّرى أنّى تنصّفتها وله فى هذا المعنى، وقد تقدمت هذه الأبيات فى الأمالى السالفة، وقد أحسن فى معناها كلّ الإحسان: كفى بسراج الشّيب فى الرأس هاديا … إلى من أضلّته المنايا لياليا (¬4) أمن بعد إبداء المشيب مقاتلى … لرامى المنايا تحسبينى ناجيا! غدا الدّهر يرمينى فتدنو سهامه … لشخصى أخلق أن يصبن سواديا وكان كرامى اللّيل يرمى ولا يرى … فلمّا أضاء الشّيب شخصى رمانيا ¬

_ (¬1) ديوانه، الورقة 42. (¬2) أساة: جمع أسوة؛ وهو القدوة. (¬3) ديوانه، الورقة 44. (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «لمن قد أضلته».

48

[48] مجلس آخر [المجلس الثامن والأربعون: ] تأويل آية [: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ... ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ؛ [آل عمران: 128]. فقال: كيف جاءت أَوْ بعد ما لا يجوز أن يعطف عليه؟ وما الناصب لقوله تعالى: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وليس فى الكلام ما يقتضي نصبه؟ الجواب، قلنا: قد ذكر فى ذلك وجوه: أوّلها أن يكون قوله: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ معطوفا على قوله: لِيَقْطَعَ طَرَفاً والمعنى أنه تعالى عجّل لكم هذا النصر، ومنحكم به ليقطع طرفا من الذين كفروا، أى قطعة منهم، وطائفة من جمعهم أو يكبتهم؛ أى يغلبهم ويهزمهم بكم فيخيّب سعيهم، ويكذّب فيكم ظنونهم، أو يعظهم ما يرون من تظاهر آيات الله تعالى، الموجبة لتصديق/ نبيه صلى الله عليه وآله، فيتوبوا ويؤمنوا، فيقبل الله تعالى ذلك منهم، ويتوب عليهم، أو يكفروا بعد قيام الحجج، وتأكيد البينات والدلائل، فيموتوا أو يقتلوا كافرين؛ فيعذبهم الله باستحقاقهم فى النار؛ ويكون على هذا الجواب قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ معطوفا على قوله تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ؛ أى ليس لك ولا لغيرك من هذا النصر شيء؛ وإنما هو من الله تعالى. والجواب الثانى أن يكون أَوْ بمعنى «حتى»، أو «إلّا أنّ»؛ والتقدير: ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم؛ أو إلا أن يتوب عليهم، كما قال امرؤ القيس:

بكى صاحبى لمّا رأى الدّرب دونه … وأيقن أنا لاحقان بقيصرا (¬1) فقلت له: لا تبك عينك إنّما … نحاول ملكا، أو نموت فنعذرا أراد: إلّا أن نموت وهذا الجواب يضعّف من طريق المعنى؛ لأن لقائل أن يقول: إنّ أمر الخلق ليس إلى أحد سوى الله تعالى قبل توبة العباد وعقابهم بعد ذلك؛ فكيف يصحّ أن يقول: ليس لك من الأمر شيء إلّا أن يتوب عليهم أو يعذبهم؛ حتى كأنه إذا كان أحد الأمرين كان إليه من الأمر شيء! ويمكن أن ينصر ذلك بأن يقال: قد يصحّ الكلام إذا حمل على المعنى؛ وذلك أن قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ معناه: ليس يقع ما تريده وتؤثره من إيمانهم وتوبتهم، أو ما تريده من استئصالهم وعذابهم، على اختلاف الرواية فى معنى الآية وسبب نزولها؛ إلّا بأن يلطف الله لهم فى التوبة فيتوب عليهم أو يعذبهم؛ وتقدير الكلام: ليس ما تريده من توبتهم أو عذابهم بك، وإنما يكون ذلك بالله تعالى. والجواب الثالث أن يكون المعنى: ليس لك من الأمر شيء أو من أن يتوب الله عليهم؛ فأضمر «من» اكتفاء بالأولى، وأضمر «أن» بعدها لدلالة الكلام عليها واقتضائه لها، وهى مع الفعل الّذي بعدها بمنزلة المصدر؛ وتقدير الكلام: ليس لك من الأمر شيء ومن توبتهم وعذابهم. ووجدت أبا بكر محمد بن القاسم الأنبارىّ يطعن على هذا الجواب ويستبعده، قال: لأنّ الفعل لا يكون محمولا على إعراب الاسم الجامد، الّذي لا تصرّف له على إضمار «أن» مع الفعل/ لأنه ليس من كلام العرب: «عجبت من أخيك ويقوم»، على معنى: «عجبت من أخيك ومن ¬

_ (¬1) ديوانه: 100. الدرب: باب السّكّة الواسع؛ وهو هنا كل مدخل إلى الروم فهو درب؛ وصاحبه عمرو بن قميئة الشاعر؛ وكان رفيق امرئ القيس فى رحلته.

تأويل خبر"لا تناجشوا ولا تدابروا ...

أن يقوم»، لأن أخاك اسم جامد محض، لا يعطف عليه إلّا ما شاكله. وقال: وهذا إذا يستقيم ويصلح فى ردّ الفعل على المصدر، كقولهم: «كرهت غضبك وأن يغضب أبوك»؛ على معنى: «كرهت غضبك وأن يغضب أبوك»، فيطرد هذا فى المصادر، لأنها تتأوّل ب «أن» فيقول النحويون: «يعجبنى قيامك»، وتأويله: «يعجبنى أن تقوم»، قال: والاسم الجامد لا يمكن مثل هذا فيه. وليس الّذي ذكره ابن الأنبارىّ مستبعدا، وإن لم يضعف هذا الجواب إلّا من حيث ذكر فليس بضعيف؛ وذلك أن فيما امتنع منه مثل الّذي أجازه؛ لأنه قد أجاز ذلك فى المصادر، وإن لم يجزه فى غيرها. وقوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ فيه دلالة الفعل، لأنّ «الأمر» مصدر أمرت أمرا؛ فكأنه تعالى قال: ليس لك من أن آمرهم أو تأمرهم شيء، ولا من أن يتوبوا، وجرى ذلك مجرى قولهم: «كرهت غضبك ويغضب أبوك»، فى رد الفعل على المصدر؛ والوجه الأول أقوى الوجوه؛ والله أعلم بمراده. تأويل خبر [«لا تناجشوا ولا تدابروا ... : ] إن سأل سائل عن الخبر الّذي يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «لا تناجشوا ولا تدابروا، كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه». الجواب، قيل له: أما النّجش فهو المدح والإطراء، قال نابغة بنى شيبان يذكر الخمر: وترخّى بال من يشربها … ويفدّى كرمها عند النّجش (¬1) أى عند مدحها، ومنه النّجش فى البيع؛ وهو مدح السلعة والزيادة فى ثمنها من غير إرادة لشرائها؛ بل ليقتدى بالزائد فى زيادته غيره؛ وأصل النجش استخراج الشيء والتنقير عنه، قال بعض الفقعسيين: ¬

_ (¬1) ديوانه: 86.

أجرس لها يا ابن أبى كباش (¬1) … فما لها الليلة من إنفاش (¬2) غير السّرى وسائق نجّاش … أسمر مثل الحيّة الخشخاش والنّجاش: هو المستثير لسيرها، والمستخرج لما عندها منه، ومعنى: أجرس لها، أى أحد لها لتسمع/ الحداء فتسير، وهو مأخوذ من الجرس وهو الصوت؛ ومعنى: الإنفاش، أراد أنها لا تترك ترعى ليلا، والنفش أن ترعى الإبل ليلا، وقد أنفشتها إذا أرسلتها بالليل ترعى. والخشخاش: الخفيف الحركة السريع التقلّب. والنجش فى البيوع يرجع معناه إلى هذا أيضا؛ لأن الناجش يستثير بزيادته فى الثمن، ومدحه السلعة الزيادة فى ثمنها؛ فيكون معنى الخبر على هذا: لا تناجشوا، أى لا يمدح أحدكم السلعة فيزيد فى ثمنها، وهو لا يريد شراءها ليسمعه غيره فيزيده. وقد يجوز أيضا أن يريد بذلك: لا يمدح أحدكم صاحبه من غير استحقاق ليستدعى منفعته، ويستثير فائدته؛ وهذا المعنى أشبه بأن يكون مراده عليه السلام، لأن قوله: «ولا تدابروا» أشدّ مطابقة له. ومعنى: «لا تدابروا» أى لا تهاجروا ويولّى كلّ واحد صاحبه دبر وجهه، قال الشاعر: وأوصى أبو قيس بأن تتواصلوا … وأوصى أبوكم، ويحكم! أن تدابروا (¬3) فكأنه قال عليه السلام: لا تتمادحوا وتتواصلوا بالمدح الّذي ليس بمستحق، ولا تهاجروا وتتقاطعوا. ¬

_ (¬1) اللسان (جرس)؛ وفى حاشية الأصل: «صوت الجرس؛ وروى ابن السكيت: «أجرش»، وأنكروا عليه: أجرشت الشيء إذا لم تنعم دقه». (¬2) حاشية الأصل: «نفشت الإبل: تفرقت فى المرعى، وأنفشتها أنا، أى ليس لها الليلة استراحة». (¬3) اللسان (دبر)، من غير نسبة.

ذكر ما ورد فى اللغة من معانى"العرض"

[ذكر ما ورد فى اللغة من معانى «العرض»: ] فأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه»، فقد ذهب قوم إلى أنّ عرض الرجل إنما هو سلفه من آبائه وأمهاته؛ ومن جرى مجراهم. وذهب ابن قتيبة إلى أن عرض الرجل نفسه، واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وآله حين ذكر أهل الجنة فقال: «لا يبولون ولا يتغوّطون؛ إنما هو عرق يجرى من أعراضهم مثل المسك»؛ أى من أبدانهم؛ قال: ومنه قول أبى الدرداء: «أقرض من عرضك ليوم فقرك» أراد من شتمك فلا تشتمه، ومن ذكرك بسوء فلا تذكره به، ودع ذلك قرضا عليه ليوم الجزاء والقصاص. واحتج أيضا بحديث الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم! كان إذا خرج من منزله قال: اللهمّ إنى قد تصدّقت بعرضى على عبادك»؛ قال: فمعناه قد تصدّقت بنفسى وأحللت من يغتابنى، فلو كان العرض الأسلاف ما جاز أن يحلّ من سبّ الموتى؛ لأن ذلك إليهم لا إليه. قال: ويدلّ على ذلك أيضا حديث سفيان بن عيينة: «لو أن رجلا أصاب/ من عرض رجل شتما ثم تورّع من بعد؛ فجاء إلى ورثته بعد موته فأحلّوه له، لم يكن ذلك كفارة له، ولو أصاب من ماله شيئا ثم دفعه إلى ورثته؛ لكنّا نرى أن ذلك كفارة له». قال: ويدلّ على أن عرض الرجل نفسه قول حسان: هجوت محمّدا فأجبت عنه … وعند الله فى ذاك الجزاء (¬1) فإنّ أبى ووالده وعرضى … لعرض محمّد منكم وقاء ¬

_ (¬1) ديوانه: 9؛ يخاطب أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ويهجوه؛ وقبله: ألا أبلغ أبا سفيان عنّى … فأنت مجوّف نخب هواء بأن سيوفنا تركتك عبدا … وعبد الدار سادتها الإماء والأبيات فى الاقتضاب: 300؛ ونقل عن محمد بن الحسن بن دريد بسنده: أنشد النبي صلى الله عليه وسلم قصيدته التى أولها: عفت ذات الأصابع فالجواء … إلى عذراء منزلها خلاء.

أراد: فإنّ أبى وجدّى ونفسى وقاء لنفس محمد، صلى الله عليه وآله. وقال آخرون- وهو الصحيح: العرض موضع المدح والذّم من الإنسان، فإذا قيل: ذكر عرض فلان، فمعناه ذكر ما يرتفع به أو ما يسقط بذكره، ويمدح أو يذم به، وقد يدخل فى ذلك ذكر الرجل نفسه، وذكر آبائه وأسلافه؛ لأن كل ذلك مما يمدح به ويذم؛ والّذي يدل على هذا أن أهل اللغة لا يفرّقون فى قولهم: «شتم فلان عرض فلان» بين أن يكون ذكره فى نفسه بقبيح الأفعال، أو شتم سلفه وآباءه؛ ويدلّ عليه قول مسكين الدارمىّ: ربّ مهزول سمين عرضه … وسمين الجسم مهزول الحسب (¬1) فلو كان العرض نفس الإنسان لكان الكلام متناقضا؛ لأن السّمن والهزال يرجعان إلى شيء واحد؛ وإنما أراد: ربّ مهزول كريمة أفعاله، أو كريم آباؤه وأسلافه؛ وقد قال ابن عبدل الأسدىّ (¬2): ¬

_ حتى انتهى إلى قوله: هجوت محمدا وأجبت عنه … وعند الله فى ذاك الجزاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جزاؤك على الله الجنة يا حسان؛ فلما انتهى إلى قوله: فإنّ أبى ووالده وعرضى … لعرض محمد منكم وقاء قال رسول الله صلى الله عليه: وقاك الله يا حسان النار؛ فلما قال: أتهجوه ولست له بندّ … فشرّ كما لخير كما الفداء فقال من حضر: هذا أنصف بيت قالته العرب. (¬1) بعده: كسبته الورق البيض أبا … ولقد كان وما يدعى لأب وانظر الأغانى 18: 70، وأمالى القالى 1: 118، واللآلى: 352. (¬2) من مقطوعة فى أمالى القالى 2: 261، عدد أبياتها أربعة عشر بيتا؛ ومنها فى حماسة أبى تمام- بشرح المرزوقى 1163 - 1164 ستة أبيات؛ وذكر القالى من خبر هذه الأبيات أنه اجتمع الشعراء بباب الحجاج؛ وفيهم الحكم بن عبدل الأسدىّ فقالوا: أصلح الله الأمير! إنما شعر هذا فى الفأر وما أشبهه، قال: ما يقول هؤلاء يا ابن عبدل؟ قال: اسمع أيها الأمير، قال: هات، فأنشده الأبيات؛ حتى انتهى إلى قوله: ولست بذى وجهين فيمن عرفته … ولا البخل فاعلم من سمائى ولا أرضى.

وإنّى لاستغنى فما أبطر الغنى، … وأبذل ميسورى لمن يبتغى قرضى (¬1) وأعسر أحيانا فتشتدّ عسرتى … وأدرك ميسور الغنى ومعى عرضى ولا يليق ذلك إلا بما ذكرناه. قال سيدنا أدام الله تأييده: وجدت أبا بكر بن الأنبارىّ قد ردّ على ابن قتيبة قوله هذا وطعن على ما احتج به، فقال فى الحديث المروىّ عنه عليه السلام فى وصف أهل الجنة: إن المراد بالأعراض مغابن (¬2) الجسد. وحكى عن الأموىّ أنه قال: الأعراض المغابن التى تعرق من الجسد؛ نحو الإبطين وغيرهما، وقال فى حديث أبى الدرداء: معناه: من عابك/، وذكر أسلافك، فلا تجازه؛ ليكون الله تعالى هو المثيب لك. وقال فى قول أبى ضمضم: معناه أنه أحلّ من أوصل إليه أذى بذكره وذكر آبائه فلم يحلّ إلا من أمر إليه. وقال فى قول حسان: المراد بعرضه أيضا أسلافه؛ كأنه قال: إن أبى ووالده وجميع أسلافى الذين أمدح وأذمّ من جهتهم وقاء له عليه السلام، فأتى بالعموم بعد الخصوص؛ كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ؛ [الحجر: 87]، فأتى بالعموم بعد الخصوص؛ ولم أجده ذكر فى خبر سفيان بن عيينة شيئا؛ وتأويله يقرب من تأويل خبر أبى ضمضم، لأنّ من آذى رجلا بسبّه فى نفسه، أو سبّ سلفه وأدخل عليه بذلك وضعا ونقصا لم يكن إلى ورثته بعد موته الإحلال من ذلك، لأن الأذى لم يدخل عليهم، ولو كان داخلا عليهم أيضا مع دخوله على المسبوب لكان إحلالهم مما يرجع إلى غيرهم لا يصحّ؛ على أن فى الإحلال من الضرر وسقوط العوض المستحق عليه، وهل يسقط بإسقاط مستحقه أم لا؟ فيه كلام ليس هذا موضعه، وقد ذكرناه فى مواضع. ¬

_ فلما سمع الحجاج هذا البيت فضله على الشعراء بجائزة ألف درهم فى كل مرة يعطيهم. (¬1) أبطر الغنى، أى أبطر فى الغنى حتى أذهب عن سنن الشكر. وأعرض ميسورى؛ يريد يسرى؛ وضع اسم المفعول موضع المصدر. (¬2) المغابن: معاطف الجلد؛ جمع مغبن.

وبعد، فلو سلّم لابن قتيبة أنّ المراد بالعرض فى كلّ المواضع التى ذكرناها النفس دون السّلف، أو سلّم له ذلك فى بيت حسان خاصة؛ فإنه أقرب إلى أن يكون المراد به ما ذكره لم يقدح فيما ذكرناه؛ لأنا لم نقل: إن العرض مقصور على سلف الإنسان، بل ذكرنا أنه موضع الذم والمدح من الإنسان، ولا فرق بين سلفه ونفسه؛ فكيف يكون الاحتجاج بما المراد بالعرض فيه النفس طعنا علينا، وإنما ينفع ابن قتيبة أن يأتى بما يدلّ على أن العرض لا يستعمل إلّا فى النفس دون السّلف، وكل شيء فيما المراد بالعرض فيه النفس، أو المراد به السلف فهو مؤكّد لقولنا فى أنّ هذه اللفظة مستعملة فى موضع الذمّ والمدح من الإنسان؛ وإنما يكون ما استشهدنا به، وما جرى مجراه؛ مما يدلّ على استعمال لفظة «العرض» فى السّلف حجة على ابن قتيبة؛ لأنه قصر معناها على النفس والذات، دون السلف؛ وهذا واضح بيّن بحمد الله. *** أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزبانىّ قال حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم قال: كان أبو عبيدة/ معمر بن المثنّى صفريا (¬1)، وكان يكتم ذلك؛ فأنشدنى لعمران بن حطّان (¬2): ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «الصفرية: جنس من الخوارج، سموا بذلك لاصفرار وجوههم؛ وقيل: نسبوا إلى رجل اسمه صفار». (¬2) هو أبو سماك عمران بن حطان بن ذبيان السدوسى؛ رأس القعدة من الصفرية، وخطيبهم وشاعرهم، أدرك جماعة من الصحابة وروى عنهم، ثم لحق بالشراة، فطلبه الحجاج فهرب إلى الشام، فطلبه عبد الملك بن مروان ففر إلى عمان، ولما طال عمره قعد عن الحرب، واكتقى بالتحريض والدعوة بشعره؛ وتوفى سنة 84. وهذه الأبيات يقولها فى رثاء أبى بلال مرداس بن أدية؛ وكان قد قتل فى إمارة عبيد الله بن زياد، سنة 61؛ وهى برواية أبى العباس المبرد: يا عين بكّى لمرداس ومصرعه … يا ربّ مرداس اجعلنى كمرداس تركتنى هائما أبكى لمرزئتي … فى منزل موحش من بعد إيناس أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه، … ما الناس بعدك يا مرداس بالناس إمّا شربت بكأس دار أوّلها … على القرون فذاقوا جرعة الكاس فكلّ من لم يذقها شارب عجلا … منها بأنفاس ورد بعد أنفاس وانظر الإصابة 5: 81، والكامل- بشرح المرصفى 7: 83.

طائفة من أشعار قطرى بن الفجاءة

أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه، … ما الناس بعدك يا مرداس بالناس إمّا تكن ذقت كأسا دار أوّلها … على القرون فذاقوا نهلة الكاس قد كنت أبكيك حينا ثم قد يئست … نفسى فما ردّ عنّى عبرتى ياسى *** [طائفة من أشعار قطرىّ بن الفجاءة: ] وأخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال أخبرنا ابن دريد قال حدثنا الأشناندانىّ قال قال التوزيّ: كنت إذا أردت أن أنشط أبا عبيدة سألته عن أخبار الخوارج فأبعج منه ثبج بحر؛ فجئته يوما وهو مطرق ينكت الأرض فى صحن المسجد؛ وقد قربت منه الشمس، فسلمت عليه فلم يردد (¬1)، فتمثلت: وما للمرء خير فى حياة … إذا ما عدّ من سقط المتاع - والبيت لقطرىّ بن الفجاءة- فنظر إلى وقال: ويحك! أتدري من يقوله؟ قلت: قطرىّ، فقال: اسكت، رضّ (¬2) الله فاك! فألّا قلت: أمير المؤمنين أبو نعامة (¬3)! ثم انتبه فقال: اكتمها عليّ يا توّزىّ، فقلت: هى ابنة الأرض، فأنشدنى: أقول (¬4) لها إذا جاشت حياء … من الأبطال ويحك لن تراعى (¬5) فإنّك لو طلبت حياة يوم … على الأجل الّذي لك لم تطاعى (¬6) فصبرا فى مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع ¬

_ (¬1) د؛ ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف، : «فلم يرد». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «فض الله فاك». (¬3) هى كنية قطرى بن الفجاءة بن مازن الخارجى؛ كان زعيما من زعماء الخوارج؛ خرج زمن مصعب بن الزبير سنة 66، وبقى عشرين سنة يقاتل ويسلم عليه بالخلافة؛ وكان الحجاج يسير إليه جيشا، وهو يستظهر عليه، إلى أن توجه إليه سفيان بن أبرد الكلبى، فظهر عليه وقتله سنه 78، (ابن خلكان 1: 430). (¬4) الأبيات فى الحماسة- بشرح التبريزى 1: 96 - 97. (¬5) د، ومن نسخة بحاشية الأصل: «وقد جاشت». وفى حاشية الأصل (من نسخة): «وقد طارت حياء»، ورواية الحماسة: «وقد طارت شعاعا»؛ الشعاع: المتفرق، والخطاب لنفسه؛ ولن تراعى، من الروع، وهو الفزع. (¬6) الحماسة: «بقاء يوم».

وما طول الحياة بثوب مجد … فيطوى عن أخى الخنع اليراع (¬1) سبيل الموت منهج كلّ حىّ … وداعيه لأهل الأرض داع (¬2) ومن لا يعتبط يسأم ويهرم … وتفض به المنون إلى انقطاع (¬3) وما للمرء خير فى حياة … إذا ما عدّ من سقط المتاع فكتبتها وقمت لأنصرف؛ فقال: اقعد، ثم أنشدنى: إلى كم تعارينى السّيوف ولا أرى … مغاراتها تدعو إلى حماميا (¬4) أقارع عن دار الخلود ولا أرى … بقاء على حال لما ليس باقيا / ولو قرّب الموت القراع لقد أنى … لموتى أن يدنو لطول قراعيا أغادى جلاد العالمين كأنّنى (¬5) … على العسل الماذىّ أصبح غاديا (¬6) ¬

_ (¬1) الحماسة: «بثوب عز». الخنع: الجبن، واليراع: الجبان الضعيف. (¬2) حاشية ف (من نسخة): «غاية كل حي»، وهى رواية الحماسة. (¬3) ف: * ويفض به البقاء إلى انقطاع* ورواية الحماسة: * وتسلمه المنون إلى انقطاع* والاعتباط: أن الحى يموت من غير علة؛ أى من لم يمت شابا مات هرما. (¬4) د، وحاشية الأصل (من نسخة): «تعارينى، وفى حاشية الأصل، ف: «المعاراة، بالعين المهملة: من العرى، أى تلقانى السيوف عارية، وبالغين المعجمة: من غرى به إذا أولع، والمغاراة أيضا: المتابعة بين الشيئين، يقال غاربت بين الشيئين، إذا واليت بينهما». وفى م: «تغازبنى»، تحريف. (¬5) د، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «المعلمين»، بكسر اللام، والمعلم: الفارس الّذي علم مكانه فى ساحة الحرب بعلامة أعلمها؛ ومنه قول الشاعر: فتعرّفونى أننى أنا ذاكم … شاك سلاحى فى الحوادث معلم وقول الأخطل: ما زال فينا رباط الخيل معلمة … وفى كليب رباط اللؤم والعار. (¬6) الماذىّ: العسل الأبيض.

وأدعو الكماة للنّزال إذا القنا … تحطّم فيما بيننا من طعانيا ولست أرى نفسا تموت وإن دنت … من الموت حتى يبعث الله داعيا (¬1) فقال ابن دريد: وهذا الشعر أيضا لقطرىّ بن الفجاءة. *** أخبرنا أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم قال: جئت (¬2) أبا عبيدة يوما، ومعى شعر عروة بن الورد، فقال. فارغ حمل شعر فقير ليقرأه على فقير، فقلت: ما معى غيره، فأنشدنى أنت ما شئت، فأنشدنى: يا ربّ ظلّ حمار قد وقيت به … مهرى من الشّمس، والأبطال تجتلد (¬3) وربّ يوم حمى أرعيت عقوته … خيلى اقتسارا، وأطراف القنا قصد (¬4) ويوم لهو لأهل الخفض ظلّ به … لهوى اصطلاء الوغا وناره تقد (¬5) مشهّرا موقفى والحرب كاشفة … عنها القناع وبحر الموت يطّرد وربّ هاجرة تغلى مراجلها … نحرتها بمطايا غارة تخد (¬6) تجتاب أودية الأفزاع آمنة … كأنّها أسد يقتادها أسد (¬7) فإن أمت حتف نفسى لا أمت كمدا … على الطّعان وقصر العاجز الكمد ولم أقل لم أساق القتل شاربه (¬8) … فى كأسه والمنايا ترع ورد ثم قال له: هذا الشعر! ؛ لا ما تعلّلون به نفوسكم من أشعار المخنّثين. والشعر لقطرىّ. *** ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «أى ملكا يقبض روحه ويدعوه». (¬2) الخبر والأبيات فى أمالى القالى 1: 265 - 266، وزهر الآداب- طبعة الحلبى 1027 - 1028. (¬3) د: «ظل عقاب» وفى حاشية الأصل: «روى ظل عقاب، يريد بها الراية». (¬4) العقوة: الساحة، والقصد: القطع؛ واحده قصدة. (¬5) د، ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «إذ ناره». (¬6) د: «مخرتها». وتخذ: تسرع. (¬7) الأفزاع: المخاوف، وفى زهر الآداب: «يصطادها». (¬8) حاشية الأصل (من نسخة): «ساقيه».

أبيات لرجل خارجى من طيئ

أخبرنا على بن محمد الكاتب قال قال أخبرنا ابن دريد قال: أخبرنا أبو حاتم قال: كان أبو عبيدة يأنس إلى فى أول ما اختلفت إليه، لأنه كان يظنّنى على رأيهم ويسألنى عن خوارج سجستان- لأنه كان يظنّنى على رأيهم- وكنت أوهمه أنى على رأيهم، فنالتنى منه لذلك عناية خاصة، فكان كثيرا ما ينشدنى أشعارهم، ثم يتمثل: أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنى … وإن عاهدوا أوفوا، وإن عقدوا شدّوا (¬1) [أبيات لرجل خارجىّ من طيئ: ] / قال: وأنشدنى يوما لرجل من طيئ من الخوارج: لا كابن ملحان من شار أخى ثقة … أو كابن علقمة المستشهد الشارى (¬2) من صادق كنت أصفيه مخالصتى … فباع دارى بأعلى صفقة الدار (¬3) إخوان صدق أرجّيهم وأحذرهم … أشكو إلى الله إخوانى وإحذارى فصرت صاحب دنيا لست أملكها … وصار صاحب جنات وأنهار تم القسم الأول من كتاب غرر الفوائد ودرر القلائد للشريف المرتضى، ويليه القسم الثانى إن شاء الله تعالى، وأوله: تأويل آية؛ إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ ... ¬

_ (¬1) البيت للحطيئة، ديوانه: 20. (¬2) الشارى: واحد الشراة؛ والخوارج تسمى نفسها بذلك؛ كأنهم شروا أنفسهم لله؛ أى باعوها؛ ومنه قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أى يبيعها. وقال قطرى فى هذا المعنى: رأت فئة باعوا الإله نفوسهم … بجنّات عدن عنده ونعيم. (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف: «دارى، يعنى الدنيا التى كانت داره؛ وهو فى قيد الحياة؛ يعنى أنه باعها بصفقة رابحة؛ أراد أنه استشهد وقتل، فباع داره بدار فى الجنة».

49

الجزء الثاني بسم الله الرّحمن الرّحيم مجلس آخر 49 تأويل آية [وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ [المائدة: 64]. فقال: ما اليد التى إضافتها اليهود إلى الله تعالى، وادّعوا أنها مغلولة؟ وما نرى أنّ عاقلا من اليهود ولا غيرهم يزعم أن لربّه يدا مغلولة، واليهود تتبرأ من أن يكون فيها قائل بذلك؛ وما معنى الدعاء عليهم ب غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [وهو تعالى ممن لا يصحّ أن] (¬1) يدعو على غيره؟ لأنه تعالى قادر على أن يفعل ما يشاء، وإنما يدعو الداعى بما لا يتمكّن من فعله طلبا له. الجواب، قلنا: يحتمل أن يكون قوم من اليهود وصفوا الله تعالى بما يقتضي تناهى مقدوره، فجرى ذلك مجرى أن يقولوا: إنّ يده مغلولة، لأنّ عادة الناس جارية بأن يعبّروا بهذه العبارة عن هذا المعنى، فيقولون: يد فلان منقبضة عن كذا، ويده لا تنبسط إلى كذا، إذا أرادوا وصفه بالفقر والقصور، ويشهد بذلك قوله تعالى فى موضع آخر: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران: 181]، ثم قال تعالى مكذبا لهم: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ؛ أى أنه ممّن لا يعجزه شيء، وثنّى اليدين تأكيدا للأمر، وتفخيما له؛ ولأنه أبلغ فى المعنى المقصود من أن يقول: بل يده مبسوطة. وقد قيل أيضا: إن اليهود وصفوا الله تعالى بالبخل، واستبطئوا فضله ورزقه؛ وقيل: إنهم قالوا على سبيل الاستهزاء: إن إله محمد الّذي أرسله؛ يداه إلى عنقه؛ إذ ليس يوسّع عليه وعلى أصحابه، / فردّ الله قولهم وكذّبهم بقوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ، واليد هاهنا الفضل ¬

_ (¬1) حاشية ف (من نسخة): «وهو تعالى لا يصح أن».

والنعمة، وذلك معروف فى اللغة، متظاهر فى كلام العرب وأشعارهم. ويشهد له من الكتاب قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: 69]، ولا معنى لذلك إلّا الأمر بترك إمساك اليد عن النفقة فى الحقوق؛ وترك الإسراف، إلى القصد والتوسط. ويمكن أن يكون الوجه فى تثنية النعمة من حيث أريد بها نعم الدنيا ونعم الآخرة؛ لأن الكل- وإن كانت نعم الله تعالى- فمن حيث اختص كلّ واحد من الأمرين بصفة تخالف صفة الآخر صارا كأنهما جنسان أو قبيلان. ويمكن أيضا [أن يكون بتثنية النعمة] (¬1) أنه أريد بها النعم الظاهرة والباطنة. فأما قوله تعالى: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ، ففيه وجوه: أوّلها: أن يكون ذلك على غير سبيل الدّعاء؛ بل على جهة الإخبار منه عز وجل عن نزول ذلك بهم؛ وفى الكلام ضمير «قد» قبل قوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ، وموضع غُلَّتْ نصب على الحال، كأنّه تعالى قال: وقالت اليهود كذا وكذا؛ فى حال ما غلّ الله تعالى أيديهم ولعنهم، أو حكم بذلك فيهم؛ ويسوغ إضمار «قد» هاهنا كما ساغ فى قوله عز وجل: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ [يوسف: 26، 27] والمعنى: فقد صدقت، وقد كذبت. وثانيها أن يكون معنى الكلام وقالت اليهود يد الله مغلولة فغلّت أيديهم، أو وغلّت أيديهم، وأضمر تعالى الفاء والواو؛ لأنّ كلامهم تمّ، واستؤنف بعده كلام آخر؛ ومن عادة العرب أن تحذف فيما يجرى مجرى هذا الموضع؛ من ذلك قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً [البقرة: 67] أراد: ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «يكون المراد بتثنيته النعمة».

تأويل خبر"لعن الله السارق؛ يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده"

فقالوا أتتخذنا هزوا، فاضمر تعالى الفاء؛ لتمام كلام موسى عليه السلام، ومنه قول الشاعر: لمّا رأيت نبطا أنصارا … شمّرت عن ركبتى الإزارا (¬1) كنت لها من النّصارى جارا أراد: «وكنت»، فأضمر الواو. وثالثها أن يكون القول خرج مخرج الدعاء؛ إلا أن معناه التعليم من الله تعالى لنا والتأديب؛ فكأنه جلّت عظمته وقفنا على الدعاء عليهم، وعلّمنا/ ما ينبغى أن نقول فيهم، كما علّمنا الاستثناء فى غير هذا الموضع بقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27]، وكل ذلك جلىّ واضح، والمنة لله. تأويل خبر [«لعن الله السّارق؛ يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده»] إن سأل سائل عن الخبر الّذي روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «لعن الله السّارق؛ يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده». الجواب، قلنا: قد تعلق بهذا الخبر صنفان من الناس؛ فالخوارج تتعلّق به، وتدّعى أنّ القطع يجب فى القليل والكثير؛ وتستشهد على ذلك بظاهر قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38]، ويتعلق بهذا الخبر أيضا الملحدة والشّكاك، ويدّعون أنه مناقض للرواية المتضمّنة أنه لا قطع إلّا فى ربع دينار. ونحن نذكر ما فيه: فأول ما نقوله إنّ الخبر مطعون عند أصحاب الحديث على سنده، وقد حكى ابن قتيبة فى تأويله وجها عن يحيى بن أكثم، طعن عليه وضعّفه، وذكر عن نفسه وجها آخر؛ نحن نذكرهما وما فيهما، ونتبعهما بما نختاره. ¬

_ (¬1) حاشية ف: «أهل السواد يقال لهم النبط، لأنهم يستخرجون النبط وهو الماء».

قال ابن قتيبة: كنت حضرت يوما مجلس يحيى بن أكثم بمكة، فرأيته يذهب إلى أنّ البيضة فى هذا الحديث بيضة الحديد التى تغفر الرأس فى الحرب، وأن الحبل من حبال السفن، قال: وكلّ واحد من هذين يبلغ ثمنه دنانير كثيرة؛ قال: ورأيته يعجب بهذا التأويل، ويبدى فيه ويعيد، ويرى أنه قطع به حجة الخصم. قال ابن قتيبة. وهذا إنما يجوز على من لا معرفة له باللغة ومخارج الكلام، وليس هذا موضع تكثير لما يأخذه السارق فيصرفه إلى بيضة تساوى دنانير؛ وحبل لا يقدر السارق على حمله؛ ولا من عادة العرب والعجم أن يقولوا: قبح الله فلانا! عرّض نفسه للضرر فى عقد جوهر، وتعرّض لعقوبة الغلول فى جراب مسك؛ وإنما العادة فى مثل هذا أن يقال: لعنه الله، تعرّض للقطع فى حبل رثّ، أو إداوة خلق، أو كبّة شعر؛ وكلّ ما كان من ذلك أحقر كان أبلغ. قال: والوجه فى الحديث أن الله تعالى لما أنزل على رسوله صلى الله عليه وآله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا؛ قال رسول الله صلى عليه وآله: «لعن الله السارق؛ يسرق البيضة/ فتقطع يده»، على ظاهر ما أنزل عليه (¬1) فى ذلك الوقت، ثمّ أعلمه الله تعالى بعد أن القطع لا يكون إلّا فى ربع دينار فما فوقه، ولم يكن عليه السلام يعلم من حكم الله تعالى إلا ما علّمه الله تعالى، وما كان الله يعرّفه ذلك جملة جملة، بل بيّن (¬2) شيئا بعد شيء. قال سيدنا أدام الله علوّه: ووجدت أبا بكر الأنبارىّ يقول: ليس الّذي طعن به ابن قتيبة (¬3) على تأويل الخبر بشيء؛ قال: لأن البيضة من السلاح ليست علما فى كثرة الثمن ونهاية علوّ القيمة؛ فتجرى مجرى العقد من الجوهر، والجراب من المسك؛ اللّذين هما ربّما ساويا الألوف من الدنانير، والبيضة من الحديد ربّما اشتريت بأقلّ مما يجب فيه القطع، وإنما أراد عليه السلام أنه يكتسب قطع يده بما لا غنى له به، لأن البيضة من السلاح لا يستغنى بها أحد، والجوهر والمسك فى اليسير منهما غنى. ¬

_ (¬1) ف: «إليه». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): » بل يبين له». (¬3) م: «ليس الّذي ذكر ابن قتيبة».

قال سيدنا أدام الله أيامه: والّذي نقوله إن ما طعن به ابن الأنبارىّ على كلام ابن قتيبة متوجّه؛ وليس فى ذكر البيضة والحبل تكثير كما ظنّ؛ فيشبه العقد والجراب من المسك؛ غير أنه يبقى فى ذلك أن يقال: أىّ وجه لتخصيص البيضة والحبل بالذكر، وليس هما النهاية فى التقليل؛ وإن كان كما ذكره ابن الأنبارىّ؛ من أنّ المعنى أنه يسرق ولا يستغنى به؛ فليس ذكر ذلك بأولى من غيره؛ ولا بدّ من ذكر وجه فى ذلك. وأما تأويل ابن قتيبة فباطل لأن النبي صلى الله عليه وآله لا يجوز أن يقول ما حكاه عند سماع قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ؛ لأن الآية مجملة مفتقرة إلى بيان؛ ولا يجوز أن يحملها أو يصرفها إلى بعض محتملاتها دون بعض بلا دلالة؛ على أنّ أكثر من قال: إن الآية غير مجملة، وأن ظاهر القول يقتضي العموم يذهب إلى أن ما اقتضى تخصيصها بسارق دون سارق لم يتأخر عن حال الخطاب بها؛ فكيف يصحّ ما قاله ابن الأنبارىّ أن الآية تقدمت، ثم تأخر تخصيص السارق؛ ولو كان ذلك كما ظنّ لكان المتأخر ناسخا للآية. وعلى تأويله هذا يقتضي أن يكون كلّ الخبر منسوخا؛ وإذا أمكن تأويل أخباره عليه السلام على/ ما لا يقتضي رفع أحكامها ونسخها كان أولى. والأشبه أن يكون المراد بهذا الخبر أنّ السارق يسرق الكثير الجليل، فتقطع يده، ويسرق الحقير القليل فتقطع يده؛ فكأنه تعجيز له، وتضعيف لاختياره، من حيث باع يده بقليل الثمن؛ كما باعها بكثيره. وقد حكى أهل اللغة أن بيضة القوم وسطهم، وبيضة الدار وسطها، وبيضة السنام شحمته، وبيضة الصّيف معظمه، وبيضة البلد الّذي لا نظير له؛ وإن كان قد يستعمل ذلك فى المدح والذم على سبيل الأضداد، وإذا استعمل فى الذم فمعناه أنّ الموصوف بذلك حقير مهين، كالبيضة التى تفسدها النعامة فتتركها ملقاة لا تلتفت إليها. فمما جاء من ذلك فى المدح قول أخت عمرو بن عبد ودّ ترثيه، وتذكر قتل أمير المؤمنين

عليه السلام له؛ وقيل إنّ الأبيات لامرأة من العرب؛ غير أخته: لو كان قاتل عمرو غير قاتله … لكنت أبكى عليه آخر الأبد (¬1) لكنّ قاتله من لا يعاب به (¬2) … من كان يدعى قديما بيضة البلد (¬3) وقال آخر فى المدح: كانت قريش بيضة فتفلّقت … فالمخّ خالصه (¬4) لعبد مناف وقال آخر فى الذمّ. تأبى قضاعة أن تعرف لكم نسبا … وابنا نزار، فأنتم بيضة البلد (¬5) أراد: «أن تعرف» فأسكن. وقال آخر فى ذلك: لكنّه حوض من أودى بإخوته … ريب الزّمان فأمسى بيضة البلد (¬6) فقد صار معنى البيضة كلّه يعود إلى التفخيم والتعظيم. وأما الحبل فذكر على سبيل المثل؛ والمراد المبالغة فى التحقير والتقليل؛ كما يقول القائل: ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «عليها». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): * لكنّ قاتل عمرو لا يعاب به*. (¬3) البيتان فى شرح المرزوقى لحماسة أبى تمام: 804 واللسان (بيض). (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «خالصها». (¬5) اللسان (بيض)، ونسبه إلى الراعى يهجو ابن الرقاع العاملى وقبله: لو كنت من أحد يهجى هجوتكم … يا ابن الرّقاع، ولكن لست من أحد. (¬6) من أبيات فى حماسة أبى تمام- بشرح المرزوقى 802 - 804، وفى اللسان (بيض) منسوبة إلى صنان بن عباد اليشكري؛ وقبله: لما رأى شمط حوضى له ترع … على الحياض أتانى غير ذى لدد لو كان حوض حمار ما شربت به … إلّا بإذن حمار آخر الأبد.

ما أعطانى فلان عقالا، وما ذهب من فلان عقال، ولا يساوى كذا نقيرا؛ كل ذلك على سبيل المثل والمبالغة فى التقليل؛ وليس الغرض بذكر الحبل الواحد من الحبال على الحقيقة؛ وإذا كان على هذا تأويل الخبر/ زال عنه المناقضة التى ظنّت؛ وبطلت شبهة الخوارج فى أن القطع يجب فى القليل والكثير. أخبرنا (¬1) أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدثنى أبو عبيد الله الحكيمىّ قال حدثنى يموت بن المزرّع قال حدثنى أبو زينب (¬2) عليّ بن ثابت قال، قال الأصمعىّ: [تصرفت فى الأسباب على باب الرشيد] (¬3) مؤملا للظّفر (¬4) به؛ والوصول إليه؛ حتى إنى صرت لبعض حرسه خدينا؛ فإنى فى ليلة قد نثرت السعادة والتوفيق فيها الأرق بين أجفان الرشيد إذ خرج خادم فقال: أبالحضرة (¬5) أحد ينشد (¬6) الشّعر؟ فقلت: الله أكبر! ربّ قيد مضيقة قد حلّه التيسير، فقال لى الخادم: ادخل، فلعلّها أن تكون ليلة تعرّس فى صباحها بالغنى إن فزت بالحظوة عند أمير المؤمنين؛ فدخلت فواجهت الرشيد فى بهوه (¬7)، والفضل بن يحيى إلى جانبه، فوقف الخادم بى بحيث يسمع التسليم، فسلّمت فردّ السلام ثم قال: يا غلام، أرحه قليلا يفرخ روعه؛ إن كان قد وجد للروعة حسّا، فدنوت قليلا ثم قلت: يا أمير المؤمنين، إضاءة مجدك، وبهاء كرمك، مجيران لمن نظر إليك عن اعتراض أذيّة؛ فقال: ادن، فدنوت، فقال: أشاعر أم راوية؟ فقلت: راوية لكل ذى جدّ وهزل؛ بعد أن يكون محسنا؛ فقال: تالله ما رأيت ادّعاء أعمّ! فقلت: أنا على الميدان، فأطلق من عنانى يا أمير المؤمنين، فقال: «قد أنصف القارة من راماها (¬8)»؛ ثم قال: ما معنى ¬

_ (¬1) روى البغدادى الخبر فى خزانة الأدب 2: 267 - 269؛ عن الغرر. (¬2) حاشية ف (من نسخة): «أبو وهب». (¬3) ف، حاشية الأصل (من نسخة): «تصرفت بى الأسباب على باب الرشيد». (¬4) د، ونسخة بحاشيتى الأصل، ف: «الظفر». (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «أما بالحضرة». (¬6) حاشية الأصل (من نسخة): «يحسن». (¬7) حاشية الأصل (من نسخة): «بهو». (¬8) فى مجمع الأمثال للميدانى (1: 42): «القارة: قبيلة؛ وهم عضل والديش ابنا الهول بن خزيمة؛ وإنما سموا قارة لاجتماعهم والتفافهم لما أراد الشداخ أن يفرقهم فى بنى كنانة؛ فقال شاعرهم: دعونا قادة لا تنفرونا … فنجفل مثل إجفال الظّليم -

هذه الكلمة بدءا؟ قلت: فيها قولان؛ القارة هى الحرّة من الأرض، وزعمت الرواة أن القارة كانت رماة للتبابعة (¬1)، والملك إذ ذاك أبو حسّان، فواقف (¬2) عسكره عسكرا للسّغد (¬3)، فخرج فارس من السّغد، قد وضع سهمه فى كبد قوسه فقال: أين رماة العرب؟ فقالت العرب: «أنصف القارة من راماها» فقال لى الرشيد: أصبت، ثم قال: أتروى لرؤبة بن العجاج والعجاج شيئا، فقلت: هما شاهدان لك بالقوافى؛ وإن غيّبا عن بصرك بالأشخاص، فأخرج من ثنى فرشه رقعة ثم قال: أنشدنى: * أرّقنى طارق همّ أرقا (¬4) * فمضيت فيها مضىّ الجواد فى متن ميدانه، تهدر بى أشداقى (¬5)، فلما صرت إلى مديحه لبنى أمية تثنيت لسانى إلى امتداحه للمنصور فى قوله: ¬

_ وهم رماة الحدق فى الجاهلية، وهم اليوم فى اليمن». وفى اللسان (قور): «زعموا أن رجلين التقيا؛ أحدهما قارىّ والآخر أسدىّ، فقال القارىّ: إن شئت صارعتك وإن شئت راميتك، فقال: اخترت المراماة؛ فقال القارىّ: قد أنصفتنى؛ وأنشد: قد أنصف القارة من راماها … إنّا إذا ما فئة نلقاها * نردّ أولاها على أخراها* ثم انتزع له سهما، فشك فؤاده». ونقل صاحب اللسان أيضا عن ابن برى: «إنما قيل: «أنصف القارة من رماها» لحرب كانت بين قريش وبين بكر بن عبد مناة بن كنانة، وكانت القارة مع قريش، فلما التقى الفريقان راماهم الآخرون حين رمتهم القارة، فقيل: قد أنصفكم هؤلاء الذين سادوكم فى العمل الّذي هو صناعتكم، وأراد الشداخ أن يفرق القارة فى قبائل كنانة فأبوا». (¬1) حاشية الأصل: «التبابعة ملوك العرب الجاهلية؛ وكانوا يكونون باليمن؛ الواحد تبع». (¬2) المواقفة: أن تقف مع غيرك، ويقف معك فى حرب أو خصومة. (¬3) حاشية الأصل: «السغد: بين سمرقند وبخارى». (¬4) مطلع أرجوزة طويلة لرؤبة، يمدح فيها مروان بن الحكم، وهى فى ديوانه 108 - 115، وبعد هذا البيت: * وركض غربان غدون نعّقا*. (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «تهدر بها أشداقى».

* قلت لزير لم تصله مريمه (¬1) * / فلما رآنى قد عدلت من أرجوزة إلى غيرها قال: أعن حيرة أم عن عمد؟ قلت: عن عمد تركت كذبه إلى صدقه فيما وصف به المنصور من مجده، فقال الفضل: أحسنت بارك الله عليك! مثلك يؤهل لمثل هذا المجلس. فلما أتيت على آخرها قال لى الرشيد: أتروى كلمة عدىّ بن الرقاع: * عرف الدّيار توهّما فاعتادها (¬2) * قلت: نعم، قال: هات، فمضيت فيها حتى إذا صرت إلى وصفه الجمل قال لى الفضل: ناشدتك الله أن تقطع علينا ما أمتعنا به من السهر فى ليلتنا هذه بصفة جمل أجرب، فقال الرشيد: اسكت، فالإبل هى التى أخرجتك عن دارك، واستلبت تاج ملكك، ثم ماتت وعملت جلودها سياطا ضربت بها أنت وقومك، فقال الفضل: لقد عوقبت (¬3) على غير ذنب والحمد لله! فقال الرشيد: أخطأت، الحمد لله على النّعم، ولو قلت: وأستغفر الله لكنت مصيبا، ثم قال لى: امض فى أمرك، فأنشدته حتى إذا بلغت إلى قوله: * تزجى أغنّ كأنّ إبرة روقه* استوى جالسا وقال: أتحفظ فى هذا ذكرا؟ قلت: نعم، ذكرت الرواة أنّ الفرزدق قال: كنت فى المجلس وجرير إلى جانبى، فلما ابتدأ عدىّ فى قصيدته قلت لجرير مسرّا إليه: هلمّ نسخر من هذا الشامىّ، فلما ذقنا كلامه يئسنا منه؛ فلما قال: * تزجى أغنّ كأنّ إبرة روقه* ¬

_ (¬1) مطلع أرجوزة أخرى لرؤبة أيضا، وهى فى ديوانه: 149 - 159 وفى حاشية الأصل: «يقال: هو زير نساء إذا كان يحبهن ويزورهن كثيرا، وأصله: زور، فعل، من الزيارة، ومريم اسم عشيقته». (¬2) بقيته: * من بعد ما درس البلى أبلادها* وهو مطلع قصيدة فى الطرائف الأدبية 87 - 91. (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف: «الإشارة بالمعاقبة إلى إسماع الرشيد كلامه الموحش الخشن إياه، وهو يعيره بالعجم ويذكر غلبة العرب الذين هم أصحاب الجمال عليهم، وسلبهم ملكهم».

- وعدىّ كالمستريح- قال جرير: أما تراه يستلب بها مثلا! فقال الفرزدق: يا لكع، إنه يقول: * قلم أصاب من الدّواة مدادها* فقال عدىّ: * قلم أصاب من الدّواة مدادها (¬1) * فقال جرير: كان سمعك مخبوءا (¬2) فى صدره! فقال لى: اسكت شغلنى سبّك عن جيّد الكلام؛ فلما بلغ إلى قوله: ولقد أراد الله إذ ولّاكها … من أمّة إصلاحها ورشادها (¬3) قال الأصمعىّ: فقال لى: ما تراه قال إذ أنشده الشاعر هذا البيت؟ فقلت: قال: كذا أراد الله، فقال الرشيد: ما كان فى جلالته ليقول هذا، أحسبه قال: ما شاء (¬4) الله! قلت: وكذا جاءت الرواية، فلما أتيت على آخرها قال لى: أتروى لذى الرّمة شيئا؟ قلت: الأكثر، قال: فماذا أراد بقوله: / ممرّ أمرّت متنه أسديّة … ذراعية حلّالة بالمصانع (¬5) قلت: وصف حمار وحش، أسمنه بقل روضة تواشجت أصوله، وتشابكت فروعه، عن مطر سحابة كانت بنوء الأسد فى الذّراع من ذلك. فقال الرشيد: أرح، فقد وجدناك ممتعا، وعرفناك محسنا، ثم قال: أجد ملالة ونهض، فأخذ الخادم يصلح عقب النعل فى رجله وكانت عربيّة، فقال الرشيد: عقرتنى يا غلام، فقال الفضل: قاتل الله الأعاجم، أما إنها ¬

_ (¬1) حاشية ف: «يصف ظبية تسوق ولدا، فى صوته غنة، ثم شبه رأس قرنه بقلم أصاب طرفه المداد. وأراد بالروق رأس القرن، وروق كل شيء: أوله». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «كأن سمعك مخبوء فى قلبه». (¬3) حاشية الأصل: «عدىّ قال: «وفسادها»، والأصمعى أنشد: «رشادها». (¬4) حاشية الأصل: قوله «ما شاء الله» على الطريقة المعهودة أى ما شاء الله كان، كأنه يشير إلى أن دولته فى مشيئة الله تعالى». (¬5) ديوانه: 361، وروايته: * يمانية حلّت جنوب المضاجع*.

لو كانت سندية لما احتجت إلى هذه الكلفة (¬1)، فقال الرشيد: هذه نعلى ونعل آبائى، كم تعارض فلا تترك من جواب ممضّ! ثم قال: يا غلام؛ يؤمر صالح الخادم بتعجيل ثلاثين ألف درهم على هذا الرجل فى ليلته ولا يحجب فى المستأنف، فقال الفضل: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه غيره لأمرت لك بمثل ما أمر لك به، وقد أمرت لك به، إلّا ألف درهم، فتلقّ الخادم صباحا. قال الأصمعىّ: فما صليت من غد إلّا وفى منزلى تسعة وخمسون ألف درهم. ¬

_ (¬1) فى خزانة الأدب: «الكلمة».

50

مجلس آخر 50 تأويل آية [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257]. فقال: أليس ظاهر هذه الآية يقتضي أنه هو الفاعل للإيمان فيهم؟ لأن النور هاهنا كناية عن الإيمان والطاعات، والظلمة كناية عن الكفر والمعاصى، ولا معنى لذلك غير ما ذكرناه. وإذا كان مضيفا للإخراج إليه فهو الفاعل لما كانوا به خارجين، وهذا خلاف مذهبكم. الجواب، قلنا: أما النور والظلمة المذكوران فى الآية فجائز أن يكون المراد بهما الإيمان والكفر، وجائز أيضا أن يراد بهما الجنة والنار، والثواب والعقاب فقد تصحّ الكناية عن الثواب والنعيم فى الجنة بأنه نور، وعن العقاب فى النار بأنه ظلمة، وإذا كان المراد بهما الجنة والنار ساغ إضافة إخراجهم من الظلمات إلى النور إليه تعالى؛ لأنه لا شبهة فى أنه جل وعز هو المدخل للمؤمن الجنة، والعادل به عن طريق النار. والظاهر بما ذكرناه أشبه؛ لأنه يقتضي أنّ المؤمن الّذي ثبت كونه مؤمنا/ يخرج من الظلمة إلى النور؛ فلو حمل على الإيمان والكفر لتناقض المعنى، ولصار تقدير الكلام: أنه يخرج المؤمن الّذي قد تقدّم كونه مؤمنا من الكفر إلى الإيمان؛ وذلك لا يصحّ. وإذا كان الكلام يقتضي الاستقبال فى إخراج من قد ثبت كونه مؤمنا كان حمله على دخول الجنة والعدول به عن طريق النار أشبه بالظاهر. على أنا لو حملنا الكلام على الإيمان والكفر لصحّ، ولم يكن مقتضيا لما توهموه، ويكون وجه إضافة الإخراج إليه، وإن لم يكن الإيمان من فعله من حيث دلّ وبيّن وأرشد ولطّف وسهّل؛ وقد علمنا أنه لولا هذه الأمور لم يخرج المكلّف من الكفر إلى الإيمان، فيصح

إضافة الإخراج إليه تعالى لكون ما عددناه من جهته. وعلى هذا يصحّ من أحدنا إذا أشار على غيره بدخول بلد من البلدان ورغّبه فى ذلك، وعرّفه ما فيه من الصلاح، أو بمجانبة فعل من الأفعال أن يقول: أنا أدخلت فلانا البلد الفلانىّ؛ وأنا أخرجته من كذا وكذا وأنتشته منه؛ ويكون وجه الإضافة ما ذكرناه من الترغيب، وتقوية الدواعى. ألا ترى أنه تعالى قد أضاف إخراجهم من النور إلى الظلمات، إلى الطواغيت، وإن لم يدلّ ذلك على أن الطاغوت هو الفاعل للكفر فى الكفار؛ بل وجه الإضافة ما تقدم؛ لأن الشياطين يغوون ويدعون إلى الكفر، ويزيّنون فعله، فتصح إضافته إليهم من هذا الوجه، والطاغوت هو الشيطان وحزبه، وكلّ عدو لله تعالى صدّ عن طاعته، وأغرى (¬1) بمعصيته يصحّ إجراء هذه التّسمية عليه؛ فكيف اقتضت الإضافة الأولى أن الإيمان من فعل الله تعالى فى المؤمن، ولم تقتض الإضافة الثانية أنّ الكفر من فعل الشياطين فى الكفار؛ لولا بله المخالفين وغفلتهم! وبعد، فلو كان الأمر على ما ظنوه لما صار الله تعالى وليّا للمؤمنين، وناصرا لهم على ما اقتضته الآية، والإيمان من فعله تعالى لا من فعلهم؛ ولم كان خاذلا للكفار ومضيفا لولايتهم إلى الطاغوت والكفر من فعله تعالى فيهم؟ ولم فصل بين الكافر والمؤمن فى باب الولاية، وهو المتولى لفعل الأمرين فيهما؟ ومثل هذا لا يذهب على أحد، ولا يعرض عنه إلّا معاند مغالط لنفسه. ***/ أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال: قال أبو بكر محمد بن القاسم الأنبارىّ حدثنا أحمد بن حيان قال حدثنا أبو عبد الله بن النطاح قال أخبرنا أبو عبيدة قال، قال عبد الملك بن مسلم: كتب (¬2) عبد الملك بن مروان إلى الحجاج: إنه ليس شيء من لذة الدنيا إلا وقد أصبت منه، ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «أغوى». (¬2) القصة فى الأغانى 9: 162 - 165، ووردت مختصرة فى الشعر والشعراء 109 - 110، ونقلها عن ابن قتيبة البغدادى فى الخزانة 1: 288.

ولم يبق لى من لذة الدنيا إلّا مناقلة الإخوان الأحاديث، وقبلك عامر الشعبىّ، فابعث به إلى يحدثنى. فدعا الحجاج بالشعبىّ، وجهزه وبعث به إليه، وقرّظه وأطراه فى كتابه، فخرج الشعبىّ حتى إذا كان بباب عبد الملك، قال للحاجب: استأذن لى، قال: من أنت؟ قال: عامر الشعبىّ؛ قال: حيّاك الله، ثم نهض فأجلسه على كرسيه، فلم يلبث أن خرج الحاجب إليه فقال: ادخل، فدخل، قال: فدخلت فإذا عبد الملك جالس على كرسىّ، وبين يديه رجل أبيض الرأس واللحية، على كرسىّ، فسلمت فرد السلام، ثم أومأ إلى بقضيبه، فقعدت عن يساره، ثم أقبل على الّذي بين يديه فقال: ويحك! من أشعر الناس؟ قال: أنا يا أمير المؤمنين، قال الشعبىّ: فأظلم عليّ ما بينى وبين عبد الملك، ولم أصبر أن قلت: ومن هذا يا أمير المؤمنين الّذي يزعم أنه أشعر الناس! فعجب عبد الملك من عجلتى قبل أن يسألنى عن حالى، ثم قال: هذا الأخطل، قلت: يا أخطل، أشعر منك الّذي يقول: هذا غلام حسن وجهه … مستقبل الخير سريع التّمام (¬1) للحارث الأكبر والحارث ال … أصغر والحارث خير الأنام (¬2) خمسة آباء هم ما هم … هم خير من يشرب صوب الغمام فقال عبد الملك: ردّها عليّ، فرددتها حتى حفظها، فقال الأخطل: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذا الشعبىّ، قال: صدق والله، النابغة أشعر منى. قال الشعبىّ: ثم أقبل عليّ عبد الملك فقال. كيف أنت يا شعبىّ؟ قلت: بخير لا زلت ¬

_ (¬1) وفى حاشية الأصل (من نسخة): «مقتبل الخير»، أى يستقبل خيره فيما يؤتنف من الأيام. (¬2) رواية الأغانى وابن قتيبة: للحارث الأكبر والحارث الأ … صغر والأعرج خير الأنام وبعده: ثمّ لهند ولهند وقد … أسرع فى الخيرات منه إمام.

به، ثم ذهبت لأصنع معاذيرى لما كان من خلافى على الحجّاج مع عبد الرحمن بن محمد الأشعث فقال: مه! فإنا لا نحتاج إلى هذا المنطق، ولا تراه منّا فى قول ولا فعل حتى تفارقنا. ثم أقبل عليّ فقال: ما تقول فى النابغة؟ قلت: يا أمير المؤمنين، قد فضّله عمر بن الخطاب/ فى غير موطن على جميع الشعراء، وذلك أنّه خرج يوما وببابه وفد غطفان، فقال: يا معاشر غطفان، أىّ شعرائكم الّذي يقول: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة … وليس وراء الله للمرء مذهب (¬1) لئن كنت قد بلّغت عنّى خيانة … لمبلغك الواشى أغشّ وأكذب ولست بمستبق أخا لا تلمّه … على شعث، أىّ الرّجال المهذّب! قالوا: النابغة، قال: فأيّكم الّذي يقول: فإنك كاللّيل الّذي هو مدركى … وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع (¬2) خطاطيف حجن فى حبال متينة … تمدّ بها أيد إليك نوازع (¬3) قالوا: النابغة، قال: أيّكم الّذي يقول: إلى ابن محرّق أعملت نفسى … وراحلتى وقد هدت العيون (¬4) أتيتك عاريا خلقا ثيابى … على خوف تظنّ بى الظّنون فألفيت الأمانة لم تخنها … كذلك كان نوح لا يخون قالوا: النابغة، قال: هذا أشعر شعرائكم. ¬

_ (¬1) ديوانه 13 - 12، وفى م بعد هذا البيت: ألم تر أنّ الله أعطاك سورة … ترى كلّ ملك دونها يتذبذب لأنّك شمس والملوك كواكب … إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب ولم يذكر البيتان فى الأصول المخطوطة. (¬2) ديوانه: 55. (¬3) خطاطيف: جمع خطاف، وهو ما يخرج به الدلو من البئر. وحجن: معوجة، واحدها أحجن. ونوازع: جواذب. (¬4) أصله: «هدأت»، بالهمز.

ثم أقبل عبد الملك على الأخطل فقال: أتحبّ أنّ لك قياضا بشعرك شعر أحد من العرب، أم تحب أنك قلته؟ فقال: لا والله؛ إلّا أنى وددت أنى كنت قلت أبياتا قالها رجل منّا، كان والله مغدف القناع (¬1)، قليل السّماع، قصير الذراع، قال: وما قال؟ فأنشده: إنّا محيّوك فاسلم أيّها الطّلل … وإن بليت، وإن طالت بك الطّيل (¬2) ليس الجديد به تبقى بشاشته … إلّا قليلا، ولا ذو خلّة يصل (¬3) والعيش لا عيش إلّا ما تقرّبه … عين، ولا حال إلّا سوف تنتقل إن ترجعى من أبى عثمان منجحة … فقد يهون على المستنجح العمل (¬4) / والنّاس من يلق خيرا قائلون له … ما يشتهى، ولأمّ المخطئ الهبل قد يدرك المتأنّى بعض حاجته … وقد يكون مع المستعجل الزّلل قال الشعبىّ: فقلت: قد قال القطامىّ أفضل من هذا، قال: وما قال؟ قلت: قال (¬5): طرقت جنوب رحالنا من مطرق … ما كنت أحسبه قريب المعنق (¬6) حتى أتيت إلى آخر القصيدة، فقال عبد الملك: ثكلت القطامىّ أمّه! هذا والله الشعر. قال: فالتفت إلى الأخطل فقال: يا شعبىّ، إنّ لك فنونا فى الأحاديث، وإنّ لنا فنّا واحدا، فإن رأيت ألّا تحملنى على أكتاف قومك، فأدعهم حرضا! قلت: لا أعرض لك ¬

_ (¬1) مغدف القناع، أى خامل الذكر. (¬2) ديوان القطامى 32، وجمهرة الأشعار 313 - 316، والطيل: جمع طيلة، هى الدهر. (¬3) الضمير فى «به»، للدهر فى البيت الّذي قبله، وهو: كانت منازل منّا قد نحلّ بها … حتى تغيّر دهر خائن خبل. (¬4) الخطاب للناقة، ومنجحة: ظافرة. والمستنجح: طالب النجاح. (¬5) حاشية الأصل: «القطامى، هو عمير بن شييم بن عمر بن عباد». (¬6) اللسان (عنق)، والمعنق: المكان الّذي أعنقت منه؛ أى سرت؛ يقول: لم أظن أنها تقدر على أن تعنق وتسرع من هذا المكان. والعنق: ضرب من السير السريع؛ يقال: عانق وأعنق إذا أسرع.

فى شيء من الشعر أبدا، فأقلنى هذه المرة، قال: من يكفل بك؟ قلت: أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: هو عليّ ألّا يعرض لك أبدا. ثم قال: يا شعبىّ، أىّ شعراء الجاهلية كان أشعر من النساء؟ قلت: خنساء، قال: ولم فضّلتها على غيرها؟ قلت: لقولها: وقائلة- والنّعش قد فات خطوها (¬1) … لتدركه-: يا لهف نفسى على صخر! ألا ثكلت أمّ الّذين غدوا به … إلى القبر! ماذا يحملون إلى القبر! فقال عبد الملك: أشعر منها والله ليلى الأخيلية حيث تقول: مهفهف الكشح والسّربال منخرق … عنه القميص لسير اللّيل محتقر لا يأمن النّاس ممساه ومصبحه … فى كلّ فجّ، وإن لم يغز ينتظر (¬2) ثم قال: يا شعبىّ، لعله شقّ عليك ما سمعته؟ فقلت: إي والله يا أمير المؤمنين أشدّ المشقّة! إنى لمحدّثك منذ شهرين لم أفدك إلا أبيات النابغة فى الغلام، ثم قال: يا شعبىّ، إنما أعلمناك هذا، لأنّه بلغنى أنّ أهل العراق يتطاولون على أهل الشام ويقولون: إن كانوا غلبونا على الدولة، فلن يغلبونا على العلم والرواية، وأهل الشام أعلم بعلم أهل العراق من أهل العراق؛ ثم ردّد عليّ أبيات ليلى حتى حفظتها، وأذن لى فانصرفت، فكنت أول داخل/ وآخر خارج. *** قال سيدنا أدام الله تمكينه: والصحيح فى الرواية أن البيتين اللذين رواهما عبد الملك ونسبهما إلى ليلى الأخيلية لأعشى باهلة (¬3)، يرثى المنتشر بن وهب الباهلىّ (¬4)، وهذه القصيدة ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «الحرض: الّذي أذيب حزنا وهما». والحرض يوصف به المفرد، مذكرا ومؤنثا، والمثنى والجمع بلفظ واحد. (¬2) ديوانها: 92. (¬3) ذكره الآمدي فى المؤتلف والمختلف ص 14 فقال: «أعشى باهلة يكنى أبا قحفان، جاهلى، واسمه عامر بن الحارث، أحد بنى عامر ابن عوف بن وائل بن معن، ومعن أبو باهلة، وباهلة امرأة من همدان، وهو الشاعر المشهور صاحب القصيدة المرثية فى أخيه لأمه، المنتشر». (¬4) هو المنتشر بن وهب بن سلمة بن كراثة بن هلال بن عمرو-

من المراثى المفضّلة المشهورة بالبلاغة والبراعة وهى (¬1): إنى أتتنى لسان لا أسرّ بها … من علو لا عجب منها ولا سخر (¬2) فظلت مكتئبا حرّان أندبه … وكنت أحذره، لو ينفع الحذر! فجاشت النّفس لما جاء جمعهم … وراكب جاء من تثليث معتمر (¬3) يأتى على الناس لا يلوى على أحد … حتى التقينا، وكانت بيننا مضر (¬4) *** إنّ الّذي جئت من تثليث تندبه … منه السماح ومنه النّهى والغير (¬5) ¬

_ ابن سلامة؛ كان رئيسا فارسا، وكان رئيس الأبناء يوم أرمام، وهو أحد يومى مضر فى اليمن وكان يوما عظيما. (خزانة الأدب 1: 91). (¬1) القصيدة فى الأصمعيات 32 - 34، وأمالى اليزيدى 13 - 18، وجمهرة الأشعار 280 - 283، والكامل- شرح المرصفى 8: 211 - 212، وملحقات ديوان الأعشى 266 - 268، ونقلها صاحب الخزانة عن الغرر فى 1: 91 - 92. وذكر أبو العباس المبرد خبر هذه القصيدة فقال: «كانت العرب تقدم مراثى وتفضلها وترى قائلها بها فوق كل مؤبن؛ وكأنهم يرون ما بعدها من المراثى؛ منها أخذت، وفى كنفها تصلح؛ فمنها قصيدة أعشى بأهلة، ويكنى أبا قحافة التى يرثى بها المنتشر بن وهب الباهلى- وكان أحد رجلي العرب، وهم السعاة السابقون فى سعيهم، وكان من خبره أنه أسر صلاءة بن العنبر الحارثى، فقال: افد نفسك، فأبى فقال: لأقطعنك أنملة أنملة وعضوا عضوا ما لم تفتد نفسك، فجعل يفعل ذلك به حتى قتله. ثم حج من بعد ذلك ذا الخلصة (وهو بيت كانت خثعم تحجه)، فدلت عليه بنو نفيل بن عمرو بن كلاب الحارثيين فقبضوا عليه، فقالوا: لنفعلن بك كما فعلت بصلاءة، ففعلوا ذلك به، فلقى راكب أعشى باهلة، فقال له أعشى باهلة: هل من جائية خبر؟ قال: نعم، أسرت بنو الحارث المنتشر- وكانت بنو الحارث تسمى المنتشر مجدعا- فلما صار فى أيديهم قالوا: لنقطعنك كما فعلت بصلاءة؛ فقال أعشى باهلة يرثى المنتشر ... ». وأورد القصيدة. (¬2) اللسان هنا: الرسالة، وأراد بها نعى المنتشر، ولهذا أنث الفعل. وعلو، يريد من مكان عال، ورواية لمبرد: «من عل» (بالضم)؛ وفى حاشية الأصل: «لا سخر، أى لا أقول ذلك سخرية، وقيل معناه: ولا سخر بالموت». (¬3) جاشت نفسه، أى غثت. وتثليث: موضع بالحجاز قرب مكة؛ ذكره ياقوت واستشهد بالبيت ومعتمر: صفة لراكب؛ وهو بمعنى زائر. وفى حاشية الأصل: «جمعهم، يعنى الذين شهدوا مقتله». (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «يأبى على الناس»، وفيها أيضا: «لا يلوى على أحد، أى لم يعرج على أحد حتى أتانى؛ لأنى كنت خلصانه». (¬5) أى فقلت للراكب: إن الّذي جئت ... ، وتندبه: تبكى عليه، يقال: ندب الميت، أى بكى عليه وعدد محاسنه. والغير: اسم من غيرت الشيء فتغير، أقامه مقام الأمر.

تنعى امرأ لا تغبّ الحىّ جفنته … إذا الكواكب أخطأ (¬1) نوءها المطر (¬2) وراحت الشّول مغبرّا مناكبها (¬3) … شعثا تغيّر منها النّىّ والوبر (¬4) وألجأ الكلب موقوع الصّقيع به (¬5) … وألجأ الحىّ من تنفاحها الحجر (¬6) عليه أوّل زاد القوم قد علموا … ثمّ المطىّ إذا ما أرملوا جزر (¬7) قد تكظم البزل منه حين تبصره (¬8) … حتّى تقطّع فى أعناقها الجرر (¬9) أخو رغائب يعطيها ويسألها … يأبى الظّلامة منه النّوفل الزّفر (¬10) ¬

_ (¬1) من نسخة مجاشبتى الأصل، ف: «خوّى، وخوّى سقط، من قولك: خوت لدار: خلت أو سقطت، ومعنى خوّى فى البيت: نسب الخىّ إلى النجوم وهو المحل، يقال: خوت النجوم إذا أمحلت، خيا». (¬2) النعى: خبر الموت، قال الأصمعى: كانت العرب إذا مات ميت له قدر، ركب راكب فرسا، وجعل يسير فى الناس ويقول: نعاء فلانا! أى انعه وأظهر خبر وفاته، مبنية على الكسر. ولا يغب، من قولهم: لا يغبنا عطاؤه، أى لا يأتينا يوما دون يوم؛ بل يأتينا كل يوم. والجفنة: القصعة. وأخطأه كتخطاه: تجاوز. والنوء: سقوط نجم من المنازل فى المغرب مع الفجر وطلوع رقيبة من المشرق، يقابله من ساعته كل ليلة إلى ثلاثة عشر يوما؛ وهكذا إلى انقضاء السنة، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، يريد أن جفانه لا تنقطع فى الشدة والقحط. (¬3) حاشية الأصل: «رواية الأصمعى: «مبامتها» أى مراحها». (¬4) الشول: النوق التى خف لبنها وقد أتى عليها سبعة أشهر أو ثمانية من يوم نتاجها، الواحدة شائلة. والنىّ بالفتح: الشحم. (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): * وأحجر الكلب موقوع الصّقيع به* وأحجرته أنا: ألجأته إلى الحجر. (¬6) الصقيع: الجليد. وتنفاحه: ضربه، وهو مصدر نفحت الريح إذا هبت باردة؛ يقول: إنه لا ينقطع عن إطعام الطعام فى شدة البرد حينما يضطر الكلب ما بتلبد على شعره من الجليد الأبيض إلى الدخول فى الحجر». (¬7) يريد أنه يرتب على نفسه زاد أصحابه أولا، وإذا فنى الزاد نحر لهم. وأرمل الرجل: نفد زاده. وجزر: قطع، يقال تركهم جزرا للسباع. (¬8) حاشية الأصل: فى رواية: * وتفزع الشّول منه حين يفجؤها*. (¬9) كظم البعير كظوما: إذا أمسك عن الجرة، والبزل: جمع بازل؛ وهو الجمل إذا دخل فى التاسعة. والحرر: جمع جرة؛ وهى ما يخرجه البعير للاجترار. يقول: تعودت الإبل أنه يعقر منها، فإذا رأته كظمت على جرتها فزعامته. (¬10) الرغيبة: العطاء الكثير. والنوفل: الكبير العطاء. والزفر: الكثير الناصر والعدد والعدد «ومنه» للتجريد.

لم تر أرضا ولم تسمع بساكنها … إلّا بها من نوادى وقعه أثر (¬1) وليس فيه إذا استنظرته عجل … وليس فيه إذا ياسرته عسر فإن يصبك عدوّ فى مناوأة … يوما، فقد كنت تستعلى وتنتصر من ليس فى خيره منّ يكدّره … على الصّديق، ولا فى صفوه كدر أخو شروب، ومكساب إذا عدموا … وفى المخافة منه الجدّ والحذر (¬2) مردى حروب، ونور يستضاء به … كما أضاء سواد الظّلمة القمر (¬3) / مهفهف أهضم الكشحين منخرق … عنه القميص لسير اللّيل محتقر (¬4) طاوى المصير على العزّاء منجرد … بالقوم ليلة لا ماء ولا شجر (¬5) لا يصعب الأمر إلّا ريث يركبه … وكلّ أمر سوى الفحشاء يأتمر معنى «لا يصعب الأمر» أى لا يجده صعبا- لا يتأرّى لما فى القدر يرقبه … ولا يعضّ على شرسوفه الصّفر (¬6) ¬

_ (¬1) نوادى كل شيء: أوله. (¬2) شرب: جمع شرب؛ وهو جمع شارب؛ كصحب وصاحب، ومكساب: اسم مبالغة من كاسب، وفى حاشية الأصل: «نسخة ص: أخو حروب». (¬3) المردى فى الأصل: حجر يرمى؛ والمعنى: أنه شجاع يقذف فى الحروب ويرجم فيها؛ وفى حاشية الأصل (من نسخة): مردى حروب شهاب يستضاء به … كما أضاء سواد الطّخية القمر والطخية، بالفتح وبضم: الطلمة. (¬4) المهفهف: الخميص البطن الدقيق الخصر. والأهضم: المنضم الجنبين. والكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع من الخلف؛ وهو مما تمدح به العرب. ويقال: رجل منخرق السربال؛ إذا طال سفره فشققت ثيابه؛ وهو كناية عن الجلادة وتحمل المشقات. (¬5) المصير: جمع مصران، والعزاء: الشدة والجهد؛ والمنجرد: المشمر نشاطا، ومن نسخة بحاشية الأصل: «منصلت». وقوله: «ليلة لا ماء ولا شجر»، أى يرعى. وفى الخزانة بعد هذا البيت: لا يهتك السّتر عن أنثى يطالعها … ولا يشدّ إلى جاراته النّظر. (¬6) لا يتأرى: لا يتحبس ويتلبث؛ يقال: تأرى بالمكان إذا أقام فيه. الشرسوف: طرف الضلع والصفر- فيما يزعم العرب: حية تكون فى البطن إذا جاع الإنسان عضته؛ وقد كذبه النبي عليه السلام بقوله: «لا عدوى ولا هامة ولا صفر».

لا يغمز السّاق من أين ولا وصب … ولا يزال أمام القوم يقتفر (¬1) لا يأمن النّاس ممساه ومصبحه … فى كلّ فجّ، وإن لم يغز ينتظر (¬2) تكفيه حزّة فلذ إن ألمّ بها … من الشّواء ويروى شربه الغمر (¬3) لا تأمن البازل الكوماء عدوته (¬4) … ولا الأمون إذا ما اخروّط السّفر (¬5) كأنّه بعد صدق الناس أنفسهم … باليأس تلمع من قدّامه البشر (¬6) قال المبرّد" لا نعلم بيتا فى يمن النقيبة وبركة الطلعة أبرع من هذا البيت"- لا يعجل القوم أن تغلى مراجلهم … ويدلج اللّيل حتى يفسح البصر (¬7) [عشنا به حقبة حيّا ففارقنا] (¬8) … كذلك الرّمح ذو النّصلين ينكسر (¬9) أصبت فى حرم منّا أخا ثقة … هند بن أسماء، لا يهنى لك الظّفر (¬10) ! … لو لم تخنه نفيل وهى خائنة … لصبّح القوم ورد ماله صدر (¬11) ¬

_ (¬1) يصف جلده وتحمله للمشاق، والأين: الإعياء، والوصب: الوجع، والاقتفاء: تتبع الآثار. (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «من كل أوب». (¬3) الحزة: قطعة من اللحم قطعت طولا؛ والفلذ: كبد البعير والجمع أفلاذ. وألم بها: أصابها. والغمر: قدح صغير لا يروى. (¬4) حاشية الأصل: «نسخة ص: «ضربته». (¬5) البازل: البعير الّذي فطر نابه بدخوله فى السنة التاسعة، ويقال للناقة أيضا. والكوماء: الناقة العظيمة السنام. والعدوة: التعدى. والأمون: الناقة الموثقة الخلق، واخروط: امتد. (¬6) البشر: جمع بشير، وفى حاشية الأصل: «أى إذا يئس الناس من أمورهم ووطنوا نفوسهم على اليأس فالبشائر تلمع من قدامه». (¬7) حتى يفسح البصر، أى يجد متسعا من الصبح؛ وفى حاشية الأصل: «أى هو رابط الجأش عند الفزع، لا يستخفه الفزع فيجعل أصحابه عن الإطباخ». (¬8) حاشية الأصل (من نسخة): * عشنا بذلك دهرا ثم ودّعنا*. (¬9) النصلان هما: السنان- وهى الحديدة العليا من الرمح- والزج، وهو الحديدة السفلى: ويقال: هما الزجان أيضا؛ وهو مثل. وفى حاشية الأصل: «رواية الأصمعى بعد قوله «ينكسر»: فإن جزعنا فقد هدّت مصابتنا … وإن صبرنا فإنا معشر صبر والمصابة: المصيبة، والصبر: جمع صبور، مبالغة صابر». (¬10) حاشية الأصل: «هند بن أسماء: من قبيلة نفيل، قاتل المنتشر»، وأراد بالحرم ذا الخلصة. (¬11) صبحه: سقاه الصبوح؛ وهو الشرب بالغداة، أراد: أنه كان يقتلهم.

وأقبل (¬1) الخيل من تثليث مصغية … وضمّ أعينها عوران أو حضر (¬2) إمّا سلكت سبيلا كنت سالكها … فاذهب فلا يبعدنك الله منتشر قال رحمه الله: وقد رويت هذه القصيدة للدّعجاء أخت المنتشر، وقيل لليلى أخته، ولعل الشبهة الواقعة فى نسبتهما إلى ليلى الأخيلية من هاهنا والصحيح، ما ذكرناه. *** أخبرنا أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبى عبيدة قال: وفد الأخطل على معاوية فقال: إنى قد امتدحتك بأبيات فاسمعها، فقال: إن كنت شبّهتنى بالحية أو الأسد أو الصّقر فلا حاجة لى فيها؛ وإن كنت قلت فىّ كما قالت الخنساء (¬3): وما بلغت كفّ امرئ متناول (¬4) … به المجد إلّا حيث ما نلت أطول (¬5) وما بلغ المهدون فى القول مدحة … وإن صدقوا إلّا الّذي فيك أفضل فهات، فقال الأخطل: والله لقد أحسنت وقلت بيتين؛ ما هما بدون ما سمعته، وأنشد: إذا متّ مات العزّ (¬6) وانقطع الغنى … فلم يبق إلّا من قليل مصرّد (¬7) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «قبل، بمعنى أقبل، ويعدّى بالألف، تقول: أقبلته أنا جعلته مقبلا، وأقبلته الشيء أى جعلته يلى قبالته؛ يقال: أقبلت الرماح نحو القوم، وأقبلت الإبل أفواه الوادى». (¬2) عوران وحضر: موضعان. ف: «خوان»، د، م: «رغوان». وهو يوافق ما فى الخزانة، وفى حاشية الأصل (من نسخة): «روعان»، وفيها أيضا: «فى نسخة ديوانه: رعوان، جوان، خوان»، هذه كلها مواضع». (¬3) ديوانها: 481. (¬4) م: «متطاول». (¬5) رواية اللسان (طول): * من المجد إلّا والّذي نلت أطول*. (¬6) ف: «العرف». (¬7) مصرد: مقلل، وفى حاشية الأصل: «أى لم يبق الغنى إلا من قبل عطاء قليل».

وردّت أكفّ الرّاغبين وأمسكوا … من الدّين والدّنيا بخلف مجدّد (¬1) فأحسن صلته. وأخبرنا المرزبانىّ قال أخبرنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد النحوىّ قال أخبرنا أحمد بن يحيى النحوىّ أن ابن الأعرابىّ أنشدهم: مررنا عليه وهو يكعم كلبه … دع الكلب ينبح؛ إنما الكلب نابح قوله «يكعم كلبه» - أى يشدّ فاه خوفا أن ينبح فيدل عليه. وقال آخر: وتكعم كلب الحىّ من خشية القرى … ونارك كالعذراء من دونها ستر (¬2) قال: وقد قال الأخطل: قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم … قالوا لأمّهم بولى على النار قال أبو عبد الله: وسمعت محمد بن يزيد الأزدىّ يقول: هذا من أهجى ما هجى به جرير، لأنه جعل نارهم تطفئها البولة، وجعلهم يأمرون أمهم بالبول استخفافا بها. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «منقطع اللبن، من قولهم: ناقة جداء؛ يقال: ناقة مجددة الأخلاف إذا ضربها الصرار وقطعها، وتجدد ضرع الناقة ذهب لبنه». وفيها أيضا: «لما احتضر عبد الملك بن مروان غشى عليه، ثم أفاق، فسمع امرأة تقول: مات أمير المؤمنين: فتمثل بهذين البيتين». (¬2) اللسان (كعم) من غير عزو.

51

مجلس آخر 51 تأويل آية [رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ] إن سأل سائل فقال: ما تأويل قوله تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ؛ [آل عمران: 8]. أوليس ظاهر الآية يقتضي أنه تعالى يجوز أن يزيغ القلوب عن الإيمان حتى تصحّ مسألته تعالى ألّا يزيغها، ويكون هذا الدعاء مفيدا؟ الجواب، قلنا فى هذه الآية وجوه: أوّلها أن يكون المراد بالآية: ربنا لا تشدّد علينا المحنة فى التكليف، ولا تشق علينا فيه، فيفضى بنا ذلك إلى زيغ القلوب منّا بعد الهداية؛ وليس يمتنع أن يضيفوا ما يقع من زيغ قلوبهم عند تشديده تعالى عليهم المحنة إليه؛ كما قال عز وجل فى السورة: إنّها (¬1) زادتهم رجسا إلى رجسهم، وكما قال مخبرا عن نوح عليه السلام: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً؛ [نوح: 6]. فإن قيل: كيف يشدّد عليهم فى المحنة؟ قلنا: بأن يقوّى شهواتهم، لما قبحه فى عقولهم، ونفورهم (¬2) عن الواجب عليهم، فيكون التكليف عليهم بذلك شاقا، والثواب المستحقّ عليهم عظيما متضاعفا وإنما يحسن أن يجعله شاقا تعريضا لهذه المنزلة. وثانيها أن يكون ذلك دعاء بالتثبيت لهم على الهداية، وإمدادهم بالألطاف التى معها يستمرّون على الإيمان. فإن قيل: وكيف يكون مزيغا لقلوبهم بألّا يفعل اللّطف؟ ¬

_ (¬1) الضمير يعود إلى المحنة؛ والآية فى سورة التوبة: 125: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ. (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «ونقارهم».

قلنا: من حيث كان المعلوم أنه متى قطع إمدادهم بألطافه وتوفيقاته زاغوا وانصرفوا عن الإيمان. ويجرى هذا مجرى قولهم: اللهم لا تسلّط علينا من لا يرحمنا؛ معناه لا تخلّ بيننا وبين من لا يرحمنا فيتسلّط علينا؛ ومثله قول الشاعر: أتانى ورحلى بالمدينة وقعة … لآل تميم أقعدت كلّ قائم أراد: قعد لها كل قائم؛ فكأنهم قالوا: لا تخلّ بيننا وبين نفوسنا وتمنعنا ألطافك، فنزيغ ونضلّ. وثالثها ما أجاب به أبو عليّ الجبائى محمد بن عبد الوهاب، لأنه قال: المراد بالآية ربّنا لا تزغ قلوبنا عن ثوابك ورحمتك. ومعنى هذا السؤال أنهم سألوا الله تعالى أن يلطف لهم فى فعل الإيمان؛ حتى يقيموا عليه ولا يتركوه فى مستقبل عمرهم، فيستحقوا بترك الإيمان أن تزيغ قلوبهم عن الثواب، وأن يفعل بهم بدلا منه العقاب. فإن قال قائل: فما هذا الثواب الّذي هو فى قلوب المؤمنين؛ حتى زعمتم أنّهم سألوا الله تعالى ألّا يزيغ قلوبهم عنه؟ وأجاب بأنّ من الثواب الّذي فى قلوب المؤمنين ما ذكره الله تعالى من الشرح والسّعة بقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ؛ [الأنعام: 125]؛ وقوله تعالى لرسوله/ عليه وآله السلام: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] وذكر أن ضدّ هذا الشرح هو الضّيق والحرج اللّذان يفعلان بالكفار عقوبة، قال: ومن ذلك أيضا التطهير الّذي يفعله فى قلوب المؤمنين، وهو الّذي منعه الكافرين، فقال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ؛ [المائدة: 41]. قال: ومن ذلك أيضا كتابته الإيمان فى قلوب المؤمنين، كما قال الله تعالى: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22] وضدّ هذه الكتابة هى سمات الكفر التى فى قلوب الكافرين؛ فكأنهم سألوا الله تعالى ألّا يزيغ قلوبهم عن هذا الثواب إلى ضده من العقاب.

ورابعها أن تكون الآية محمولة على الدعاء بألّا يزيغ القلوب عن اليقين والإيمان. ولا يقتضي ذلك أنّه تعالى سئل ما كان لا يجب أن يفعله، وما لولا المسألة لجاز فعله؛ لأنّه غير ممتنع أن يدعوه على سبيل الانقطاع إليه، والافتقار إلى ما عنده بأن يفعل تعالى ما نعلم أنه لا بدّ من أن يفعله، وبألّا يفعل ما نعلم أنه واجب ألّا يفعله؛ إذا تعلق بذلك ضرب من المصلحة؛ كما قال تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ؛ [الشعراء: 87] وكما قال فى تعليمنا ما ندعو به: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ؛ [الأنبياء: 112] وكقوله تعالى: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ؛ [البقرة: 286]، على أحد الأجوبة: وكل ما ذكرناه واضح بين بحمد الله. *** قال سيدنا أدام الله تمكينه: وإنى لأستحسن قول الراعى فى وصف الأثافىّ والرماد، فقد (¬1) طبّق وصفه المفصل، مع جزالة الكلام وقوته واستوائه واطراده: وأورق مذ عهد ابن عفّان حوله … حواضن ألّاف على غير مشرب وراد الأعالى أقبلت بنحورها … على راشح ذى شامة متقوّب كأنّ بقايا لونه فى متونها … بقايا هناء فى قلائص مجرب الأورق: الرّماد، جعل الأثافىّ له كالحواضن؛ لاحتضانها له واستدارتها حوله. وأراد بوراد الأعالى أن ألوانها تضرب إلى الحمرة، وخصّ الأعالى؛ لأنها مواضع القدر فلا تكاد/ تسودّ. والراشح: هو الراضع؛ وإنما شبّه الرماد بينهن بفصيل بين أظآر. والمتقوّب: الّذي قد انحسر أعلاه. وشبّه ما سوّدت النار منهن بأثر قطران على قلائص جربى. والمجرب: الّذي قد جربت إبله. ونظير هذا المعنى بعينه، أعنى تشبيه تسويد النار بالهناء قول ذى الرّمة: ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «فلقد».

عفا الزّرق من أطلال ميّة فالدّحل … فأجماد حوضى حيث زاحمها الحبل (¬1) سوى أن يرى سوداء من غير خلقة … تخاطأها، وارتثّ جاراتها النّقل (¬2) من الرّضمات البيض غيّر لونها … بنات فراض المرخ واليابس الجزل كجرباء دسّت بالهناء فأفصيت … بأرض خلاء أن تقاربها الإبل قوله: «سوداء من غير خلقة» يعنى أثفيّة؛ لأن السواد ليس بخلقة بها؛ وإنما سوّدتها النار. وقوله: تخاطأها النقل، أى تجاوزها فلم تحمل من مكان إلى مكان؛ بل بقيت منفردة. وارتثّ جاراتها: يعنى بجاراتها؛ أى نقلن عنها الأثافىّ اللواتى كنّ معها. والمرتثّ: هو المنقول من مكان إلى مكان؛ وأصل ذلك فى الجريح والعليل؛ يقال ارتثّ الرجل ارتثاثا إذا حمل من المعركة وبه رمق. قال النضر بن شميل: معنى ارتثّ صرع. وقال أبو زيد: هو مأخوذ من قولهم ارتثثنا رثّة القوم إذا جمعوا رديء متاعهم بعد أن يتحملوا من موضعهم؛ وكلا المعنيين يليق ببيت ذى الرّمة؛ لأنه قد يجوز أن يريد [بقوله: «وارتثّ جاراتها»، أى نقلن عنها، ويجوز أن يريد] (¬3): صرعن وبقيت ثابتة قائمة. والرّضات: حجارة بيض بعضها على بعض. والفراض: جمع فرض، وهو الحزّ يكون فى الزند وعنى ببنات فراض المرخ شرر النار الخارجة من ذلك الفرض. والمرخ: شجر تتخذ منه الرندة. ومن أمثالهم: «فى كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار (¬4)»، وهذا المثل يضرب للرجل الكريم الّذي يفضل على القوم ويزيد عليهم؛ فكأن المعنى: كلّ القوم كرام وأكرمهم فلان. ¬

_ (¬1) ديوانه: 454. الزرق: أكثبة بالدهناء؛ والدحل وحوضى: موضعان؛ والأجماد: جمع جمد؛ وهى الأرض الغليظة فى صلابة الجبل، ويعنى بالجبل حبل الرمل، وهو رمل مستطيل. (¬2) من نسخة بحاشية الأصل: «تخطأها». (¬3) ساقط من م. (¬4) المثل فى مجمع الأمثال للميدانى (2: 18)؛ قال: استمجد المرخ والعفار؛ أى استكثرا وأخذا من النار ما هو حسبهما؛ شبها بمن يكثر العطاء طلبا للمجد لأنهما يسرعان الورى».

ومعنى «كجرباء دسّت بالهناء» أنه شبه الأثفيّة المفردة بناقة جرباء قد أفردت وأبعدت عن الإبل حتى لا تجربها ولا تعديها. ومعنى دسّت بالهناء، طليت به. وفى معنى قول الراعى: «وراد الأعالى» شبه من قول الشّماخ بن ضرار: / أقامت على ربعيهما جارتا صفا … كميتا الأعالى جونتا مصطلاهما (¬1) يعنى «بربعيهما» منزلى الامرأتين (¬2) اللتين ذكرهما، ويعنى «بجارتا صفا» الأثفيّتين؛ لأنهما مقطوعتان من الصّفا الّذي هو الصّخر. ويمكن فى قوله: «جارتا صفا» وجه آخر هو أحسن من هذا؛ وهو أنّ الأثفيّتين توضعان قريبا من الجبل، لتكون حجارة الجبل ثالثة لهما، وممسكة للقدر معهما؛ ولهذا تقول العرب: رماه بثالثة الأثافىّ؛ أى بالصخرة أو الجبل، وشبه أعلاهما بلون الكميت؛ وهو لون الحجر نفسه؛ لأن النار لم تصل إليه فتسوده (¬3). ومصطلاهما جون أى أسود؛ لأنّ النار قد سفعته وسوّدته. وقال الراعى فى وصف الأثافىّ أيضا: أذاع بأعلاه، وأبقى شريده … ذرا مجنحات بينهنّ فروج كأنّ بجزع الدّار لمّا تحمّلوا … سلائب ورقا بينهنّ خديج أذاع بأعلاه، يعنى الرماد؛ لأن السافى (¬4) يطيّر ظاهره وما علا منه. وأبقى شريده، أى بقى (¬5) لما شرد على السافى فلم يطر. وذرا لجنحات يعنى الأثافىّ. وذرا كل شيء: جانبه وما استذريت به منه. والمجنحات: المسبلات منه. ¬

_ (¬1) ديوانه 86. (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «منزلتى المرأتين». (¬3) حاشية الأصل: ويمكن فى «جارتا صفا» وجه آخر؛ وهو أحسن من هذا؛ وهو أن الأثفيتين توضعان قريبا من الجبل، لتكون حجارة الجبل ثالثة الأثافى وممسكة للقدر معهما؛ ولهذا يقال: رماه بثالثه الأثافى؛ أى الصخرة أو الجبل». (¬4) السافى: الريح التى تسقى التراب. (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «يبقى».

والسلائب: جمع سلوب؛ وهى الناقة التى قد سلبت ولدها بموت أو نحر؛ فقد عطفت على حوار آخر. والخديج: الّذي قد سقط لغير تمام. والورق: اللواتى ألوانهن كلون الرماد. وفى معنى قول الراعى: «وأبقى شريده ذرا مجنحات» قول المخبّل السعدىّ: وأرى لها دارا بأغدرة السيّ … دان لم يدرس لها رسم (¬1) إلّا رمادا هامدا دفعت … عنه الرّياح خوالد سحم (¬2) إلا هاهنا: بمعنى الواو، فكأنه قال: وأرى رمادا هامدا، ولولا أن «إلّا» هاهنا بمعنى الواو لفسد الكلام ونقض آخره أوّله، لأنه يقول فى آخر البيت: إنّ الخوالد السّحم دفعت عنه الرياح، فكيف يخبر بأنه قد درس، وإنما أراد أنّه باق ثابت، لأنّ الأثافىّ دفعت عنه الرياح فلم يستثنه، إذن هو من جملة ما لم يدرس، بل هو داخل فى جملته. وللراعى أيضا فى الأثافىّ: أنخن وهنّ أغفال عليها … فقد ترك الصّلاء بهنّ نارا / شبه الأثافىّ بنوق أنخن أغفالا، ليست عليهنّ سمة؛ ثم أخبر أنّ الوقود أثّر فيهن أثرا كالسّمة، والنار السمة، تقول العرب: ما نار بعيرك؟ أى، ما سمته؟ وفى أمثالهم: «نجارها نارها»، أى سمتها تدلّ على كرمها، يضرب ذلك للرجل ترى له ظاهرا حسنا يدلّ على باطن خبره. ¬

_ (¬1) من قصيدة فى المفضليات 113 - 118، مطلعها: ذكر الرباب وذكرها سقم … فصبا وليس لمن صبا حلم وأغدرة: جمع غدير. والسيدان: أرض لبنى سعد؛ والرسم: الأثر بلا شخص؛ ودروسه: ذهابه؛ يريد: لم يذهب كله. (¬2) الخوالد: البواقى، عنى بها الأثافى. بسحم: من السحمة؛ وهو لون يضرب إلى السواد.

وقال عدىّ بن الرّقاع العاملىّ: إلّا رواكد كلّهنّ قد اصطلى … حمراء أشعل أهلها إيقادها (¬1) كانت رواحل للقدور فعرّيت … منهنّ، واستلب الزّمان رمادها وقال الأسعر الجعفىّ: إلّا رواكد بينهنّ خصاصة … سفع المناكب، كلّهنّ قد اصطلى (¬2) وقال حميد بن ثور: فتغيّرت إلّا ملاعبها … ومعرّسا من جونة ظهر (¬3) عرش الثّقاب لها بدار مقامة … للحىّ بين نظائر وتر الجونة: القدر: ويقال: قدر ظهر، وقدور ظهور، إذا كانت قديمة (¬4). وعرش، أى جعل مثل العريش، يعنى الوقود. والثّقاب: ما أثقبت به النار من الوقود. والنظائر: هى الأثافىّ: والوتر: الفرد، وأراد أنها ثلاث. وقال الكميت بن زيد: ولن تحيّيك أظآر معطّفة … بالقاع، لا تمك فيها ولا ميل ليست بعوذ، ولم تعطف على ربع … ولا يهيب بها ذو النيّة الإبل يعنى الأثافىّ، فشبّه عطفها على الرماد بنوق أظآر قد عطفن على فصيل. والتّمك: انتصاب السنام. والميل: من صفة السّنام أيضا. والعائذ من النّوق: التى يتبعها ولدها. والرّبع: الّذي نتج فى أول الربيع. والإهابة: الدعاء؛ أهاب بإبله إذا دعاها. وذو النية: الّذي قد نوى الرّحيل. الإبل: صاحب الإبل. ¬

_ (¬1) الطرائف الأدبية 87 مع اختلاف فى الرواية. (¬2) البيت فى أمالى القالى 1: 45 غير منسوب، ونسبه فى اللآلي: 189 للرخيم العبدى، وفى م نسب إلى مالك الجعفى، والبيت ليس فى قصيدة الأسعر التى فى أول الأصمعيات. (¬3) ديوانه: 93. المعرس: مكان تعريس القوم فى السفر فى آخر الليل. (¬4) فى اللسان: «وقدر ظهر: قديمة؛ كأنها تلقى وراء الظهر لقدمها»، واستشهد بالبيت.

وقال ذو الرّمة: فلم يبق إلّا أن ترى فى محلّه … رمادا نحت عنه السيول جنادله (¬1) / كأنّ الحمام الورق فى الدّار وقّعت (¬2) … على حرق بين الظّئور جوازله شبه الأثافىّ بالحمام الورق؛ وجعلها ظئورا لتعطّفها على الرماد؛ وشبه الرّماد بفرخ حرق قد سقط ريشه. والجوازل: الفراخ. واحدها جوزل. وقال البعيث: ألا حييّا الرّبع القواء وسلّما … ورسما كجثمان الحمامة أدهما قيل إن الحمام هاهنا القطاة؛ وإنه شبّه ألوان الرسوم من الرّماد، وموقد نار، ودمنة، ومجرّ طنب، وما أشبه هذه الأشياء بألوان ريش قطاة. ومثله لجرير: كأنّ رسوم الدّار ريش حمامة … محاها البلى واستعجمت أن تكلّما (¬3) ولقد أحسن كلّ الإحسان كثيّر فى قوله: أمن القيلة بالدّخول رسوم … وبحومل طلل يلوح قديم (¬4) لعب الرّياح برسمه فأجدّه … جون عواكف فى الرّماد جثوم سفع الخدود كأنّهنّ وقد مضت … حجج عوائد بينهنّ سقيم وقيل فى قوله: «فأجدّه جون عواكف» يعنى الأثافىّ، لأن الريح لما كشفت عنها، وظهرت صارت هى كأنها أجدّت الرّسم. ويحتمل وجه آخر، وهو أن يكون معنى «أجدّت» أنّها حمت الرماد الّذي أحاطت به عن لعب الرّياح، فبقى بحاله يستدلّ به المترسم (¬5)، ¬

_ (¬1) ديوانه: 465. نحت: صرفت؛ وفى الديوان: «نفت»، والجنادل: الحجارة. (¬2) وقعت: ربضت، وفى الديوان: «جثمت». (¬3) ديوانه: 543. (¬4) ديوانه 1: 253. (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «المتوسم».

فكأن الرياح درست الربع ومحته إلّا ما أجدّته هذه الأثافىّ من الرماد، ومنعت الريح منه، ويجرى ذلك مجرى قول المخبّل: إلّا رمادا هامدا ... … البيت ... وقال المرار الفقعسيّ فى الأثافىّ: أثر الوقود على جوانبها … بخدودهنّ كأنّه لطم ويقال إن أبا تمام الطائىّ أخذ ذلك فى قوله: قفوا نعط المنازل من عيون … لها فى الشّوق أحساء غزار (¬1) عفت آياتهنّ، وأىّ ربع … يكون له على الزّمن الخيار! / أثاف كالخدود لطمن حزنا … ونؤي مثل ما انفصم السّوار وقد عاب عليه قوله: «لطمن حزنا» بعض من لا معرفة له، وقال: لا فائدة فى قوله «حزنا»، ولذلك فائدة؛ وذلك أنّ لطم الحزن يكون أوجع وأبلغ، فتأثيره أظهر وأبين؛ وقد يكون اللطم لغير الحزن؛ فأما قوله. * ونؤي مثل ما انفصم السوار* فمأخوذ من قول الشاعر: نؤي كما نقص الهلال محاقه (¬2) … أو مثلما فصم السّوار المعصم وقد شبّه الناس النّؤى بالسوار والخلخال كثيرا، وبغير ذلك، قال كثيّر: عرفت لسعدى بعد عشرين حجّة … بها درس نؤي فى المحلّة منحن (¬3) قديم كوقف العاج ثبّت حوله … مغارز أوتاد برضم موضّن ¬

_ (¬1) ديوانه: 140؛ والرواية فيه: «قفا نعط». وأحساء: جمع حسى؛ وهو الماء تحت الرمل، ينبط بالأيدى. (¬2) المحاق، مثلثة: آخر الشهر. (¬3) ديوانه: 1: 58.

- الوقف: السوار من الذّبل ومن العاج. والرّضم: صخور عظام. والموضّن: الّذي يعضه فوق بعض. وقال بشار: ونؤي كخلخال الفتاة، وصائم … أشجّ على ريب الزمان رقوب (¬1) الصائم الأشج: يعنى الوتد؛ وإنما وصفه بأنه صائم لقيامه وثباته، وجعله رقوبا لانفراده، والمرأة الرّقوب والشيخ الرّقوب: الّذي لا يعيش له ولد. ومن مستحسن ما وصف به النؤى قول أبى تمام: والنّؤى أهمد شطره فكأنّه … تحت الحوادث حاجب مقرون (¬2) وقال المتنبى فى ذلك: قف على الدّمنتين بالدّوّ من ريّ … اكخال فى وجنة جنب خال (¬3) بطول كأنّهنّ نجوم … فى عراص كأنّهنّ ليال ونؤيّ كأنهنّ عليه … نّ خدام خرس بسوق خدال الخدام: جمع خدمة (¬4)؛ وهى الخلخال، وجعلها خرسا لأنها غير قلقة، وشبه ما أحدق به النؤى من الأرض وامتلائها بامتلاء الخلخال، من الساق الخدلة، وهى الممتلئة. ¬

_ (¬1) ديوانه: 1: 181. (¬2) ديوانه: 328. (¬3) ديوانه: 3: 192. الدو: الأرض الواسعة المستوية القفرة؛ وريا: اسم امرأة؛ والمراد: من ريا، والخال: شامة تخالف لون الوجه. والشامة: تكون فى الوجه والجسم. (¬4) الخدمة فى الأصل: سير يشد فى رسغ البعير، وبه سمى الخلخال؛ لأنه ربما كان من سيور، يركب فيه الذهب والفضة.

52

مجلس آخر 52 تأويل آية [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً] إن سأل سائل عن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ، [البقرة: 67 - 70]. فقال: ما تأويل هذه الآيات؟ وهل البقرة التى نعتت بجميع النعوت هى البقرة المرادة باللفظ الأول والتكليف واحد، أو المراد مختلف والتكليف متغاير؟ الجواب، قلنا: أهل العلم فى تأويل هذه الآية مختلفون بحسب اختلاف أصولهم؛ فمن جوّز تأخير البيان عن وقت الخطاب يذهب إلى أن التكليف واحد، وأن الأوصاف المتأخرة هى للبقرة المتقدّمة؛ وإنما تأخر البيان، ولما سأل القوم عن الصفات ورد البيان شيئا بعد شيء. ومن لم يجوّز تأخير البيان يقول: إن التكليف متغاير؛ وإنهم لما قيل لهم: اذبحوا بقرة لم يكن المراد منهم إلا ذبح أىّ بقرة شاءوا، من غير تعيين بصفة، ولو أنهم ذبحوا أىّ بقرة اتفقت لهم كانوا قد امتثلوا الأمر، فلمّا لم يفعلوا كلّفوا ذبح بقرة لا فارض ولا بكر، ولو ذبحوا ما اختصّ بهذه الصفة من أىّ لون كان لأجزأ عنهم، فلمّا لم يفعلوا كلّفوا ذبح بقرة صفراء، فلما لم يفعلوا كلّفوا ذبح ما اختص بالصفات الأخيرة.

ثم اختلف هؤلاء من وجه آخر، فمنهم من قال فى التكليف الأخير: إنه يجب أن يكون مستوفيا لكل صفة تقدّمت، حتى تكون البقرة مع أنها غير ذلول تثير الأرض ولا تسقى الحرث، مسلّمة لا شية فيها، [صفراء فاقع لونها، ولا فارض ولا بكر] (¬1). ومنهم من قال: إنما يجب أن تكون بالصفة الأخيرة فقط، دون ما تقدم. وظاهر الكتاب بالقول/ المبنى على جواز تأخير البيان أشبه، وذلك أنه تعالى لما كلّفهم ذبح بقرة قالوا للرسول: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ، فلا يخلو قولهم: ما هِيَ من أين يكون كناية عن البقرة المتقدّم ذكرها، أو عن التى أمروا بها ثانيا؛ على قول من يدّعى ذلك. وليس يجوز أن يكون (¬2) سألوا عن صفة غير التى تقدّم ذكرها، لأن الظاهر من قولهم ما هِيَ بعد قوله لهم: اذبحوا بقرة يقتضي أن يكون السؤال عن صفة البقرة المأمور بذبحها؛ ولأنه لا علم لهم بتكليف ذبح بقرة أخرى فيستفهموا عنها؛ وإذا صحّ أن السؤال إنما كان عن صفة البقرة المنكّرة التى أمروا فى الابتداء يذبحها فليس يخلو قوله: إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ من أن يكون كناية عن البقرة الأولى، أو عن غيرها، وليس يجوز أن يكون ذلك كناية عن بقرة ثانية، لأن ظاهر قوله: إنّها بقرة من صفتها كذا بعد قولهم: ما هِيَ يقتضي أن يكون كناية متعلقة بما تضمنه سؤالهم، ولأنّ الأمر لو لم يكن على ما ذكرناه لم يكن ذلك جوابا لهم، بل كان يجب أن يكونوا سألوه عن شيء فأجابهم عن غيره، وهذا لا يليق بالنبى عليه السلام. على أنه لما أراد أن يكلّفهم تكليفا ثانيا عند تفريطهم فى الأول على ما يدعيه من ذهب إلى هذا المذهب قد كان يجب أن يجيبهم عن سؤالهم، وينكر عليهم الاستفهام فى غير موضعه، وتفريطهم فيما أمروا به؛ مما لا حاجة بهم إلى الاستفهام عنه، فيقول فى جواب قولهم: ما هِيَ: ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «ش: صفراء فاقعا لونها، ولا فارضا ولا بكرا». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): أن يكونوا».

إنما كلّفتم أىّ بقرة شئتم، وما يستحق اسم بقرة، وقد فرّطتم فى ترك الامتثال، وأخطأتم فى الاستفهام، مع وضوح الكلام، إلّا أنكم قد كلّفتم ثانيا كذا وكذا، لأن هذا مما يجب عليه بيانه؛ لإزالة الشك والإبهام واللبس؛ فلما لم يفعل ذلك، وأجاب بالجواب الّذي ظاهره يقتضي التعلّق بالسؤال علم أن الأمر على ما ذكرناه. وهب أنه لم يفعل ذلك فى أول سؤال، كيف لم يفعله مع تكرار الأسئلة والاستفهامات التى لم تقع على هذا المذهب بموقعها؟ ومع تكرر المعصية والتفريط كيف يستحسن أن يكون جميع أجوبته غير متعلّقة بسؤالاتهم؟ لأنهم يسألونه/ عن صفة شيء فيجيبهم بصفة غيره من غير بيان؛ بل على أقوى الوجوه الموجبة لتعلّق الجواب بالسؤال؛ لأنّ قول القائل فى جواب من سأله ما كذا وكذا: إنه بالصفة الفلانية صريح فى أن الهاء كناية عمّا وقع السؤال عنه؛ هذا مع قولهم: إن البقر تشابه علينا، لأنهم لم يقولوا ذلك إلا وقد اعتقدوا أن خطابهم مجمل غير مبين، فلم لم يقل: أىّ تشابه عليكم إذ إنما أمرتم فى الابتداء بأىّ بقرة كانت، وفى الثانى بما اختص باللون المخصوص من أى البقر كان؟ فإن قيل: كيف يجوز أن يأمرهم بذبح بقرة لها جميع الصفات المذكورة إلى آخر الكلام ولا يبين ذلك لهم، وهل هذا إلا تكليف ما لا يطاق! قلنا: لم يرد منهم أن يذبحوا البقرة فى الثانى من حال الخطاب؛ ولو كانت حال الفعل حاضرة لما جاز أن يتأخر البيان، لأن تأخيره عن وقت الحاجة هو القبيح الّذي لا شبهة فى قبحه، وإنما أراد أن يذبحوها فى المستقبل، فلو لم يستفهموا ويطلبوا البيان لكان قد ورد عليهم عند الحاجة إليه. فإن قيل: إذا كان الخطاب غير متضمّن لصفة ما أمروا بذبحه، فوجوده كعدمه، وهذا يخرجه من باب الفائدة، ويوجب كونه عبثا! قلنا: ليس يجب ما ظننتم؛ لأن القول وإن كان لم يفد صفة البقرة بعينها فقد أفاد تكليف ذبح بقرة على سبيل الجملة؛ ولو لم يكن ذلك معلوما قبل هذا الخطاب، لصار مفيدا من حيث ذكرنا،

وخرج من أن يكون وجوده كعدمه. وفوائد الكلام لا يجب أن يدخلها الاقتراح، وليس يخرج الخطاب من تعلّقه ببعض الفوائد كونه غير متعلق بغيرها، وبما هو زيادة عليها. فإن قيل: ظاهر قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ يدلّ على استبطائهم وذمّهم على التقصير فى امتثال الأمر! قلنا: ليس ذلك صريح ذمّ، لأن كادُوا للمقاربة، وقد يجوز أن يكون التكليف صعب عليهم لغلاء ثمن البقرة التى تكاملت لها تلك الصفات، فقد روى أنهم ابتاعوها بملء جلدها ذهبا. على أن الذمّ يقتضي ظاهره أن يصرف إلى تقصيرهم أو تأخيرهم امتثال الأمر بعد/ البيان التام، لأن قوله تعالى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ إنما ورد بعد تقدّم البيان التامّ المتكرر، ولا يقتضي ذمّهم على ترك المبادرة فى الأول إلى ذبح بقرة، فليس فيه دلالة على ما يخالف ما ذكرناه. فإن قيل: لو ثبت تقديرا أن التكليف فى البقرة متغاير، أىّ القولين اللّذين حكيتموهما عن أهل هذا المذهب أصحّ وأشبه؟ قلنا: قول من ذهب إلى أنّ البقرة إنما يجب أن تكون بالصفة الأخيرة فقط، لأن الظاهر به أشبه؛ من حيث إذا ثبت تغاير التكليف: وليس فى قوله: إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ إلى آخر الأوصاف ذكر لما تقدم من الصفات، وهذا التكليف غير الأول، فالواجب اعتبار ما تضمنه لفظه والاقتصار عليه. فأما «الفارض» فهى المسنّة، وقيل: هى العظيمة الضخمة؛ يقال: غرب فارض، أى ضخم، والغرب الدلو؛ ويقال أيضا: لحية فارضة؛ إذا كانت عظيمة؛ والأشبه بالكلام أن يكون المراد المسنّة. فأما «البكر» فهى الصغيرة التى لم تلد، فكأنه تعالى قال: تكون غير مسنّة، ولا صغيرة.

والعوان: دون المسنّة وفوق الصغيرة؛ وهى النّصف التى ولدت بطنا أو بطنين؛ يقال: حرب عوان إذا لم تكن أول حرب وكانت ثانية؛ وإنما جاز أن يقول: بَيْنَ ذلِكَ «وبين» لا يكون إلا مع اثنين أو أكثر؛ لأن لفظة «ذلك» تنوب عن الجمل، تقول: ظننت زيدا قائما، ويقول القائل: قد ظننت ذلك. ومعنى فاقِعٌ لَوْنُها، أى خالصة الصفرة، وقيل: إن كل ناصع اللون؛ بياضا كان أو غيره فهو فاقع. وقيل: إنه أراد ب «صفراء» هاهنا سوداء. ومعنى قوله تعالى: لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ أى تكون صعبة لا يذللها العمل فى إثارة الأرض وسقى الزرع. ومعنى مُسَلَّمَةٌ، مفعلة، من السلامة من العيوب، وقال قوم: مسلّمة من الشّية، أى لا شية فيها تخالف لونها. وقيل: لا شِيَةَ فِيها، أى لا عيب فيها؛ وقيل: لا وضح، وقيل: لا لون يخالف لون جلدها، والله أعلم بما أراد، وإياه نسأل حسن التوفيق. *** قال سيدنا أدام الله تمكينه: كنت أظن أن المتنبى قد سبق إلى معنى قوله فى مرثية أخت سيف الدولة: / طوى الجزيرة حتّى جاءنى خبر … فزعت فيه بآمالى إلى الكذب (¬1) حتّى إذا لم يدع لى صدقه أملا … شرقت بالدّمع حتّى كاد يشرق بى حتى رأيت هذا المعنى لمسلم بن الوليد الأنصارىّ، وللبحترىّ. ¬

_ (¬1) ديوانه 1: 87 - 88. الجزيرة: ما كان من الموصل إلى الفرات؛ وكان الخبر بوفاتها ورد إليه من حلب.

أما الّذي لمسلم فقوله فى قصيدة يرثى بها سهل بن الصباح: وقف العفاة عليك من متحيّر … وله الرّجاء، وذى غنى يسترجع ومخادع السّمع النّعىّ ودونه … خطب ألمّ بصادق لا يخدع وقال البحترى يرثى وصيفا التركيّ: إذا جدّ ناعيه توهّمت أنه … يكرّر من أخباره قول مازح (¬1) وكنت أظن المتنبى قد سبق إلى قوله: يحلّ القنا يوم الطّعان بعقوتى … فأحرمه عرضى، وأطعمه جلدى (¬2) حتى رأيت هذا المعنى واللفظ بعينه لجهم بن شبل الكلابىّ من أهل اليمامة فى قوله: ثنى قومه عن حدرجان وقد حنا … إلى الموت دامى الصّفحتين كليم (¬3) أخو الحرب، أمّا جلده فمجرّح … كليم، وأما عرضه فسليم (¬4) وكنت أظنّ البحترى قد سبق إلى معنى قوله فى الفتح بن خاقان: حملت عليه السّيف، لا عزمك انثنى … ولا يدك ارتدّت، ولا حدّه نبا (¬5) حتى وجدت لشاعر متقدم: طعنت ابن دهمان بنجران طعنة … شققت بها عنه مضاعفة السّرد فلا الكفّ أوهت بى، ولا الرّمح خاننى، … ولا الأدهم المنعوت حاد عن القصد *** ¬

_ (¬1) ديوانه 1: 121. (¬2) ديوانه 2: 61. عقوتى؛ أى بقربى. (¬3) فى حاشيتى الأصل، ت: «الحدرجان، بالكسر: القصير؛ قال ابن دريد فى كتاب الاشتقاق: حدرجان: اسم رجل قتله أمير المؤمنين صلوات الله عليه؛ وهو فعللان؛ من قولهم: حدرجت السوط وغيره؛ إذا فتلته فتلا شديدا، ويجوز أن يكون من مقلوب دحرج». (¬4) التبيان 2: 61. (¬5) ديوانه 1: 56.

قال محمد بن يحيى الصولىّ: وصف الناس صفرة اللون فى العلل؛ فكلّ حكى ذلك وبلا فضيلة إلّا البحترى: قال أعرابى من أبيات: جعلت وما عاينت عطرا كأنّما … جرى بين جلدى والعظام خلوق / وقال أبو تمام: لم تشن وجهه المليح ولكن … جعلت ورد وجنتيه بهارا (¬1) وقال غيره: ولم تشن شيئا ولكنّها … بدّلت التّفّاح بالياسمين وقال بكر بن عيسى: علة زعفرت مورّد خدّ … كاد من رقة وريّ يفيض ولأحمد بن يزيد المهلبى: وقالوا عرت غراء حمى شديدة … فوجنتها منها شديد صفارها فقلت لهم: هيهات هاتيك روضة … مضى وردها عنا، وجاء بهارها ولأبى العتاهية: وكأننى مما تطاول بى … منك السّقام طليت بالورس وقال ابن المعتز: وصفّرت علته وجهه … فصار كالدّينار من حقّ (¬2) ¬

_ (¬1) ديوانه: 441. (¬2) حاشية الأصل: «كذا فى ديوانه، وحق كلمة عراقية» أى حقيقة، أى هذا الّذي أقوله من جملة الحق، وقبله: وا بأبي من جئته عائدا … فزادنى عشقا على عشق.

وقال البحترىّ: بدت صفرة فى لونه إنّ حمدهم … من الدّرّ ما اصفرّت نواحيه فى العقد وجرّت على الأيدى مجسّة كفّه … كذلك موج البحر ملتهب الوقد وما الكلب محموما، وإن طال عمره … ولكنّما الحمّى على الأسد الورد قال سيدنا أدام الله تمكينه: أما تشبيهه صفرة اللون بصفرة الدرّ فهو تشبيه مليح موافق لغرضه؛ إلّا أنه أخطأ فى قوله: ... إنّ حمدهم … من الدّر ما اصفرّت نواحيه فى العقد لأن ذلك ليس بمحمود بل مذموم؛ ولو شبّه وترك التعليل لكان أجود. *** وروى أبو العباس أحمد بن فارس المنبجىّ قال حدّثنا أبو أحمد عبيد الله بن يحيى بن البحترىّ قال حدثني أبى قال حدثنى جدّى البحترىّ قال: كنت عند أبى العباس المبرّد، فتذاكرنا شعر عمارة بن عقيل، فقال لى: لقد أحسن عمارة فى قوله لخالد بن يزيد لما وجّه إليه بهذين البيتين: لم أستطع سيرا لمدحة خالد … فجعلت مدحيه إليه رسولا / فليرحلنّ إلى نائل خالد … وليكفينّ رواحلى التّرحيلا قال البحترىّ: فقلت له: لمروان بن أبى حفصة فى عبد الله بن طاهر- وقد أتاه نائله من الجزيرة ما هو أحسن من هذا- وأنشدته: لعمرى لنعم الغيث غيث أصابنا … ببغداد من أرض الجزيرة وابله فكنّا كحىّ صبّح الغيث أهله … ولم ترتحل أظعانه ورواحله فقال: نعم، هذا أحسن، فقلت له: إن لى فى بنى السّمط- وقد أتانى برّهم من حمص ما لا يتضع عن الجميع وأنشدته:

جزى الله خيرا- والجزاء بكفّه- … بنى السّمط أخدان السّماحة والمجد هم وصلونى والمهامة بيننا … كما ارفضّ غيث من تهامة فى نجد فقال: هذا والله أرقّ مما قالا وأحسن. *** وروى أحمد بن فارس المنبجىّ عن عبيد الله بن يحيى بن البحترىّ قال حدثنا أبى عن جماعة من أهل العلم والأدب، منهم يموت بن المزرّع قال: قلت لأبى عثمان الجاحظ: من أنسب العرب؟ فقال: الّذي يقول: عجلت إلى فضل الخمار فأثّرت … عذباته بمواضع التّقبيل (¬1) وهذا للبحترىّ فى القصيدة التى أوّلها: * صبّ يخاطب مفحمات طلول (¬2) * قال سيدنا: وفى نسيب هذه القصيدة بيت ليس يقصر فى ملاحة الكلام ورشاقته، وأخذه بمجامع القلوب عن البيت الّذي فضله به الجاحظ، وهو: أأخيب عندك والصّبا لى شافع … وأردّ دونك والشّباب رسولى وفى مديح هذه القصيدة بيت معروف بفرط الحسن، وهو: لا تطلبنّ له الشّبيه فإنّه … قمر التأمّل مزنة التأميل *** وبهذا الإسناد عن يحيى بن البحترىّ قال: انصرفت يوما من مجلس أبى العباس محمد بن يزيد المبرّد/ فقال لى البحترىّ أبى: ما الّذي أفدت يومك هذا من أبى العباس؟ قلت: أملى عليّ أخبارا حسنة، وأنشدنى أبياتا للحسين بن الضحاك، فقال أبى: أنشدنى الأبيات، فأنشدته: كأنّى إذا فارقت شخصك ساعة … لفقدك بين العالمين غريب ¬

_ (¬1) عذاباته: جوانبه وأهدابه. (¬2) ديوانه 2: 205 - 207.

وقد رمت أسباب السّلوّ فخاننى … ضمير عليه من هواك رقيب أغرّك صفحى عن ذنوب كثيرة … وغضّى على أشياء منك تريب كأن لم يكن فى النّاس قبلى متيّم … ولم يك فى الدّنيا سواك حبيب إلى الله أشكو إن شكوت فلم يكن … لشكواى من عطف الحبيب نصيب فقال: ما أحسن هذا الكلام! وأنشدنى لنفسه: حبيبى حبيب يكتم النّاس أنّه … لنا حين تلقانا العيون حبيب يباعدنى فى الملتقى وفؤاده … وإن هو أبدى لى البعاد قريب ويعرض عنّى والهوى منه مقبل … إذا خاف عينا أو أشار رقيب فتنطق منّا أعين حين نلتقى … وتخرس منّا ألسن وقلوب ثم قال: ارويا بنيّ هذين؛ فإنهما من حسن الشّعر وطريفه. *** روى أحمد بن فارس المنبجيّ عن أبى نصر محمد بن إسحاق النحوىّ قال: سمعت بعض أهل الأدب يقول للزجاج: قد كنت تعرف أبا العباس المبرّد وكبره، وأنه لم يكن يقوم لأحد ولا يتطاول له، وينشد إذا أشرف عليه الرجل: * ثهلان ذو الهضبات لا يتحلحل (¬1) * ولقد رأيته يوما وقد دخل عليه رجل متدرع، فقام إليه أبو العباس فاعتنقه وتنحّى عن موضعه وأجلسه، فجعل الرجل يكفه ويستعفيه من ذلك؛ فلما أكثر من ذلك عليه أنشده أبو العباس: أتنكر أن أقوم وقد بدا لي … لأكرمه وأعظمه هشام فلا تنكر مبادرتى إليه … فإنّ لمثله خلق القيام (1) / فلما انصرف الرجل سألت عنه فقيل لى هذا البحترىّ. ¬

_ (¬1) البيتان والخبر فى طبقات النحويين واللغويين للزبيدى: 114.

53

مجلس آخر 53 تأويل آية [لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ] إن سأل سائل عن قوله تعالى فى قصة قابيل وهابيل حاكيا عن هابيل: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ؛ [المائدة: 28، 29]. فقال: كيف يجوز أن يخبر عن هابيل- وقد وصفه بالتقوى والطاعة- بأنه يريد أن يبوء أخوه بالإثم؛ وذلك إرادة القبيح، وإرادة القبيح قبيحة عندكم على كل حال؛ ووجه قبحها كونها إرادة لقبيح، وليس قبحها مما يتغير؟ وكيف يصحّ أن يبوء القاتل بإثمه وإثم غيره؟ وهل هذا إلا ما تأبونه من أخذ البريء بجرم السقيم؟ الجواب، قلنا: جواب أهل الحق عن هذه الآية معروف؛ وهو أن هابيل لم يرد من أخيه قبيحا، ولا أراد أن يقتله، وإنما أراد ما خبر الله تعالى عنه من قوله: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ؛ أى إنى أريد أن تبوء بجزاء ما أقدمت عليه من القبيح وعقابه، وليس بقبيح أن يريد نزول العقاب المستحق بمستحقّه. ونظير قوله: «إثمى»؛ مع أن المراد به عقوبة إثمى؛ الّذي هو قتلى قول القائل لمن يعاقب على ذنب جناه: هذا ما كسبت يداك، والمعنى: هذا جزاء ما كسبت يداك، وكذلك قولهم لمن يدعون عليه: لقّاك الله عملك، وستلقى عملك يوم القيامة، معناه ما ذكرناه.

فإن قيل: كيف يجوز أن يحسن إرادة عقاب غير مستحق لم يقع سببه؛ لأن القتل على هذا القول لم يكن واقعا؟ قلنا: ذلك جائز بشرط وقوع الأمر الّذي يستحقّ به العقاب؛ فهابيل لمّا رأى من أخيه التصميم على قتله، والعزم على إمضاء القبيح فيه، وغلب على ظنه وقوع ذلك جاز أن يريد عقابه؛ بشرط أن يفعل ما همّ به، وعزم عليه. فأما قوله: بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فالمعنى فيه واضح لأنه أراد بإثمى عقاب قتلك لى وبإثمك أى عقاب المعصية التى أقدمت عليها من قبل؛ فلم يتقبل قربانك لسببها، لأن الله تعالى أخبر عنهما بأنهما: قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما/ وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ، وأن العلة فى أن قربان أحدهما لم يتقبل أنه غير متق، وليس يمتنع أن يريد بإثمى ما ذكرناه؛ لأن الإثم مصدر، والمصادر قد تضاف إلى الفاعل والمفعول جميعا، وذلك مستعمل مطرد فى القرآن والشعر والكلام. فمثال ما أضيف إلى الفاعل قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ؛ [الحج: 40] ومن إضافته إلى المفعول قوله تعالى: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ؛ [فصلت: 51] وقوله تعالى: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ؛ [ص: 24]. ومما جاء فى الشعر من إضافته إلى المفعول ومعه الفاعل قول الشاعر: أمن رسم دار مربع ومصيف … لعينيك من ماء الشّئون وكيف (¬1) ¬

_ (¬1) البيت للحطيئة، ديوانه: 39؛ وهو مطلع قصيدة يمدح فيها سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص؛ حينما كان واليا على المدينة. الشئون: مجارى الدمع من الرأس إلى العين؛ واحدها شأن، ووكيف: مصدر وكف، أى سال. وفى حاشية الأصل: » يقول: أأن رسم دارا مربع ومصيف بكيت! والمربع والمصيف واردان مورد المصدر، فلذلك عملا فى رسم دار».

وفى الكلام: يقول القائل: أعجبنى ضرب عمرو خالدا، إذا كان «عمرو» فاعلا، وضرب عمرو خالد إذا كان «عمرو» مفعولا. وقد ذكر قوم فى الآية وجها آخر؛ وهو أن يكون المراد: إنى أريد زوال أن تبوء بإثمى وإثمك؛ لأنه لم يرد له إلا الخير والرّشد؛ فحذف «الزوال»، وأقام «أن» وما اتصل بها مقامه؛ كما قال تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ؛ [البقرة: 93] أراد «حبّ العجل» فحذف «الحب» وأقام «العجل» مقامه، وكما قال تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ؛ [يوسف: 82]، وهذا قول بعيد، لأنه لا دلالة فى الكلام على محذوف، وإنما تستحسن العرب الحذف فى بعض المواضع لاقتضاء الكلام المحذوف ودلالته عليه. وذكر أيضا وجه آخر وهو أن يكون المعنى: إنى أريد ألّا تبوء بإثمى وإثمك، أى أريد ألّا تقتلنى ولا أقتلك، فحذف «لا» واكتفى بما فى الكلام (¬1)، كما قال تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا؛ [النساء: 176]، معناه ألّا تضلوا، وكقوله تعالى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ؛ [النحل: 15]، معناه ألا تميد بكم، وكقول الخنساء: فأقسمت آسى على هالك … وأسأل نائحة ما لها (¬2) أرادت: «لا آسى». وقال امرؤ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعدا … ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالى (¬3) أراد «لا أبرح». ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): (بباقى الكلام»: . (¬2) ديوانها، 202 والرواية هناك: يد الدّهر آسى على هالك … وأسأل نائحة ما لها. (¬3) ديوانه: 58.

وقال عمرو بن كلثوم: نزلتم منزل الأضياف منّا … فعجّلنا القرى أن تشتمونا (¬1) أراد ألّا (¬2) تشتمونا؛ والشواهد فى هذا كثيرة جدّا. وهذا الجواب يضعّفه كثير من أهل العربية؛ لأنهم لا يستحسنون إضمار «لا» فى مثل هذا الموضع. فأما قوله تعالى حاكيا عنه: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ؛ فقال قوم من المفسرين: إن القتل على سبيل الانتصار والمدافعة لم يكن مباحا فى ذلك الوقت؛ وإن الله تعالى أمره بالصبر عليه، وامتحن بذلك، ليكون هو المتولّى للانتصاف. وقال آخرون: بل المعنى أنك إن بسطت إلى يدك مبتدئا ظالما لتقتلنى ما أنا بباسط يدى إليك على وجه الظلم والابتداء؛ فكأنه نفى عن نفسه القتل القبيح، وهو الواقع على سبيل الظلم. والظاهر من الكلام بغير ما ذكر من الوجهين أشبه، لأنه تعالى خبّر عنه أنه وإن بسط أخوه إليه يده ليقتله لا يبسط يده ليقتله؛ أى وهو مريد لقتله ومخير (¬3) إليه؛ لأن هذه اللام بمعنى «كى»، وهى منبئة عن الإرادة والغرض؛ ولا شبهة فى حظر ذلك وقبحه؛ ولأن المدافع إنما تحسن منه المدافعة للظالم طلبا للتخلص (¬4) من غير أن يقصد إلى قتله أو الإضرار به؛ ومتى قصد ذلك كان فى حكم المبتدئ بالقتل؛ لأنه (¬5) فاعل القبيح، والعقل شاهد بوجوب التخلص من المضرة بأى وجه يمكن منه؛ بعد أن يكون غير قبيح. ¬

_ (¬1) من المعلقة، ص 235 - بشرح التبريزى. (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «لئلا تشتمونا». (¬3) حاشية ف (من نسخة): «مختار له». (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «طلبا للنجاة»، م: «طلب التخلص». (¬5) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «فى أنه».

تأويل خبر"لا يموت لمؤمن ثلاثة من الأولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم.

فإن قيل: فكأنكم تمنعون من حسن امتحان الله تعالى بالصبر على ترك الانتصار والمدافعة وتوجبونهما على كل حال! قلنا: لا نمنع من ذلك؛ وإنما بيّنا أن الآية غير مقتضية لتحريم المدافعة والانتصاف؛ على ما ذهب إليه قوم؛ لأن قوله: لَأَقْتُلَنَّكَ يقتضي أن يكون البسط لهذا الغرض؛ والمدافعة لا تقتضى ذلك، ولا يحسن من المدافع أن يجرى بها إلى ضرر (¬1)؛ فلا دلالة فى الآية على تحريم المدافعة، ووجب أن يكون ما ذكرناه أولى بشهادة الظاهر. تأويل خبر [«لا يموت لمؤمن ثلاثة من الأولاد فتمسه النار إلا تحلّة القسم.] إن سأل سائل عن معنى الخبر الّذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: / «لا يموت لمؤمن ثلاثة من الأولاد فتمسه النار إلا تحلّة القسم. الجواب، قيل له: أما أبو عبيد القاسم بن سلّام فإنه قال: يعنى بتحلّة القسم قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا؛ [مريم: 71]، فكأنه قال عليه السلام: لا يرد النار إلا بقدر ما يبرّر الله قسمه. وأما ابن قتيبة فإنه قال فى تأويل أبى عبيد: هذا مذهب حسن من الاستخراج؛ إن كان هذا قسما. قال: وفيه مذهب آخر أشبه بكلام العرب ومعانيهم؛ وهو أن العرب إذا أرادوا تقليل مكث الشيء وتقصير مدّته شبهوه بتحلّة القسم؛ وذلك أن يقول الرجل بعد حلفه: إن شاء الله، فيقولون: ما يقيم فلان عندنا إلا تحلّة القسم، وما ينام العليل إلا كتحليل الأليّة، وهو كثير مشهور. قال ابن أحمر (¬2) وذكر الريح: ¬

_ (¬1) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «إلى الضرر». (¬2) ف: «مزاحم بن أحمر».

إذا عصبت رسما فليس بدائم … به وتد إلا تحلّة مقسم (¬1) يقول: لا يثبت الوتد إلّا قليلا كتحلّة القسم، لأن هبوب الريح يقلعه. وقال آخر (¬2) يذكر ثورا: يخفى التّراب بأظلاف ثمانية … فى أربع، مسّهنّ الأرض تحليل (¬3) يقول: هو سريع خفيف؛ فقوائمه لا تثبت فى الأرض إلا كتحليل اليمين. وقال ذو الرّمة: طوى طيّه فوق الكرى جفن عينه … على رهبات من جنان المحاذر (¬4) قليلا كتحليل الألى ثمّ قلّصت … به شيمة روعاء تقليص طائر (¬5) والألى: جمع ألوة، وهى اليمين. قال: ومعنى الخبر على هذا التأويل أن النار لا تسمه إلا قليلا كتحليل اليمين ثم ينجّيه الله منها. وقال أبو بكر محمد بن القاسم الأنبارىّ: الصواب قول أبى عبيد، لحجج ثلاث: منها أن جماعة من كبار أهل العلم فسّروه على تفسير أبى عبيد. ومنها أنه ادّعى أن النار تمسّ الّذي وقعت منزلته عند الله جليلة، لكن مسّا قليلا، والقليل لا يقع به الألم العظيم؛ وليس صفة الأبرار فى الآخرة صفة من تمسّه النار لا قليلا ولا كثيرا. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «أى ضمته وأحاطت به». وفى ف، ش: «عصفت». (¬2) هو عبدة بن الطبيب، من قصيدة له فى المفضليات 135 - 145 (طبعة المعارف). (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف: «يخفى [بفتح الياء]، أى يظهر ويثير؛ يقال: أخفى إذا ستر، وخفى إذا ظهر». فى أربع: أربع قوائم، فى كل قائمة ظلفان. تحليل: تحلة القسم؛ كأنه أقسم أن يمس الأرض؛ فهو يتحلل من قسمه بأدنى مس. (¬4) ديوانه: 264؛ وفى حاشية الأصل: «يصف صاحب سفر أغفى إغفاءة ثم انتبه سريعا». (¬5) قلصت؛ أى ارتفعت. والشيمة: الطبيعة. روعاء: حديدة.

ومنها أنّ أبا عبيد لم يحكم على هذا المصاب بولده بمسّ النار، وإنما حكم عليه بالورود، / والورود لا يوجب ألّا يكون من الأبرار؛ لأن «إلّا» معناه الاستثناء المنقطع، فكأنه قال: فتمسّه النار لكن تحلّة اليمين، أى لكن ورود النار لا بدّ منه، فجرى مجرى قول العرب: سار الناس إلا الأثقال، وارتحل العسكر إلّا أهل الخيام، وأنشد الفرّاء: وسمحة المشى شملال قطعت بها … أرضا يحار بها الهادون ديموما (¬1) مهامها وحزونا لا أنيس بها … إلّا الصّوائح والأصداء والبوما (¬2) وأنشد الفراء أيضا: ليس عليك عطش ولا جوع … إلّا الرقاد، والرّقاد ممنوع فمعنى الحديث: لا يموت للمسلم ثلاثة من الولد فتمسه النار البتة، لكن تحلّة اليمين لا بدّ منها، وتحلّة اليمين الورود، والورود لا يقع فيه مسّ. وقال أبو بكر: وقد سنح لى فيه قول آخر: وهو أن تكون «إلا» زائدة دخلت للتوكيد، و «تحلّة» اليمين منصوب على الوقت والزمان، ومعنى الخبر: فتمسه النار، وقت تحلّة القسم، و «إلا» زائدة. قال الفرزدق شاهدا لهذا: هم القوم إلّا حيث سلّوا سيوفهم … وضحّوا بلحم من محلّ ومحرم (¬3) معناه: هم القوم حيث سلّوا سيوفهم، و «إلا» مؤكدة. وقال الأخطل: يقطّعن إلّا من فروع يردنها … بمدحة محمود نثاه ونائله (¬4) معناه يقطعون من فروع يردنها، والفروع: الواسعة من الأرض. ¬

_ (¬1) سمحة المشى: سهلة المشى. والشملال: الناقة السريعة. والديموم والديمومة. الفلاة يدوم السير فيها لبعدها. (¬2) لا أنيس بها: لا أحد بها. والضوابح: جمع ضابح، والضباح صوت الثعالب. والأصداء: جمع صدى، وهو الهامة. (¬3) ديوانه 2: 760. (¬4) ديوانه: 63 ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «ويقطعن». وفى الديوان: * إليكم من الأغوار حتى يزرنكم*.

قال سيدنا أدام الله تمكينه: والوجوه المذكورة فى تأويل الخبر كالمتقاربة (¬1)، إلا أن الوجه الّذي اختص به ابن الأنبارىّ فيه أدنى تعسّف وبعد؛ من حيث جعل «إلّا» زائدة، وذلك كالمستضعف عند جماعة من أهل العربيّة. وقد تبقّى فى الخبر مسألة، التشاغل بالجواب عنها أولى مما تكلّفه القوم، وهى متوجّهة على كل الوجوه التى ذكروها فى تأويله. وهو أن يقال: كيف يجوز أن يخبر عليه السلام بأنّ من مات له ثلاثة من الولد لا تمسّه النار إما جملة، أو مقدار تحلة القسم؛ / وهو النهاية فى القلة! أوليس ذلك يوجب أن يكون إغراء بالذنوب لمن هذه حاله! وإذا كان من يموت وله هذا العدد من الأولاد غير خارج عن التكليف، فكيف يصحّ أن يؤمّن من العقاب! والجواب عن ذلك، أنّا قد علمنا أو لا خروج هذا الخبر مخرج المدحة لمن هذه صفته والتخصيص له والتمييز، ولا مدحة فى مجرد موت الأولاد؛ لأن ذلك لا يرجع إلى فعله، فلا بدّ من أن يكون تقدير الكلام: إنّ النار لا تمسّ المسلم الّذي يموت له ثلاثة أولاد؛ إذا حسن صبره واحتسابه وعزاؤه، ورضاه بما جرى به القضاء عليه؛ لأنه بذلك يستحقّ الثواب والمدح؛ وإذا كان إضمار الصبر والاحتساب لا بدّ منه لم يكن فى القول إغراء؛ لأن كيفية وقوع الصبر والوجه الّذي إذا وقع عليه تفضّل الله سبحانه بغفران ما لعلّه أن يستحقّه من العقاب فى المستقبل وإذا لم يكن معلوما، فلا وجه للاغراء. وأكثر ما فى هذا الكلام أن يكون القول مرغّبا فى حسن الصبر، وحاثّا عليه رغبة فى الثواب، ورجاء لغفران ما لعلّه أن يستحق فى المستقبل من العقاب؛ وهذا واضح لمن تأمله. ¬

_ (¬1) م، «متقاربة».

54

مجلس آخر 54 تأويل آية [ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً] إن سأل سائل عن قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً؛ [البقرة: 74]. فقال: ما معنى أَوْ هاهنا؟ أو ظاهرها يفيد الشك الّذي لا يجوز عليه تعالى. الجواب، قلنا فى ذلك وجوه: أوّلها أن تكون أَوْ هاهنا للإباحة كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين؛ والق الفقهاء أو المحدّثين، ولم يريدوا الشك؛ بل كأنهم قالوا: هذان الرجلان أهل للمجالسة، وهذان القبيلان أهل للّقاء؛ فإن جالست الحسن فأنت مصيب، وإن جالست ابن سيرين فأنت مصيب، وإن جمعت بينهما فكذلك. فيكون معنى الآية على هذا: إن قلوب هؤلاء قاسية متجافية عن الرّشد والخير، فإن شبّهتم قسوتها بالحجارة أصبتم، وإن شبّهتموها بما هو أشدّ أصبتم، وإن شبهتموها بالجميع فكذلك. وعلى هذا يتأوّل قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ؛ [البقرة: 19]، لأن أَوْ لم يرد بها الشكّ بل على نحو الّذي ذكرناه/، من أنكم إن شبهتموهم بالذى استوقد نارا فجائز، وإن شبهتموهم بأصحاب الصيّب فجائز، وإن شبهتموهم بالجميع فكذلك. وثانيها أن تكون أَوْ دخلت للتفصيل والتمييز، ويكون معنى الآية: إن قلوبهم قست، فبعضها ما هو كالحجارة فى القسوة، وبعضها ما هو أشد قسوة منها.

ويجرى ذلك مجرى قوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا؛ [البقرة: 135] معناه: وقال بعضهم: كونوا هودا- وهم اليهود- وقال بعضهم: كونوا نصارى وهم النصارى- فدخلت أَوْ للتفصيل. وكذلك قوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ [الأعراف: 4] معناه فجاء بعض أهلها بأسنا بياتا، وجاء بعض أهلها بأسنا فى وقت القيلولة. وقد يحتمل قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ هذا الوجه أيضا، ويكون المعنى أن بعضهم يشبه الّذي استوقد نارا، وبعضهم يشبه أصحاب الصيب. وثالثها أن يكون أَوْ دخلت على سبيل الإبهام فيما يرجع إلى المخاطب، وإن كان الله تعالى عالما بذلك غير شاك فيه، لأنه تعالى لم يقصد فى إخبارهم عن ذلك إلا التفصيل؛ بل علم عز وجلّ أن خطابهم بالإجمال أبلغ فى مصلحتهم، فأخبر تعالى أنّ قسوة قلوب هؤلاء الذين ذمّهم كالحجارة أو أشد قسوة، والمعنى أنها كانت كأحد هذين لا يخرج عنهما. ويجرى ذلك مجرى قولهم: ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا، فيبهمون على المخاطب ما يعلمون أنه لا فائدة فى تفصيله؛ والمعنى: ما أطعمتك إلا أحد هذين الضّربين. وكذلك يقول أحدهم: أكلت بسرة أو ثمرة؛ وهو قد علم ما أكل على التفصيل إلا أنه أبهمه على المخاطب، قال لبيد: تمنّى ابنتاى أن يعيش أبوهما … وهل أنا إلّا من ربيعة أو مضر (¬1) أراد: هل أنا إلّا من أحد هذين الجنسين (¬2)، فسبيلى أن أفنى كما فنيا؛ وإنما حسن ذلك لأن قصده الّذي أجرى إليه، وغرضه الّذي نحاه وهو أن يخبر بكونه ممن يموت ويفنى، ولا يخلّ به إجمال ما أجمل من كلامه، فأضرب عن التفصيل؛ لأنه لا فائدة فيه، ولأنه سواء ¬

_ (¬1) ديوانه: 2: 1. (¬2) ش «الحيين».

كان من ربيعة أو مضر فموته واجب. وكذلك الآية، لأن الغرض فيها أن يخبر تعالى عن شدة قسوة/ قلوبهم، وأنها مما لا تنثنى لوعظ، ولا تصغى إلى حق، فسواء كانت فى القسوة كالحجارة أو أشد منها، فقد تم ما أجرى إليه من الغرض فى وصفها وذمّها، وصار تفصيل تشبيهها بالحجارة وبما هو أشد قسوة منها كتفصيل كونه من ربيعة أو مضر؛ فى أنه غير محتاج إليه، ولا يقتضيه الغرض فى الكلام. ورابعها أن تكون أَوْ بمعنى «بل» كقوله تعالى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (¬1) [الصافات: 147] معناه: بل يزيدون. وروى عن ابن عباس فى قوله تعالى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ؛ قال: كانوا مائة ألف وبضعا وأربعين ألفا. وأنشد الفراء: بدت مثل قرن الشمس فى رونق الضّحا … وصورتها، أو أنت فى العين أملح (¬2) وقد تكون «أم» فى الاستفهام أيضا بمعنى «بل»، كقول القائل: أضربت عبد الله أم أنت رجل متعنت؟ معناه: بل أنت رجل متعنت. وقال الشاعر: فو الله ما أدرى أسلمى تغوّلت، … أم النّوم، أم كلّ إلى حبيب! معناه: بل كلّ. وقد طعن بعضهم على هذا الجواب فقال: وكيف يجوز أن يخاطبنا تعالى بلفظة بل؛ وهى تقتضى الاستدراك والنقض للكلام الماضى والإضراب عنه، وليس ذلك بشيء. أما الاستدراك فإن أريد به الاستفادة أو التذكر لما لم يكن معلوما فليس بصحيح، لأن ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «قال ابن جنى: الغرض فى قوله تعالى: أَوْ يَزِيدُونَ أنهم بحيث يحزرهم الحازر فيقول: هم مائة ألف أو يزيدون، فحكى على موجب الحزر». (¬2) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «وصورتها» بالضم. والمعنى: وصورة الشمس فى العين أملح؛ بل أنت».

أحدنا قد يقول: أعطيته ألفا بل ألفين، وقصدته دفعة بل دفعتين؛ وهو عالم فى ابتداء كلامه بما أخبر به فى الثانى، ولم يتجدد به علم، وإن أريد به الأخذ فى كلام غير الماضى، واستئناف زيادة عليه فهو صحيح؛ ومثله جائز عليه تعالى. فأما النقض للكلام الماضى فليس بواجب فى كل موضع تستعمل فيه لفظة «بل»، لأن القائل إذا قال: أعطيته ألفا بل ألفين لم ينقض الأول؛ وكيف ينقضه؛ والأول داخل فى الثانى وإنما زاد عليه! وإنما يكون ناقضا للماضى إذا قال: لقيت رجلا بل حمارا؛ وأعطيته درهما بل ثوبا؛ لأن الأول لم يدخل فى الثانى على وجه، وقوله تعالى: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً غير ناقض للأول، لأنها لا تزيد فى القسوة على الحجارة إلا بعد أن تساويها، وإنما/ تزيد المساواة. وخامسها أن تكون أَوْ بمعنى الواو كقوله: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ؛ [النور: 61]، معناه: وبيوت آبائكم، قال جرير: نال الخلافة أو كانت له قدرا … كما أتى ربّه موسى على قدر (¬1) وقال توبة بن الحمير: وقد زعمت ليلى بأنّى فاجر … لنفسى تقاها، أو عليها فجورها (¬2) وقال جرير أيضا: أثعلبة الفوارس أم رياحا … عدلت بهم طهيّة والخشابا (¬3) أراد: أو رياحا. ¬

_ (¬1) ديوانه: 275؛ والبيت من قصيدة يمدح فيها عمر بن عبد العزيز؛ مطلعها: لجّت أمامة فى لومى وما علمت … عرض السماوة روحاتى ولا بكرى. (¬2) أمالى القالى: 1: 131. (¬3) ديوانه: 66؛ من قصيدته المشهورة التى يذم فيها الراعى؛ ومطلعها: أقلّى اللوم عاذل والعتابا … وقولى إن أصبت لقد أصابا -

وقال آخر (¬1): فلو كان البكاء يردّ شيئا (¬2) … بكيت على بجير أو عفاق على المرأين إذ هلكا جميعا … لشأنهما بشجو واشتياق (¬3) أراد على بجير وعفاق. وقد حكى المفضل بن سلمة هذا الوجه عن قطرب، وطعن عليه بأن قال: ليس شيء يعلم أشدّ قسوة عند المخاطبين من الحجارة، فينسق به عليها (¬4)؛ وإنما يصح ذلك فى قولهم: أطعمتك تمرا أو أحلى منه، لأن أحلى منه معلوم. واختار المفضل الوجه الّذي يتضمن أن أَوْ بمعنى «بل». وهذا الّذي طعن به المفضّل ليس بشيء، لأنهم وإن لم يشاهدوا أو يعرفوا ما هو أشدّ قسوة من الحجارة فصورة قسوة الحجارة معلومة لهم، ويصحّ أن يتصوروا ما هو أشد قسوة منها، وما له الزيادة عليها؛ لأن قدرا ما إذا عرف صح (¬5) أن يعرف ما هو أزيد منه أو أنقص، ¬

_ وهى القصيدة التى تسميها العرب: الفاضحة. والبيت من شواهد الكتاب (1: 52) استشهد به على نصب «ثعلبة»، بإضمار فعل دل عليه ما بعده؛ فكأنه قال: أظلمت ثعلبة، عدلت بهم طهية، ونحوه من التقدير. وأورده أيضا فى (1: 489) شاهدا على دخول «أم» عديلة للألف. وفى حاشية الأصل: «كأنه قال: أأخملت ثعلبة الفوارس فعدلت بهم طهية والخشاب! ». (¬1) البيتان فى اللسان (عفق)؛ ونقل عن ابن برى أنهما لمتمم بن نويرة، وعفاق: اسم رجل أكلته باهلة فى قحط أصابهم. (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «ميتا». (¬3) رواية اللسان: هما المرءان إذ ذهبا جميعا … لشأنهما بحزن واشتياق وذكر أن بسطام بن قيس أغار على بنى يربوع فقتل عفاقا وقتل بجيرا أخاه بعد قتله عفاقا فى العام الأول، وأسر أباهما أبا مليك، ثم أعنقه وشرط عليه ألا يغير عليه؛ قال ابن برى: ويقوى قول من قال إن باهلة أكلته قول الراجز: إنّ عفاقا أكلته باهله … تمششوا عظامه وكاهله. (¬4) حاشية ف: «النسق أن تعطف كلاما على كلام، والنسق الترتيب». (¬5) م: «جاز».

لأن الزيادة والنقصان إنما يضافان إلى معلوم معروف، على أن الآية خرجت مخرج المثل، وأراد تعالى بوصف قلوبهم بالزيادة فى القسوة على الحجارة أنها قد انتهت إلى حد لا تلين معه للخير على وجه من الوجوه، وإن كانت الحجارة ربما لانت وانتفع بها، فصارت من هذا الوجه كأنها أشدّ قسوة منها تمثيلا وتشبيها. فقول المفضل: «ليس يعرفون ما هو أقسى من الحجارة» لا معنى له إذا كان القول على طريق المثل. وبعد؛ فإن الّذي طعن به على هذا الجواب يعترض على الوجه الّذي اختاره، لأنه إذا اختار أنّ أَوْ فى الآية بمعنى «بل» فكيف جاز بأن يخبرهم بأنّ قلوبهم أشدّ قسوة من الحجارة، وهم لا يعرفون ما هو أقسى من الحجارة! وإذا جاز أن يقول لهم: بل قلوبهم أقسى مما يعرفون من الحجارة جاز أن يخبر عن مثل ذلك بالواو فيقول: قلوبهم كالحجارة التى يعرفون فى القسوة، وهى مع ذلك تزيد عليها. فإن قال [قائل] (¬1) كيف يكون أَوْ فى الآية بمعنى الواو، والواو للجمع، وليس يجوز أن تكون قلوبهم كالحجارة، وأشد من الحجارة فى حالة واحدة؛ لأن الشيء إذا كان على صفة لم يجز أن يكون على خلافها! قلنا: قد أجاب بعضهم عن هذا الاعتراض بأن قال: ليس يمتنع أن تكون قلوبهم كالحجارة فى حال، وأشد من الحجارة فى حال أخرى؛ فيصحّ المعنى، ولا يتنافى، وهذا قريب، ويكون فائدة هذا الجواب أن قلوب هؤلاء فى بعض الأحوال مع القسوة والعدول عن قبول (¬2) الحق والفكر فيه؛ ربما لانت بعض اللين؛ [وهمّت بالانعطاف، وكادت تصغى إلى الحق فتكون فى هذه الحال كالحجارة التى ربما لانت] (¬3)، وفى حال أخرى تكون فى نهاية البعد عن الخير (¬4) والنفور عنه، فتكون فى هذا الحال أشدّ قسوة من الحجارة. ¬

_ (¬1) من ف. (¬2) م: «تصور». (¬3) ساقط من م. (¬4) م: «الحق».

على أنه يمكن فى الجواب عن هذا الاعتراض وجه آخر؛ وقد تقدم معناه فى بعض كلامنا، وهو أن قلوبهم لا تكون أشدّ من الحجارة إلا بعد أن يكون فيها قسوة الحجارة؛ لأن القائل إذا قال: فلان أعلم من فلان فقد أخبر أنه زائد عليه فى العلم الّذي اشتركا فيه؛ فلا بدّ من الاشتراك ثم الزيادة، فليس هاهنا تناف على ما ظنّ المعترض، ولا إثبات لصفة ونفيها، فكل هذا واضح (¬1) بحمد الله. *** قال سيدنا أدام الله تمكينه: وإنى لأستحسن من الشعر قول الأحوص بن محمد الأنصارىّ: ومولى سخيف الرّأى رخو تزيده … أناتى، وعفوى (¬2) جهله عنده ذمّا (¬3) دملت، ولولا غيره لأصبته … بشنعاء باق عارها تقر العظما (¬4) طوى حسدا ضغنا عليّ كأنّما … أداوى به فى كلّ مجمعة كلما (¬5) / ويجهل أحيانا فلا يستخفّنى … ولا أجهل العتبى إذا راجع الحلما (¬6) يصدّ وينأى فى الرّخاء بودّه … ويدعو ويدعونى إذا خشى الهضما فيفرج عنه أربة الخصم مشهدى … وأدفع عنه عند عثرته الظّلما الإربة: الدهاء، والإربة: العقدة، وكلا المعنيين يحتمل لفظ البيت- وكنت امر أعود (¬7) الفعال تهزّنى … مآثر مجد تالد لم يكن زعما ¬

_ (¬1) م: «بين». (¬2) ف، حاشية الأصل (من نسخة): «غفرى». (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف: «أى كلما غفرت جهله زادنى ذما». (¬4) دملت: داريت وداجيت؛ ويقال: «ادمل القوم»؛ أى اطوهم على ما فيهم؛ ومنه قول ابن الطيفان: ومولى كمولى الزّبرقان دملته … كما اندملت ساق يهاض بها الكسر وتقر العظم: تصدعه وتكسره. وشنعاء، أى قصيدة فى الهجو. (¬5) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «أدارى». وبه أى بحطئه، والمجمعة: المجمع. (¬6) العتبى: الرضا. (¬7) عود الفعال: جليله وعظيمه.

وكنت وشتمى فى أرومة مالك … بسبّى له كالكلب إذ ينبح النجما ولست بلاق سيّدا ساد مالكا … فتنسبه إلّا أبا لى أو عمّا ستعلم إن عاديتنى فقع قرقر … أما لا أفدت- لا أبا لك- أو عدما (¬1) لقد أبقت الأيّام منّى وحرسها … لأعدائنا ثكلا وحسّادنا رغما (¬2) وكانت عروق السّوء أزرت (¬3) وقصّرت … به أن ينال الحمد فالتمس الذّما ومن مختار قوله: إنى إذا خفى اللئام (¬4) رأيتنى … كالشّمس لا تخفى بكلّ مكان ما من مصيبة نكبة أمنى بها … إلّا تشرّفنى وتعظم شأنى وتزول حين تزول عن متخمّط (¬5) … تخشى بوادره على (¬6) الأقران ومن جيد شعره. خليلان باحا بالهوى فتشاحنت … أقاربها فى وصلها (¬7) وأقاربه ألا إنّ أهوى النّاس قربا ورؤية … وريحا إذا ما اللّيل غارت كواكبه ضجيع دنا منّى جذلت بقربه … فبات يمنّينى وبتّ أعاتبه وأخبره فى السّرّ بينى وبينه … بأن ليس شيء عند نفسى يقاربه *** ¬

_ (¬1) فقع قرقر، أى يا فقع قرقر، والفقع: ضرب من أردأ الكمأة، والقرقر: الأرض الخالية؛ ويشبه به الرجل الذليل؛ يقال: أذل من فقع بقرقر؛ لأن الدواب تنجله بأرضها؛ قال النابغة: حدّثونى بنى الشّقيقة ما يم … نع فقعا بقرقر أن يزولا. (¬2) الحرس: الدهر. (¬3) م: «أودت». (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «الرجال». (¬5) التخمط: الغضب مع الثورة والجلبة. (¬6) البوادر: جمع بادرة وهى ما يبدر من الإنسان عند الشر، وفى ف: «لدى الأقران». (¬7) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: * أقاربها فى وصله وأقاربه*.

وقد غبّر فى وجه كل من وصف المضاجعة امرؤ القيس حيث يقول (¬1): تقول وقد جرّدتها من ثيابها … كما رعت مكحولا من العين أتلعا (¬2) وجدّك لو شيء أتانا رسوله … سواك، ولكن لم نجد لك مدفعا فبتنا نذود الوحش عنّا كأنّنا … قتيلان لم تعلم لنا النّاس مصرعا (¬3) إذا أخذتها هزّة الرّوع أمسكت … بمنكب مقدام على الهول أروعا (¬4) وقال على بن الجهم فى وصفه شدة الالتزام: سقى الله ليلا ضمّنا بعد هجعة … وأدنى فؤادا من فؤاد معذّب (¬5) فبتنا جميعا لو تراق زجاجة … من الرّاح فيما بيننا لم تسرّب ولعبد الصمد بن المعذّل فى هذا المعنى: كأنّنى عانقت ريحانة … تنفّست فى ليلها البارد (¬6) فلو ترانا فى قميص الدّجى … حسبتنا فى جسد واحد ¬

_ (¬1) من قصيدة رواها أبو عمرو الشيبانى، وأولها: جزعت ولم أجزع من البين مجزعا … وغويت قلبا بالكواعب مولعا وأصبحت ودّعت الصبا غير أننى … أراقب خلّات من العيش أربعا ولم تذكر فى ديوانه بشرح البطليوسى؛ وهى فى مجموعة أشعار الستة للأعلم ص 79 (مخطوطة المكتبة التيمورية 450 أدب) والأبيات أيضا فى حماسة ابن الشجرى: 195 - 196. (¬2) قال الأعلم: «قوله: » كما رعت مكحول المدامع»، أى لما جردتها من ثيابها بدت محاسنها وتبين طول عنقها، كما تبين ذلك من الغزل المروع. والأتلع: الطويل العنق». (¬3) بعد هذا البيت فى رواية الأعلم عن أبى عمرو: تجافى عن المأثور بينى وبينها … وتدنى عليّ السّابرىّ المضلّعا تجافى: ترفع. والمأثور: السيف الّذي فيه أثر؛ وهو فرند السيف، والسابرىّ: ضرب من الثياب. والمضلع: الّذي فيه طرائق وشى. (¬4) أخذتها هزة الروع: ارتعدت فزعا وهيبة. والمقدام: الكثير الإقدام على الأهوال. والأروع: المعجب المنظر جمالا وقوة. (¬5) ديوانه 95 وحماسة ابن الشجرى: 196. (¬6) حماسة ابن الشجرى 196.

ولبشار بن برد: إنّنى أشتهي لقاءك والل … هـ فماذا عليك أن تلقانى قد تلفّ الرّياح غصنا من الب … ان إلى مثله فيلتقيان ومثل هذا للبحترىّ: ولم أنس ليلتنا فى العن … اق لفّ الصّبا بقضيب قضيبا (¬1) كما افتنّت الرّيح فى مرّها … فطورا خفوتا، وطورا هبوبا ولآخر فى مثل هذا بعينه، ولسنا ندرى هل سبق البحترىّ أو تأخر عنه: وضمّ لا ينهنهه اعتناق … كما التفّ القضيب على القضيب ولعلى بن الجهم: وبتنا على رغم الحسود كأنّنا … خليطان من ماء الغمامة والخمر (¬2) / وهذا وإن جعله فى العناق فهو مأخوذ من قول بشار: وإن نلتقى خلف الغيور كأنّنا … سلاف عقار بالنّقاخ مشوب (¬3) والأصل فى هذا قول الأخطل، والناس من بعده على أثره: من الجازئات الحور مطلب سرّها … كبيض الأنوق المستكنّة فى الوكر (¬4) وإنى وإيّاها إذا ما لقيتها … لكالماء من صوب الغمامة والخمر وقد أخذه أيضا ابن أبى عيينة فقال: ¬

_ (¬1) ديوانه 1: 51. (¬2) ديوانه 144 وحماسة ابن الشجرى 196، وروايته هناك: * وبتنا على رغم الوشاة كأنّنا*. (¬3) ديوانه 1: 185. والنقاخ: الماء البارد؛ وفى حاشية الأصل: «س: خلف العيون». (¬4) ديوانه: 212 الأنوق: الرخمة؛ وفى المثل: «أعزّ من بيض الأنوق»، لأنها تحرزه فلا يكاد يظفر به؛ لأن أوكارها فى رءوس الجبال والأماكن الصعبة.

«1» ذاك إذ روحها وروحى مزاجا … ن كأصفى خمر بأعذب ماء وأخذه العباس بن الأحنف فقال (¬1): ما أنس لا أنس يمناها معطّفة … على فؤادى، ويسراها على راسى (¬2) وقولها: ليته ثوب على جسدى … أو ليتنى كنت سربالا لعبّاس (¬3) أو ليته كان لى خمرا وكنت له … من ماء مزن، فكنّا الدّهر فى كاس ومثل هذا للبحترىّ: وجدت نفسك من نفسى بمنزلة … هى المصافاة بين الماء والرّاح (¬4) ولقد أحسن بشار فى قوله: لقد كان ما بينى زمانا وبينها … كما بين ريح المسك والعنبر الورد *** أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدثنا أحمد بن محمد المكّى قال حدثنا أبو العيناء قال ¬

_ (¬1) ساقط من م. (¬2) ديوانه: 90؛ وبعده: قالت وإنسان ماء العين فى لجج … يكاد ينطق عن كرب ووسواس! يطفو ويرسو غريقا ما يكفكفه … كفّ، فيا لك من طاف ومن راس. (¬3) رواية الديوان: عبّاس ليتك سربالى على جسدى … أو ليتنى كنت سربالا لعباس (¬4) ديوانه: 1: 113؛ وفى حاشية الأصل: وأشد إمعانا منه قوله: وبتنا جميعا لو تراق زجاجة … من الخمر فيما بيننا لم تسرّب وقول أبى الجوائز الواسطى رحمه الله: فاعتنقنا ضمّا يذوب حصى الي … اقوت منه، وتطمّن النهود.

حدثنا العتبىّ عن أبيه قال: سيّر الوليد بن عبد الملك (¬1) الأحوص إلى دهلك (¬2)، فكتب الأحوص إلى عمر بن عبد العزيز حين استخلف: وكيف ترى للنّوم طعما ولذّة … وخالك أمسى موثقا فى الحبائل! فمن يك أمسى سائلا عن شماتة … ليشمت بى، أو شامتا غير سائل / فقد عجمت منّى الحوادث ماجدا … صبورا على غمّاء تلك البلابل إذا سرّ لم يفرح، وليس لنكبة … ألمّت به بالخاشع المتضايل فبعث عمر بن عبد العزيز إلى عراك بن مالك، الّذي كان شهد عليه فقال: ما ترى فى هذا البائس؟ فقال عراك: مكانه خير له، فتركه فى موضعه، فلما ولى يزيد بن عبد الملك جلب الأحوص وسيّر عراكا (¬3). ¬

_ (¬1) كذا جاءت الرواية هنا؛ وفى الأغانى 4: 246 (طبعة الدار) أن الأحوص كان ينسب بنساء ذوات أخطار من أهل المدينة ويتغنى فى شعره معبد ومالك، ويشيع ذلك فى الناس، فنهى فلم ينته، فشكى إلى عامل سليمان بن عبد الملك على المدينة، وسألوه الكتاب فيه إليه، ففعل ذلك؛ فكتب سليمان إلى عامله يأمره أن يضربه مائة سوط، ويقيمه على البلس للناس، ثم يصيره إلى دهلك. ففعل ذلك به، فثوى هناك سلطان سليمان بن عبد الملك، ثم ولى عمر بن عبد العزيز فكتب إليه يستأذنه فى القدوم ويمدحه، فأبى أن يأذن له، وكتب فيما كتب إليه به ... ثم أورد الأبيات. (¬2) دهلك: جزيرة فى بحر اليمن؛ وهو مرسى بين بلاد اليمن والحبشة. (¬3) فى خبر صاحب الأغانى: «فأتى رجال من الأنصار عمر عبد العزيز فكلموه فيه وسألوه أن يقدمه، وقالوا له: قد عرفت نسبه وموضعه وقديمه، وقد أخرج إلى أرض الشرك، فنطلب إليك أن ترده إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودار قومه؛ فقال لهم عمر: فمن الّذي يقول: فما هو إلا أن أراها فجاءة … فأبهت حتّى ما أكاد أجيب قالوا: الأحوص. قال: فمن الّذي يقول: أدور ولولا أن أرى أم جعفر … بأبياتكم مادرت حيث أدور وما كنت زوّارا ولكنّ ذا الهوى … إذا لم يزر لا بدّ أن سيزور قالوا: الأحوص، قال فمن الّذي يقول: -

قال سيدنا أدام الله علوه: وإنما كان الأحوص خال عمر بن عبد العزيز من جهة أنّ أمّ عمر هى أمّ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وأمها أنصارية. فأما قوله «إذا سرّ لم يفرح» فمأخوذ من قول لقيط بن زرارة: لا مترفا إن رخاء العيش ساعده، … وليس إن عضّ مكروه به خشعا (¬1) وللأحوص: وببطن مكّة لا أبوح به … قرشيّة غلبت على قلبى ولو أنّها إذ مرّ موكبها … يوم الكديد أطاعنى صحبى (¬2) قلنا لها: حيّيت من شجن … ولركبها: حيّيت من ركب والشّوق أقتله برؤيتها … قتل الظّما بالبارد العذب والنّاس إن حلّوا جميعهم … شعبا- سلام، وأنت فى شعب (¬3) ¬

_ كأنّ لبنى صبير غادية … أو دمية زيّنت بها البيع الله بينى وبين قيّمها … يفرّ منّى بها وأتّبع قالوا: الأحوص، قال: بل الله بينها وبين قيمه. قال: فمن الّذي يقول: ستبلى لكم فى مضمر القلب والحشا … سريرة حبّ يوم تبلى السّرائر قالوا: الأحوص. قال: إن الفاسق عنها يومئذ لمشغول، والله لا أرده ما كان لى سلطان. فمكث هناك بقية ولاية عمر وصدرا من ولاية يزيد بن عبد الملك. قال فبينا يزيد وجاريته حبابة ذات ليلة على سطح تغنيه بشعر الأحوص، فقال لها: من يقول هذا الشعر؟ قالت: لا وعينيك ما أدرى- وقد كان ذهب من الليل شطره- فقال: ابعثوا إلى ابن شهاب الزهرى فعسى أن يكون عنده علم من ذلك، فأتى الزهرى فقرع عليه بابه، فخرج مروعا إلى يزيد، فلما صعد إليه قال له يزيد: لا ترع، لم ندعك إلا لخير، اجلس، من يقول هذا الشعر؟ قال: الأحوص بن محمد يا أمير المؤمنين، قال: ما فعل؟ قال: طال حبسه بدهلك قال: قد عجبت لعمر كيف أغفله. ثم أمر بتخلية سبيله ووهب له أربعمائة دينار، فأقبل الزهرى من ليلته إلى قومه من الأنصار فبشرهم بذلك». (¬1) مختارات ابن الشجرى: 5. (¬2) حاشية الأصل: «خبر» إن» قوله: «أطاعنى صحبى». والعائد إلى الاسم الهاء من «موكبها» والتقدير: ولو أنها أطاعنى صحبى إذا مر موكبها يوم الكديد». (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «وأنت فى شعب».

لحللت شعبك دون شعبهم … ولكان قربك منهم حسبى (¬1) قوله: * والشوق أقتله برؤيتها* نظير قول جرير: فلما التقى الحيّان ألقيت العصا … ومات الهوى لمّا أصيبت مقاتله (¬2) ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «فى هذه الأبيات: ثنتان لا أدنو لوصلهما … عرس الخليل وجارة الجنب أما الخليل فلست خائنه … والجار قد أوصى به ربّى. (¬2) ديوانه: 478.

55

مجلس آخر 55 تأويل آية [وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، [البقرة: 31]. فقال: كيف يأمرهم أن يخبروا بما لا يعلمون، أوليس ذلك أقبح من تكليف ما لا يطاق؛ الّذي تأبونه؛ والّذي جوّز (¬1) أن يكلّف تعالى مع ارتفاع القدرة لا يجوّزه. / الجواب، قلنا: قد ذكر فى هذه الآية وجهان: أحدهما أنّ ظاهر الآية إن كان أمرا يقتضي التّعلّق بشرط، وهو كونهم صادقين عالمين بأنهم إذا أخبروا عن ذلك صدقوا- فكأنه قال لهم: خبّروا بذلك إن علمتموه؛ ومتى رجعوا إلى نفوسهم فلم يعلموا، فلا تكليف عليهم. وهذا بمنزلة أن يقول القائل لغيره: خبّرنى بكذا وكذا إن كنت تعلمه، أو إن كنت تعلم أنك صادق فيما تخبر به عنه. فإن قيل: أليس قد قال المفسرون فى قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنّ المراد به: إن كنتم تعلمون بالعلّة التى من أجلها جعلت فى الأرض خليفة، أو إن كنتم صادقين فى اعتقادكم أنكم تقومون بما أنصب الخليفة له، وتضطلعون به، وتصلحون له؟ . قلنا: قد قيل كل ذلك، وقيل أيضا ما ذكرناه؛ وإذا كان القول محتملا للأمرين جاز أن يبنى الكلام على كل واحد منهما؛ وهذا الجواب لا يتمّ إلّا لمن يذهب إلى أن الله تعالى يصحّ أن يأمر العبد بشرط قد علم أنه لا يحصل، ولا يحسن أن يريد منه الفعل على هذا ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «ومن يجوّز».

الوجه؛ ومن ذهب إلى جواز ذلك صحّ منه أن يعتمد على هذا الجواب. فإن قيل: فأىّ فائدة فى أن يأمرهم بأن يخبروا عن ذلك بشرط أن يكونوا صادقين، وهو عالم بأنهم لا يتمكنون من ذلك لفقد علمهم به؟ قلنا: لمن ذهب إلى الأصل الّذي ذكرناه أن يقول: لا يمتنع أن يكون الغرض فى ذلك هو أن ينكشف بإقرارهم وامتناعهم من الإخبار بالأسماء ما أراد تعالى بيانه من استئثاره بعلم الغيب، وانفراده بالاطلاع على وجوه المصالح فى الدين. فإن قيل: فهذا يرجع إلى الجواب الّذي تذكرونه من بعد؟ قلنا: هو وإن رجع إلى هذا المعنى فبينهما فرق (¬1) من حيث كان هذا الجواب، على تسليم أنّ الآية تضمنت الأمر والتكليف الحقيقيين. والجواب الثانى لا نسلّم فيه أنّ القول أمر على الحقيقة، فمن هاهنا افترقا. والجواب (¬2) الثانى أن يكون الأمر (¬3) وإن كان ظاهره ظاهر أمر، فغير أمر على الحقيقة؛ بل المراد به التقرير والتنبيه على مكان الحجة؛ وقد يرد بصورة الأمر ما ليس بأمر، / والقرآن والشعر [وكلام العرب مملوء بذلك] (¬4). وتلخيص هذا الجواب أنّ الله تعالى لما قال للملائكة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ؛ [البقرة: 30]؛ أى مطّلع من مصالحكم، وما هو أنفع لكم فى دينكم على ما لا تطّلعون عليه. ثم أراد التنبيه على أنه لا يمتنع أن يكون غير الملائكة- مع أنها تسبح وتقدّس وتطيع ولا تعصى- أولى بالاستخلاف فى الأرض؛ وإن ¬

_ (¬1) م: «والوجه الثانى». (¬2) د، ف: «بون». (¬3) حاشية ف (من نسخة): «القول». (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «وأخبار العرب مملوءة بذلك».

كان فى ذريته من يفسد ويسفك الدماء. فعلّم آدم عليه السلام أسماء جميع الأجناس، أو أكثرها (¬1) ثم قال: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ مقررا لهم ومنبها على ما ذكرناه، ودالا على اختصاص آدم بما لم يخصّوا به. فلما أجابوه بالاعتراف والتسليم إليه علم الغيب الّذي لا يعلمونه، فقال تعالى لهم أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة: 33] منبّها على أنه تعالى هو المنفرد بعلم المصالح فى الدين، وأن الواجب على كل مكلف أن يسلم لأمره، ويعلم أنه لا يختار لعباده إلا ما هو أصلح لهم فى دينهم؛ علموا وجه ذلك أم جهلوه. وعلى هذا الجواب يكون قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ محمولا على كونهم صادقين فى العلم بوجه المصلحة فى نصب الخليفة، أو فى ظنهم أنهم يقومون بما يقوم به هذا الخليفة، ويكملون له؛ فلولا أن الأمر على ما ذكرناه، وأنّ القول لا يقتضي التكليف لم يكن لقوله تعالى بعد اعترافهم وإقرارهم: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ معنى، لأن التكليف الأول لا يتغير حاله بأن يخبرهم آدم عليه السلام بالأسماء، ولا يكون قوله: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى آخر الآية إلّا مطابقا لما ذكرناه من المعنى؛ دون معنى التكليف؛ فكأنه قال تعالى: إذا كنتم لا تعلمون هذه الأسماء، فأنتم عن علم الغيب أعجز؛ وبأن تسلموا الأمر لمن يعلمه ويدبّر أمركم بحسبه أولى. فإن قيل: فكيف علمت الملائكة بأن فى ذرية آدم عليه السلام من يفسد فى الأرض، ويسفك الدماء؟ وما طريق علمها بذلك؟ / وإن كانت غير عالمة فكيف يحسن أن تخبر عنه بغير علم! قلنا: قد قيل إنها لم تخبر وإنما استفهمت؛ فكأنها قالت متعرفة: أتجعل فيها من يفعل كذا وكذا. ¬

_ (¬1) م: بعد هذه الكلمة: «وقيل أسماء محمد صلى الله عليه وآله والأئمة من ولده وسلم، وفيه أحاديث مروية».

وقيل: إن الله تعالى أخبرها بأنه سيكون من ذرّية هذا المستخلف من يعصى ويفسد فى الأرض: فقالت على وجه التعرف لما فى هذا التدبير من المصلحة والاستفادة لوجه الحكمة فيه: أتجعل فيها من يفعل كذا وكذا؟ وهذا الجواب الأخير يقتضي أن يكون فى أول الكلام حذف ويكون التقدير: وإذ قال ربّك للملائكة إنّى جاعل فى الأرض خليفة، وإنى عالم أن سيكون من ذريته من يفسد فيها، ويسفك الدماء، فاكتفى عن إيراد هذا المحذوف بقوله تعالى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ لأن ذلك دلالة على الأول؛ وإنما حذفه اختصارا. وفى جملة جميع الكلام اختصار شديد، لأنه تعالى لما حكى عنهم قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ كان فى ضمن هذا الكلام: فنحن على ما نظنه ويظهر لنا من الأمر أولى بذلك لأنا نطيع وغيرنا يعصى. وقوله تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ يتضمن أيضا أننى أعلم من مصالح المكلّفين ما لا تعلمونه، وما يكون مخالفا لما تظنونه على ظواهر الأمور. وفى القرآن من الحذوف العجيبة، والاختصارات الفصيحة ما لا يوجد فى شيء من الكلام؛ فمن ذلك قوله تعالى فى قصة يوسف عليه السلام والناجى من صاحبيه فى السجن عند رؤيا البقر السمان والعجاف: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ؛ [يوسف: 45]، [ففعلوا، فأتى يوسف، فقال له] (¬1): يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ؛ [يوسف: 46] [ولو بسط الكلام فأورد محذوفه لقال أنا أنبئكم بتأويله، فأرسلون ففعلوا، فأتى يوسف فقال له: يا يوسف أيها الصديق أفتنا (¬2)]. ومثله قوله فى الأنعام، قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؛ [الأنعام: 14]: أى، وقيل لى: ولا تكونن من المشركين. ¬

_ (¬1) ساقط من م. (¬2) تكملة من ف.

وكذلك قوله تعالى فى قصة سليمان عليه والسلام: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ، وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ. يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ إلى قوله: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً [سبأ: 12، 13]، أى وقيل لهم: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً. وقال جرير: / وردتم على قيس بخور مجاشع … فبؤتم على ساق بطيء جبورها (¬1) أراد: فبؤتم على ساق مكسورة بطيء جبورها، كأنه لما كان فى قوله: «بطيء جبورها» دليل على الكسر اقتصر عليه. وقال عنترة: هل تبلغنّى دارها شدنيّة … لعنت بمحروم الشّراب مصرّم (¬2) يعنى ناقته؛ ومعنى «لعنت» دعاء عليها بانقطاع لبنها وجفاف ضرعها، فصار (¬3) كذلك هذا كله (¬4)؛ والناقة إذا كانت لا تنتج كان أقوى لها على السير. قال: تأبط شرا- ويروى للشنفرى: ¬

_ (¬1) ديوانه: 268؛ وفى حاشية الأصل: «قبله: ألم تر قيسا حين خارت مجاشع … تجير، وما إن تبتغى من يجيرها بنى دارم من ردّ خيلا مغيرة … غداة الصّفا لم ينج إلّا عشورها وردتم .... … البيت ومجاشع هو مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن عمرو بن تميم» وخور: جمع خوار، والخور: الضعف، وناقة خوارة، والجمع أيضا خور». من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «فبؤتم». (¬2) من المعلقة؛ ص 183 - بشرح التبريزى. والشدنية: ناقة نسبت إلى شدن؛ موضع باليمن، وقيل: هو فحل كان باليمن، تنسب إليه الإبل: والمصرم: الّذي أصاب أخلافه شيء فقطعه؛ من صرار أو غيره. (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «فصارت». (¬4) من نسخة بحاشية الأصل، ف: «فحذف هذا كله».

فلا تدفنونى إنّ دفنى محرّم … عليكم، ولكن خامرى أمّ عامر (¬1) لأنه أراد: فلا تدفنونى بل دعونى تأكلنى التى يقال لها: خامرى أم عامر؛ وهى الضّبع. وقال أوس بن حجر: حتّى إذا الكلّاب قال لها … كاليوم مطلوبا ولا طلبا (¬2) أراد: «لم أر كاليوم»، فحذف. وقال أبو دؤاد الإيادىّ: إنّ من شيمتى لبذل تلادى … دون عرضى، فإن رضيت فكونى أراد: فكونى معى على ما أنت عليه، وإن سخطت فبينى فحذف هذا كلّه. وقال الآخر: إذا قيل سيروا إنّ ليلى لعلّها … جرى دون ليلى مائل القرن أعضب (¬3) أراد لعلّها قريب، وهذا يتسع؛ وهو أكثر من أن يحيط (¬4) به قول. والحذف غير الاختصار. وقوم يظنون أنهما واحد؛ وليس كذلك لأن الحذف يتعلق بالألفاظ؛ وهو أن تأتى بلفظ يقتضي غيره ويتعلق به، ولا يستقلّ بنفسه؛ ويكون فى الموجود دلالة على المحذوف، فتقتصر عليه طلبا للاختصار، والاختصار يرجع إلى المعانى وهو أن تأنى بلفظ مفيد لمعان كثيرة لو عبّر عنها بغيره لاحتيج إلى أكثر من ذلك اللفظ، فلا حذف إلا وهو اختصار، وليس كل اختصار حذفا. ¬

_ (¬1) شعر الشنفرى 1: 36 (ضمن الطرائف الأدبية للأستاذ عبد العزيز الميمنى)، وانظر تحقيق نسبة البيت هناك والرواية فيه: «أبشرى أم عامر». وأورد بعده: إذا احتملوا رأسى وفى الرأس أكثرى … وغودر عند الملتقى ثم سائرى هنالك لا أرجو حياة تسرّنى … سجيس الليالى مبسلا بالجرائر. (¬2) ديوانه: 2. (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف «يعنى به الوحشى من الأوعال». (¬4) ف وحاشية الأصل (من نسخة): «نحيط به»، ومن نسخة أيضا بحاشيتى الأصل، ف: «أن يضبط».

فمثال الحذف قوله: «ولكن خامرى أمّ عامر» ونظائره مما أنشدناه؛ لأن القول غير مستغن بنفسه؛ بل يقتضي كلاما آخر غير أنه لما كان فيه دلالة على ما حذف حسن استعماله. ومثال الاختصار الّذي ليس بحذف قول الشاعر: أولاد جفنة حول قبر أبيهم … قبر ابن مارية الكريم المفضل (¬1) أراد أنهم أعزاء مقيمون بدار مملكتهم، لا ينتجعون كالأعراب؛ فاختصر هذا المبسوط فى قوله: «حول قبر أبيهم». ومثله قول عدىّ بن زيد: عالم بالذى يريد نقى الصّد … ر وعفّ على جثاه نحور (¬2) وفى معنى الاختصار قول أوس بن حجر: وفتيان صدق لا تخمّ لحامهم … إذا شبّه النّجم الصّوار النّوافرا فقوله: «لا تخم لحامهم» لفظ مختصر؛ ولو بسطه لقال: إنهم لا يدّخرون اللحم ولا يستبقونه فيخمّ، (¬3) بل يطعمونه الأضياف والطّرّاق. ومعنى قوله: * إذا شبّه النّجم الصّوار النّوافرا* يعنى فى شدة البرد وكلب الشتاء؛ والثريا تطلع فى هذا الزمان عشاء، كأنها صوار متفرق. ¬

_ (¬1) ديوانه: 80؛ وهى مارية بنت أرقم بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة. (¬2) اللسان (جثا). وفى حاشيتى الأصل، ف: «قوله «جثاه»: تراب كان يجمع ويجعل عليه حجارة وينحر عليها الأصنام؛ يريد أنه طائع متدين؛ ويروى: على جباه»؛ وهى الحياض. والجابية: شيء مثل الحوض يجعل فيها الماء للإبل؛ وجمعها الجوابى». (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف: «خم اللحم يخم»، وأخم يخم: إذا أنتن».

وهذا أيضا أكثر من أن يحصى، وإنما فضّل الكلام الفصيح بعضه على بعض؛ لقوّة حظه من إفادة المعانى الكثيرة بالألفاظ المختصرة. فأما قوله تعالى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ بعد ذكر الأسماء التى لا تليق بها هذه الكناية، فالمراد به أنه عرض المسمّيات؛ لأن الكناية لا تليق بالأسماء، ولا بدّ من أن تكون تلك المسميات، أو فيها ما يجوز (¬1) أن يكنّى عنه بهذه الكناية؛ لأنها لا تستعمل إلّا فى العقلاء ومن يجرى مجراهم. وقيل إن فى قراءة أبىّ: ثمّ عرضها وفى قراءة عبد الله بن مسعود: ثمّ عرضهنّ وعلى هاتين القراءتين يصلح أن تكون عبارة عن الأسماء. وقد يبقى فى هذه الآية سؤال لم نجد أحدا ممّن تكلم فى تفسير القرآن، ولا فى متشابهه ومشكله تعرّض له؛ وهو من مهمّ ما يسأل عنه. وذلك أن يقال: من أين علمت الملائكة لما خبّرها آدم عليه السلام بتلك الأسماء صحة قوله، ومطابقة الأسماء للمسمّيات؛ وهى لم تكن عالمة بذلك من قبل؛ إذ لو كانت عالمة لأخبرت بالأسماء؛ ولم تعترف بفقد العلم؛ والكلام يقتضي أنّهم لما أنبأهم آدم بالأسماء/ علموا صحتها ومطابقتها للمسميات؛ ولولا ذلك لم يكن لقوله: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ معنى، ولا كانوا مستفيدين بذلك نبوّته وتمييزه واختصاصه بما ليس لهم؛ لأنّ كلّ ذلك إنما يتمّ مع العلم دون غيره. والجواب أنّه غير ممتنع أن يكون الملائكة فى الأوّل غير عارفين بتلك الأسماء؛ فلما أنبأهم آدم عليه السلام بها فعل الله لهم فى الحال العلم الضرورى بصحتها ومطابقتها للمسميات؛ إما عن طريق أو ابتداء بلا طريق؛ فعلموا بذلك تميّزه (¬2) واختصاصه؛ وليس لأحد أن يقول: إن ذلك يؤدى إلى أنهم علموا نبوّته اضطرارا؛ وفى هذا منافاة طريقة التكليف؛ وذلك أنّه ليس فى علمهم بصحة ما أخبر به ضرورة ما يقتضي العلم بالنبوّة ضرورة، بل بعده ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «من يجوز». (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «تمييزه».

درجات ومراتب لا بدّ من الاستدلال عليها؛ ويجرى هذا مجرى أن يخبر أحدنا نبىّ بما فعل على سبيل التفصيل على وجه يخرق العادة؛ وهو وإن كان عالما بصدق خبره ضرورة لا بدّ له من الاستدلال فيما بعد على نبوّته، لأنّ علمه بصدق خبره ليس هو العلم بنبوّته، لكنه طريق يوصل إليها على ترتيب. ووجه آخر وهو أنه لا يمتنع أن يكون للملائكة لغات مختلفة، فكلّ قبيل منهم يعرف أسماء الأجناس فى لغته دون لغة غيره، إلّا أن يكون إحاطة عالم واحد لأسماء الأجناس فى جميع لغاتهم خارقة للعادة، فلما أراد الله تعالى التنبيه على نبوّة آدم علّمه جميع تلك الأسماء، فلما أخبرهم بها علّم كل فريق مطابقة ما خبّر به من الأسماء للغته، وهذا لا يحتاج فيه إلى الرجوع إلى غيره، وعلم مطابقته ذلك لباقى اللغات يخبر كل قبيل، ولا شكّ فى أنّ كل قبيل إذا كانوا كثيرة (¬1)، وخبّروا بشيء يجرى هذا المجرى علم مخبرهم، وإذا أخبر كلّ قبيل صاحبه علم من ذلك فى لغة غيره ما علمه من لغته. وهذا الجواب يقتضي أن يكون قوله: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ أى ليخبرنى كلّ قبيل منكم بجميع هذه الأسماء. وهذان الجوابان جميعا مبنيّان على أن آدم عليه السلام مقدّم له العلم بنبوّته، وأن إخباره بالأسماء كان افتتاح معجزاته (¬2)، لأنه لو كان نبيا قبل ذلك، وكانوا قد علموا بقدم ظهور معجزات على يده لم يحتج إلى هذين الجوابين معا، لأنهم يعلمون إذا كانت الحال هذه مطابقة الأسماء للمسميات بعد أن لم يعلموا ذلك بقوله الّذي قد أمنوا به فيه غير الصدق، وهذه بيّن لمن تأمله. *** قال سيدنا أدام الله علوّه: رأيت قوما ممن تكلم على معانى الشعر، يذكرون فى بيت حسان بن ثابت: ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «كثرة». (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «افتتاحا لمعجزاته».

لم تفتها شمس النّهار بشيء … غير أنّ الشّباب ليس يدوم (¬1) أن المراد به الاعتذار من كبرها وعلوّ سنها، فكأنه قال: «لم تفتها شمس النهار بشيء» غير أنها كبيرة طاعنة فى السن، وعذرها فى ذلك أنّ الشباب ليس يدوم لأمثالها. وهذا الّذي ذكروه ليس بشيء، والأشبه والأولى أن يكون مراد حسّان أنّ شمس النهار لم تفتها بشيء غير أنّ شبابها مما لا يدوم، ولا بدّ من أن يلحقها الهرم الّذي لا يلحق الشمس، ولم يرد أنها فى الحال كذلك، وكيف يريد ما توهموه مع قوله: يا لقوم (¬2) هل يقتل المرء مثلى … واهن البطش والعظام سئوم! شأنها العطر والفراش ويعلو … ها لجين ولؤلؤ منظوم لو يدبّ الحولىّ من ولد الذّرّ … عليها لأندبتها الكلوم (¬3) وهذه الأوصاف لا تليق بمن طعن فى السنّ من النساء، ولا يوصف بمثلها إلّا الصبيان والأحداث. ومن العجائب أنّ هذا الاستخراج على ركاكته مسند إلى الأصمعىّ، وما أولى من يكون نتيجة تغلغله، وثمرة توصله مثل هذه الثمرة بالإضراب عن استخراج المعانى والبحث عنها! ومما فسّره أصحاب المعانى على وجه، وهو بغيره أشبه، وأقلّ الأحوال أن يكون محتملا للأمرين، فلا يقصر على أحدهما قول الخنساء: يا صخر ورّاد ماء قد تناذره … أهل الموارد ما فى ورده عار (¬4) / لأنهم يقولون: مرادها بالبيت ما فى ترك ورده عار، يظنون أنه متى لم يحمل على ذلك لم يكن له فائدة، ولا فيه مدح، ويجرونه مجرى قول المرقّش (¬5): ¬

_ (¬1) ديوانه: 99، والرواية فيه «لم تفقها». (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «يا لقومى». (¬3) أندبتها: أثرت فيها وجرحتها. (¬4) ديوانها: 75. (¬5) هو المرقش الأكبر، والبيت فى المفضليات: 239 (طبعة المعارف). ووراء هنا بمعنى أمام؛ ومنه قوله تعالى: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ. وما يعلم: عاقبة عمله؛ أو الهرم والكبر والضعف.

ليس على طول الحياة ندم … ومن وراء المرء ما يعلم وليس الأمر كما ظنّوه، لأنه يحتمل أن يريد أنه لا عار فى ورده على ظاهر الكلام والفائدة فيه ظاهرة لأن البيت وإن تضمّن ذكر ورود الماء فهو كناية عن ركوب الأمور الصعاب التى من جملتها إيراد الماء غلبة وقهرا، فكأنها قالت: إنك تورد ماء قد تناذره الناس، وتركب أمرا صعبا قد نكل عنه الخلق، ولك بذلك حظ فى الشجاعة والبسالة، ومع ذلك فلا عار عليك فى ركوبه، لأنّه ربما فعل الإنسان فعلا يحوز به أكثر الحظ من الشجاعة وإن لحقه بعض العار، من قطيعة رحم، أو نكث عهد، أو ما جرى هذا المجرى، فكأنها نفت عن فعله وجوه العار. وليس يجرى ذلك مجرى قول المرقّش: * ليس على طول الحياة ندم* لأن البيت متى لم يحمل على أن المراد به: ليس على فوت طول الحياة ندم، لم يفد شيئا، وقد بينا فائدة قول الخنساء إذا كان المراد ما ذكرناه.

59

مجلس آخر 59 تأويل آية [وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: 45]. قلنا: قد ذكر فى هذه الآية وجوه: أولها أن يكون المعنى: وسل تبّاع من أرسلنا من قبلك من رسلنا؛ ويجرى ذلك مجرى قولهم: السخاء حاتم، والشعر زهير؛ وهم يريدون السخاء سخاء حاتم، والشعر شعر زهير وأقاموا حاتما مقام السخاء المضاف إليه؛ ومثله قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة: 177]، ومثله قول الشاعر: لهم مجلس صهب السّبال أذلّة … سواسية أحرارها وعبيدها والمأمور بالسؤال فى ظاهر الكلام النبي عليه وآله السلام؛ وهو فى المعنى لأمته؛ لأنه عليه السلام لا يحتاج إلى السؤال؛ لكنه خوطب خطاب أمته، كما قال تعالى: المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ/ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الأعراف: 1، 2]، فأفرده الله تعالى بالمخاطبة، ثم رجع إلى خطاب أمته فقال: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: 2]، وفى موضع آخر: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ [الأحزاب: 1] فخاطبه عليه السلام والمعنى لأمته، لأنه بيّن بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [الأحزاب: 2]، وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: 1] فوحّد وجمع فى موضع واحد وذلك للمعنى الّذي ذكرناه.

وقال الكميت: إلى السّراج المنير أحمد لا … تعدلنى رغبة ولا رهب عنه إلى غيره ولو رفع النّا … س إلى العيون وارتقبوا لو قيل أفرطت بل قصدت ولو عن … فنى القائلون، أو ثلبوا لجّ بتفضيلك اللّسان ولو أك … ثر فيك الضّجاج واللّجب أنت المصفّى المهذّب المحض فى التش … بيه إن نصّ قومك النسب (¬1) فظاهر الخطاب للنبى عليه السلام، والمقصود به أهل بيته عليهم السلام، لأن أحدا من المسلمين لا يمتنع من تفضيله عليه السلام والإطناب فى وصف فضائله ومناقبه؛ ولا يعنّف فى ذلك أحد، وإنما أراد الكميت: وإن أكثر فى أهل بيته وذويه السلام الضجاج واللجب والتقريع والتعنيف، فوجّه القول (¬2) إليه والمراد غيره، ولذلك وجه صحيح وهو أنّ المراد بموالاتهم والانحياز إليهم والانقطاع إلى حبهم؛ لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله هو المقصود بذلك أجمع جاز أن يخرج الكميت الكلام هذا المخرج، ويضعه هذا الموضع. وقيل إن المراد بتبّاع الأنبياء الذين أمر بمسألتهم هم مؤمنو أهل الكتاب (¬3) كعبد الله ابن سلام ونظرائه، وليس يمتنع أن يكون هو عليه السلام المأمور بالمسألة على الحقيقة كما يقتضيه ظاهر الخطاب، وإن لم يكن شاكا فى ذلك، ولامر تابا به. ويكون الوجه فيه تقرير أهل الكتاب به، وإقامة الحجة عليهم باعترافهم، أو لأنّ بعض مشركى العرب أنكر أن تكون كتب الله تعالى المتقدمة وأنبياؤه الآتون بها دعت إلى التوحيد، فأمر عليه السلام بتقرير أهل الكتاب (¬4) / بذلك دعت لنزول الشبهة عمن اعترضته. والجواب الثانى أن يكون السؤال متوجها إليه عليه السلام دون أمته، والمعنى: إذا لقيت ¬

_ (¬1) نص: رفع. (¬2) فى حاشية الأصل: «نسخة ش: فوجه القول»، بالإضافة. (¬3) ف: «أهل الكتب». (¬4) من نسخة بحاشية الأصل: «الكتاب».

النبيين فى السماء فاسألهم عن ذلك؛ لأن الرواية قد وردت بأنه صلى الله عليه وآله لقى النبيين فى السماء فسلّم عليهم وأمّهم؛ ولا يكون أمره بالسؤال، لأنه كان شاكا، لأن مثل ذلك لا يجوز عليه الشكّ فيه؛ لكن لبعض المصالح الراجعة إلى الدين؛ إمّا لشيء يخصه عليه السلام، أو يتعلّق ببعض الملائكة الذين يستمعون ما يجرى بينه وبين النبيين من سؤال وجواب. والجواب الثالث ما أجاب به ابن قتيبة، وهو أن يكون المعنى: وسل من أرسلنا إليه قبلك رسلا من رسلنا- يعنى أهل الكتاب. وهذا الجواب- وإن كان يوافق فى المعنى الجواب الأول- فبينهما خلاف فى تقدير الكلام وكيفية تأويله، فلهذا صارا مفترقين. وقد ردّ على ابن قتيبة هذا الجواب، وقيل إنه أخطأ فى الإعراب؛ لأن لفظة «إليه» لا يصح إضمارها فى هذا الموضع؛ لأنهم لا يجيزون: «الّذي جلست عبد الله»، على معنى «الّذي جلست إليه»، لأن «إليه» حرف منفصل عن الفعل، والمنفصل لا يضمر، فلما كان القائل إذا قال: «الّذي أكرمت إياه عبد الله» لم يجز أن يضمر «إياه»؛ لانفصاله من الفعل كانت لفظة «إليه» منزلته. وكذلك لا يجوز: «الّذي رغبت محمد»، بمعنى «الّذي رغبت فيه محمد»؛ لأن الإضمار إنما يحسن فى الهاء المتعلقة بالفعل كقولك: «الّذي أكلت طعامك»، و «الّذي لقيت صديقك»، معناهما: الّذي أكلته ولقيته. وقال الفراء: إنما حذفت «الهاء» لدلالة الّذي عليها. وقال غيره فى حذفها غير ذلك؛ وكلّ هذا ليس مما تقدم فى شيء، فصحّ أن جواب ابن قتيبة مستضعف، والمعتمد على ما تقدم.

تأويل خبر"كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه أو ينصرانه"

تأويل خبر [«كلّ مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه»] إن سأل سائل عن معنى ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: «كلّ مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه». قلنا: أمّا أبو عبيد القاسم بن سلّام فإنه قال فى تأويل هذا الخبر: سألت محمد بن الحسن عن تفسيره/ فقال: كان هذا فى أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض، ويؤمر المسلمون بالجهاد. قال أبو عبيد: كأنه يذهب إلى أنه لو كان يولد على الفطرة، ثم مات قبل أن ينصّره أبواه ويهوّداه ما ورّثاه، وكذلك لو ماتا قبله ما ورّثهما، لأنه مسلم وهما كافران؛ وما كان أيضا يجوز أن يسبى، فلما نزلت الفرائض وجرت السّنن بخلاف ذلك علم أنه يولد على دين أبويه. قال أبو عبيد: وأما عبد الله بن المبارك فإنه قال: هو بمنزلة الحديث الآخر الّذي يتضمّن أنه عليه السلام سئل عن أطفال المشركين فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» يذهب إلى أنهم يولدون على ما يصيرون إليه من إسلام أو كفر؛ فمن كان فى علمه تعالى أنه يصير مسلما فإنه يولد على الفطرة، ومن كان فى علمه أنه يموت كافرا ولد على ذلك. قال أبو عبيد: ومما يشبه هذا الحديث حديثه الآخر أنه قال: «يقول الله عز وجل: إنى خلقت عبيدى جميعا حنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وجعلت ما أحللته لهم حراما». قال أبو عبيدة: يريد بذلك البحائر والسّيّب وغير ذلك مما أحله الله تعالى، فجعلوه حراما. وأما ابن قتيبة فقال- وقد حكى ما ذكرناه عن أبى عبيد-: لست أرى ما حكاه أبو عبيد عن عبد الله ابن المبارك ومحمد بن الحسن مقنعا لمن أراد أن يعرف معنى الحديث؛ لأنهما لم يزيدا على أن ردّا على ما قال به من أهل القدر.

وتفسير محمد بن الحسن يدلّ على أن الحديث عنده منسوخ، والنسخ لا يكون فى الأخبار، وإنما يكون فى الأمر والنهى؛ قال: ولا يجوز أن يراد به- على تأويل ابن المبارك- بعض المولودين دون بعض؛ لأن مخرجه مخرج العموم. قال: ولا أرى معنى الحديث إلّا ما ذهب إليه حماد بن سلمة؛ فإنه قال فيه: هذا عندنا حيث أخذ العهد عليهم فى أصلاب آبائهم؛ يريد حين مسح الله تعالى ظهر آدم؛ فأخرج منه ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذرّ، وأشهدهم: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ؛ [الأعراف: 172]، فأراد عليه السلام أنّ كلّ مولود يولد فى العالم على ذلك العهد وعلى ذلك الإقرار الأول وهو الفطرة. / قال سيدنا أدام الله علوّه: وهذا كله تخليط وبعد عن الجواب الصحيح. والصحيح فى تأويله أن قوله عليه السلام: «يولد على الفطرة» يحتمل أمرين: أحدهما أن تكون الفطرة هاهنا الدين، وتكون «على» بمعنى اللام؛ فكأنه قال: كل مولود يولد للدّين ومن أجل الدين؛ لأن الله تعالى لم يخلق من يبلغه مبلغ المكلّفين إلّا ليعبده فينتفع بعبادته، يشهد بذلك قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ؛ [الذريات: 56]؛ والدليل على أن «على» تقوم مقام اللام ما حكاه يعقوب بن السّكّيت عن أبى زيد عن العرب أنهم يقولون: صف عليّ كذا وكذا حتى أعرفه؛ بمعنى صف لى؛ ويقولون ما أغيظك عليّ! يريدون ما أغيظك لى! والعرب تقيم بعض حروف الصفات مقام بعض فيقولون: سقط الرجل لوجهه؛ يريدون على وجهه، وقال الطّرماح: كأنّ مخوّاها على ثفناتها … معرّس خمس وقّعت للجناجن (¬1) أراد: على الجناجن (¬2) - ¬

_ (¬1) ديوانه: 166 وفى حاشية الأصل: «خوّى البعير إذا تجافى فى بروكه، ومنه خوّى الرجل فى سجوده، وخوت المرأة عند جلوسها على المجمر»، وفيها أيضا: «يعنى أن فجوات هذه الناقة عند البروك تسع خمس أينق بوارك». (¬2) الجناجن: عظام الصدر.

وقال عنترة: شربت بماء الدّحرضين فأصبحت … زوراء تنفر عن حياض الدّيلم (¬1) معناه: شربت الناقة من ماء الدّحرضين؛ وهما ماءان؛ يقال لأحدهما: وسيع والآخر دحرض، فغلب الأشهر؛ وهو الدّحرض. وإنما ساغ أن يريد بالفطرة- التى هى الخلقة فى اللغة- الدّين من حيث كان هو المقصود بها، وقد يجرى على الشيء اسم ماله به هذا الضرب من التعلّق والاختصاص؛ وعلى هذا يتأول قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها؛ [الروم: 30] أراد دين الله الّذي خلق الخلق له. وقوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ؛ [الروم: 30] المراد به أن ما خلق العباد له من العبادة والطاعة ليس مما يتغير ويختلف، حتى يخلق قوما للطاعة، وآخرين للمعصية. ويجوز أن يريد بذلك الأمر، وإن كان ظاهره الخبر، فكأنه تعالى قال: ولا تبدّلوا ما خلقكم الله له من الدّين والطاعة بأن تعصوا وتخالفوا. والوجه الآخر فى تأويل الفطرة أن يكون المراد بها الخلقة، وتكون لفظة «على» على ظاهرها/ لم يرد (¬2) به غيرها، ويكون المعنى: كل مولود يولد على الخلقة الدالة على وحدانية الله تعالى وعبادته والإيمان به، لأنه عز وجل قد صوّر الخلق وخلقهم على وجه يقتضي النظر فيه معرفته والإيمان به؛ وإن لم ينظروا ولم يعرفوا، فكأنه عليه السلام قال: كل مخلوق ومولود فهو يدلّ بخلقه وصورته على عبادة الله تعالى؛ وإن عدل بعضهم فصار يهوديا أو نصاريا. وهذا الوجه يحتم له أيضا قوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها. وإذا ثبت ما ذكرناه فى معنى الفطرة فقوله: «حتى يكون أبواه يهوّدانه وينصرانه» يحتمل وجهين: ¬

_ (¬1) من المعلقة ص 186 - بشرح التبريزى. الزوراء: المائلة، والديلم: الأعداء، عن الأصمعى. (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «بها».

أحدهما أنّ من كان يهوديا أو نصرانيا ممن خلقته لعبادتى ودينى؛ فإنما جعله كذلك أبواه، ومن جرى مجراهما ممن أوقع له الشبهة وقلده الضلال عن الدين. وإنما خص الأبوين لأن الأولاد فى الأكثر ينشئون على مذاهب آبائهم، ويألفون أديانهم وتحلهم؛ ويكون الغرض بالكلام تنزيه الله تعالى عن ضلال العباد وكفرهم، وأنه إنما خلقهم للإيمان فصدهم عنه آباؤهم، أى ومن جرى مجراهم. والوجه الآخر أن يكون معنى: «يهوّدانه وينصّرانه» أى يلحقانه بأحكامهما، لأنّ أطفال أهل الذمة قد ألحق الشرع أحكامهم بأحكامهم؛ فكأنه عليه السلام قال: لا تتوهموا من حيث لحقت أحكام اليهود والنصارى أطفالهم، أنهم خلقوا لدينهم، بل لم يخلقوا إلا للإيمان والدين الصحيح؛ لكنّ آباءهم هم الذين أدخلوهم فى أحكامهم. وعبّر عن إدخالهم فى أحكامهم بقولهم: «يهوّدانه وينصّرانه»؛ وهذا واضح. فأما جواب أبى عبيد الّذي حكاه عن محمد بن الحسن فإنا إذا تمكنا من حمل الخبر على وجه نسلم معه من النسخ لم نحتج إلى غيره؛ وإنما توهّم النسخ لاعتقاده أن خلقهم على الفطرة يمنع من إلحاقهم بحكم آبائهم؛ وذلك غير ممتنع. وأما الجواب الّذي حكاه عن ابن المبارك ففاسد، لأن الله تعالى لا يجوز أن يخلق أحدا للكفر؛ وكيف يخلقه للكفر وهو يأمره بالإيمان ويريده منه، ويعاقبه ويذمه على خلافه! فأما ما روى عنه/ عليه السلام- وقد سئل عن أطفال المشركين فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» - فإنه يحتمل أن يكون عليه السلام سئل عمّن لم يبلغ من أطفال المشركين: كيف تكون صورته؟ وإلى أىّ شيء تنتهى عاقبته؟ فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، وأراد أن ذلك مستور عنّى؛ ولو كانت المسألة عمّن اخترم طفلا لم يجز أن يكون الجواب ذلك.

وأما ابن قتيبة فإنه رد على أبى عبيد من غير وجه يقتضي الرّد واعترض جواب ابن المبارك، باعتبار العموم والخصوص، وترك أن يفسده من الوجه الّذي يفسد به وهو الّذي ذكرناه، وكيف ننبه على فساده من هذه الجهة، وقد اختار فى تأويل الخبر ما يجرى فى الفساد والاختلال مجرى تأويل ابن المبارك.! فأما النّسخ فى الأخبار فجائز إذا تضمنت معنى الأمر والنهى؛ ويكون ما دلّ على جواز النسخ فى الأوامر دالا على جواز ذلك فيها؛ وهذا مثل أن يقول: الصلاة واجبة عليكم، ثم يقول بعد زمان: ليست بواجبة، فيستدل بالثانى على نسخ الحكم الأول، كما لو قال عليه السلام: صلوا، ثم قال: لا تصلوا كان النهى الثانى ناسخا للأول. فأما الجواب الّذي ذكره ابن قتيبة فقد بينا فساده فيما تقدم (¬1) من الأمالى عند تأويلنا قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ؛ [الأعراف: 172]؛ وأفسدنا قول من اعتقد أنه مسح ظهر آدم، واستخرج منه الذرّية وأشهدها على نفوسها، وأخذ إقرارها بمعرفته بوجوه من الكلام؛ فلا طائل فى إعادة ذلك. ¬

_ (¬1) انظر الجزء الأول ص 28 - 30.

57

مجلس آخر 57 تأويل آية [فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ؛ [هود: 106 - 108]. فقال: ما معنى الاستثناء هاهنا والمراد الدوام والتأييد؟ ثم ما معنى التمثيل بمدّة السموات والأرض التى تفنى وتنقطع؟ الجواب، / قلنا: قد ذكر فى هذه الآية وجوه: أولها أن تكون إِلَّا- وإن كان ظاهرها الاستثناء- فالمراد بها الزيادة؛ فكأنه تعالى قال: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من الزيادة لهم على هذا المقدار؛ كما يقول الرجل لغيره: لى عليك ألف دينار إلا الألفين الذين أقرضتكهما وقت كذا وكذا، فالألفان زيادة على الألف بغير شكّ؛ لأن الكثير لا يستثنى من القليل؛ وهذا الجواب يختاره الفرّاء وغيره من المفسرين. والوجه الثانى أن يكون المعنى: إلّا ما شاء ربّك من كونهم قبل دخول الجنة والنار فى الدنيا؛ وفى البرزخ الّذي هو ما بين الحياة والموت وأحوال المحاسبة والعرض وغير ذلك؛ لأنه تعالى لو قال: خالدين فيها أبدا، ولم يستثن لتوهّم متوهّم أنهم يكونون فى الجنة والنار من لدن نزول الآية، أو من بعد انقطاع التكليف، فصار للاستثناء وجه، وفائدة معقولة.

والوجه الثالث أن تكون إِلَّا بمعنى الواو؛ والتأويل: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، وما شاء ربك من الزيادة. واستشهد على ذلك بقول الشاعر: وكلّ أخ مفارقه أخوه … لعمر أبيك إلّا الفرقدان (¬1) معناه: والفرقدان، ويقول الآخر: وأرى لها دارا بأغدرة السّ … يّدان لم يدرس لها رسم (¬2) إلّا رمادا هامدا دفعت … عنه الرّياح خوالد سحم والمراد ب «إلا» هاهنا الواو؛ وإلا كان الكلام متناقضا. والوجه الرابع أن يكون الاستثناء الأول متصلا بقوله: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ؛ وتقدير الكلام: لهم فى النار زفير وشهيق إلا ما شاء ربك من أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربين، ولا يتعلق الاستثناء بالخلود. فإن قيل: فهبوا أنّ هذا أمكن فى الاستثناء الأول، كيف يمكن فى الثانى؟ قلنا: يحمل الثانى على استثناء المكث فى المحاسبة والموقف، أو غير ذلك مما تقدّم ذكره. ¬

_ (¬1) البيت من شواهد سيبويه (الكتاب 1: 371)، ونسبه إلى عمرو بن معديكرب، وأورده شاهدا على نعت «كلّ»، بقوله: «إلا الفرقدان»؛ على تأويل «غير». وفى حاشية الأصل: قوله «إلا الفرقدان» قيل «إلا» بمعنى غير، والتقدير: غير الفرقدين، ومثله قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا أى غير الله. (¬2) أغدرة السيدان: موضع وراء كاظمة؛ بين البصرة والبحرين؛ كذا ذكره ياقوت واستشهد بالبيت. والبيتان من قصيدة مفضلية؛ للمخبل السعدى؛ وقبلهما: ذكر الرّباب وذكرها سقم … فصبا، وليس لمن صبا حلم وإذا ألمّ خيالها طرفت … عينى، فماء شئونها سجم كاللؤلؤ المسجور أغفل فى … سلك النّظام فخانه النّظم وانظر المفضليات 113 - 118 (طبعة المعارف).

/ والوجه الخامس أن يكون الاستثناء غير مؤثر فى النقصان من الخلود؛ وإنما الغرض فيه: أنه لو شاء أن يخرجهم وألّا يخلدهم لفعل، وأن التخليد إنما يكون بمشيئته وإرادته، كما يقول القائل لغيره: والله لأضربنّك إلا أن أرى غير ذلك، وهو لا ينوى إلا ضربه، ومعنى استثنائه هاهنا: أنى لو شئت ألّا أضربك لفعلت وتمكنت؛ غير أنى مجمع على ضربك. والوجه السادس أن يكون تعليق ذلك بالمشيئة على سبيل التأكيد للخلود، والتبعيد للخروج؛ لأن الله تعالى لا يشاء إلا تخليدهم على ما حكم به، ودلّ عليه؛ ويجرى ذلك مجرى قول العرب: والله لأهجرنّك إلا أن يشيب الغراب، ويبيضّ القار؛ ومعنى ذلك أنى أهجرك أبدا؛ من حيث علّق بشرط معلوم أنه لا يحصل؛ وكذلك معنى الآيتين؛ والمراد بهما أنهم خالدون أبدا؛ لأن الله تعالى لا يشاء أن يقطع خلودهم. والوجه السابع أن يكون المراد بالذين شقوا من أدخل النار من أهل الإيمان، الذين ضمّوا إلى إيمانهم وطاعتهم المعاصى؛ فقال تعالى: إنهم معاقبون فى النار إلا ما شاء ربك؛ من إخراجهم إلى الجنة، وإيصال ثواب طاعاتهم إليهم. ويجوز أيضا أن يريد بأهل الشقاء هاهنا جميع الداخلين إلى جهنم؛ ثم استثنى تعالى بقوله: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ أهل الطاعات منهم، ومن يستحقّ ثوابا لا بدّ أنه يوصل إليه فقال: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من إخراج بعضهم؛ وهم أهل الثواب. وأما الذين سعدوا فإنما استثنى من خلودهم أيضا لما ذكرناه؛ لأنّ من نقل من النار إلى الجنة وخلّد فيها لا بدّ من الإخبار عنه بتأبيد خلوده من استثناء ما تقدّم؛ فكأنه تعالى قال: إنهم خالدون فى الجنة ما دامت السموات والأرض؛ إلا ما شاء ربك من الوقت الّذي أدخلهم فيه النار، قبل أن ينقلهم إلى الجنة. والذين شقوا على هذا الجواب هم الذين سعدوا، وإنما أجرى عليهم كل لفظ فى الحال التى تليق بهم؛ فهم إذا أدخلوا النار وعوقبوا فيها من أهل الشقاء، وإذا نقلوا إلى الجنة من أهل الجنة والسعادة.

وقد ذهب إلى هذا الوجه جماعة من المفسرين كابن عباس وقتادة والضحّاك/ وغيرهم. وروى بشر بن عمارة عن أبى روق عن الضّحاك عن ابن عباس قال: الذين شقوا ليس فيهم كافر؛ وإنما هم قوم من أهل التوحيد، يدخلون النار بذنوبهم، ثم يتفضّل الله تعالى عليهم فيخرجهم من النار إلى الجنة، فيكونون أشقياء فى حال، سعداء فى حال أخرى. وأما تعليق الخلود بدوام السموات والأرض؛ فقد قيل فيه: إن ذلك لم يجعل شرطا فى الدوام؛ وإنما علّق به على طريق التبعيد وتأكيد الدوام؛ لأن للعرب فى مثل هذا عادة معروفة خاطبهم الله تعالى عليها؛ لأنهم يقولون: لا أفعل كذا ما لاح كوكب، وما أضاء الفجر، وما اختلف الليل والنهار، وما بلّ بحر صوفة، وما تغنّت حمامة، ونحو ذلك، ومرادهم التأبيد والدوام. ويجرى كل ما ذكرناه مجرى قولهم: لا أفعل كذا أبدا؛ لأنهم يعتقدون فى جميع ما ذكرناه أنه لا يزول ولا يتغير؛ وعباراتهم إنما يخرجونها بحسب اعتقاداتهم، لا بحسب ما عليه الشيء فى نفسه؛ ألا ترى أن بعضهم لما اعتقد فى الأصنام أن العبادة تحقّ لها سمّاها آلهة بحسب اعتقادهم، وإن لم تكن فى الحقيقة كذلك! ومما يشهد لمذهبهم الّذي حكيناه قول أبى الجويرية العبدىّ: ذهب الجود والجنيد جميعا … فعلى الجود والجنيد السلام (¬1) أصبحا ثاويين فى قعر مرت (¬2) … ما تغنّت على الغصون الحمام وقال الأعشى: ¬

_ (¬1) معجم الشعراء للمرزبانى 258، والمختلف والمؤتلف للآمدى 79؛ وذكر بعدها بيتا ثالثا: لم تزل غاية الكرام فلمّا … متّ مات الندى ومات الكرام وهو الجنيد بن عبد الرحمن المرى، كان والى خراسان. (¬2) المرت: القفر من الأرض؛ وفى المؤتلف: «بطن مرو». وفى ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «قعر مرو».

ألست منتهيا عن نحت أثلتنا … ولست ضائرها ما أطّت الإبل! (¬1) وقال الآخر: لا أفتأ الدّهر أبكيهم بأربعة … ما اجترّت النّيب أو حنّت إلى بلد (¬2) وقال زهير منبئا (¬3) عن اعتقاده دوام الجبال، وأنها لا تفنى ولا تتغير: ألا لا أرى على الحوادث باقيا … ولا خالدا إلّا الجبال الرّواسيا (¬4) / فهذا وجه. وقيل أيضا فى ذلك أنه أراد به الشرط، وعنى بالآية دوام السموات والأرض المبدّلتين؛ لأنه تعالى قال: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ؛ [إبراهيم: 48]، فأعلمنا تعالى أنهما تبدّلان؛ وقد يجوز أن يديمهما بعد التغيير أبدا بلا انقطاع؛ وإنما المنقطع هو دوام السموات والأرض قبل التبديل والفناء. ويمكن أيضا أن يكون المراد أنهم خالدون بمقدار مدّة السموات والأرض التى يعلم الله تعالى انقطاعها ثم يزيدها الله تعالى على ذلك ويخلّدهم، ويؤيد مقامهم وهذا الوجه يليق بالأجوبة التى تتضمن أن الاستثناء أريد به الزيادة على المقدار المتقدم لا النقصان. *** قال سيدنا أدام الله تمكينه: وجدت الآمدىّ قد ظلم البحترىّ فى تفسير بيت له مضاف إليه مع ظلمه له فى أشياء كثيرة تأوّلها على خلاف مراد البحترىّ، وحكى قوله: ¬

_ (¬1) ديوانه: 46. أثلة كل شيء: أصله؛ ويريد بها هاهنا الحسب؛ يقال: فلان ينحت أثلتنا إذا قال فى حقه قبيحا؛ كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت. والأطيط: صوت الإبل من ثقل أحمالها. (¬2) الجرة: ما تخرجه الإبل من أجوافها، وتعيد مضغه. وفى حاشية الأصل: يعنى بأربعة أحجبة العين؛ كما قال: يا عين بكّى عند كلّ صباح … جودى بأربعة على الجرّاح. (¬3) د، ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «مبينا». (¬4) ديوانه: 288.

كالبدر إلّا أنّها لا تجتلى … والشّمس إلّا أنها لا تغرب (¬1) ثم قال: " وهذا فيه سؤال؛ لأنه لما قال: * كالبدر إلا أنها لا تجتلى* فالمعنى أن عيون الناس كلّهم ترى البدر وتجتليه، وهى لا تراها العيون ولا تجتلى". ثم قال: *" والشمس إلا أنها لا تغرب* وإنما قال: «لا تجتلى» لأنها محجوبة؛ فإذا كانت فى حجاب فهى فى غروب؛ لأن الشمس إذا غربت فإنما تدخل تحت حجاب، فظاهر المعنى: كالبدر إلا أن العيون لا تراها، والشمس إلا أن العيون لا تفقدها". قال: " وهذا القول متناقض كما ترى" قال: " وأظنه أراد أنها وإن كانت فى حجاب فإنه لا يقال لها: غربت تغرب كما يقال للشمس؛ وإنما يقال لها إذا سافرت: بعدت، واغتربت وغرّبت إذا توجهت نحو الغرب، وقد يقال للرجل اغرب عنا (¬2)، أى ابعد، ولو استعار لها اسم الغروب عن الأرض التى تكون فيها إذا ظعنت عنها إلى أرض أخرى كان ذلك حسنا جدا، لا سيما وقد جعلها شمسا، كما قال ابراهيم بن العباس الصولىّ: وزالت زوال الشّمس عن مستقرّها … فمن مخبرى: فى أىّ أرض غروبها؟ (¬3) قال: " وقد يجوز أن يقول قائل: إنه أراد: لا تغرب تحت الأرض كما تغرب الشمس؛ وهذه معاذير/ ضيقة، لأبى عبادة فإن لم يكن قد أخطأ فقد أساء". قال سيدنا أدام الله علوّه: وما المخطئ غير الآمدىّ، ومراد البحترىّ بقوله أوضح من أن يذهب على متأمّل، لأنه أراد بقوله: * والشمس إلا أنها لا تغرب* أى أنها لا تصير بحيث يتعذر رؤيتها ويمتنع، كما يتعذر رؤية الشمس على من غربت ¬

_ (¬1) ديوانه 1: 62. (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «عنى». (¬3) ديوانه: 140 (ضمن مجموعة الطرائف).

عن أفق بلده. والمرأة- وإن احتجبت باختيارها- فإن ذلك ليس بغروب كغروب الشمس؛ لأنها إذا شاءت ظهرت وبرزت للعيون، والشمس إذا غربت فرؤيتها غير ممكنة، ولهذا لا يصحّ أن يقال لمن استظل بدار أو جدار عن الشمس: إنها غربت عنه، وإن كان غير راء لها، لأن رؤيتها ممكنة بزوال ذلك المانع، وكذلك القول فى احتجاب المرأة؛ فلا تناقض فى بيت البحترى على ما ظنه الآمدىّ. ولبعضهم فى هذا المعنى: قد قلت للبدر واستعبرت حين بدا … ما فيك يا بدر لى من وجهها خلف تبدى لنا كلما شئنا محاسنها … وأنت تنقص أحيانا وتنكسف فمعنى قوله: «فأنت تنقص وتنكسف» جار مجرى غروب الشمس، لأنه فضّلها على البدر من حيث كان بروزها لمبصرها موقوفا على اختيارها، والبدر ينكسف ويغيب على وجه لا تمكن رؤيته، كما فضلها البحترىّ بأنها لا تغرب حتى تصير رؤيتها مستحيلة، والشمس كذلك. وقد ظلم الآمدىّ البحترىّ فى قوله: لا العذل يردعه ولا التّعنيف عن كرم يصدّه قال الآمدىّ" وهذا عندى من أهجى ما مدح به خليفة وأقبحه، ومن ذا يعنّف الخليفة على الكرم أو يصده! إن هذا بالهجو أولى منه بالمدح". قال سيدنا رضى الله عنه: وللبحترى فى هذا عذر من وجهين: أحدهما أن يكون الكلام خرج مخرج التقدير؛ فكأنه قال: لو عنّف وعذل لما صدّه ذلك عن الكرم، وإن كان من حق العذل والتعنيف أن يصدّ أو يحجز عن الشيء،

وهذا له نظائر فى القرآن، وفى كلام العرب كثير مشهور، وقد مضى فيما أمليناه شيء من ذلك. والوجه الآخر أن العذل والتعنيف/ وإن لم يتوّجها إليه فى نفسه فهما موجودان فى الجملة على الإسراف فى البذل والجود بنفائس الأموال، ولم يقل البحترىّ: إن عذله يردعه، أو تعنيفه يصدّه، وإنما قال: «لا العذل يردعه ولا التعنيف يصده»، فكأنه أخبر أن ما يسمعه من عذل العذال على الكرم وتعنيفهم على الجود وإن كان متوجّها إلى غيره فهو غير صادّ له لقوة عزيمته، وشدّة بصيرته. *** ومما خطأ الآمدىّ فيه البحترىّ وإن كان له فيه عذر صحيح لم يهتد إليه قوله: ذنب كما سحب الرّداء يذبّ عن … عرف وعرف كالقناع المسبل قال الآمدىّ: " وهذا خطأ من الوصف لأنّ ذنب الفرس إذا مسّ الأرض كان عيبا فكيف إذا سحبه! وإنما الممدوح من الأذناب ما قرب من الأرض، ولم يمسها كما قال امرؤ القيس: * يضاف فويق الأرض ليس بأعزل (¬1) "* قال" وقد عيب امرؤ القيس بقوله: لها ذنب مثل ذيل العروس … تسدّ به فرجها من دبر" (¬2) قال" وما أرى العيب يلحق امرأ القيس، لأن العروس وإن كانت تسحب أذيالها، وكان ذنب الفرس إذا مس الأرض عيبا فليس بمنكر أن يشبّه به الذنب، وإن لم يبلغ إلى ¬

_ (¬1) ديوانه 44، وصدره: * كميت إذا استدبرته سدّ فرجه* استدبرته: جئت من ورائه. والضافى: الذنب الطويل الشعر. والأعزل: الّذي يميل ذنبه إلى جانبه، وهو عادة لا خلقة؛ وذلك عيب عندهم. (¬2) ديوانه: 13.

أن يمسّ الأرض، لأن الشيء إنما يشبّه الشيء إذا قاربه، أو دنا من معناه، فإذا أشبهه فى أكثر أحواله فقد صحّ التشبيه ولاق به. وامرؤ القيس لم يقصد أن يشبه طول الذنب بطول ذيل العروس فقط، وإنما أراد السّبوغ والكثرة والكثافة، ألا ترى أنه قال: * تسدّ به فرجها من دبر* وقد يكون الذنب طويلا يكاد يمس الأرض ولا يكون كثيفا، ولا يسد فرج الفرس فلما قال: «تسد به فرجها» علمنا أنه أراد الكثافة والسبوغ مع الطول، فإذا أشبه الذنب الذيل من هذه الجهة كان فى الطول قريبا منه، فالتشبيه صحيح، وليس ذلك بموجب للعيب وإنما العيب فى قول البحترى: «ذنب كما سحب الرداء»، فأفصح بأن الفرس يسحب ذنبه. ومثل قول امرئ القيس قول خداش بن زهير: / لها ذنب مثل ذيل الهدىّ … إلى جؤجؤ أيّد الزّافر والهدىّ: العروس التى تهدى إلى زوجها. والأيّد: الشديد. والزافر: الصّدر، لأنها تزفر منه". قال" فشبه الذنب الطويل السابغ بذيل الهدىّ، وإن لم يبلغ فى الطول إلى أن يمس الأرض" قال سيدنا أدام الله تمكينه: وللبحترىّ وجه فى العذر يقرب من عذر امرئ القيس فى قوله: «مثل ذيل العروس» غير أن الآمدىّ لم يفطن له؛ وأول ما نقوله: إن الشاعر لا يجب أن يؤخذ عليه فى كلامه التحقيق والتحديد، فإن ذلك متى اعتبر فى الشعر بطل جميعه، وكلام القوم مبنىّ على التجوز والتوسع والإشارات الخفية والإيماء على المعانى تارة من بعد، وأخرى من قرب؛ لأنهم لم يخاطبوا بشعرهم الفلاسفة وأصحاب المنطق؛ وإنما خاطبوا من يعرف أوضاعهم ويفهم أغراضهم.

وإنما أراد البحترىّ بقوله: «ذنب كما سحب الرداء» المبالغة فى وصفه بالطول والسبوغ وأنه قد قارب أن ينسحب، وكاد يمسّ الأرض. ومن شأن العرب أن تجرى على الشيء الوصف الّذي قد كان قد يستحقه، وقرب منه القرب الشديد فيقولون: قد قتل فلانا هوى فلانة، ودلّه (¬1) عقله؛ وأزال تمييزه وأخرج نفسه، وكل ذلك لم يقع وإنما أرادوا المبالغة وإفادة المقاربة والمشارفة؛ ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى. ومن شأنهم أيضا إذا أرادوا المبالغة التامة أن يستعملوا مثل هذا؛ فيشبهون الكفل بالكثيب وبالدّعص وبالتلّ، ويشبهون الخصر بوسط الزنبور، وبمدار (¬2) حلقة الخاتم، ويعدّون هذا غاية المدح وأحسن الوصف، ونحن نعلم أنا لو رأينا من خصره مقدار وسط الزنبور، وكفله كالكثيب العظيم لاستبعدناه واستهجنا صورته لنكارتها وقبحها، وإنما أتوا بألفاظ المبالغة صنعة وتأنقا، لا لتحمل على ظواهرها تحديدا وتحقيقا؛ بل ليفهم منها الغاية المحمودة، والنهاية المستحسنة، ويترك ما وراء ذلك، فإنا نفهم من قولهم: خصرها كخصر الزنبور أنه فى نهاية الدقة المستحسنة فى البشر، ومن قولهم/: كفلها كالكثيب أى أنه فى نهاية الوثارة المحمودة المطلوبة، لا أنه كالتل على التحقيق؛ فهكذا لا ننكر أن يريد البحترى بقوله: «كما سحب الرداء» أنه فى غاية الطول الممدوح، لا أنه ينجرّ على الأرض الحقيقة، ووكلنا فى تخليص معناه وتفصيله إلى العادة الجارية لنظرائه من الشعراء فى استعمال مثل اللفظ الّذي استعمله؛ وقد قال بعضهم فى ثقل العجيزة: تمشى فتثقلها روادفها … فكأنها تمشى إلى خلف وقال المؤمل: من رأى مثل حبّتى … تشبه البدر إذ بدا تدخل اليوم ثمّ تد … خل أردافها غدا وقال ذو الرمة: ورمل كأوراك العذارى قطعته … وفد جلّلته المظلمات الحنادس ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «نسخة ش: ووله». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «بمقدار».

وهذا كلام لو حمل على ظاهره وحقيقته لكان الموصوف به فى نهاية القبح؛ لأن من يمشى إلى خلف، ومن يدخل كفله بعده لا يكون مستحسنا. وقال بكر بن النطاح: فرعاء تسحب من قيام شعرها (¬1) … وتغيب فيه وهو جثل أسحم فكأنّها فيه نهار مشرق (¬2) … وكأنّه ليل عليها مظلم فوصف شعرها بأنه ينسحب مع قيامها، ونحن نعلم أن طول الشعر- وإن كان مستحسنا- فليس إلى هذا الحد؛ وإنما أراد بقوله: «تسحب شعرها» ما أراده البحترىّ بقوله: «كما سحب الرداء» من المبالغة فى الوصف بالطول المحمود دون المذموم. ¬

_ (¬1) م: «فرعها». (¬2) م: «ساطع».

58

مجلس آخر 58 تأويل آية [أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا، لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا، لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ؛ [مريم: 38]. فقال: ما تأويل هذه الآية؟ فإن كان المراد بها التعجّب من قوة أسماعهم ونفاذ أبصارهم؛ فكيف يطابق ما خبّر به عنهم فى مواضع كثيرة من الكتاب/ بأنهم لا يبصرون ولا يسمعون وأن على أسماعهم وأبصارهم غشاوة؟ وما معنى قوله تعالى: لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ؟ أىّ يوم هو اليوم المشار إليه؟ وما المراد بالضلال المذكور؟ . الجواب، قلنا: أمّا قوله تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ؛ فهو على مذهب العرب فى التعجّب؛ ويجرى مجرى قولهم: ما أسمعه! وما أبصره! والمراد بذلك الإخبار عن قوة علومهم بالله تعالى فى تلك الحال؛ وأنهم عارفون به على وجه الاعتراض للشبهة عليه؛ وهذا يدلّ على أنّ أهل الآخرة عارفون بالله تعالى ضرورة؛ ولا تنافى بين هذه الآية وبين الآيات التى أخبر عنهم فيها بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون؛ وبأن على أبصارهم غشاوة؛ لأنّ تلك الآيات تناولت أحوال التكليف، وهى الأحوال التى كان الكفار فيها ضلّالا عن الدين، جاهلين بالله تعالى وصفاته. وهذه الآية تناولت يوم القيامة؛ وهو المعنىّ بقوله تعالى: يَوْمَ يَأْتُونَنا؛ وأحوال يوم القيامة لا بدّ فيها من المعرفة الضرورية. وتجرى هذه الآية مجرى قوله تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: 22]. فأما قوله تعالى: لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فيحتمل أن يريد تعالى بقوله: الْيَوْمَ الدّنيا وأحوال التكليف؛ ويكون الضلال المذكور إنما هو الذّهاب عن الدين والعدول عن الحق، فأراد تعالى أنّهم فى الدنيا جاهلون، وفى الآخرة عارفون؛ بحيث لا تنفعهم المعرفة. ويحتمل أن يريد تعالى باليوم يوم القيامة؛ ويعنى تعالى

«بالضلال» العدول عن طريق الجنة ودار الثواب إلى دار العقاب؛ فكأنه تعالى قال: أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا؛ غير أنهم مع معرفتهم هذه وعلمهم يصيرون فى هذا اليوم إلى العقاب؛ ويعدل بهم عن طريق الثواب. وقد روى معنى هذا التأويل عن جماعة من المفسرين فروى عن الحسن فى قوله تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا قال: يقول تعالى: هم يوم القيامة سمعاء بصراء؛ لكن الظالمون اليوم فى الدنيا ليسوا سمعاء وبصراء؛ ولكنهم فى ضلال عن الدين مبين. وقال قتادة وابن زيد: ذلك والله يوم القيامة؛ سمعوا حين لم ينفع السمع، وأبصروا حين لم ينفعهم؟ البصر. وقال أبو مسلم بن بحر فى تأويل هذه الآية كلاما جيدا، قال: " معنى أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ما أسمعهم! وما أبصرهم! وهذا على طريق المبالغة فى الوصف؛ يقول: فهم يوم يأتوننا أى يوم القيامة سمعاء بصراء؛ أى عالمون وهم اليوم فى دار الدنيا فى ضلال مبين، أى جهل واضح". قال: " وهذه الآية تدلّ على أنّ قوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ، [البقرة: 171] ليس معناه الآفة فى الأذن، والعين والجوارح؛ بل هو أنهم لا يسمعون عن قدرة، ولا يتدبرون ما يسمعون، ولا يعتبرون بما يرون؛ بل هم عن ذلك غافلون؛ فقد نرى أنّ الله تعالى جعل قوله تعالى: لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ مقابلا لقوله تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا، أى ما أسمعهم! وما أبصرهم! فأقام تعالى السمع والبصر مقام الهدى؛ إذ جعله بإزاء الضلال المبين." وأما أبو على بن عبد الوهاب فإنه اختار فى تأويل هذه الآية غير هذا الوجه، ونحن نحكى كلامه على وجهه، قال: " وعنى بقوله: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أى أسمعهم وبصّرهم وبيّن لهم أنّهم إذا أتوا مع الناس إلى موضع الجزاء سيكونون فى ضلال عن الجنة وعن الثواب الّذي يناله المؤمنون والظالمون الذين ذكرهم الله هم هؤلاء الذين توعّدهم الله بالعذاب فى ذلك اليوم".

ويجوز أيضا أن يكون عنى بقوله: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ، أى أسمع الناس بهؤلاء الأنبياء وأبصرهم بهم؛ ليعرفوهم ويعرفوا خبرهم، فيؤمنوا بهم، ويقتدوا بأعمالهم. وأراد بقوله تعالى لكِنِ الظَّالِمُونَ لكن من كفر بهم من الظالمين اليوم؛ وهو يعنى يوم القيامة فى ضلال عن الجنة، وعن نيل الثواب، مبين. وهذا الموضع من جملة المواضع التى استدركت على أبى على، وينسب فيها إلى الزلل؛ لأن الكلام وإن كان محتملا لما ذكره بعض الاحتمال من بعد، فإن الأولى والأظهر فى معنى ما تقدم ذكره من المبالغة فى وصفهم وقوله تعالى: لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ بعد ما تقدّم لا يليق إلا بالمعنى الّذي ذكرناه؛ لا سيما إذا حمل اليوم على أنّ المراد به يوم القيامة؛ على أن أبا عليّ جعل قوله تعالى: لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ من صلة قوله تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ وتأوله على أنّ المعنىّ به أعلمهم وبصّرهم/ بأنهم يوم القيامة فى ضلال عن الجنة. والكلام يشهد بأنّ ذلك لا يكون من صلة الأول وأنّ قوله تعالى: لكِنِ استئناف لكلام ثان. وما يحتاج أبو عليّ إلى هذا؛ بل لو قال على ما اختاره من التأويل أنه أراد أسمعهم وأبصرهم يوم يأتوننا أى ذكّرهم بأهواله، وأعلمهم بما فيه؛ ثم قال مستأنفا. لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لم يحتج إلى ما ذكره؛ وكان هذا أشبه بالصواب. فأما الوجه الثانى الّذي ذكره فباطل، لأن قوله تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ إذا تعلّق بالأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى بقى قوله يَوْمَ يَأْتُونَنا بلا عامل (¬1) ومحال أن يكون ظرف لا عامل له؛ فالأقرب والأولى أن يكون على الوجه الأول مفعولا. ووجدت بعض من اعترض على أبى عليّ يقول رادا عليه: لو كان الأمر على ما ذهب إليه أبو عليّ لوجب أن يقول تعالى: أسمعهم وأبصرهم بغير باء، وهذا الردّ غير صحيح؛ لأن ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «لا علاقة له بذلك».

الباء فى مثل هذا الموضع غير منكر زيادتها؛ وذلك موجود كثير فى القرآن والشعر؛ قال الله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ؛ [العلق: 96]، عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ؛ [الإنسان: 6]، وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم: 25]، تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ؛ [الممتحنة: 1]. وقال الأعشى: ضمنت برزق عيالنا أرماحنا وقال امرؤ القيس: هصرت بغصن ذى شماريخ ميّال (¬1) وأظنّ أبا عليّ إنما أنّسه بهذا الجواب أنه وجد تاليا للآية لفظ أمر؛ وهو قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ، فحمل الأول على الثانى؛ والكلام لا تشتبه معانيه من حيث المجاورة؛ بل الواجب أن يوضع كلّ منه حيث يقتضيه معناه. *** قال: المرتضى وجدت جماعة من أهل الأدب يستبعدون أن يرتج على إنسان فى خطبة أو كلام قصد له، فينبعث منه فى تلك الحال كلام هو أحسن مقصد إليه؛ وأبلغ ممّا أرتج عليه دونه ويقولون: إنّ النسيان لا يكون إلا عن حيرة وضلالة؛ فكيف يجتمع معهما البراعة الثاقبة، والبلاغة المأثورة؛ مع حاجتهما إلى اجتماع الفكرة وحضور (¬2) الذكر! وينسبون جميع ما يحكى من كلام مستحسن، ولفظ مستغرب (¬3) عمّن حصر فى خطبة أو فى منطق إلى أنه موضوع مصنوع. ¬

_ (¬1) ديوانه: 19؛ وصدره: * فلما تنازعنا الحديث وأسمحت* تنازعنا: تعاطينا. أسمحت: لانت وانقادت.؛ ويريد بالشماريخ هاهنا خصائل الشعر؛ وأصل الشمراخ: الغصن. (¬2) حاشية ف (من نسخة): «حصول». (¬3) حاشية ف (من نسخة): «مستعذب».

/ وليس الّذي استبعدوه وأنكروه ببعيد ولا منكر، لأن النسيان قد يخص شيئا دون شيء، ويتعلّق بجهة دون جهة، وهذا أمر متعارف، فلا ينكر أن ينسى الإنسان شيئا قصده وعزم على الكلام فيه، ويكون مع ذلك ذاكرا لغيره، متكلّما فيه بأبلغ الكلام وأحسنه، بل ربما كان الحصر والذّهاب عن القصد يحميان القريحة، ويوقدان الفكرة، ويبعثان على أحسن الكلام وأبرعه، ليكون ذلك هربا من العىّ وانتفاء من اللّكنة. ومن أحسن ما روى من الكلام وأبرعه فى حال الحصر والانقطاع عن المقصود من الكلام ما أخبرنى به أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدثنا ابن دريد قال حدثنا أبو حاتم. قال المرزبانىّ: وأخبرنا ابن دريد مرة أخرى قال حدثنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبىّ قالا: صعد خالد بن عبد الله القسرىّ (¬1) يوما المنبر بالبصرة فأرتج عليه، فقال: «أيها الناس، إن الكلام- وقال أبو حاتم: إن هذا القول- يجيء أحيانا، ويذهب أحيانا، فيتسبب عند مجيئه سببه، ويعزّ عند عز وبه طلبه، وربما كوبر فأتى، وعولج فأبطأ وقال ابن الكلبى: ربما طلب فأبى، وعولج فقسا- فالتّأتى لمجيئه أصوب من التعاطى لأبيّه». ثم نزل. فما رؤى حصر أبلغ منه. وقال أبو حاتم: «والتّرك لأبيّه أفضل من التعاطى لمجيئه، وتجاوزه عند تعززه أولى من طلبه عند تنزّحه؛ وقد يختلج من الجريء جنانه، ويرتج على البليغ لسانه»، ثم نزل. وأخبرنا بهذا الخبر أبو عبيد الله المرزبانىّ على وجه آخر قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الواسطىّ قال: كان خالد بن عبد الله القسرى حين ولّاه هشام بن عبد الملك يكثر الخطب والتبالغ، فقدم واسطا، فصعد المنبر فحاول الخطبة فأرتج عليه، فقال: «أيها الناس، إن هذا الكلام يجيء أحيانا ويعزب أحيانا، فيعز عند عزوبه طلبه؛ ويتسبب عند مجيئه سببه، وربما كوثر فأبى، وعوسر فقسا، والتأتّى لمجيئه أسهل من التعاطى لأبيه؛ وتركه عند تعزّزه (¬2) أحمد من طلبه ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «القسرىّ: منسوب إلى قسر، وهى قرية من قرى العرب». (¬2) ف: «تعذره».

عند تنكّره، فقد يرتج على اللسن لسانه، فلا ينظره القول إذا اتسع، ولا ينشأ إذا امتنع، ومن لم تمكن له الخطوة، فخليق أن تعنّ له النّبوة». وأخبرنا المرزبانىّ قال أخبرنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة قال حدثنى أبو العباس المنصورىّ قال: صعد أبو العباس السفّاح/ المنبر فأرتج عليه فقال: «أيها الناس، إنما اللسان بضعة من الإنسان، يكلّ إذا كلّ، وينفسح بانفساحه إذا انفسح، ونحن أمراء الكلام، منّا تفرعت فروعه، وعلينا تهدّلت غصونه، ألا وإنّا لا نتكلم هذرا؛ ولا نسكت إلا معتبرين». ثم نزل. فبلغ ذلك أبا جعفر فقال: لله هو! لو خطب بمثل ما اعتذر لكان من أخطب الناس. وهذا الكلام يروى لداود بن على. وبهذا الإسناد عن محمد بن الصباح عن قثم بن جعفر بن سليمان عن أبيه قال: أراد أبو العباس السفّاح يوما أن يتكلم فى أمر من الأمور بعد ما أفضت الخلافة إليه، وكان فيه حياء مفرط فأرتج عليه، فقال داود بن عليّ بعد أن حمد الله وأثنى عليه: إن أمير المؤمنين، الّذي قلّده الله سياسة رعيته عقل من لسانه عند ما تعهّد من بيانه، ولكل مرتق بهر، حتى تنفّسه العادات، فأبشروا بنعمة الله فى صلاح دينكم، ورغد عيشكم». وأخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال أخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال حدثنا عبد الله بن إسحاق بن سلّام قال: صعد عثمان بن عفان المنبر فأرتج عليه فقال: «أيها الناس، سيجعل الله بعد عسر يسرا، وبعد عىّ نطقا، وإنكم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال». وروى محمد بن يزيد النحوىّ هذا الكلام بعينه عن زياد بن يزيد بن أبى سفيان (¬1) وقد ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «يزيد بن أبى سفيان»؛ وفيهما أيضا. «يزيد بن أبى سفيان يقال له: يزيد الخير؛ واستعمله أبو بكر على الشام، ثم أقره عمر بعده؛ ومات بالشام وهو عامل عمر فى طاعون عمواس فى سنة ثمانى عشرة؛ فولى عمر أخاه معاوية ما كان يليه، ولا عقب له».

خطب على بعض منابر الشام وإن عمرو بن العاص لما بلغه كلامه قال: هنّ مخرجاتى من الشام؛ استحسانا لكلامه. وروى محمد بن يزيد النحوىّ قال: بلغنى أن رجلا صعد المنبر أيام يزيد- وكان واليا على قوم- فقال لهم: «أيها الناس، إنى إلّا أكن فارسا طبّا بهذا القرآن فإن معى من أشعار العرب ما أرجو أن يكون خلفا منه، وما أساء القائل أخو البراجم (¬1) حيث يقول: وما عاجلات الطّير يدنين للفتى … رشادا، ولا من ريثهنّ يخيب (¬2) وربّ أمور لا تضيرك ضيرة … وللقلب من مخشاتهنّ وجيب (¬3) ولا خير فيمن لا يوطّن نفسه … على حادثات الدّهر حين تنوب (¬4) وفى الشّكّ تفريط، وفى الحزم قوّة … ويخطى الفتى فى حدسه ويصيب (¬5) / فقال له رجل من كلب: إنّ هذا المنبر لم ينصب للشعر، بل ليحمد الله عليه ويصلّى على النبي صلّى الله عليه وآله وللقرآن، فقال: أما لو أنشدتكم شعر رجل من كلب لسرّكم، فكتب إلى يزيد بذلك فعزله، وقال: قد كنت أرى أنك جاهل، ولم أحسب أنّ الحمق بلغ بك هذا كلّه، فقال له: أحمق منّى من ولّانى. ¬

_ (¬1) الأبيات فى الكامل 3: 201 - بشرح المرصفى؛ ونسبها إلى ضابئ بن الحارث البرجمى؛ وقبلها: ومن يك أمسى بالمدينة رحله … فإنى وقيار بها لغريب. (¬2) رواية الكامل: وما عاجلات الطّير تدنين من الفتى … نجاحا ولا عن ريبهنّ يخيب قال المبرد فى شرح البيت: " يقول: إذا لم تعجل له طير سانحة فليس ذلك بمبعد خيرا عنه، ولا إذا أبطأت خاب؛ فعاجلها لا يأتيه بخير، وآجلها لا يدفعه عنه إنما له ما قدّر له؛ والعرب تزجر على السانح وتتبرك به، وتكره البارح وتتشاءم به؛ والسانح ما أراك ميامنه فأمكن الصائد، والبارح ما أراك مياسره فلم يمكن الصائد إلا أن ينحرف له". (¬3) المخشاة كالمخشية: مصدر خشية يخشاه، ووجيب القلب: خفقانه واضطرابه. (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «حيث تنوب». (¬5) وبعده: ولست بمستبق صديقا ولا أخا … إذا لم تعدّ الشيء وهو يريب.

وكان يزيد بن المهلب (¬1) ولى ثابت قطنة بعض قرى خراسان، فصعد المنبر فحصر فنزل وهو يقول: فإلّا أكن فيكم خطيبا فإننى … بسيفى إذا جدّ الوغى لخطيب فقيل: لو قلت هذا على المنبر لكنت أخطب الناس؛ فبلغ ذلك حاجب (¬2) الفيل فقال: أبا العلاء لقد لاقيت معضلة … يوم العروبة من كرب وتحنيق أما القرآن فلا تهدى لمحكمه … ولم تسدّد من الدّنيا بتوفيق لمّا رمتك عيون النّاس هبتهم … وكدت تشرق لمّا قمت بالريق تلوى اللّسان إذا رمت الكلام به … كما هوى زلق من حالق نيق (¬3) وروى أن بعض خلفاء بنى العباس- وأظنه الرشيد- صعد المنبر ليخطب، فسقطت ذبابة على وجهه فطردها، فعادت فحصر وأرتج عليه، فقال: أعوذ بالله السميع العليم: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج: 73]، ثم نزل، فاستحسن ذلك منه. ومما يشاكل هذه الحكاية ما حكاه عمرو بن بحر الجاحظ قال: " كان (¬4) لنا بالبصرة قاض يقال له عبد الله بن سوّار لم ير الناس حاكما قطّ [ولا زمّيتا] (¬5)، ولا ركينا (¬6)، ولا وقورا، ضبط من نفسه، وملك من حركته مثل الّذي ضبط وملك؛ وكان يصلى الغداة ¬

_ (¬1) الخبر فى الأغانى 13: 47 - 48. (¬2) اسمه حاجب بن دينار المازنى؛ ذكره الجاحظ فى الحيوان 1: 191، والبيتان 2: 183. (¬3) د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): «من جانبى نيق». ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف أيضا: «من جانب النيق»، والنيق: أعلى الجبل. (¬4) الحيوان 3: 343، ونقله الثعالبى فى ثمار القلوب 396 - 397. (¬5) زيادة من م؛ وهى توافق ما فى الحيوان والزميت، كسكيت العظيم الوقار. (¬6) الركين: الرزين.

فى منزله وهو قريب الدار من مسجده، فيأتى مجلسه، فيحتبى ولا يتّكئ، ولا يزال منتصبا لا يتحرّك له عضو، ولا يلتفت، ولا تحلّ حبوته (¬1)، ولا يحوّل رجلا عن رجل، ولا يعتمد على أحد شقّيه، حتى كأنه بناء مبنىّ أو صخرة منصوبة؛ فلا يزال كذلك؛ حتى يقوم لصلاة الظهر، ثم يعود إلى مجلسه، فلا يزال كذلك/ حتى يقوم لصلاة العصر، ثم يرجع إلى مجلسه (¬2)، فلا يزال كذلك حتى يقوم لصلاة المغرب، ثم ربما عاد إلى مجلسه (¬3)، بل كثيرا ما يكون ذلك إذا بقى عليه من قراءة العهد والشروط والوثائق، ثم يصلى العشاء (¬4) وينصرف، لم يقم فى تلك الولاية مرة واحدة إلى الوضوء، ولا احتاج إليه، ولا شرب ماء ولا غيره من الشراب، وكذلك كان شأنه فى طوال الأيام وفى قصارها، وفى صيفها وشتائها، وكان مع ذلك لا يحرّك يدا (¬5)، ولا يشير برأسه؛ وليس إلا أن يتكلم ثم يوجز؛ ويبلغ بالكلام اليسير المعانى الكثيرة. فبينما هو ذات يوم كذلك، وأصحابه حوله (¬6) وفى السّماطين (¬7) بين يديه إذ سقط على أنفه ذباب، فأطال السكوت والمكث، ثم تحوّل إلى مؤق (¬8) عينه؛ فرام الصبر فى سقوطه على المؤق وعلى عضّته، ونفاذ خرطومه؛ كما رام الصبر على سقوطه على أنفه، من غير أن يحرّك أرنبته، أو يغضّن وجهه؛ أو يذبّ بإصبعه؛ فلما طال عليه ذلك من الذباب وأوجعه وأحرقه وقصد إلى مكان لا يحتمل التغافل عنه أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل فلم ينهض، فدعاه ذلك إلى أن والى بين الإطباق والفتح؛ فتنحى ريثما سكن جفنه. ثم عاد إلى موقفه (¬9) ثانيا، أشد من مرته الأولى، فغمس خرطومه فى مكان قد كان أوهاه قبل ذلك، فكان احتماله له أضعف، وعجزه عن الصبر فى الثانية أقوى، فحرّك أجفانه، وزاد ¬

_ (¬1) الحبوة، بالفتح وتضم: أن يجمع الرجل بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها. (¬2) الحيوان: «لمجلسه». (¬3) الحيوان: «إلى محله». (¬4) فى ثمار القلوب: «العشاء الأخيرة». (¬5) الحيوان: «يده». (¬6) م: «حواليه»؛ وهى رواية الحيوان. (¬7) السماط: الصف. (¬8) المؤق: طرف العين مما يلى الأنف. (¬9) د، ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «موقه».

فى شدة الحركة (¬1) فى تتابع الفتح والإطباق، فتنحّى عنه بقدر ما سكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه، فما زال يلحّ عليه حتى استفرغ جهده (¬2)، وبلغ مجهوده، فلم يجد بدّا من أن يذبّ عنه بيده، ففعل ذلك وعيون القوم إليه يرمقونه، كأنهم لا يرونه، فتنحى عنه بمقدار ما ردّ يده، وسكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه؛ فألجأه إلى أن ذبّ عن وجهه بطرف كمه، ثم ألجأه إلى أن تابع بين ذلك، وعلم أن ذلك كلّه بعين من حضر من أمنائه وجلسائه، فلما نظروا إليه قال: أشهد أن الذباب ألجّ (¬3) من الخنفساء، وأزهى من الغراب، وأستغفر الله فما أكثر من أعجبته نفسه، فأراد الله أن يعرّفه من ضعفه ما كان عنه مستورا. وقد علمت أنى كنت/ عند الناس من أرصن الناس، وقد غلبنى وفضحنى أضعف خلق الله، ثم تلا قول الله تعالى: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ". ¬

_ (¬1) الحيوان: «فى فتح العين وتتابع الفتح». (¬2) م: «صبره». وهى رواية الحيوان وثمار القلوب. (¬3) فى الثمار: «ألح»، بالحاء.

59

مجلس آخر 59 تأويل آية [وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ، وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ، وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ؛ [البقرة: 49]. فقال: ما تنكرون أن يكون فى هذه الآية دلالة على إضافة الأفعال التى تظهر من العباد إليه تعالى، من وجهين: أحدهما أنه قال بعد ما تقدم من أفعالهم ومعاصيهم: وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ فأضافها إلى نفسه، والثانى أنه أضاف نجاتهم من آل فرعون إليه فقال: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ، ومعلوم أنهم هم الذين ساروا حتى نجوا؛ فيجب أن يكون ذلك السير من فعله على الحقيقة حتى تصح الإضافة. الجواب، قلنا: أما قوله تعالى: وَفِي ذلِكُمْ فهو إشارة إلى ما تقدّم ذكره من إنجائه لهم من المكروه والعذاب: وقد قال قوم: إنه معطوف على ما تقدّم من قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ؛ [البقرة: 47]، والبلاء هاهنا الإحسان والنعمة. ولا شك فى أن تخليصه لهم من ضروب المكاره التى عددها الله نعمة عليهم وإحسان إليهم؛ والبلاء عند العرب قد يكون حسنا، ويكون شيئا، قال الله تعالى: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً [الأنفال: 17]؛ ويقول الناس فى الرجل إذا أحسن القتال والثبات فى الحرب: قد أبلى فلان، ولفلان بلاء؛ والبلوى أيضا قد يستعمل فى الخير والشر؛ إلا أن أكثر ما يستعملون البلاء الممدود فى الجميل والخير، والبلوى المقصور فى السوء

والشر، وقال قوم: أصل البلاء فى كلام العرب الاختبار والامتحان، ثم يستعمل فى الخير والشر؛ لأن الاختبار والامتحان قد يكون فى الخير والشر جميعا، كما قال تعالى: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ؛ [الأعراف: 168]، يعنى اختبرناهم، وكما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً؛ [الأنبياء: 35]، فالخير يسمى بلاء، والشر يسمى بلاء؛ غير أن الأكثر فى الشر أن يقال: بلوته أبلوه بلاء، وفى الخير: أبليته أبليه إبلاء وبلاء؛ وقال زهير فى البلاء الّذي هو الخير: / جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم … وأبلاهما خير البلاء الّذي يبلو (¬1) فجمع بين اللغتين، لأنه أراد: فأنعم الله عليهما خير النعمة التى يختبر بها عباده. وكيف يجوز أن يضيف تعالى ما ذكره عن آل فرعون من ذبح الأبناء وغيره إلى نفسه، وهو قد ذمّهم عليه، ووبّخهم! وكيف يكون ذلك من فعله؛ وهو تعالى قد عدّ تخليصهم منه نعمة عليهم! وكان يجب على هذا أن يكون إنما نجاهم من فعله تعالى بفعله، وهذا مستحيل لا يعقل ولا يحصل؛ على أنّه يمكن أن ترد قوله: ذلِكُمْ إلى ما حكاه عن آل فرعون من الأفعال القبيحة؛ ويكون المعنى: فى تخليته بين هؤلاء وبينكم، وتركه منعهم من إيقاع هذه الأفعال بكم بلاء من ربّكم عظيم؛ أى محنة واختبار لكم. والوجه الأول أقوى وأولى، وعليه جماعة من المفسرين. وروى أبو بكر الهذلىّ عن الحسن فى قوله تعالى: وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ، قال: نعمة عظيمة؛ إذ أنجاكم من ذلك؛ وقد روى مثل ذلك عن ابن عباس والسّدّيّ ومجاهد وغيرهم. فأما إضافة النّجاة إليه وإن كانت واقعة بسيرهم وفعلهم؛ فلو دلّ على ما ظنّوه لوجب إذا قلنا: إنّ الرسول أنقذنا من الشّكّ، وأخرجنا من الضلالة إلى الهدى، ونجّانا من الكفر أن يكون فاعلا لأفعالنا. وكذلك قد يقول أحدنا لغيره: أنا نجيتك من كذا وكذا، واستنقذتك وخلصتك، ¬

_ (¬1) ديوانه: 109؛ والرواية فيه: «رأى الله بالإحسان .. »، وهى رواية الأصمعى.

ولا يريد أنّه فعل بنفسه فعله. والمعنى فى ذلك ظاهر؛ لأن ما وقع بتوفيق الله تعالى ودلالته وهدايته ومعونته وألطافه قد يصح إضافته إليه فعلى هذا صحت إضافة النجاة إليه تعالى. ويمكن أيضا أن يكون مضيفا لها من حيث ثبّط عنهم الأعداء، وشغلهم عن طلبهم؛ وكل هذا يرجع إلى المعونة؛ فتارة تكون بأمر يرجع إليهم، وتارة بأمر يرجع إلى أعدائهم. فإن قيل: كيف يصحّ أن يقول: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ فيخاطب بذلك من لم يدرك فرعون ولا نجا من شره؟ قلنا: ذلك معروف مشهور فى كلام العرب؛ وله نظائر؛ لأن العربىّ قد يقول مفتخرا على غيره: قتلناكم يوم عكاظ (¬1) وهزمناكم؛ وإنما يريد أنّ قومى فعلوا ذلك بقومك. قال الأخطل يهجو جرير بن عطية: / ولقد سما لكم الهذيل فنالكم … بإراب حيث يقسّم الأنفالا (¬2) فى فيلق يدعو الأراقم لم تكن … فرسانه عزلا ولا أكفالا (¬3) ولم يلحق جرير الهذيل؛ ولا أدرك اليوم الّذي ذكره؛ غير أنّه لما كان يوم من أيام قوم الأخطل على قوم جرير، أضاف الخطاب إليه وإلى قومه؛ فكذلك خطاب الله تعالى بالآية إنما توجّه إلى أبناء من نجّى من آل فرعون وأحلافهم. والمعنى: وإذ نجينا آباءكم وأسلافكم؛ والنعمة على السلف نعمة على الخلف. *** ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «عكاظ: سوق للعرب معروفة كانوا يجتمعون فيها فيتفاخرون». (¬2) ديوانه 48 وفى حاشيتى الأصل، ف: «الهذيل بن هبيرة التغلبى، وكان غزا بنى رباح يوم إراب؛ وإراب اسم ماء». (¬3) الأراقم: قبائل معروفة، والعزل: الضعفاء والأكفال: جمع كفل، وهو الّذي لا يثبت على ظهور الخيل؛ ومثله قول الشاعر: ما كنت تلقى فى الحروب فوارسى … ميلا إذا ركبوا ولا أكفالا.

قال سيدنا أدام الله تمكينه: ومن أحسن الشعر فى تعوّد الضيافة والأنس بها والاستمرار عليها قول حاتم بن عبد الله الطائى: إذا ما بخيل القوم هرّت كلابه … وشقّ على الضّيف الغريب عقورها (¬1) فإنى جبان الكلب، بيتى موطّا … جواد إذا ما النّفس شحّ ضميرها وإنّ كلابى مذ أقرّت (¬2) وعوّدت … قليل على من يعترينا هريرها أراد بقوله: * قليل على من يعترينا هريرها* أنها لا تهرّ جملة؛ ولذلك نظائر كثيرة، ومثله قوله تعالى: فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ؛ [البقرة: 88] ومثل قوله: «فإنى جبان الكلب» معنى ولفظا قول الشاعر: وما يك فىّ من عيب فإنى … جبان الكلب مهزول الفصيل (¬3) وإنما أراد أنى أوثر الضيف بالألبان ففصالى مهازيل. ومثل اللفظ والمعنى (¬4) قول أبى وجزة: وآل الزّبير بنو حرّة … مروا بالسّيوف الصّدور الجنافا (¬5) ¬

_ (¬1) ديوانه: 110؛ والفاضل والمفضول 40 - 41، وفى د، ونسخة بحاشيتى الأصل، ف: «بخيل الناس»؛ وهى راية الديوان. (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «أقرت»؛ بالفتح. (¬3) كتاب الصناعتين 351. والحيوان 1: 384، والحماسة بشرح المرزوقى 1650 من غير عزو. (¬4) من أبيات ستة مذكورة فى الأغانى 12: 252 (طبع دار الكتب المصرية)؛ وكان أبو وجزة متقطعا إلى آل الزبير؛ وإلى عبد الله بن عروة بن الزبير خاصة، وكان يفضل عليه ويقوم بأمره؛ ثم بلغه أن أبا وجزة أتى عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب فمدحه ووصله؛ فاطرحه عبد الله بن عروة، وأمسك يده عنه؛ فلم يزل أبو وجزة يمدح آل الزبير ويستعطف ابن عروة؛ وهو يشيح عنه إلى أن قال فيه هذه الأبيات، فرضى عنه وعاد إلى صلته. (¬5) بعده. سل الجرد عنهم وأيامها … إذا امتعطوا المرهفات الخفافا امتعطوا: سلوا؛ ومنه ذئب أمعط، منسل من شعره-

يموتون والقتل من دأبهم … ويغشون يوم السّيوف السّيافا (¬1) وأجبن من صافر كلبهم … وإن قذفته حصاة أضافا يقول: أدركوا بسيوفهم ثاراتهم؛ فكأنهم شفوا وغر قلوبهم، وأزالوا ما كان فيها من الأحقاد. ومعنى «مروا» استخرجوا كما ترى الناقة إذا أردت أن تحلبها لتدرّ. والجانف: المائل. ثم قال: وإن مات بعضهم على فراشه فإن أكثرهم يموت مقتولا؛ لشجاعتهم وإقدامهم، فلذلك قال: «والقتل من/ دأبهم». وجعل كلبهم جبانا لكثرة من يغشاهم ويطرقهم من النّزّال والأضياف فقد ألفتهم كلابهم وأنست بهم؛ فهى لا تنبحهم. وقيل أيضا: إنها لا تهرّ عليهم؛ لأنها تصيب مما ينحر لهم وتشاركهم فيه. ومعنى: * وإن قذفته حصاة أضافا* أى أشفق؛ وهذا تأكيد لجبنه؛ ويقال: أضاف الرجل من الأمر إذا أشفق منه. ومعنى «وأجبن من صافر كلبهم» قد تقدم ذكره فى الأمالى. ومثله فى المعنى: يغشون حتى ما تهرّ كلابهم … لا يسألون عن السّواد المقبل (¬2) وقال المرار بن المنقذ العدوىّ: أعرف الحقّ ولا أنكره … وكلابى أنس غير عقر (¬3) ¬

_ (¬1) رواية الأغانى: يموتون والقتل داء لهم … ويصلون يوم السّياف السّيافا وبعده: إذا فرج القتل عن عيصهم … أبى ذلك العيص إلا التفافا مطاعيم تحمد أبياتهم … إذا قنّع الشاهقات الطّخافا قنعت: غطى رأسها. والطخاف: السحاب المرتفع. (¬2) البيت لحسان؛ ديوانه 80. (¬3) من قصيدة مفضلية (82 - 93، طبعة المعارف).

لا ترى كلبى إلّا آنسا … إن أتى خابط ليل لم يهرّ (¬1) كثر النّاس فما ينكرهم … من أسيف يبتغى الخير وحرّ الأسيف: العبد هاهنا- وقال آخر: إلى ماجد لا ينبح الكلب ضيفه … ولا يتأدّاه احتمال المغارم (¬2) معنى «يتأداه» يثقله؛ وأراد أن يقول: يتأوّده؛ فقلب. وقال ابن هرمة: وإذا أتانا طارق متنوّر … نبحت فدلّته عليّ كلابى (¬3) وفرحن إذ أبصرنه فلقينه … يضربنه بشراشر الأذناب (¬4) وإنما تفرح به، لأنها قد تعودت إذا نزلت الضيوف أن ينحر لهم فتصيب من قراهم. ومثله له: ومستنبح تستكشط الرّيح ثوبه … ليسقط عنه، وهو بالثّوب معصم (¬5) عوى فى سواد اللّيل بعد اعتسافه … لينبح كلب، أو ليفزع نوّم (¬6) فجاوبه مستسمع الصّوت للقرى … له مع إتيان المهبّين مطعم ¬

_ (¬1) خابط ليل: ضيف يسير على غير هدى. (¬2) البيت فى اللسان (أود) من غير نسبة. (¬3) البيتان فى الخزانة 4: 584. (¬4) حاشية الأصل: «شراشر الذنب: ذباذبه؛ وهى ما تدلى من شعر ذنبه»، ويقال: شرشر الكلب؛ إذا ضرب بذنبه. (¬5) حماسة أبى تمام- بشرح التبريزى 4 - 136 - 137، والحيوان 1: 377، والفاضل للمبرد 37 - 38، من غير عزو، والخزانة 4: 584. وكشط واستكشط بمعنى، والمعصم: المستمسك بالشيء. (¬6) الاعتساف: السير على غير هدى.

يكاد إذا ما أبصر الضّيف مقبلا … يكلّمه من حبّه، وهو أعجم أراد بقوله: «فجاوبه مستسمع الصوت» أنه جاوبه كلب. والمهبّون: الموقظون له ولأهله وهم/ الأضياف؛ وإنما كان له معهم مطعم، لأنه ينحر لهم ما يصيب منه. وأراد بقوله: * يكلّمه من حبّه وهو أعجم* بصبصته وتحريكه ذنبه. وأما قوله: «ليفزع نوّم» فإنما أراد ليعين (¬1) نوم، يقال: فزعت لفلان إذا أعنته (¬2). ومعنى «عوى فى سواد الليل» أنّ العرب تزعم أنّ سارى الليل إذا أظلم عليه وادلهمّ فلم يستبن محجة، ولم يدر أين الحلّة وضع وجهه على (¬3) الأرض، وعوى عواء الكلب لتسمع (¬4) ذلك الصوت الكلاب إن كان الحىّ قريبا منه فتجيبه، فيقصد الأبيات. وهذا معنى قوله أيضا: «ومستنبح»، أى ينبح نبح الكلاب (¬5). ¬

_ (¬1) حاشية الأصل، ف (من نسخة): «ليغيث». (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «أغثته». (¬3) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «مع الأرض». (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «لتستمع». (¬5) حاشية الأصل: «مما يناسب هذا الفن قول امرأة من بنى عامر ترثى رجلا: أيا شجرات الواد من يضمن القرى … إذا لم يكن بالواد عمرو بن عامر فتى جعفرىّ كان غير ميامن … طريق الندى عنه وغير مياسر ولكن إليه قصد كلّ محصّب … صبور على مستصعبات الجرائر ومستنبح تزهى الصّبا عنه ثوبه … تقلّبه الأرواح بين الدياجر يجاوبه كلبان، والليل مسدف … يكادان يبتدّانه بالشراشر يكادان من وجد به وتملق … يقولان: أهلا بالمكلّ المسافر قولها «يبتدانه»، أى يأتيانه من جانبيه يتبصبصان ويقال: السبعان يبتدان الرجل ابتدادا، أى يأتيانه، والرضيعان يبتدان أمهما، ولا تقل: فلانة يبتدها ابنها حتى يكونا اثنين».

وقال الفرزدق: وداع بلحن الكلب يدعو ودونه … من اللّيل سجفا ظلمة وغيومها (¬1) دعا وهو يرجو أن ينبّه إذ دعا … فتى كابن ليلى حين غارت نجومها ابن ليلى، يعنى أباه غالبا- بعثت له دهماء ليست بلقحة (¬2) … تدرّ إذا ما هبّ نحسا عقيمها معنى «بعثت له دهماء» أى رفعتها على أثافيّها؛ ويعنى بالدهماء القدر. واللّقحة: الناقة؛ وأراد أن قدره تدرّ إذا هبت الريح عقيما لا مطر فيها- كأنّ المحال (¬3) الغرّ فى حجراتها … عذارى بدت لمّا أصيب حميمها أراد أن قطع اللحم لا تستتر منها (¬4) بشيء؛ كما لا تستتر العذارى اللواتى أصيب حميمهنّ فيظهرن حواسر- غضوبا كحيزوم النعامة أحمشت … بأجواز خشب زال عنها هشيمها (¬5) الأجواز: الأوساط، وأوسط الخشب أصلبه وأبقى نارا- محضرة لا يجعل السّتر دونها … إذا المرضع العوجاء جال يريمها البريم: الحقاب (¬6)؛ وإنما يجول من الهزال والجهد والطوى. والعوجاء: التى قد اعوجّت من الطوى. وقال الأخطل فى الضيف: دعانى بصوت واحد فأجابه … مناد بلا صوت، وآخر صيّت (¬7) ¬

_ (¬1) ديوانه: 803؛ والرواية فيه: وداع بنبح الكلب يدعو ودونه … غياطل من دهماء داج بهيمها. (¬2) الديوان: «بناقة». (¬3) المحال: القطع. (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «فيها». (¬5) هذا البيت والّذي يليه لم يذكرا فى الديوان. (¬6) الحقاب: شيء محلى تشده المرأة على وسطها. (¬7) الخزانة 4: 584.

ذكر ضيفا عوى بالليل والصّدى من الجبل يجيبه؛ فذلك معنى قوله: «بصوت واحد»، وقوله: «فأجابه مناد/ بلا صوت»، يعنى نارا رفعها له فرأى سناها فقصدها، والآخر الصّيت الكلب، لأنه أجاب دعواه. ومثله: وسارى ظلام مقفعلّ وهبوة … دعوت بضوء ساطع فاهتدى ليا يعنى نارا رفعها ليقصده طرّاق الليل. والمقفعلّ: المنتفض (¬1) من شدة البرد. وأنشد محمد بن يزيد: ومستنبح تهوى مساقط رأسه … إلى كلّ شخص فهو للصّوت أصور (¬2) حبيب إلى كلب الكرام مناخه … بغيض إلى الكوماء، والكلب أعذر (¬3) دعته بغير اسم: هلمّ إلى القرى … فأسرى يبوع الأرض شقراء تزهر معنى «أصور» مائل؛ أراد أنه يميل رأسه إلى كلّ شخص يتخيل له يظنه إنسانا. ومعنى: «حبيب إلى قلب الكرام» المعنى الّذي تقدم ومعنى: «بغيض إلى الكوماء» إلى الناقة لأنها تنحر له. وقوله: «دعته شقراء بغير اسم» يعنى نارا رأى ضوأها فقصدها؛ فكأنها دعته. وقال ابن هرمة وقد نزل به ضيف: فقلت لقينىّ ارفعاها وحرّقا … لعلّ سنا نارى بآخر تهتف (¬4) وفى معنى قوله: «بغيض إلى الكوماء» قول بعض الشعراء يمدح رسول الله صلى الله عليه وآله: وأبيك حيرا إنّ إبل محمّد … عزل تناوح أن تهبّ شمال ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «المتقبض». (¬2) حماسة أبى تمام- بشرح المرزوقى 1645. (¬3) ف: «أبصر»؛ وهى رواية الحماسة. وفى حاشية الأصل: «أعذر، أى أمعن فى كونه معذورا فى الحب». (¬4) القين: الخادم.

وإذا رأين لدى الفناء غريبة … ذرفت لهنّ من الدّموع سجال وترى لها زمن الشّتاء على الثّرى … رخما، وما تحيا لهنّ فصال أراد أبيك الخير، فلما طرح الألف واللام نصب. والعزل: التى لا سلاح معها؛ وسلاح الإبل سنامها (¬1) وأولادها؛ وإنما جعلوا ذلك كالسلاح لها من حيث كان صاحبها إذا رأى سمنها وحسن أجسامها، ورأى أولادها تتبعها نفس بها على الأضياف فامتنع من نحرها، فلما كان ذلك صادّا عن الذبح، ومانعا منه جرى مجرى السلاح لها؛ فكأنه يقول: هذه الإبل وإن كانت ذوات سلاح؛ من حيث كانت شحيمة سمينة فهى كالعزل إذ كان سلاحها لا يغنى عنها شيئا، ولا يمنع من عقرها. ومعنى: «تناوح» يقابل بعضها بعضا، أى هنّ مدفآت بأسنمتها وأوبارها/ لا تبالى بهبوب الشمال، ولا يدخل بعضها فى بعض من البرد. وقوله: * وإذا رأين لدى الفناء غريبة* أى إذا نزل ضيف فعقل ناقته التى جاء عليها وهى الغريبة علمن أنه سينحر بعضهم لا محالة؛ فلذلك تذرف دموعهن. وقوله: وترى لها زمن الشّتاء على الثرى … رخما ..... فقد قيل فيه: إنه أراد به أن يهب فصالهن فتبقى ألبانهن على الأرض كهيئة الرّخم. وحكى عن ابن عباس أنه قال: الرّخم: قطع العلق من الدم. وعندى أن المعنى غير هذين جميعا؛ وإنما أراد أنها تنحر وتعقر فتسقط الرّخم على موضع عقرها وبقايا دمائها وأشلائها؛ فهذا معنى قوله، لا ما تقدّم. ¬

_ (¬1) د، ف: «سمنها».

وقال آخر فى معنى سلاح الإبل يمدح بنى عوذ بن غالب من عبس (¬1)؛ جزى الله عنى غالبا خير ما جزى … إذا حدثان الدّهر نابت نوائبه (¬2) إذا أخذت بزل المخاض سلاحها … تجرّد فيها متلف المال كاسبه (¬3) أراد أن سمنها وحسنها وتمامها لا يمنعنى (¬4) من عقرها للأضياف. ومثله: إذا البقل فى أصلاب شول ابن مسهر … نما لم يزده البقل إلّا تكرّما إذا أخذت شول البخيل رماحها … دحا برماح الشّول حتّى تحطّما وقوله: «أخذت رماحها» من المعنى المتقدم. وقال مسكين الدارمىّ: فقمت ولم تأخذ إلى رماحها … عشارى، ولم أرجب (¬5) عراقبها عقرا لم أرجب: لم أكبر ذلك ولم يعظم عليّ، وسمّى رجب رجبا من ذلك؛ لأنه شهر معظّم. وقالت ليلى الأخيلية: ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «قيس». (¬2) من أبيات أربعة فى حماسة أبى تمام- بشرح المرزوقى 1666 - 1667؛ وبعده: فكم دافعوا من كربة قد تلاحمت … عليّ، وموج قد علتنى غواربه إذا قلت عودوا عاد كلّ شمردل … أشمّ من الفتيان جزل مواهبه إذا أخذت ... (¬3) البزل: جمع بازل؛ وهو المتناهى قوة وشبابا. والمخاض: النوق الحوامل. (¬4) د، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «يمنعه». (¬5) فى حاشيتى الأصل، ف: «ولم أحفل».

ولا تأخذ الكوم الحياد سلاحها … لتوبة فى قرّ الشّتاء الصنابر (¬1) ومثله: لا أخون الصّديق ما حفظ العه … د، ولا تأخذ السّلاح لقاحى وقال النمر بن تولب: أزمان لم تأخذ إلى سلاحها … إبلى بجلّتها ولا أبكارها (¬2) ابتزّها ألبانها ولحومها … فأهين ذاك لضيفها ولجارها / وقال مضرّس بن ربعىّ الأسدىّ: وما نلعن الأضياف إن نزلوا بنا … ولا يمنع الكوماء منّا نصيرها ومعنى: «لا نلعنهم»، أى لا نبعدهم، واللعين: البعيد. ونصيرها هاهنا: ما يمنع من عقرها من حسن وتمام وولد وما جرى مجرى ذلك. والنصير والسلاح فى المعنى واحد. ¬

_ (¬1) حماسة ابن الشجرى: 84؛ من أبيات ترثى فيها توبة بن الحمير الخفاجى، ورواية البيت هناك: ولا تأخذ الكوم المخاض سلاحها … لتوبة فى صرّ الشتاء الصّنابر والصنابر: جمع صنبر؛ وهو البرد الشديد. (¬2) البيت فى اللآلى 632. والجلة: المسان.

60

مجلس آخر 60 تأويل آية [وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ؛ [الكهف: 23]. فقال: ما تنكرون أن يكون ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون جميع ما نفعله يشاؤه ويريده؟ لأنه لم يخصّ شيئا من شيء؛ وهذا بخلاف مذهبكم. وليس لكم أن تقولوا: إنه خطاب للرسول عليه وآله السلام خاصة؛ وهو لا يفعل إلا ما يشاؤه الله؛ لأنه قد يفعل المباح بلا خلاف؛ ويفعل الصغائر عند أكثركم؛ فلا بد من أن يكون فى أفعاله تعالى ما لا يشاؤه عندكم، ولأنه أيضا تأديب لنا، كما أنه تعليم له عليه السلام؛ ولذلك يحسن منا أن نقول ذلك فيما يفعله. الجواب، قلنا: تأويل هذه الآية مبنىّ على وجهين: أحدهما أن نجعل حرف الشرط الّذي هو «إن» متعلقا بما يليه وبما هو متعلّق به فى الظاهر من غير تقدير محذوف؛ ويكون التقدير: ولا تقولن إنك تفعل إلا ما يريد الله. وهذا الجواب ذكره الفراء، وما رأيته إلا له. ومن العجب تغلغله إلى مثل هذا؛ مع مع أنه لم يكن متظاهرا بالقول بالعدل. وعلى هذا الجواب لا شبهة فى الآية، ولا سؤال للقوم علينا. وفى هذا الوجه ترجيح (¬1) لغيره من حيث اتبعنا فيه الظاهر، ولم نقدّر محذوفا، وكلّ جواب مطابق الظاهر ولم يبن على محذوف كان أولى. ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «المعنى أن الله تعالى ينهى أن يقول أحد إنى فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله؛ لأن الله تعالى لا يشاء جميع ما يفعلونه؛ وكأنه تعالى نهاهم عن تعليق أفعالهم بمشيئة الله عز وجل. وهو حسن».

والجواب الآخر أن نجعل «أن» متعلقة بمحذوف؛ ويكون التقدير: ولا تقولن لشيء إنى فاعل ذلك غدا إلا أن تقول: «إن شاء الله»؛ لأن من عاداتهم إضمار القول فى مثل هذا الموضع، واختصار الكلام إذا طال وكان فى الموجود منه دلالة على المفقود. وعلى هذا الجواب يحتاج إلى الجواب عما سئلنا عنه، فنقول: هذا تأديب من الله تعالى/ لعباده، وتعليم لهم أن يعلّقوا ما يخبرون به بهذه اللفظة؛ حتى يخرج من حد القطع. ولا شبهة فى أن ذلك مختصّ بالطاعات، وأنّ الأفعال القبيحة خارجة عنه؛ لأن أحدا من المسلمين لا يستحسن أن يقول: إنى أزنى غدا إن شاء الله، أو أقتل مؤمنا، وكلهم يمنع من ذلك أشدّ المنع؛ فعلم سقوط شبهة من ظن أن الآية عامّة فى جميع الأفعال. وأما أبو عليّ محمد بن عبد الوهاب فإنه ذكر فى تأويل هذه الآية ما نحن ذاكروه بعينه، قال" إنما عنى بذلك أنّ من كان لا يعلم أنه يبقى إلى غد حيا فلا يجوز أن يقول: إنى سأفعل غدا كذا وكذا، فيطلق الخبر بذلك وهو لا يدرى، لعله سيموت ولا يفعل ما أخبر به؛ لأن هذا الخبر إذا [لم يوجد مخبره على ما أخبر به] (¬1) فهو كذب؛ وإذا كان المخبر لا يأمن أن لا يوجد مخبره لحدوث أمر من فعل الله نحو الموت أو العجز أو بعض الأمراض، أو لا يحدث (¬2) ذلك بأن يبدو له هو فى ذلك، فلا يأمن أن يكون خبره كذبا فى معلوم الله عز وجل؛ وإذا لم يأمن ذلك لم يجز أن يخبر به؛ ولا يسلم خبره هذا من الكذب إلا بالاستثناء الّذي ذكره الله تعالى؛ فإذا قال: إنى صائر غدا إلى المسجد إن شاء الله، فاستثنى فى مصيره مشيئة الله أمن أن يكون خبره فى هذا كذبا؛ لأن الله إن شاء أن يلجئه إلى المصير إلى المسجد غدا ألجأه إلى ذلك؛ وكان المصير منه لا محالة؛ فإذا كان ذلك على ما وصفنا لم يكن خبره هذا كذبا؛ وإن لم يوجد منه المصير إلى المسجد؛ لأنه لم يوجد ما استثناه فى ذلك من مشيئة الله تعالى". ¬

_ (¬1) د، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «إذا لم يوجد مخبر على ما أخبر به المخبر». (¬2) م: «لا يوجد ذلك».

قال: " وينبغى ألا يستثنى مشيئة دون مشيئة، لأنه إن استثنى فى ذلك مشيئة الله لمصيره إلى المسجد على وجه التعبد، فهو أيضا لا يأمن أن يكون خبره كذبا؛ لأن الإنسان قد يترك كثيرا مما يشاؤه الله تعالى منه ويتعبده به، ولو كان استثناء مشيئة الله لأن يبقيه ويقدره ويرفع عنه الموانع كان أيضا لا يأمن أن يكون خبره كذبا؛ لأنه قد يجوز ألّا يصير إلى المسجد مع تبقية الله تعالى له قادرا مختارا، فلا يأمن من الكذب فى هذا الخبر دون أن يستثنى المشيئة العامة التى ذكرناها، فإذا دخلت هذه المشيئة فى الاستثناء فقد أمن أن يكون خبره كذبا/ إذا كانت هذه المشيئة متى وجدت وجب أن يدخل المسجد لا محالة". قال: " وبمثل هذا الاستثناء يزول الحنث عمن حلف فقال: والله لأصيرنّ غدا إلى المسجد إن شاء الله، لأنه إن استثنى على سبيل ما بيّنا لم يجز أن يحنث فى يمينه، ولو خص استثناءه بمشيئة بعينها ثم كانت ولم يدخل معها المسجد حنث فى يمينه". وقال غير أبى عليّ: إن المشيئة المستثناة هاهنا هى مشيئة المنع والحيلولة؛ فكأنه قال: إن شاء الله يخلينى ولا يمنعنى. وفى الناس من قال: القصد بذلك أن يقف الكلام على جهة القطع وإن لم يلزم به ما كان يلزم لولا الاستثناء، ولا ينوى فى ذلك إلجاء ولا غيره؛ وهذا الوجه يحكى عن الحسن البصرىّ. واعلم إن فى الاستثناء (¬1) الداخل على الكلام وجوها مختلفة؛ فقد يدخل على الأيمان والطلاق والعتاق وسائر العقود وما يجرى مجراها من الأخبار؛ فإذا دخل ذلك اقتضى التوقيف عن إمضاء الكلام والمنع من لزوم ما يلزم به إزالته عن الوجه الّذي وضع له؛ ولذلك يصير ما تكلّم به كأنه لا حكم له؛ ولذلك يصح على هذا الوجه أن يستثنى فى الماضى فيقول: قد ¬

_ (¬1) د، ف: «للاستثناء».

دخلت الدار إن شاء الله، ليخرج بهذا الاستثناء من أن يكون كلامه خبرا قاطعا أو يلزمه حكم. وإنما لم يصحّ دخوله فى المعاصى على هذا الوجه؛ لأن فيه إظهار الانقطاع (¬1) إلى الله تعالى؛ والمعاصى لا يصح ذلك فيها؛ وهذا الوجه أحد (¬2) ما يحتمله تأويل الآية. وقد يدخل الاستثناء فى الكلام فيراد به اللطف والتسهيل. وهذا الوجه يخصّ الطاعات، ولهذا الوجه جرى قول القائل: لأقضينّ غدا ما عليّ من الدين، ولأصلّينّ غدا إن شاء الله مجرى أن يقول: إنى أفعل ذلك إن لطف الله تعالى فيه وسهّله؛ فعلم أن المقصد واحد، وأنه متى قصد الحالف فيه هذا الوجه لم يجب إذا لم يقع (¬3) منه هذا الفعل أن يكون حانثا وكاذبا، لأنه إن لم يقع علمنا أنه لم يلطف له (¬4)، لأنه لا لطف له. وليس لأحد أن يعترض هذا بأن يقول: الطاعات لا بدّ فيها من لطف؛ وذلك لأنّ فيها ما لا لطف فيه جملة، فارتفاع ما هذه سبيله يكشف عن أنه لا لطف فيه، وهذا الوجه لا يصح أن يقال فى الآية أنه يخص الطاعات؛ والآية/ تتناول كلّ ما لم يكن قبيحا؛ بدلالة إجماع (¬5) المسلمين على حسن الاستثناء ما تضمنته فى فعل ما لم يكن قبيحا. وقد يدخل الاستثناء فى الكلام ويراد به التسهيل والإقدار والتخلية والبقاء على ما هي عليه من الأحوال؛ وهذا هو المراد به إذا دخل فى المباحات. وهذا الوجه يمكن فى الآية إلا أنه يعترضه ما ذكره أبو على مما حكيناه من كلامه. وقد يذكر استثناء المشيئة أيضا فى الكلام وإن لم يرد به فى شيء مما تقدم؛ بل يكون الغرض إظهار الانقطاع إلى الله تعالى من غير أن يقصد إلى شيء من الوجوه المتقدمة. وقد يكون هذا الاستثناء غير معتدّ به فى كونه كاذبا أو صادقا؛ لأنه فى الحكم كأنه ¬

_ (¬1) م: «إظهارا للانقطاع». (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «أجود». (¬3) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «وإن لم يقع منه». (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «لم يلطف فيه». (¬5) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «اجتماع».

قال: لأفعلنّ كذا إذا وصلت إلى مرادى مع انقطاعى إلى الله تعالى وإظهارى الحاجة إليه؛ وهذا الوجه أيضا مما يمكن فى تأويل الآية. ومن تأمل جملة ما ذكرناه من الكلام عرف منه الجواب عن المسألة التى لا يزال يسأل عنها المخالفون من قولهم: لو كان الله تعالى إنما يريد العبادات من الأفعال دون المعاصى لوجب إذا قال من لغيره عليه دين طالبه به: والله لأعطينّك حقّك غدا إن شاء الله أن يكون كاذبا أو حانثا إذا لم يفعل؛ لأن الله تعالى قد شاء ذلك منه عندكم، وإن كان لم يقع؛ فكان يجب أن تلزمه الكفارة؛ وألا يؤثر هذا الاستثناء فى يمينه، ولا يخرجه عن كونه حانثا؛ كما أنه لو قال: والله لأعطينّك حقك غدا إن قدم زيد فقدم ولم يعطه يكون حانثا؛ وفى إلزام هذا الحنث خروج عن إجماع المسلمين، فصار ما أوردناه جامعا لبيان تأويل الآية، وللجواب عن هذه المسألة ونظائرها من المسائل، والحمد لله وحده. *** قال سيدنا أدام الله تمكينه: تأمّلت ما اشتملت عليه تشبيهات الشعراء فوجدت أكثر ما شبهوا فيه الشيء بالشيء الواحد، أو الشيئين بالشيئين؛ وقد تجاوزوا ذلك إلى تشبيه ثلاثة بثلاثة، وأربعة بأربعة، وهو قليل؛ ولم أجد من تجاوز هذا القدر إلا قطعة مرّت بى لابن المعتز، فإنها تضمنت تشبيه ستة أشياء بستة أشياء. فأما تشبيه الواحد بالواحد فمثل قول عنترة فى وصف الذباب: هزجا يحكّ ذراعه بذراعه … قدح المكبّ على الزّناد الأجذم (¬1) / ومثله قول عدى بن الرّقاع: ¬

_ (¬1) من المعلقة، ص 182 - بشرح التبريزى. الهزج: السريع الصوت.

تزجى أغنّ كأنّ إبرة روقه … قلم أصاب من الدّواة مدادها (¬1) ومثله قول امرئ القيس: كأنّ عيون الوحش حول قبابنا … وأرحلنا الجزع الّذي لم يثقّب (¬2) وقوله: إذا ما الثّريّا فى السّماء تعرّضت … تعرّض أثناء الوشاح المفصّل (¬3) ولذى الرّمة: وردت اعتسافا والثّريّا كأنّها … على قمّة الرّأس ابن ماء محلّق (¬4) وهذا الباب أكثر من أن يحصى. فأما تشبيه شيئين بشيئين فمثل قول امرئ القيس يصف عقابا: كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا … لدى وكرها العنّاب والحشف البالى (¬5) وقوله: وكشح لطيف كالجديل مخصّر … وساق كأنبوب السّقيّ المذلّل (¬6) ¬

_ (¬1) الطرائف الأدبية: 88. وفى حاشية الأصل: «أى تزجى البقرة ولدا فى صوته غنة؛ كأن رأس قرنه قلم قد سود بمداد». (¬2) ديوانه 88. الجزع، بالفتح ويكسر: الخرز اليمانىّ. (¬3) ديوانه: 27. تعرضت: أبدت عرضها، والأثناء: جمع ثنى؛ وهو ما انثنى من الوشاح، والوشاح: قلائد يضم بعضها إلى بعض؛ تكون من لؤلؤ وجوهر منظومين مخالف بينهما، معطوف أحدهما على الآخر، وتتوشح به المرأة فتشده بين عاتقها وكشحها، والمفصل: المرصع ما بين كل خرزتين منه بلؤلؤة أو ذهب، وتعرض الثريا يكون عند انصبابها للمغيب. وفى طبقات الشعراء: 73: " أنكر قوم قوله: «إذا ما الثريا فى السماء تعرضت»، وقالوا: الثريا لا تتعرض". وقال بعض العلماء: عنى الجوزاء، وقد تفعل العرب بعض ذلك؛ قال زهير: فتنتج لكم غلمان أشأم، كلّهم … كأحمر عاد، ثم، ترضع فتفطم يريد أحمر ثمود. (¬4) ديوانه: 401. (¬5) ديوانه: 70. العناب: ثمر أحمر، والحشف: ما يبس من التمر. (¬6) ديوانه: 32. الجديل: زمام يتخذ من سيور فيجئ حسنا لينا يتثنى. والأنبوب البردى؛ وهو الّذي ينبت وسط النخل؛ يشبه به لبياضه. والسقى: النخل المسقى؛ كأنه قال كأنبوب النخل السقى، والمذلل: الّذي سقى وذلل بالماء.

ولبشار: كأنّ مثار النّقع فوق رءوسهم … وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (¬1) ولآخر: كأنّ سموّ النّقع والبيض حوله … سماوة ليل أسفرت عن كواكب وقول أبى نواس: كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها … حصباء درّ على أرض من الذّهب (¬2) ولآخر: إنّ الشّمول هى التى … جمعت لأهل الودّ شملا (¬3) شبّهتها وحبابها … بشقائق يحملن طلّا (¬4) ولآخر: أبصرته والكأس بين فم … منه وبين أنامل خمس فكأنّها وكأنّ شاربها (¬5) … قمر يقبّل عارض الشّمس / ولآخر: حتى إذا جليت فى الكأس خلت بها … عقيقة جليت فى قشر بلّور (¬6) ¬

_ (¬1) ديوانه 1: 318. النقع: غبار الحرب. (¬2) حاشية الأصل: «أصل السماوة المفازة الواسعة؛ ويعنى به الهواء.». (¬3) ديوانه: 243. وفى حاشيتى الأصل، ف: «أخذ على أبى نواس استعماله «فعلى» هذه بلا ألف ولام». (¬4) الشمول: الخمر. قال فى اللسان: " لأنها تشمل بريحها الناس؛ وقيل: سمعت بذلك لأن لها عصفة كعصفة الشمال". (¬5) الطل: أخف المطر وأضعفه. (¬6) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: * فكأنّه والكأس فى يده* جليت، من الجلوة، وبها أى مكانها؛ وفى حاشية الأصل: بلور كتنور، وبلور كسنور، كلاهما صحيح».

تعلى إذا مزجت فى كأسها حببا … كأنّه عرق فى خدّ مخمور وقال البحترىّ: شقائق يحملن النّدى فكأنّه … دموع التّصابى فى خدود الخرائد (¬1) وقال آخر: فكأنّ الرّبيع يجلو عروسا … وكأنّا من قطره فى نثار (¬2) ولأبى العباس الناشئ: كأنّ الدّموع على خدّها … بقيّة طلّ على جلنار وقال ابن الرومى وأحسن: لو كنت يوم الفراق حاضرنا … وهنّ يطفئن غلّة الوجد (¬3) لم تر إلا الدّموع سافحة … تسفح من مقلة على خدّ كأنّ تلك الدّموع قطر ندى … يقطر من نرجس على ورد (¬4) وقال جران العود: أبيت كأنّ اللّيل أفنان سدرة … عليها سقيط من ندى الطّلّ ينطف (¬5) أراقب لمحا من سهيل كأنّه … إذا ما بدا فى آخر اللّيل يطرف ولابن المعتز: سقتنى فى ليل شبيه بشعرها … شبيهة خدّيها بغير رقيب فأمسيت فى ليلين بالشّعر والدّجى … وشمسين من خمر ووجه حبيب (¬6) ¬

_ (¬1) ديوانه 1: 136. (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «شبه ما تناثر عليهم من قطر المطر بالنثار». (¬3) ديوانه ورقة 94 (مخطوطة دار الكتب المصرية). (¬4) فى ف: «كأن العين» وهو رواية. (¬5) ديوانه: 13 - 14. (¬6) شرح ديوان المتنبى للعكبرى 1: 260.

وقال المتنبى: نشرت ثلاث ذوائب من شعرها … فى ليلة فأرت ليالى أربعا (¬1) واستقبلت قمر السماء بوجهها … فأرتنى القمرين فى وقت معا (¬2) / فأما تشبيه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء فمثل قول مانى الموسوس: نشرت غدائر شعرها لتظلّنى … خوف العيون من الوشاة الرّمق فكأنّه وكأنّها (¬3) وكأنّنى … صبحان باتا تحت ليل مطبق ولبعضهم: روض ورد خلاله نرجس غ … ضّ يحفّان أقحوانا نضيرا ذا يباهى لنا خدودا، وذا يح … كى عيونا، وذا يضاهى ثغورا ولآخر فى النرجس: مداهن تبر بين أوراق فضّة … لها عمد مخروطة من زبرجد وللبحترىّ فى وصف ضمر المطايا ونحولها: كالقسىّ المعطّفات بل الأس … هم مبريّة بل الأوتار (¬4) ولبعض الطالبيين: وأنا ابن معتلج البطاح إذا غدا … غيرى وراح على متون ضوامر (¬5) ¬

_ (¬1) ديوانه 1: 260. (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «فى ليل معا». (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «فكأنها وكأنه». (¬4) ديوانه 2: 24. (¬5) حاشية الأصل: «المعتلج: المكان الّذي تختلف فيه الأباطح؛ وأصله من اعتلجت الأمواج إذا التطمت». والبطاح: جمع بطحاء؛ وهى بطاح مكة. وعن ابن الأعرابى: قريش البطاح الذين ينزلون الشعب بين أخشبى مكة.

يفترّ عنّى ركنها وحطيمها … كالجفن يفتح عن سواد النّاظر كجبالها شرفى، ومثل سهولها … خلقى، ومثل ظبائهنّ مجاورى وأما تشبيه أربعة بأربعة فمثل قول امرئ القيس: له أيطلا ظبى، وساقا نعامة … وإرخاء سرحان، وتقريب تتفل (¬1) ولآخر: كفّ تناول راحها بزجاجة (¬2) … خضراء تقذف بالحباب وتزبد فالكفّ عاج، والحباب لآلئ، … والرّاح تبر، والإناء زبرجد ولبعضهم وقد أهدى إليه نرجس وأقحوان وشقائق وآس، فكتب إلى المهدىّ: لله ما أظرف أخ … لاقك يا بدر الكرم أهديت ما ناسبنها … حسنا وظرفا ومشمّ / فما رأينا مهديا … قبلك فى كلّ الأمم أهدى العيون والخدو … د والثّغور واللّمم ولآخر: أفدى حبيبا له بدائع أو … صاف تعالت عن كلّ ما أصف كالبدر يعلو، والشّمس تشرق، والغزال يعطو، والغصن ينعطف (¬3) وللمتنبى: بدت قمرا، وماست خوط بان، … وفاحت عنبرا، ورنت غزالا (¬4) ¬

_ (¬1) ديوانه: 39. أيطلا الظبى: خاصرتاه؛ وخص الظبى لأنه ضامر. والسرحان: الذئب؛ والإرخاء: نوع من الجرى فيه سهولة. والتتفل: ولد الثعلب. والتقريب: أن يرفع يديه معا ويضعهما معا. (¬2) حاشية الأصل: «بزجاجة، الباء للآلة؛ أى بواسطة زجاجة، ويجوز أن تكون الباء للاستصحاب». (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «يعطو، أى يتناول ورق الشجر، ويكون الظبى فى تلك الحال أحسن». (¬4) ديوانه 3: 224. الخوط: القضيب.

ولآخر: سفرن بدورا، وانتقبن أهلّة، … ومسن غصونا، والتفتن جآذرا (¬1) وأما تشبيه خمسة بخمسة فقول الوأواء الدمشقىّ، وهو أبو الفرج: وأسبلت لؤلؤا من نرجس، وسقت … وردا، وعضّت على العنّاب بالبرد (¬2) وأما تشبيه ستة بستة فلم أجده إلا لابن المعتز فى قوله: بدر وليل وغصن … وجه وشعر وقد (¬3) خمر وورد ودرّ … ريق وثغر وخدّ ¬

_ (¬1) شرح العكبرى للمتنبى 2: 224، من غير نسبة. (¬2) ديوانه: 84؛ وروايته: «وأمطرت». وقبله: قالت، وقد فتكت فينا لواحظها … كم ذا؟ أما لقتيل الحب من قود! . (¬3) حاشية الأصل: «تشبيهات ابن المعتز وإن كانت ستة بستة فإنها فى بيتين؛ وأعجب من ذلك وأحسن قول المخزومى: نقا الرّدف، غصن المنثنى، حيّة الحشا … دجى اللّيل، بدر الوجه، ظبى المقلّد.

61

مجلس آخر 61 تأويل آية [رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا] إن سأل سائل عن قوله تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا؛ [البقرة: 286]. فقال: كيف يجوز أن يأمرنا على سبيل العبادة بالدّعاء بذلك، وعندكم أن النسيان من فعله تعالى؟ ولا تكليف على الناسى فى حال نسيانه؛ وهذا يقتضي أحد أمرين: إما أن يكون النسيان من فعل العباد على ما يقوله كثير من الناس، أو نكون متعبدين بمسألته تعالى ما نعلم أنه واقع حاصل؛ لأن مؤاخذة الناسى مأمونة منه تعالى، والقول فى الخطأ إذا أريد به ما وقع سهوا أو عن غير عمد يجرى هذا المجرى. الجواب، قلنا: قد قيل فى تأويل هذه الآية: إنّ المراد بنسياننا تركنا. قال أبو عليّ قطرب بن المستنير: معنى النسيان هاهنا الترك؛ كما قال تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ؛ [طه: 115]، فنسى أى ترك؛ ولولا ذلك لم يكن فعله معصية، وكقوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ؛ [التوبة: 67]، أى تركوا طاعته فتركهم من ثوابه ورحمته. وقد يقول/ الرجل لصاحبه: لا تنسنى من عطيتك، أى لا تتركنى منها، وأنشد ابن عرفة (¬1): ولم أك عند الجود للجود قاليا … ولا كنت يوم الرّوع للطّعن ناسيا أى تاركا. ومما يمكن أن يكون على ذلك شاهدا قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ؛ [البقرة: 44]، أى تتركون أنفسكم. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «هو نفطويه».

ويمكن فى الآية وجه آخر على أن يحمل النسيان على السّهو وفقد المعلوم؛ ويكون وجه الدعاء بذلك ما قد بيناه فيما تقدم من الأمالى؛ من أنه على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى، وإظهار الفقر إلى مسألته والاستعانة به؛ وان كان مأمونا منه المؤاخذة بمثله؛ ويجرى مجرى قوله تعالى فى تعليمنا وتأديبنا: لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ؛ [البقرة: 286]، ومجرى قوله تعالى: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ، [الأنبياء: 112]؛ وقوله وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ؛ [الشعراء: 87]؛ وقوله تعالى حاكيا عن الملائكة: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ؛ [غافر: 7]. وهذا الوجه يمكن أيضا فى قوله تعالى: أَوْ أَخْطَأْنا إذا كان الخطأ ما وقع سهوا أو عن غير عمد. فأما على ما يطابق الوجه الأول فقد يجوز أن يريد تعالى بالخطإ ما يفعل من المعاصى بالتأويل السيّئ وعن جهل بأنها معاص، لأن من قصد شيئا على اعتقاد أنه بصفة، فوقع ما هو بخلاف معتقده يقال: قد أخطأ، فكأنه أمرهم بأن يستغفروا مما تركوه متعمدين من غير سهو ولا تأويل، ومما أقدموا عليه مخطئين متأولين. ويمكن أيضا أن يريد ب أَخْطَأْنا هاهنا أذنبنا وفعلنا قبيحا؛ وإن كانوا له متعمدين وبه عالمين، لأن جميع معاصينا لله تعالى قد توصف بأنها خطأ من حيث فارقت الصواب؛ وإن كان فاعلها متعمدا؛ وكأنه تعالى أمرهم بأن يستغفروا مما تركوه من الواجبات؛ ومما فعلوه من المقبّحات، ليشتمل الكلام على جهتى الذنوب؛ والله أعلم بمراده. *** أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدثنى محمد بن العباس قال: قال رجل يوما لأبى العباس

محمد بن يزيد النحوىّ: ما أعرف ضادية أحسن من ضادية أبى الشّيص (¬1) فقال له: كم ضادية حسنة لا تعرفها! ثم أنشده لبشار: / غمض الجديد بصاحبيك فغمّضا … وبقيت تطلب فى الحبالة منهضا (¬2) وكأنّ قلبى عند كلّ مصيبة … عظم تكرّر صدعه فتهيّضا وأخ سلوت له، فأذكره أخ … فمضى، وتذكرك الحوادث ما مضى (¬3) فاشرب على تلف الأحبّة إنّنا … جزر المنيّة، ظاعنين وخفّضا (¬4) ولقد جريت مع الصّبا طلق الصّبا … ثمّ ارعويت فلم أجد لى مركضا (¬5) وعلمت ما علم امرؤ فى دهره … فأطعت عذّالى، وأعطيت الرّضا وصحوت من سكر وكنت موكّلا … أرعى الحمامة والغراب الأبيضا الحمامة: المرآة، والغراب الأبيض: الشعر الشائب؛ فيقول: كنت كثيرا أتعهد نفسى بالنظر فى المرآة وترطيل (¬6) الشعر. وقوله: «والغراب الأبيض» لأن الشعر كان غربيبا أسود؛ من حيث كان شابا ثم ابيض بالشيب- ما كلّ بارقة تجود بمائها … وكذاك لو صدق الرّبيع لروّضا (¬7) ¬

_ (¬1) مطلعها: لا تنكرى صدّى ولا إعراضى … ليس المقلّ عن الزّمان براض وأبيات منها فى حماسة ابن الشجرى 200، 240، واللآلى 338، ونكت الهميان 258، وعيون الأخبار 4: 52. (¬2) المختار من شعر بشار ص 25 مع اختلاف فى الرواية وعدد الأبيات. والجديد: الزمان. (¬3) رواية المختار: * وأخ فجعت به وكان مؤمّلا*. (¬4) حاشية الأصل: «أى راحلين ومقيمين». (¬5) الطلق والشأو والشوط بمعنى؛ يقال: أجريت الفرس شأوا وطلقا وشوطا؛ إذا أجريته مرة واحدة، وارعويت: أقصرت وأفلعت عما كنت عليه. (¬6) ترطيل الشعر: تدهينه وتكسيره. (¬7) ف: «فروضا» ويقال: روض الربيع؛ إذا أنبت رياضا.

هكذا أنشده المبرّد، ويحيى بن عليّ، وأنشده ابن الأعرابىّ: ما كلّ (¬1) بارقة تجود بمائها … ولربما صدق الرّبيع فروّضا (¬2) قد ذقت ألفته، وذقت فراقه … فوجدت ذا عسلا، وذا جمر الغضا يا ليت شعرى! فيم كان صدوده … أأسأت أم رعد السّحاب وأومضا! وغير من ذكرنا يرويه: «أم أجم الخلال فأحمضا» - (¬3). ويلى عليه، وويلتى من بينه! … كان الّذي قد كان حلما فانقضى سبحان من كتب الشقاء لذى الهوى … ما كان إلّا كالخضاب فقد نضا قال المبرّد: وهى طويلة. وذكر يوسف بن يحيى بن عليّ عن أبيه أنّ أبا نواس أخذ قوله: جريت مع الصّبا طلق الجموح (¬4) من قول بشار: ولقد جريت مع الصّبا طلق الصّبا قال سيدنا الشريف المرتضى ذو المجدين/ أدام الله علوّه: ولأبى تمام والبحترىّ على هذا الوزن والقافية وحركة القافية قصيدتان، إن لم يزيدا على ضادية بشار التى استحسنها المبرّد لم يقصرا (¬5) عنها؛ وأول قصيدة أبى تمام: ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «من كل بارقة». (¬2) بين هذا البيت والّذي يليه وردت فى المختار الأبيات التالية؛ وبها يتم المعنى: ومنيفة شرفا جعلت لها الهوى … إما مكافأة وإما مقرضا حتى إذا شربت بماء مودّتى … وشربت برد رضابها متبرّضا قالت لتربيها: اذهبا فتحسّسا … ما باله ترك السلام وأعرضا! . (¬3) أجم: كره، وفى حاشية الأصل: «الحلة: ما حلا من النبت، والحمض: ما حمض؛ ولذلك يقال: الحلة خبز الإبل، والحمض: فاكهتها؛ يقول: لا أعلم سبب فراقه، أإساءة صدرت منى إليه أو ملال بدا له ففارقنى. وضرب الخلة والحمض مثلا لذلك». (¬4) ديوانه: 257، وبقيته: * وهان عليّ مأثور القبيح*. (¬5) حاشية الأصل: (نسخة س): «تقصّرا».

أهلوك أضحوا شاخصا (¬1) ومقوّضا … ومزمّما يصف النّوى ومغرّضا (¬2) إن يدج عيشك أنهم أمّوا اللّوى … فبما إضاؤهم على ذات الأضا (¬3) بدّلت من برق الثّغور وبردها … برقا إذا ظعن الأحبة أومضا (¬4) يقول فيها: ما أنصف الشّرخ الّذي بعث الهوى … فقضى عليك بلوعة ثمّ انقضى (¬5) عندى من الأيام ما لو أنّه … أضحى بشارب مرقد ما غمّضا (¬6) لا تطلبنّ الرّزق بعد شماسه … فترومه سبعا إذا ما غيّضا (¬7) ما عوّض الصّبر امرؤ إلّا رأى … ما فاته دون الّذي قد عوّضا يا أحمد بن أبى دؤاد دعوة … ذلّت بذكرك لى وكانت ريّضا (¬8) لمّا انتضيتك للخطوب كفيتها … والسّيف لا يرضيك حتى ينتضى يقول فيها: قد كان صوّح نبت كلّ قرارة (¬9) … حتى تروّح فى نداك فروّضا أوردتنى العدّ الخسيف وقد أرى … أتبرّض الثّمد البكىّ تبرّضا (¬10) وأما قصيدة البحترىّ فأوّلها: ترك السّواد للابسيه وبيّضا … ونضا من السّتين عنه ما نضا (¬11) وشآه (¬12) أغيد فى تصرّف لحظه … مرض أعلّ به القلوب وأمرضا ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: فى شعره: «راحلا». (¬2) ديوانه: 185، وفى حاشية الأصل: «التقويض: هدم الخيمة، والتغريض: شد الغرضة؛ وهى التصدير، وهو للرحل بمنزلة الحزام للسرج». (¬3) إن يدج: إن يظلم، وفى الديوان: «إن يدج ليلك». (¬4) حاشية الأصل: «أى صرت أشيم البرق من ناحيتهم وأتذكرهم». (¬5) الشرخ: غرة الشباب، وفى الديوان: «الزمن». (¬6) المرقد: دواء إذا شربه الإنسان نام. (¬7) شماسه: عصيانه، وغيض السبع: مكث فى الغيضة. (¬8) فى الديوان: «بشكرك لى»، وفى حاشية الأصل (من نسخة): «ببرّك». (¬9) القرارة: الروضة المنخفضة. (¬10) العدّ: الماء الدائم الّذي لا انقطاع لمادته، والخسيف: البئر التى حفرت فى حجارة فخرج منها ماء كثير. وأتبرض: آخذ قليلا. والثمد والبكىّ: الماء القليل. (¬11) ديوانه 2: 70. (¬12) شآه: سبقه، وفى حاشية الأصل (من نسخة): «وسباه».

وكأنّه وجد الصّبا وجديده … دينا دنا ميقاته أن يقتضي أسيان أثرى من جوى وصبابة … وأساف من وصل الحسان وأنفضا (¬1) / كلف يكفكف عبرة مهراقة … أسفا على عهد الشّباب وما انقضى عدد تكامل للشّباب مجيئه … وإذا مضىّ الشّيء حان فقد مضى يقول فيها: قعقعت للبخلاء أذعر جأشهم … ونذيرة من قاصل أن ينتضى (¬2) وكفاك من حنش الصّريم تهدّدا … أن مدّ فضل لسانه أو نضنضا (¬3) وفيها: لا تنكرن من جار بيتك أن طوى … أطناب جانب بيته أو قوّضا (¬4) فالأرض واسعة لنقلة راغب … عمّن تنقّل ودّه وتنقّضا لا تهتبل إغضاءتي، إما كنت قد (¬5) … أغضيت مشتملا على جمر الغضا لست الّذي إن عارضته ملمّة … أصغى إلى حكم الزّمان وفوّضا لا يستفزّنى الطّفيف ولا أرى … تبعا لبارق خلّب إن أومضا (¬6) أنا من أحبّ تحرّيا وكأننى … فيما أعاين منك (¬7) ممّن أبغضا أغببت سيبك كى يجمّ وإنّما … غمد الحسام المشرفىّ لينتضى (¬8) ¬

_ (¬1) الأسيان هنا: الحزين، وأساف الرجل: ذهب ماله، وكذلك أنفض، والمراد هنا أنه ذهب من يده وصل الحسان وميلهن إليه. (¬2) القعقعة: صوت السلاح، ونذيرة: إنذار، والقاصل: السيف. وفى حاشية الأصل (من نسخة): «من نابل أن ينبضا»، أى يحرك وتر قوسه. (¬3) حنش الصريم: حية الرمل. (¬4) أى ارتحل عنك وسافر. (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): * لا تهتبل إغضاءتى إن كنت قد* وهى رواية الديوان. (¬6) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «لبارق خلة». (¬7) حاشية الأصل (من نسخة): «فيما أعانى». (¬8) أغببت، أخرت، ومنه إغباب الزيارة، وهو أن يزور يوما وبترك يوما. والسيب: العطية، ويجم: يكثر ويجتمع.

وسكتّ إلّا أن أعرّض قائلا … نزرا، وصرّح جهده من عرّضا *** وأخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدّثني يوسف بن يحيى عن أبيه قال: من مختار شعر بشار قوله فى وصف الزمان: عتبت على الزّمان وأىّ حىّ … من الأحياء أعتبه الزّمان! (¬1) وآمنة من الحدثان تزرى … عليّ، وليس من حدث أمان وليس بزائل يرمى ويرمى … معان مرّة أو مستعان (¬2) متى تأب الكرامة من كريم … فمالك عنده إلّا الهوان وله فى نحوه: / يا خليلىّ أصيبا أو ذرا … ليس كلّ البرق يهدى المطرا لا تكونا كامرئ صاحبته … يترك العين ويبغى الأثرا ذهب المعروف إلّا ذكره … ربّما أبكى الفتى ما ذكرا وبقينا فى زمان معضل … يشرب الصّفو، ويبقى الكدراء (¬3) قال: وله: قد أدرك الحاجة ممنوعة … وتولع النّفس بما لا تنال والهمّ ما امسكته فى الحشا … داء، وبعض الدّاء لا يستقال فاحتمل الهمّ على عاتق … إن لم تساعفك العلندى الجلال (¬4) ¬

_ (¬1) أعتبه: أرضاه. (¬2) حاشية الأصل: «يقول: لا يزال الحى يرمى ويرمى؛ فهو معان ضعيف مرة؛ ومستعان قوى أخرى». (¬3) حاشية الأصل: «أى يذهب الدهر الكرام ويبقى اللئام». (¬4) العلندى: الجمل القوى، والجلال: العظيم.

قال يحيى: قوله: «عاتق» يعنى الخمر، وهذا مثل قوله: رحلت عنسا من شراب بابل … فبتّ من عقلى على مراحل (¬1) قال سيدنا أدام الله تمكينه: هذا الّذي ذكره يحتمله البيت على استكراه، ويحتمل أيضا أن يريد بالعاتق العضو، ويكون المعنى: إن لم تجد من يحمل عنك همومك ويقوم بأثقالك، ويخفف عنك، فتحمّل ذلك أنت بنفسك، واصبر عليه؛ فكأنّه يأمر نفسه بالتجلّد والتصبر على البأس، وهذا البيت له نظائر كثيرة فى الشعر. *** وأخبرنا المرزبانىّ قال حدثنا على بن هارون قال حدثنى أبى قال: من بارع شعر بشار قوله يصف جارية مغنية. قال على: وما فى الدنيا شيء لقديم ولا محدث من منثور ولا منظوم فى صفة الغناء واستحسانه مثل هذه الأبيات: ورائحة، للعين فيها مخيلة … إذا برقت لم تسق بطن صعيد (¬2) من المستهلّات الهموم على الفتى … خفا برقها فى عصفر وعقود (¬3) حسدت عليها كلّ شيء يمسّها … وما كنت لولا حبّها بحسود وأصفر مثل الزّعفران شربته … على صوت صفراء التّرائب رود (¬4) / كأنّ أميرا جالسا فى ثيابها … تؤمّل رؤياه عيون وفود من البيض لم تسرح على أهل ثلّة … سواما، ولم ترفع حداج قعود (¬5) ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «أوله: لمّا رأيت الحظّ حظّ الجاهل … ولم أر المغبون غير العاقل والعنس: الجمل القوى. (¬2) المختار من شعر بشار 309، والأغانى 3: 189 (طبع دار الكتب المصرية). الرائحة: السحابة تروح؛ والمخيلة: علامة المطر. (¬3) استهل السحاب: إذا أمطر، وفى الأغانى: «المستهلات السرور»، وخفى البرق: ظهر ولمع، وأراد بالعصفر: الثياب المعصفرة. (¬4) رود: ناعمة. (¬5) الثلة: قطعة من الغنم، والسوام: الإبل السائمة، والحداج: جمع حدج؛ وهو مركب من مراكب النساء.

تميت به ألبابنا وقلوبنا … مرارا، وتحييهنّ بعد همود إذا نطقت صحنا، وصاح لنا الصّدى … صياح جنود وجّهت لجنود ظللنا بذاك الدّيدن اليوم كلّه … كأنا من الفردوس تحت خلود (¬1) ولا بأس إلّا أنّنا عند أهلنا … شهود، وما ألبابنا بشهود قال: وأنشدنى أبى له فى وصف مغنية: لعمرو أبى زوّارها الصّيد إنّهم … لفى منظر منها وحسن سماع (¬2) تصلّى لها آذاننا وعيوننا … إذا ما التقينا والقلوب دواع وصفراء مثل الخيزرانة لم تعش … ببؤس ولم تركب مطيّة راع جرى اللؤلؤ المكنون فوق لسانها … لزوّارها من مزهر ويراع (¬3) إذا قلّدت أطرافها (¬4) العود زلزلت … قلوبا دعاها للوساوس داع كأنّهم فى جنّة قد تلاحقت … محاسنها من روضة ويفاع (¬5) يروحون من تغريدها وحديثها … نشاوى، وما تسقيهم بصواع لعوب بألباب الرّجال، وإن دنت … أطيع التقى، والغىّ غير مطاع قال على بن هارون: الصّواع: المكيال؛ يقول: إذا غنّت شربوا جزافا بلا كيل ولا مقدار من حسن ما يسمعون. قال سيدنا أدام الله علوه: هذا خطأ منه؛ وإنما المراد أن غناءها لفرط حسنه (¬6) وشدة (¬7) إطرابه ينسيان شرّة الخمر (¬8)؛ وإن لم يكن هناك شرب بصواع، وهذا يجرى مجرى قول الشاعر: ¬

_ (¬1) الديدن: العادة. (¬2) المختار من شعر بشار: 314. (¬3) هذا البيت ساقط من م. المزهر: العود، واليراع: القصب؛ وأراد به هاهنا المزمار. وفى حاشية الأصل: «هذا البيت يفيد أنها تغنى وتضرب بالمزهر، وقوله: «من مزهر ويراع» إشارة إلى أن كلامهما مختلط الجرس بنقر المزهر واليراع». (¬4) رواية المختار: «إذا قلبت أطرافها». (¬5) اليفاع: المرتفع من الأرض. (¬6) حاشية الأصل (من نسخة): «حسنها». (¬7) حاشية الأصل (من نسخة): «سورة إطرابه». (¬8) حاشية الأصل: «فى نسخة الشجرى: الهم».

ويوم ظللنا عند أمّ محلّم … نشاوى، ولم نشرب طلاء ولا خمرا / وما كان عندى أن أحدا يتوهم فى معنى هذا البيت ما ظنه هذا الرجل. وأما قوله فى القطعة الأولى: وأصفر مثل الزّعفران شربته … على صوت صفراء الترائب رود فيحتمل وجوها ثلاثة: أولها أن يكون أراد بصفرة ترائبها الكناية عن كثرة تطيّبها وتضمّخها، وأن ترائبها تصفرّ لذلك، كما قال الأعشى: بيضاء ضحوتها، وصف … راء العشيّة كالعرارة (¬1) والعرار: بهار البرّ؛ وإنما أراد أنها تتضمّخ بالعشىّ بالطيب فيصفّرها؛ ومثله لذى الرّمة: بيضاء فى دعج، كحلاء فى برج، … كأنّها فضّة قد مسّها ذهب (¬2) وقيل فى بيت قيس بن الخطيم: فرأيت مثل الشّمس عند طلوعها … فى الحسن، أو كدنوّها لغروب (¬3) وجهان: أحدهما أنه أراد أنها تتطيّب بالعشىّ فتصفرّ؛ لأن الشمس تغيب صفراء الوجه. والآخر أراد المبالغة فى الحسن، لأن الشمس أحسن ما تكون فى وقتيها هذين؛ ومن ذلك أيضا قول قيس بن الخطيم: ¬

_ (¬1) ديوانه: 111. (¬2) ديوانه: 5، والدعج: سواد الحدقة، والبرج: سعة فى بياض العين؛ ورواية الديوان: * كحلاء فى برج صفراء فى نعج*. (¬3) ديوانه 5، وفى حاشيتى الأصل، ف «بعده: صفراء أعجلها الشباب لداتها … موسومة بالحسن غير قطوب أى أنها سبقت أقرانها، ومثله قول ابن قيس الرقيات: لم تلتفت للداتها … فمضت على غلوائها.

* صفراء أعجلها الشّباب لداتها* ومثله للأعشى: إذا جرّدت يوما حسبت خميصة … عليها وجريال النّضير الدّلامصا (¬1) الخميصة: ثوب ناعم لين؛ شبه به نعمة جسمها. والنّضير: الذهب. والجريال: كلّ صبغ أحمر، وإنما يعنى لون الطّيب عليها. والدّلامص: البرّاق، فهذا وجه. والوجه الثانى أن يكون أراد بوصفها بالصفرة رقّة لونها؛ فعندهم أنّ المرأة إذا كانت صافية اللون رقيقة ضرب لونها بالعشىّ إلى الصفرة. قال مهدىّ بن عليّ الأصفهانىّ: قال لى أبى قال لى الجاحظ: زعموا أن المرأة إذا كانت صافية اللون رقيقة يضرب لونها بالغداة إلى البياض وبالعشىّ إلى الصفرة، واحتجّ فى ذلك بقول الراجز: * قد علمت بيضاء صفراء الأصل* وزعم أن بيت ذى الرمة/ الّذي أنشدناه من هذا المعنى، وكذلك بيت الأعشى الّذي أنشدناه؛ والأبيات محتملة للأمرين. فأما الّذي لا يحتمل إلا وجها واحدا فهو قول الشاعر: وقد خنقتها عبرة فدموعها … على خدّها حمر وفى نحرها صفر لأنها لا تكون صفرا فى نحرها إلا لأجل الطيب. فأما قوله «على خدها حمر» فإنما أراد أنها تنصبغ بلون خدّها. والوجه الثالث أن تكون المرأة كانت صفراء على الحقيقة؛ فإن بشارا كثيرا ما يشبّب بامرأة صفراء، كقوله: ¬

_ (¬1) ديوانه: 108.

أصفراء لا أنسى هواك ولا ودّى … ولا ما مضى (¬1) بينى وبينك من عهد لقد كان ما بينى زمانا وبينها … كما كان بين المسك والعنبر الورد أى كما كان بين طيب المسك والعنبر. وكقوله: أصفراء كان الودّ منك مباحا … ليالى كان الهجر منك مزاحا وكان جوارى الحىّ إذ كنت فيهم … قباحا، فلمّا غبت صرن ملاحا وقد روى: * ملاحا فلما غبت صرن قباحا* وقوله: «قباحا فلما غبت» يشبه قول السيد بن محمد الحميرىّ. وإذا حضرن مع الملاح بمجلس … أبصرتهنّ- وما قبحن- قباحا فأما قوله: «من البيض لم تسرح سواما» فإنه لا يكون مناقضا لقوله «صفراء»، وإن أراد بالصفرة لونها، لأن البياض هاهنا ليس بعبارة عن اللون؛ وإنما هو عبارة عن نقاء العرض وسلامته من الأدناس؛ والعرب لا تكاد تستعمل بيضاء (¬2) إلا فى هذا المعنى دون اللون، لأن البياض عندهم البرص، ويقولون فى الأبيض الأحمر، ومنه قول الشاعر: جاءت به بيضاء تحمله … من عبد شمس صلتة الخدّ ومثله «بيض الوجوه». فأما قول بشار فى القطعة الثانية: «صفراء مثل الخيزرانة» فإنه يحتمل ما تقدّم من الوجوه، وإن كان اللون الحقيقى أخصّ لقوله: «كالخيزرانة»؛ لأن الخيزران يضرب إلى الصّفرة. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «نسخة الشجرى- وكان». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «البيضاء»، ومن نسخة أخرى: «البياض».

ويحتمل أيضا أن يريد «بصفراء» غير اللون الثابت، ويكون قوله: «كالخيزرانة» أنها مثلها/ فى التثنى والتعطف. ولقد أحسن جران العود فى قوله فى المعنى الّذي تقدم: كأنّ سبيكة صفراء صبّت … عليها ثمّ ليث بها الإزار (¬1) برود العارضين كأنّ فاها … بعيد النّوم مسك مستثار ¬

_ (¬1) رواية البيتين فى ديوانه 45 - 46، والثانى مقدم على الأول: برود العارضين كأنّ فاها … بعيد النّوم عاتقة عقار كأنّ سبيكة صفراء شيفت … عليها، ثمّ ليث بها الخمار.

62

مجلس آخر 62 تأويل آية [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ؛ [البقرة: 15]. فقال كيف أضاف الاستهزاء إليه تعالى؛ وهو مما لا يجوز فى الحقيقة عليه؟ وكيف خبّر [بأنهم فى الطّغيان والعمه] (¬1) وذلك بخلاف مذهبكم؟ الجواب، قلنا: فى قوله تعالى اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وجوه: أولها أن يكون معنى الاستهزاء الّذي أضافه تعالى إلى نفسه تجهيله لهم وتخطئته إياهم فى إقامتهم على الكفر وإصرارهم على الضلال؛ وسمّى الله تعالى ذلك استهزاء مجازا وتشبيها (¬2)؛ كما يقول القائل: إن فلانا ليستهزأ به منذ اليوم، إذا فعل فعلا عابه الناس به، وخطّئوه فيه (¬3) فأقيم عيب الناس على ذلك الفعل، وإزراؤهم على فاعله مقام الاستهزاء به؛ وإنما أقيم مقامه لتقارب ما بينهما فى المعنى؛ لأن الاستهزاء الحقيقى هو ما يقصد به إلى عيب المستهزأ به، والإزراء عليه، وإذا تضمنت التخطئة والتجهيل والتبكيت هذا المعنى جاز أن يجرى عليه اسم الاستهزاء؛ ويشهد بذلك قوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها؛ [النساء: 140]؛ ونحن نعلم أن الآيات لا يصحّ عليها الاستهزاء على الحقيقة ولا السخرية؛ وإنما المعنى: إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ¬

_ (¬1) ف: «بأنه يمدهم فى الطغيان والعمه». (¬2) م: «واتساعا». (¬3) ساقطة من م.

ويزرى عليها؛ والعرب قد تقيم الشيء مقام ما قاربه فى معناه، فتجرى اسمه عليه؛ قال الشاعر: كم أناس فى نعيم عمّروا … فى ذرى ملك تعالى فبسق سكت الدّهر زمانا عنهم … ثمّ أبكاهم دما حين نطق والسكوت والنطق على الحقيقة لا يجوزان على الدهر؛ وإنما شبّه تركه الحال على ما هى (¬1) / عليه بالسكوت، وشبه تغييره لها بالنطق. وأنشد الفراء: إنّ دهرا يلفّ شملى بجمل … لزمان يهمّ بالإحسان ومثل ذلك فى الاستعارة لتقارب المعنى قوله: سألتنى بأناس هلكوا … شرب الدّهر عليهم وأكل (¬2) وإنما أراد بالأكل والشرب الإفساد لهم، والتغيير لأحوالهم، ومنه قول الآخر: يقرّ بعينى أن أرى باب دارها … وإن كان باب الدّار يحسبنى جلدا والجواب الثانى أن يكون معنى الاستهزاء المضاف إليه عز وجلّ أن يستدرجهم ويهلكهم من حيث لا يعلمون ولا يشعرون. ويروى عن ابن عباس أنه قال فى معنى استدراجه إياهم: إنهم كلّما أحدثوا خطيئة جدّد لهم نعمة؛ وإنما سمّى هذا الفعل استهزاء من حيث غيّب عنهم من الاستدراج إلى الهلاك غير ما أظهر لهم من النعم؛ كما أن المستهزئ منّا، المخادع لغيره يظهر أمرا؛ ويضمر غيره. فإن قيل: على هذا الجواب فالمسألة قائمة، وأىّ وجه لأن يستدرجهم بالنعمة إلى الهلاك؟ قلنا: ليس الهلاك هاهنا هو الكفر، وما أشبهه من المعاصى التى يستحقّ بها العقاب؛ وإنما يستدرجهم إلى الضرر والعقاب الّذي استحقوه بما تقدّم من كفرهم؛ ولله تعالى أن يعاقب ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): ما هو عليه». (¬2) اللسان (أكل)، ونسبه إلى النابغة الجعدىّ. ومن نسخة بحاشية الأصل، ف: «سألتنى عن أناس».

المستحق بما يشاء أىّ وقت شاء؛ فكأنه تعالى لمّا كفروا وبدّلوا نعمة الله، وعاندوا رسله لم يغيّر نعمه عليهم فى الدنيا؛ بل أبقاها لتكون- متى نزعها عنهم، وأبدلهم بها نقما- الحسرة منهم أعظم، والضرر عليهم أكثر. فإن قيل: فهذا يؤدّى إلى تجويز أن يكون بعض ما ظاهره ظاهر النعمة على الكفار مما لا يستحق الله به الشكر عليهم. قلنا: ليس يمتنع هذا فيمن استحقّ العقاب؛ وإنما المنكر أن تكون النعم المبتدأة بهذه الصفة على ما يلزمه مخالفنا، ألا ترى أن الحياة وما جرى مجراها من حفظ التركيب، والصحة لا تعدّ على أهل النار نعمة؛ وإن كانت على أهل الجنة نعما من حيث كان الغرض فيه إيصال العقاب إليهم. والجواب الثالث أن يكون معنى استهزائه بهم/ أنّه جعل لهم بما أظهروه من موافقة أهل الإيمان ظاهر أحكامهم؛ من نصرة ومناكحة وموارثة ومدافنة، وغير ذلك من الأحكام؛ وإن كان تعالى معدّا لهم فى الآخرة أليم العقاب لما أبطنوه من النفاق، واستسرّوا به من الكفر؛ فكأنه تعالى قال: إن كنتم أيها المنافقون بما تظهرونه للمؤمنين من المتابعة والموافقة، وتبطنونه من النفاق، وتطلعون عليه شياطينكم إذا خلوتم بهم تظنون أنكم مستهزءون؛ فالله تعالى هو المستهزئ بكم من حيث جعل لكم أحكام المؤمنين ظاهرا؛ حتى ظننتم أنّ لكم ما لهم، ثمّ ميّز بينكم فى الآخرة ودار الجزاء؛ من حيث أثاب المخلصين الذين يوافق ظواهرهم بواطنهم، وعاقب المنافقين. وهذا الجواب يقرب معناه من الجواب الثانى؛ وإن كان بينهما خلاف من بعض الوجوه. والجواب الرابع أن يكون معنى ذلك أن الله هو الّذي يردّ استهزاءكم ومكركم عليكم؛ وأنّ ضرر ما فعلتموه لم يتعدكم؛ ولم يحط بسواكم؛ ونظير ذلك قول القائل: إن فلانا أراد أن يخدعنى فخدعته؛ وقصد إلى أن يمكر بى فمكرت به؛ والمعنى أنّ ضرر خداعه ومكره

عاد إليه ولم يضررنى (¬1) به. والجواب الخامس أن يكون المعنى أنه يجازيهم على استهزائهم؛ فسمّى الجزاء على الذنب باسم الذنب؛ والعرب تسمّى الجزاء على الفعل باسمه؛ قال الله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها؛ [الشورى: 40]، وقال تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ؛ [البقرة: 194]، وقال: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ؛ [النحل: 126] والمبتدأ ليس بعقوبة، وقال الشاعر (¬2): ألا لا يجهلن أحد علينا … فنجهل فوق جهل الجاهلينا ومن شأن العرب أن تسمّى الشيء باسم ما يقاربه ويصاحبه، ويشتد اختصاصه وتعلّقه به؛ إذا انكشف المعنى وأمن الإبهام؛ وربما غلّبوا أيضا اسم أحد الشيئين على الآخر لقوة التعلّق بينهما، وشدة الاختصاص فيهما؛ فمثال الأول قولهم للبعير الّذي يحمل المزادة: راوية، وللمزادة المحمولة على البعير رواية، فسموا البعير باسم ما يحمل عليه؛ قال الشاعر (¬3): / مشى الرّوايا بالمزاد الأثقل أراد بالروايا الإبل؛ ومن ذلك قولهم: صرعته الكأس واستلبت (¬4) عقله، قال الشاعر: وما زالت الكاس تغتالنا … وتذهب بالأوّل الأوّل والكأس هى ظرف الشراب، والفعل الّذي أضافوه إليها إنما هو مضاف إلى الشراب الّذي يحلّ الكأس إلّا أن [الفراء لا يقول الكأس إلا بما فيه] (¬5) من الشراب؛ وكأنّ الإناء ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة: «لم يضرنى». (¬2) هو عمرو بن كلثوم، والبيت من الملعقة: 238 - بشرح التبريزى. (¬3) هو أبو النجم العجلى الراجز؛ والبيت من أرجوزته المشهورة التى أولها: * الحمد لله الوهوب المجزل* وهى ضمن الطرائف الأدبية ص 55 - 71؛ وقبله: * تمشى من الردّة مشى الحفّل*. (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «فسلبت». (¬5) حاشية الأصل: «نسخة س: الفراء يقول: الكأس الإناء بما فيه».

الفارغ لا يسمى كأسا، وعلى هذا القول يكون إضافة اختلاس العقل والتصريع وما جرى مجرى ذلك إلى الكأس على وجه الحقيقة؛ لأن الكأس على هذا القول اسم للإناء وما حلّه من الشراب. ومثال الوجه الثانى ما ذكرناه عنهم من التغليب تغليبهم اسم القمر على الشمس؛ قال الشاعر: أخذنا بآفاق السّماء عليكم … لنا قمراها والنّجوم الطوالع (¬1) أراد: لنا شمسها وقمرها؛ فغلّب. ومنه قول الآخر: فقولا لأهل المكّتين: تحاشدوا … وسيروا إلى آطام يثرب والنّخل أراد بالمكّتين: مكة والمدينة، فغلّب. وقال الآخر: فبصرة الأزد منّا والعراق لنا … والموصلان، ومنّا مصر والحرم أراد بالموصلين الموصل والجزيرة. وقال الآخر: نحن سبينا أمّكم مقربا (¬2) … يوم صبحنا الحيرتين المنون أراد الحيرة والكوفة، وقال آخر: إذا اجتمع العمران: عمرو بن عامر … وبدر بن عمر وخلت ذبيان جوّعا (¬3) وألقوا مقاليد الأمور إليهم … جميعا، وكانوا كارهين وطوّعا أراد بالعمرين: رجلين؛ يقال لأحدهما عمرو، وللآخر بدر؛ وقد فسره الشاعر فى البيت. ومثله: ¬

_ (¬1) البيت للفرزدق، ديوانه: 519. (¬2) المقرب: المرأة تدنو ولادتها. (¬3) البيتان فى المخصص 13: 227.

جزانى الزّهدمان جزاء سوء … وكنت المرء يجزى بالكرامة (¬1) / أراد بالزّهدمين رجلين؛ يقال لأحدهما زهدم، وللآخر كردم، فغلّب. وكلّ الّذي ذكرناه يقوّى هذا الجواب من جواز التسمية للجزاء على الذنب باسمه، أو تغليبه عليه، للمقاربة والاختصاص التام بين الذنب والجزاء عليه. والجواب السادس ما روى عن ابن عباس قال: يفتح لهم وهم فى النار باب من الجنة، فيقبلون إليه مسرعين؛ حتى إذا انتهوا إليه سدّ عليهم، فيضحك المؤمنون منهم إذا رأوا الأبواب وقد أغلقت دونهم؛ ولذلك قال عز وجل: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ. عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ؛ [المطففين: 34 - 35]. فإن قيل: وأىّ فائدة فى هذا الفعل؟ وما وجه الحكمة فيه؟ قلنا: وجه الحكمة فيه ظاهر؛ لأن ذلك أغلظ فى نفوسهم، وأعظم فى مكروههم؛ وهو ضرب من العقاب الّذي يستحقونه بأفعالهم القبيحة؛ لأن من طمع فى النجاة والخلاص من المكروه، واشتد حرصه على ذلك؛ ثم حيل بينه وبين الفرج وردّ إلى المكروه يكون عذابه أصعب وأغلظ من عذاب من لا طريق للطمع عليه. فإن قيل: فعلى هذا الجواب، ما الفعل الّذي هو الاستهزاء؟ قلنا: فى ترداده لهم من باب إلى آخر على سبيل التعذيب معنى الاستهزاء؛ من حيث كان إظهارا لما المراد بخلافه؛ وإن لم يكن فيه من معنى الاستهزاء ما يقتضي قبحه من اللهو والعبث وما جرى مجرى ذلك. والجواب السابع أن يكون ما وقع منه تعالى ليس باستهزاء على الحقيقة؛ لكنّه سماه بذلك ليزدوج اللفظ ويخف على اللسان؛ وللعرب فى ذلك عادة معروفة فى كلامها؛ والشواهد عليه مذكورة مشهورة. ¬

_ (¬1) اللسان (زهدم) والمخصص 13: 227، وهو لقيس بن زهير العبسى.

وهذه الوجوه التى ذكرناها فى الآية يمكن أن تذكر فى قوله تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ؛ [الأنفال: 30]؛ وفى قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ؛ [النساء: 142] فليتأمل ذلك. فأما قوله تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فيحتمل وجهين: أحدهما أن يريد: أنى أملى لهم ليؤمنوا ويطيعوا؛ وهم مع ذلك مستمسكون بطغيانهم وعمههم. والوجه الآخر أن يريد ب يَمُدُّهُمْ أنه يتركهم من فوائده ومنحه/ التى يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم، ويمنعها الكافرين عقابا كشرحه لصدورهم، وتنويره لقلوبهم؛ وكل هذا واضح بحمد الله. *** قال سيدنا أدام الله علوّه: وإنى لأستحسن لبعض الأعراب قوله: خليلىّ هل يشفى النّفوس من الجوى … بدوّ ذوى الأوطان، لا بل يشوقها! (¬1) وتزداد فى قرب إليها صبابة (¬2) … ويبعد من فرط اشتياق طريقها وما ينفع الحرّان ذا اللّوح (¬3) أن يرى … حياض القرى مملوءة لا يذوقها ولآخر فى تذكر الأوطان والحنين إليها: ألا قل لدار بين أكثبة الحمى … وذات الغضا: جادت عليك الهواضب! ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف (من نسخة): «بدو ذرى الأوطان». والبدو: الظهور، من بدا يبدو إذا ظهر. (¬2) فى حاشية الأصل: «إليها؛ ضمير الأوطان أو المرأة»، وفيها أيضا: «إذا قلت صبابة [بالنصب] كان «تزداد متعديا»، أى تزداد أنت، وإذا قلت: «صبابة» [بالرفع] «فتزداد» لازم. (¬3) اللوح: العطش.

أجدّك لا آتيك إلّا تقلّبت (¬1) … دموع أضاعت ما حفظت سواكب ديار تناسمت (¬2) الهواء بجوّها … وطاوعنى فيها الهوى والحبائب ليالى؛ لا الهجران محتكم بها … على وصل من أهوى، ولا الظنّ كاذب وأنشد أبو نصر صاحب الأصمعىّ لأعرابىّ: ألا ليت شعرى! هل أبيتنّ ليلة … بأسناد (¬3) نجد، وهى خضر متونها! وهل أشربنّ الدّهر من ماء مزنة … بحرّة ليلى حيث فاض معينها! (¬4) بلاد بها كنّا نحلّ، فأصبحت … خلاء ترعاها مع الأدم عينها تفيّأت فيها بالشّباب وبالصّبا … تميل بما أهوى عليّ غصونها وأنشد الأصمعىّ لصدقة بن نافع الغنوىّ: ألا ليت شعرى هل تحنّنّ ناقتى (¬5) … بيضاء نجد حيث كان مسيرها! (¬6) فتلك بلاد حبّب الله أهلها … إليك، وإن لم يعط نصفا أميرها (¬7) بلاد بها أنضيت راحلة الصّبا … ولانت لنا أيّامها وشهورها / فقدنا بها الهمّ المكدّر شربه … ودار علينا بالنّعيم سرورها وأنشد أبو محلّم لسوّار بن المضرّب: سقى الله اليمامة من بلاد … نوافحها كأرواح الغوانى ¬

_ (¬1) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «تفتت». (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «تبادرت». (¬3) الأسناد: جمع سند؛ وهو الجبل، ومن نسخة بحاشية ف: «بأكناف». (¬4) حرة ليلى: موضع لبنى مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، وفى حاشية الأصل (من نسخة): «حين فاض معينها». (¬5) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «هل تخبن ناقتى»، أى تسرعن. (¬6) بيضاء نجد: موضع. (¬7) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: * إليك وإن لم يعط نصفا أسيرها*.

وجوّ زاهر للرّيح فيه … نسيم لا يروع التّرب، وان (¬1) بها سقت الشّباب إلى مشيب … يقبّح عندنا حسن الزّمان وأنشد إبراهيم بن إسحاق الموصلىّ: ألا يا حبّذا جنبات سلمى … وجاد بأرضها جون السّحاب! خلعت بها العذار ونلت فيها … مناى بطاعة أو باغتصاب أسوم بباطلى طلبات لهوى … ويعذرنى بها عصر الشّباب فكلّ هؤلاء على ما ترى قد أفصحوا بأن سبب حنينهم إلى الأوطان ما لبسوه فيها من ثوب الشباب، واستظلوه من ظلّه، وأنضوه من رواحله، وأنه كان يعذرهم ويحسن قبائحهم. فعلى أى شيء يغلو الناس فى قول ابن الرومى: وحبّب أوطان الرّجال إليهم … مآرب قضّاها الشّباب هنالكا (¬2) إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم … عهود الصّبا فيها فحنّوا لذلكا ويزعمون أنه سبق إلى ما لم يسبق إليه، وكشف عن هذا المعنى مستورا، ووسم غفلا! وقوله وإن كان جيد المعنى سليم اللفظ، فلم يزد فيه على من تقدم ولا أبدع، بل اتبع؛ ولكن الجيد إذا ورد ممّن يعهد منه الردئ كثر استحسانه؛ وزاد استطرافه. ولقد أحسن البحترىّ فى قوله فى هذا المعنى: فسقى الغضى والنّازلية وإن هم … شبّوه بين جوانح وقلوب (¬3) وقصار أيّام به سرقت لنا … حسناتها من كاشح ورقيب خضر تساقطها الصّبا فكأنّها … ورق يساقطه اهراز قضيب ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «قوله: «لا يروع الترب»، من أحسن الكلام؛ أى لا يرفع فيغير؛ فكأن هبوبها يسالم التراب ولا يخوفه بأن يرفعه أو يحركه». (¬2) ديوانه الورقة 202. (¬3) ديوانه 1: 57.

/ كانت فنون بطالة فتقطّعت … عن هجر غانية ووصل مشيب وأحسن فى قوله: سقى الله أخلافا من الدّهر رطبة … سقتنا الجوى إذ أبرق الحزن أبرق (¬1) ليال سرقناها من الدّهر بعد ما … أضاء بإصباح من الشّيب مفرق تداويت من ليلى بليلى فما اشتفى … بماء الرّبا من بات بالماء يشرق ولأبى تمام فى هذا المعنى ما لا يقصر عن إحسان، وهو: سلام ترجف الأحشاء منه … على الحسن بن وهب والعراق (¬2) على البلد الحبيب إلى غورا … ونجدا، والأخ العذب المذاق (¬3) ليالى نحن فى وسنات عيش … كأنّ الدّهر عنّا فى وثاق (¬4) وأيّام له ولنا لدان … غنينا فى حواشيها الرّفاق كأنّ العهد عن عفر لدينا … وإن كان التّلاقى عن تلاق (¬5) ¬

_ (¬1) ديوانه 2: 138، وفى ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «أبرق الجسون». (¬2) ديوانه 214 - 215. (¬3) من نسخة بحاشية الأصل، ت: * ونجدا والفتى الحلو المذاق*. (¬4) فى حاشيتى الأصل، ف: فى شعره: سنبكى بعده غفلات عيش … كأنّ الدّهر عنها فى وثاق وأياما له ولنا لدانا … عرينا من حواشيها الرقاق وفى ف، وحاشية الأصل من نسخة: «له ولنا لذاذ». (¬5) فى حاشية الأصل: «لقتيبة عن عفر، أى بعد خمسة عشرة يوما؛ حتى جاوز الليالى العفر، والعرب تسمى الليالى البيض عفرا لبياضها».

63

مجلس آخر 63 تأويل آية [وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ؛ [البقرة: 36]: فقال: كيف خاطب آدم وحواء عليهما السلام بخطاب الجمع وهما اثنان؟ وكيف نسب بينهما العداوة؟ وأىّ عداوة كانت بينهما؟ الجواب، قلنا قد ذكر فى هذه الآية وجوه: أولها أن يكون الخطاب متوجّها إلى آدم وحواء وذرّيتهما، لأن الوالدين يدلان على الذرّية ويتعلق بهما؛ ويقوّى ذلك قوله تعالى حاكيا عن إبراهيم وإسماعيل: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا؛ [البقرة: 128]. وثانيها أن يكون الخطاب لآدم وحواء عليهما السلام ولإبليس اللعين؛ وأن يكون الجميع مشتركين فى الأمر بالهبوط؛ وليس لأحد أن يستبعد هذا الجواب من حيث لم يتقدم لإبليس ذكر فى قوله تعالى: وَيا آدَمُ اسْكُنْ/ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ؛ [البقرة: 35] لأنه وإن لم يخاطب بذلك فقد جرى ذكره فى قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ، [البقرة: 36]؛ فجائز أن يعود الخطاب على الجميع. وثالثها أن يكون الخطاب متوجها إلى آدم وحواء والحية التى كانت معهما، على ما روى عن كثير من المفسرين؛ وفى هذا الوجه بعد من قبل أن خطاب من لا يفهم الخطاب لا يحسن؛ فلا بد من أن يكون قبيحا؛ اللهم إلا أن يقال: إنه لم يكن هناك قول فى الحقيقة ولا خطاب؛

وإنما كنّى تعالى عن إهباطه لهم بالقول؛ كما يقول أحدنا: قلت: فلقيت الأمير، وقلت: فضربت زيدا، وإنما يخبر عن الفعل دون القول؛ وهذا خلاف الظاهر وإن كان مستعملا. وفى هذا الوجه بعد من وجه آخر؛ وهو أنه لم يتقدم للحية ذكر فى نصّ القرآن، والكناية عن غير مذكور لا تحسن إلا بحيث لا يقع لبس، ولا يسبق وهم إلى تعلق الكناية بغير مكنّى عنه؛ حتى يكون ذكره كترك ذكره فى البيان عن المعنى المقصود، مثل قوله تعالى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ؛ [ص: 32]؛ وكُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ؛ [الرحمن: 27] وقول الشاعر: أماوىّ ما يغنى الثّراء عن الفتى … إذا حشرجت يوما؛ وضاق بها الصّدر (¬1) فأما بحيث لا يكون الحال على هذا فالكناية عن غير مذكور قبيحة. ورابعها أن يكون الخطاب يختصّ آدم وحواء عليهما السلام، وخاطب الاثنين بالجمع على عادة العرب فى ذلك؛ لأن التثنية أول الجمع؛ قال الله تعالى: إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ؛ [الأنبياء: 78]، أراد لحكم داود وسليمان عليهما السلام؛ وكان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يتأول قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ؛ [النساء: 11] على معنى فإن كان له أخوان؛ قال الراعى: أخليد إنّ أباك ضاف وساده … همّان باتا جنبة ودخيلا (¬2) طرقا فتلك هماهمى أقريهما … قلصا لواقح كالقسىّ وحولا فعبّر بالهماهم وهى جمع عن الهمين؛ وهما اثنان. فإن قيل: فما معنى الهبوط الّذي أمروا به؟ قلنا: أكثر المفسرين على أن الهبوط هو ¬

_ (¬1) البيت لحاتم. (¬2) جمهرة الأشعار: 353. وفى حاشيتى الأصل، ف: «خليدة ابنته فرخم، وضافه: نزل به. جنبه أى ناحية. ودخيلا: داخلا فى الفؤاد. قال ابن الأعرابى: أراد: هما داخل القلب، وآخر قريبا من ذلك؛ كالضيف إذا حل بالقوم فأدخلوه فهو دخيل؛ وإن كان بفنائهم فهو جنبة».

النزول من السماء إلى الأرض/، وليس فى ظاهر القرآن ما يوجب ذلك؛ لأن الهبوط كما يكون النزول من علو إلى سفل فقد يراد به الحلول فى المكان والنزول به؛ قال الله تعالى: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ؛ [البقرة: 61]، ويقول القائل من العرب: هبطنا بلد كذا وكذا، يريد حللنا، قال زهير: ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت … أيدى المطىّ بهم من راكس فلقا (¬1) فقد يجوز على هذا أن يريد تعالى بالهبوط [الخروج من المكان وحلول غيره؛ ويحتمل أيضا أن يريد بالهبوط] (¬2) معنى غير المسافة، بل الانحطاط من منزلة إلى دونها، كما يقولون: قد هبط فلان عن منزلته، ونزل عن مكانه؛ إذا كان على رتبة فانحطّ إلى دونها. فإن قيل: فما معنى قوله: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ؟ قلنا: أما عداوة إبليس لآدم وذريته فمعروفة مشهورة، وأما عداوة آدم عليه السلام والمؤمنين من ذريته لإبليس فهى واجبة لما يجب على المؤمنين من معاداة الكفار؛ المارقين عن طاعة الله تعالى، المستحقين لمقته وعداوته، وعداوة الحية على الوجه الّذي تضمّن إدخالها فى الخطاب لبنى آدم معروفة؛ ولذلك يحذّرهم منها، ويجنبهم؛ فأما على الوجه الّذي يتضمّن أن الخطاب اختص آدم وحواء دون غيرهما؛ فيجب أن يحمل قوله تعالى: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ على أن المراد به الذرية؛ كأنه قال تعالى: اهْبِطُوا وقد علمت من حال ذريتكم أن بعضكم يعادى بعضا؛ وعلّق الخطاب بهما للاختصاص بين الذرية وبين أصلها. فإن قيل: أليس ظاهر قوله تعالى: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يقتضي الأمر بالمعاداة، كما أنه أمر بالهبوط، وهذا يوجب أن يكون تعالى آمرا بالقبيح على وجه؛ لأن معاداة إبليس لآدم عليه السلام قبيحة، ومعاداة الكفار من ذريته للمؤمنين منهم كذلك؟ قلنا: ليس يقتضي الظاهر ما ظننتموه؛ وإنما يقتضي أنه أمرهما بالهبوط فى حال عداوة ¬

_ (¬1) ديوانه 37. راكس: موضع، والفلق: المكان المطمئن بين ربوتين؛ وهو منصوب على أنه مفعول به؛ قيل: الفلق: الصبح». (¬2) ساقط من الأصل، وما أثبته عن ف.

بعضهم بعضا؛ فالأمر مختص بالهبوط، والعداوة تجرى مجرى الحال؛ وهذا له نظائر كثيرة فى كلام العرب. ويجرى مجرى هذه الآية فى أن المراد بها الحال قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ؛ [التوبة: 55] وليس معنى ذلك أنه أراد كفرهم كما أراد تعذيبهم/ وإزهاق نفوسهم؛ بل أراد أن تزهق أنفسهم فى حال كفرهم، وكذلك القول فى الأمر بالهبوط، وهذا بيّن. *** قال سيدنا أدام الله تمكينه: ومن مستحسن تمدح السادة الكرام قول الشاعر: ويل أمّ قوم غدوا عنكم لطيّتهم … لا يكتنون غداة العلّ والنّهل صدء السرابيل لا توكى مقانبهم … عجر البطون، ولا تطوى على الفضل قوله: «ويل أم قوم» من الزّجر المحمود الّذي لا يقصد به الشر؛ مثل قولهم: قاتل الله فلانا ما أشجعه! وترّحه ما أسمحه! وقد قيل فى قول جميل: رمى الله فى عينى بثينة بالقذى … وفى الغرّ من أنيابها بالقوادح (¬1) إنه أراد هذا المعنى بعينه، وقيل: إنه دعا لها بالهرم وعلوّ السن، لأن الكبير يكثر قذى عينيه وتنهتم أسنانه. وقيل: إنه أراد بعينيها رقيبيها، وبغر أنيابها سادات قومها ووجوههم؛ والأول أشبه بطريقة القوم؛ وإن كان القول محتملا للكل. فأما قوله: * لا يكتنون غداة العلّ والنّهل* فإنما أنهم ليسوا برعاة (¬2) يسقون الإبل، بل لهم من يخدمهم ويكفيهم ويرعى إبلهم؛ ¬

_ (¬1) أمالى القالى 2: 109، واللآلى 736، والبيت من شواهد الرضى على الكافية (الخزانة 3: 93). القذى: كل ما وقع فى العينين من شيء يؤذيها كالتراب والعود ونحوها. والغر: جمع أغر وغراء؛ وهو وصف لأسنانها بالبياض. وهو السن. والقوادح: جمع القادح؛ وهو السواد الّذي يظهر فى الأسنان. (¬2) ف، حاشية الأصل (من نسخة): «برعاء».

وإنما يكتنى يرتجز على الدّلو السقاة والرعاة؛ وفيه وجه آخر؛ قيل: إنهم يسامحون شريبهم ويؤثرونه بالسّقى قبل أموالهم؛ ولا يصولون عليه ولا يكتنون؛ وهذا من الكرم والتفضّل لا من الضعف. وقيل أيضا: بل عنى أنهم أعزاء ذوو منعة، إذا وردت إبلهم ماء أفرج الناس لها عنه؛ لأنها قد عرفت فليس يحتاج أربابها إلى الاكتناء والتعرف. وقد قال قوم فى قوله: «يكتنون»: إنه من قوله كتنت يده تكتن إذا خشنت من العمل؛ فيقول: ليسوا أهل مهنة، فتكتن أيديهم وتخشن من العمل؛ بل لهم عبيد يكفونهم ذلك. وقوله: «صدء السرابيل» فإنما أراد به طول حملهم للسلاح ولبسهم له. والمقانب: هى الأوعية التى يكون فيها الزاد؛ فكأنه يقول: إذا سافروا لم يشدّوا الأوعية على ما فيها وأطعموا أهل الرفقة؛ وهذه كناية عن الإطعام وبذل/ الزاد مليحة. وعجر البطون: من صفات المقانب؛ أراد أنها لا توكأ، ولا تطوى على فضل الزاد. ولبعض شعراء بنى أسد، وأحسن غاية الإحسان: رأت صرمة (¬1) لابنى عبيد تمنّعت … من الحقّ لم تؤزل بحقّ إفالها فقالت: ألا تغذو فصالك هكذا … فقلت: أبت ضيفانها وعيالها فما حلبت إلّا الثلاثة والثّنى … ولا قيّلت إلّا قريبا مقالها حدابير من كلّ العيال كأنّها … أناضىّ شقر حلّ عنها جلالها شكا هذا الشاعر امرأته، وحكى عنها أنها رأت إبلا لجيرانها لم تعط فى حمالة (¬2)، ولم تعقر فى حق، ولم تحلب لضيف ولا جار؛ فهى سمان. وقوله: «لم تؤزل إفالها» والإفال: ¬

_ (¬1) الصرمة: القطعة من الإبل؛ ما بين العشرين إلى الثلاثين، أو إلى الخمسين. (¬2) الحمالة: الإبل.

الصّغار، وتؤزل؛ من الأزل وهو الضّيق فى العيش والشدّة؛ فيقول: فصال هؤلاء سمان لم تلق بؤسا؛ لأن ألبان أمهاتها موفورة عليها. وحكى عن امرأته أنها تقول له: غذّ (¬1) أنت فصالك هكذا؛ فقال لها: تأبى ذلك الحقوق وعيالها؛ وهم الجيران والضيفان. ثم أخبر أنه لم يلتفت إلى لومها، وأنّ الإبل ما حلبت بعد مقالتها إلا مرتين أو ثلاث. ولا قيّلت، من القائلة إلا بقرب البيوت حتى نحرها ووهبها. والحدابير: المهازيل؛ وإنما يعنى فصاله وهزالها لأجل أنها لا تسقى الألبان؛ وتعقر أمهاتها، وأناضىّ: جمع نضو (¬2)، فشبه فصاله من هزالها بأنضاء خيل شقر. وقوله: «حدابير من كل العيال» فيه معنى حسن؛ لأنه أراد أنها من بين جميع العيال: مهازيل؛ وهذا تأكيد، لأن سبب هزالها هو الإيثار بألبانها؛ واختصّت بالهزال من بين كلّ العيال. والعيال هاهنا هم الجيران والضيفان؛ وإنما جعلهم عيالا لكرمه وأن جوده قد ألزمه مودّتهم؛ فصاروا كأخص عياله. ومثل ذلك قول الشاعر: تعيّرنى الحظلان أمّ محلّم (¬3) … فقلت لها: لا تقذفينى بدائيا (¬4) فإنّى رأيت الضّامرين (¬5) متاعهم … يذمّ ويفنى، فارضخى من وعائيا فلم تجدينى فى المعيشة عاجزا … ولا حصرما خبّا شديدا وكائيا الحظلان: الممسكون البخلاء، والحظل الإمساك. وأم محلّم: امرأته. ومعنى قوله: ¬

_ (¬1) د، حاشية ف (من نسخة): «اغذ». (¬2) حاشية الأصل: «كأنه يجمع نضو أنضاء، ثم يجمع أنضاء أناضىّ؛ فهو جمع الجمع». (¬3) فى اللسان: «أم مغلس». (¬4) الأبيات فى اللسان (حظل) وعزاها إلى منظور الدبيرى. (¬5) رواية اللسان: «الباخلين».

«تعيرنى الحظلان» / أى بالحظلان (¬1)؛ تقول: ما لك لا تكون مثل هؤلاء الذين يحفظون أموالهم. والضامرون أيضا: البخلاء؛ فقال لها: رأيت البخلاء يضنّون بما عندهم وهو يفنى ويبقى الذّم، فارضخى من وعائى؛ وهذا مثل؛ أى أعطى الناس مما عندى؛ وهو من قولك: رضخ له بشيء من عطيته. والحصرم: الممسك؛ تقول العرب حصرم قوسك، أى شدّد وترها. وقوله: * فلم تجدينى فى المعيشة عاجزا* أى أنا صاحب غارات، أفيد وأستفيد وأتلف وأخلف فلا تخافى الفقر- وقال مسكين الدارمىّ: أصبحت عاذلتى معتلّة … قرما (¬2)، أم هى وحمى للصّخب أصبحت تتفل فى شحم الدّرى … وتظنّ اللّوم درّا ينتهب لا تلمها إنها من أمّة … ملحها موضوعة فوق الرّكب (¬3) يقول: إنها تكثر لومى؛ وكأنها قرمة إلى اللوم، كقرم الأشبال إلى اللحم، وهى وحمى تشتهى الصخب. والوحم: شدة شهوة الطعام عند الحمل. وشحم الذّرى. الأسنمة؛ وأراد ب «تتفل» فيها أى تعوّذ إبلى لتزيّنها فى عينى؛ وتعظم قدرها، فلا أهب منها ولا أنحر؛ ثم أخبر أن أصلها من الزّنج. والملح: الشحم، وشحم الزّنج (¬4) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «بل الفصيح أن يقال: عيرته كذا، وعيرته بكذا من كلام؛ العامة قال النابغة: وعيّرتنى بنو ذبيان خشيته … وهل عليّ بأن أخشاك من عار! . (¬2) حاشية الأصل: «فى شعره قرمت». (¬3) حاشية الأصل: «أى لا عرق لها فى الكرم». (¬4) حاشية الأصل: «أراد أنها ليست بعربية؛ بل زنجية.

يكون على أوراكهم وأكفالهم وأنشد أبو العباس محمد بن يزيد (¬1): أي ابنة عبد الله وابنة مالك … ويا ابنة ذى البرد بن والفرس الورد (¬2) إذا ما صنعت الزّاد فالتمسى له … أكيلا؛ فإنّى لست آكله (¬3) وحدى قصيّا كريما، أو قريبا فإنّنى … أخاف مذمّات الأحاديث من بعدى وإنّى لعبد الضّيف ما دام نازلا … وما من صفاتى غيرها شيمة العبد قال أبو العباس: استثنى الكرم فى القصيّ البعيد، ولم يستثنه فى القريب؛ لأن أهله جميعا عنده كرام. وأراد بقوله: «عبد الضيف» أنه يخدم الضيف هو بنفسه لا يرضى أن يخدمه عبده. قال سيدنا أدام الله علوّه: ويشبه ذلك قول المقنّع الكندىّ: / وإنّى لعبد الضّيف ما دام نازلا … وما بي سواها خلّة تشبه العبدا (¬4) ¬

_ (¬1) فى الكامل- بشرح المرصفى 5: 145؛ ونسبها إلى قيس بن عاصم المنقرى، وفى حماسة أبى تمام- بشرح التبريزى 4: 205، وعزاها التبريزى إلى حاتم الطائىّ ولم ترد فى ديوانه. وفى الأغانى (12: 144) بسنده: «تزوج قيس بن عاصم المنقرى منفوسة بنت زيد الفوارس الضبى، وأتته فى الليلة الثانية من بنائه بها بطعام فقال: فأين أكيلى؟ فلم تعلم ما يريد؛ فأنشأ يقول .. وأورد الأبيات. قال: «فأرسلت جارية لها مليحة فطلبت له أكيلا، وأنشأت تقول له: أبى المرء قيس أن يذوق طعامه … بغير أكيل؛ إنه لكريم! فبوركت حيا يا أخا الجود والندى … وبوركت ميتا قد حوتك رجوم (¬2) أضافها إلى عمها وجدها الأكبرين، لعزتهما بين قبائل العرب؛ وذلك أن زيد الفوارس هو ابن حصين بن ضرار بن عمرو بن مالك بن زيد بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك، أخى عبد الله بن سعد ابن ضبة. ويريد بذى البردين جد منفوسة من قبل أمها، وهو عامر بن أحيمر بن بهدلة؛ لقب بذلك لما روى أن النعمان أخرج بردى محرق، وقد اجتمعت وفود العرب وقال: ليقم أعز العرب فليلبسهما، فقام عامر، فاتزر بأحدهما وارتدى بالآخر؛ ولم ينازعه أحد ... فى خبر ذكره المرزوقى فى شرح الحماسة 1668. (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «آكله»، بضم الكاف واللام. (¬4) حماسة أبى تمام بشرح المرزوقى 1180؛ وفى حاشية الأصل (من نسخة): * وما شيمة لى غيرها تشبه العبدا*.

وإنما اشترط فى كونه عبدا للضيف فى البيت الأول والثانى [ثواءه ونزوله] (¬1) مؤثرا له؛ ليعلم [أن الخدمة لضيفه لم تكن لضعة قدره] (¬2)، بل لما يوجبه الكرم من حق الأضياف (¬3)، وأنه يخرج عن أن يكون مخدوما بخروجه من أن يكون ضيفا. ولو قال: «وإنى لعبد الضيف» ولم يشرط (¬4) لم يحصل هذا المعنى الجليل. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): مدة ثوائه ونزوله». (¬2) م: أن الخدمة لم تكن لضعة وصغر قدر». (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «الإضافة». (¬4) م: «يشترط».

64

مجلس آخر 64 تأويل آية [انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا] إن سأل سائل فقال: بم تدفعون من خالفكم فى الاستطاعة، وزعم أن المكلّف يؤمر بما لا يقدر عليه ولا يستطيعه إذا تعلق بقوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا؛ [الإسراء: 48] فإن الظاهر من هذه الآية يوجب أنهم غير مستطيعين للأمر الّذي هم غير فاعلين له، وأن القدرة مع الفعل. وإذا تعلق بقوله تعالى: فى قصة موسى عليه السلام: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً؛ [الكهف: 67]؛ وأنه نفى أن يكون قادرا على الصبر فى حال هو فيها غير صابر؛ وهذا يوجب أنّ القدرة مع الفعل. وبقوله تعالى: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ؛ [هود: 20]. الجواب، يقال له: أول ما نقوله: إنّ المخالف لنا فى هذا الباب من الاستطاعة لا يصحّ له فيه التعلّق بالسمع؛ لأن مذهبه لا يسلم معه صحة السمع، ولا يتمكن مع المقام عليه من معرفة السمع بأدلته؛ وإنما قلنا ذلك؛ لأن من جوّز تكليف الله تعالى الكافر الإيمان وهو لا يقدر عليه لا يمكنه العلم بنفى القبائح عن الله عز وجل؛ وإذا لم يمكن ذلك فلا بدّ من أن يلزمه تجويز القبائح فى أفعاله وأخباره؛ ولا يأمن من أن يرسل كذابا، وأن يخبر هو بالكذب- تعالى عن ذلك! فالسمع إن كان كلامه قدح فى حجته تجويز الكذب عليه، وإن كان كلام رسوله قدح فيه ما يلزمه من تجويز تصديق الكذّاب؛ وإنما طرق ذلك تجويز بعض القبائح عليه. وليس لهم أن يقولوا: إن أمره تعالى الكافر بالإيمان وإن لم يقدر عليه يحسن من حيث أتى الكافر فيه من قبل نفسه؛ لأنه تشاغل بالكفر فترك الإيمان. وإنما كان يبطل تعلّقنا/ بالسمع لو أضفنا ذلك إليه تعالى على وجه يقبح؛ وذلك لأن ما قالوه إذا لم يؤثّر فى كون ما ذكرناه

تكليفا لما لا يطاق لم يؤثر فى نفى ما ألزمناه عنهم؛ لأنه يلزم على ذلك أن يفعل الكذب وسائر القبائح، وتكون حسنة منه بأن يفعلها من وجه لا يقبح منه. وليس قولهم: إنا لم نضفه إليه من وجه يقبح بشيء يعتمد؛ بل يجرى مجرى قول من جوّز عليه تعالى أن يكذب، ويكون الكذب منه تعالى حسنا؛ ويدّعى مع ذلك صحة معرفة السمع بأن يقول: إننى لم أضف إليه تعالى قبيحا، فيلزمنى إفساد طريقة السمع، فلما كان من ذكرناه لا عذر له فى هذا الكلام لم يكن للمخالف فى الاستطاعة عذر بمثله. ونعود إلى تأويل الآى؛ أما قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا فليس فيه ذكر للشيء الّذي لا يقدرون عليه، ولا بيان له، وإنما يصح ما قالوه لو بين أنهم لا يستطيعون سبيلا إلى أمر معين؛ فأما ولم يذكر ذلك فلا متعلّق لهم. فإن قيل: فقد ذكر تعالى من قبل ضلالهم؛ فيجب أن يكون المراد بقوله: فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى مفارقة الضلال. قلنا: إنه تعالى كما ذكر الضلال فقد ذكر ضرب المثل؛ فيجوز أن يريد أنهم لا يستطيعون سبيلا إلى تحقيق ما ضربوه من الأمثال وذلك غير مقدور على الحقيقة، ولا مستطاع. والظاهر بهذا الوجه أولى؛ لأنه تعالى حكى أنهم ضربوا له الأمثال، وجعل ضلالهم وأنهم لا يستطيعون السبيل متعلّقا بما تقدّم ذكره. وظاهر ذلك يوجب رجوع الأمرين جميعا إليه، وأنهم ضلّوا بضرب المثل، وأنهم لا يستطيعون سبيلا إلى تحقيق ما ضربوه من المثل؛ على أنه تعالى قد أخبر عنهم بأنهم ضلّوا، وظاهر ذلك الإخبار عن ماضى فعلهم. فإن كان قوله تعالى: فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا يرجع إليه، فيجب أن يدلّ على أنهم

لا يقدرون على ترك الماضى؛ وهذا مما لا نخالف فيه [وليس فيه ما نأباه] (¬1) من أنهم لا يقدرون فى المستقبل أو فى الحال على مفارقة الضلال والخروج عنه بعد تركه. وبعد؛ فإذا لم يكن للآية ظاهر، فلم صاروا بأن يحملوا نفى الاستطاعة على أمر كلّفوه/ أولى منا إذا حملنا ذلك على أمر لم يكلّفوه، أو على أنه أراد الاستثقال والخبر عن عظم المشقة عليهم. وقد جرت عادة أهل اللغة بأن يقولوا لمن يستثقل شيئا: إنه لا يستطيعه، ولا يقدر عليه، ولا يتمكّن منه؛ ألا ترى أنهم يقولون: فلان لا يستطيع أن يكلّم فلانا، ولا ينظر إليه، وما أشبه ذلك، وإنما غرضهم الاستثقال وشدة الكلفة والمشقة. فإن قيل: فإذا كان لا ظاهر للآية يشهد بمذهب المخالف، فما المراد بها عندكم؟ . قلنا: قد ذكر أبو على أن المراد أنهم لا يستطيعون إلى بيان تكذيبه سبيلا، لأنه ضربوا الأمثال؛ ظنا منهم بأن ذلك يبيّن كذبه، فأخبر تعالى أن ذلك غير مستطاع؛ لأنّ تكذيب صادق، وإبطال حق مما لا تتعلق به قدرة، ولا تتناوله استطاعة. وقد ذكر أبو هاشم أن المراد بالآية أنهم لأجل ضلالهم بضرب المثل وكفرهم لا يستطيعون سبيلا إلى الخير الّذي هو النجاة من العقاب والوصول إلى الثواب. وليس يمكن على هذا أن يقال: كيف لا يستطيعون سبيلا إلى الخير والهدى، وهم عندكم قادرون على الإيمان والتوبة؟ ومتى فعلوا ذلك استحقوا الثواب؛ لأن المراد أنهم مع التمسك بالضلال والمقام على الكفر لا سبيل لهم إلى خير وهدى؛ وإنما يكون لهم سبيل إلى ذلك بأن يفارقوا ما هم عليه. وقد يمكن أيضا فى معنى الآية ما تقدّم ذكره من أن المراد بنفى الاستطاعة عنهم أنهم مستثقلون للإيمان؛ وقد يخبر عمن استثقل شيئا بأنه لا يستطيعه على ما تقدم ذكره. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «وليس مما نأباه».

فأما قوله تعالى فى قصة موسى عليه السلام: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً فظاهره يقتضي أنك لا تستطيع ذلك فى المستقبل؛ ولا يدلّ على أنه غير مستطيع للصبر فى الحال أن يفعله فى الثانى. وقد يجوز أن يخرج فى المستقبل من أن يستطيع ما هو فى الحال مستطيع له؛ غير أن الآية تقتضى خلاف ذلك؛ لأنه قد صبر عن المسألة أوقاتا، إن ولم يصبر عنها فى جميع الأوقات، فلم تنتف الاستطاعة للصبر عنه فى جميع الأحوال المستقبلة. على أن المراد بذلك واضح، وأنه تعالى خبّر عن استثقاله الصبر عن المسألة عما لا يعرف/ ولا يقف عليه؛ لأن مثل ذلك يصعب على النفس؛ ولهذا نجد أحدنا إذا وجد (¬1) بين يديه ما ينكره ويستبعده تنازعه نفسه إلى المسألة عنه، والبحث عن حقيقته، ويثقل عليه الكفّ عن الفحص عن أمره؛ فلما حدث من صاحب موسى ما يستنكر ظاهره استثقل الصبر عن المسألة عن ذلك. ويشهد بهذا الوجه قوله تعالى: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً؛ [الكهف: 68]؛ فبيّن تعالى أن العلة فى قلة صبره ما ذكرناه دون غيره، ولو كان على ما ظنوا لوجب أن يقول: وكيف تصبر وأنت غير مطيق للصبر! فأما قوله تعالى: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ فلا تعلّق لهم بظاهره؛ لأن السمع ليس بمعنى فيكون مقدورا، لأن الإدراك على المذهب الصحيح ليس بمعنى، ولو ثبت أنه معنى على ما يقوله أبو على لكان أيضا غير مقدور للعبد من حيث يختصّ القديم تعالى بالقدرة عليه. هذا إن أريد بالسمع الإدراك؛ وإن أريد به نفس الحاسة فهى أيضا غير مقدورة للعباد؛ لأن الجواهر وما تخصّ به الحواس من البنية والمعانى ليصحّ به الإدراك مما ينفرد به القديم تعالى فى القدرة عليه. فالظاهر لا حجّة لهم فيه. ¬

_ (¬1) ف، حاشية الأصل (من نسخة): «إذا جرى بين يديه».

تأويل خبر يسار عن معاوية بن الحكم

فإن قالوا: فلعلّ المراد بالسمع كونهم سامعين؛ كأنه تعالى نفى عنهم استطاعة أن يسمعوا. قلنا: هذا خلاف الظاهر؛ ولو ثبت أن المراد ذلك لحملنا نفى الاستطاعة هاهنا على ما تقدم ذكره من الاستثقال وشدة المشقة، كما يقول القائل: فلان لا يستطيع أن يرانى، ولا يقدر أن يكلّمنى؛ وما أشبه ذلك، وهذا بيّن لمن تأمله. تأويل خبر [يسار عن معاوية بن الحكم] إن سأل سائل فقال: ما تأويل ما رواه يسار عن معاوية بن الحكم قال: قلت يا رسول الله، كانت لى جارية كانت ترعى غنما لى، قبل أحد، فذهب الذئب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بنى آدم آسف، كما يأسفون، لكنّنى (¬1) غضبت فصككتها صكّة، قال: فعظم ذلك على النبي صلى الله عليه وآله، قال، قلت: يا رسول الله؛ أفلا أعتقها؟ قال: «ائتنى بها»، فأتيته بها فقال لها: «أين الله؟ » فقالت: فى السماء، قال: «من أنا»؟ قالت: أنت رسول الله، فقال عليه السلام: / «أعتقها (¬2) فإنها مؤمنة». الجواب، أما قوله: «أنا رجل من بنى آدم آسف كما يأسفون» فمعناه أغضب كما يغضبون، قال محمد بن حبيب: الأسف: الغضب، وأنشد للراعى: فما لحقتنى العيس حتّى وجدتنى … أسيفا على حاديهم المتجرّد والأسف أيضا الحزن؛ قال ابن الأعرابىّ: الأسف: الحزن، والأسف: الغضب، قال كعب بن زهير: ¬

_ (¬1) د، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «لكننى». (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «فأعتقها».

فى كلّ يوم أرى فيه مبيّنة … تكاد تسقط منّى منّة أسفا (¬1) وقوله: «ولكنى غضبت فصككتها» أراد لطمتها، يقال: صكّ جبهته، إذا لطمها بيده؛ قال الله تعالى: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها؛ [الذاريات: 29]؛ وقال بشر بن أبى خازم يصف حمار وحش وأتانا: فتصكّ محجره إذا ما سافها … وجبينه بحوافر لم تنكب (¬2) سافها: أى شمها. وقولها: «فى السماء»؛ فالسماء هى الارتفاع والعلو، فمعنى ذلك أنّه تعالى عال فى قدرته، عزيز فى سلطانه، لا يبلغ ولا يدرك. ويقال: سما فلان يسمو سموّا، إذا ارتفع شأنه علا أمره، قال الله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ. أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً؛ [الملك: 16، 17] فأخبر بقدرته وسلطانه وعلوّ شأنه ونفاذ أمره. وقد قيل فى قوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ غير هذا، وأن المراد: أأمنتم من فى السماء أمره وآياته ورزقه؛ وما جرى مجرى ذلك. وقال أمية بن أبى الصلت شاهدا لما تقدم: وأشهد أنّ الله لا شيء فوقه … عليّا وأمسى ذكره متعاليا وقال سليمان بن يزيد العدوىّ: لك الحمد يا ذا الطّول والملك والغنى … تعاليت محمودا كريما وجازيا / علوت على قرب بعزّ وقدرة … وكنت قريبا فى دنوّك عاليا (¬3) ¬

_ (¬1) ديوانه: 70. المنة: القوة؛ وفى حاشيتى الأصل، ف: قبله: بان الشباب وأمسى الشّيب قد أزفا … ولا أرى لشباب ذاهب خلفا عاد السواد بياضا فى مفارقه … لا مرحبا ها بذا اللّون الّذي ردفا. (¬2) محجر العين: ما دار بها؛ ويقال: نكبت الحجارة خف البعير إذا أصابته وأدمته. (¬3) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «فى علوك دانيا».

والسماء أيضا سقف البيت، ومنه قوله تعالى: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ؛ [الحج: 15]. وقال ابن الأعرابىّ: يقال لأعلى البيت: سماء البيت، وسماوته، وسراته، وصهوته؛ والسماء أيضا: المطر قال الله تعالى: وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً؛ [الأنعام: 6]. ومنه الحديث الّذي رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله مر على صبرة طعام؛ فأدخل عليه السلام يده فيها، فنالت أصابعه بللا؛ فقال: ما هذا يا صاحب البرّ؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال عليه السلام: «أولا جعلته فوق الطّعام، يراه الناس! من غشّ فليس منا». وقال المثقّب العبدىّ: فلمّا أتانى والسّماء تبلّه … فقلت له: أهلا وسهلا ومرحبا ويقال أيضا لظهر الفرس: سماء؛ كما يقال فى حوافره: أرض. ولبعضهم فى فرس: وأحمر كالدّينار، أمّا سماؤه … فخصب، وأما أرضه فمحول (¬1) وإنما أراد أنه سمين الأعلى، عريان القوائم ممشوقها؛ وكل معانى السماء التى تتصرف وتتنوع ترجع إلى معنى الارتفاع والعلو والسموّ؛ وإن اختلفت المواضع التى أجريت هذه اللفظة فيها. وأولى المعانى بالخبر الّذي سئلنا عنه ما قدّمناه من معنى العزة وعلو الشأن والسلطان، وما عدا ذلك من المعانى لا تليق به تعالى؛ لأنّ العلوّ بالمسافة لا يجوز على القديم تعالى الّذي ليس بجسم ولا جوهر ولا حالّ فيهما؛ ولأن الخبر والآية التى تضمنت أيضا ذكر السماء خرجت مخرج المدحة، ولا تمدّح فى العلو بالمسافة؛ وإنما التمدّح بالعلو والشأن والسلطان ونفاذ الأمر؛ ولهذا لا تجد أحدا من العرب مدح غيره فى شعر أو نثر بمثل هذه اللفظة؛ وأراد بها علوّ المسافة؛ بل لا يريدون إلا ما ذكرناه من معنى العلوّ فى الشأن؛ وإنما يظن فى هذا الموضع خلاف هذا من لا فطنة عنده ولا بصيرة له؛ والحمد لله رب العالمين. ¬

_ (¬1) البيت لطفيل الغنوى، وهو فى ملحقات ديوانه 63، واللسان (سما).

65

مجلس آخر 65 تأويل آية [حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ؛ [هود: 40]: الجواب، قلنا: أمّا التنور فقد ذكر فى معناه وجوه: أولها أنّه أراد بالتنوّر وجه الأرض؛ وأنّ الماء نبع وظهر على وجه الأرض وفار؛ وهذا قول عكرمة، وقال ابن عباس مثله، والعرب تسمى وجه الأرض تنوّرا. وثانيها أن يكون المعنى أن الماء نبع من أعالى الأرض، وفار من الأماكن المرتفعة منها؛ وهذا قول قتادة؛ وروى عنه فى قوله تعالى: وَفارَ التَّنُّورُ؛ قال: ذكر لنا أنه أرفع الأرض وأشرفها. وثالثها أن يكون المراد ب فارَ التَّنُّورُ أى برز النّور، وظهر الضوء، وتكاثفت حرارة دخول النهار، وتقضّى الليل. وهذا القول يروى عن أمير المؤمنين عليه السلام. ورابعها أن يكون المراد بالتنوّر الّذي يختبز فيه على الحقيقة؛ وأنه تنور كان لآدم عليه السلام (¬1). وقال قوم: إن التّنّور كان فى دار نوح عليه السلام بعين وردة (¬2) من أرض الشام. وقال آخرون: بل كان التنّور فى ناحية الكوفة؛ والّذي (¬3) روى عنه أن التنّور هو تنور الخبز الحقيقى ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم. ¬

_ (¬1) م: «لآدم عليه السلام أبى البشر». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: وردة: اسم امرأة؛ تنسب العين إليها». (¬3) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «والذين روى عنهم».

وخامسها أن يكون معنى ذلك: اشتدّ غضب الله تعالى عليهم، وحلّ وقوع نقمته بهم؛ فذكر تعالى التّنّور مثلا لحضور العذاب، كما تقول العرب: قد حمى الوطيس (¬1)؛ إذا اشتد الحرب، وعظم الخطب. والوطيس هو التّنّور. وتقول العرب أيضا: قد فارت قدر القوم إذا اشتد حربهم؛ قال الشاعر: تفور علينا قدرهم فنديمها … ونفثؤها عنّا إذا حميها غلا (¬2) أراد بقدرهم حربهم، ومعنى نديمها: نسكّنها، ومن ذلك الحديث المروى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه نهى عن البول فى الماء الدائم؛ يعنى الساكن. ويقال: قد دوّم الطائر فى الهواء، إذا بسط جناحيه وسكنهما ولم بخفق بهما. ونفثؤها، معناه نسكّنها؛ يقال: قد فثأت غضبه عنى، وفثأت الحارّ بالبارد/ إذا كسرته به. وسادسها أن يكون التنّور الباب الّذي يجتمع فيه ماء السفينة؛ فجعل فوران الماء منه والسفينة (¬3) على الأرض علما على ما أنذر به من إهلاك قومه؛ وهذا القول يروى عن الحسن. وأولى الأقوال بالصواب قول من حمل الكلام على التنّور الحقيقى؛ لأنه الحقيقة وما سواه مجاز؛ ولأن الروايات الظاهرة تشهد له؛ وأضعفها وأبعدها من شهادة الأثر قول من حمل ذلك على شدة الغضب واحتداد الأمر تمثيلا وتشبيها؛ لأن حمل الكلام على الحقيقة التى تعضدها الرواية أولى من حمله على المجاز والتوسع مع فقد الرواية. وأىّ المعانى أريد بالتنوّر فإن الله تعالى جعل فوران الماء منه علما لنبيّه؛ وآية تدلّ على نزول العذاب بقومه؛ لينجو بنفسه وبالمؤمنين. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «روى أن أول من تكلم بحمى الوطيس رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال عليه السلام: «الآن حمى الوطيس». (¬2) البيت فى اللسان (فثأ)، ومقاييس اللغة (2: 315) منسوبا إلى النابغة الجعدى. (¬3) ضبطت فى الأصل بالفتح والضم معا؛ وفى حاشية الأصل: «إذا نصبت كان عطفا على «فوران» ويكون «على الأرض» حالا؛ والرفع أولى».

تأويل خبر"رأيت النبي صلى الله عليه وآله فى المنام وأنا أشكو إليه ما لقيت من الأود واللدد"

فأما قوله تعالى: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ فقد قيل: المراد به: احمل من كلّ ذكر وأنثى اثنين، وإنه يقال لكل واحد من الذكر والأنثى زوج. وقال آخرون: الزوجان هاهنا الضربان؛ وقال آخرون: الزوج: اللون؛ وإن كل ضرب يسمى زوجا؛ واستشهدوا ببيت الأعشى (¬1): وكلّ زوج من الدّيباج يلبسه … أبو قدامة مجبورا بذاك معا (¬2) ومعنى مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ؛ أى من أخبر الله تعالى بعذابه وحلول الهلاك به. والله أعلم بمراده. تأويل خبر [«رأيت النبي صلى الله عليه وآله فى المنام وأنا أشكو إليه ما لقيت من الأود واللّدد»] إن سأل سائل عن الخبر الّذي يرويه شريك بن عمار الدّهني (¬3) عن أبى صالح الحنفىّ عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وآله فى المنام وأنا أشكو إليه ما لقيت من الأود واللّدد». الجواب، يقال له: أما الأود فهو الميل، تقول العرب: لأقيمنّ ميلك، وجنفك، وأودك، ودرأك، وضلعك، وصدغك، وظلعك (بالظاء)، وصغوك، وصعرك، وصددك؛ كل هذا بمعنى واحد. وقال ثعلب: الأود إذا كان من الإنسان فى كلامه ورأيه فهو عوج؛ وإذا كان فى الشيء المنتصب مثل عصا/ وما أشبهها فهو عوج؛ وهذا قول الناس كلّهم إلا أبا عمرو الشيبانىّ؛ ¬

_ (¬1) ديوانه: 86؛ وفى حاشية الأصل: «قبله: له أكاليل بالياقوت زيّنها … صواغها، لا ترى عيبا ولا طبعا يمدح هوذة بن على؛ ولم يلبس التاج معدّى غيره». (¬2) حاشية الأصل: «مجبورا؛ من الجبر، وهو الإصلاح». وفى ديوانه: «محبوا»؛ وفى حاشية الأصل (من نسخة): «محبو؛ أى هو محبو». (¬3) فى م: «شريك عن عمار الذهنى»؛ وهو تحريف، وبنو دهن: حي من العرب.

فإنه قال: العوج، بالكسر: الاسم، والعوج، بالفتح: المصدر. وقال ثعلب: كأنه مصدر عوج يعوج عوجا؛ ويقال: عصا معوجّة، وعود معوج؛ وليس فى كلامهم معوّج. وأما اللّدد؛ فقيل: هو الخصومات، وقال ثعلب: يقال رجل ألدّ، وقوم لدّ إذا كانوا شديدى الخصومة؛ ومنه قول الله تعالى: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ؛ [البقرة: 204]. وقال الأموىّ: اللدد: الاعوجاج، والألدّ فى الخصومة: الّذي ليس بمستقيم، أى هو أعوج الخصومة؛ يميل فلا يقوى عليه ولا يستمكن (¬1) منه، ومن ذلك قولهم: لدّ الصّبىّ، وإنما يلدّ فى شقّ فيه؛ وليس «يلدّ» مستقيما؛ فهو يرجع إلى معنى الميل والاعوجاج. وقال: فسّر لنا الحكم بن ظهير، فقال: ألدّ الخصام، أى أعوج الخصام، وأنشد أبو السمح لابن مقبل: لقد طال عن دهماء لدي وعذرتى … وكتمانها أكنى بأمّ فلان جعلت لجهّال الرّجال مخاضة … ولو شئت قد بيّنتها بلسانى اللّد: الجدال والخصومة. وقال أبو عمرو: الألد: الّذي لا يقبل الحق، ويطلب الظلم. وقوله: «مخاضة» يقول: إنهم يخوضون فى شعرى ويطلبون معانيه، فلا يقفون عليه. وأنشد أبو السمح: لا تفتر الكذب القبيح فإنّه … للمرء معيبة وباب لئام واصدق بقولك حين تنطق؛ إنّه … للصّدق فضل فوق كلّ كلام وإذا صدقت على الرّجال خصمتهم … والصّدق مقطعة على الظّلام وإذا رماك غشوم قوم فارمه … بألدّ مشتغر المدى غشّام لا تعرضنّ على العدوّ وسيلة … واحذر عدوّك عند كلّ مقام ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «يتمكن».

واعلم بأنه ليس يوما نافعا … عند اللّئيم وسائل الأرحام ما لم يخفك ويلق عندك جانبا … خشنا وتصبحه بكأس سمام وإذا حللت (¬1) بمأزق فاكرم به … حتّى تفرّج حلبة الإظلام / واصبر على كرب البلاء فإنّه … ليس البلاء على الفتى بلزام واعلم بأنّك ميّت ومحدّث … عمّا فعلت معاشر الأقوام معنى قوله «مشتغر المدى»، أى بعيد المدى. ومعنى قوله: * لا تعرضنّ على العدوّ وسيلة* أى لا تقاربه ولا تصانعه ولا يكن بينك وبينه إلا صدق العداوة. وأنشد أيضا شاهدا لما تقدم: يا وهب أشبه باطلى وجدّى … أشبهت أخلاقى فأشبه مجدى * وجدّ لى عند الخصوم اللّدّ* *** قال سيدنا أدام الله تمكينه: ومن أحسن ما وصف به الثغر قول فضالة بن وكيع البكرىّ: تبسّم عن حمّ اللّثات كأنّها … حصى برد أو أقحوان كثيب إذا ارتفعت عن مرقد علّلت به … من اليانع الغورىّ فرع قضيب قضيب نجاه الرّكب أيام عرّفوا … لها من ذرى مال النّبات خضيب يعنى من يانع الأراك. ومعنى نجاه، أى قطعه، ومثله استنجاه أيضا، ومال النبات، أى ناعمه وحسنه، يقال: عشب مال ومادّ، سواء، أى ميّاد ناعم. ومعنى- أيام عرفوا، أى اجتنوه من عرفات، وذكر أنه خضيب بالطيب الّذي بيديها لإدمانها لاستعماله. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «وإذا حبست».

وقال الأخطل يصف ثغرا: شتيتا يرتوى الظمآن منه … إذا الجوزاء أجحرت الضّبابا (¬1) الشتيت: المفرق المفلّج الّذي ليس بمتراكب- ومعنى قوله: * إذا الجوزاء أجحرت الضبابا* فيه وجهان: أحدهما أنه أراد عند سقوط الجوزاء؛ وذلك فى شدة البرد وطول الليل إذا اتجحرت الضباب من البرد، وتغيرت الأفواه لطول ليل الشتاء؛ يقول: فثغرها حينئذ عذب غير متغيّر. والوجه الآخر أنه أراد عند طلوع الجوزاء فى شدة الحر إذا انجحرت الضّباب من شدة الحر والقيظ؛ فالظمآن حينئذ أشدّ عطشا وأحرّ غلّه/، فريقها يرويه ويبرد غلّته. وقال آخر: فويل بها (¬2) لمن تكون ضجيعه … إذا ما الثّريّا ذبذبت كلّ كوكب قوله: «فويل بها» من الزّجر المحمود: مثل قولهم: ويل أمه ما أشجعه! فكأنه يقول: نعم الضجيع هى عند السّحر، إذا تحادرت النجوم للمغيب، كما قال ذو الرّمة: وأيدى الثّريّا جنّح فى المغارب (¬3) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «قبله: أفاطم اعرضي قبل المنايا … كفى بالموت هجرا واجتنابا برقت بعارضيك ولم تجودى … ولم يك ذاك من نعمى ثوابا كذلك أخلفتنا أم بشر … على أن قد جلت غرّا عذابا وانظر الديوان ص 55. (¬2) حاشية الأصل: «نسخة س: «فويل أمها». (¬3) ديوانه: 55، وصدره: * ألا طرقت ميّ هيوما بذكرها*.

ومثل قول الآخر: نعم شعار الفتى إذا برد اللّي … ل سحيرا وقفقف الصّرد (¬1) وإنما يعنى أنها فى ذلك الوقت الّذي تتغير فيه الأفواه طيبة الريق عذبته. وأنشد أبو العباس المبرّد لأم الهيثم: وعارض كجانب العراق … أنبت برّاقا من البرّاق (¬2) يذاق (¬3) مثل العسل المراق (¬4) قال أبو العباس: فى هذا قولان: أحدهما أنه وصفت ثغرا. وعارضاه: جانباه، والعراق: ما يثنى ثم يخرز كعراق القربة، فأخبرت أنه ليس فيه اعوجاج ولا تراكب ولا نقص. وقولها: * أنبت براقا من البرّاق* أى ما تنبته الأرض إذا مطرت من النّور. قال المبرّد: والقول الأول عندنا أصح لذكرها العسل. وأنشد أحمد بن يحيى لتأبط شرا (¬5): ¬

_ (¬1) من القفقفة؛ وهى الرعدة، والصرد: الّذي آلمه الصرد؛ وهو شدة البرد؛ والبيت فى اللسان (قفف)، والكامل- بشرح المرصفى 3: 63، وذكر بعده: زيّنها الله فى الفؤاد كما … زيّن فى عين والد ولد وهو أيضا فى كتاب الألفاظ 121، 212؛ وذكر قبله: ما اكتحلت مقلة برؤيتها … فمسّها الدّهر بعدها رمد ونسب البيتين إلى عمر بن أبى ربيعة، وهما فى ملحقات ديوانه: 483. (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «البراق» بكسر الباء. (¬3) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «يداف». (¬4) حاشية الأصل: «نسخة ش: المذاق». (¬5) البيتان فى الأصمعيات: 35، والمخصص: 10: 103، واللسان (صوح).

وشعب كشلّ (¬1) الثّوب شكس طريقه … مجامع ضوجيه (¬2) نطاف مخاصر تعسّفته باللّيل لم يهدنى له … دليل، ولم يحسن له النّعت خابر قال: يعنى بالشّعب فم جارية. كشلّ الثوب، يعنى كفّ الثوب إذا خاطه الخيّاط. والشّكس: الضيّق، يصفها بصغر الفم وحسنه ورقّة الشفتين. وضوجاه: جانباه وضوج الوادى/: جانبه؛ ويعنى بالنّطاف: الريق. والمخاصر: الباردة، من الخصر. وقوله: «لم يهدنى له دليل»؛ أى لم يصل إليه غيرى، كما قال جرير: ألا ربّ يوم قد شربت بمشرب … شفى الغيم، لم يشرب به أحد قبلى (¬3) الغيم والغين: العطش؛ وإنما يعنى ريق جارية. قال المبرّد وقال آخرون: بل يعنى شعبا من الشّعاب مخوفا ضيّقا، سلكه وحده. قال أبو العباس: إنما كنى بالشّعب عن فم جارية؛ ثم أخذ فى وصف الشّعب؛ ليكون الأمر أشدّ التباسا. قال سيدنا أدام الله علوّه: والأشبه أن يكون أراد شعبا حقيقيّا، لأن تأبط شرا كان لصا وصّافا للأهوال التى تمضى به، ويعاينها فى تلصّصه. وكان كثيرا ما يصف تدلّيه من الجبال، وتخلّصه من المضايق، وقطعه المفاوز، وأشباه ذلك؛ والقطعة التى فيها البيتان كلّها تشهد بأن الوصف لشعب لا لفم جارية؛ لأنه يقول بعد قوله: «وشعب كشلّ الثوب»: لدن (¬4) مطلع الشّعرى، قليل أنيسه … كأنّ الطّخا فى جانبيه معاجر (¬5) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل. «يقال: شللت الثوب إذا خطته خياطة خفيفة». وفى حاشية الأصل: أيضا «نسخة س: كشك»؛ وهى رواية د، ف، والأصمعيات، واللسان، والمخصص. (¬2) كذا فى الأصول؛ وفى حاشية الأصل: «ضوجيه: جانبيه، والضوج: منعطف الوادى». وفى الأصمعيات واللسان والمخصص: «صوحيه» بالصاد، والصوح: وجه الجبل القائم. (¬3) ديوانه: 461. (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «لدى». (¬5) فى حاشيتى الأصل، ف: «الطخاء، ممدود: السحاب؛ ولعله قصره ضرورة. وإن رويت الطخا بالضم، كان جمع طخية».

به من نجاء الدّلو بيض أقرّها … خبار لصمّ الصخر فيه قراقر (¬1) وقرّرن حتّى كنّ للماء منتهى … وغادرهنّ السّيل فيما يغادر به نطف زرق قليل ترابها … جلا الماء عن أرجائها فهو حائر وهذه الأوصاف كلّها لا تليق إلا بالشّعب دون غيره؛ وتأوّل ذلك على الفم تأوّل بعيد. وقد أحسن كثيّر فى قوله يصف ثغرا: ويوم الحبل قد سفرت وكفّت … رداء العصب عن رتل براد (¬2) وعن نجلاء تدمع فى بياض … إذا دمعت وتنظر فى سواد وعن متكاوس فى العقص جثل … أثيث النبت ذى غدر جعاد (¬3) وقال أبو تمام فى هذا المعنى: / وعلى العيس خرّد يتبسّم … ن عن الأشنب الشّتيت البراد (¬4) كان شوك السيّال حسنا فأضحى … دونه للفراق شوك القتاد (¬5) وقال البحترىّ: وأرتنا خدّا يراح له الور … د، ويشتمه جنى التّفّاح (¬6) وشتيتا يغضّ من لؤلؤ النّظ … م، ويزرى على شتيت الأقاحى فأضاءت تحت الدّجنّة للشّر … ب، وكادت تضيء للمصباح (¬7) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «يعنى بالدلو النجم، وما يزعمون من كون المطر عند طلوع نجم وسقوط نجم. والنجاء: جمع نجو، وهو السحاب الّذي هراق ماءه، ويجوز أن يكون المعنى: من مياه النجاء بيض.، فاقتصر على ذكر النجاء؛ لأنها تدل على المياه والحبار: الارض الرخوة». (¬2) ديوانه 2: 159، والأغانى 2: 177 - 178، (طبع دار الكتب المصرية). ويقال: ثغر رتل؛ إذا كان حسن التنضيد مستوى النبات. والبراد: البارد. (¬3) الشعر المتكاوس: الكثيف المتراكم. والجثل: الكثيف الملتف. (¬4) ديوانه: 75. (¬5) حاشية الأصل: «السيال: ياسمين البر، وله شوك. تشبه به الأسنان؛ فيقول: كان أسنانها مثل شوك السيال حسنا، فاعترض دونها شوك الفراق». (¬6) ديوانه 1: 120. (¬7) حاشية الأصل (من نسخة): «كالمصباح».

وقال أيضا: سفرت كما سفر الرّبيع الطّلق عن … ورد يرقرقه الضّحى مصقول وتبسّمت عن لؤلؤ فى رصفه … برد يردّ حشاشة المتبول وقد جمع كلّ ما يوصف به الثّغر فى قوله: كأنما تضحك عن لؤلؤ … منضّد أو برد أو أقاح (¬1) ¬

_ (¬1) ديوانه: 1: 112.

66

مجلس آخر 66 تأويل آية [قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ؛ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ؛ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ؛ [المائدة: 60]. فقال: ما أنكرتم أن تكون هذه الآية دالة على أنه تعالى جعل الكافر كافرا؛ لأنه أخبر بأنه جعل منهم من عبد الطاغوت؛ كما جعل القردة والخنازير؟ وليس يجعله كافرا إلا بأن خلق كفره! . الجواب، يقال له (¬1): قبل أن نتكلّم فى تأويل الآية بما تحتمله من المعانى: [كيف يجوز أن يخبرنا بأنه] (¬2) جعلهم (¬3)؛ كفارا وخلق كفرهم! والكلام خرج مخرج الذّم لهم؛ والتوبيخ على كفرهم، والمبالغة فى الإزراء عليهم! وأىّ مدخل لكونه خالقا لكفرهم فى باب ذمّهم! وأىّ نسبة بينه وبين ذلك! بل لا شيء أبلغ فى عذرهم وبراءتهم من أن يكون/ خالقا لما ذمّهم من أجله. وهذا يقتضي أن يكون الكلام متناقضا مستحيل المعنى؛ ونحن نعلم أن أحدا إذا أراد ذمّ غيره، وتوبيخه وتهجينه بمثل هذا الضرب من الكلام إنما يقول: ألا أخبركم بشرّ الناس وأحقّهم بالذم واللوم! من فعل كذا، وصنع كذا؛ وكان على كذا وكذا؛ فيعدّد من الأحوال والأفعال قبائحها، ولا يجوز أن يدخل فى جملتها ما ليس بقبيح؛ ولا ما هو من فعل الذم ومن جهته؛ حتى يقول فى جملة ذلك: ومن تشاغل بالصّنعة الفلانية التى أسلمها إليه وحمله عليها؛ وإن عقلا يقبل هذه الشبهة لعقل ضعيف سخيف. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «نسخة س: لهم». (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «كيف يجوز أن يخبر الله تعالى». (¬3) م: «يجعلهم».

فإن قيل: أليس قد ذمّهم فى الكلام بأن جعل منهم القردة والخنازير؛ ولا صنع لهم فى ذلك! وكذلك يجوز أن يذمّهم ويجعلهم عابدين للطاغوت؛ وإن كان من فعله! قيل (¬1): إنما جعلهم قردة وخنازير عقوبة لهم على أفعالهم وباستحقاقهم، فجرى ذلك مجرى أفعالهم، كما ذمّهم بأن لعنهم وغضب عليهم؛ من حيث استحقّوا ذلك منه بأفعالهم وعبادتهم للطاغوت؛ فإن كان هو خلقها فلا وجه لذمهم بها؛ لأن ذلك مما لا يستحقونه بفعل متقدّم كاللّعن والمسخ. ثم نعود إلى تأويل الآية فنقول: لا ظاهر للآية يقتضي ما ظنّوه، وأكثر ما تضمنته الإخبار بأنه خلق وجعل من يعبد الطاغوت كما جعل منهم القردة والخنازير؛ ولا شبهة فى أنه تعالى هو خلق الكافر، وأنه لا خالق له سواه؛ غير أن ذلك لا يوجب أنه خلق كفره وجعله كافرا. وليس لهم أن يقولوا: كما نستفيد من قوله: جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ أنه جعل ما به كانوا كذلك؛ هكذا نستفيد من قوله: جعل منهم من عبد الطاغوت أنه خلق ما به كان عابدا للطاغوت؛ وذلك إنما استفدنا ما ذكروه من الأول؛ لأنّ الدليل قد دلّ على أنّ ما به يكون القرد قردا والخنزير خنزيرا؛ لا يكون إلّا من فعله. وليس ما به يكون الكافر كافرا مقصورا على فعله تعالى؛ بل قد دلّ/ الدليل على أنه يتعالى عن فعل ذلك وخلقه، فافترق الأمران. وفى الآية وجه آخر؛ وهو ألّا يكون قوله تعالى: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ معطوفا على القردة والخنازير؛ بل معطوفا على مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ؛ وتقدير الكلام: من لعنه الله، ومن غضب عليه، ومن عبد الطاغوت، ومن جعل الله منهم القردة والخنازير؛ وهذا هو الواجب؛ لأن عَبَدَ فعل، والفعل لا يعطف على الاسم، فلو عطفناه على القردة والخنازير لكنا قد عطفنا فعلا على اسم، فالأولى عطفه على ما تقدم من الأفعال. ¬

_ (¬1) د، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «قلنا».

وقال قوم: يجوز أن يعطف عَبَدَ الطَّاغُوتَ على الهاء والميم فى مِنْهُمْ؛ فكأنه جعل منهم، وممّن عبد الطاغوت القردة والخنازير؛ وقد يحذف «من» فى الكلام؛ قال الشاعر: أمن يهجو رسول الله منكم … ويمدحه وينصره سواء (¬1) أراد: ومن يمدحه وينصره. فإن قيل: فهبوا هذا التأويل ساغ فى قراءة من قرأ بالفتح، أين أنتم عن قراءة من قرأ وَعَبَدَ بفتح العين وضمّ الباء، وكسر التاء من الطَّاغُوتَ، ومن قرأ عَبَدَ الطَّاغُوتَ بضم العين والباء، ومن قرأ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بضم العين والتشديد، ومن قرأ وعبّاد الطّاغوت! قلنا: المختار من هذه القراءة عند أهل العربية كلّهم القراءة بالفتح، وعليها جميع القراء السبعة؛ إلا حمزة فإنه قرأ؛ عَبَدَ بفتح العين وضم الباء، وباقى القراءات شاذة غير مأخوذ بها. قال أبو إسحاق الزجاج فى كتابه فى معانى القرآن: " عَبَدَ الطَّاغُوتَ نسق على مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ" قال: " وقد قرئت عَبَدَ الطَّاغُوتَ؛ وعَبَدَ الطَّاغُوتَ؛ والّذي أختاره وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ". " وروى عن ابن مسعود رحمه الله: وعبدوا الطّاغوت فهذا يقوّى: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ" قال: " ومن قرأ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بضم الباء وخفض الطاغوت فإنه عند بعض أهل العربية ليس بالوجه من جهتين: إحداهما أن «عبد» على وزن «فعل»، وليس هذا من أمثلة الجمع؛ / لأنهم فسّروه خدم الطاغوت. والثانى أن يكون محمولا على «وجعل منهم عبدا للطّاغوت». ثم خرّج لمن قرأ عَبَدَ وجها فقال: إن الاسم بنى على «فعل»؛ كما يقال: رجل حذر أى مبالغ فى الحذر؛ فتأويل عَبَدَ أنّه بلغ الغاية فى طاعة الشيطان". وهذا كلام الزجاج. وقال أبو على الحسن بن عبد الغفار الفارسىّ محتجا لقراءة حمزة: " ليس عَبَدَ لفظ ¬

_ (¬1) البيت لحسان، ديوانه: 9، وروايته: «فمن يهجو ... ».

جمع؛ ألا ترى أنه ليس فى أبنية الجموع شيء على هذا البناء! ولكنه واحد يراد به الكثرة؛ ألا ترى أن فى الأسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه لفظ الإفراد ومعناه الجمع، كقوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها؛ [إبراهيم: 34] وكذلك قوله: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ جاء على «فعل» لأنّ هذا البناء يراد به الكثرة والمبالغة؛ وذلك نحو «يقظ وندس»؛ فهذا كأنّ تقديره أنّه قد ذهب فى عبادة الشيطان والتذلّل له كلّ مذهب". قال: " وجاء على هذا لأن «عبد» فى الأصل صفة، وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء، واستعمالهم إياه استعمالها لا يزيل عنه كونه صفة؛ ألا ترى أنّ «الأبرق والأبطح» (¬1) وإن كانا قد استعملا استعمال الأسماء حتى كسّرا هذا النحو عندهم من التكسير فى قولهم: «أبارق وأباطح»؛ فلم يزل عنه حكم الصفة، يدلّك على ذلك تركهم صرفه، كتركهم صرف «أحمر»، ولم يجعلوا ذلك كأفكل وأ يدع (¬2)؛ وكذلك عَبَدَ وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء لم يخرجه ذلك عن أن يكون صفة، وإذا لم يخرج عن أن يكون صفة لم يمتنع أن يبنى بناء الصفات على «فعل» " وهذا كلام مفيد فى الاحتجاج لحمزة؛ فإذا صحت قراءة حمزة وعادلت قراءة الباقين المختارة، وصح أيضا سائر ما روى من القراءات التى حكاها السائل كان الوجه الأول الّذي ذكرناه فى الآية يزيل الشبهة فيها. ويمكن فى الآية وجه آخر على جميع القراءات المختلفة فى عَبَدَ الطَّاغُوتَ؛ وهو أن يكون المراد بجعل منهم عبد الطاغوت؛ أى نسبه إليهم، وشهد عليه بكونه من جملتهم. ول «جعل» مواضع قد تكون بمعنى الخلق والفعل؛ كقوله: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، [الأنعام: 1]؛ / وكقوله: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً؛ [النحل: 81]؛ وهى هاهنا تتعدى إلى مفعول واحد؛ وقد تكون أيضا بمعنى التسمية والشهادة؛ كقوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً؛ [الزخرف: 19]؛ وكقول القائل: جعلت البصرة ¬

_ (¬1) الأبرق: أرض فيها حجارة سود وبيض، والأبطح: الأرض المنبطحة. (¬2) الأفكل: الرعدة، والأيدع: صبغ أحمر؛ وهو المسمى دم الأخوين.

بغداد، وجعلتنى كافرا، وجعلت حسنى قبيحا؛ وما أشبه ذلك؛ فهى هاهنا تتعدى إلى مفعولين. ول «جعل» مواضع أخر لا حاجة بنا إلى ذكرها؛ فكأنه تعالى قال: ونسب عبد الطاغوت إليهم، وشهد أنهم من جملتهم. فإن قيل: لو كانت جَعَلَ هاهنا على ما ذكرتم لوجب أن تكون متعدية إلى مفعولين؛ لأنها إذا لم تتعد إلّا إلى مفعول واحد فلا معنى لها إلا الخلق. قلنا: هذا غلط من متوهّمه؛ لأن جَعَلَ هاهنا متعدية إلى مفعولين، وقوله تعالى: مِنْهُمْ يقوم مقام المفعول الثانى عند جميع أهل العربية، لأن كلّ جملة تقع فى موضع خبر المبتدأ فهى تحسن أن تقع فى موضع المفعول الثانى؛ كجعلت وظننت وما أشبههما. وقال الشاعر: أبا لأراجيز يا ابن اللّؤم توعدنى … وفى الأراجيز خلت اللؤم والخور (¬1) وقد فسر هذا على وجهين: أحدهما على الغاء «خلت» من حيث توسطت الكلام؛ فيكون «فى الأراجيز» على هذا فى موضع رفع بأنه خبر المبتدأ، والوجه الثانى على إعمال «خلت» فيكون «فى الأراجيز» فى موضع نصب من حيث وقع موقع المفعول الثانى. وهذا بيّن لمن تدبره. قال سيدنا أدام الله علوّه: أنشد ثعلب عن ابن الأعرابىّ: أما وأبى للصّبر فى كلّ خلّة … أقرّ لعينى من غنى رهن ذلّة وإنى لأختار الظّما فى مواطن … على بارد عذب وأغنى بغلّة وأستر ذنب الدّهر حتى كأنّه … صديق، ولا اغتابه عند زلّة ولست كمن كان ابن أمّى مقترا … فلمّا أفاد المال عاد ابن علّة فدابرته حتى انقضى الودّ بيننا … ولم أتمطّق من نداه ببلّة / وكنت له عند الملمّات عدّة … أسدّ بمالى دونه كلّ خلّة ¬

_ (¬1) البيت للعين المنقرى يهجو العجاج؛ وهو من شواهد الكتاب (1: 60).

قال الشريف المرتضى رضى الله عنه: الأولى فى هذه القطعة إطلاقها. الخلّة: الحاجة، والخلّة أيضا: الخصلة. والخلّة، بالضم: المودّة، والخلّة أيضا، بالضم: ما كان خلوا من المرعى. والخلّة، بالكسر: ما يخرج من الأسنان بالخلال. والخليل: الحبيب؛ من المودة والمحبة، والخليل أيضا: الفقير؛ وكلا الوجهين قد ذكر فى قوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا؛ [النساء: 125]، ومنه حديث ابن مسعود: «تعلموا القرآن فإنه لا يدرى أحدكم متى يختلّ إليه». قال أبو العباس ثعلب يكون من شيئين: أحدهما من الخلّة التى هى الحاجة؛ أى متى يحتاج إليه، ويكون من الخلة وهى النبات الحلو؛ ويكون معناه: متى يشتهى ما عنده، مشبّه بالإبل؛ لأنها ترعى الخلّة فإذا ملّتها عدلوا بها إلى الحمض؛ فإذا ملّت الحمض اشتهت الخلّة؛ ومن أمثالهم: «جاءوا مخلّين فلاقوا حمضا»؛ أى جاءوا مشتهين لقتالنا فلاقوا ما كرهوا. والخلّة أيضا: بنت المخاض والذكر الخلّ؛ ويقال: جسم خلّ إذا كان مهزولا؛ قال الشاعر: فاسقنيها يا سواد بن عمرو … إنّ جسمى بعد خالى لخلّ (¬1) ويقال أيضا: فصيل مخلول إذا شدّ لسانه حتى لا يرضع؛ ويقال: خللته فهو خليل ومخلول؛ ومثله أجررته؛ قال الشاعر: فلو أنّ قومى أنطقتنى رماحهم … نطقت؛ ولكنّ الرّماح أجرّت (¬2) أى لم يعملوا فى الحرب شيئا فكنت أفتخر بهم. وقوله: * أقرّ لعينى من غنى رهن ذلّة* ¬

_ (¬1) من قصيدة تنسب لتأبط شرا، وقيل إنها لابن أخته خفاف بن نضلة، وقيل للشنفرى، وقيل لخلف الأحمر؛ وأولها: إنّ بالشّعب الّذي دون سلع … لقتيلا دمه ما يطلّ وهى فى حماسة أبى تمام- بشرح المرزوقى 827 - 839 وانظر اللآلى: 919. (¬2) البيت فى حماسة أبى تمام- بشرح المرزوقى 161؛ من قطعة لعمرو بن معديكرب.

يقول: أختار الصيانة مع الفقر أحبّ إلى من الغنى مع الذلّ؛ ومثله: إذا كان باب الذّلّ من جانب الغنى … سموت إلى العلياء من جانب الفقر صبرت وكان الصّبر منّى سجيّة … وحسبك أنّ الله أثنى على الصّبر وقوله: وأستر ذنب الدهر حتى كأنه … صديق ... أراد: أنى لا أشكو ما يمسّنى به الدهر من خصاصة؛ بل أستر ذلك وأظهر التجمّل حتى لا أسوأ الصديق وأسر العدوّ. وهذا المعنى/ أراد بقوله: «ولا اغتابه عند زلّتى». وقوله: * فلما أفاد المال عاد ابن علّة* فالعرب تقول: هم بنو أعيان؛ إذا كان أبوهم واحدا وأمهم واحدة؛ فإذا كان أبوهم واحدا وأمهاتهم شتى قيل أولاد علّات؛ ومنه الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «النبيون أولاد علّات»؛ أى أمهاتهم شتّى وأبوهم واحد؛ وكنى الشاعر بذلك عن التباعد والتقاطع والتقالى؛ لأن الأكثر فى بنى العلّات ما ذكرناه. وقوله: «ودابرته» أى قاطعته. وقوله: * ولم أتمطّق من نداه ببلّة* فالتمطّق يكون بالشفتين، والتلمّظ يكون باللسان، وكنى بذلك عن أنه لم يصب من خيره شيئا؛ وصان نفسه عنه.

67

مجلس آخر 67 تأويل آية [الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] إن سأل سائل فقال: ما تأويل قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ؛ [البقرة: 22]. وما الّذي أثبت لهم العلم به؟ وكيف يطابق وصفهم هاهنا بالعلم لوصفهم بالجهل فى قوله تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ؛ [الزمر: 64]. الجواب، قلنا: هذه الآية معناها متعلّق بما قبلها؛ لأنه تعالى أمرهم بعبادته، والاعتراف بنعمته؛ ثم عدّد عليهم صنوف النّعم التى ليست إلا من جهته؛ ليستدلّوا بذلك على وجوب عبادته؛ وإن العبادة إنما تجب لأجل النّعم المخصوصة؛ فقال جل من قائل: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً إلى آخر الآية؛ ونبّه فى آخرها على وجوب توحيده والإخلاص له، وألّا يشرك به شيء، بقوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. ومعنى قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً أى يمكن أن تستقرّوا عليها وتفرشوها وتتصرفوا فيها؛ وذلك لا يمكن إلا بأن تكون مبسوطة ساكنة دائمة السكون. وقد استدل أبو عليّ بذلك، وبقوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً على بطلان ما تقوّله المنجّمون من أن الأرض كريّة الشكل؛ وهذا القدر/ لا يدرك؛ لأنه يكفى فى النعمة علينا أن يكون فيها بسائط ومواضع مسطوحة يمكن التصرّف عليها؛ وليس يجب أن يكون جميعها كذلك؛ ومعلوم ضرورة أن جميع الأرض ليس مسطوحا مبسوطا وإن كان

مواضع التصرّف منها بهذه الصفة، والمنجّمون لا يدفعون أن يكون فى الأرض بسائط وسطوح يتصرّف عليها، ويستقرّ فيها؛ وإنما يذهبون إلى أن بجملتها شكل الكرة. وليس له أن يقول: قوله: وجَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً يقتضي الإشارة إلى جميع الأرض وجملتها؛ لا إلى مواضع منها، لأن ذلك تدفعه الضرورة من حيث أنا نعلم بالمشاهدة أنّ فيها ما ليس ببساط ولا فراش؛ ولا شبهة فى أن جعله السماء على ما هى عليه من الصّفة ممّا له تعلّق بمنافعنا ومصالحنا. وكذلك إنزاله تعالى منها الماء الّذي هو المطر الّذي تظهر به الثمرات فننتفع بنيلها والاغتذاء بها. فأما قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً فإن الندّ هو المثل والعدل؛ قال حسان ابن ثابت: أتهجوه ولست له بندّ … فشرّ كما لخيركما الفداء (¬1) فأما قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فيحتمل وجوها: أولها أن يريد أنكم تعلمون أنّ الأنداد التى هى الأصنام وما جرى مجراها التى تعبدونها من دون الله تعالى لم ينعم عليكم بهذه النعم التى عدّدها ولا بأمثالها، وأنها لا تضرّ ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر؛ ومعلوم أن المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام ما كانوا يدّعون ولا تعتقدون أنّ الأصنام خلقت السماء والأرض من دون الله ولا معه تعالى؛ فالوصف لهم هاهنا بالعلم إنما هو لتأكيد الحجة عليهم. ويصح لزومها لهم؛ لأنهم مع العلم بما ذكرناه يكونون أضيق عذرا. والوجه الثانى أن يكون المراد بقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أى تعقلون وتميزون، وتعلمون ما تقولون وتفعلون، وتأتون وتذرون، لأنّ من كان بهذه الصفة فقد استوفى شروط التكليف، ولزمته الحجة، وضاق عذره فى التخلّف عن النظر وإصابة الحق. ونظير ذلك/ قوله تعالى: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ؛ [الزمر: 9] وإِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ؛ [فاطر: 28]. ¬

_ (¬1) ديوانه: 9.

والوجه الثالث ما قاله بعض المفسرين كمجاهد وغيره أن المراد بذلك أهل الكتابين التوراة والإنجيل خاصة. ومعنى وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أى أنكم تعلمون أنه إله واحد فى التوراة والإنجيل. فعلى الوجهين الأولين لا تنافى بين هذه الآية وبين قوله تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ؛ لأنّ علمهم تعلّق بشيء، وجهلهم تعلق بغيره. وعلى الوجه الثالث إذا جعل الآية التى سئلنا عنها مختصة بأهل الكتاب أمكن أن تجعل الآية التى وصفوا فيها بالجهل تتناول غير هؤلاء؛ ممن لم يكن ذا كتاب يجد فيه بيان التوحيد؛ وكلّ هذا واضح بحمد الله. *** قال سيدنا أدام الله علوّه: ومما يفسّر من الشعر تفاسير مختلفة؛ والقول محتمل للكلّ قول امرئ القيس: وقد اغتدى ومعى القانصان … وكلّ بمربأة مقتفر (¬1) فيدركنا فغم داجن … سميع بصير طلوب نكر ألصّ الضّروس، حنيّ الضّلوع، … تبوع، أريب، نشيط، أشر فأنشب أظفاره فى النّسا … فقلت: هبلت! ألا تنتصر! فكرّ إليه بمبراته … كما خلّ ظهر اللّسان المجر فظلّ يرنّح فى غيطل … كما يستدير الحمار النّعر قال ابن السّكّيت: القانصان: الصائدان، والمربأة: الموضع المرتفع يربأ فيه، والمقتفر: الّذي يقتفر آثار الوحش ويتبعها. وقال غيره: القانصان: البازى والصقر. والفغم: الكلب الحريص على الصيد؛ يقال: ما أشدّ فغمه! أى ما أشد حرصه! ، قال الأعشى: ¬

_ (¬1) ديوانه: 10 - 12.

نؤمّ ديار بنى عامر … وأنت بآل عقيل فغم (¬1) أى مولع، والدّاجن: الّذي يألف الصيد، والسميع: الّذي إذا سمع حسّا لم يفته، والبصير: الّذي إذا رأى شيئا من بعد لم يكذبه بصره، والتبوع: الّذي إذا تبع الصيد أدركه ولم يعجز عن لحقوقه/، والنّكر: المنكر الحاذق بالصيد، ويروى «نكر» بالضم. وقال ابن السكيت وغيره فى قوله: * فأنشب أظفاره فى النّسا* أى أنشب الكلب أظفاره فى نسا الثور، والنّسا: عرق فى الفخذ معروف. «فقلت: هبلت»؛ أى: فقلت للثور: هبلت، ألا تنتصر من الكلب! قالوا: وهذا تهكّم منه بالثور واستهزاء به، والأصل فى التهكّم الوقوع على الشيء؛ يقال: تهكّم البيت إذا وقع بعضه على بعض. ومعنى: * فكرّ إليه بمبراته* قال ابن السكّيت وغيره: معناه: فكرّ الثور إلى الكلب بمبراته؛ أى بقرنه. ومعنى: * كما خلّ ظهر اللسان المجرّ* أى طعنه كما يجرّ الرجل لسان الفصيل، وهو أن يقطع طرف لسانه أو يشقّه حتى لا يقدر على الشرب من خلف أمه، وذلك إذا كبر واستغنى عن الشرب. ومعنى: * فظل يرنّح فى غيطل* أى ظل الكلب يرنّح (¬2)، أى يميد ويتمايل كالسكران، والغيطل: الشجر الملتف، ويكون أيضا الجلبة والصياح. ¬

_ (¬1) ديوانه: 30. (¬2) حاشية الأصل: «ترنح: تمايل من السكر وغيره، ورنح عليه، على ما لم يسم على فاعله، إذا استدار».

وقوله: * كما يستدير الحمار النعر* فالنّعر: الّذي يدخل فى رأسه ذباب أزرق أو أخضر، فيطح برأسه وينزو، فشبّه الكلب فى اضطرابه ونزوّه بالحمار النّعر، قال ابن مقبل: ترى النّعرات الزّرق تحت لبانه … أحاد ومثنى أصعقتها صواهله (¬1) وقال أحمد بن عبيد: القانصان: الفرس وصاحبه؛ والحجّة أن الفرس تسمى قانصا قول عدىّ بن زيد: تقنصك الخيل ويصطادك الطّ … ير ولا تنكع لهو القنيص (¬2) أى لا تمنع به. قال: وقوله: * فأنشب أظفاره فى النّسا* معناه فأنشب الكلب أظفاره فى نسا الثور، فقلت لصاحب الفرس أو لغلامى الممسك للفرس: هبلت! ألا تدنو إلى الثور فتطعنه فقد أمسكه عليك الكلب! قال: ومحال أن يكون امرؤ القيس أغرى الثور بقتل كلبه؛ لأن امرأ القيس يفخر بالصيد ويصفه فى أكثر شعره بأنه مرزوق منه مظفّر فيه، كقوله: إذا ما خرجنا قال ولدان أهلنا: … تعالوا إلى أن يأتنا الصّيد نحطب (¬3) وكقوله: مطعم للصّيد ليس له … غيره كسب على كبره (¬4) ¬

_ (¬1) اللسان (نعر). (¬2) شعراء النصرانية 470، واللسان (نكع). (¬3) خزانة الأدب 2: 197؛ ولم يرد فى ديوانه بشرح البطليوسى. (¬4) حاشية الأصل: «أى يطعم الصيد؛ واللام دخلت للتقوية» والبيت فى اللسان (طعم)، وشرح الستة للأعلم ص 56.

فمحال على هذا أن يغرى الثور بقتل كلبه. قال: وتأويل «ألا تنتصر! » ألا تدنو من الثور! / والدليل على أن «تنتصر» بمعنى «تدنو» قول الراعى: وأفرغن فى وادى جلاميد بعد ما … علا البيد سافى القيظة المتناصر أى المتدانى. وقال مضرّس بن ربعىّ: فإنّك لا تعطى امرأ حظّ غيره … ولا تملك الشّقّ الّذي الغيث ناصره أى دان منه. ومعنى: «ألصّ الضّروس» أى بعض أسنانه ملتصق ببعض. وحنيّ الضلوع: أى مشرف الضلوع عاليها. ويروى: «حنى الضّلوع» بالنون أى منحنيها. ويقال: إن الضّلوع إذا تقوّست كان أوسع لجوفه وأقوى له؛ ويروى أيضا: «خفىّ الضلوع» أى ضلوعه خفية داخلة فى جنبه. ومعنى: * فظلّ يرنّح فى غيطل* أى ظلّ الثور يرنّح فى غيطل لمّا طعنه صاحب الفرس. وقد يجوز أيضا أن يكون ترنّح الثور لظفر الكلب به، ولأنه أنشب أظفاره فيه؛ وكلّ ذلك محتمل. ومما يحتمل أيضا على وجوه مختلفة قول امرئ القيس: فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها … لما نسجتها من جنوب وشمأل (¬1) قال قوم: معناه لم يدرس رسمها لنسج هاتين الريحين فقط؛ بل لتتابع الرياح والأمطار؛ والدليل على ذلك قوله فى البيت الآخر: ¬

_ (¬1) ديوانه: 19.

* فهل عند رسم دارس من معوّل (¬1) * وقال آخرون: ومعنى: «لم يعف رسمها» لم يدرس، فالرسم على هذا القول باق غير دارس. ومعنى قوله فى البيت الآخر: «رسم دارس»، أى فهل عند رسم سيدرس فى المستقبل! وإن كان الساعة موجودا غير دارس! وقال آخرون فى معنى قوله: «لم يعف» مثل الوجه الثانى؛ أى أنه لم يدرس أثرها لما نسجتها، بل هى بواق ثوابت، فنحن نحزن لها، ونجزع عند رؤيتها، ولو عفت وامّحت لاسترحنا، وهذا مثل قول ابن أحمر: ألا ليت المنازل قد بلينا … فلا يبكين ذا شجن حزينا ومثل قول الآخر: / ليت الدّيار التى تبقى لتحزننا … كانت تبين إذا ما أهلها بانوا وليس قوله: * فهل عند رسم دارس من معوّل* نقضا لهذا، إنما هو كقولك: درس كتابك، أى ذهب بعضه وبقى بعض. وقال أبو بكر العبدىّ: معناه لم يعف رسمها من قلبى، وهو دارس من الموضع، فلم يتناول قوله: «لم يعف رسمها» ما تناوله قوله: «فهل عند رسم دارس» من جميع وجوهه فيتناقض الكلام. وقال آخرون: أراد بقوله: «لم يعف»، لم يدرس، ثم أكذب نفسه بقوله: * فهل عند رسم دارس من معوّل* ¬

_ (¬1) ديوانه: 21، وأوله: * وإنّ شفائى عبرة مهراقة*.

كما قال زهير: قف بالدّيار التى لم يعفها القدم … بلى، وغيّرها الأرواح والدّيم (¬1) وكما قال الآخر: فلا تبعدن يا خير عمرو بن مالك … بلى، إنّ من زار القبور ليبعدا أراد «ليبعدن»، فأبدل الألف من النون الخفيفة؛ وهذا وجه ضعيف، وبيت زهير ليس يجب فيه ما توهّم من المناقضة والتكذيب؛ لأنه يمكن أن يحمل على ما ذكرناه فى أحد الوجوه المتقدمة؛ من أنه أراد أنّ رسمها لم يعف ولم يبطل كلّه، وإن كان قد غيّرت الدّيم والأرواح بعضه وأثّرت فى بعض. فأما البيت الثانى فلا حجّة فيه؛ لأنه لم يتضمن إثباتا ونفيا، وإنما دعاء له ألا يبعد، ثم رجع إلى قوله: «بلى» إنه ليبعد من زار القبور، وما يدعى به غير واجب ولا ثابت، فكيف ينافى الإثبات الثانى! ويمكن فى البيت وجه آخر، وهو أن يكون معنى: «لم يعف رسمها» أى لم يزد ويكثر فيظهر حتى يعرفه المترسّم؛ ويثبته المتأمل، بل هو خاف غير لائح ولا ظاهر. ثم قال من بعد: * فهل عند رسم دارس من معوّل* فلم يتناقض الأول؛ لأنه قد أثبت الدروس له فى كلا الموضعين. ولا شبهة فى أن «عفا» من حروف الأضداد التى تستعمل تارة فى الدروس، وأخرى فى الزيادة والكثرة؛ قال الله تعالى: حَتَّى عَفَوْا؛ [الأعراف: 95]؛ أى كثروا؛ ويقال: قد عفا الشّعر إذا كثر، وقال الشاعر: ¬

_ (¬1) ديوانه 145.

ولكنّا نعضّ السّيف منها … بأسوق عافيات اللّحم كوم / أراد كثيرات اللحم؛ يقال: قد عفا وبر البعير إذا زاد؛ ويقال: أعفيت الشعر وعفوته إذا كثرته وزدت فيه، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بأن تحفى الشوارب وتعفى اللّحى؛ أى توفر، وهذا الوجه عندى أشبه مما تقدم.

68

مجلس آخر 68 تأويل آية [يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا] إن سأل سائل عن قوله تعالى: يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا؛ [مريم: 28، 29]. فقال: من هارون الّذي نسبت مريم إلى أنها أخته؟ ومعلوم أنها لم تكن أختا لهارون أخى موسى. وما معنى مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، ولفظة «كان» تدلّ على ما مضى (¬1) وعيسى عليه السلام فى حال قولهم ذلك كان فى المهد؟ الجواب، قلنا: هارون الّذي نسبت إليه مريم قد قيل فيه أقوال: منها أن هارون المذكور كان رجلا فاسقا مشهورا بالعهر والشرّ وفساد الطريقة، فلما أنكروا ما جاءت به من الولد، وظنوا بها ما هي مبرأة منه نسبوها إلى هذا الرجل تشبيها وتمثيلا؛ وكان تقدير الكلام: يا شبيهة هارون فى فسقه وقبيح فعله؛ وهذا القول يروى عن سعيد بن جبير. ومنها أن هارون هذا كان أخاها لأبيها دون أمّها؛ وقيل إنه كان أخاها لأبيها وأمها، وكان رجلا معروفا بالصلاح وحسن الطريقة والعبادة والتألّه. وقيل: إنه لم يكن أخاها على الحقيقة؛ بل كان رجلا صالحا من قومها، وإنه لما مات شيّع جنازته أربعون ألفا، كلّهم يسمّى هارون، من بنى إسرائيل، فلما أنكروا ما ظهر من أمرها قالوا لها: يا أُخْتَ هارُونَ؛ أى يا شبيهته فى الصلاح، ما كان هذا معروفا منك، ولا كان ووالدك ممن يفعل القبيح، ولا تتطرّق عليه الرّيب! ¬

_ (¬1) ف: «ما مضى من الزمان».

وعلى قول من قال إنه كان أخاها يكون معنى قولهم: إنك من أهل بيت الصلاح والسداد؛ لأن أباك لم يكن امرأ سوء، ولا كانت أمك بغيّا، وأنت مع ذلك أخت هارون المعروف بالصلاح والعفة، فكيف أتيت بما لا يشبه نسبك، ولا يعرف من مثلك! ويقوّى هذا القول ما رواه المغيرة بن شعبة قال: لما أرسلنى/ رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أهل نجران قال لى أهلها: أليس نبيّكم يزعم أن هارون أخو موسى، وقد علم الله ما كان بين موسى وعيسى من السنين! فلم أدر ما أردّ عليهم حتى رجعت إلى النبي صلى الله عليه وآله فذكرت ذلك فقال لى: «فهلّا قلت إنهم كانوا يدعون بأنبيائهم والصالحين قبلهم»! ومنها أن يكون معنى قوله: يا أُخْتَ هارُونَ يا من هى من نسل هارون أخى موسى؛ كما يقال للرجل: يا أخا بنى تميم، ويا أخا بنى فلان. وذكر مقاتل بن سليمان فى قوله تعالى: يا أُخْتَ هارُونَ [قال: روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «هارون الّذي ذكروه هو هارون أخو موسى عليهما السلام». قال مقاتل: تأويل] (¬1) يا أُخْتَ هارُونَ يا من هى من نسل هارون، كما قال تعالى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً؛ [الأعراف: 65]، وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً؛ [الأعراف: 73] يعنى بأخيهم أنه من نسلهم وجنسهم. وكلّ قول من هذه الأقوال قد اختاره قوم من المفسرين. فأما قوله تعالى: مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا فهو كلام مبنىّ على الشرط والجزاء، مقصود به إليهما؛ والمعنى: من يكن فى المهد صبيا، فكيف نكلّمه! ووضع فى ظاهر اللفظ الماضى موضع المستقبل، لأن الشارط لا يشرط إلا فيما يستقبل، فيقول القائل: إن زرتنى زرتك؛ يريد إن تزرنى أزرك؛ قال الله تعالى: إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ؛ ؛ [الفرقان: 10] يعنى إن يشأ يجعل. ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل؛ والمثبت عن د، ف.

وقال قطرب: معنى كانَ هاهنا معنى صار؛ فكأن المعنى: وكيف نكلّم من صار فى المهد صبيا، ويشهد بذلك قول زهير: أجزت إليه حرّة أرحبيّة … وقد كان لون اللّيل مثل الأرندج (¬1) وقال غيره: كانَ هاهنا بمعنى خلق ووجد؛ كما قالت العرب: كان الحرّ، وكان البرد؛ أى وجدا وحدثا. وقال قوم: لفظة كانَ وإن أريد بها الماضى فقد يراد بها الحال والاستقبال؛ كقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؛ [آل عمران: 110]، أى أنتم كذلك، وقوله تعالى: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 73] وقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً؛ [النساء: 17]؛ وإن كان قد قيل فى هذه الآية الأخيرة غير هذا؛ قيل إن القوم شاهدوا من آثار علمه وحكمته تعالى ما شاهدوا، فأخبرهم أنه لم يزل عليما حكيما، أى فلا تظنّوا أنه استفاد علما وحكمة لم يكن عليهما. ومما يقوى مذهب/ من وضع لفظة الماضى فى موضع الحال والاستقبال قوله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ [المائدة: 110]، وقوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ؛ [الأعراف: 44]؛ وقولهم فى الدعاء: غفر الله لك، وأطال بقاءك! وما جرى مجرى ذلك. ومعنى الكلّ يفعل الله ذلك بك؛ إلّا أنه لما أمن اللبس وضع لفظ الماضى فى موضع المستقبل، قال الشاعر: ¬

_ (¬1) ديوانه: 323؛ والرواية فيه: زجرت عليه حرّة أرحبيّة … وقد كان لون الليل مثل اليرندج الضمير يعود إلى الطريق فى البيت قبله، والحرة: الكريمة، والأرحبية: منسوب إلى أرحب؛ وهو بطن من همدان تنسب إليه النجائب؛ لأنها من نسله. والأرندج واليرندج: السواد، يسود به الخف-

فأدركت من قد كان قبلى ولم أدع … لمن كان بعدى فى القصائد مصعدا (¬1) أراد لمن يكون بعدى. ومما جعلوا فيه المستقبل فى موضع الماضى قول الصّلتان العبدىّ يرثى المغيرة بن المهلّب (¬2): قل للقوافل والغزاة (¬3) إذا غزوا … والباكرين وللمجدّ الرّائح إنّ الشّجاعة والسّماحة ضمّنا … قبرا بمرو على الطّريق الواضح فإذا مررت بقبره فاعقر به … كوم الجلاد وكلّ طرف سابح (¬4) وانضح جوانب قبره بدمائها … فلقد يكون أخا دم وذبائح معناه: «فلقد كان كذلك». ¬

_ (¬1) د، ف: «الفضائل مصعدا»، وفى حاشيتى الأصل، ف: «أى بلغت درجة من كان قبلى». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «هذه قصيدة رواها الأصمعى لزياد الأعجم، وتروى للصلتان العبدىّ؛ وهى إحدى المراثى السبع، وقال غيره: هى لزياد الأعجم؛ وهو من عبد القيس، وكان يلقب بالصلتان، وإنما قيل له الأعجم للثغة فى لسانه، ويقال: إنه نشأ فى العجم، وكان من أشعر أهل زمانه؛ وكان اصطفاه المهلب بن أبى صفرة الأزدى؛ فكان زياد يمدحه وأهله، وكان ألثغ، يقول للجرادة «زرادة»، فقال له شاعر: وما صفراء تدعى أم عوف … كأنّ رجيلتيها منجلان فقال زياد: أردت زرادة وأظنّ أخرى … أردت بما أردت به لسانى وكان يقول: «أنا أقول «السعر»، و «الأرب» تقوم لى، أراد «الشعر»، و «العرب». والقصيدة فى أمالى اليزيدى 1 - 7. (¬3) فى الأمالى: «والغزىّ» كغنى. (¬4) الكوم: جمع كوماء؛ وهى الناقة السمينة؛ والجلاد: جمع جلدة؛ وهى أدسم الإبل لبنا. وفى د: «كوم المطىّ»، وفى الأمالى: «كوم الهجان». والطرف: الأصيل من الخيل. والسابح: الّذي يجرى بقوة. وفى أمالى اليزيدى: «لما أنشد زياد الأعجم المهلب هذا الموضع من القصيدة قال: أعقرت يا أبا أمامة؟ قال: لا والله، أصلحك الله! قال: ولم؟ قال: لأنى كنت على ابنة الأتان، قال: أما إنك لو عقرت ما بقى بالبصرة طرف عتيق، ولا حمل نجيب إلا شدّ بمربطك أو نيخ بفنائك».

تأويل خبر"لا عدوى ولا هامة ولا طيرة"

تأويل خبر [«لا عدوى ولا هامة ولا طيرة»] إن سأل سائل فقال: كيف يطابق ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: «لا عدوى ولا هامة ولا طيرة» وأنه قيل له: إن النّقبة (¬1) تقع بمشفر البعير فتجرب لذلك الإبل، فقال عليه السلام: «فما أعدى الأول؟ » لما روى عنه عليه السلام من قوله: «لا يوردنّ ذو عاهة على مصحّ»، وقوله: «فرّ من المجذوم فرارك من الأسد»، وأن رجلا مجذوما أتاه ليبايعه بيعة الإسلام فأرسل إليه بالبيعة، وأمره بالانصراف، ولم يأذن له عليه السلام، وروى عنه عليه السلام أنه قال: «الشؤم فى المرأة والدار والدّابة»؛ وظواهر هذه الأخبار متنافية متناقضة فبيّنوا وجه الجمع بينها. الجواب، قلنا: إن ابن قتيبة قد سأل نفسه عن اختلاف هذه الأخبار، وأجاب عن ذلك بما نذكره على وجهه، ونذكر ما عندنا فيه، فإنه خلّط/ وأتى بما ليس بمرضىّ. قال: " إنّ لكلّ (¬2) من هذه الأخبار معنى وموضعا؛ فإذا وضع موضعه زال الاختلاف". قال: " وللعدوى معنيان: أحدهما عدوى الجذام، وإنّ المجذوم تشتد رائحته حتى تسقم فى الحال مجالسيه ومؤاكليه، وكذلك المرأة تكون تحت المجذوم فتضاجعه فى شعار واحد، فيوصل إليها الأذى؛ وربما جذمت، وكذلك ولده ينزعون فى الكبر إليه، وكذلك من كان به سلّ ودقّ (¬3)، والأطباء تأمر بألّا يجالس المسلول والمجذوم؛ ولا يريدون بذلك معنى العدوى؛ وإنما يريدون بذلك تغيّر الرائحة، وأنها قد يسقم فى الحال اشتمامها. والأطباء أبعد الناس من الإيمان بيمن أو شؤم، وكذلك النّقبة تكون بالبعير وهو جرب رطب، فإذا خالط الإبل وحاكّها أوصل إليها بالماء الّذي يسيل منه نحوا مما به؛ فهذا هو المعنى الّذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله: «لا يوردنّ ذو عاهة على مصحّ» ". ¬

_ (¬1) النقبة: أول شيء يظهر من الجرب؛ وجمعها نقب. (وانظر نهاية ابن الأثير 4: 168). (¬2) تأويل مختلف الأحاديث ص 123 وما بعدها؛ مع اختلاف فى العبارة. (¬3) الدق: نوع من الحمى.

قال: " وقد ذهب قوم إلى أنه أراد بذلك ألّا يظن أنّ الّذي نال إبله من ذوات العاهة، فيأثم." قال: " وليس لهذا عندى وجه؛ لأنا نجد الّذي خبرتك به عيانا» ". قال: " وأما الجنس الآخر من العدوى فهو الطاعون ينزل ببلد فيخرج منه خوفا من الطاعون، وحكى عن الأصمعىّ عن بعض البصريين أنه هرب من الطاعون، فركب حمارا ومضى بأهله نحو سفوان (¬1)، فسمع حاديا يحدو خلفه، وهو يقول: لن يسبق الله على حمار … ولا على ذى ميعة مطار (¬2) أو يأتى الحقّ (¬3) على مقدار … قد يصبح الله أمام السّارى وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «إذا كان بالبلد الّذي أنتم فيه فلا تخرجوا منه». وقال أيضا: «إذا كان ببلد فلا تدخلوه»؛ يريد بقوله: «لا تخرجوا» من البلد إذا كان فيه. كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله تعالى ينجيكم؛ ويريد بقوله: «إذا كان ببلد فلا تدخلوه» إن مقامكم بالموضع الّذي لا طاعون فيه أسكن لأنفسكم، وأطيب لعيشكم/". قال: " ومن ذلك المرأة تعرف بالشؤم، والدار، فينال الرجل مكروها أو جائحة فيقول: أعدتنى بشؤمها» ". قال: " فهذا الّذي قال فيه عليه السلام: «لا عدوى» ". " فأما الحديث الّذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «الشؤم فى المرأة والدار والدابّة» فإن هذا يتوهّم فيه الغلط على أبى هريرة، وأنه سمع من النبي صلى الله عليه وآله شيئا فلم يعه." وروى ابن قتيبة خبرا ورفعه إلى أبى حسّان الأعرج أنّ رجلين دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة يحدّث عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «إنما الطّيرة فى المرأة والدار والدابة»، فطارت ¬

_ (¬1) سفوان: منزل قريب من البصرة. (¬2) الميعة: مصدر ماع الفرس إذا جرى. (¬3) حاشية الأصل: «نسخة س: الحتف»، وهى رواية ابن قتيبة.

شققا (¬1) فقالت: كذب والّذي أنزل القرآن على أبى القاسم، من حدث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله! وإنما قال رسول الله: «كان أهل الجاهلية يقولون: إن الطيرة فى المرأة والدار والدابة»، ثم قرأت: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها؛ [الحديد: 22]. وروى خبرا يرفعه إلى أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله إنا نزلنا دارا فكثر فيها عددنا، وكثر بها أموالنا، ثم تحولنا منها إلى أخرى، فقلّت فيها أموالنا، وقلّ عددنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: «ذروها فهى ذميمة». قال ابن قتيبة: " وهذا ليس ينقض الحديث الأول؛ وإنما أمرهم بالتحوّل منها؛ لأنهم كانوا مقيمين فيها على استثقال ظلّها، واستيحاش لما نالهم فيها، فأمرهم بالتحوّل منها، وقد جعل الله فى غرائز الناس وتركيبهم استثقال ما نالهم السوء فيه؛ وإن كان لا سبب لهم فى ذلك؛ وحب من جرى على يده الخير لهم وإن لم يردهم به، وبغض من جرى على يده الشر لهم وإن لم يردهم به. قال سيدنا أدام الله علوه: ما وجدنا ابن قتيبة عمل شيئا أكثر من أنه لما أعجزه تأويل الأخبار التى سأل نفسه عنها، والمطابقة بينها وبين قوله عليه السلام: «لا عدوى ولا طيرة» ادّعى الخصوص فيما ظاهره العموم، وخصّ العدوى بشيء دون آخر؛ وكلاهما سواء، وأورد تأويلا/ يدفعه نص قول النبي صلى الله عليه وآله؛ لأنه عليه السلام لما سئل عن النّقبة تقع بمشفر البعير فتجرب لذلك الإبل قال عليه السلام: «فما أعدى الأول؟ » تكذيبا بعدوى هذه النّقبة وتأثيرها، فاطّرح ابن قتيبة ذلك، وزعم أن الجرب يعدى ويؤثر فى المخالط والمؤاكل، وعوّل فى ذلك على قول الأطباء، وترك قول الرسول صلى الله عليه وآله. ومن طريف أمره أنه قال: " إن الأطباء ينهون عن مجالسة المسلول والمجذوم؛ ولا يريدون ¬

_ (¬1) الشفقة فى الأصل: القطع.

بذلك معنى العدوى، وإنما يريدون تغيّر الرائحة؛ وأنها تسقم من أدمن اشتمامها". وهذا غلط لأن الأطباء إنما تنهى عن ذلك خوفا من العدوى، وسبب العدوى عندهم هو اشتمام الرائحة، وانفصال أجزاء من السقيم إلى الصحيح، وليس إذا كان غير هذا عدوى عند قوم ما يوجب ألّا يكون هذا أيضا من العدوى. ولما حكى عن غيره تأويلا صحيحا فى قوله عليه السلام. «لا يوردنّ ذو عاهة على مصحّ» ادّعى أن العيان يدفع، وأىّ عيان معه! ونحن نجد كثيرا ممن يخالط الجربى فلا يجرب، ونجد إبلا صحاحا تخالط ذوات العاهات فلا يصيبها شيء من أدوائها؛ فكأنه إنما يدّعى أن العيان يدفع قول النبي صلى الله عليه وآله: «فما أعدى الأول»؟ والوجه عندنا فى قول النبي عليه السلام: «لا يوردنّ ذو عاهة على مصحّ» أنه عليه السلام إنما نهى عن ذلك؛ وإن لم يكن مؤثرا على الحقيقة؛ لأنّ فاعله كالمدخل الضرر على غيره؛ لأنّ من اعتقد أن ذلك يعدى ويؤثر فأورد على إبله؛ فلا بدّ من أن يلحقه لما تقدم من اعتقاده ضرر وغمّ، ولا بدّ من أن يذم من عامله بذلك؛ فكأنه عليه السلام نهى عن أذى الناس والتعرّض لذمهم. وقد يجوز أيضا فيه ما حكاه ابن قتيبة عن غيره مما لم يرتضه من أنهم متى ظنوا ذلك اثموا فنهى عليه السلام عن التعرض لما يؤثم. ولو نقل ابن قتيبة ما قاله عليه السلام فى الطاعون: «إذا كان ببلد فلا تدخلوه»، وأمره لمن شكا إليه ما لحقه فى الدار بالتحوّل عنها إلى هاهنا لكان قد أصاب، لأنه حمل ذلك على أن تجنّب البلد أسكن للنفس وأطيب للعيش؛ / وكذلك الدار، وهذا يمكن فى قوله عليه السلام: «لا يوردنّ ذو عاهة على مصحّ» بعينه. فأما قوله عليه السلام: «فرّ من المجذوم فرارك من الأسد»، فليس فيه أنّ ذلك لأجل العدوى؛ وقد يمكن أن يكون لأجل نتن ريحه واستقذاره، ونفور النفس عنه، وأن ذلك ربما دعا إلى تعييره والإزراء عليه. وامتناعه عليه السلام من إدخال المجذوم عليه ليبايعه

يجوز أن يكون الغرض فيه غير العدوى؛ بل بعض الأسباب المانعة التى ذكرنا بعضها. وأما حديث الطاعون والقول فيه على ما قاله؛ فقد كان سبيله لما عوّل فى عدوى الجذام والجرب على قول الأطباء أن يرجع أيضا إلى أقوالهم فى الطاعون؛ لأنهم يزعمون أنّ الطاعون الّذي يعرض من تغير الأهوية وما جرى مجراها يعدى كعدوى الجرب والجذام، والعيان الّذي ادعاه ليس هو أكثر من وجود من يجرب أو يجذم لمخالطة من كان بهذه الصفة. وهذا العيان موجود فى الطاعون؛ فإنا نرى عمومه لمن يسكن البلد الّذي يكون فيه، ويطرأ إليه. فأما الخبر الّذي يتضمّن أن الشؤم فى المرأة والدار والدابة، فالّذى ذكره من الرواية فى معناه يزيل الشبهة به؛ على أنه لو لم يكن هاهنا رواية فى تأويله جاز أن يحمل على أن الّذي يتطير به المتطيّرون، ويدّعون أن الشؤم فيه هو المرأة، والدار، والدابة؛ ولا يكون ذلك إثباتا للطّيرة والشؤم فى هذه الأشياء؛ بل على طريق الإخبار بأنّ الطّيرة الثابتة إنما هى فيها لقوّة أمرها عند أصحاب الطّيرة وما ذكره بعد ذلك فى الدار؛ وأمره عليه السلام بانتقاله عنها تأويل قريب؛ وكان يجب أن يهتدى إليه فيما تقدم. وما التوفيق إلا من عند الله.

69

مجلس آخر 69 تأويل آية [وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ] إن سأل سائل عن تأويل قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ؛ [الشورى: 51]. فقال: أوليس ظاهر هذا الكلام يقتضي جواز الحجاب عليه وأنتم تمنعون من ذلك! الجواب، / قلنا: ليس فى الآية أكثر من ذكر الحجاب، وليس فيها أنه حجاب له تعالى أو لمحلّ كلامه أو لمن يكلّمه. وإذا لم يكن فى الظاهر شيء من ذلك جاز صرف الحجاب إلى غيره عز وجل؛ مما يجوز أن يكون محجوبا. وقد يجوز أن يريد تعالى بقوله: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أنه يفعل كلاما فى جسم محتجب على المكلّم، غير معلوم له على سبيل التفصيل، فيسمع المخاطب الكلام ولا يعرف محلّه على طريق التفصيل، فيقال على هذا: هو مكلّم من وراء حجاب. وروى عن مجاهد فى قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً قال: هو داود أوحى فى صدره فزبر الزّبور، أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ وهو موسى، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا وهو جبريل إلى محمد صلى الله عليه وآله. فأما الجبّائىّ فإنه ذكر أنّ المراد بالآية: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلا مثل ما يكلّم به عباده من الأمر بطاعته، والنهى لهم عن معاصيه، وتنبيهه إيّاهم على ذلك من جهة الخاطر أو المنام، وما أشبه ذلك على سبيل الوحى. قال: وإنما سمى الله تعالى ذلك وحيا لأنه خاطر وتنبيه، وليس هو كلاما لهم على سبيل الإفصاح، كما يفصح الرجل منّا لصاحبه إذا خاطبه. والوحى فى اللغة إنما هو ما جرى مجرى الإيماء والتنبيه على شيء من غير أن يفصح به؛ فهذا هو معنى ما ذكره الله تعالى فى الآية.

قال: وعنى بقوله: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أن يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه، إلا من يريد أن يكلّمه به؛ نحو كلامه تعالى لموسى عليه السلام، لانه حجب ذلك عن جميع الخلق إلا موسى عليه السلام وحده فى كلامه إياه أولا. فأما كلامه إياه فى المرة الثانية فإنه إنما أسمع ذلك موسى والسبعين الذين كانوا معه، وحجب (¬1) عن جميع الخلق سواهم. فهذا معنى قوله عز وجل: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، لأن الكلام هو الّذي كان محجوبا عن الناس. وقد يقال: إنه تعالى حجب عنهم موضع الكلام الّذي أقام الكلام فيه؛ فلم يكونوا يدرون من أين يسمعونه؛ لأنّ الكلام عرض لا يقوم إلا فى جسم. ولا يجوز أن يكون أراد بقوله: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أنّ الله تعالى كان مِنْ وَراءِ حِجابٍ/ يكلّم عباده؛ لأن الحجاب لا يجوز إلّا على الأجسام المحدودة. قال: وعنى بقوله: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إرساله ملائكته بكتبه وبكلامه إلى أنبيائه عليهم السلام، ليبلّغوا عنه ذلك عباده على سبيل إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وآله، وإنزاله سائر الكتب على أنبيائه. فهذا أيضا ضرب من الكلام الّذي يكلّم الله تعالى عباده ويأمرهم فيه بطاعته، وينهاهم عن معاصيه؛ من غير أن يكلّمهم على سبيل ما كلم به موسى، وهذا الكلام هو خلاف الوحى الّذي ذكره (¬2) الله تعالى فى أول الآية لأنه قد أفصح لهم فى هذا الكلام بما أمرهم به ونهاهم عنه. والوحى الّذي ذكره تعالى فى أول الآية إنّما هو تنبيه وخاطر، وليس فيه إفصاح. وهذا الّذي ذكره أبو عليّ أيضا سديد، والكلام محتمل لما ذكره. ويمكن فى الآية وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالحجاب البعد والخفاء، ونفى الظهور. وقد تستعمل العرب لفظة «الحجاب» فيما ذكرناه؛ يقول أحدهم لغيره إذا استبعد فهمه، واستبطأ فطنته: بينى وبينك حجاب، وتقول للأمر الّذي تستبعده وتستصعب طريقه: بينى وبين هذا الأمر حجب وموانع وسواتر؛ وما جرى مجرى ذلك؛ فيكون ¬

_ (¬1) د، حاشية ف (من نسخة): «حجبه». (¬2) حاشية الأصل: «ش «ذكر»، بالبناء للمجهول.

معنى الآية: أنّه تعالى لا يكلّم البشر إلّا وحيا؛ بأن يخطر فى قلوبهم، أو بأن ينصب لهم أدلة تدلّهم على ما يريده أو يكرهه منهم؛ فيكون من حيث نصبها للدلالة على ذلك والإرشاد إليه مخاطبا ومكلّما (¬1) للعباد بما يدلّ عليه. وجعل هذا الخطاب من وراء حجاب من حيث لم يكن مسموعا- كما يسمع الخاطر وقول الرسول- ولا ظاهرا معلوما لكل من أدركه؛ كما أن أقوال الرسل المؤدّين عنه تعالى من الملائكة بهذه الصفة. فصار الحجاب هاهنا كناية عن الخفاء وعبارة عمّا تدلّ عليه الدلالة. وليس لأحد أن يقول: إنّ الّذي تدلّ عليه الأجسام من صفاته تعالى وأحواله ومراده. ولا يقال: إنّه تعالى مكلّم لنا به؛ وذلك أنه غير ممتنع على سبيل التجوّز (¬2) أن يقال فيما يدلّ عليه الدليل الّذي نصبه الله تعالى ليدل على مراده، ويرشد إليه: إنه مكلّم لنا ومخاطب به؛ / ولا يمتنع المسلمون أن يقولوا: إنه تعالى خاطبنا بما دلّت عليه الأدلة العقلية، وأمرنا بعبادته واجتناب ما كرهه منا، وفعل ما أراده، وهكذا يقولون فيمن فعل فعلا يدل على أمر من الأمور: قد خاطبنا فلان بما فعل من كذا وكذا، وقال لنا، وأمرنا؛ وزجرنا، وما أشبه ذلك من الألفاظ التى يجرونها على الكلام الحقيقى. وهذا الاستعمال أكثر وأظهر من أن يورد أمثلته ونظائره. *** قال سيدنا أدام الله تمكينه: ومن مستحسن ما قيل فى الذئب قول أسماء بن خارجة ابن حصن الفزارىّ: ولقد ألمّ بنا لنقريه … بادى الشّقاء محارف الكسب (¬3) يدعو الغنى أن نال علقته … من مطعم غبّا إلى غبّ ¬

_ (¬1) د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): «أو مكلما». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «التجويز». (¬3) من قصيدة له فى الأصمعيات 9 - 11، مطلعها: إنّى لسائل كلّ ذى طبّ … ماذا دواء صبابة الصبّ.

وطوى ثميلته وألحقها … بالصّلب بعد لدونة الصّلب يا ضلّ سعيك ما صنعت بما … جمّعت من شبّ إلى دبّ! لو كنت ذا لبّ تعيش به … لفعلت فعل المرء ذى اللّبّ وجمعت صالح ما احترفت وما … جمّمت من نهب إلى نهب وأظنّه شغبا تدلّ به … فلقد منيت بغاية الشّغب أو كان غير مناصل نعصى بها … مشحوذة وركائب الرّكب (¬1) فاعمد إلى أهل الوقير فما … يخشاك غير مقرمص الزّرب أحسبتنا ممّن تطيف به … فاخترتنا للأمن والخصب وبغير معرفة ولا سبب … أنّى، وشعبك ليس من شعبى لمّا رأى أن ليس نافعه … جدّ تهاون صادق الإرب وألحّ إلحاحا لحاجته (¬2) … شكوى الضّرير ومزجر (¬3) الكلب بادى التّكلّح يشتكى سغبا … وأنا ابن قاتل شدّة السّغب / فرأيت أن قد نلته بأذى … من عذم (¬4) مثلبة ومن سبّ ورأيت حقّا أن أضيّفه … إذ أمّ سلمى واتّقى حربى (¬5) فوقفت معتاما أزاولها … بمهنّد ذى رونق عضب فعرضته فى ساق أسمنها … فاجتاز بين الحاذ والكعب ¬

_ (¬1) د، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «إذ كان»؛ ويقال: عصى بالسيف يعصى؛ إذا ضرب، وفى حاشيتى الأصل، ف: «عروض هذا البيت من القطعة سالم، لأنها «متفاعلن»، وأعارض سواه أحذ وضربه أحذ مضمر». (¬2) د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): «لحاجته». (¬3) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «بمزجر الكلب». (¬4) العذم: العض؛ ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «من بعد مثلبة»؛ ومن نسخة أخرى: «من عظم مثلبة». (¬5) فى حاشيتى الأصل، ف: «يجوز أن يكون معناه: فرأيت إن عاملته بشيء يؤذينى ويرجع باللوم والسب عليّ، فأعطيته تفاديا من ذلك.

فتركته (¬1) لعياله جزرا … عمدا وعلّق رحلها صحبى ذكر ذئبا طرقه ليلا. وقوله: «محارف الكسب» مثل ضربه، أى لا يبقى له نشب إلا شيء يكتسبه. وقوله: * يدعو الغنى أن نال علقته* أى إن وجد ما يتعلّق به من مطعم. غبّا: أى بين يومين، فذلك عنده الغنى. والثّميلة: ما يبقى فى البطن من طعام أو علف، ومعنى طوى ثميلته: ذهب بها، وأراد أنه لم يبق فى بطنه ما يمسكه. واللدونة: اللين، واللدن: اللين، فأراد أنه ألحق بقية طعامه بصلبه بعد أن لان ما صلب منها. ثم أقبل على الذئب كالعاذل له فقال: ما صنعت بما جمعت من شبّ إلى دبّ! وهذان اسمان للشباب والهرم لا يفردان ولا يلفظ بهما إلا هكذا، والمعنى فيهما: هو منذ كنت شابا حتى أن دببت على العصا، ثم قال: لو كنت ذا لبّ لجمعت ما تصيبه. ومعنى «احترفت» اكتسبت. ومعنى «من نهب إلى نهب»؛ أى من عدوتك على الغنم إلى العدوة الأخرى. ثم قال: إن كان تعرّضك لنا شغبا علينا فقد منيت بغاية الشّغب؛ أى هو ينافرك ويقاتلك، وليس هاهنا ما تغير عليه، وإنما معنا «مناصل» أى سيوف مشحوذة، وركائبنا التى نمتطيها؛ فاعمد إلى أهل الوقير، والوقير: القطيع من الغنم، ولا يسمّى ووقيرا إلا إذا كان فيه حمار؛ يقول: فعليك بمواضع الغنم فإنما يخشاك الراعى. والمقرمص: الّذي يتخذ القرموصة، وأصله المكان الضيّق، وهو هاهنا ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «فتركتها».

حفرة (¬1) يحتفرها الراعى فى الرمل فى شدة الحر للشاة الكريمة الصفيّة؛ حتى إذا بركت كان ضرعها فى القرموصة. ومعنى «شعبك ليس من شعبى»، أى لست من جنسى ولا شكلى. والإرب: الخديعة عند الحاجة وشكوى الضرير: الّذي قد مسه الضرّ. ومزجر الكلب، أى هو قريب المكان بقدر مزجر الكلب إذا زجرته، أى إذا خسأته. والسّغب: الجوع؛ وأراد/ بقوله: * وأنا ابن قاتل شدة السّغب* أى أنا ابن من كان يقرى ويطعم. ثم رجع إلى كرمه فقال: ورأيت بعد ما سببته وعضضته بالأذى والعذم أن أضيفه وأقريه لأنه ضيف وإن كان ذئبا، فوقفت أنظر فى ركائبى وأختار أسمنها. والاعتيام: الاختيار؛ وأزاولها: ألابسها (¬2). والحاذان: حدّا الفخذين اللذين يليان الذنب. وخبّر أن رحل المطيّة التى عقرها علّقه بعض أصحابه على مطية أخرى. *** وقال النجاشىّ (¬3) يذكر ذئبا: ¬

_ (¬1) د، وحاشية ف (من نسخة): «حفيرة». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «ألامسها». (¬3) هو قيس بن عمرو بن مالك الحارثى؛ ذكره ابن قتيبة فى الشعراء 288 - 293؛ وفى حاشيتى الأصل، ف: «قال ابن دريد: النجاشىّ: كلمة حبشية يسمون ملوكهم بها؛ كما يسمون كسرى وقيصر. وقال غيره: النجاشى، بسكون الياء ولا يجوز تشديده قال س: قرأت أنا بخط ابن جنى: النجاشىّ؛ بكسر النون والتشديد وصحح عليه. وفى شعر الفرزدق «والنجاشيا». وانظر الاشتقاق ص 239 والأبيات فى حماسة ابن الشجرى 207، ومعانى ابن قتيبة 207 - 208. وخزانة الادب: 4 - 367.

وماء كلون الغسل قد عاد آجنا … قليل به الأصوات فى بلد محل (¬1) وجدت عليه الذّئب يعوى كأنّه … خليع خلا من كلّ مال ومن أهل (¬2) فقلت له: يا ذئب هل لك فى فتى … يواسى بلا منّ عليك ولا بخل؟ فقال: هداك الله للرّشد! إنّما … دعوت لما لم يأته سبع قبلى فلست بآتيه ولا أستطيعه … ولاك اسقنى إن كان ماؤك ذا فضل (¬3) فقلت: عليك الحوض إنّى تركته … وفى صغوه فضل القلوص من السّجل (¬4) فطرّب يستعوى ذئابا كثيرة … وعدّيت، كلّ من هواه على شغل (¬5) *** وروى أن الفرزدق نزل بالغريّين فعراه بأعلى ناره ذئب، فأبصره مقعيا يصيء ومع الفرزدق مسلوخة، فرمى إليه بيد فأكلها، فرمى إليه بما بقى فأكله؛ فلما شبع ولى عنه فقال: وليلة بتنا بالغريّين ضافنا … على الزّاد موشيّ الذّراعين أطلس (¬6) تلمّسنا حتى أتانا ولم يزل … لدن فطمته أمّه يتلمّس ¬

_ (¬1) قال البغدادى: «كان النجاشىّ عرض له ذئب فى سفر له، فدعاه إلى طعام وقال له: هل لك ميل فى أخ- يعنى نفسه- يواسيك فى طعامه بغير من ولا بخل؟ فقال له الذئب: قد دعوتنى إلى شيء لم يفعله السباع قبلى من مؤاكلة بنى آدم، وهذا لا يمكننى فعله، ولست بآتيه ولا أستطيعه؛ ولكن إن كان فى مائك الّذي معك فضل عما تحتاج إليه فاسقنى منه. وهذا الكلام وضعه النجاشىّ على لسان ذئب؛ كأنه اعتقد فيه أنه لو كان ممن يعقل أو يتكلم لقال هذا القول. وأشار به إلى تعشقه للفلوات التى لا ماء فيها، فيهتدى الذئب إلى مظانه فيها» والغسل: ما يغسل به من سدر ونحوه، والآجن: الماء المتغير الطعم. وفى المعانى «كلون البول». (¬2) الخليع: الّذي خلعه أهله لجناية وتبرءوا منه. (¬3) البيت من شواهد الرضى على أن حذف النون من «لكن» لالتقاء الساكنين ضرورة؛ تشبيها بالتنوين أو بحرف المد واللين من حيث كانت ساكنة. وأورده سيبويه فى باب ضرورة الشعر (الكتاب 1: 9) وقال الأعلم: «حذف النون لالتقاء الساكنين ضرورة لإقامة الوزن؛ وكان وجه الكلام أن يكسر لالتقاء الساكنين، شبهها فى الحذف بحرف المد واللين؛ إذا سكنت وسكن ما بعدها؛ نحو يغزو العدو، ويقضى الحق، ويخشى الله». (¬4) الصغو: الجانب المائل؛ وضبطت فى الأصل بالفتح والكسر معا، والسجل: الدلو العظيمة. (¬5) التطريب: ترجيع الصوت ومده. (¬6) ديوانه: 485، وحماسة ابن الشجرى 208. أطلس: أغبر تعلوه حمرة.

فلو أنّه إذ جاءنا كان دانيا … لألبسته لو أنه يتلبّس (¬1) ولكن تنحّى جنبة بعد ما دنا … فكان كقاب القوس أو هو أنفس فقاسمته نصفين بينى وبينه … بقيّة زاد والرّكائب نعّس (¬2) وكان ابن ليلى إذ قرى الذّئب زاده … على طارف الظّلماء لا يتعبّس (¬3) ***/ ولابن عنقاء الفزارىّ، واسمه قيس بن بجرة- وقيل بجرة بالضم- الأبيات المشهورة فى الذئب: وأعوج من آل الصّريح كأنّه … بذى الشّثّ سيد آبه الليل جائع (¬4) بغى كسبه أطراف ليل كأنّه … وليس به ظلع من الخمص ظالع فلمّا أتاه (¬5) الرّزق من كلّ وجهة … جنوب الملا وآيسته المطامع (¬6) طوى نفسه طىّ الجرير كأنّه … حوى حيّة فى ربوة، فهو هاجع (¬7) فلمّا أصابت متنه الشّمس حكّه … بأعصل، فى أنيابه السّمّ ناقع (¬8) ¬

_ (¬1) ف: «لو أنه كان يلبس»، وهى رواية الديوان وابن الشجرى. (¬2) د، ف: «زادى»، وهى رواية الديوان. (¬3) د، ف: «طارق الظلماء»؛ وهى رواية الديوان. (¬4) الأبيات فى المؤتلف والمختلف: 158، أعوج: فرس والصريح: فحل من خيل العرب؛ وفى حاشيتى الأصل، ف: «ش: آخر الليل»؛ ورواية البيت فى المؤتلف: ويخطو على صمّ صلاب كأنّه … بذى الشّثّ سيد آخر الليل جائع. (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «أباه». (¬6) حاشية الأصل: «نسخة ابن الشجرى: «أيأسته». (¬7) حاشية الأصل: «حوى حية، أى تحوى حية، وحوى الحية: مقدار استدارتها». (¬8) يريد بالأعصل: الناب المعوج.

وفكّك لحييه فلمّا تعاديا … صأى ثمّ أقعى، والبلاد بلاقع (¬1) وهمّ بأمر ثمّ أزمع غيره، … وإن ضاق رزق مرّة فهو واسع وعارض أطراف الصّبا وكأنّه … رجاع غدير هزّه الرّيح رائع (¬2) ولآخر فى الذئب: فقلت: تعلّم أنّنى غير نائم … إلى مستقلّ بالخيانة أنيبا بعيد المطاف لا يفيد على الغنى … ولا يأتلى ما اسطاع إلّا تكسّبا معنى «أنيب» غليظ الناب. لا أنام إليه، أى لا أثق به، من ذلك استنمت إلى فلان أى اطمأننت إليه. ومعنى «لا يفيد على الغنى» أى لا يلتمس مطعما وهو شبعان. ولحميد بن ثور فى الذئب: فظلّ يراعى الجيش حتى تغيّبت … حباش، وحالت دونهنّ الأجارع (¬3) إذا ما غدا يوما رأيت غيابة (¬4) … من الطّير ينظرن الّذي هو صانع خفيف المعا إلّا مصيرا يبلّه … دم الجوف أو سؤر من الحوض ناقع هو البعل الدّانى من النّاس كالذى … له صحبة وهو العدوّ المنازع ينام بإحدى مقلتيه ويتّقى … بأخرى المنايا، فهو يقظان هاجع / وصف ذئبا يتبع الجيش طمعا فى أن يتخلف رجل يثب عليه لأنه من بين السباع لا يرغب ¬

_ (¬1) صأى: صاح، وهذا البيت والّذي يليه ينسبان لحميد بن ثور (وانظر ديوانه 105، 106). (¬2) رجاع الغدير: ما يتراجع من الماء ويتلفف إذا ضربته الريح. والبيت فى اللسان (رجع). (¬3) من قصيدة فى ديوانه 103 - 106، وفى حاشية الأصل (من نسخة): «حناش»، وفى حاشية ف والأصل أيضا: «فى شعره: * يظلّ يراعى الخنس حيث تيمّمت* ويعنى الخنس بقر الوحش، الواحد أخنس وخنساء. (¬4) الغيابة: كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه.

فى القتلى، ولا يكاد يأكل إلا ما فرسه. وحباش (¬1): اسم هضبة. وقال بعضهم: وليس بمعروف أن حباش اسم من أسماء الشمس: وأخبر أن الطير تتبعه لتصيب مما يقتل. والمصير: المعا. والبعل: الدّهش. ¬

_ (¬1) م: «خباش»، بالخاء المعجمة، تحريف.

70

مجلس آخر 70 تأويل آية [وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً، فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً، فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ؛ [الأعراف: 143]. وقال: ما تنكرون أن تكون هذه الآية دالة على جواز الرؤية عليه عزّ وجلّ! لأنها لو لم تجز لم يجز أن يسألها موسى عليه السلام؛ كما لا يجوز أن يسأل اتخاذ الصاحبة والولد؛ ولو كانت أيضا الرؤية مستحيلة لم يعلّقها بأمر يصح أن يقع وهو استقرار الجبل. فإذا علمنا صحة استقرار الجبل فى موضعه فيجب أن تكون الرؤية أيضا صحيحة فى حكم ما علّقت به. وقوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ يقتضي جواز الحجاب عليه تعالى؛ لأن التجلّى والظهور لا يكونان إلا بعد احتجاب واستتار. الجواب، قلنا: أول ما نقوله إنه ليس فى مسألة الشيء دلالة على صحة وقوعه ولا جوازه؛ لأن السائل يسأل عن الصحيح والمحال، مع العلم وفقد العلم؛ لأغراض مختلفة؛ فلا دلالة فى ظاهر مسألة الرؤية على جوازها. ولأصحابنا عن هذه المسألة أجوبة: أوّلها وهو الأولى والأقوى- أن يكون موسى عليه السلام لم يسأل الرؤية لنفسه؛ وإنما سألها لقومه، فقد روى أنهم طلبوا ذلك منه والتمسوه، فأجابهم بأنها لا تجوز عليه تبارك وتعالى؛ فلم يقنعوا بجوابه، وآثروا أن يرد الجواب من قبل ربه تعالى، فوعدهم ذلك، وغلب فى ظنه أن الجواب إذ ورد من جهته جلّ وعزّ كان أحسم للشبهة؛ وأبلغ فى دفعها عنهم، فاختار السبعين الذين حضروا الميقات؛ / ليكون سؤاله

بمحضر منهم، فيعرفوا ما يرد من الجواب، فسأل وأجيب بما يدلّ على أن الرؤية لا تجوز عليه تعالى. ويقوّى هذا الجواب أشياء، منها قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً؛ [النساء: 153]. ومنها قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ؛ [البقرة: 55]. ومنها قوله تعالى: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا؛ [الأعراف: 155] لأن إضافة ذلك إلى السفهاء تدلّ على أنه كان بسببهم ومن أجلهم؛ وإنما سألوا ما لا يجوز عليه. ومنها ذكر الجهرة فى الرؤية، وهى لا تليق إلا برؤية البصر دون العلم؛ وهذا يقوّى أن الطلب لم يكن للعلم الضرورىّ، على ما سنذكره فى الجواب الثانى. ومنها قوله: أَنْظُرْ إِلَيْكَ لأنا إذا حملنا الآية على طلب الرؤية لقومه أمكن أن يحمل قوله: أَنْظُرْ إِلَيْكَ على حقيقته؛ فإذا حملت الآية على طلب العلم الضرورىّ احتيج إلى حذف فى الكلام، ويصير تقديره: أرنى أنظر إلى الآيات التى عندها أعرفك ضرورة. ويمكن فى هذا الوجه الأخير خاصة أن يقال: إذا كان المذهب الصحيح عندكم هو أنّ النظر فى الحقيقة غير الرؤية، فكيف يكون قوله: أَنْظُرْ إِلَيْكَ حقيقة فى جواب من حمل الآية على طلب الرؤية لقومه؟ فإن قلتم: لا يمتنع أن يكونوا التمسوا الرؤية التى معها يكون النظر والتحديق إلى الجهة، فسأل على حسب ما التمسوا. قيل لكم: هذا ينقض فرقكم فى هذا الجواب بين سؤال الرؤية، وبين سؤال جميع

ما يستحيل عليه من الصاحبة والولد؛ وما يقتضي الجسمية بأن تقولوا: الشك فى الرؤية لا يمنع من صحة معرفة السمع، والشك فى جميع ما ذكر يمنع من ذلك؛ لأن الشكّ الّذي لا يمنع من معرفة السمع إنما هو فى الرؤية التى لا يكون معها نظر، ولا تقتضى التشبيه. فإن قلتم: يحمل/ ذكر النّظر على أن المراد به نفس الرؤية على سبيل المجاز؛ لأنّ من عادة العرب أن يسمّوا الشيء باسم الطريق إليه، وما قاربه وداناه. قلنا: فكأنّكم عدلتم من مجاز إلى مجاز؛ فلا قوة فى هذا الوجه؛ والوجوه التى ذكرناها فى تقوية هذا الجواب المتقدمة أولى. وليس لأحد أن يقول: لو كان عليه السلام إنما سأله الرؤية لقومه لم يضف السؤال إلى نفسه فيقول: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ولا كان الجواب مختصا به؛ وهو قوله تعالى: لَنْ تَرانِي، وذلك لأنه غير ممتنع وقوع الإضافة على هذا الوجه؛ مع أن المسألة كانت من أجل الغير؛ إذا كانت هناك دلالة تؤمن من اللبس وتزيل الشبهة. فلهذا يقول أحدنا إذا شفع فى حاجة غيره للمشفوع له: أسألك أن تفعل بى كذا، وتجيبنى إلى كذا. ويحسن أن يقول المشفوع إليه: قد أجبتك وشفّعتك (¬1)، وما جرى مجرى ذلك؛ وإنما حسن هذا لأن للسائل فى المسألة غرضا (¬2)، وإن رجعت إلى الغير فتحقّقه بها وتكلّفه كتكلّفه إذا اختصه ولم يتعدّه. فإن قيل؛ كيف يجوز منه عليه السلام مع علمه باستحالة الرؤية عليه تعالى أن يسأل فيها لقومه! ولئن جاز ذلك ليجوزنّ أن يسأل لقومه سائر ما يستحيل عليه من كونه جسما، وما أشبهه متى شكّوا فيه. قلنا: إنما صحّ ما ذكرناه فى الرؤية ولم يصحّ فيما سألت عنه؛ لأن مع الشك فى جواز الرؤية التى لا تقتضى كونه جسما يمكن معرفة السمع، وأنه حكيم صادق فى أخباره، فيصح ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «أسعفتك». (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «أغراضا».

أن يعرفوا بالجواب الوارد من جهته تعالى استحالة ما شكّوا فى صحته وجوازه؛ ومع الشك فى كونه جسما لا يصحّ معرفة السمع، فلا يقع بجوابه انتفاع ولا علم. وقد قال بعض من تكلم فى هذه الآية: قد كان جائزا أن يسأل موسى عليه السلام لقومه ما يعلم استحالته؛ وإن كانت دلالة السمع لا تثبت قبل معرفته؛ متى كان المعلوم أن فى ذلك صلاحا للمكلّفين فى الدين، وإنّ ورود الجواب يكون لطفا لهم فى النظر فى الأدلة، وإصابة الحق منها؛ غير/ أن من أجاب بذلك شرط أن يتبين النبي عليه السلام فى مسألته علمه باستحالة ما سأل عنه، وأن غرضه فى السؤال ورود الجواب ليكون لطفا. والجواب الثانى فى الآية أن يكون موسى عليه السلام إنما سأل ربّه أن يعلمه نفسه ضرورة بإظهار بعض أعلام الآخرة، التى تضطرّ إلى المعرفة، فتزول عنه الدواعى والشكوك والشبهات، ويستغنى عن الاستدلال، فتخفّ المحنة عليه بذلك؛ كما سأل إبراهيم عليه السلام ربه تعالى أن يريه كيف يحيى الموتى طلبا لتخفيف المحنة، وإن كان قد عرف ذلك قبل أن يراه؛ والسؤال إن وقع بلفظ الرؤية فإن الرؤية تفيد العلم كما تفيد الإدراك بالبصر، وذلك أظهر من أن يستدل عليه أو يستشهد عليه؛ فقال له جل وعز: لَنْ تَرانِي أى لن تعلمنى على هذا الوجه الّذي التمسته منى، ثم أكّد ذلك بأن أظهر فى الجبل من آياته وعجائبه ما دلّ به على أنّ إظهار ما تقع به المعرفة الضرورية فى الدنيا مع التكليف وبيانه لا يجوز، وأن الحكمة تمنع منه. والوجه الأول أولى لما ذكرناه من الوجوه؛ ولأنه لا يخلو موسى عليه السلام من أن يكون شاكّا فى أنّ المعرفة الضرورية لا يصح دخولها (¬1) فى الدنيا أو عالما بذلك. فإن كان شاكا فهذا مما لا يجوز على النبي عليه السلام؛ لأن الشكّ فيما يرجع إلى أصول الديانات وقواعد التكليف لا يجوز عليهم، ولا سيما أن يعلم الله ذلك على حقيقتهم بعض أمتهم، فيزيد عليهم فى المعرفة؛ وهذا أبلغ فى التنفير عنهم من كل شيء يمنع (¬2) منه فيهم. وإن كان عالما فلا وجه لسؤاله إلا أن ¬

_ (¬1) ف: «حصولها». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «يمتنع منه».

يقال: إنه سال لقومه، فيعود إلى معنى الجواب الأول. والجواب الثالث فى الآية ما حكى عن بعض من تكلم فى هذه الآية من أهل التوحيد وهو أن قال: يجوز أن يكون موسى عليه السلام/ فى وقت مسألته ذلك كان شاكا فى جواز الرؤية على الله تعالى؛ فسأل عن ذلك ليعلم هل يجوز عليه أم لا. قال: وليس شكّه فى ذلك بمانع من أن يعرف الله تعالى بصفاته، بل يجرى مجرى شكّه فى جواز الرؤية على بعض ما لا يرى من الأعراض فى أنه غير مخلّ بما يحتاج إليه فى معرفته تعالى؛ فلا يمتنع أن يكون غلطه فى ذلك ذنبا صغيرا أو تكون التوبة الواقعة منه لأجل ذلك. وهذا الجواب يبعد من قبل أن الشك فى جواز الرؤية التى لا تقتضى تشبيها، وإن كان لا يمنع من معرفته تعالى بصفاته فإن الشكّ فى ذلك لا يجوز على الأنبياء من حيث يجوز من بعض من بعثوا إليه أن يعرف ذلك على حقيقته، فيكون النبىّ شاكا فيه وغيره عارفا به؛ مع رجوعه إلى المعرفة بالله تعالى، وما يجوز علينا فلا يجوز عليهم، وهذا أقوى فى التنفير وأزيد على كل ما يوجب أن يجنّبه الأنبياء. فإن قيل: ففى (¬1) أىّ شيء كانت توبة موسى عليه السلام على الجوابين المتقدمين؟ . قلنا: اما من ذهب إلى أن المسألة كانت لقومه فإنه يقول: إنما تاب لأنه أقدم على أن سأل على لسان قومه ما لم يؤذن له فيه؛ وليس للأنبياء ذلك؛ لأنه لا يؤمن أن يكون الصلاح فى المنع منه، فيكون ترك إجابتهم إليه منفّرا عنهم. ومن ذهب إلى أنه سأل المعرفة الضرورية يقول: إنه تاب من حيث سأل معرفة لا يقتضيها التكليف. وعلى جميع الأحوال تكون التوبة من ذنب صغير لا يستحق عليه العقاب ولا الذم. والأولى أن يقال فى توبته عليه السلام: إنه ليس فى الآية ما يقتضي أن تكون التوبة وقعت من المسألة أو من أمر يرجع إليها؛ وقد يجوز أن يكون سأل ذلك؛ إما لذنب صغير تقدم ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «فعن».

تلك الحال، أو تقدم النبوة فلا ترجع إلى المسألة. وقد يجوز أن يكون ما أظهره من التوبة على سبيل الرجوع إلى الله تعالى؛ وإظهار الانقطاع إليه، والتقرب منه، وإن لم يكن هناك ذنب معروف. وقد يجوز أن يكون الغرض فى ذلك مضافا إلى ما قلناه تعليما وتوفيقا على ما نستعمله وندعو به عند الشدائد ونزول الأهوال، وتنبيه القوم المخطئين خاصة على التوبة مما التمسوه من الرؤية/ المستحيلة عليه تعالى؛ فإن الأنبياء، وإن لم يقع منهم القبيح عندنا فقد يقع من غيرهم؛ ويحتاج من وقع ذلك منه إلى التوبة والاستقالة. فأما قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فإن التجلّى هاهنا التعريف والإعلام والإظهار لما تقتضى المعرفة، كقولهم: هذا كلام جلىّ أى واضح، وكقول الشاعر: تجلّى لنا بالمشرفيّة والقنا … وقد كان عن وقع الأسنّة نائيا أراد أن تدبيره دل عليه حتى علم أنه المدبّر له وإن كان نائيا عن وقع الأسنة، فأقام ما ظهر من دلالة فعله مقام مشاهدته، وعبر عنه بأنه تجلّى منه. وفى قوله: لِلْجَبَلِ وجهان: أحدهما أن يكون لأهل الجبل، ومن كان عند الجبل، فحذف؛ كما قال تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82]؛ فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ؛ [الدخان: 29]؛ وقد علمنا أنه بما أظهره من الآيات إنما دلّ من كان عند الجبل على أن رؤيته تعالى غير جائزة. والوجه الآخر أن يكون معنى لِلْجَبَلِ أى بالجبل، فأقام اللام مقام الباء؛ كما قال تعالى: آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؛ [الأعراف: 123]؛ أى به؛ وكما يقولون: أخذتك لجرمك وبجرمك.

ولما كانت الآية الدالة على منع ما سئل فيه إنما حلّت الجبل وظهرت فيه جاز أن يضاف التجلى إليه. وقد استدل بهذه الآية كثير من العلماء الموحّدين على أنه تعالى لا يرى بالأبصار من حيث نفى الرؤية نفيا عاما بقوله تعالى: لَنْ تَرانِي؛ ثم أكّد ذلك بأن علّق الرؤية باستقرار الجبل الّذي علمنا أنه لم يستقرّ. وهذه طريقة للعرب فى تبعيد الشيء؛ لأنهم يعلّقونه بما يعلم أنه لا يكون؛ كقولهم: لا كلمتك ما أضاء الفجر، وطلعت الشمس؛ وكقول الشاعر: إذا شاب الغراب رجوت أهلى … وصار القار كاللبن الحليب ومما يجرى هذا المجرى قوله تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ؛ [الاعراف: 40]. وليس لأحد أن يقول: إذا علّق الرؤية باستقرار الجبل؛ وكان ذلك فى مقدوره، فيجب أن تكون الرؤية معلقة به أيضا فى مقدوره؛ بأنه لو كان الغرض بذلك التبعيد لعلّقه بأمر يستحيل، كما علّق/ دخولهم الجنة بأمر مستحيل؛ من ولوج الجمل فى سمّ الخياط؛ وذلك أن تشبيه الشيء بغيره لا يجب أن يكون من جميع الوجوه؛ ولمّا علّق وقوع الرؤية باستقرار الجبل- وقد علم أنه لا يستقرّ- علم نفى الرؤية. وما عدا ذلك من كون الرؤية مستحيلة وغير مقدورة، واستقرار الجبل بخلافها يخرج عن ما هو الغرض فى التشبيه على أنه إنما علّق تعالى جواز الرؤية باستقرار الجبل فى تلك الحال التى جعله فيها دكّا، وذلك محال لما فيه من اجتماع الضّدين، فجرى مجرى جواز الرؤية فى الاستحالة. وليس يجب فى كل ما علّق بغيره أن يجرى مجراه فى سائر وجوهه؛ حتى إذا كان أحدهما مع انتفائه مستحيلا كان الآخر بمثابته؛ لأن تعلّق دخول الكفار الجنة إنما علّق بولوج الجمل فى سمّ الخياط؛ وولوج الجمل فى سمّ الخياط مستحيل، بل معلوم أن الأول فى المقدور وإن كان لا يحسن والثانى ليس فى المقدور. وهذه الجملة كافية فى تأويل هذه الآية، وبيان ما فيها، والحمد لله. ***

قال سيدنا أدام الله تمكينه: وإنى لأستجيد قول أبى العيص بن حرام بن عبد الله بن قتادة بن جابر بن ربيعة بن كابية (¬1) المازنىّ رضى الله عنه. وكم من صاحب قد بان عنّى … رميت بفقده وهو الحبيب (¬2) فلم أبد الّذي تحنو ضلوعى … عليه، وإنّنى لأنا الكئيب مخافة أن يرانى مستكينا … عدوّ أو يساء به قريب فيشمت كاشح ويظنّ أنّى … جزوع عند نائبة تنوب فبعدك شدّت الأعداء طرفا … إلى ورابنى دهر مريب معنى، شدّت الأعداء طرفا، أى نظرت إلى نظرا شديدا (¬3) فظهر الغضب فى عيونها- وأنكرت الزّمان وكلّ أهلى … وهرّتنى لغيبتك الكليب يقال: كلب وكليب مثل عبد وعبيد- وكنت تقطّع الأبصار دونى … وان وغرت من الغيظ القلوب ويمنعنى من الأعداء أنّى … وإن رغموا لمخشىّ مهيب / فلم أر مثل يومك كان يوما … بدت فيه النّجوم فما تغيب وليل ما أنام به طويل … كأنّى للنّجوم به رقيب وما يك جائيا لا بدّ منه … إليك فسوف تجلبه الجلوب ¬

_ (¬1) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «حارثة». (¬2) الأبيات فى لباب الآداب 407، 408 مع اختلاف فى الرواية وعدد الأبيات. (¬3) ف: «شزرا».

71

مجلس آخر 71 تأويل آية [وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ؛ [البقرة: 72، 73]. فقال: كيف ذكر تعالى هذا بعد ذكره (¬1) البقرة والأمر بذبحها؟ وقد كان ينبغى أن يتقدّمه، لأنه إنما أمر بذبح البقرة لينكشف أمر القاتل، فكيف أخّر ذكر السبب عن المسبب، وبنى الكلام بناء يقتضي أنه كان بعده؟ ولم قال: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً، والرواية وردت بأن القاتل كان واحدا؟ وكيف يجوز أن يخاطب الجماعة بالقتل والقاتل بينها واحد! وإلى أىّ شيء وقعت الإشارة بقوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى؟ . الجواب، قيل له: أما قوله تعالى؛ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ففيه وجهان: أولهما أن تكون هذه الآية- وإن أخّرت- فهى مقدّمة فى المعنى على الآية التى ذكرت فيها البقرة؛ ويكون التأويل: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها فسألتم موسى فقال: إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، فأخر المقدم وقدم المؤخر؛ ومثل هذا فى القرآن وكلام العرب كثير. ومثله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً [الكهف: 1، 2]. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «بعد ذكر البقرة».

وقال الشاعر: إنّ الفرزدق صخرة ملمومة … طالت- فليس تنالها- الأوعالا (¬1) أراد: طالت الأوعال فليس تنالها. ومثله: طاف الخيال وأين منك لماما! … فارجع لزورك بالسّلام سلاما أراد: طاف الخيال لماما وأين هو منك! والوجه الثانى أن يكون وجه تأخير قوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً أنه علّق بما هو متأخر فى الحقيقة، وواقع بعد ذبح البقرة، وهو قوله تعالى: / فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى؛ لأن الأمر بضرب المقتول ببعض البقرة إنما هو بعد الذبح؛ فكأنه تعالى قال: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ولأنكم قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها أمرناكم أن تضربوه ببعضها، لينكشف أمره. فأما إخراج الخطاب مخرج ما يتوجّه إلى الجميع مع أن القاتل واحد فعلى عادة العرب فى خطاب الأبناء بخطاب الآباء والأجداد، وخطاب العشيرة بما يكون من أحدها؛ فيقول أحدهم: فعلت بنو تميم كذا، وقتل بنو فلان فلانا؛ وإن كان القاتل والفاعل واحدا من بين الجماعة؛ ومنه قراءة من قرأ: يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة: 111]؛ بتقديم المفعولين على الفاعلين؛ وهو اختيار الكسائى وأبى العباس ثعلب؛ فيقتل بعضهم ويقتلون؛ وهو أبلغ فى وصفهم، وأمدح لهم، لأنهم إذا قاتلوا وقتلوا بعد أن قتل بعضهم كان ذلك أدلّ على شجاعتهم وقلة جزعهم وحسن صبرهم. وقد قيل: إنه كان القاتلان اثنين، قتلا ابن عم لهما، وإن الخطاب جرى عليهما بلفظ الجمع؛ كما قال تعالى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ [الأنبياء: 79]؛ يريد داود وسليمان ¬

_ (¬1) البيت فى شرح شواهد سيبويه للأعلم (2: 356).

عليهما السلام؛ والوجه الأول أولى وأقوى بشهادة الاستعمال الظاهر له، ولأن أكثر أهل العلم أجمعوا على أن القاتل كان واحدا. ومعنى فَادَّارَأْتُمْ فتدارأتم؛ أى تدافعتم، وألقى بعضكم القتل على بعض؛ يقال: دارأت فلانا إذا دافعته وداريته، إذا لاينته، ودريته إذا ختلته؛ ويقال: ادّرأ القوم إذا تدافعوا. والهاء فى قوله: فَادَّارَأْتُمْ فِيها تعود إلى النفس، وقيل: إنها تعود على القتلة، أى اختلفتم فى القتلة؛ لأن قَتَلْتُمْ تدل على المصدر؛ والقتلة من المصادر، تدل عليها الأفعال، ورجوع الهاء إلى النفس أولى وأشبه بالظاهر. فأما قوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى فالإشارة وقعت به إلى قيام المقتول عند ضربه ببعض أعضاء البقرة؛ لأنه روى أنه قام حيا وأوداجه تشخب دما، فقال: قتلنى فلان! ونبّه الله تعالى بهذا الكلام وبذكر هذه القصة على جواز ما أنكره مشركو قريش واستبعدوه من البعث وقيام الأموات؛ لأنهم قالوا: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً؛ [الإسراء: 49]؛ فأخبرهم الله تعالى بأنّ الّذي/ أنكروه واستبعدوه هيّن عليه، غير متعذر فى اتساع قدرته. وكان مما ضرب تعالى لهم من الأمثال، ونبّههم عليه من الأدلة ذكر المقتول الّذي ضرب ببعض البقرة فقام حيا. وأراد تعالى: أننى إذا كنت قد أحييت هذا المقتول بعد خروجه عن الحياة، ويئس قومه من عوده وانطواء خبر كيفية قتله عنهم، ورددته حيا مخاطبا باسم قاتله؛ فكذلك فاعلموا أن إحياء جميع الأموات عند البعث لا يعجزنى ولا يتعذر عليّ. وهذا بين لمن تأمله. *** قال سيدنا أدام الله علوّه: ومن الشعر المشهور بالجودة فى ذم الدنيا والتذكير بمصائبها قول

نهشل بن (¬1) حرّىّ يرثى أخاه مالكا: ذكرت أخى المخوّل بعد يأس (¬2) … فهاج عليّ ذكراه اشتياقى فلا أنسى أخى ما دمت حيّا … وإخوانى بأقرنة العناق (¬3) يجرّون الفصال إلى النّدامى … بروض الحزن من كنفى أفاق (¬4) ويغلون السّباء إذا أتوه … بضمر الخيل والشّول الحقاق (¬5) إذا اتّصلوا وقالوا: يا لغوث! … وراحوا فى المحبّرة الرّقاق (¬6) أجابك كلّ أروع شمّرىّ … رخىّ البال منطلق الخناق (¬7) أناس صالحون نشأت فيهم … فأودوا بعد إلف واتساق مضوا لسبيلهم ولبثت عنهم … ولكن لا محالة من لحاق (¬8) كذى الإلف الّذي أدلجن عنه … فحنّ ولا يتوق إلى متاق (¬9) ¬

_ (¬1) هو نهشل بن حرىّ بن ضمرة بن ضمرة، شاعر شريف مشهور مخضرم، بقى إلى أيام معاوية، وكان مع على فى حروبه، وقتل أخوه مالك بصفين؛ وهو يومئذ رئيس بنى حنظلة، وكانت رايتهم معه؛ ورثاه نهشل بمراث كثيرة. (وانظر الشعر والشعراء 619 - 621). (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: رواية أبى محمد الأسود: بعد هدء». (¬3) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «العناق، بفتح العين وكسرها: موضع». (¬4) «أفاق: موضع فى بلاد يربوع. (¬5) فى حاشيتى الأصل، ف: «السباء فى الأصل: شراء الخمر، وأراد هاهنا نفس الخمر؛ وعلى هذا قول لبيد: * أغلى السّباء بكلّ ادكن عاتق* والشول: جمع شائلة؛ وهى الناقة التى خف لبنها وارتفع ضرعها وأتى عليها سبعة أشهر من يوم نتاجها، والحقاق: الضوامر، يعنى أنهم يبيعون الخيل والإبل ويشترون بها الخمر. (¬6) المحبرة: الثياب المنقشة. (¬7) الأروع: الّذي يعجبك حسنه وجماله، والشمرىّ: الماضى فى الأمور؛ وفى حاشية الأصل (من نسخة): «دارمىّ». (¬8) حاشية الأصل: «نسخة س: «لا محالة فى لحاق»، ورواية الأسود «فى لحاقى». (¬9) فى حاشيتى الأصل، ف من نسخة: «كذا الإلف».

أرى الدّنيا ونحن نعيث فيها … مولّية تهيّأ لانطلاق أعاذل قد بقيت بقاء قيس … وما حىّ على الدّنيا بباق [هبطت السّيلحين وذات عرق … وأوردت المطىّ على حذاق] (¬1) كأنّ الشّيب والأحداث تجرى … إلى نفس الفتى فرسا سباق فإما الشّيب يدركه وإما … يلاقى حتفه فيما يلاقى / فإن تك لمّتى بالشّيب أمست … شميط اللّون واضحة المشاق (¬2) فقد أغدو بداجية أرانى … بها المتطلّعات من الرّواق (¬3) الداجية: اللمّة السوداء. وأرانى: «أفاعل»، من المراناة- إلى كأنّهنّ ظباء قفر (¬4) … برهبى، أو بباعجتى فتاق (¬5) يرامضن (¬6) الحبال لغير وصل … وليس حبال وصلى بالرّماق وعهد الغانيات كعهد قين … ونت عنه الجعائل مستذاق القين: الحداد، والجعائل: جمع جعالة وهى أجرته، وأراد أن القين إذ عدم الجعالة رحل ولم يستقرّ فى مكان- كجلب السّوء يعجب من رآه … ولا يشفى الحوائم من لماق الجلب: الغيم الّذي لا مطر فيه، والحوائم: العطاش، ولماق: شيء قليل- فلا يبعد مضائى فى الموامى … وإشرافى العلاية وانصفاقى (¬7) ¬

_ (¬1) ورد هذا البيت فى ف وحاشية الأصل، من رواية الأسود. والسيلحين، وذات عرق، وحذاق: مواضع. (¬2) حاشية الأصل: «شبه الشعر بالمشاقة؛ وهى الكتان غير المغزول». (¬3) الرواق: الخيمة. (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «نفر». (¬5) رهبى: موضع. والباعجان: مثنى باعجة؛ وهى متسع الوادى. وفتق: موضع أيضا. (¬6) فى حاشيتى الأصل، ف: نسخة س: «يوامضن»، ونسخة الأسود «يوامقن». (¬7) العلاية: ما علا من الأرض. والانصفاق: الانصراف.

وغبراء القتام جلوت عنّى (¬1) … بعجلى الطّرف سالمة المآقى وقد طوّفت فى الآفاق حتى … سئمت النّصّ بالقلص العتاق (¬2) وكم قاسيت من سنة جماد … تعضّ اللّحم ما دون العراق (¬3) إذا أفنيتها بدّلت أخرى … أعدّ شهورها عدّ الأواقى وأفنتني الشّهور وليس تفنى … وتعداد الأهلّة والمحاق وما سبق الحوادث ليث غاب … يجرّ لعرسه جزر الرّفاق [كميت تعجز الحلفاء عنه … كبغل المرج حطّ من الزّناق] (¬4) [تنازعه الفريسة أم شبل … عبوس الوجه فاحشة العناق] ولا بطل تفادى الخيل منه … فرار الطّير من برد بعاق (¬5) [كريم من خزيمة أو تميم … أغرّ على مساعفة مزاق] (¬6) [فذلك لن تخاطأه المنايا … فكيف يقيه طول الدهر واق] *** وأحسن حارثة بن بدر الغدانىّ فى قوله: يا كعب ما راح من قوم ولا ابتكروا … إلّا وللموت فى آثارهم حادى / يا كعب ما طلعت شمس ولا غربت … إلّا تقرّب آجالا لميعاد ولأبى العتاهية فى هذا المعنى: إذا انقطعت عنى من العيش مدّتى … فإنّ بكاء الباكيات قليل (¬7) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: نسخة الأسود «نفضت». (¬2) النص: أرفع السير. (¬3) العراق: العظام التى يقشر عنها معظم اللحم وتبقى عليه بقية. (¬4) فى حاشيتى الأصل، ف: والزنقة: المضيق فى الجبل، وجمعه زناق». (¬5) البعاق: المندفع. (¬6) تكملة من رواية الأسود فى حاشيتى الأصل، ف. والمساعفة: المساعدة، والمزاق: المسرعة التى تمزق الهواء. (¬7) هذه الأبيات فى حماسة ابن الشجرى 142، مع اختلاف فى الترتيب وعدد الأبيات.

سيعرض عن ذكرى وتنسى مودّتى … ويحدث بعدى للخليل خليل أجلّك قوم حين صرت إلى الغنى … وكلّ غنىّ فى العيون جليل وليس الغنى إلا غنى زيّن الفتى … عشيّة يقرى أو غداة ينيل ولم يفتقر يوما وإن كان معدما … جواد ولم يستغن قطّ بخيل إذا مالت الدّنيا إلى المرء رغّبت … إليه، ومال النّاس حيث يميل أرى علل الدّنيا عليّ كثيرة … وصاحبها حتى الممات عليل وإنّى وإن أصبحت بالموت موقنا … فلى أمل دون اليقين طويل (¬1) وقد أحسن البحترىّ فى قوله فى هذا المعنى: أخىّ متى خاصمت نفسك فاحتشد … لها، ومتى حدّثت نفسك فاصدق أرى علل الأشياء شتّى ولا أرى الت … جمّع إلّا غاية للتّفرّق (¬2) أرى العيش ظلّا توشك الشّمس نقله … فكس فى ابتغاء العيش كيسك أومق (¬3) أرى الدّهر غولا للنّفوس وإنما … يقى الله فى بعض المواطن من يقى فلا تتبع الماضى سؤالك لم مضى … وعرّج على الباقى فسائله لم بقى ولم أر كالدّنيا خليلة صاحب … محبّ متى تحسن بعينيه تعنق (¬4) تراها عيانا وهى صنعة واحد … فتحسبها صنعى لطيف وأخرق وقد قيل إن السبب فى خروج البحترىّ عن بغداد فى آخر أيامه كان هذه الأبيات؛ لأن بعض أعدائه شنّع عليه بأنه ثنوىّ من حيث قال: * فتحسبها صنعى لطيف وأخرق* وكانت العامة حينئذ غالبة على البلد، فخاف على نفسه فقال لابنه أبى الغوث: قم يا بنيّ حتى نطفئ عنا هذه الثائرة بخرجة نلمّ فيها ببلدنا؛ فخرج ولم يعد. ¬

_ (¬1) لم أعثر على هذه الأبيات فى ديوانه؛ وهى فى مجموعة المعانى 5، 6 مع اختلاف فى الرواية. (¬2) ف، وحاشية الأصل (من نسخة)، مجموعة المعانى: «علة للتفرق». (¬3) مق، أى تحامق. (¬4) مجموعة المعانى، د، ونسخة بحاشيتى الأصل، ف: «تطلق».

وأحسن أيضا غاية الإحسان فى قوله: أغشى الخطوب فإمّا جئن مأربتى … فيما أسيّر أو أحكمن تأديبى (¬1) إن تلتمس أخلاف الخطوب (¬2) وإن … تلبث مع الدّهر تسمع بالأعاجيب وفى قوله: متى تستزد فضلا من العمر تغترف … بسجليك من شهد الخطوب وصابها (¬3) تشذّبنا (¬4) الدّنيا بأخفض سعيها … وغول الأفاعى بلّة من لعابها يسرّ بعمران الدّيار مضلّل … وعمرانها مستأنف من خرابها ولم أرتض الدّنيا أوان مجيئها … فكيف ارتضائيها أوان ذهابها! أفول لمكذوب عن الدّهر زاغ عن … تخيّر آراء الحجى وانتخابها سيرديك أو يثويك أنّك محلس … إلى شقّة يبكيك بعد مآبها (¬5) وهل أنت فى مرموسة طال أخذها … من الأرض إلا حفنة من ترابها (¬6) وجدت الآمدىّ يروى فى هذا البيت «أنك محبس» بالباء؛ وتفسير ذلك أنّ المعنى أنك موقوف إلى أن تصير إلى هذا؛ من قولك: أحبست فرسا فى سبيل الله، وأحبست دارا؛ أى أى وقفتها. والرواية المشهورة: «أنك مجلس» باللام؛ والمعنى أنك متهيئ للرحيل ومتخذ حلسا. والحلس: هو الكساء الّذي يوضع تحت الرحل؛ وهذا أشبه بالمعنى الّذي قصده البحترىّ؛ وأولى بأن يختاره؛ مع دقة طبعه وسلامة ألفاظه. ¬

_ (¬1) ديوانه 1: 69. (¬2) فى الديوان: «الأمور». (¬3) ديوانه: 1: 47، وفى حاشية الأصل (من نسخة): «شهد الأمور». (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «تسيرنا». (¬5) محلس: مقيم. والشقة: الطريقة. (¬6) حاشية الأصل (من نسخة): «حثوة».

72

مجلس آخر 72 تأويل آية [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ، فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ/ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ، فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ/ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ؛ [الأعراف: 189، 190]. فقال: أليس ظاهر هذه الآية يقتضي جواز الشرك على الأنبياء؛ لأنه لم يتقدم إلا ذكر آدم وحواء عليهما السلام؛ فيجب أن يكون قوله: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما يرجع إليهما. الجواب، قلنا: كما أنّ ذكر آدم وحواء قد تقدّم، فقد تقدم ذكر غيرهما فى قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، ومعلوم أنّ المراد بذلك جميع ولد آدم، وقد تقدم ذكر ولد آدم فى قوله: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً؛ والمعنى: فلما آتاهما ولدا صالحا، والمراد بهذا الجنس دون الواحد؛ وإن كان اللفظ لفظ واحد؛ والمعنى: فلما آتاهما جنسا من الأولاد صالحين؛ وإذا كان الأمر على ما ذكرناه جاز أن يرجع قوله: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ إلى ولدهما؛ وقد تقدم ذكرهما. فإن قيل: إنما وجب رده إلى آدم وحواء لأجل التثنية فى الكلام؛ ولم يتقدم ذكر اثنين إلا ذكرهما. قلنا: إن جعل هذا ترجيحا فى رجوعه إليهما جاز أيضا أن يجعل قوله فى آخر الآية: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وجها مقربا لرجوع الكلام إلى جملة الأولاد. ويجوز أن يكون أشير فى التثنية إلى الذكور والإناث من ولد آدم أو إلى جنسين منهم؛ فحسنت التثنية لذلك

على أنه إذا تقدم فى الكلام أمران ثم تلاهما حكم من الأحكام، وعلم بالدليل استحالة تعلّقه بأحد الأمرين وجب ردّه إلى الآخر. وإذا علمنا أن آدم عليه السلام لا يجوز عليه الشرك لم يجز عود الكلام إليه، فوجب عوده إلى المذكورين من ولده. وذكر أبو على الجبائىّ ما نحن نورده على وجهه، قال: إنما عنى [الله تعالى بهذا أنه تعالى خلق بنى آدم] (¬1) من نفس واحدة؛ لأن الإضمار فى قوله تعالى: خَلَقَكُمْ إنما عنى به بنى آدم، والنفس الواحدة التى خلقهم منها هى آدم؛ لأنه خلق حواء من آدم؛ ويقال: إنه تعالى خلقها من ضلع من أضلاعه (¬2)؛ فرجعوا جميعا إلى أنهم خلقوا من آدم؛ وبيّن ذلك بقوله: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها؛ لأنه عنى به أنّه خلق من هذا النفس زوجها، وزوجها هو حواء. وعنى بقوله: فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً، وحملها (¬3) هو حبلها منه فى/ ابتداء الحمل؛ لأنه فى ذلك الوقت خفيف عليها. وعنى بقوله: فَمَرَّتْ بِهِ أنّ مرورها بهذا الحمل، وتصرّفها به كان عليها سهلا لخفّته؛ فلما كبر الولد فى بطنها ثقل ذلك عليها، فهو معنى قوله: أَثْقَلَتْ؛ وثقل عليها عند ذلك المشى والحركة. وعنى بقوله: دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما أنهما دعوا عند كبر الولد فى بطنها فقالا: لئن آتيتنا يا ربّ نسلا صالحا لنكوننّ من الشاكرين لنعمتك علينا؛ لأنهما أراد أن يكون لهما أولاد تؤنسهما فى الموضع الّذي كانا فيه؛ لأنهما كانا فردين مستوحشين؛ فكان إذا غاب أحدهما عن الآخر بقى الآخر مستوحشا بلا مؤنس؛ فلما آتاهما نسلا صالحا معافى، وهم الأولاد الذين كانوا يولدون لهما لأن حواء كانت تلد فى كلّ بطن ذكرا وأنثى فيقال: إنها ولدت فى خمسمائة بطن ألف ولد. ¬

_ (¬1) حاشية ف (من نسخة): «إنما عنى الله تعالى خلق بنى آدم». (¬2) م: «ويقال من طينته». (¬3) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «وأن حملها».

وعنى بقوله: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما [أى أن هذا النسل الصالح الّذي هم ذكر وأنثى جعلا له شركاء فيما آتاهما] (¬1) من نعمة؛ وأضافا تلك النعم إلى الذين اتخذوهم آلهة مع الله عزّ وجلّ من الأصنام والأوثان، ولم يعن بقوله: جَعَلا آدم وحواء عليها السلام؛ لأن آدم لا يجوز عليه الشرك بالله لأنه نبىّ من أنبيائه، ولو جاز الشرك والكفر على الأنبياء لما جاز أن يثق أحدنا بما يؤديه إليه الأنبياء عن الله عز وجل؛ لأن من جاز عليه الكفر جاز عليه الكذب ومن جاز عليه الكذب لم يؤخذ بأخباره؛ فصحّ بهذا أنّ الإضمار فى قوله: جَعَلا إنما يعنى به النسل. وإنما ذكر ذلك على سبيل التثنية؛ لأنهم كانوا ذكرا وأنثى، فلما كانوا صنفين جاز أن يجعل إخباره عنهما كالإخبار عن الاثنين إذا كانا صنفين. وقد دلّ على صحة تأويلنا هذا قوله تعالى فى آخر الآية: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، فبيّن عز وجل أنّ الذين جعلوا لله شركاءهم جماعة، فلهذا جعل إضمارهم إضمار الجماعة، فقال: يُشْرِكُونَ؛ مضى كلام أبى عليّ. وقد قيل فى قوله تعالى: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً مضافا إلى الوجه المتقدم- الّذي هو أنه أراد بالصلاح الاستواء فى الخلقة والاعتدال فى الأعضاء- وجه آخر؛ وهو أنّه لو أراد الصلاح فى الدين لكان الكلام أيضا مستقيما؛ لأن الصالح فى الدين قد يجوز أن يكفر بعد صلاحه، / فيكون فى حال صالحا، وفى آخر مشركا؛ وهذا لا يتنافى. وقد استشهد فى جواز الانتقال من خطاب إلى غيره، ومن كناية عن مذكور إلى مذكور سواه؛ ليصحّ ما قلناه من الانتقال من الكناية عن آدم وحوّاء إلى ولدهما بقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فانصرف عن مخاطبة الرسول عليه السلام إلى مخاطبة المرسل إليهم، ثم قال: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ، يعنى الرسول عليه السلام، ثم قال: وَتُسَبِّحُوهُ، [الفتح: 9]؛ وهو يعنى مرسل الرسول؛ فالكلام ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل، والمثبت عن د، ف.

واحد متّصل بعضه ببعض، والخطاب منتقل من واحد إلى غيره؛ ويقول الهذلىّ (¬1): يا لهف نفسى كان جدّة خالد … وبياض وجهك للتّراب الأعفر ولم يقل: وبياض وجهه. وقال كثيّر: أسيء بنا، أو أحسنى لا ملومة … لدينا، ولا مقليّة إن تقلت (¬2) فخاطب ثمّ ترك الخطاب. وقال آخر: فدى لك يا فتى وجميع أهلى … وما لى إنّه منه أتانى (¬3) ولم يقل: منك أتانى. ووجدت أبا مسلم محمد بن بحر يحمل هذه الآية على أنّ الخطاب فى جميعها غير متعلّق بحواء وآدم، ويجعل الهاء فى تَغَشَّاها، والكناية فى دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما وآتاهُما صالِحاً راجعتين إلى من أشرك؛ ولم يتعلق بآدم وحواء من الخطاب إلا قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ؛ لأن الإشارة فى قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إلى الخلق عامة، وكذلك قوله تعالى: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها، ثم خص منها بعضهم كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ، فخاطب الجماعة بالتسيير فى البر والبحر، ثم خص راكب البحر بقوله تعالى: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ؛ [يونس: 22] كذلك الآية أخبرت عن جملة البشر؛ وأنهم مخلوقون من نفس واحدة وزوجها، وهما آدم وحواء عليهما السلام ثمّ عاد الذكر إلى الّذي سأل الله تعالى ما سأل؛ فلما أعطاه إياه ادعى الشّركاء فى عطيته. قال: وجائز أن يكون عنى بقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ المشركين؛ خصوصا إذ كان كلّ بنى آدم مخلوقا من نفس واحدة وزوجها. ¬

_ (¬1) هو أبو كبير، والبيت من قصيدة له فى شعر الهذليين 2: 101. (¬2) أمالى القالى 2: 109. (¬3) حاشية الأصل: «فدى وفداء كلاهما صحيح، فإذا قلت فدى فهو مقصور من الممدود».

ويجوز أن يكون المعنى فى قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ خلق كلّ واحد منكم من نفس واحدة؛ وهذا يجيء كثيرا فى القرآن وفى كلام العرب؛ قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً؛ [النور: 4] أى فاجلدوا كل واحد ثمانين جلدة. وقال عز وجل: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها؛ [الروم: 21] فلكل نفس زوج منها أى من جنسها. فَلَمَّا تَغَشَّاها، أى تغشّى كلّ نفس زوجها. حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً وهو ماء الفحل. فَمَرَّتْ بِهِ أى مارت، والمور: التردّد. والمراد تردّد هذا الماء فى رحم هذه الحامل. فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أى ثقل حملها؛ أى بمصير ذلك الماء لحما ودما وعظما. دَعَوَا اللَّهَ أى الرجل والمرأة لمّا استبان حمل المرأة فقالا: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً أى أعطاهما ما سألا من الولد الصالح نسبا ذلك إلى شركاء معه، فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. وقال قوم: معنى جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ أى طلبا من الله أمثالا للولد الصالح فشركا بين الطّلبتين وتكون الهاء فى قوله: لَهُ راجعة إلى الصالح لا إلى الله تعالى. ويجرى مجرى قول القائل: طلبت منى درهما فلما أعطيتك أشركته بآخر؛ أى طلبت آخر مضافا إليه. وعلى هذا الوجه لا يمتنع أن يكونا قوله: جَعَلا والخطاب كله متوجها إلى آدم وحواء عليهما السلام.

73

مجلس آخر 73 تأويل آية [قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ؛ [الصافات: 95، 96]. فقال: أليس ظاهر هذا القول يقتضي أنه خالق لأعمال العباد، لأن ما هاهنا بمعنى «الّذي»؛ فكأنه قال: خلقكم وخلق أعمالكم. الجواب، قلنا: قد حمل أهل الحق هذه الآية على أنّ المراد بقوله: وَما تَعْمَلُونَ أى وما تعملون فيه من الحجارة والخشب وغيرهما؛ مما كانوا يتخذونه أصناما/ ويعبدونها. قالوا: وغير منكر أن يريد بقوله: وَما تَعْمَلُونَ ذلك؛ كما أنه قد أراد ما ذكرناه بقوله: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ لأنه لم يرد أنكم تعبدون نحتكم الّذي هو فعل لكم؛ بل أراد ما تفعلون فيه النّحت؛ وكما قال تعالى فى عصا موسى عليه السلام: تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ [الأعراف: 117] وتَلْقَفْ ما صَنَعُوا؛ [طه: 69]؛ وإنما أراد تعالى أنّ العصا تلقف الحبال التى أظهروا سحرهم فيها، وهى التى حلتها صنعتهم وإفكهم؛ فقال: ما صَنَعُوا وما يَأْفِكُونَ وأراد ما صنعوا فيه، وما يأفكون فيه؛ ومثله قوله تعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ، [سبأ: 13]؛ وإنما أراد المعمول فيه دون العمل؛ [وهذا الاستعمال أيضا سائغ] (¬1) شائع؛ لأنهم يقولون: هذا الباب عمل النّجار. وفى الخلخال: هذا من عمل الصائغ؛ وإن كانت الأجسام التى أشير إليها ليست أعمالا؛ وإنما عملوا فيها؛ فحسن إجراء هذه العبارة. فإن قيل: كلّ الّذي ذكرتموه وإن استعمل فعلى وجه المجاز والاتساع؛ لأن العمل فى ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «وهذا فى الاستعمال».

الحقيقة لا يجرى إلا على فعل الفاعل دون ما يفعل فيه؛ وإن استعير فى بعض المواضع. قلنا: ليس نسلّم لكم أنّ الاستعمال الّذي ذكرناه على سبيل المجاز؛ بل يقول: هو المفهوم الّذي لا يستفاد سواه، لأن القائل إذا قال: هذا الثوب عمل فلان لم يفهم منه إلا أنّه عمل فيه، وما رأينا أحدا قط يقول فى الثوب بدلا من قوله: هذا من عمل فلان: هذا مما حلّه عمل فلان؛ فالأول أولى بأن يكون حقيقة. وليس ينكر أن يكون الأصل فى الحقيقة ما ذكروه، ثم انتقل بعرف الاستعمال إلى ما ذكرناه؛ وصار أخصّ به، ومما لا يستفاد من الكلام سواه؛ كما انتقلت ألفاظ كثيرة على هذا الحدّ والاعتبار فى المفهوم من الألفاظ إلا ما يستقرّ عليه استعمالها دون ما كانت عليه فى الأصل؛ فوجب أن يكون المفهوم والظاهر من الآية ما ذكرناه. على أنا لو سلّمنا أن ذلك مجاز لوجب المصير إليه من وجوه: منها ما يشهد به ظاهر الآية ويقتضيه، ولا يسوغ سواه. ومنها ما تقتضيه الأدلة القاطعة الخارجة عن الآية؛ فمن ذلك أنه تعالى أخرج الكلام مخرج التهجين لهم، والتوبيخ لأفعالهم والإزراء على مذاهبهم، فقال: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ/ ومتى لم يكن قوله: وَما تَعْمَلُونَ المراد تَعْمَلُونَ فيه؛ ليصير تقدير الكلام: أتعبدون الأصنام التى تنحتونها، والله خلقكم وخلق هذه الأصنام التى تفعلون فيها التخطيط والتصوير؛ لم يكن للكلام معنى، ولا مدخل فى باب التوبيخ. ويصير على ما يذكره المخالف كأنه قال: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ والله خلقكم وخلق عبادتكم؛ فأىّ وجه للتقريع! وهذا إلى أن يكون عذرا أقرب من أن يكون لوما وتوبيخا؛ إذا خلق عبادتهم للأصنام؛ فأىّ وجه للومهم عليها وتقريعهم بها! على أن قوله عز وجلّ: خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ بعد قوله: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ خرج مخرج التعليل للمنع من عبادة غيره تعالى؛ فلا بدّ أن يكون متعلقا بما تقدم من قوله: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ومؤثرا فى المنع من عبادة غير الله. فلو أفاد قوله: ما تَعْمَلُونَ نفس العمل

الّذي هو النحت دون المعمول فيه لكان لا فائدة فى الكلام؛ لأن القوم لم يكونوا يعبدون النحت؛ وإنما كانوا يعبدون محل النحت؛ ولأنه كان لا حظّ فى الكلام للمنع من عبادة الأصنام. وكذلك إن حمل قوله تعالى: ما تَعْمَلُونَ على أعمال أخر ليست نحتهم، ولا هى ما عملوا فيه لكان أظهر فى باب اللغو والعبث والبعد عن التعلق بما تقدم؛ فلم يبق إلا أنه أراد: أنه خلقكم وما تعملون فيه النحت، فكيف تعبدون مخلوقا مثلكم! فإن قيل: لم زعمتم أنه لو كان الأمر على ما ذكرناه لم يكن للقول الثانى حظّ فى باب المنع من عبادة الأصنام؟ وما تنكرون أن يكون لما ذكرناه وجه فى المنع من ذلك؟ [؛ كما أن ما ذكرتموه] (¬1) أيضا لو أريد لكان وجها؛ وهو أن من خلقنا وخلق الأفعال فينا لا يكون إلا الإله القديم، الّذي تحقّ له العبادة، وغير القديم- كما يستحيل أن يخلقنا- يستحيل أن يخلق فينا الأفعال على الوجه الّذي يخلقها القديم تعالى؛ فصار لما ذكرناه تأثير. قلنا: معلوم أن الثانى إذا كان كالتعليل للأول والمؤثر فى المنع من العبادة فلان يتضمن أنكم مخلوقون وما تعبدونه أولى من أن ينصرف إلى ما ذكرتموه ممّا لا يقتضي أكثر من خلقهم دون خلق ما عبدوه؛ وأنه لا شيء أدلّ على/ المنع من عبادة الأصنام من كونها مخلوقة كما أن عابدها مخلوق. ويشهد لما ذكرناه قوله تعالى فى موضع آخر: أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ؛ [الأعراف: 191، 192] فاحتج تعالى عليهم فى المنع من عبادة الآلهة دونه بأنها مخلوقة لا تخلق شيئا، ولا تدفع عن أنفسها ضرا ولا عنهم؛ وهذا واضح. على أنه لو ساوى ما ذكروه ما ذكرناه فى التعلّق بالأول لم يسغ حمله على ما ادعوه؛ لأن فيه عذرا لهم فى الفعل الّذي عنّفوا به وقرّعوا من أجله؛ وقبيح أن يوبخهم بما يعذرهم؛ ويذمّهم بما ينزّههم على ما تقدم. ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: نسخة ش «وإن كان ما ذكرتموه».

على أنا لا نسلّم أن من يفعل أفعال العباد ويخلقها يستحق العبادة؛ لأن من جملة أفعالهم القبائح، ومن فعل القبائح لا يكون إلها، ولا تحقّ له العبادة؛ فخرج ما ذكروه من أن يكون مؤثرا بانفراده فى العبادة. على أن إضافته العمل إليهم بقوله: تَعْمَلُونَ يبطل تأويلهم الآية؛ لأنه لو كان تعالى خالقا له (¬1) لم يكن عملا لهم؛ لأن العمل إنما يكون لمن يحدثه ويوجده، فكيف يكون عملا لهم والله خلقه! وهذه مناقضة، فثبت بهذا أن الظاهر شاهد لنا أيضا. على أن قوله: وَما تَعْمَلُونَ يقتضي الاستقبال؛ وكل فعل لم يوجد فهو معدوم. ومحال أن يقول تعالى: إنى خالق للمعدوم! فإن قالوا: اللفظ وإن كان للاستقبال فالمراد به المضىّ؛ فكأنه قال: والله خلقكم وما عملتم! قلنا: هذا عدول منكم عن الظاهر الّذي ادّعيتم أنكم متمسكون به؛ وليس أنتم بأن تعدلوا عنه بأولى منا؛ بل نحن أحق؛ لأنا نعدل عنه لدلالة؛ وأنتم تعدلون بغير حجة. فإن قالوا: فأنتم أيضا تعدلون عن هذا الظاهر بعينه على تأويلكم، وتحملون لفظ الاستقبال على لفظ الماضى. قلنا: لا نحتاج نحن فى تأويلنا إلى ذلك؛ لأنا إذا حملنا قوله تعالى: وَما تَعْمَلُونَ على الأصنام المعمول فيها- ومعلوم أن الأصنام موجودة قبل عملهم فيها- فجاز أن يقول تعالى: إنى خلقتها؛ ولا يجوز أن يقول: إنى خلقت ما سيقع من العمل فى المستقبل. على أنه تعالى/ لو أراد بذلك أعمالهم؛ لا ما عملوا فيه على ما ادعوه لم يكن فى الظاهر حجة على ما يريدون؛ لأن الخلق هو التقدير والتدبير؛ وليس يمتنع فى اللغة أن يكون الخالق خالقا لفعل غيره إذا قدّره ودبّره؛ ألا ترى أنهم يقولون: خلقت الأديم؛ وإن لم يكن الأديم فعلا لمن يقال ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «نسخة ش: «لها».

ذلك فيه! ويكون معنى خلقه لأفعال العباد أنه مقدر لها، ومعرف لنا مقاديرها ومراتبها وما به نستحق عليها من الجزاء. وليس يمتنع أن يقال: إنه خالق للأعمال على هذا المعنى إذا ارتفع الإبهام وفهم المراد؛ فهذا كله تقتضيه الآية. ولو لم يكن فى الآية شيء مما ذكرناه مما يوجب العدول عن حمل قوله: وَما تَعْمَلُونَ على خلق نفس الأعمال لوجب أن نعدل بها عن ذلك، ونحملها على ما ذكرناه بالأدلة العقلية الدّالة على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأعمالنا، وإن تصرفنا محدث بنا، ولا فاعل له سوانا؛ وكل هذا واضح بين (¬1). *** قال سيدنا أدام الله علوّه: وإنى لأستحسن لبعض نساء بنى أسد قولها: ألم ترنا غبّنا ماؤنا … زمانا، فظلنا نكدّ البئارا (¬2) فلمّا عدا الماء أوطانه … وجفّ الثّماد فصارت حرارا (¬3) وضجّت إلى ربّها فى السّماء (¬4) … رءوس العضاه تناجى السّرارا وفتّحت الأرض أفواهها … عجيج الجمال وردن الجفارا (¬5) لبسنا لدى عطن ليلة … على اليأس آتابنا والخمارا (¬6) وقلنا: اعبروا النّدى حقّه … وصبر الحفاظ، وموتوا حرارا (¬7) ¬

_ (¬1) ف: «واضح بين بحمد الله». (¬2) الكد هنا: انتزاع السائل. (¬3) الثماد: بقايا الماء فى الحوض والحفر، جمع ثمد. والحرار: جمع حرة، وهى حجارة سوداء. (¬4) فى حاشيتى الأصل، ف: «بخط عبد السلام البصرى: * وعجّت عجيجا إلى ربّها*. (¬5) الجفار: جمع جفرة، وهى البئر الواسعة. (¬6) الآتاب: جمع إتب؛ وهو برد أو ثوب يؤخذ فيشق فى وسطه، ثم تلقيه المرأة فى عنقها من غير جيب ولا كمين. (¬7) موتوا حرارا؛ أى جودوا بأنفسكم. وفى حاشية الأصل: «نسخة س: وجدت بخط المرتضى رضى الله عنه: «فى مجموع أكثره بخط الرضىّ رضى الله عنه: حرار: جمع حرة».

فإنّ النّدى لعسى مرّة … يردّ إلى أهله ما استعارا فبتنا نوطّن أحشاءنا … أضاء لنا عارض فاستطارا (¬1) وأقبل يزحف زحف الكسير … سياق الرعاء البطاء العشارا / تننّى وتضحك حافاته … خلال الغمام وتبكى مرارا كأنّا تضيء لنا حرّة … تشدّ إزارا وتلقى (¬2) إزارا فلمّا خشينا بأن لا نجاء … وألّا يكون قرار قرارا أشار إليه امرؤ فوقه … هلمّ، فأمّ (¬3) إلى ما أشارا *** وأنشد أبو هفّان لولّادة المهزميّة (¬4): لولا اتّقاء الله قمت بمفخر … لا يبلغ الثّقلان فيه مقامى بأبوّة فى الجاهليّة سادة … بذّوا العلى أمراء فى الإسلام جادوا فسادوا مانعين أذاهم … لنداهم، بذل (¬5) على الأقوام قد أنجبوا فى السّؤددين (¬6) وأنجبوا … بنجابة الأخوال والأعمام قوم إذا سكتوا تكلّم مجدهم … عنهم؛ فأخرس دون كلّ كلام ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «نسخة ش «فبينا»، وبخط المرتضى رضى الله عنه: «نوطد أحسابنا». (¬2) حاشية الأصل: «بخط عبد السلام: وترخى». (¬3) حاشية الأصل: «بخط عبد السلام: فصار». (¬4) حاشية الأصل: «قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولى رحمه الله: هو أبو هفان عبد الله بن أحمد المهزمى. وأبو هفان، بكسر الهاء». (¬5) بذل: جمع بذول، أى باذلون. (¬6) فى حاشيتى الأصل، ف: «أى الأبوة والأمومة».

وقالت امرأة من بنى سعد بن بكر (¬1): أيا أخوىّ الملزمىّ ملامة (¬2) … أعيذ كما (¬3) بالله من مثل ما بيا سألتكما بالله إلّا جعلتما (¬4) … مكان الأذى واللّوم أن تأويا ليا (¬5) أيا أمتا حبّ الهلالىّ قاتلى … شطون النّوى يحتلّ عرضا يمانيا (¬6) أشمّ كغصن البان جعد مرجّل … شعفت به لو كان شيئا مدانيا (¬7) فإن لم أوسّد ساعدى بعد هجعة … غلاما هلاليا فشلّ بنانيا (¬8) ثكلت أبى إن كنت ذقت كريقه … لشيء ولا ماء الغمامة غاديا (¬9) ولضاحية الهلالية: ألمّ كبير لمّة ثمّ شمّرت … به جلّة يطلبن برقا يمانيا (¬10) / [ألا ليتنا والنّفس تسكن للمنى … يمانون إن أمسى حبيب يمانيا] ولها: وإنّى لأهوى القصد ثمّ يردّنى … عن القصد (¬11) ميلات الهوى فأميل ¬

_ (¬1) الأبيات فى حماسة ابن الشجرى: 156 - 157؛ منسوبة إلى ضاحية الهلالية. (¬2) فى ابن الشجرى: * أيا أخوىّ اللائمىّ على الهوىّ*. (¬3) م، وابن الشجرى: «أعندكما». (¬4) ابن الشجرى: «لما خلعتما». (¬5) أن تأويا لى؛ أى أن ترحمانى. (¬6) حاشية الأصل: «أمتا، أى أمى، وشطون، أى هو شطون النوى، والعرض: سفح الجبل، أى بسفح يمان». (¬7) حاشية الأصل: «أراد بالجعد السخىّ الكريم، وهو من الأضداد، قال طرفة: أنا الرّجل الجعد الّذي تعرفونه … خشاش كرأس الحية المتوقد. (¬8) حاشية الأصل: «نسخة س: فشلت بنانيا» وهى رواية ابن الشجرى. (¬9) فى ابن الشجرى بعد هذا البيت: وأقسم لو خيّرت بين فراقه … وبين أبى لاخترت أن لا أبا ليا. (¬10) فى حاشيتى الأصل، ف: «كبير، رجل، ونسخة س «كثير»، لمة: إلماما، شمرت، أى ذهبن به، والجلة: المسان من الإبل، ويجوز أن يريد بها الجليلة؛ ومن نسخة: «يطرن برقا يمانيا». (¬11) القصد: الأمر السوىّ والطريقة المستقيمة.

وما وجد مسجون بصنعاء موثق … بساقيه من حبس الأمير كبول وما ليل مولى مسلم بجريرة … له بعد ما نام العيون عويل بأكثر منّى لوعة يوم عجّلوا (¬1)، … فراق حبيب ما إليه سبيل ولعمرة (¬2) بنت العجلان أخت عمرو ذى الكلب بن عجلان الكاهلىّ ترثى أخاها عمرا، وقد كان فى بعض غزواته نائما، فوثب عليه نمران فأكلاه، فوجدت فهم سلاحه، فادّعت قتله (¬3): سألت بعمرو أخى صحبه … فأفظعنى حين ردّوا السّؤالا وقالوا: أتيح له نائما … أعزّ السّباع عليه أحالا (¬4) أتيح له نمرا أجبل … فنالا لعمرك منه منالا فأقسمت (¬5) يا عمرو لو نبّهاك … إذا نبّها منك أمرا (¬6) عضالا [إذن نبها غير رعديدة … ولا طائش رعش حين صالا] (¬7) إذا نبّها ليث عرّيسة … مفيتا مفيدا نفوسا ومالا (¬8) ¬

_ (¬1) د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): «يوم راعنى». (¬2) فى حاشيتى الأصل، ف: «نسخة س: وجدت هذه القصيدة فى دواوين هذيل منسوبة إلى جنوب أخت عمرو»؛ وهى أيضا فى ديوان الهذليين 3: 120 - 123 وخزانة الأدب وزهر الآداب (طبعة الحلبى) 795 - 796؛ وشواهد العينى ... منسوبة إلى الحنوب. (¬3) فى ديوان الهذليين عن أبى عبيدة: «كان ذو الكلب يغزو فهما؛ فوضعوا له الرصد على الماء فأخذوه وقتلوه، ثم مروا بأخته جنوب؛ فقالت لهم: ما شأنكم؟ فقالوا: إنا طلبنا أخاك عمرا، فقالت: لئن طلبتموه لتجدنه منيعا، ولئن أضفتموه لتجدن جنابه مريعا؛ ولئن دعوتموه لتجدنه سريعا. قالوا: فقد أخذناه وقتلناه، وهذا سلبه؛ قالت: لئن سلبتموه لا تجدن ثنته وافية، ولا حجزته جافية، ولا ضالته كافية؛ ولرب ثدى منكم قد افترشه، ونهب قد احتوشه، وضب قد احترشه؛ ثم قالت ترثيه ... » وأورد القصيدة. (¬4) أحال: حمل عليه فقتله وأكله. (¬5) فى ديوان الهذليين: «فأقسم». (¬6) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «داء»؛ وهى رواية ديوان الهذليين. (¬7) من ديوان الهذليين. (¬8) العريس والعريسة: مأوى الأسد؛ والمفيت: مهلك النفوس.

هزبرا فروسا لاعدائه … هصورا إذا لقى القرن صالا (¬1) هما مع تصرّف ريب المنون … من الأرض ركنا ثبيتا أمالا (¬2) هما يوم حمّ له يومه … وقال أخو فهم بطلا وفالا (¬3) معنى «فال» أخطأ؛ يقال: رجل فائل الرأى- وقالا (¬4) قتلناه فى غارة … بآية ما إن ورثنا النّبالا كأنها تهزأ بهم وتكذبهم؛ أى بعلامة أن قد ورثتم النبال- فهلّا ومن قبل ريب المنون … فقد كان رجلا وكنتم رجالا وقد علمت فهم يوم (¬5) اللّقاء … بأنّهم لك كانوا نفالا (¬6) / كأنهم لم يحسّوا به … فيخلوا النّساء له والحجالا ولم ينزلوا بمحول (¬7) السّنين … به فيكونوا عليه عيالا وقد علم الضّيف والمجتدون … إذا اغبرّ أفق وهبّت شمالا (¬8) وخلّت عن اولادها المرضعات … ولم تر عين لمزن بلالا (¬9) بأنّك كنت الرّبيع المغيث … لمن يعتريك وكنت الثّمالا (¬10) وخرق تجاوزت مجهوله … بوجناء حرف تشكّى الكلالا (¬11) ¬

_ (¬1) ديوان الهذليين: «لأقرانه». والهزبر: اسم السبع، والفروس: الّذي يدق الأعناق. (¬2) الثبيت: الثابت؛ وفى ديوان الهذليين «ركنا عزيزا». (¬3) حم: قدر. (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «وقالوا». (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «عند»، وهى رواية ديوان الهذليين. (¬6) نفالا: غنائم. (¬7) ديوان الهذليين: «لزبات السنين»، واللزبات: الشدائد. (¬8) ديوان الهذليين: «والمرملون». وهبت شمالا؛ أى الريح: . (¬9) بلالا، أى بللا. (¬10) وفى حاشية الأصل: «يقال: فلان ثمال قومه إذا كان الاعتماد والمعول عليه. (¬11) الخرق: الفلاة الواسعة؛ والوجناء: الناقة الشديدة؛ والحرف: الضامر؛ شبهت بحرف الجبل؛ وفى حاشية الأصل (من نسخة): * وخرق تجاوزت مجهولة*.

فكنت النهارية شمسه … وكنت دجى اللّيل فيه الهلالا وخيل سمت لك فرسانها … فولّوا ولم يستقلّوا قبالا (¬1) [وحىّ أبحت، وحىّ صبحت … غداة الهياج منايا عجالا] (¬2) وكلّ قبيل وإن لم تكن … أردتهم، منك باتوا وجالا (¬3) ¬

_ (¬1) القبال: شسع النعل، تريد شيئا قليلا. (¬2) من ديوان الهذليين. (¬3) الوجال: المتخوفون.

74

مجلس آخر 74 تأويل آية [وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؛ [هود: 34]. فقال: أليس ظاهر هذه الآية يقتضي أنّ نصح النبي صلى الله عليه وآله لم ينفع (¬1) الكفار الذين أراد الله بهم الكفر والغواية، وهذا بخلاف مذهبكم! الجواب، قلنا: ليس فى ظاهر الآية ما يقتضيه خلاف مذهبنا؛ لأنه تعالى لم يقل إنه فعل الغواية أو أرادها؛ وإنما أخبر أن نصح (¬2) النبىّ عليه السلام لا ينفع إن كان الله يريد غوايتهم. ووقوع الإرادة لذلك أو جواز وقوعها لا دلالة عليه فى الظاهر؛ على أن الغواية هاهنا الخيبة وحرمان الثواب؛ ويشهد بصحة ما ذكرناه فى هذه اللفظة قول الشاعر: فمن يلق خيرا يحمد النّاس أمره … ومن يغو لا يعدم على الغىّ لائما (¬3) فكأنه قال: إن كان الله يريد أن يعاقبكم بسوء أعمالكم وكفركم، ويحرمكم ثوابه فليس ينفعكم/ نصحى ما دمتم مقيمين على ما أنتم عليه؛ إلا أن تقلعوا وتتوبوا. وقد سمى الله تعالى العقاب غيا، فقال: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59]؛ وما قبل هذه الآية يشهد بما ذكرناه؛ وأن القوم استعجلوا عقاب الله تعالى: قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ. وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي ... الآية؛ [هود: 32، 33]؛ فأخبر أن نصحه لا ينفع من يريد الله أن ينزل به العذاب، ولا يغنى عنه شيئا. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «لا ينفع». (¬2) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «وإنما أخبرنا. (¬3) البيت للمرقش الأصغر (المفضليات 247 - طبعة المعارف).

وقال جعفر بن حرب: إن الآية تتعلق بأنه كان فى قوم نوح طائفة تقول بالجبر، فنبّههم الله تعالى بهذا القول على فساد مذهبهم؛ وقال لهم على طريق الإنكار عليهم والتعجب من قولهم: إن كان القول كما تقولون من أن الله يفعل فيكم الكفر والفساد، فما ينفعكم نصحى؛ فلا تطلبوا منى نصحا وأنتم على ذلك لا تنتفعون به؛ وهذا جيد. وروى عن الحسن البصرىّ فى هذه الآية وجه صالح؛ وهو أنه قال: المعنى فيها إن كان الله يريد أن يعذّبكم فليس ينفعكم نصحى عند نزول العذاب بكم، وإن قبلتموه وآمنتم به؛ لأنّ كان من حكم الله تعالى ألّا يقبل الإيمان عند نزول العذاب؛ وهذا كله واضح فى زوال الشبهة بالآية. قال سيدنا أدام الله تمكينه: ومن مستحسن ما قيل فى صفة المصلوب قول أبى تمام الطائىّ فى قصيدة يمدح بها المعتصم، ويذكر قتل الأفشين وحرقه وصلبه: (¬1) ما زال سرّ الكفر بين ضلوعه … حتى اصطلى سرّ الزّناد الوارى (¬2) نارا يساور جسمه من حرّها … لهب كما عصفرت شقّ إزار طارت لها شعل يهدّم لفحها … أركانه هدما بغير غبار فصّلن منه كلّ مجمع مفصل … وفعلن فاقرة بكلّ فقار (¬3) مشبوبة رفعت لأعظم (¬4) مشرك … ما كان يرفع ضوأها للسّارى صلّى لها حيّا وكان وقودها … ميتا، ويدخلها مع الكفّار (¬5) ¬

_ (¬1) من قصيدة فى ديوانه: 151 - 155؛ مطلعها: الحقّ أبلج والسيوف عوار … فحذار من أسد العرين حذار وكان الأفشين من أكابر قواد المعتصم، وجهه لحرب بابك الخرمىّ؛ فقبض عليه وحمله إلى المعتصم فقطعه وصلبه وانتهى أمر.، ثم علم المعتصم خيانة من الأفشين؛ فقبض عليه وقتله وصلبه على خشبة بابك سنة 226 هـ. (¬2) سر الزناد: النار المخبوءة فيها. (¬3) الفاقرة: الداهية. (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «لأعظم»، بضم الظاء. (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «الفجار»، وهى رواية الديوان.

/ وكذاك أهل النّار فى الدّنيا هم … يوم القيامة جلّ أهل النار يا مشهدا صدرت بفرحته إلى … أمصارها القصوى بنو الأمصار رمقوا أعالى جذعه فكأنما … رمقوا الهلال (¬1) عشيّة الإفطار واستنشقوا منه قتارا نشره … من عنبر ذفر ومسك دارى (¬2) وتحدّثوا عن هلكه بحديث (¬3) من … بالبدو عن متتابع الأمطار قد كان بوّأه الخليفة جانبا … من قلبه حرما على الأقدار فسقاه ماء الخفض غير مصرّد … وأنامه فى الأمن غير غرار (¬4) ولقد شفى الأحشاء من برحائها … أن صار بابك جار مازيار (¬5) ثانيه فى كبد السّماء ولم يكن … لاثنين ثان إذ هما فى الغار (¬6) وكأنّما انتبذا لكيما يطويا … عن ناطس (¬7) خبرا من الأخبار سود اللّباس كأنما نسجت لهم … أيدى السّموم مدارعا من قار بكروا وأسروا فى متون ضوامر … فبدت لهم من مربط النّجّار لا يبرحون ومن رآهم خالهم … أبدا على سفر من الأسفار كادوا النّبوّة والهدى فتقطّعت … أعناقهم فى ذلك المضمار ¬

_ (¬1) الديوان: «وجدوا». (¬2) القتار: الرائحة، ونشره: فوحانه؛ والذفر: الحاد، والدارى: منسوب إلى دارين؛ وهى فرضة يجلب منها المسك. ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: واستنشئوا». (¬3) ف، وحاشية الأصل (من نسخة)، والديوان: «كحديث». (¬4) غرار: قليل. (¬5) مازيار: رجل، وضبط فى الأصل بفتح الزاى وكسرها معا. (¬6) كذا وردت الرواية فى الأصول؛ وتأويله: ولم يكن كاثنين إذ هما فى الغار ثان؛ أى لم يكن كهذه القضية قضية أخرى. وفى الديوان: «ثانيا إذ هما»، بتسهيل الهمزة، وفى حاشية الأصل: «أى هو ثان فى الصلب والضلالة لما زيار؛ وليس هو كأبي بكر إذ كان مع النبي عليه السلام فى الغار». (¬7) فى حاشيتى الأصل، ف: «ناطس اسم ملك الروم».

وله يذكر صلب بابك: لمّا قضى رمضان منه قضاءه … شالت به الأيّام فى شوّال (¬1) ما زال مغلول العزيمة سادرا … حتى غدا فى القيد والأغلال مستبسلا للبأس طوقا من دم (¬2) … لما استبان فظاظة الخلخال أهدى لمتن الجذع متنيه كذا … من عاف متن الأسمر العسّال (¬3) لا كعب أسفل موضعا من كعبه … مع أنّه عن كلّ كعب عال / سام كأنّ العزّ يجذب ضبعه … وسموّه من ذلّة وسفال متفرّغ أبدا وليس بفارغ … من لا سبيل له إلى الأشغال قال سيدنا أدام الله علوّه: ومن عجيب الأمور أن أبا العباس أحمد بن عبيد الله بن عمار ينشد هذه الأبيات المفرطة فى الحسن فى جملة مقابح أبى تمام، وما خرّجه- بزعمه- من سقطه وغلطه؛ ويقول فى عقبها: ولم يسمع بشعر وصف فيه مصلوب بأغثّ من هذا الوصف، وأين كان عن مثل إبراهيم بن المهدى يصف صلب بابك فى قصيدة يمدح بها المعتصم: ما زال يعنف بالنّعمى فنفّرها … عنه الغموط، ووافته الأراصيد (¬4) حتى علا حيث لا ينحطّ مجتمعا … كما علا أبدا ما أورق العود يا بقعة ضربت فيها علاوته … وعينه، وذوت أغصانه الميد بوركت أرضا وأوطانا مباركة … ما عنك فى الأرض للتّقديس تعريد لو تقدر الأرض حجّتك البلاد فلا … يبقى على الأرض إلّا حجّ جلمود لم يبك إبليس إلّا حين أبصره … فى زيّه، وهو فوق الفيل مصفود كناقة النّحر تزهى تحت زينتها … وحدّ شفرتها للنّحر محدود ¬

_ (¬1) من قصيدة فى ديوانه 259 - 265 يمدح فيها المعتصم، وأولها: آلت أمور الشّرك شرّ مآل … وأقرّ بعد تخمّط وصيال. (¬2) الديوان * متلبّسا للموت طوقا من دم*. (¬3) العسال: المضطرب. (¬4) يعنى القضاء الواقف له بالمرصاد.

ما كان أحسن قول النّاس يومئذ … أيوم بابك هذا أم هو العيد! صيّرت جثّته جيدا لباسقة … جرداء، والرّأس منه ما له جيد فآض تلعب هوج العاصفات به … على الطّريق صليبا طرفه عود كأنّه شلو كبش والهواء له … تنوّر شاوية، والجذع سفّود وهكذا ينبغى أن يطعن على أبيات أبى تمام من يستجيد هذه الأبيات ويفرط فى تقريظها؛ وليت من جهل شيئا عدل عن الخوض فيه والكلام عليه؛ فكان ذلك وأولى به. وأبيات أبى تمام فى نهاية القوّة وجودة المعانى والألفاظ وسلامة السّبك واطراد/ النسج، وأبيات ابن المهدى مضطربة الألفاظ، مختلفة النسج، متفاوتة الكلام؛ وما فيها شيء يجوز أن يوضع عليه اليد إلا قوله: حتّى علا حيث لا ينحط مجتمعا … كما علا أبدا ما أورق العود وبعده البيت الأخير وإن كان بارد الألفاظ. وقد أحسن مسلم بن الوليد فى قوله: ما زال يعنف بالنّعمى ويغمطها … حتى استقلّ به عود على عود (¬1) نصبته حيث ترتاب الرياح به … وتحسد الطّير فيه أضبع البيد (¬2) وللبحترىّ فى هذا المعنى من قصيدة يمدح بها أبا سعيد أو لها: لا دمنة بلوى خبت ولا طلل … يردّ قولا على ذى لوعة يسل (¬3) إن عزّ دمعك فى آي الرّسوم فلم … يصب عليها فعندى أدمع بلل هل أنت يوما معيرى نظرة فترى … فى رمل يبرين عيرا سيرها رمل! حثّوا النّوى بحداة ما لها وطن … غير النّوى، وجمال ما لها عقل ¬

_ (¬1) ديوانه: 133، يعنف بالتعمى: يسرف ويجاوز حقه فيها، ويغمطها: يكفرها. (¬2) قال شارح ديوانه: «ترتاب الرياح، أى تستنكر؛ يريد: إذا خلف أحد على ذلك المكان أتته ريحه قبيحة منه؛ يقول: جعلته فى مكان تبلغه الطير، ولا تبلغه الضبع فتحسد الطير». (¬3) ديوانه 2: 214.

يقول فيها: تحمله البرد من أقصى الثّغور إلى … أدنى العراق سراعا ريثها عجل (¬1) بسرّ من راء منكوسا تجاذبه … أيدى الشّمال فضولا كلّها فضل أمسى يردّ حريق الشمس جانبه … عن بابك، وهى فى الباقين تشتعل تفاوتوا بين مرفوع ومنخفض … على مراتب ما قالوا وما فعلوا ردّ الهجير لحاهم بعد شعلتها … سودا، فعادوا شبابا بعد ما اكتهلوا سما له حابل الآساد فى لمة … من المنايا، فأمسى وهو محتبل حالى الذّراعين والسّاقين لو صدقت … له المنى لتمنّى أنّها عطل من تحت مطبق أرض الشّام فى نفر … أسرى يودّون ودّا أنّهم قتلوا / غابوا عن الأرض أنأى غيبة وهم … فيها؛ فلا وصل إلّا الكتب والرّسل وله فى هذا المعنى: ما زلت تقرع باب بابك بالقنا … وتزوره فى غارة شعواء (¬2) حتى أخذت بنصل سيفك عنوة … منه الّذي أعيا على الأمراء أخليت منه البذّ وهى قراره … ونصبته علما بسامرّاء (¬3) لم يبق فيه خوف بأسك مطمعا (¬4) … للطّير فى عود ولا إبداء فتراه مطّردا على أعواده … مثل اطراد كواكب الجوزاء مستشرفا للشّمس منتصبا لها … فى أخريات الجذع كالحرباء ¬

_ (¬1) البرد: جمع يريد؛ وفى حاشية الأصل (من نسخة): «تأتى به البرد». (¬2) ديوانه 1: 4، من قصيدة يمدح فيها محمد بن يوسف مطلعها: زعم الغراب منبئ الأنباء … أنّ الأحبّة آذنوا بتناء. (¬3) البذّ: كورة بين أذربيجان وأران. وسامراء: لغة فى سرّ من رأى؛ مدينة كانت بين بغداد وتكريت. (¬4) ف: «مطعما».

75

مجلس آخر 75 تأويل آية [شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ؛ [البقرة: 185]. فقال: كيف أخبر تعالى بأنه أنزل فيه القرآن، وقد أنزله فى غيره من الشهور على ما جاءت به الرواية؟ والظاهر يقتضي أنه أنزل الجميع فيه، وما المعنى فى قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ؟ وهل أراد الإقامة والحضور اللذين هما ضدّا (¬1) الغيبة، أو أراد المشاهدة والإدراك؟ . الجواب، قلنا: أما قوله تعالى: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فقد قال قوم: المراد به أنه تعالى أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا فى شهر رمضان، ثم فرق إنزاله على نبيه صلى الله عليه وآله بحسب ما تدعو الحاجة إليه. وقال آخرون: المراد بقوله أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أنه أنزل فى فرضه وإيجاب صومه على الخلق القرآن؛ فيكون فِيهِ بمعنى فى فرضه، كما يقول القائل: أنزل الله فى الزكاة كذا وكذا، يريد فى فرضها، وأنزل الله فى الخمر كذا وكذا يريد فى تحريمها. وهذا الجواب إنما هرب متكلّفه من شيء، وظن أنه قد اعتصم بجوابه عنه، وهو بعد ثابت على ما كان عليه؛ لأن قوله: الْقُرْآنُ إذا كان يقتضي ظاهره إنزال/ جميع القرآن فيجب على هذا الجواب أن يكون قد أنزل فى فرض الصيام جميع القرآن؛ ونحن نعلم أنّ قليلا من القرآن يتضمّن إيجاب صوم شهر رمضان، وأن أكثره خال من ذلك. فإن قيل: المراد بذلك أنه أنزل فى فرضه شيئا من القرآن، وبعضا منه. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «نسخة ش: «ضد الغيبة».

قيل: فألّا اقتصر على هذا، وحمل الكلام على أنه تعالى أنزل شيئا من القرآن فى شهر رمضان ولم يحتج إلى أن يجعل لفظة فِيهِ بمعنى فى فرضه وإيجاب صومه. والجواب الصحيح، أن قوله تعالى: الْقُرْآنُ فى هذا الموضع لا يفيد العموم والاستغراق، وإنما يفيد الجنس من غير معنى الاستغراق، فكأنه قال: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ هذا الجنس من الكلام؛ فأىّ شيء نزل منه فى الشهر فقد طابق الظاهر. وليس لأحد أن يقول: إن الألف واللام هاهنا لا يكونان إلا للعموم والاستغراق؛ لأنا لو سلمنا أن الألف واللام صيغة العموم والصورة المقتضية لاستغراق الجنس لم يجب أن يكون هاهنا بهذه الصفة؛ لأن هذه اللفظة قد تستعمل فى مواضع كثيرة من الكلام ولا يراد بها أكثر من الإشارة إلى الجنس والطبقة من غير استغراق وعموم؛ حتى يكون حمل كلام المتكلم بها على خصوص أو عموم؛ كالناقض لغرضه والمنافى لمراده؛ ألا ترى أن القائل إذا قال: فلان يأكل اللحم، ويشرب الخمر، وضرب الأمير اليوم اللصوص، وخاطب الجند لم يفهم من كلامه إلا محض الجنس والطبقة من غير معنى خصوص ولا عموم؛ حتى لو قيل له: فلان يأكل جميع اللحم، ويشرب جميع الخمر أو بعضها لكان جوابه: إننى لم أرد عموما ولا خصوصا؛ إنما أريد أنّه يأكل هذا الجنس من الطعام، ويشرب هذا الجنس من الشراب؛ فمن فهم من كلامى العموم أو الخصوص فهو بعيد من فهم مرادى. وأرى كثيرا من الناس يغلطون فى هذا الموضع، فيظنون أنّ الإشارة إلى الجنس من غير إرادة العموم والاستغراق ليست مفهومة؛ حتى يحملوا قول من قال: أردت الجنس فى كل موضع على العموم؛ وهذا بعيد ممّن يظنه؛ لأنه كما أنّ العموم والخصوص مفهومان/ فى بعض المواضع بهذه الألفاظ فكذلك الإشارة إلى الجنس والطبقة من غير إرادة عموم ولا خصوص مفهومة مميزة؛ وقد ذكرنا أمثلة ذلك. فأما قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فأكثر المفسرين حملوه على أنّ المراد بمن شهد منكم الشهر من كان مقيما فى بلد غير مسافر. وأبو عليّ حمله على أنّ المراد

به فمن أدرك الشهر وشاهده وبلغ إليه وهو متكامل الشروط فليصمه، ذهب فى معنى شَهِدَ إلى معنى الإدراك والمشاهدة. وقد طعن قوم على تأويل أبى عليّ وقالوا: ليس يحتمل الكلام إلّا الوجه الأول. وليس الأمر على ما ظنوه؛ لأن الكلام يحتمل الوجهين معا؛ وإن كان للقول الأول ترجيح ومزية على الثانى من حيث يحتاج فى الثانى من الإضمار إلى أكثر مما يحتاج إليه فى الأول؛ لأن على القول الأول لا يحتاج إلى إضمار الإقامة وارتفاع السفر؛ لأن قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ يقتضي الإقامة؛ وإنما يحتاج إلى إضمار باقى الشروط من الإمكان والبلوغ وغير ذلك. وفى القول الثانى يحتاج مع كلّ ما أضمرناه فى القول الأول إلى إضمار الإقامة؛ ويكون التقدير: فمن شاهد الشهر وهو مقيم مطيق بالغ إلى سائر الشروط؛ فمن هذا الوجه كان الأول أقوى. وليس لأحد أن يقول: إن شَهِدَ بنفسه من غير محذوف لا يدلّ على إقامة؛ وذلك أنّ الظاهر من قولهم فى اللغة: فلان شاهد إذا أطلق ولم يضف أفاد الإقامة فى البلد؛ وهو عندهم ضدّ الغائب والمسافر؛ وإن كانوا ربما أضافوا فقالوا: فلان شاهد لكذا، وشهد فلان كذا؛ ولا يريدون هذا المعنى؛ ففى إطلاق شَهِدَ دلالة على الإقامة من غير تقدير محذوف؛ وهذه جملة كافية بحمد الله. *** قال سيدنا أدام الله علوّه: وجدت أبا العباس بن عمّار يعيب على أبى تمام فى قوله: لمّا استحرّ الوداع المحض وانصرمت … أواخر الصّبر إلا كاظما وجما (¬1) رأيت أحسن مرئىّ وأقبحه … مستجمعين لى: التّوديع والعنما / قال أبو العباس: وهذا قد ذمّ مثله على شاعر متقدم؛ وهو أن جمع بين كلمتين احداهما لا تناسب الأخرى؛ وهو قول الكميت: وقد رأينا بها حورا منعّمة … رودا تكامل فيها الدّلّ والشّنب ¬

_ (¬1) ديوانه 302؛ من قصيدة يمدح فيها إسحاق بن إبراهيم المصعبىّ.

فقيل له: أخطأت وباعدت بقولك: «الدّلّ والشّنب»؛ ألا قلت كقول ذى الرّمة: بيضاء فى شفتيها حوّة لعس … وفى اللّثات وفى أنيابها شنب (¬1) قال: فقال الطائىّ: * مستجمعين لى: التّوديع والعنما* فجعل المنظر القبيح للتوديع، والتوديع لا يستقبح، وإنما يستقبح عاقبته وهى الفراق، وجعل المنظر الحسن الخضاب؛ وشبهه بالعنم، ولم يذكر الأنامل المخضّبة. وإنما سمع قول المجنون: ويبدى الحصى منها إذا قذفت به … من البرد أطراف البنان المخضّب (¬2) قال: وهذا هو الأصل؛ استعاره الناس من بعد، فقال الشاعر: النّشر مسك، والوجوه دنا … نير، وأطراف الأكفّ عنم (¬3) وأغرب أبو نواس فى قوله: تبكى فتذرى الدّرّ من طرفها … وتلطم الورد بعنّاب (¬4) قال. فلم يحسن هذا العلج أن يستعير شيئا من محاسن القائلين. قال سيدنا أدام الله علوّه: وهذا غلط من ابن عمار وسفه على أبى تمام؛ لأن الكميت جمع بين شيئين متباعدين؛ وهما الدّل وهو الشكل والحلاوة وحسن الهيئة، والشّنب وهو برد الأسنان، وتطرّق عليه بذلك بعض العيب، وأبو تمام بين شيئين غير متفرّقين (¬5)، لأن التوديع إنما أشار به إلى ما أشارت إليه بإصبعها من وداعه عند الفراق، وشبّه مع ذلك أصابعها ¬

_ (¬1) ديوانه: 5. اللمى سمرة فى الشفة؛ والحوة: حمرة فى الشفتين تضرب إلى السواد. (¬2) البيت فى الأغانى 2: 20 (طبع دار الكتب المصرية)، وقبله: فلم أر ليلى بعد موقف ساعة … بخيف منى ترمى جمار المحصّب. (¬3) البيت للمرقش الأكبر (المفضليات: 238، طبعة المعارف). (¬4) ديوانه: 361. (¬5) حاشية الأصل (من نسخة): «مفترقين».

بالعنم، والعنم نبت أغصانه غضة دقاق شبه الأصابع، وقيل: إن العنم واحدته عنمة؛ وهى العظاية الصغيرة البيضاء؛ وهى أشبه شيء بالأصابع البيضاء الغضة؛ وهذا حكاه صاحب/ كتاب العين. وقيل: إن العنم نبت له نور أحمر تشبّه به الأصابع المخضوبة، فوجه حسن قوله: «التوديع والعنم» أنّ التوديع كان بالإصبع التى تشبه العنم، فجمع بينهما بذلك؛ ولا حاجة به إلى ذكر الأنامل المخضّبة على ما ظنّ أبو العباس؛ بل ذكر المشبّه به أحسن وأفصح من أن يقول التوديع والأنامل التى تشبه العنم. فأما قوله: إن التوديع لا يستقبح؛ وإنما يستقبح عاقبته فخطأ؛ ومطالبة الشاعر بما لا يطالب بمثله الشعراء؛ لأن التوديع إذا كان منذرا بالفراق وبعد الدار وغيبة المحبوب لا محالة إنه مكروه مستقبح. وقوله: مستقبح عاقبته صحيح، إلا أن ما يعقبه ويثمره لما كان عند حضوره متيقنا مذكورا عاد الإكراه والاستقباح إليه. ونحن نعلم أن الناس يتكرهون ويستقبحون تناول الأشياء الملذة من الأغذية وغيرها إذا علموا ما فى عواقبها من المكروه؛ فإن من تقدّم إليه طعام مسموم وأعلم بذلك يتكرّهه ويستقبح تناوله لما يتوقعه من سوء عاقبته؛ وإن كان ملذا فى الحال؛ ولم نزل الشعراء تذكر كراهتها للوداع وهربها منه. لما يتصور فيه من [ألم الفرقة، وغصص الوحشة] (¬1). وهذا معروف مشهور، وقد قال فيه أبو تمام: أآلفة النحيب كم افتراق … أظلّ فكان داعية اجتماع (¬2) وليست فرحة الأوبات إلّا … لموقوف على ترح الوداع فجعل للوداع ترحا يقابل فرح الإياب، وهذا صحيح. فأما قول جرير: أتنسى إذ تودّعنا سليمى … بفرع بشامة سقى البشام (¬3) ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «ألم الفرقة وغصص الاستيحاش». (¬2) ديوانه: 193. (¬3) ديوانه: 512.

فإنه دعا للبشام- وهو شجر- بالسّقى؛ لأنها ودعته عنده، فسر بتوديعها، وقول الشاعر: من يكن يكره الفراق فإنى … أشتهيه لموضع التّسليم إنّ فيه اعتناقة لوداع … وانتظار اعتناقة لقدوم فمن شأن الشعراء أن يتصرّفوا فى المعانى بحسب أغراضهم وقصودهم، فإذا رأى أحدهم مدح/ شيء قصد إلى أحسن أوصافه فذكرها، وأشار بها؛ حتى كأنه لا وصف له غير ذلك الوصف الحسن؛ وإذا أراد ذمّه قصد إلى أقبح أحواله فذكرها؛ حتى كأنه لا شيء فيه غير ذلك؛ وكلّ مصيب بحسب قصده. ولهذا ترى أحدهم يقصد إلى مدح الشيب فيذكر ما فيه من وقار وخشوع، وأن العمر معه أطول، وما أشبه ذلك، ويقصد إلى ذمه فيصف ما فيه من الإدناء إلى الأجل، وأنه آخر الألوان وأبغضها إلى النساء؛ وما أشبه ذلك؛ وهذه سبيلهم فى كل شيء وصفوه؛ ولمدحهم موضعه، ولذمهم موضعه؛ فمن ذمّ الوداع لما فيه من الإنذار بالفراق وبعد الدار قد ذهب مذهبا صحيحا؛ كما أنّ من مدحه لما فيه من القرب من المحبوب والسرور بالنظر إليه- وإن كان يسيرا- قد ذهب أيضا مذهبا صحيحا. ومن غلط ابن عمار القبيح قوله بعد أن أنشد شعر المجنون، قال: وهذا هو الأصل، ثم استعاره الناس من بعد؛ فقال الشاعر: النّشر مسك، والوجوه دنا … نير، وأطراف الأكفّ عنم وهذا الشعر للمرقّش الأكبر؛ وهو والمرقّش الأصغر جميعا كانا على عهد مهلهل بن ربيعة، وشهدا حرب بكر بن وائل، فكيف يكون قول المرقّش الأكبر بعد قول المجنون لولا الغفلة!

76

مجلس آخر 76 تأويل آية [وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ؛ [البقرة: 53]. فقال: كيف يكون ذلك، والفرقان هو القرآن، ولم يؤت موسى القرآن، وإنما اختصّ به محمد صلى الله عليه وآله؟ الجواب، قلنا: قد ذكر فى ذلك وجوه: أولها أن يكون الفرقان بمعنى الكتاب المتقدم ذكره؛ وهو التوراة، فلا يكون هاهنا اسما للفرقان المنزل على محمد صلى الله عليه وآله، ويحسن نسقه على الكتاب لمخالفته للفظه؛ كما قال تعالى: الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ؛ [البقرة: 151]، وإن كانت الحكمة مما يتضمنها الكتاب، وكتب الله تعالى كلها فرقان، يفرق بين الحق والباطل، والحلال/ والحرام. ويستشهد على هذا الوجه بقول طرفة: فما لى أرانى وابن عمّى مالكا … متى أدن منه ينأ عنّى ويبعد (¬1) فنسق «يبعد» على «ينأ» وهو بعينه، وحسّن ذلك اختلاف اللفظين. وقال عدى بن زيد: وقدّمت الأديم لراهشيه … وألفى قولها كذبا ومينا (¬2) والمين الكذب. وثانيها أن يكون الكتاب عبارة عن التوراة، والفرقان انفراق البحر الّذي أوتيه موسى عليه السلام. ¬

_ (¬1) من المعلقة ص 86 - بشرح التبريزى. (¬2) حاشية الأصل: «يعنى الزباء وجذيمة، والراهشان: عرقان فى الذراعين، والأديم: النطع، وكانت قد وعدته بأن تتزوجه، ثم غدرت به فقتلته على نطع، وهو الأديم الّذي ذكره».

وثالثها أن يراد بالفرقان الفرق بين الحلال والحرام، والفرق بين موسى وأصحابه المؤمنين وبين فرعون وأصحابه الكافرين؛ لأنّ الله تعالى قد فرق بينهم فى أمور كثيرة؛ منها أنه نجّى هؤلاء وأغرق أولئك. ورابعها أن يكون الفرقان المراد به القرآن المنزّل على نبينا صلى الله عليه وآله؛ ويكون المعنى فى ذلك: وآتينا موسى التوراة والتصديق والإيمان بالفرقان الّذي هو القرآن؛ لأن موسى عليه السلام كان مؤمنا بمحمد صلى الله عليه وآله وما جاء به، ومبشرا ببعثته. وساغ حذف القبول والإيمان والتصديق وما جرى مجراه وإقامة الفرقان مقامه؛ كما ساغ فى قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ؛ [يوسف: 82]، وهو يريد أهل القرية. وخامسها أن يكون المراد الفرقان القرآن، ويكون تقدير الكلام: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ الّذي هو التوراة، وَآتينا محمدا الْفُرْقانَ، فحذف ما حذف مما يقتضيه الكلام؛ كما حذف الشاعر فى قوله: تراه كأنّ الله يجدع أنفه … وعينيه إن مولاه كان له وفر (¬1) أراد: ويفقأ عينيه؛ لأن الجدع لا يكون بالعين؛ واكتفى ب «يجدع» من «يفقأ». وقال الشاعر: تسمع للأحشاء منه لغطا … ولليدين جسأة وبددا أى وترى لليدين؛ لأنّ الجسأة والبدد (¬2) لا يسمعان وإنما يريان. وقال الآخر: علفتها تبنا وماء باردا … حتّى شتت همّالة عيناها (¬3) أراد وسقيتها ماء باردا، فدلّ علفت على سقيت. ¬

_ (¬1) البيت فى (الحيوان 6: 40) ونسبه إلى خالد بن الطيفان؛ والرواية فيه: تراه كأنّ الله يجدع أنفه … وأذنيه إن مولاه ثاب له وفر. (¬2) الجسأ: اليبس، والبدد: تباعد ما بين اليدين أو الفخذين. (¬3) البيت من شواهد النحاة فى باب المفعول معه على أنه إذا لم يمكن عطف الاسم الواقع بعد الواو على ما قبله تعين النصب على المعية، أو على إضمار فعل يليق به. وهو فى ابن عقيل 1: 524، غير منسوب.

وقال الآخر (¬1): يا ليت بعلك قد غدا … متقلّدا سيفا ورمحا أراد حاملا رمحا. ووجدت أبا بكر بن الأنبارىّ يقول: إن الاستشهاد بهذه الأبيات لا يجوز على هذا الوجه؛ لأنّ الأبيات اكتفى فيها بذكر فعل عن ذكر فعل غيره، والآية اكتفى فيها باسم دون اسم والأمر وإن كان على ما قاله فى الاسم والفعل؛ فإن موضع الاستشهاد صحيح؛ لأن الاكتفاء فى الأبيات بفعل عن فعل إنما حسن من حيث دلّ الكلام على المحذوف والمضمر واقتضاه، فحذف تعويلا على أن المراد مفهوم غير ملتبس ولا مشتبه. وهذا المعنى قائم فى الآية، وإن كان المحذوف اسما؛ لأن اللبس قد زال، والشبهة قد أمنت فى المراد بها؛ فحسن الحذف؛ لأن الفرقان إذا كان اسما للقرآن؛ وكان من المعلوم أن القرآن إنما أنزل على نبينا صلى الله عليه وآله دون موسى عليه السلام استغنى عن ان يقال: وآتينا محمدا الفرقان؛ كما استغنى الشاعر أن يقول: ويفقأ عينيه، وترى لليدين جسأة وبددا، وما شاكل ذلك. إلا أنه يمكن أن يقال فيما استشهد به فى جميع الأبيات مما لا يمكن أن يقال مثله فى الآية؛ وهو أنّه يقال: لا محذوف، ولا تقدير لفعل مضمر؛ بل الكلام فى كلّ بيت منها محمول على المعنى؛ ومعطوف عليه؛ لأنه لما قال: * تراه كأنّ الله يجدع ألفه* وكان معنى الجدع هو الإفساد للعضو والتشويه به عطف على المعنى، فقال: «وعينيه» فكأنه قال: كأنّ الله يجدع أنفه، أى يفسده ويشوّهه، ثم قال: «وعينيه». وكذلك لما كان السامع للغط من الأحشاء عالما به عطف على المعنى فقال: «ولليدين جسأة وبددا»؛ أى أنّه يعلم هذا وذاك معا؛ وكذلك لما كان فى قوله: «علفت» معنى غذيت عطف عليه الماء؛ لأنه مما ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن الزبعرى، كما فى حواشى ابن الفوطية على الكامل 189 ليبسك. وانظر حواشى شرح المرزوقى للحماسة 1147.

يغتذى به؛ وكذلك لما كان المتقلّد للسيف حاملا له جاز أن يعطف عليه الرمح المحمول. وهذا أولى فى الطعن على الاستشهاد بهذه الأبيات مما ذكره ابن الأنبارىّ. *** أخبرنا أبو الحسن على بن محمد الكاتب قال أخبرنا محمد بن يحيى الصولىّ قال أخبرنا يحيى بن على بن يحيى/ المنجم قال أخبرنا أحمد بن يحيى بن جابر البلاذرىّ عن الهيثم بن عدىّ قال: لما دخل خالد بن صفوان الأهتمىّ (¬1) على هشام بن عبد الملك- وذلك بعد عزله خالد ابن عبد الله القسرىّ- قال: فألفيته جالسا على كرسىّ فى بركة ماؤها إلى الكعبين، فدعا لى بكرسىّ فجلست عليه؛ فقال يا خالد، ربّ خالد جلس مجلسك كان ألوط بقلبى، وأحبّ إلى منك! فقلت: يا أمير المؤمنين؛ إنّ حلمك لا يضيق عنه، فلو صفحت عن جرمه! فقال: يا خالد؛ إنّ خالدا أدلّ فأملّ، وأوجف فأعجف؛ ولم يدع لراجع مرجعا، ولا لعودة موضعا. ثم قال: ألا أخبرك عنه يا ابن صفوان! قلت: نعم، قال: إنه ما بدأنى بسؤال حاجة مذ قدم العراق حتى أكون أنا الّذي أبدؤه بها، قال خالد: فذاك أحرى أن ترجع إليه، فقال متمثلا: إذا انصرفت نفسى عن الشّيء لم تكد … إليه بوجه آخر الدّهر تقبل (¬2) ثم قال: حاجتك يا ابن صفوان، قلت: تزيدنى فى عطائى عشرة دنانير، فأطرق ثم قال: ولم؟ وفيم؟ العبادة أحدثتها فنعينك عليها، أم لبلاء حسن أبليته عند أمير المؤمنين؟ أم لماذا يا ابن صفوان؟ إذا يكثر السؤال، ولا يحتمل ذلك بيت المال. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين؛ وفّقك الله وسدّدك، أنت والله كما قال أخو خزاعة: إذا المال لم يوجب عليك عطاءه … قرابة قربى، أو صديق توامقه (¬3) منعت- وبعض المنع حزم وقوّة- … ولم تفتلتك المال إلّا حقائقه ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «الأهتم». (¬2) البيت لمعن بن أوس، وهو فى الحماسة 1131 - بشرح المرزوقى. (¬3) البيتان لكثير؛ وهما فى ديوانه 2: 83، والأغانى 11: 192 (طبعة الدار) وأمالى القالى 2: 88، وتوامقه، توده؛ مفاعلة من الموامقة؛ وتفتلتك، أى يخرجه من يدك وقبضتك.

فلما قدم خالد البصرة، قيل له: ما الّذي حملك على تزيين الإمساك له؟ قال: أحببت أن يمنع غيرى كما منعنى، فيكثر من يلومه. قال سيدنا أدام الله علوّه: وكان خالد مشهورا بالبلاغة وحسن العبارة. *** وبالإسناد المتقدم عن المدائنىّ قال: قال حفص بن معاوية بن عمرو الغلابىّ، قلت لخالد: يا أبا صفوان، إنى لأكره أن تموت وأنت من أيسر أهل البصرة فلا يبكيك إلا الإماء، قال: فابغنى امرأة، قلت: صفها لى أطلبها لك، قال: أريد بكرا كثيّب، أو ثيّبا كبكر، / لا ضرعا صغيرة، ولا مسنّة كبيرة؛ لم تقرأ فتجبن (¬1)، ولم تفتّ (¬2) فتمجن؛ قد نشأت فى نعمة، وأدركتها خصاصة، فأدّبها الغنى، وأذلّها الفقر، حسبى من جمالها أن تكون فخمة من بعيد، مليحة من قريب؛ وحسبى من حسنها أن تكون واسطة قومها، ترضى منى بالسّنة؛ إن عشت أكرمتها، وإن متّ ورّثتها، لا ترفع رأسها إلى السماء نظرا، ولا تضعه إلى الأرض سقوطا. فقلت: يا أبا صفوان؛ إنّ الناس فى طلب هذه مذ زمان طويل فما يقدرون عليها. وكان يقول: إن المرأة لو خفّ محملها، وقلّت مئونتها ما ترك اللئام فيها للكرام بيتة ليلة؛ ولكن ثقل محملها، وعظمت مئونتها فاجتباها الكرام، وحاد عنها اللئام. وكان خالد من أشحّ الناس وأبخلهم؛ كان إذا أخذ جائزة أو غيرها قال للدرهم: أما والله لطالما أغرت فى البلاد وأنجدت؛ والله لأطيلن ضجعتك، ولأديمنّ صرعتك. وسأله رجل من بنى تميم فأعطاه دانقا، فقال: يا سبحان الله! أتعطى مثلى دانقا! فقال له: لو أعطاك كلّ رجل من بنى تميم مثل ما أعطيتك لرحت ذا مال عظيم. وسأله رجل، فأعطاه درهما فاستقلّه، فقال: يا أحمق، أما علمت أنّ الدرهم عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف عشر دية مسلم! وكان يقول: والله ما تطيب نفسى بإنفاق درهم إلا درهما قرعت به باب الجنة، أو درهما اشتريت به موزا. ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشية ف: «فتحنن»، وانظر عيون الأخبار 4: 5. (¬2) حاشية الأصل: «لم تفت من الفتوة».

وقال: لأن يكون لى ابن يحب الخمر أحبّ إلى من أن يكون لى ابن يحبّ اللحم؛ لأنه متى طلب اللحم وجده، والخمر يفقده أحيانا. وكان يقول: من كان ماله كفافا فليس بغنىّ ولا فقير؛ لأن النائبة إذا نزلت به أجحفت بكفافه؛ ومن كان ماله دون الكفاف فهو فقير، ومن كان ماله فوق الكفاف فهو غنىّ. وكان يقول: لأن يكون لأحدكم جار يخاف أن ينقب عليه بيته خير من أن يكون له جار من التجار؛ لا يشاء أن يعطيه مالا ويكتب به عليه صكّا إلا فعل.

77

مجلس آخر 77 تأويل آية [إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ/ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ/ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ؛ [الأنعام: 33]. فقال: كيف يخبر عنهم بأنهم لا يكذّبون نبيّه عليه السلام، ومعلوم منهم إظهار التكذيب، والعدول عن الاستجابة والتصديق، وكيف ينفى عنهم التكذيب ثم يقول: إنهم بآيات الله يجحدون؟ وهل الجحد بآيات الله إلا تكذيب نبيه عليه السلام! الجواب، قلنا: قد ذكر فى هذه الآية وجوه: أولها أن يكون إنما نفى تكذيبهم بقلوبهم تدينا واعتقادا، وإن كانوا يظهرون بأفواههم التكذيب؛ لأنّا نعلم أنه قد كان فى المخالفين له عليه السلام من يعلم صدقه، ولا ينكر بقلبه حقّه؛ وهو مع ذلك معاند؛ فيظهر خلاف ما يبطن، وقد قال تعالى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ؛ [البقرة: 146]. ومما يشهد لهذه الوجه من طريق الرواية ما رواه سلّام بن مسكين عن أبى يزيد المدنىّ أن رسول الله صلى الله عليه وآله لقى أبا جهل فصافحه أبو جهل، فقيل له: يا أبا الحكم، أتصافح هذا الصّبيّ؟ فقال: والله إنى لأعلم أنه نبىّ؛ ولكن متى كنا تبعا لبنى عبد مناف! فأنزل الله تعالى الآية. وفى خبر آخر أن الأخنس بن شريق خلا بأبي جهل، فقال له: يا أبا الحكم، أخبرنى عن محمد صلى الله عليه وآله، أصادق هو أم كاذب! فإنه ليس هاهنا من قريش أحد غيرى وغيرك يسمع كلامنا، فقال له أبو جهل: ويحك! والله إنّ محمدا لصادق، وما كذب

محمد قط؛ ولكن إذا ذهب بنو قصىّ باللواء والحجابة والسّقاية والنّدوة والنبوّة، ماذا يكون لسائر قريش! والوجه الثانى أن يكون معنى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ أى لا يفعلون ذلك بحجة، ولا يتمكون من إبطال ما جئت به ببرهان؛ وإنما يقتصرون على الدعوى الباطلة؛ وهذا فى الاستعمال معروف؛ لأنّ القائل يقول: فلان لا يستطيع أن يكذّبنى ولا يدفع قولى؛ وإنما يريد أنه لا يتمكّن من إقامة دليل على كذبه، وحجة فى دفع قوله؛ وإن كان يتمكن من التكذيب بلسانه وقلبه، فيصير ما يقع من التكذيب من غير حجّة ولا برهان غير معتد به. وروى عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أنه قرأ هذه الآية بالتخفيف: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، ويقول: أنّ المراد بها أنهم/ لا يأتون بحق هو أحقّ من حقك. وقال محمد بن كعب القرظىّ: معناها لا يبطلون ما فى يديك؛ وكل ذلك يقوّى هذا الوجه؛ وسنبيّن أنّ معنى هذه اللفظة مشدّدة يرجع إلى معناها مخففة. والوجه الثالث أن يكون معنى الآية أنهم لا يصادفونك ولا يلفونك متقوّلا؛ كما يقولون: قاتلته فما أجبنته، أى ما وجدته جبانا، وحادثته فما أكذبته؛ أى لم ألفه كاذبا؛ وقال الأعشى: أثوى وقصّر ليلة ليزوّدا … فمضى وأخلف من قتيلة موعدا (¬1) أراد أنه صادف منها خلفا المواعيد، ومثله قولهم: أصممت القوم؛ إذا صادفتهم صما، وأخليت الموضع، إذا صادفته خاليا؛ قال الشاعر: أبيت مع الحدّاث ليلى فلم أبن … فأخليت فاستجمعت عند خلائيا أى أصبت مكانا خاليا. ¬

_ (¬1) ديوانه: 150.

ومثله لهيمان بن أبى قحافة: يسنّ أنيابا له لوامجا (¬1) … أوسعن من أشداقه المضارجا (¬2) يعنى ب «أوسعن» أصبن منابت واسعة فنبتن فيها. وقال عمرو بن براق: تحالف أقوام عليّ ليسمنوا … وجرّوا عليّ الحرب إذ أنا سائم (¬3) يقال: أسمن بنو فلان، إذا رعت إبلهم فصادفوا فيها سمنا. وقال أبو النجم: مستأسدا ذبابه فى غيطل … يقلن للرائد أعشبت انزل (¬4) أى أصبت مكانا معشبا. وقال ذو الرّمة: تريك بياض لبّتها ووجها … كقرن الشّمس أفتق ثمّ زالا (¬5) أى وجد فتقا من السحاب. وليس لأحد أن يجعل هذا الوجه مختصا بالقراءة بالتخفيف دون التشديد؛ لأن فى الوجهين معا يمكن هذا الجواب، لأن «أفعلت» و «فعلت» يجوزان فى هذا الموضع، و «أفعلت» بالتخفيف هو الأصل ثم شدد تأكيدا وإفادة لمعنى التكرار؛ وهذا مثل أكرمت وكرّمت، وأعظمت وعظّمت، وأوصيت ووصّيت، وأبلغت وبلّغت؛ وهو كثير/؛ قال الله تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق: 17]؛ إلا أن التخفيف أشبه بهذا الوجه؛ لأن استعمال هذه اللفظة مخففة فى هذا المعنى أكثر. والوجه الرابع ما حكى الكسائىّ من قوله: إن المراد أنهم لا ينسبونك إلى الكذب فيما أثبت به؛ لأنه كان أمينا صادقا لم يجرّبوا عليه كذبا؛ وإنما كانوا يدفعون ما أتى به، ويدّعون أنه فى نفسه كذب؛ وفى الناس من يقوّى هذا الوجه، وأن القوم كانوا يكذّبون ما أتى به، وإن ¬

_ (¬1) اللمج: الأكل. (¬2) المضارج: الثياب المشقوقة؛ والبيت فى اللسان (ضرج). (¬3) البيت فى الأغانى 21: 114. (¬4) الطرائف الأدبية 59. (¬5) ديوانه 434.

كانوا يصدقونه فى نفسه بقوله تعالى: وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ؛ وبقوله تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ؛ [الأنعام: 66]؛ ولم يقل: وكذّبك قومك. وكان الكسائىّ يقرأ: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بالتخفيف ونافع من بين سائر السبعة، والباقون على التشديد؛ ويزعم أنّ بين أكذبه وكذّبه فرقا، وأن معنى أكذب الرجل، أنه جاء بكذب، ومعنى كذّبته أنه كذاب فى كل حديثه. وهذا غلط وليس بين «فعّلت» و «أفعلت» فى هذه الكلمة فرق من طريق المعنى أكثر مما ذكرناه من أنّ التشديد يقتضي التكرار والتأكيد، ومع هذا لا يجوز أن يصدّقوه فى نفسه، ويكذّبوا بما أتى به؛ لأن من المعلوم أنه عليه السلام كان يشهد بصحة ما أتى به وصدقه، وأنه الدين القيم، والحق الّذي لا يجوز العدول عنه؛ فكيف يجوز أن يكون صادقا فى خبره وكان الّذي أتى به فاسدا! بل إن كان صادقا فالذى أتى به حقّ صحيح، وإن كان الّذي أتى به فاسدا؛ فلا بد من أن يكون فى شيء من ذلك كاذبا؛ وهو تأويل من لا يتحقق المعانى. والوجه الخامس أن يكون المعنى فى قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ أن تكذيبك راجع إلى، وعائد عليّ؛ ولست المختص به؛ لأنه رسول فمن كذبه فهو فى الحقيقة مكذّب لله تعالى ورادّ عليه. وهذا كما يقول أحدنا لرسوله: امض فى كذا فمن كذّبك فقد كذبنى، ومن دفعك فقد دفعنى؛ وذلك من الله على سبيل التسلية لنبيه عليه السلام؛ والتعظيم والتغليظ لتكذيبه. والوجه السادس أن يريد: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ فى الأمر الّذي يوافق فيه تكذيبهم، وإن كذبوك فى غيره. ويمكن فى الآية وجه سابع، وهو أن يريد تعالى أن جميعهم لا يكذبونك وإن كذّبك بعضهم؛ فهم الظالمون الذين ذكروا فى آخر الآية بأنهم يجحدون بآيات الله؛ وإنما سلّى نبيه عليه السلام بهذا القول وعزّاه؛ فلا ينكر أن يكون موسى عليه السلام لما استوحش من تكذيبهم له وتلقيهم إياه بالرد؛ وظن أنه لا متّبع له منهم، ولا ناصر لدينه فيهم أخبره

الله تعالى بأنّ البعض وإن كذبك فإن فيهم من يصدقك ويتبعك وينتفع بإرشادك وهدايتك؛ وكل هذا واضح والمنة لله. *** قال سيدنا أدام الله علوّه: ومن جيد الشعر قول مطرود بن كعب الخزاعىّ: يا أيّها الرّجل المحوّل رحله … ألّا نزلت بآل عبد مناف! (¬1) هبلتك أمّك لو نزلت عليهم … ضمنوك من جوع ومن إقراف (¬2) الآخذون العهد من آفاقها … والرّاحلون لرحلة الإيلاف والمطعمون إذا الرّياح تناوحت … ورجال مكّة مسنتون عجاف والمفضلون إذا المحول ترادفت … والقائلون هلمّ للأضياف والخالطون غنيّهم بفقيرهم … حتى يكون فقيرهم كالكافي (¬3) كانت قريش بيضة فتفلّقت … فالمحّ خالصة لعبد مناف (¬4) ¬

_ (¬1) معجم الشعراء 375، وسيرة ابن هشام 1: 117 (على حاشية روض الأنف)؛ وذكر أنه رثى بها عبد المطلب بن عبد مناف؛ وفى معجم الشعراء: «هلا حللت»، وفى ابن هشام: «هلا سألت عن آل عبد مناف». (¬2) قال السهيلىّ فى شرح هذا البيت: «أى منعوك من أن تنكح بناتك أو أخواتك من لئيم؛ فيكون الابن مقرفا للؤم أبيه وكرم أمه؛ فيلحقك وصم من ذلك؛ ونحو منه قول مهلهل: أنكحها فقدها الأراقم فى … جنب، وكان الحباء من أدم أى أنكحت لغربتها من غير كفء». (¬3) الكافى: الغنىّ الّذي يكفى غيره. (¬4) البيت فى اللسان (مح)، والسيرة 1: 94 وابن أبى الحديد 3: 453، والعينى 4: 140 منسوب إلى ابن الزبعرى. والمح: صفرة البيض؛ كالمحة. وخالصة: مصدر؛ وفى حاشية الأصل (من نسخة): «خالصها»؛ وهى رواية اللسان. وزاد فى رواية ابن هشام: إمّا هلكت- أبا الفعال- فما جرى … من فوق مثلك عقد ذات نطاف إلّا أبيك أخى المكارم وحده … والفيض مطّلب أبى الأضياف.

أما قوله: * والراحلون لرحلة الإيلاف* فكان هاشم صاحب إيلاف قريش للرحلتين وأول من سنهما، فألفوا الرحلتين: فى الشتاء إلى اليمن والحبشة والعراق، وفى الصيف إلى الشام. وفى ذلك يقول ابن الزّبعرى: عمرو العلا هشم الثريد لقومه … ورجال مكّة مسنتون عجاف (¬1) وهو الّذي سنّ الرّحيل لقومه … رحل الشّتاء ورحلة (¬2) الأضياف فأما «المسنتون» فهم الذين أصابتهم السنة المجدبة الشديدة. وقوله: * والخالطون غنيّهم بفقيرهم* من أحسن الكلام وأخصره؛ وإنما أراد أنهم يفضلون على الفقير حتى يعود غنيا/ ذا ثروة. ولأحمد بن يوسف أبيات على هذا الوزن يمزح بها مع ولد سعيد بن سلم الباهلىّ، وكان لهم صديقا: أبني سعيد إنّكم من معشر … لا يعرفون كرامة الأضياف (¬3) قوم لباهلة بن يعصر إن هم … نسبوا حسبتهم لعبد مناف قرنوا الغداء إلى العشاء وقرّبوا … زادا لعمر أبيك ليس بكاب وكأنّنى لمّا حططت إليهم … رحلى نزلت بأبرق العزّاف (¬4) بينا كذلك إذ أتى كبراؤهم … يلحون فى التّبذير والإسراف ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 1: 94، والعينى 1: 140، وابن أبى الحديد 3: 453. (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «برحلة». (¬3) الأبيات فى معجم البلدان 1: 78، روى عن المبرد أنه عزاها لرجل يهجو بنى سعد بن قتيبة الباهلى. (¬4) أبرق العزاف: ماء لبنى أسد بن خزيمة بن مدركة. وفى حاشية الأصل: «مغارة بعينها».

أراد بقوله: «قرنوا الغداء إلى العشاء» من بخلهم واختصارهم فى المطعم؛ ويقال: إنّ هذا الشعر حفظ وصار من أكثر ما يسبّون به ويسبّ قومهم؛ ولرب مزح جرّ جدّا، وعثرة الشعر لا تستقال؛ والشعر يسير بحسب جودته. ولقد أحسن دعبل بن على فى قوله: نعونى ولمّا ينعنى غير شامت … وغير عدوّ قد أصيبت مقاتله (¬1) يقولون إن ذاق الرّدى مات شعره … وهيهات عمر الشّعر طالت طوائله! سأقضى ببيت يحمد النّاس أمره … ويكثر من أهل الرّواية حامله يموت رديّ الشّعر من قبل ربّه … وجيّده يبقى؛ وإن مات قائله (¬2) ولآخر فى هذا المعنى (¬3): لا تعرضنّ بمزح لامرئ فطن … ما راضه قلبه أجراه فى الثّبت (¬4) فربّ قافية بالمزح جارية … مشئومة لم يرد إنماؤها نمت إنّى إذا قلت بيتا مات قائله … ومن يقال له والبيت لم يمت ¬

_ (¬1) الأبيات فى الكامل 4: 111 - بشرح المرصفى، والموشح: 381. (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «إذا مات». (¬3) من أبيات فى (الكامل 4: 110 - 111 بشرح المرصفى)؛ ونسبها أيضا لدعبل؛ وأولها: أحببت قومى ولم أعدل لحبّهم … قالوا: تعصبت جهلا، قول ذى بهت. (¬4) الثبت: الدرج؛ وفى حاشية الأصل (من نسخة): «الشفة»؛ وهى رواية الكامل.

78

مجلس آخر 78 تأويل آية أخرى [ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ/ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ/ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ؛ [الأنعام: 23، 24] وعن قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ؛ [الأنعام: 27، 28]. فقال: كيف يقع من أهل الآخرة نفى الشرك عن أنفسهم، والقسم بالله تعالى عليه وهم كاذبون فى ذلك؛ مع أنهم عندكم فى تلك الحال لا يقع منهم شيء من القبيح لمعرفتهم بالله تعالى ضرورة؛ ولأنهم ملجئون هناك إلى ترك جميع القبائح، وكيف قال من بعد: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فشهد عليهم بالكذب، ثم علّقه بما لا يصح فيه معنى الكذب وهو التمنى؛ لأنهم تمنوا ولم يخبروا! الجواب، قلنا: أول ما نقوله: إنه ليس فى ظاهر الآية ما يقتضي أن قولهم: ما كُنَّا مُشْرِكِينَ إنما وقع فى الآخرة دون الدنيا؛ وإذا لم يكن ذلك فى الظاهر جاز أن يكون الإخبار يتناول حال الدنيا، وسقطت المسألة؛ وليس لأحد أن يتعلّق فى وقوع ذلك فى الآخرة بقوله تعالى قبل الآية: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 22]؛ وأنه عقّب ذلك بقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ؛ فيجب أن يكون الجميع مختصا بحال الآخرة؛ لأنه لا يمنع أن تكون الآية تتناول ما يجرى فى الآخرة، ثم تتلوها آية تتناول ما يجرى فى الدنيا؛ لأن مطابقة كل آية لما قبلها فى مثل هذا

غير واجبة، وقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ لا تدلّ أيضا على أن ذلك يكون واقعا بعد ما خبر تعالى عنه فى الآية الأولى؛ فكأنه تعالى قال على هذا الوجه: إنا نحشرهم فى الآخرة ونقول: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ وما كان فتنتهم وسبب ضلالهم فى الدنيا إلا قولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. وقد قيل فى الآية- على تسليم أنّ هذا القول يقع منهم فى الآخرة-: إنّ المراد به أنا ما كنا عند نفوسنا وفى اعتقادنا مشركين؛ بل كنا نعتقد أنا على الحق والهدى، وقوله تعالى من بعد: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لم يرد هذا الخبر الّذي وقع منهم فى الآخرة؛ بل إنهم كذبوا على أنفسهم فى دار الدنيا بإخبارهم/ أنهم مصيبون محقّون غير مشركين؛ وليس فى الظاهر إلا أنهم كذبوا على أنفسهم من غير تخصيص بوقت؛ فلم يحمل على آخرة دون دنيا. ولو كان للآية ظاهر يقتضي وقوع ذلك فى الآخرة لحملناه على الدنيا؛ بدلالة أن أهل الآخرة لا يجوز أن يكذبوا لأنهم ملجئون إلى ترك القبيح. فأما قوله تعالى حاكيا عنهم: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وقوله تعالى: فإنّهم لَكاذِبُونَ فمن الناس من حمل الكلام كله على وجه التمنى؛ فصرف قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ إلى غير الأمر الّذي تمنوه؛ [لأن التمنى لا يصح معه الصدق والكذب] (¬1)؛ لأنهما إنما يدخلان فى الأخبار المحضة؛ لأن قول القائل: ليت الله رزقنى ولدا؛ وليت فلانا أعطانى مالا أفعل به كذا وكذا لا يكون كذبا ولا صدقا؛ وقع ما تمناه أو لم يقع؛ فيجوز على هذا أن يكون قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ مصروفا إلى حال الدنيا، كأنه تعالى قال: وهم كاذبون فيما يخبرون به عن أنفسهم فى الدنيا من الإضافة واعتقاد الحق؛ أو يريد أنّهم كاذبون أن خبّروا (¬2) عن أنفسهم أنهم متى ردوا آمنوا ولم يكذبوا؛ وإن كان ما كان مما حكى عنهم من التمنى ليس بخبر. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة)؛ «لأن التمنى لا يصح فيه معنى الصدق والكذب». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «أن يخبروا».

وقد يجوز أيضا أن يحمل قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ على غير الكذب الحقيقىّ؛ بل يكون المراد والمعنى أنهم تمنوا ما لا سبيل إليه فكذب (¬1) أملهم وتمنّيهم؛ وهذا مشهور فى الكلام؛ لأنهم يقولون لمن تمنى ما لا يدرك: كذب أملك، وأكدى رجاؤك؛ وما جرى مجرى ذلك؛ قال الشاعر: كذبتم وبيت الله لا تأخذونها … مراغمة ما دام للسّيف قائم وقال آخر: كذبتم وبيت الله لا تنكحونها … بنى شاب قرناها تصرّ وتحلب (¬2) ولم يرد الكذب فى الأقوال؛ بل فى التمنى والأمل. وليس لأحد أن يقول: كيف يجوز من أهل الآخرة مع معارفهم الضرورية، وأنهم عالمون بأنّ الرجوع إلى الدنيا لا سبيل إليه أن يتمنوه؛ وذلك أنه غير ممتنع أن يتمنى المتمنّى ما يعلم أنّه لا يحصل ولا يقع؛ ولهذا يتعلّق التمنى للشيء/ بألّا يكون ما قد كان. ولقوّة اختصاص التمنى بما يعلم أنه لا يكون غلط قوم فجعلوا إرادة ما علم المريد أنه لا يكون تمنيا؛ فهذا الّذي ذكرناه وجه فى تأويل الآية. وفى الناس من يجعل بعض الكلام تمنّيا وبعضه إخبارا، وعلّق تكذيبهم بالخبر دون لَيْتَنا؛ فكان تقدير الآية: يا ليتنا نرد- وهذا هو التمنى- ثم قال من بعد: فإنّا لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فأخبروا بما علم الله تعالى أنهم فيه كاذبون؛ وإن لم يعلموا من أنفسهم مثل ذلك؛ فلهذا كذّبهم الله تعالى. وكل هذا واضح. *** أخبرنا أبو عبيد الله المرزبانىّ قال حدثنى أحمد بن عبد الله، وعبد الله بن يحيى العسكريّان (¬3) قالا: حدثنا الحسن بن عليل العنزىّ قال حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله العبدىّ قال حدثنا ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «فكذب أملهم» بالتشديد. (¬2) البيت فى اللسان (قرن)، وسيبويه 1: 259، 2: 65؛ وشاب قرناها: لقب لامرأة. (¬3) حاشية الأصل (من نسخة): «العسكرى».

أبو مسعر (¬1) - رجل منا من بنى غنم بن عبد القيس- قال: ورد (¬2) منصور بن سلمة النّمرىّ على البرامكة، وهو شيخ كبير- وكان مروان بن أبى حفصة صديقا لى؛ على أنى كنت أبغضه وأمقته فى الله- فشكا إلى وقال: دخل علينا اليوم رجل أظنه شاميا- وقد تقدمته البرامكة فى الذكر عند الرشيد- فأذن له، فدخل فسلّم وأجاد، فأذن له الرشيد، فجلس. قال: فأوجست منه خوفا فقلت: يا نفس، أنا حجازىّ نجدى شافهت العرب وشافهتنى، وهذا شامىّ؛ أفتراه أشعر منى! قال: فجعلت أرفو (¬3) نفسى إلى أن استنشده هارون؛ فإذا هو والله من أفصح الناس، فدخلنى له حسد؛ قال: فأنشده قصيدة تمنيت أنها لي؛ وأنّ عليّ غرما، فقلت له: ما هى؟ قال: أحفظ منها أبياتا، وهى: أمير المؤمنين إليك خضنا … غمار الموت من بلد شطير بخوص كالأهلّة جانفات … تميل على السّرى وعلى الهجير حملن إليك آمالا عظاما … ومثل الصخر والدّرّ النّثير فقد وقف المديح بمنتهاه … وغايته وصار إلى المصير إلى من لا تشير إلى سواه … - إذا ذكر النّدى- كفّ المشير / قال مروان: فوددت أنه قد أخذ جائزتى وسكت. وعجبت من تخلّصه إلى تلك القوافى. ثم ذكر ولد أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، فأحسن التخلص، ورأيت هارون يعجب بذلك؛ فقال: يد لك فى رقاب بنى عليّ … ومنّ ليس بالمنّ اليسير فإن شكروا فقد أنعمت فيهم … وإلّا فالنّدامة للكفور مننت على ابن عبد الله يحيى … وكان من الحتوف على شفير وقد سخطت لسخطتك المنايا … عليه؛ فهى حائمة النّسور ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «أبو مسعود». (¬2) الخبر فى الأغانى 12: 16 - 17. (¬3) أرفو نفسى: أسكنها من الرعب.

ولو كافأت ما اجترحت يداه … دلفت له بقاصمة الظّهور ولكن جلّ حلمك واجتباه … على الهفوات عفو من قدير فعاد كأنّه لم يجن ذنبا … وقد كان اجتنى حسك الصدور وإنّك حين تبلغهم أذاة … - وإن ظلموا- لمحترق الضّمير وإن الرشيد قال لما سمع هذا البيت: هذا والله معنى كان فى نفسى؛ وأدخله بيت المال فحكّمه فيه. عدنا إلى الخبر، قال مروان: وكان هارون يبسم ويكاد يضحك للطف ما سمع؛ ثم أومأ إلى أن أنشد، فأنشدته قصيدتى التى أقول فيها: خلّوا الطّريق لمعشر عاداتهم … حطم المناكب كلّ يوم زحام (¬1) حتى أتيت على آخرها؛ فو الله ما عاج ذلك الرجل/- يعنى النمرىّ- بشعرى، ولا حفل به. قال: وأنشده منصور يومئذ: إنّ لهارون إمام الهدى … كنزين من أجر ومن برّ يريش ما تبرى اللّيالى ولا … تريش أيديهنّ ما يبرى كأنّما البدر على رحله … ترميك منه مقلتا صقر قال وأنشده أيضا: ولمن أضاع لقد عهدتك حافظا … لوصيّة العبّاس بالأخوال / قال مروان: وأخلق به أن يغلبنى وأن يعلو عليّ عنده؛ فإنى ما رأيت أحسن من تخلّصه إذا ذكر الطالبيّين (¬2). *** ¬

_ (¬1) بعده فى رواية الأغانى: ارضوا بما قسم الإله لكم به … ودعوا وراثة كلّ أصيد حام أنّى يكون وليس ذاك بكائن … لبنى البنات وراثة الأعمام! . (¬2) د، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «إلى ذكر الطالبيين».

أخبرنا المرزبانىّ قال حدثنى أبو عبد الله الحكيمىّ قال حدثنى يموت بن المزرّع قال حدثنى أبو عثمان الجاحظ قال: كان منصور النّمرىّ ينافق الرشيد ويذكر هارون فى شعره؛ ويريه أنّه من وجوه شيعته، وباطنه ومراده بذلك أمير المؤمنين عليه السلام، لقول النبي صلى الله عليه وآله: «أنت منى بمنزلة هارون من موسى»؛ إلى أن وشى عنده بعض أعدائه- وهو العتّابىّ- فقال: يا أمير المؤمنين، هو والله الّذي يقول: متى (¬1) يشفيك دمعك من همول … ويبرد ما بقلبك من غليل! وأنشده أيضا: شاء من النّاس راتع هامل … يعلّلون النّفوس بالباطل (¬2) ومنصور يصرّح فى هذه القصيدة بالعجائب؛ فوجّه الرشيد برجل من فزارة، وأمره أن يضرب عنق منصور حيث تقع عينه عليه؛ فقدم الرجل رأس عين (¬3) بعد موت منصور بأيام قلائل. قال المرزبانىّ: ويصدّق قول الجاحظ أنّ النّمرىّ كان يذكر هارون فى شعره؛ وهو يعنى به أمير المؤمنين عليّا عليه السلام ما أنشدناه (¬4) محمد بن الحسن بن دريد للنّمرىّ: آل الرّسول خيار الناس كلّهم … وخير آل رسول الله هارون رضيت حكمك لا أبغى به بدلا … لأنّ حكمك بالتّوفيق مقرون *** وروى أنّ أبا عصمة الشيعىّ لما أوقع بأهل ديار ربيعة أوفدت ربيعة وفدا إلى الرشيد، فيهم منصور النّمرىّ؛ فلما صاروا بباب الرشيد أمرهم باختيار من يدخل عليه، فاختاروا عددا بعد عدد، إلى أن اختاروا رجلين؛ النّمرىّ أحدهما؛ ليدخلا ويسألا حوائجهما- وكان ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «متى ينفك». (¬2) الأغانى 12: 19. (¬3) رأس عين: من مدن الجزيرة، بين حران ونصيبين. (¬4) حاشية الأصل: «نسخة س: ما أنشده».

النّمرىّ مؤدبا، لم يسمع منه شعر قط قبل ذلك، ولا عرف به- فلما مثل هو وصاحبه بين يدى الرشيد قال لهما: قولا ما تريدان، فاندفع النّمرىّ فأنشد: * ما تنقضى حسرة منّى ولا جزع* فقال له الرشيد: قل حاجتك وعدّ عن هذا، فقال: * إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع* / وأنشده القصيدة حتى أتى إلى قوله: ركب من النّمر عاذوا بابن عمّهم … من هاشم إذ ألحّ الأزلم الجذع (¬1) متّوا إليك بقربى منك تعرفها … لهم بها فى سنام المجد مطّلع إنّ المكارم والمعروف أودية … أحلّك الله منها حيث تجتمع (¬2) إذا رفعت امرأ فالله رافعه … ومن وضعت من الأقوام متّضع نفسى فداؤك والأبطال معلمة … يوم الوغى والمنايا بينهم قرع حتى أتى إلى آخرها؛ فقال: ويحك! قل حاجتك فقال: يا أمير المؤمنين، أخربت الديار، وأخذت الأموال، وهتك الحرم؛ فقال: اكتبوا له بكلّ ما يريد؛ وأمر له بثلاثين ألف درهم، واحتبسه عنده، وشخص أصحابه بالكتب، ولم يزل عنده يقول الشعر فيه حتى استأذنه فى الانصراف فأذن له؛ ثم اتصل بالرشيد قوله: شاء من النّاس راتع هامل … يعلّلون النّفوس بالباطل تقتل ذرّيّة النّبيّ ويرجو … ن خلود الجنان للقاتل ما الشّكّ عندى فى كفر قاتله … لكنّنى قد أشكّ فى الخاذل فامتعض الرشيد وأنفذ من يقتله؛ فوجده فى بعض الروايات ميتا، وفى أخرى عليلا لما به، فسئل الرسول ألّا يأثم به؛ وأن ينتظر موته، ففعل ولم يبرح حتى توفّى، فعاد بخبر موته إلى هارون. ¬

_ (¬1) الأغانى 12: 19. الأزلم الجذع: اسم للدهر. (¬2) د، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «تنتج».

وللنّمرىّ: لو كنت أخشى معادى حقّ خشيته … لم تسم عينى إلى الدّنيا ولم تنم لكنّنى عن طلاب الدّين محتبل … والعلم مثل الغنى والجهل كالعدم يحاولون دخولى فى سوادهم … لقد (¬1) أطافوا بصدع غير ملتئم ما يغلبون (¬2) النّصارى واليهود على … حبّ (¬3) القلوب ولا العبّاد للصّنم ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «فقد». (¬2) حاشية الأصل: «نسخة ش: ما تغلبون». (¬3) حاشية الأصل: «نسخة ش: حب»، بفتح الحاء.

79

مجلس آخر 79 تأويل آية [وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ؛ [التكوير: 8، 9] فقال: كيف يصحّ أن يسأل من لا ذنب له ولا عقل؟ وأىّ فائدة فى سؤالها عن ذلك؟ وما وجه الحكمة فيه؟ وما الموءودة؟ ومن أىّ شيء اشتقاق هذه اللفظة؟ الجواب، قلنا: أما معنى سُئِلَتْ ففيه وجهان: أحدهما أن يكون المراد أن قاتلها طولب بالحجة فى قتلها، وسئل عن قتله لها، وبأىّ ذنب كان؛ على سبيل التوبيخ والتعنيف وإقامة الحجة. فالقتلة هاهنا هم المسئولون على الحقيقة لا المقتولة؛ وإنما المقتولة مسئول عنها. ويجرى هذا مجرى قولهم: سألت حقى، أى طالبت به؛ ومثله قوله تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا؛ [الإسراء: 34]؛ أى مطالبا به مسئولا عنه. والوجه الآخر أن يكون السؤال توجّه إليها على الحقيقة على سبيل التوبيخ لقائلها، والتقريع له، والتنبيه له على أنّه لا حجة له فى قتلها؛ ويجرى هذا مجرى قوله تعالى لعيسى عليه السلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ [المائدة: 116]، على طريق التوبيخ لقومه وإقامة الحجة عليهم. فإن قيل على هذا الوجه: كيف يخاطب ويسأل من لا عقل له ولا فهم! والجواب، أن فى الناس من زعم أن الغرض بهذا القول إذا كان تبكيت الفاعل وتهجينه

وإدخال الغمّ عليه فى ذلك الوقت على طريق العقاب لم يمتنع أن يقع، وإن لم يكن من الموءودة فهم له؛ لأن الخطاب وإن علّق عليها، وتوجّه إليها فالغرض فى الحقيقة غيرها؛ وهذا يجرى مجرى من ضرب ظالم طفلا من ولده يقول: ولم (¬1) ضربت؟ وما ذنبك؟ وبأى شيء استحلّ (¬2) هذا منك؟ وغرضه تبكيت الظالم لا خطاب الطفل. فالأولى أن يقال فى هذا: إن الأطفال وإن كان (¬3) من جهة العقول لا يجب فى وصولهم إلى الأغراض المستحقة أن يكونوا كاملى العقول؛ كما يجب مثل ذلك فى الوصول إلى الثواب؛ فإنّ الخبر متظاهر، والأمة متفقة على أنهم فى الآخرة، وعند دخولهم الجنان يكونون على/ أكمل الهيئات؛ وأفضل الأحوال؛ وإنّ عقولهم تكون كاملة؛ فعلى هذا يحسن توجّه الخطاب إلى الموءودة؛ لأنها تكون فى تلك الحال ممن تفهم الخطاب وتعقله، وإن كان الغرض فيه التبكيت للقائل، وإقامة الحجة عليه. وقد روى عن أمير المؤمنين عليه السلام؛ وابن عباس، ويحيى بن يعمر، ومجاهد، ومسلم ابن صبيح، وأبى الضحى؛ ومروان، وأبى صالح، وجابر بن زيد أنهم قرءوا سالت بفتح السين والهمزة وإسكان التاء بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ بإسكان اللام وضم التاء الثانية؛ على أن الموءودة موصوفة بالسؤال، وبالقول بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ. وروى القطعىّ عن سليمان الأعمش عن حفص عن عاصم: قُتِلَتْ بضم التاء الثانية، وفى سُئِلَتْ مثل قراءة الجمهور بضم السين. وروى عن أبى جعفر المدنى: قُتِلَتْ بالتشديد وإسكان التاء الثانية. وروى عن بعضهم: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ بفتح الميم والواو. فأما من قرأ سألت بفتح السين؛ فيمكن فيه الوجهان اللذان ذكرناهما؛ من أن الله تعالى أكملها فى تلك الحال، وأقدرها على النطق. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «نسخة س: «لم»، بغير واو». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «استحل» بالبناء للمجهول. (¬3) م: «كانوا».

والوجه الآخر أن يكون معنى سألت أى سئل لها وطولب بحقها وانتصف لها من ظالمها؛ فكأنها هى السائلة تجوزا واتساعا. ومن قرأ بفتح السين من سألت ويضم التاء الثانية من قُتِلَتْ فعلى أنها هى المخاطبة بذلك. ويجوز على هذا الوجه أيضا قُتِلَتْ بإسكان التاء الأخيرة كقراءة الجماعة؛ لأنه إخبار عنها، كما يقال: سأل زيد: بأى ذنب ضرب؛ وبأى ذنب ضربت. ويقوّى هذه القراءة فى سألت ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: «يجيء المقتول ظلما يوم القيامة وأوداجه تشخب دما، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، متعلقا بقاتله يقول: يا رب سل هذا فيم قتلنى» فأما القراءة المأثورة عن حفص عن عاصم فى ضم التاء الأخيرة من قُتِلَتْ مع ضم السين سُئِلَتْ فمعناها وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ: ما تبغى؟ فقالت: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ فأضمر قولها. والعرب قد تضمر مثل هذا لدلالة الخطاب عليه، وارتفاع الإشكال عنه؛ مثل قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا؛ أى ويقولان ذلك؛ ونظائره/ فى القرآن كثيرة (¬1) جدا. فأما قراءة من قرأ قُتِلَتْ بالتشديد فالمراد به تكرار الفعل بالموءودة هاهنا، وإن كان لفظها لفظ واحدة فالمراد به الجنس، وإرادة التكرار جائزة. فأما من قرأ المودة بفتح الميم والواو، فعلى أن يكون الرحم والقرابة، وأنه يسأل قاطعها عن سبب قطعها وتضييمها، قال الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ؛ [محمد: 22]. فأما الموءودة فهى المقتولة صغيرة، وكانت العرب فى الجاهلية تئد البنات بأن يدفنوهنّ أحياء، وهو قوله تعالى: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ؛ [النحل: 59]؛ وقوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ [الأنعام: 140]. ويقال: إنهم كانوا يفعلون ذلك لأمرين: ¬

_ (¬1) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): «كبيرة».

أحدهما أنهم كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات بالله، فهو أحق بها منّا. والأمر الآخر أنهم كانوا يقتلونهنّ خشية الإملاق، قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ؛ [الأنعام: 151]. قال سيدنا أدام الله علوّه: ووجدت أبا عليّ الجبائىّ وغيره يقول: إنما قيل لها موءودة؛ لأنها ثقّلت بالتراب الّذي طرح عليها حتى ماتت. وفى هذا بعض النظر؛ لأنهم يقولون من الموءودة: وأدت أئد وأدا، والفاعل وائد، والفاعلة وائدة، ومن الثّقل يقولون: آدنى الشيء يئودنى؛ إذا أثقلنى، أودا. وروى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه سئل عن العزل فقال: «ذاك الوأد الخفىّ». وقد روى عن جماعة من الصحابة كراهية ذلك، وقال قوم فى الخبر الّذي ذكرناه: إنه منسوخ بما روى عنه عليه السلام أنه قيل له: إن اليهود يقولون فى العزل هى الموءودة الصغرى، فقال: «كذبت يهود، لو أراد الله تعالى أن يخلقه لم يستطع أن يصرفه». وقد يجوز أن يكون قوله عليه السلام: «ذاك الوأد الخفىّ» على طريق تأكيد الترغيب فى طلب النسل وكراهية العزل؛ لا على أنه محظور محرّم. *** وصعصعة بن ناجية بن عقال، جدّ الفرزدق بن غالب؛ كان ممن فدى الموءودات فى الجاهلية، ونهى عن قتلهن. ويقال: إنه أحيا ألف موءودة، وقيل دون ذلك. وقد افتخر الفرزدق بهذا فى قوله: / ومنّا الّذي منع الوائدات … وأحيا الوئيد فلم توأد (¬1) وفى قوله: ومنّا الّذي أحيا الوئيد وغالب … وعمرو، ومنّا حاجب والأقارع (¬2) ¬

_ (¬1) ديوانه: 203. (¬2) ديوانه: 517.

وفى ذلك يقول أيضا: أنا ابن عقال وابن ليلى وغالب … وفكّاك أغلال الأسير المكفّر (¬1) ليلى: أم غالب، وعقال: هو محمد (¬2) بن سفيان بن مجاشع، وفكّاك الأغلال: ناجية ابن عقال، والمكفّر: هو الّذي كفّر وكبّل بالحديد- وكان لنا شيخان ذو القبر منهما … وشيخ أجار النّاس من كلّ مقبر (¬3) ذو القبر، غالب وكان يستجار بقبره، والّذي أجار الناس من المقبر وأحيا الوئيدة صعصعة (¬4) - على حين لا تحيا البنات وإذ هم … عكوف على الأصنام حول المدوّر (¬5) أنا ابن الّذي ردّ المنيّة فضله … وما حسب دافعت عنه بمعور (¬6) أبى أحد العينين (¬7) صعصعة الّذي … متى تخلف الجوزاء والنّجم يمطر أجار بنات الوائدين ومن يجر … على القبر (¬8) يعلم أنّه غير مخفر وفارق ليل من نساء أتت به (¬9) … تعالج ريحا ليلها غير مقمر فارق، يعنى امرأة ماخضا؛ شبهها بالفارق من الإبل، وهى الناقة يضربها المخاض فتفارق الإبل، وتمضى على وجهها حتى تضع- ¬

_ (¬1) ديوانه: 476 - 477. (¬2) حاشية الأصل: «هذا فى نسخة ابن الشجرى»، وفيها (من نسخة): «هو عقال بن محمد ابن سفيان بن مجاشع». (¬3) حاشية الأصل: «من كل مقبر، أى الّذي يدفن البنات أحياء ويجعلهم فى القبر». (¬4) حاشية الأصل: «فى نسخة الشجرى: حقه: والّذي أجار الناس وأحيا الناس من المقبر وأحيا الوليد صعصعة». (¬5) المدور: صنم يدورون حوله. (¬6) حاشية الأصل: «المعور: ذو العورة؛ وهو من قوله تعالى: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ؛ أراد أنه حصن لا يتمكن منه أحد». (¬7) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «الغيثين»، وهى رواية الديوان. (¬8) حاشية الأصل (من نسخة): «على الفقر». (¬9) حاشية الأصل (من نسخة): «أبى» وهى رواية الديوان.

فقالت: أجر لى ما ولدت فإننى … أتيتك من هزلى الحمولة مقتر (¬1) رأى الأرض منها راحة فرمى بها … إلى جدد (¬2) منها وفى شرّ محفر فقال لها: يا مىّ إنى بذمّتى … لبنتك جار من أبيها القنوّر القنوّر: السيئ الخلق- *** وأخبرنا المرزبانىّ قال أخبرنا محمد بن يحيى الصولىّ قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابىّ عن العباس بن بكار الضبىّ عن أبى بكر الهذلىّ. قال الصولىّ وحدثنا القاسم بن إسماعيل/ عن أبى عثمان المازنىّ عن أبى عبيدة بطرف منه قال: وفد صعصعة بن ناجية جدّ الفرزدق على رسول الله صلى الله عليه وآله فى وفد بنى تميم (¬3)؛ وكان صعصعة منع الوئيد فى الجاهلية؛ فلم يدع تميما تئد (¬4) وهو يقدر على ذلك؛ فجاء الإسلام وقد فدى فى بعض الروايات أربعمائة جارية، وفى الرواية الأخرى ثلاثمائة، فقال للنبى صلى الله عليه وآله: بأبى أنت وأمى أوصنى! قال: «أوصيك بأمك وأبيك وأختك وأخيك وأدانيك أدنانيك»، فقال: زدنى يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: «احفظ ما بين لحييك ورجليك»؛ ثم قال صلى الله عليه وآله: «ما شيء بلغنى عنك فعلته»؟ فقال: يا رسول الله؛ رأيت الناس يموجون على غير وجه، ولم أدر أين الصواب، غير أنّى علمت أنهم ليسوا عليه، فرأيتهم يئدون بناتهم؛ فعرفت أنّ ربهم عز وجل لم يأمرهم بذلك، فلم أتركهم يئدون، وفديت ما قدرت عليه. وفى رواية أخرى إن صعصعة لما وفد على النبي صلى الله عليه وآله، سمع قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ؛ [الزلزلة: 7، 8]. قال: حسبى، ما أبالى ألّا أسمع من القرآن غير هذا! ويقال: إنه اجتمع جرير والفرزدق يوما عند سليمان بن عبد الملك فافتخرا، فقال الفرزدق: ¬

_ (¬1) مقتر: قليل المال؛ تعنى زوجها. (¬2) د، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «خدد»؛ وهى رواية الديوان. (¬3) ف: «فى وفد من بنى تميم». (¬4) حاشية الأصل (من نسخة): «فلم يدع تميما يئد».

تأويل خبر أنه نهى أن يصلى الرجل وهو زناء

أنا ابن محيى الموتى، فقال له سليمان: أنت ابن محيى الموتى! فقال: إن جدى أحيا الموءودة وقد قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً؛ [المائدة: 32]؛ وقد أحيا، جدى اثنتين وتسعين موءودة. فتبسم سليمان وقال: إنك مع شعرك لفقيه. تأويل خبر [أنه نهى أن يصلّى الرجل وهو زناء] إن سأل سائل عن معنى الخبر الّذي يروى (¬1) عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه نهى أن يصلّى الرجل وهو زناء. الجواب؛ قلنا: الزناء هو الحاقن الّذي قد ضاق ذرعا ببوله؛ يقال: أزنأ الرجل بوله فهو يزنئه إزناء، وزنأ بوله يزنأ زنأ، قال الأخطل: فإذا دفعت إلى زناء قعرها … غبراء مظلمة من الأحفار (¬2) يعنى ضيق القبر، ويقال: لا تأت فلانا فإن منزله زناء، فيجوز أن يكون ضيّقا، ويجوز أن يكون عسر المرتقى؛ وكلاهما يئول إلى المعنى. ويقال: موضع زناء إذا كان ضيّقا صعبا، ومن ذلك قول أبى زبيد (¬3) يصف أسدا: / أبنّ عرّيسة عنّابها أشب … ودون غايته مستورد شرع (¬4) ¬

_ (¬1) ف: «روى». (¬2) ديوانه: 81، واللسان (زنأ). (¬3) فى حاشيتى الأصل، ف: «ذكر أبو سعيد الضرير، وهو أحمد بن خالد قال: هو أبو زبيد حرملة بن المنذر بن معديكرب بن حنظلة بن النعمان بن حبة بن سعد، وهو من بنى هنىّ». والبيتان فى شعراء النصرانية بعد الإسلام 1: 67 - 68؛ من قصيدة أولها: من مبلغ قومنا النائين إذ شخصوا … أنّ الفؤاد إليهم شيّق ولع يصف فيها الأسد. (¬4) أبنّ: أقام، والعريسة: مأوى الأسد فى الغياض، وعنابها أشب: أى شجر العناب فيها متداخل، والمستورد: موضع الورود. والشرع: الّذي يشرع فيه؛ يعنى موارد الوحش، وفى ف: «دون غايتها» وفى حاشيتها (من نسخة): «دون غابتها».

شأس الهبوط زناء الحاميين متى … يبشع بواردة يحدث لها فزع (¬1) يعنى «بزناء الحاميين» أنه ضيق جانبى الوادى. وقوله: «متى يبشع بواردة»، أى يضيق بجماعة ممن يرده؛ وإنما يحدث لها فزع من الأسد. والشأس: الغليظ؛ يقال: مكان شأس، إذا كان غليظا؛ ومن ذلك قولهم: زنأ فلان فى الجبل إذا كابد الصعود فيه؛ وهو يزنأ فى الجبل. وروى أبو زيد: " أن (¬2) قيس بن عاصم المنقرىّ أخذ صبيّا له يرقّصه- وأمّ ذلك الصبىّ منفوسة، وهى بنت زيد الفوارس بن ضرار الضبىّ، فجعل قيس يقول له: أشبه أبا أمّك أو أشبه عمل … ولا تكوننّ كهلّوف وكل (¬3) يريد عملى. الوكل: الجبان. والهلّوف: الهرم المسنّ، وهو أيضا الكبير اللحية؛ وإنما أراد به هاهنا الجبان- * وارق إلى الخيرات زنأ فى الجبل (¬4) * فأخذته أمه وجعلت ترقصه، وتقول: أشبه أخى أو أشبهن أباكا … أمّا أبى فلن تنال ذاكا * تقصر عن مناله (¬5) يداكا"* ¬

_ (¬1) فى حاشيتى الأصل، ف: «قبلهما: هذا وقوم غضاب قد أبتّهم … على الكلاكل حوضى عندهم ترع تبادرونى كأنّى فى أكفّهم … حتى إذا ما رأوني خاليا نزعوا واستحدث القوم أمرا غير ما وهموا … وطار أبصارهم شتى وما وقعوا كأنما يتفادى أهل أمرهم … من ذى زوائد فى أرساغه فدع ضرغامة أهرت الشّدقين ذى لبد … كأنه برنسا فى الغاب مدرع بالثّنى أسفل من حمّاء ليس له … إلا بنيه وإلا أهله شيع قد أبتهم: أنمتهم وأشخصتهم على صدورهم. وقوله: «حوضى عندهم ترع» أى لم يصنعوا بى شيئا. وقوله: «فى أكفهم» أى ظنوا أنى فى أيديهم فلما رأونى دهشوا ونزعوا عما طمعوا فيه». (¬2) النوادر 92 - 93. (¬3) البيتان والخبر فى اللسان (زنأ- عمل). (¬4) فى اللسان قبل هذا البيت: * يصبح فى مضجعه قد انجدل*. (¬5) فى اللسان: «أن تناله».

80

مجلس آخر 80 تأويل آية [وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ. فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ. عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ. فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ. عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ؛ [البلد 10 - 20]. فقال [: ما تأويل هذه الآية؟ وما معنى ما تضمنته] (¬1). الجواب، أما ابتداء الآية فتذكير بنعم الله تعالى عليهم، وما أزاح به علتهم فى تكاليفهم، وما تفضّل به عليهم من الآلات التى يتوصلون بها إلى منافعهم، ويستدفعون بها المضارّ عنهم؛ لأن الحاجة ماسّة فى أكثر المنافع الدينية والدنيوية إلى العين للرؤية، واللسان للنطق، والشفتين لحبس الطعام والشراب/ ومسكهما فى الفم والنطق أيضا. فأما النّجد فى لغة العرب فهو الموضع المرتفع من الأرض، والغور الهابط منها؛ وإنما سمّى الموضع المرتفع من أرض العرب نجدا لارتفاعه. واختلف أهل التأويل فى المراد بالنجدين، فذهب قوم إلى أنّ المراد بهما طريقا الخير والشرّ؛ وهذا الوجه يروى عن على أمير المؤمنين عليه السلام، وابن مسعود، وعن الحسن وجماعة من المفسرين. ¬

_ (¬1) ساقط من الأصل، وما أثبته عن ف.

وروى أنه قيل لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام: إن ناسا (¬1) يقولون فى قوله: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ: إنهما الثديان، فقال عليه السلام: لا، إنهما الخير والشر. وروى عن الحسن أنه قال: بلغنى أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: «أيها الناس، إنهما نجدان: نجد الخير ونجد الشر، فما جعل نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير». وروى عن قوم آخرين أنّ المراد بالنّجدين ثديا الأم. فإن قيل: كيف يكون طريق الشر مرتفعا كطريق الخير، ومعلوم أنه لا شرف ولا رفعة فى الشر؟ قلنا: يجوز أن يكون إنما سماه نجدا لظهوره وبروزه لمن كلّف اجتنابه؛ ومعلوم أن الطريقتين جميعا باديان ظاهران للمكلفين. ويجوز أيضا أن يكون سمّى طريق الشر نجدا من حيث يحصل فى اجتناب سلوكه والعدول عنه الشرف والرفعة؛ كما يحصل مثل ذلك فى سلوك طريق الخير؛ لأن الثواب الحاصل فى اجتناب طريق الشر كالثواب فى سلوك طريق الخير. وقال قوم: إنما أراد بالنجدين أنا بصّرناه وعرفناه ماله وعليه، وهديناه إلى طريق استحقاق الثواب؛ وثنىّ النجدين على عادة العرب فى تثنية الأمرين إذا اتفقا فى بعض الوجوه، وأجرى لفظة أحدهما على الآخر، كما قيل فى الشمس والقمر: القمران، قال الفرزدق: * لنا قمراها والنّجوم الطّوالع (¬2) * ولذلك نظائر كثيرة. فأما قوله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ؛ ففيه وجهان: أحدهما أن يكون فَلَا بمعنى الجحد وبمنزلة «لم»، أى فلم يقتحم العقبة؛ وأكثر ¬

_ (¬1) د، ومن نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «أناسا». (¬2) ديوانه: 519؛ صدره: * أخذنا بآفاق السّماء عليكم*.

ما يستعمل هذا الوجه بتكرير لفظ «لا»؛ كما قال سبحانه: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى؛ [القيامة: 31] أى لم يصدّق ولم يصلّ، وكما قال الحطيئة: وإن كانت النّعماء فيهم جزوا بها … وإن أنعموا، لا كدّروها ولا كدّوا (¬1) وقلّما يستعمل هذا المعنى من غير تكرير لفظ؛ لأنهم لا يقولون: لا جئتنى وزرتنى؛ يريدون: ما جئتنى؛ فإن قالوا: لا جئتنى ولا زرتنى صلح؛ إلا أن فى الآية ما ينوب مناب التكرار ويغنى عنه، وهو قوله تعالى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا؛ فكأنه قال: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، ولا آمن؛ فمعنى التكرار حاصل. والوجه الآخر: أن تكون «لا» جارية مجرى الدعاء؛ كقولك: لا نجا ولا سلم، ونحو ذلك. وقال قوم: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أى فهلّا اقتحم العقبة! أو أفلا اقتحم العقبة! قالوا: ويدل على ذلك قوله تعالى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ، ولو كان أراد النفى لم يتصل الكلام. وهذا الوجه ضعيف جدا، لأن قوله تعالى: فَلَا خال من لفظ الاستفهام، وقبيح حذف حرف الاستفهام فى مثل هذا الموضع، وقد عيب على عمر بن أبى ربيعة قوله: ثمّ قالوا: تحبّها؟ قلت: بهرا … عدد القطر والحصى والتراب (¬2) فأما الترجيح بأن الكلام لو أريد به النفى لم يتصل فقد بيّنا أنه متصل، مع أنّ المراد به النفى؛ لأن قوله تعالى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا معطوف على قوله: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، أى فلا اقتحم العقبة، ثم كان من الذين آمنوا. والمعنى أنه ما اقتحم العقبة ولا آمن؛ على ما بينا. فأما المراد بالعقبة فاختلف فيه، فقال قوم: هى عقبة ملساء فى جهنم، واقتحامها فكّ رقبة. وروى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «إن أمامكم عقبة كئودا لا يجوزها المثقلون (¬3)، وأنا أريد أن أتخفف لتلك العقبة»: وروى عن ابن عباس أنه قال: هى عقبة كئود فى ¬

_ (¬1) ديوانه: 20. (¬2) ديوانه: 423 (مطبعة السعادة)، وفى حاشية الأصل (من نسخة): «عدد الرمل». (¬3) حاشية الأصل: «المثقلون [بالفتح] أى أثقلهم الذنوب، والمثقلون [بالكسر] أصحاب الأثقال».

جهنم، وروى أيضا أنه قال: العقبة هى النّار نفسها؛ فعلى الوجه الأول يكون التفسير للعقبة بقوله: فَكُّ رَقَبَةٍ على معنى ما يؤدّى إلى اقتحام هذه العقبة؛ ويكون سببا لجوازها والنجاة منها، لأن فكّ رقبة وما أتى بعد ذلك ليس هو النار نفسها ولا موضعا منها. وقال آخرون: بل العقبة ما ورد مفسّرا لها من فكّ الرقبة والإطعام فى يوم المسغبة؛ وإنما سمّى ذلك عقبة لصعوبته على النفوس/ ومشقته عليها. وليس يليق بهذا الوجه الجواب الّذي ذكرناه فى معنى قوله: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وأنه على وجه الدعاء؛ لأن الدعاء لا يحسن إلا بالمستحق له؛ ولا يجوز أن يدعى على أحد بأن لا يقع منه ما كلّف وقوعه، وفكّ الرقبة والإطعام المذكور من الطاعات؛ فكيف يدعى على أحد بأن لا يقع منه! فهذا الوجه يطابق أن تكون الْعَقَبَةَ هى النّار نفسها أو عقبة فيها. وقد اختلف الناس فى قراءة: فَكُّ رَقَبَةٍ، فقرأ أمير المؤمنين عليه السلام، ومجاهد، وأهل مكة، والحسن، وأبو رجاء العطاردىّ، وأبو عمرو، والكسائىّ: فَكُّ رَقَبَةٍ بفتح الكاف ونصب الرقبة، وقرءوا أو أطعم على الفعل دون الاسم. وقرأ أهل المدينة، وأهل الشام، وعاصم، وحمزة، ويحيى بن وثاب، ويعقوب الحضرمىّ: فَكُّ بضم الكاف وبخفض رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ على المصدر وتنوين الميم وضمها. فمن قرأ على الاسم ذهب إلى أن جواب الاسم بالاسم أكثر فى كلام العرب، وأحسن من جوابه بالفعل؛ ألا ترى أن المعنى: ما أدراك ما اقتحام العقبة! هو فكّ رقبة، أو إطعام؛ وذلك هو أحسن من أن يقال: هو فكّ رقبة، أو أطعم. ومال الفرّاء إلى القراءة بلفظ الفعل، ورجّحها بقوله تعالى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، لأنه فعل؛ والأولى أن يتبع فعلا. وليس يمتنع أن يفسّر اقتحام العقبة- وإن كان اسما- بفعل؛ يدل على الاسم؛ وهذا مثل قول القائل: ما أدراك ما زيد؟ يقول- مفسرا-: يصنع الخير، ويفعل المعروف، وما أشبه ذلك، فيأتى بالأفعال. والسغب: الجوع؛ وإنما أراد أنه يطعم فى يوم مجاعة؛ لأن الإطعام فيه أفضل وأكرم.

فأما «مقربة» فمعناه يتيما ذا قربى؛ من قرابة النسب والرّحم؛ وهذا حضّ على تقديم ذى النسب والقربى المحتاجين على الأجانب فى الإفضال. والمسكين: الفقير الشديد الفقر. والمتربة: مفعلة، من التراب، أى هو لاصق بالأرض من ضرّه وحاجته؛ ويجرى مجرى قولهم فى الفقير: مدقع؛ وهو مأخوذ من الدّقعاء؛ وهى الأرض التى لا شيء فيها. وقال قوم: ذا مَتْرَبَةٍ أى ذا عيال. والمرحمة: مفعلة من الرحمة؛ وقيل إنه من الرّحم. وقد يمكن فى مَقْرَبَةٍ أن يكون غير مأخوذ من القرابة والقربى؛ بل هو من القرب، الّذي هو من الخاصرة، فكأن المعنى أنه يطعم من انطوت خاصرته ولصقت من شدة الجوع والضر؛ وهذا أعم فى المعنى من الأول وأشبه بقوله ذا مَتْرَبَةٍ؛ لأن كل ذلك مبالغة فى وصفه بالضّرّ؛ وليس من المبالغة فى الوصف بالضرّ أن يكون قريب النّسب. والله أعلم بمراده. *** قال سيدنا أدام الله علوّه: ومن طريف المدح ومليحه قول الشاعر: وكأنّه من وفده عند القرى … لولا مقام المادح المتكلّم وكأنّه أحد النّدى ببنائه (¬1) … لولا مقالته أطب للمؤدم (¬2) ويقارب ذلك فى المعنى قول محمد بن خارجة: سهل الفناء إذا حللت ببابه … طلق اليدين مؤدّب الخدّام وإذا رأيت صديقه وشقيقه … لم تدر: أيّهما أخو الأرحام! (¬3) ومثله لأبى الهندىّ: نزلت على آل المهلّب شاتيا … غريبا عن الأوطان فى زمن المحل (¬4) فما زال بى إكرامهم وافتقادهم (¬5) … وإنعامهم حتى حسبتهم أهلى ¬

_ (¬1) حاشية الأصل: «نسخة س: «أحد الندىّ ببابه». (¬2) المؤدم: الآكل. (¬3) وفى حاشية الأصل (من نسخة): «سهل القياد». (¬4) أمالى القالى 1: 41؛ وفى حاشية الأصل (من نسخة): «فى زمن محل». (¬5) ف، حاشية الأصل (من نسخة): «واقتفاؤهم».

ولأثال بن الدقعاء يمدح عقبة بن سنان الحارثىّ: ألم ترنى شكرت أبا سعيد … بنعماه وقد كفر الموالى (¬1) ولم أكفر سحائبه اللّواتى … مطرن عليّ واهية العزالى (¬2) فمن يك كافرا نعماه يوما … فإنى شاكر أخرى اللّيالى فتى لم تطلع الشّعرى من افق … ولم تعرض ليمن أو شمال (¬3) على ندّ له إن عدّ مجد … ومكرمة وإتلاف لمال وأصبر فى الحوادث إن ألمّت … وأسعى للمحامد والمعالى فتى عمّ البريّة بالعطايا … فقد صاروا له أدنى العيال / قال: ولآخر (¬4): لم أقض من صحبة زيد أربى … فتى إذا أغضبته لم يغضب موكّل النّفس بحفظ الغيّب … أقصى الفريقين له كالأقرب فإنه لم يرد أن الضعيف السبب كالقوىّ السبب، وإنما أراد أنه يرعى من غيب الرفيق البعيد الغائب وحقّه ما يرعاه من حق الشاهد الحاضر، وأنه يستوى عنده لكرمه وحسن حفاظه من بعدت داره وقربت معا؛ وهذا بخلاف ما عليه أكثر الناس؛ من مراعاة أمر الحاضر القريب وإهمال حق البعيد (¬5). *** (¬6) هذا آخر مجلس أملاه سيدنا أدام الله علوّه. ثم تشاغل بأمور الحج (¬7). الحمد لله رب العالمين وصلواته وسلامه على سيدنا نبيّه محمد وآله الطيبين الطاهرين وسلّم كثيرا. ¬

_ (¬1) الموالى: الأقرباء. (¬2) العزالى: جمع عزلاء؛ وهى فى الأصل مصب الماء من الراوية ونحوها. (¬3) ف، ومن نسخة بحاشية الأصل: فتى لم تطلع الشعرى بأفق … ولم تقرض ليمنى أو شمال. (¬4) من نسخة بحاشيتى الأصل، ف: «وقال آخر». (¬5) إلى هنا تنتهى النسخة المرموز لها بكلمة «الأصل». (¬6) ف: «هذا آخر مجلس أملاه السيد المرتضى ذو المجدين قدس الله روحه ثم تشاغل بأمور الحج». (¬7) ف: «هذا آخر مجلس أملاه السيد المرتضى ذو المجدين قدس الله روحه ثم تشاغل بأمور الحج».

تكملة أمالى المرتضى

تكملة أمالى المرتضى

مسألة

بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يسّر (¬1) مسألة قال (¬2) الشريف الأجلّ المرتضى، علم الهدى، ذو المجدين أبو القاسم عليّ بن الحسين الموسوىّ رضى الله عنه: إنّه لا يزال المتكلّمون يخالفون النحويّين فى أنّ للفعل ثلاثة أحوال: ماض، وحاضر، ومستقبل. ويقول المتكلّمون: للفعل حالان بغير ثالث؛ لأنّ كلّ معلوم من الأفعال لا يخلو من أن يكون موجودا أو معدوما؛ وبالوجود قد صار ماضيا، والمعدوم هو المنتظر، ولا حال ثالثة. فلا المتكلّمون يحسنون العبارة عما لحظوه وأرادوه، حتى يزول الخلاف فى المعانى التى هى المهمّ- ولا اعتبار بالعبارات- ولا النحويون يفطنون لإفهام ما قصدوه بلفظ غير مشتبه ولا محتمل؛ فكم من معنى كاد يضيع بسوء العبارة عنه، وقصور الإشارة إليه! واعلم أن المواضعات مختلفة، والعرف يختلف باختلاف أهله بحسب عاداتهم. وقولنا: «فعل» فى عرف المتكلمين ليس هو الّذي يعرفه النحويون، لأنّ الفعل فى عرف أهل الكلام هو الذات الحادثة بعد أن كانت معدومة بقادر، وهذا الحدّ يقتضي أن يكون كلّ موجود من الذوات غير الله تعالى وحده فعلا؛ فزيد فعل، والسماء كذلك، والحرف أيضا- الّذي فرق النحويون بينه وبين الاسم- فعل أيضا، والفعل أيضا على هذا الحدّ فعل؛ لأنّ الحرف صوت يقطّع على وجه مخصوص، والأصوات كلّها أفعال. ¬

_ (¬1) ط: «رب يسر ولا تعسر». (¬2) هذه الزيادات لم ترد إلا فى ف، ط من الأصول التى اعتمدت عليها؛ والمثبت هنا نص ف، كما أثبت الفروق والحواشى.

غير أنّ المحقّق من عرف القوم أنّ النحويين ما فصلوا بين الاسم والفعل والحرف؛ من حيث نفى الاشتراك فى الحدوث والفعلية؛ بل فصلوا بينها مع اشتراكها فى معنى الفعلية التى يذهب إليها المتكلّمون؛ لما بينها من الفصل فى أحكام أخر؛ يختصّ بها بعضها دون بعض؛ فقالوا: الاسم ما دلّ على معنى لا يقترن بزمان، والفعل ما اقتضى معنى مقترنا بزمان غير مخصوص، والحرف ما خلا من هاتين العلامتين؛ فكأنهم قصدوا إلى ما هو فعل حادث على حدّ المتكلمين؛ فصنّفوه ونوّعوه، وسمّوا بعضه اسما، وبعضه فعلا، وبعضه حرفا؛ لاختلاف الأحكام التى عقلوها؛ فلا لوم فى ذلك عليهم؛ ولا مناظرة فيه معهم، وبالمناظرة الصحيحة تزول الشّبهات، وتنحسم التّبعات. والّذي يجب تحصيله، والتعويل عليه أنّ الفعل الحادث فى أوّل أحوال وجوده يسمّى فعل الحال؛ فإن تقضّى وعدم صار ماضيا، والفعل المستقبل هو المنتظر المتوقّع الّذي هو الآن معدوم. فإن فرضنا أنّ الفعل الحادث- الّذي فرضنا أنّه متى تقضّى وعدم صار ماضيا- بقى ولم يتقضّ؛ إما على مذهب من يقطع على بقاء الأعراض، أو على مذهب من يتوقّف عن القطع فيها على بقاء أو فناء؛ فالواجب أن يكون استمراره (¬1) لا يخرجه من استحقاق الوصف بأنه فعل الحال؛ لأنّ من هو عليه لم يتغير الحال التى وجبت له عنه؛ ولا خرج عنها. ألا ترى أنّا لو فرضنا أنه تقضّى وعدم، وخلفه مثل له لكان ذلك الخالف له يستحقّ الوصف بأنه للحال؛ وكذلك ما قام مقامه؛ وأوجب مثل ما يوجبه، لأنه لا فرق فى التّسمية للجلوس بأنه فعل حال؛ بين أن يكون المفتتح بالحدوث من أجزاء الجلوس بقى واستمرّ؛ وبين أن يكون تجدّد أمثاله؛ والأول باق أو معدوم بعد أن تكون الحالة المخصوصة ما تغيّرت ولا تبدّلت؛ ولا فرق أيضا بين أن يكون ذلك الفعل يوجب حالا مخصوصة كالألوان، أو حكما مخصوصا كالاعتمادات وما أشبهها؛ فى أن الّذي أتت فيه ولم تخرج عنه هو المنعوت بأنه فعل الحال، وما خرجت عنه فهو الماضى. ¬

_ (¬1) حاشية ط: «قوله: استمراره، أى الحادث».

فإن قيل: كيف قولكم فيما مضى وتقضّى من الأفعال ووصفتموه بأنه ماض لتقضّيه وعدمه؛ أيجوز أن يكون مستقبلا على وجه من الوجوه، أولا يكون من الأفعال مستقبلا إلّا ما لم يدخل فى الوجود قطّ؟ قلنا: أمّا ما عدم وتقضّى من الأعراض المقطوع على أنها غير باقية فى نفوسها، كالإرادات (¬1) والأصوات وما أشبه ذلك؛ فلا شبهة فى أنّ الماضى منه لا يصحّ أن يكون مستقبلا من فعل قديم أو محدث. فأما (¬2) ما يبقى من أجناس الأعراض عند من قطع على بقائها، أو شكّ فى حالها بين جواز البقاء عليها ونفيه فنحن لا نقدر على إعادته؛ والقديم تعالى قادر على إعادته إلى الوجود؛ فهذا الضّرب من فعله تعالى لا يمتنع تسميته بأنه مستقبل، لأنه متوقّع منتظر. فأما الجواهر المعدومة فلا شبهة فى أنّها ماضية من حيث عدمت، ومستقبلة من حيث كان وجودها مستأنفا متوقّعا؛ لأنّ الله تعالى لا بدّ من أن يعيد المكلّفين للثواب أو العقاب، والمكلّف إنما هو مؤلّف من الجواهر. فإن قيل: هذا يقتضي أن يجتمع فى الشيء الواحد أن يكون ماضيا مستقبلا؛ وهذا كالمتناقض. قلنا: لا تناقض فى ذلك؛ لأن الجوهر الماضى يستحق الوصف بأنه ماض إذا عدم، وكذلك العرض الماضى من أفعال الله تعالى إذا عدم؛ وإن جاز من حيث صحّ وجود ذلك مستأنفا أن يوصف بأنه مستقبل، لأن معنى المستقبل هو المعدوم الّذي يصح وجوده، فلا تنافى بين الأمرين. ولو ثبت بينهما عرف فى أنّهما لا يجتمعان- وذلك ليس بثابت- لجاز أن يجعل حدّ المستقبل هو المعدوم الّذي يصحّ وجوده مستقبلا؛ من غير أن يكون الوجود حصل (¬3) له فى حالة من الأحوال؛ فلا يلزم على ذلك أن يجتمع الوصفان فى فعل واحد. ¬

_ (¬1) ط: «كالإدراكات». (¬2) ط: «وأما». (¬3) ط. «مستحصل له».

وقد كنّا قديما أملينا مسألة فى تحقيق الفرق بين الفعل الحال والماضى والمستقبل؛ وهذا التلخيص الّذي ذكرناه هاهنا أشرح وأسبغ منها، وتكلمنا هناك على ما كان أبو عليّ الفارسى اعتمده وعوّل عليه؛ من قوله تعالى: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ [مريم: 64]، وقول الشاعر: وأعلم ما فى اليوم والأمس قبله … ولكنّنى عن علم ما فى غد عم (¬1) ومن طريقة أخرى فى اعتبار تأثير الحروف فى الأحوال المختلفة، واستوفينا الكلام على هذه الشبهة؛ فلا طائل فى إعادة ذلك هاهنا؛ والجمع بين المسألتين يغنى عنه، وما التوفيق إلا بالله تعالى. ¬

_ (¬1) البيت لزهير بن ابى سلمى، ديوانه: 29.

مسألة

مسألة قال رضى الله عنه: لا معنى لقوله تعالى: وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ؛ [يونس: 61] على ما قاله النحويون: إنه للتأكيد؛ لما بيّنا أن التأكيد إذا لم يفد غير ما يفيده المؤكّد لم يصحّ، وقد علمنا بقوله تعالى: مِنْ قُرْآنٍ أنّه من جملة القرآن، فأىّ معنى لقوله مِنْهُ وتكراره! قال رضى الله عنه: والصحيح أن معنى مِنْهُ أى من أجل الشّأن والقصة، مِنْ قُرْآنٍ؛ فيحمل على الشأن والقصّة ليفيد معنى آخر. وقال أيضا فى قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا؛ [يونس: 58]؛ قال: لا يجوز أن يحمل قوله: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا على ما تقدم من فضل الله ورحمته؛ ولا معنى له على ما يقوله النحويون إنّه للتأكيد؛ كما لا معنى لقول قائل: زيد وعمرو لهما؛ يريد زيدا وعمرا؛ فالصحيح أن نقول فى هذا: إن معناه: قل بفضل الله ومعونة الله ورحمته؛ لأنّ معونة الله وفضل الله ورحمته تؤثر فى القول، ويقول: بفضل الله ومعونته يفرح، فيردّ قوله: بِفَضْلِ اللَّهِ إلى القول، أى قل: بفضله ومعونته هذا القول؛ فإنّ بهذا القول ومعونته ورحمته يفرحون؛ فيكون قوله: فَبِذلِكَ راجعا إلى الفرح بالفضل والرحمة؛ حتى يكون قد أفاد كلّ واحد من اللفظين فائدة.

مسألة

مسألة رسمت الحضرة العالية الوزيرية؛ أدام الله سلطانها، وأعلى أبدا شأنها ومكانها أن أذكر ما عندى فى إدخال لفظة «كان» فى كونه تعالى عالما فى مواضع كثيرة من القرآن. وقالت حرس الله عزّها: لفظة «كان» إذا كانت للماضى؛ فكيف دخلت على ما هو ثابت فى الحال ومستمرّ دائم! وما الوجه فى حسن ذلك؟ والجواب المزيل للشّبهة أنّ الكلام قد تدخله الحقيقة والمجاز؛ ويحذف بعضه وإن كان مرادا، ويختصر حتى يفسّر؛ ولو بسط لكان طويلا. وفى هذه الوجوه التى ذكرناها تظهر فصاحته، وتقوى بلاغته؛ وكلّ كلام خلا من مجاز وحذف واختصار واقتصار بعد عن الفصاحة، وخرج عن قانون البلاغة. والأدلّة لا يجوز فيها مجاز، ولا ما يخالف الحقيقة؛ وهى القاضية على الكلام، والتى يجب بناؤه عليها؛ والفروع أبدا تبنى على الأصول. فإذا ورد عن الله تعالى كلام ظاهره يخالف ما دلّت عليه أدلّة العقول وجب صرفه عن ظاهره- إن كان له ظاهر- وحمله على ما يوافق الأدلة العقلية ويطابقها؛ ولهذا رجعنا فى ظواهر كثيرة من كتاب الله تعالى اقتضى ظاهرها الإجبار أو التشبيه، أو ما لا يجوز عليه تعالى. ولو سلّمنا تبرّعا وتطوّعا أن دخول «كان» على العلم أو القدرة يقتضي ظاهرها الماضى دون المستقبل لحملنا ذلك على أنّ المراد به الأحوال كلّها؛ لأنّ الأدلة العقلية تقضى على ما يطلق من الكلام، ولا يقضى الكلام على الأدلة. غير أنّا نبيّن أنّ دخول «كان» على العلم أو القدرة لا يقتضي ظاهرها الاختصاص بالماضى دون المستقبل؛ فإنّ لأهل العربية فى ذلك مذهبا معروفا مشهورا؛ لأن أحدهم يقول: كنت العالم؛ وما كنت إلا عالما، وعليما خبيرا؛ وما كنت إلا الشجاع، وإلا الجواد؛ ويريدون بذلك كلّه الإخبار عن الأحوال كلّها؛ ماضيها وحاضرها ومستقبلها؛ ولا يفهم من كلامهم سوى

ذلك؛ وإذا كانت هذه عبارة عما ذكرناه فصيحة بليغة- والقرآن نزل بأفصح اللغات وأبلغها وأبرعها- وجب حمل لفظة «كان» إذا دخلت فى كونه تعالى عالما وقادرا على ما ذكرنا. ومما يستشهد به على ذلك قول زياد الأعجم يرثى المغيرة بن المهلّب بن أبى صفرة: مات المغيرة بعد طول تعرّض … للقتل بين أسنّة وصفائح (¬1) ألّا ليالى فوقه بزّاته … يغشى الأسنة فوق نهد قارح! (¬2) فإذا مررت بقبره فاعقر به … كوم المطىّ وكلّ طرف سابح (¬3) وانضح جوانب قبره بدمائها … فلقد يكون أخا دم وذبائح فقال فى ميت قد مضى لسبيله: «فلقد يكون»، وإنما أراد: «فلقد كان»، فعبّر بيكون عن «كان»؛ كذلك جاز أن يراد بلفظة «كان» الأحوال المستقبلة. ووجه آخر وهو أنه تعالى لما أراد أن يخبر عن كونه عالما فى الأحوال كلّها لم يجز أن يقول: هو عالم فى الحال أو فى المستقبل؛ لأن ذلك لا ينبئ عن كونه عالما فيما مضى؛ فعدل عن ذلك إلى إدخال لفظة: «كان» الدالة على الأزمان الماضية كلها، ومن كان عالما فيما لم يزل من الأحوال فلا بدّ من كونه عالما لنفسه وذاته؛ لأن الصفات الواجبة فيما لم يزل لا تكون إلّا نفسية، والصفات النفسية يجب ثبوتها فى الأحوال كلّها: الماضية والحاضرة والمستقبلة؛ فصار دخول «كان» فى العلم أو القدرة مطابقا للغرض، وموجبا لثبوت هذه الصفة فى جميع هذه الأحوال، وليس كذلك لو علّق العلم بالحال أو المستقبل؛ وهذا وجه جليل الموقع. ووجه آجر وهو أنا إذا سلّمنا أن لفظة «كان» تختص الماضى ولا تتعدّاه لم يكن فى ¬

_ (¬1) من قصيدة عدتها 57 بيتا؛ وهى فى أمالى اليزيدى 1 - 7، وأمالى القالى 3: 8 - 11؛ وأبيات منها فى معجم الأدباء 11: 170 - 171، والشعراء 397. (¬2) البزاة: جمع بزة؛ وهى السلاح؛ والنهد من الخيل: الجسيم المشرف. والقارع: الفرس إذا استتم الخامسة ودخل فى السادسة. (¬3) الكوم: جمع كوماء؛ وهى الناقة العظيمة السنام. والطرف: الكريم من الخيل والسابح: الفرس الّذي يسبح بيديه فى سيره.

إدخالها فى العلم إلا أنه تعالى عالم فيما مضى من الأحوال؛ وهو كذلك لا محالة؛ اللهم إلا أن يدّعى أن تعليقها بالماضى يقتضي نفى كونه تعالى عالما فى المستقبل؛ وليس الأمر على ذلك؛ لأن هذا قول بدليل الخطاب؛ وهو غير صحيح على ما بيّنا فى مواضع من كتبنا؛ لأن تعليق الحكم بصفة أو اسم لا يدل على انتفائه مع انتفاء تلك الصفة أو الاسم، وبيّنا أن قوله عليه السلام: «فى سائمة (¬1) الإبل الزكاة» لا يدل على أن العاملة (¬2) والمعلوفة (¬3) لا زكاة فيهما. وقد يقول القائل: كان زيد عندى بالأمس، وإن كان عنده فى الحال؛ وضربت من غلمانى فلانا، وإن كان قد ضرب سواه، فكأنه تعالى- إذا سلّمنا هذا الأصل الّذي قد بينا أنه غير صحيح- أراد أن يثبت بهذا القول كونه تعالى عالما، فيما لم يزل؛ ووكلنا فى أنه عز وجل عالم فى جميع الأحوال إلى الأدلة العقلية الدالة على ذلك؛ وإلى إخباره تعالى عن كونه عالما فى سائر الأوقات بقوله عز وجل: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنعام: 101]؛ وما شاكل ذلك من الألفاظ الدالة على الحال والاستقبال ¬

_ (¬1) السائمة من الإبل: الراعية؛ يقال: سامت تسوم سوما، وأسمتها أنا. (¬2) العاملة: التى تعمل فى الحرث والدياسة. (¬3) العلوفة والمعلوفة من الإبل: الناقة التى تعلف للسمن ولا ترسل للرعى.

تأويل آية ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله، وينزل من السماء من جبال فيها من برد، فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار. يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار

تأويل آية [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ، فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ. يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ] قال رحمه الله: سئلت إملاء تفسير قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ، فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ. يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ؛ [النور: 43، 44]. فأجبت إلى ذلك. أما قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ فالمراد: ألم تعلم؛ وإن كان هذا اللفظ مشتركا بين الإدراك والعلم؛ وإنما اختصّ هنا بالعلم دون الإدراك؛ لأن إضافة إزجاء السحاب وتأليفه وجميع ما ذكر فى الآية إلى الله تعالى مما لا يستفاد بالإدراك؛ وإنما يعلم بالأدلّة. فأما قوله تعالى: يُزْجِي سَحاباً فمعناه يسوق؛ ولا بدّ أن يلحظ فى هذا الموضع السّوق الضعيف الرفيق؛ يقال منه: أزجى يزجى إزجاء، وزجّى يزجّى تزجية، إذا ساق؛ ومنه إزجاء الكسير (¬1) من الإبل إذا سقته سوقا رفيقا حتى يسير؛ ومنه قوله تعالى: بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ؛ [يوسف: 88] أى مسوقة شيئا بعد شيء على ضعف وقلّة، قال عدىّ بن الرّقاع: تزجى أغنّ كأنّ إبرة روقه … قلم أصاب من الدّواة مدادها (¬2) وقال الأعشى: الواهب المائة الهجان وعبدها … عوذا تزجّى خلفها أطفالها (¬3) ¬

_ (¬1) ط: «الكبير». (¬2) الطرائف الأدبية: 88؛ والضمير فى «تزجى» يعود إلى ظبية ترتعى ومعها شادنها وأغنّ: فى صوته غنة؛ وهو الصوت الرخيم يخرج من الخياشيم. والروق هنا: القرن؛ وإبرته: طرفه المحدد. (¬3) ديوانه: 25.

أراد بالعوذ الحديثة النّتاج؛ ومعنى «تزجّى» أى تسوق أطفالها وراءها سوقا رفيقا؛ لأنها تحنّ فتتبع أطفالها؛ وقال مالك بن الرّيب المازنىّ: ألا ليت شعرى هل أبيتنّ ليلة … بوادى الغضى أزجى القلاص النّواجيا (¬1) والسحاب: جمع سحابة؛ ولهذا قال: يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، أى بين كل سحابة وأخرى، ولو كان هاهنا أيضا اسما للجنس لجاز؛ لأنّ الجنس يوصل بعضه ببعض، ويؤلّف بعضه ببعض؛ وإنما لا يصحّ ذلك فى العين الواحدة. فأما الرّكام فهو الّذي جعل بعضه فوق بعض؛ ومنه قوله تعالى: سَحابٌ مَرْكُومٌ؛ [الطور: 44]، وقوله تعالى: فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً؛ [الأنفال: 37]. فأما الودق فهو المطر؛ يقال ودق يدق ودقا؛ وكلّ ما قطر منه ماء أو رشح فهو وادق؛ ويقال: استودقت الفرس والأتان إذا حنّت إلى الفحل واستدعت ماءه؛ ويقال أيضا: أو دقت؛ وأتان وديق وودوق؛ إذا أرادت إنزال الفحل الماء فيها. وخلال الشيء: خروقه وفروجه؛ وقد قرئ: من خلله بغير ألف. فأما قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فإنّنى وجدت جميع المفسّرين على اختلاف عباراتهم يذهبون إلى أنّه أراد أنّ فى السماء جبالا من برد؛ وفيهم من قال: ما قدره قدر جبال؛ قال: يراد به مقدار جبال من كثرته. وأبو مسلم بن بحر الأصبهانىّ خاصة انفرد فى هذا الموضع بتأويل طريف؛ وهو أن قال: " الجبال ما جبل الله من برد، وكلّ جسم شديد مستحجر فهو من الجبال؛ ألم تر إلى قوله تعالى فى خلق الأمم: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ؛ [الشعراء: 184] والناس يقولون: فلان مجبول على كذا". ووجدت أبا بكر محمد بن الحسن بن مقسم النحوىّ يقول فى كتابه المعروف بالأنوار: " وأمّا مِنْ الأولى؛ والثانية فبمعنى حدّ التنزيل؛ ونسبته إلى الموضع الّذي نزّل منه؛ كما ¬

_ (¬1) جمهرة الأشعار: 296.

يقال: جئتك بكذا، ومن بلد كذا؛ وأما الثالثة فبمعنى التفسير والتمييز، لأن الجبال تكون أنواعا فى ملك الله تعالى؛ فجاءت مِنْ لتمييز البرد من غيره؛ وتفسير معنى الجبال التى أنزل منها. وقد يصلح فى مثل هذا الموضع من الكلام أن يقال: «من جبال فيها برد» بغير «من»، يترجم برد عن جبال؛ لأنها مخلوقة من برد، كما يقال: الحيوان من لحم ودم، والحيوان لحم ودم؛ ب «من» وبغير «من» ". ووجدت على بن عيسى الرّمانىّ يقول فى تفسيره: " إن معنى مِنْ الأولى ابتداء الغاية؛ لأن السماء ابتداء الإنزال، والثانية للتبعيض؛ لأن البرد بعض الجبال التى فى السماء، والثالثة لتبيين الجنس؛ لأنّ جنس الجبال جنس البرد". وهذه التفاسير على اختلافها غير شافية ولا كافية؛ وأنا أبيّن ما فيها من خلل، ثم أذكر ما عندى أنّه الصحيح: أمّا من جعل فى السماء جبال برد، أو ما مقداره مقدار الجبال- على اختلاف عباراتهم- فيدخل عليه أن يبقى عليه قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ بغير مفعول؛ ولا ما يتعلق به؛ لأنّ تقدير الكلام على هذه التفاسير: وينزّل من جبال برد فى السماء؛ فما الشيء الّذي أنزل به! فما تراه مذكورا فى الآية؛ والكلام كلّه خال منه على هذا التأويل. فأما أبو مسلم فيلزمه هذا الكلام بعينه، ويلزمه زائدا عليه أنه جعل الجبال اسما للبرد نفسه؛ من حيث كان مجبولا مستحجرا. وهذا غلط؛ لأن الجبال وإن كانت فى الأصل مشتقة من الجبل والجمع فقد صارت اسما لذى هيئة مخصوصة. ولهذا لا يسمّى أحد من أهل اللغة كلّ جسم ضمّ بعضه إلى بعض- مع استحجار أو غير استحجار- بأنه جبل، ولا يخصّون بهذا اللفظ إلا أجساما مخصوصة. وليس يمتنع فى اللغة هذا؛ لأنّ اسم الدابة وإن كان مشتقا فى الأصل من الدبيب؛ فقد صار اسما لبعض ما دبّ، ولا يعم كلّ ما وقع منه الدبيب.

وليس يعترض على هذه التأويلات التى ذكرناها ما يظنّه بعض الناس من أنه لا يجوز أن يكون فى السماء جبال برد، أو ما قدره قدر الجبال من البرد؛ لأن ذلك غير ممتنع ولا مستحيل. فإن قالوا: كيف لا تهوى تلك الجبال من البرد؟ قلنا: يمسكها الله تعالى، ويسكّنها كما يمسك الأرض والفلك. وإنما ينكر هذا أصحاب الطبائع، الذين لا يقرّون بالخالق جلّت عظمته، فيذكرون فى سبب وقوف الأرض المركز وهو لا يعقل؛ ولو أثبتوا الصانع جلّت عظمته نسبوا سكون الأرض إليه، واستغنوا عن تكلّف ما لا يعقل ولا يفهم. والأولى فى تفسير هذا الموضع أن تكون «من» الأولى والثانية لابتداء الغاية، والثالثة زائدة لا حكم لها؛ ويكون تقدير الكلام: وينزّل من جبال فى السماء بردا، فزاد «من» كما يزاد فى قولهم: ما فى الدار من أحد، وكم أعطيتك من درهم! وما لك عندى من حق؛ وما أشبه ذلك. وعلامة زيادتها فى هذه المواضع أنك إذا أخرجتها أو ألغيتها كان الكلام مستقلّا لا يتغيّر معناه، وجرى قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ مجرى قول القائل: كم حملت لك من الكوفة من سوقها من ثوب! والمعنى: كم حملت لك من سوق الكوفة ثوبا! والأولى أن يريد بلفظة السَّماءِ هنا ما علا من الغيم وارتفع فصار سماء لنا؛ لأنّ سماء البيت وسماوته ما ارتفع منه؛ ولأن السحاب لا يكون فى السماء التى هى الفلك للكواكب؛ وإنما هو تحته، وأراد بالجبال التشبيه، لأنّ السحاب المتراكب المتراكم تشبّهه العرب بالجبال والجمال؛ وهذا شائع فى كلامها، كأنّه تعالى قال: وينزّل من السحاب الّذي يشبه الجبال فى تراكمه بردا؛ فقد ظهر على هذا التأويل مفعول صحيح ل ننزل؛ ولا مفعول لهذا الفعل على التأويلات المتقدمة.

فإن قيل: إذا جاز أن تجعلوا مِنْ الأخيرة زائدة حتى يكون المنزّل هو البرد، فألّا جعلتم مِنْ الثانية هى الزائدة، ويكون تقدير الكلام: وننزّل من السماء جبالا من برد! قلنا: ليس يشبه البرد فى نزوله الجبال على وجه ولا سبب؛ والسّحاب المتراكم يشبه الجبال، وقد جرت عادة العرب بتشبيهه بها، فيجب أن تكون الثانية غير زائدة لما ذكرناه، وتكون الأخيرة زائدة؛ وإلّا بقيتا بلا مفعول؛ ولأنه تعالى قال: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ؛ وهذه كناية عن البرد لا الجبال؛ لأنه لو كنّى عنها لقال: فيصيب بها؛ ولأنّ الجبال على التأويلات التى حكيناها كلّها منزّل منها، لا منزّلة. فإن قيل: ألّا كان المفعول محذوفا مقدّرا؛ وكأنه قال: وننزّل من جبال برد فى السماء بردا؛ والكلام يقتضيه؟ قلنا: إنما نقدّر مفعولا محذوفا فى الموضع الّذي لا نجد فيه مفعولا ظاهر، وقد بيّنّا أنّ فى الآية مفعولا ظاهرا، فيجب صرف الكلام إليه. على أنّه لا بدّ من مفعول؛ إما ظاهرا وهو الّذي أشرنا إليه، أو محذوفا على ما تضمّنه السؤال؛ لا سيّما وفى الكلام كناية عنه فى قوله: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ، وما رأينا أحدا من المفسّرين لهذه الآية- على اختلافهم وذكر أكثرهم كلّ ما تقتضيه وجوه الإعراب فى آيات القرآن- تعرّض لذكر المفعول، ولا قال: إنه ظاهر ولا مقدّر محذوف يدلّ الكلام عليه. وهذا على كل حال تقصير ظاهر. فأما قوله تعالى: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ فالمراد به: فيصيب بضرره من يشاء، ويصرف ضرره عمّن يشاء؛ فإنّ العادة جارية بأنّ البرد يصيب أرضا ويتعدّى ما يجاورها ويلاصقها.

فأما قوله تعالى: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ فسنا البرق ضوأه، وهو مقصور، وسناء المجد والشرف ممدود، والهاء فى بَرْقِهِ راجعة إلى البرد أو السحاب؛ فقد جرى ذكر كلّ واحد منهما؛ ويجوز إضافة البرق إليهما. فأما قوله: يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ وقد قرئ يَذْهَبُ بضم الياء؛ فالمراد به أنّ البرق من شدة ضوئه يكاد يذهب بالعيون؛ لأنّ النظر إلى ماله شعاع شديد يضرّ بالعين؛ كعين الشمس وما أشبهها؛ والقراءة بفتح الهاء أجود مع دخول الباء؛ تقول العرب: ذهبت بالشيء؛ فإذا أدخلوا الألف أسقطوا الباء فقالوا: أذهبت الشيء؛ بغير باء. فأما قوله: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ فإنما أراد أنه يأتى بكلّ واحد منهما بدلا من صاحبه، ومعاقبا له؛ لما فى ذلك من المصلحة والمنفعة. فأما قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ فإنما أراد بالعبرة العظة والاعتبار، وروى عن الحسن أنه قال: إنما أراد ذوى أبصار القلوب لا العيون؛ لأنّ العين لا تضاف إليها العبرة والعظة. وقال الكلبىّ: لأولى الأبصار فى الدين. وردّ قوم على الكلبىّ بأن قالوا: لو أراد ذلك لقال: لأولى البصائر، لأنّ الدين يقال: فيه بصيرة لا بصر. والأولى أن يكون المراد بالأبصار هاهنا العيون، لأن بالعيون ترى هذه العجائب التى عدّدها الله تعالى، ثم يكون الاعتبار والعظة فى القلب بها، ويكون من لا موعظة له ولا اعتبار كأنه لا بصر له؛ من حيث لم ينتفع ببصره، فجعل أولى الأبصار هم أولى الاعتبار من حيث انتفع أولو الاعتبار بأبصارهم، وإن لم ينتفع بها من لا اعتبار عنده؛ وهذا كثير فى القرآن؛ فإنه تعالى جعل الكفار فى مواضع كثيرة صما وبكما وعميا؛ من حيث أشبهوا بإعراضهم عن الفكر والتأمل والاعتبار من لا جوارح له. وهذا بيّن لمن تأمله.

مسألة

مسألة اعلم أنّ من عادة العرب الإيجاز والاختصار والحذف طلبا لتقصير الكلام واطّراح فضوله، والاستغناء بقليله عن كثيره؛ ويعدّون ذلك فصاحة وبلاغة. وفى القرآن؛ من هذه الحذوف، والاستغناء بالقليل من الكلام عن الكثير مواضع كثيرة نزلت من الحسن فى أعلى منازله؛ ولو أفردنا لما فى القرآن من الحذوف الغريبة، والاختصارات العجيبة كتابا لكان واجبا. فمن ظاهر ذلك قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى؛ [الرعد: 31] ولم يأت ل لَوْ جواب فى صريح الكتاب؛ وإنما أراد: لو أن قرآنا سيرت به الجبال لكان هذا. ومثل هذا الحذف ما روى عن النبىّ صلى الله عليه وآله من قوله: «لو كتب هذا القرآن فى إهاب وطرح فى النار ما أحرقته النار»؛ والمراد: وكانت النار مما لا يحرق جسما لجلالة قدره ما أحرقته؛ فحذف ذلك اختصارا لدلالة الكلام عليه، ومثل هذا قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا؛ [الأحزاب: 72] وتقديره: إن السموات والأرض والجبال لو كنّ مما يأبى ويشفق، وعرضنا عليهنّ الأمانة لأبين وأشفقن. وجعل المعلوم بمنزلة الواقع فقال: عَرَضْنَا من حيث علم أن ذلك المشروط لو وقع شرطه لحصل هو. وهذا التأويل الّذي استخرجناه أولى مما ذكره المفسّرون من أنه تعالى أراد: عرضنا الأمانة على أهل السموات والأرض؛ لأن أهل السموات والأرض هم الناس والملائكة، فأىّ معنى لقوله وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ وهو يريد الجنس! ومثله قول الشاعر: * امتلأ الحوض وقال قطنى (¬1) * ¬

_ (¬1) بعده: * حسبى رويدا قد ملأت بطنى* والبيت فى مقاييس اللغة 5: 14.

والمعنى امتلأ حتى لو كان ممن يقول لقال ذلك، وهذا أولى فى نفسى من تفسيرهم هذا البيت بأنه ظهرت منه أمارات القول والنطق. وهذا الّذي أشرنا إليه هو معنى كلّ ما جرى مجرى هذا البيت؛ من قول الشاعر (¬1): وأجهشت للتّوباذ حين رأيته … وكبّر للرّحمن حين رآنى (¬2) فقلت له: أين الذين عهدتهم … بجنبك فى خفض وطيب زمان! فقال: مضوا، واستودعونى بلادهم … ومن ذا الّذي يبقى على الحدثان! (¬3) ومن المحذوف أيضا قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ؛ [الزمر: 73]؛ ولم يأت لإذا جواب فى طول الكلام، وإنما حسن حذف الجواب الّذي هو: «فدخلوها» لورود ما يقوم مقامه؛ ويدل عليه من قوله تعالى: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ؛ [الزمر: 74] وذلك لا يكون إلا بعد الدخول؛ ومثل ذلك قول امرئ القيس: فلو أنها نفس تموت سويّة … ولكنّها نفس تساقط أنفسا (¬4) فحذف جواب، «لو» والجواب هو: «لكان ذلك أروح لها وأخفّ عليها»؛ ومثله قول الهذلىّ (¬5). حتى إذا أسلكوهم فى قتائدة … شلّا كما تطرد الجمّالة الشّردا (¬6) ومثل هذا كله فى الحذف: إنما أتمنى كذا لو أعطيته؛ وظاهر هذا الكلام كأنه مشروط وكأنه قال: إننى أتمناه إذا أعطيته؛ والأمر بالضّد من ذلك؛ والمعنى: لو أعطيته لبلغت مناى، ولنفعنى؛ وما أشبه ذلك المعنى. ¬

_ (¬1) هو المجنون. الأغانى 1: 179. (¬2) التوباذ: جبل فى نجد؛ والأبيات أيضا فى معجم البلدان (2: 424) من غير عزو. (¬3) بعدها فى معجم البلدان والأغانى: وإنّى لأبكى اليوم من حذرى غدا … فراقك والحيان مختلفان. (¬4) ديوانه: 142؛ وقوله: «تساقط، أى يموت بموتها بشر كثير. (¬5) هو عبد مناف بن ربع الهذلى؛ ديوان الهذليين 2: 42. (¬6) قتائدة: موضع، والجمالة: أصحاب الجمال. وانظر الجزء الأول ص 3.

والشعر القديم والمحدث مملوء من ذلك، قال البحترىّ: ولو شئت يوم الجزع بلّ غليله … محبّ بوصل منك لو ينفع الوصل (¬1) وإنما أراد: لو ينفع الوصل لنفعنى وبلغنى منيتى؛ وما أشبه ذلك؛ ومثله قوله: وتعجبت من لوعتى فتبسمت … عن واضحات لو لثمن عذاب وأنت إذا تأملت ضروب المجازات التى يتصرف فيها أهل اللسان فى منظومهم ومنثورهم وجدتها كلّها مبنية على الحذف والاختصار؛ ولأن قوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ؛ [الفجر: 22]؛ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ؛ [يوسف: 82] مما الحذف فيه ظاهر. وإنما كان الكلام أبلغ وأفصح؛ لأن كلامه قلّل بحذف بعضه ومعانيه بحالها؛ وكذلك قولهم فى المدح: فلان البدر، والبحر، واللّيث؛ وفى الذم: هو الحمار، والحائط؛ إنما هو مبنىّ على الحذف، لأن المراد هو مشبه ومماثل لما ذكر؛ فأسقط من الكلام ما يقتضي التشبيه؛ لدلالة القول عليه. فإن قيل: فإذا كانت الفصاحة هى الاختصار، فكيف قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]؛ فزاد الكاف؛ ولا معنى لها إلا الفصاحة؛ فقد صارت الفصاحة بالزيادة كما كانت بالنقصان! قلنا: دخول الكاف هاهنا ليست على سبيل الزيادة التى لو طرحت لما تغيّر المعنى؛ بل تفيد بدخولها ما لا يستفاد مع خروجها؛ لأنه إذا قال: «ليس مثله شيء» جاز أن يراد من بعض الوجوه، وعلى بعض الأحوال؛ فإذا دخلت الكاف فهم نفى المثل على كل وجه؛ ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال: ليس كمثله أحد فى كذا بل على الإطلاق والعموم. وبمثل هذا الجواب نجيب من يسأل عن قولهم: ما إن فى الدار زيد؛ لأنه لو قال: ما فى الدار زيد لجاز أن يكون نفيه لكونه فيها على وجه دون وجه؛ فإذا قال: «ما إن» فهم نفى كونه على كل حال؛ وهذا يدلّ على أنها مفيدة غير زائدة. ¬

_ (¬1) ديوانه: 2: 163.

ومن قال: إنها دخلت للتوكيد يجب أن يكون مراده ما قصدناه وشرحناه؛ لأن التوكيد متى لم يكن تحته فائدة كان دخوله عبثا. وهذا الكلام الّذي بسطناه فى تأمّله فوائد كثيرة؛ وكان السبب فيه أن بعض من قرئ عليه كلام حكايته فى وصف كتابين: «ووجدت فيهما من التغلغل والتوصّل إلى مكامن الارتجاف، ومغابن الإسعاف، لا تطرق فجاجها، ولا يفتح رتاجها، ولا يمرّ بشعابها، ولا يلمّ بأبوابها ... »؛ وأطال الكلام، ولم يأت بما يرجع إلى قوله: «من التغلغل» (¬1). وهذا من الحذف الّذي حسّنه طول الكلام، ودلالة ما فيه على المحذوف؛ لأنّ التقدير: ووجدت فيه من التغلغل الكثير؛ فاستغنى عن ذكره بالمفهوم من الكلام؛ كما استغنى بالمحذوف التى ذكرناها فى القرآن والشعر بما فى معنى الكلام، وعدّ ذلك فصاحة وبلاغة. وكم بين أن يفهم المعنى ويلحظ من غير لفظ صريح، وبين أن يأتى فيه لفظ مصرّح فى البلاغة والفصاحة! وقد كنت أمليت قديما مسألة أوضحت فيها أنّ التأكيد لا بدّ فيه من فائدة، وخطّأت من ذهب إلى خلاف ذلك، وبيّنت أنّ كلّ موضع ادّعى فيه أنّه للتأكيد من غير فائدة مجددة فيه فائدة مفهومة؛ وأن قوله تعالى: فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً؛ [الفرقان: 71] ما ورد هذا المصدر للتأكيد على ما يقوله قوم؛ بل لفائدة مجدّدة؛ لأنه تعالى أراد متابا جميلا مقبولا واقعا فى موقعه، فحذف ذلك اختصارا؛ كما يقول العربىّ الفصيح فى الشعر المستحسن: هذا هو الشعر، والفرس الممدوح: هذا هو الفرس؛ وإنما حذف الصفة اختصارا؛ والمراد هذا هو الشعر المستحسن، والفرس الكريم؛ ومثله قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً؛ [النساء: 164] إنه أراد الفضل والمدح. وقال قوم: بل سمع كلامه من غير واسطة؛ ولا متحمّل له. ¬

_ (¬1) بعد هذه الكلمة فى ف إشارة إلحاق، كتب إلى جانبها كلمة «تبلد»، مقرونة برمز «صح»؛ وليس هنا ما يقتضي إثباتها.

فأما قول القائل: ضربته ضربا، وما أشبه ذلك من ذكر المصادر مع الأفعال وفى ذكر الأفعال من غير ذكر المصادر لدلالتها عليها فله وجهان: أحدهما أن يكون نفى صفة الضرب اختصارا؛ وأراد ضربا شديدا مبرّحا، فحذف؛ أو يكون أراد أنّه باشر الضّرب وتولّاه؛ لا أنّه أمر به؛ فقد يقال: ضربه إذا أمر بضربه؛ ولا يكادون يقولون: ضربه ضربا إذا أمر بضربه، ولم يباشره. فأما قول العرب: «لأمر ما جدع قصير أنفه»، وقولهم: «لأمر ما يسوّد من يسود»، وادعاء من ادّعى أن «ما» هنا زائدة لا معنى تحتها وإنما دخلت للتأكيد؛ فالأولى غير ما ذكره؛ ومعنى قولهم: لأمر ما كان كذا أنه لأمر لست به عارفا؛ لأنهم لا يكادون يقولون: لأمر ما كان كذا وكذا وأنا به عارف؛ وإن جاز أن يقولوا: لأمر كان كذا وأنا به عارف؛ وإنما قالت الزباء: «لأمر ما جدع قصير أنفه»؛ لأنّها كانت جاهلة بسبب قطع أنفه، وغير عالمة به؛ وهذا يبطل قول من جعلها زائدة بغير فائدة. فأما قوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ؛ [آل عمران: 159] وتقدير قوم أن «ما» هاهنا زائدة فليس الأمر على ما ظنّوه؛ لأن من شأنهم ألا يدخلوا «ما» هاهنا إلا إذا أرادوا الاختصاص وزيادة فائدة على قولهم: فبرحمة من الله لنت لهم؛ لأنّ مع إسقاط «ما» يجوز أن تكون الرحمة سببا للّين وغيرها رقة، ولا يكادون يدخلونها مع «ما» إلا والمراد أنها سببه دون غيرها، فقد أفادت اختصاصا لم يستفد قبل دخولها. فأما قولهم: «ما إن فى الدار زيد»، فيشبه أن يكون دخولها لفائدة تزيد على قولهم: «ما فى الدار زيد»؛ لأنهم إذا قالوا: «ما فى الدار زيد» جاز أن يريدوا أنّه لا تصرّف له فى الدار ولا تأثير لكونه فيها؛ فكأنه ليس حالّا فيها؛ لأنهم أبدا يقولون: ما فى هذه البلدة أمير؛ ولا لهذا الناس مدبّر؛ يريدون السياسة والتدبير. فإذا قالوا: «ما إن فى الدار زيد»، أو «ما إن للبلد أمير» فلا بدّ أن يريدوا: أنه ليس فيها على الحقيقة من ذكروه؛ وهذا هو معنى قول أهل العربية: إن ذلك للتأكيد؛ ومعنى التأكيد هو الّذي أشرنا إليه؛ لأنّ التأكيد لا يجوز أن يكون لغير فائدة، وأن يكون دخوله كخروجه.

فليقس على ما ذكرناه أمثلته، وليتطلّب لكل شيء ادّعى أنه لمحض التأكيد فائدة قلّت أو كثرت؛ فإنها توجد؛ وليس جهل الطالب لها بها يقتضي فقدها؛ فإن الأدلّة الواضحة قد دلّت على أنّ العرب مع حكمتهم لا يتكلّمون بما لا يفيد؛ وأنّ الكلام الّذي ما وضع فى الأصل إلا لفائدة قليله فى وجوب الفائدة ككثيره؛ فربما ظهرت هذه الفائدة لكل متدبّر، وربما خفيت. وأصول أهل العربية مملوءة من هذا؛ فإنّهم يتمحّلون ويتطلّبون العوامل التى لا تظهر فى تمام الكلام؛ ويقدّرون فيها التقديرات البعيدة حراسة للأصول، ونصرة لما دلّ عليه الدليل. ومن تصفّح تمحّلهم للعامل فى الحال إذا عرى الكلام كلّه من تصريح به، وتغلغلهم إلى ضعيف وقوىّ وبعيد وقريب علم أنّ الّذي سلكناه فى تخريج فوائد الحروف الزائدة الداخلة على الكلام، وظن قوم أنها للتأكيد من غير فائدة زائدة، طريق صحيح لا اعتراض عليه.

مسألة

مسألة جرى بالحضرة السامية الوزيرية العالية العادلية (¬1) المنصورة- أدام الله سلطانها، وأعلى أبدا شأنها ومكانها- فى بعض الكلام ما روى عن النبي عليه السلام من قوله: «نية المؤمن خير من عمله». فقلت: على هذا الخبر سؤال قوىّ؛ وهو أن يقال: إذا كان الفعل إنما يوصف بأنه خير من غيره إذا كان ثوابه أكثر من ثوابه؛ فكيف يجوز أن تكون النية خيرا من العمل؟ ومعلوم أن النية أخفض ثوابا من العمل؛ وأنه لا يجوز إن يلحق ثواب النية بثواب العمل؛ ولهذا قال أبو هاشم: إن العزم لا بدّ أن يكون دون المعزوم عليه فى ثواب وعقاب: وردّ على أبى عليّ قوله: «إنّ العزم على الكفر لا بدّ أن يكون كفرا؛ والعزم على الكبير يجب أن يكون كبيرا» بأن قال له: لا يجب أن يساوى العزم المعزوم عليه فى ثواب ولا عقاب؛ فإن كان هاهنا دليل سمعىّ يدلّ على أن العزم على الكفر كفر، والعزم على الكبير كبير صرنا إليه؛ إلا أنه لا بدّ مع ذلك من أن يكون عقاب العزم دون عقاب المعزوم عليه؛ وإن اجتمعا فى الكفر والكبير. ووقع بالحضرة السامية العادلة المنصورة- أدام الله سلطانها- من التقدير لذلك والخوض فيه كلّ دقيق (¬2) غريب مستفاد؛ وهذه عادتها- حرس الله نعمتها- فى كل فن من فنون العلم والأدب؛ لأنها تنتهى من التحقيق والتدقيق إلى غاية من لا يحسن إلا ذلك الفن؛ ولا يعرف إلا بذلك النوع. وقال بعض من حضر: قد قيل فى تأويل هذا الخبر وجهان حسنان، فقلت له: اذكرهما؛ فربما كان الّذي عندى فيه مما استخرجته أحدهما، فقال: يجوز أن يكون المعنى أن نية المؤمن خير من عمله العارى من نية. فقلت: لفظ ¬

_ (¬1) ط، حاشية ف (من نسخة): «العادلة». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «كل دفين».

«أفعل» لا يدخل إلا بين شيئين قد اشتركا فى الصفة، وزاد أحدهما فيها على الآخر؛ ولهذا لا يقول أحد: إن العسل أحلى من الخلّ؛ ولا إن النبي عليه السلام أفضل من إبليس؛ والعمل إذا عرى من نية لا خير فيه، ولا ثواب عليه؛ فكيف تفضّل النية الجميلة عليه؛ وفيها خير وثواب على كل حال. قال: والوجه الآخر أن تكون نية المؤمن فى الجميل خير من عمله الّذي هو معصيته. فقلت: وهذا يبطل أيضا بما بطل به الوجه الأول، لأن المعصية لا خير فيها فيفضل غيرها عليها فيه. وقالت الحضرة السامية العادلة المنصورة- أدام الله دولتها- تحقيقا لذلك وتصديقا: هذا هجو لنية المؤمن، والكلام موضوع على مدحها وإطرائها، وأىّ فضل فى أن تكون خيرا من المعاصى، وإنما الفضل أن تكون خيرا مما فيه خير! فسئلت حينئذ ذكر الوجه الّذي عندى فقلت: لا تحمل لفظة «خير» فى الخبر على معنى «أفعل» الّذي هو للتفضيل والترجيح وقد سقطت الشبهة، ويكون معنى الكلام: إن نية المؤمن من جملة الخير من أعماله؛ حتى لا يقدّر مقدّر أن النية لا يدخلها الخير والشر؛ كما يدخل ذلك فى الأعمال. فاستحسن هذا الوجه الّذي لا يحوج إلى التعسّف والتكلّف اللذين يحتاج إليهما إذا جعلنا لفظة «خير» معناها معنى «أفعل»؛ وانقطع الكلام لدخول الوقت السّعيد المختار لدخول البلد ونهوض الحضرة السامية- أدام الله سلطانها- للركوب. وكان فى نفسى أن أذكر شواهد لهذا الوجه ولواحق يقتضيها الكلام، وخطر بعد ذلك ببالى وجهان سليمان من الطّعن إذا حملنا لفظة الخير فى الخبر على الترجيح والتفضيل؛ وأنا أذكر ذلك: أمّا شاهد ما استخرجته من التأويل من حمل لفظة «خير» على غير معنى التفضيل والترجيح فكثير؛ وقد ذكرت فى كتابى المعروف «بالغرر» عند كلامى فى قوله تعالى:

وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا؛ [الإسراء: 72] من الكلام على هذا الوجه ما استوفيته (¬1)، وذكرت قول المتنبى: ابعد بعدت بياضا لا بياض له … لأنت أسود فى عينى من الظّلم (¬2) وأن الألوان لا يتعجب منها بلفظ «أفعل» الموضوع للمبالغة، وكذلك الخلق كلها؛ وإنما يقال: ما أشدّ سواده! وأن معنى البيت ما ذكره أبو الفتح عثمان بن جنّى من أنه أراد: أنّك أسود من جملة الظّلم؛ كما يقال: حرّ من أحرارا، ولئيم من لئام؛ فيكون الكلام قد تمّ عند قوله: «لأنت أسود». ولو أراد المبالغة لما كان تامّا إلا عند صلة الكلام بقوله: «من الظّلم»؛ واستشهد ابن جنّى أيضا على صحة هذا التأويل بقول الشاعر: وأبيض من ماء الحديد كأنّه … شهاب بدا واللّيل داج عساكره (¬3) كأنه قال: وأبيض كامن من ماء الحديد. وقلت أنا: قول الشاعر: يا ليتنى مثلك فى البياض (¬4) … أبيض من أخت بنى إباض يمكن حمله على ما حملناه عليه ببيت المتنبى؛ كأنه قال: أبيض من جملة أخت بنى إباض ومن عشيرتها وقومها، ولم يرد المبالغة والتفضيل؛ وهو أحسن من قول أبى العباس المبرّد لما أنشد هذا البيت وضاق ذرعا بتأويله على ما يطابق الأصول الصحيحة أنّ ذلك محمول على الشّذوذ والنّدران. فإن قيل: كيف تكون نية المؤمن من جملة أعماله على هذا التأويل، والنية لا تسمى عملا فى العرف، وإنما تسمى بالأعمال أفعال الجوارح؛ ولهذا لا يقولون: عملت بقلبى، كما يقولون: عملت بيدى، ولا يصفون أفعال الله تعالى بأنها أعمال؟ قلنا: ليس يمتنع أن تسمى أفعال القلوب بأنها أعمال، وإن قل استعمال ذلك فيها، ألا ترى ¬

_ (¬1) المجلس السابع؛ الجزء الأول: 87 - 94. (¬2) ديوانه 4: 35. (¬3) البيتان 1: 35 من غير عزو. (¬4) البيتان فى اللسان (بيض).

أنهم لا يكادون يقولون: فعلت بقلبى؛ كما يقولون: فعلت بجوارحى؛ وإن كانت أفعال القلوب تستحق التسمية بالفعل حقيقة بلا خلاف؛ ولكن لا تسمى أفعال الله تعالى بأنها أعمال؛ لأن هذه اللفظة تختصّ بالفعل الواقع عن قدرة، والقديم تعالى قادر لنفسه؛ كما لا نصفه تعالى بأنه مكتسب لاختصاص هذه اللفظة بمن فعل لجرّ نفع، أو دفع ضرر. ولو سلّمنا أن اسم العمل يختص بأفعال الجوارح جاز أن يطلق ذلك على النية مجازا واستعارة؛ فباب التجوّز أوسع من ذلك. وأما الوجهان اللّذان خطرا ببالى إذا قدرنا أن لفظة «خير» فى الخبر محمولة على الفاضلة؛ فأحدهما أن يكون المراد: نية المؤمن مع عمله خير من عمله العارى من نيّة؛ وهذا مما لا شبهة أنه كذلك. والوجه الثانى أن يريد: نيّة المؤمن لبعض أعماله قد تكون خيرا من عمل آخر له لا تتناوله هذه النية؛ وهذا صحيح لأن النية لا تجوز أن تكون خيرا من عملها نفسها. وغير منكر أن تكون نيّة بعض الأعمال الشاقة العظيمة الثواب أفضل من عمل آخر ثوابه دون ثوابها؛ حتى لا يظنّ ظان أن ثواب النية لا تجوز أن يساوى أو يزيد على ثواب بعض الأعمال. وهذان الوجهان فيهما على كل حال ترك لظاهر الخبر لإدخال زيادة ليست فى الظاهر؛ والتأويل الأول إذا حملنا لفظة «خير» على خلاف المبالغة والتفضيل مطابق للظاهر؛ وغير مخالف له؛ وفى هذا كفاية بمشيئة الله.

مسألة

مسألة سأل بعض الإخوان وقد خطر بباله عند قراءة شيء من أخبار الأئمة وأدعية السادة عليهم السلام من ذكر اسم الله تعالى الأعظم، وما خصّ به من الفضيلة دون سائر أسماء الله تعالى، وما أعطى من دعا به من سرعة الإجابة؛ مثل آصف بن برخيا وصىّ سليمان عليه السلام ومجيئه بعرش بلقيس من سبأ اليمن إلى بيت المقدس فى أقل من طرفة العين؛ وما نقله الأنبياء والأئمة والصالحون من المعجزات، وعن قول الأئمة عليهم السلام فى أدعيتهم: «اللهم إنى أسألك باسمك الأعظم»، وفيهم من قال: «الأعظم الأعظم» متى زاد على ذلك، ومنهم من قال: «الأكبر الأكبر». قال: فهل ترى أن «الأعظم» غير «الأكبر»، أو «الأعظم الأعظم» غير «الأعظم» مرة واحدة؟ . قال: وإذا قلنا «أعظم» فيجب أن يكون ثمّ «ألطف»، وإذا قلنا «أكبر» يجب أن يكون ثمّ «أصغر»؛ والله يتعالى من أن يكون له اسم ألطف من اسم أو أصغر، إذ كانت أسماؤه تعالى لا تذكر إلّا على معنى واحد؛ ولا يشار بها إلا إليه؛ وقد نطق القرآن بتساويها فى المنزلة، وهى قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: 110]؛ وقال تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها؛ [الأعراف: 180]، وقد خير الله تعالى نبيه عليه السلام فى أن يدعوه بأيّها شاء؛ وذكر أنها كلّها حسنى، فلم خصّ الأئمة عليهم السلام أحدها بالتعظيم دون سائرها، والمقصود بها والمراد منها واحد تبارك وتعالى! فإن قيل له: لأن فيه ما يشاركه فيه المخلوقون: مثل كريم ورحيم وعالم وحاكم وغير ذلك؛ فلهذا كانت رتبة بعضها فى التعظيم أقل من بعض. قال: والجواب عن ذلك أنه قد بقى منها عدة أسماء لا يشاركه فيها أحد من المخلوقين، ولا يستحقها سواه مثل الله وإله وسبّوح وقدّوس وما أشبه ذلك؛ مما لا يوصف بها غيره، ولا تليق إلا به عزّ وجل، فلم اختص الاسم الأعظم بأحد هذه دون الأجرام؛ أم هل الاسم الأعظم أو الأكبر شيء غير هذه الأسماء المتعارفة بين العوام (¬1)! ¬

_ (¬1) حاشيتى ف، ط: «فى هذا الكلام بعض التخليط كأنه ليس من تحرير السيد رحمه الله».

مسألة

مسألة وسأل غير الأول من الإخوان عن قوله تعالى فى سورة يس: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ؛ [يس: 6]. قال: إذا كانت آباؤهم لم ينذروا فبأىّ شيء يحتجّ عليهم! وكيف يعاقبهم على عبادة الأصنام وقد قال تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا؛ [الإسراء: 15]! وكيف يصحّ أن تخلو أمة من الأمم من نذير، مع قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24]؛ وقوله تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ [الشعراء: 208] وقد علم أنّهم كانوا أمما لا يحصيها كثرة غيره تعالى، وقرى كثيرة؛ فكيف هذا! وأىّ شيء المراد به ومعلوم أنّ كلامه تعالى لا يتناقض! قال: فإن قال: إن «ما» التى فى الأمة المتقدمة ليست للنفى بل هى للإثبات، والمعنى فيها: مثل ما أنذر آباؤهم، أو بمعنى الّذي أنذر آباؤهم، أو زائدة؛ لأن الكلام يتم من دونها؛ لتنذر قوما أنذر آباؤهم. قال: والجواب عن ذلك أنّ هذا تأويل يفسد، من قبل أنّ المعلوم الّذي لا شك فيه ولا إشكال أنّ الله تعالى لم يبعث نبيّا بعد عيسى عليه السلام إلا المبعوث على فترة من الرسل صلى الله عليه؛ لأجل ذلك وصفهم بالغفلة لمّا لم ينذر آباؤهم؛ فثبت بهذا أن «ما» التى فى الآية المتقدمة للنفى دون الإثبات، وأن الأخذ بالمعلوم أولى من المظنون. قال: فإن قيل إن عيسى عليه السلام قد كان بعث إليهم، وشاعت شريعته فيهم، وانتشرت كلمته، وسار الحواريون بدعوته شرقا وغربا، سهلا وجبلا. قال: فالجواب عن ذلك إذا سلّمنا أن عيسى عليه السلام بعث إليهم فإنّ الفترة إنما كانت بينه وبين محمد صلى الله عليه وآله، وأن الحواريين لم يمكثوا بعده إلا قليلا، وأنّ الآباء المذكورين بأنهم لم ينذروا هم الأدنون دون الأبعدين.

ولقائل أن يقول: إن عيسى عليه السلام لم يبعث إلا إلى بنى إسرائيل خاصة دون العرب؛ وبذلك نطق القرآن. وله أن يقول: إن الآباء الأبعدين والأدنين فى الآية سواء. والّذي يؤيد ذلك قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ... ؛ [المائدة: 19]؛ الآية (¬1) إلى آخرها، وقد صحّ بالجملة والتفصيل أنّ الآباء لم ينذروا، وأن «ما» للنفى فى موضعها من الآية دون الإثبات؛ فكيف القول فى الحجة عليهم؟ ولا يحتج محتج بأن العقل هو الحجة عليهم دون الإنذار والرسل؛ لأن العقل حجّة على من أنذر وعلى من لم ينذر؛ وعليه معوّل الفلاسفة فى الاستغناء عن الرسل والأنبياء عليهم السلام. *** الجواب عن المسألة أن الأولى (¬2): أن يكون اسم الله تعالى الأعظم خارجا عن هذه الأسماء والصفات التى فى أيدى الناس يناجون الله تعالى بها، ويدعونه ويسألونه؛ لأنّ ذلك الاسم لو كان من جملتها- وقد أجمعوا على أنّ الله تعالى لم يسأل به شيئا إلا أعطاه- لكان يجب فى كل داع بهذه الأسماء والصفات إذا كان الاسم من جملتها أن تجاب دعوته، وتنجح مسألته، وقد علمنا خلاف ذلك، وأنّ أكثر الداعين بهذه الأسماء المسطورة غير مجابين؛ فعلمنا أنّ «الأعظم» ليس من جملتها. فإذا قيل لنا: فلم خصّ الله تعالى بهذا الاسم قوما دون قوم، ولم يجره مجرى سائر أسمائه؟ فالجواب أنه تابع للمصلحة، وإذا كان المعلوم أن كلّ سائل بذلك الاسم مجاب لا محالة، فمن علم أنّ فى إجابته مفسدة لا يجوز أن يمكّن من ذلك الاسم. فإذا قيل: فينبغى لمن يسأله تعالى، وقال: بحقّ اسمك الأعظم، اعطنى كذا أن يجاب لا محالة؛ وقد علمنا خلاف ذلك؟ فالجواب أنه غير ممتنع أن تكون الإجابة إنما تكون واجبة عند التصريح والتلفّظ بهذا الاسم دون الكناية عنه. ¬

_ (¬1) بقية الآية: أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. (¬2) انظر ص 319 من هذا الجزء.

فأما تسميته بأنّه أعظم، وأن ذلك يقتضي أن يكون من أسمائه ما ليس بأعظم؛ فالجواب عنه من وجهين: أحدهما أن تكون لفظة «أفعل» هنا راجعة إلى باقى أسمائه؛ والوجه الآخر أن ترجع إلى أسماء وصفات غيره. وبيان الوجه الأول أن معنى «أعظم» هو اختصاصه بفضيلة أن الدّعاء به مجاب، وهذه المزية ليست فى باقى الأسماء؛ فكأنه أعظم منها لاختصاصه برتبة عالية ليست لباقيها. وأما الوجه الثانى فيكون المعنى أنه أعظم بالإضافة إلى أسمائكم وصفاتكم؛ لأنه ليس لشيء من صفاتنا هذه المزية؛ ولم تجعل هذه المزية لأجل فقد المشاركة فى المعنى؛ فيلزم عليه إله وقديم ورحمن؛ على ما مضى فى السؤال؛ بل لأن الله تعالى خصّ هذا الاسم بهذه المزية لما علم من المصلحة. فأما إلزامنا أن يكون فى أسمائه تعالى ما هو أصغر فلا يلزم على الجواب الثانى؛ فإذا ألزمنا ذلك على الجواب الأول قلنا: إذا كان قولنا «أعظم» بالإضافة إلى أسمائه تعالى معناه أن له هذه المزية والرتبة، فلا محالة أنه يجب فيما ليس له هذه المزية من أسمائه ألّا يكون الأعظم. ولا يجوز أن نقول: أصغر وأحقر وما يجرى مجرى ذلك؛ لأنه يوهم المهانة؛ وما لا تجوز فى شيء من أسمائه. وأما قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها فإنما سمّاها كلها الحسنى؛ وليس يمتنع أن يكون فيما هو حسن تفاضل وتزايد، وكذلك قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا معناه التخيير لنا بين أن ندعوه بأىّ الاسمين شئنا؛ وما يمضى فى ألفاظ الدعاء من أنى أسألك باسمك الأكبر تارة؛ وأخرى بالأعظم، والأشبه أن يراد باللّفظتين معنى واحد. وأ ما تكرير لفظ «الأعظم» فهو على سبيل التأكيد والتفخيم؛ لا لأن «الأعظم» مرة واحدة غير «الأعظم» مرتين، وبالله التوفيق. ***

والجواب عن المسألة الثانية (¬1) أنه غير ممتنع عندنا أن يخلو الزمان الطويل والقصير من رسول مبعوث بشريعة؛ وإن كان لا يخلو من إمام؛ ولهذا يقول أصحابنا: إن الإمامة واجبة فى كلّ زمان؛ وليست كذلك النبوة. والوجه فيه أنّ إرسال الرسول تابع لما يعلمه الله من المصالح للمكلّفين فى الشرائع والعبادات؛ وغير بعيد فى العقل أن يعلم تعالى أنّه لا شيء من الشرائع فيه مصلحة للمكلّفين؛ فلا تجب الرّسالة بل لا تحسن. فأما قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا، وقوله: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ وقوله: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ؛ فيجوز أن يكون مخصوصا غير عام؛ ويعنى به من الشرائع والعبادات من ألطافه؛ فإن دلّ دليل قاطع على عموم هذه الظواهر قطعنا لأجله على أن الشرائع من ألطاف المكلّفين؛ وإن كان جائزا فى العقل ألّا يكون الأمر على ذلك. وقد اختلف أهل التأويل فى تأويل هذه الآية، فقال جماعة: إن لفظة «ما» هاهنا للنفى، والمراد أن آباءهم ما أنذروا، لأنّ المصلحة لم تقتض بعثة رسول إليهم؛ وليس من المعلوم لنا أنّ عيسى عليه السلام كان الحجة على كلّ مكلّف كان بين زمانه وبين زمان نبيّنا عليه السلام. ويقوّى هذا الجواب إثبات الفترة وأنّه عليه السلام بعث على فترة من الرسل. وذهب قوم من أهل التأويل إلى أن «ما» فى الآية ليست للنّفى بل للإثبات؛ والمراد: لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم؛ وهذا أيضا جائز. ويقوّى هذا الجواب ويضعف الأول أن قوله تعالى: فَهُمْ غافِلُونَ يقتضي الذمّ لهم بالغفلة؛ وذلك يقتضي أنهم أنذروا فغفلوا وأعرضوا. ولا يذمّ بالغفلة من لا سبيل له إلى العلم والتبين. وفى الناس من حمل قوله تعالى: ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ على النفى، والمراد أنه لم ينذرهم من هو منهم وعلى نسبهم ومن أنفسهم؛ كما قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ ¬

_ (¬1) انظر ص 320 من هذا الجزء.

أَنْفُسِكُمْ؛ [التوبة: 128] فيكون تلخيص الكلام: لتنذر قوما أنت منهم ما أنذر آباءهم من هو منهم؛ أى من قومهم ومن أنفسهم. ويمكن فى لفظة «ما» وجه آخر وهو أن يراد بها التنكير؛ كأنه قال: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما وتقف، ثم تبتدئ فتقول: أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ؛ كما يقول القائل: أكلت طعاما ما، ولقيت جماعة ما، ويكون الغرض التنكير والإجمال؛ وليست لفظة «ما» هاهنا زائدة؛ لأن حدّ الزائد أن يكون دخوله فى عدم الفائدة كخروجه؛ وهى هاهنا مفيدة على ما بيّناه.

مسألة

مسألة فى الاعتراض على أن من استدلّ بدليل السّحارة على أن العالم ملاء، وما أبطل به ذلك اعلم أنّ فكرت فيما أجاب به أبو هاشم من يقول: إن العالم ملاء، إذا استدل بالآلة التى تسمّى السّحارة (¬1) على ذلك؛ وادّعى أن علّة وقوف الماء عن النزول من الثّقب الصغار التى فى أسفلها إذا سددنا رأسها هو منع الهواء بسدّ الرأس من أن يحدث فى مكان الماء. وقول أبى هاشم: إن العلة فى وقوف الماء عن السيلان إذا سددنا رأس السّحارة بالإصبع أن الهواء يمنع الماء من النزول لضعف ما يخرج من الماء فى الثّقب الصغار؛ فإذا فتحنا الرأس دفع الهواء الماء من أعلى السحارة فقوى الماء على النزول؛ فوجدته غير واضح، لأن الماء فيه اعتمادات سفلا وثقل ونفس الهواء على مذهبنا- وهو الصحيح- لا اعتماد فيه البتة؛ فكيف تمنع ما لا اعتماد فيه للجسم الّذي فيه اعتماد سفلا عن الهبوط والنزول! وإذا كان الهواء هو المانع من نزول الماء من الثّقب الصغار- ومن مذهب أبى هاشم جواز خلوّ الأماكن من الهواء- فكان يجب أن يجوّز أن يسيل الماء من أسفل السحارة مع سدّ أعلاها بالإصبع؛ بأن يصادف ذلك مكانا خاليا من الهواء الّذي يدّعى أنه مانع من نزول الماء. فأما تقويته لذلك بذكر الريشة، وأنها تقف فى الهواء فلا تنزل؛ لأن الهواء يمنعها من الهبوط، فأوّل ما فيه أن الريش لخفّته ربما أبطأ نزوله؛ فظنّ أنه واقف؛ وربما كان فى الهواء اعتمادات مختلفة صعدا، فتمنع هذه الاعتمادات التى هى فى خلاف جهة اعتمادات الريشة من النزول. فأما إذا كانت الريشة فى هواء ساكن لا اعتماد فيه فإن الهواء لا يجوز أن يمنعها من الهبوط. ومن أطرف الأمور قوله: إن الهواء إذا فتحنا عن رأس السحارة يدافع الماء، ويكون ¬

_ (¬1) فى حاشية ف، ط: «إن الآلة المعروفة بالسحارة هى الآلة التى يكون فى رأسها ثقب واحد وفى أسفلها ثقوب كثيرة، إذا ملأناها بالماء ثم سددنا رأسها بالإبهام لم ينزل الماء من الثقب التى فى أسفلها؛ وإذا أزلنا إبهامنا نزل الماء؛ ولا علة لذلك إلا أنها عند سد رأسها بالإبهام منعنا الهواء من أن يخلف فى مكان الماء».

سببا لنزوله من الثقوب؛ لأن الهواء على مذاهبنا لا اعتمادات فيه، فكيف يدافع الماء! ومن قال من الفلاسفة: إن فيه اعتمادات صعدا لا يليق دفع الماء بقوله، لأن تلك الاعتمادات فى غير جهة اعتماد الماء. وأىّ عاقل يخفى عليه أن الهواء الساكن المعتدل لا يجوز أن يدفع الماء من رأس السحّارة! وبعد، فمع القول بجواز خلوّ الأماكن من الهواء؛ والقطع على ذلك فى بعض الأحوال قد كان يجب أن يجوز أن يفتح رأس السحّارة، ولا يسيل الماء من الثّقب من أسفلها؛ لأن الهواء الّذي ادّعى أنه يدافع الماء من رأسها مفقود. والّذي يدعيه أبو هاشم من أن السحّارة لو ملئت زئبقا وسدّ رأسها لنزل من الثقوب الصّغار؛ وقوله: إنما كان كذلك لثقل الزّئبق، وأنّ الهواء الّذي يلاقى من تحتها الثقوب الصغار لا يقوى على منعه من النزول؛ كما لا يتم ذلك فى الماء موقوف على التّجربة. فأما ما جرّبناه فنتكلّم على العلة المفرّقة بين الزّئبق والماء؛ والّذي يجب أن يعتمد فى نقض الاستدلال من القائلين بذلك فى الماء والسحارة أن يقال لهم: ما أنكرتم أن يكون الله تعالى أجرى العادة بأن يفعل فى الماء السكون والوقوف مع سدّ رأسها، فلا ينزل من أسفلها، وإذا فتحنا رأسها لم يفعل ذلك السكون فيجرى الماء منها من الثقوب. وليس ينبغى أن ينكر أصحابنا خاصّة أن يكون هذا بالعادة؛ ونحن كلّنا نقول: إن انجذاب الحديد إلى حجر المغناطيس إنما هو بالعادة؛ وإلا فالمغناطيس وسائر الأحجار سواء. وإن بالعادة وقع الشّبع عند تناول الخبز واللحم، وارتفع عند غيرهما، والجنس واحد وما تقوّل جماعتنا إنه بالعادة أكثر من أن يحصى. وإذا أنكر الفلاسفة الملحدون تعليقنا ذلك بالعادة لجحدهم الصانع؛ دللناهم على الأصل الّذي لمّا جهلوه ضعف ما نقوله فى نفوسهم، فبثبوته يسهل ذلك كلّه. فإذا قيل لنا: فما طريقه العادة يجوز فيه الاختلاف؛ فجوّزوا أن تكون السحارة فى بعض البلاد التى لا تتصل بنا أخبارها يسيل الماء من أسفلها مع سدّ رأسها، ولا يسيل مع فتحها.

قلنا: نحن نجوّز ذلك، ولا نمنع أن تختلف العادة فيه؛ كما لا نمنع أن يستمرّ فى كلّ بلد؛ وعند كل أحد، ولا يخرج هذا الحكم مع استمراره من أن يكون مستندا إلى العادة؛ ألا ترى أنّ القاطعين على وقوع العلم الضرورى بمخبر الأخبار إذا كان العدد زائدا على أربعة مع استيفاء باقى الشروط لا يجوّزون أن تختلف العادات فى ذلك؛ بل يقطعون على أنّ العادة مستمرة بذلك فى كل موضع. فإذا قيل له: كيف يتميّز ذلك وهو معتاد مع الاستمرار من الوجوب؟ قال: فإن المستند إلى العادة لا بدّ من أن يختلف على بعض الوجوه؛ ليفارق بذلك الاختلاف الواجب؛ ويتميّز عنه. والخبر الّذي يجب عنده حصول العلم الضرورىّ قد يقع مثله ومن جنسه؛ مع اختلاف بعض هذه الشروط؛ فلا يجب العلم. فلو كان هناك إيجاب لوجب العلم على كل حال، وهذا بعينه قائم فى السحّارة؛ لأنّ الثقوب لو وسّعت لسال الماء على كل حال، ولو كانت هناك طبيعة موجبة لوقوف الماء لم تختلف الحال على بعض الوجوه. وبعد، فإن علّة أبى هاشم فى وقوف الماء من السحارة عن السيلان- وإن كنّا قد بيّنا بطلانها- لا نجدها فى القدح المعروف بقدح العدل؛ وهو قدح فى وسطه بربخ [مجوّف يبلغ ارتفاعا إلى قريب من أعلاه، وهذا البربخ] (¬1) نافذ من جهة أسفله، وعلى رأس هذا البربخ فى وسط القدح كالغشاء يحيط به من جوانبه على تجاف عنه؛ وهو من أعلاه مسدود، ومن أسفله مفروج، فإذا طرحنا فى هذا القدح ماء فهو ثابت؛ حتى يبلغ إلى محاذاة رأس البربخ، فإذا زاد عليها ولو باليسير خرج جميع الماء من القدح بأن يصعد من أسفل القدح إلى رأس البربخ حتى ينزل جميعه. وأصحاب الملاء يدّعون أن العلّة فى صعود الماء إلى فوق رأس ذلك من شأنه هو اضطرار الخلاء؛ وحتى لا يخلو مكان من متمكّن فيه، فما العلّة فى صعود الماء ثم هبوطه على مذهب أبى هاشم؟ وما يعلّل فى السحارة لا يتأتى هاهنا؛ وليس بعد ذلك إلا إسناده إلى العادة، وجريها. والله ولىّ التوفيق. ¬

_ (¬1) البربخ: منفذ الماء ومجراه.

مسألة

مسألة سئل رضى الله عنه عن الفرق بين الألثغ والأليغ، فقال: الألثغ الّذي تكون فى لسانه ردّة فى حرف بعينه، كالطاء والسين وما أشبههما من الحروف؛ والأليغ الّذي تكون فى لسانه فى سائر الحروف ردّة.

مسألة

مسألة سئل رضى الله عنه عن قول النبي صلى الله عليه وآله: «أعلمكم بنفسه أعلمكم بربّه» ما معناه؟ فقال: معنى هذا الخبر أنّ أحدنا إذا كان عالما بأحوال نفسه وصفاته فلا بدّ أن يكون عالما بأحوال من جعله على هذه الصفات؛ وصيّر له هذه الأحوال والأحكام؛ لأنّ من علم الفرع لا بدّ أن يكون عالما بأصله الّذي يستند إليه، ويتفرّع عليه، وإذا دخل التزايد فى العلم وكان بالفرع أعلم فهو بالأصل أعلم. وشرح هذه الجملة أنّ من علم نفسه أنّه محدث مصنوع مخلوق مربوب قادر حىّ؛ عالم فلا بدّ من أن يكون عالما بمن جعله على هذه الصفات، وصيّر له هذه الأحوال والأحكام، ولو لاه جلّ اسمه لم يكن على شيء منها؛ فالتزايد والتفاضل فى أحد الأمرين يقتضي التزايد والتفاضل فى الآخر. ولا يلزم على هذه الجملة أن أحدنا قد يعلم نفسه موجودا وإن لم يكن بالله تعالى عارفا؛ وهو جلّ وعزّ الّذي أوجده، ولولاه لم يكن موجودا، ألا ترى أن الدّهرية يعلمون العالم وما فيه موجودا وإن لم يعلموا أن له موجدا، وكذلك قد يعلم أحدنا كونه قادرا وعالما وحيّا وإن لم يعلم من جعله على هذه الأحوال؛ وذلك أنّا إذا أدخلنا لفظة «أفعل» فقلنا: من كان أعلم بنفسه كان أعلم بربّه، ومن علم نفسه موجودا ولم يعلم موجده وخالقه ليس بأعلم بنفسه؛ وإن قيل هو عالم ولفظة المبالغة تقتضى أنه إذا لم يعلم أن له موجدا ومقدرا ومجيبا فليس بأعلم بنفسه. والّذي يبيّن هذا أنه لا يمتنع فيمن علم قطعة من النّحو أن نقول: إنه عالم بالنحو، ولا نقول: هو أعلم. إلا إذا كان مستوليا على جميع علومه؛ لا يذهب عليه شيء منها. وليس يمتنع أن نعكس لفظ هذا الخبر فنقول: أعلمكم بربّه أعلمكم بنفسه؛ لأنه من كان بالله أعلم فلا بدّ من أن يكون عالما بأنه خالقنا ورازقنا ومحيينا ومميتنا، والجاعل لنا على هذه الأحوال والصفات فمن حيث تعلّق كلّ واحد من الأمرين بصاحبه جاز أن يجعل كلّ واحد من الأمرين تارة فرعا، وتارة أصلا.

مسألة

مسألة وسئل رضى الله عنه عن قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ؛ [الروم: 22]. وهل يوجب قوله: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ أن يكون كلامنا على ظاهر الآية خلقا له تعالى؟ فقال: فى هذه الشبهة ثلاثة أجوبة: منها أن معنى اختلاف ألسنتكم، أى اختلاف لغاتكم فى البيان أو الأشكال. ومنها اختلاف مخارج الكلام من ألسنتكم؛ ككلام الألثغ والأليغ والأرتّ والتّمتام ونحوهم. ومنها اختلاف ألسنتكم فى خلقها وأشكالها وصيغها، كالطّويل منها والقصير والعريض والدقيق. والله تعالى الموفّق للصواب.

مسألة

مسألة قال رضى الله عنه: قد طعن من لا تأمّل له على استدلالنا على أنّ الأفعال الظاهرة فينا من قيام وقعود وأكل وشرب وما جرى مجرى ذلك متعلّقة بنا، وحادثة من جهتنا بوجوب (¬1) وقوعها بحسب قصودنا وأحوالنا ودواعينا بأن قال: كيف يجوز أن تدّعوا العلم الضرورىّ بوجوب وقوع أفعالكم بحسب أحوالكم؟ وإنما تشيرون بالوقوع إلى الحدوث. وإذا كان حدوث هذه الأفعال لا يعلم ضرورة؛ وإنما يعلم بدقيق الاستدلال والنظر، فكيف يجوز أن تعلموا حكم الذات ضرورة، وأنتم تعلمون تلك الذات بدليل؟ والعلم بالذات أصل للعلم بالأحكام؛ ولا يجوز أن يكون العلم بالأصل مستدلّا عليه، والعلم بالفرع ضروريا. *** والجواب عن ذلك أنّ الوجوب أو الجواز حكم للأحوال الموجبة عن الأفعال التى هى ذوات حادثة؛ ونحن نعلم كون الجسم منتقلا وكائنا فى جهة من الجهات ضرورة؛ وإن كنّا لا نعلم الكون الّذي فيه إلا بدلالة، والوجوب حكم لكونه كائنا، وليس بحكم للكون الّذي هو الذات، فما علمنا على هذا التقرير الأصل والفرع إلا ضرورة، وهذان العلمان منفصلان عن العلم بالذات الّذي يحتاج فيه إلى الدلالة. ألا ترى أن الشيوخ نصّوا فى كتبهم على أن المدرك منّا للجوهر يعلم ضرورة عند الإدراك كونه متحيزا، وكونه فى جهة مخصوصة، وكونه موجودا! ونصّوا على أنّ هذه العلوم ضرورية وواقعة عند الإدراك؛ وإن كان الإدراك لا يتناوله إلا كونه متحيّزا دون ما عدا هذه الصفة، فكيف يشكل هذا الّذي ذكرناه، ومعلوم أن نفاة الأعراض من الموحدين والملحدين يعلمون كون الجسم متحركا أو ساكنا، وقريبا أو بعيدا ضرورة، ويعلمون كون أحدنا قائما أو قاعدا، أو آكلا أو شاربا كذلك؛ ويعلمون ما هو واجب من هذه الأحوال أو واجب فى الموضع الّذي تجب فيه، أو يجوز ضرورة. ¬

_ (¬1) فى حاشيتى ف، ط: «أى استمرار».

وإن كانوا لا يثبتون المعانى التى هى الأعراض، ولا يعرفونها، فكيف يشكل على متأمّل أن الأحكام التى أشرنا إليها وادّعينا وجوبها على بعض الوجوه ليست أحكاما للمعانى التى لا تعلم إلا بالدلالة وإنما هى أحكام للأحوال المعلومة أيضا ضرورة، وأن ما علمناه ضرورة حكم لأمر نعلمه أيضا ضرورة. ومن حمل نفسه أن يخالف فى وجوب ما ذكرناه دافع للضرورة؛ لأن العلم بما ذكرناه من أوضح الضرورات. والفرق بين وجوب كون أحدنا آكلا وقد اشتد جوعه وارتفعت الموانع عنه- وهو صحيح سليم- وبين وجوب آكله إذا جاع غيره معلوم ضرورة؛ وآخر ما يبدأ به العقل. وإذا كان الفرق الّذي ذكرناه معلوما ثبت ما هو مستند إليه من الوجوب عند قوة الدواعى وخلوصها. والمعارضة على هذه الطريقة بوجوب الشّبع عند الأكل، والسّكر عند شرب الخمر، وما جرى مجرى ذلك غير صحيح، لأنه لا وجوب فى سائر ما ذكرناه، ألا ترى أن فى الناس من يشبع باللّقمة، وفيهم من لا يشبع بأكل العجنة (¬1)، وكذلك فى السّكر والرّىّ. ولما استند ذلك إلى العادة جاز أن يختلف بالأشخاص والأحوال، ولما استند ما ذكرناه من الوجوب إلى غير العادة كان مستمرا فى كل شخص، وعلى كل حال، وعلى كل وجه وسبب، فأين أحد الأمرين من الآخر! ¬

_ (¬1) العجنة قدر ما يعجن فى مرة.

مسألة فى تفضيل الأنبياء على الملائكة عليهم السلام

مسألة فى تفضيل الأنبياء على الملائكة عليهم السلام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين وسلّم تسليما. اعلم أنّه لا طريق من جهة العقل إلى القطع بفضل مكلّف على آخر، لأن الفضل المراعى فى هذا الباب هو زيادة استحقاق الثواب، ولا سبيل إلى معرفة مقادير الثواب من ظواهر فعل الطاعات، لأنّ الطاعتين قد تتساوى فى ظاهر الأمر حالهما، وإن زاد ثواب واحدة على الأخرى زيادة عظيمة، وإذا لم يكن للعقل فى ذلك مجال فالمرجع فيه إلى السّمع، فإن دلّ سمع مقطوع به من ذلك على شيء عوّل عليه، وإلا كان الواجب التوقف عنه، والشكّ فيه. وليس فى القرآن، ولا فى سمع مقطوع على صحة ما يدلّ على فضل نبىّ على ملك ولا ملك على نبىّ. وسنبيّن أن آية واحدة مما يتعلق به فى تفضيل الأنبياء على الملائكة عليهم السلام يمكن أن يستدل بها على ضرب من الترتيب نذكره. والمعتمد فى القطع على أن الأنبياء أفضل من الملائكة عليهم السلام على إجماع الشيعة الإمامية على ذلك، فهم لا يختلفون فى هذا، بل يزيدون عليه، ويذهبون إلى أن الأئمة أفضل من الملائكة، عليهم أجمعين السلام. وإجماعهم حجة لأن المعصوم فى جملتهم. وقد بيّنا فى مواضع من كتبنا كيفية الاستدلال بهذه الطريقة ورتبناه، وأجبنا عن كلّ سؤال يسأل عنه فيها، وبينّا كيف الطريق مع غيبة الإمام إلى العلم بمذاهبه وأقواله، وشرحنا ذلك، فلا معنى للتشاغل به هاهنا. ويمكن أن يستدلّ على ذلك بأمره تعالى للملائكة بالسجود لآدم عليه السلام؛ وأنه يقتضي تعظيمه عليهم، وتقديمه وإكرامه، وإذا كان المفضول لا يجوز تعظيمه وتقديمه على الفاضل علمنا أن آدم عليه السلام أفضل من الملائكة، وكل من قال: إن آدم عليه السلام أفضل من الملائكة ذهب إلى أن جميع الأنبياء عليهم السلام أفضل من جميع الملائكة، ولا أحد من الأمة فصل بين الأمرين.

فإن قيل: ومن أين أنّه أمرهم بالسجود على جهة التقديم والتعظيم؟ قلنا: لا يخلو تعبّدهم بالسجود له من أن يكون على سبيل القبلة والجهة من غير أن يقترن به تعظيم وتقديم، أو يكون على ما ذكرناه. فإن كان الأوّل لم يجز أنفة إبليس من السجود وتكبّره عنه؛ وقوله: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ، [الإسراء: 62]. وقوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ؛ [ص: 76]. والقرآن كله ناطق بأن امتناع إبليس من السجود إنما هو لاعتقاده التفضيل به والتكرمة، فلو لم يكن الأمر على هذا لوجب أن يردّه الله تعالى عنه، ويعلمه أنّه ما أمره بالسجود على وجه تعظيمه له ولا تفضيله؛ بل على الوجه الآخر الّذي لا حظّ للتفضيل فيه؛ وما جاز إغفال ذلك، وهو سبب معصية إبليس وضلالته؛ فلما لم يقع ذلك دلّ على أن الأمر بالسجود لم يكن إلا على جهة التفضيل والتعظيم. وكيف يقع شكّ فى أنّ الأمر على ما ذكرناه؛ وكلّ نبىّ أراد تعظيم آدم عليه السلام، ووصفه بما اقتضى الفخر والشرف ونعته بإسجاد الملائكة له؛ وجعل ذلك من أعظم فضائله؛ وهذا مما لا شبهة فيه. فأمّا اعتماد بعض أصحابنا فى تفضيل الأنبياء على الملائكة على أن المشقة فى طاعة الأنبياء عليهم السلام أكثر وأوفر من حيث كانت لهم شهوات فى القبائح، ونفار عن الواجبات فليس بمعتمد؛ لأنّا نقطع على أنّ مشاق الأنبياء أعظم من مشاقّ الملائكة فى التكليف؛ والشكّ فى مثل ذلك واجب، وليس كلّ شيء لم يظهر لنا ثبوته وجب القطع على انتفائه. ونحن نعلم على الجملة أن الملائكة إذا كانوا مكلّفين فلا بدّ من أن تكون عليهم مشاقّ فى تكليفهم، ولولا ذلك ما استحقوا ثوابا على طاعاتهم. والتكليف إنما يحسن فى كلّ مكلّف تعريضا للثواب؛ ولا يكون التكليف شاقّا عليهم إلا وتكون لهم شهوات فيما حظر عليهم، ونفار عما أوجب. وإذا كان الأمر على هذا فمن أين يعلم أن مشاقّ الأنبياء عليهم السلام أكثر من

مشاق الملائكة؟ وإذا كانت المشقّة عامّة لتكليف الأمة (¬1)، ولا طريق إلى القطع على زيادتها فى تكليف بعض، ونقصانها فى تكليف آخرين فالواجب التوقّف والشك. ونحن الآن نذكر شبه من فضّل الملائكة على الأنبياء عليهم السلام، ونتكلم عليها بعون الله. فما تعلّقوا به فى ذلك قوله تعالى حكاية عن إبليس مخاطبا لآدم وحواء عليهما السلام: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ؛ [الأعراف: 20]، فرغّبهما فى التناول من الشّجرة ليكونا فى منزلة الملائكة، حتى تناولا وعصيا. وليس يجوز أن يرغب عاقل فى أن يكون على منزلة هى دون منزلته؛ حتى يحمله ذلك على خلاف الله تعالى ومعصيته؛ وهذا يقتضي فضل الملائكة على الأنبياء عليهم السلام. وتعلقوا أيضا بقوله تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ؛ [النساء: 172]، وتأخير ذكر الملائكة فى مثل هذا الخطاب يقتضي تفضيلهم؛ لأنّ العادة إنما جرت بأن يقال: لن يستنكف الوزير أن يفعل هذا ولا الخليفة، فيقدّم الأدون ويؤخر الأعظم؛ ولم يجز بأن يقال: لن يستنكف الأمير أن يفعل كذا ولا الحارس؛ وهذا يقتضي تفضيل الملائكة عليهم السلام. وتعلّقوا بقوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا؛ [الإسراء: 70]؛ قالوا: وليس بعد بنى آدم مخلوق يستعمل فى الخبر عنه لفظة «من» التى لا تستعمل إلا فى العقلاء إلا الجن والملائكة؛ ولمّا لم يقل: «وفضلناهم» على «من» بل قال: عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا علم أنّه إنّما أخرج الملائكة عمّن فضّل بنى آدم عليه؛ لأنّه لا خلاف فى أنّ بنى آدم ¬

_ (¬1) حاشية ف (من نسخة): «الجماعة».

أفضل من الجن؛ وإذا كان وضع الخطاب يقتضي مخلوقا لم يفضّل بنو آدم عليهم؛ فلا شبهة فى أنهم الملائكة. وتعلقوا بقوله تعالى: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ؛ [هود: 31]، فلولا أن حال الملائكة أفضل من حال النبىّ لما قال ذلك. فيقال لهم فيما تعلقوا به أولا: لم زعمتم أن قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ معناه أن تصيرا وتنقلبا إلى صفة الملائكة؛ فإنّ هذه اللفظة ليست صريحة لما ذكرتم؛ بل أحسن الأحوال أن تكون محتملة له. وما أنكرتم أن يكون المعنى أنّ المنهىّ عن تناول الشجرة غير كما؛ وأن النهى يختص الملائكة والخالدين دونكما؟ ويجرى ذلك مجرى قول أحدنا لغيره: ما نهيت عن كذا إلا أن تكون فلانا؛ وإنما يعنى أن المنهىّ هو فلان دونك؛ ولم يرد إلا أن تنقلب فتصير فلانا. ولما كان غرض إبليس إيقاع الشبهة لهما، فمن أوكد الشّبه إيهاما أنهما لم ينهيا وإنّما المنهىّ غيرهما. ومن وكيد ما تفسد به هذه الشبهة أن يقال: ما أنكرتم أن يكونا رغبا فى أن ينقلا إلى صفة الملائكة وخلقهم كما رغّبهما إبليس فى ذلك! ولا تدلّ هذه الرغبة على أنّ الملائكة أفضل منهما؛ لأنه بالتقلّب إلى خلقة غيره لا ينقلب ولا يتغير بانقلاب الصورة والخلق؛ فإنه إنما يستحق على الأعمال دون الهيئات. وغير ممتنع أن يكونا رغبا فى أن يصيرا على هيئة الملائكة وصورها؛ وليس ذلك برغبة فى الثواب ولا الفضل؛ فإن الثواب لا يتبع الهيئات والصّور، ألا ترى أنهما رغبا فى أن يكونا من الخالدين؛ وليس الخلود مما يقتضي مزيّة فى ثواب ولا فضلا فيه؛ وإنما هو نفع عاجل؛ فكذلك لا يمتنع أن تكون الرغبة منهما فى أن يصيرا ملكين إنّما كانت على هذا الوجه.

ويمكن أن يقال للمعتزلة خاصة وكلّ من أجاز على الأنبياء الصغائر: ما أنكرتم أن يكونا اعتقدا أن الملك أفضل من النبىّ وغلطا فى ذلك، وكان منهما ذنبا صغيرا؛ لأنّ الصغائر عندكم تجوز على الأنبياء؟ ومن أين لكم إذا اعتقدا أن الملائكة أفضل من الأنبياء، ورغبا فى ذلك أنّ الأمر على ما اعتقداه مع تجويزكم عليهم الذنوب؟ وليس لهم أن يقولوا: إنّ الصغائر إنما تدخل فى أفعال الجوارح دون القلوب؛ لأنّ ذلك تحكّم بغير برهان. وليس يمتنع على أصولهم أن تدخل الصغائر فى أفعال القلوب والجوارح معا؛ لأنّ حدّ الصغير عندهم ما نقص عقابه عن ثواب طاعات فاعله. وليس يمتنع معنى هذا الحدّ فى أفعال القلوب كما لا يمتنع فى أفعال الجوارح. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثانيا: ما أنكرتم أن يكون هذا القول إنما توجّه إلى قوم اعتقدوا أن الملائكة أفضل من الأنبياء؛ فأخرج الكلام على حسب اعتقادهم، وأخّر ذكر الملائكة لذلك؟ ويجرى هذا القول مجرى قول من قال منا لغيره: لن يستنكف أبى أن يفعل كذا ولا أبوك؛ وإن كان القائل يعتقد أن أباه أفضل؛ وإنما أخرج الكلام على حسب اعتقاد المخاطب لا المخاطب. ومما يجوز أن يقال أيضا: إنه لا تفاوت فى الفضل بين الأنبياء والملائكة؛ وإن ذهبنا إلى أن الأنبياء أفضل منهم؛ ومع التقارب والتدانى يحسن أن يؤخّر ذكر الأفضل الّذي لا تفاوت بينه وبين غيره فى الفضل؛ وإنما مع التفاوت والتدانى لا يحسن ذاك، ألا ترى أنه يحسن أن يقول القائل: ما يستنكف الأمير فلان من كذا؛ ولا الأمير فلان من كذا؛ وإن كان متساويين، متناظرين أو متقاربين، ولا يحسن أن يقول: ما يستنكف الأمير من كذا ولا الحارس لأجل التفاوت. وأقوى من هذا أن يقال: إنما أخّر ذكر الملائكة عن ذكر المسيح لأنّ جميع الملائكة

أكثر ثوابا لا محالة من المسيح منفردا؛ وهذا لا يقتضي أن كلّ واحد منهم أفضل من المسيح عليه السلام؛ وإنما الخلاف فى ذلك. ويقال لهم فيما تعلقوا به ثالثا: ما أنكرتم أن يكون المراد بقوله تعالى: عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا أنّا فضّلناهم على من خلقنا وهم كثير؛ ولم يرد التبعيض؛ ويجرى ذلك مجرى قوله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا؛ [البقرة: 41] معناه: لا تشتروا بها ثمنا قليلا، وكلّ ثمن تأخذونه عنها قليل؛ ولم يرد التخصيص والمنع من الثمن القليل خاصة؛ ومثله قول الشاعر: من أناس ليس فى أخلاقهم … عاجل الفحش ولا سوء الجزع (¬1) وإنما أراد نفى الفحش كلّه عن أخلاقهم؛ وإن وصفه بأنه عاجل، ونفى الجزع عنها وإن وصفه بالسّوء؛ وهذا من غريب البلاغة ودقيقها؛ ونظائره فى الشعر والكلام الفصيح لا تحصر. وقد كنا أملينا فى تأويل هذه الآية كلاما مفردا استقصيناه وشرحنا هذا الوجه، وأكثرنا من ذكر أمثلته. ووجه آخر فى تأويل هذه الآية؛ وهو أنّه غير ممتنع أن يكون جميع الملائكة أفضل من جميع بنى آدم؛ وإن كان فى جملة بنى آدم من الأنبياء عليهم السلام من يفضل كلّ واحد منهم على كلّ واحد من الملائكة؛ لأنّ الخلاف إنما هو فى فضل كلّ بنى آدم على كلّ ملك. وغير ممتنع أن يكون جميع الملائكة فضلاء، يستحقّ كلّ واحد منهم الجزيل الأكثر من الثواب؛ فيزيد ثواب جميعهم على ثواب جميع بنى آدم؛ لأنّ الأفاضل من بنى آدم أقلّ عددا؛ وإن كان فى بنى آدم آحاد؛ كلّ واحد منهم أفضل من كلّ واحد من الملائكة. ووجه آخر: ومما يمكن أن يقال فى هذه الآية أيضا أنّ مفهوم الآية إذا تؤمّلت ¬

_ (¬1) البيت لسويد بن أبى كاهلى اليشكري من قصيدة مفضلية (191 - 202 طبعة المعارف).

يقتضي أنه تعالى لم يرد الفضل الّذي هو زيادة الثواب؛ وإنما أراد النّعم والمنافع الدنياوية؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ؛ والكرامة إنما هى الترفيه وما يجرى مجراه. ثم قال: وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ؛ ولا شبهة فى أنّ الحمل لهم فى البر والبحر ورزق الطيبات خارج مما يستحقّ به الثواب، ويقتضي التفضيل الّذي وقع إطلاقه فيه. ويجب أن يكون ما عطف عليه من التفضيل داخلا فى هذا الباب، وفى هذا القبيل؛ فإنّه أشبه من أن يكون المراد به غير ما سياق الآية وارد به، ومبنىّ عليه. وأقل الأحوال أن تكون لفظة فَضَّلْناهُمْ محتملة للأمرين؛ فلا يجوز الاستدلال بها على خلاف ما نذهب إليه. ويقال لهم فيما تعلقوا به رابعا: لا دلالة فى هذه الآية على أنّ حال الملائكة أفضل من حال الأنبياء؛ لأن الغرض فى الكلام إنما هو نفى ما لم يكن عليه؛ لا التفضيل لذلك على ما هو عليه؛ ألا ترى أن أحدنا لو ظنّ أنه على صفة الملائكة- وهو ليس عليها- جاز أن ينفيها عن نفسه بمثل هذا اللفظ؛ وإن كان على أحوال هى أفضل من تلك الحال وأرفع. وليس يجب إذا انتفى مما تبرّأ منه من علم الغيب، وكون خزائن الله تعالى عنده أن يكون فيه فضل أن يكون ذلك معتمدا فى كل ما يقع النفى له، والتبرؤ منه. وإذا لم يكن ملكا كما لم يكن عنده خزائن الله تعالى جاز أن ينتفى من الأمرين من غير ملاحظة؛ لأنّ حاله دون هاتين الحالتين. ومما يوضّح هذا ويزيل الإشكال فيه أنّه تعالى حكى عنه قوله فى آية أخرى: وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً؛ [هود: 31]، ونحن نعلم أنّ هذه منزلة غير جليلة؛ وهو على كلّ حال أرفع منها وأعلى؛ فما المنكر أن يكون نفى الملكيّة عنه فى أنه لا يقتضي أنّ حاله دون حال الملك بمنزلة نفى هذه المنزلة! والتعلّق بهذه الآية ضعيف جدا؛ وفيما أوردناه كفاية وبالله التوفيق.

تفسير البيت الّذي ذكره السيد بن محمد الحميرىّ (¬1) فى قصيدته المذهّبة، وهو: ردّت عليه الشمس لما فاته … وقت الصّلاة وقد دنت للمغرب قال رضى الله عنه: هذا خبر عن رد الشمس له عليه السلام فى حياة النبىّ صلى الله عليه وآله؛ لأنه روى أن النبىّ صلى الله عليه وآله كان نائما، ورأسه فى حجر أمير المؤمنين عليه السلام؛ فلما حان وقت صلاة العصر كره أن ينهض لأدائها، فيزعج النبىّ صلى الله عليه وآله من نومه، فلما مضى وقتها وانتبه النبي عليه السلام دعا الله تعالى بردّها له فردّها، فصلّى عليه السلام الصلاة فى وقتها. فإن قيل: هذا يقتضي أن يكون عليه السلام عاصيا بترك الصلاة. قلنا: عن هذا جوابان: أحدهما أنه إنما يكون عاصيا إذا ترك الصلاة بغير عذر، وإزعاج النبىّ عليه السلام وترويعه لا ينكر أن يكون عذرا فى ترك الصلاة. ¬

_ (¬1) حاشية ف: «قال الأصمعى: هو السيد بن محمد بن يزيد بن مفرغ الحميرى، واسمه إسماعيل، ويكنى أبا هاشم، والسيد نعت وقع له وهو صبى لذكاء فيه، فقيل: سيكون سيدنا، فوقع النعت به، وإنما سمى أبوه مفرغا لأنه كان خاطر أن يشرب سقاء لبن فشربه، فسمى مفرغ السقاء لتفريغه إياه. وقيل إن مفرغا كان حدادا بالمدينة لا نسب له، وإن امرأة استعملته قفلا، فتشهى عليها لبن كرش، فجاءت به، فشرب منه، فقالت له: أفرغ الباقى فى إناء، فقال لها: ما عندى إناء، وجعل يشرب قليلا قليلا؛ حتى أفناه وفرغ الكرش؛ فقالت له: إنك لمفرغ؛ ولا حاجة بك إلى إناء. وروى عن الحسن بن على المعروف بالكسلان، قال: قال السيد الحميرى: ولقد عجبت لقائل لى مرة … علامة فهم من العلماء سمّاك أهلك سيدا لم يكذبوا … أنت الموفّق سيد الشعراء ما أنت حين تخصّ آل محمد … بالمدح منك وشاعر بسواء مدح الملوك ذوى الندى لعطائهم … والمدح منك لهم لغير عطاء.

فإن قيل: الأعذار فى ترك جميع أفعال الصلاة لا تكون إلا بفقد العقل والتمييز، كالنوم والإغماء وما شاكلهما، ولم يكن عليه السلام فى تلك الحال بهذه الصفة؛ فأما الأعذار التى يكون معها العقل والتمييز ثابتين؛ كالزّمانة، والرّباط والقيد، والمرض الشديد، واشتداد القتال؛ فإنما يكون عذرا فى استيفاء أفعال الصلاة، وليس بعذر فى تركها أصلا، فإنّ كلّ معذور ممن ذكرناه يصلّيها على حسب طاقته؛ ولو بالإيماء. قلنا: غير منكر أن يكون عليه السلام صلّى مومئا وهو جالس؛ لما تعذّر عليه القيام، إشفاقا من إزعاجه صلى الله عليه وآله؛ وعلى هذا تكون فائدة ردّ الشمس ليصلّى مستوفيا لأفعال الصلاة؛ ولتكون أيضا فضيلة له، ودلالة على علوّ شأنه. والجواب الآخر أن الصّلاة لم تفته بمضىّ جميع وقتها؛ وإنما فاته ما فيه الفضل والمزية من أول وقتها. ويقوّى هذا الوجه شيئان: أحدهما الرواية الأخرى؛ لأن قوله: «حين تفوته» صريح فى أن الفوت لم يقع؛ وإنما قارب وكاد؛ والأمر الآخر قوله: «وقد دنت للمغرب» يعنى الشمس؛ وهذا أيضا يقتضي أنها لم تغرب وإنما دنت للغروب. فإن قيل: إذا كانت لم تفته؛ فأىّ معنى للدعاء بردّها حتى يصلّى فى الوقت؛ وهو قد صلّى فيه! قلنا: الفائدة فى ردّها ليدرك فضيلة الصلاة فى أول وقتها؛ ثم ليكون ذلك دلالة على سموّ مجده، وجلالة قدره فى خرق العادة من أجله. فإن قيل: إذا كان النبي صلى الله عليه وآله هو الداعى بردّها له؛ فإن العادة انخرقت للنبىّ عليه السلام لا لغيره. قلنا: إذا كان النبىّ عليه السلام إنما دعا بردّها لأجل أمير المؤمنين عليه السلام، وليدرك ما فاته من فضل الصلاة فشرف انخراق العادة والفضيلة به ينقسم بينهما عليهما السلام.

فإن قيل: كيف يصحّ ردّ الشمس، وأصحاب الهيئة والفلك يقولون إن ذلك محال لا تناله قدرة! وهبه كان جائزا على مذاهب أهل الإسلام، أليس لو ردّت الشمس من وقت الغروب إلى وقت الزوال لكان يجب أن يعلم أهل الشرق والغرب بذلك؛ لأنها تبطئ فى الطلوع على بعض البلاد؛ فيطول ليلهم على وجه خلاف العادة، ويمتد من نهار قوم آخرين ما لم يكن ممتدا؟ ولا يجوز أن يخفى على أهل البلاد غروبها ثم عودها طالعة بعد الغروب، وكانت الأخبار تنتشر بذلك، ويؤرّخ هذا الحادث العظيم فى التواريخ، ويكون أبهر وأعظم من الطوفان. قلت: قد دلت الدّلالة الصحيحة الواضحة على أن الفلك وما فيه من شمس وقمر ونجوم غير متحرك لنفسه ولا طبيعة؛ على ما يهذى به القوم؛ وإن الله تعالى هو المحرّك له، والمتصرف باختياره فيه؛ وقد استقصينا (¬1) الحجج على ذلك فى كثير من كتبنا؛ وليس هذا موضع ذكر. فأما علم أهل الشرق والغرب والسهل والجبل بذلك على ما مضى فى السؤال فغير واجب؛ لأنا لا نحتاج إلى القول بأنها ردّت من وقت الغروب إلى وقت الزوال وما يقاربه على ما مضى فى السؤال؛ بل نقول: إن وقت الفضل فى صلاة العصر هو ما يلى، بلا فصل زمان أداء المصلّى فرض الظهر أربع ركعات عقيب الزوال؛ وكلّ زمان وإن قصر وقلّ يجاوز هذا الوقت؛ فذلك الفضل فائت فيه. وإذا ردّت الشمس له هذا القدر اليسير الّذي نفرض أنه مقدار ما يؤدّى فيه ركعة واحدة خفى على أهل الشرق والغرب ولم يشعروا به؛ بل هو مما يجوز أن يخفى على من حضر الحال وشاهدها؛ إن لم ينعم النظر والتنقير عنها، فبطل السؤال على جوابنا الثانى المبنى على فوت الفضيلة. فأما الجواب الآخر المبنىّ على أنها كانت فاتت بغروبها للعذر الّذي ذكرناه فالسؤال أيضا باطل عنه؛ لأنه ليس بين مغيب جميع قرص الشمس فى الزمان، وبين مغيب بعضها وظهور بعضها إلا زمان يسير قصير؛ يخفى فيه رجوع الشمس بعد مغيب جميع قرصها إلى ظهور بعضها على كل قريب وبعيد. ولا يفطن إذا لم يعرف سبب ذلك على وجه خارق للعادة؛ ومن فطن بأن ضوء الشمس غاب، ثم عاد بعضه جوّز أن يكون ذلك لغيم أو حائل. ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى ط، ف: «استوفينا».

تفسير قول السيد فى هذه القصيدة أيضا: وعليه قد حبست ببابل مرّة … أخرى، وما حبست لخلق معرب هذا البيت يتضمن الإخبار عن ردّ الشمس ببابل على أمير المؤمنين عليه السلام؛ والرواية بذلك مشهورة؛ وأنّه عليه السلام لما فاته وقت العصر ردّت له الشمس حتى صلّاها فى وقتها، وخرق العادة هاهنا لا يمكن نسبه إلى غيره عليه السلام؛ كما أمكن ذلك فى أيام النبىّ عليه السلام؛ والصحيح فى فوت الصلاة هاهنا أحد الوجهين اللذين تقدّم ذكرهما فى ردّ الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وآله، وهو أن فضيلة أول الوقت فاتته لضرب من الشّغل، فردّت عليه الشمس، ليدرك الفضيلة بالصّلاة فى أول الوقت. وقد بيّنا هذا الوجه فى تفسير البيت الّذي أوله: «ردّت عليه الشمس»، وأبطلنا قول من يدّعى أنّ ذلك كان يجب أن يعمّ الخلق فى الآفاق معرفته؛ حتى يدوّنوه ويؤرّخوه. فأما من ادّعى أن الصلاة فاتته بأن تقضّى جميع وقتها؛ إما لتشاغله بتعبئة عسكره، أو لأن بابل أرض خسف لا يجوز الصلاة عليها فقد أبطل؛ لأنّ الشّغل بتعبئة العسكر لا يكون عذرا فى فوت صلاة فريضة؛ وإن أمير المؤمنين عليه السلام أجلّ قدرا، وأثمن دينا من أن يكون ذلك عذرا له فى فوت فريضة. وأما أرض الخسف فإنما تكره الصلاة فيها مع الاختيار؛ فإذا لم يتمكن المصلّى من الصّلاة فى غيرها، وخاف فوت الوقت وجب أن يصلّى فيها، وتزول الكراهية. فأما قول الشاعر: «وعليه قد حبست ببابل» فالمراد ب «حبست» ردّت؛ وإنما كره أن يعيد لفظة الردّ لأنها قد تقدمت. فإن قيل: «حبست» بمعنى وقفت، ومعناه يخالف معنى «ردّت». قلنا: المعنيان هاهنا واحد؛ لأنّ الشمس إذا ردّت إلى الموضع الّذي تجاوزته فقد حبست عن السير المعهود وقطع الأماكن المألوفة. فأما المعرب فهو الناطق الفصيح بحجته؛ يقال: أعرب فلان عن كذا إذا أبان عنه.

مسألة

مسألة سئل رضى الله عنه فقيل: ما يقال لمن يدّعى عند إقامة الدليل على حدث الجسم والجوهر والعرض شيئا ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض أحدث الله تعالى الأشياء منه؟ وما الّذي يفسد دعواه غير المطالبة له بالدلالة على صحتها! الجواب، أول ما نقوله فى هذا الباب إن إحداث شيء من شيء غيره كلام محال ظاهر الفساد؛ لأن المحدث على الحقيقة هو الموجود بعد أن كان معدوما؛ وإذا فرضنا أنه أحدث من غيره فقد جعلناه موجودا فى ذلك الغير؛ فلا يكون محدثا فى الحقيقة؛ ولا موجودا بعد عدم حقيقى؛ فكأنّا قلنا: إنه محدث وليس بمحدث؛ وهذا متناقض. على أن الجواهر والأجسام إنما حكمنا بحدثها؛ لأنها لم تخل من الأعراض، ولم تتقدم فى الوجود عليها، وما لم يتقدم المحدث فهو محدث مثله. وإذا كانت الأعراض التى توصّلنا بحدوثها إلى حدوث الأجسام والجواهر محدثة؛ لا من شيء ولا عن هيولى (¬1) على ما تموّه هؤلاء المفلسفون به؛ فيجب أن تكون الجواهر والأجسام أيضا محدثة على هذا الوجه؛ لأنه إذا وجب أن يساوى ما لم يتقدم المحدث فى حدوثه وجب أيضا أن يساويه فى كيفية حدوثه. على أنا قد بيّنا أنّ ما أحدث من غيره ليس بمحدث فى الحقيقة، والعرض محدث على الحقيقة، فيجب فيما لم يتقدمه فى الوجود أن يكون محدثا على الحقيقة. ويبيّن ما ذكرناه أن من أحدث من طين أو شمع صورة فهو غير محدث لها على الحقيقة، وكيف تكون كذلك وهى موجودة الأجزاء فى الطين والشمع؟ وإنما أحدث المصوّر تصويرها وتركيبها والمعانى المخصوصة فيها، وهذا يقتضي أنّ الجواهر والأجسام على مذهب أصحاب الهيولى غير محدثة على الحقيقة؛ وإنما حدث التصوير والتركيب. وإذا كان الدليل على حدوث ¬

_ (¬1) حاشية ف: «الهيولى كلمة يونانية يعنون بها مادة لا صورة لها لما يقول أصحاب المعدوم».

جميع الأجسام والجواهر قد دلّ بطل هذا المذهب. فأما الّذي يدلّ على بطلان قول من أثبت شيئا موجودا ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض من غير جهة المطالبة له بتصحيح دعواه، وتعجيزه عن ذلك فهو أنه لا حكم لذات موجودة ليست بجسم ولا جوهر ولا عرض يعقل؛ ويمكن الإشارة إليه، وما لا حكم له من الذوات والصفات لا يجوز إثباته؛ ولا بدّ من نفيه لأنه يؤدى إلى إثبات ما لا فرق بين إثباته ونفيه؛ وتجويز ذلك يؤدى إلى الجهالات وإلى إثبات ما لا يتناهى من الذوات والصفات. وقد بيّنا هذه الطريقة فى مواضع من كتبنا؛ لا سيما فى الكتاب الملخّص فى الأصول. على أنا نقول لمن أثبت الهيولى وادّعى أنه أصل العالم، وأن الأجسام والجواهر منها أحدثت: لا تخلو هذه الذات (¬1) التى يسميها بالهيولى من أن تكون موجودة أو معدومة؛ وما نريد بالوجود ما تعنونه أنتم بهذه اللفظة؛ لأن الموجود عندكم يكون بالفعل، ويكون بالقوة، ويكون المعدوم عندكم موجودا بالقوة أو فى العلم؛ وإنما نريد بالوجود هذا الّذي نعقله ونعلمه ضرورة عند إدراك الذوات المدركات؛ لأن أحدنا إذا أدرك الجسم متحيّزا علم ضرورة وجوده وثبوته؛ وكذلك القول فى الألوان وما عداها من المدركات. فإن قال: هى موجودة على تحديدكم (¬2). قلنا: فيجب أن تكون متحيّزة؛ لأنها لو لم تكن بهذه الصفة ما حصل منها التحيّز، ألا ترى أنّ الأعراض لما لم تكن متحيّزة لم يمكن أن يحدث منها التحيز! وإذا أقروا فيها التحيز فهى من جنس الجواهر؛ وبطل القول بأنها ليست بجوهر ووجب لها الحدوث؛ لأنّ دليل حدث الأجسام ينتظمها، ويشتمل عليها؛ فبطل أيضا القول بقدمها ونفى حدوثها. وإن قالوا: هى معدومة قلنا: إذا كانت معدومة على الحقيقة فما نسومكم إثبات قدم لها ولا ¬

_ (¬1) حاشية ف (من نسخة): «الذوات». (¬2) من نسخة بحاشيتى ط، ف: «على طريقكم».

حدوث؛ لأن هاتين الصفتين إنما تتعاقبان على الموجود؛ فكأنّكم تقولون: إنّ الله تعالى جعل من هذه الهيولى المعدومة جواهر وأجساما موجودة. وهذه موافقة فى المعنى لأهل الحق؛ القائلين بأن الجواهر فى العدم على صفة تقتضى وجوب التحيّز لها متى وجدت، وأنّ الله تعالى إذا أوجد هذه الجواهر وجب لها فى الوجود التحيّز؛ لما هى عليه فى نفوسها من الصفة فى العدم الموجبة لذلك بشرط الوجود، وأنّ الفاعل إنما يؤثر فى صفة الوجود؛ ولا تأثير له فى الصفة التى كانت عليها الجواهر فى العدم. على أن هذه الطريقة إذا صاروا إليها تقتضى أنّ لأجناس الأعراض كلّها هيولى؛ لأنّ الدليل قد دلّ على أن للسّواد، ولكل جنس من الأعراض صفة ثابتة فى حال العدم تقتضى كونه على الصفة التى يدرك عليها إن كان مما يدرك فى حال الوجود، وأنّ الفاعل إنما يؤثّر فى إحداثه وإيجاده دون الصفة التى كان عليها فى حال العدم. والقول فى الأعراض كالقول فى الجواهر فى هذه القضية، ويجب أن يكون للجميع هيولى؛ لأنّ الطريقة واحدة؛ وكلام هؤلاء أبدا غير محصّل ولا مفهوم، وهم يدّعون التحقيق والتحديد، وما أبعدهم من ذلك!

مسألة فى العصمة

مسألة فى العصمة ما حقيقة العصمة التى يعتقد وجوبها للأنبياء والأئمة عليهم السلام؟ وهل هى معنى يضطرّ إلى الطاعة ويمنع من المعصية، أو معنى يضامّ الاختيار؟ فإن كان معنى يضطر إلى الطاعة ويمنع من المعصية، فكيف يجوز الحمد والذم لفاعلها! وإن كان معنى يضامّ الاختيار فاذكروه، ودلّوا على صحة مطابقته له، ووجوب اختصاص المذكورين به دون سواهم؛ فقد قال بعض المعتزلة: إن الله تعالى عصم أنبياءه بالشهادة لهم بالاستعصام؛ كما ضلّل قوما بنفس الشهادة عليهم بالضلال؛ فإن يكن ذلك هو المعتمد أنعم بذكره، ودلّ على صحته وبطلان ما عساه يعلمه من الطعن عليه؛ وإن يكن باطلا دلّ على بطلانه وصحة الوجه المعتمد فيه دون ما سواه. الجواب، اعلم أنّ العصمة هى اللّطف الّذي يفعله الله تعالى، فيختار العبد عنده الامتناع من فعل القبيح؛ فيقال على هذا: إنّ الله تعالى عصمه بأن فعل له ما اختار عنده العدول عن القبيح؛ ويقال: إن العبد معصوم؛ لأنه اختار عند هذا الدّاعى الّذي فعل له الامتناع من القبيح. وأصل العصمة فى موضوع اللّغة المنع؛ يقال عصمت فلانا من السوء إذا منعت من حلوله به؛ غير أنّ المتكلّمين أجروا هذه اللفظة على من امتنع باختياره عند اللّطف الّذي يفعله الله تعالى به؛ لأنّه إذا فعل به ما يعلم أنه يمتنع عنده من فعل القبيح فقد منعه من القبيح؛ فأجروا عليه لفظة المانع قهرا وقسرا؛ وأهل اللغة يتعارفون ذلك أيضا ويستعملونه؛ لأنهم يقولون فيمن أشار على غيره برأى فقبله منه مختارا، واحتمى بذلك من ضرر يلحقه، وسوء يناله: إنه حماه من ذلك الضرر، ومنعه وعصمه منه؛ وإن كان ذلك على سبيل الاختيار. فإن قيل: أفتقولون فيمن لطف له بما اختار عنده الامتناع من فعل واحد قبيح: إنه معصوم؟

قلنا: نقول ذلك مضافا ولا نطلقه؛ فنقول: إنه معصوم من كذا، ولا نطلق فنوهم أنه معصوم من جميع القبائح، ونطلق فى الأنبياء والأئمة عليهم السلام العصمة بلا تقييد؛ لأنّهم عندنا لا يفعلون شيئا من القبائح، بخلاف ما يقوله المعتزلة من نفى الكبائر عنهم دون الصغائر. فإن قيل: فإذا كان تفسير العصمة ما ذكرتم فألّا عصم الله تعالى جميع المكلّفين، وفعل بهم ما يختارون عنده الامتناع من القبائح؟ قلنا: كلّ من علم الله تعالى أنه له لطفا يختار عنده الامتناع من القبائح؛ فإنه لا بدّ أن يفعل به؛ وإن لم يكن نبيا ولا إماما؛ لأنّ التكليف يقتضي فعل اللّطف على ما دلّ عليه فى مواضع كثيرة؛ غير أنّه لا يمتنع أن يكون فى المكلّفين من ليس فى المعلوم أنّ شيئا متى فعل اختار عنده الامتناع من القبيح؛ فيكون هذا المكلّف لا عصمة له فى المعلوم ولا لطف. وتكليف من لا لطف له يحسن ولا يقبح؛ وإنما القبيح منع اللّطف فيمن له لطف؛ مع ثبوت التكليف. فأما قول بعضهم: إن العصمة هى الشهادة من الله تعالى بالاستعصام فباطل؛ لأن الشهادة لا تجعل الشيء على ما هو به؛ وإنما تتعلق به على ما هو عليه؛ لأنّ الشهادة هى الخبر، والخبر عن كون الشيء على صفة لا يؤثر فى كونه عليها؛ فنحتاج أولا إلى أن يتقدم لنا العلم بأنّ زيدا معصوم أو معتصم؛ ونوضّح عن معنى ذلك، ثم تكون الشهادة من بعد مطابقة لهذا العلم؛ وهذا بمنزلة من سئل عن حدّ المتحرّك فقال: هو الشهادة بأنه متحرّك؛ أو المعلوم أنه على هذه الصفة. وفى هذا البيان كفاية لمن تأمّله.

مسألة

مسألة ما القول فى الأخبار الواردة فى عدة كتب من الأصول والفروع بمدح أجناس من الطير والبهائم والمأكولات والأرضين، وذمّ أجناس منها؛ كمدح الحمام والبلبل والقنبر والحجل والدّرّاج وما شاكل ذلك من فصيحات الطير؛ وذمّ الفواخت والرّخم؛ وما يحكى من أنّ كلّ جنس من هذه الأجناس المحمودة ينطق بثناء على الله تعالى وعلى أوليائه، ودعاء لهم، ودعاء على أعدائهم؛ وأن كلّ جنس من هذه الأجناس المذمومة ينطق بضد ذلك من ذم الأولياء عليهم السلام، كذم الجرّىّ (¬1) وما شاكله من السمك، وما نطق به الجرىّ من أنه مسخ بجحده الولاية، وورود الآثار بتحريمه لذلك؛ وكذم الدّبّ والقرد والفيل وسائر المسوخ المحرّمة؛ وكذم البطّيخة التى كسرها أمير المؤمنين عليه السلام فصادفها مرّة فقال: «من النار إلى النار»، ورمى بها من يده، ففار من الموضع الّذي سقطت فيه دخان؛ وكذم الأرضين السّبخة، والقول بأنها جحدت الولاية أيضا. وقد جاء فى هذا المعنى ما يطول شرحه؛ وظاهره مناف لما تدل العقول عليه من كون هذه الأجناس مفارقة لقبيل ما يجوز تكليفه، ويسوغ أمره ونهيه. وفى هذه الأخبار التى أشرنا إليها أن بعض هذه الأجناس يعتقد الحقّ ويدين به، وبعضها يخالفه؛ وهذا كلّه مناف لظاهر ما العقلاء عليه. ومنها ما يشهد أنّ لهذه الأجناس منطقا مفهوما، وألفاظا تفيد أغراضا، وأنها بمنزلة الأعجمىّ والعربىّ اللذين لا يفهم أحدهما صاحبه، وأنّ شاهد ذلك من قول الله سبحانه فيما حكاه عن سليمان عليه السلام: يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ؛ [النمل: 16]. وكلام النملة أيضا مما حكاه سبحانه، وكلام الهدهد واحتجاجه وجوابه وفهمه؛ فلينعم بذكر ما عنده فى ذلك مثابا إن شاء الله. *** ¬

_ (¬1) الجرّىّ: ضرب من السماك.

الجواب، وبالله التوفيق: اعلم أن المعوّل فيما يعتقد على ما تدلّ الأدلة عليه من نفى وإثبات؛ فإذا دلت الأدلّة على أمر من الأمور وجب أن نبنى كلّ وارد من الأخبار إذا كان ظاهره بخلافه عليه؛ ونسوقه إليه، ونطابق بينه وبينه، ونجلّى ظاهرا إن كان له، ونشرط إن كان مطلقا، ونخصّه إن كان عاما، ونفصّله إن كان مجملا؛ ونوفّق بينه وبين الأدلة من كل طريق اقتضى الموافقة وآل إلى المطابقة؛ وإذا كنا نفعل ذلك ولا نحتشمه فى ظواهر القرآن المقطوع على صحته، المعلوم وروده؛ فكيف نتوقّف عن ذلك فى أخبار آحاد لا توجب علما؛ ولا تثمر يقينا! فمتى وردت عليك أخبار فاعرضها على هذه الجملة وابنها عليها؛ وافعل فيها ما حكمت به الأدلة، وأوجبته الحجج العقلية؛ وإن تعذّر فيها بناء وتأويل وتخريج وتنزيل؛ فليس غير الاطراح لها، وترك التعريج عليها؛ ولو اقتصرنا على هذه الجملة لاكتفينا فيمن يتدبّر ويتفكر. وقد يجوز أن يكون المراد بذمّ هذه الأجناس من الطير أنها ناطقة بضدّ الثناء على الله وبذم أوليائه، ونقص أصفيائه معناه ذمّ متخذيها ومرتبطيها، وأنّ هؤلاء المغرين بمحبّة هذه الأجناس واتخاذها هم الذين ينطقون بضدّ الثناء على الله تعالى، ويذمّون أولياءه وأحبّاءه؛ فأضاف النطق إلى هذه الأجناس، وهو لمتخذيها أو مرتبطيها؛ للتجاوز والتقارب، وعلى سبيل التجوز والاستعارة؛ كما أضاف الله فى القرآن السؤال إلى القرية؛ وإنما هو لأهل القرية، وكما قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً. فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً؛ [الطلاق: 8، 9]؛ وفى هذا كلّه حذوف. وقد أضيف فى الظاهر الفعل إلى من هو فى الحقيقة متعلّق بغيره؛ والقول فى مدح أجناس من الطير، والوصف لها بأنها تنطق بالثناء على الله تعالى والمدح لأوليائه يجرى على هذا المنهاج الّذي نهجناه. فإن قيل: كيف يستحق مرتبط هذه الأجناس مدحا بارتباطها، ومرتبط بعض آخر ذمّا بارتباطه؛ حتى علّقتم المدح والذم بذلك؟

قلنا: ما جعلنا لارتباط هذه الأجناس حظا فى استحقاق مرتبطيها مدحا ولا ذما؛ وإنما قلنا: إنه غير ممتنع أن تجرى عادة المؤمنين الموالين لأولياء الله تعالى والمعادين لأعدائه بأن يألفوا ارتباط أجناس من الطير. وكذلك تجرى عادة بعض أعداء الله تعالى باتخاذ بعض أجناس الطير؛ فيكون متخذ بعضها ممدوحا؛ لا من أجل اتخاذه؛ لكن لما هو عليه من الاتخاذ الصحيح؛ فيضاف المدح إلى هذه الأجناس وهو لمرتبطيها، والنطق بالتسبيح والدعاء الصحيح إليها وهو لمتخذها تجوزا واتساعا. وكذلك القول فى الذم المقابل للمدح. فإن قيل: فلم نهى عن اتخاذ بعض هذه الأجناس إذا كان الذم لا يتعلق باتخاذها، وإنما يتعلق ببعض متخذيها لكفرهم وضلالهم؟ قلنا: يجوز أن يكون فى اتخاذ هذه البهائم المنهىّ عن اتخاذها وارتباطها مفسدة وليس يقبح خلقها فى الأصل لهذا الوجه؛ لأنها خلقت لينتفع بها من سائر وجوه الانتفاع سوى الارتباط والاتخاذ الّذي لا يمنع تعلق المفسدة به. ويجوز أيضا أن يكون فى اتخاذها هذه الأجناس المنهىّ عنها شؤم وطيرة؛ فللعرب فى ذلك مذهب معروف. ويصح هذا النهى أيضا على مذهب من نفى الطّيرة على التحقيق؛ لأنّ الطّيرة والتشاؤم- وإن كان لا تأثير لهما على التحقيق- فإن النفوس تستشعر ذلك، ويسبق إليها ما يجب على كل حال تجنّبه والتوقى عنه (¬1)؛ وعلى هذا يحمل معنى قوله عليه السلام: «لا يورد ذو عاهة على مصحّ». فأما تحريم السمك الجرّىّ وما أشبهه فغير ممتنع لشيء يتعلق بالمفسدة فى تناوله؛ كما نقول فى سائر المحرمات. فأما القول بأن الجرّىّ نطق بأنه مسخ بجحده الولاية فهو مما يضحك منه ويتعجب (¬2) من قائله، والملتفت إلى مثله. فأما تحريم الدّب والقرد والفيل فكتحريم كلّ محرّم فى الشريعة، والوجه فى التحريم لا يختلف؛ والقول بأنها ممسوخة إذا تكلّفنا حملناه على أنها كانت على خلق حميدة (¬3) غير ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى ف، ط: «منه». (¬2) من نسخة بحاشيتى ف، ط: «يعجب». (¬3) من نسخة بحاشيتى ف، ط: «جميلة».

منفور عنها، ثم جعلت على هذه الصّورة الشّنيئة على سبيل التنفير عنها، والزيادة فى الصّدّ عن الانتفاع بها؛ لأن بعض الأحياء لا يجوز أن يكون غيره على الحقيقة. والفرق بين كل حيين معلوم ضرورة، فكيف يجوز أن يصير حىّ حيا آخر غيره؟ وإذا أريد بالمسخ هذا فهو باطل، وإن أريد غيره نظرنا فيه. وأما البطيخة فقد يجوز أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام لما ذاقها ونفر عن طعمها؛ وزادت كراهيته لها قال: «من النار وإلى النار»، أى هذا من طعام أهل النار، وما يليق بعذاب أهل النار، كما يقول أحدنا ذلك فيما يستوبئه ويكرهه. ويجوز أن يكون فوران الدّخان عند الإلقاء لها كان على سبيل التصديق، لقوله عليه السلام: «من النار إلى النار» وإظهار معجز له. وأما ذمّ الأرضين السّبخة، والقول بأنها جحدت الولاية؛ فمتى لم يكن محمولا معناه على ما قدمناه من جحد أهل هذه الأرض وسكانها الولاية لم يكن معقولا؛ ويجرى ذلك مجرى قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ. وأما إضافة اعتقاد الحق إلى بعض البهائم واعتقاد الباطل والكفر إلى بعض آخر فمما تخالفه العقول والضرورات؛ لأن هذه البهائم غير عاقلة ولا كاملة ولا مكلّفة، فكيف تعتقد حقا أو باطلا! وإذا ورد أثر فى ظاهره شيء من هذه المحاولات؛ إما اطّرح أو تؤوّل على المعنى الصحيح. وقد نهجنا طريق التأويل، وبيّنا كيف التوصل إليه. فأما حكايته تعالى عن سليمان عليه السلام: يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ فالمراد به أنه علّم ما يفهم به ما ينطق به الطير؛ وتتداعى فى أصواتها وأغراضها ومقاصدها؛ بما يقع منها من صياح؛ على سبيل المعجزة لسليمان عليه السلام. فأما الحكاية عن النملة بأنها قالت: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ؛ [النمل: 18] فقد يجوز أن يكون المراد به أنه ظهر منها دلالة القول

على هذا المعنى؛ وأشعرت باقى النمل؛ وخوّفتهم من الضرر بالمقام، وأنّ النجاة فى الهرب إلى مساكنها؛ فتكون إضافة القول إليها مجازا واستعارة؛ كما قال الشاعر: * وشكا إلى بعبرة وتحمحم (¬1) * وكما قال الآخر: * وقالت له العينان سمعا وطاعة* ويجوز أيضا أن يكون وقع من النملة كلام ذو حروف منظومة- كما يتكلّم أحدنا- يتضمن المعانى المذكورة، ويكون ذلك معجزة لسليمان عليه السلام؛ لأنّ الله تعالى سخّر له الطّير، وأفهمه معانى أصواتها على سبيل المعجزة له. وليس هذا بمنكر؛ فإنّ النطق بمثل هذا الكلام المسموع منّا لا يمتنع وقوعه ممن ليس بمكلّف ولا كامل العقل؛ ألا ترى أنّ المجنون ومن لم يبلغ الكمال من الصبيان قد يتكلّمون بالكلام المتضمّن للأغراض؛ وإن كان التكليف والكمال عنهم زائلين. والقول فيما حكى عن الهدهد يجرى على الوجهين اللذين ذكرناهما فى النملة؛ فلا حاجة بنا إلى إعادتهما. وأما حكايته أنه قال: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ؛ [النمل: 21]، وكيف يجوز أن يكون ذلك فى الهدهد وهو غير مكلّف ولا يستحق مثله العذاب. فالجواب أن العذاب اسم للضّرر الواقع، وإن لم يكن مستحقا؛ وليس يجرى مجرى العقاب الّذي لا يكون إلّا جزاء على أمر تقدم. وليس بممتنع أن يكون معنى لَأُعَذِّبَنَّهُ أى لأولمنّه، ويكون الله تعالى قد أباحه الإيلام له؛ كما أباحه الذبح لضرب من المصلحة، كما سخّر له الطير يصرّفها فى منافعه وأغراضه؛ وكلّ هذا لا ينكر فى نبىّ مرسل تخرق له العادات؛ وتظهر على يده المعجزات؛ وإنما يشتبه على قوم يظنون أنّ هذه الحكايات تقتضى كون النملة والهدهد مكلّفين؛ وقد بيّنا أنّ الأمر بخلاف ذلك. ¬

_ (¬1) لعنترة العبسى، من المعلقة ص 204 - بشرح التبريزى: * فازورّ من وقع القنا بلبانه* والتحمحم: صوت مقطع ليس بالصهيل.

تأويل آية قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا

تأويل آية [قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً] إن سأل سائل عن قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً؛ [الأنعام: 151]. وكيف (¬1) يجوز أن يكون من جملة ما حرّم علينا ألّا نشرك به شيئا؛ والأمر بالعكس من ذلك. الجواب، قيل له: هذا السؤال (¬2) سؤال من لا تأمل عنده بموضوع الآية وترتيب خطابها؛ لأنّ التحريم المذكور فيها لا يجوز البتّة على مذهب أهل العربية أن يكون متعلّقا بقوله: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً؛ وإنما هو من صلة الجملة الأولى؛ ولو تعلّق التحريم المذكور بقوله: أَلَّا تُشْرِكُوا لم يخل أن يكون تعلّقه به تعلق الفاعل أو المفعول؛ وكأنه قال: حرّم ألا تشركوا، أو المبتدأ والخبر؛ فكأنه قال: الّذي حرم ربّكم عليكم ألّا تشركوا. والتعلّق الأول يمنع منه أن لفظة حرم من صلة لفظ ما التى هى بمعنى الّذي؛ فلا تعمل فيما بعدها؛ ألا ترى أنّك إذا قلت: حرّمت كذا، فالتحريم عامل فيما بعده عمل الفعل فى المفعول؛ فإذا قلت: الّذي حرّمت كذا بطل هذا المعنى، ولم يجز أن يكون التحريم متعلّقا بما بعده على معنى الفعلية؛ بل على سبيل المبتدأ والخبر. ولا يجوز أن يكون فى الآية التعلّق على هذا الوجه؛ لأنّ صدر الكلام يمنع من ذلك؛ ألا ترى أنه تعالى قال: أَتْلُ ما حَرَّمَ ف ما حَرَّمَ منصوب، لأنه مفعول أَتْلُ؛ وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون ما حَرَّمَ مبتدأ حتى يكون أَلَّا تُشْرِكُوا خبرا له. وإذا بطل التعلّق بين الكلام من كلا الوجهين نظرنا فى قوله تعالى: أَلَّا تُشْرِكُوا ماذا ¬

_ (¬1) ط: «فكيف». (¬2) من نسخة بحاشيتى ف، ط: «سؤال».

يتعلق به؟ واحتجنا إلى إضمار متعلّق به؛ ولم يجز أن نضمر «حرّم» ألا تشركوا به؛ لأن ذلك واجب غير محرّم؛ فيجب أن يضمر «ما أوصاكم» ألا تشركوا به شيئا، أو «أتل عليكم» ألا تشركوا. والإضمار الأول يشهد له آخر الآية فى قوله تعالى: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، والإضمار الثانى يشهد له أوّل الآية من قوله تعالى: أَتْلُ وما وصانا به فقد أمرنا به وندبنا إليه. فإن قيل: فما موضع «أن» من الإعراب؟ قلنا: فى ذلك وجوه ثلاثة: أحدها الرفع؛ ويكون التقدير: ذلك ألّا تشركوا به شيئا؛ فكأنه مبتدأ وخبر. والثانى النّصب؛ إما على أوصى ألا تشركوا، أو على اتل ألّا تشركوا. والثالث ألّا يكون لها موضع، ويكون المعنى: لا تشركوا به شيئا. فأما موضع تُشْرِكُوا فيمكن فيه وجهان: النصب ب «أن»؛ والثانى الجزم ب «لا» على جهة النهى. فإن قيل كيف يعطف النهى فى قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ على الخبر وهو أوصى أَلَّا تُشْرِكُوا. قلنا: ذلك جائز؛ مثل قوله تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؛ [الأنعام: 14]؛ ومثله قول الشاعر: حج وأوصى بسليمى الأعبدا … ألّا ترى ولا تكلّم أحدا * ولا يزل شرابها مبرّدا* فعطف «لا تكلّم» - وهو نهى- على الخبر. ويمكن فى الآية وجه غير مذكور فيها، والكلام يحتمله؛ وهو أن يكون الكلام قد انقطع عند قوله تعالى: أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ والوقف هاهنا، ثم ابتدأ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً.

وإذا كانت على هذا الوجه احتمل: عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا وجهين: أحدهما أن يراد به: يلزمكم وواجب عليكم ذلك؛ كما يقال: عليك درهم، وعليك أن تفعل كذا، ثم قال: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، أى أوصى بالوالدين إحسانا. والوجه الآخر أن يريد الإغراء؛ كما تقول: عليك زيدا، وعليك كذا إذا أمرت بأخذه والبدار إليه. ولم يبق بعد هذا إلا سؤال واحد؛ وهو أن يقال: كيف يجوز أن يقول تعالى: أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، ثم يأتى بذكر أشياء غير محرمات حتى تقدروا لها الوصية أو الأمر، وصدر الكلام يقتضي أنّ الّذي يأتى به من بعد لا يكون إلا محرّما؟ ألا ترى أن القائل إذا قال: تعال أتل عليك ما وهبت كذا وكذا، لا بدّ أن يكون ما يعدّده ويذكره من الموهوبات؛ وإلا خرج الكلام من الصحّة. الجواب عن ذلك أن التحريم لما كان إيجابا وإلزاما أتى ما بعده من المذكورات على المعنى دون اللفظ بذكر الأمور الواجبات والمأمورات للاشتراك فى المعنى. وأيضا فإن فى الإيجاب والإلزام تحريما؛ ألا ترى أنّ الواجب محرم الترك، وكلّ شيء ذكر بعد لفظ التحريم فيه على بعض الوجوه تحريم. فإن قيل: ألّا حملتم الآية على ما حملها قوم عليه من أن لفظة «لا» زائدة فى قوله: أَلَّا تُشْرِكُوا، فكأنه عز وجل حرّم أن تشركوا به؛ واستشهد على زيادة «لا» بقوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ؛ [الأعراف: 12]، وبقول الشاعر: فما ألوم البيض ألا تسخرا … لما رأين الأشمط القفندرا (¬1) وبقول الشاعر: ألا يا لقوم قد أشطّت عواذلى … ويزعمن أن أودى بحقّى باطلى ويلحيننى فى اللهو إلا أحبّة … وللهو داع دائب غير غافل ¬

_ (¬1) القفندر: القبيح المنظر؛ والبيتان فى اللسان (قفندر).

قلنا: قد أنكر كثير من أهل العربية زيادة «لا» فى مثل هذا الموضع، وضعّفوه وحملوا قوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ على أنه خارج على المعنى؛ والمراد به: ما دعاك إلى ألا تسجد! ومن أمرك بألّا تسجد! لأن من منع من شيء فقد دعى إلى ألا يفعل. ومتى حملنا قوله تعالى: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً على أن لفظة «لا» زائدة على تضعيف قوم لذلك فلا بدّ فيما اتصل به هذا الكلام من تقدير فعل آخر؛ وهو قوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً؛ لأن ذلك لا يجوز أن يكون معطوفا على المحرّم؛ ولا بدّ من إضمار: «ووصينا بالوالدين إحسانا». وإذا احتجنا إلى هذا الإضمار ولم يغننا عنه ما ارتكبناه من زيادة لفظة «لا»، فالأولى أن نكتفى بهذا الإضمار فى صدر الكلام على حاله من غير إلغاء شيء منه، ونقدر ما تقدّم بيانه؛ فكأنه تعالى وصّى ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا. ويشهد لذلك ويقوّيه آخر الآية.

تأويل آية ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه، وقل رب زدني علما

تأويل آية [وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً؛ [طه: 114] فقال: ما معنى هذه الآية؟ فإن ظاهرها لا يدلّ على تأويلها. الجواب، قلنا: قد ذكر المفسّرون فى هذه الآية وجهين نحن نذكرهما، ونوضّح عنهما، ثم نتلوهما بما خطر لنا فيهما زائدا على المسطور. وأحد ما قيل فى هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وآله كان إذا نزل عليه القرآن وسمعه من جبرئيل قرأ عليه السلام معه ما يوحى به إليه من القرآن أولا أولا قبل استتمامه والانتهاء إلى المنزّل منه فى الحال، وقطع الكلام عليها، وإنما كان يفعل النبىّ عليه السلام ذلك حرصا على حفظه وضبطه، وخوفا من نسيان بعضه، فأنزل الله تعالى هذه الآية ليثبت النبىّ صلى الله عليه وآله فى تلاوة ما يسمعه من القرآن، حتى ينتهى إلى غايته لتعلّق بعض الكلام ببعض. قالوا: ونظير هذه الآية قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ؛ [القيامة: 16 - 19]؛ فضمن الله تعالى أنه يجمع له عليه السلام حفظ القرآن، ثم يثبّته فى صدره، ليؤدّيه إلى أمّته، وأسقط عنه كلفة الاستعجال بترداد تلاوته، والمسابقة إلى تلاوة كل ما يسمعه منه؛ تخفيفا عنه وترفيها له، وأكدوا ذلك بقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أى إذا انتهينا إلى غاية ما تريد إنزاله فى تلك الحال، فحينئذ اتبع قراءة ذلك وتلاوته، فلم يبق منه ما ينتظر فى الحال نزوله. والوجه الآخر أنهم قالوا: إنما نهى النبىّ عليه السلام عن تلاوة القرآن على أمته وأداء ما يسمعه منه إليهم، قبل أن يوحى إليه عليه السلام ببيانه، والإيضاح عن معناه وتأويله؛ لأنّ تلاوته على من لا يفهم معناه، ولا يعرف مغزاه لا تحسن.

قالوا: ومعنى قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ المراد به: قبل أن يقضى إليك وحى بيانه، وتفسير معناه؛ لأن لفظة «القضاء» وإن كانت على وجوه معروفة فى اللغة، فهى هاهنا بمعنى الفراغ والانتهاء إلى الغاية؛ كما قال تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ؛ [فصلت: 12]. وكما قال الشاعر: ولمّا قضينا من منى كلّ حاجة … ومسّح بالأركان من هو ماسح (¬1) أى فرغنا من حاجاتنا، وانتهينا إلى غاية الوطر منها. فأما الجواب الثالث الزائد على ما ذكر فهو أنه غير ممتنع أن يريد: لا تعجل بأن تستدعى من القرآن ما لم يوح إليك به؛ فإن الله تعالى إذا علم مصلحة فى إنزال القرآن عليك أمر بإنزاله، ولم يدّخره عنك؛ لأنه لا يدخر عن عباده الاطّلاع لهم على مصالحهم. فإن قيل على هذا الوجه: إنه يخالف الظاهر؛ لأنه تعالى قال: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ولم يقل بطلبه واستدعائه، والظاهر يقتضي أن الاستعجال بنفس القرآن لا بغيره. قلنا: الأمر على ما ظنه السائل. وعلى الوجوه الثلاثة فى تأويل الآية لا بدّ من تقدير ما ليس فى الظاهر؛ لأن على الوجهين الأولين المذكورين لا بدّ من أن يقدّر: لا تعجل بتلاوة القرآن؛ إما على سبيل الدرس والتحفّظ على ما ذكر فى الوجه الأول، وأن يتلوه على أمّته قبل إنزال البيان. وأىّ فرق فى مخالفة الظّاهر؛ بين أن يقدّر: ولا تعجل بتلاوة القرآن، أو يقدر: لا تعجل بطلب القرآن واستدعاء نزوله؟ فإن قيل: هذا يدلّ على وقوع معصية من النبي عليه السلام فى استدعائه ما لم يكن له أن يستدعيه من القرآن؛ لأنّ النهى لا يكون إلا عن قبيح. قلنا: النهى لا يكون إلا عن قبيح لا محالة؛ لكن النهى لا يدلّ ¬

_ (¬1) البيت ينسب لكثير؛ وانظر الجزء الأول ص ...

على وقوع الفعل المنهىّ عنه؛ لأنه قد ينهى عن الفعل من لم يواقعه قطّ ولا يواقعه، ألا ترى أن النبىّ عليه السلام نهى عن الشّرك وسائر القبائح؛ كما نهينا، ولم يدلّ ذلك على وقوع شيء مما نهى عنه منه! وهذا أيضا يمكن أن يكون جوابا لمن اعتمد على الوجهين الأولين إذا قيل له: أفوقع منه عليه السلام تلاوة القرآن على أمته قبل نزول بيانه، أو عجل بتكريره على سبيل الدرس كما نهى عنه؟ ويمكن من اعتمد على الوجه الأول فى تأويل الآية أن يقول فى قوله تعالى: لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ وإن كان ظاهره النهى ليس بنهى على الحقيقة؛ وقد يرد ما هو بلفظ النهى وهو غير نهى على التحقيق، كما يرد ما هو بصفة الأمر وليس بأمر؛ وإنما ذلك تخفيف عنه عليه السلام وترفيه، ورفع كلفة المشقة، فقيل له عليه السلام: لا تتكلّف المسابقة إلى تكرير ما ينزل عليك خوفا من أن تنساه؛ فإن الله تعالى يكفيك هذه المئونة، ويعينك عن حفظه وضبطه؛ كما قال تعالى فى الآية الأخرى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ؛ أى جمعه فى حفظك وتأمورك (¬1). وبعد؛ فإن الأولى التوقف عن معرفة غاية الكلام التى ينتهى إليها، ويقطع عليها. والتلاوة لما يرد منه الأوّل فالأول؛ تلاوة لما لا يعرف معناه؛ لتعلق الكلام بعضه ببعض؛ فندب عليه السلام إلى الأول من التوقف على غايته (¬2). وأما الوجه الثانى الّذي اعتمد فيه على أنّ النهى إنما هو عن تلاوته على الأمة قبل نزول بيانه؛ فإن كان المعتمد على ذلك يقول: ليس يمتنع أن تكون المصلحة فى التوقّف عن الأداء قبيل البيان؛ فنهى عليه السلام عن ذلك؛ لأنّ المصلحة فى خلافه؛ فهذا جائز لا مطعن فيه؛ وإن كان القصد إلى أنّ الخطاب لا يحسن إلا مع البيان؛ على مذهب من يرى أنّ البيان لا يتأخر عن الخطاب؛ فذلك فاسد، لأنّ الصحيح أن البيان يجوز أن يتأخر عن وقت الخطاب؛ وإنما لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة. ¬

_ (¬1) التامور: القلب. (¬2) حاشية ف: «التوقيف على علته».

وقد بينا الكلام فى هذه المسألة، والأدلّة على صحة ما ذهبنا إليه منها فى مواضع من كتبنا، وتكلمنا على فساد قول من أوجب اقتران البيان بالخطاب. على أنّ من اعتمد على هذه الطريقة فى هذا الموضع فقد غلط؛ لأنّ الآية تدلّ على أنّ الله تعالى قد خاطب نبيّه عليه السلام بما يحتاج إلى بيان من غير انضمام البيان إليه. وإذا جاز ذلك فى خطابه تعالى لنبيه عليه السلام جاز مثله فى خطاب النبىّ عليه السلام لأمته؛ لأنّ من أبطل تأخير البيان عن زمان الخطاب يوجب ذلك فى كل خطاب. وليس يمكن أن يدّعى أنه تعالى قد بيّن له؛ لأن تأويلهم يمنع من ذلك؛ لأنه قيل له على هذا الوجه: لا تعجل بتلاوة القرآن على أمّتك قبل أن يقضى إليك وحيه؛ يعنى قبل أن ينزل إليك بيانه؛ فالبيان متأخّر عنه على ذلك الوجه؛ وذلك قبيح على مذهب من منع من تأخير البيان من وقت الخطاب. والتأويل الّذي ذكرناه زائدا على الوجهين المذكورين يمكن أن تفسّر به الآية الأخرى التى هى قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ، بطلب ما لم ينزل عليك من القرآن؛ فإنّ علينا إنزال ما تقتضى المصلحة إنزاله عليك وجمعه لك؛ وقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ، يدلّ ظاهره على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب؛ لأنّه تعالى أمره: إذا قرأ عليه الملك وأوحى به إليه أن يقرأه، ثم صرّح بأن البيان يأتى بعده؛ فإنّ «ثمّ» لا يكون إلا للتراخى، وما هو مقترن بالشيء لا تستعمل فيه لفظة «ثمّ» ألا ترى أنه لا يقال: أتانى زيد ثم عمرو، وإنما حضرا فى وقت واحد!

مسألة

مسألة إن سأل سائل عن قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ؛ [فاطر: 32]. فقال: أىّ معنى لقوله تعالى: أَوْرَثْنَا؟ وما الكتاب المشار إليه؟ وإذا كان الاصطفاء هو الاختيار والاجتباء- وذلك لا يليق إلا بمن هو معصوم مأمون منه القبيح كالأنبياء والأئمة عليهم السلام- فكيف قال بعد ذلك: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، وهنا وصف لا يليق بمن ذكرناه؟ الجواب، إن الّذي يجب اعتماده فى تأويل هذه الآية أن قوله تعالى: فَمِنْهُمْ ترجع الكناية فيه إلى العباد؛ لا إلى الذين اصطفوا؛ وهو أقرب إليه فى الذكر، فكأنه تعالى قال: ومن عبادنا ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات. فإن قيل: فأىّ فائدة فى وصف العباد بهذه القسمة؟ وكيف عدل عن وصف الذين اصطفاهم، وورّثهم الكتاب؟ قلنا: الوجه فى ذلك ظاهر؛ لأنّه تعالى لما علّق توريث الكتاب بمن اصطفاهم من عباده أراد أن يبيّن وجه الاختصاص؛ وإنما علّق وراثة الكتاب ببعض العباد دون بعض؛ لأنّ فى العباد من هو ظالم لنفسه، ومن هو مقتصد، ومن هو سابق بالخيرات؛ فوجه المطابقة بين الكلام واضح. ونحن الآن متبعون ما قيل فى تأويل هذه الآية؛ وموضّحون عمّا فيه من صحة أو اختلال. ذكر أبو عليّ الجبّائى ومن تابعه أنّ المراد بالذين اصطفوا الأنبياء عليهم السلام، والظالم لنفسه من ارتكب الصغيرة منهم؛ وإنما وصف بذلك من حيث فوّت نفسه الثواب الّذي زال عنه بفعل الصغيرة؛ ويؤدّى سائر الواجبات. والسابق إلى الخير هو الّذي استكثر من فعل النوافل؛ وهذا التأويل يفسد من جهة أنّ الدليل قد دلّ على أنّ الأنبياء

عليهم السلام لا يقع منهم شيء من المعاصى والقبائح. وقد أشبعنا الكلام فى ذلك فى كتابنا المعروف «بتنزيه الأنبياء والأئمة» عليهم السلام. ولو عدلنا عن ذلك لم يجز ما قاله؛ لأنّ قولنا: فلان ظالم لنفسه من أوصاف الذمّ، والذمّ لا يستحقّه فاعل الصغيرة؛ فكيف تجرى عليه أوصاف الذم؟ ولا شبهة فى أن قولنا: فلان ظالم لنفسه من أوصاف الذم؛ لأنهم يقولون فى كلّ من فعل قبيحا: إنه قد ظلم، من حيث فعل ما يستحقّ به العقاب؛ وكأنه أدخل على نفسه ضررا ما كان يستحقّه، فأشبه بذلك الظالم لغيره. ولا يجوز أن يوصف فاعل الصغيرة بأنّه ظالم لنفسه من حيث فوّت نفسه الثواب؛ لأنّه إن عنى بذلك الثواب الّذي يبطل بعقاب الصغيرة، فعند أبى عليّ أن الصغيرة ينحبط عقابها بالثواب الكثير؛ من غير أن ينقص من الثواب شيء؛ لأنه لا يذهب إلى الموازنة التى يذهب إليها أبو هاشم، فما فوّتت الصغيرة عنده ثوابا كان مستحقّا له، وإن عنى بتفويت الثواب أنّه لو لم يفعل هذه المعصية لكان يستحقّ على الامتناع منها ثوابا فإنه يفعلها. فهذا يوجب أن يكون الأنبياء عليهم السلام فى كل حال مفوّتين لأنفسهم الثواب بفعل المباحات؛ لأنهم لو فعلوا الطاعات بدلا منها لاستحقّوا الثواب، ولوجب أن يوصفوا على الفائتة بأنهم ظالمون لأنفسهم. على أنّ وضع الكلام وترتيبه يقتضيان أنّ الظالم لنفسه فى الآية فى موضع ذمّ، لأنه تعالى جعله بإزاء المقتصد، وليس بإزاء المقتصد إلا المسرف المذموم. فإن قيل: فقد قلتم فى تأويل حكايته تعالى عن آدم وحوّاء عليهما السلام قولهما رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا، [الأعراف: 23]: إنما أراد أنّا نقصناها الثواب الّذي كنا نستحقّه لو فعلنا ما ندبنا إليه من الامتناع من تناول الشجرة. قلنا: إنما قلنا ذلك هناك، وعدلنا عن الظاهر فى هذه اللفظة لقيام الدليل أن النبىّ عليه السلام لا يواقع المحظور، كبيرا ولا صغيرا من الذنوب. وليس فى الآية التى نحن فى الكلام عليها ضرورة توجب العدول عن الظاهر، بل قد بينا أن ترتيب الكلام ومقابلته

يقتضيان أن لفظة ظالِمٌ لِنَفْسِهِ فى الآية تقتضى الذم، لأنها بإزاء المقتصد. على أنه غير ممتنع أن تكون لفظة «ظلم» بخلاف لفظة ظالم فى عرف الاستعمال، كما أن عند مخالفنا أن لفظة «آمن» بخلاف لفظة «مؤمن»، لأنهم يصفون صاحب الكبيرة بأنه آمن ولا يسمّونه بأنه مؤمن، ويزعمون أن الانتقال عن الاشتقاق إلى إفادة استحقاق الثواب إنما هو فى مؤمن دون آمن، فلا ينبغى أن ينكروا مثل ذلك فى ظلم وظالم. وتأول قوم هذه الآية على أنّ المراد من اختاره الله تعالى للتكليف، وتوريث الكتاب من العقلاء البالغين، ثم قسّمهم الأقسام التى تليق بهم، من غير أن يكون المراد بالآية الأنبياء عليهم السلام. وهذا الجواب يفسد، لأن الله تعالى يقول: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، ومن اصطفاه الله واختاره واجتباه بالإطلاق لا يكون إلا ممدوحا معظّما، فكيف يكون فيهم من يستحق الذم والعقاب؟ ومن يختار الله تكليفه شيئا مخصوصا لا يقال بالإطلاق إن الله تعالى اصطفاه. والمعتزلة أبدا تنكر على المرجئة تأويلهم قوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى؛ [الأنبياء: 28]، على أن المراد من ارتضى الشفاعة فيه، ويقولون: من ارتضى شيئا يتعلق به لا يوصف بأنه مرتضى على الإطلاق، فكيف يثبتونه هاهنا. ووجدت أبا قاسم البلخىّ يقول فى كتابه تفسير القرآن: " إنه تعالى أراد العقلاء البالغين ويجوز أن يكونوا عند الاصطفاء أخيارا أتقياء ثم ظلم بعضهم نفسه؛ فيكون كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ؛ [المائدة: 54]؛ وهو فى وقت الارتداد غير مؤمن. كذلك يكون فى حال ظلمه نفسه ليس من المصطفين". قال: " ويجوز أيضا أن يكون فيهم من ظلم نفسه ثم تاب وأصلح؛ ويكون قوله: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، أى منهم من كان قد ظلم نفسه؛ ليس أنه فى هذا الوقت ظالم لها". هذه ألفاظه بعينها حكيناها عنه؛ وهذا فاسد؛ لأن من كان منهم ظالما فاعلا للقبيح

لا يوصفون على الإطلاق بأن الله تعالى اصطفاهم. فهذا الوصف يقتضي أن تكون الجماعة أخيارا. وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ بخلاف هذا؛ لأنّ وصفهم بأنهم آمنوا فى الماضى لا يمنع من الردّة فى المستقبل؛ وقوله تعالى: الَّذِينَ اصْطَفَيْنا يمنع أن يكون فيهم من ليست هذه صفته. وأما حمل ذلك على من ظلم ثم تاب فهو غير صحيح؛ لأنّ من تاب لا يوصف بعد التوبة بأنه ظالم لنفسه؛ لأن التوبة تمنع من إجراء ألفاظ الذم. ووجدت بعضهم يتأوّل هذه الآية على أن المراد ب ظالِمٌ لِنَفْسِهِ من جهد نفسه فى العبادة وحمل عليها؛ وقال: هذا يليق بأوصاف الأنبياء عليهم السلام، ولا تمنع النبوّة منه. وهذا أيضا غير صحيح؛ لأنا قد بينا أن لفظة ظالِمٌ لِنَفْسِهِ يذمّ بها فى التعارف، فكيف تجرى على المدح! ومن هذا الّذي يسمى من جهد نفسه فى العبادة بأنّه ظالم نفسه بالإطلاق! على أن السابق إلى الخيرات هو المجتهد فى العبادة، الحامل على نفسه فيها، فأىّ معنى للتكرار؟ وهذا تأويل يفسد القسمة، وهذه الجملة توضّح أن التأويل الصحيح ما قدمناه. فأما قوله تعالى الْكِتابَ فالظاهر أنه كناية عن القرآن المنزّل على رسول الله صلى الله عليه وآله؛ فقد صارت هذه اللفظة بالإطلاق عبارة عنه؛ ولهذا إذا أطلق القائل فقال: هذا ينطق به الكتاب، ومحرّم فى الكتاب، وورد فى الكتاب لم يفهم منه إلا ما ذكرناه. ومعنى أَوْرَثْنَا يعنى علمه وفوائده وأحكامه؛ وليس يليق ذلك بالأنبياء المتقدمين؛ فإنه لا حظّ لهم فى علم هذا الكتاب؛ وإنما يختص بهذه الفائدة نبيّنا عليه السلام والأئمة من ولده عليهم السلام؛ لأنهم المتعبّدون بحفظه وبيانه، والعمل بأحكامه. وذلك كلّه واضح بحمد الله ومنّه.

تأويل آية ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون

تأويل آية [وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] إن سأل سائل عن قوله تعالى: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ؛ [الزخرف: 86]. الجواب، قلنا: أما الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ فالمراد به ما كان يعتقده المشركون، ويدعونه إلها من دون الله. والهاء فى دُونِهِ راجعة إلى اسم الله تعالى. وتحقيق الكلام: ولا يملك الذين يدعون إلها وأربابا من دون الله تعالى الشفاعة. ولما كثر استعمال هذه اللفظة فيمن يعبد من دون الله، ويدعى إلها رازقا استحسنوا الحذف لظهور الأمر فى المراد؛ ولهذا حمل محققو المفسّرين قوله تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ؛ [الفرقان: 77] الآلهة من دونه، وحذف ما يتعلّق بهذا الدعاء فى هذه الآية أشكل من حذفه فى قوله تعالى: الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ؛ لأنّ قوله جل وعز: مِنْ دُونِهِ قد نبّه وأيقظ على أنّ المراد: من كان يدعى إلها من دونه. والآية الأخرى لا دليل فيها من لفظها على ما يتعلق به قوله: دُعاؤُكُمْ. ومعنى أنهم لا يملكون الشفاعة، أى ليس لهم أن يفعلوها ويتصرّفوا فيها؛ لأن معنى المالك ليس هو إلا من كان قادرا على التصرّف فيه؛ وليس لأحد أن يمنعه من ذلك؛ والشفاعة قد بيّنا فى غير موضع من كتبنا أنها لا تستعمل على طريقة الحقيقة إلا فى طلب إسقاط المضارّ؛ وإنما استعملت فى إيصال المنافع تجوّزا فيه واستعارة. وقيل فى معنى الآية وجهان: أحدهما أنّ المعبودين من عيسى ومن مريم والملائكة وعزير عليهم السلام؛ لا يملك الشفاعة عند الله تعالى [أحد منهم] فى أحد إلا فيمن شهد بالحق، وأقرّ التوحيد، وبجميع ما يجب عليه الإقرار به. والوجه الآخر أنّ الذين يدعون من دون الله من البشر والأجسام وجميع المعبودات لا يملك الشفاعة عند الله إلا من شهد بالحق منهم يعنى عيسى وعزيرا والملائكة عليهم السلام؛ لا يملكون

الشفاعة عند الله تعالى إلا إذا كانوا على الحق شاهدين به؛ معترفين بجميعه؛ فإنهم يملكون الشفاعة عند الله؛ وإن كان لا يملكها ما عداهم من المعبودات. والفرق بين الوجهين أنّ الوجه الأول يرجح الاستثناء فيه إلا من تتناوله الشفاعة؛ وفى الوجه الثانى يرجح الاستثناء إلى الشافع دون المشفوع فيه. فإن قيل: أى الوجهين أرجح؟ قلنا: الثانى؛ وإنما رجحناه لأن المقصد بالكلام أنّ الذين يدعونهم من دون الله تعالى لا يملكون لهم نفعا؛ كما قال تعالى فى مواضع إنهم لا ينفعونكم، ولا يضرونكم، ولا يرزقونكم؛ ووضع الكلام على نفى منفعة تصل إليهم من جهتهم؛ ولا غرض فى عموم من يشفعون فيه أو خصوصه. ولما كان فيمن عبدوه من نبىّ أو ملك من يجوز أن يشفع فيمن تحسن الشفاعة له، وجب استثناؤه حتى لا يتوهّم أنّ حكم جميع من عدّده واحد؛ فى أنه لا تصح منه الشفاعة؛ وأنّ من كان تصح منه الشفاعة إنما يشفع فيمن تحسن الشفاعة له ممن لم يكن كافرا ولا جاحدا. ويترجّح هذا الوجه من جهة أخرى؛ وهى أنا لو جعلنا الاستثناء يرجع إلى من يشفع فيه لكان الكلام يقتضي أنّ جميع من يدعون من دون الله يشفع لكل من شهد بالحق، والأمر بخلاف ذلك؛ لأنه ليس كل من عبدوه من دون الله تعالى تصح منه الشفاعة؛ لأنهم عبدوا الأصنام، وبعض عبد الكواكب والشفاعة لا تصح منها؛ فلا بدّ من أن تخصص الكلام ونقدره هكذا: لا يملك بعض الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا فيمن شهد بالحق؛ فعود الاستثناء إلى الشافعين وأولى؛ حتى يتخصص. وأيضا فلو عاد الاستثناء إلى المشفوع فيه لوجب أن يكون على غير هذه الصيغة فيقول: «إلا فيمن شهد بالحق» وإذا قال: «إلا من شهد بالحق» كان ذلك بأن يرجع إلى الشافع أولى؛ لأنه أليق باللفظ، لأنا إذا أردنا أن نستثنى من جماعة لا يشفعون قلنا: هؤلاء

لا يشفعون إلا من كان بصفة كذا؛ وإذا كان الاستثناء ممن يشفع فيه قلنا: لا يشفعون إلا فيمن صفته كذا. وأيضا فعلى الوجه الأول وقد تقدم عموم ظاهر فى اللفظة يجوز أن يستثنى منه وهو قوله تعالى: الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ وما جرى ذكر المشفوع فيه عموما يستثنى بعض. فإن قيل: الشفاعة لفظ جنس، يقتضي العموم. قلنا: قد بينا فى غير موضع أن ألفاظ الجنس لا تقتضى الاستغراق، وضربنا المثل بمن يقول: هذه أيام أكل اللحم، وزمان لبس الجباب، فإنه يقتضي الجنس من غير استغراق. وإن توهّم خصوص أو عموم فخطؤهما لا يعقل. فإن قيل: أىّ فائدة فى قوله تعالى وَهُمْ يَعْلَمُونَ وبأى شيء يتعلق علمهم. قلنا: ليس كلّ من شهد بالحق يكون عالما؛ لأن المقلّد والمبخّت ربما شهد بالحق على وجه لا ينفع؛ وإنّما لا ينفع ذلك مع العلم فكأنه تعالى قال وَهُمْ يَعْلَمُونَ صحة ما شهدوا به. فإن قيل: إذا كان المستثنى هم الأنبياء والملائكة فهؤلاء لا يشهدون بالحق إلا مع العلم. قلنا: ذلك صحيح إلا أنّ الاستثناء لما تناول فى اللفظة من كان يصفه، وكان مجرد هذه اللفظة لا ينفع فى المعنى المقصود إلا مشروطا بالعلم وجب اشتراط العلم؛ ليعلم افتقاد تلك الصفة فيمن كانت إليه؛ وهذا واضح. فإن قيل: هذان الوجهان اللّذان ذكرتموهما، ورجّحتم أحدهما يقتضيان مشاركة نبينا عليه السلام فى الشفاعة للمذنبين؛ ومن مذهب المسلمين أنّه ينفرد بالشفاعة. قلنا: ليس فيما ذكر تضعيف لهذين الجوابين من وجوه: أحدها أنّ انفراده عليه السلام بالشفاعة للمذنبين حتى لا يشاركه أحد فيها ليس بمعلوم ولا مقطوع عليه؛ وإنما يرجع فيه إلى أقوال قوم غير محصّلين؛ ألا ترى أنّ عند المسلمين كلّهم إلا عند المعتزلة ومن وافقهم أن للمؤمنين شفاعة بعضهم فى بعض! فكيف يدّعى الاختصاص فى هذه الرتبة!

وثانيها أن المزية المدّعاة لنبينا عليه السلام فى الشفاعة إنما هى على الأنبياء المتقدمين دون الملائكة؛ لأنّه لا خلاف فى أن للملائكة شفاعة، وقد نطق القرآن بذلك فقال: لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ؛ [الأنبياء: 28]. وإذا كان الأمر على ما ذكرناه فالاستثناء يعود إلى الملائكة عليهم السلام؛ لأنهم من جملة المعبودين، فلا يمنع نفى الشفاعة عن الكل أن يستثنوا لأن لهم شفاعة. وثالثها أنّ الشفاعة قد تكون إلى الله تعالى وإلى غيره؛ فإن ثبت ما ادّعى من تفرّد نبينا عليه السلام بالشفاعة عند الله تعالى فى مذنبى أمته، جاز أن نثبت الشفاعة لغيره عند غير الله تعالى؛ فكأنه قال: أنتم تعبدون من لا يشفع فيكم فى الدنيا ولا ينصركم؛ واستثنى من يجوز عليه أن يشفع فى الدنيا. ورابعها أن يكون المراد بالشفاعة هاهنا النّصرة والمعونة والمنفعة؛ لأن الشفاعة فيمن تتناوله نفع يوصل إليه؛ وإرادة الشفاعة فى الأمة معنى الشفاعة، وهو المنفعة والنّصرة؛ وتقدير الكلام: إنكم تعبدون من لا ينفعكم ولا يضرّكم ولا يعينكم؛ ولما كان فى جملة هؤلاء المعبودين من يصح أن يضرّ وينفع استثنى؛ ليبين أنّ حكمهم مفارق لحكم غيرهم؛ وهذا بيّن لمن تأمله.

مسألة

مسألة إن اعترض معترض على ما نقوله من أنّ الاستثناء إنما يخرج من الجمل ما صحّ دخوله فيها؛ وليس بواجب أن يخرج منها ما وجب دخوله؛ بأن يقول: هذا يقتضي حسن أن يقول القائل: جاءنى رجل إلا زيدا؛ لأنّ لفظة «رجل» تصلح أن تقع على زيد وعمرو. يقال له: من حق الاستثناء فى اللغة العربية أن يدخل على الجمل من الكلام فيخرج منها ما يصلح دخوله على مذهب مخالفنا. ولا يصحّ دخول الاستثناء على ألفاظ الوحدة. ورجل لفظ واحد، وإن وقع فى المعنى على الطويل والقصير، وزيد وعمرو. والاستثناء إنما يخرج من الجمل ما يتناولها لفظها دون معناها؛ فلهذا لم يستحسنوا: جاءنى رجل إلا زيدا؛ وقد يستحسنون فى هذا الموضع ما يجرى مجرى الاستثناء بغير لفظة «إلّا»؛ فيقولون: جاءنى رجل ليس زيدا وليس بزيد، فيخرجون من الكلام ما صحّ تناوله له- وإن لم يسموه استثناء، - ولا استحسنوا لفظة «إلا» إلّا خاصة للاستثناء. ولولا صحة الأصل الّذي ذكرناه لما استحسنوا أن يقولوا: جاءنى رجال إلا زيدا؛ لأنهم أخرجوا بالاستثناء ما تصلح لفظة «رجال» له دون ما تتناوله وجوبا. فإن قيل: ألّا كان قوله: «جاءنى رجال» للجنس دون ما يدعى من تناوله للثلاثة فصاعدا، فلهذا حسن الاستثناء منه بإلّا. ولفظة «رجل» فى قولهم: جاءنى رجل للجنس! قلنا: لو كان لفظة «رجال» أريد به جنس الرجال على العموم حسن استثناء النكرة منه، من غير وصف لها، ولا تقريب من المعرفة؛ حتى نقول: جاءنى رجال إلا رجلا؛ لأنه إذا أريد الجنس حسن ذلك لا محالة، كحسنه لو قال جاءنى الرجال (بالألف واللام) إلا رجلا؛ وأجمعوا على أنّ ذلك لا يجوز؛ لأنه غير مفيد. ولو أريد بلفظة «رجال» هاهنا الجنس لكان استثناء الرجل الواحد منها من غير وصف له مفيدا. فأما لفظة «رجل» فى الإثبات كقولهم: جاءنى رجل، فإنه لا يجوز أن يكون عبارة عن الجنس فى شيء من كلامهم. ولو أرادوا به الجنس لحسن الاستثناء؛ كما يحسن من ألفاظ الجنس؛ وإنما يراد فى بعض المواضع بلفظة «رجل» الجنس إذا كانت فى النفى، مثل قولهم: ما جاءنى رجل، وما ضربت رجلا؛ وهاهنا يجوز أن تستثنى فتقول: إلا زيدا.

مسألة

مسألة إن سأل سائل عن معنى قوله تعالى: يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ؛ [البقرة: 54]. فقال: كيف يجوز أن يتعبّدهم بقتل أنفسهم، والعبادة بذلك لا تحسن إلا أن تكون مصلحة لهذا المكلّف فى دينه؛ إما بأن يفعل طاعة أو يمتنع من قبيح؛ وهو بعد الموت قد خرج من كلّ تكليف، فلا يصحّ منه شيء من الأفعال! الجواب، إن المفسرين قد اختلفت أقوالهم فى هذه الآية. فمنهم من ذهب إلى أنه تعالى كلّفهم أن يقتلوا أنفسهم القتل الحقيقىّ المعهود. ومنهم من ذهب إلى أنه تعالى كلّفهم أن يقتل بعضهم بعضا. ومنهم من حمل الآية على أن المراد بها تكليف الاستسلام للقتل؛ ويقول: إنهم استحقوا بعبادة العجل القتل، فلما تابوا أمرهم الله تعالى بأن يستسلموا لمن يقتلهم؛ كما كلف الله القاتل لغيره أن يستسلم للقود منه. فأما الوجه الأول فيبطل بما ذكر فى السؤال؛ ولا يجوز أن يكون وجه حسن هذا التكليف المصلحة لغير المقتول؛ لأنّ مصلحة زيد لا تكون وجها فى وجوب الفعل على عمرو؛ ولا يمكن أن يقال: إنّ مصلحة المأمور بقتل نفسه فى نفس الأمر والتكليف قبل أن يقتل نفسه؛ فإن ذلك ربما كان لطفا له فى بعض العبادات؛ وذلك لأن الأمر بما ليس له وجه وجوب أو ندب لا يحسن؛ بل يكون الأمر قبيحا؛ وإذا كان الأمر قبيحا لم يحسّنه أن يكون فيه لطف لبعض المكلّفين؛ بل يمنع منه كما يمنع من أن يلطف لبعض المكلّفين بما هو قبيح فى نفسه؛ فلم يبق بعد إبطال هذا الوجه إلا الوجهان الأخيران؛ من الاستسلام لمن يقتلهم القتل الّذي استحقوه، أو قتل بعضهم بعضا؛ فقد روى أنهم برزوا بأسيافهم؛ واصطفّوا صفين يضرب بعضهم بعضا، فمن قتل منهم كان شهيدا، ومن نجا كان تائبا.

ويمكن فى الآية وجه آخر؛ ما رأينا أحدا من المفسرين سبق إليه؛ وهو إن لم يزد فى القوة على ما ذكروه لم ينقص عنه؛ وهو أن يكون المراد بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أى اجتهدوا فى التوبة ممّا أقدمتم عليه، والندم على ما فات، وإدخال المشاقّ الشديدة عليكم فى ذلك؛ حتى تكادوا أن تكونوا قتلتم أنفسكم؛ وقد يسمّى من فعل ما يقارب الشيء باسم فاعله. ومذهب أهل اللغة فى ذلك معروف مشهور؛ يقولون: ضرب فلان عبده حتى قتله، وفلان قتله العشق، وأخرج نفسه، وأبطل روحه، وما جرى مجرى ذلك؛ وإنما يريدون المقاربة والمشارفة والمبالغة فى وصف التناهى والشدة؛ فلما أراد تعالى أن يأمرهم بالتناهى والمبالغة فى النّدم على ما فات، وبلوغ الغاية القصوى فيه جاز أن يقول: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. فإذا قيل طعنا على هذا الجواب: إنما تسمّى مقاربة القتل قتلا مجازا وتوسّعا، وحمل الكلام على حقيقته أولى! الجواب، أن الوجهين اللذين ذكرهما المفسرون فى هذه الآية من قتل بعضهم بعضا، والاستسلام للقتل مبنيان أيضا على المجاز؛ وظاهر التنزيل بخلافهما؛ لأن الاستسلام للقتل ليس بقتل على الحقيقة؛ وإنما سمى باسمه من حيث يؤدّى إليه، وكذلك قتل بعضهم بعضا مجاز؛ لأن القاتل غير المقتول؛ وظاهر الآية يقتضي أن القاتل هو المقتول. وأما استشهادهم فى تقوية هذا الوجه بقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يعنى إخوانكم فلا يغنى شيئا؛ لأنّ ذلك مجاز لا محالة؛ وإنما حمل على الإخوان بدليل. والظاهر أن يكون تكليفا لقتل الواحد نفسه، وسلامة على نفسه. فإن قيل: كيف يجوز أن يستحقّ القتل بعد التوبة من الوجوه التى بها استحق القتل؟ قلنا: غير ممتنع أن يكلّفنا الله تعالى- بعد التوبة من الكفر- القتل امتحانا؛ لا على سبيل العقوبة. فإن قيل: كيف يصح أن تكون التوبة نفسها قتل أنفسهم؛ والتوبة هى الندم والعزم، وهما غير القتل!

قلنا: الجواب الصحيح عن السؤال أن الفاء فى الآية عاطفة للقتل على التوبة، وليست بمنبئة أن القتل هو التوبة على ما ظنّه بعض من لم يتأمل. وهو جار مجرى قوله: ضربت زيدا فعمرا؛ فالفاء هاهنا عاطفة وقائمة مقام الواو؛ إلا أن لها زيادة على حكم الواو، فإن الفاء تقتضى الجمع الّذي تقتضيه الواو، وتقتضى الترتيب والتعقيب اللذين لا يفهمان من الواو؛ فكأنه تعالى قال: فتوبوا إلى بارئكم واقتلوا أنفسكم؛ فلما أمرهم بالقتل عقيب التوبة؛ أدخل الفاء التى هى علامة على ذلك. وقد أجاب بعض الناس بأن قال: ما لا تتم التوبة إلا به، ومعه يصحّ أن يسمّى باسمها؛ كما يقال للغاصب إذا عزم على التوبة: إنّ توبتك ردّ ما غصبت؛ وإنما يريد: أن توبتك لا تتم إلا به. وقد بينا ما يغنى عن ذلك فى الجواب الّذي اخترناه، وهو أولى وأوضح.

مسألة

مسألة إن سأل سائل عن قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ؛ [المائدة: 93]. هذه الآية تشاغل المفسّرون بإيضاح الوجوه فى التكرار الّذي تضمّنته؛ وظنوا أنه المشكل منها، وتركوا ما هو أشدّ إشكالا من التكرار؛ وهو أنه تعالى نفى الجناح عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيما يطعمونه بشرط الاتقاء والإيمان وعمل الصالحات. وإذا أريد بالاتقاء تجنّب القبائح والمحارم، كان ذلك شرطا صحيحا فى نفى الجناح؛ إلا أنّ الإيمان وعمل الصالحات ليس بشرط فى نفى الجناح على وجه ولا سبب؛ لأن من جانب القبيح المحظور عليه لم يكن عليه جناح فيما يطعمه، وإن لم يكن مؤمنا، ولا ممن عمل الصالحات، ألا ترى أن المباح إذا وقع من الكافر لا إثم عليه ولا وزر! ووقوعه منه مع كفره فى نفى الإثم كوقوعه من المؤمنين. والإشكال إنما هو فى اشتراط الإيمان وعمل الصالحات؛ وليس لذلك تأثير معقول فى نفى الجناح. ونحن نبين ما يحل هذه الشبهة القوية، ونتكلم على التكرار، ولنا فى ذلك طريقان: أحدهما أن نضم إلى المشروط المصرّح بذكره غيره حتى يظهر تأثير ما ذكره من الشروط. أو نجعل ما ولى الاتقاء من الإيمان، وعمل الصالحات ليس بشرط حقيقىّ وإن كان معطوفا على الشرط، وكل ذلك جائز إذا قاد الدليل إليه، وأحوج إلى التعويل عليه. أما الوجه الأول فبيانه أن يكون تقدير الكلام: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا وغيره إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات، لأن الشرط فى نفى الجناح لا بدّ أن يكون له تأثير؛ حتى يكون متى انتفى ثبت الجناح. وقد علمنا أنّ باتّقاء المحارم ينتفى الجناح فيما يطعم، فهو الشرط الّذي لا زيادة عليه. ولما ولى ذكر الاتقاء الإيمان وعمل الصالحات ولا تأثير لهما فى نفى الجناح- وجب أن نقدّر هناك ما تؤثّر هذه الأفعال فى نفى الجناح

عنه، فأشرنا إلى إضمار ما تقدم ذكره حتى يصحّ الشرط، ويطابق المشروط، لأن من اتقى الحرام فيما يطعم لا جناح عليه فيما يطعم؛ لكنه قد يصح أن يثبت عليه الجناح فيما أخلّ به من واجب، وضيّعه من فرض، فإذا شرطنا أنه مع اتقاء القبيح ممّن آمن بالله وبما أوجب عليه الإيمان به، وعمل الصالحات ارتفع الجناح عنه من كلّ وجه. وليس بمنكر حذف ما قدرناه لدلالة الكلام عليه، فمن عادتهم أن يحذفوا ما يجرى هذا المجرى، وتكون قوة الدّلالة عليه وسوقها إليه مغنيين عن النطق به. وفى القرآن وفصيح كلام العرب وأشعارها أمثلة كثيرة لذلك لا تحصى، فمنه قوله تعالى: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ [البقرة: 53]؛ فقد ذكر فى الآية وجوه؛ من أوضحها أنه تعالى أراد: آتينا موسى الكتاب ومحمدا الفرقان، لأنه لما عطف الفرقان على الكتاب الّذي أوتيه موسى عليه السلام، وعلمنا أنه لا يليق به- لأن الفرقان ليس مما أوتيه موسى عليه السلام- وجب أن نقدّر ما يطابق ذلك. ومثله قول الشاعر: تراه كأنّ الله يجدع أنفه … وعينيه إن مولاه بات له وفر (¬1) لما كان الجدع لا يليق بالعين- وإن كانت معطوفة على الأنف الّذي يليق به الجدع- أضمرنا ما يليق بالعين، وهو البخص وما يجرى مجراه. ومثله: يا ليت زوجك قد غدا … متقلّدا سيفا ورمحا ومثله: * علفتها تبنا وماء باردا (¬2) * والإضمار مع قوة الدّلالة أحسن من الإظهار، وأدخل فى البلاغة والفصاحة. ¬

_ (¬1) حاشية الأصل (من نسخة): «كان له وفر»، والبيت فى (الحيوان 6: 40)؛ ونسبه إلى خالد بن الطيفان؛ وقد أورده المؤلف فى هذا الجزء ص 259. (¬2) بقيته: * حتى شتت همّالة عيناها* وهو من شواهد ابن عقيل 1: 524، وقد أورده المؤلف كاملا فى هذا الجزء ص 259.

وأما بيان الوجه الثانى فهو أنا نعدل عن ظاهر الشرط فيما ولى الاتقاء؛ من ذكر الإيمان وعمل الصالحات، ونجعله ليس بشرط وإن كان معطوفا على شرط، لأن العدول عن الظاهر بالأدلّة القاهرة واجب لازم مستعمل فى أكثر القرآن؛ فكأنه تعالى لما أراد أن يبيّن وجوب الإيمان وعمل الصالحات وتأكّد لزومه، عطفه على ما هو واجب لازم من اتقاء المحارم لاشتراكهما فى الوجوب؛ وإن لم يشتركا فى كونهما شرطا فى نفى الجناح فيما يطعم؛ وهذا تفسّح وتوسّع فى البلاغة يحار فيها العقل استحسانا واستغرابا؛ وتعويل على أن المخاطب بذلك على إرساله والعدول عن تفصيله يضع كلّ شيء منه فى موضعه؛ وكم فى القرآن من هذه الغرائب فى الفصاحة والعجائب والحذوف والاختصارات التى لا يتجاسر بليغ ولا فصيح على الإقدام عليها، والمرور بشعبها خوفا من الزلل والخلل! وأما الجواب عن مشكل التكرار فالوجه فيه على الجملة أن نجعل الأحوال التى يقع فيها الاتقاء والإيمان وعمل الصالحات مختلفة بمضىّ واستقبال، فيزول التكرار، أو نجعل المأمور به من الاتقاء والإيمان وعمل الصالحات مشروطا مخصوصا، يتناول الأوّل غير متناول الثانى، والثانى غير متناول الأول؛ فيزول أيضا بذلك التكرار. وقد أوّل المفسرون على اختلافهم بكثير من الجملة التى أشرنا هاهنا إليها، وذكروا أن الشرط الأول يتعلّق بالزمان الماضى، والشرط الثانى متعلّق (¬1) بالدوام على ذلك والاستمرار على فعله، والثالث مختص باتقاء ظلم العباد. وذكر أبو عليّ الجبائىّ هذا بعينه، واستدلّ على أنّ الاتقاء الثالث يختصّ بظلم العباد بقوله تعالى: وَأَحْسَنُوا، وأن الإحسان إذا كان متعديا وجب أن يكون ما أمروا باتقائه من المعاصى أيضا متعديا؛ وهذا ممن اعتمده من المفسرين مزج؛ لاختلاف الأحوال باختلاف المأمور به؛ وما ينبغى أن يكون كذلك، بل الواجب أن نبطل التكرار. إما من جهة اختلاف الأحوال من غير أن نمزجها باختلاف غيرها؛ أو نعدل عن اختلاف الأحوال فنبطل التكرار من حيث اختلاف المأمور به فى عموم وخصوص. ¬

_ (¬1) حاشية ف (من نسخة): «يتعلق».

ولعل أبا عليّ وغيره إنما عدل فى الشرط الثالث عن ذكر الأحوال لمّا ظن أنّه لا يمكن فيه ما أمكن فى الأول والثانى. ونحن نبين أن الأمر بخلاف ما ظنه؛ وهو أنه لا يمتنع أن يحمل الشرط الأول على الماضى من الزمان، والثانى على الحال، والثالث على المنتظر والمستقبل. وليس لأحد أن يقول: لا واسطة عند المتكلّمين بين الماضى والمستقبل؛ لأنّ الفعل إما أن يكون معدوما فيكون مستقبلا، أو موجودا فيكون ماضيا؛ وإنما يجعل الأحوال ثلاثة النحويون، ولا يرتضى ذلك المتكلمون. والجواب عن هذا أنّ الصحيح أنه لا واسطة بين العدم والوجود على ما ذكر، غير أن الموجود فى أقرب الزمان لا يمتنع أن نسميه حالا، وبينه وبين الماضى الغابر السالف فرق؛ كما كان كذلك بينه وبين المنتظر. وأما بيان اختلاف المأمور؛ فأن يحمل الاتقاء الأوّل على اتقاء المعاصى العقلية التى تختصّ المكلّف ولا تتعداه، والإيمان الأول الإيمان بالله تعالى وبما أوجب الإيمان به، والإيمان الثانى الإيمان بقبح هذه المعاصى ووجوب تجنبها، والاتقاء الثالث الاتقاء لما يتعدّى من المعاصى من الظلم والإساءة. وليس ينبغى أن يفزع فى أن الاتقاء الثالث يختص بمظالم العباد إلى ما اعتمده أبو عليّ من قوله تعالى: وَأَحْسَنُوا من حيث كان الإحسان إذا كان متعديا فكذلك ما عطف عليه؛ لأن ذلك من ضعيف الاستدلال، لأن قول الله تعالى: وَأَحْسَنُوا ليس بصريح فى أن المراد به الإحسان المتعدّى؛ لأنه غير ممتنع أن يريد به فعل الحسن والمبالغة فيه، وإن اختص الفاعل ولم يتعدّه؛ ألا ترى أنهم يقولون لمن بالغ فى فعل الحسن وتناهى فيه وإن اختصه: أحسنت وأجملت! ثم إن سلّم أن المراد به الإحسان المتعدّى لم يمتنع أن يعطفه وهو متعدّ على فعل لا يتعدى؛ ألا ترى أنه لو صرّح بذلك فقال: اتقوا المعاصى كلّها والقبائح، وأحسنوا إلى غيركم لكان حسنا غير قبيح! وإنما ينبغى أن يفزع فى التخصيص إلى الفرار من التكرار، وحمله على ما يفيد، وذلك يغنى عما تكلّفه أبو عليّ.

فإن قيل: أىّ فائدة فى تخصيص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بنفى الجناح فيما يطعمونه بالشرط المذكور؟ ومن ليس بمؤمن يشاركهم فى هذا الحكم مع ثبوت الشرط! قلنا: تعليق الحكم بالصفة أو الاسم لا يدلّ على نفيه عمن عدا المسمى أو الموصوف؛ وقد دلّ العلماء على ذلك فى مواضع كثيرة؛ وليس بممتنع على المذهب الصحيح أن يعلّق الحكم باسم أو صفة، ويكون من عدا الموصوف أو المسمى مشاركا فى ذلك الحكم. وقد قيل: إن السبب فى نزول هذه الآية أنّه لما نزل تحريم الخمر قال المسلمون: كيف بإخواننا الذين تناولوا الخمر قبل نزول تحريمها، وماتوا وهى فى أجوافهم؟ وكيف بإخواننا الطائفين فى أطراف البلاد وهم لا يشعرون بهذا التحريم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية تطييبا لنفوسهم، وإعلاما لهم: أن من يطعم- ما لم يبيّن له تحريمه- لا جناح عليه. وقيل أيضا: إن الآية وردت فى قوم حرّموا على أنفسهم اللحوم، وسلكوا طريق الترهّب؛ كعثمان بن مظعون وغيره، فبيّن الله سبحانه أن الحلال لا جناح فى تناوله، وإنما يجب التجنّب للمحرّم، وهذه الأسباب لا تبقى معها مسألة عن سبب تخصيص المؤمنين بنفى الجناح. وكل هذا واضح.

مسألة

مسألة سئل رضى الله عنه عن قوله عز وجل فى قصة زكريا عليه السلام: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ؛ [آل عمران: 40]. فكأنه سأل أمرا يستحيل كونه، وقد علمنا لا محالة أن زكرياء يعلم أنّ الله تعالى لا يعجزه ما يريد، فما وجه الكلام؟ فأجاب عن ذلك وقال: إنّه غير ممتنع أن يكون زكرياء عليه السلام لم يسأل الذرية فى حال كبره وهرمه؛ بل قبل هذه الحال، فلما رزقه الله تعالى ولدا على الكبر، ومع كون امرأته عاقرا قال: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ من غير إنكار منه لقدرة الله تعالى على ذلك؛ بل ليرد من الجواب ما يزداد به بصيرة ويقينا. ويجوز أيضا أن يكون سأل الولد مع الكبر وعقم امرأته، ليفعل الله تعالى ذلك على سبيل الآية له، وخرق العادة من أجله؛ فلما رزقه الله تعالى الولد عجب من ذلك، وأنكره بعض من تضعف بصيرته من أمّته، فقال عليه السلام: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ ليرد من الجواب ما يزول به شكّ غيره؛ فكأنه سأل فى الحقيقة لغيره لا لنفسه؛ ويجرى ذلك مجرى سؤال موسى عليه السلام أن يريه الله تعالى نفسه لما شكّ قومه فى ذلك، فسأل لهم لا لنفسه.

مسألة

مسألة وسئل أيضا رضى الله تعالى عنه عن قوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ؛ [البقرة: 49]. فقال: أىّ شيء فى استحياء النساء من سوء العذاب؟ وإنما العذاب فى ذبح الأبناء! فقال: أمّا قتل الذكور واستبقاء الإناث فهو ضرب من العذاب والإضرار؛ لأنّ الرجال هم الذين يردعون النساء عما يهممن به من الشر، وهو واقع منهن فى الأكثر مع الرّدع؛ فإذا انفردن وقع الشرّ ولا مانع؛ وهذه مضرّة عظيمة. ووجه آخر وهو أن الراجع إلى قوله: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ هو قتل الأبناء دون استبقاء النساء؛ وإنما ذكر استحياء النساء لشرح كيفية الحال؛ لا لأنّ من جملة العذاب ذلك؛ كما يقول أحدنا: فلان عذبنى بأن أدخلني داره وعليه ثياب فلانية، وضربنى بالمقارع وفلان حاضر؛ وليس كلّ ما ذكره من جملة العذاب؛ وإنما العذاب هو الضرر دون غيره، وذكر الباقى على سبيل الشرح للحال. ووجه آخر، وهو أنه روى أنهم كانوا يقتلون الأبناء، ويدخلون أيديهم فى فروج النساء لاستخراج الأجنّة من بطون الحوامل؛ فقيل: يستحيون النّساء، اشتقاقا من لفظة الحياء وهو الفرج؛ وهذا عذاب ومثلة، وضرر شديد لا محالة.

مسألة

مسألة وسئل أيضا فقيل: أليس قد وعد الله تعالى المؤمنين فى عدّة مواضع من كتابه المجيد بالجنّة والخلود فى النعيم، فما معنى قول النبىّ عليه السلام: ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف: 9]. فقال: إنه لا يجوز أن يريد النبىّ عليه السلام بقوله: ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ الثواب أو العقاب ودخول الجنة أو النار؛ لأنه عليه السلام عالم بأنّ الجنّة مأواه، والثواب عاقبته، ولا يجوز أن يشكّ فى أنه ليس من أهل النار؛ وإن شك فى ذلك من حال غيره، والمراد بالآية: إنّى لا أدرى ما يفعل بى ولا بكم؛ من المنافع والمضارّ الدنيوية؛ كالصحة والمرض والغنى والفقر والخصب والجدب؛ وهذا المعنى صحيح واضح لا شبهة فيه. ويجوز أيضا أن يريد أننى لا أدرى ما يحدثه الله تعالى من العبادات، ويأمرنى به وإياكم من الشرعيات، وما ينسخ من الشرائع وما يقرّ منها ويستدام؛ لأن ذلك كلّه مغيّب عنه عليه السلام؛ وهذا يليق بقوله تعالى فى أول الآية: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ؛ وفى آخرها: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ.

مسألة

مسألة وسئل أيضا عن قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ؛ [يونس: 94]. كيف يكون النبىّ عليه السلام فى شك مما أوحى إليه؟ وكيف يسأل عن صحة ما أنزل إليه الذين يقرءون الكتاب من قبله وهم اليهود والنصارى المكذّبون له؟ فقال: إن قوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ظاهر الخطاب له عليه السلام، والمعنى لغيره؛ كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ؛ [الطلاق: 1] فكأنه قال: فإن كنت أيّها السامع للقرآن فى شكّ ممّا أنزلناه على نبينا؛ فاسأل الذين يقرءون الكتاب. وليس يمتنع عند من أنعم النظر أن يكون الخطاب متوجّها إلى النبىّ صلى الله عليه وآله، وليس إذا كان الشك لا يجوز عليه لم يحسن أن يقال له: إن شككت فافعل كذا، كما قال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ؛ [الزمر: 65]، ومعلوم أن الشرك لا يجوز عليه. ولا خلاف بين العلماء فى أنّه عليه السلام داخل فى ظاهر آيات الوعيد والوعد، وإن كان لا يجوز أن يقع منه ما يستحق به من العقاب. وإن قيل له: إن أذنبت عوقبت؛ فهكذا لا يمتنع أن يقال له: إن شككت فافعل كذا وكذا؛ وإن كان ممن لا يشك. ووجدت بعض المفسّرين يجعل (إن) هاهنا بمعنى «ما» التى للجحد، ويكون تقدير الكلام: ما كنت فى شك مما أنزلنا إليك، واستشهد على ذلك بقوله تعالى: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ؛ [إبراهيم: 11]، أى ما نحن، وقوله تعالى: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ؛ [فاطر: 23]؛ أى ما أنت إلا نذير، ولا شك ولا شبهة فى أن لفظة إِنْ

قد تكون بمعنى «ما» فى بعض المواضع؛ إلا أنه لا يليق بهذا الموضع أن تكون إِنْ بمعنى «ما»؛ لأنه لا يجوز أن يقول تعالى: ما أنت فى شك مما أنزلنا إليك؛ فاسأل الذين يقرءون الكتاب؛ لأن العالم لا حاجة به إلى المسألة؛ وإنما يحتاج أن يسأل الشاكّ. غير أنه يمكن نصرة هذا الجواب بأنه تعالى لو أمره بسؤال أهل الكتاب من غير أن ينفى شكّه لأوهم أمره بالسؤال أنه شاكّ فى صدقه، وصحة ما أنزل عليه، فقدّم كلاما يقتضي نفى الشك عنه فيما أنزل عليه، ليعلم أنّ أمره بالسؤال ليزول الشكّ عن غيره، لا عنه. فأما الذين أمر بمسألتهم فقد قيل إنهم المؤمنون من أهل الكتاب، الراجعون إلى الحق؛ ككعب الأحبار، ومن جرى مجراه ممن أسلم بعد اليهودية، لأن هؤلاء لا يصدقون عمّا شاهدوه فى كتبهم من صفات النبي عليه السلام والبشارة به؛ وإن كان غيرهم ممن أقام على الكفر والباطل لا يصدق عن ذلك. وقال قوم آخرون: إنّ المراد بالذين يقرءون الكتاب جماعة اليهود، ممن آمن وممن لم يؤمن؛ فإنهم يصدقون عما وجدوه فى كتبهم من البشارة بنبىّ موصوف، يدّعون أنه غيرك، وأنك إذا قابلت بتلك الصفات صفاتك علمت أنت وكلّ من أنصف أن المبشّر بنبوته هو أنت. وقال آخرون: ما أمره أن يسألهم عن البشارة به؛ لأنهم لا يصدقون عن ذلك؛ بل أمره عليه السلام أن يسألهم عما تقدم ذكره على هذه الآية بغير فصل من قوله تعالى: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ؛ [يونس: 93] ثم قال تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ؛ [يونس: 94]، أى فى شك مما تضمنته هذه الآية من النعمة على بنى إسرائيل؛ فما كانت اليهود تجحد ذلك، بل تقرّ به، وتفخر بمكانه. وهذا الوجه يروى عن الحسن البصرىّ. وكلّ ذلك واضح لمن تأمله.

مسألة

مسألة سئل رضى الله عنه فقيل: ما القول فيما يخبر به المنجّمون من وقوع حوادث، ويضيفون ذلك إلى تأثيرات النجوم؟ وما المانع من أن تؤثر الكواكب على حدّ تأثير الشمس الأدمة (¬1) فينا؟ وإن كان تأثير الكواكب مستحيلا فما المانع من أن تكون التأثيرات من فعل الله تعالى بمجرى العادة عند طلوع هذه الكواكب وانتقالها؟ فلينعم ببيان ذلك؛ فإن الأنفس إليه متشوقة. وكيف تقول: إن المنجمين حادسون (¬2)؛ مع أنه لا يفسد من أقوالهم إلا القليل؛ حتى إنهم يخبرون بالكسوف ووقته ومقداره فلا يكون إلا على ما أخبروا به؛ فأىّ فرق بين إخبارهم بحصول هذه التأثيرات فى هذا الجسم، وبين حصول تأثيرها فى أجسامنا؟ الجواب، اعلم أن المنجمين يذهبون إلى أن الكواكب تفعل فى الأرض ومن عليها أفعالا يسندونها إلى طباعها، وما فيهم أحد يذهب إلى أن الله تعالى أجرى العادة؛ بأن يفعل عند قرب بعضها من بعض، أو بعده أفعالا من غير أن يكون للكواكب أنفسها تأثير فى ذلك، ومن ادّعى هذا المذهب الآن منهم فهو قائل بخلاف ما ذهبت القدماء فى ذلك، ومتجمّل بهذا المذهب عند أهل الإسلام، ومتقرب إليهم بإظهاره. وليس هذا بقول لأحد ممن تقدم وكأن الّذي كان يجوز أن يكون صحيحا- وإن دلّ الدليل على فساده- لا يذهبون إليه؛ وإنما يذهبون إلى المحال الّذي لا يمكن صحته؛ وقد فرغ المتكلّمون من الكلام فى أنّ الكواكب لا يجوز أن تكون فينا فاعلة، وتكلمنا نحن أيضا فى مواضع على ذلك، وبيّنّا بطلان الطبائع التى يهذون بذكرها، وإضافة الأفعال إليها، وبيّنا أن الفاعل لا بدّ أن يكون حيّا قادرا. وقد علمنا أن الكواكب ليست بهذه الصفة، فكيف تفعل وما يصحّح الأفعال مفقود فيها! وقد سطر المتكلمون طرفا كثيرة فى أنها ليست بحية ولا قادرة، ¬

_ (¬1) حاشية ف من نسخة: «فى الأدمة». (¬2) حادسون: ظانون.

أكثرها معترض. وأشفّ (¬1) ما قيل فى ذلك أن الحياة معلوم أن الحرارة الشديدة، كحرارة النار تنفيها ولا تثبت معها. ومعلوم أنّ حرارة الشمس أشدّ وأقوى من حرارة النار بكثير؛ لأنّ الّذي يصل إلينا على بعد المسافة من حرارة الشمس بشعاعها يماثل أو يزيد على حرارة النار؛ وما كان بهذه الصفة من الحرارة يستحيل كونه حيّا. وأقوى من ذلك كلّه فى نفى كون الفلك وما فيه من شمس وقمر وكوكب أحياء السمع والإجماع؛ فإنه لا خلاف بين المسلمين فى ارتفاع الحياة عن الفلك وما يشتمل عليه من الكواكب، وأنها مسخّرة مدبّرة مصرّفة؛ وذلك معلوم من دين رسول الله صلى الله عليه وآله ضرورة؛ وإذا قطعنا على نفى الحياة والقدرة عن الكواكب، فكيف تكون فاعلة! وعلى أننا قد سلّمنا لهم استظهارا فى الحجة أنها قادرة؛ قلنا: إن الجسم وإن كان قادرا فإنه لا يجوز أن يفعل فى غيره إلّا على سبيل التوليد؛ ولا بدّ من وصلة بين الفاعل والمفعول فيه، والكواكب غير مماسّة لنا، ولا وصلة بيننا وبينها، فكيف تكون فاعلة فينا! فإن ادّعى أن الوصلة بيننا الهواء؛ فالهواء أوّلا لا يجوز أن يكون آلة فى الحركات الشديدة، وحمل الأثقال؛ ثم لو كان الهواء آلة تحرّكنا بها الكواكب لوجب أن نحسّ بذلك، ونعلم أنّ الهواء يحرّكنا ويصرّفنا؛ كما نعلم فى غيرنا من الأجسام إذا حركناه بآلة يوضع تحريكه لنا بها. على أنّ فى الحوادث الحادثة فينا ما لا تجوز أن يفعل بآلة، ولا يتولّد عن سبب، كالإرادات والاعتقادات وأشياء كثيرة؛ فكيف فعلت الكواكب ذلك فينا وهى لا يصحّ أن تكون مخترعة للأفعال؛ لأن الجسم لا يجوز أن يكون قادرا إلا بقدرة، والقدرة لا تجوز لأمر يرجع إلى نوعها أن تخترع بها الأفعال. فأما الأدمة فليس تؤثّرها الشمس على الحقيقة فى وجوهنا وأبداننا؛ وإنما الله تعالى هو المؤثر لها وفاعلها بتوسط حرارة الشمس؛ كما أنه تعالى هو المحرق على الحقيقة بحرارة النار، والهاشم لما يهشمه الحجر بثقله، وحرارة الشمس مسوّدة للأجسام من جهة معقولة مفهومة؛ كما أن النار تحرق الأجسام على وجه معقول، فأىّ تأثير للكواكب فينا يجرى هذا المجرى فى ¬

_ (¬1) فى حاشية ف: «أشفّ: أفضل».

تمييزه والعلم بصحته، فليشر إليه؛ فإن ذلك لا قدرة عليه. ومما يمكن أن يعتمد فى إبطال أن تكون الكواكب فاعلة فينا ومصرّفة لنا أن ذلك يقتضي سقوط الأمر والنهى والمدح والذمّ عنا، ونكون معذورين فى كلّ إساءة تقع منّا ونجيئها بأيدينا، وغير مشكورين على شيء من الإحسان والإفضال؛ وكلّ شيء نفسد به قول المجبرة؛ فهو مفسد لهذا المذهب. وأما الوجه الآخر وهو أن يكون الله تعالى أجرى العادة بأن يفعل أفعالا مخصوصة عند طلوع كوكب أو غروبه، أو اتصاله أو مفارقته فقد بيّنا أنّ ذلك ليس بمذهب للمنجّمين البتّة؛ وإنما يتجملون الآن بالتظاهر به، وأنه قد كان جائزا أن يجرى الله تعالى العادة بذلك؛ لكن لا طريق إلى العلم بأن ذلك قد وقع وثبت؛ ومن أين لنا بأن الله تعالى [أجرى] العادة بأن يكون زحل أو المريخ إذا كان فى درجة الطالع كان نحسا، وأن المشترى إذا كان كذلك كان سعدا؟ وأىّ سمع مقطوع به جاء بذلك؟ وأىّ نبىّ خبّر به واستفيد من جهته؟ فإن عوّلوا فى ذلك على التجربة بأنا جرّبنا ذلك ومن كان قبلنا فوجدناه على هذه الصفة؛ وإذا لم يكن موجبا وجب أن يكون معتادا. قلنا: ومن سلّم لكم صحة هذه التجربة وانتظامها واطرادها؟ وقد رأينا خطأكم فيها أكثر من صوابكم، وصدقكم أقلّ من كذبكم! فألّا نسبتم الصحة إذا اتفقت منكم إلى الانفاق الّذي يقع من المخمّن والمرجّم! فقد رأينا من يصيب من هؤلاء أكثر ممن يخطئ، وهو على غير أصل معتمد، ولا قاعدة صحيحة. فإذا قلتم: سبب خطأ المنجّم ذلك دخل عليه فى أخذ الطالع أو تسيير الكواكب. قلنا: ولم لا كانت إصابته سببها التخمين! وإنما كان يصح لكم هذا التأويل والتخريج لو كان على صحة أحكام النجوم دليل قاطع هو غير إصابة المنجّم؛ فأما إذا كان دليل صحة الأحكام الإصابة، فألّا كان دليل فسادها الخطأ! فما أحدهما فى المقابلة إلا كصاحبه. ومما أفحم به القائلون بصحة الأحكام، ولم يتحصل منهم عنه جواب أن قيل لهم فى شيء بعينه: خذوا

الطالع واحكموا؛ هل يؤخذ أو يترك؟ فإن حكموا إما بالأخذ أو الترك خولفوا؛ وفعل خلاف ما خبّروا به. وقد أعضلتهم هذه المسألة، واعتذروا عنها بأعذار ملفّقة لا يخفى على عاقل سمعها بعدها من الصواب. فقالوا فى هذه المسألة: يجب أن يكتب هذا المبتلى بها ما يريد أن يفعل، أو يخبر به غيره؛ فإنا نخرج ما قد عزم عليه من أحد الأمرين. وهذا التعليل منهم باطل؛ لأنه إذا كان النظر فى النجوم يدلّ على جميع الكائنات التى من جملتها ما يختاره أحدنا؛ من أخذ هذا الشيء أو تركه، فأىّ فرق بين أن يطوى ذلك فلا يخبر به ولا يكتبه؛ حتى يقول المنجم ما عنده، وبين أن يخبر به ويكتبه قبل ذلك! وإنما فزعوا إلى الكتابة وما يجرى مجراها حتى لا يخالف المنجّم فيما يذكره؛ ويحكم به من أخذ أو ترك. ولو كانت الأحكام صحيحة؛ وفيها دلالة على الكائنات لوجب أن يعرف المنجم ما اختاره من أحد الأمرين على كل حال. ولو نزلنا تحت حكمهم؛ وكتبنا ما نريد أن نفعله لما وجدنا إصابتهم فى ذلك إلا أقلّ من خطئهم، ولم يزيدوا فيه على ما يفعله المخمّن المرجّم من نظر فى طالع ولا غارب، ولا رجوع إلى أصل؛ وإلا فالبلوى بيننا وبينكم. وكان بعض الرؤساء بل الوزراء ممن كان فاضلا فى الأدب والكتابة، ومشغوفا بالنجوم، عاملا عليها قال لى يوما- وقد جرى حديث يتعلق بأحكام النجوم، ورأى من مخائلى التعجب ممن يتشاغل بذلك، ويفنى زمانه به-: أريد أن أسألك عن شيء فى نفسى، فقلت: سل عما بدا لك، قال: أريد أن تعرفنى: هل بلغ بك التكذيب بأحكام النجوم إلى ألّا تختار يوما لسفر، ولبس ثوب جديد، وتوجّه فى حاجة؟ فقلت: قد بلغت إلى ذلك والحمد لله وزيادة عليه، وما فى دارى تقويم، ولا أنظر فيه، وما رأيت مع ذلك إلا خيرا. ثم أقبلت عليه فقلت: ندع ما يدلّ على بطلان أحكام النجوم مما يحتاج إلى فكر دقيق، ورويّة طويلة، وهاهنا شيء قريب لا بخفى على أحد ممن علت طبقته فى الفهم، أو انخفضت؛ خبّرنى لو فرضنا جادّة مسلوكة، وطريقا يمشى فيه الناس ليلا ونهارا، وفى محجّته آبار متقاربة

وبين بعضها وبعض طريق يحتاج سالكه إلى تأمّل وتوقّف حتى يتخلص من السقوط فى بعض تلك الآبار؛ هل يجوز أن تكون سلامة من يمشى فى هذا الطريق من العميان كسلامة من يمشى من البصراء؛ وقد فرضنا أنه لا يخلو طرفة عين من المشاة فيه بصراء وعميان؟ وهل يجوز أن يكون عطب البصراء يقارب عطب العميان، وسلامة العميان مقاربة لسلامة البصراء؟ فقال: هذا مما لا يجوز، بل الواجب أن تكون سلامة البصراء أكثر من سلامة العميان؛ ولا يجوز فى مثل هذا التقارب. فقلت: إذا كان هذا محالا، فأحيلوا نظيره، وما لا فرق بينه وبينه، وأنتم تجيزون شبيه ما ذكرناه وعديله؛ لأن البصراء هم الذين يعرفون أحكام النجوم، ويميّزون سعدها من نحسها، ويتوقون بهذه المعرفة مضارّ الزمان ويتخطّونها، ويعتمدون منافعه ويقصدونها. ومثال العميان كلّ من لا يحسن تعلّم النجوم، ولا يلتفت إليه من الفهماء والفقهاء وأهل الديانات والعبادات، ثم سائر العوام والأعراب والأكراد؛ وهم أضعاف أضعاف من يراعى عدد النجوم. ومثال الطريق الّذي فيه الآبار الزمان الّذي يمضى عليه الخلق أجمعون. ومثال آباره مصائبه ونوائبه ومحنه. وقد كان يجب لو صحّ العلم بالنجوم وأحكامها أن تكون سلامة المنجمين أكثر، ومصائبهم أقل؛ لأنهم يتوقون المحن لعلمهم بها قبل كونها، وتكون محن كل من ذكرنا من الطبقات الكثيرة أوفر وأظهر؛ حتى تكون السلامة هى الطريقة الغريبة؛ وقد علمنا خلاف ذلك، وأن السلامة والمحن فى الجميع متقاربة غير متفاوتة. فقال: ربما اتفق مثل ذلك. فقلت له: فيجب أن نصدّق من خبّرنا فى ذلك الطريق المسلوك الّذي فرضناه بأن سلامة العميان كسلامة البصراء، ونقول: لعل ذلك اتّفق. وبعد فإن الاتفاق لا يستمر بل ينقطع؛ وهذا الّذي ذكرناه مستمر غير منقطع. فلم يكن عنده عذر صحيح.

ومما يفسد مذهب المنجمين، ويدل على ما لعلّه يتفق لهم من الإصابة على غير أصل، أنا قد شاهدنا جماعة من الزراقين (¬1) الذين لا يعرفون شيئا من علم النجوم، ولا نظروا قطّ فى شيء منه، يصيبون فيما يحكمون به إصابات مستطرفة؛ وقد كان المعروف بالشعرانىّ الّذي شاهدناه، وهو لا يحسن أن يأخذ الأصطرلاب للطالع، ولا نظر قطّ فى زيج، بل ولا تقويم؛ غير أنه ذكّى حاضر الجواب، فطن بالزّرق، معروف به، كثير الإصابة وبلوغ الغاية فيما يخرجه من من الأسرار. ولقد اجتمع يوما بين يدىّ جماعة كانوا عندى، وكلّنا قد اعتزمنا جهة نقصدها لبعض الأغراض؛ فسأله أحدنا عما نحن بصدده، فابتدأ من غير أخذ طالع، ولا نظر فى تقويم، فأخبرنا بالجهة التى أردنا قصدها، ثم عدل إلى كل واحد من الجماعة، فأخبره عن كثير من تفصيل أمره وأغراضه، حتى قال لأحدهم: وأنت من بين الجماعة قد وعدك واعد بشيء يوصله إليك، وقلبك به متعلّق؛ وفى كمك شيء مما يدلّ على هذا؛ وقد انقضت حاجتك وانتجزت، وجذب يده (¬2) إلى كمه، واستخرج ما فيه، فاستحيا ذلك الرجل، ووجم ومنع من الوقوف على ما فى كمه بجهده، فلم ينفعه ذلك، وأعان الحاضرون على إخراج ما فى كمه لما أحسوا بالإصابة من الزرّاق، فأخرج من كمه رقاع كثيرة، فى جملتها صكّ على دار الضرب بصلة من خليفة الوزراء فى ذلك الوقت؛ فعجبنا مما اتفق من إصابته مع بعده من صناعة النجوم. وكان لنا صديق يقول أبدا: من أدلّ دليل على بطلان أحكام النجوم إصابة الشعرانىّ. وجرى يوما مع من يتعاطى علم النجوم هذا الحديث فقال: عند المنجمين أن السّبب فى إصابة من لا يعلم شيئا من علم النجوم أنّ مولده وما يتولّاه وتقتضيه كواكبه اقتضى له ذلك. فقلت له: لعلّ بطليموس، وكل عالم من علماء المنجمين ومصيب فى أحكامه عليها إنما سبب إصابته مولده، وما تقتضيه كواكبه من غير علم ولا فهم؛ فلا يجب أن يستدل بالإصابة على ¬

_ (¬1) الزرق: تعليم الشعبذة والحيل (دوزى 1: 587). (¬2) ط «ضرب».

العلم إذا كانت تقع من جاهل؛ ويكون سببها المولد؛ وإذا كانت الإصابة بالمواليد فالنظر فى علم النجوم عبث ولعب لا يحتاج إليه؛ لأن المولد إن اقتضى الإصابة أو الخطأ فالتعلّم لا ينفع، وتركه لا يضرّ؛ وهذه علة تسرى إلى كل صنعة حتى يلزم أن يكون كل شاعر مفلق، وصانع حاذق، وناسج للديباج، ومدبّق لا علم له بتلك الصناعة؛ وإنما اتفقت الصنعة بغير علم لما تقتضيه كواكب مولده، وما يلزم على هذا من الجهالات لا يحصى. واعلم أن التعب بعلم مراكز الكواكب وأبعادها وأشكالها وتسييراتها متى لم تكن ثمرته العلم بالأحكام، والاطلاع على الحوادث قبل كونها لا معنى له ولا غرض فيه؛ لأنه لا فائدة فى أن يعلم ذلك كلّه، وتختص نفس العلم به، وما يجرى الاطلاع على ذلك إذا لم تتعد المعرفة إلى العلم بالأحكام إلا مجرى العالم بعدد الحصى وكيل النوى، ومعرفة أطوار الجبال وأوزانها. وكما أن العناء فى تعرّف ذلك عبث وسفه لا يجدى نفعا، فكذلك العلم بشكل الفلك وتسييرات كواكبه وأبعادها، والمعرفة بزمان قطع كل كوكب للفلك وتفاصيلها فيه، وما شقى (¬1) القوم بهذا الشأن وأفنوا أعمارهم إلّا لتقديرهم أنه يفضى إلى معرفة الأحكام؛ فلا تغترّ بقول من يقول منهم: إنا ننظر فى ذلك لشرف نفوسنا بعلم الهيئة ولطيف ما فيها من الأعاجيب؛ فإن ذلك تجمّل منهم، وتقرّب إلى أهل الإسلام، ولولا أن غرضهم معرفة الأحكام لما تعنّوا بشيء من ذلك كلّه، ولا كانت فيه فائدة، ولا منه عائدة. ومن أدلّ الدليل على بطلان أحكام النجوم أنّا قد علمنا أنّ من جملة معجزات الأنبياء عليهم السلام الإخبار عن الغيوب، وعدّ ذلك خارقا للعادات؛ كإحياء الميت وإبراء الأكمه والأبرص؛ ولو كان العلم بما يحدث طريقا نجوميا، لم يكن ما ذكرناه معجزا ولا خارقا للعادة. وكيف يشتبه على مسلم بطلان أحكام النجوم، وقد أجمع المسلمون قديما وحديثا على تكذيب المنجمين، والشهادة بفساد مذاهبهم وبطلان أحكامهم! ومعلوم من دين الرسول عليه السلام ضرورة التكذيب بما يدّعيه المنجمون، والإزراء عليهم؛ والتعجيز لهم؛ وفى الروايات عنه عليه السلام من ذلك ما لا يحصى كثرة؛ وكذلك عن علماء أهل بيته عليهم السلام وخيار ¬

_ (¬1) من نسخة بحاشيتى ف، ط: «سعى».

أصحابه فما زالوا يبرءون من مذاهب المنجمين، ويعدّونها ضلالا ومحالا، وما اشتهر هذه الشهرة فى دين الإسلام كيف يغتر بخلافه منتسب إلى الملة، ومصلّ إلى القبلة! فأما إصابتهم فى الإخبار عن الكسوفات وما مضى فى أثناء المسألة من طلب الفرق بين ذلك وبين سائر ما يخبرون به من تأثيرات الكواكب فى أجسامنا، فالفرق بين الأمرين أنّ الكسوفات واقترانات الكواكب وانفصالها طريقه الحساب وتسيير الكواكب؛ وله أصول صحيحة، وقواعد سديدة؛ وليس كذلك ما يدّعونه من تأثيرات الكواكب فى الخير والشر والنفع والضّر؛ ولو لم يكن فى الفرق بين الأمرين إلا الإصابة الدائمة المتصلة فى الكسوفات وما يجرى مجراها، ولا يكاد يبين فيها خطأ البتة، وأن الخطأ المعهود الدائم هو فى الأحكام الباقية؛ حتى إن الصواب هو العزيز فيها، وما يتفق لعلّه فيها من الإصابة قد يتفق من المخمّن أكثر منه. فحمل أحد الأمرين على الآخر بهت وقلة دين.

مسألة فى المنامات

مسألة فى المنامات ما القول فى المنامات؟ أصحيحة هى أم باطلة؟ ومن فعل من هى؟ ومن أىّ جنس هى؟ وما وجه صحتها فى الأكثر؟ وما وجه الإنزال عند رؤية المباشرة فى المنام؟ وإن كان فيها صحيح وباطل، فما السبيل إلى تمييز أحدهما من الآخر؟ الجواب؛ اعلم أنّ النائم غير كامل العقل؛ لأن النوم ضرب من السهو، والسهو ينفى العلوم، ولهذا يعتقد النائم الاعتقادات الباطلة لنقصان عقله، وفقد علومه. وجميع المنامات إنما هى اعتقادات يبتدئ بها النائم فى نفسه، ولا يجوز أن تكون من فعل غيره فيه؛ لأنّ من عداه من المحدثين- كانوا بشرا أو ملائكة أو جنّا- أجسام، والجسم لا يقدر أن يفعل فى غيره اعتقادا ابتداء؛ بل ولا شيئا من الأجناس على هذا الوجه؛ وإنما يفعل ذلك فى نفسه على سبيل الابتداء. وإنما قلنا: إنه لا يفعل فى غيره جنس الاعتقادات متولّدا لأنّ الّذي يعدّى الفعل من محلّ القدرة إلى غيرها من الأسباب إنما هو الاعتمادات، وليس فى أجناس الاعتمادات ما يولّد الاعتقادات؛ ولهذا لو اعتمد أحدنا على قلب غيره الدهر الطويل، ما تولد فيه شيء من الاعتقادات؛ وقد بيّن ذلك وشرح فى مواضع كثيرة، والقديم تعالى هو القادر على أن يفعل فى قلوبنا ابتداء من غير سبب أجناس الاعتقادات. ولا يجوز أن يفعل فى قلب النائم اعتقادا؛ [لأن أكثر اعتقادات النائم] (¬1) جهل، وتتناول الشيء على خلاف ما هو به؛ لأنه يعتقد أنه يرى ويمشى، وأنه راكب، وعلى صفات كثيرة؛ وكلّ ذلك على خلاف ما هو به؛ وهو تعالى لا يفعل الجهل؛ فلم يبق إلا أن الاعتقادات كلّها من جهة النائم. وقد ذكر فى المقالات أن المعروف بصالح قبة كان يذهب إلى أنّ ما يراه النائم فى منامه على الحقيقة؛ وهذا جهل منه أيضا؛ هو جهل السوفسطائية؛ لأن النائم يرى أن رأسه مقطوع ¬

_ (¬1) ط: «لأن أكثر الاعتقادات للنائم».

وأنه قد مات، وأنه قد صعد إلى السماء؛ ونحن نعلم ضرورة خلاف ذلك كله؛ وإذا جاز عند صالح هذا أن يعتقد اليقظان فى السراب أنه الماء، وفى المردى (¬1) إذا كان فى الماء أنه مكسور؛ وهو على الحقيقة صحيح لضرب من الشبهة واللّبس؛ فألّا جاز ذلك فى المنام وهو من الكمال أبعد، وإلى النقص أقرب! وينبغى أن يقسم ما يتخيل النائم أنه يراه إلى أقسام ثلاثة: منها ما يكون من غير سبب يقتضيه، ولا داع يدعو إليه اعتقادا مبتدأ. ومنها ما يكون من وسواس الشيطان، يفعل فى داخل سمعه كلاما خفيا يتضمن أشياء مخصوصة؛ فيعتقد النائم إذا سمع ذلك الكلام أنه يراه؛ فقد نجد كثيرا من النّيّام يسمعون حديث من تحدّث بالقرب منهم، فيعتقدون أنهم يرون ذلك الحديث فى منامهم. ومنها ما يكون سببه، والداعى إليه خاطرا يفعله الله تعالى، أو يأمر بعض الملائكة بفعله. ومعنى هذا الخاطر أيضا أن يكون كلاما يفعل فى داخل السمع، فيعتقد النائم أيضا أنه ما يتضمّن ذلك الكلام. والمنامات الداعية إلى الخير والصلاح فى الدين يجب أن تكون إلى هذا الوجه مصروفة؛ كما أن ما يقتضي الشر منها الأولى أن تكون إلى وسواس الشيطان مصروفة. وقد يجوز على هذا فيما يراه النائم فى منامه ثم يصحّ ذلك حتى يراه فى يقظته على حدّ ما يراه فى منامه، وفى كل منام يصحّ تأويله أن يكون سبب صحته أنّ الله تعالى يفعل كلاما فى سمعه لضرب من المصلحة بأنّ شيئا يكون. وقد كان على بعض الصفات، فيعتقد النائم أن الّذي يسمعه هو يراه؛ فإذا صحّ تأويله على ما يراه؛ فما ذكرناه إن لم يكن مما يجوز أن تتفق فيه الصحة اتفاقا؛ فإن فى المنامات ما يجوز أن يصح بالاتفاق، وما يضيق فيه مجال نسبته إلى الاتفاق؛ فهذا الّذي ذكرناه يمكن أن يكون وجها فيه. فإن قيل: أليس قد قال أبو عليّ الجبائىّ فى بعض كلامه فى المنامات: إن الطبائع لا تجوز أن تكون مؤثّرة فيها؛ لأن الطبائع لا تجوز على المذاهب الصحيحة أن تؤثر فى شيء، وأنه غير ممتنع مع ذلك أن يكون بعض المآكل يكثر عندها المنامات بالعادة؛ كما أن فيها ما يكثر عنده بالعادة تخييل الإنسان- وهو مستيقظ- ما لا أصل له. ¬

_ (¬1) المردى: خشبة يدفع بها الملاح السفينة «المجداف».

قلنا: قد قال ذلك أبو عليّ- وهو خطأ- لأن تأثيرات المآكل بمجرى العادة على المذاهب الصحيحة، إذا لم تكن مضافة إلى الطبائع؛ فهو من فعل الله تعالى؛ فكيف نضيف التخيّل الباطل والاعتقاد الفاسد إلى فعل الله تعالى! فأما المستيقظ الّذي استشهد به فالكلام فيه والكلام فى النائم واحد، ولا يجوز أن نضيف التخيّل الباطل إلى فعل الله تعالى فى نائم ولا يقظان؛ فأما ما يتخيّل من الفاسد وهو غير نائم؛ فلا بدّ من أن يكون ناقص العقل فى الحال، وفاقدا للتمييز بسهو؛ وما يجرى مجراه، فيبتدئ اعتقادا لا أصل له كما قلنا فى النائم. فإن قيل: فما قولكم فى منامات الأنبياء عليهم السلام؟ وما السبب فى صحتها؟ حتى عدّ ما يرونه فى المنام، مضاهيا لما يسمعونه من الوحى! قلنا: الأخبار الواردة بهذا الجنس غير مقطوع على صحتها؛ ولا هى ممّا توجب العلم؛ وقد يمكن أن يكون الله تعالى أعلم النبىّ بوحى يسمعه من الملك على الوجه الموجب للعلم: إنى سأريك فى منامك فى وقت كذا ما يجب أن تعمل عليه، فيقطع على صحته من هذا الوجه؛ لا بمجرد رؤيته له فى المنام؛ وعلى هذا الوجه يحمل منام إبراهيم عليه السلام فى ذبح ابنه؛ ولولا ما أشرنا إليه: كيف كان يقطع إبراهيم عليه السلام بأنه متعبّد بذبح ولده! فإن قيل: فما تأويل ما يروى عنه عليه السلام من قوله: «من رآنى فقد رآنى، فإن الشيطان لا يتخيل بى»، وقد علمنا أن المحق والمبطل والمؤمن والكافر قد يرون النبىّ عليه السلام فى النوم، ويخبر كلّ واحد منهم عنه بضدّ ما يخبر به الآخر؛ فكيف يكون رائيا له فى الحقيقة مع هذا! . قلنا: هذا خبر واحد ضعيف من أضعف أخبار الآحاد، ولا معوّل على مثل ذلك. على أنه يمكن مع تسليم صحته أن يكون المراد به: من رآنى فى اليقظة فقد رآنى على الحقيقة؛ لأن الشيطان لا يتمثل بى لليقظان؛ فقد قيل: إن الشياطين ربما تمثلت بصورة البشر؛ وهذا التأويل أشبه بظاهر ألفاظ الخبر؛ لأنه قال: «من رآنى فقد رآنى»؛ فأثبت غيره رائيا له، ونفسه مرئيّة، وفى النوم لا رائى فى الحقيقة ولا مرئىّ؛ وإنما ذلك فى اليقظة. ولو حملناه على

النوم لكان تقدير الكلام: من اعتقد أنه يرانى فى منامه وإن كان غير راء لى على الحقيقة فهو فى الحكم كأنه قد رآنى؛ وهذا عدول عن ظاهر لفظ الخبر، وتبديل لصيغته؛ وهذا الّذي رتبناه فى المنامات وقسّمناه أسدّ تحقيقا من كلّ شيء قيل فى أسباب المنامات، وما سطر فى ذلك معروف غير محصّل ولا محقق. فأما ما يهذى به الفلاسفة فى هذا الباب فهو ممّا يضحك الثكلى؛ لأنهم ينسبون ما صحّ من المنامات لما أعيتهم الحيل فى ذكر سببه إلى أن النّفس اطّلعت على عالمها، فأشرفت على ما يكون. وهذا الّذي يذهبون إليه فى حقيقة النفس غير مفهوم ولا مضبوط؛ فكيف إذا أضيف إليه الاطلاع على عالمها؟ وما هذا الاطلاع؟ وإلى أى شيء يشيرون بعالم النفس؟ ولم يجب أن تعرف الكائنات عند هذا الاطلاع؟ وكل هذا زخرفة، ومخرقة؛ وتهاويل لا يتحصل منها شيء. وقول صالح قبة- مع أنه تجاهل محض- أقرب إلى أن يكون مفهوما من قول الفلاسفة؛ لأن صالحا ادّعى أن النائم يرى على الحقيقة ما ليس يراه، ولم يشر إلى أمر غير معقول ولا مفهوم؛ بل ادّعى ما ليس بصحيح وإن كان مفهوما؛ وهؤلاء عوّلوا على ما لا يفهم مع الاجتهاد، ولا يعقل مع قوة التأمل والتدبّر؛ فالفرق بينهما واضح. وأمّا سبب الإنزال فيجب أن يبنى على تحقيق سبب الإنزال فى اليقظة مع الجماع، ليس هو ما يهذى به أصحاب الطبائع؛ لأنا قد بينا فى غير موضع أن قول أصحاب الطبع لا أصل له، وأن الإحالة فيه على سراب لا يتحصّل. وأما سبب الماء فإن الله تعالى أجرى العادة بإخراج الماء من ظهر الرجل عند هذه الحركة المخصوصة؛ وليس يمتنع أن يجرى الله العادة؛ بأن يخرج هذا الماء من الظهر عند اعتقاد النائم أنه يجامع؛ وإن كان هذا الاعتقاد باطلا.

مسألة

مسألة سئل رضى الله عنه عن الخبر المنسوب إلى الصادق عليه السلام من أنه قال: «لقد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بين سلمان وأبى ذرّ، ولو اطّلع أبو ذرّ على ما فى قلب سلمان لقتله». وكيف يجوز أن يؤاخى النبىّ عليه السلام بين رجلين، يستحلّ أحدهما إذا اطّلع على ما فى قلب الآخر دمه! وما القول فيمن تأوّل هذا القول وهو «قتله» على أن الهاء راجعة على ما فى قلبه، وأراد: لقتله علما؟ وهل ذلك تأويل جائز أم لا؟ وما القول أيضا فيمن تأوله على غير هذا الوجه فقال: إنّ معنى قوله: «لقتله»؛ أى لكدّ فكره وخاطره كدّا يجهده، وأنه عبّر بالقتل هاهنا على سبيل المبالغة فى تعبيره عن شدة المبالغة والمشقة؛ كما يقول القائل: قتلنى انتظار فلان، ومتّ إلى أن رأيتك، وإلى أن تخلّصت من الشدة التى كنت فيها عدة دفعات؛ وهو يريد الإخبار عن شدة الكلفة والمشقة والمبالغة فى وصفها. الجواب، وبالله التوفيق؛ إنّ هذا الخبر إذا كان من أخبار الآحاد التى لا توجب علما ولا تثلج صدرا، وكان له ظاهر ينافى المعلوم المقطوع به تأوّلنا ظاهره على ما يطابق الحق ويوافقه إن كان ذلك سهلا، وإلا فالواجب اطراحه وإبطاله. وإذا كان من المعلوم الّذي لا يحيل سلامة سريرة كل واحد من سلمان وأبى ذرّ، ونقاء صدر كل واحد منهما لصاحبه، وأنهما ما كانا من المدغلين فى الدين، ولا المنافقين فلا يجوز مع هذا المعلوم أن يعتقد أنّ الرسول عليه السلام يشهد بأن كل واحد منهما لو اطلع على ما فى قلب صاحبه لقتله على سبيل الاستحلال لدمه، ويعلم أنه إن كان قال ذاك فله تأويل غير هذا الظاهر الّذي لا يليق بهما. ومن أجود ما قيل فى تأويله أن الهاء فى قوله: «لقتله» راجعة إلى المطّلع لا إلى المطّلع عليه؛ كأنه أراد: أنه إذا اطّلع على ما فى قلبه، وعلم موافقة باطنه لظاهره، وشدة إخلاصه له اشتد ضنّه ومحبته له، وتمسّكه بمودته ونصرته، فقتله ذلك الضنّ والودّ، بمعنى أنه كاد يقتله، . كما يقولون: فلان يهوى غيره، وتشتد محبته له حتى إنه قد قتله حبه وأتلف نفسه، وما جرى

مجرى هذا من الألفاظ وتكون فائدة هذا الخبر حسن الثناء من النبىّ عليه السلام على الرجلين، وأنه آخى بينهما وباطنهما كظاهرهما، وسرّهما فى النقاء والصفاء كعلانيتهما؛ حتى لو أنّ أحدهما اطّلع على ما فى قلب الآخر لأعجب به، وكاد يقتله محبة له، وضنّا به؛ وهذا أشبه بمنزلة الرجلين فى نفوسهما وعند النبي عليه السلام، وأليق بأن يكون مدحا وتقريظا؛ وذلك الوجه الآخر يقتضي غاية الذم ونهاية الوصف بالنفاق، وسوء الدخيلة لأن من يظهر جميلا- ولو اطّلع على باطنه لاستحلّ دمه- هو عين المنافق المداهن. فأما تأويل هذه اللفظة وحملها على العلم فغير مرضىّ، لأن المطلع على ما فى قلب غيره لا يكون إلا عالما بما اطّلع عليه. وأىّ معنى للفظة «قتله» فى هذا الموضع! وهل ذلك إلا تكرير؛ ومما لا فائدة فيه! فأما حمله على أنه كدّ خاطره، وقسّم فكره فكاد يقتله فممّا المسألة عنه قائمة. ولم يكون مثل كل واحد من هذين الرجلين متى اطّلع على قلب صاحبه كدّ خاطره وأتعب قلبه، حتى كاد يقتله، لولا أنه يطّلع على سوء ومكر! وهذا هو النفاق الّذي ننزّه الرجلين عنه؛ ولا يليق بهما، ولا بالنبى عليه السلام أن يصفهما به.

مسألة

مسألة الإجباء فى اللغة العربية هو أن يباع الزرع قبل أن يبدو صلاحه؛ يقال أجبى الرجل يجبى إجباء إذا فعل ذلك، فمعنى ما روى عنه عليه السلام: «من أجبى فقد أربى» أنّ من باع الزرع قبل أن يبدو صلاحه- وقد نهى عن ذلك وحظر عليه- يجرى مجرى من أربى؛ لأنه فاعل لمعصية محظورة عليه؛ وإن لم يكن بيع ما لم يبد صلاحه ربا فى الحقيقة ولا معناه؛ غير أنه جار مجراه فى الحظر والمعصية، وجار مجرى قول القائل: من زنى فقد سرق؛ أى هو عاص مخالف لله تعالى؛ كما أن ذاك بهذه الحال.

مسألة

مسألة ما ورد فى القرآن من معاتبات الرسول عليه السلام مع عصمته وطهارته، وكونه الحجة على الخلق أجمعين. الجواب، أنه إذا ثبت بالدليل عصمة الأنبياء عليهم السلام فكلّ ما ورد فى القرآن مما له ظاهر ينافى العصمة، ويقتضي وقوع الخطأ منهم؛ فلا بدّ من صرف الكلام عن ظاهره، وحمله على ما يليق بأدلة العقول؛ لأن الكلام يدخله الحقيقة والمجاز، ويعدل المتكلم به عن ظاهره. وأدلة العقول لا يصح فيها ذلك، ألا ترى أن القرآن قد ورد بما لا يجوز على الله تعالى من الحركة والانتقال، كقوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]، وقوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ؛ [البقرة: 210]، ولا بدّ مع وضوح الأدلة على أن الله تعالى ليس بجسم، واستحالة الانتقال عليه، الّذي لا يجوز إلا على الأجسام من تأوّل هذه الظواهر والعدول عما يقتضيه صريح ألفاظها؛ قرب التأويل أو بعد. ولو جهلنا العلم بالتأويل جملة لم يضرّ ذلك مع التمسك بالأدلة؛ وكان غاية ما فيه ألّا نعلم قصد المتكلم بما أطلقه من كلامه؛ ونعلم إذا كان حكيما أنّ له غرضا صحيحا. على أن ظواهر الآيات التى خوطب بها النبىّ عليه السلام مما ظاهره كالعتاب؛ منها المقصود به أمته، والخطاب متوجّه إليه؛ ولهذا روى عن ابن عباس أنه قال: نزل القرآن بإياك أعنى واسمعى يا جارة. ويشهد بذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: 1]؛ فخاطب النبىّ عليه السلام، والمراد بذلك جميع الأمة. ومنها ما يظن أنه عتاب وليس كذلك؛ بل هو تعليم وتأديب؛ ولا محالة أن تأديب النبىّ عليه السلام كان صادرا عن الله تعالى. والمواعظ له ترادفت فى كل وقت؛ والشروع فى ذكر الآيات والتنبيه على المراد بها يطول؛

غير أن جملة الكلام ما ذكرناه؛ ونذكر بعض ذلك لنبيّن أنّ الكلام فى الجميع على هذا المنهاج. فمن الآيات قوله تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ؛ [الأحزاب: 37]. وكقوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ؛ [الأنفال: 67]؛ وكقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ؛ [التحريم: 1]. وقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ؛ [التوبة: 43]؛ إلى مثال هذه الآى. أما قوله تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ فالقصة فيه مشهورة؛ وهى أنّ العرب كانت تحرّم على نفوسهم نكاح زوجة من استضافوه إلى نفوسهم بالبنوّة وادّعوه؛ كما يحرّمون أزواج الأبناء فى الحقيقة؛ فلما أراد الله تعالى نسخ ذلك لما علم فيه من المصلحة، أعلم نبيّه قبل طلاق زيد بن حارثة- الّذي كان النبىّ عليه السلام تبناه- زينب بنت جحش زوجته، وأمره بتزويجها إذا فارقها؛ فلما خاصم زيد زوجته عازما على طلاقها، وعظه النبىّ عليه السلام، وكفّه عن ذلك إشفاقا من شكوته عنه؛ مع ما عزم عليه من نكاحها أن يرجف عليه المنافقون؛ ويضيفوا إليه ما قد نزّهه الله تعالى منه عند إخفاء عزمه على تزويجها بعد فراق زيد لها؛ لينته إلى أمر الله تعالى فى ذلك؛ يشهد بصحة ما ذكرناه قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً [الأحزاب: 37]. فإن قيل: فالعتاب حاصل؛ لأنه كان ينبغى أن يظهر ما أضمره، ويخشى الله ولا يخشى الناس. الجواب عن ذلك أنّ إخبار الله تعالى أنه أخفى ما الله مبديه هو خبر محض؛ لا يتعلّق به ذم. وقوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ، فالشبهة به أيضا ضعيفة؛

لأنه خبّر أنه خشى الناس، والله أحقّ بالخشية، ولم يخبر أنه لم يفعل الأحقّ وعدل إلى الأدون؛ فمن أين حصول العتاب مع الّذي بيّنّاه! على أن غاية الاقتراح فى هذا أنّه عليه السلام فعل ما غيره أولى منه؛ وليس يكون بترك الأولى عاصيا؛ وإنما يكون تاركا للأفضل. والوجه فى تركه العذر الّذي بينا. وأما قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ فالعتاب فى الحقيقة متوجّه إلى سواه؛ لأنّ الله تعالى قد صرّح بذلك فى تمام الآية بقوله: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، وقوله: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 68]. والقصة فى هذه الآية أيضا مشهورة؛ وإنما أضاف الأسرى إلى نبيه عليه السلام بقوله: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى، وإن كان المراد بالخطاب من أسر؛ لأنهم أسروهم، ليكونوا فى يده عليه السلام؛ فهم فى الحقيقة أسراؤه ومضافون إليه؛ وإن لم يأمره بأسرهم. فأما قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ إذا تؤمّل فى الحقيقة لم يكن فيه عتاب؛ وإنما هو توجّع له عليه السلام؛ يدلّ على ذلك أن تحريم الرجل زوجته أو طلاقه إياها، أو اعتزاله بعض إمائه ليس بقبيح؛ بل هو مباح، وما هو بهذه الصفة لا يستحق الفاعل له عتابا؛ فلما فعل النبىّ عليه السلام ذلك لمرضاة بعض أزواجه، وأدخل المشقة على نفسه بفعله قال الله تعالى له: لم فعلت ذاك؟ وألّا أمسكتها على ما كنت عليه؟ ولم تبتغى مرضاة أزواجك بإدخال المشقة على نفسك؟ هذا هو الظاهر؛ وإذا نزل على اقتراح الخصم فى هذه الآية كان النبىّ عليه السلام قد عدل عن الأولى؛ فكان الإمساك وترك التحريم أفضل، وله أن يحرّم. ويجرى قوله تعالى له ما قال مجرى قول الواحد منّا لغيره: لم تركت صلاة الليل؟ ولم

تترك صيام ثلاثة أيام فى كل شهر؟ وإن كان بترك ذلك لم يفعل قبيحا؛ بل أخلّ بمندوب إليه، وما غيره أولى. فأما قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فليس يقتضي معصية؛ وذاك أن المقصد فى الغالب بمثل هذا الخطاب التعظيم للمخاطب واستيضاح ما عنده فيما فعله؛ ألا ترى أن الواحد منّا يقول لغيره: لم كان كذا وكذا، رحمك الله وغفر لك! وهو لا يقصد إلّا الملاطفة له، وحسن المحاورة؛ ولا يقصد الاستصفاح له عن زلة؛ وإنما الغرض الإجمال فى الخطاب. وقد صار ذلك عرفا بين الناس؛ والمقصد به التوقير والإجلال. فأمّا قوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فليس يجب حمله على العتاب؛ لأن هذه اللفظة ليست موضوعة لذلك خاصة؛ بل قد تطلق ويراد بها الاستفهام، وتارة يراد بها التقرير، وتارة العتاب؛ وهى محتملة لجميع المذكور فلم نحملها فى حق النبىّ عليه السلام على العتاب دون بقية الأقسام! وغاية ما فى ذلك حمله على ترك الأولى حسب ما تقدم فى الآيات. واستقصاء ذلك وذكر ما فى الآيات يطول؛ ويكفى فى التنبيه على الآى الباقية ما ذكرناه.

مسألة

مسألة رسمت الحضرة العالية الوزيرية العميدية- حرس الله سلطانها- ذكر ما عندى فى تأويل قوله تعالى فى سورة التغابن: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ؛ [التغابن: 9]. ولفظة التّغابن هاهنا مشتقة من الغبن؛ الّذي يكون فى البيع والتجارة وما أشبه ذلك، وهو النقصان والخسران؛ لأنّ المغبون هو الّذي زاد غابنه عليه ورجح؛ ولما كان يوم القيامة يبين (¬1) فيه مستحق الثواب ودخول الجنة والتعظيم فيها من مستحق العقاب ودخول النار صار مستحقّ (¬2) الثواب ودخول الجنان كأنه غابن لمستحق العقاب ودخول النار؛ لأنهما جميعا عرّضا بالتكليف لاستحقاق الثواب، ففعل أحدهما ما استحق به ذلك، وقصّر الآخر عن هذه الغاية؛ وعدل إلى فعل ما استحق به العقاب؛ وجريا مجرى متبايعين؛ فاز أحدهما بما هو أجدى عليه وأنفع وأصلح؛ واختص الآخر بما هو ضارّ هو له ووبال عليه؛ فيسمى الفائز بالخير والصلاح غابنا والآخر مغبونا. وتسمية يوم القيامة بأنه يوم التغابن من أفصح كلام وأخصره وأبلغه. والله الموفق للصواب. *** هذا آخر ما وجد مما اختاره رضى الله عنه لإضافته إلى كتابه المعروف بغرر الفوائد ودرر القلائد. والحمد لله رب العالمين، والصلاة على خير خلقه محمد وآله الطاهرين. ¬

_ (¬1) حاشية ف (من نسخة): «يغبن». (¬2) حاشية الأصل (من نسخة): «من يستحق».

مراجع الشرح والتحقيق

• أخبار النحويين للسيرافى - المطبعة الكاثوليكية ببيروت 1936 م • أدب الكاتب لابن قتيبة - المطبعة الرحمانية 1355 • الاستيعاب لابن عبد البر - حيدر أباد 1318 • أسد الغابة لابن الأثير - الطبعة الوهبية 1286 • أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجانىّ - الترقى بمصر 1320 • الاشتقاق لابن دريد، تحقيق وستنفلد - جوتنجن 1853 م • الإصابة لابن حجر - السعادة 1323 • إصلاح المنطق لابن السكيت بتحقيق أحمد شاكر وعبد السلام هارون - المعارف 1370 • الأصمعيات للأصمعى - ليبسك 1902 م • الأضداد لابن الأنبارى - الحسينية 1325 • الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى - التقدم 1323، ودار الكتب المصرية • الاقتضاب لابن السيد البطليوسى - بيروت 1901 م • أمالى الزجاجى - السعادة 1324 • أمالى القالى - دار الكتب المصرية 1344 • أمالى اليزيدى - حيدر أباد 1367 • أمراء البيان لمحمد كردعلي - لجنة التأليف والترجمة والنشر 1937 م • إنباه الرواة على أنبأه النحاة للقفطى؛ - بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - دار الكتب المصرية 1950 م • البيان والتبيين للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون - مطبعة لجنة التأليف والترجمة بمصر 1367 • تاج العروس للزبيدى - القاهرة 1306 • تاريخ ابن الأثير - إدارة الطباعة المنيرية 1348 • تاريخ بغداد للخطيب البغدادىّ - السعادة 1349

• تاريخ الطبرى - الحسينية 1336 • تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة - مطبعة كردستان 1326 • تزيين الأسواق لداود الأنطاكىّ - الأزهرية 1328 • التطفيل للخطيب البغدادىّ - التوفيق بدمشق 1346 • تنوير الأبصار للشيخ الشبلنجى - المطبعة المحمودية 1313 • ثمار القلوب للثعالبى - الظاهر 1326 • جمهرة أشعار العرب - المطبعة الرحمانية 1345 • جمهرة الأنساب لابن حزم، تحقيق بروفنسال - المعارف 1940 م • ابن أبى الحديد شرح نهج البلاغة حماسة البحترى - الرحمانية 1929 م • حماسة أبى تمام بشرح التبريزى، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد - مطبعة حجازى بمصر 1357 • حماسة أبى تمام بشرح المرزوقى، تحقيق أحمد أمين وعبد السلام هارون - مطبعة لجنة التأليف والترجمة بمصر 1951 م • حماسة ابن الشجرى - حيدر أباد 1345 • الحيوان للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون - مطبعة مصطفى الحلبى 1357 • خاص الخاص للثعالبى - السعادة 1326 • خزانة الأدب للبغدادى - بولاق 1299 • ابن خلكان - الميمنية 1310 • ديوان إبراهيم بن العباس الصولىّ؛ (ضمن مجموعة الطرائف الأدبية) - ديوان الأخطل • بيروت 1891 م - ديوان الأعشى، بتحقيق جاير فينا 1927 م • ديوان امرئ القيس - هندية بمصر 1324

• ديوان أوس بن حجر فينا 1892 م - ديوان البحترىّ: • مطبعة هندية 1329 - ديوان بشار بشرح ابن عاشور • لجنة التأليف والترجمة بمصر 1369 - ديوان أبى تمام، شرح محيى الدين الخياط بيروت 1369 • ديوان جران العود - دار الكتب المصرية 1350 • ديوان جرير، حققه ونشره عبد الله الصاوى - مطبعة الصاوى بمصر 1353 • ديوان حاتم الطائى (ضمن مجموعة خمسة دواوين) - المطبعة الوهبية 1293 • ديوان حسان بن ثابت - مطبعة الإمام بمصر 1321 • ديوان الحطيئة - التقدم بالقاهرة • ديوان حميد بن ثور - دار الكتب المصرية 1951 م • ديوان الخنساء - المطبعة الكاثوليكية ببيروت 1895 م • ديوان ابن دريد، جمعه وشرحه السيد محمد بدر الدين العلوى - مطبعة لجنة التأليف والترجمة بمصر 1946 م • ديوان ابن الدمينة - المنار 1337 • ديوان رؤبة - ليبسك 1902 • ديوان ابن الرومى - (مخطوطة دار الكتب المصرية 139 - أدب) • ديوان ذى الرمة - كمبردج 1919 م • ديوان زهير بن أبى سلمى - مطبعة دار الكتب المصرية 1363 • ديوان الشماخ - السعادة 1327 • ديوان طرفة - فاران 1909 م • ديوان الطرماح - ليدن 1927 م • ديوان طفيل الغنوى - ليدن 1927 م • ديوان العباس بن الأحنف - الجوائب 1298 • ديوان عبيد بن الأبرص - مطبعة المعارف بمصر • ديوان أبى العتاهية - بيروت 1914

• ديوان عروة بن حزام - مخطوطة الشنقيطى بدار الكتب المصرية 70 أدب • ديوان عروة بن الورد - الجزائر 1926 م • ديوان علقمة (ضمن مجموعة خمسة دواوين) - المطبعة الوهبية 1293 • ديوان على بن الجهم بتحقيق خليل مردم دمشق 1949 م - ديوان عمر بن أبى ربيعة • المطبعة الميمنية 1311، ومطبعة السعادة 1371 - ديوان الفرزدق، نشره وحققه عبد الله الصاوى مطبعة الصاوى بمصر سنة 1354 • ديوان القطامى - برلين 1902 م • ديوان كثير - الجزائر 1928 • ديوان كعب بن زهير - دار الكتب المصرية 1950 م • ديوان لبيد - فينا 1880 م • ديوان المتلمس - ليبسك 1903 • ديوان المتنبى، بشرح العكبرى - مطبعة مصطفى الحلبى بالقاهرة 1355 • ديوان مزاحم العقيلى، نشره: ف. - كرنكو • المطبعة الكاثوليكية ببيروت 1922 م - ديوان مسلم بن الوليد • ليدن 1875 م - ديوان المعانى، لأبى هلال العسكرىّ • القاهرة 1352 - ديوان ابن المعتز • المحروسة 1891 م - ديوان النابغة الذبيانى (ضمن خمسة دواوين) • المطبعة الوهبية 1293 - ديوان أبى نواس • العمومية 1898 م - ديوان الهذليين • دار الكتب المصرية 1364 - رسالة الغفران، لأبى العلاء المعرى هندية بمصر 1903 م • الروض الأنف للسهيلى - الجمالية 1332 • زهر الآداب للحصرى، تحقيق زكى مبارك المطبعة الرحمانية بمصر 1925 م - وتحقيق على محمد البجاوى - مطبعة عيسى الحلبى 1953 م

• الزهرة، لأبى بكر الأصفهانى - بيروت 1923 م • سرح العيون لابن زيدون - الموسوعات بمصر 1321 • سيرة ابن هشام، تحقيق محمد محيى الدين - مطبعة حجازى بمصر 1356 • شذرات الذهب لابن العماد - مكتبة القدس 1350 • شرح شواهد سيبويه للأعلم - (على حاشية الكتاب) • شرح شواهد العينى (على حاشية خزانة الأدب للبغدادى) - شرح شواهد المغنى، للسيوطى المطبعة البهية بمصر 1322 • شرح ابن عقيل - السعادة 1367 • شرح المختار من شعر بشار - مطبعة الاعتماد بمصر سنة 1353 • شرح مقامات الحريرى للشريشى - بولاق 1300 • شرح النقائض لأبى عبيدة - ليدن 1905 م • شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد الميمنية 1329 - الشعر والشعراء لابن قتيبة، تحقيق أحمد محمد شاكر • مطبعة عيسى الحلبى 1364 - شعر الشنفرى (ضمن مجموعة الطرائف الأدبية) • شعراء النصرانية فى الجاهلية، لويس شيخو بيروت 1926 م - الشهاب فى الشيب والشباب، للشريف المرتضى • الجوائب 1302 - كتاب الصناعتين لأبى هلال العسكرى • مطبعة عيسى الحلبى 1371 - طبقات الشعراء لابن سلام، تحقيق محمود محمد شاكر • مطبعة المعارف سنة 1371 - طبقات النحويين واللغويين للزبيدى تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم السعادة 1371 • الطرائف الأدبية جمعها وحققها عبد العزيز الميمنى - مطبعة لجنة التأليف والترجمة بمصر سنة 1937 م • العقد الفريد لابن عبد ربه - لجنة التأليف والترجمة بمصر 1359 • العمدة لابن رشيق - السعادة 1907 م

• عيون الأخبار، لابن قتيبة - مطبعة دار الكتب المصرية 1343 • عيون التواريخ - مخطوطة دار الكتب المصرية 949، 1497 تاريخ • الفاضل والمفضول، للمبرد - مطبعة دار الكتب المصرية • الفائق فى غريب الحديث، للزمخشرى - مطبعة عيسى الحلبى 1346 • الفرق بين الفرق للبغدادىّ - المعارف 1328 • الفهرست لابن النديم - ليبسك 1871 م • فوات الوفيات، لابن شاكر - مطبعة بولاق 1283 • القراءات الشاذة لابن خالويه - الرحمانية 1934 م • الكامل لابن الأثير تاريخ ابن الأثير - الكامل للمبرد، بشرح المرصفى مطبعة النهضة بمصر 1346 • الكتاب، لسيبويه - بولاق 1316 • الكشاف للزمخشرى - المطبعة البهية بمصر سنة 1343 • كشف الظنون، لحاجى خليفة الآستانة 1360 - الكنايات للجرجانى • السعادة 1326 - اللآلى فى شرح أمالى القالى، تحقيق الأستاذ عبد العزيز الميمنى • مطبعة لجنة التأليف والترجمة بمصر 1354 - لامية العرب، بشرح الزمخشرى مطبعة مصر 1328 • لباب الآداب، تحقيق أحمد شاكر الرحمانية 1354 - لزوم ما لا يلزم، للمعرى • مطبعة الجمالية بمصر سنة 1915 م - لسان العرب لابن منظور • بولاق 1300 - لسان الميزان لابن حجر • حيدر أباد 1329 - مجالس ثعلب، تحقيق عبد السلام هارون المعارف 1948 م • المجالس المذكورة للعلماء - مصورة دار الكتب المصرية برقم 19633 ز • مجمع الأمثال، للميدانى - المطبعة البهية 1342 • مجموعة المعانى - مطبعة الجوائب 1301

• المحاسن والأضداد، للجاحظ - السعادة 1330 • مختارات ابن الشجرى - مطبعة الاعتماد بمصر سنة 1344 • المخصص لابن سيده - بولاق 1318 • المرزباني معجم الشعراء - المزهر للسيوطى • مطبعة عيسى الحلبى - مصارع العشاق • الجوائب 1301 - المعارف لابن قتيبة • المطبعة الإسلامية بمصر 1353 - معانى الشعر لابن قتيبة • حيدر أباد 1949 - معانى العسكرى ديوان المعانى • معاهد التنصيص، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد - مطبعة السعادة 1367 • معجم الأدباء لياقوت - دار المأمون 1936 م • معجم البلدان لياقوت - السعادة 1323 • معجم الشعراء للمرزبانى - طبع القاهرة سنة 1354 • معجم ما استعجم للبكرى، بتحقيق مصطفى السقا - مطبعة لجنة التأليف والترجمة بمصر سنة 1364 • المعلقات بشرح التبريزى - المطبعة السلفية بمصر 1343 • كتاب المعمرين لأبى حاتم السجستانى - مطبعة السعادة بمصر 1323 • مفاتيح العلوم للخوارزمى - محمد منير 1342 • المفضليات لابن الأنبارى - طبع بيروت 1912 م والمعارف بمصر 1371 • مقاتل الطالبيين لأبى الفرج الأصفهانى، تحقيق السيد صقر - مطبعة عيسى الحلبى 1368 • مقاييس اللغة لابن فارس، تحقيق عبد السلام هارون - مطبعة عيسى الحلبى سنة 1366 • الملل والنحل للشهرستانى - المطبعة العنانية بالهند 1263 • الموازنة بين أبى تمام والبحترى - بيروت 1332 • المؤتلف والمختلف للآمدى - القدس 1354

• الموشح للمرزبانىّ - المطبعة السلفية 1343 • الميسر والقداح لابن قتيبة - السلفية 1342 • النجوم الزاهرة لابن تغرى بردى - دار الكتب المصرية 1929 م • نكت الهميان، للصفدى - القاهرة 1910 م • النهاية لابن الأثير - العثمانية 1311 • نوادر أبى زيد بيروت 1894 م - نوادر المخطوطات، تحقيق عبد السلام هارون -مطبعة السعادة 1951 م • الوزراء والكتاب للجهشيارى - مطبعة مصطفى الحلبى بمصر 1357 • الوساطة بين المتنبى وخصومه - مطبعة عيسى الحلبى 1364 • وفيات الأعيان ابن خلكان

§1/1